بسم الله الرحمن الرحيم
قيل : إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام والتحية والإكرام و الصحيح المشهور أن العرب العاربة قبل إسماعيل و منهم عاد و ثمود و طسم و جديس و أميم و جرهم و العماليق و أمم آخرون لا يعلمهم إلا الله كانوا قبل الخليل عليه الصلاة و السلام و في زمانه أيضا فأما العرب المستعربة و هم عرب الحجاز فمن ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام (1/3)
و أما عرب اليمن و هم حمير فالمشهور أنهم من قحطان و اسمه مهزم قاله ابن ماكولا و ذكروا أنهم كانوا أربعة إخوة : قحطان و قاحط و مقحط و فالغ
و قحطان بن هود و قيل هو هود و قيل هود أخوه و قيل من ذريته و قيل إن قحطان من سلالة إسماعيل حكاه ابن إسحاق و غيره فقال بعضهم : هو قحطان ابن الهمبسع بن تيمن بن قيذر بن نبت بن إسماعيل و قيل غير ذلك في نسبه إلى إسماعيل و الله أعلم
و قد ترجم البخاري في صحيحه على ذلك فقال : [ باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام ] [ حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن يزيد بن أبي عبيد حدثنا سلمة رضي الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم على قوم من أسلم يتناضلون بالسيوف فقال : ارموا بني إسماعيل و أنا مع بني فلان ] لأحد الفريقين فأمسكوا بأيديهم فقال : ما لكم ؟ قالوا : و كيف نرمي و أنت مع بني فلان فقال : [ ارموا و أنا معكم كلكم ]
تفرد به البخاري و في بعض ألفاظه : [ ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا ارموا و أنا مع ابن الأدرع فأمسك القوم فقال ارموا و أنا معكم كلكم ]
قال البخاري : و أسلم بن أفضى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة يعني : و خزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين أرسل الله عليهم سيل العرم كما سيأتي بيانه و كانت الأوس و الخزرج منهم و قد قال لهم عليه الصلاة و السلام : [ ارموا بني إسماعيل ] فدل على أنهم من سلالته و تأوله آخرون على أن المراد بذلك جنس العرب لكنه تأويل بعيد إذ هو خلاف الظاهر بلا دليل (1/3)
لكن الجمهور على أن العرب القحطانية من عرب اليمن و غيرهم ليسوا من سلالة إسماعيل
و عندهم أن جميع العرب ينقسمون إلى قسمين : قحطانية و عدنانية فالقحطانية شعبان : سبأ و حضرموت و العدوانية شعبان أيضا : ربيعة ومضر ابنا نزار بن معد بن عدنان و الشعب الخامس و هم قضاعة مختلف فيهم فقيل إنهم عدنانيون قال ابن عبد البر : و عليه الأكثرون و يروى هذا عن ابن عباس و ابن عمر و جبير بن مطعم و هو اختيار الزبير بن بكار و عمه مصعب الزبيري و ابن هشام و قد ورد في حديث : قضاعة بن معد و لكنه لا يصح قاله ابن عبد البر و غيره
و يقال : إنهم لم يزالوا في جاهليتهم و صدر من الإسلام ينتسبون إلى عدنان فلما كان في زمن خالد بن يزيد بن معاوية و كانوا أخواله انتسبوا إلى قحطان فقال في ذلك أعشى بن ثعلبة في قصيدة له :
( أبلغ قضاعة في القرطاس أنهم ... لولا خلائف آل الله ماعنقوا )
( قالت قضاعة إن من ذوى يمن ... والله يعلم مابروا ولا صدقوا )
( قد ادعوا والدا ما نال أمهم ... قد يعلمون ولكن ذلك الفرق )
و قد ذكر أبو عمرو السهيلي أيضا من شعر العرب مافيه إبداع في تعيير قضاعة في انتسابهم إلى اليمن و الله أعلم
و القول الثاني أنهم من قحطان و هو قول ابن إسحاق و الكلبي و طائفة من أهل النسب
قال ابن إسحاق : و هو قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان و قد قال بعض شعرائهم و هو عمرو بن مرة صحابي له حديثان :
( ياأيها الداعي ادعنا وأبشر ... وكن قضاعيا ولا تنزر )
( نحن بنو الشيخ الهجان الأزهر ... قضاعة بن مالك بن حمير )
( النسب المعروف غير المنكر ... في الحجر المنقوش تحت المنبر )
قال بعض أهل النسب : هو قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن حمير وقال ابن لهيعة : عن معروف بن سويد عن أبى عشابة محمد بن موسى عن عقبة بن عامر قال : قلت يا رسول الله أما نحن من معد ؟ قال لا قلت : فممن نحن ؟ قال : أنتم من قضاعة بن مالك بن حمير
قال أبو عمر بن عبد البر : و لايختلفون أن جهينة بن زيد بن أسود بن أسلم بن عمران بن الحاف بن قضاعة قبيلة عقبة بن عامر الجهني فعلى هذا قضاعة في اليمن في حمير بن سبأ
و قد جمع بعضهم بين هذين القولين بما ذكره الزبير بن بكار و غيره من أن قضاعة امرأة من جرهم تزوجها مالك بن حمير فولدت له قضاعة ثم خلف عليها معد بن عدنان و ابنها صغير و زعم بعضهم أنه كان حملا فنسب إلى زوج أمه كما كانت عادة كثير منهم ينسبون الرجل إلى زوج أمه و الله أعلم
و قال محمد بن سلام البصري النسابة : العرب ثلاثة جراثيم : العدنانية و القحطانية و قضاعة قيل له : فأيهما أكثر العدنانية أوالقحطانية ؟ فقال : ما شاءت قضاعة إن تيامنت فالقحطانية أكثر وإن تعدننت فالعدنانية أكثر
و هذا يدل على أنهم يتلونون في نسبهم فإن صح حديث ابن لهيعة المتقدم فهو دليل على أنهم من القحطانية و الله أعلم و قد قال الله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم }
قال علماء النسب : يقال شعوب ثم قبائل ثم عمائر ثم بطون ثم أفخاذ ثم فصائل ثم عشائر و العشيرة أقرب الناس و ليس بعدها شيء
و لنبدأ أولا بذكر القحطانية ثم نذكر بعدهم عرب الحجاز و هم العدنانية و ما كان من أمر الجاهلية ليكون ذلك متصلا بسيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم إن شاء الله تعالى و به الثقة
و قد قال البخاري باب ذكر قحطان [ حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه ] و كذا رواه مسلم عن قتيبة عن الدراوردي عن ثور بن زيد به
قال السهيلي : و قحطان أول من قيل له [ أبيت اللعن ] و أول من قيل له [ أنعم صباحا ]
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا أبو المغيرة عن حريز حدثني راشد بن سعد المقرائي عن أبي حيي عن ذي مخمر أن رسول صلى الله عليه و سلم قال كان هذا الأمر في حمير فنزعه الله منهم فجعله في قريش [ و س ى ع و د إ ل ى هـ م ] ] قال عبد الله : كان هذا في كتاب أبي وحيث حدثنا به تكلم به على الاستواء يعني [ وسيعود إليهم ] (1/4)
قال الله تعالى { لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين و شمال كلوا من رزق ربكم و اشكروا له بلدة طيبة و رب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم و بدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط و أثل و شيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا و هل نجازي إلا الكفور و جعلنا بينهم و بين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة و قدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي و أياما آمنين فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا و ظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث و مزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور }
قال علماء النسب منهم محمد ابن إسحاق : اسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان قالوا : و كان أول من سبى من العرب فسمى سبأ لذلك و كان يقال له الرائش لأنه كان يعطي الناس الأموال من متاعه قال السهيلي : و يقال إنه أول من تتوج و ذكر بعضهم أنه كان مسلما و كان له شعر بشر فيه بوجود رسول صلى الله عليه و سلم فمن ذلك قوله :
( سيملك بعدنا ملكا عظيما ... نبي لا يرخص في الحرام )
( و يملك بعده منهم ملوك ... يدينون العباد بغير ذام )
( و يملك بعدهم منا ملوك ... يصير الملك فينا باقتسام )
( و يملك بعد قحطان نبي ... تقي مخبت خير الأنام )
( يسمى أحمدا يا ليت أني ... أعمر بعد مبعثه بعام )
( فأعضده وأحبوه بنصري ... بكل مدجج وبكل رامي )
( متى يظهر فكونوا ناصريه ... و من يلقاه يبلغه سلامي )
حكاه ابن دحية في كتابه التنوير في مولد البشير النذير
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا عبد الله بن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة السبائي عن عبد الرحمن بن وعلة قال سمعت عبد الله بن عباس يقول : إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن سبأ ما هو ؟ أرجل أم امرأة أم أرض ؟ قال : بل هو رجل ولد عشرة فسكن اليمن منهم ستة و بالشام منهم أربعة فأما اليمانيون فمذحج و كندة و الأزد و الأشعريون و أنمار و حمير عربا كلها و أما الشامية فلخم و جذام و عاملة و غسان ]
و قد ذكرنا في التفسير أن فروة بن مسيك الغطيفي هو السائل عن ذلك كما استقصينا طرق هذا الحديث و ألفاظه هناك و لله الحمد
و المقصود أن سبأ يجمع هذه القبائل كلها و قد كان فيهم التبابعة بأرض اليمن واحدهم تبع و كان لملوكهم تيجان يلبسونها وقت الحكم كما كانت الأكاسرة ملوك الفرس يفعلون ذلك و كانت العرب تسمي كل من ملك اليمن مع الشحر و حضرموت تبعا كما يسمون من ملك الشام مع الجزيرة قيصر و من ملك الفرس كسرى و من ملك مصر فرعون و من ملك الحبشة النجاشي و من ملك الهند بطليموس و قد كان من جملة ملوك حمير بأرض اليمن بلقيس و قد كانوا في غبطة عظيمة و أرزاق دارة و ثمار و زروع كثيرة و كانوا مع ذلك على الاستقامة و السداد و طريق الرشاد فلما بدلوا نعمة الله كفرا أحلوا قومهم دار البوار
قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه : أرسل الله إليهم ثلاثة عشرة نبيا و زعم السدي أنه أرسل إليهم اثني عشر ألف نبي ! فالله أعلم
و المقصود أنهم عدلوا عن الهدى إلى الضلال و سجدوا للشمس من دون الله و كان ذلك في زمان بلقيس و قبلها أيضا و استمر ذلك فيهم حتى أرسل الله عليهم سيل العرم كما قال تعالى { فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم و بدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط و أثل و شيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا و هل نجازي إلا الكفور }
ذكر غير واحد من علماء السلف و الخلف من المفسرين و غيرهم أن سد مأرب كان صنعته أن المياه تجري من بين جبلين فعمدوا في قديم الزمان فسدوا ما بينهما ببناء محكم جدا حتى ارتفع الماء فحكم على أعالي الجبلين و غرسوا فيهما البساتين و الأشجار المثمرة الأنيقة و زرعوا الزروع الكثيرة و يقال كان أول من بناه سبأ بن يعرب و سلط إليه سبعين واديا يفد إليه و جعل له ثلاثين فرضة يخرج منها الماء و مات و لم يكمل بناؤه فكملته حمير بعده و كان اتساعه فرسخا في فرسخ و كانوا في غبطة عظيمة و عيش رغيد و أيام طيبة حتى ذكر قتادة وغيره أن المرأة كانت تمر بالمكتل على رأسها فيمتلئ من الثمار مما يتساقط فيه من نضجه وكثرته و ذكروا أنه لم يكن في بلادهم شيء من البراغيث و لا الدواب المؤذية لصحة هوائهم و طيب فنائهم كما قال تعالى { لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين و شمال كلوا من رزق ربكم و اشكروا له بلدة طيبة و رب غفور } و كما قال تعالى { و إذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد }
فلما عبدوا غير الله و بطروا نعمته و سألوا بعد تقارب ما بين قراهم و طيب ما بينها من البساتين و أمن الطرقات سألوا أن يباعد بين أسفارهم و أن يكون سفرهم في مشاق و تعب و طلبوا أن يبدلوا بالخير شرا كما سأل بنو إسرائيل بدل المن و السلوى البقول و القثاء و الفوم و العدس و البصل فسلبوا تلك النعمة العظيمة و الحسنة العميمة بتخريب البلاد و الشتات على وجوه العباد كما قال تعالى { فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم }
قال غير واحد : أرسل الله على أصل السد الفأر و هو الجرذ و يقال له الخلد فلما فطنوا لذلك أرصدوا عندها السنانير فلم تغن شيئا إذ قد حم القدر و لم ينفع الحذر كلا لا وزر فلما تحكم في أصله الفساد سقط و انهار فسلك الماء القرار فقطعت تلك الجداول و الأنهار و انقطعت تلك الثمار و بادت تلك الزروع و الأشجار و تبدلوا بعدها بردئ الأشجار و الأثمار كما قال العزيز الجبار { و بدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط و أثل } قال ابن عباس و مجاهد و غير واحد : هو الأراك و ثمره البرير و أثل و هو الطرفاء و قيل يشبهه و هو حطب لا ثمر له [ و شيء من سدر قليل ] و ذلك لأنه لما كان يثمر النبق كان قليلا مع أنه ذو شوك كثير و ثمره بالنسبة إليه كما يقال في المثل : لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى و لا سمين فينتقى و لهذا قال تعالى { ذلك جزيناهم بما كفروا و هل نجازي إلا الكفور } أي إنما نعاقب هذه العقوبة الشديدة من كفر بنا و كذب رسلنا و خلفنا أمرنا و انتهك محارمنا
وقال تعالى : { فجعلناهم أحاديث و مزقناهم كل ممزق } و ذلك أنهم لما هلكت أموالهم و خربت بلادهم احتاجوا أن يرتحلوا منها و ينتقلوا عنها فتفرقوا في غور البلاد و نجدها أيدي سبأ شذر مذر فنزلت طوائف منهم الحجاز و منهم خزاعة و نزلوا ظاهر مكة و كان من أمرهم ما سنذكره و منهم المدينة المنورة اليوم فكانوا أول من سكنها ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود بنو قينقاع و بنو قريطة و بنو النضير فحالفوا الأوس و الخزرج و أقاموا عندهم و كان من أمرهم ما سنذكره و نزلت طائفة أخرى منهم الشام و هم الذين تنصروا فيما بعد و هم غسان و عاملة و بهراء و لخم و جذام و تنوخ و تغلب و غيرهم
قال محمد بن إسحاق : حدثني أبو عبيده قال : قال الأعشى بن قيس بن ثعلبة و هو ميمون بن قيس :
( و في ذاك للمؤتسى أسوة ... و مأرب عفى عليها العرم )
( رخام بنته لهم حمير ... إذا جاء موراه لم يرم )
( فأروى الزروع و أعنابها ... على سعة ماؤهم إذ قسم )
( فصاروا أيادي لا يقدرون ... على شرب طفل إذا ما فطم )
و قد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أن أول من خرج من اليمن قبل سيل العرم عمرو بن عامر اللخمي و لخم هو ابن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن هميسع بن عمرو بن عريب بن يشجب بن زيد بن كهلان بن سبأ و يقال لخم بن عدي بن سبأ قاله ابن هشام
قال ابن إسحاق : و كان سبب خروجه من اليمن فيما حدثني أبو زيد الأنصاري أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عليهم الماء فيصرفونه حيث شاءوا من أرضهم فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك فاعتزم على النقلة عن اليمن فكاد قومه فأمر أصغر ولده إذا أغلظ عليه و لطمه أن يقوم إليه فيلطمه ففعل ابنه ما أمره به فقال عمرو : لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي و عرض أمواله فقال أشراف من أشراف اليمن : اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا منه أمواله و انتقل في ولده و ولد ولده و قالت الأزد لا نتخلف عن عمرو بن عامر فباعوا أموالهم و خرجوا معه فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان فحاربتهم عك فكانت حربهم سجالا ففي ذلك قال عباس بن مرداس :
( وعك بن عدنان الذين تلعبوا ... بغسان حتى طردوا كل مطرد )
قال : فارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلاد فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام و نزل الأوس و الخزرج يثرب و نزلت خزاعة مرا و نزلت أزد السراة السراة و نزلت أزد عمان عمان ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه و في ذلك أنزل الله هذه الآيات و قد روى عن السدي قريب من هذا
و عن محمد بن إسحاق في روايته أن عمرو بن عامر كان كاهنا و قال غيره : كانت امرأته طريفة بنت الخير الحميرية كاهنة فأخبرت بقرب هلاك بلادهم و كأنهم رأوا شاهد ذلك في الفأر الذي ساط على سدهم ففعلوا ما فعلوا و الله أعلم و قد ذكرت قصته مطولة عن عكرمة فيما رواه ابن أبي حاتم في التفسير (1/8)
و ليس جميع سبأ خرجوا من اليمن لما أصيبوا بسيل العرم بل أقام أكثرهم بها و ذهب أهل مأرب الذين كان لهم السد فتفرقوا في البلاد و هو مقتضى الحديث المتقدم عن ابن عباس أن جميع قبائل سبأ لم يخرجوا من اليمن بل إنما تشاءم منهم أربعة و بقى باليمن ستة و هم مذحج و كندة و أنمار و الأشعريون و أنمار هو أبو خثعم و بجيلة و حمير فهؤلاء ست قبائل من سبأ أقاموا باليمن و استمر فيهم الملك والتبابعة حتى سلبهم ذلك ملك الحبشة بالجيش الذي بعثه صحبا أميريه أبرهة و أرباط نحوا من سبعين سنة ثم استرجعه سيف بن ذي يزن الحميري و كان ذلك قبل مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم بقليل كما سنذكره مفصلا قريبا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان
ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهل اليمن عليا و خالد بن الوليد ثم أبا موسى الأشعري و معاذ بن جبل و كانوا يدعون إلى الله تعالى و يبينون لهم الحجج ثم تغلب على اليمن الأسود العنسي و أخرج نواب رسول الله صلى الله عليه و سلم منها فلما قتل الأسود استقرت اليد الإسلامية عليها في أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه (1/13)
المتقدم ذكره اللخمي كذا ذكره ابن إسحاق و قال السهيلي : و نساب اليمن تقول : نصر بن ربيعة و هو ربيعة بن نصر الحارث بن نمارة بن لخم و قال الزبير ابن بكار : ربيعة بن مالك بن شعوذ بن ملك بن عجم بن عمرو بن نمارة بن لخم و لخم أخو جذام و سمى لخما لأنه لخم أخاه على خده أي لطمه فعضه الآخر في يده فجذمها فسمى جذاما
و كان ربيعة أحد ملوك حمير التبابعة و خبره مع شق و سطيح الكاهنين و إنذارهما بوجود رسول الله صلى الله عليه و سلم
أما سطيح فاسمه ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن غسان و أما شق فهو ابن صعب بن يشكر بن رهم بن أفرك بن قيس بن عبقر بن أنمار بن نزار و منهم من يقول أنمار بن إراش بن لحبان بن عمرو بن الغوث بن نابت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ و يقال إن سطيحا كان لا أعضاء له و إنما كان مثل السطيحة و وجهه في صدره و كان إذا غضب انتفخ و جلس و كان شق نصف إنسان و يقال إن خالد بن عبد الله القسري كان من سلالته و ذكر السهيلي أنهما ولدا في يوم واحد وكان ذلك يوم ماتت طريفة بنت الخير الحميرية و يقال إنها تفلت في فم كل منهما فورث الكهانة عنها و هي امرأة عمر بن عامر المتقدم ذكره و الله أعلم
قال محمد بن إسحاق : و كان ربيعة بن نصر ملك اليمن بين أضعاف ملوك التبابعة فرأى رؤيا هالته و فظع بها فلم يدع كاهنا و لا ساحرا و لاعائفا و لا منجما من أهل مملكته إلا جمعه إليه فقال لهم : إني قد رأيت رؤيا هالتني و فظعت بها فأخبروني بها و بتأويلها فقالوا : اقصصها علينا نخبرك بتأويلها فقال : إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم بتأوليها لأنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها فقال له رجل منهم : فإن كان الملك يريد هذا فليبعث شق و سطيح فإنه ليس أحد أعلم منهما فهما يخبرانه بما سأل عنه
فبعث إليهما فقدم إليه سطيح قبل شق فقال له : إني قد رأيت رؤيا هالتني و فظعت بها فأخبرني بها فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها فقال أفعل رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة فقال له الملك : ما أخطأت منها شيئا يا سطيح فما عندك في تأويلها ؟ قال : أحلف بما بين الحرتين من حنش لتهبطن أرضكم الحبشة فليملكن ما بين أبين إلى جرش فقال له الملك : يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده ؟ فقال : لا و أبيك بل بعده بحين أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين قال : أفيدوم ذلك من سلطانهم أم ينقطع ؟ قال بل ينقطع لبضع و سبعين من السنين ثم يقتلون و يخرجون منها هاربين قال و من يلي ذلك من قتلهم و إخراجهم ؟ قال يليه إرم ذي يزن يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن قال : أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع ؟ قال بل ينقطع قال و من يقطعه ؟ قال : نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي قال و ممن هذا النبي ؟ قال رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر قال و هل للدهر من آخر ؟ قال : نعم يوم يجمع فيه الأولون و الآخرون يسعد فيه المحسنون و يشق فيه المسيئون قال أحق ما تخبرني ؟ قال : نعم و الشفق و الغسق و الفلق إذا اتسق إن ما أنبأتك به لحق
قال : ثم قدم عليه شق فقال له كقوله لسطيح و كتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان قال : نعم رأيت حممة خرجت من ظلمة فوقعت بين روضة و أكمة فأكلت منها كل ذات نسمة فلما قال له ذلك عرف أنهما قد اتفقا و أن قولهما واحد إلا أن سطيحا قال [ وقعت بأرض تهمة فأكلت منها كل ذات جمجمة ] و قال شق : [ وقعت بين روضة و أكمة فأكلت منها كل ذات نسمة ] فقال له الملك ما أخطأت يا شق منها شيئا فما عندك في تأويلها ؟ فقال : أحلف بما بين الحرتين من إنسان لينزلن أرضكم السودان فليغلبن على كل طفلة البنان و ليملكن ما بين أبين إلى نجران فقال له الملك : و أبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع فمتى هو كائن أفي زماني أم بعده ؟ قال لا بل بعده بزمان ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شأن و يذيقهم أشد الهوان قال : و من هذا العظيم الشأن ؟ قال غلام ليس بدني و لا مدن يخرج عليهم من بيت ذي يزن قال أفيدوم سلطانه أم ينقطع قال : بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق والعدل من أهل الدين و الفضل يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل قال و ما يوم الفصل ؟ قال : يوم يجزى فيه الولاة يدعى فيه من السماء بدعوات تسمع منها الأحياء و الأموات و يجمع الناس فيه للميقات يكون فيه لمن اتقى الفوز و الخيرات قال أحق ما تقول ؟ قال إي و رب السماء و الأرض و ما بينهما من رفع و خفض إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض قال ابن اسحاق : فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا فجهز بنيه و أهل بيته إلى العراق و كتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاد فأسكنهم الحيرة
قال ابن اسحاق : فمن بقية ولد ربيعة بن نصر : النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر يعني الذي كان نائبا على الحيرة لملوك الأكاسرة و كانت العرب تفد إليه و تمتدحه و هذا الذي قاله محمد بن إسحاق من أن النعمان بن المنذر من سلالة ربيعة بن نصر قاله أكثر الناس
و قد روى ابن إسحاق أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما جيء بسيف النعمان بن المنذر سأل جبير بن مطعم عنه ممن كان ؟ فقال من أشلاء قنص بن معد بن عدنان قال ابن إسحاق : فالله أعلم أي ذلك كان (1/14)
قصة تبع أبي كرب تبان أسعد ملك اليمن مع أهل المدينة و كيف أراد غزو البيت الحرام ثم شرفه و عظمه و كساه الحلل فكان أول من كساه
قال ابن إسحاق فلما هلك ربيعة بن نصر رجع ملك اليمن كله إلى حسان بن تبان أسعد أبي كرب و تبان أسعد هو تبع الآخر ابن كلكى كرب بن زيد و زيد تبع الأول بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة بن المنار بن الرائش بن عدي بن صيفي بن سبأ الأصغر بن كعب كهف الظلم بن زيد بن سهل بن مرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث ابن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج و العرنجج هو حمير بن سبأ الأكبر بن يعرب بن يشجب بن قحطان
قال عبد الملك بن هشام : سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
قال ابن إسحاق : و تبان أسعد أبو كرب هو الذي قدم المدينة و ساق الحبرين من يهود إلى اليمن و عمر البيت الحرام و كساه و كان ملكه قبل ملك ربيعة بن نصر و كان قد جعل طريقه حين رجع من غزوة بلاد المشرق على المدينة و كان قد مر بها في بدأته فلم يهج أهلها و خلف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة فقدمها و هو مجمع لإخرابها و استئصال أهلها و قطع نخلها فجمع له هذا الحي من الأنصار و رئيسهم عمرو بن طلة أخو بنى النجار ثم أحد بني عمرو بن مبذول و اسم مبذول عامر بن مالك ابن النجار و اسم النجار تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر
و قال ابن هشام : عمرو بن طلة هو عمرو بن معاوية بن عمرو بن عامر بن مالك بن النجار و طلة أمه و هي بنت عامر بن زريق الخزرجية
قال ابن إسحاق : و قد كان رجل من بني عدي بن النجار يقال له أحمر عدا على رجل من أصحاب تبع وجده يجد عذقا له فضربه بمنجله فقتله و قال : إنما التمر لمن أبره فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم فاقتتلوا
فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار و يقرونه بالليل فيعجبه ذلك منهم و يقول : و الله إن قومنا لكرام !
و حكى ابن إسحاق عن الأنصار أن تبعا إنما كان حنقه على اليهود و أنهم منعوهم منه
قال السهيلي : و يقال إنه إنما جاء لنصرة الأنصار أبناء عمه على اليهود الذين نزلوا عندهم في المدينة على شروط فلم يفوا بها و استطالوا عليهم و الله أعلم
قال ابن إسحاق : فبينا تبع على ذلك من قتالهم إذا جاءه حبران من أحبار اليهود من بني قريظة عالمان راسخان حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة و أهلها فقالا له : أيها الملك لا تفعل فإنك إن أبيت إلا ما تريد حيل بينك و بينها و لم نأمن عليك عاجل العقوبة فقال لهما و لم ذلك ؟ قالا هي مهاجر نبي يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان تكون داره و قراره
فتناهى عن ذلك و رأى أن لهما علما و أعجبه ما سمع منهما فانصرف عن المدينة و اتبعهما على دينهما قال ابن إسحاق : و كان تبع و قومه أصحاب أوثان يعبدونها فتوجه إلى مكة و هي طريقه إلى اليمن حتى إذا كان بين عسفان و أمج أتاه نفر من هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان فقالوا له : أيها الملك ألا ندلك على بيت مال دائر أغفلته الملوك قبلك فيه اللؤلؤ و الزبرجد و الياقوت و الذهب و الفضة ؟ قال : بلى قالوا : بيت بمكة يعبده أهله ويصلون عنده
و إنما أراد الهذليون هلاكه بذلك لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك و بغى عنده
فلما أجمع لما قالوا أرسل إلى الحبرين فسألهما عن ذلك فقالا له : ما أراد القوم إلا هلاكك و هلاك جندك ما نعلم بيتا لله عز و جل اتخذه في الأرض لنفسه غيره و لئن فعلت ما دعوك إليه لتهلكن و ليهلكن من معك جميعا قال : فماذا تأمرأنني أن أصنع إذا أنا قدمت عليه ؟ قالا : تصنع عنده ما يصنع أهله تطوف به و تعظمه و تكرمه و تحلق رأسك عنده و تذلل له حتى تخرج من عنده قال فما يمنعكما أنتما من ذلك ؟ قالا : أما و الله إنه لبيت أبينا إبراهيم عليه السلام و إنه لكما أخبرناك و لكن أهله حالوا بيننا و بينه بالأوثان التي نصبوها حوله و بالدماء التي يهريقون عنده و هم نجس أهل شرك أو كما قالا له
فعرف نصحهما و صدق حديثهما و قرب النفر من هزيل فقطع أيديهم و أرجلهم ثم مضى حتى قدم مكة فطاف بالبيت و نحر عنده و حلق رأسه و أقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر بها للناس و يطعم أهلها و يسقيهم العسل و أري في المنام أن يكسو البيت فكساه الخصف ثم أري في المنام أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الملاء و الوصائل فكان تبع فيما يزعمون أول من كسا البيت و أوصى به ولاته من جرهم و أمرهم بتطهيره و أن لا يقربوه دما و لا ميتة و لا مثلاة و هي المحايض و جعل له بابا و مفتاحا
ففي ذلك قالت سبيعة بنت الأحب تذكر ابنها خالد بن عبد مناف بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب و تنهاه عن البغي بمكة و تذكر له ما كان من أمر تبع فيها :
( أبني لا تظلم بمكـ ... كة لا الصغير و لاالكبير )
( و احفظ محارمها بني و لا يغرنك الغرور )
( أبني من يظلم بمكـ ... كة يلق أطراف الشرور )
( أبني يضرب وجهه ... و يلح بخديه السعير )
( أبني قد جربتها ... فوجدت ظالمها يبور )
( الله آمنها و ما ... بنيت بعرصتها قصور )
( و الله آمن طيرها ... و العصم تأمن في ثبير )
( و لقد غزاها تبع ... فكسا بنيتها الحبير )
( وأذل ربي ملكه ... فيها فأوفى بالنذور )
( يمشي إليها حافيا ... بفنائها ألفا بعير )
( و يظل يطعم أهلها ... لحم المهارى و الجزور )
( يسقيهم العسل المصفـ ... فى و الرحيض من الشعير )
( و الفيل أهلك جيشه ... يرمون فيها بالصخور )
( و الملك في أقصى البلا ... د و في الأعاجم و الخزير )
( فاسمع إذا حدثت و افهم كيف عاقبة الأمور )
قال ابن إسحاق : ثم خرج تبع متوجها إلى اليمن بمن معه من الجنود و بالحبرين حتى إذا دخل اليمن دعا قومه إلى الدخول فيما دخل فيه فأبوا عليه حتى يحاكموه إلى النار التي كانت باليمن
قال ابن إسحاق : حدثني أبو مالك بن ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال : سمعت إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله يحدث أن تبعا لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه و بين ذلك و قالوا : لا تدخلها علينا و قد فارقت ديننا فدعاهم إلى دينه و قال إنه خير من دينكم قالوا : تحاكمنا إلى النار ؟ قال : نعم
قال : و كانت باليمن فيما يزعم أهل اليمن نار تحكم بينهم فيما يختلفون فيه تأخذ الظالم و لا تضر المظلوم فخرج قومه بأوثانهم و ما يتقربون به في دينهم و خرج الحبران بمصاحفها في أعناقهما متقلديها حتى قعدوا للنار عند مخرجها الذي تخرج منه فخرجت النار إليهم فلما أقبلت نحوهم حادوا عنها و هابوها فذمرهم من حضرهم من الناس و أمروهم بالصبر لها فصبروا حتى غشيتهم فأكلت الأوثان و ما قربوا معها و من حمل ذلك من رجال حمير و خرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما و لم تضرهما فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن
قال ابن إسحاق : و قد حدثني محدث أن الحبرين و من خرج من حمير إنما اتبعوا النار ليردوها و قالوا : من ردها فهو أولى بالحق فدنا منها ر جال حمير بأوثانهم ليردوها فدنت منهم لتأكلهم فحادوا عنها و لم يستطيعوا ردها فدنا منها الحبران بعد ذلك و جعلا يتلون التوراة و هي تنكص عنهما حتى رداها إلى مخرجها الذي خرجت منه فأصفقت عند ذلك حمير على دينهما و الله أعلم أي ذلك كان
قال ابن إسحاق : و كان رئام بيتا لهم يعظمونه و ينحرون عنده و يكلمون منه إذ كانوا على شركتهم فقال الحبران لتبع : إنما هو شيطان يفتنهم بذلك فخل بيننا و بينه قال فشأنكما به فاستخرجا منه فيما يزعم أهل اليمن كلبا أسود فذبحاه ثم هدما ذلك البيت فبقاياه اليوم ـ كما ذكر لي ـ بها آثار الدماء التي كانت تهراق عليه و قد ذكرنا في التفسير الحديث الذي ورد عن النبي صلى الله عليه و سلم [ لا تسبوا تبعا فإنه قد كان أسلم ] قال السهيلي : و روى معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تسبوا أسعد الحميري فإنه أول من كسى الكعبة ] قال السهيلي : و قد قال تبع حين أخبره الحبران عن رسول صلى الله عليه و سلم شعرا :
( شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله بارى النسم )
( فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له و ابن عم )
( و جاهدت بالسيف أعداءه ... و فرجت عن صدره كل هم )
قال : و لم يزل هذا الشعر تتوارثه الأنصار و يحفظونه بينهم و كان عند أبي أيوب الأنصاري رضى الله عنه و أرضاه
قال السهيلي : و ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب القبور أن قبرا حفر بصنعاء فوجد فيه امرأتان معهما لوح من فضة مكتوب بالذهب و فيه : هذا قبر لميس و حبى ابنتي تبع ماتتا و هما تشهدان أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و على ذلك مات الصالحون قبلهما (1/18)
ثم صار الملك فيما بعد إلى حسان بن تبان أسعد و هو أخو اليمامة الزرقاء التي صلبت على باب مدينة جو فسميت من يومئذ اليمامة
قال ابن إسحاق : فلما ملك ابنه حسان بن أبي كرب تبان أسعد سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب و أرض الأعاجم حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق كرهت حمير و قبائل اليمن السير معه وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم فكلموا أخا لهم له يقال له عمرو و كان معه في جيشه فقالوا له : اقتل أخاك حسان و نملكك علينا وترجع بنا إلى بلادنا فأجابهم فاجتمعوا على ذلك إلا ذا رعين الحميري فإنه نهى عمرا عن ذلك فلم يقبل منه فكتب ذو رعين رقعة فيها هذان البيتان :
( ألا من يشتري سهرا بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين )
( فإما حمير غدرت و خانت ... فمعذرة الإله لذي رعين )
ثم استودعها عمرا فلما قتل عمرو أخاه حسان و رجع إلى اليمن منع منه النوم و سلط عليه السهر فسأل الأطباء و الحزاة من الكهان و العرافين عما به فقيل له : إنه و الله ما قتل رجل أخاه قط أو ذا رحم بغيا إلا ذهب نومه و سلط عليه السهر فعند ذلك جعل يقتل كل من أمره بقتل أخيه فلما خلص إلى ذي رعين قال له : إن لي عندك براء ة قال و ما هي ؟ قال : الكتاب الذي دفعته إليك فأخرجه فإذا فيه البيتان فتركه و رأى أنه قد نصحه
و هلك عمرو فمرج أمر حمير عند ذلك و تفرقوا (1/24)
و قد ملكها سبعا و عشرين سنة
قال ابن اسحاق : فوثب عليهم رجل من حمير لم يكن من بيوت الملك يقال له لخنيعة ينوف ذو شناتر فقتل خيارهم و عبث ببيوت أهل المملكة منهم و كان مع ذلك امرأ فاسقا يعمل عمل قوم لوط فكان يرسل إلى الغلام من أبناء الملوك فيقع عليه في مشربة له قد صنعها لذلك لئلا يملك بعد ذلك ثم يطلع من مشربته تلك إلى حرسه و من حضر من جنده قد أخذ مسواكا فجعله في فيه ليعلمهم أنه قد فرغ منه
حتى بعث إلى زرعة ذي نواس بن تبان أسعد أخي حسان و كان صبيا صغيرا حين قتل أخوه حسان ثم شب غلاما جميلا وسيما ذا هيئة و عقل فلما أتاه رسوله عرف ما يريد منه فأخذ سكينا حديدا لطيفا فخبأه بين قدميه و نعله ثم أتاه فلما خلا معه وثب إليه فواثبه ذو نواس فوجأه حتى قتله ثم حز رأسه فوضعه في الكوة التي كان يشرف منها و وضع مسواكه في فيه ثم خرج على الناس فقالوا له : ذا نواس أرطب أم يباس ؟ فقال سل نخماس استرطبان لا باس فنظروا إلى الكوة فإذا رأس لخنيعة مقطوع فخرجوا في أثر ذي نواس حتى أدركوه فقالوا : ما ينبغي أن يملكنا غيرك إذا أرحتنا من هذا الخبيث (1/25)
فملكوه عليهم و اجتمعت عليه حمير و قبائل اليمن فكان آخر ملوك حمير و تسمى يوسف فأقام في ملكه زمانا و بنجران بقايا من أهل دين عيسى ابن مريم عليه السلام على الإنجيل أهل فضل و استقامة من أهل دينهم لهم رأس يقال له عبد الله ابن الثامر (1/26)
ثم ذكر ابن إسحاق سبب دخول أهل نجران في دين النصارى و أن ذلك كان على يدي رجل يقال له فيميون كان من عباد النصارى بأطراف الشام و كان مجاب الدعوة و صحبه رجل يقال له صالح فكانا يتعبدان يوم الأحد و يعمل فيميون بقية الجمعة في البناء و كان يدعو للمرضى و الزمنى و أهل العاهات فيشفون ثم استأسره و صاحبه بعض الأعراب فباعوهما بنجران فكان الذي اشترى فيميون يراه إذا قام في مصلاه بالبيت الذي هو فيه في الليل يمتلئ عليه البيت نورا فأعجبه ذلك من أمره
و كان أهل نجران يعبدون نخلة طويلة يعلقون عليها حلي نسائهم و يعكفون عندها فقال فيميون لسيده : أرأيت إن دعوت الله على هذه الشجرة فهلكت أتعلمون أن الذي أنتم عليه باطل قال : نعم فجمع له أهل نجران و قام فيميون إلى مصلاه فدعا الله عليها فأرسل الله عليها قاصفا فجعفها من أصلها و رماها إلى الأرض فاتبعه أهل نجران على دين النصرانية و حملهم على شريعة الإنجيل حتى حدثت فيهم الأحداث التي دخلت على أهل دينهم بكل أرض
فمن هنالك كانت النصرانية بنجران من أرض العرب
ثم ذكر ابن إسحاق قصة عبد الله بن الثامر حين تنصر على يدي فيميون و كيف قتله و أصحابه ذو نواس وخد لهم الأخدود قال ابن هشام : و هو الحفر المستطيل في الأرض مثل الخندق و أجج فيه النار و حرقهم بها و قتل آخرين حتى قتل قريبا من عشرين ألفا كما هو مستقصى في تفسير سورة { و السماء ذات البروج } من كتابنا التفسير و لله الحمد (1/26)
كما أخبر بذلك شق و سطيح الكاهنان و ذلك أنه لم ينج من أهل نجران إلا رجل واحد يقال له دوس ذو ثعلبان على فرس له فسلك الرمل فأعجزهم فمضى على وجهه ذلك حتى أتى قيصر ملك الروم فاستنصره على ذي نواس و جنوده و أخبره بما بلغ منهم و ذلك لأنه نصراني على دينهم فقال له بعدت بلادك منا و لكن سأكتب لك إلى ملك الحبشة فإنه على هذا الدين و هو أقرب إلى بلادك فكتب إليه يأمره بنصره والطلب بثأره
فقدم دوس على النجاشي بكتاب قيصر فبعث معه سبعين ألفا من الحبشة و أمر عليهم رجل منهم يقال له أرياط و معه في جنده أبرهة الأشرم فركب أرياط البحر حتى نزل بساحل اليمن و معه دوس و سار إليه ذو نواس في حمير و من أطاعه من قبائل اليمن فلما التقوا انهزم ذو نواس و أصحابه فلما رأى ذو نواس ما نزل به و بقومه وجه فرسه في البحر ثم ضربه فدخل فيه فخاض به ضحضاح حتى أفضى به إلى غمرة فأدخله فيها فكان آخر العهد به و دخل أرياط اليمن و ملكها
و قد ذكر ابن إسحاق هاهنا أشعارا للعرب فيما وقع من هذه الكائنة الغريبة و فيها فصاحة و حلاوة و بلاغة و طلاوة و لكن تركنا إيرادها خشية الإطالة و خوف الملالة و الله المستعان (1/27)
قال ابن إسحاق : فأقام أرياط بأرض اليمن سنين في سلطانه ذلك ثم نازعه أبرهة حتى تفرقت الحبشة عليهما فانحاز إلى كل منهما طائفة ثم سار أحدهم إلى الآخر فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط : إنك لن تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئا : فابرز لي و أبرز لك فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده فأرسل إليه أرياط : أنصفت
فخرج إليه أبرهة و كان رجلا قصيرا لحيما و كان ذا دين في النصرانية و خرج إليه أرياط و كان رجلا جميلا عظيما طويلا و في يده حربة له و خلف أبرهة غلام يقال له عتودة يمنع ظهره فرفع أرياط الحربة فضرب أبرهة يريد يافوخه فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه و عينه و أنفه و شفته فبذلك سمي أبرهة الأشرم و حمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله و انصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن و ودى أبرهة أرياط
فلما بلغ ذلك النجاشي ملك الحبشة الذي بعثهم إلى اليمن غضب غضبا شديدا على أبرهة و قال : عدا على أميري فقتله بغير أمري ! ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده و يجز ناصيته
فحلق أبرهة رأسه و ملأ جراب من تراب اليمن ثم بعث به إلى النجاشي ثم كتب إليه : أيها الملك إنما كان أرياط عبدك و أنا عبدك فاختلفنا في أمرك و كل طاعته لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة و أضبط لها و أسوس منه و قد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك و بعثت إليه بجراب تراب من أرضي ليضعه تحت قدمه فيبر قسمه في
فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضى عنه و كتب إليه أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري فأقام أبرهة باليمن (1/28)
كما قال الله تعالى { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل و أرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول }
قيل أول من ذلل الفيلة إفريدون بن أثفيان الذي قتل الضحاك قاله الطبري و هو أول من اتخذ للخيل السرج و أما أول من سخر الخيل و ركبها فطهمورث و هو الملك الثالث من ملوك الدنيا و يقال إن أول من ركبها إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام و يحتمل أنه أول من ركبها من العرب و الله تعالى أعلم
و يقال إن الفيل مع عظمة خلقه يفرق من الهر وقد احتال بعض أمراء الحروب في قتال الهنود بإحضار سنانير إلى حومة الوغى فنفرت الفيلة
قال ابن إسحاق : ثم إن أبرهة بني القليس بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض و كتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك و لست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب
فذكر السهيلي أن أبرهة استذل أهل اليمن في بناء هذه الكنيسة الخسيسة و سخرهم فيها أنواعا من السخر و كان من تأخر عن العمل حتى تطلع الشمس يقطع يده لا محالة و جعل ينقل إليها من قصر بلقيس رخاما و أحجارا و أمتعة عظيمة و ركب فيها صلبانا من ذهب و فضة و جعل فيها منابر من عاج و أبنوس و جعل ارتفاعها عظيما جدا و اتساعها باهرا فلما هلك بعد ذلك أبرهة و تفرقت الحبشة كان من يتعرض لأخذ شيء من بنائها و أمتعتها أصابته الجن بسوء و ذلك لأنها كانت مبنية على اسم صنمين و كعيب و امرأته و كان طول كل منهما ستون ذراعا فتركها أهل اليمن على حالها فلم تزل كذلك إلى زمن السفاح أول خلفاء بني العباس فبعث إليها جماعة من أهل العزم و الحزم و العلم فنقضوها حجرا حجرا و درست آثارها إلى يومنا هذا
قال ابن إسحاق : فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي غضب رجل من النسأة من كنانة الذين ينسئون شهر الحرام إلى الحل بمكة أيام الموسم كما قررنا ذلك عند قوله [ إنما النسىء زيادة في الكفر ] قال ابن إسحاق : فخرج الكناني حتى أتى القليس فقعد فيها أي أحدث حيث لا يراه أحد ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر أبرهة بذلك فقال من صنع هذا ؟ فقيل له : صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحجه العرب بمكة لما سمع بقولك أنك تريد أن تصرف حج العرب إلى بيتك هذا فغضب فجاء فقعد فيها أي أنه ليس لذلك بأهل
فغضب أبرهة عند ذلك و حلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه ثم أمر الحبشة فتهيأت و تجهزت ثم سار و خرج معه بالفيل و سمعت بذلك العرب فأعظموه و فظعوا به و رأوا جهاده حقا عليهم حين سمعوا بأنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام
فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن و ملوكهم يقال له ذو نفر فدعا قومه و من أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة و جهاده عن بيت الله الحرام و ما يريد من هدمه و إخرابه فأجابه من أجابه إلى ذلك ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر و أصحابه و أخذ له ذو نفر فأتى به أسيرا فلما أراد قتله قال له ذو نفر : أيها الملك لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من القتل فتركه من القتل و حبسه عنده في وثاق و كان أبرهة رجلا حليما
ثم مضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج له حتى إذا كان بأرض خثعم عرض نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم و هما شهران و ناهس و من تبعه من قبائل العرب فقاتله فهزمه أبرهة و أخذ له نفيل أسيرا فأتى به فلما هم بقتله قال له نفيل : أيها الملك لا تقتلني فإني دليلك بأرض العرب و هاتان يداي لك على قبيلى خثعم شهران و ناهس بالسمع و الطاعة فخلى سبيله و خرج به معه يدله
حتى إذا أمر بالطائف خرج إليه مسعود بن متعب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف في رجال ثقيف فقالوا له أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون ليس عندنا لك خلاف و ليس بيتنا هذا البيت الذي تريد يعنون اللات إنما تريد البيت الذي بمكة و نحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم قال ابن إسحاق : و اللات بيت لهم بالطائف كانوا يعظمونه نحو تعظيم الكعبة قال : فبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة فخرج أبرهة و معه أبو رغال حتى أنزله بالمغمس فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك فرجمت قبره العرب فهو القبر الذي يرجم الناس بالمغمس و في قصة ثمود أن أبا رغال كان رجلا منهم وكان يمتنع بالحرم فلما خرج منه أصابه حجر فقتله و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه : [ و آية ذلك أنه دفن معه غصنان من ذهب ] فحفروا فوجدوهما قال و هو أبو ثقيف
قلت : و الجمع بين هذا و بين ما ذكر ابن إسحاق أن أبا رغال هذا المتأخر وافق اسمه اسم جده الأعلى و رجمه الناس كما رجموا قبر الأول أيضا و الله أعلم و قد قال جرير :
( إذا مات الفرزدق فارجموه ... كرجمكم لقبر أبي رغال )
الظاهر أنه الثاني
قال ابن إسحاق : فلما نزل أبرهة بالمغمس بعث رجل من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود على خيل له حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال تهامة من قريش و غيرهم و أصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم و هو يومئذ كبير قريش و سيدها فهمت قريش و كنانة و هذيل و من كان بذلك الحرم بقتاله ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك
و بعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة و قال له : سل عن سيد أهل هذا البلد و شريفهم ثم قل له إن الملك إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تعرضوا لنا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم فإن هو لم يرد حربي فائتني به
فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش و شريفها فقيل له : عبد المطلب بن هاشم فجاءه فقال له ما أمره به أبرهة
فقال له عبد المطلب : و الله ما نريد حر به و ما لنا بذلك من طاقة هذا بيت الله الحرام و بيت خليله إبراهيم عليه السلام أو كما قال فإن يمنعه منه فهو حرمه و بيته و إن يخل بينه و بينه فو الله ما عندنا دفع عنه
فقال له حناطة : فانطلق معي إليه فإنه قد أمرني أن آتيه بك
فانطلق معه عبد المطلب و معه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر و كان له صديقا حتى دخل عليهم و هو في محبسه فقال له : يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟
فقال له ذو نفر : و ما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا أو عشيا ! ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسا سائس الفيل صديق لي فأرسل إليه و أوصيه بك و أعظم عليه حقك و أسأله أن يستأذن لك على الملك فنكلمه بما بدا لك و يشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك
فقال : حسبي
فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له : إن عبد المطلب سيد قريش و صاحب عين مكة يطعم الناس بالسهل و الوحوش في رؤوس الجبال و قد أصاب له الملك مائتي بعير فاستأذن له عليه و انفعه عنده بما استطعت قال : أفعل
فكلم أنيس أبرهة فقال له : أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك و هو صاحب عين مكة و هو الذي يطعم الناس بالسهل و الوحوش في رؤوس الجبال فائذن له عليك فليكلمك في حاجته فأذن له أبرهة قال : و كان عبد المطلب أوسم الناس و أعظمهم و أجملهم فلما رآه أبرهة أجله و أكرمه عن أن يجلسه تحته و كره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه و أجلسه معه عليه إلى جانبه ثم قال لترجمانه : قل له حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان فقال حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه : قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك و تترك بيتا هو دينك و دين آبائك قد جئت لأهدمه لا تكلمني فيه ! ؟
فقال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل و إن للبيت ربا سيمنعه
فقال : ما كان ليمتنع مني قال : أنت و ذاك فرد على عبد المطلب إبله
قال ابن إسحاق : و يقال إنه كان قد دخل مع عبد المطلب على أبرهة يعمر بن نفاثة ابن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة سيد بني بكر و خويلد بن وائلة سيد هذيل فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم و لا يهدم البيت فأبى عليهم ذلك فالله أعلم أكان ذلك أم لا
فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر و أمرهم بالخروج من مكة و التحرز في رؤوس الجبال ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة و قام معه نفر من قريش يدعون الله و يستنصرونه على أبرهة و جنده و قال عبد المطلب و هو آخذ بحلقة باب الكعبة :
( لا هم إن العبد يمـ ... نع رحله فامنع رحالك )
( لا يغلبن صليبهم ... و محالهم غدوا محالك )
( إن كنت تاركهم و قبـ ... لتنا فأمر ما بدا لك )
قال ابن هشام : هذا ما صح له منها
قال ابن إسحاق : ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة و انطلق هو و من معه من قريش إلى شعف الجبال يتحرزون فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة و هيأ فيله و عبى جيشه و كان اسم الفيل محمودا
فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل ثم أخذ بأذنه فقال : ابرك محمود و ارجع راشدا من حيث أتيت فإنك في بلد الله الحرام و أرسل أذنه فبرك الفيل
قال السهيلي : أي سقط إلى الأرض و ليس من شأن الفيلة أن تبرك و قد قيل إن منها ما يبرك كالبعير فالله أعلم
و خرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل و ضربوا الفيل ليقوم فأبى فضربوا رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول و وجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك و وجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك و وجهوه إلى مكة فبرك
و أرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخظاطيف و البلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها حجر في منقاره و حجران في رجليه أمثال الحمص و العدس لا تصيب منهم أحدا إلا هلك و ليس كلهم أصابت
و خرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي منها جاءوا و يسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن فقال نفيل في ذلك :
( ألا حييت عنا يا ردينا ... نعمنا كم مع الإصباح عينا )
( ردينة لو رأيت فلا تريه ... لدى جنب المحصب ما رأينا )
( إذا لعذرتني و حمدت أمري ... و لم تأسى على ما فات بينا )
( حمدت الله إذ أبصرت طيرا ... و خفت حجارة تلقى علينا )
( و كل القوم يسأل عن نفيل ... كأن علي للحبشان دينا )
قال ابن إسحاق : فخرجوا يتساقطون بكل طريق و يهلكون بكل مهلك على كل منهل و أصيب أبرهة في جسده و خرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة كلما سقطت أنملة اتبعتها منه مدة تمث قيحا و دما حتى قدموا به صنعاء و هو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون
قال ابن إسحاق : حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة و الجدري بأرض العرب ذلك العام و أنه أول ما رؤي بها مرائر الشجر : الحرمل و الحنظل و العشر ذلك العام
قال ابن إسحاق : فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم كان مما يعدد الله على قريش من نعمته عليهم و فضله ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم و مدتهم فقال تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل و أرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول } ثم شرع ابن إسحاق و ابن هشام يتكلمان على تفسير هذه السورة و التي بعدها
و قد بسطنا القول في ذلك في كتابنا التفسير بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى و له الحمد و المنة
قال ابن هشام : الأبابيل : الجماعات و لم تتكلم لها العرب بواحد علمناه
قال : و أما السجيل فأخبرني يونس النحوي و أبو عبيدة أنه عند العرب الشديد الصلب
قال : و زعم بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية جعلتها العرب كلمة واحدة و أنها سنج و جل فالسنج : الحجر و الجل : الطين يقول الحجارة من هذين الجنسين الحجر و الطين قال : و العصف : ورق الزرع الذي لم يقصب
و قال الكسائي : سمعت بعض النحويين يقول واحد الأبابيل إبيل
و قال كثيرون من السلف : الأبابيل : الفرق من الطير التي يتبع بعضها بعضا من ههنا و ههنا
و عن ابن عباس : كان لها خراطيم كخراطيم الطير و أكف كأكف الكلاب
و عن عكرمة كانت رؤوسها كرؤوس السباع خرجت عليهم من البحر و كانت خضرا
و قال عبيد بن عمير : كانت سودا بحرية في مناقيرها و أكفها الحجارة
و عن ابن عباس : كانت أشكالها كعنقاء مغرب و عن ابن عباس كان أصغر حجر منها كرأس الإنسان و منها ما هو كالإبل و هكذا ذكره يونس بن بكير عن ابن إسحاق و قيل : كانت صغارا و الله أعلم و قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن عبيد بن عمير قال لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيرا أنشئت من البحر أمثال الخطاطيف كل طير منها يحمل ثلاثة أحجار : حجرين في رجليه و حجرا في منقاره قال فجاءت حتى صفت على رءوسهم ثم صاحت و ألقت ما في رجليها و مناقيرها فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره و لا يقع على شيء من جسده إلا خرج من الجانب الآخر و بعث الله ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة فأهلكوا جميعا
و قد تقدم أن ابن إسحاق قال : و ليس كلهم أصابته الحجارة يعني بل رجع منهم راجعون إلى اليمن حتى أخبروا أهلهم بما حل بقومهم من النكال و ذكروا أن برهة رجع و هو يتساقط أنملة أنملة فلما وصل إلى اليمن انصدع صدره فمات لعنه الله
و روى ابن إسحاق قال : حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت : لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان و تقدم أن سائس الفيل كان اسمه أنيسا فأما قائده فلم يسم و الله أعلم
و ذكر النقاش في تفسيره أن السيل احتمل جثثهم فألقاها في البحر
قال السهيلي : و كانت قصة الفيل أول المحرم من سنة ست و ثمانين و ثمانمائة من تاريخ ذي القرنين قلت : و في عامها ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم على المشهور و قيل كان قبل مولده بسنين كما سنذكر إن شاء الله تعالى و به الثقة (1/29)
ثم ذكر ابن إسحاق ما قالته العرب من الأشعار في هذه الكائنة العظيمة التي نصر الله فيها بيته الحرام الذي يريد أن يشرفه و يعظمه و يطهره و يوقره ببعثة محمد صلى الله عليه و سلم و ما يشرع له من الدين القويم الذي أحد أركانه الصلاة بل عماد دينه و سيجعل قبلته إلى هذه الكعبة المطهرة و لم يكن ما فعله بأصحاب الفيل نصرة لقريش إذ ذاك على النصارى الذين هم الحبشة فإن الحبشة إذ ذاك كانوا أقرب لها من مشركي قريش و إنما كان النصر للبيت الحرام و إرهاصا و توطئة لبعثة محمد صلى الله عليه و سلم
فمن ذلك ما قاله عبد الله بن الزبعري السهمي :
( تنكلوا عن بطن مكة إنها ... كانت قديما لا يزام حريمها )
( لم تخلق الشعرى ليالي حرمت ... إذ لا عزيز من الأنام يرومها )
( سائل أمير الحبش عنها ما رأى ... فلسوف ينبي الجاهلين عليمها )
( ستون ألفا لم يئوبوا أرضهم ... بل لم يعش بعد الإياب سقيمها )
( كانت بها عاد و جرهم قبلهم ... و الله من فوق العباد يقيمها )
و من ذلك قول أبي قيس بن الأسلت الأنصاري المدني :
( و من صنعه يوم فيل الحبو ... ش إذ كلما بعثوه رزم )
( محاجنهم تحت أقرابه ... و قد شرموا أنفه فانخرم )
( و قد جعلوا سوطه مغولا ... إذا يمموه قفاه كلم )
( فولى و أدبر أدراجه ... و قد باء بالظلم من كان ثم )
( فأرسل من فوقهم حاصبا ... فلفهم مثل لف القزم )
( تحض على الصبر أحبارهم ... و قد ثأجوا كثؤاج الغنم )
و من ذلك قول أبي الصلت ربيعة بن أبي ربيعة وهب بن علاج الثقفي قال ابن هشام : و يروى لأمية ابن أبى الصلت :
( إن آيات ربنا ثاقبات ... ما يمارى فيهن إلا الكفور )
( خلق الليل و النهار فكل ... مستبين حسابته مقدور )
( ثم يجلو النهار رب رحيم ... بمهاة شعاعها منشور )
( حبس الفيل بالمغمس حتى ... صار يحبو كأنه معقور )
( لازما حلقه الجران كما قد من صخر كبكب محدور )
( حوله من ملوك كندة أبطا ... ل ملاويث في الحروب صقور )
( خلفوه ثم ابذعروا جميعا ... كلهم عظم ساقه مكسور )
( كل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفة بور )
و من ذلك قول أبي قيس بن الأسلت أيضا :
( فقوموا فصلوا ربكم و تمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب )
( فعندكم منه بلاء مصدق ... غداة أبي يكسوم هادي الكتائب )
( كتيبته بالسهل تمشي و رجله ... على القاذفات في رؤوس المناقب )
( فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم ... جنود المليك بين ساف و حاصب )
( فولوا سراعا هاربين و لم يؤب ... إلى أهله ملحبش غير عصائب )
و من ذلك قول عبيد الله بن قيس الرقيات في عظمة البيت و حمايتة بهلاك من أراده بسوء :
( كاده الأشرم الذي جاء بالفيـ ... ل فولى و جيشه مهزوم )
( و استهلت عليهم الطير بالجنـ ... دل حتى كأنه مرجوم )
( ذاك من يغره من الناس يرجع ... و هو فل من الجيوش ذميم ) (1/39)
قال ابن إسحاق و غيره : فلما هلك أبرهة ملك الحبشة بعده ابنه يكسوم ثم من بعده أخوه مسروق ابن أبرهة و هو آخر ملوكهم و هو الذي انتزع سيف بن ذي يزن الحميري الملك من يده بالجيش الذين قدم بهم من عند كسرى أنوشروان كما سيأتي بيانه
و كانت قصة الفيل في المحرم سنت ست ثمانين و ثمانمائة من تاريخ ذي القرنين و هو الثاني اسكندر ابن فلبس المقدوني الذي يؤرخ له الروم
و لما هلك أبرهة و ابناه و زال ملك الحبشة عن اليمن هجر القليس الذي كان بناه أبرهة و أراد صرف حج العرب إليه لجهله و قلة عقله و أصبح يبابا لا أنيس به و كان قد بناه على صنمين و هما كعيب و امرأته و كانا من خشب طول كل منهما ستون ذراعا في السماء و كانا مصحوبين من الجان و لهذا كان لا يتعرض أحد إلى أخذ شيء من بناء القليس و أمتعته إلا أصابوه بسوء فلم يزل كذلك إلى أيام السفاح أول خلفاء بني العباس فذكر له أمره و ما فيه من الأمتعة و الرخام الذي كان أبرهة نقله إليه من صرح بلقيس الذي كان باليمن فبعث إليه من خربه حجرا حجرا و أخذ جميع ما فيه من الأمتعة و الحواصل و هكذا ذكره السهيلي و الله أعلم (1/41)
قال محمد بن إسحاق رحمه الله : فلما هلك أبرهة ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة و به كان يكنى فلما هلك يكسوم ملك اليمن من الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة
قال : فلما طال البلاء على اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري
و هو سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن ابن الهميسع بن العرنجج و هو حمير بن سبأ و كان سيف يكنى أبا مرة
حتى قدم على قيصر ملك الروم فشكا إليه ما هم فيه و سأله أن يخرجهم عنه و يليهم هو و يخرج إليهم من شاء من الروم فيكون له ملك اليمن فلم يشكه
فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر و هو عامل كسرى على الحيرة و ما يليها من أرض العراق فشكا إليه أمر الحبشة فقال له النعمان : إن لي على كسرى وفادة في كل عام فأقم عندي حتى يكون ذلك ففعل
ثم خرج معه فأدخله على كسرى
و كان كسرى يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه و كان تاجه مثل القنقل العظيم فيما يزعمون يضرب فيه الياقوت و الزبرجد و اللؤلؤ بالذهب و الفضة معلقا بسلسلة من ذهب في رأس طاقة في مجلسه ذلك و كانت عنقه لا تحمل تاجه إنما يستر بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك ثم يدخل رأسه في تاجه فإذا استوى في مجلسه كشف عنه الثياب فلا يراه قبل ذلك إلا برك هيبة له
فلما دخل عليه طأطأ رأسه فقال الملك : إن هذا لأحمق يدخل علي من هذا الباب الطويل ثم يطأطئ رأسه !
فقيل ذلك لسيف فقال : إنما فعلت هذا لهمي لأنه يضيق عنه كل شيء
ثم قال له : أيها الملك غلبتنا على بلادنا الأغربة
قال كسرى : أي الأغربة الحبشة أم السند ؟
قال : بل الحبشة فجئتك لتنصرني و يكون ملك بلادي لك
فقال له كسرى : بعدت بلادك مع قلة خيرها فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب لا حاجة لي بذلك ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف و كساه كسوة حسنة
فلما قبض ذلك منه سيف خرج فجعل ينثر تلك الورق للناس فبلغ ذلك الملك فقال : إن لهذا لشأنا ثم بعث إليه فقال : عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس !
قال و ما أصنع بحبائك ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب و فضة يرغبه فيها
فجمع كسرى مرازبته فقال لهم : ما ترون في أمر هذا الرجل و ما جاء له ؟
فقال قائل : أيها الملك إن في سجونك رجالا قد حبستهم للقتل فلو أنك بعثتهم معه فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت بهم و إن ظفروا كان ملكا ازددته
فبعث معه كسرى من كان في سجونه و كانوا ثمانمائة رجل و استعمل عليهم رجلا منهم يقال له وهرز و كان ذا سن فيهم و أفضلهم حسبا و بيتا فخرجوا في ثمان سفائن فغرقت سفينتان و وصل إلى ساحل عدن ست سفائن
فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه و قال له : رجلي و رجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا فقال له وهرز : أنصفت
و خرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن و جمع إليه جنده فأرسل إليهم وهرز ابنا له ليقاتلهم فيختبر قتالهم فقتل ابن وهرز فزاده ذلك حنقا عليهم
فلما تواقف الناس على مصافهم قال وهرز : أروني ملكهم فقالوا له : أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء
قال : نعم قالوا : ذلك ملكهم فقال اتركوه
قال فوقفوا طويلا ثم قال علام هو ؟ قالوا قد تحول على الفرس قال : اتركوه
فتركوه طويلا ثم قال : علام هو ؟ قالوا على البغلة قال وهرز : بنت الحمار ذل و ذل ملكه إني سأرميه فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم فإني قد أخطأت الرجل و إن رأيتم القوم قد استداروا به و لاثوا فقد أصبت الرجل فاحملوا عليهم
ثم أوتر قوسه و كانت فيما يزعمون لا يوترها غيره من شدتها و أمر بحاجبيه فعصبا له ثم رماه فصك الياقوتة التي بين عينيه و تغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه و نكس عن دابته و استدارت الحبشة و لاثت به و حملت عليهم الفرس فانهزموا فقتلوا و هربوا في كل وجه
و أقبل وهرز ليدخل صنعاء حتى إذا أتى بابها قال لا تدخل رايتي منكسة أبدا اهدموا هذا الباب فهدم ثم دخلها ناصبا رايته (1/42)
فقال سيف بن ذى يزن الحميرى :
( يظن الناس بالملكيـ ... ن أنهما قد التأما )
( و من يسمع بلأمهما ... فإن الخطب قد فقما )
( قتلنا القيل مسروقا ... و روينا الكثيب دما )
( و إن القيل قيل النا ... س وهرز مقسم قسما )
( يذوق مشعشعا حتى ... يفئ السبى و النعما ) (1/45)
و وفدت العرب من الحجاز و غيرها على سيف يهنئونه بعود الملك إليه و امتدحوه فكان من جملة من وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم فبشره سيف برسول الله صلى الله عليه و سلم و أخبره بما يعلم من أمره و سيأتي ذلك مفصلا فى باب البشارات به عليه الصلاة و السلام
قال ابن إسحاق : و قال أبو الصلت بن ربيعة الثقفى قال ابن هشام : و تروى لأمية ابن أبى الصلت
( ليطلب الوتر أمثال ابن ذى يزن ... ريم فى البحر للأعداء أحوالا )
( يمم قيصر لما حان رحلته ... فلم يجد عنده بعض الذى سالا )
( ثم انثنى نحو أسرى بعد عاشرة ... من السنين يهين النفس و المالا )
( حتى أتى ببنى الأحرار يحملهم ... إنك عمرى لقد أسرعت قلقالا )
( لله درهم من عصبة خرجوا ... ما إن أرى لهم فى الناس أمثلا )
( غلبا مرازبة بيضا أساورة ... أسدا تربب فى الغيضات أشبالا )
( يرمون عن شدف كأنها غبط ... بزمخر يعجل المرمى إعجالا )
( أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد ... أضحى شريدهم فى الأرض فلالا )
( فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا )
( و اشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم ... و أسبل اليوم فى برديك إسبالا )
( تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا )
يقال : إن غمدان قصر باليمن بناه يعرب بن قحطان و ملكه بعده و احتله وائلة ابن حمير بن سبأ و يقال كان ارتفاعه عشرين طبقة فالله أعلم (1/45)
قال ابن إسحاق : و قال عدي بن زيد الحيري و كان أحد بني تميم :
( ما بعد صنعاء كان يعمرها ... ولاة ملك جزل مواهبها )
( رفعها من بني لدى قزع الـ ... مزن و تندى مسكا محاربها )
( محفوفة بالجبال دون عرى الـ ... كائد ما ترتقي غواربها )
( يأنس فيها صوت النهام إذا ... جاوبها بالعشي قاصبها )
( ساقت إليها الأسباب جند بني الـ ... أحرار فرسانها مواكبها )
( و فوزت بالبغال توسق بالـ ... حتف و تسعى بها توالبها )
( حتي رآها الأقوال من طرف الـ ... منقل مخضرة كتائبها )
( يوم ينادون آل بربر و الـ ... يكسوم لا يفلحن هاربها )
( فكان يوم باقي الحديث و زا ... لت إمة ثابت مراتبها )
( و بدل الفيج بالزرافة و الأيام خون جم عجائبها )
( بعد بني تبع نخاورة ... قد اطمأنت بها مرازبها )
قال ابن هشام : وهذا الذي عنى سطيح بقوله : [ يليه إرم ذي يزن يخرج عليهم من عدن فلا يترك منهم أحدا باليمن ] و الذي عنى شق بقوله : [ غلام ليس بدني و لا مدن يخرج من بيت ذي يزن ]
قال ابن إسحاق : فأقام وهرز و الفرس باليمن فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين باليمن اليوم (1/46)
و كان ملك الحبشة باليمن فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروق ابن أبرهة و أخرجت الحبشة اثنتين و سبعين سنة توارث ذلك منهم أربعة : أرياط ثم أبرهة ثم يكسوم بن أبرهة ثم مسروق بن أبرهة (1/47)
قال ابن هشام : ثم مات وهرز فأمر كسرى ابنه المرزبان بن وهرز على اليمن ثم مات المرزبان فأمر كسرى ابنه التينجان ثم مات فأمر ابن التينجان ثم عزله عن اليمن و أمر عليها باذان و في زمنه بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال ابن هشام : فبلغني عن الزهري أنه قال : كتب كسرى إلى باذان : إنه بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي فسر إليه فاستتبه فإن تاب و إلا فابعث إلي برأسه
فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا وكذا من شهر كذا ] فلما أتى باذان الكتاب وقف لينتظر و قال : إن كان نبيا فسيكون ما قال فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ابن هشام : على يدي ابنه شيرويه
قلت و قال بعضهم : بنوه تمالأوا على قتله
و كسرى هذا هو أبرويز بن هرمز بن أنوشروان بن قباذ و هو الذي غلب الروم في قوله تعالى : { ألم غلبت الروم في أدنى الأرض } كما سيأتي بيانه
قال السهيلي : و كان قتله ليلة الثلاثاء لعشر خلون من جمادى الأولى سنة تسع من الهجرة و كان و الله أعلم لما كتب إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم يدعوه إلى الإسلام فغضب و مزق كتابه كتب إلى نائبه باليمن يقول له ما قال و في بعض الروايات أن رسول صلى الله عليه و سلم قال لرسول باذن : [ إن ربي قد قتل الليلة ربك ] فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قتل تلك الليلة بعينها قتله بنوه لظلمه بعد عدله بعدما خلعوه و ولوا ابنه شيرويه فلم يعش بعد قتله أباه إلا ستة أشهر أو دونها
و في هذا يقول خالد بن حق الشيباني :
( و كسرى إذ تقسمه بنوه ... بأسياف كما اقتسم اللحام )
( تمخضت المنون له بيوم ... ألا ولكل حاملة تمام )
قال الزهري : فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه و إسلام من معه من الفرس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت الرسل من الفرس : إلى من نحن يا رسول الله ؟ قال [ أنتم منا و إلينا أهل البيت ] قال الزهري : و من ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ سلمان منا أهل البيت ]
قلت : و الظاهر أن هذا كان بعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و لهذا بعث الأمراء إلى اليمن لتعليم الناس الخير و دعوتهم إلى الله عز و جل فبعث أولا خالد بن الوليد و علي بن أبي طالب ثم أتبعها أبا موسى الأشعري و معاذ بن جبل و دانت اليمن و أهلها للإسلام و مات باذان فقام بعده ولده شهر بن باذان و هو الذي قتله الأسود العنسي حين تنبأ و أخذ زوجته كما سيأتي بيانه و أجلى عن اليمن نواب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما قتل الأسود عادت اليد الإسلامية عليها
قال ابن هشام : و هذا هو الذي عنى به سطيح بقوله : [ نبي ذكي يأتيه الوحى من قبل العلي ] و الذي عنى شق بقوله : [ بل ينقطع برسول مرسل يأتي بالحق و العدل بين أهل الدين و الفضل يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل ]
قال ابن إسحاق : [ و كان في حجر باليمن فيما يزعمون كتاب بالزبور كتب في الزمان الأول : لمن ملك ذمار ؟ لحمير الأخيار لمن ملك ذمار ؟ للحبشة الأشرار لمن ملك ذمار ؟ لفارس الأحرار لمن ملك ذمار ؟ لقريش التجار ]
و قد نظم بعض الشعراء هذا المعنى فيما ذكره المسعودي :
( حين شيدت ذمار قيل لمن أنـ ... ت ؟ فقال لحمير الأخيار )
( ثم سيلت من بعد ذاك فقالت ... أنا للحبش أخبث الأشرار )
( ثم قالوا من بعد ذاك لمن أنـ ... ت فقالت لفارس الأحرار )
( ثم قالوا من بعد ذاك لمن أنـ ... ت فقالت إلى قريش التجار )
و يقال : إن هذا الكلام الذي ذكره محمد بن إسحاق وجد مكتوبا عند قبر هود عليه السلام حين كشفت الريح عن قبره بأرض اليمن و ذلك قبل زمن بلقيس بيسير في أيام مالك بن ذي المنار أخي عمرو ذى الأذعار بن ذي المنار و يقال كان مكتوبا على قبر هود أيضا و هو من كلامه عليه السلام حكاه السهيلي و الله أعلم (1/48)
و قد ذكر قصته هاهنا عبد الملك بن هشام لأجل ما قاله بعض علماء النسب : أن النعمان بن المنذر الذي تقدم ذكره في ورود سيف بن ذي يزن عليه و سؤاله في مساعدته في رد ملك اليمن إليه أنه من سلالة الساطرون صاحب الحضر و قد قدمنا عن ابن إسحاق أن النعمان بن المنذر من ذرية ربيع بن نصر و أنه روى عن جبير بن مطعم أنه من أشلاء قنص بن معد بن عدنان فهذه ثلاثة أقوال في نسبه فاستطرد ابن هشام في ذكر صاحب الحضر
و الحضر حصن عظيم بناه هذا الملك و هو الساطرون على حافة الفرات و هو منيف مرتفع البناء واسع الرحبة و الفناء دوره بقدر مدينة عظيمة و هو في غاية الإحكام و البهاء و الحسن و السناء و إليه يجبى ما حوله من الأقطار و الأرجاء
و اسم الساطرون : الضيزن بن معاوية بن عبيد بن أجرم من بنى سليح بن حلوان بن الحاف بن قضاعة كذا نسبه ابن الكلبي
و قال غيره : كان من الجرامقة و كان أحد ملوك الطوائف و كان يقدمهم إذا اجتمعوا لحرب عدو من غيرهم و كان حصنه بين دجلة و الفرات
قال ابن هشام و كان كسرى سابور ذو الأكتاف غزا الساطرون ملك الحضر
وقال غير ابن هشام : إنما الذي غزا صاحب الحضر سابور بن أردشير بن بابك أول ملوك بني ساسان أذل ملوك الطوائف ورد الملك إلى الأكاسرة و أما سابور ذو الأكتاف بن هرمز فبعد ذلك بدهر طويل و الله أعلم ذكره السهيلي
قال ابن هشام : فحصره سنتين و قال غيره : أربع سنين
و ذلك لأنه كان أغار على بلاد سابور في غيبته بأرض العراق فأشرقت بنت االساطرون و كان اسمها النضيرة فنظرت إلى سابور و عليه ثياب ديباج و على رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد و الياقوت و اللؤلؤ و كان جميلا فدست إليه : أتتزوجني إن فتحت لك باب الحضر ؟ فقال : نعم
فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر و كان لا يبيت إلا سكران فأخذت مفاتيح باب الحضر من تحت رأسه و بعثت بها مع مولى لها ففتح الباب و يقال : بل دلتهم على نهر يدخل منه الماء متسع فولجوا منه إلى الحضر و يقال : بل دلتهم على طلسم كان في الحضر و كان في علمهم أنه لا يفتح حتى تؤخذ حمامة ورقاء و تخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء ثم ترسل فإذا وقعت على سور الحضر سقط ذلك الطلسم فيفتح الباب ففعل ذلك فانفتح الباب
فدخل سابور فقتل ساطرون و استباح الحضر و خربه و سار بها معه فتزوجها
فبينا هي نائمة على فراشها ليلا إذ جعلت تململ لا تنام فدعا لها بالشمع ففتش فراشها فوجد عليه ورقة آس فقال لها سابور : أهذا الذي أسهرك ؟ قالت : نعم
قال : فما كان أبوك يصنع بك قالت : كان يفرش لي الديباج و يلبسني الحرير و يطعمني المخ و يسقيني الخمر
قال : أفكان جزاء أبيك ما صنعت به ! أنت إلي بذلك أسرع
فربطت قرون رأسها بذنب فرس ثم ركض الفرس حتى قتلها (1/50)
ففيه يقول أعشى بني قيس بن ثعلبة :
( ألم تر للحضر إذ أهله ... بنعمى وهل خالد من نعم )
( أقام به شاهبور الجنو ... د حولين تضرب فيه القدم )
( فلما دعا ربه دعوة ... أناب إليه فلم ينتقم )
( فهل زاده ربه قوة ... و مثل مجاوره لم يقم )
( و كان دعا قومه دعوة ... هلموا إلي أمركم قد صرم )
( فموتوا كراما بأسيافكم ... أرى الموت يجشمه من جشم ) (1/52)
و قال عدي بن زيد في ذلك :
( و الحضر صابت عليه داهية ... من فوقه أيد مناكبها )
( ربية لم توق والدها ... لحينها إذ أضاع راقبها )
( إذ غبقته صهباء صافية ... و الخمر وهل يهيم شاربها )
( فأسلمت أهلها بليلتها ... تظن أن الرئيس خاطبها )
( فكان حظ العروس إذ جشر الصبح دماء تجري سبائبها )
( و خرب الحضر و استبيح و قد ... أحرق في خدرها مشاجبها )
و قال عدي بن زيد أيضا :
( أيها الشامت المعير بالدهـ ... ر أأنت المبرء الموفور ! )
( أم لديك العهد الوثيق من الأيام بل أنت جاهل مغرور )
( من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير ؟ ! )
( أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ... وان أم أين قبله سابور ! )
( و بنو الأصفر الكرام ملوك الروم لم يبق منهم مذكور )
( و أخو الحضر إذ بناه و إذ دجـ ... لة تجبى إليه و الخابور )
( شاده مرمرا و جلله كلـ ... سا فللطير في ذراه وكور )
( لم يهبه ريب المنون فبان الملك عنه فبابه مهجور )
( و تذكر رب الخورنق إذ أشرف يوما و للهدى تفكير )
( سره ماله و كثرة ما يمـ ... لك و البحر معرضا و السدير )
( فارعوى قلبه و قال : و ماغبـ ... طة حي إلى الممات يصير )
( ثم أضحوا كأنهم ورق جف فألوت به الصبا و الدبور )
قلت : و رب الخورنق الذى ذكره في شعره رجل من الملوك المتقدمين وعظه بعض علماء زمانه في أمره الذى كان قد أسرف فيه وعتا و تمرد فيه و أتبع نفسه هواها و لم يراقب فيها مولاها فوعظه بمن سلف قبله من الملوك و الدول و كيف بادوا و لم يبق منهم أحد و أنه ما صار إليه عن غيره إلا و هو منتقل عنه إلى من بعده فأخذته موعظته و بلغت منه كل مبلغ فارعوى لنفسه و فكر في يومه و أمسه و خاف من ضيق رمسه فتاب و أناب و نزع عما كان فيه و ترك الملك و لبس زي الفقراء و ساح في الفلوات و حظى بالخلوات و خرج عما كان الناس فيه من أتباع الشهوات و عصيان رب السموات
و قد ذكر قصته مبسوطة الشيخ الإمام موفق بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى في كتاب التوابين و كذلك أوردها بإسناد متين الحافظ أبو القاسم السهيلى في كتاب الروض الأنف المرتب أحسن ترتيب و أوضح تبين (1/53)
و أما صاحب الحضر و هو ساطرون فقد تقدم أنه كان مقدما على سائر ملوك الطوائف و كان من زمن اسكندر بن فلبيس المقدوني اليوناني و ذلك لأنه لما غلب على ملك الفرس دارا بن دارا و أذل مملكته و خرب بلاده و استباح بيضة قومه و نهب حواصله و مزق شمل الفرس شذر مذر عزم أن لا يجتمع لهم بعد ذلك شمل و لا يلتئم لهم أمر
فجعل يقر كل ملك على طائفة من الناس في إقليم من أقاليم الأرض ما بين عربها و أعاجمها فاستمر كل ملك منهم يحمي حوزته و يحفظ حصته و يستغل محلته فإذا هلك قام ولده من بعده أو أحد قومه فاستمر الأمر كذلك قريبا من خمسمائة سنة
حتى كان أردشير بن بابك من بني ساسان بن بهمن بن أسفنديار بن يشتاسب بن لهراسب فأعاد ملكهم إلى ما كان عليه ورجعت الممالك برمتها إليه وأزال ممالك ملوك الطوائف ولم يبق منهم تالد ولا طارف وكان تأخر عليه حصار صاحب الحضر الذي كان أكبرهم وأشدهم وأعظمهم إذ كان رئيسهم ومقدمهم فلما مات أردشير تصدى له ولده سابور فحاصره حتى أخذه كما تقدم و الله سبحانه و تعالى أعلم (1/55)
ذكرنا إسماعيل نفسه عليه السلام مع الأنبياء و كيف كان من أمره حين احتمله أبوه إبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام مع أمه هاجر فأسكنها بوادي مكة بين جبال فاران حيث لا أنيس به و لا حسيس و كان إسماعيل رضيعا ثم ذهب و تركهما هنالك عن أمر الله له بذلك ليس عند أمه سوى جراب فيه تمر و وكاء فيه ماء فلما نفذ ذلك أنبع الله لهاجر زمزم التي هي طعام طعم و شفاء سقم كما في حديث ابن عباس الطويل الذي رواه البخاري رحمه الله
ثم نزلت جرهم و هم طائفة من العرب العاربة من أمم العرب الأقدمين عند هاجر بمكة على أن ليس لهم في الماء شيء إلا ما يشربون منه و ينتفعون به فاستأنست هاجر بهم
و جعل الخليل عليه السلام يطالع أمرهم في كل حين يقال إنه كان يركب البراق من بلاد بيت المقدس في ذهابه و إيابه
ثم لما ترعرع الغلام و شب و بلغ مع أبيه السعي كانت قصة الذبح و الذبيح هو إسماعيل على الصحيح
ثم لما كبر تزوج من جرهم امرأة ثم فارقها و تزوج غيرها و تزوج بالسيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي و جاءته بالبنين الاثني عشر كما تقدم ذكرهم و هم : نابت و قيذر و أذبل و مشا و مسمع و ماشى و دما و أذر و يطور و نبش و طيما و قيذما هكذا ذكره محمد بن إسحاق و غيره عن كتب أهل الكتاب و له ابنة واحدة اسمها نسمة و هي التي زوجها من ابنه أخيه العيصو بن إسحاق بن إبراهيم فولد له منها الروم و فارس و الأشبان أيضا في أحد القولين (1/56)
ثم جميع عرب الحجاز على اختلاف قبائلهم يرجعون في أنسابهم إلى ولديه نابت و قيذر
و كان الرئيس بعده و القائم بالأمور الحاكم في مكة و الناظر في أمر البيت و زمزم نابت بن إسماعيل و هو ابن أخت الجرهميين (1/57)
ثم تغلبت جرهم على البيت طمعا في بني أختهم فحكموا بمكة و ما والاها عوضا عن بني إسماعيل مدة طويلة فكان أول من صار إليه البيت بعد نابت مضاض بن عمرو بن سعد بن عيبر بن نبت بن جرهم
و جرهم بن قحطان و يقال : جرهم بن يقطن بن عيبر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح الجرهمي و كان نازلا بأعلى مكة بقعيقعان
و كان السميدع سيد قطوراء نازلا بقومه في أسفل مكة و كل منهما يعشر من مر به مجتازا إلى مكة
ثم وقع بين جرهم وقطوراء فاقتتلوا فقتل السميدع و استوثق الأمر لمضاض و هو الحاكم بمكة و البيت لا ينازعه في ذلك ولد إسماعيل مع كثرتهم و شرفهم و انتشارهم بمكة و بغيرها و ذلك لخؤولتهم له و لعظمه البيت الحرام
ثم صار الملك بعده إلى ابنه الحارث ثم إلى عمرو بن الحارث
ثم بغت جرهم بمكة و أكثرت فيها الفساد و ألحدوا بالمسجد الحرام حتى ذكر أن رجلا منهم يقال له إساف بن بغي و امرأة يقال لها نائلة بنت وائل اجتمعا في الكعبة فكان منه إليها الفاحشة فمسخهما الله حجرين فنصبهما الناس قريبا من البيت ليعتبروا بهما فلما طال الطال بعد ذلك بمدد عبدا من دون الله في زمن خزاعة كما سيأتي بيانه في موضعه فكان صنمين منصوبين يقال لهما إساف و نائلة (1/57)
فلما أكثرت جرهم البغي بالبلد الحرام تمالأت عليهم خزاعة الذين كانوا نزلوا حول الحرم و كانوا من ذرية عمرو بن عامر الذى خرج من اليمن لأجل ما توقع من سيل العرم كما تقدم و قيل إن خزاعة من بنى إسماعيل فالله أعلم
و المقصود أنهم اجتمعوا لحربهم و آذنوهم بالحرب و اقتتلوا
و اعتزل بنو إسماعيل كلا الفريقين
فغلبت خزاعة و هم بنو بكر بن عبد مناة و غبشان و أجلوهم عن البيت (1/58)
فعمد عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي و هو سيدهم إلى غزالي الكعبة و هما من ذهب و حجر الركن و هو الحجر الأسود و إلى سيوف محلاة و أشياء أخر فدفنها فى زمزم و طم زمزم و ارتحل بقومه فرجعوا إلى اليمن (1/58)
و في ذلك يقول عمرو بن الحارث بن مضاض :
( و قائلة و الدمع سكب مبادر ... و قد شرقت بالدمع منها المحاجر )
( كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس و لم يسمر بمكة سامر )
( فقلت لها و القلب مني كأنما ... يلجلجه بين الجناحين طائر )
( بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... صروف الليالي و الجدود العواثر )
( وكنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف بذاك البيت و الخير ظاهر )
( و نحن ولينا البيت من بعد نابت ... بعز فما يحظى لدينا المكاثر )
( ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا ... فليس لحي غيرنا ثم فاخر )
( ألم تنكحوا من خير شخص علمته ... فأبناؤه منا و نحن الأصاهر )
( فإن تنثن الدنيا علينا بحالها ... فإن لها حالا و فيها التشاجر )
( فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك يا للناس تجري المقادر )
( أقول إذا نام الخلي و لم أنم ... أذا العرش لا يبعد سهيل وعامر )
( و بدلت منها أوجها لا أحبها ... قبائل منها حمير و يحابر )
( و صرنا أحاديثا و كنا بغبطة ... بذلك عضتنا السنون الغوابر )
( فسحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم أمن وفيها المشاعر )
( و تبكي لبيت ليس يؤذي حمامه ... يظل به أمنا و فيه العصافر )
( و فيه وحوش لا ترام أنيسة ... إذا خرجت منه فليست تغادر )
قال ابن إسحاق : و قال عمرو بن الحارث بن مضاض أيضا يذكر بني بكر و غبشان الذين خلفوا بعدهم بمكة :
( يا أيها الناس سيروا إن قصركم ... أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا )
( حثوا المطي و أرخوا من أزمتها ... قبل الممات و قضوا ما تقضونا )
( كنا أناسا كما كنتم فغيرنا ... دهر فأنتم كما صرنا تصيرونا )
قال ابن هشام : هذا ما صح له منها وحدثني بعض أهل العلم بالشعر أن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب و أنها وجدت مكتوبة في حجر باليمن و لم يسم قائلها
و ذكر السهيلي لهذه الأبيات إخوة و حكي عندها حكاية معجبة و إنشادات مغربة
قال : وزاد أبو الوليد الأزرقي في كتابه فضائل مكة على هذه الأبيات المذكورة المنسوبة إلى عمرو بن الحارث بن مضاض :
( قد مال دهر علينا ثم أهلكنا ... بالبغي فيه وبز الناس ناسونا )
( و استخبروا في صنيع الناس قبلكم ... كما استبان طريق عنده الهونا )
( كنا زمانا ملوك الناس قبلكم ... بمسكن في حرام الله مسكونا ) (1/58)
قال ابن إسحاق : ثم إن غبشان من خزاعة وليت البيت دون بنى بكر بن عبد مناة و كان الذى يليه منهم عمرو بن الحارث الغشبانى
و قريش إذ ذاك حلول و صرم و بيوتات متفرقون فى قومهم من بني كنان
قالوا : و إنما سميت خزاعة خزاعة لأنهم تخزعوا من ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام فنزلوا بمر الظهران فأقاموا به
قال عون بن أيوب الأنصارى ثم الخزرجى فى ذلك :
( فلما هبطنا بطن مر تخزعت ... خزاعة منا في حلول كراكر )
( حمت كل واد من تهامة و احتمت ... بصم القنا و المرهفات البواتر )
و قال أبو المطهر إسماعيل بن رافع الأنصارى الأوسى :
( فلما هبطنا بطن مكة أحمدت ... خزاعة دار الآكل المتحامل )
( فحلت أكاريسا و شتت قنابلا ... على كل حى بين نجد وساحل )
( نفوا جرهما عن بطن مكة و احتبوا ... بعز خزاعي شديد الكواهل )
فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم حليل ابن حبشية بن سلوك بن كعب بن عمرو بن ربيعة الخزاعي الذى تزوج قصي بن كلاب ابنته حبى فولدت له بنيه الأربعة : عبد الدار عبد مناف وعبد العزى و عبدا ثم صار أمر البيت إليه كما سيأتي بيانه و تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى و به الثقة
و استمرت خزاعة على ولاية البيت نحوا من ثلاثمائة سنة و قيل خمسمائة سنة و الله أعلم و كانوا مشؤمين في ولايتهم و ذلك لأن في زمانهم كان أول عبادة الأوثان بالحجاز (1/60)
و ذلك بسبب رئيسهم عمرو بن لحي عنه الله فإنه أول من دعاهم إلي ذلك و كان ذا مال جزيل جدا يقال : إنه فقأ أعين عشرين بعيرا و ذلك عبارة عن أنه ملك عشرين ألف بعير
و كان من عادة العرب أن من ملك ألف بعير فقأ عين واحد منها لأنه يدفع بذلك العين عنها و ممن ذكر ذلك الأزرقي
و ذكر السهيلي : أنه ربما ذبح أيام الحجيج عشرة آلاف بدنة و كسا عشرة آلاف حلة في كل سنة يطعم العرب و يحيس لهم الحيس بالسمن و العسل و يلت لهم السويق
قالوا : و كان قوله و فعله فيهم كالشرع المتبع لشرفه فيهم و محلته عندهم و كرمه عليهم
قال ابن هشام : حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلي الشام في بعض أموره فلما قدم مآب من أرض البلقاء و بها يومئذ العماليق و هم ولد عملاق و يقال ولد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم : ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون ؟ قالوا له : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا و نستنصرها فتنصرنا
فقال لهم : ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلي أرض العرب فيعبدونه فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه و أمر الناس بعبادته و تعظيمه قال ابن إسحاق : و يزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه السلام أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم و التمسوا الفسح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم
فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة
حتي سلخ ذلك بهم إلي أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة و أعجبهم حتي خلفت الخلوف و نسوا ما كانوا عليه
و في الصحيح عن أبي رجاء العطاردي قال : كنا في الجاهلية إذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من التراب و جئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا بها
قال ابن إسحاق : واستبدلوا بدين إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام غيره فعبدوا الأوثان و صاروا إلي ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات
و فيهم علي ذلك بقايا من عهد إبراهيم عليه السلام يتمسكون بها من تعظيم البيت و الطواف به و الحج و العمرة و الوقوف على عرفات و المزدلفة و هدي البدن و الإهلال بالحج و العمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه
فكانت كنانة و قريش إذا أهلوا قالوا : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم و يجعلون ملكها بيده يقول الله تعالي لمحمد صلي الله عليه و سلم : { و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون } أي ما يوحدونني لمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي (1/61)
و قد ذكر السهيلي و غيره : أن أول من لبى هذه التلبية عمرو بن لحي و أن إبليس تبدى له في صورة شيخ فجعل يلقنه ذلك فيسمع منه و يقول كما قال و اتبعه العرب في ذلك و ثبت في الصورة أن رسول الله صلي الله عليه و سلم كان إذا سمعهم يقولون : لبيك لا شريك لك : [ قد قد ] أي حسب حسب
و قد قال البخاري : [ حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيي بن آدم حدثنا إسرائيل عن أبي حفص عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه و سلم قال : إن أول من سيب السوائب و عبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر و إني رأيته يجر أمعاءه في النار ]
تفرد به أحمد من هذا الوجه و هذا يقتضي أن عمرو ابن لحي هو أبو خزاعة الذي تنسب إليه القبيلة بكمالها كما زعمه بعضهم من أهل النسب فيما حكاه ابن إسحاق و غيره
و لو تركنا مجرد هذا لكان ظاهرا في ذلك بل كالنص و لكن قد جاء ما يخالفه من بعض الوجوه
فقال البخاري : [ حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري قال : سمعت سعيد بن المسيب قال : البحيرة : التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس و السائبة : التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء
قال : و قال أبو هريرة : قال النبي صلي الله عليه و سلم : رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب ]
و هكذا رواه البخاري أيضا و مسلم من حديث صالح بن كيسان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة به
ثم قال البخاري : و رواه ابن الهاد عن الزهري
قال الحاكم : أراد البخاري : [ رواه ابن الهاد عن عبد الوهاب بن بخت عن الزهري كذا قال
و قد رواه أحمد عن عمرو بن سلمة الخزاعي عن الليث بن سعد عن يزيد بن الهاد عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة : سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول : رأيت عمرو بن عامر يجر قصبه في النار و كان أول من سيب السوائب و بحر البحيرة ]
و لم يذكر بينهما عبد الوهاب بن بخت كما قال الحاكم فالله أعلم
و قال أحمد أيضا : [ حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلي الله عليه و سلم رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار و هو أول من سيب السوائب ]
و هذا منقطع من هذا الوجه و الصحيح : الزهري عن سعيد عنه كما تقدم
و قوله في هذا الحديث و الذي قبله : [ الخزاعي ] يدل علي أنه ليس والد القبيلة بل منتسب إليها مع ما وقع في الرواية من قوله أبو خزاعة تصحيف من الراوي من [ أخو خزا عة ] أو أنه كان يكني بأبي خزاعة و لا يكون ذلك من باب الإخبار بأنه أبو خزاعة كلهم و الله أعلم
و قال محمد بن إسحاق : [ حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن أبا صالح السمان حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلي الله عليه و سلم يقول : لأكثم بن الجون الخزاعي : يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به و لا بك منه ]
فقال أكثم : عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله قال : [ لا إنك مؤمن و هو كافر إنه كان أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان و بحر البحيرة و سيب السائبة و وصل الوصيلة و حمي الحامي ]
ليس في الكتب من هذا الوجه
و قد رواه ابن جرير عن هناد بن عبدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه و سلم بنحوه أو مثله و ليس في الكتب أيضا
و قال البخاري : [ حدثني محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكرماني حدثنا حسان ابن إبراهيم حدثنا يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلي الله عليه و سلم : رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا و رأيت عمرا يجر قصبه و هو أول من سيب السوائب ]
تفرد به البخاري
و روي الطبراني من طريق صالح عن ابن عباس مرفوعا في ذلك (1/63)
و المقصود أن عمرو بن لحي لعنه الله كان قد ابتدع لهم أشياء في الدين غير بها دين الخليل فاتبعه العرب في ذلك فضلوا بذلك ضلالا بعيدا بينا فظيعا شنيعا
و قد أنكر الله تعالى عليهم في كتابه العزيز في غير ما آية منه فقال تعالى : { و لا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال و هذا حرام لتفتروا علي الله الكذب } الآية و قال تعالى : { ما جعل الله من بحيرة و لا سائبة و لا وصيلة و لا حام و لكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب و أكثرهم لا يعقلون }
و قد تكلمنا علي هذا كله مبسوطا و بينا اختلاف السلف في ذلك فمن أراده فليأخذه من ثم ولله الحمد و المنة
و قال تعالى : { و يجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون }
و قال تعالى : { و جعلوا لله مما ذرأ من الحرث و الأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم و هذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلي الله و ما كان لله فهو يصل إلي شر كائهم ساء ما يحكمون و كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شر كاؤهم ليردوهم و ليلبسوا عليهم دينهم و لو شاء الله ما فعلوه فذرهم و ما يفترون و قالوا هذه أنعام و حرث حجر لا يطعمها إلا نشاء بزعمهم و أنعام حرمت ظهورها و أنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون و قالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا و محرم علي أزواجنا و غن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم و حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا و ما كانوا مهتدين }
و قال البخاري في صحيحه : باب جهل العرب :
حدثنا أبو النعمان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين و مائة في سورة الأنعام : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا و ما كانوا مهتدين }
و قد ذكرنا تفسير هذه الآية و ما كانوا ابتدعوه من الشرائع الباطلة الفاسدة التي ظنها كبيرهم عمرو بن لحي قبحه الله مصلحة و رحمة بالدواب و البهائم و هو كاذب مفتر في ذلك
و مع هذا الجهل و الضلال اتبعه هؤلاء الجهلة الطغام فيه
بل قد تابعوه فيما هو أطم من ذلك و أعظم بكثير و هو عبادة الأوثان مع الله عز و جل
و بدلوا ما كان الله بعث به إبراهيم خليله من الدين القويم والصراط المستقيم من توحيد عبادة الله وحده لا شريك له و تحريم الشرك
و غيروا شعائر الحج و معالم الدين بغير علم و لا برهان و لا دليل صحيح و لا ضعيف
و اتبعوا في ذلك من كان قبلهم من الأمم المشركين
و شابهوا قوم نوح و كانوا أول من أشرك بالله و عبد الأصنام و لهذا بعث الله إليهم نوحا و كان أول رسول بعث ينهي عن لأصنام كما في قصة نوح { و قالوا لا تذرن آلهتكم و لا تذرون ودا و لا سواعا و لا يغوث و يعوق و نسرا و قد أضلوا كثيرا و لا تزد الظالمين إلا ضلالا }
قال ابن عباس : كان هؤلاء قواما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا علي قبورهم فلما طال عليهم الأمد عبدوهم و قد بينا كيفية ما كان من أممر همفي عبادتهم بما أغني عن إعادته ها هنا (1/66)
قال ابن اسحاق و غيره : ثم صارت هذه الأصنام فى العرب بعد تبديلهم دين إسماعيل فكان ود لبنى كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة و كان منصوبا بدومة الجندل
و كان سواع لبنى هذيل بن الياس بن مدركة بن مضر و كان منصوبا بما كان يقال له رهاط
و كان يغوث لبنى أنعم من طيىء و لأهل جرش من مذحج و كان منصوبا بجرش و كان يعوق منصوبا بأرض همدان من اليمن لبني خيوان بطن من همدان
و كان نسر منصوبا بأرض حمير لقبيلة يقال لها ذو الكلاع
قال ابن إسحاق : و كان لخولان بأرضهم صنم يقال له عم أنس يقسمون له من أنعامهم و حروثهم قسما بينه و بين الله فيما يزعمون فما دخل في حق عم أنس من حق الله الذي قسموه له تركوه له و ما دخل في حق الله من عم أنس ردوه عليه وفيهم أنزل الله : { و جعلوا لله مما ذرأ من الحرث و الأنعام نصيبا }
قال : و كان لبني ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له سعد صخرة بفلاة من أرضهم طويلة فأقبل رجل منهم بإبل له مؤبلة ليقفها عليه التماس بركته فيما يزعم فلما رأته الإبل و كانت مرعية لا تركب و كان الصنم يهراق عليه الدماء نفرت منه فذهبت فى كل وجه و غضب ربها فأخذ حجرا فرماه به ثم قال : لا بارك الله فيك نفرت علي إبلي ثم خرج في طلبها حتى جمعها فلما اجتمعت له قال :
( أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فلا نحن من سعد )
( و هل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا يدعو لغي و لا رشد )
قال ابن إسحاق : و كان فى دوس صنم لعمرو بن حممة الدوسي
قال : و كانت قريش قد اتخذت صنما على بئر فى جوف الكعبة يقال له هبل
و قد تقدم فيما ذكره ابن هشام أنه أول صنم نصبه عمرو بن لحي لعنه الله
قال ابن إسحاق : و اتخذوا إسافا و نائلة على موضع زمزم ينحرون عندهما ثم ذكر أنهما كانا رجلا و امرأة فوقع عليها فى الكعبة فمسخهما الله حجرين
ثم قال : حدثنى عبد الله بن أبى بكر محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة أنها قالت : سمعت عائشة تقول : ما زلنا نسمع أن إسافا و نائلة كانا رجلا و امرأة من جرهم أحدثا فى الكعبة فمسخهما الله عز و جل حجرين و الله أعلم
و قد قيل إن الله لم يمهلهما حتى فجرا فيها بل مسخهما قبل ذلك فعند ذلك نصبا عند الصفا و المروة
فلما كان عمرو بن لحي نقلهما فوضعهما على زمزم و طاف الناس بهما
وفي ذلك يقول أبو طالب :
( و حيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... بمفضى السيول من إساف ونائل )
و قد ذكر الواقدي : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أمر بكسر نائلة يوم الفتح خرجت منه سوداء شمطاء تخمش و جهها و تدعو بالويل و الثبور
و قد ذكر السهيلي : أن أجا و سلمى و هما جبلان بأرض الحجاز إنما سميا باسم رجل اسمه أجا بن عبد الحي فجر بسلمى بنت حام فصلبا في هذين الجبلين فعرفا بهما قال : و كان بين أجا و سلمى صنم لطيء يقال له قلس
قال ابن إسحاق : و اتخذ أهل كل دار فى دارهم صنما يعبدونه فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره و إذا قدم من سفره تمسح به فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله
قال : فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم بالتوحيد قالت قريش : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب (1/68)
قال ابن إسحاق : و قد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت و هي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة و حجاب و تهدي لها كما تهدى الكعبة و تطوف بها كطوافها بها و تنحر عندها و هى مع ذلك تعرف فضل الكعبة عليها لأنها بناء إبراهيم الخليل عليه السلام و مسجده
و كانت لقريش و بني كنانة العزى بنخلة و كان سدنتها و حجابها بني شيبان من سليم خلفاء بني هاشم و قد خر بها خالد بن الوليد زمن الفتح كما سيأتي
قال : و كانت اللات لثقيف بالطائف و كان سدنتها و حجابها بني معتب من ثقيف و خربها أبو سفيان و المغيرة بن شعبة بعد مجيء أهل الطائف كما سيأتي
قال : و كانت مناة للأوس و الخزرج و من دان بدينهم من أهل المدينة على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد و قد خربها أبو سفيان أيضا و قيل علي بن أبي طالب كما سيأتي
قال : و كان ذو الخلصة لدوس و خثعم و بجيلة و من كان ببلادهم من العرب بتبالة و كان يقال له
الكعبة اليمانية و لبيت مكة الكعبة الشامية و قد خربه جرير بن عبد الله البجلي كما سيأتي
قال : و كان قلس لطيء و من يليها بجبلي طيء يعني أجأ و سلمى و هما جبلان مشهوران كما تقدم
قال : و كان رئام بيتا لحمير و أهل اليمن كما تقدم ذكره فى قصة تبع أحد ملوك حمير و قصة الحبرين حين خرباه و قتلا منه كلب أسود
قال : و كانت رضاء بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد ابن زيد مناة بن تميم و لها يقول المستوغر و اسمه كعب بن ربيعة بن كعب :
( و لقد شددت على رضاء شدة ... فتركتها قفرا بقاع أسحما )
( و أعان عبد الله في مكروهها ... و بمثل عبد الله أغشى المحرما )
و يقال إن المستوغر هذا عاش ثلاثمائة سنة و ثلاثين سنة و كان أطول مضر كلها عمرا و هو الذى يقول :
( و لقد سئمت من الحياة و طولها ... و عمرت من عدد السنين مئينا )
( مائة حدتها بعدها مائتان لي ... و ازدادت من عدد الشهور سنينا )
( هل ما بقي إلا كما قد فاتنا ... يوم يمر و ليلة تحدونا )
قال ابن هشام : و تروى هذه الأبيات لزهير بن جناب بن هبل
قال السهيلي : و من المعمرين الذين جازوا المائتين و الثلاثمائة : زهير هذا و عبيد ابن شرية و دغفل بن حنظلة النسابة و الربيع بن ضبع الفزاري و ذو الإصبع العدواني و نصر بن دهمان بن أشجع بن ريث بن غطفان وكان قد اسود شعره بعد ابيضاضه و تقوم ظهره بعد اعوجاجه
قال : و كان ذو الكعبات لبكر و تغلب ابني وائل و إياد بسنداد و له يقول أعشى بني قيس بن ثعلبة :
( بين الخورنق و السدير و بارق ... و البيت ذي الشرفات من سنداد )
و أول هذه القصيدة :
( و لقد علمت و إن تطاول بي المدى ... أن السبيل سبيل ذي الأعواد )
( ماذا أؤمل بعد آل محرق ... تركوا منازلهم و بعد إياد )
( نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد )
( أرض الخورنق و السدير و بارق ... و البيت ذي الكعبات من سنداد )
( جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد )
( و أرى النعيم و كل ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلى و نفاد )
قال السهيلي : الخورنق : قصر بناه النعمان الأكبر لسابور ليكون ولده فيه عنده و بناه رجل يقال له سنمار فى عشرين سنة و لم ير بناء أعجب منه فخشي أن يبني لغيره مثله فألقاه من أعلاه فقتله ففي ذلك يقول الشاعر :
( جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار و ما كان ذا ذنب )
( سوى رضفه البنيان عشرين حجة ... يعد عليه بالقرامد و السكب )
( فلما انتهى البنيان يوما تمامه ... و آض كمثل الطود و الباذخ الصعب )
( رمى بسنمار على حق رأسه ... و ذاك لعمر الله من أقبح الخطب )
قال السهيلى : أنشده الجاحظ فى كتاب الحيوان و السنمار من أسماء القمر
و المقصود أن هذه البيوت كلها هدمت لما جاء الإسلام جهز رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى كل بيت من هذه سرايا تخربه و إلى تلك الأصنام من كسرها حتى لم يبق للكعبة ما يضاهيها و عبد الله وحده لا شريك له كما سيأتي بيانه و تفصيله في مواضعه إن شاء الله تعالى و به الثقة (1/70)
لا خلاف أن عدنان من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام (1/74)
و اختلفوا فى عدة الآباء بينه و بين إسماعيل على أقوال كثيرة
فأكثر ما قيل أربعون أبا و هو الموجود عند أهل الكتاب أخذوه من كتاب برخيا كاتب أرميا بن حلقيا على ما سنذكره
و قيل بينهما ثلاثون و قيل عشرون و قيل خمسة عشر و قيل عشرة و قيل تسعة و قيل سبعة
و قيل إن أقل ما قيل فى ذلك أربعة لما رواه [ موسى بن يعقوب عن عبد الله بن وهب بن زمعة الزمعى عن عمته عن أم سلمة عن النبى صلى الله عليه و سلم أنه قال معد بن عدنان بن أدد بن زند بن اليرى بن أعراق الثرى ]
قالت أم سلمة : فزند هو الهميسع و اليرى هو نابت و أعراق الثرى هو إسماعيل لأنه ا بن إبراهيم و إبراهيم لم تأكله النار كما أن النار لا تأكل الثرى
قال الدارقطنى : لا نعرف زندا إلا فى هذا الحديث و زند بن الجون و هو أبو دلامة الشاعر
قال الحافظ أبو القاسم السهيلي و غيره من الأئمة : مدة ما بين عدنان إلى زمن إسماعيل أكثر من أن يكون بينهما أربعة آباء أو عشرة أو عشرون و ذلك أن معد ابن عدنان كان عمره زمن بختنصر اثنتى عشرة سنة (1/74)
و قد ذكر أبو جعفر الطبري و غيره أن الله تعالى أوحى فى ذلك الزمان إلى أرمياء بن حلقيا أن اذهب إلى بختنصر فأعلمه أني قد سلطته على العرب و أمر الله أرمياء أن يحمل معه معد بن عدنان على البراق كي لا تصيبه النقمة فيهم فإني مستخرج من صلبه نبيا كريما أختم به الرسل
ففعل أرمياء ذلك و احتمل معدا على البراق إلى أرض الشام فنشأ مع بني إسرائيل ممن بقي منهم بعد خراب بيت المقدس و تزوج هناك امرأة اسمها معانة بنت جوشن من بني دب بن جرهم قبل أن يرجع إلى بلاده ثم عاد بعد أن هدأت الفتن و تمحضت جزيرة العرب و كان رخيا كاتب أرمياء قد كتب نسبه في كتاب عنده ليكون فى خزانة أرمياء فيحفظ نسب معد كذلك و الله أعلم (1/74)
و لهذا كره مالك رحمه الله رفع النسب إلى ما بعد عدنان
قال السهيلي : و إنما تكلمنا فى رفع هذه الأنساب على مذهب من يرى ذلك و لم يكرهه كابن إسحاق و البخاري و الزبير بن بكار و الطبري و غيرهم من العلماء
و أما مالك رحمه الله فقد سئل عن الرجل يرفع نسبه إلى آدم فكره ذلك و قال له : من أين له علم ذلك ؟ ! فقيل له : فإلى إسماعيل ؟ فأنكر ذلك أيضا و قال : و من يخبره به ! (1/75)
و كره أيضا أن يرفع في نسب الأنبياء مثل أن يقال : إبراهيم بن فلان بن فلان هكذا ذكره المعيطي في كتابه
قال : و قول مالك هذا نحو ما روي عن عروة بن الزبير أنه قال : ما وجدنا أحدا يعرف ما بين عدنان و إسماعيل
و عن ابن عباس أنه قال : بين عدنان و إسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون
و روي عن ابن عباس أيضا أنه كان إذا بلغ عدنان يقول : كذب النسابون مرتين أو ثلاثا و الأصح عن ابن مسعود مثله
و قال عمر بن الخطاب : إنما ننسب إلى عدنان
و قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه : الأنباه في معرفة قبائل الرواة : روى ابن لهيعة عن أبي الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يقول : ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء عدنان و لا ما وراء قحطان إلا تخرصا
و قال أبو الأسود : سمعت أبا بكر سليمان بن أبي خيثمة و كان من أعلم قريش بأشعارهم و أنسابهم يقول : ما وجدنا أحدا يعرف ما وراء معد بن عدنان في شعر شاعر و لا علم عالم
قال أبو عمر : و كان قوم من السلف منهم عبد الله بن مسعود و عمرو بن ميمون الأزدي و محمد بن كعب القرظي إذا تلوا { و الذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله } قالوا : كذب النسابون
قال أبو عمر رحمه الله : و المعنى عندنا في هذا غير ما ذهبوا و المراد أن من ادعى إحصاء بني آدم فإنهم لا يعلمهم إلا الله الذي خلقهم و أما أنساب العرب فإن أهل العلم بأيامها و أنسابها قد وعوا و حفظوا جماهيرها و أمهات قبائلها و اختلفوا في بعض فروع ذلك
قال أبو عمر : و الذي عليه أئمة هذا الشأن في نسب عدنان قالوا : عدنان بن أدد ابن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام و هكذا ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة
قال ابن هشام : و يقال عدنان بن أد يعني عدنان بن أد بن أدد
ثم ساق أبو عمر بقية النسب إلى آدم
و أما الأنساب إلى عدنان من سائر قبائل العرب فمحفوظة شهيرة جدا لا يتمارى فيها اثنان
و النسب النبوي إليه أظهر و أوضح من فلق الصبح و قد ورد حديث مرفوع بالنص عليه كما سنورده في موضعه بعد الكلام على قبائل العرب و ذكر أنسابها و انتظامها في سلك النسب الشريف و الأصل المنيف إن شاء الله تعالى و به الثقة و عليه التكلان و لا حول و لا قوة إلا بالله العزيز الحكيم (1/75)
و ما أحسن ما نظم النسب النبوي الإمام أبو العباس عبد الله بن محمد الناشيء في قصيدته المشهورة المنسوبة إلى ه و هي قوله :
( مدحت رسول الله أبغي بمدحه ... و فوز حظوظي من كريم المآرب )
( مدحت امرأ فاق المديح موحدا ... بأوصافه عن مبعد و مقارب )
( نبيا تسامى في المشارق نوره ... فلاحت هواديه لأهل المغارب )
( أتتنا به الأنباء قبل مجيئه ... و شاعت به الأخبار في كل جانب )
( و أصبحت الكهان تهتف باسمه ... و تنفي به رجم الظنون الكواذب )
( و أنطقت الأصنام نطقا تبرأت ... إلى الله فيه من مقال الأكاذب )
( و قالت لأهل الكفر قولا مبينا ... أتاكم نبي من لؤي بن غالب )
( و رام استراق السمع جن فزيلت ... مقاعدهم منها رجوم الكواكب )
( هدانا إلى ما لم نكن نهتدي له ... لطول العمى من واضحات المذاهب )
( و جاء بآيات تبين أنها ... دلائل جبار مثيب معاقب )
( فمنها انشقاق البدر حين تعممت ... شعوب الضيا منه رؤوس الأخاشب )
( و منها نبوع الماء بين ... بنانه و قد عدم الوراد قرب المشارب )
( فروى به جما غفيرا و أسهلت ... بأعناقه طوعا أكف المذانب )
( و بئر طغت بالماء من مس سهمه ... و من قبل لم تسمح بمذقة شارب )
( و ضرع مراه فاستدر و لم يكن ... به درة تصغي إلى كف حالب )
( و نطق فصيح من ذراع مبينة ... لكيد عدو للعداوة ناصب )
( و إخباره بالأمر من قبل كونه ... و عند بواديه بما في العواقب )
( و من تلكم الآيات وحي أتى به ... قريب المآتي مستجم العجائب )
( تقاصرت الأفكار عنه فلم يطع ... بليغا و لم يخطر علي قلب خاطب )
( حوى كل علم و احتوى كل حكمة ... و فات مرام المستمر الموارب )
( أتانا به لا عن روية مرتئ ... و لا صحف مستمل و لا وصف كاتب )
( يواتيه طورا في إجابة سائل ... و إفتاء مستفت و وعظ مخاطب )
( و إتيان برهان و فرض شرائع ... و قص أحاديث و نص مآرب )
( و تصريف أمثال و تثبيت حجة ... و تعريف ذي جحد و توقيف كاذب )
( و في مجمع النادي و في حومة الوغى ... و عند حدوث المعضلات الغرائب )
( فيأتي علي ما شئت من طرقاته ... قويم المعاني مستدر الضرائب )
( يصدق منه البعض بعضا كأنما ... يلاحظ معناه بعين المراقب )
( و عجز الورى عن أن يجيئوا بمثل ما ... وصفناه معلوم بطول التجارب )
( تأبى بعبد الله أكرم والد ... تبلج منه عن كريم المناسب )
( و شيبة ذي الحمد الذي فخرت به ... قريش علي أهل العلا و المناصب )
( و من كان يستسقي الغمام بوجهه ... و يصدر عن آرائه في النوائب )
( و هاشم الباني مشيد افتخاره ... بغر المساعي و امتنان المواهب )
( و عبد مناف و هو علم قومه اشـ ... تطاط الأماني و احتكام الرغائب )
( و إن قصيا من كريم غراسه ... لفي منهل لم يدن من كف قاضب )
( به جمع الله القبائل بعدما ... تقسمها نهب الأكف السوالب )
( و حل كلاب من ذرى المجد معقلا ... تقاصر عنه كل دان و غائب )
( و مرة لم يحلل مريرة عزمه ... سفاه سفيه أو محوبة حائب )
( و كعب علا عن طالب المجد كعبه ... فنال بأدنى السعي أعلا المراتب )
( و ألوى لؤي بالعداة فطوعت ... له همم الشم الأنوف الأغالب )
( و في غالب بأس أبي البأس دونهم ... يدافع عنهم كل قرن مغالب )
( و كانت لفهر في قريش خطابة ... يعوذ بها عند اشتجار المخاطب )
( و ما زال منهم مالك خير مالك ... و أكرم مصحوب و أكرم صاحب )
( و للنضر طول يقصر الطرف دونه ... بحيث التقى ضوء النجوم الثواقب )
( لعمري لقد أبدى كنانة قبله ... محاسن تأبى أن تطوع لغالب )
( و من قبله أبقى خزيمة حمده ... تليد تراث عن حميد الأقارب )
( و مدركة لم يدرك الناس مثله ... أعف و أعلى عن دني المكاسب )
( و إلياس كان اليأس منه مقارنا ... لأعدائه قبل اعتداد الكتائب )
( و في مضر يستجمع الفخر كله ... إذا اعتركت يوما زحوف المقانب )
( و حل نزار من رياسة أهله ... محلا تسامى عن عيون الرواقب )
( و كان معد عدة لوليه ... إذا خاف من كيد العدو المحارب )
( و ما زال عدنان إذا عد فضله ... توحد فيه عن قرين و صاحب )
( و أد ... تأدى الفضل منه بغاية و إرث حواه عن قروم أشايب )
( و في أدد حلم تزين بالحجا ... إذا الحلم أزهاه قطوب الحواجب )
( و ما زال يستعلي هميسع بالعلا ... و يتبع آ مال البعيد المراغب )
( و نبت بنته دوحة العز و ابتنى ... معاقله في مشمخر الأهاضب )
( و حيزت لقيذار سماحة حاتم ... و حكمة لقمان و همة حاجب )
( هم نسل اسماعيل صادق وعده ... فما بعده في الفخر مسعى لذاهب )
( و كان خليل الله أكرم من عنت ... له الأرض من ماش عليها و راكب )
( و تارح ما زالت له أريحية ... تبين منه عن حميد المضارب )
( و ناحور نحار العدي حفظت له ... مآثر لما يحصها عد حاسب )
( و أشرع في الهيجاء ضيغم غابة ... يقد الطلا بالمرهفات القواضب )
( و أرغو ناب في الحروب محكم ... ضنين على نفس المشح المغالب )
( و ما فالغ في فضله تلو قومه ... و لا عابر من دونهم في المراتب )
( و شالخ و ارفخشذ وسام سمت بهم ... سجايا حمتهم كل زار و عائب )
( و ما زال نوح عند ذي العرش فاضلا ... يعدده فيالمصطفين الأطايب )
( و لمك أبوه كان في الروع رائعا ... جريئا على نفس الكمي المضارب )
( و من قبل لمك لم يزل متوشلخ ... بذود العدى بالذائدات الشوازب )
( و كان لإدريس النبي منازل ... من الله لم تقرن بهمة راغب )
( و يارد بحر عند آل سراته ... أبي الخزايا مستدق المآرب )
( و كانت لمهلاييل فهم فضائل ... مهذبة من فاحشات المثالب )
( و قينان من قبل اقتنى مجد قومه ... و فاد بشأو الفضل وخد الركائب )
( و كان أنوش ناش للمجد نفسه ... و نزهها عن مرديات المطالب )
( و ما زال شيث بالفضائل فاضلا ... شريفا بريئا من ذميم المعائب )
( و كلهم من نور آدم أقبسوا ... و عن عوده أجنوا ثمار المناقب )
( و كان رسول الله أكرم منجب ... جرى فيظهور الطيبين المناجب )
( مقابلة آباؤه أمهاته ... مبرأة من فاضحات المثالب )
( عليه سلام الله في كل شارق ... ألاح لنا ضوءا و في كل غارب )
هكذا أورد القصيدة الشيخ أبو عمر بن عبد البر و شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيبه من شعر الأستاذ أبي العباس عبد الله بن محمد الناشيء المعروف بابن شرشير (1/77)
أصله من الأنبار ورد بغداد ثم ارتحل إلى مصر فأقام بها حتى مات سنة ثلاث و تسعين و مائتين و كان متكلما معتزليا يحكي عنه الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتابه المقالات فيما يحكي عن المعتزلة و كان شاعرا مطبقا حتى أن من جملة اقتداره على الشعر كان يعاكس الشعراء فى المعاني فينظم فى مخالفتهم و يبتكر ما لا يطيقونه من المعاني البديعة و الألفاظ البليغة حتى نسبه بعضهم إلى التهوس و الاختلاط
و ذكر الخطيب البغدادي أن له قصيدة على قافية واحدة قريبا من أربعة آلاف بيت ذكرها الناجم و أرخ وفاته كما ذكرنا
قلت : و هذه القصيدة تدل على فضيلته و براعته و فصاحته و بلاغته و علمه و فهمه و حسن لفظه و إطلاعه و اضطلاعه و اقتداره على نظم هذا النسب الشريف فى سلك شعره و غوصه على هذه المعاني التي هي جواهر نفسية من قاموس بحره فC و أثابه و أحسن مصيره و إيابه (1/81)
و ذلك لأن عدنان ولد له ولدان معد و عك
قال السهيلي : و لعدنان أيضا ابن اسمه الحارث و آخر يقال له المذهب قال : و قد ذكر أيضا فى بنيه الضحاك و قيل إن الضحاك ابن لمعد لا ابن عدنان قال : و قيل إن عدن التى تعرف به مدينة عدن و كذلك أبين كانا ابنين لعدنان حكاه الطبري
فتزوج عك في الأشعريين و سكن في بلادهم من اليمن فصارت لغتهم واحدة فزعم بعض أهل اليمن أنه منهم فيقولون : عك بن عدنان بن عبد الله بن الأزد بن يغوث و يقال : عك بن عدنان بن الذيب بن عبد الله بن الأسد و يقال : الريث بدل الذيب و الصحيح ما ذكرنا من أنهم من عدنان قال عباس بن مرداس :
( و عك بن عدنان الذين تلعبوا ... بغسان حتى طردوا كل مطرد ) (1/82)
و أما معد فولد له أربعة : نزار و قضاعة و قنص و إياد و كان قضاعة بكره و به كان يكنى و قد قدمنا الخلاف فى قضاعة و لكن هذا هو الصحيح عند ابن إسحاق و غيره و الله أعلم
و أما قنص فيقال إنهم هلكوا و لم يبق لهم بقية إلا أن النعمان بن المنذر الذى كان نائبا لكسرى على الحيرة كان من سلالته على قول طائفة من السلف و قيل : بل كان من حمير كما تقدم و الله أعلم (1/82)
و أما نزار فولد له ربيعة و مضر و أنمار قال ابن هشام : و إياد بن نزار كما قال الشاعر :
( وفتو حسن أوجهم ... من إياد بن نزار بن معد )
قال : و إياد و مضر شقيقان أمهما سودة بنت عك بن عدنان و أم ربيعة و أنمار شقيقة بنت عك بن عدنان و يقال جمعة بنت عك بن عدنان
قال ابن إسحاق : فأما أنمار فهو والد خثعم و بجيلة قبيلة جرير بن عبد الله البجلي قال : و قد تيامنت فلحقت باليمن
قال ابن هشام : و أهل اليمن يقولون أنمار بن إراش بن لحيان بن عمرو بن الغوث ابن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ
قلت : و الحديث المتقدم فى ذكر سبأ يدل على هذا و الله أعلم
قالوا : و كان مضر أول من حدا و ذلك لأنه كان حسن الصوت فسقط يوما عن بعيره فوثبت يده فجعل يقول وايدياه فأعنقت الإبل لذلك (1/82)
قال ابن إسحاق : فولد مضر بن نزار رجلين : الياس و عيلان (1/83)
و ولد لالياس مدركة و طابخة و قمعة و أمهم خندف بنت عمران بن الحاف ابن قضاعة
قال ابن إسحاق : و كان اسم مدركة عامرا و اسم طابخة عمرا و لكن اصطادا صيدا فبيناهما يطبخانه إذ نفرت الإبل فذهب عامر فى طلبها حتى أدركها و جلس الآخر يطبخ فلما راحا على أبيهما ذكرا له ذلك فقال لعامر : أنت مدركة و قال لعمرو : أنت طابخة قال : و أما قمعة فيزعم نساب مضر أن خزاعة من ولد عمرو بن لحي بن قمعة بن الياس
قلت : و الأظهر أنه منهم لا والدهم و أنهم من حمير كما تقدم الله أعلم (1/83)
قال ابن إسحاق : فولد مدركة خزيمة و هذيلا و أمهما امرأة من قضاعة (1/84)
و ولد خزيمة كنانة و أسدا و أسدة و الهون (1/84)
قال : و ولد كنانة النضر و مالكا و عبد مناة و ملكان و زاد أبو جعفر الطبري فى أبناء كنانة على هؤلاء الأربعة : عامرا و الحارث و النضير و غنما و سعدا و عوفا و جرولا و الجرال و غزوان (1/84)
قال ابن إسحاق : و أم النضر برة بنت مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر و سائر بنيه لامرأة أخرى و خالفه ابن هشام فجعل برة بنت مر أم النضر و مالك و ملكان و أم عبد مناة هالة بنت سويد بن الغطريف من أزد شنوءة (1/84)
قال ابن هشام : النضر هو قريش فمن كان من ولده فهو قرشي و من لم يكن من ولده فليس بقرشي قال : و يقال فهر بن مالك هو قريش فمن كان من ولده فهو قرشي و من لم يكن من ولده فليس بقرشي
و هذان القولان قد حكاهما غير واحد من أئمة النسب كالشيخ أبي عمر بن عبد البر و الزبير بن بكار و مصعب و غير واحد
قال أبو عبيد و ابن عبد البر : و الذي عليه الأكثرون أنه النضر بن كنانة لحديث الأشعث بن قيس قلت : و هو الذي نص عليه هشام بن محمد بن السائب الكلبي و أبو عبيدة معمر بن المثنى و هو جادة مذهب الشافعي رضي الله عنه
ثم اختار أبو عمر أنه فهر بن مالك و احتج بأنه ليس أحد اليوم ممن ينتسب إلى قريش إلا و هو يرجع في نسبه إلي فهر بن مالك ثم حكى اختيار هذا القول عن الزبير ابن بكار و مصعب الزبيري و علي بن كيسان قال : و إليهم المرجع في هذا الشأن وقد قال الزبير بن بكار : و قد أجمع نساب قريش و غيرهم أن قريشا إنما تفرقت من فهر بن مالك و أن من جاوز فهر بن مالك بنسبه فليس من قريش ثم نصر هذا القول نصرا عزيزا و تحامى له بأنه و نحوه أعلم بأنساب قومهم و أحفظ لمآثرهم
و قد روى البخاري من حديث كليب بن وائل قال : قلت لربيبة النبي صلي الله عليه و سلم يعني زينب بنت أبي سلمة في حديث ذكره : أخبريني عن النبي صلي الله عليه و سلم أكان من مضر ؟ قالت : فممن كان إلا من مضر من بني النضر بن كنانة
و قال الطبراني : [ حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي حدثنا الحسن بن صالح عن أبيه عن الجشيش الكندي قال : جاء قوم من كندة إلي رسول الله صلي الله عليه و سلم فقالوا : أنت منا و ادعوه فقال : لا نحن بنو النضر ابن كنانة لا نقفوا أمنا و لا ننتفي من أبينا ]
و قال الإمام أبو عثمان سعيد بن يحيي بن سعيد : [ حدثني أبي حدثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : جاء رجل من كندة يقال له الجشيش إلي النبي صلي الله عليه و سلم : فقال يا رسول الله إنا نزعم أن عبد مناف منا فأعرض عنه ثم عاد فقال مثل ذلك ثم أعرض عنه ثم عاد فقال مثل ذلك
فقال النبي صلي الله عليه و سلم : نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا و لا ننتفي من أبينا ]
فقال الأشعث : ألا كنت سكت من المرة الأولى !
فأبطل ذلك قولهم علي لسان نبيه صلي الله عليه و سلم
و هذا غريب أيضا من هذا الوجه و الكلبي ضعيف و الله أعلم
و قد قال الإمام أحمد : [ حدثنا بهز و عفان قالا حدثنا حماد بن سلمة قال حدثني عقيل بن أبي طلحة و قال عفان : عقيل بن طلحة السلمي عن مسلم بن الهيصم عن الأشعث بن قيس أنه قال : أتيت رسول الله صلي الله عليه و سلم في وفد كندة قال عفان : لا يروني أفضلهم قال فقلت : يا رسول الله إنا نزعم أنكم منا قال فقال رسول الله صلي الله عليه و سلم : نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا و لا ننتفي من أبينا ] قال فقال الأشعث بن قيس : فو الله لا أسمع أحدا نفى قريشا من النضر بن كنانة إلا جلدته الحد
و هكذا رواه ابن ماجة من طرق عن حماد ابن سلمة به
و هذا إسناد جيد قوي و هو فيصل في هذه المسألة فلا التفات إلى قول من خالفه و الله أعلم و لله الحمد و المنة
و قد قال جرير بن عطية التميمي يمدح هشام بن عبد الملك بن مروان :
( فما الأم التي ولدت قريشا ... بمقرفة النجار و لا عقيم )
( و ما قرم بأنجب من أبيكم ... و لا خال بأكرم من تميم )
قال ابن هشام : يعني أم النضر بن كنانة و هي برة بنت مر أخت تميم بن مر (1/84)
و أما اشتقاق قريش فقيل من التقرش و هو التجمع بعد التفرق و ذلك في زمن قصي بن كلاب فإنهم كانوا متفرقين فجمعهم بالحرم كما سيأتي بيانه و قد قال حذافة ابن غانم العدوي :
( أبوكم قصي كان يدعي مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر )
و قال بعضهم : كان قصي يقال له قريش قيل : من التجمع و التقرش التجمع كما قال أبو خلدة اليشكري :
( إخوة قرشوا الذنوب علينا ... في حديث من دهرنا و قديم )
و قيل : سميت قريش من التقرش و هو التكسب و التجارة حكاه ابن هشام رحمه الله
و قال الجوهري : القرش : الكسب و الجمع وقد قرش يقرش قال الفراء : و به سميت قريش وهي قبيلة و أبوهم النضر بن كنانة فكل من كان من ولده فهو قرشي دون ولد كنانة فما فوقه
و قيل : من التفتيش قال هشام بن الكلبي : كان النضر بن كنانة يسمى قريشا لأنه كان يقرش عن خلة الناس و حاجتهم فيسدها بماله و التقريش هو التفتيش و كان بنوه يقرشون أهل الموسم عن الحاجة فيرفدونهم بما يبلغهم بلادهم فسموا بذلك من فعلهم و قرشهم قريشا و قد قال الحارث بن حلزة في بيان أن التقرش التفتيش :
( أيها الناطق المقرش عنا ... عند عمرو فهل له إبقاء )
حكى ذلك الزبير بن بكار
و قيل : قريش تصغير قرش و هو دابة في البحر قال بعض الشعراء :
( و قريش هي التي تسكن البحـ ... ر بها سميت قريش قريشا )
قال البيهقي : أخبرنا أبو نصر بن قتادة أنبأنا أبو الحسن علي بن عيسى الماليني حدثنا محمد بن الحسن بن الخليل النسوي أن أبا كريب حدثهم حدثنا وكيع بن الجراح عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي ركانة العامري أن معاوية قال لابن عباس : فلم سميت قريش قريشا ؟ فقال لدابة تكون في البحر تكون أعظم دوابه يقال لها القرش لا تمر بشيء من الغث و السمين إلا أكلته قال فأنشدني في ذلك شيئا فأنشده شعر الجمحي إذ يقول :
( و قريش هي التي تسكن البحـ ... ر بها سميت قريش قريشا )
( تأكل الغث و السمين و لا ... تتركن لذي الجناحين ريشا )
( هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كميشا )
( و لهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم و الخموشا )
و قيل سموا بقريش بن الحارث بن يخلد بن النضر بن كنانة و كان دليل بني النضر و صاحب ميرتهم فكانت العرب تقول : قد جاءت عير قريش قالوا : و ابنه بدر بن قريش هو الذي حفر البئر المنسوبة إليه التي كانت عندها الوقعة العظمى يوم الفرقان يوم التقي الجمعان و الله أعلم
و يقال في النسبة إلي قريش : قريش : قرشي و قريشي قال الجوهري : و هو القياس قال الشاعر :
( لكل قريشي عليه مهابة ... سريع إلي داعي الندى و التكرم )
قال : فإذا أردت بقريش الحي صرفته وإن أردت القبيلة منعته قال الشاعر في ترك الصرف :
( و كفى قريش المعضلات و سادها )
و قد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي عمر و الأوزاعي قال : [ حدثني شداد أبو عمار حدثني واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلي الله عليه و سلم : إن الله اصطفي كنانة من ولد إسماعيل و اصطفى قريشا من كنانة و اصطفي هاشما من قريش و اصطفاني من بني هاشم ]
قال أبو عمر بن عبد البر : يقال : بنو عبد المطلب فصيلة رسول الله صلي الله عليه و سلم و بنو هاشم فخذه و بنو عبد مناف بطنه و قريش عمارته و بنو كنانة قبيلته و مضر شعبه صلوات الله و سلامه عليه دائما إلى يوم الدين (1/87)
ثم قال ابن إسحاق : فولد النضر بن كنانة مالكا و يخلدا قال ابن هشام : و الصلت و أمهم جميعا بنت سعد بن الظرب العدواني
قال كثير بن عبد الرحمن و هو كثير عزة أحد بنى مليح بن عمرو من خزاعة :
( أليس أبي بالصلت أم ليس إخوتي ... لكل هجان من بني النضر أزهرا )
( رأيت ثياب العصب مختلط السدى ... بنا و بهم و الحضرمي المخصرا )
( فإن لم تكونوا من بني النضر فاتركوا ... أراكا بأذناب الفوائج أخضرا )
قال ابن هشام : و بنو مليح بن عمرو يعزون إلى الصلت بن النضر (1/89)
قال ابن إسحاق : فولد مالك بن النضر فهر بن مالك و أمه جندلة بنت الحارث ابن مضاض الأصغر (1/90)
و ولد فهر غالبا و محاربا و الحارث و أسدا و أمهم ليلى بنت سعد بن هذيل بن مدركة
قال ابن هشام : و أختهم لأبيهم جندلة بنت فهر (1/90)
قال ابن إسحاق : فولد غالب بن فهر لؤي بن غالب و تيم بن غالب و هم الذين يقال لهم بنو الأدرم و أمهما سلمى بنت عمرو الخزاعى
قال ابن هشام : و قيس بن غالب و أمه سلمى بنت كعب بن عمرو الخزاعي و هي أم لؤي و تيم بن غالب (1/90)
قال ابن إسحاق : فولد لؤي بن غالب أربعة نفر : كعبا و عامرا و سامة و عوفا قال ابن هشام : و يقال و الحارث و هم جشم بن الحارث في هزان من ربيعة و سعد بن لؤي و هم بنانة في شيبان بن ثعلبة و بنانة حاضنة لهم و خزيمة بن لؤي و هم عائذة في شيبان بن ثعلبة (1/90)
ثم ذكر ابن إسحاق خبر سامة بن لؤي و أنه خرج إلى عمان فكان بها و ذلك لشنآن كان بينه و بين أخيه عامر فأخافه عامر فخرج عنه هاربا إلى عمان و أنه مات بها غريبا و ذلك أنه كان يرعي ناقته فعلقت حية بمشفرها فوقعت لشقها ثم نهشت الحية سامة حتى قتلته فيقال إنه كتب بإصبعه علي الأرض :
( عين فابكي لسامة بن لؤي ... علقت ما بسامة العلاقه )
( لا أرى مثل سامة بن لؤي ... يوم حلوا به قتيلا لناقه )
( بلغا عامرا و كعبا رسولا ... أن نفسي إليهما مشتاقه )
( إن تكن في عمان داري فإني ... غالبي خرجت من غير فاقه )
( رب كأس هرقت يا ابن لؤي ... حذر الموت لم تكن مهراقه )
( رمت دفع الحتوف يا ابن لؤي ... ما لمن رام ذاك بالحتف طاقه )
( و خروس السرى تركت رزيا ... بعد جد و حدة و رشاقه )
قال ابن هشام : و بلغني أن بعض ولده أتى رسول الله صلي الله عليه و سلم فانتسب إلى سامة بن لؤي فقال له رسول الله صلي الله عليه و سلم : [ ألشاعر ؟ فقال له بعض أصحابه كأنك يا رسول الله أردت قوله :
( رب كأس هرقت يا ابن لؤي ... حذر الموت لم تكن مهراقه )
فقال أجل ] و ذكر السهيلي عن بعضهم أنه لم يعقب و قال الزبير : ولد سامة بن لؤي غالبا و النبيت و الحارث قالوا : و كانت له ذرية بالعراق يبغضون عليا و منهم علي بن الجعد كان يشتم أباه لكونه سماه عليا و من بني سامة بن لؤي محمد بن عرعرة ابن اليزيد شيخ البخاري (1/90)
قال ابن إسحاق : و أما عوف بن لؤي فإنه خرج فيما يزعمون في ركب من قريش حتى إذا كان بأرض غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان أبطئ به فانطلق من كان معه من قومه فأتاه ثعلبة بن سعد و هو أخوه في نسب بني ذبيان فحبسه و زوجه و التاطه و آخاه فشاع نسبه في ذبيان
و ثعلبة فيما يزعمون الذي يقول لعوف حين أبطئ به فتركه قومه :
( احبس علي ابن لؤي جملك ... تركك القوم و لا مترك لك )
قال ابن إسحاق : و حدثني محمد بن جعفر بن الزبير أو محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين أن عمر بن الخطاب قال لو كنت مدعيا حيا من العرب أو ملحقهم بنا لادعيت بني مرة بن عوف إن لنعرف منهم الأشباه مع ما نعرف من موقع ذلك الرجل حيث وقع يعني عوف بن لؤي
قال ابن إسحاق : و حدثني من لا أتهم أن عمر بن الخطاب قال لرجال منهم من بني مرة : إن شئتم أن ترجعوا إلي نسبكم فارجعوا إليه (1/91)
قال ابن إسحاق : و كان القوم أشرافا في غطفان هم سادتهم و قادتهم قوم لهم صيت في غطفان و قيس كلها فأقاموا على نسبهم قال و كانوا يقولون إذا ذكر لهم نسبهم : ما ننكره و ما نجحده و إنه لأحب النسب إلينا ثم ذكر أشعارهم فى انتمائهم إلى لؤي (1/92)
قال ابن إسحاق : و فيهم كان البسل و هو تحريم ثمانية أشهر لهم من كل سنة من بين العرب و كانت العرب تعرف لهم ذلك و يأمنونهم فيها و يؤمنونهم أيضا
قلت : و كانت ربيعة و مضر إنما يحرمون أربعة أشهر من السنة و هي ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و اختلفت ربيعة و مضر فى الرابع و هو رجب فقالت : مضر : هو الذي بين جمادى و شعبان و قالت ربيعة : هو الذي بين شعبان وشوال
و قد ثبت في الصحيحين [ عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في خطبة حجة الوداع : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات : ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب مضر الذى بين جمادى و شعبان ] فنص على ترجيح قول مضر لا ربيعة
وقد قال الله عز و جل { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فى كتاب الله يوم خلق السموات و الأرض منها أربعة حرم } فهذا رد على بني عوف بن لؤي فى جعلهم الأشهر الحرم ثمانية فزادوا على حكم الله و أدخلوا فيه ما ليس منه و قوله في الحديث [ ثلاث متواليات ] رد على أهل النسىء الذين كانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر و قوله فيه [ و رجب مضر ] رد على ربيعة (1/92)
قال ابن إسحاق : فولد كعب بن لؤي ثلاثة مرة و عديا و هصيصا (1/93)
و ولد مرة ثلاثة أيضا : كلاب بن مرة و تيم بن مرة و يقظة بن مرة من أمهات ثلاث (1/93)
قال : و ولد كلاب رجلين : قصي بن كلاب و زهرة بن كلاب و أمهما فاطمة بنت سعد بن سيل أحد الجدرة من جعثمة الأسد من اليمن حلفاء بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة و في أبيها يقول الشاعر :
( ما نرى فى الناس شخصا واحدا ... من علمناه كسعد بن سيل )
( فارسا أضبط فيه عشرة ... و إذا ما واقف القرن نزل )
( فارسا يستدرج الخيل كما اسـ ... تدرج الحر القطامي الحجل )
قال السهيلي : سيل اسمه خير بن جمالة و هو أول من طليت له السيوف بالذهب و الفضة (1/93)
قال ابن إسحاق : و إنما سموا الجدرة لأن عامر بن عمرو بن خزيمة بن جعثمة تزوج بنت الحارث بن مضاض الجرهمي و كانت جرهم إذ ذاك ولاة البيت فبنى للكعبة جدارا فسمى عامر بذلك الجادر فقيل لولده الجدرة لذلك (1/94)
و ذلك لما مات أبوه كلاب تزوج أمه ربيعة بن حرام من عذرة و خرج بها و به إلى بلاده ثم قدم قصي مكة و هو شاب فتزوج حبى ابنة رئيس خزاعة حليل ابن حبشية
فأما خزاعة فتزعم أن حليلا أوصى إلى قصي بولاية البيت لما رأى من كثرة نسله من ابنته و قال أنت أحق بذلك مني قال ابن إسحاق : و لم نسمع ذلك إلا منهم و أما غيرهم فإنهم يزعمون أنه استغاث بإخوته من أمه و كان رئيسهم رزاح بن ربيعة و إخوته و بني كنانة و قضاعة و من حول مكة من قريش و غيرهم فأجلاهم عن البيت و استقل هو بولاية البيت (1/94)
لأن إجازة الحجيج كانت إلى صوفة و هم بنو الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر فكان الناس لا يرمون الجمار حتى يرموا و لا ينفرون من منى حتى ينفروا فلم يزل كذلك فيهم حتى انقرضوا
فورثهم ذلك بالقعدد بنو سعد بن زيد مناة بن تميم فكان أولهم صفوان بن الحارث بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم و كان ذلك فى بيته حتى قام على آخرهم الإسلام و هو كرب بن صفوان (1/95)
و كانت الإجازة من المزدلفة في عدوان حتى قام الإسلام على آخرهم و هو أبو سيارة عملية بن الأعزل و قيل اسمه العاص و اسم الأعزل خالد و كان يجيز بالناس على أتان له عوراء مكث يدفع عليها في الموقف أربعين سنة و هو أول من جعل الدية مائة و أول من كان يقول : أشرق ثبير كيما نغير حكاه السهيلي (1/95)
و كان عامر بن الظرب العدواني لا يكون بين العرب نائرة إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به فتحاكموا إليه مرة فى ميراث خنثى فبات ليلته ساهرا يتروى ماذا يحكم به فرأته جارية له كانت ترعى عليه غنمه اسمها سخيلة فقالت له : ما لك لا أبالك الليلة ساهرا ؟ فذكر لها ما هو مفكر فيه و قال لعلها يكون عندها فى ذلك شيء فقالت : أتبع القضاء المبال فقال : فرجتها و الله يا سخيلة و حكم بذلك
قال السهيلي : و هذا الحكم من باب الاستدلال بالأمارات و العلامات و له أصل فى الشرع قال الله تعالى : { و جاءوا على قميصه بدم كذب } حيث لا أثر لأنياب الذئب فيه و قال تعالى : { إن كان قميصه قد من قبل فصدقت و هو من الكاذبين و إن كان قميصه قد من دبر فكذبت و هو من الصادقين } و في الحديث : [ أنظروها فإن جاءت به أورق جعدا جماليا فهو للذى رميت به ] (1/95)
قال ابن إسحاق : و كان النسيء في بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث ابن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر (1/96)
قال ابن إسحاق : و كان أول من نسأ الشهور على العرب القلمس و هو حذيفة ابن عبد بن فقيم ابن عدي ثم قام بعده ابنه عباد ثم قلع بن عباد ثم أمية بن قلع ثم عوف بن أمية ثم كان آخرهم أبو ثمامة جنادة بن عوف بن قلع بن عباد بن حذيفة و هو القلمس فعلى أبي ثمامة قام الإسلام
و كانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فخطبهم فحرم الأشهر الحرم فإذا أراد أن يحل منها شيئا أحل المحرم و جعل مكانه صفرا ليواطئوا عدة ما حرم الله فيقول : اللهم إنى أحللت أحد الصفرين الصفر الأول و أنسأت الآخر للعام المقبل فتتبعه العرب فى ذلك (1/96)
ففي ذلك يقول عمير بن قيس أحد بني فراس بن غنم بن مالك ابن كنانة و يعرف عمير بن قيس هذا بجذل الطعان :
( لقد علمت معد أن قومي ... كرام الناس إن لهم كراما )
( فأي الناس فاتونا بوتر ... و أي الناس لم نعلك لجاما )
( ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما ؟ ) (1/96)
و كان قصي في قومه سيدا رئيسا مطاعا معظما و المقصود أنه جمع قريشا من متفرقات مواضعهم من جزيرة العرب و استعان بمن أطاعه من أحياء العرب على حرب خزاعة و إجلائهم عن البيت و تسليمه إلى قصي فكان بينهم قتال كثير و دماء غزيرة ثم تداعوا إلى التحكيم فتحاكموا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة فحكم بأن قصيا أولى بالبيت من خزاعة و أن كل دم أصابه قصي من خزاعة و بني بكر موضوع يشدخه تحت قدميه و أن ما أصابته خزاعة و بنو بكر من قريش و كنانة و قضاعة ففيه الدية مؤداة و أن يخلى بين قصى و بين مكة و الكعبة فسمي يعمر يومئذ الشداخ (1/96)
قال ابن إسحاق : فولي قصي البيت و أمر مكة و جمع قومه من منازلهم إلى مكة و تملك على قومه و أهل مكة فملكوه إلا أنه أقر العرب على ما كانوا عليه لأنه يرى ذلك دينا في نفسه لا ينبغي تغييره فأقر آل صفوان و عدوان و النسأة و مرة بن عوف على ما كانوا عليه حتى جاء الإسلام فهدم الله به ذلك كله
قال : فكان قصي أول بني كعب أصاب ملكا أطاع له به قومه و كانت إليه الحجابة و السقاية و الرفادة و الندوة و اللواء فحاز شرف مكة كله و قطع مكة رباعا بين قومه فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة
قلت : فرجع الحق إلى نصابه و رد شارد العدل بعد إيابه و استقرت بقريش الدار و قضت من خزاعة المراد و الأوطار و تسلمت بيتهم العتيق القديم لكن بما أحدثت خزاعة من عبادة الأوثان و نصبها إياها حول الكعبة و نحرهم لها و تضرعهم عندها و استنصارهم بها و طلبهم الرزق منها
و أنزل قصي قبائل قريش أباطح مكة و أنزل طائفة منهم ظواهرها فكان يقال قريش البطاح و قريش الظواهر (1/97)
فكانت لقصي بن كلاب جميع الرئاسة من حجابة البيت و سدانته و اللواء وبني دارا لإزاحة الظلماء و فضل الخصومات سماها دار الندوة إذا أعضلت قضية اجتمع الرؤساء من كل قبيلة فاشتوروا فيها و فصلوها و لا يعقد عقد لواء و لا عقد نكاح إلا بها و لا تبلغ جارية أن تدرع فتدرع إلا بها
و كان باب هذه الدار إلى المسجد الحرام ثم صارت هذه الدار فيما بعد إلي حكيم بن حزام بعد بني عبد الدار فباعها في زمن معاوية بمائة ألف درهم فلامه على بيعها معاوية و قال : بعت شرف قومك بمائة ألف
فقال : إنما الشرف اليوم بالتقوى و الله لقد ابتعتها في الجاهلية بزق خمر و ها أنا قد بعتها بمائة ألف و أشهدكم أن ثمنها صدقة في سبيل الله فأينا المغبون !
ذكره الدارقطني في أسماء رجال الموطأ
و كانت إليه سقاية الحجيج فلا يشربون إلا من ماء حياضه و كانت زمزم إذ ذاك مطموسة من زمن جرهم قد تناسوا أمرها من تقادم عهدها و لا يهتدون إلى موضعها
قال الواقدي : و كان قصي أول من أحدث و قيد النار بالمزدلفة ليهتدي إليها من يأتي من عرفات
و الرفادة و هي إطعام الحجيج أيام الموسم إلى أن يخرجوا راجعين إلى بلادهم
قال ابن إسحاق : و ذلك أن قصيا فرضه عليهم فقال لهم : يا معشر قريش إنكم جيران الله و أهل مكة و أهل الحرم و إن الحجاج ضيف الله و زوار بيته و هم أحق بالضيافة فاجعلوا لهم طعاما و شرابا أيام الحج حتي يصدروا عنكم ففعلوا فكانوا يخرجون لذلك في كل عام من أموالهم خرجا فيدفعونه إليه فيصنعه طعاما للناس أيام منى فجرى ذلك من أمره في الجاهلية حتى قام الإسلام ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضي الحج
قلت : ثم انقطع هذا بعد ابن اسحاق ثم أمر بإخراج طائفة من بيت المال فيصرف في حمل زاد و ماء لأبناء السبيل القاصدين إلى الحج و هذا صنيع حسن من وجوه يطول ذكرها و لكن الواجب أن يكون ذلك من خالص بيت المال من أحل ما فيه و الأولى أن يكون من جوالي الذمة لأنهم لا يحجون البيت العتيق و قد جاء في الحديث : [ من استطاع الحج فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا ] (1/97)
و قال قائلهم فى مدح قصي و شرفه في قومه :
( قصي لعمري كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر )
( هم ملأوا البطحاء مجدا و سؤددا ... و هم طردوا عنا غواة بني بكر ) (1/99)
قال ابن إسحاق : و لما فرغ قصي من حربه انصرف أخوه رزاخ بن ربيعة إلى بلاده بمن معه و إخوته من أبيه الثلاثة و هم حن و محمود و جلهمة و قال رزاح فى إجابته قصيا :
( و لما أتى من قصي رسول ... فقال الرسول أجيبوا الخليلا )
( نهضنا إليه نقود الجياد ... و نطرح عنا الملول الثقيلا )
( نسير بها الليل حتى الصباح ... و نكمي النهار لئلا نزولا )
( فهن سراع كورد القطا ... يجبن بنا من قصي رسولا )
( جمعنا من السر من أشمذين ... و من كل حى جمعنا قبيلا )
( فيا لك حلبة ما ليلة ... تزيد على الألف سيبا رسيلا )
( فلما مررن على عسجر ... و أسهلن من مستناخ سبيلا )
( و جاوزن بالركن من ورقان ... و جاوزن بالعرج حيا حلولا )
( مررن على الحلي ما ذقنه ... و عالجن من مر ليلا طويلا )
( ندني من العوذ أفلاءها ... إرادة أن يسترقن الصهيلا )
( فلما انتهينا إلى مكة ... أبحنا الرجال قبيلا قبيلا )
( نعاورهم ثم حد السيوف ... و في كل أوب خلسنا العقولا )
( نخبزهم بصلاب النسو ... ر خبز القوى العزيز الذليلا )
( قتلنا خزاعة فى دارها ... و بكرا قتلنا وجيلا فجيلا )
( نفيناهم من بلاد المليك ... كما لا يحلون أرضا سهولا )
( فأصبح سبيهم فى الحديد ... و من كل حي شفينا الغليلا )
قال ابن إسحاق : فلما رجع رزاح إلى بلاده نشره الله و نشر حنا فهما قبيلا عذرة إلى اليوم (1/99)
قال ابن إسحاق : و قال قصي بن كلاب في ذلك :
( أنا ابن العاصمين بني لؤي ... بمكة منزلي و بها ربيت )
( إلى البطحاء قد علمت معد ... و مروتها رضيت بها رضيت )
( فلست لغالب أن لم تأثل ... بها أولاد قيذر و النبيت )
( رزاح ناصري و به أسامي ... فلست أخاف ضيما ما حييت )
و قد ذكر الأموي عن الأشرم عن أبي عبيدة عن محمد بن حفص أن رزاحا إنما قدم بعدما نفى قصي خزاعة و الله أعلم
فصل :
ثم لما كبر قصي فوض أمر هذه الوظائف التى كانت إليه من رئاسات قريش و شرفها من الرفادة و السقاية و الحجابة و اللواء و الندوة إلى ابنه عبد الدار و كان أكبر ولده
و إنما خصه بها كلها لأن بقية إخوته عبد مناف و عبد شمس و عبد كانوا قد شرفوا فى زمن أبيهم و بلغوا فى قوتهم شرفا كبيرا فأحب قصي أن يلحق بهم عبد الدار فى السؤدد فخصه بذلك فكان إخوته لا ينازعونه في ذلك (1/100)
فلما انقرضوا تشاجر أبناؤهم في ذلك و قالوا إنما خص قصي عبد الدار بذلك ليلحقه بإخوته فنحن نستحق ما كان آباؤنا يستحقونه
و قال بنو عبد الدار : هذا أمر جعله لنا قصي فنحن أحق به
و اختلفوا اختلافا كثيرا و انقسمت بطون قريش فرقتين ففرقة بايعت عبد الدار و حالفتهم و فرقة بايعت بني عبد مناف و حالفوهم على ذلك و وضعوا أيديهم عند الحلف في جفنة فيها طيب ثم لما قاموا مسحوا أيديهم بأركان الكعبة فسموا حلف المطيبين
و كان منهم من قبائل قريش بنو أسد بن عبد العزى بن قصي و بنو زهرة و بنو تيم و بنو الحارث بن فهر و كان مع بني عبد الدار بنو مخزوم و بنو سهم و بنو جمح و بنو عدي و اعتزلت بنو عامر بن لؤى و محارب بن فهر الجميع فلم يكونوا مع واحد منهما
ثم اصطلحوا و اتفقوا على أن تكون الرفادة و السقاية لبني عبد مناف وأن تستقر الحجابة و اللواء و الندوة فى بني عبد الدار فانبرم الأمر على ذلك و استمر
و حكى الأموي عن الأشرم عن أبي عبيدة قال : و زعم قوم من خزاعة أن قصيا لما تزوج حبى بنت حليل و ثقل حليل عن ولاية البيت جعلها إلى ابنته حبى و استناب عنها أبا غبشان سليم بن عمرو بن لؤي بن ملكان بن قصي بن حارثة بن عمرو بن عامر فاشترى قصي ولاية البيت منه بزق خمر و قعود فكان يقال : [ أخسر من صفقة أبي غبشان ] و لما رأت خزاعة ذلك اشتدوا على قصي فاستنصر أخاه فقدم بمن معه و كان ما كان ثم فوض قصي هذه الجهات التي كانت إليه من السدانة و الحجابة و اللواء و الندوة و الرفادة و السقاية إلى ابنه عبد الدار كما سيأتي تفصيله و إيضاحه و أقر الإجازة من مزدلفة فى بني عدوان و أقر النسيء فى فقيم و أقر الإجازة و هو النفر في صوفة كما تقدم بيان ذلك كله مما كان بأيدهم قبل ذلك (1/101)
قال ابن إسحاق : فولد قصي أربعة نفر و امرأتين : عبد مناف و عبد الدار و عبد العزى و عبدا و تخمر و برة و أمهم كلهم حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول ابن كعب بن عمرو الخزاعي و هو آخر من ولي البيت من خزاعة و من يده أخذ البيت قصي بن كلاب
قال ابن هشام : فولد عبد مناف بن قصي أربعة نفر : هاشما و عبد شمس و المطلب وأمهم عاتكة بنت مرة بن هلال و نوفل بن عبد مناف و أمه واقدة بنت عمرو المازنية
قال ابن هشام و ولد لعبد مناف أيضا : أبو عمرو و تماضر و قلابة و حية و ريطة و أم الأخثم و أم سفيان قال ابن هشام : و ولد هاشم بن عبد مناف أربعة نفر و خمس نسوة : عبد المطلب و أسدا و أبا صيفي و نضلة و الشفاء و خالدة و ضعيفة و رقية و حية فأم عبد المطلب و رقية سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار من المدينة و ذكر أمهات الباقين
قال : و ولد عبد المطلب عشرة نفر و ست نسوة و هم العباس و حمزة و عبد الله و أبو طالب و اسمه عبد مناف لا عمران و الزبير و الحارث و كان بكر أبيه و به كان يكنى و جحل و منهم من يقول حجل و كان يلقب بالغيداق لكثرة خيره و المقوم و ضرار و أبو لهب و اسمه عبد العزى و صفية و أم حكيم البيضاء و عاتكة و أميمة و أروي و برة و ذكر أمهاتهم إلى أن قال : و أم عبد الله و أبي طالب و الزبير و جميع النساء إلا صفية فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان (1/102)
قال : فولد عبد الله مجمدا صلى الله عليه و سلم سيد ولد آدم و أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ثم ذكر أمهاتها فأغرق
إلى أن قال : فهو أشرف ولد آدم حسبا و أفضلهم نسبا من قبل أبيه و أمه صلوات الله و سلامه عليه دائما إلى يوم الدين
و قد تقدم حديث الأوزاعي [ عن شداد أبي عمار عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل و اصطفى قريشا من كنانة و اصطفى هاشما من قريش و اصطفانى من بنى هاشم ] رواه مسلم
و سيأتي بيان مولده الكريم و ما ورد فيه من الأخبار و الآثار و سنورد عند سرد النسب الشريف فوائد أخر ليست هاهنا إن شاء الله تعالى و به الثقة و عليه التكلان (1/103)
قد تقدم ما كان من أخذ جرهم ولاية البيت من بني إسماعيل طمعوا فيهم لأنهم أبناء بناتهم و ما كان من توثب خزاعة على جرهم و انتزاعهم ولاية البيت منهم ثم ما كان من رجوع ذلك إلى قصي و بنيه و استمرار ذلك في أيديهم إلى أن بعث الله صلي الله عليه و سلم فأقر تلك الوظائف على ما كانت عليه
باب ذكر جماعة مشهورين كانوا في الجاهلية
خبر خالد بن سنان العبسي الذي كان في زمن الفترة و قد زعم بعضهم أنه كان نبيا و الله أعلم
قال : الحافظ أبو القاسم الطبراني : [ حدثنا أحمد بن زهير التستري حدثنا يحيي بن المعلى بن منصور الرازي حدثنا محمد بن الصلت حدثنا قيس بن الربيع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال جاءت بنت خالد بن سنان إلى النبي صلي الله عليه و سلم فبسط لها ثوبه و قال : بنت نبي ضيعه قومه ]
و قد رواه الحافظ أبو بكر البزاز [ عن يحيي بن المعلى بن منصور عن محمد بن الصلت عن قيس عن سالم عن سعيد عن ابن عباس قال : ذكر خالد بن سنان عند رسول الله صلي الله عليه و سلم فقال : ذاك نبي ضيعه قومه ]
ثم قال و لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه و كان قيس بن الربيع ثقة في نفسه إلا أنه كان رديء الحفظ و كان له ابن يدخل في أحاديثه ما ليس منها و الله أعلم
قال البزاز : و قد رواه الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير مرسلا و قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا المعلى بن مهدي الموصلي قال حدثنا أبو عوانة عن أبي يونس عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا من عبس يقال له خالد بن سنان قال لقومه : [ إني أطفئ عنكم نار الحرتين ] فقال له رجل من قومه : و الله يا خالد ما قلت لنا قط إلا حقا فما شأنك و شأن نار الحرتين تزعم أنك تطفئها !
فخرج خالد و معه أناس من قومه فيهم عمارة بن زياد فأتوها فإذا هي تخرج من شق جبل فخط لهم خالد خطة فأجلسهم فيها فقال : إن أبطأت عليكم فلا تدعوني باسمي فخرجت كأنها خيل شقر يتبع بعضها بعضا فاستقبلها خالد فجعل يضربها بعصاه و هو يقول : بدا بدا بدا كل هدي زعم ابن راعية المعزي أني لا أخرج منها و ثيابي بيدي حتى دخل معها الشق فأبطأ عليهم فقال لهم عمارة بن زياد : و الله إن صاحبكم لو كان حيا لقد خرج إليكم بعد قالوا فادعوه باسمه قال : فقالوا : إنه قد نهانا أن ندعوه باسمه فدعوه باسمه فخرج و هو آخذ برأسه فقال ألم أنهكم أن تدعوني باسمي فقد و الله قتلتموني فادفنوني فإذا مرت بكم الحمر فيها حمار أبتر فانبشوني فإنكم تجدوني حيا فدفنوه فمرت بهم الحمر فيها حمار أبتر فقلنا انبشوه فإنه أمرنا أن ننبشه فقال لهم عمارة : لا تنبشوه لا و الله لا تحدث مضر أنا ننبش موتانا و قد كان قال لهم خالد : إن في عكن امرأته لوحين فإن أشكل عليكم أمر فانظروا فيهما فإنكم ستجدون ما تسألون عنه قال و لا يمسهما حائض فلما رجعوا إلي امرأته سألوها عنهما فأخرجتهما إليهم و هي حائض فذهب ما كان فيهما من علم
قال أبو يونس : قال سماك بن حرب : سئل عنه النبي صلي الله عليه و سلم فقال : [ ذاك نبي أضاعه قومه ] قال أبو يونس : قال سماك بن حرب : إن ابن خالد بن سنان أتي النبي صلي الله عليه و سلم فقال : [ مرحبا بابن أخي ] فهذا السياق موقوف على ابن عباس و ليس فيه أنه كان نبيا و المرسلات التي فيها أنه نبي لا يحتج بها ها هنا و الأشبه أنه كان رجلا صالحا له أحول و كرامات (1/104)
فإنه إن كان في زمن الفترة فقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن أولى الناس بعيسى ابن مريم أنا لأنه ليس بيني و بينه نبي ] و إن كان قبلها فلا يمكن أن يكون نبيا لأن الله تعالى قال : { لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك }
و قد قال غير واحد من العلماء : إن الله تعالى لم يبعث بعد إسماعيل نبيا في العرب إلا محمدا صلى الله عليه و سلم خاتم الأنبياء الذى دعا به إبراهيم الخليل باني الكعبة المكرمة التى جعلها الله قبلة لأهل الأرض شرعا و بشرت به الأنبياء لقومهم حتى كان آخر من بشر به عيسى ابن مريم عليه السلام
و بهدا المسلك بعينه يرد ما ذكره السهيلي و غيره من إرسال نبي من العرب يقال له شعيب بن ذي مهذم بن شعيب بن صفوان صاحب مدين و بعث إلى العرب أيضا حنظلة بن صفوان فكذبوهما فسلط الله على العرب بختنصر فنال منهم من القتل و السبي نحو ما نال من بني إسرائيل و ذلك في زمن معد بن عدنان
و الظاهر أن هؤلاء كانوا قوما صالحين يدعون إلى الخير و الله أعلم و قد تقدم ذكر عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف في أخبار خزاعة بعد جرهم (1/106)
و هو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أحزم بن أبي أحزم و اسمه عرومة بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء أبو سفانة الطائي والد عدي بن حاتم الصحابي كان جوادا ممدحا في الجاهلية و كذلك كان ابنه في الإسلام
و كان لحاتم مآثر و أمور عجيبة و أخبار مستغربة في كرمه يطول ذكرها و لكن لم يكن يقصد بها وجه الله و الدار الآخرة و إنما كان قصده السمعة و الذكر
قال الحافظ أبو بكر البراز في مسنده : [ حدثنا محمد بن معمر حدثنا عبيد بن واقد القيسي حدثنا أبو نصر هو الناجي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : ذكر : حاتم عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ذاك أراد أمرا فأدركه ]
حديث غريب قال الدارقطني تفرد به عبيد بن واقد عن أبي نصر الناجي و يقال إن اسمه حماد
قال ابن عساكر : و قد فرق أبو أحمد الحاكم بين أبي نصر الناجي و بين أبي نصر حماد و لم يسم الناجي و وقع في بعض روايات الحافظ ابن عساكر : عن أبي نصر شيبة الناجي و الله أعلم
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا يزيد بن إسماعيل حدثنا سفيان عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم قال قلت لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أبي كان يصل الرحم و يفعل و يفعل فهل له في ذلك ؟ يعني من أجر قال : إن أباك طلب شيئا فأصابه ] و [ هكذا رواه أبو يعلى عن القواريري عن غندر عن شعبة عن سماك به و قال إن أباك أراد أمرا فأدركه ] يعني الذكر و هكذا رواه أبو القاسم البغوي عن علي بن الجعد عن شعبة به سواء
و قد ثبت في الصحيح في الثلاثة الذين تسعر بهم جهنم منهم الرجل الذي ينفق ليقال إنه كريم فيكون جزاؤه أن يقال ذلك في الدنيا و كذا في العالم و المجاهد و في الحديث الآخر في الصحيح أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عبد الله بن جدعان ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة فقالوا له : كان يقري الضيف و يعتق و يتصدق فهل ينفعه ذلك ؟ فقال : [ إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ] هذا و قد كان من الأجواد المشهورين أيضا المطعمين في السنين الممحلة و الأوقات المرملة
و قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثني أبو بكر محمد بن عبد الله بن يوسف العماني حدثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد الكوفي حدثنا ضرار بن صرد حدثنا عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن عبد الرحمن بن جندب عن كميل بن زياد النخعي قال قال علي بن أبي طالب : [ يا سبحان الله ! ما أزهد كثيرا من الناس في خير ! عجبا لرجل يجيئه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا فلو كان لا يرجو و لا يخشى عقابا لكان ينبغي له أن يسارع في مكارم الأخلاق فإنها تدل علي سبيل النجاح ]
فقام إليه رجل و قال : فداك أبي و أمي يا أمير المؤمنين أسمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال نعم ! و ما هو خير منه لما أتى بسبايا طيئ وقعت جارية حمراء لعسا زلفاء عيطاء شماء الأنف معتدلة القامة و الهامة درماء الكعبين خدلجة الساقين لفاء الفخذين خميصة الخصرين ضامرة الكشحين مصقولة المتنين
قال : فلما رأيتها أعجبت بها و قلت لأطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فيجعلها في فيئي فلما تكلمت أنسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها فقالت : يا محمد إن رأيت أن تخلي عني و لا تشمت بي أحياء العرب فإني ابنة سيد قومي و إن أبي كان يحمي الذمار و يفك العاني و يشبع الجائع و يكسو العاري و يقري الضيف و يطعم الطعام و يفشي السلام و لم يرد طالب حاجة قط و أنا ابنة حاتم طيئ فقال النبي صلي الله عليه و سلم : [ يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا لو كان أبوك مؤمنا لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق و الله تعالى يحب مكارم الأخلاق ]
فقام أبو بردة بن نيار فقال يا رسول الله : و الله يحب مكارم الأخلاق
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و الذي نفسي بيده لا يدخل الجنة أحد إلا بحسن الخلق ] (1/107)
و قال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثني عمر بن بكر عن أبي عبد الرحمن الطائي هو القاسم بن عدي عن عثمان عن عركي بن حليس الطائي عن أبيه عن جده و كان أخا عدي بن حاتم لأمه قال : قيل للنوار امرأة حاتم : حدثينا عن حاتم قالت كل أمره كان عجبا !
أصابتنا سنة حصت كل شئ فاقشعرت لها الأرض و اغبرت لها السماء و ضنت المراضع على أولادها و راحت الإبل حدبا حدابير ما تبض بقطرة و حلقت المال
و إنا لفي ليلة صنبر بعيدة ما بين الطرفين إذ تضاغي الأصبية من الجوع عبد الله و عدي و سفانة فو الله إن وجدنا شيئا نعللهم به فقام إلى أحد الصبيان فحمله و قمت إلى الصبية فعللتها فو الله إن سكتا إلا بعد هدأة من الليل ثم عدنا إلى الصبي الآخر فعللناه حتى سكت و ما كاد
ثم افترشنا قطيفة لنا شامية ذات خمل فأضجعنا الصبيان عليها و نمت أنا و هو في حجرة و الصبيان بيننا ثم أقبل علي يعللني لأنام و عرفت ما يريد فتناومت فقال ما لك أنمت ؟ فسكت فقال : ما أراها إلا قد نامت و ما بي نوم
فلما ادلهم الليل و تهورت النجوم و هدأت الأصوات و سكنت الرجل إذا جانب البيت قد رفع فقال من هذا ؟ فولى حتى قلت إذا قد أسحرنا أو كدنا عاد فقال من هذا ؟ قالت : جارتك فلانة يا أبا عدي ما وجدت على أحد معولا غيرك أتيتك من عند أصبية يتعاوون عواء الذئاب من الجوع قال أعجليهم علي
قالت النوار : فوثبت فقلت ماذا صنعت ؟ اضطجع و الله لقد تضاغي أصبيتك فما وجدت ما تعللهم فكيف بهذه و بولدها ؟ فقال اسكتي فو الله لأشبعنك إن شاء الله
قالت فأقبلت تحمل اثنتين و تمشي جنبتيها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها فقام إلي فرسه فوجأ بحربته في لبنه ثم قدح زنده و أورى ناره ثم جاء بمدية فكشط عن جلده ثم دفع المدية إلى المرأة ثم قال : دونك ثم قال : ابعثي صبيانك فبعثتهم ثم قال : سوءة أتأكلون شيئا دون أهل الصرم ! فجعل يطوف فيهم حتى هبوا و أقبلوا عليه و التفع في ثوبه ثم اضطجع ناحية ينظر إلينا و الله ما ذاق مزعة و إنه لأحوجهم إليه فأصبحنا و ما على الأرض منه إلا عظم أو حافر !
و قال الدارقطني : حدثني القاضي أبو عبد الله المحاملي حدثنا عبد الله بن أبي سعد و حدثنا عثيم بن ثوابة بن حاتم الطائي عن أبيه عن جده قال : قالت امرأة حاتم لحاتم : يا أبا سفانة أشتهي أن آكل أنا و أنت طعاما وحدنا ليس عليه أحد فأمرها فحولت خيمتها من الجماعة على فرسخ و أمر بالطعام فهيئ و هي مرخاة ستورها عليه وعليها فلما قارب نضج الطعام كشف عن رأسه ثم قال :
( فلا تطبخي قدري و سترك دونها ... علي إذن ما تطبخين حرام )
( و لكن بهذاك اليفاع فأوقدي ... بجزل إذا أوقدت لا بضرام )
قال : ثم كشف الستور و قدم الطعام و دعا الناس فأكل و أكلوا فقالت : ما أتممت لي ما قلت فأجابها : فإني لا تطاوعني نفسي و نفسي أكرم علي من أن يثني علي هذا و قد سبق لي السخاء ثم أنشأ يقول :
( أمارس نفس البخل حتى أعزها ... و أترك نفس الجود ما أستثيرها )
( و لا تشتكيني جارتي غير أنها ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها )
( سيبلغها خيري و يرجع بعلها ... إليها و لم تقصر عليها ستورها ) (1/109)
و من شعر حاتم :
( إذا ما بت أشرب فوق ري ... لسكر في الشراب فلا رويت )
( إذا ما بت أختل عرس جاري ... ليخفيني الظلام فلا خفيت )
( أأفضح جارتي و أخون جاري ؟ ! ... فلا و الله أفعل ما حييت )
و من شعره أيضا :
( ما ضر جارا لي أجاره ... أن لا يكون لبابه ستر )
( أغضي إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر )
و من شعر حاتم أيضا :
( و ما من شيمتي شتم ابن عمي ... و ما أنا مخلف من يرتجيني )
( و كلمة حاسد من غير جرم ... سمعت و قلت مري فانقذني )
( و عابوها علي فلم تعبني ... و لم يعرق لها يوما جبيني )
( و ذي وجهين يلقاني طليقا ... و لبس إذا تغيب يأتسيني )
( ظفرت بعيبه فكففت عنه ... محافظة على حسبي و ديني )
و من شعره :
( سلي البائس المقرور يا أم مالك ... إذا ما أتاني بين ناري و مجزري )
( أأبسط وجهي إنه أول القرى ... و أبذل معروفي له دون منكري )
و قال أيضا :
( و إنك إن أعطيت بطنك سؤله ... و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا )
و قال القاضي أبو الفرج المعافي بن زكرياء الجريري : حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي حدثنا أبو العباس المبرد أخبرني الثوري عن أبي عبيدة قال لما بلغ حاتم طيئ قول المتلمس :
( قليل المال تصلحه فيبقى ... و لا يبقى الكثير على الفساد )
( و حفظ المال خير من فناه ... و عسف في البلاد بغير زاد )
قال : ما له قطع الله لسانه حمل الناس على البخل ؟ ! فهلا قال :
( فلا الجود يفني المال قبل فنائه ... و لا البخل في مال الشحيح يزيد )
( فلا تلتمس ما لا بعيش مقتر ... لكل غد رزق يعود جديد )
( ألم تر أن المال غاد و رائح ... و أن الذي يعطيك غير بعيد ) (1/111)
قال القاضي أبو الفرج : و قد أحسن في قوله : [ و أن الذي يعطيك غير بعيد ] و لو كان مسلما لرجى له الخير في معاده و قد قال الله في كتابه : { و اسألوا الله من فضله } و قال تعالي : { و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان }
و عن الوضاح بن معبد الطائي قال : وفد حاتم الطائي على النعمان بن منذر فأكرمه و أدناه ثم زوده عند انصرافه جملين ذهبا و ورقا غير ما أعطاه من طرائف بلده فرحل فلما أشرف على أهله تلقته أعاريب طيئ فقالت : يا حاتم أتيت من عند الملك و أتينا من عند أهالينا بالفقر ! فقال حاتم : هلم فخذوا ما بين يدي فتوزعوه فوثبوا إلى ما بين يديه من حباء النعمان فاقتسموه فخرجت إلى حاتم طريفة جاريته فقالت له : اتق الله و أبق على نفسك فما يدع هؤلاء دينارا و لا درهما و لا شاة و لا بعيرا فأنشأ يقول :
( قالت طريفة : ما تبقي دراهمنا ... و ما بنا سرف فيها و لا خرق )
( إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا ... ممن سوانا ولسنا نحن نرتزق )
( ما يألف الدرهم الكاري خرقتنا ... إلا يمر عليها ثم ينطلق )
( إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا ... ظلت إلي سبل المعروف تستبق )
و قال أبو بكر بن عياش : قيل لحاتم : هل في العرب أجود منك ؟ فقال كل العرب أجود مني ثم أنشأ يحدث قال : نزلت على غلام من العرب يتيم ذات ليلة و كانت له مائة من الغنم فذبح لي شاة منها و أتاني بها فلما قرب إلي دماغها قلت : ما أطيب هذا الدماغ ! قال : فذهب فلم يزل يأتيني منه حتي قلت قد اكتفيت فلما أصبحت إذا هو قد ذبح المائة شاة و بقي لا شيء له !
فقيل : فما صنعت به ؟ فقال : و متى أبلغ شكره و لو صنعت به كل شيء ! قال : على كل حال أعطيته مائة ناقة من خيار إبلي (1/113)
و قال محمد بن جعفر الخرائطي في كتاب مكارم الأخلاق : حدثنا العباس بن الفضل الربعي حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثني حماد الراوية و مشيخة من مشيخة طيئ قالوا كانت عنترة بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس أم حاتم طيئ لا تمسك شيئا سخاء و جودا و كان إخوتها يمنعونها فتأبى و كانت امرأة موسرة فحبسوها في بيت سنة يطعمونها قوتها لعلها تكف عما تصنع ثم أخرجوها بعد سنة و قد ظنوا أنها قد تركت ذلك الخلق فدفعوا إليها صرمة من مالها و قالوا استمتعي بها فأتتها امرأة من هوازن و كانت تغشاها فسألتها فقالت : دونك هذه الصرمة فقد و الله مسني من الجوع ما آليت أن لا أمنع سائلا ثم أنشأت تقول :
( لعمري لقدما عضني الجوع عضة ... فآليت ألا أمنع الدهر جائعا )
( فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني ... و إن أنت لم تفعل فعض الأصابعا )
( فماذا عساكم أن تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا )
( و ماذا ترون اليوم إلا طبيعة ... فكيف بتركي يا بن أمي الطبائعا )
و قال الهيثم بن عدي : عن ملحان بن عركي بن عدي بن حاتم عن أبيه عن جده قال : شهدت حاتما يكيد بنفسه فقال لي : أي بني إني أعهد من نفسي ثلاث خصال : و الله ما خاتلت جارة لريبة قط و لا اؤتمنت على أمانة إلا أديتها و لا أتي أحد من قبلي بسوء (1/114)
و قال أبو بكر الخرائطي : حدثنا علي بن حرب حدثنا عبد الرحمن بن يحيى العدوي حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبي مسكين ـ يعني جعفر بن المحرر بن الوليد ـ عن المحرر مولى أبي هريرة قال : مر نفر من عبد القيس بقبر حاتم طيئ فنزلوا قريبا منه فقام إليه بعضهم يقال له أبو الخبيري فجعل يركض قبره برجله و يقول : يا أبا جعد اقرنا فقال له بعض أصحابه : ما تخاطب من رمة و قد بليت ؟ ! و أجنهم الليل فناموا فقام صاحب القول فزعا يقول : يا قوم عليكم بمطيكم فإن حاتما أتاني في النوم و أنشدني شعرا و قد حفظته يقول :
( أبا الخيبري و أنت امرؤ ... ظلوم العشيرة شتامها )
( أتيت بصحبك تبغي القرى ... لدي حفرة قد صدت هامها )
( أتبغي لي الذنب عند المبيـ ... ت و حولك طيئ و أنعامها )
( و إنا لنشبع أضيافنا ... و تأتي المطي فنعتامها )
قال : و إذا ناقه صاحب القول تكوس عقيرا فنحروها و قاموا يشتوون و يأكلون و قالوا : و الله لقد أضافنا حاتم حيا و ميتا !
قال : و أصبح القوم و أردفوا صاحبهم و صاروا فإذا رجل ينوه بهم راكبا جملا و يقود آخر فقال : أيكم أبو الخيبري ؟ قال أنا قال إن حاتما أتاني في النوم فأخبرني أنه قرى أصحابك ناقتك و أمرني أن أحملك و هذا بعير فخذه و دفعه إليه (1/115)
هو عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة سيد بني تيم و هو ابن عم والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
و كان من الكرماء الأجواد في الجاهلية المطعمين للمسنتين
و كان في بدء أمره فقيرا مملقا و كان شريرا يكثر من الجنايات حتى أبغضه قومه و عشيرته و أهله و قبيلته و أبغضه حتى أبوه
فخرج ذات يوم في شعاب مكة حائرا بائرا فرأى شقا في جبل فظن أن يكون به شيء يؤذي فقصده لعله يموت فيستريح مما هو فيه
فلما اقترب منه إذا ثعبان يخرج إليه و يثبت عليه فجعل يحيد عنه و يثب فلا يغني شيئا إذا هو من ذهب و له عينان هما ياقوتتان فكسره و أخذه و دخل الغار فإذا فيه قبور لرجال من ملوك جرهم و منهم الحارث بن مضاض الذي طالت غيبته فلا يدري أين يذهب و وجد عند رءوسهم لوحا من ذهب فيه تاريخ وفاتهم و مدد ولايتهم و إذا عندهم من الجواهر و اللآلئ و الذهب و الفضة شيء كثير فأخذ منه حاجته ثم خرج و علم باب الغار ثم انصرف إلى قومه فأعطاهم حتى أحبوه و سادهم و جعل يطعم الناس و كلما قل ما في يده ذهب إلي ذلك الغار فأخذ حاجته ثم رجع فممن ذكر هذا عبد الملك بن هشام في كتاب التيجان و ذكره أحمد بن عمار في كتاب ري العاطش و أنس الواحش و كانت له جفنة يأكل منها الراكب على بعيره و وقع فيها صغير فغرق
و ذكر ابن قتيبة و غيره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لقد كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمي ] أي وقت الظهيرة
و في حديث مقتل أبي جهل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأصحابه : [ تطلبوه بين القتلى و تعرفوه بشجة في ركبته فإني تزاحمت أنا و هو على مأدبة لابن جدعان فدفعته فسقط على ركبته فانهشمت فأثرها باق في ركبته ] فوجده كذلك
و ذكروا أنه كان يطعم التمر و السويق و يسقي اللبن حتى سمع قول أمية بن أبي الصلت :
( و لقد رأيت الفاعلين و فعلهم ... فرأيت أكرمهم بني الديان )
( البر يلبك بالشهاد طعامهم ... لا ما يعللنا بنو جدعان )
فأرسل ابن جدعان إلي الشام ألفي بعير جاءت تحمل البر و الشهد و السمن و جعل مناديا ينادي كل ليلة على ظهر الكعبة : أن هلموا إلى جفنة ابن جدعان فقال أمية في ذلك :
( له داع بمكة مشمعل ... و آخر فوق كعبتها ينادي )
( إلي ردح من الشيزي ملاء ... لباب البر يلبك بالشهاد ) (1/116)
و مع هذا كله فقد ثبت فى الصحيح لمسلم أن عائشة قالت : يا رسول الله إن ابن جدعان كان يطعم الطعام و يقري الضيف فهل ينفعه ذلك يوم القيامة ؟ فقال : [ لا إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ] (1/117)
و هي أفخرهن و أشهرهن التي أولها :
( قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل )
قال الإمام أحمد : [ حدثنا هشيم حدثنا أبو الجهم الواسطي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار ]
و قد روى هذا الحديث عن هشيم جماعة كثيرون منهم بشر بن الحكم و الحسن بن عرفة و عبد الله بن هارون أمير المؤمنين أخو الأمين و يحيي بن معين و أخرجه ابن عدي من طريق عبد الرزاق عن الزهري به و هذا منقطع و رديء من وجه آخر عن أبي هريرة و لا يصح من غير هذا الوجه
وقال الحافظ ابن عساكر : هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن عمرو بن معاوية بن يعرب بن ثور بن مرتع ابن معاوية بن كندة أبو يزيد و يقال أبو وهب و يقال أبو الحارث الكندي كان بأعمال دمشق و قد ذكر مواضع منها في شعره فمن ذلك قوله :
( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوي بين الدخول فحومل )
( فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوب و شمأل )
قال : وهذه مواضع معروفة بحوران
ثم روي من طريق هشام بن محمد بن السائب الكلبي حدثني فروة بن سعيد بن عفيف بن معدي كرب عن أبيه عن جده قال : بينا نحن عند رسول الله صلي الله عليه و سلم إذ أقبل وفد من اليمن فقالوا يا رسول الله لقد أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس قال : و كيف ذاك ؟ قالوا : أقبلنا نريدك حتى إذا كنا ببعض الطريق أخطأنا الطريق فمكثنا ثلاثا لا نقدر على الماء فتفرقنا إلى أصول طلح و سمر ليموت كل رجل منا في ظل شجرة فبينا نحن بآخر رمق إذا راكب يوضع على بعير فلما رآه بعضنا قال و الراكب يسمع :
( و لما رأت أن الشريعة همها ... و أن البياض من فرائصها دامي )
( تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عرمضها طامي )
فقال الراكب : و من يقول هذا الشعر ؟ و قد رأى ما بنا من الجهد قال : قلنا : امرؤ القيس بن حجر قال و الله ما كذب هذا ضارج عندكم فنظرنا فإذا بيننا و بين الماء نحو من خمسين ذراعا فحبونا إليه على الركب فإذا هو كما قال امرؤ القيس عليه العرمض يفيء عليه الظل فقال رسول الله صلي الله عليه و سلم : [ ذاك رجل مذكور في الدنيا منسي في الآخرة شريف في الدنيا خامل في الآخرة بيده لواء الشعراء يقودهم إلى النار ] (1/118)
و ذكر الكلبي : أن امرأ القيس أقبل براياته يريد قتال بني أسد حين قتلوا أباه فمر بتبالة و بها ذو الخلصة و هو صنم و كانت العرب تستقسم عنده فاستقسم فخرج القدح الناهي ثم الثانية ثم الثالثة كذلك فكسر القداح و ضرب بها وجه ذي الخلصة و قال : عضضت بأير أبيك لو كان أبوك المقتول لما عوقتني ! ثم أغار على بني أسد فقتلهم قتلا ذريعا
قال ابن الكلبي : فلم يستقسم عند ذي الخلصة حتى جاء الإسلام (1/119)
و ذكر بعضهم أنه امتدح قيصر ملك الروم يستنجده في بعض الحروب و يسترفده فلم يجد ما يؤمله عنده فهجاه بعد ذلك فيقال إنه سقاه سما فقتله فألجأه الموت إلي جنب قبر امرأة عند جبل يقال له عسيب فكتب هنالك
( أجارتنا إن المزار قريب ... و إني مقيم ما أقام عسيب )
( أجارتنا إنا غريبان ها هنا ... و كل غريب للغريب نسيب )
و ذكروا أن المعلقات السبع كانت معلقة بالكعبة و ذلك أن العرب كانوا إذا عمل أحدهم قصيدة عرضها علي قريش فإن أجازوها علقوها على الكعبة تعظيما لشأنها فاجتمع من ذلك هذه المعلقات السبع
فالأولى لامرئ القيس بن حجر الكندي كما تقدم و أولها :
( قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل )
و الثانية للنابغة الزبياني و اسمه زياد بن معاوية و يقال زياد بن عمرو بن معاوية ابن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض و أولها :
( يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت و طال عليها سالف الأمد )
و الثالثة لزهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني و أولها :
( أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلم )
و الرابعة لطرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ابن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل و أولها :
( لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد )
و الخامسة لعنترة بن شداد بن معاوية بن قراد بن مخزوم بن ربيعة بن مالك بن غالب ابن قطيعة بن عبس العبسي و أولها :
( هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم )
و السادسة لعلقمة بن عبدة بن النعمان بن قيس أحد بني تميم و أولها :
( طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب )
و السابعة و منهم من لا يثبتها في المعلقات و هو قول الأصمعي و غيره و هي للبيد ابن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر و أولها :
( عفت الديار محلها فمقامها ... بمنى تأبد غولها فرجامها )
فأما القصيدة التي لا يعرف قائلها فيما ذكره أبو عبيدة و الأصمعي و المبرد و غيرهم فهي قوله :
( هل بالطلول لسائل رد ... أم هل لها بتكلم عهد )
و هي مطولة و فيها معان حسنة كثيرة (1/120)
قال الحافظ ابن عساكر : هو أمية بن أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف ابن عقدة بن عزة بن عوف بن ثقيف بن منبه بن بكر بن هوزان أبو عثمان و يقال أبو الحكم الثقفي
شاعر جاهلي قدم دمشق قبل الإسلام و قيل إنه كان مستقيما و إنه كان في أول أمره على الإيمان ثم زاغ عنه و إنه هو الذي أراده الله تعالى بقوله { و اتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين }
قال الزبير بن بكار : فولدت رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف أمية الشاعر ابن أبي الصلت و اسم أبي الصلت ربيعة بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن ثقيف
و قال غيره : كان أبوه من الشعراء المشهورين بالطائف و كان أمية أشعرهم
و قال عبد الرزاق : قال الثوري : أخبرني حبيب بن أبي ثابت أن عبد الله بن عمرو قال في قوله تعالي { و اتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } هو أمية بن أبي الصلت
و كذا رواه أبو بكر بن مردويه عن أبي بكر الشافعي عن معاذ بن المثنى عن مسدد عن أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن نافع بن عاصم بن مسعود قال : إني لفي حلقة فيها عبد الله بن عمرو فقرأ رجل من القوم الآية التي في الأعراف { و اتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها } فقال : هل تدرون من هو ؟ فقال بعضهم : هو صيفي بن الراهب و قال آخر : بل هو بلعم رجل من بني إسرائيل فقال : لا قال ؟ فمن قال هو أمية بن أبي الصلت و هكذا قال أبو صالح و الكلبي و حكاه قتادة عن بعضهم (1/122)
و قال الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا عبد الله بن شبيب الربعي حدثنا محمد بن مسلمة بن هشام المخزومي حدثنا إسماعيل ابن الطريح بن إسماعيل الثقفي حدثني أبي عن أبيه عن مروان بن الحكم عن معاوية بن أبي سفيان عن أبيه قال :
خرجت أنا و أمية بن أبي الصلت الثفقي تجارا إلى الشام فكلما نزلنا منزلا أخذ أمية سفرا له يقرؤه علينا فكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى فجاءوه و أكرموه و أهدوا له و ذهب معهم إلى بيوتهم
ثم رجع في وسط النهار فطرح ثوبيه و أخذ ثوبين له أسودين فلبسهما و قال لي : هل لك يا أبا سفيان في عالم من علماء النصارى إليه يتناهى علم الكتاب تسأله ؟ قلت : لا إرب لي فيه و الله لئن حدثني بما أحب لا أثق به و لئن حدثني بما أكره لأجدن منه
قال : فذهب و خالفه شيخ من النصارى فدخل علي فقال : ما يمنعك أن تذهب إلى هذا الشيخ ؟ قلت : لست على دينه قال : و إن فإنك تسمع منه عجبا و تراه ثم قال لي : أثقفي أنت ؟ قلت : لا و لكن قرشي قال فما يمنعك من الشيخ فو الله إنه ليحبكم و يوصي بكم
قال فخرج من عندنا و مكث أمية عندهم حتى جاءنا بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه فو الله ما نام و لا قام
حتى أصبح كئيبا حزينا ساقطا غبوقه على صبوحه ما يكلمنا و لا نكلمه
ثم قال : ألا ترحل ؟ قلت : و هل بك من رحيل ؟ قال نعم
فرحلنا فسرنا بذلك ليلتين ثم قال في اللية الثالثة : ألا تحدث يا أبا سفيان ؟ قلت و هل بك من حديث ؟ و الله ما رأيت مثل الذي رجعت به من عند صاحبك
قال : أما إن ذلك لشيء لست فيه إنما ذلك لشيء و جلت منه من منقلبي
قلت : و هل لك من منقلب ؟
قال : إي و الله لأموتن ثم لأحيين
قال : قلت : هل أنت قابل أماني ؟
قال : على ماذا ؟ قلت : على أنك لا تبعث و لا تحاسب
قال : فضحك ثم قال : بلى و الله يا أبا سفيان لنبعثن ثم لنحاسبن و ليدخلن فريق الجنة و فريق النار
قلت : ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك ؟
قال لا علم لصاحبي بذلك لا في و لا في نفسه
قال : فكنا في ذلك ليلتين يعجب مني و أضحك منه حتى قدمنا غوطة دمشق فبعنا متاعنا و أقمنا بها شهرين
فارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى فلما رأوه جاءوه و أهدوا له و ذهب معهم إلى بيعتهم فما جاء إلا بعد منتصف النهار فلبس ثوبيه و ذهب إليهم حتى جاء بعد هدأة من الليل فطرح ثوبيه و رمى بنفسه على فراشه فو الله ما نام و لا قام
و أصبح حزينا كئيبا لا يكلمنا و لا نكلمه ثم قال : ألا ترحل ؟ قلت : بلى إن شئت
فرحلنا كذلك من بثه و حزنه ليالي ثم قال لي : يا أبا سفيان هل لك في المسير لنتقدم أصحابنا ؟ قلت : هل لك فيه ؟ قال نعم
فسرنا حتى برزنا من أصحابنا ساعة ثم قال : هيا صخر فقلت : ما تشاء ؟
قال حدثني عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المظالم و المحارم ؟
قلت : إي و الله
قال : و يصل الرحم و يأمر بصلتها ؟
قلت : إي و الله
قال : و كريم الطرفين وسط في العشيرة ؟
قلت : نعم
قال : فهل تعلم قرشيا أشرف منه ؟
قلت : لا و الله لا أعلم
قال : أمحوج هو ؟
قلت : لا بل هو ذو مال كثير
قال : و كم أتى عليه من السن ؟
فقلت : قد زاد على المائة
قال : فالشرف و السن و المال أزرين به
قلت : و لم ذاك يزرى به لا و الله بل يزيده خيرا
قال : هو ذاك هل لك في المبيت ؟ قلت : لي فيه
قال فاضطجعنا حتى مر الثقل قال : فسرنا حتى نزلنا في المنزل و بتنا به ثم ارتحلنا منه
فلما كان الليل قال لي : يا أبا سفيان قلت : ما تشاء ؟ قال هل لك في مثل البارحة قلت : هل لك فيه ؟ قال : نعم
فسرنا على ناقتين بختيتين حتى إذا برزنا قال : هيا صخر هيه عن عتبة بن ربيعة
قال قلت : هيها فيه
قال : أيجتنب المحارم و المظالم و يصل الرحم و يأمر بصلتها ؟ قلت : إي و الله إنه ليفعل
قال و ذو مال ؟ قلت : و ذو مال
قال : أتعلم قرشيا أسود منه ؟ قلت : لا و الله ما أعلم
قال : كم أتى له من السن ؟ قلت قد زاد على المائة
قال : فإن السن و الشرف و المال أزرين به
قلت : كلا و الله ما أزرنا به ذلك و أنت قائل شيئا فقله قال : لا تذكر حديثي يأتى منه ما هو آت
ثم قال : فإن الذي رأيت أصابني أني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء ثم قلت أخبرني عن هذا النبي الذي ينتظر
قال : هو رجل من العرب
قلت : قد علمت أنه من العرب فمن أي العرب هو ؟
قال : من أهل بيت تحجه العرب
قلت و فينا بيت تحجه العرب
قال : هو من إخوانكم من قريش فأصابني و الله شيء ما أصابني مثله قط و خرج من يدي فوز الدنيا و الآخرة و كنت أرجو أن أكون إياه قلت : فإذ كان ما كان فصفه لي
قال : رجل شاب حين دخل في الكهولة بدء أمره أنه يجتنب المظالم و المحارم و يصل الرحم و يأمر بصلتها و هو محوج كريم الطرفين متوسط في العشيرة أكثر جنده من الملائكة
قلت : ما آية ذلك ؟ قال : قد رجفت الشام منذ هلك عيسى بن مريم عليه السلام ثمانين رجفة كلها فيها مصيبة و بقيت رجفة عامة فيها مصائب
قال أبو سفيان : فقلت هذا و الله الباطل لئن بعث الله رسولا لا يأخذه إلا مسنا شريفا
قال أمية : و الذي حلفت به إن هذا لهكذا يا أبا سفيان يقول إن قول النصراني حق هل لك في المبيت ؟ قلت : نعم لي فيه
قال فبتنا حتى جاءنا الثقل ثم خرجنا حتى إذا كان بيننا و بين مكة مرحلتان [ أو ] ليلتان أدركنا راكب من خلفنا فسألناه فإذا هو يقول أصابت أهل الشام بعدكم رجفة دمرت أهلها و أصابتهم فيها مصائب عظيمة
قال أبو سفيان : فأقبل على أمية فقال : كيف ترى قول النصراني يا أبا سفيان ؟ قلت أرى و أظن و الله أن ما حدثك به صاحبك حق
قال أبو سفيان : فقدمنا مكة فقضيت ما كان معي ثم انطلقت حتى جئت اليمن تاجرا فكنت بها خمسة أشهر ثم قدمت مكة
فبينا أنا في منزلي جاءني الناس يسلمون علي و يسألون عن بضائعهم حتى جاءني محمد بن عبد الله و هند عندي تلاعب صبيانها فسلم علي و رحب بي و سألني عن سفري و مقامي و لم يسألني عن بضاعته ثم قام فقلت لهند : و الله إن هذا ليعجبني ما من من أحد من قريش له معي بضاعة إلا و قد سألني عنها و ما سألني هذا عن بضاعته
فقالت لي هند : أو ما علمت شأنه
فقلت و أنا فزع : ما شأنه ؟
قالت يزعم أنه رسول الله
فوقذتني و تذكرت قول النصراني فرجفت حتى قالت لي هند : ما لك ؟ فانتبهت فقلت : إن هذا لهو الباطل لهو أعقل من أن يقول هذا قالت : بلى و الله إنه ليقول ذلك و يدعو إليه و إن له لصحابة على دينه قلت : هذا هو الباطل
قال : و خرجت فبينا أنا أطوف بالبيت إذ بي قد لقيته فقلت له : إن بضاعتك قد بلغت كذا و كذا و كان فيها خير فأرسل من يأخذها و لست آخذ منك فيها ما آخذ من قومي فأبى علي و قال : إذن لا آخذها قلت : فأرسل فخذها و أنا آخذ منك مثل ما آخذ من قومي فأرسل إلى بضاعته فأخذها و أخذت منه ما كنت آخذ من غيره
قال أبو سفيان : فلم أنشب أن خرجت إلى اليمن ثم قدمت الطائف فنزلت على أمية بن أبي الصلت فقال لي : يا أبا سفيان قلت : ما تشاء قال : هل تذكر قول النصراني ؟ فقلت أذكره و قد كان فقال : و من ؟
قلت : محمد بن عبد الله قال : ابن عبد المطلب ؟ قلت : ابن عبد المطلب ثم قصصت عليه خبر هند
قال : فالله يعلم و أخذ يتصبب عرقا
ثم قال : و الله يا أبا سفيان لعله إن صفته لهى و لئن ظهر و أنا حي لأطلبن من الله عز و جل في نصره عذرا
قال : و مضيت إلى اليمن فلم أنشب أن جاءني هنالك استهلاله و أقبلت حتى نزلت على أمية بن أبي الصلت بالطائف فقلت : يا أبا عثمان قد كان من أمر الرجل ما قد بلغك و سمعته
فقال : قد كان لعمري
قلت : فأين أنت منه يا أبا عثمان ؟
فقال : و الله ما كنت لأومن برسول من غير ثقيف أبدا !
قال أبو سفيان : و أقبلت إلى مكة فو الله ما أنا ببعيد حتى جئت مكة فوجدت أصحابه يضربون و يحقرون
قال أبو سفيان : فجعلت أقول : فأين جنده من الملائكة ؟ فدخلني ما يدخل من النفاسة
و قد رواه الحافظ البيهقي في كتاب الدلائل من حديث إسماعيل طريح به و لكن سياق الطبراني الذي أوردناه أتم و أطول و الله أعلم (1/123)
و قال الطبراني : حدثنا بكر بن أحمد بن نفيل حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثنا مجاشع بن عمرو الأسدي حدثنا ليث بن سعد عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن عن عروة بن الزبير عن معاوية بن أبي سفيان عن أبي سفيان بن حرب أن أمية بن أبي الصلت كان بغرة أو بإيلياء فلما قفلنا قال لي أمية : يا أبا سفيان هل لك أن تتقدم على الرفقة فنتحدث ؟ قلت : نعم قال : ففعلنا
فقال لي : يا أبا سفيان إيه عن عتبة بن ربيعة ؟ قلت : كريم الطرفين قال : و يجتنب المحارم و المظالم ؟ قلت : نعم
قال : و شريف مسن ؟ قلت : و شريف مسن
قال : الشرف و السن أزريابه
فقلت له : كذبت ما ازداد سنا إلا ازداد شرفا
قال : يا أبا سفيان إنها كلمة ما سمعت أحدا يقولها لي منذ تبصرت فلا تعجل علي حتى أخبرك قال قلت : هات
قال : إني كنت أجد في كتبي نبيا يبعث من حرتنا هذه فكنت أظن بل كنت لا أشك أني أنا هو فلما دارست أهل العلم إذا هو من بني عبد مناف فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحدا يصلح لهذا الأمر غير عتبة بن ربيعة فلما أخبرتني بسنه عرفت أنه ليس به حين جاوز الأربعين و لم يوح إليه
قال أبو سفيان : فضرب الدهر ضربه فأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و خرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة فمررت بأمية فقلت له كالمستهزئ به : يا أمية قد خرج النبي الذي كنت تنعته
قال : أما إنه حق فاتبعه
قلت : ما يمنعك من اتباعه ؟
قال : ما يمنعني إلا الاستحياء من نساء ثقيف إني كنت أحدثهن أني هو ثم يرينني تابعا لغلام من بني عبد مناف ! !
ثم قال أمية : كأني بك يا أبا سفيان قد خالفته ثم قد ربطت كما يربط الجدي حتى يؤتى بك إليه فيحكم فيك بما يريد
و قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الكلبي قال : بينا أمية راقد و معه ابنتان له إذ فزعت إحداهما فصاحت عليه فقال لها : ما شأنك ؟ قالت رأيت نسرين كشطا سقف البيت فنزل أحدهما إليك فشق بطنك و الآخر واقف على ظهر البيت فناداه فقال : أوعى ؟ قال : نعم قال : أزكا ؟ قال : لا
فقال : ذاك خير أريد بأبيكما فلم يفعله (1/129)
و قد روي من وجه آخر بسياق آخر فقال إسحاق بن بشر عن محمد بن إسحاق : عن الزهري عن سعيد بن المسيب و عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري عن سعيد ابن المسيب قال : قدمت الفارعة أخت أمية بن أبي الصلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد فتح مكة و كانت ذات لب و عقل و جمال و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بها معجبا فقال لها ذات يوم : [ يا فارعة هل تحفظين من شعر أخيك شيئا ؟ ]
فقالت : نعم و أعجب من ذلك ما قد رأيت
قالت : كان أخي في سفر فلما انصرف بدأني فدخل علي فرقد على سريري و أننا أحلق أديما في يدي إذ أقبل طائران أبيضان أو كالطيرين أبيضين فوقع على الكوة أحدهما و دخل الآخر فوقع عليه فشق الواقع عليه ما بين قصه إلى عانته ثم أدخل يده في جوفه فأخرج قلبه فوضعه في كفه ثم شمه فقال له الطائر الآخر : أوعى ؟ قال : وعى قال : أزكا ؟ قال : أبى ثم رد القلب إلى مكانه فالتأم الجرح أسرع من طرفة عين ثم ذهبا
فلما رأيت ذلك دنوت منه فحركته فقلت هل تجد شيئا ؟ قال : لا إلا توهينا في جسدي و قد كنت ارتعبت مما رأيت فقال : ما لي أراك مرتاعة ؟ قالت : فأخبرته الخبر فقال : خير أريد بي ثم صرف عني ثم أنشأ يقول :
( باتت همومي تسري طوارقها ... أكف عيني و الدمع سابقها )
( مما أتاني من اليقين و لم ... أوت براة يقص ناطقها )
( أممن تلظي عليه واقدة النـ ... ار محيط بهم سرادقها )
( أم أسكن الجنة التي وعد الـ ... أبرار مصفوفة نمارقها )
( لا يستوي المنزلان ثم ولا الـ ... أعمال لا تستوي طرائقها )
( هما فريقان فرقة تدخل الجنة حفت بهم حدائقها )
( و فرقة منهم قد دخلت النار فساءتهم مرافقها )
( تعاهدت هذه القلوب إذا ... همت بخير عاقت عوائقها )
( و صدها للشقاء عن طلب الـ ... جنة دنيا الله ما حقها )
( عبد دعا نفسه فعاتبها ... يعلم أن البصير رامقها )
( ما رغب النفس في الحياة ؟ و إن ... تحيا قليلا فالموت لاحقها )
( يوشك من فر من منيته ... يوما على غرة يوافقها )
( إن لم تمت غبطة تمت هرما ... للموت كأس و المرء ذائقها )
قال : ثم انصرف إلى رحله فلم يلبث إلا يسيرا حتى ظعن في جنازته فأتاني الخبر فانصرفت إليه فوجدته منعوشا قد سجي عليه فدنوت منه فشهق شهقة و شق بصره و نظر نحو السقف و رفع صوته و قال : لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما لا ذو مال فيفديني و لا ذو أهل فتحميني
ثم أغمي عليه إذ شهق شهقة فقلت قد هلك الرجل
فشق بصره نحو السقف فرفع صوته فقال : لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما لا ذو براءة فأعتذر و لا ذو عشيرة فأنتصر
ثم أغمي عليه إذ شهق شهقة و شق بصره و نظر نحو السقف فقال : لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما بالنعم محفود و بالذنب محصود
ثم أغمي عليه إذ شهق شهقة فقال : لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما
( إن تغفر اللهم تغفر جما ... و أي عبد لك لا ألما )
ثم أغمي عليه إذ شهق شهقة فقال :
( كل عيش و إن تطاول دهرا ... صائر مرة إلى أن يزولا )
( ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قلال الجبال أرعى الوعولا )
قالت : ثم مات فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا فارعة إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها ] الآية
و قد تكلم الخطابي على غريب هذا الحديث (1/131)
و روى الحافظ ابن عساكر عن الزهري أنه قال : قال أمية بن أبي الصلت :
( ألا رسول لنا منا يخبرنا ... ما بعد غايتنا من رأس مجرانا )
قال : ثم خرج أمية بن أبي الصلت إلى البحرين و تنبأ رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقام أمية بالبحرين ثماني سنين ثم قدم الطائف فقال لهم : ما يقول محمد بن عبد الله ؟ قالوا : يزعم أنه نبي هو الذي كنت تتمنى
قال : فخرج حتى قدم عليه مكة فلقيه فقال : يا ابن عبد المطلب ما هذا الذي تقول ؟ قال : [ أقول إني رسول الله و أن لا إله إلا هو ] قال : إني أريد أن أكملك فعدني غدا قال فموعدك غدا قال فتحب أن آتيك وحدي أو في جماعة من أصحابي و تأتيني وحدك أو في جماعة من أصحابك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أي ذلك شئت ] قال : فإني آتيك في جماعة فأت في جماعة
قال : فلما كان الغد غدا أمية في جماعة من قريش قال : و غدا رسول الله صلى الله عليه و سلم معه نفر من أصحابه حتى جلسوا في ظل الكعبة قال : فبدأ أمية فخطب ثم سجع ثم أنشد الشعر حتى إذا فرغ الشعر قال : أجبني يا ابن عبد المطلب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ { بسم الله الرحمن الرحيم يس و القرآن الحكيم } ] حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه قال : فتبعته قريش يقولون : ما تقول يا أمية ؟ قال : أشهد أنه على الحق فقالوا : هل تتبعه ؟ قال : حتى أنظر في أمره
قال : ثم خرج أمية إلى الشام و قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فلما قتل أهل بدر قدم أمية من الشام حتى نزل بدرا ثم ترحل يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال قائل : يا أبا الصلت ما تريد ؟ قال : أريد محمدا قال : و ما تصنع ؟ قال : أومن به و ألقي إليه مقاليد هذا الأمر قال : أتدري من في القليب ؟ قال : لا قال : فيه عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و هما ابنا خالك ـ و أمه ربيعة بنت عبد شمس ـ قال : فجدع أذني ناقته و قطع ذنبها ثم وقف على القليب يقول :
( ما ذا ببدر فالعقنـ ... قل من مرازبة جحاجح )
القصيدة إلى آخرها كما سيأتي ذكرها بتمامها في قصة بدر إن شاء الله
ثم رجع إلى مكة و الطائف و ترك الإسلام
ثم ذكر قصة الطيرين و قصة وفاته كما تقدم (1/133)
و أنشد شعره عند الوفاة :
( كل عيش و إن تطاول دهرا ... صائر مرة إلى أن يزولا )
( ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قلال الجبال أرعى الوعولا )
( فاجعل الموت نصب عينيك و احذر ... غولة الدهر إن للدهر غولا )
( نائلا ظفرها القساور و الصد ... عان و الطفل في المنار الشكيلا )
( و بغاث النياف و اليعفر النا ... فر و العوهج البرام الضئيلا )
فقوله : القساور جمع قسورة و هو الأسد و الصدعان : ثيران الوحش واحدها صدع و الطفل الشكيل : من الشكلة و هي حمرة في العين و البغاث : الرخم و النياف : الجبال : و اليغفر : الظبي و العوهج : ولد النعامة
يعني أن الموت لا ينجو منه الوحوش في البراري و لا الرخم الساكنة في رءوس الجبال و لا يترك صغيرا لصغره و لا كبيرا لكبره و قد تكلم الخطابي و غيره على غريب هذه الأحاديث (1/134)
و قد ذكر السهيلي في كتابه التعريف و الإعلام أن أمية بن أبي الصلت أول من قال [ باسمك اللهم ] و ذكر عند ذلك قصة غريبة
و هو أنهم خرجوا في جماعة من قريش في سفر فيهم حرب بن أمية والد أبي سفيان قال : فمروا في مسيرهم بحية فقتلوها فلما أمسوا جاءتهم امرأة من الجان فعاتبتهم في قتل تلك الحية و معها قضيب فضربت به الأرض ضربة نفرت الإبل عن آخرها فذهبت و شردت كل مذهب و قاموا فلم يزالوا في طلبها حتى ردوها فلما اجتمعوا جاءتهم أيضا فضربت الأرض بقضيبها فنفرت الإبل فذهبوا في طلبها فلما أعياهم ذلك قالوا : و الله هل عندك لما نحن فيه من مخرج ؟ فقال : لا و الله و لكن سأنظر في ذلك قال : فساروا في تلك المحلة لعلهم يجدون أحدا يسألونه عما قد حل بهم من العناء إذا نار تلوح على بعد فجاءوها فإذا شيخ على باب خيمة يوقد نارا و إذا هو من الجان في غاية الضآلة و الدمامة فسلموا عليه فسألهم عما هم فيه فقال : إذا جاءتكم فقل باسمك اللهم فإنها تهرب فلما اجتمعوا و جاءتهم الثالثة أو الرابعة قال في وجهها أمية : باسمك اللهم فشردت و لم يقر لها قرار لكن عدت الجن على حرب بن أمية فقتلوه بتلك الحية فقبره أصحابه هنالك حيث لا جار و لا دار ففي ذلك يقول الجان :
( و قبر حرب بمكان قفر ... و ليس قرب قبر حرب قبر ) (1/135)
و ذكر بعضهم : أنه كان يتفرس في بعض الأحيان في لغات الحيوانات فكان يمر في السفر على الطير فيقول لأصحابه : إن هذا يقول كذا و كذا فيقولان لا نعلم صدق ما يقول حتى مروا على قطيع غنم قد انقطعت منه شاة و معها ولدها فالتفت إليه فثغت كأنها تستحثه فقال : أتدرون ما تقول له ؟ قالوا : لا قال : إنها تقول : أسرع بنا لا يجئ الذئب فيأكلك كما أكل الذئب أخاك عام أول فأسرعوا حتى سألوا الراعي : هل أكل له الذئب عام أول حملا بتلك البقعة ؟ فقال : نعم قال : و مر يوما على بعير عليه امرأة راكبة و هو يرفع رأسه إليها و يرغو فقال : إنه يقول لها : إنك رحلتيني و في الحداجة مخيط فأنزلوا تلك المرأة و حلوا ذلك الرحل فإذا فيه مخيط كما قال
و ذكر ابن السكيت : أن أمية بن أبي الصلت بينما هو يشرب يوما إذ نعب غراب فقال له : بفيك التراب مرتين
فقيل له : ما يقول ؟ فقال إنه يقول : إنك تشرب هذا الكأس الذي في يدك ثم تموت
ثم نعب الغراب فقال : إنه يقول : و آية ذلك أني أنزل على هذه المزبلة فآكل منها فيعلق عظم في حلقي فأموت ثم نزل الغراب على تلك المزبلة فأكل شيئا فعلق في حلقه عظم فمات
فقال أمية : أما هذا فقد صدق في نفسه و لكن سأنظر هل صدق في أم لا ثم شرب ذلك الكأس الذي في يده ثم اتكأ فمات (1/136)
و قد ثبت في الصحيح من [ حديث ابن مهدي عن الثوري عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد :
( ألا كل شيء ما خلا الله باطل )
و كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم ]
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا روح حدثنا زكريا بن إسحاق حدثنا إبراهيم ابن ميسرة أنه سمع عمرو بن الشريد يقول : قال الشريد : كنت ردفا لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لي : أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء ؟ قلت نعم قال : فأنشدني فأنشدته بيتا فلم يزل يقول لي كلما أنشدته بيتا : إبه حتى أنشدته مائة بيت قال : ثم سكت النبي صلى الله عليه و سلم و سكت ]
و هكذا رواه مسلم من [ حديث سفيان بن عيينة عن أبي تميم بن ميسرة به و من غير وجه عن عمرو بن الشريد عن أبيه الشريد بن سويد الثقفي عن النبي صلى الله عليه و سلم و في بعض الروايات فقال رسول الله : إن كاد يسلم ]
و قال يحي بن محمد بن صاعد : [ حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو أسامة حدثنا حاتم بن أبي صفرة عن سماك بن حرب عن عمرو بن نافع عن الشريد الهمداني و أخوال ثقيف قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع فبينا أنا أمشي ذات يوم إذا وقع ناقة خلفي فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال الشريد ؟ فقلت : نعم قال : ألا أحملك ؟ قلت : بلى و ما بي من إعياء و لكني أردت البركة في ركوبي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأناخ فحملني فقال : أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت ؟ قلت : نعم قال هات فأنشدته قال أظنه قال مائة بيت فقال : عند الله علم أمية بن أبي الصلت ] ثم قال ابن صاعد : هذا حديث غريب فأما الذي يروى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في أمية : [ آمن شعره و كفر قلبه ] فلا أعرفه والله أعلم (1/137)
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الله بن محمد ـ هو أبو بكر بن أبي شيبة ـ حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عكرمة عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صدق أمية في شيء من شعره قال :
( رجل و ثور تحت رجل يمينه ... و النسر للأخرى و ليث مرصد )
( و الشمس تبدو كل آخر ليلة ... حمراء يصبح لونها يتورد )
( تأبى فما تطلع لنا في رسلها ... إلا معذبة و إلا تجلد )
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صدق ]
و في رواية أبي بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : إن الشمس لا تطلع حتى ينخسها سبعون ألف ملك يقولون لها : اطلعي اطلعي فتقول : لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله فإذا همت بالطلوع أتاها شيطان يريد أن يثبطها فتطلع بين قرنيه و تحرقه فإذا تضيفت للغروب عزمت لله عز و جل فيأتيها شيطان يريد أن يثبطها عن السجود فتغرب بين قرنيه و تحرقه أورده ابن عساكر مطولا و من شعره في حملة العرش :
( فمن حامل إحدى قوائم عرشه ... و لولا إله الخلق كلوا و أبدلوا )
( قيام على الأقدام عانون تحته ... فرائصهم من شدة الخوف ترعد )
رواه ابن عساكر
وروى عن الأصمعي أنه كان ينشد من شعر أمية :
( مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا )
( بالبناء الأعلى الذي سبق النـ ... اس و سوى فوق السماء سريرا )
( شرجعا ما يناله بصر العيـ ... ن ترى دونه الملائك صورا )
ثم يقول الأصمعي : الملائك جمع ملك و الصور جمع أصور و هو المائل العنق و هؤلاء حملة العرش
و من شعر أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان التيمي :
( أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء )
( و علمك بالحقوق و أنت فرع ... لك الحسب المهذب و السناء )
( كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل و لا مساء )
( يباري الريح مكرمة و جودا ... إذا ما الكلب أحجره الشتاء )
( و أرضك أرض مكرمة بنتها ... بنو تيم و أنت لها سماء )
( إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء )
و له فيه مدائح أخر
و قد كان عبد الله بن جدعان هذا من الكرماء الأجواد الممدحين المشهورين و كان له جفنة يأكل الراكب منها و هو على بعيره من عرض حافتها و كثرة طعامها و كان يملأها لباب البر يلبك بالشهد و السمن و كان يعتق الرقاب ويعين على النوائب و قد سألت عائشة النبي صلى الله عليه و سلم أينفعه ذلك ؟ فقال : [ إنه لم يقل يوما من الدهر :
رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ]
و من شعر أمية البديع :
( لا ينكثون الأرض عند سؤالهم ... كتطلب العلات بالعيدان )
( بل يسفرون وجوههم فترى لها ... عند السؤال كأحسن الألوان )
( و إذا المقل أقام وسط رحالهم ... ردوه رب صواهل و قيان )
( و إذا دعوتهم لكل ملمة ... سدوا شعاع الشمس بالفرسان )
آخر ترجمة أمية بن أبي الصلت (1/138)
الذي توسم في رسول الله صلى الله عليه و سلم النبوة و هو مع عمه أبي طالب حين قدم الشام في تجار من أهل مكة و عمره إذ ذاك اثنتا عشرة سنة فرأى الغمام تظله من بينهم فصنع لهم طعاما ضيافة و استدعاهم كما سيأتي بيان ذلك في السيرة
و قد روى الترمذي في ذلك حديثا بسطنا الكلام عليه هنالك و قد أورد له الحافظ ابن عساكر شواهد و سائغات في ترجمة بحيرا و لم يورد ما رواه الترمزي و هذا عجب
و ذكر ابن عساكر أن بحيرا كان يسكن قرية يقال لها الكفر بينها و بين بصرى ستة أميال و هي التي يقال لها دير بحيرا قال و يقال : إنه كان يسكن قرية يقال لها منفعة بالبلقاء وراء زيرا و الله أعلم (1/140)
قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب هواتف الجان :
[ حدثنا داود القنطري حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا أبو عبد الله المشرقي عن أبي الحارث الوراق عن ثور بن يزيد عن مورق العجلي عن عبادة بن الصامت قال : لما قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه و سلم قال : يا معشر وفد إياد ما فعل قس بن ساعدة الإيادي ؟ قالوا : هلك يا رسول الله قال : لقد شهدته يوما بسوق عكاظ على جمل أحمر يتكلم بكلام معجب مونق لا أجدني أحفظه فقال إليه أعرابي من أقاصي القوم فقال : أنا أحفظه يا رسول الله قال : فسر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك قال : فكان بسوق عكاظ على جمل أحمر و هو يقول : يا معشر الناس اجتمعوا فكل من فات فات و كل شيء آت آت ليل داج و سماء ذات أبراج و بحر عجاج نجوم تزهر و جبال مرساة و أنهار مجراة إن السماء لخبرا و إن في الأرض لعبرا مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالإقامة فأقاموا أم تركوا فناموا أقسم قس بالله قسما لا ريب فيه إن لله دينا هو أرضى من دينكم هذا ] ثم أنشأ يقول :
( في الذاهبين الأوليـ ... ن من القرون لنا بصائر )
( لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر )
( و رأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر و الأكابر )
( لا من مضى يأتي إليـ ... ك و لا من الباقين غابر )
( أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر )
و هذا إسناد غريب من هذا الوجه و قد رواه الطبراني من وجه آخر فقال في كتابه المعجم الكبير : [ حدثنا محمد بن السري بن مهران بن الناقد البغدادي حدثنا محمد بن حسان السمتي حدثنا محمد بن الحجاج عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال : قدم وفد عبد القيس على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : أيكم يعرف القس بن ساعدة الإيادي ؟ قالوا : كلنا يعرفه يا رسول الله قال : فما فعل ؟ قالوا هلك قال : فما أنساه بعكاظ في الشهر الحرام و هو على جمل أحمر و هو يخطب الناس و هو يقول : يا أيها الناس اجتمعوا و استمعوا و عوا من عاش مات و من مات فات و كل ما هو آت آت إن في السماء لخبرا و إن في الأرض لعبرا مهاد موضوع و سقف مرفوع و نجوم تمور وبحار لا تغور و أقسم قس قسما حقا لئن كان في الأمر رضى ليكون بعده سخط إن لله لدينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه مالي أرى الناس يذهبون و لا يرجعون ؟ ! أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أفيكم من يروي شعره ؟ فأنشده بعضهم :
( في الذاهبين الأوليـ ... ن من القرون لنا بصائر )
( لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر )
( و رأيت قومي نحوها ... يسعى الأصاغر و الأكابر )
( لا يرجع الماضي إلي ... و لا من الباقين غابر )
( أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر ) ]
و هكذا أورده الحافظ البيهقي في كتابه دلائل النبوة من طريق محمد بن حسان السمتي به و هكذا رويناه في الجزء الذي جمعه الأستاذ أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه في أخبار قس قال : حدثنا عبد الكريم بن الهيثم الديرعاقولى عن سعيد بن شبيب عن محمد بن الحجاج أبو إبراهيم الواسطي نزيل بغداد و يعرف بصاحب الهريسة و قد كذبه يحيى بن معين و أبو حاتم الرازي و الدارقطني و اتهمه غير واحد منهم ابن عدي بوضع الحديث
و قد رواه البزار و أبو نعيم من حديث محمد بن الحجاج هذا و رواه ابن درستويهو أبو نعيم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وهذه الطريق أمثل من التي قبلها و فيه أن أبا بكر هو الذي أورد القصة بكمالها نظمها و نثرها بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم
و رواه الحافظ أبو نعيم من [ حديث أحمد بن موسى بن إسحاق الخطمي حدثنا علي بن الحسين بن محمد المخزومي حدثنا أبو الحاتم السجستاني حدثنا وهب بن جرير عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال : قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لهم : ما فعل حليف لكم يقال له قس بن ساعدة الإيادي ] و ذكر القصة مطولة
و أخبرنا [ الشيخ المسند الرحلة أحمد بن أبي طالب الحجار إجازة إن لم يكن سماعا قال : أجاز لنا جعفر بن علي الهمداني قال أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السلفي سماعا و قرأت على شيخنا الحافظ أبي عبد الله الذهبي أخبرنا أبوعلي الحسن بن علي بن أبي بكر الخلال سماع قال أنبأنا جعفر بن علي سماعا قال أنبأنا السلفي سماعا أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي أنبأنا أبو الفضل محمد بن أحمد ابن عيسى السعدي أنبأنا أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن علي المقرئ حدثنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن أحمد السعدي قاضي فارس حدثنا أبو داود سليمان بن سيف بن يحي بن درهم الطائي من أهل حران حدثنا أبو عمرو سعيد بن يربع عن محمد بن إسحاق حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه قال : كان الجارود بن المعلى بن حنش بن معلى العبدي نصرانيا حسن المعرفة بتفسير الكتب و تأويلها عالما بسير الفرس و أقاويلها بصيرا بالفلسفة و الطب ظاهر الدهاء و الأدب كامل الجمال ذا ثروة و مال و إنه قدم على النبي صلى الله عليه و سلم وافدا في رجال من عبد القيس ذوي آراء و أسنان و فصاحة و بيان و حجج و برهان فلما قدم على النبي صلى الله عليه و سلم وقف بين يديه و أشار إليه و أنشأ يقول :
( يا نبي الهدى أتتك رجال ... قطعت فدفدا و آلا فآلا )
( و طوت نحوك الصحاصح تهوى ... لا تعد الكلال فيك كلالا )
( كل بهماء قصر الطرف عنها ... أرقلها قلاصنا إرقالا )
( و طوتها العتاق يجمح فيها ... بكماة كأنجم تتلالا )
( تبتغي دفع بأس يوم عظيم ... هائل أوجع القلوب وهالا )
( و مزادا لمحشر الخلق طرا ... و فراقا لمن تمادى ضلالا )
( نحو نور من الإله و برها ... ن و بر و نعمة أن تنالا )
( خصك الله يا ابن آمنة الخـ ... ير بها إذ أتت سجالا سجالا )
( فاجعل الحظ منك يا حجة اللـ ... ه جزيلا لا حظ خلف أحالا )
قال : فأدناه النبي صلى الله عليه و سلم و قرب مجلسه و قال له : يا جارود لقد تأخر الموعد بك و بقومك
فقال الجارود : فداك أبي و أمي أما من تأخر عنك فقد فاته حظه و تلك أعظم حوبة و أغلظ عقوبة و ما كنت في من رآك أو سمع بك فعداك و اتيع سواك و إني الآن على دين قد علمت به قد جئتك و ها أنا تاركه لدينك أفذلك مما يمحص الذنوب و المآثم و الحوب و يرضى الرب عن المربوب ؟
فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا ضامن لك ذلك و أخلص الآن لله بالوحدانية و دع عنك دين النصرانية
فقال الجارود : فداك أبي و أمي مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أنك محمد عبده و رسوله
قال : فأسلم و أسلم معه أناس من قومه
فسر النبي صلى الله عليه و سلم بإسلامهم و أظهر من إكرامهم ما سروا به و ابتهجوا به
ثم أقبل عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الإيادي ؟
فقال الجارود : فداك أبي و أمي كلنا نعرفه و إني من بينهم لعالم بخبره واقف على أمره
كان قس يا رسول الله سبطا من أسباط العرب عمر ستمائة سنة تقفر منها خمسة عمار في البراري و القفار يضج بالتسبيح على مثال المسيح لا يقره قرار و لا تكنه دار و لا يستمتع به جار كان يلبس الأمساح ويفوق السياح و لا يفتر من رهبانيته يتحسى في سياحته بيض النعام و يأنس بالهوام و يستمتع بالظلام يبصر فيعتبر و يفكر فيختبر
فصار لذلك واحدا تضرب بحكمته الأمثال و تكشف به الأهوال أدرك رأس الحواريين سمعان
و هو أول رجل تأله من العرب ووحد و أقر و تعبد و أيقن بالبعث و الحساب و حذر سوء المآب و أمر بالعمل قبل الفوت و وعظ بالموت و سلم بالقضا على السخط و الرضا و زار القبور و ذكر النشور و ندب بالأشعار و فكر في الأقدار و أنبأعن السماء و النماء و ذكر النجوم و كشف الماء و وصف البحار و عرف الآثار و خطب راكبا و وعظ دائبا و حذر من الكرب ومن شدة الغضب و رسل الرسائل و ذكر كل هائل و أرغم في خطبه و بين في كتبه و خوف الدهر و حذر الأزر و عظم الأمر و جنب الكفر و شوق إلى الحنيفية و دعا إلى اللاهوتية
و هو القائل في يوم عكاظ : شرق و غرب و يتم و حزب و سلم و حرب و يابس و رطب و أجاج وعذب و شموس و أقمار ورياح وأمطار و ليل ونهار و إناث و ذكور و برار وبحور و حب ونبات و آباء و أمهات و جمع و أشتات و آيات في إثرها آيات و نور و ظلام و يسر وإعدام و رب و أصنام لقد ضل الأنام نشو مولود و وأد مفقود و تربية محصود و فقير وغني و محسن ومسيء نبا لأرباب الغفلة ليصلحن العامل عمله و ليفقدن الآمل أمله كلا بل هو إله واحد ليس بمولود ولا والد أعاد و أبدى و أمات و أحيا و خلق الذكر و الأنثى رب الآخرة والأولى
اما بعد : فيا معشر إياد أين ثمود وعاد ؟ و أين الآباء و الأجداد ؟ و أين العليل و العواد ؟ كل له معاد يقسم قس برب العباد و ساطح المهاد لتحشرن على الانفراد في يوم التناد إذا نفخ في الصور و نقر في الناقور و أشرقت الأرض و وعظ الواعظ فانتبذ القانط و أبصر اللاحظ فويل لمن صدف عن الحق الأشهر
و النور الأزهر و العرض الأكبر في يوم الفصل و ميزان العدل إذا حكم القدير و شهد النذير وبعد النصير و ظهر التقصير ففريق في الجنة و فريق في السعير
و هو القائل :
( ذكر القلب من جواه اد كار ... و ليال خلالهن نهار )
( و سجال هواطل من غمام ... ثرن ماء و في جواهن نار )
( ضوءها يطمس العيون و أرعا ... د شداد في الخافقين تطار )
( و قصور مشيدة حوت الخيـ ... ر و أخرى خلت فهن قفار )
( و جبال شوامخ راسيات ... و بحار مياههن غزار )
( و نجوم تلوح في ظلم الليـ ... ل نراها في كل يوم تدار )
( ثم شمس يحثها قمر الليـ ... ل و كل متابع موار )
( و صغير و أشمط و كبير ... كلهم في الصعيد يوما مزار )
( و كثير مما يقصر عنه ... حدسه الخاطر الذي لا يحار )
( فالذي قد ذكرت دل على اللـ ... ه نفوسا لها هدى و اعتبار )
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مهما نسيت فلست أنساه بسوق عكاظ واقفا على جبل أحمر يخطب الناس : اجتمعوا فاسمعوا و إذا سمعتم فعوا و إذا وعيتم فانتفعوا و قولوا إذا قلتم فاصدقوا من عاش مات و من مات فات و كل ما هو آت آت مطر و نبات و أحياء و أموات ليل داج و سماء ذات أبراج و نجوم تزهر و بحار تزخر و ضوء وظلام و ليل و أيام و بر وآثام إن في السماء خبرا و إن في الأرض عبرا يحار فيها البصرا مهاد موضوع و سقف مرفوع و نجوم تغور و بحار لا تغور و منايا دوان و دهر خوان كحد النسطاس و وزن القسطاس أقسم قس قسما لا كاذبا فيه و لا آثما لئن كان في هذا الأمر رضى ليكونن سخط ثم قال : أيها الناس إن لله دينا هو أحب إليه من دينكم هذا الذي انتم عليه و هذا زمانه وأوانه ثم قال : مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا ؟ أم تركوا فناموا ؟
و التفت رسول الله صلى الله عليه و سلم : إلى بعض أصحابه فقال : أيكم يروي شعره لنا ؟ فقال أبو بكر الصديق : فداك أبي و أمي أنا شاهد له في ذلك اليوم حيث يقول :
( في الذاهبين الأوليـ ... ن من القرون لنا بصائر )
( لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر )
( و رأيت قومي نحوها ... يمضي الأصاغر و الأكابر )
( لا يرجع الماضي إلي ... و لا من الباقين غابر )
( أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر )
قال : فقام إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم شيخ من عبد القيس عظيم الهامة طويل القامة بعيد ما بين المنكبين فقال : فداك أبي و أمي و أنا رأيت من قس عجبا
فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما الذي رأيت يا أخا بني عبد القيس ؟
فقال : خرجت في شبيبتي أربع بعيرا لي ند عني أقفو أثره في تنائف قفاف ذات ضغابيس و عرصات جثجاث بين صدور جذعان و غمير حوذان و مهمه ظلمان و رصيع أيهقان فبينا أنا في تلك الفلوات أجول بسبسبها و أرنق فدفدها إذا أنا بهضبة في نشزاتها أراك كباث مخضوضلة و أغصانها متهدلة كأن بزيرها حب الفلفل و بواسق أقحوان و إذا بعين خرارة و روضة مدهامة و شجرة عارمة و إذا أنا بقس بن ساعدة في أصل تلك الشجرة و بيده قضيب فدنوت منه وقلت له : أنعم صباحا فقال : و أنت فنعم صباحك و قد وردت العين سباع كثيرة فكان كلما ذهب سبع منها يشرب من العين قبل صاحبه ضربه قس بالقضيب الذي بيده و قال : اصبرحتى يشرب الذي قبلك فذعرت من ذلك ذعرا شديدا و نظر إلي فقال : لا تخف و إذا بقبرين بينهما مسجد فقلت : ما هذان القبران ؟ قال : قبرا أخوين كانا يعبدان الله عز و جل بهذا الموضع فأنا مقيم بين قبريهما أعبد الله بين قبريهما أعبد الله حتى ألحق بهما فقلت له : أفلا تلحق بقومك فتكون معهم في خيرهم و تباينهم على شرهم ؟ فقال لي : ثكلتك أمك ! أو ما علمت أن ولد إسماعيل تركوا دين أبيهم و اتبعوا الأضداد و عظموا الأنداد ؟ ! ثم أقبل على القبرين و أنشأ يقول :
( خليلي هبا طالما قد رقدتما ... أجد كما لا تفضيان كراكما )
( أرى النوم بين الجلد و العظم منكما ... كأن الذي يسقي العقار سقاكما )
( أمن طول نوم لا تجيبان داعيا ... كأن الذي يسقي العقار سقاكما )
( ألم تعلما أني بنجران مفردا ... و مالي فيه من حبيب سواكما )
( مقيم على قبريكما لست بارحا ... إياب الليالي أو يجيب صداكما )
( أبكيكما طول الحياة و ما الذي ... يرد على ذي لوعة أن بكاكما )
( فلو جعلت نفس لنفس امرئ فدى ... لجدت بنفسي أن تكون فداكما )
( كأنكما و الموت أقرب غاية ... بروحي في قبريكما قد أتاكما )
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : رحم الله قسا أما إنه سيبعث يوم القيامة أمة وحده ]
و هذا الحديث غريب جدا من هذا الوجه و هو مرسل إلا أن يكون الحسن سمعه من الجارود و الله أعلم
و قد رواه البيهقي و الحافظ أبو القاسم ابن عساكر من وجه آخر من حديث محمد ابن عيسى بن محمد بن سعيد القرشي الأخباري : حدثنا أبي حدثنا علي بن سليمان بن علي عن علي بن عبد الله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قدم الجارود بن عبد الله فذكر مثله أونحوه مطولا بزيادات كثيرة في نظمه و نثره و فيه ماذكر عن الذي ضل بعيره فذهب في طلبه قال : فبت في واد لا آمن فيه حتفي و لا أركن إلى غير سيفي أرقب الكوكب و أرمق الغيهب حتى إذا الليل عسعس و كاد الصبح أن يتنفس هتف بي هاتف يقول :
( يا أيها الراقد في الليل الأجم ... قد بعث الله نبيا في الحرم )
( من هاشم أهل الوفاء و الكرم ... يجلو دجيات الدياجي و البهم )
قال : فأردت طرفي فما رأيت له شخصا و لا سمعت له فحصا قال فأنشأت أقول :
( يا أيها الهاتف في داجي الظلم ... أهلا و سهلا بك من طيف ألم )
( بين هداك الله في لحن الكلم ... ماذا الذي تدعو إليه يغتنم ؟ )
قال : فإذا أنا بنحنحة و قائل يقول : ظهر النور و بطل الزور و بعث الله محمدا بالحبور صاحب النجيب الأحمر و التاج و المغفر و الوجه الأزهر و الحاجب الأقمر و الطرف الأحور صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله و ذلك محمد المبعوث إلى الأسود و الأبيض أهل المدر و الوبر ثم أنشأ يقول :
( الحمد لله الذي ... لم يخلق الخلق عبث )
( لم يخلنا يوما سدى ... من بعد عيسى و اكترث )
( أرسل فينا أحمدا ... خيرنبي قد بعث )
( صلى عليه الله ما ... حج له ركب و حث )
و فيه من إنشاء قس بن ساعدة :
( يا ناعي الموت و الملحود في جدث ... عليهم من بقايا ثوبهم خرق )
( دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم ... فهم إذا انتبهوا من نومهم أرقوا )
( حتى يعودوا بحال غير حالهم ... خلفا جديدا كما من قبله خلقوا )
( منهم عراة و منهم في ثيابهم ... منها الجديد و منها المنهج الخلق )
ثم رواه البيهقي عن أبي محمد بن عبد الله بن يوسف بن أحمد الأصبهاني حدثنا أبو بكر أحمد بن سعيد بن فرضخ الأخميمي بمكة حدثنا القاسم بن عبد الله بن مهدي حدثنا أبو عبد الله سعيد بن عبد الرحمن المخزومي حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر القصة و ذكر الإنشاد قال فوجدوا عند رأسه صحيفة فيها :
( يا ناعي الموت و الأموات في جدث ... عليهم من بقايا ثوبهم خرق )
( دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم ... كما ينبه من نوماته السعق )
( منهم عراة و موتى في ثيابهم ... منها الجديد و منها الأزرق الخلق )
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و الذي بعثني بالحق لقد آمن قس بالبعث ] و أصله مشهور و هذه الطرق على ضعفها كا لمتعاضدة على إثبات أصل القصة و قد تكلم أبو محمد بن درستوية على غريب ما وقع في هذا الحديث و أكثره ظاهر إن شاء الله تعالى و ما كان فيه غرابة شديدة نبهنا عليه في الحواشي
و قال البيهقي : [ أنبأنا أبو سعد سعيد بن محمد بن أحمد الشعيثي حدثنا أبو عمرو ابن أبي طاهر المحمد أباذي لفظا حدثنا أبو لبابة محمد بن الهدي الأبيوردي حدثنا أبي حدثنا سعيد بن هبيرة حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أنس بن مالك قال : قدم وفد إياد على النبي صلى الله عليه و سلم فقال : مافعل قس بن ساعدة ؟ قالوا هلك قال : أما إني سمعت منه كلاما ما أرى أني أحفظه فقال بعض القوم نحن نحفظه يا رسول الله قال : هاتوا فقال قائلهم : إنه وقف بسوق عكاظ فقال : يا أيها الناس استمعوا و اسمعوا و عوا كل من عاش مات و كل من مات فات و كل ما هو آت آت ليل داج و سماء ذات أبراج و نجوم تزهر و بحار تزخر و جبال مرساة و أنهار مجراة إن في السماء لخبرا و إن في الأرض لعبرا أرى الناس يموتون و لا يرجعون أرضوا بالإقامة فأقاموا أم تركوا فناموا ؟ ! أقسم قس قسما بالله لا آثم فيه إن لله دينا هو أرضىمما أنتم عليه ثم أنشأ يقول :
( في الذاهبين الأولـ ... ين من القرون لنا بصائر )
( لما رأيت مصارعا ... للقوم ليس لها مصادر )
( و رأيت قومي نحوها ... يمضي الكابر و الأصاغر )
( أيقنت أني لا محا ... له حيث صار القوم صائر ) ]
ثم ساقه البيهقي من طرق أخر قد نبهنا عليها فيما تقدم ثم قال بعد ذلك كله : وقد روى هذا الحديث عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس يزيادة و نقصان و روى من و جه آخر عن الحسن البصري منقطعا و روى مختصرا من حديث سعد بن أبي وقاص و أبي هريرة قلت : و عبادة بن الصامت كما تقدم و عبد الله بن مسعود كما رواه أبو نعيم في كتاب الدلائل عن عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطي عن أبي الوليد طريف ابن عبيد الله مولى على أبي طالب بالموصل عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود فذكره و ورى أبو نعيم أيضا حديث عبادة المتقدم و سعد بن أبي وقاص
ثم قال البيهقي : و إذا روى الحديث من أوجه أخر و إن كان بعضها ضعيفا دل على للحديث أصلا و الله أعلم (1/141)
هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح ابن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي
و كان الخطاب والد عمر بن الخطاب عمه و أخاه لأمه و ذلك لأن عمرو بن نفيل كان قد خلف على امرأة أبيه بعد أبيه و كان لها من نفيل أخوه الخطاب قاله الزبير ابن بكار و محمد بن إسحاق (1/153)
و كان زيد بن عمرو قد ترك عبادة الأوثان و فارق دينهم و كان لا يأكل إلا ما ذبح على اسم الله وحده
قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق : حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول : يا معشر قريش و الذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري ثم يقول : اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به و لكني لا أعلم ثم يسجد على راحلته و كذا رواه أبو أسامة عن هشام به و زاد : و كان يصلي إلى الكعبة و يقول : إلهي إله إبراهيم و ديني دين إبراهيم
و كان يحيي الموءودة و يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته : لا تقتلها ادفعها إلي أكفلها فإذا ترعرعت فخذها و إن شئت فادفعها
أخرجه النسائي من طريق أبي أسامة و علقه البخاري فقال : و قال الليث : كتب إلي هشام بن عروة عن أبيه به
و قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق : و قد كان نفر من قريش : زيد بن عمرو ابن نفيل و ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى و عثمان بن الحويرث بن أسد ابن عبد العزى و عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير ابن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة و أمه أميمة بنت عبد المطلب و أخته زينب بنت جحش التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد مولاه زيد بن حارثة كما سيأتي بيانه حضروا قريشا عند وثن لهم كانوا يذبحون عنده لعيد من أعيادهم فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى البعض و قالوا : تصادقوا و ليتكم بعضكم على بعض فقال قائلهم : تعلمن و الله ما قومكم على شيء لقد أخطأوا دين إبراهيم و خالفوه ما وثن يعبد لا يضر و لا ينفع ؟ ! فابتغوا لأنفسكم
فخرجوا يطلبون و يسيرون في الأرض الحنيفية دين إبراهيم
فأما ورقة بن نوفل فتنصر و استحكم في النصرانية و ابتعى الكتب من أهلها حتى علم علما كثيرا من أهل الكتاب
و لم يكن فيهم أعدل أمرا و أعدل ثباتا من زيد بن عمرو بن نفيل اعتزل الأوثان و فارق الأديان من اليهود و النصارى و الملل كلها إلا دين الحنيفية دين إبراهيم يوحد الله و يخلع من دونه و لا يأكل ذبائح قومه فآذاهم بالفراق لما هم فيه (1/154)
قال : و كان الخطاب قد آذاه كثيرا حتى خرج منه إلى أعلى مكة و وكل به الخطاب شبابا من قريش و سفهاء من سفهائهم فقال : لا تتركوه يدخل مكة فكان لا يدخلها إلا سرا منهم فإذا علموا به أخرجوه و آذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم أو يتابعه أحد إلى ما هو عليه
و قال موسى بن عقبة : سمعت من أرضى يحدث عن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم و يقول : الشاة خلقها الله و أنزل لها من السماء ماء و أنبت لها من الأرض لم تذبحوها على غير اسم الله ؟ إنكارا لذلك و إعظاما له
و قال يونس عن ابن إسحاق : و قد كان زيد بن عمرو بن نفيل قد عزم على الخروج من مكة ليضرب في الأرض يطلب الحنينفية دين إبراهيم و كانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما أبصرته قد نهض للخروج و أراده آذنت الخطاب بن نفيل
فخرج زيد إلى الشام يلتمس و يطلب في أهل الكتاب الأول دين إبراهيم و يسأل عنه و لم يزل في ذلك فيما يزعمون حتى أتى الموصل و الجزيرة كلها ثم أقبل حتى أتى الشام فجال فيها حتى أتى راهبا ببيعة من أرض البلقاء كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم فقال له الراهب : إنك لتسأل عن دين ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم لقد درس من عليه و ذهب من كان يعرفه و لكنه قد أظل خروج نبي و هذا زمانه و قد كان شام اليهودية و النصرانية فلم يرض شيئا منها فخرج سريعا حين قال له الراهب ما قال يريد مكة حتى إذا كان بأرض لخم عدوا عليه فقتلوه فقال ورقة يريثه :
( رشدت و أنعمت ابن عمرو و إنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا )
( بدينك ربا ليس رب كمثله ... وتركك أوثان الطواغي كما هيا )
( و قد تدرك الإنسان رحمة ربه ... و لو كان تحت الأرض سبعين واديا ) (1/155)
و قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة : حدثنا أحمد بن طارق الوابشي حدثنا عمرو بن عطية عن أبيه عن ابن عمر عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يتأله في الجاهلية فانطلق حتى أتى رجلا من اليهود فقال له أحب أن تدخلني معك في دينك فقال له اليهودي : لا أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من غضب الله فقال : من غضب الله أفر
فانطلق حتى أتى نصرانيا فقال له : أحب أن تدخلني معك في دينك فقال لست أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من الضلالة فقال : من الضلالة أفر قال له النصراني : فإني أدلك على دين إن تبعته اهتديت قال : أي دين ؟ قال : دين إبراهيم قال : فقال اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم عليه أحيا و عليه أموت قال : فذكر شأنه للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ هو أمة وحدة يوم القيامة ]
و قد روى موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر نحو هذا
و قال محمد بن سعد : حدثنا علي بن محمد بن عبد الله بن سيف القرشي عن إسماعيل عن مجالد عن الشعبي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال : قال زيد بن عمرو بن نفيل : شاممت اليهودية و النصرانية فكرهتهما فكنت بالشام و ما والاها حتى أتيت راهبا في صومعة فذكرت له اغترابي عن قومي و كراهتي عبادة الأوثان و اليهودية و النصرانية فقال له : أراك تريد دين إبراهيم يا أخا أهل مكة إنك لتطلب دينا ما يوجد اليوم أحد يدين به و هو دين أبيك إبراهيم كان حنيفا لم يكن يهوديا و لانصرانيا كان يصلي و يسجد إلى هذا البيت الذي ببلادك فالحق ببلدك فإن الله يبعث من قومك في بلدك من يأتي بدين إبراهيم الحنيفية و هو أكرم الخلق على الله و قال يونس عن ابن إسحاق حدثني بعض آل زيد بن عمرو بن نفيل : أن زيدا كان إذا دخل الكعبة قال : لبيك حقا حقا تعبدا ورقا عذت بما عاذ به إبراهم مستقبل القبلة و هو قائم إذ قال إلهي أنفي لك عان راغم مهما تجشمنى فإني جاشم البر أبغى لا الخال ليس مهجر كمن قال (1/156)
و قال أبو داود الطيالسي : حدثنا المسعودي عن نفيل بن هشام بن سعيد بن زيد ابن عمرو بن نفيل العدوي عن أبيه عن جده أن زيد بن عمرو و ورقة بن نوفل خرجا يلتمسان الدين حتى انتهيا إلى راهب بالموصل فقال لزيد بن عمرو : من أين أقبلت يا صاحب البعير ؟ فقال : من بنيه إبراهيم فقال : و ما تلتمس ؟ قال : ألتمس الدين قال : ارجع فإنه يوشك أن يظهر في أرضك
قال : فأما ورقة فتنصر و أما أنا فعزمت على النصرانية فلم يوافقني فرجع و هو يقول :
لبيك حقا حقا تعبدا ورقا البر أبغى لا الخال فهل مهجر كمن قال ؟ !
آمنت بما آمن به إبراهيم و هو يقول : أنفي لك عان راغم مهما تجشمني فإني جاشم ثم يخر فيسجد
قال و جاء ابنه يعني سعيد بن زيد أحد العشرة رضي الله عنه : يا رسول الله إن أبي كما رأيت و كما بلغك فاستغفر له قال : [ نعم فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده ] (1/157)
قال : و أتى زيد بن عمرو بن زيد على رسول الله صلى الله عليه و سلم و معه زيد بن حارثة و هما يأكلان من سفرة لهما فدعواه لطعامهما فقال زيد بن عمرو : يا ابن أخي أنا لا آكل مما ذبح على النصب
قال محمد بن سعد : حدثنا محمد بن عمرو حدثني أبو بكر بن أبي سبرة عن موسى ابن ميسرة عن ابن أبي مليكة عن حجر بن أبي إهاب قال : رأيت زيد بن عمرو و أنا عند صنم بوانة بعدما رجع من الشام و هو يراقب الشمس فإذا زالت استقبل الكعبة فصلى ركعة سجدتين ثم يقول : هذه قبلة إبراهيم و إسماعيل لا أعبد حجرا و لا أصلي له و لا آكل ما ذبح له و لا أستقسم الأزلام و إنما أصلي لهذا البيت حتى أموت و كان يحج فيقف بعرفة و كان يلبي فيقول : لبيك لا شريك لك و لا ند لك ثم يدفع من عرفة ماشيا و هو يقول : لبيك متعبدا مرقوقا (1/158)
و قال الواقدي : حدثني علي بن عيسى الحكمي عن أبيه عن عامر بن ربيعة قال : سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول : أنا أنتظر نبيا من ولد إسماعيل ثم من بني عبد المطلب و لا أراني أدركه و أنا أومن به و أصدقه و أشهد أنه نبي فإن طالت بك مدة فرأيته فأقرئه مني السلام و سأخبرك ما نعته حتى لا يخفى عليك قلت : هلم
قال : هو رجل ليس بالطويل و لا بالقصير و لا بكثير الشعر و لا بقليله و ليست تفارق عينه حمرة و خاتم النبوة بين كتفيه و اسمه أحمد و هذا البلد مولده و مبعثه ثم يخرجه قومه منها و يكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره فإياك أن تخدع عنه فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم فكان من أسأل من اليهود و النصارى و المجوس يقولون : هذا الدين وراءك و ينعتونه مثل ما نعته لك يقولون : لم يبق نبي غيره
قال عامر بن ربيعة : فلما أسلمت أخبرت رسول الله صلى الله عليه و سلم قول زيد بن عمرو و إقرائه منه السلام فرد علي السلام و ترحم عليه و قال : [ قد رأيته في الجنة يسحب ذيول ]
و قال البخاري في صحيحه : ذكر زيد بن عمرو بن نفيل : حدثني محمد بن أبي بكر حدثنا فضيل بن سليمان حدثنا موسى بن عقبة حدثنا سالم عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه و سلم الوحي فقدمت إلى النبي صلى الله عليه و سلم سفرة فأبى أن يأكل منها ثم قال لزيد : [ إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم و لا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه ] و إن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم و يقول : الشاة خلقها الله و أنزل لها من السماء الماء و أنبت لها من الأرض ثم تذبحوها على غير اسم الله إنكارا لذلك و إعظاما له (1/159)
قال موسى بن عقبة : و حدثني سالم بن عبد الله و لا أعلمه إلا تحدث به عن ابن عمر أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين و يتبعه فلقى عالما من اليهود فسأله عن دينهم فقال : إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني فقال : إنك لا تكون على ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله : قال زيد : و ما أفر إلا من غضب الله تعالى و لا أحمل من غضب الله شيئا و لا أستطيعه فهل تدلني على غيره ؟ قال : ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا قال زيد : و ما الحنيف ؟ قال دين إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا و لا نصرانيا و لا يعبد إلا الله
فخرج زيد فلقى عالما من النصارى فذكر مثله فقال : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله قال : ما أفر إلا من لعنة الله و لا أحمل من لعنة الله و لا من غضبه شيئا أبدا و لا أستطيع فهل تدلني على غيره ؟ قال : ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا قال : و ما الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم لم يكن يهوديا و لا نصرانيا و لا يعبد إلا الله
فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج فلما برز رفع يديه فقال : اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم
قال : قال الليث : كتب إلي هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة يقول : يا معشر قريش و الله ما منكم على دين إبراهيم غيري و كان يحيي الموءودة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته : لا تقتلها أنا أكفيك مؤنتها فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها : إن شئت دفعتها إليك و إن شئت كفيتك مؤنتها انتهى ما ذكره البخاري
و هذا الحديث الأخير قد أسنده الحافظ ابن عساكر من طريق أبي بكر بن أبي داود عن عيسى بن حماد عن الليث عن هشام عن أبيه عن أسماء فذكر نحوه
و قال عبد الرحمن بن أبي الزناد : عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء قالت : سمعت زيد بن عمرو بن نفيل و هو مسند ظهره إلى الكعبة يقول : يا معشر قريش إياكم و الزنا فإنه يورث الفقر (1/118)
و قد ساق ابن عساكر هاهنا أحاديث غريبة جدا و في بعضها نكارة شديدة
ثم أورد من طرق متعددة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يبعث يوم القيامة أمة وحده ] فمن ذلك ما رواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة [ حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار حدثنا يحيى بن سعيد الأموي عن مجالد عن الشعبي عن جابر قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه كان يستقبل القبلة في الجاهلية و يقول : إلهي إله إبراهيم و ديني دين إبراهيم و يسجد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يحشر ذاك أمة وحده بيني و بين عيسى بن مريم ] إسناده جيد حسن
و قال الواقدي : حدثني موسى بن شيبة عن خارجة بن عبد الله بن كعب بن مالك قال سمعت سعيد بن المسيب يذكر زيد بن عمرو بن نفيل فقال : توفي و قريش تبني الكعبة قبل أن ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه و سلم بخمس سنين و لقد نزل به و إنه ليقول أنا على دين إبراهيم (1/161)
فأسلم ابنه سعيد بن زيد و اتبع رسول الله صلى الله عليه و سلم و أتى عمر بن الخطاب و سعيد بن زيد رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألاه عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال : [ غفر الله له و رحمه فإنه مات على دين إبراهيم ] قال : فكان المسلمون بعد ذلك اليوم لا يذكره ذاكر منهم إلا ترحم عليه و استغفر له ثم يقول سعيد بن المسيب : رحمه الله و غفر له
و قال محمد بن سعد عن الواقدي : حدثني زكريا بن يحيى السعدي عن أبيه قال : مات زيد بن عمرو بن نفيل بمكة و دفن بأصل حراء
و قد تقدم أنه مات بأرض البلقاء من الشام لما عدا عليه قوم من بني لخم فقتلوه بمكان يقال له ميفعة و الله أعلم
و قال الباغندي : [ عن أبي سعيد الأشج عن أبي معاوية عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو ابن نفيل دوحتين ] و هذا إسناد جيد و ليس هو في شيء من الكتب
و من شعر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله :
( إلى الله أهدي مدحتي و ثنائيا ... و قولا رضيا لا يني الدهر باقيا )
( إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه ... إله و لا رب يكون مدانيا )
و قد قيل إنها لأمية بن أبي الصلت و الله أعلم
و من شعره في التوحيد ما حكاه محمد بن إسحاق و الزبير بن بكار و غيرهما :
( و أسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا )
( دحاها فلما استوت شدها ... سواء وأرسى عليها الجبالا )
( و أسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا )
( إذا هي سيقت إلى بلدة ... أطاعت فصبت عليها سجالا )
( و أسلمت و جهي لمن أسلمت ... له الريح تصرف حالا فحالا )
و قال محمد بن إسحاق : حدثني هشام بن عروة قال : روى أبي أن زيد بن عمرو قال :
( أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور )
( عزلت اللات و العزى جميعا ... كذلك يفعل الجلد الصبور )
( فلا العزى أدين و لا ابنتيها ... و لا صنمي بني عمرو أزور )
( و لا غنما أدين و كان ربا ... لنا في الدهر إذ حلمي يسير )
( عجبت و في الليالي معجبات ... و في الأيام يعرفها البصير )
( بأن الله قد أفنى رجالا ... كثيرا كان شأنهم الفجور )
( و أبقى آخرين ببر قوم ... فيربل منهم الطفل الصغير )
( و بينا المرء يعثر ثاب يوما ... كما يتروح الغصن النضير )
( و لكن أعبد الرحمن ربي ... ليغفر ذنبي الرب الغفور )
( فتقوى الله ربكم احفظوها ... متى ما تحفظوها لا تبوروا )
( ترى الأبرار دارهم جنان ... و للكفار حامية سعير )
( و خزي في الحياة و إن يموتوا ... يلاقوا ما تضيق به الصدور )
هذا تمام ما ذكره محمد بن إسحاق من هذه القصيدة و قد رواه أبو القاسم البغوي عن مصعب بن عبد الله عن الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال : قال هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت : قال زيد بن عمرو بن نفيل :
( عزلت الجن و الجنان عني ... كذلك يفعل الجلد الصبور )
( فلا العزى أدين و لا ابنتيها ... و لا صنمي بني طسم أدير )
( و لا غنما أدين و كان ربا ... لنا في الدهر إذ حلمي صغير )
( أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور )
( ألم تعلم بأن الله أفنى ... رجالا كان شأنهم الفجور )
( و أبقي آخرين ببر قوم ... فيربو منهم الطفل الصغير )
( و بينا المرء يعثر ثاب يوما ... كما يتروح الغصن النضير ) (1/162)
قالت : فقال ورقة بن نوفل :
( رشدت و أنعمت ابن عمرو و إنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا )
( لدينك ربا ليس رب كمثله ... و تركك جنان الجبال كما هيا )
( أقول إذا أهبطت أرضا مخوفة ... حنانيك لا تظهر على الأعاديا )
( حنانيك إن الجن أنت رجاؤهم ... و أنت إلهي ربنا و رجائيا )
( لتدركن المرء رحمة ربه ... و إن كان تحت الأرض سبعين واديا )
( أدين لرب يستجيب و لا أرى ... أدين لمن لا يسمع الدهر داعيا )
( أقول إذا صليت في كل بيعة ... تباركت قد أكثرت باسمك داعيا )
تقدم أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام هو و ورقة بن نوفل و عثمان بن الحويرث و عبيد الله بن جحش فتنصروا إلا زيدا فإنه يدخل في شيء من الأديان بل بقى على فطرته من عبادة الله وحده لا شريك له متبعا ما أمكنه من دين إبراهيم على ما ذكرناه
و أما ورقة بن نوفل فسيأتي خبره في أول المبعث
و أما عثمان بن الحويرث فأقام بالشام حتى مات فيها عند قيصر و له خبر عجيب ذكره الأموي و مختصره : أنه لما قدم على قيصر فشكا إليه ما لقي من قومه كتب له إلى ابن جفنة ملك عرب الشام ليجهز معه جيشا لحرب قريش فعزم على ذلك فكتبت إليه الأعراب تنهاه عن ذلك لما رأوا من عظمة مكة و كيف فعل الله بأصحاب الفيل فكساه ابن جفنة قميصا مصبوغا مسموما فمات من سمه فرثاه زيد بن عمرو بن نفيل بشعر ذكره الأموي تركناه اختصارا
و كانت وفاته قبل المبعث بثلاث سنين أو نحوها و الله سبحانه و تعالى أعلم (1/164)
و قد قيل : إن أول من بناه آدم و جاء في ذلك حديث مرفوع عن عبد الله بن عمرو و في سنده ابن لهيعة و هو ضعيف
و أقوى الأقوال أن أول من بناه الخليل عليه السلام كما تقدم و كذلك رواه سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب قال : ثم تهدم فبنته العمالقة ثم تهدم فبنته جرهم ثم تهدم فبنته قريش
قال : سيأتي بناء قريش له و ذلك قبل المبعث بخمس سنين و قيل بخمس عشرة سنة و قال الزهري : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد بلغ الحلم و سيأتي ذلك كله في موضعه إن شاء الله و به الثقة
ذكر كعب بن لؤي
روى أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة عن محمد بن طلحة التيمي عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي سلمة قال : كان كعب بن لؤي يجمع قومه يوم الجمعة و كانت قريش تسميه العروبة فيخطبهم فيقول : أما بعد فاسمعوا و تعلموا و افهموا و اعلموا ليل ساج و نهار ضاح و الأرض مهاد و السماء بناء و الجبال أوتاد و النجوم أعلام و الأولون كالآخرين و الأنثى و الذكر و الزوج و ما يهيج إلى بلى فصلوا أرحامكم و احفظوا أصهاركم و ثمروا أموالكم فهل رأيتم من هالك رجع ؟ أو ميت نشر ؟ الدار أمامكم و الظن غير ما تقولون حرمكم زينوه و عظموه و تمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم و سيخرج منه نبي كريم ثم يقول :
( نهار و ليل كل يوم بحادث ... سواء علينا ليلها و نهارها )
( يؤوبان بالأحداث حين تأوبا ... و بالنعم الضافي علينا ستورها )
( على غفلة يأتي النبي محمد ... فيخبر أخبارا صدوق خبيرها )
ثم يقول : و الله لو كنت فيها ذا سمع و بصر و يد و رجل لتنصبت فيها تنصب الجمل و لأرقلت فيها إرقال الفحل ثم يقول :
( يا ليتني شاهدا فحواء دعوته ... حين العشيرة تبغي الحق خذلانا )
قال : و كان بين موت كعب بن لؤي و مبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خمسمائة عام و ستون سنة (1/166)
على يدي عبد المطلب بن هاشم التي كان قد درس رسمها بعد طم جرهم لها إلى زمانه
قال محمد بن إسحاق : ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر إذ أتى فأمر بحفر زمزم
و كان أول ما ابتدى به عبد المطلب من حفرها كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الله بن ذرير الغافقي أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يحدث حديث زمزم حين أمر عبد المطلب بحفرها قال : قال عبد المطلب : إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال لي : احفر طيبة قال : قلت وما طيبة ؟ قال : ثم ذهب عني
قال : فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال : احفر برة قال : قلت و ما برة ؟ قال : ثم ذهب عني
فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال : احفر المضنونة قال قلت : و ما المضنونة ؟ قال : ثم ذهب عني
فلما كان الغد ذهبت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال : احفر زمزم قال : قلت و ما زمزم ؟ قال : لا تنزف أبدا و لا تذم تسقي الحجيج الأعظم و هي بين الفرث و الدم عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل
قال : فلما بين لي شأنها و دل على موضعها و عرف أنه قد صدق غدا بمعوله و معه ابنه الحارث بن عبد المطلب و ليس له يومئذ ولد غيره فحفر فيها فلما بدا لعبد المطلب الطي كبر فعرفت قريش أنه أدرك حاجته فقاموا إليه فقالوا : يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل و إن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها قال : ما أنا بفاعل إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم و أعطيته من بينكم قالوا له : فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها قال : فاجعلوا بيني و بينكم من شئتم أحاكمكم إليه قالوا : كاهنة بني سعيد بن هذيم قال : نعم و كانت بأشراف الشام
فركب عبد المطلب و معه نفر من بني أمية و ركب من كل قبيلة من قريش نفر فخرجوا و الأرض إذ ذاك مفاوز حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب و أصحابه فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة فاستسقوا من معهم فأبوا عليهم و قالوا : إنا بمفازة و إنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم فقال عبد المطلب : إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه حتى يكون آخرهم رجلا واحدا فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه فقالوا : نعم ما أمرت به
فحفر كل رجل لنفسه حفرة ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا
ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه : والله إنا إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض و لا نبتغي لأنفسنا لعجز فعسى الله أن يرزقنا ماء في بعض البلاد ارتحلوا فارتحلوا حتى إذ بعث عبد المطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب فكبر عبد المطلب و كبر أصحابه ثم نزل فشرب و شرب أصحابه و استسقوا حتى ملأوا أسقيتهم ثم دعا قبائل قريش و هم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال فقال : هلموا إلى الماء فقد سقانا الله فجاءوا فشربوا و استقوا كلهم ثم قالوا : قد و الله قضي لك علينا والله ما نخاصمك في زمزم أبدا إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم فارجع إلى سقايتك راشدا
فرجع و رجعوا معه و لم يصلوا إلى الكاهنة و خلوا بينه و بين زمزم
قال : ابن إسحاق : فهذا ما بلغني عن علي بن أبي طالب في زمزم
قال ابن اسحاق : و قد سمعت من يحدث عن عبد المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم :
( ثم ادع بالماء الروي غير الكدر ... يسقي حجيج الله في كل مبر )
( ليس يخاف منه شيء ما عمر )
قال : فخرج عبد المطلب حين قيل له ذلك إلى قريش فقال : تعلوا أني قد أمرت أن أحفر زمزم قالوا : فهل بين لك أين هي ؟ قال : لا قالوا : فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت فإن يك حقا من الله يبين لك و إن يك من الشيطان فلن يعود إليك فرجع ونام فأتى فقيل له :
احفر زمزم إنك إن حفرتها لن تندم و هي تراث من أبيك الأعظم و لا تنزف أبدا ولا تذم تسقي الحجيج الأعظم مثل نعام جافل لم يقسم ينذر فيها ناذر لمنعم تكون ميراثا و عقدا محكم ليست كبعض ما قد تعلم و هي بين الفرث و الدم
قال ابن إسحاق : فزعموا أن عبد المطلب حين قيل له ذلك قال : و أين هي ؟ قيل له عند قرية النمل حيث ينقر الغراب غدا فالله أعلم أي ذلك كان
قال : فغدا عبد المطلب و معه ابنه الحارث و ليس له يومئذ ولد غيره زاد الأموي : و مولاه أصرم فوجد قرية النمل و وجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين إساف و نائلة اللذين كانت قريش تنحر عندهما فجاء بالمعول و قام ليحفر حيث أمر فقامت إليه قريش و قالت : والله لا نتركك تحفر بين وثنينا اللذين ننحر عندهما فقال عبد المطلب لابنه الحارث : ذد عني حتى أحفر فوالله لأمضين لما أمرت به فلما عرفوا أنه غير نازع خلوا بينه و بين الحفر و كفوا عنه فلم يحفر إلا يسيرا حتى بدى له الطي فكبر و عرف أنه قد صدق (1/167)
فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين من ذهب اللذين كانت جرهم قد دفنتهما و وجد فيها أسيافا قلعية و أدراعا
فقالت له قريش : يا عبد المطلب لنا معك في هذا شرك و حق قال : لا و لكن هلم إلى أمر نصف بيني و بينكم نضرب عليها بالقداح قالوا : و كيف نصنع ؟ قال : أجعل للكعبة قدحين و لي قدحين و لكم قدحين فمن خرج قدحاه على شيء كان له و من تخلف قدحاه فلا شيء له قالوا أنصفت فجعل للكعبة قدحين أصفرين و له أسودين و لهم أبيضين ثم أعطوا القداح للذي يضرب عند هبل ـ و هبل أكبر أصنامهم و لهذا قال أبو سفيان يوم أحد : أعل هبل يعني هذا الصنم ـ و قام عبد المطلب يدعوا الله
و ذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن عبد المطلب جعل يقول :
( اللهم أنت الملك المحمود ... ربي أنت المبدئ المعيد )
( و ممسك الراسية الجلمود ... من عندك الطارف و التليد )
( إن شئت ألهمت كما تريد ... لموضع الحلية والحديد )
( فبين اليوم لما تريد ... إني نذرت العاهد المعهود )
( اجعله رب لي فلا أعود )
قال : و ضرب صاحب القداح فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة و خرج الأسودان على الأسياف و الأدراع لعبد المطلب و تخلف قدحا قريش فضرب عبد المطلب الأسياف بابا للكعبة و ضرب في الباب الغزالين من ذهب فكان أول ذهب حليته الكعبة فيما يزعمون
ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحاج وذكر ابن اسحاق و غيره أن مكة كان فيها بئار كثيرة قبل ظهور زمزم في زمن عبد المطلب ثم عددها ابن إسحاق و سماها و ذكر أماكنها من مكة و حافريها إلى أن قال : فعفت زمزم على البئار كلها و انصرف الناس كلهم إليها لمكانها من المسجد الحرام و لفضلها على ما سواها من المياه و لأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم و افتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها و على سائر العرب (1/171)
و قد ثبت في صحيح مسلم في حديث إسلام أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في زمزم : [ إنها لطعام طعم و شفاء سقم ]
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الله بن الوليد عن عبد الله بن المؤمل عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ماء زمزم لما شرب منه ]
و قد رواه ابن ماجة من حديث عبد الله بن المؤمل و قد تكلموا فيه و لفظه : [ ماء زمزم لما شرب له ] و رواه سويد بن سعيد [ عن عبد الله بن المبارك عن عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ماء زمزم لما شرب له ] و لكن سويد بن سعيد ضعيف و المحفوظ عن ابن المبارك عن عبد الله بن المؤمل كما تقدم و قد رواه الحاكم [ عن ابن عباس مرفوعا : ماء زمزم لما شرب له ] و فيه نظر و الله أعلم
و هكذا روى ابن ماجه و الحاكم [ عن ابن عباس أنه قال لرجل : إذا شربت من زمزم فاستقبل الكعبة و اذكر اسم الله و تنفس ثلاثا و تضلع منها فإذا فرغت فاحمد الله فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن آية ما بيننا و بين المنافقين لا يتضلعون من ماء زمزم ] (1/172)
و قد ذكر عن عبد المطلب أنه قال : اللهم إني لا أحلها لمغتسل و هي لشارب حل و بل
و قد ذكره بعض الفقهاء عن العباس بن عبد المطلب و الصحيح أنه عن عبد المطلب نفسه فإنه هو الذي جدد حفر زمزم كما قدمنا و الله أعلم
و قد قال الأموي في مغازيه : حدثنا أبو عبيد أخبرني يحي بن سعيد عن عبد الرحمن بن حرملة سمعت سعيد بن المسيب يحدث أن عبد المطلب بن هاشم حين احتفر زمزم قال : لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل و بل و ذلك أنه جعل لها حوضين حوضا للشرب و حوضا للوضوء فعند ذلك قال : لا أحلها لمغتسل لينزه المسجد عن ان يغتسل فيه
قال أبو عبيد : قال الأصمعي : قوله [ و بل ] اتباع قال أبو عبيد : و الإتباع لا يكون بواو العطف و إنما هو كما قال معتمر بن سليمان أن [ بل ] بلغة حمير : مباح
ثم قال أبو عبيد : حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود أنه سمع زرا أنه سمع العباس يقول : لا أحلها لمغتسل و هي لشارب حل و بل و حدثنا عبد الرحمن ابن مهدي حدثنا سفيان عن عبد الرحمن بن علقمة أنه سمع ابن عباس يقول ذلك و هذا صحيح إليهما و كأنهما يقولان ذلك في أيامهما على سبيل التبليغ و الإعلام بما اشترطه عبد المطلب عند حفره لها فلا ينافي ما تقدم و الله أعلم
و قد كانت السقاية إلى عبد المطلب أيام حياته ثم صارت إلى ابنه أبي طالب مدة ثم اتفق أنه أملق في بعض السنين فاستدان من أخيه العباس عشرة آلاف إلى الموسم الآخر و صرفها أبو طالب في الحجيج في عامه فيما يتعلق بالسقاية فلما كان العام المقبل لم يكن مع أبي طالب شيء فقال لأخيه العباس : أسلفني أربعة عشر ألفا أيضا إلى العام المقبل أعطيك جميع مالك فقال له العباس : بشرط إن لم تعطني تترك السقاية لي أكفكها فقال : نعم
فلما جاء العام الآخر لم يكن مع أبي طالب ما يعطي العباس فترك له السقاية فصارت إليه ثم بعده صارت إلى عبد الله و لده ثم إلى علي بن عبد الله بن عباس ثم إلى داوود ابن علي ثم إلى سليمان بن علي ثم إلى عيسى بن علي ثم أخذها المنصور و استناب عليها مولاه أبا رزين ذكره الأموي (1/173)
قال ابن إسحاق : و كان عبد المطلب فيما يزعمون نذر حين لقي من قريش ما لقي عند حفر زمزم لئن و لد له عشرة نفر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ليذبحن أحدهم لله عند الكعبة
فلما تكامل بنوه عشرة و عرف أنهم سيمنعونه و هم : الحارث و الزبير و حجل و ضرار و المقوم و أبو لهب و العباس و حمزة و أبو طالب و عبد الله جمعهم ثم أخبرهم بنذره و دعاهم إلى الوفاء لله عز و جل بذلك فأعطوه و قالوا : كيف نصنع ؟ قال : ليأخذ كل رجل منكم قدحا ثم يكتب فيه اسمه ثم ائتوني
ففعلوا ثم أتوه فدخل بهم على هبل في جوف الكعبة و كانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة و كان عند هبل قداح سبعة و هي الأزلام التي يتحاكمون إليها إذا أعضل عليهم أمر من عقل أونسب أو أمر من الأمور جاءوه فاستقسموا بها فما أمرتهم به أو نهتهم عنه امتثلوه
و المقصود أن عبد المطلب لما جاء يستقسم بالقداح عند هبل خرج القدح على ابنه عبد الله و كان أصغر و لده و أحبهم إليه فأخذ عبد المطلب بيد ابنه عبد الله و أخذ الشفرة ثم أقبل به إلى إساف و نائلة ليذبحه فقامت إليه قريش من أنديتها فقالوا : ما تريد يا عبد المطلب ؟ قال أذبحه فقالت له : قريش و بنوه إخوة عبد الله : و الله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه لئن فعلت هذا لا يزال الرجل يجيء بابنه حتى يذبحه فما بقاء الناس على هذا ؟ !
و ذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن العباس هو الذي اجتذب عبد الله من تحت رجل أبيه حين و ضعها عليه ليذبحه فيقال إنه شج و جهه شجا لم يزل في وجهه إلى أن مات
ثم أشارت قريش على عبد المطلب أن يذهب إلى الحجاز فإن بها عرافة لها تابع فيسألها عن ذلك ثم أنت على رأس أمرك إن أمرتك بذبحه فاذبحه و إن أمرتك بأمر لك و له فيه مخرج قبلته
فانطلقوا حتى أتوا المدينة فوجدوا العرافة و هي سجاح فيما ذكره يونس بن بكير عن ابن إسحاق بخيبر فركبوا حتى جاءوها فسألوها و قص عليها عبد المطلب خبره و خبر ابنه فقالت لهم : ارجعوا عني اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله
فرجعوا من عندها فلما خرجوا قام عبد المطلب يدعوا الله ثم غدوا عليها فقالت لهم قد جاءني الخبر كم الدية فيكم ؟ قالوا : عشر من الإبل و كانت كذلك قالت : فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم و قربوا عشرا من الإبل ثم اضربوا عليها و عليه بالقداح فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم و إن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضى ربكم و نجا صاحبكم
فخرجوا حتى قدموا مكة فلما أجمعوا على ذلك الأمر قام عبد المطلب يدعوا الله ثم قربوا عبد الله و عشرا من الإبل ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله فزادوا عشرا فلم يزالوا يزيدون عشرا و يخرج القدح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل فقالت عند ذلك قريش لعبد المطلب و هو قائم عند هبل يدعوا الله : قد انتهى رضي ربك يا عبد المطلب فعندها زعموا أنه قال : لا حتى أضرب عليها بالقداح ثلاث مرات
فضربوا ثلاثا و يقع القدح فيها على الإبل فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان و لا يمنع قال ابن هشام و يقال : و لا سبع
و قد روى أنه لما بلغت الإبل مائة خرج القدح على عبد الله أيضا فزادوا مائة أخرى حتى بلغت مائتين فخرج القدح على عبد الله فزادوا مائة أخرى فصارت الإبل ثلاثمائة ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل فنحرها عند ذلك عبد المطلب و الصحيح الأول و الله أعلم (1/174)
و قد روى ابن جرير عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن يونس ابن يزيد عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن ابن عباس سألته امرأة أنها نذرت ذبح ولدها عند الكعبة فأمرها بذبح مائة من الإبل و ذكر لها هذه القصة عن عبد المطلب و سألت عبد الله بن عمر فلم يفتها بشيء بل توقف فبلغ ذلك مروان بن الحكم و هو أمير على المدينة فقال : إنهما لم يصيبا الفتيا ثم أمر المرأة أن تعمل ما استطاعت من خير و نهاها عن ذبح ولدها ولم يأمرها بذبح الإبل و أخذ الناس بقول مروان بذلك و الله أعلم
ذكر تزويج عبد المطلب ابنه عبد الله من آمنة بنت وهب الزهرية
قال ابن إسحاق : ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد ابنه عبد الله فمر به فيما يزعمون على امرأة من بني أسد بن عبد العزى بن قصي و هي أم قتال أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي و هي عند الكعبة فنظرت إلى و جهه فقالت : أين تذهب يا عبد الله ؟ قال : مع أبي قالت : لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع علي الآن قال : أنا مع أبي و لا أستطيع خلافه و لا فراقه
فخرج به عبد المطلب حتى أتى وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر و هو يومئذ سيد بني زهرة سنا و شرفا فزوجه ابنته آمنة بنت وهب و هي يومئذ سيدة نساء قومها
فزعموا أنه دخل عليها حين أملكها مكانه فوقع عليها فحملت منه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم خرج من عندها فأتى االمرأة التي عرضت عليه ما عرضت فقال لها : مالك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت بالأمس ؟ قالت له : فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك حاجة و كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل و كان قد تنصر و اتبع الكتب أنه كائن في هذه الأمة نبي فطمعت أن يكون منها فجعله الله تعالى في أشرف عنصر و أكرم محتد و أطيب أصل كما قال تعالى { الله أعلم حيث يجعل رسالته } و سنذكر المولد مفصلا
و مما قالت أم قتال بنت نوفل من الشعر تتأسف على ما فاتها من الأمر الذي رامته و ذلك فيما رواه البيهقي من طريق يونس بن بكير عن محمد ابن إسحاق رحمه الله :
( عليك بآل زهرة حيث كانوا ... و آمنة التي حملت غلاما )
( ترى المهدي حين نزا عليها ... و نورا قد تقدمه أماما )
إلى أن قالت :
( فكل الخلق يرجوه جميعا ... يسود الناس مهتديا إماما )
( براه الله من نور صفاه ... فأذهب نوره عن الظلاما )
( و ذلك صنع ربك إذ حباه ... إذا ما سار يوما أو أقاما )
( فيهدى أهل مكة بعد كفر ... و يفرض بعد ذلكم الصياما )
و قال أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي : حدثنا علي بن حرب حدثنا محمد ابن عمارة القرشي حدثنا مسلم بن خالد الزنجي حدثنا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : لما انطلق عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجه مر به على كاهنة من أهل تبالة متهودة قد قرأت الكتب يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية فرأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت يا فتى هل لك أن تقع علي الآن و أعطيك مائة من الإبل ؟ فقال عبد الله :
( أما الحرام فالممات دونه ... و الحل لا حل فأستبينه )
( فكيف بالأمر الذي تبغيه )
ثم مضى مع أبيه فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فأقام عندها ثلاثا ـ ثم إن نفسه دعته إلى ما دعته إليه الكاهنة فأتاها فقالت : ما صنعت بعدي ؟ فأخبرها فقالت : و الله ما أنا بصاحبة ريبة و لكني رأيت في وجهك نورا فأردت أن يكون في و أبى الله إلا أن يجعله حيث أراد ثم أنشأت فاطمة تقول :
( إني رأيت مخيلة لمعت ... فتلألأت بخناتم القطر )
( فلمأتها نورا يضيء له ... ما حوله كإضاءة البدر )
( و رجوتها فخرا أبوء به ... ما كل قادح زنده يوري )
( لله ما زهرية سلبت ... ثوبيك ما استلبت و ما تدري )
و قالت فاطمة أيضا :
( بني هاشم قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه يعتركان )
( كما غادر المصباح عند خموده ... فتائل قد ميثت له بدهان )
( و ما كل ما يحوي الفتى من تلاده ... بحزم و لا فاته لتواني )
( فأجمل إذا طالبت أمرا فإنه ... سيكفيكه جدان يعتلجان )
( سيكفيكه إما يد مقفعلة ... و إما يد مبسوطة ببنان )
( و لما حوت منه أمينة ما حوت ... حوت منه فخرا ما لذلك ثان )
و روى الإمام أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة من طريق يعقوب بن محمد الزهري عن عبد العزيز بن عمران عن عبد الله بن جعفر عن ابن عون عن المسور بن مخرمة عن ابن عباس قال : إن عبد المطلب قدم اليمن في رحلة الشتاء فنزل على حبر من اليهود قال : فقال لي رجل من أهل الديور ـ يعني أهل الكتاب ـ : يا عبد المطلب أتأذن لي أن أنظر إلى بعضك ؟ قال : نعم إذا لم يكن عورة قال : ففتح إحدى منخزي فنظر فيه ثم نظر في الآخر فقال : أشهد أن في إحدى يديك ملكا و في الأخرى نبوة و إنا نجد ذلك في بني زهرة فكيف ذلك ؟ قلت : لا أدري قال : هل لك من شاعة ؟ قال و ما الشاعة ؟ قال : زوجة قلت : أما اليوم فلا قال : فإذا رجعت فتزوج فيهم
فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فولدت حمزة و صفية ثم تزوج عبد الله بن عبد المطلب أمنة بنت وهب فولدت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت قريش حين تزوج عبد الله بآمنة : فلج أي فاز و غلب عبد الله على أبيه عبد المطلب (1/176)
قال الله تعالى : { الله أعلم حيث يجعل رسالته }
و لما سأل هرقل ملك الروم لأبي سفيان تلك الأسئلة عن صفاته عليه الصلاة و السلام قال : كيف نسبه فيكم ؟ قال : هو فينا ذو نسب قال : كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها يعني في أكرمها و أكثرها قبيلة صلوات الله عليهن أجمعين
فهو سيد ولد آدم و فخرهم في الدنيا و الآخرة أبو القاسم و أبو إبراهيم محمد و أحمد و الماحي الذي يمحي به الكفر و العاقب الذي ما بعده نبي الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه و المقفي و نبي الرحمة و نبي التوبة و نبي الملحمة و خاتم النبين و الفاتح و طه و يس و عبد الله
قال البيهقي : و زاد بعض العلماء فقال : سماه الله في القرآن رسولا نبيا أميا شاهدا مبشرا نذيرا و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا و رءوفا رحيما و مذكرا و جعله رحمة و نعمة و هاديا
و سنورد الأحاديث المروية في أسمائه عليه الصلاة و السلام في باب نعقده بعد فراغ السيرة فإنه قد وردت أحاديث كثيرة في ذلك اعتنى بجمعها الحافظان الكبيران أبو بكر البيهقي و أبو القاسم بن عساكر و أفرد الناس في ذلك مؤلفات حتى رام بعضهم أن يجمع له عليه الصلاة و السلام ألف اسم و أما الفقيه الكبير أبو بكر بن العربي المالكي شارح الترمذي بكتابه الذي سماه عارضة الأحوذى فإنه ذكر من ذلك أربعة و ستين اسما و الله أعلم (1/183)
و هو ابن عبد الله و كان أصغر ولد أبيه عبد المطلب و هو الذبيح الثاني المفدي بمائة من الإبل كما تقدم
قال الزهري : و كان أجمل رجال قريش و هو أخو الحارث و الزبير و حمزة و ضرار و أبي طالب و اسمه عبد مناف و أبي لهب و اسمه عبد العزى و المقوم و اسمه عبد الكعبة و قيل هما اثنان و حجل و اسمه المغيرة و الغيداق و هو كثير الجود و اسمه نوفل و يقال إنه حجل فهؤلاء أعمامه عليه الصلاة و السلام
و عماته ست و هن : أروى و برة و أميمة و صفية و عاتكة و أم حكيم ـ و هي البيضاء ـ و سنتكلم على كل منهم فيما بعد إن شاء الله تعالى
كلهم أولاد عبد المطلب و اسمه شيبة يقال : لشيبة كانت في رأسه و يقال له شيبة الحمد لجوده و إنما قيل له عبد المطلب لأن أباه هاشما لما مر بالمدينة في تجارته إلى الشام نزل على عمرو بن زيد بن لبيد بن حرام بن خداش بن خندف بن عدي بن النجار الخررجي النجاري و كان سيد قومه فأعجبته ابنته سلمى فخطبها إلى أبيه فزوجها منه و اشترط عليه مقامها عنده و قيل : بل اشترط عليه أن لا تلد إلا عنده بالمدينة فلما رجع من الشام بنى بها و أخذها معه إلى مكة فلما خرج في تجارة أخذها معه و هي حبلى فتركها بالمدينة و دخل الشام فمات بغزة و وضعت سلمى ولدها فسمته شيبة فأقام عند أخواله بني عدي بن النجار سبع سنين
ثم جاء عمه المطلب بن عبد مناف فأخذه خفية من أمه فذهب به إلى مكة فلما رآه الناس و رأوه على الراحلة قالوا : من هذا معك ؟ قال : عبدي ثم جاءوا فهنئوه به و جعلوا يقولون له عبد المطلب لذلك فغلب عليه
و ساد في قريش سيادة عظيمة و ذهب بشرفهم و رئاستهم فكان جماع أمرهم عليه و كانت إليه السقاية و الرفادة بعد المطلب و هو الذي جدد حفر زمزم بعد ما كانت مطمومة من عهد جرهم و هو أول من طلى الكعبة بذهب في أبوابها من تينك الغزالتين من ذهب اللتين وجدهما في زمزم مع تلك الأسياف القلعية (1/184)
قال ابن هشام : و عبد المطلب أخو أسد و نضلة و أبي صيفي و حية و خالدة و رقية و الشفاء و ضعيفة كلهم أولاد هاشم و اسمه عمرو و إنما سمى هاشما لهشمه الثريد مع اللحم لقومه في سنى المحل كما قال مطرود بن كعب الخزاعي في قصيدته و قيل للزبعري والد عبد الله :
( عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... و رجال مكة مسنتون عجاف )
( سنت إليه الرحلتان كلاهما ... سفر الشتاء و رحلة الأصياف )
و ذلك لأنه أول من سن رحلتي الشتاء و الصيف و كان أكبر ولد أبيه و حكى ابن جرير أنه كان توأم أخيه عبد شمس و أن هاشما خرج و رجله ملتصقة برأس عبد شمس فما تخلصت حتى سال بينهما دم فقال الناس : بذلك يكون بين أولادهما حروب فكانت وقعة بني العباس مع بني أمية بن عبد شمس سنة ثلاث و ثلاثين و مائة من الهجرة
و شقيقهم الثالث المطلب و كان المطلب أصغر ولد أبيه و أمهم عاتكة بنت مرة ابن هلال
و رابعهم نوفل من أم أخرى و هي واقدة بنت عمر المازنية و كانوا قد سادوا قومهم بعد أبيهم و صارت إليهم الرياسة و كان يقال لهم المجيرون و ذلك لأنهم أخذوا لقومهم قريش الأمان من ملوك الأقاليم ليدخلوا في التجارات إلى بلادهم فكان هاشم قد أخذ أمانا من ملوك الشام و الروم و غسان و أخذ لهم عبد شمس من النجاشي الأكبر ملك الحبشة و أخذ لهم نوفل من الأكاسرة و أخذ لهم المطلب أمانا من ملوك حمير و لهم يقول الشاعر :
( يا أيها الرجل المحول رحله ... إلا نزلت بآل عبد مناف )
و كان إلى هاشم السقاية و الرفادة بعد أبيه و إليه و إلى أخيه المطلب نسب ذوي القربى و قد كانوا شيئا واحدا في حالتي الجاهلية و الإسلام لم يفترقوا و دخلوا معهم في الشعب و انخذل عنهم بنو عبد شمس و نوفل و لهذا يقول أبو طالب في قصيدته :
( جزى الله عنا عبد شمس و نوفلا ... عقوبة شر عاجلا غير أجل )
و لا يعرف بنو أب تباينوا في الوفاة مثلهم فإن هاشما مات بغزة من أرض الشام و عبد شمس مات بمكة و نوفل مات بسلمان من أرض العراق و مات المطلب و كان يقال له القمر لحسنه بردمان من طريق اليمن فهؤلاء الإخرة الأربعة المشاهير و هم هاشم و عبد شمس و نوفل و المطلب
و لهم أخ خامس ليس بمشهور و هو أبو عمرو و اسمه عبد و أصل اسمه عبد قصي فقال الناس عبد بن قصي درج و لا عقب له قاله الزبير بن بكار و غيره (1/158)
و أخوات ست و هن تماضر و حية و ريطة و قلابة و أم الأخثم و أم سفيان
كل هؤلاء أولاد عبد مناف و مناف اسم صنم و أصل اسم عبد مناف المغيرة و كان قد رأس في زمن والده و ذهب به الشرف كل مذهب و هو أخو عبد الدار الذي كان أكبر ولد أبيه و إليه أوصى بالمناصب كما تقدم و عبد العزى و عبد وبرة و تخمر و أمهم كلهم حبى بنت حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي و أبوها آخر ملوك خزاعة و ولاة البيت منهم
و كلهم أولاد قصي و اسمه زيد و إنما سمى بذلك لأن أمه تزوجت بعد أبيه بربيعة ابن حرام بن عذرة فسافر بها إلى بلاده و ابنها صغير فسمى قصيا لذلك ثم عاد إلى مكة و هو كبير و لم شعث قريش و جمعها من متفرقات البلاد و أزاح يد خزاعة عن البيت و أجلاهم عن مكة و رجع الحق إلى نصابه و صار رئيس قريش على الإطلاق و كانت إليه الرفادة و السقاية و هو سنها و السدانة و الحجابة و اللواء و داره دار الندوة كما تقدم بسط ذلك كله و لهذا قال الشاعر :
( قصي لعمري كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر )
و هو أخو زهرة كلاهما ابن كلاب أخي تيم و يقظة أبي مخزوم ثلاثتهم أبناء مرة أخي عدي و هصيص
و هم أبناء كعب و هو الذي كان يخطب قومه كل جمعة و يبشرهم بمبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم و ينشد في ذلك أشعارا كما قدمنا و هو أخو عامر و سامة و خزيمة و سعد و الحارث و عوف سبعتهم أبناء لؤي أخي تيم الأدرم و هما أبناء غالب أخي الحارث و محارب (1/187)
ثلاثتهم أبناء فهر و هو أخو الحارث و كلاهما ابن مالك و هو أخو الصلت و يخلد و هم بنو النضر الذي إليه جماع قريش على الصحيح كما قدمنا الدليل عليه و هو أخو مالك و ملكان و عبد مناة و غيرهم كلهم أولاد كنانة أخي أسد و أسدة و الهون أولاد خزيمة و هو أخو هذيل و هما ابنا مدركة و اسمه عمرو أخو طابخة و اسمه عامر و قمعة ثلاثتهم أبناء الياس و أخو الياس هو عيلان والد قيس كلها و هما ولدا مضر أخي ربيعة و يقال لهما الصريحان من ولد إسماعيل و أخواهما أنمار و إياد تيامنا أربعتهم أبناء نزار أخي قضاعة في قول طائفة ممن ذهب إلى أن قضاعة حجازية عدنانية و قد تقدم بيانه كلاهما أبناء معد بن عدنان
و هذا النسب بهذه الصفة لا خلاف فيه بين العلماء فجميع قبائل عرب الحجاز ينتهون إلى هذا النسب و لهذا قال ابن عباس و غيره في قوله تعالى : { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا في المودة في القربى } : لم يكن بطن من بطون قريش إلا و لرسول الله صلى الله عليه و سلم نسب يتصل بهم
و صدق ابن عباس رضي الله عنه فيما قال و أزيد مما قال و ذلك أن جميع قبائل العرب العدنانية تنتهي إليه بالآباء و كثير منهم بالأمهات أيضا كما ذكره محمد بن إسحاق و غيره في أمهاته و أمهات آبائه و أمهاتهم ما يطول ذكره
و قد حرره ابن إسحاق رحمه الله و الحافظ ابن عساكر
و قد ذكرنا في ترجمة عدنان نسبه و ما قيل فيه و أنه من ولد إسماعيل لا محالة و إن اختلف في كم أب بينهما ؟ على أقوال قد بسطناهما فيما تقدم و الله أعلم
و قد ذكرنا بقية النسب من عدنان إلى آدم و أوردنا قصيدة أبي العباس الناشئ المتضمنة ذلك كل ذلك في أخبار عرب الحجاز و لله الحمد
و قد تكلم الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه بن في أول تاريخه على ذلك كلاما مبسوطا جيدا محررا نافعا (1/188)
و قد ورد حديث في انتسابه عليه السلام إلى عدنان و هو على المنبر و لكن الله أعلم بصحته كما قال الحافظ أبو بكر البيهقي : [ أنبأنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن حفص المقرئ ببغداد حدثنا أبو عيسى بكار بن أحمد بن بكار حدثنا أبو جعفر أحمد ابن موسى بن سعد إملاء سنة ست و تسعين و مائتين حدثنا أبو جعفر محمد بن أبان القلانسي حدثنا أبو محمد بن ربيعة القدامي حدثنا مالك بن أنس عن الزهري عن أنس و عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال : بلغ النبي صلى الله عليه و سلم أن رجالا من كندة يزعمون أنهم منه و أنه منهم فقال إنما كان يقول ذلك العباس و أبو سفيان بن حرب فيأمنا بذلك و إنا لن ننتفي من آبائنا نحن بنو النضر ابن كنانة ]
قال : و خطب النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ابن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار و ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية و خرجت من نكاح و لم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي و أمي فأنا خيركم نفسا و خيركم أبا ]
و هذا حديث غريب جدا من حديث مالك تفرد به القدامى و هو ضعيف ولكن سنذكر له شواهد من وجوه أخر
فمن ذلك قوله [ خرجت من نكاح لا من سفاح ] قال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه أبي جعفر الباقر في قوله تعالى { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إني خرجت من نكاح و لم أخرج من سفاح ]
و هذا مرسل جيد
و هكذا رواه البيهقي [ عن الحاكم عن الأصم عن محمد ابن إسحاق الصنعاني عن يحيى بن أبي بكير عن عبد الغفار بن القاسم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله أخرجني من النكاح و لم يخرجني من السفاح ]
و قد رواه ابن عدي موصولا فقال : [ حدثنا أحمد بن حفص حدثنا محمد بن أبي عمرو العدني المكي حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال أشهد على أبي حدثني عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : خرجت من نكاح و لم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي و أمي و لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء ]
هذا غريب من هذا الوجه و لا يكاد يصح
و قال هشيم : [ حدثنا المديني عن أبي الحويرث عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما ولدني من نكاح أهل الجاهلية شيء ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام ]
و هذا أيضا غريب أورده الحافظ ابن عساكر ثم أسنده من حديث أبي هريرة و في إسناده ضعف و الله أعلم
و قال محمد بن سعد : [ أخبرنا محمد بن عمر حدثنى محمد بن عبد الله بن مسلم عن عمه الزهري عن عروة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ولدت من نكاح غير سفاح ]
ثم أورد ابن عساكر من حديث أبي عاصم عن شبيب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : { و تقلبك في الساجدين } قال : من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبيا و رواه عن عطاء
و قال محمد بن سعد : أخبرنا هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال : كتبت للنبي صلى الله عليه و سلم خمسمائة أم فما وجدت فيهن سفاحا و لا شيئا مما كان من أمر الجاهلية (1/189)
و ثبت في صحيح البخاري من [ حديث عمرو بن أبي عمرو عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه ]
و في صحيح مسلم من [ حديث الأوزاعي عن شداد أبي عمار عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل و اصطفى من بني إسماعيل بني كنانة و اصطفى من بني كنانة قريشا و اصطفى من قريش بني هاشم و اصطفاني من بني هاشم ]
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا أبو نعيم عن سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن أبي وداعة قال : قال العباس : بلغه صلى الله عليه و سلم بعض ما يقول الناس قال : فصعد المنبر فقال : من أنا ؟ قالوا : أنت رسول الله قال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه و جعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة و خلق القبائل فجعلني في خير قبيلة و جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا فأنا خيركم بيتا و خيركم نفسا ] صلوات الله و سلامه عليه دائما أبدا إلى يوم الدين
و قال يعقوب بن سفيان : [ حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن العباس بن عبد المطلب قال : قلت يا رسول الله إن قريشا إذا التقوا لقى بعضهم بعضا بالبشاشة و إذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم عند ذلك غضبا شديدا ثم قال : و الذي نفس محمد بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله و لرسوله
فقلت : يا رسول الله إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله يوم خلق الخلق جعلني في خيرهم ثم لما فرقهم قبائل جعلني في خيرهم قبيلة ثم حين جعل البيوت جعلني في خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا و خيرهم بيتا ]
و رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي فضيل عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن ربيعة بن الحارث قال : بلغ النبي صلى الله عليه و سلم فذكره بنحو ما تقدم و لم يذكر العباس
و قال يعقوب بن سفيان : [ حدثني يحيى بن عبد الحميد حدثني قيس بن عبد الله عن الأعمش عن عليلة بن ربعي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما فذلك قوله : { و أصحاب اليمين } { و أصحاب الشمال } فأنا من أصحاب اليمين و أنا خير أصحاب اليمين ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا فذلك قوله { و أصحاب الميمنة } { و السابقون السابقون } فأنا من السابقين و أنا خير السابقين
ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة فذلك قوله : { و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } و أنا أتقي ولد آدم و أكرمهم على الله و لا فخر
ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا و ذلك قوله : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا } فأنا و أهل بيتي مطهرون من الذنوب ]
و هذا الحديث فيه غرابة و نكارة
و روى الحاكم و البيهقي من حديث محمد بن ذكوان خال ولد حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن ابن عمر قال : إنا لقعود بفناء النبي صلى الله عليه و سلم إذ مرت به امرأة فقال بعض القوم : هذه ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أبو سفيان : مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه و سلم
فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرف في وجهه الغضب فقال : [ ما بال أقوال تبلغني عن أقوام ؟ ! إن الله خلق السموات سبعا فاختار العلياء منها فأسكنها من شاء من خلقه ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم و اختار من بني آدم العرب و اختار من العرب مضر و اختار من مضر قريشا و اختار من قريش بني هاشم و اختارني من بني هاشم فأنا خيار من خيار فمن أحب العرب فبحبي أحبهم و من أبغض العرب فببغضي أبغضهم ]
هذا أيضا حديث غريب
و ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أنا سيد ولد آدم يوم القيامة و لا فخر ]
و روى الحاكم و البيهقي أيضا من [ حديث موسى بن عبيدة حدثنا عمرو بن عبد الله ابن نوفل عن الزهري عن أبي أسامة أو أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قال لي جبريل : قلبت الأرض من مشارقها و مغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد و قلبت الأرض مشارقها و مغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم ]
قال الحافظ البيهقي : و هذه الأحاديث و إن كان في روايتها من لا يحتج به فبعضها يؤكد بعضا و معنى جميعها يرجع إلى حديث واثلة بن الأسقع و الله أعلم (1/191)
قلت : و في هذا المعنى يقول أبو طالب يمتدح النبي صلى الله عليه و سلم :
( إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ... فعبد مناف سرها و صميمها )
( فإن حصلت أشراف عبد منافها ... ففي هاشم أشرافها و قديمها )
( و إن فخرت يوما فإن محمدا ... هو المصطفى من سرها و كريمها )
( تداعت قريش غثها و سمينها ... علينا فلم تظفر و طاشت حلومها )
( و كنا قديما لا نقر ظلامة ... إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها )
( و نحمي حماها كل يوم كريهة ... و نضرب عن أحجارها من يرومها )
( بنا انتعش العود الذواء و إنما ... بأكنافنا تندى و تنمى أرومها ) (1/194)
و قال أبو السكن زكريا بن يحيى الطائي في الجزء المنسوب إليه المشهور : حدثني عمر بن أبي زحر بن حصين عن جده حميد بن منهب قال : قال جدي خريم بن أوس : هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقدمت عليه منصرفه من تبوك فأسلمت فسمعت العباس بن عبد المطلب يقول : يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قل لا يفضض الله فاك ] فأنشأ يقول :
( من قبلها طبت في الظلال و في ... مستودع حيث يخصف الورق )
( ثم هبطت البلاد لا بشر أنـ ... ت و لا مضغة و لا علق )
( بل نطفة تركب السفين و قد ... ألجم نسرا و أهله الغرق )
( تنقل من صلب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق )
( حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطق )
( و أنت لما ولدت أشرقت الأر ... ض و ضاءت بنورك الأفق )
( فنحن في ذلك الضياء و في الـ ... نور و سبل الرشاد نخترق )
و قد روى هذا الشعر لحسان بن ثابت
فروى الحافظ أبو القاسم بن عساكر من [ طريق أبي الحسن بن أبي الحديد : أخبرنا محمد بن أبي نصر أنبانا عبد السلام بن محمد بن أحمد القرشي حدثنا أبو حصين محمد ابن إسماعيل بن محمد التميمي حدثنا محمد بن عبد الله الزاهد الخراساني حدثني إسحاق ابن إبراهيم بن سنان حدثنا سلام بن سليمان أبو العباس المكفوف المدائني حدثنا ورقاء بن عمر عن ابن أبي نجيح عن عطاء و مجاهد عن ابن عباس قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : فداك أبي و أمي أين كنت و آدم في الجنة ؟ قال : فتبسم حتى بدت نواجذه ثم قال : كنت في صلبه و ركب بي السفينة في صلب أبي نوح و قدف بي في صلب أبي إبراهيم لم يلتق أبواي على سفاح قط لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسيبة إلى الأرحام الطاهرة صفيا مهذبا لا تتشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما و قد أخذ الله بالنبوة ميثاقي و بالإسلام عهدي و نشر في التوراة و الإنجيل ذكري و بين كل نبي صفتي تشرق الأرض بنوري و الغمام بوجهي و علمني كتابه و زادني شرفا في سمائه و شق لي اسما من أسمائه فذو العرش محمود و أنا محمد و أحمد و وعداني أن يحبوني بالحوض و الكوثر و أن يجعلني أول شافع و أول مشفع ثم أخرجني من خير قرن لأمتي و هم الحمادون يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر ] (1/195)
قال ابن عباس : فقال حسان بن ثابت في النبي صلى الله عليه و سلم :
( من قبلها طبت في الظلال و في ... مستودع يوم يخصف الورق )
( ثم سكنت البلاد لا بشر أنـ ... ت و لا نطفة و لا علق )
( مطهر تركب السفين و قد ... ألجم نسرا و أهله الغرق )
( تنقل من صلب إلى رحم ... إذا مضى طبق بدا طبق )
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ يرحم الله حسانا ] فقال علي بن أبي طالب : وجبت الجنة لحسان و رب الكعبة
ثم قال الحافظ ابن عساكر : هذا حديث غريب جدا
قلت : بل منكر جدا و المحفوظ أن هذه الأبيات للعباس رضي الله عنه ثم أوردها من حديث أبي السكن زكريا بن يحيى الطائي كما تقدم
قلت : و من الناس من يزعم أنها للعباس بن مرداس السلمي فالله أعلم (1/196)
تبنيه : قال القاضي عياض في كتابه الشفاء : [ و أما أحمد الذي أتى في الكتب و بشرت به الأنبياء فمنع الله بحكمته أن يسمى به أحد غيره و لا يدعى به مدعو قبله حتى لا يدخل لبس على ضعيف القلب أو شك
و كذلك محمد أيضا لم يسم به أحد من العرب و لا غيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده و ميلاده أن نبيا يبعث اسمه محمد فسمى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو و الله أعلم حيث يجعل رسالته
و هم : محمد بن أحيحة بن الجلاح الأوسي و محمد بن مسلمة الأنصاري و محمد بن براء البكري و محمد بن سفيان بن مجاشع و محمد بن حمران الجعفي و محمد بن خزاعي السلمي لا سابع لهم
و يقال إن أول من سمى محمدا محمد بن سفيان بن مجاشع و اليمن تقول : بل محمد بن اليحمد من الأزد
ثم إن الله حمى كل من تسمى به أن تدعى النبوة أو يدعيها له أحد أو يظهر عليه سبب يشكك أحدا في أمره حتى تحققت الشيمتان له صلى الله عليه و سلم لم ينازع فيهما ] هذا لفظه (1/197)
و لد صلوات الله عليه و سلامه يوم الاثنين
لما رواه مسلم في صحيحه من [ حديث غيلان بن جرير عن عبد الله بن معبد الزاماني عن أبي قتادة أن أعرابيا قال : يا رسول الله ما تقول في صوم يوم الاثنين ؟ فقال : ذلك يوم ولدت فيه و أنزل علي فيه ]
و قال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن حنش الصنعاني عن ابن عباس قال : ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين و استنبئ يوم الاثنين و خرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين و قدم المدينة يوم الاثنين و توفي يوم الاثنين و رفع الحجر يوم الاثنين
تفرد به أحمد و رواه عمرو بن بكير عن ابن لهيعة و زاد : نزلت سورة المائدة يوم الاثنين { اليوم أكملت لكم دينكم }
و هكذا رواه بعضهم عن موسى بن داود و زاد أيضا : و كانت وقعة بدر يوم الاثنين و ممن قال هذا يزيد بن حبيب و هذا منكر جدا
قال ابن عساكر : و المحفوظ أن بدرا و نزول { اليوم أكملت لكم دينكم } يوم الجمعة و صدق ابن عساكر
و ورى عبد الله بن عمر عن كريب عن ابن عباس : ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين و توفي يوم الاثنين و هكذا روى من غير هذا الوجه عن ابن عباس أنه ولد يوم الاثنين
و هذا لا خلاف فيه أنه ولد صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين (1/198)
و أبعد بل أخطأ من قال : ولد يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من ربيع الأول نقله الحافظ ابن دحية فيما قرأه في كتاب إعلام الروى بأعلام الهدى لبعض الشيعة ثم شرع ابن دحية في تضعيفه و هو جدير بالتضعيف إذ هو خلاف النص
ثم الجمهور على أن ذلك كان في شهر ربيع الأول فقيل : لليلتين خلتا منه قاله ابن عبد البر في الاستيعاب و رواه الواقدي عن أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني
و قال لثمان خلون منه حكاه الحميدي عن ابن حزم و رواه مالك و عقيل و يونس ابن يزيد و غيرهم عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم
و نقل ابن عبد البر عن أصحاب التاريخ أنهم صححوه و قطع به الحافظ الكبير محمد ابن موسى الخوارزمي و رجحه الحافظ أبو الخطاب بن دحية في كتابه : التنوير في مولد البشر النذير
و قيل لعشر خلون منه نقله ابن دحية في كتابه و رواه ابن عساكر عن أبي جعفر الباقر و رواه مجالد عن الشعبي كما مر
و قيل لثنتي عشرة خلت منه نص عليه ابن إسحاق و رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عفان عن سعيد بن ميناء عن جابر و ابن عباس أنهما قالا و لد رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول و فيه بعث و فيه عرج به إلى السماء و فيه هاجر و فيه مات و هذا هو المشهور عند الجمهور و الله أعلم
و قيل لسبعة عشر خلت منه : كما نقله ابن دحية عن بعض الشيعة
و قيل لثمان بقين منه : نقله ابن دحية من خط الوزير أبي رافع ابن الحافظ أبي محمد ابن حزم عن أبيه و الصحيح عن ابن حزم الأول أنه لثمان مضين منه كما نقله عنه الحميدي و هو أثبت
و القول الثاني : أنه ولد في رمضان نقله ابن عبد البر عن الزبير بن بكار و هو قول غريب جدا و كان مستنده أنه عليه الصلاة و السلام أوحي إليه في رمضان بلا خلاف و ذلك على رأس أربعين سنة من عمره فيكون مولده في رمضان و هذا فيه نظر و الله أعلم
و قد روى خيثمة بن سلمان الحافظ عن خلف بن محمد كردوس الواسطي عن المعلى بن عبد الرحمن عن عبد الحميد بن جعفر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين في ربيع الأول و أنزلت عليه النبوة يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول و أنزلت عليه البقرة يوم الاثنين في ربيع الأول
و هذا غريب جدا رواه ابن عساكر (1/199)
قال الزبير بن بكار : حملت به أمه في أيام التشريق في شعب أبي طالب عند الحجرة الوسطى و ولد بمكة بالدار المعروفة بدار محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان
و رواه الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن عثمان بن عقبة بن مكرم عن المسيب ابن شريك عن شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده قال : حمل برسول الله صلى الله عليه و سلم في يوم عاشوراء في المحرم و ولد يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة ثلاث و عشرين من غزوة أصحاب الفيل
و ذكر غيره أن الخيزران و هي أم هارون الرشيد لما حجت أمرت ببناء هذه الدار مسجدا فهو يعرف بها اليوم (1/200)
و ذكر السهيلي أن مولده عليه الصلاة و السلام كان في العشرين من نيسان و هذا أعدل الزمان و الفصول و ذلك لسنة اثنتين و ثمانين و ثمانمائة لذي القرنين فيما ذكر أصحاب الزيج
و زعموا أن الطالع كان لعشرين درجة من الجدي و كان المشتري و زحل مقترنين في ثلاث درج من المقرب و هي درجة وسط السماء و كان موافقا من البروج الحمل و كان ذلك عن طلوع القمر أول الليل نقله كله ابن دحية و الله أعلم
قال ابن إسحاق : و كان مولده عليه الصلاة و السلام عام الفيل
و هذا هو المشهور عن الجمهور قال إبراهيم بن المنذر الحزامي : و هو الذي لا يشك فيه أحد من علمائنا أنه عليه الصلاة و السلام ولد عام الفيل و بعث على رأس أربعين سنة من الفيل
و قد رواه البيهقي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل
و قال محمد بن إسحاق : حدثني المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قيس بن مخرمة قال ولدت أنا و رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل كنا لدين
قال : و سأل عثمان رضي الله عنه قباث بن أشيم أخا بني يعمر بن ليث : أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : رسول الله أكبر مني و أنا أقدم منه في الميلاد و رأيت خزق الفيل أخضر محيلا و رواه الترمذي و الحاكم من حديث محمد ابن إسحاق به
قال ابن إسحاق : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عام عكاظ ابن عشرين سنة
و قال ابن إسحاق : كان الفجار بعد الفيل بعشرين سنة و كان بناء الكعبة بعد الفجار بخمس عشرة سنة و المبعث بعد بنائها بخمس سنين
و قال محمد بن جبير بن مطعم : كانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة سنة و بناء الكعبة بعد عكاظ بعشر سنين و المبعث بعد بنائها بخمس عشرة سنة
و روى الحافظ البيهقي من حديث عبد العزيز بن أبي ثابت المديني : حدثنا الزبير ابن موسى عن أبي
الحويرث قال : سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني ثم الليثي : يا قباث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم أكبر مني و أنا أسن ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل و وقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله و تنبأ رسول الله صلى الله عليه و سلم على رأس أربعين سنة
و قال يعقوب بن سفيان : حدثنا يحي بن عبد الله بن بكير حدثنا نعيم يعني ابن ميسرة عن بعضهم عن سويد بن غفلة أنه قال : أنا لدة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولدت عام الفيل
قال البيهقي : و قد روى عن سويد بن غفلة أنه قال : أنا أصغر من رسول الله صلى الله عليه و سلم بسنتين
قال يعقوب : و حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا عبد العزيز بن أبي ثابت حدثني عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان النوفلي عن أبيه عن محمد بن جبير بن مطعم قال : ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل و كانت بعده عكاظ بخمس عشرة سنة و بني البيت على رأس خمس وعشرين سنة من الفيل و تنبأ رسول الله صلى الله عليه و سلم على رأس أربعين سنة من الفيل
و المقصود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولد عام الفيل على قول الجمهور
فقيل بعده بشهر و قيل بأربعين يوما و قيل بخمسين يوما و هو أشهر
و عن أبي جعفر الباقر : كان قدوم الفيل للنصف من المحرم و مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم بعده بخمس و خمسين ليلة
و قال آخرون : بل كان عام الفيل قبل مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم بعشر سنين قاله ابن أبزى
و قيل بثلاث و عشرين سنة رواه شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده كما تقدم
و قيل : بعد الفيل بثلاثين سنة قاله موسى بن عقبة عن الزهري رحمه الله و اختاره موسى بن عقبة أيضا رحمه الله
و قال أبو زكريا العجلاني : بعد الفيل بأربعين عاما رواه ابن عساكر و هذا غريب جدا و أغرب منه ما قاله خليفة بن خياط : حدثني شعيب بن حبان عن عبد الواحد ابن أبي عمرو عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل الفيل بخمس عشرة سنة و هذا حديث غريب و منكر و ضعيف أيضا
قال خليفة بن خياط : و المجمع عليه أنه عليه السلام ولد عام الفيل (1/201)
قد تقدم أن عبد المطلب لما ذبح تلك الإبل المائة عن ولده عبد الله حين كان نذر ذبحه فسلمه الله تعالى لما كان قدر في الأزل من ظهور النبي الأمي صلى الله عليه و سلم خاتم الرسل و سيد ولد آدم من صلبه ذهب كما تقدم فزوجه أشرف عقيلة في قريش آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهرية فحين دخل بها و أفضى إليها حملت برسول الله صلى الله عليه و سلم
و قد كانت أم قتال رقيقة بنت نوفل أخت ورقة بن نوفل توسمت ما كان بين عيني عبد الله قبل أن يجامع آمنة من النور فودت أن يكون ذلك متصلا بها لما كانت تسمع من أخيها من البشارات بوجود محمد صلى الله عليه و سلم و أنه قد أزف زمانه فعرضت نفسها عليه قال بعضهم : ليتزوجها و هو أظهر و الله أعلم فامتنع عليها فلما انتقل ذلك النور الباهر إلى آمنة بمواقعته إياها كأنه ندم على ما كانت عرضت عليه فتعرض لها لتعاوده فقالت : لا حاجة لي فيك و تأسفت على ما فاتها من ذلك و أنشدت في ذلك ما قدمناه من الشعر الفصيح البليغ و هذه الصيانة لعبد الله ليست له و إنما هي لرسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه كما قال تعالى { الله أعلم حيث يجعل رسالته } و قد تقدم الحديث المروي من طريق جيد أنه قال عليه الصلاة و السلام : [ ولدت من نكاح لا من سفاح ]
و المقصود أن أمه حين حملت به توفي أبوه عبد الله و هو حمل في بطن أمه على المشهور
قال محمد بن سعد : حدثنا محمد بن عمر هو الواقدي حدثنا موسى بن عبيدة اليزيدي و حدثنا سعيد بن أبي زيد عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال : خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام إلى غزة في عير من عيران قريش يحملونه تجارات ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا فمروا بالمدينة و عبد الله بن عبد المطلب يومئذ مريض فقال أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار
فأقام عندهم مريضا شهرا و مضى أصحابه فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن ابنه عبد الله فقالوا : خلفناه عند أخواله بني عدي بن النجار و هو مريض
فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي و دفن في دار النابغة فرجع إلى أبيه فأخبره
فوجد عليه عبد المطلب و إخوته و أخواته وجدا شديدا
و رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ حمل و لعبد الله بن عبد المطلب يوم توفي خمس وعشرون سنة
قال الواقدي : هذا هو أثبت الأقاويل في وفاة عبد الله و سنه عندنا
قال الواقدي : و حدثني معمر عن الزهري أن عبد المطلب بعث عبد الله إلى المدينة يمتار لها تمرا فمات (1/204)
قال محمد بن سعد : و قد أنبأنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه و عن عوانه بن الحكم قالا : توفي عبد الله بن عبد المطلب بعد ما أتى على رسول الله صلى الله عليه و سلم ثمانية وعشرون شهرا و قيل سبعة أشهر
و قال محمد بن سعد : و الأول أثبت أنه توفي و رسول الله صلى الله عليه و سلم حمل
و قال الزبير بن بكار : حدثني محمد بن حسن عن عبد السلام عن ابن خربوذ
قال : توفي عبد الله بالمدينة و رسول الله صلى الله عليه و سلم ابن شهرين و ماتت أمه و هو ابن أربع سنين و مات جده و هو ابن ثمان سنين فأوصى به إلى عمه أبي طالب
و الذي رجحه الواقدي و كاتبه الحافظ محمد بن سعد أنه عله الصلاة و السلام توفي أبوه و هو جنين في بطن أمه
و هذا أبلغ اليتم و أعلى مراتبه (1/205)
و قد تقدم في الحديث [ و رؤيا أمي الذي رأت حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ]
و قال محمد بن إسحاق : فكانت آمكنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه و سلم تحدث أنها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه و سلم فقيل لها : إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع إلى الأرض فقولي :
أعيذه بالواحد من شر كل حاسد من كل بر عاهد و كل عبد رائد يذود عني ذائد فإنه عند الحميد الماجد حتى أراه قد أتى المشاهد
و آية ذلك أنه يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام فإذا وقع فسميه محمدا فإن اسمه في التوراة أحمد يحمده أهل السماء و أهل الأرض و اسمه في الإنجيل أحمد يحمده أهل السماء و أهل الأرض و اسمه في القرآن محمد
و هذا وذاك يقتضي أنها رأت حين حملت به عليه السلام كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام ثم لما وضعته رأت عيانا تأويل ذلك كما رأته قبل ذلك هاهنا و الله أعلم (1/206)
و قال محمد بن سعد : أنبأنا محمد بن عمر هو الواقدي حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم عن الزهري و قال الواقدي : حدثنا موسى بن عبدة عن أخيه و محمد بن كعب القرظي و حدثني عبد الله بن جعفر الزهري عن عمته أم بكر بنت المسور عن أبيها و حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم المزني و زياد ابن حشرج عن أبي وجزة و حدثنا معمر عن أبي نجيح عن مجاهد و حدثنا طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن عباس دخل حديث بعضهم في حديث بعض : أن آمنة بنت وهب قالت : لقد علقت به ـ تعني رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ فما وجدت له مشقة حتى وضعته فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق و المغرب ثم وقع إلى الأرض معتمدا على يديه ثم أخذ قبضة من التراب فقبضتها و رفع رأسه إلى السماء
و قال بعضهم : وقع جاثيا على ركبتيه و خرج معه نور أضاءت له قصور الشام و أسواقها حتى رؤيت أعناق الإبل ببصرى رافعا رأسه إلى السماء
و قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا محمد بن عبد الله الحافظ أنبأنا محمد بن إسماعيل أنبأنا محمد بن إسحاق حدثنا يونس بن مبشر بن الحسن حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثنا عبد العزيز بن عمران حدثنا عبد الله بن عثمان بن أبي سلمان بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن أبي سويد الثقفي عن عثمان بن أبي العاص حدثتني أمي : أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله ليلة ولدته قالت : فما شيء أنظره في البيت إلا نور و إني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول لتقعن علي
و ذكر القاضي عياض عن الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف أنها كانت قابلته و أنها أخبرت به حين سقط على يديها و استهل سمعت قائلا يقول : يرحمك الله و إنه سطع منه نور رئيت منه قصور الروم (1/207)
قال محمد ابن إسحاق : فلما وضعته بعثت إلى عبد المطلب جاريتها و قد هلك أبوه و هي حبلى و يقال أن عبد الله هلك و النبي صلى الله عليه و سلم ابن ثمانية و عشرين شهرا فالله أعلم أي ذلك كان ـ فقالت : قد ولد لك غلام فانظر إليه
فلما جاءها أخبرته و حدثته بما كانت رأت حين حملت به و ما قيل لها فيه و ما أمرت أن تسميه
فأخذه عبد المطلب فادخله على هبل في جوف الكعبة فقام عبد المطلب يدعو و يشكر الله عز و جل ويقول :
( الحمد لله الذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان )
( قد ساد في المهد على الغلمان ... أعيذه بالبيت ذي الأركان )
( حتى يكون بلغة الفتيان ... حتى أراه بالغ الفتيان )
( أعيذه من كل ذي شنان ... من حاسد مضطرب العنان )
( ذي همة ليس له عينان ... حتى أراه رافع اللسان )
( أنت الذي سميت في القرآن ... في كتب ثابتة المثاني )
( أحمد مكتوب على اللسان ) (1/208)
و قال البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد بن حاتم الدرابردي ـ بمرو ـ حدثنا أبو عبد الله البوشنجي حدثنا أبو أيوب سليمان بن سلمة الخبائري حدثنا يونس بن عطاء بن عثمان بن ربيعة بن زياد بن الحارث الصدائي بمصر حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن أبيه العباس ابن عبد المطلب رضي الله عنه قال : ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم مختونا مسرورا قال : فأعجب جده عبد المطلب و حظى عنده و قال : ليكونن لابني هذا شأن فكان له شأن
و هذا الحديث في صحته نظر
و قد رواه الحافظ ابن عساكر من [ حديث سفيان بن محمد المصيصي عن هشيم عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من كرامتي على الله أني ولدت مختونا و لم ير سوأتي أحد ]
ثم أورده من طريق الحسن بن عرفة بن هشيم به : ثم أورده من طريق محمد بن محمد بن سليمان ـ هو الباغندى ـ حدثنا عبد الرحمن ابن أيوب المحصي حدثنا موسى بن أبي موسى المقدسي حدثنى خالد بن سلمة عن نافع عن ابن عمر قال : ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم مسرورا مختونا و قال أبو نعيم : حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي حدثنا الحسين بن أحمد بن عبد الله المالكي حدثنا سليمان بن سلمى الحبائري حدثنا يونس بن عطاء حدثنا الحكم ابن أبان حدثنا عكرمة عن ابن عباس عن أبيه العباس قال : ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم مختونا مسرورا قال : فأعجب جده عبد المطلب و حظى عنده و قال : ليكونن لابني هذا شأن فكان له شأن
و قد ادعى بعضهم صحته لما ورد له من الطرق حتى زعم بعضهم أنه متواتر
و في هذا كله نظر
و معنى مختونا : أي مقطوع الختان و مسرورا : أي مقطوع السرة من بطن أمه (1/208)
و قد روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الرحمن بن عيينة البصري حدثنا علي ابن محمد المدائني السلمي حدثنا سلمة بن محارب بن مسلم بن مسلم بن زياد عن أبيه عن أبي بكرة أن جبريل ختن النبي صلى الله عليه و سلم حين طهر قلبه
و هذا غريب جدا
وقد روي أن جده عبد المطلب ختنه و عمل له دعوة جمع قريشا عليها و الله أعلم
و قال البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأني محمد بن كامل القاضي ـ شفاها ـ أن محمد بن إسماعيل حدثه ـ يعني السلمي ـ حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح حدثني معاوية بن صالح عن أبي الحكم التنوخي قال : كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة من قريش إلى الصبح يكفأن عليه برمة فلما ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم دفعه عبد المطلب إلى نسوة فكفأن عليه برمة فلما أصبحن أتين فوجدن البرمة قد انفلقت عنه باثنتين و وجدنه مفتوح العينين شاخصا ببصره إلى السماء فأتاهن عبد المطلب فقلن له : ما رأينا مولودا مثله وجدناه قد انفلقت عنه البرمة و وجدناه مفتوحا عينيه شاخصا ببصره إلى السماء
فقال : احفظنه فإني أرجو أن يكون له شأن أو أن يصيب خيرا
فلما كان اليوم السابع ذبح عنه و دعا له قريشا فلما أكلوا قالوا : يا عبد المطلب أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه ما سميته ؟ قال : سميته محمدا قالوا : فما رغبت به عن أسماء أهل بيته ؟ قال : أردت أن يحمده الله في السماء و خلقه في الأرض
قال أهل اللغة : كل جامع لصفات الخير يسمى محمدا كما قال بعضهم :
( إليك ـ أبيت اللعن ـ أعملت ناقتي ... إلى الماجد القرم الكريم المحمد ) (1/210)
و قال بعض العلماء : ألهمهم الله عز و جل أن سموه محمدا لما فيه من الصفات الحميدة ليلتقي الأسم و الفعل و يتطابق الأسم و المسمى في الصورة و المعنى كما قال عمه أبو طالب و يوى لحسان :
( و شق له من إسمه ليجله ... فذو العرش محمود و هذا محمد )
و سنذكر أسماءه عليه الصلاة و السلام و شمائله و هي صفاته الظاهرة و أخلاقه الطاهرة و دلائل نبوته و فضائل منزلته في آخر السيرة إن شاء الله
قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا [ أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن شيبان الرملي حدثنا أحمد بن إبراهيم الحبلي حدثنا الهيثم ابن جميل حدثنا زهير عن محارب بن دثار عن عمر بن يثربي عن العباس بن عبد المطلب قال قلت : يا رسول الله دعاتي إلى الدخول في دينك أمارة لنبوتك رأيتك في المهد تناغي القمر و تشير إليه بإصبعك فحيث أشرت إليه مال قال إني كنت أحدثه و يحدثني و يلهيني عن البكاء و أسمع و جبته حين يسجد تحت العرش ]
ثم قال : تفرد به أحمد بن إبراهيم الحلبي و هو مجهول
فصل
فيما و قع من الآيات ليلة مولده عليه الصلاة و السلام
قد ذكرنا في باب هواتف الجان ما تقدم من خرور كثير من الأصنام ليلتئذ لوجوهها و سقوطها عن أماكنها و ما رآه النجاشي ملك الحبشة و ظهور النور معه حتى أضاءت له قصور الشام حين و لد و ما كان من سقوطه جاثيا رافعا رأسه إلى السماء و انفلاق تلك البرمة عن و جهه الكريم و ما شوهد من النور في المنزل الذي ولد فيه و دنو النجوم منهم و غير ذلك
حكى السهيلي عن تفسير بقي بن مخلد الحافظ أن إبليس رن أربع رنات : حين لعن و حين أهبط و حين و لد رسول الله صلى الله عليه و سلم و حين أنزلت الفاتحة
قال محمد ابن إسحاق : و كان هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة قالت : كان يهودي قد سكن مكة يتجر بها فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في مجلس قريش : يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود ؟ فقال القوم : و الله ما نعلمه فقال الله أكبر أما إذا أخطأكم فلا بأس انظروا و احفظوا ما أقول لكم : ولد هذه الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس لا يرضع ليلتين و ذلك أن عفريتا من الجن أدخل أصبعه في فمه فمنعه الرضاع
فتصدع القوم من مجلسهم و هم يتعجبون من قوله و حديثه فلما صاروا إلى منازلهم أخبر كل إنسان منهم أهله فقالوا : قد و الله و لد لعبد الله بن عبد المطلب غلام سموه محمدا
فالتقى القوم فقالوا : هل سمعتم حديث اليهودي و هل بلغكم مولد هذا الغلام ؟ فانطلقوا حتى جاءوا اليهودي فأخبره الخبر قال فاذهبوا معي حتى أنظر إليه فخرجوا به حتى أدخلوه إلى آمنة فقالوا : أخرجي إلينا ابنك فأخرجته و كشفوا له عن ظهره فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيا عليه فلما أفاق قالوا له : مالك و يلك ؟ قال : قد ذهبت و الله النبوة من بني إسرائيل فرحتم بها يا معشر قريش ؟ و الله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق و المغرب
و قال محمد ابن إسحاق : حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قال : حدثني من شئت من رجال قومي ممن لا أتهم عن حسان بن ثابت قال : إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان أعقل ما رأيت و سمعت إذا بيهودي في يثرب يصرخ ذات غداة : يا معشر يهود فاجتمعوا إليه ـ و أنا ـ فقالوا و يلك مالك ؟ قال : قد طلع نجم أحمد الذي يولد به في هذه الليلة
و روى الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة من حديث أبي بكر بن عبد الله العامري عن سليمان بن سحيم و ذرييح بن عبد الرحمن كلاهما عن عبد الرحمن ابن أبي سعيد عن أبيه قال : سمعت أبي مالك بن سنان يقول : جئت بني عبد الشهل يوما لأتحدث فيهم و نحن يومئذ في هدنة من الحرب فسمعت يوشع اليهودي يقول : أظل خروج نبي يقال له أحمد يخرج من الحرم فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي كالمتهزيء به : ما صفته ؟ فقال رجل ليس بالقصير و لا بالطويل في عينيه حمرة يلبس الشملة و يركب الحمار سيفه على عاتقه و هذا البلد مهاجره قال : فرجعت إلى قومي بني خدرة و أنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع فأسمع رجلا منا يقول : و يوشع يقول هذا وحده ؟ ! كل يهود يثرب يقولون هذا
قال أبي مالك بن سنان : فخرجت حتى جئت بني قريظة فأجد جمعا فتذاكر النبي صلى الله عليه و سلم فقال الزبير بن باطا : قد طلع الكوكب الأحمر الذي لم يطلع إلا لخروج نبي أو ظهوره و لم يبق أحد إلا أحمد و هذا مهاجره قال أبو سعيد : فلما قدم النبي صلى الله عليه و سلم أخبره أبي هذا الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو أسلم الزبير لأسلم ذووه من رؤساء اليهود إنما هم له تبع ]
و قال أبو نعيم : حدثنا عمر بن محمد حدثنا إبراهيم بن السندي حدثنا النضر بن سلمة حدثنا إسماعيل بن قيس بن سلمان بن زيد بن ثابت عن إبراهيم بن يحيى بن ثابت سمعت زيد بن ثابت يقول : كان أحبار يهود بني قريظة و النضير يذكرون صفة النبي صلى الله عليه و سلم فلما طلع الكوكب الأحمر أخبروا أنه نبي و أنه لا نبي بعده و اسمه أحمد و مهاجره إلى يثرب فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة أنكروا وحسدوا و كفروا و قد أورد هذه القصة الحافظ أبو نعيم في كتابه من طرق أخرى و لله الحمد
و قال أبو نعيم و محمد بن حبان : حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة و يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أسامة بن زيد قال : قال زيد بن عمرو بن نفيل : قال لي حبر من أحبار الشام : قد خرج في بلدك نبي أو هو خارج قد خرج نجمه فارجع فصدقه و اتبعه (1/211)
قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتاب هواتف الجان : حدثنا علي بن حرب حدثنا أبو أيوب يعلى بن عمران من آل جرير بن عبد الله البجلى حدثنى مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه ـ و أتت عليه خمسون و مائة سنة قال : لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم ارتجس إيوان كسرى و سقطت منه أربع عشرة شرفة و خمدت نار فارس و لم تخمد قبل ذلك بألف عام و غاضبت بحيرة ساوة و رأى المبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة و انتشرت في بلادهم فلما أصبح كسرى أفزعه ذلك فتصبر عليه تشجعا ثم رأى أنه لا يدخر ذلك عن مرازبته فجمعهم و لبس تاجه و جلس على سريره فلما اجتمعوا عنده قال أتدرون فيم بعثت إليكم ؟ قالوا : لا إلا أن يخبرنا الملك فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب خمود النيران فازداد غما إلى همه ثم أخبرهم بما رأى و ما هاله
فقال الموبذان : و أنا أصلح الله الملك قد رأيت في هذه الليلة رؤيا ثم قص عليه رؤياه في الإبل فقال : أي شيء يكون هذا يا موبذان : قال حدث يكون في ناحية العرب وكان أعلمهم من أنفسهم
فكتب عند ذلك : من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر أما بعد فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه فوجه إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيله الغساني فلما ورد عليه قال له : ألك علم بما أريد أن أسألك عنه ؟ فقال : لتخبرني او ليسلني الملك عما أحب فإن كان عندي منه علم و إلا أخبرته بمن يعلم فأخبره بالذي وجه به إليه فيه قال : علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح قال فائته فاسأله عما سألتك عنه ثم ائتني بتفسيره
فخرج عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح و قد أشفى على الضريح فسلم عليه وكلمه فلم يرد إليه سطيح جوابا يقول :
( أصم أم يسمع غطريف اليمن ... أم فاد فازلم به شأو العنن )
( يا فاصل الخطة أعيت من و من ... أتاك شيخ الحي من آل سنن )
( و أمه من آل ذئب بن حجن ... أزرق نهم الناب صرار الأذن )
( أبيض فضفاض الرداء و البدن ... رسول قيل العجم يسرى للوسن )
( تجوب بي الأرض علنداة شزن ... لا يرهب الرعد و لا ريب الزمن )
( ترفعني و جنا و تهوى بي وجن ... حتى أتى عاري الجآجى و القطن )
( تلفه في الريح بوغاء الدمن ... كأنما حثحث من حضنى ثكن )
قال : فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه يقول : عبد المسيح على جمل مشيح أتى سطيح و قد أوفي على الضريح بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان و خمود النيران و رؤيا الموبذان رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا قد قطعت دجلة و انتشرت في بلادها
يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة و ظهر الهرواة و فاض وادي السماوة و غاضت بحيرة ساوة و خمدت نار فارس فليس الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك و ملكات على عدد الشرفات و كلما هو آت آت
ثم قضى سطيح مكانه
فنهض عبد المسيح إلى راحلته و هو يقول :
( شمر فغنك ماضي العزم شمير ... لا يفزعنك تفريق و تغيير )
( إن يمس ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير )
( فربما ربما أضحوا بمنزله ... يخاف صولهم الأسد المهاصير )
( منهم أخو الصرح بهرام و إخوته ... و الهرمزان و سابور و سابور )
( و الناس أولاد علات فمن علموا ... أن قد أقل فمحقور و مهحور )
( ورب قوم لهم صحبان ذي أذن ... بدت تليهم فيه المزامير )
( و هم بنو الأم إما إن رأوا نشبا ... فذاك بالغيب محفوظ و منصور )
( والخير و الشر مقرونان في قرن ... فالخير متبع و الشر محذور )
قال : فلما قدم عبد المسيح على كسرى أخبره بما قال له سطيح فقال كسرى : إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكا كانت أمور و أمور !
فملك منهم عشرة في أربع سنين وملك الباقون إلى خلافة عثمان رضي الله عنه
و رواه البيهقي من حديث عبد الرحمن بن محمد بن إدريس عن علي بن حرب الموصلي بنحوه (1/215)
قلت : كان آخر ملوكهم ـ الذي سلب منه الملك يزدجرد بن شهريار بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان و هو الذي انشق الإيوان في زمانه و كان لأسلافه في الملك ثلاثة آلاف سنة و مائة و أربعة و ستون سنة و كان أول ملوكهم جيوومرت بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح و قد تقدم ترجمة شق و سطيح في أخبار أهل اليمن
أما سطيح هذا فقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه : هو الربيع بن ربيعة بن مسعود ابن مازن بن ذئب بن عدي بن مازن بن الأزد و يقال الربيع بن مسعود و أمه ردعا بنت سعد بن الحارث الجوري و ذكر ذلك في نسبه
قال : و كان يسكن الجابية
ثم روى عن أبي حاتم السجتاني قال : سمعت المشيخة منهم أبو عبيدة و غيره قالوا : و كان من بعد لقمان بن عاد ولد في زمن سيل العرم و عاش إلى ملك ذي نواس و ذلك نحو من ثلاثين قرنا و كان مسكنه البحرين و زعمت عبد القيس أنه منهم و تزعم الآزد أنه منهم و أكثر المحدثين يقولون هو من الأذد و لا ندري ممن هو غير أن و لده يقولون إنه من الأزد
و روى عن ابن عباس أنه قال : لم يكن شيء من بني آدم يشبه سطيحا إنما كان لحما على وضم ليس فيه عظم و لا عصب إلا في رأسه و عينيه و كفيه و كان يطوى كما يطوى الثوب من رجليه إلى عنقه و لم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه
و قال غيره : إنه كان إذا غضب انتفخ و جلس
ثم ذكر ابن عباس أنه قدم مكة فتلقاه جماعة من رؤسائهم منهم عبد شمس و عبد مناف أبناء قصي فامتحنوه في أشياء فأجابهم فيها بالصدق فسألوه عما يكون في آخر الزمان فقال : خذوا مني و من إلهام الله إياي : أنتم الآن يا معشر العرب في زمان الهرم سواء بصائركم و بصائر العجم لا علم عندكم و لا فهم و ينشو من عقبكم ذوو فهم يطلبون أنواع العلم فيكسرون الصنم و يتبعون الردم و يقتلون العجم يطلبون الغنم ثم قال : و الباقي الأبد و البالغ الأمد ليخرجن من ذا البلد نبي مهتد يهدي إلى الرشد يرفض يغوث و الفند يبرأ عن عبادة الضد يعبد ربا انفرد ثم يتوفاه الله بخير دار محمودا من الرض مفقودا و في السماء مشهودا ثم يلي أمره الصديق إذا قضى صدق وفي رد الحقوق لا خرق و لا نزق ثم يلي أمره الحنيف مجرب غطريف قد أضاف المضيف و أحكم التحنيف ثم ذكر عثمان و مقتله و ما يكون بعد ذلك من أيام بني أمية ثم بني العباس
و ما بعد ذلك من الفتن و الملاحم ساقه ابن عساكر بسنده عن ابن عباس بطوله
و قد قدمنا قوله لربيعة بن نصر ملك اليمن حين أخبره برؤياه قبل أن يخبره بها ثم ما يكون في بلاد اليمن من الفتن و تغيير الدول حتى يعود إلى سيف بن ذي يزن فقال له : أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع ؟ قال : بل ينقطع قال : و من يقطعه ؟ قال نبي زكي يأتيه الوحي من قبل العلي قال : و ممن هذا النبي ؟ قال : من ولد غالب بن فهر بن مالك ابن النضر يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر قال : و هل للدهر من آخر ؟ قال : نعم يوم يجمع فيه الأولون و الآخرون يسعد فيه المحسنون و يشقى فيه المسيئون قال : أحق ما تخبرني ؟ قال : نعم و الشفق و الغسق و القمر إذا اتسق إن ما أنبأتك عليه لحق و وافقه على ذلك شق سواء بسواء بعبارة أخرى كما تقدم (1/218)
و من شعر سطيح قوله :
( عليكم بتقوى الله في السر و الجهر ... و لا تلبسوا صدق الأمانة بالغدر )
( و كونوا لجار الجنب حصنا و جنة ... إذا ما عرته النائبات من الدهر )
و روى ذلك الحافظ ابن عساكر ثم أورد ذلك المعافي بن زكريا الجريري فقال : و أخبار سطيح كثيرة و قد جمعها غير واحد من أهل العلم و المشهور أنه كان كاهنا و قد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم و عن نعته و مبعثه و روى لنا بإسناد الله به أعلم أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن سطيح فقال : [ نبي ضيعه قومه ]
قلت : أما هذا الحديث فلا أصل له في شيء من كتب الإسلام المعهودة و لم أره بإسناد أصلا و يروى مثله في خبر خالد بن سنان العبسي و لا يصح أيضا
و ظاهر هذه العبارات تدل على علم جيد لسطيح و فيها روائح التصديق لكنه لم يدرك الإسلام كما قال الجريري فإنه قد ذكرنا في هذا الأثر أنه قال لابن أخته : يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة و ظهر صاحب الهراوة و فاض وادي السماوة و غاضت بحيرة ساوة وخمدت نار فارس فليس الشام لسطيح شاما يملك منهم ملوك و ملكات على عدد الشرفات و كل ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه و كان ذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم بشهر ـ أو شيعه ـ أي أقل منه
و كانت وفاته بأطراف الشام مما يلي أرض العراق فالله أعلم بأمره و ما صار إليه
و ذكر ابن طرار الجريري أنه عاش سبعمائة سنة و قال غيره خمسمائة سنة و قيل ثلاثمائة سنة فالله أعلم (1/220)
و قد روى ابن عساكر أن ملكا سأل سطيحا عن نسب غلام اختلف فيه فأخبره على الجلية في كلام طويل مليح فصيح فقال له الملك يا سطيح ألا تخبرني عن علمك هذا ؟ فقال : إن علمي هذا ليس مني و لا بجزم و لا بظن و لكن أخذته عن أخ لي قد سمع الوحي بطور سيناء فقال له أرأيت أخاك هذا الجني أهو معك لا يفارقك ؟ فقال : إنه ليزول حيث أزول و لا أنطق إلا بما يقول
و تقدم أنه ولد هو وشق بن مصعب بن يشكر بن رهم بن بسر بن عقبة الكاهن الآخر ولدا في يوم واحد فحملا إلى الكاهنة طريفة بنت الحسين الحميدية فتفلت في أفواههما فورثا منها الكهانة و ماتت من يومها و كان نصف إنسان و يقال إن خالد بن عبد الله القسرى من سلالته و قد مات شق قبل سطيح بدهر
و أما عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن بقيلة الغساني النصراني فكان من المعمرين
و قد ترجمه الحافظ بن عساكر في تاريخه و قال هو الذي صالح خالد بن الوليد على الحيرة و ذكر له معه قصة طويلة و أنه أكل من يده سم ساعة فلم يصبه سوء لأنه لما أخذه قال : بسم الله و بالله رب الأرض و السماء الذي لا يضر مع اسمه أذى ثم أكله فعلته غشية بيديه على صدره ثم عرق و أفاق رضى الله عنه و ذكر لعبد المسيح أشعارا غير ما تقدم (1/221)
و قال أبو نعيم : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثتا عقبة بن مكرم حدثنا المسيب بن شريك حدثنا محمد بن شريك عن شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان بمر الظهران راهب من الرهبان يدعى عيصا من أهل الشام و كان متحفزا بالعاص بن وائل و كان الله قد آتاه علما كثيرا و جعل فيه منافع كثيرة لأهل مكة من طيب و رفق وعلم
و كان يلزم صومعة له و يدخل مكة في كل سنة فيلقى الناس و يقول : إنه يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة يدين له العرب و يملك العجم هذا زمانه و من أدركه و اتبعه أصاب حاجته و من أدركه فخالفه أخطأ حاجته و بالله ما تركت أرض الخمر و الخمير و الأمن و لا حللت بأرض الجوع و البؤس و الخوف إلا بطلبه
و كان لا يولد بمكة مولود إلا يسأل عنه فيقول ما جاء بعد فيقال له : فصفه فيقول : لا
و يكتم ذلك للذي قد علم أنه لاق من قومه مخافة على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يكون إليه من الأذى يوما
و لما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج عبد الله ابن عبد المطلب حتى أتى عيصا فوقف في أصل صومعته ثم نادى : يا عيصاه فناداه من هذا ؟ فقال : أنا عبد الله فأشرف عليه فقال : كن أباه فقد ولد المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الإثنين و يبعث يوم الإثنين و يموت يوم الإثنين
قال : فإنه قد ولد لي مع الصبح مولود قال فما سميته ؟ قال : محمدا قال : و الله لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال نعرفه بها منها أن نجمه طلع البارحة و أنه ولد اليوم و أن اسمه محمد انطلق إليه فإن الذي كنت أخبركم عنه ابنك قال فما يدريك أنه ابني ؟ و لعله يولد في هذا اليوم مولود غيره ؟ قال : قد وافق ابنك الاسم و لم يكن الله ليشبه علمه على العلماء فإنه حجة و آية ذلك أنه الآن وجع فيشتكي أياما ثلاثة فيظهر به الجوع ثلاثا ثم يعافى فاحفظ لسانك فإنه لم يحسد أحد حسده قط و لم يبغ على أحد كما يبغى عليه إن تعش حتى يبدو مقاله ثم يدعو لظهر لك من قومك ما لا تحتمله إلا على صبر و على ذل فاحفظ لسانك ودار عنه قال : فما عمره ؟ قال : إن طال عمره و إن قصر لم يبلغ السبعين يموت في وتر دونها من الستين في إحدى و ستين أو ثلاث و ستين في أعمار جل أمته
قال : و حمل برسول الله صلى الله عليه و سلم في عاشر المحرم وولد يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت من رمضان سنة ثلاث و عشرين من غزوة أصحاب الفيل
هكذا رواه أبو نعيم و فيه غرابة (1/222)
كانت أم أيمن و اسمها بركة تحضنه و كان قد ورثها عليه الصلاة و السلام عن أبيه فلما كبر أعتقها و زوجها مولاه زيد بن حارثة فولدت له أسامة بن زيد رضي الله عنهم و أرضعته مع أمه عليه الصلاة و السلام مولات عمه أبي لهب ثويبة قبل حليمة السعدية
أخرج البخاري و مسلم في صحيحيهما من [ حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت : يا رسول الله انكح أختي بنت أبي سفيان و لمسلم : عزة بنت أبي سفيان
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو تحبين ذلك ؟ قلت : نعم لست لك بمخلية و أحب من شاركني في خير أختي
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : فإن ذلك لا يحل لي
قالت : فإنا نحدثك أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة و في رواية : [ درة بنت أبي سلمة ] قال : بنت أم سلمة قلت : نعم قال : إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة أرضعتني و أبا سلمة ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن و لا أخواتكن ]
زاد البخاري : قال عروة : و ثويبة مولاة لأبي لهب أعتقها فأرضعت رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر خيبة فقال له : ماذا لقيت ؟ فقال أبو لهب : لم ألق بعدكم خيرا غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة و أشار إلى النقرة التي بين الإبهام و التي تليها من الأصابع
و ذكر السهيلي و غيره : أن الرائي له هو أخوه العباس و كان ذلك بعد سنة من وفاة أبي لهب بعد وقعة بدر و فيه إن أبا لهب قال للعباس : إنه ليخفف علي في مثل يوم الاثنين
قالوا : لأنه لما بشرته ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله أعتقها من ساعته فجوزي بذلك لذلك (1/223)
من حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية و ما ظهر عليه من البركة و آيات النبوة
قال محمد بن إسحاق : فاسترضع له عليه الصلاة و السلام من حليمة بنت أبي ذؤيب و اسمه عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصرة بن فصية بنت نصر ابن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان ابن مضر
قال : و اسم أبي رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي أرضعه ـ يعني زوج حليمة الحارث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملان بن ناصرة بن سعد بن بكر بن هوازن
و إخوته عليه الصلاة و السلام من الرضاعة : عبد الله بن الحارث و أنيسة بنت الحارث و خدامة بنت الحارث و هي الشيماء و ذكروا أنها كانت تحضن رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أمه إذ كان عندهم
قال ابن إسحاق : و حدثني جهم بن أبي جهم مولى لامرأة من بني تميم كانت عند الحارث بن حاطب ويقال له مولى الحارث بن حاطب قال : حدثني من سمع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال : حدثت عن حليمة بنت الحارث أنها قالت : قدمت مكة في نسوة و ذكر الواقدي بإسناده أنهن كن عشرة نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن بها الرضعاء ـ من بني سعد نلتمس بها الرضعاء في سنة شهباء فقدمت على أتان لي قمراء كانت أذمت بالركب و معي صبي لنا و شارف لنا و الله ما تبض بقطرة و ما ننام ليلنا ذلك أجمع مع صبينا ذاك ما نجد في ثدي ما يغنيه و لا في شارفنا ما يغذيه و لكنا كنا نرجو الغيث و الفرج فخرجت على أتاني تلك فلقد أذمت بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفا و عجفا
فقدمنا مكة فوالله ما علمت منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه و سلم فنأباه إذا قيل إنه
يتيم تركناه قلنا : ماذا عسى أن تصنع إلينا أمه ؟ إنما المعروف من أبي الولد فأما أمه فماذا عسى أن تصنع إلينا ! فوالله ما بقي من صواحبي امرأة إلا أخذت رضيعا غيري
فلما لم نجد غيره و أجمعنا الانطلاق قلت لزوجي الحارث بن عبد العزى : والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ليس معي رضيع لأنطلقن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه
فقال : لا عليك أن تفعلي فعسى أن يجعل الله لنا فيه بركة
فذهبت فأخذته فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره
فما هو إلا أن أخذته فجئت به رحلي فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى روى و شرب أخوه حتى روى و قام صاحبي إلى شارفنا تلك فإذا إنها لحافل فحلب ما شرب و شربت حتى روينا فبتنا بخير ليلة
فقال صاحبي حين أصبحنا : يا حليمة و الله إني لأراك قد أخذت نسمة مباركة ألم تر ما بتنا به الليلة من الخير و البركة حين أخذناه ؟ فلم يزل الله عز و جل يزيدنا خيرا
ثم خرجنا راجعين إلى بلادنا فوالله لقطعت أتاني بالركب حتى ما يتعلق بها حمار حتى أن صواحبي ليقلن : ويلك يا بنت أبي ذؤيب ! هذه أتانك التي خرجت عليها معنا ؟ فأقول : نعم والله إنها لهي فيقلن : والله إن لها لشأنا
حتى قدمنا أرض بني سعد و ما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها فإن كانت غنمي لتسرح ثم تروح شباعا لبنا فنحلب ما شئنا و ما حوالينا أو حولنا أحد تبض له شاة بقطرة لبن و إن أغنامهم لتروح جياعا حتى إنهم ليقولون لرعاتهم أو لرعيانهم : ويحكم انظروا حيث تسرح غنم بنت أبي ذؤيب فاسرحوا معهم فيسرحون مع غنمي حيث تسرح فتروح أغنامهم جياعا ما فيها قطرة لبن و تروح أغنامي شباعا لبنا نحلب ما شئنا
فلم يزل الله يرينا البركة نتعرفها
حتى بلغ سنتين فكان يشب شبابا لا تشبه الغلمان فوالله ما بلغ السنتين حتى كان غلاما جفرا فقدمنا به على أمه و نحن أضن شيء به مما رأينا فيه من البركة فلما رأته أمه قلت لها : دعينا نرجع بابننا هذه السنة الأخرى فإنا نخشى عليه وباء مكة
فوالله ما زلنا بها حتى قالت : نعم فسرحته معنا فأقمنا به شهرين أو ثلاثة
فبينما هو خلف بيوتنا مع أخ له من الرضاعة في بهم لنا جاء أخوه ذلك يشتد فقال : ذاك أخي القرشي جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه فشقا بطنه (1/225)
فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فنجده قائما منتفعا لونه فاعتنقه أبوه و قال : يا بني ما شأنك ؟ قال : جاءني رجلان عليهما ثياب بيض أضجعاني و شقا بطني ثم استخرجا منه شيئا فطرحاه ثم رداه كما كان
فرجعنا به معنا فقال أبوه : يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب فانطلقي بنا نرده إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوف قالت حليمة : فاحتملناه فلم ترع أمه إلا به فقدمنا به عليها فقالت : ماردكما به ياظئر فقد كنتما عليه حريصين ؟ فقالا : لا و الله إلا أن الله قد أدى عنا و قضينا الذي علينا و قلنا نخشى الإتلاف و الأحداث نرده إلى أهله فقالت : ما ذاك بكما فاصدقاني شأنكما فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره فقالت : أخشيتما عليه الشيطان ؟ ! كلا و الله ما للشيطان عليه من سبيل و الله إنه لكائن لابني هذا شأن ألا أخبركما خبره ؟ قلنا : بلى قالت : حملت به فما حملت حملا قط أخف منه فأريت في النوم حين حملت به كأنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام ثم وقع حين ولدته وقوعا ما يقعه المولود معتمدا على يديه رافعا رأسه إلى السماء فدعاه عنكما
و هذا الحديث قد روى من طرق أخر و هو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير و المغازي
و قال الواقدي : حدثني معاذ بن محمد عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : خرجت حليمة تطلب النبي صلى الله عليه و سلم و قد وجدت البهم تقيل فوجدته مع أخته فقالت : في هذا الحر ؟ فقالت أخته : يا أمه ما وجد أخي حرا رأيت غمامة تظلل عليه إذا وقف وقفت و إذ سار سارت حتى انتهى إلى هذا الموضع
و قال ابن إسحاق : [ حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم قالوا له : أخبرنا عن نفسك قال : نعم أنا دعوة أبي إبراهيم و بشرى عيسى عليهما السلام و رأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام و استرضعت في بني سعد بن بكر فبينا أنا في بهم لنا أتاني رجلان عليهما ثياب بيض معهما طست من ذهب مملوء ثلجا فأضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا منه علقة سوداء فألقياها ثم غسلا قلبي و بطني بذلك الثلج حتى إذا أنقياه رداه كما كان ثم قال أحدهما لصاحبه زنه بعشرة من أمته فوزنني بعشرة فوزنتهم ثم قال : زنه بمائة من أمته فوزنني بمائة فوزنتهم ثم قال زنه بألف من أمته فوزنني بألف فوزنتهم فقال : دعه عنك فلو وزنته بأمته لوزنهم ]
هذا إسناد جيد قوي
و قد روى أبو نعيم الحافظ في الدلائل من طريق عمر بن الصبح و هو أبو نعيم عن ثور بن يزيد عن مكحول عن شداد بن أوس هذه القصة مطولة جدا و لكن عمر بن صبح هذا متروك كذاب متهم بالوضع فلهذا لم نذكر لفظ الحديث إذ لا يفرح به
ثم قال : [ و حدثنا أبو عمرو بن حمدان حدثنا الحسن بن نفير حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية بن الوليد عن بحير بن سعيد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن ابن عمرو السلمي عن عتبة بن عبد الله أنه حدثه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : كيف كان أول شأنك يا رسول الله ؟ قال : كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر فانطلقت أنا و ابن لها في بهم لنا و لم نأخذ معنا زادا فقلت : يا أخي اذهب فائتنا بزاد من عند أمنا فانطلق أخي و مكثت عند البهم فأقبل طائران أبيضان كأنهما نسران فقال أحدهما لصاحبه : أهو هو ؟ فقال نعم ! فأقبلا يبتدراني فأخذني فبطحاني للقفا فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين فقال أحدهما لصاحبه : ائتني بماء ثلج فغسلا به جوفي ثم قال : ائتني بماء برد فغسلا به قلبي ثم قال : ائتني بالسكينة فذرها في قلبي ثم قال أحدهما لصاحبه : خطه فخاطه و ختم على قلبي بخاتم النبوة فقال أحدهما لصاحبه : اجعله في كفة و اجعل ألفا من أمته في كفته فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي أشفق أن يخر على بعضهم فقال : لو أن أمته وزنت به لمال بهم ثم انطلقا فتركاني و فرقت فرقا شديدا ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت فأشفقت أن يكون قد لبس بي فقالت : أعيذك بالله فرحلت بعيرا لها و حملتني على الرحل
و ركبت خلفي حتى بلغنا إلى أمي فقالت : أديت أمانتي و ذمتي و حدثتها بالذي لقيت فلم يرعها و قالت : إني رأيت خرج مني نور أضاءت منه قصور الشام ]
و رواه أحمد من حديث بقية بن الوليد به و هكذا رواه عبد الله بن المبارك و غيره عن بقية بن الوليد به
و قد رواه ابن عساكر من طريق أبي داود الطيالسي [ حدثنا جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي أخبرني عمير بن عمر بن عروة بن الزبير قال سمعت عروة بن الزبير يحدث عن أبي ذر الغفاري قال : قلت يا رسول الله كيف علمت أنك نبي حين علمت ذلك و استيقنت أنك نبي ؟ قال : يا أبا ذر أتاني ملكان و أنا ببعض بطحاء مكة فوقع أحدهما على الأرض و كان الآخر بين السماء و الأرض فقال أحدهما لصاحبه : أهو هو ؟ قال : هو هو قال زنه برجل فوزنني برجل فرجحته و ذكر تمامه و ذكر شق صدره و خياطته و جعل الخاتم بين كتفيه قال : فما هو إلا أن وليا عني فكأنما أعاين الأمر معاينة ]
ثم أورده ابن عساكر عن أبي بن كعب بنحو ذلك و من حديث شداد بن أوس بأبسط من ذلك
و ثبت في صحيح مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاه جبريل عليه السلام و هو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب و استخرج منه علقة سوداء فقال : هذا حظ الشيطان ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لآمه ثم أعاده في مكانه و جاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعني ظئره ـ فقالوا : إن محمدا قد قتل فاستقبلوه و هو منتقع اللون قال أنس و قد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره
و قد رواه ابن عساكر من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن عبد ربه ابن سعيد عن ثابت البناني عن أنس أن الصلاة فرضت بالمدينة و أن ملكين أتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم فذهبا به إلى زمزم فشقا بطنه فأخرجا حشوته في طست من ذهب فغسلاه بماء زمزم ثم لبسا جوفه حكمة و علما
و من طريق ابن و هب أيضا عن يعقوب بن عبد الرحمن الزهري عن أبيه عن عبد الرحمن بن عامر بن عتبة بن أبي و قاص عن أنس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث ليال : قال خذوا خيرهم و سيدهم فأخذوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فعمد به إلى زمزم فشق جوفه ثم أتى بتور من ذهب فغسل جوفه ثم ملئ حكمة و إيمانا و ثبت من رواية سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس
و في الصحيحين من طريق شريك بن أبي نمر عن أنس و عن الزهري عن أنس عن أبي ذر و قتادة عن انس و عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث الإسراء كما سيأتي قصة شرح الصدر ليلتئذ و أنه غسل بماء زمزم
و لا منافاة لاحتمال وقوع ذلك مرتين مرة و هو صغير و مرة ليلة الإسراء ليتأهب للوفود إلى الملأ الأعلى و لمناجاة الرب عز و جل و المثول بين يديه تبارك و تعالى
و قال ابن إسحاق : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لأصحابه : [ أنا أعربكم أنا قرشي و استرضعت في بني سعد بن بكر ]
و ذكر ابن إسحاق : أن حليمة لما أرجعته إلى أمه بعد فطامه مرت به على ركب من النصارى فقاموا إليه عليه الصلاة و السلام فقلبوه و قالوا إنا سنذهب بهذا الغلام إلى ملكنا فإنه كائن له شأن فلم تكد تنفلت منهم إلا بعد جهد
و ذكر أنها لما ردته حين تخوفت عليه أن يكون أصابه عارض فلما قربت من مكة افتقدته فلم تجده فجاءت جده عبد المطلب فخرج هو و جماعة في طلبه فوجده ورقة بن نوفل و رجل آخر من قريش فأتيا به جده فأخذه على عاتقه و ذهب فطاف به يعوذه و يدعو له ثم رده إلى أمه آمنة
و ذكر الأموي من طريق عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي و هو ضعيف عن الزهري عن سعيد بن المسيب قصة مولده عليه الصلاة و السلام و رضاعه من حليمة على غير سياق محمد بن إسحاق و ذكر أن عبد المطلب أمر ابنه عبد الله أن يأخذه فيطوف به في أحياء العرب ليتخذ له مرضعة فطاف حتى استأجر حليمة على رضاعه و ذكر أنه أقام عندها ست سنين تزيره جده في كل عام فلما كان من شق صدره عندهم ما كان ردته إليهم فأقام عند أمه حتى كان عمره ثماني سنين ماتت فكلفه جده عبد المطلب فمات و له عليه الصلاة و السلام عشر سنين فكلفه عماه شقيقا أبيه الزبير و أبو طالب فلما كان له بضع عشرة سنة خرج مع عمه الزبير إلى اليمن فذكر أنهم رأوا منه آيات في تلك السفرة منها أن فحلا من الإبل كان قد قطع بعض الطريق في واد ممرهم عليه فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم برك حتى حك بكلكله الأرض فركبه عليه الصلاة و السلام و منها أنه خاض بهم سيلا عرما فأيبسه الله تعالى حتى جاوزوه ثم مات عمه الزبير و له أربع عشرة سنة فانفرد به أبو طالب
و المقصود أن بركته عليه الصلاة و السلام حلت على حليمة السعدية و أهلها و هو صغير ثم عادت على هوازن بكمالهم فواضله حين أسرهم بعد وقعتهم و ذلك بعد فتح مكة بشهر فمتوا إليه برضاعه فأعتقهم و تحنن عليهم و أحسن إليهم كما سيأتي مفصلا في موضعه إن شاء الله تعالى (1/228)
قال محمد بن إسحاق في وقعة هوازن : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بحنين فلما أصاب من أموالهم و سباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة و قد أسلموا فقال يا رسول الله إنا أهل و عشيرة و قد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا من الله عليك و قام خطيبهم زهير بن صرد فقال : يا رسول الله إن ما في الحظائر من السبايا خالاتك و حواضنك اللاتي كن يكفلنك فلو أنا ملحنا ابن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما و عطفهما و أنت خير المكفوفين ثم أنشد :
( امنن علينا رسول الله في كرم ... فإنك المرء نرجوه و ندخر )
( امنن على بيضة قد عاتقها قدر ... ممزق شملها في دهرها غير )
( أبقت لنا الدهر هتافا على حزن ... على قلوبهم الغماء و الغمر )
( إن لم تداركها نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر )
( امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملؤه من محضها درر )
( امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... و إذ يزينك ماتأتي و ما تذر )
( لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... و استبق منا فإنا معشر زهر )
( إنا لنشكر للنعمى و إن كفرت ... و عندنا بعد هذا اليوم مدخر )
و قد رويت هذه القصة من طريق عبيد الله بن رماحس الكلبي الرملي عن زياد بن طارق الجشمي عن أبي صرد زهير بن جرول و كان رئيس قومه قال لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين فبينا هو يميز بين الرجال و النساء و ثبت حتى قهدت بين يديه و اسمعته شعرا أذكره حين شب و نشأفي هوزان حيث أرضعوه :
( امنن علينا رسول الله في دعة ... فإنك المرء نرجوه و ننتظر )
( امنن على بيضة قد عاقها قدر ... ممزق شملها في دهرها غير )
( أبقت لنا الحرب هتافا على حزن ... على قلوبهم الغماء و الغمر )
( إن لم تداركها نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلما حين يختبر )
( امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك تملؤه من محضها الدرر )
( إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ... و إذ يزينك ما تأتي و ما تذر )
( لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... و استبق منا فإنا معشر زهر )
( إنا لنشكر للنعمى و إن كفرت ... و عندنا بعد هذا اليوم مدخر )
( فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو مشتهر )
( إنا نؤمل عفوا منك تلبسه ... هذى البرية إذ تعفو و تنتصر )
( فاغفر عفا الله عما أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر )
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما ما كان لي و لبني عبد المطلب فهو لله و لكم ] فقالت الأنصار : و ما كان لنا فهو لله و لرسوله صلى الله عليه و سلم
و سيأتي أنه عليه الصلاة و السلام أطلق لهم الزرية و كانت ستة آلاف ما بين صبي و امرأة و أعطاهم أنعاما و أناسي كثيرا حتى قال أبو الحسين بن فارس : فكان قيمة ما أطلق لهم يومئذ خمسمائة ألف ألف درهم
فهذا كله من بركته العاجلة في الدنيا فكيف ببركته على من اتبعه في الدار الآخرة ؟ ! (1/233)
قال ابن إسحاق بعد ذكر رجوعه عليه الصلاة و السلام إلى أمه آمنة بعد رضاعة حليمة له
فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أمه آمنة بنت وهب و جده عبد المطلب في كلاءة الله و حفظه ينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من كرامته فلما بلغ ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب
قال ابن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أم رسول الله صلى الله عليه و سلم آمنة توفيت و هو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة و المدينة فكانت قد قدمت به إلى أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم فماتت و هي راجعة به إلى مكة
و ذكر الواقدي بأسانيده أن النبي صلى الله عليه و سلم خرجت به أمه إلى المدينة و معها أم أيمن و له ست سنين فزارت أخواله
قالت أم أيمن : فجاءني ذات يوم رجلان من يهود المدينة فقالا لي : أخرجي إلينا أحمد ننظر إليه فنظرا إليه و قلباه فقال أحدهما لصاحبه : هذا نبي هذه الأمة و هذه دار هجرته و سيكون بها من القتل و السبي أمر عظيم
فلما سمعت أمه خافت و انصرفت به فماتت بالأبواء و هي راجعة
و قد قال الإمام أحمد : [ حدثنا حسين بن محمد حدثنا أيوب بن جابر عن سماك عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن بريدة عن أبيه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا كنا بودان قال مكانكم حتى آتيكم فانطلق ثم جاءنا و هو ثقيل فقال : إني أتيت قبر أم محمد فسألت ربي الشفاعة ـ يعني لها ـ فمنعينها و إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فوروها و كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاثة أيام فكلوا و أمسكوا ما بدا لكم و نهيتكم عن الأشربة في هذه الأوعية فاشربوا ما بدا لكم ]
و قد رواه البيهقي من [ طريق سفيان الثوري عن علقمة بن يزيد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : انتهى النبي صلى الله عليه و سلم إلى رسم قبر فجلس و جلس الناس حوله فجعل يحرك رأسه كالمخاطب ثم بكى فاستقبله عمر فقال ما يبكيك يا رسول الله ؟ قال : هذا قبر آمنة بنت وهب استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي و استأذنته في الاستغفار لها فأبى علي و أدركتني رقتها فبكيت قال : فما رؤيت ساعة أكثر باكيا من تلك الساعة ]
تابعه محارب بن دثار عن بريدة عن أبيه
ثم روى البيهقي [ عن الحاكم عن الأصم عن بحر بن نصر عن عبد الله بن وهب حدثنا ابن جريج عن أيوب بن هانئ عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله بن مسعود قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر في المقابر و خرجنا معه فأمرنا فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها ـ فناجاه طويلا ثم ارتفع نحيب رسول الله صلى الله عليه و سلم باكيا فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أقبل علينا فتلقاه عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ما الذي أبكاك ؟ لقد أبكانا و أفزعنا
فجاء فجلس إلينا فقال : أفزعكم بكائي ؟ قلنا نعم ! قال : إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب و إني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي و استأذنته ربي في الاستغفار لها فلم يأذن لي فيه و نزل علي { ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم و ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم } فأخذني ما يأخذني الولد للوالدة من الرقة فذلك الذي أبكاني ]
غريب و لم يخرجوه
و روى مسلم [ عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن عبيد عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : زار النبي صلى الله عليه و سلم قبر أمه فبكى و أبكى من حوله ثم قال : استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي و استأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي فزوروا القبور تذكركم الموت ] (1/235)
و روى مسلم [ عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا قال يا رسول الله أين أبي ؟ قال : في النار فلما قفا دعاه فقال : إن أبي و أباك في النار ]
و قد روى البيهقي من [ حديث أبي نعيم الفضل بن دكين عن إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن أبي كان يصل الرحم و كان و كان فأين هو ؟ قال : في النار
قال : فكان الأعرابي وجد من ذلك فقال : يا رسول الله أين أبوك ؟ قال : حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار
قال فأسلم الأعرابي بعد ذلك فقال : لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه و سلم تعبا ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار ! ]
غريب و لم يخرجوه من هذا الوجه
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا سعيد ـ هو ابن أبي أيوب ـ حدثنا ربيعة بن سيف المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال : بينما نحن نمشي مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ بصر بإمرأة لا يظن أنه عرفها قال توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه فإذا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما أخرجك من بيتك يا فاطمة ؟ فقالت : أتيت أهل هذا البيت فترحمت إليهم ميتهم و عزيتهم قال : لعلك بلغت معهم الكدي قالت : معاذ الله أن أكون بلغتها معهم و قد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر
قال : لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك ] (1/237)
ثم رواه أحمد و أبو داود و النسائي و البيهقي من حديث ربيعة بن سيف بن مانع المعافري الصنمي الإسكندري و قد قال البخاري عنده مناكير و قال النسائي : ليس به بأس و قال مرة : صدوق و في نسخة ضعيفة و ذكره ابن حبان في الثقات و قال : كان يخطئ كثيرا و قال الدارقطني : صالح و قال ابن يونس في تاريخ مصر : في حديثه مناكير توفي قريبا من سنة عشرين و مائة
و المراد بالكدي : القبور و قيل : النوح
و المقصود أن عبد المطلب مات على ما كان عليه من دين الجاهلية خلافا لفرقة الشيعة فيه و في ابنه أبي طالب على ما سيأتي في وفاة أبي طالب (1/238)
و قد قال البيهقي ـ بعد روايته هذه الأحاديث في كتابه دلائل النبوة : كيف لا يكون أبواه و جده عليه الصلاة و السلام بهذه الصفة في الآخرة و قد كانوا يعبدون الوثن حتى ماتوا و لم يدينوا دين عيسى ابن مريم عليه السلام و كفرهم لا يقدح في نسبه عليه الصلاة و السلام لأن أنكحة الكفار صحيحة ألا تراهم يسلمون مع زوجاتهم فلا يلزمهم تجديد العقد و لا مفارقتهن إذا كان مثله يجوز في الإسلام و بالله التوفيق انتهى كلامه
قلت : و إخباره صلى الله عليه و سلم عن أبويه و جده عبد المطلب بأنهم من أهل النار لا ينافي الحديث الوارد عنه من طرق متعددة أن أهل الفترة و الأطفال و المجانين و الصم يمتنحون في العرصات يوم القيامة كما بسطناه سندا و متنا في تفسيرنا عند قوله تعالى { و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } فيكون منهم من يجيب و منهم من لا يجيب فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب فلا منافاة و لله الحمد و المنة
و أما الحديث الذي ذكره السهيلي و ذكر أن في إسناده مجهولين إلى ابن أبي الزناد عن عروة عن عائشة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سأل ربه أن يحيي أبويه فأحياهما و آمنا به فإنه حديث منكر جدا و إن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله تعالى لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه و الله أعلم
فصل
قال ابن إسحاق : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم مع جده عبد المطلب بن هاشم ـ يعني بعد موت أمه آمنة بنت وهب ـ فكان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة و كان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له (1/238)
قال : فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأتي و هو غلام جفر حتى يجلس عليه فيأخذه أعمامه ليؤخره عنه فيقول عبد المطلب : إذا رأى ذلك منهم : دعوا ابني فو الله إن له لشأنا ثم يجلسه معه على فراشه و يمسح ظهره بيده و يسره ما يراه يصنع
و قال الواقدي : حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري و حدثنا عبد الله بن جعفر عن عبد الواحد بن حمزة بن عبد الله و حدثنا هاشم بن عاصم الأسلمي عن المنذر بن جهم و حدثنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد و حدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز عن أبي الحويرث و حدثنا ابن أبي سبرة عن سليمان بن سحيم عن نافع عن ابن جبير ـ دخل حديث بعضهم في بعض ـ قالوا : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يكون مع أمه آمنة بنت وهب فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب و ضمه و رق عليه رقة لم يرقها على ولده و كان يقربه منه و يدنيه و يدخل عليه إذا خلا و إذا نام و كان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك : دعوا ابني إنه يؤسس ملكا
و قال قوم من بني مدلج لعبد المطلب : احتفظ به فإنا لم نر قدما أشبه بالقدم الذي في المقام منه
فقال عبد المطلب لأبي طالب : اسمع ما يقول هؤلاء ! فكان أبو طالب يحتفظ به
و قال عبد المطلب لأم أيمن ـ و كانت تحضنه ـ : يا بركة لا تغفلي عن ابني فإني وجدته مع غلمان قريبا من السدرة و إن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة
و كان عبد المطلب لا يأكل طعاما إلا يقول : علي بابني فيؤتى به إليه
فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم و حياطته (1/240)
ثم مات عبد المطلب و دفن بالحجون
و قال ابن إسحاق : فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ثمان سنين هلك جده عبد المطلب بن هاشم
ثم ذكر جمعه بناته و أمره إياهن أن يريثنه و هن : أروى و أميمة و برة و صفية و عاتكة و أم حكيم البيضاء
و ذكر أشعارهن و ما قلن في رثاء أبيهن و هو يسمع قبل موته و هذا أبلغ النوح و بسط القول في ذلك
و قد قال ابن هشام : و لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرف هذا الشعر
قال ابن إسحاق : فلما هلك عبد المطلب بن هاشم ولى السقاية و زمزم بعده ابنه العباس و هو من أحدث إخوته سنا
فلم تزل إليه حتى قام الإسلام و أقرها في يده رسول الله صلى الله عليه و سلم
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد جده عبد المطلب مع عمه أبي طالب لوصية عبد المطلب له به و لأنه كان شقيق أبيه عبد الله أمهما فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم
قال : فكان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان إليه و معه
و قال الواقدي : أخبرنا معمر عن ابن نجيح عن مجاهد و حدثنا معاذ بن محمد الأنصاري عن عطاء عن ابن عباس و حدثنا محمد بن صالح و عبد الله بن جعفر و إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة ـ دخل حديث بعضهم في حديث بعض ـ قالوا : لما توفي عبد المطلب قبض أبو طالب رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان يكون معه
و كان أبو طالب لا مال له و كان يحبه حبا شديدا لا يحبه ولده و كان لا ينام إلا إلى جنبه و يخرج فيخرج معه
و صب به أبو طالب صبابة لم يصب مثلها بشيء قط
و كان يخصه بالطعام و كان إذا أكلعيال أبي طالب جميعا أو فرادى لم يشبعوا و إذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه و سلم شبعوا فكان إذا أراد أن يغديهم قال كما أنتم حتى يأتي ولدي فيأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم فيأكل معهم فكانوا يفضلون من طعامهم و إن لم يكن معهم لم يشبعوا فيقول أبو طالب : إنك لمبارك
و كان الصبيان يصبحون رمصا شعثا و يصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم دهينا كحيلا
و قال الحسن بن عرفة : حدثنا علي بن ثابت عن طلحة بن عمرو سمعت عطاء ابن أبي رباح سمعت ابن عباس يقول : كان بنو أبي طالب يصبحون رمصا عمصا و يصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم صقيلا دهينا
و كان أبو طالب يقرب إلى الصبيان صفحتهم أول الكبرة فيجلسون و ينتهبون و يكف رسول الله صلى الله عليه و سلم يده فلا ينتهب معهم فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه على حدة
و قال ابن إسحاق : حدثنى يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه أن رجلا من لهب كان عائفا فكان إذا قدم مكة أتاه رجال من قريش بغلمانهم ينظر إليهم و يعتاف لهم فيهم
قال : فأتى أبو طالب برسول الله صلى الله عليه و سلم و هو غلام مع من يأتيه قال : فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم شغله عنه شيء فلما فرغ قال : الغلام علي به فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه فجعل يقول : و يلكم ردوا على الغلام الذي رأيته آنفا فو الله ليكونن له شأن
قال : و انطلق به أبو طالب (1/241)
قال ابن إسحاق : ثم إن أبا طالب خرج في ركب تاجرا إلى الشام
فلما تهيأ للرحيل و أجمع السير صب به رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه يزعمون
فرق له أبو طالب و قال : و الله لأخرجن به معي و لا أفارقه و لا يفارقني أبدا أو كما قال
فخرج به فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام و بها راهب يقال له بحيرى في صومعة له و كان إليه علم أهل النصرانية و لم يزل في تلك الصومعة منذ قط راهب فيها إليه يصير علمهم عن كتاب فيما يزعمون يتوارثونه كابرا عن كابر
فلما نزلوا ذلك العام ببحيري ـ و كانوا كثيرا ما يمرون به فلا يكلمهم و لا يعرض لهم حتى كان ذلك العام فلما نزلوا قريبا من صومعته صنع لهم طعاما كثيرا و ذلك فيما يزعمون عن شيء رآه و هو في صومعته يزعمون أنه رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الركب حتى أقبل و غمامة تظلله من بين القوم ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة و تهصرت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى استظل تحتها
فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته و قد أمر بطعام فصنع ثم أرسل إليهم فقال : إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش فأنا أحب أن تحضروا كلكم كبيركم و صغيركم و عبدكم و حركم
فقال له رجل منهم : و الله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم ! ما كنت تصنع هذا بنا و قد كنا نمر بك كثيرا فما شأنك اليوم ؟ قال له بحيرى : صدقت قد كان ما تقول و لكنكم ضيف و قد أحببت أن أكرمكم و أصنع لكم طعاما فتأكلون منه كلكم
فاجتمعوا إليه و تخلف رسول الله صلى الله عليه و سلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم تحت الشجرة
فلما رآهم بحيرى لم ير الصفة التي يعرف و يجده عنده فقال : يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي قالوا : يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلام و هو أحدثنا سنا فتخلف في رحالنا قال : لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم
قال : فقال رجل من قريش مع القوم : و اللات و العزى إن كان للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا
ثم قام إليه فاحتضنه و أجلسه مع القوم
فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا و ينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا قام إليه بحيرى و قال له : يا غلام : أسألك بحق اللات و العزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه
و إنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له : لا تسألني باللات و العزى شيئا فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما فقال له بحيرى : فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ؟ فقال له : سلني عما بدا لك
فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه و هيئته و أموره فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يخبره فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته
ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه موضعه من صفته التي عنده
فلما فرغ أقبل على عمه أبي طالب فقال : ما هذا الغلام منك ؟ قال : ابني قال بحيرى : ما هو بابنك و ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا قال : فإنه ابن أخي قال فما فعل أبوه ؟ قال : مات و أمه حبلى به
قال : صدقت ـ ارجع بابن أخيك إلى بلده و احذر عليه اليهود فو الله لئن رأوه و عرفوا منه ماعرفت ليبغنه شرا فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام
قال ابن إسحاق : فزعموا فيما روى الناس أن زريرا و تماما و دريسا ـ و هم نفر من أهل الكتاب ـ قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم مثلما رأى بحيرى في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب فأرادوه فردهم عنه بحيرى فذكرهم الله و ما يجدون في الكتاب من ذكره و صفته و أنهم إن أجمعوا لما أرادوا به لم يخلصوا إليه حتى عرفوا ما قال لهم و صدقوه بما قال فتركوه و انصرفوا عنه
و قد ذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق أن أبا طالب قال في ذلك ثلاث قصائد
هكذا ذكر ابن إسحاق هذا السياق من غير إسناد منه و قد ورد نحوه من طريق مسند مرفوع (1/243)
فقال الحافظ أبو بكر الخرائطي : حدثنا عباس بن محمد الدوري حدثنا قراد أبو نوح حدثنا يونس عن ابن إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال : خرج أبو طالب إلى الشام و معه رسول الله صلى الله عليه و سلم في أشياخ من قريش فلما أشرفوا على الراهب ـ يعني بحيرى ـ هبطوا فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب و كانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج و لا يلتفت إليهم
قال : فنزل و هم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد النبي صلى الله عليه و سلم فقال : هذا سيد العالمين
و في رواية البيهقي زيادة : هذا رسول رب العالمين بعثه الله رحم العالمين
فقال له أشياخ من قريش : و ماعلمك ؟ فقال إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر و لا حجر إلا خر ساجدا و لا يسجدون إلا لنبي و إني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه
ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به ـ و كان هو في رعية الإبل ـ فقال : أرسلوا إليه فأقبل و غمامة تظله فلما دنا من القوم قال : انظروا إليه عليه غمامة فلما دنا من القوم و جدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة فلما جلس مال فيء الشجرة عليه قال : انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه قال فبينما هو قائم عليهم و هو ينشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه فالتفت فإذا هو بسبعة نفر من الروم قد أقبلوا قال : فاستقبلهم فقال ما جاء بكم ؟ قالوا : جاءنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس و إنا أخبرنا خبره إلى طريقك هذه قال : فهل خلفكم أحد هو خير منكم ؟ قالوا : لا إنما أخبرنا خبره إلى طريقك هذه قال : أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده ؟ فقالوا : لا قال : فبايعوه و أقاموا معه عنده
قال : فقال الراهب : أنشدكم الله أيكم وليه ؟ قالوا : أبو طالب
فلم يزل يناشده حتى رده و بعث معه أبو بكر بلالا وزوده الراهب من الكعك و الزيت
هكذا رواه الترمذي عن أبي العباس الفضل بن سهل الأعرج عن قراد أبي نوح به
و الحاكم و البيهقي و ابن عساكر من طريق أبي العباس محمد بن يعقوب الأصم عن عباس بن محمد الدوري به (1/246)
و هكذا رواه غير واحد من الحفاظ من حديث أبي نوح عبد الرحمن بن غزوان الخزاعي مولاهم و يقال له الضبي و يعرف بقراد سكن بغداد و هو من الثقات الذين أخرج لهم البخاري و وثقه جماعة من الأئمة و الحفاظ و لم أر أحدا جرحه و مع هذا في حديثه هذا غرابة
قال الترمذي : حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه
و قال عباس الدوري : ليس في الدنيا أحد يحدث به غير قراد أبي نوح و قد سمعه منه أحمد بن حنبل رحمه الله و يحيى بن معين لغرابته و انفراده حكاه البيهقي و ابن عساكر
قلت : فيه من الغرائب أنه من مرسلات الصحابة فإن أبا موسى الأشعري إنما قدم في سنة خيبر سنة سبع من الهجرة و لا يلتفت إلى قول ابن إسحاق في جعله له من المهاجرة إلى أرض الحبشة من مكة و على كل تقدير فهو مرسل فإن هذه القصة كانت و لرسول الله صلى الله عليه و سلم من العمر فيما ذكره بعضهم ثنتا عشرة سنة و لعل أبا موسى تلقاه من النبي صلى الله عليه و سلم فيكون أبلغ أو من بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم أو كان هذا مشهورا مذكورا أخذه من طريق الاستفاضة
الثاني : أن الغمامة ام تذكر في حديث أصح من هذا
الثالث : أن قوله : و بعث مع أبو بكر بلالا إن كان عمره عليه الصلاة و السلام إذ ذاك ثنتى عشرة سنة فقد كان عمر أبي بكر إذ ذلك تسع سنين أو عشرة و عمر بلال أقل من ذلك فأين كان أبو بكر إذ ذاك ؟ ثم أين كان بلال ؟ كلاهما غريب اللهم إلا أن يقال إن هذا كان و رسول الله صلى الله عليه و سلم كبيرا إما بأن يكون سفره بعد هذا أو إن كان القول بأن عمره كان إذ ذاك ثنتى عشرة سنة غير محفوظ فإنه إنما ذكره مقيدا بهذا الواقدي و حكى السهيلي عن بعضهم أنه كان عمره عليه الصلاة و السلام إذ ذاك تسع سنين و الله أعلم
قال الواقدي : حدثنى محمد بن صالح و عبد الله بن جعفر و إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين قالوا : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم اثنتى عشرة سنة خرج به عمه أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة و نزلوا بالراهب بحيرى فقال لأبي طالب بالسر ما قال و أمره أن يحتفظ به فرده معه أبو طالب إلى مكة (1/247)
و شب رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أبي طالب يكلؤه الله و يحفظه و يحوطه من أمور الجاهلية و معائبها لما يريد من كرامته
حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة و أحسنهم خلقا و أكرمهم مخالطة و أحسنهم جوارا و أعظمهم حلما و أمانة و أصدقهم حديثا و أبعدهم من الفحش و الأذى
ما رؤي ملاحيا و لا مماريا أحدا حتى سماه قومه الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة
فكان أبو طالب يحفظه و يحوطه و ينصره و يعضده حتى مات
و قال محمد بن سعد : أخبرنا خالد بن معدان حدثنا معتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن أبي مجلز أن عبد المطلب أو أبا طالب ـ شك خالد ـ قال : لما مات عبد الله عطف على محمد فكان لا يسافر سفرا إلا كان معه فيه
و إنه توجه نحو الشام فنزل منزلا قأتاه فيه راهب فقال إن فيكم رجلا صالحا ثم قال : أين أبو هذا الغلام ؟ قال : فقال ها أنا ذا وليه ـ أو قيل هذا وليه ـ قال : احتفظ بهذا الغلام و لا تذهب به إلى الشام إن اليهود حسد و إني أخشاهم عليه قال : ما أنت تقول ذلك و لكن الله يقوله
فرده و قال : اللهم إني أستودعك محمدا ثم إنه مات
قصة بحيرى
حكى السهيلي عن سير الزهري أن بحيرى كان حبرا من أحبار يهود قلت : و الذي يظهر من سياق القصة أنه كان راهبا نصرانيا و الله أعلم
و عن المسعودي أنه كان من عبد القيس و كان اسمه جرجيس
و في كتاب المعارف لابن قتيبة : سمع هاتف في الجاهلية قبل الإسلام بقليل يهتف و يقول : ألا إن خير أهل الأرض ثلاثة بحيرى و رئاب بن البراء الشني و الثالث المنتظر و كان الثالث المنتظر هو الرسول صلى الله عليه و سلم
قال ابن قتيبة : و كان قبر رئاب الشني و قبر ولده من بعده لا يزال يرى عندهما طش و هو المطر الخفيف (1/249)
قال محمد بن إسحاق : فشب رسول الله صلى الله عليه و سلم يكلؤه الله و يحفظه و يحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد من كرمته و رسالته حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة و أحسنهم خلقا و أكرمهم حسبا و أحسنهم جوارا و أعظمهم حلما و أصدقهم حديثا و أعظمهم أمانة و أبعدهم من الفحش و الأخلاق التي تدنس الرجال تنزها و تكرما
حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما ذكر لي يحدث عما كان الله يحفظه به في صغره و أمر جاهليته أنه قال : [ لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب الغلمان كلنا قد تعرى و أخذ أزراه و جعله على رقبته يحمل عليه الحجارة فإني لأقبل معهم كذلك و أدبر إذ لكمني لاكم ما أراه لكمة وجيعة ثم قال : شد عليك إزارك قال فأخذته فشددته علي ثم جعلت الحجارة على رقبتي و إزاري علي من بين أصحابي ]
و هذه القصة شبيهة بما في الصحيح عند بناء الكعبة حين كان ينقل هو و عمه العباس فإن لم تكنها فهي متقدمة عليها كالتوطئة لها و الله أعلم
قال عبد الرزاق : [ أخبرنا ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله صلى الله عليه و سلم ينقل الحجارة فقال العباس لرسول الله صلى الله عليه و سلم : اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة ففعل فخر إلى الأرض و طمحت عيناه إلى السماء ثم قام فقال : إزاري فشد عليه إزاره ]
أخرجاه في الصحيحن من حديث عبد الرزاق و أخرجاه أيضا من حديث روح ابن عبادة عن زكريا بن أبي إسحاق عن عمرو بن دينار عن جابر بنحوه
و قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ و أبو سعيد بن أبي عمرو قالا : أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني حدثنا محمد بن بكير الحضرمي حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي حدثنا عمرو بن أبي قيس عن سماك عن عكرمة حدثني ابن عباس عن أبيه أنه كان ينقل الحجارة إلى البيت حين بنت قريش البيت قال : و أفردت قريش رجلين رجلين الرجال ينقلون الحجارة و كانت النساء تنقل الشيد
قال : فكنت أنا و ابن أخي كنا نحمل على رقابنا و أزرنا تحت الحجارة فإذا غشينا الناس ائتزرنا فبينما أنا أمشى و محمد أمامي قال فخر و انبطح على وجهه فجئت أسعى و ألقيت حجري و هو ينظر إلى السماء فقلت ما شأنك ؟ فقام و أخذ إزاره قال : [ إني نهيت أن أمشى عريانا ] قال : و كنت أكتمها من الناس مخافة أن يقولوا مجنون (1/250)
و روى البيهقي من [ حديث يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني محمد ابن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عز و جل فيهما
قلت ليلة لبعض فتيان مكة ـ و نحن في رعاء غنم أهلها ـ فقلت لصاحبي : أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان فقال بلى قال : فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالغرابيل و المزامير فقلت ما هذا ؟ قالوا : تزوج فلان فلانة فجلست أنظر و ضرب الله على أدنى فو الله ما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صحبي فقال : ما فعلت ؟ فقلت : ما فعلت شيئا ثم أخبرته بالذي رأيت
ثم قلت له ليلة أخرى أبصر لي غنمي حتى أسمر ففعل فدخلت فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة فسألت فقيل نكح فلان فلانة فجلست أنظر و ضرب الله على أذنى فو الله ما أيقظني إلا مس الشمس
فرجعت إلى صاحبي فقال : ما فعلت ؟ فقلت : لا شيء ثم أخبرته الخبر
فو الله ما هممت و لا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني الله عز و جل بنبوته ]
و هذا حديث غريب جدا و قد يكون عن علي نفسه و يكون قوله في آخره : [ حتى أكرمني الله عز و جل بنبوته ] مقحما و الله أعلم
و شيخ ابن إسحاق هذا ذكره ابن حبان في الثقات و زعم بعضهم أنه من رجال الصحيح قال شيخنا في تهذيبه : و لم أقف على ذلك و الله أعلم
و قال الحافظ البيهقي : [ حدثني أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا الحسن بن علي بن عفان العامري حدثنا أبو أسامة حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة و يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أسامة بن زيد عن زيد بن حارثة قال : كان صنم من نحاس يقال له إساف و نائلة يتمسح به المشركون إذا طافوا فطاف رسول الله صلى الله عليه و سلم و طفت معه فلما مررت مسحت به فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تمسه قال زيد : فطفنا فقلت في نفسي لأمسنه حتى أنظر ما يكون فمسحته فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ألم تنه ] قال البيهقي : زاد غيره عن محمد بن عمرو بإسناده قال زيد : فو الذي أكرمه و أنزل عليه الكتاب ما استلم صنما قط حتى أكرمه الله تعالى بالذي أكرمه و أنزل عليه
و تقدم قوله عليه الصلاة و السلام لبحيرى حين سأله باللات و العزى [ لا تسألني بهما فو الله ما أبغضت شيئا بغضهما ]
فأما الحديث الذي قاله الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرنا أبو سعد الماليني أنبأنا أبو أحمد ابن عدي الحافظ حدثنا إبراهيم بن أسباط حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن سفيان الثوري عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يشهد مع المشركين مشاهدهم قال : فسمع ملكين خلفه و أحدهما يقول لصاحبه : اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كيف نقوم خلفه و إنما عهده باستلام الأصنام ؟ !
قال : فلم يعد بعد ذلك أن يشهد مع المشركين مشاهدهم
فهو حديث أنكره غير واحد من الأئمة على عثمان بن أبي شيبة حتى قال الإمام أحمد فيه : لم يكن أخوه يتلفظ بشيء من هذا
و قد حكى البيهقي عن بعضهم أن معناه أن شهد مع من يستلم الأصنام و ذلك قبل أن يوحى إليه و الله أعلم
و قد تقدم في حديث زيد بن حارثة أنه اعتزل شهود مشاهد المشركين حتى أكرمه الله برسالته (1/251)
و ثبت في الحديث أنه كان لا يقف بالمزدلفة ليلة عرفة بل كان لا يقف مع الناس بعرفات كما قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عثمان بن أبي سليمان عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير قال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو على دين قومه و هو يقف على بعير له بعرفات من بين قومه حتى يدفع معهم توفيقا من الله عز و جل له
قال البيهقي : معنى قوله : [ على دين قومه ] ما كان بقي من إرث إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام و لم يشرك بالله قط صلوات الله و سلامه عليه دائما
قلت : و يفهم من قوله هذا أيضا أنه كان يقف بعرفات قبل أن يوحى إليه و هذا توفيق من الله له
و رواه الإمام أحمد عن يعقوب عن محمد بن إسحاق و لفظه [ رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن ينزل عليه و إنه لواقف على بعير له مع الناس بعرفات حتى يدفع معهم توفيقا من الله ]
و قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : أضللت بعيرا لي بعرنة فذهبت أطلبه فإذا النبي صلى الله عليه و سلم واقف فقلت إن هذا من الحمس ما شأنه ها هنا ؟
و أخرجناه من حديث سفيان بن عيينة به (1/254)
قال ابن إسحاق : هاجت حرب الفجار و رسول الله صلى الله عليه و سلم ابن عشرين سنة
و إنما سمى يوم الفجار بما استحل فيه هذان الحيان ـ كنانة و قيس و عيلان ـ من المحارم بينهم
و كان قائد قريش و كنانة حرب بن أمية بن عبد شمس و كان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة حتى إذا كان وسط النهار كان الظفر لكنانة على قيس
و قال ابن هشام : فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أربع عشرة سنة ـ أو خمس عشرة سنة ـ فيما حدثني به أبو عبيدة النحوي عن أبي عمرو بن العلاء هاجت حرب الفجار بين قريش و من معها من كنانة و بين قيس عيلان
و كان الذي هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن أجاز لطيمة ـ أي تجارة ـ للنعمان بن المنذر
فقال البراض بن قيس أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة : أتجيزها على كنانة ؟ قال : نعم و على الخلق
فخرج فيها عروة الرحال و خرج البراض يطلب غفلته حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام فلذلك سمي الفجار و قال البراض في ذلك :
( و داهية تهم الناس قبلي ... شددت لها بني بكر ضلوعي )
( هدمت بها بيوت بني كلاب ... و أرضعت الموالي بالضروع )
( رفعت له بذي طلال كفي ... فخر يميد كالجذع الصريع )
و قال لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب :
( و أبلغ ـ إن عرضت ـ بني كلاب ... و عامر و الخطوب لها موالي )
( و أبلغ ـ إن عرضت ـ بني نمير ... و أخوال القتيل بني هلال )
( بأن الوافد الرحال أمسى ... مقيما عند تيمن ذي طلال )
قال ابن هشام : فأتى آت قريشا فقال : إن البراض قد قتل عروة و هو في الشهر الحرام بعكاظ فارتحلوا و هوازن لا تشعر بهم ثم بلغهم الخبر فاتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم فاقتتلوا حتى جاء الليل فدخلوا الحرم فأمسكت هوازن عنهم
ثم التقوا بعد هذا اليوم أياما و القوم متساندون على كل قبيل من قريش و كنانة رئيس منهم و على كل قبيل من قيس رئيس منهم
قال : و شهد رسول الله صلى الله عليه و سلم بعض أيامهم أخرجه أعمامه معهم
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كنت أنبل على أعمامي ] أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها
قال ابن هشام : و حديث الفجار طويل هو أطول مما ذكرت و إنما منعني من استقصائه قطعه حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قال السهيلي : و الفجار بكسر الفاء على وزن قتال و كانت الفجارات في العرب أربعة ذكرهن المسعودي
و آخرهن فجار البراض هذا و كان القتال فيه في أربعة أيام يوم شمطة و يوم العبلاء و هما عند عكاظ و يوم الشرب ـ وهو أعظمها يوما ـ و هو الذي حضره رسول الله صلى الله عليه و سلم و فيه قيد رئيس قريش و بني كنانة و هما حرب بن أمية و أخوه سفيان أنفسهما لئلا يفروا و انهزمت يومئذ قيس إلا بني نضر فإنهم ثبتوا و يوم الحريرة عند نخلة ثم تواعدوا من العام المقبل إلى عكاظ فلما توافوا الموعد ركب عتبة ابن ربيعة جمله و نادى : يا معشر مضر علام تقاتاون ؟ فقالت له هوازن : ما تدعو إليه ؟ قال : الصلح قالوا و كيف ؟ قال ندي قتلاكم و نرهنكم رهائن عليها و نعفو عن دياتنا قالوا : و من لنا بذلك ؟ قال أنا قالوا : و من أنت ؟ قال : عتبة بن ربيعة
فوقع الصلح على ذلك و بعثوا إليهم أربعين رجلا فيهم حكيم بن حزام فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم عفوا عن دياتهم و انقضت حرب الفجار
و قد ذكر الأموي حروب الفجار و أيامها و استقصاها مطولا فيما رواه عن الأثرم و هو المغيرة بن علي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى فذكر ذلك (1/255)
قال الحافظ البيهقي : [ أخبرنا أبو سعد الماليني أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ حدثنا يحي بن هاشم الخفاف حدثنا اسماعيل بن علية عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : شهدت مع عمومتي حلف المطيبين فما أحب ان أنكثه ـ أو كلمة نحوها ـ و إن لي حمر النعم ]
قال : و كذلك رواه بشر بن المفضل عن عبد الرحمن
قال : [ و أخبرنا لأبو نصر بن قتادة حدثنا أبو عمرو بن مطر حدثنا أبو بكر بن أحمد بن داود السمناني ن حدثنا معلى بن مهدي حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما شهدت حلفا لقريش إلا حلف المطيبين و ما أحب أن لي حمر النعم و أني كنت نقضته ]
قال : و المطيبون هاشم و أمية وزهرة ومخزوم
قال البيهقي : كذا روي هذا التفسير مدرجا في الحديث و لا أدري قائله
و زعم بعض أهل السير أنه أراد حلف الفضول فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يدرك حلف المطيبين
قلت : هذا لا شك فيه و ذلك أن قريشا تحالفوا بعد موت قصي و تنازعوا في الذي كان جعله قصي لابنه عبد الدار من السقاية و الرفادة و اللواء و الندوة والحجابة و نازعهم فيه بنو عبد مناف و قامت مع كل طائفة قبائل من قريش و تحالفوا على النصرة لحزبهم
فأحضر أصحاب بني عبد مناف جفنة فيها طيب فوضعوا أيديهم فيها و تحالفوا فلما قاموا مسحوا أيديهم بأركان البيت فسموا المطيبين كما تقدم و كان هذا قديما
و لكن المراد بهذا الحلف حلف الفضول و كان في دار عبد الله بن جدعان كما رواه الحميدي [ عن سفيان بن عيينة عن عبد الله عن محمود و عبد الرحمن ابني أبي بكر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها و ألا يعز ظالم مظلوما ] قالوا : و كان حلف الفضول قبل المبعث بعشرين سنة في شهر ذي القعدة و كان بعد حرب الفجار بأربعة أشهر و ذلك لأن الفجار كان في شعبان من هذه السنة (1/257)
و كان حلف الفضول أكرم حلف سمع به و أشرفه في العرب و كان أول من تكلم به و دعا إليه الزبير بن عبد المطلب و كان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن و ائل فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار و مخزوما و جمحا و سهما و عدي بن كعب فأبوا أن يعينوا على العاص بن وائل و زبروه ـ أي انتهروه ـ فلما رأى الزبيدي الشر أوفى على أبي قبيس عند طلوع الشمس و قريش في أنديتهم حول الكعبة فنادى بأعلى صوته :
( يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار و النفر )
( و محرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال و بين الحجر و الحجر )
( إن الحرام لمن تمت كرامته ... و لا حرام لثوب الفاجر الغدر )
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب و قال : ما لهذا مترك
فاجتمعت هاشم و زهرة و تيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما و تحالفوا في ذي القعدة في شهر حرام فتعاقدوا و تعاهدوا بالله ليكونن يدا و احدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدي إليه حقه ما بل بحر صوفة و مارسي ثبير و حراء مكانهما و على التآسي في المعاش
فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول و قالوا : لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر ثم مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه
و قال الزبير بن عبد المطلب في ذلك :
( حلفت لنعقدن حلفا عليهم ... وإن كنا جميعا أهل دار )
( نسميه الفضول إذا عقدنا ... يعز به الغريب لذي الجوار )
( و يعلم من حوالي البيت أنا ... أباة الضيم نمنع كل عار )
و قال الزبير أيضا :
( إن الفضول تعاقدوا و تحالفوا ... ألا يقيم ببطن مكة ظالم )
( أمر عليه تعاقدوا و تواثقوا ... فالجار و المعتر فيهم سالم )
و ذكر قاسم بن ثابت ـ في غريب الحديث ـ : أن رجلا من خثعم قدم مكة حاجا أو معتمرا و معه ابنة له يقال لها القتول من أوضأ نساء العالمين فاغتصبها منه نبيه بن الحجاج و غيبها عنه فقال الخثعم من يعديني على هذا الرجل ؟ فقيل له عليك بحلف الفضول
فوقف عند الكعبة و نادي يا لحلف الفضول فإذا هم يعنقون إليه من كل جانب و قد انقضوا أسيافهم يقولون : جاءك الغوث فما لك ؟ فقال : إن نبيها ظلمني في بنتي و انتزعها مني قسرا
فساروا معه حتى و قفوا على باب داره فخرج إليهم فقالوا له : أخرج الجارية و يحك فقد علمت من نحن و ما تعاقدنا عليه فقال : أفعل و لكن متعوني بها الليلة فقالوا لا و الله و لا شخب لقحة فأخرجها إليهم و هو يقول :
( راح صحبي ولم أحي القتولا ... لم أودعهم و داعا جميلا )
( إذ أجد الفضول أن يمنعوها ... قد أراني و لا أخاف الفضولا )
( لا تخالي أني عشية راح الركـ ... ب هنتم علي أن لا يزولا )
و ذكر أبياتا أخر غير هذه
و قد قيل إنما سمي هذا حلف الفضول لأنه أشبه حلفا تحالفته جرهم على مثل هذا من نصر المظلوم على ظلمه و كان الداعي إليه ثلاثة من أشرافهم اسم كل واحد منهم : فضل و هم الفضل بن فضالة و الفضل بن وداعة و الفضل بن الحارث هذا قول ابن قتيبة
و قال غيره : الفضل بن شراعة و الفضل بن بضاعة و الفضل بن قضاعة و قد أورد السهيلي هذا رحمه الله
و قال محمد بن إسحاق بن يسار : و تداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه و سنه
و كان حلفهم عنده بنو هاشم و بنو عبد المطلب و بنو أسد بن عبد العزى و زهرة ابن كلاب و تيم بن مرة
فتعاهدوا و تعاقدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها و غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه و كانوا على من ظلمه حتى يرد عليه مظلمته
فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول
قال محمد بن إسحاق : [ فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم و لو دعي به في الإسلام لأجبت ] (1/259)
قال ابن إسحاق : و حدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي الليثي أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه أنه كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب و بين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ـ و الوليد يومئذ أمير المدينة أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان ـ منازعة في مال كان بينهما بذي المروة فكأن الوليد تحامل على الحسين في حقه لسلطانه فقال له الحسين : أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لأدعون بحلف الفضول
قال : فقال عبد الله بن الزبير ـ و هو عند الوليد حين قال له الحسين ما قال ـ و أنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا
قال و بلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك
و بلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك
فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضى (1/261)
قال ابن إسحاق : و كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال على مالها مضاربة
فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بلغها من صدق حديثه و عظم أمانته و كرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج لها في مال تاجرا إلى الشام و تعطيه أفضل ما تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له ميسرة
فقبله رسول الله صلى الله عليه و سلم منها وخرج في مالها ذاك و خرج معه غلامها ميسرة حتى نزل الشام فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب من الرهبان فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال : من هذا الرجل الذي نزل تحت الشجرة ؟ فقال ميسرة : هذا رجل من قريش من أهل الحرم
فقال له الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي
ثم باع رسول الله صلى الله عليه و سلم سلعته ـ يعني تجارته ـ التي خرج بها و اشترى ما أراد أن يشتري ثم أقبل قافلا إلى مكة و معه ميسرة
فكان ميسرة ـ فيما يزعمون ـ إذا كانت الهاجرة و اشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس و هو يسير على بعيره
فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فأضعف أو قريبا و حدثها ميسرة عن قول الراهب و عما كان يرى من إظلال الملائكة إياه
و كانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من كرامتها
فلما أخبرها ميسرة ما أخبرها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت له فيما يزعمون يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك و وسطتك في قومك و أمانتك و حسن خلقك و صدق حديثك ثم عرضت نفسها عليه
و كانت أوسط نساء قريش نسبا و أعظمهن شرفا و أكثرهن مالا كل قومها كان حريصا على ذلك منها لو يقدر عليه
فلما قالت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه عمه حمزة حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها عليه الصلاة و السلام
قال ابن هشام فأصدقها عشرين بكرة و كانت أول امرأة تزوجها و لم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت (1/262)
قال ابن إسحاق : فولدت لرسول الله صلى الله عليه و سلم ولده كلهم إلا إبراهيم : القاسم و كان به يكنى و الطيب و الطاهر و زينب و رقية و أم كلثوم و فاطمة
قال ابن هشام : أكبرهم القاسم ثم الطيب ثم الطاهر و أكبر بناته رقية ثم زينب ثم أم كلثوم ثم فاطمة
قال البيهقي عن الحاكم قرأت بخط أبي بكر بن أبي خيثمة : حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال : أكبر ولده عليه الصلاة و السلام القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية
و كان أول من مات القاسم ثم عبد الله
و بلغت خديجة خمسا و ستين سنة و يقال خمسين وهو أصح
و قال غيره : بلغ القاسم أن يركب الدابة و النجيبة ثم مات بعد النبوة
و قيل : مات وهو رضيع فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن له مرضعا في الجنة يستكمل رضاعه ]
و المعروف أن هذا في حق إبراهيم
و قال يونس بن بكير : حدثنا إبراهيم بن عثمان عن القاسم عن ابن عباس قال : ولدت خديجة لرسول الله صلى الله عليه و سلم غلامين و أربع نسوة : القاسم و عبد الله و فاطمة و أم كلثوم و زينب و رقية
و قال الزبير بن بكار : عبد الله هو الطيب و هو الطاهر سمي بذلك لأنه ولد بعد النبوة و أما الباقون فماتوا قبل البعثة
و أما بناته فأدركن البعثة و دخلن في الإسلام و هاجرن معه صلى الله عليه و سلم
قال ابن هشام : و أما إبراهيم فمن مارية القبطية التي أهداها له المقوقس صاحب اسكندرية من كورة أنصناء
و سنتكلم عن أزواجه و أولاده عليه الصلاة و السلام في باب مفرد لذلك في آخر السيرة إن شاء الله تعالى و به الثقة (1/263)
قال ابن هشام : و كان عمر رسول الله صلى الله عليه و سلم حين تزوج خديجة خمسا و عشرين سنة فيما حدثني غير واحد من أهل العلم منهم أبو عمرو المدني
و قال يعقوب بن سفيان : كتبت عن إبراهيم بن المنذر : حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي حدثني غير واحد أن عمرو بن أسد زوج خديجة من رسول الله صلى الله عليه و سلم و عمره خمس وعشرون سنة و قريش تبني الكعبة
و هكذا نقل البيهقي عن الحاكم أنه كان عمر رسول الله صلى الله عليه و سلم حين تزوج خديجة خمسا و عشرين سنة و كان عمرها إذ ذاك خمسا و ثلاثين و قيل خمسا و عشرين سنة
و قال البيهقي : [ باب ما كان يشتغل به رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن يتزوج خديجة ]
[ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو بكر بن عبد الله أخبرنا الحسن بن سفيان حدثنا سويد بن سعيد حدثنا عمرو بن أبي يحي بن سعيد القرشي عن جده سعيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما بعث الله نبيا إلا راعي غنم فقال له أصحابه : و أنت يارسول الله ؟ قال : و أنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط ]
رواه البخاري عن أحمد بن محمد المكي عن عمرو بن يحي به
ثم روى البيهقي من طريق الربيع بن بدر و هو ضعيف [ عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : آجرت نفسي من خديجة سفرتين بقلوص ] (1/265)
و روى البيهقي من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس : أن أبا خديجة زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو ـ أظنه قال ـ سكران
ثم قال البيهقي : أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان أنبأنا عبد الله بن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان قال حدثني إبراهيم بن المنذر حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي حدثني عبد الله بن أبي عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه عن مقسم بن أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل أن عبد الله بن الحارث حدثه أن عمار بن ياسر كان إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله صلى الله عليه و سلم خديجة و ما يكثرون فيه يقول :
أنا أعلم الناس بتزويجه إياها إني كنت له تربا و كنت له إلفا و خدنا و إني خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم حتى إذا كنا بالحزورة أجزنا على أخت خديجة و هي جالسة على أدم تبيعها فنادتني فانصرفت إليها و وقف لي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : أما بصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة ؟ قال عمار : فرجعت إليه فأخبرته فقال : [ بلى لعمري ]
فذكرت لها قول رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : اغدوا علينا إذا أصبحنا فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة و ألبسوا أبا خديجة حلة و صفرت لحيته و كلمت أخاها فكلم أباه و قد سقي خمرا فذكر له رسول الله صلى الله عليه و سلم و مكانه و سأله أن يزوجه فزوجه خديجة و صنعوا من البقرة طعاما فأكلنا منه و نام أبوها ثم استيقظ صاحيا فقال : ما هذه الحلة و ما هذه الصفرة و هذا الطعام ؟ فقالت له ابنته التي كانت قد كلمت عمارا : هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك و بقرة أهداها لك فذبحناها حين زوجته خديجة
فأنكر أن يكون زوجه و خرج يصيح حتى جاء الحجر و خرج بنو هاشم برسول الله صلى الله عليه و سلم فجاءوه فكلموه فقال : أين صاحبكم الذي تزعمون أني زوجته خديجة ؟ فبرز له رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما نظر إليه قال : إن كنت زوجته فسبيل ذاك و إن لم أكن فعلت فقد زوجته
و قد ذكر الزهري في سيره أن أباها زوجها منه و هو سكران و ذكر نحو ما تقدم حكاه السهيلي
قال المؤملي المجتمع عليه أن عمها عمرو بن أسد هو الذي زوجها منه
و هذا الذي رجحه السهيلي و حكاه عن ابن عباس و عائشة قالت : و كان خويلد مات قبل الفجار و هو الذي نازع تبعا حين أراد أخذ الحجر الأسود إلى اليمن فقام في ذلك خويلد و قام معه جماعة من قريش ثم رأى تبع في منامه ماروعه فنزع عن ذلك و ترك الحجر الأسود مكانه
و ذكر ابن إسحاق في آخر السيرة ان أخاها عمرو بن خويلد هو الذي زوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم فالله أعلم (1/266)
قال ابن إسحاق : و قد كانت خديجة بنت خويلد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي و كان عمها ـ و كان نصرانيا قد تتبع الكتب و علم من علم الناس ما ذكر لها غلامها من قول الراهب و ما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه
فقال ورقة : لئن كان هذا حقا يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة قد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر هذا زمانه أو كما قال
فجعل ورقة يستبطئ الأمر و يقول حتى متى ؟ و قال في ذلك :
( لججت و كنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النشيجا )
( و وصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا )
( ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا )
( بما خبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا )
( بأن محمدا سيسود يوما ... و يخصم من يكون له حجيجا )
( و يظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا )
( قليقى من يحاربه خسارا ... و يلقى من يسالمه فلوجا )
( فياليتي إذا ما كان ذاكم ... شهدت و كنت أولهم و لوجا )
( و لوجا في الذي كرهت قريش ... و لو عجت بمكتها عجيجا )
( أرجى بالذي كرهوا جعيعا ... إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا )
( و هل أمر السفالة غير كفر ... بمن يختار من سمك البروجا )
( فإن يبقوا و أبق تكن أمور ... يضج الكافرون لها ضجيجا )
( و إن أهلك فكل فتى سيلقى ... من الأقدار متلفة حروجا )
و قال ورقة أيضا فيما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق عنه :
( أتبكر أم أنت العشية رائح ... و في الصدر من إضمارك الحزن قادح )
( لفرقة قوم لا أحب فراقهم ... كأنك عنهم بعد يومين نازح )
( و أخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح )
( أتاك الذي وجهت ياخير حرة ... بغور و بالنجدين حيث الصحاصح )
( إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت ... و هن من الأحمال قعص دوالح )
( فيخبرنا عن كل خير بعلمه ... و للحق أبواب لهن مفاتح )
( بأن ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح )
( و ظني به أن سوف يبعث صادقا ... كما أرسل العبدان هود و صالح )
( و موسى و إبراهيم حتى يرى له ... بهاء و منشور من الذكر واضح )
( و يتبعه حيا لؤي و غالب ... شبابهم و الأشيبون الجحاجح )
( فإن أبق حتى يدرك الناس دهره ... فإني به مسبشر الود فارح )
( و إلا فإني يا خديجة فاعلمي ... عن أرضك في الأرض العريضة سائح )
و زاد الأموي :
( فمتبع دين الذي أسس البنا ... و كان له فضل على الناس راجح )
( و أسس بنيانا بمكة ثابتا ... تلألأ فيه بالظلام المصابح )
( مثابا لأفناء القبائل كلها ... تخب إليه اليعملات الطلائح )
( حراجيج أمثال القداح من السرى ... يعلق في أرساغهن السرائح )
و من شعره فيما أورده أبو القاسم السهيلي في روضه :
( لقد نصحت لأقوام و قلت لهم ... أنا النذير فلا يغرركم أحد )
( لا تعبدن إلها غير خالقكم ... فإن دعوكم فقولوا بيننا حدد )
( سبحان ذي العرش سبحانا يدوم له ... و قبلنا سبح الجودي و الجمد )
( مسخر كل ما تحت السماء له ... لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد )
( لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله و يودى المال و الولد )
( لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... و الخلد قد حاولت عاد فما خلدوا )
( و لا سليمان إذ تجري الرياح به ... و الجن و الإنس فيما بينها مرد )
( أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد )
( حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا )
ثم قال : هكذا نسبه أبو الفرج إلى ورقة قال : و فيه أبيات تنسب إلى أمية ابن أبي الصلت
قلت : و قد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يستشهد في بعض الأحيان بشيء من هذه الأبيات و الله أعلم (1/268)
ذكر البيهقي بناء الكعبة قبل تزويجه عليه الصلاة و السلام خديجة
و المشهور أن بناء الكعبة بعد تزويج خديجة كما ذكرناه بعشر سنين (1/270)
ثم شرع البيهقي في ذكر بناء الكعبة في زمن إبراهيم كما قدمناه في قصته و أورد حديث ابن عباس المتقدم في صحيح البخاري و ذكر ماورد من الإسرائيليات في بنائه في زمن آدم
و لايصح ذلك فإن ظاهر القرآن يقتضي أن إبراهيم أول من بناه مبتدئا و أول من أسسه و كانت بقمته معظمة قبل ذلك معتني بها مشرفة في سائر الأعصار و الأوقات
قال الله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا و هدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم و من دخله كان آمنا و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا }
و ثبت في الصحيحين [ عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال : المسجد الحرام قلت ثم أي قال المسجد الأقصى قلت كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة ] و قد تكلمنا على هذا و أن المسجد الأقصى أسسه إسرائيل و هو يعقوب عليه السلام
و في الصحيحين إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة
و قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو عبد الله الصغار حدثنا أحمد ابن مهران حدثنا عبيد الله حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن عبد الله ابن عمرو قال : كان البيت قبل الأرض بألفي سنة و إذا الأرض مدت قال من تحته مدت
قال : و قد تابعه منصور عن مجاهد
قلت : و هذا غريب جدا و كأنه من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن عمرو يوم اليرموك و كان فيهما إسرائليات يحدث منها و فيهما منكرات و غرائب (1/271)
ثم قال : البيهقي : [ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو جعفر محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الله البغدادي حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح حدثنا أبو صالح الجهني حدثني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بعث الله جبريل إلى آدم فقال لهما ابنيا لي بيتا فخط لهما جبريل فجعل آدم يحفر و حواء تنقل حتى أجابه الماء نودي من تحته حسبك يا آدم فلما بنيا أوحى الله تعالى إليه أن يطوف به و قيل له أنت أول الناس و هذا أول بيت ثم تناسخت القرون حتى حجه نوح ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه ]
قال البيهقي : تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا
قلت : و هو ضعيف و وقفه على عبد الله بن عمرو أقوى و أثبت و الله أعلم
و قال الربيع : أنبأنا الشافعي أنبأنا سفيان عن ابن أبي لبيد عن محمد بن كعب القرظي ـ أو غيره ـ قال : حج آدم فلقيته الملائكة فقالوا : بر نسكك يا آدم لقد حججنا قبلك بألفي عام
و قال يونس بن بكير : عن ابن إسحاق حدثني بقية ـ أو قال ثقة من أهل المدينة ـ عن عروة بن الزبير أنه قال : ما من نبي إلا و قد حج البيت إلا ما كان من هود و صالح
قلت : و قد ذكرنا حجهما إليه و المقصود الحج إلى محله و بقعته و إن لم يكن ثم بناء و الله أعلم
ثم أورد البيهقي حديث ابن عباس المذكور في قصة إبراهيم عليه السلام بطوله و تمامه و هو في صحيح البخاري
ثم روى البيهقي من حديث سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة قال : سأل رجل عليا عن قوله تعالى { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا و هدى للعالمين } أهو أول بيت بني في الأرض ؟
قال : لا و لكنه أول بيت وضع فيه البركة للناس و الهدى و مقام إبراهيم و من دخله كان آمنا و إن شئت نبأتك كيف بناؤه !
إن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض فضاق به ذرعا فأرسل إليه السكينة و هي ريح خجوج لها رأس فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت ثم تطوقت في موضع البيت تطوق الحية فبنى إبراهيم حتى بلغ مكان الحجر قال لابنه : ابغني حجرا فالتمس حجرا حتى أتاه به فوجد الحجر الأسود قد ركب فقال لأبيه : من أين لك هذا ؟ قال : جاء من لا يتكل على بنائك جاء به جبريل من السماء فأتمه
قال : فمر عليه الدهر فانهدم فبنته العمالقة ثم انهدم فبنته جرهم
ثم انهدم فبنته قريش و رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ رجل شاب
فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا : نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم أول من خرج عليهم فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط ثم ترفعه جميع القبائل كلهم
و قال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة و قيس و سلام كلهم عن سماك ابن حرب عن خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب قال : لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه
فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب
فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم من باب بني شيبة فأمر بثوب فوضع الحجر في وسطه و أمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب فرفعوه و أخذه رسول الله صلى الله عليه و سلم فوضعه
قال يعقوب بن سفيان : أخبرني أصبغ بن فرج أخبرني ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم الحلم جمرت امرأة الكعبة فطارت شرارة من مجمرهما في ثياب الكعبة فاحترقت فهدموها حتى إذا بنوها فبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن : أي القبائل تلي رفعه
فقالوا : تعالوا نحكم أول من يطلع علينا فطلع رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو غلام عليه و شاح نمرة فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب ثم أخرج سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن فكان هو يضعه
فكان لا يزداد على السن إذا رضى حتى دعوه الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي فطفقوا لا ينحرون جزورا إلا التمسوه فيدعو لهم فيها
و هذا سياق حسن وهو من سير الزهري
و فيه من الغرابة قوله : فلما بلغ الحلم و المشهور أن هذا كان و رسول الله صلى الله عليه و سلم عمره خمس و ثلاثون سنة و هو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله
و قال موسى بن عقبة : كان بناء الكعبة قبل المبعث بخمس عشرة سنة
و هكذا قال مجاهد و عروة و محمد بن جبير بن مطعم و غيرهم فالله أعلم
و قال موسى بن عقبة : كان بين الفجار و بين بناء الكعبة خمس عشرة سنة
قلت : و كان الفجار و حفل الفضول في سنة واحدة إذ كان عمر رسول الله صلى الله عليه و سلم عشرون سنة و هذا يؤيد ما قال محمد بن إسحاق والله أعلم (1/272)
قال موسى بن عقبة : و إنما حمل قريشا على بنائها أن السيول كانت تأتي من فوقها من فوق الردم الذي صفوه فخربه فخافوا أن يدخلها الماء
و كان رجل يقال له مليح سرق طيب الكعبة فأرادوا أن يشهدوا بنيانها و أن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاءوا
فأعدوا لذلك نفقة و عمالا ثم غدوا إليها ليهدموها على شفق و حذر أن يمنعهم الله الذي أرادوا
فكان أول رجل طلعها و هدم منها شيئا الوليد بن المغيرة فلما رأوا الذي فعل الوليد تتابعوا فوضعوها فأعجبهم ذلك
فلما أرادوا أن يأخذوا في بنيانها أحضروا عمالهم فلم يقدر رجل منهم أن يمضي أمامه موضع قدم
فزعموا أنهم رأوا حية قد أحاطت بالبيت رأسها عند ذنبها فأشفقوا منها شفقة شديدة و خشوا أن يكونوا قد وقعوا مما عملوا في هلكة
و كانت الكعبة حرزهم و منعتهم من الناس و شرفا لهم فلما سقط في أيديهم و التبس عليهم أمرهم قام فيهم المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فذكر ما كان من نصحه لهم و أمره إياهم أن لا يتشاجروا و لا يتحاسدوا في بنائها و أن يقتسموها أرباعا و أن لا يدخلوا في بنائها مالا حرما
و ذكر أنهم لما عزموا على ذلك ذهبت الحية في السماء و تغيبت عنهم و رأوا أن ذلك من الله عز و جل
قال : و يقول بعض الناس : إنه اختطفها طائر و ألقاها نحو أجياد
و قال محمد بن إسحاق بن يسار : فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم خمسا و ثلاثين سنة اجتمعت قريش لبناء الكعبة و كانوا يهمون بذلك ليسقفوها و يهابون هدمها و إنما كانت رضما فوق القامة فأرادوا رفعها و تسقيفها
و ذلك أن نفرا سرقوا كنز الكعبة و إنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة
و كان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى لبني مليح بن عمرو بن خزاعة فقطعت قريش يده
و تزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك
و كان البحر قد رمى بسفينة إلى جده لرجل من تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها
قال الأموي : كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم تحمل آلات البناء من الرخام و الخشب و الحديد سرحها قيصر مع باقوم الرومي إلى الكنيسة التي أحرقها الفرس للحبشة فلما بلغت مرساها من جدة بعث الله عليها ريحا فحطمتها
قال ابن إسحاق : و كان بمكة رجل قبطي نجار فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها
و كانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدي إليها كل يوم فتتشرق على جدار الكعبة و كانت مما يهابون و ذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت و كشت و فتحت فاها فكانوا يهابونها فبينما هي يوما تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله عليها طائرا فاختطفها فذهب بها
فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله تعالى قد رضى ما أردنا عندنا عامل رفيق و عندنا خشب و قد كفانا الله الحية
و حكى السهيلي عن رزين أن سارقا دخل الكعبة في أيام جرهم ليسرق كنزها فانهار البئر عليه حتى جاءوا فأخرجوه و أخذوا منه ما كان أخذه ثم سكنت هذا البئر حية رأسها كرأس الجدي و بطنها أبيض و ظهرها أسود فأقامت فيها خمسمائة عام و هي التي ذكرها محمد بن إسحاق
قال محمد بن اسحاق : فلما أجمعوا أمرهم لهدمها و بنيانها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم ـ و قال ابن هشام : عائذ بن عمران بن مخزوم ـ فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال : يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا لا يدخل فيها مهر بغي و لا بيع ربا و لا مظلمة أحد من الناس و الناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة ابن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ثم رجح ابن إسحاق أن قائل ذلك أبو وهب ابن عمرو قال : و كان خال أبي النبي صلى الله عليه و سلم و كان شريفا ممدحا (1/275)
قال ابن إسحاق : ثم إن قريشا تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف و زهرة و ما بين الركن الأسود و الركن اليماني لبني مخزوم و قبائل من قريش انضموا إليهم و كان ظهر الكعبة لبني جمح و سهم و كان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي و لبني أسد بن عبد العزى و لبني عدي بن كعب و هو الحطيم (1/277)
ثم إن الناس هابوا هدمها و فرقوا منه فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول ثم قام عليها و هو يقول : اللهم لم ترع اللهم إنا لا نريد إلا الخير
ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة و قالوا : ننظر فإن أصيبا لم نهدم منها شيئا و رددناها كما كانت و إن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا من هدمها
فأصبح الوليد غاديا علىعمله فهدم و هدم الناس معه حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم عليه السلام أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضا
و وقع في صحيح البخاري عن يزيد بن رومان [ كأسنمة الإبل ] قال السهيلي : و أرى رواية السيرة [ كالأسنة ] وهما و الله أعلم
قال ابن إسحاق : فحدثنى بعض من يروي الحديث : أن رجل من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس
و قال موسى بن عقبة : و زعم عبد الله بن عباس أن أولية قريش كانوا يحدثون أن رجلا من قريش لما اجتمعوا لينزعوا الحجارة إلى تأسيس إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام عمد رجل منهم إلى حجر من الأساس الأول فرفعه و هو لا يدري أنه من الأساس الأول فأبصر القوم برقة تحت الحجر كادت تلتمع بصر الرجل و نزا الحجر من يده فوقع في موضعه و فزع الرجل و البناة فلما ستر الحجر عنهم ما تحته إلى مكانه عادوا إلى بنيانهم و قالوا لا تحركوا هذا الحجر و لا شيئا بحذائه
قال ابن إسحاق : و حدثت أن قريشا وجدوا في الركن كتابا بالسريانية فلم يعرفوا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود فإذا هو أنا الله ذوبكة خلقها يوم خلقت السماوات و الأرض و صورت الشمس و القمر و حففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها ـ قال ابن هشام : يعني جبلاها ـ مبارك لأهلها في الماء و اللبن (1/278)
قال ابن إسحاق : و حدثت أنهم وجدوا في المقام كتابا فيه : مكة بيت الله الحرام يأتيها رزقها من ثلاثة سبل لا يحلها أول من أهلها
قال : و زعم ليث بن أبي سليم أنهم وجدوا حجرا في الكعبة قبل مبعث النبي صلى الله عليه و سلم بأربعين سنة إن كان ما ذكر حقا مكتوبا فيه : من يزرع خيرا يحصد غبطة و من يزرع شرا يحصد ندامة تعلمون السيئات و تجزون الحسنات ؟ ! أجل كما لا يجتني من الشوك العنب
و قال سعيد بن يحيى الأموي : [ حدثنا المعتمر بن سليمان الرقي عن عبد الله بن بشر الزهري ـ يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه و سلم ـ قال : وجد في المقام ثلاثة أصفح في الصفح الأول : إني أنا الله ذوبكة صنعتها يوم صنعت الشمس و القمر و حففتها بسبعة أملاك حنفاء و باركت لأهلها في اللحم و اللبن
و في الصفح الثاني : إني أنا الله ذو بكة خلقت الرحم و شققت لها من اسمي فمن و صلها و صلته و من قطعها بتته
و في الصفح الثالث : إني أنا الله ذو بكة خلقت الخير و الشر و قدرته فطوبى لمن أجريت الخير على يديه و ويل لمن أجريت الشر على يديه ] (1/279)
قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها كل قبيلة تجمع على حدة
ثم بنوها حتى بلغ البناء موضع الركن فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تحاوروا و تحالفوا و أعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم و بنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت و أدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا لعقة الدم
فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا و تناصفوا
فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم و كان عامئذ أسن قريش كلها قال : يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه ففعلوا
فكان أول من داخل دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا هذا محمد لفما انتهى إليهم و أخبروه الخبر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هلموا إلى ثوبا ] فأتى به و أخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال : [ لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ] ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه و سلم ثم بنى عليه
و كانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه و سلم الأمين
و قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا ثابت ـ يعني أبا يزيد ـ حدثنا هلال يعني ابن حبان عن مجاهد عن مولاه ـ و هو السائب بن عبد الله ـ أنه حدثه أنه كان فيمن بنى الكعبة في الجاهلية قال : و كان لي حجر أنا نحته أعبده من دون الله قال : و كنت أجئ باللبن الخاسر الذي آنفه على نفسي فأصبه عليه فيجئ الكلب فيلحسه ثم يشغر فيبول عليه قال : فبنينا حتى بلغنا موضع الحجر و لا يرى الحجر أحد فإذا هو وسط أحجارنا مثل رأس الرجل يكاد يتراءى منه وجه الرجل فقال بطن من قريش : نحن نضعه و قال آخرون : نحن نضعه فقالوا : أول رجل يطلع من الفج فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : أتاكم الأمين فقالوا له فوضعه في ثوب ثم دعا بطونهم فرفعوا نواحيه فوضعه هو صلى الله عليه و سلم (1/280)
قال ابن إسحاق : و كانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه و سلم ثماني عشرة ذراعا و كانت تكسي القباطي ثم كسيت بعد البرود و أول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف
قلت : و ما كانوا أخرجوا منها الحجر ـ و هو ستة أذرع أو سبعة أذرع من ناحية الشام ـ قصرت بهم النفقة أي لم يتمكنوا أن يبنوه على قواعد إبراهيم و جعلوا للكعبة بابا واحدا من ناحية الشرق و جعلوه مرتفعا لئلا يدخل إليها كل أحد فيدخلوا من شاءوا و يمنعوا من شاءوا
و قد ثبت في الصحيحين [ عن عائشة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لها : ألم ترى أن قومك قصرت بهم النفقة و لولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة و جعلت لها بابا شرقيا و بابا غربيا و أدخلت فيها الحجر ]
و لهذا لما تمكن ابن الزبير بناها على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و جاءت في غاية البهاء و الحسن و السناء كاملة على قواعد الخليل لها بابان ملتصقان بالأرض شرقيا و غربيا يدخل الناس من هذا و يخرجون من الآخر
فلما قتل الحجاج ابن الزبير كتب إلى عبد الملك بن مروان و هو الخليفة يومئذ فيما صنعه ابن الزبير اعتقدوا أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه
فأمر بإعادتها إلى ما كانت عليه فعمدوا إلى الحائط الشامي فحصوه و أخرجوا منه الحجر و رصوا حجارته في أرض الكعبة فارتفع باباها و سدوا الغربي واستمر الشرقي على ما كان عليه فلما كان في زمن المهدي ـ أو ابنه المنصور ـ استشار مالكا في إعادتها على ما كان صنعه ابن الزبير فقال مالك رحمه الله : إني أكره أن يتخذها الملوك ملعبة فتركها على ما هي عليه فهي إلى الآن كذلك
و أما المسجد الحرام : فأول من أخر البيوت من حول الكعبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه اشتراها من أهلها و هدمها فلما كان عثمان اشترى دورا و زادها فيه فلما ولي ابن الزبير أحكم بنيانه و حسن جدرانه و أكثر أبوابه و لم يوسعه شيئاآخر
فلما استبد بالأمر عبد الملك بن مروان زاد في ارتفاع جدرانه و أمر بالكعبة فكسيت الديباج و كان الذي تولى ذلك بأمره الحجاج بن يوسف
و قد ذكرنا قصة بناء البيت و الأحاديث الواردة في ذلك في تفسير سورة البقرة عند قوله { و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل } و ذكرنا ذلك مطولا مستقصى فمن شاء كتبه ها هنا و لله الحمد و المنة (1/281)
قال ابن إسحاق : فلما فرغوا من البنيان و بنوها على ما أرادوا قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها :
( عجبت لما تصوبت العقاب ... إلى الثعبان و هي لها اضطراب )
( و قد كانت تكون لها كشيش ... و أحيانا يكون لها وثاب )
( إذاقمنا إلى التأسيس شدت ... تهيبنا البناء و قد نهاب )
( فلما أن خشينا الزجر جاءت ... عقاب تتلئب لها انصباب )
( فضمتها إليها ثم خلت ... لنا البنيان ليس لها حجاب )
( فقمنا حاشدين إلى بناء ... لنا منه القواعد والتراب )
( غداة يرفع التأسيس منه ... و ليس على مساوينا ثياب )
( أعز به المليك بني لؤي ... فليس لأصله منهم ذهاب )
( و قد حشدت هناك بني عدي ... و مرة قد تقدمها كلاب )
( فبوأنا المليك بذاك عزا ... و عند الله يلتمس الثواب )
و قد قدمنا في فصل ما كان الله يحوط به رسوله صلى الله عليه و سلم من أقذار الجاهلية أنه كان هو و العباس عمه ينقلان الحجارة و أنه عليه الصلاة و السلام لما وضع إزاره تحت الحجارة على كتفه نهي عن خلع إزاره فأعاده إلى سيرته الأولى (1/283)
و ذكر ابن إسحاق ما كانت قريش ابتدعوه في تسميتهم الحمس و هو الشدة في الدين و الصلابة
و ذلك لأنهم عظموا الحرم تعظيما زائدا بحيث التزموا بسببه أن لا يخرجوا منه ليلة عرفة و كانوا يقولون : نحن أبناء الحرم و قطان بيت الله
فكانوا لا يقفون بعرفات مع علمهم أنها مشاعر إبراهيم عليه السلام حتى لا يخرجوا عن نظام ما كانوا قرروه من البدعة الفاسدة و كانوا لا يدخرون من اللبن أقطا و لا سمنا و لا يسلون شحما و هم حرم و لا يدخلون بيتا من شعر و لا يستظلون إن استظلوا إلا ببيت من أدم و كانوا يمنعون الحجيج و العمار ـ ما داموا محرمين ـ أن يأكلوا إلا من طعام قريش ولا يطوفوا إلا في ثياب قريش فإن لم يجد أحد منهم ثوب أحد من الحمس و هم قريش و ما ولدوا و من دخل معهم من كنانة و خزاعة طاف عريانا و لو كانت امرأة و لهذا كانت المرأة إذا اتفق طوافها لذلك وضعت يدها على فرجها و تقول :
( اليوم يبدو بعضه أو كله ... و ما بدا منه فلا أحله )
فإن تكرم أحد ممن يجد ثوب أحمس فطاف في ثياب نفسه فعليه إذا فرغ من الطواف أن يلقيها فلا ينتفع بها بعد ذلك و ليس له أو لغيره أن يمسها و كانت العرب تسمي تلك الثياب : [ اللقي ] قال بعض الشعراء :
( كفى حزنا كرى عليه كأنه ... لقى بين أيدي الطائفين حريم )
قال ابن إسحاق : فكانوا كذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم و أنزل عليه القرآن ردا عليهم فيما ابتدعوه فقال { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } أي جمهور العرب من عرفات { و استغفروا الله إن الله غفور رحيم }
و قد قدمنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقف بعرفات قبل أن ينزل عليه توفيقا من الله له
و أنزل الله عليه ردا عليهم فيما كانوا حرموا من اللباس و الطعام على الناس { يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد و كلوا و اشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق } الآية
و قال زياد البكائي عن ابن إسحاق : و لا أدري أكان ابتداعهم لذلك قبل الفيل أو بعده (1/284)
قال : محمد ابن إسحاق رحمه الله : و كانت الأحبار من اليهود و الرهبان من النصارى و الكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل مبعثه لما تقارب زمانه
أما الأحبار من اليهود و الرهبان من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من صفته و صفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه
قال الله تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون }
و قال الله تعالى : { و إذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } و قال الله تعالى : { محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما } و قال الله تعالى : { و إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه قال أأقررتم و أخذتم على ذلكم إصري ؟ قالوا أقررنا قال فاشهدوا و أنا معكم من الشاهدين } (1/286)
و في صحيح البخاري عن ابن عباس قال : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد و هو حي ليؤمنن به و لينصرنه و أمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد و هم أحياء ليؤمنن به و لينصرنه و ليتبعنه
يعلم من هذا أن جميع الأنبياء بشروا و أمروا باتباعه
و قد قال إبراهيم عليه السلام فيما دعا به لأهل مكة : { ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم }
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا أبو النضر حدثنا الفرج بن فضالة حدثنا لقمان بن عامر سمعت أبا أمامة قال : قلت : يا رسول الله ما كان بدء أمرك
قال : دعوة أبي إبراهيم و بشرى عيسى و رأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام ]
و قد روى محمد ابن إسحاق عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه مثله
و معنى هذا أنه أراد : بدء أمره بين الناس و اشتهار ذكره و انتشاره فذكر دعوة إبراهيم الذي تنسب إليه العرب ثم بشر عيسى الذي هو خاتم أنبياء بني إسرائيل كما تقدم يدل هذا على أن من بينهما من الأنبياء بشروا به أيضا أما في الملأ الأعلى فقد كان أمره مشهورا مذكورا معلوما من قبل خلق آدم عليه الصلاة و السلام كما قال الإمام أحمد :
[ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني عند الله خاتم النبيين و إن آدم لمنجدل في طينته و سأنبئكم بتأويل ذلك دعوة أبي إبراهيم و بشارة عيسى بي و رؤيا أمي التي رأت وكذلك ترى أمهات النبيين ]
و قد رواه الليث بن معاوية بن صالح و قال : إن أمه رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام (1/287)
و قال الإمام أحمد أيضا : [ حدثنا عبد الرحمن حدثنا منصور بن سعد عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر قال : قلت يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال : و آدم بين الروح و الجسد ]
تفرد بهن أحمد
و قد رواه عمر بن أحمد بن شاهين في كتاب دلائل النبوة من حديث أبي هريرة فقال : [ حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ـ يعني أبا القاسم البغوي ـ حدثنا أبو همام الوليد بن مسلم عن الأوزعي حدثني يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم متى و جبت لك النبوة ؟ قال : بين خلق آدم و نفخ الروح فيه ]
و رواه من وجه آخر عن الأوزعي به و قال [ و آدم منجدل في طينته ]
و روى عن البغوي أيضا عن أحمد بن المقدام عن بقية بن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي هريرة ـ مرفوعا ـ في قول الله تعالى : { و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كنت أول النبيين في الخلق و آخرهم في البعث ]
[ و من حديث أبي مزاحم عن قيس بن الربيع عن جابر عن الشعبي عن ابن عباس قيل : يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال : و آدم بين الروح و الجسد ] (1/288)
و اما الكهان من العرب فأتتهم به الشياطين من الجن مما تسترق من السمع إذ كانت و هي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم و كان الكاهن و الكاهنة لا يزال يقع منهما بعض ذكر أموره و لا يلقي العرب لذلك فيه بالا حتى بعثه الله تعالى و وقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها
فلما تقارب أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم و حضر زمان مبعثه حجبت الشياطين عن السمع و حيل بينها وبين المقاعد التي كانت تقعد لاستراق السمع فيها فرموا بالنجوم فعرفت الشياطين أن ذلك لأمر حدث من أمر الله عز و جل
قال : و في ذلك أنزل الله على رسوله صلى الله عليه و سلم { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به و لن نشرك بربنا أحدا } إلى آخر السورة
و قد ذكرنا تفسير ذلك كله في كتابنا التفسير و كذا قوله تعالى : { و إذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا : أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم } الآيات ذكرنا تفسير ذلك كله هناك (1/289)
قال محمد ابن إسحاق : حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن أول العرب فزع بالنجوم حين رمى بها ـ هذا الحي من ثقيف ـ و أنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له : عمرو بن أمية أحد بني علاج و كان أدهى العرب و أنكرها فقالوا له : يا عمرو ألم تر ما حدث في السماء من القذف بهذه النجوم ؟
قال : بلى فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها في البر و البحر و يعرف بها الأنواء من الصيف و الشتاء لما يصلح الناس في معايشهم هي التي يرمى بها فهو و الله طي الدنيا و هلاك هذا الحق و إن كانت نجوما غيرها و هي ثابتة على حالها فهذا لأمر أراد الله به هذا الخلق فما هو ؟
قال ابن إسحاق : و حدثني بعض أهل العلم أن امرأة من بني سهم ـ يقال لها الغيطلة ـ كانت كاهنة في الجاهلية جاءها صاحبها ليلة من الليالي فانقض تحتها ثم قال : أدر ما أدر يوم عقر و نحر ؟ قالت قريش حين بلغها ذلك : ما يريد ؟
ثم جاءها أخرى فانقض تحتها ثم قال : شعوب ما شعوب ؟ تصرع فيه كعب لجنوب فلما بلغ ذلك قريشا قالوا : ماذا يريد ؟ إن هذا لأمر هو كائن فانظروا ما هو
فما عرفوه حتى كانت و قعة بدر و أحد بالشعب فعرفوا أنه كان الذي جاء به إلى صاحبته
قال ابن إسحاق : و حدثني علي بن نافع الجرشي أن جنبا ـ بطنا من اليمن ـ كان لهم كاهن في الجاهلية فلما ذكر أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم و انتشر في العرب قالت له جنب : انظر لنا في أمر هذا الرجل و اجتمعوا له في أسفل جبله
فنزل إليهم حين طلعت الشمس فوقف لهم قائما متكئا على قوس له فرفع رأسه إلى السماء طويلا ثم جعل ينزو ثم قال : أيها الناس إن الله أكرم محمدا و اصطفاه و طهر قلبه و حشاه و مكثه فيكم أيها الناس قليل ثم اشتد في جبله راجعا من حيث جاء
ثم ذكر ابن إسحاق قصة سواد بن قارب و قد أخرناها إلى هواتف الجان (1/290)
قال ابن إسحاق : و حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه قالوا إن مما دعانا إلى الإسلام ـ مع رحمه الله تعالى و هداه لنا ـ أن كنا نسمع من رجل من يهود ـ كنا أهل شرك أصحاب أوثان و كانوا عندهم علم ليس لنا و كانت لا تزال بيننا و بينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا : إنه قد تقارب زمان نبي يبعث الآن نقلتكم معه قتل عاد و إرم
فكنا كثيرا ما نسمع ذلك منهم
فلما بعث الله رسول الله صلى الله عليه و سلم أجبناه حين دعانا إلى الله و عرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به و كفروا به ففينا و فيهم نزلت هذه الآية { و لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين }
و قال ورقاء : عن ابن أبي نجيح عن علي الأزدي : كانت اليهود تقول : اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا و بين الناس يستفتحون به ـ أي يستنصرون به
رواه البيهقي
ثم روى من طريق عبد الملك بن هارون بن عنبرة عن أبيه عن جده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانت اليهود بخيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود خيبر فعاذت اليهود بهذا الدعاء فقالوا : اللهم نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم
قال : فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غظفان
فلما بعث النبي صلى الله عليه و سلم كفروا به فأنزل الله عز و جل { و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } الآية
و روى عطية عن ابن عباس نحوه و روى عن عكرمة من قوله نحو ذلك أيضا
قال ابن إسحاق : و حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود ابن لبيد عن سلمة بن سلام بن وقش و كان من أهل بدر قال : كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل قال فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل
قال سلمة : و أنا يومئذ أحد من فيه سنا علي فروة لي مضطجع فيها بفناء أهلي
فذكر القيامة و البعث و الحساب و الميزان و الجنة و النار
قال : فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت
فقالوا له : ويحك يا فلان ! أوترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة و نار يجزون فيها بأعمالهم ؟
قال : نعم و الذي يحلف به و يود أن له تحطة من تلك النار أعظم تنور في الدار يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبقونه عليه و أن ينجو من تلك النار غدا
قالوا له : ويحك يا فلان فما آية ذلك ؟
قال : نبي مبعوث من نحو هذه البلاد و أشار بيده إلى نحو مكة و اليمن
قالوا : و متى نراه ؟
قال : فنظر إلي و أنا من أحدثهم سنا ـ فقال : إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه
قال سلمة : فو الله ما ذهب الليل و النهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه و سلم و هو حي بين أظهرنا فآمنا به و كفر به بغيا و حسدا !
قال : فقلنا له ويحك يا فلان ! ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت ؟
قال : بلى و لكن ليس به
رواه أحمد عن يعقوب عن أبيه عن ابن عباس و رواه البيهقي عن الحاكم بإسناده من طريق يونس بن بكير
و روى أبو نعيم في الدلائل عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن محمد ابن سلمة قال : لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد يقال له يوشع فسمعته يقول و إني لغلام في إزار : قد أظلكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت ثم أشار بيده إلى بيت الله فمن أدركه فليصدقه
فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلمنا و هو بين أظهرنا لم يسلم حسدا و بغيا و قد قدمنا حديث أبي سعيد عن أبيه في إخبار يوشع هذا عن خروج رسول الله صلى الله عليه و سلم و صفته و نعته و إخبار الزبير بن باطا عن ظهور كوكب مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم
و رواه الحاكم عن البيهقي بإسناده من طريق يونس بن بكير عنه (1/291)
قال ابن إسحاق : و حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال قال لي : هل تدري عم كان إسلام ثعلبة بن سعية و أسيد بن سعية و أسد بن عبيد ـ نفر من بني هدل إخوة بني قريظة كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا ساداتهم في الإسلام ؟
قال : قلت لا
قال : فإن رجلامن اليهود من أرض الشام يقال له ابن الهيبان قدم علينا قبل الإسلام بسنين فحل بين أظهرنا لا و الله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس أفضل منه
فأقام عندنا فكنا إذا قحط عنا المطر قلنا له : اخرج يا ابن الهيبان فاستسق لنا
فيقول : لا و الله حتى تقدموا بين يدي مخرجكم صدقة فنقول له : كم ؟ فيقول : صاعامن تمر أو مدين من شعير
قال : فنخرجها ثم يخرج بنا إلى ظاهر حرتنا فيستسقى لنا فو الله ما يبرح مجلسه حتى يمر السحاب و يسقى قد فعل ذلك غيره مرة و لا مرتين و لا ثلاثا
قال : ثم حضرته الوفاة عندنا فلما عرف أنه ميت قال : يا معشر يهود ماترونه أخرجني من أرض الخمر و الخمير إلى أرض البؤس و الجوع ؟
قال : قلنا أنت أعلم
قال : فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه هذه البلدة مهاجره فكنت أرجو أن يبعث فأتبعه و قد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه يا معشر يهود فإنه يبعث بسفك الدماء و سبي الذراري ممن خالفه فلا يمنعنكم ذلك منه
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم و حاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية و كانوا شباباأحداثا : يا بني قريظة و الله إنه للنبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيبان
قالوا : ليس به قالوا : بلى و الله إنه لهو بصفته فنزلوا فأسلموا فأحرزوا دماءهم و أموالهم و أهليهم
قال ابن إسحاق : فهذا ما بلغنا عن أحبار يهود (1/294)
قلت : و قد قدمنا في قدوم تبع اليماني و هو أبو كرب تبان أسعد إلى المدينة و محاصرته إياها و أنه خرج إليه ذانك الحبران من اليهود فقالا له : إنه لا سبيل لك عليها إنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان فثناه ذلك عنها
و قد روى أبو نعيم في الدلائل من طريق الوليد بن مسلم حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده قال : قال عبد الله بن سلام : إن الله لما أراد هدى زيد بن سعية قال زيد : لم يبق شيء من علامات النبوة إلا و قد عرفتها في وجه صلى الله عليه و سلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه : يسبق حلمه جهله و لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما
قال : فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه و جهله فذكر قصة إسلافه للنبي صلى الله عليه و سلم مالا في ثمرة قال : فلما حل الأجل أتيته فأخذت بمجامع قميصه و ردائه ـ و هو في جنازة مع أصحابه ـ و نظرت إليه بوجه غليظ و قلت : يا محمد ألا تقضيني حقي ؟ فو الله ما علمتكم بني عبد المطلب لمطل
قال : فنظر إلى عمر و عيناه تدوران في و جهه كالفلك المستدير ثم قال : يا عدوا الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه و سلم ما أسمع و فعل ماأرى ؟ فو الذي يعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك
و رسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر إلى عمر في سكون و تؤدة و تبسم ثم قال : [ أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر أن تأمرني بحسن الأداء و تأمره بحسن التبعة اذهب به يا عمر فاقضه حقه و زد عشرين صاعا من تمر ]
فأسلم زيد بن سعية رضي الله عنه و شهد بقية المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و توفي عام تبوك رحمه الله (1/295)
ثم ذكر ابن إسحاق رحمه الله : إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه و أرضاه فقال : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن محمود بن لبيد عن عبد الله بن عباس قال : حدثني سلمان الفارسي ـ فيه ـ قال : كنت رجلافارسيا من أهل أصبهان من أهل قرية يقال لها جى و كان أبي دهقان قريته و كنت أحب خلق الله إليه فلم يزل حبه إياي حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية
و اجتهدت في المجوسية حتى كنت قطن النار الذي يوقدها لا يتركها تخبو ساعة
قال : و كانت لأبي ضيعة عظيمة قال : فشغل في بنيان له يوما فقال لي : يا بني إني قد شغلت في بنياني هذا اليوم عن ضيعتي فاذهب إليها فاطلعها و أمرني فيها ببعض ما يريد ثم قال لي : و لا تحتبس عني فإنك إن احتبست عني كنت أهم إلى من ضيعتي و شغلتني عن كل شيء من أمري
قال : فخرجت أريد ضيعته التي بعثني إليها فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها و هم يصلون و كنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم و رغبت في أمرهم و قلت هذا و الله خير من الدين الذي نحن عليه
فو الله ما برحتهم حتى غربت الشمس و تركت ضيعة أبي فلم آتها
ثم قلت لهم : أين أصل هذا الدين ؟ قالوا : بالشام
فرجعت إلى أبي و قد بعث في طلبي و شغلته عن أمره كله فلما جئت قال : أي بني أين كنت ؟ ألم أكن أعهد إليك ما عهدته ؟ قال : قلت يا أبتي مررت بأناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم فو الله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس
قال : أي بني ليس في ذلك الدين خير دينك و دين آبائك خير منه
قال : قلت : كلا و الله إنه لخير من ديننا
قال : فخافني فجعل في رجلي قيدا ثم حبسني في بيته
قال : و بعثت إلى النصارى فقلت لهم : إذا قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني بهم قال : فقدم عليهم ركب من الشام فجاءوني النصارى فأخبروني بهم فقلت : إذا قضوا حوائجهم و أرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني
قال : فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم فألقيت الحديد من رجلي ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام فلما قدمتها قلت : من أفضل أهل هذا الدين علما ؟ قالوا الأسقف في الكنيسة
قال فجئته فقلت له : إني قد رغبت في هذا الدين و أحببت أن أكون معك و أخدمك في كنيستك و أتعلم منك فأصلي معك قال : ادخل
فدخلت معه فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة و يرغبهم فيها فإذا جمعوا له شيئا كنزه لنفسه و لم يعطه المساكين حتى جمع سبع قلال من ذهب و ورق
قال : و أبغضته بغضا شديدا لما رأيته يصنع
ثم مات و اجتمعت له النصارى ليدفنوه فقلت لهم : إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة و يرغبكم فيها فإذا جئتموه بها كنزها لنفسه و لم يعط المساكين منها شيئا
قال : فقالوا لي : و ما علمك بذلك ؟ قال : فقلت لهم أنا أدلكم على كنزه قالوا فدلنا قال : فأريتهم موضعه فاستخرجوا سبع قلال مملوءة ذهبا و ورقا فلما رأوها قالوا : لا ندفنه أبدا قال : فصلبوه و رجموه بالحجارة
و جاءوا برجل آخر فوضعوه مكانه قال سلمان : فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه و أزهد في الدنيا و لا أرغب في الآخرة و لا أدأب ليلا و نهارا
قال : فأحببته حبا لم أحب شيئا قبله مثله
قال : فأقمت معه زمانا ثم حضرته الوفاة فقلت له : إني قد كنت معك و أحببتك حبا لم أحبه شيئا قبلك و قد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى فإلى من توصي بي ؟ و بم تأمرني ؟ قال : أي بني و الله ما أعلم اليوم أحدا على ما كنت عليه لقد هلك الناس و بدلوا و تركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلا بالموصل و هو فلان و هو على ما كنت عليه فالحق به
قال : فلما مات و غيب لحقت بصاحب الموصل فقلت : يا فلان إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك و أخبرني أنك على أمره فقال لي : أقم عندي
فأقمت عنده فوجدته خير رجل على أمر صاحبه فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له : يا فلان إن فلانا أوصى بي إليك و أمرني باللحوق بك و قد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصي بي و بم تأمرني ؟ قال : يا بني و الله ما أعلم رجلا على مثل ما كنا عليه إلا رجلا بنصبين و هو فلان فالحق به
فلما مات و غيب لحقت بصاحب نصيبين فأخبرته خبري و ما أمرني به صاحباي فقال : أقم عندي فأقمت عنده فوجدته على أمر صاحبيه فأقمث مع خير رجل فو الله ما لبث أن نزل به الموت فلما حضر قلت له : يا فلان إن فلان كان أوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي و بم تأمرني ؟
قال : يا بني و الله ما أعلمه بقي أحد على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجل بعمورية من أرض الروم فإنه على مثل ما نحن عليه فإن أحببت فائته فإنه على أمرنا
فلما مات و غيب لحقت بصاحب عمورية فأخبرته خبر فقال : أقم عندي فأقمت عند خير رجل على هدي أصحابه و أمرهم قال : و اكتسبت حتى كانت لي بقرات و غنيمة
قال : ثم أنزل به أمر الله فلما حضر قلت له : يا فلان إني كنت مع فلان فأوصى بي إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إلى فلان ثم أوصى بي فلان إليك فإلى من توصي بي و بم تأمرني ؟
قال : أي بني و الله ما أعلم أصبح أحد على مثل ما كنا عليه من الناس آمرك أن تأتيه و لكنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفي : يأكل الهدية و لا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل
قال : ثم مات و غيب و مكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث
ثم مر بي نفر من كلب تجار فقلت لهم احملوني إلى أرض العرب و أعطيكم بقراتي هذه و غنيمتي هذه قالوا : نعم فأعطيتهموها و حملوني معهم حتى إذا بلغوا وادي القرى ظلموني فباعوني من رجل يهودي عبدا فكنت عنده و رأيت النخل فرجوت أن يكون البلد الذي وصف لي صاحبي و لم يحق في نفس
فبينا أنا عنده إذ قدم عليه ابن عم له من بني قريظة من المدينة فابتاعني منه فاحتملني إلى المدينة فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي لها فأقمت بها
و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقام بمكة ما أقام و لا أسمع له بذكر مما أنا فيه من شغل الرق ثم هاجر إلى المدينة
فو الله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل و سيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه فقال : يا فلان قاتل الله بني قيلة و الله إنهم لمجتمعون الآن بقباء على رجل قدم من مكة اليوم يزعمون أنه نبي
قال سلمان : فلما سمعتها أخذتني الرعدة حتى ظننت أني ساقط على سيدي فنزلت عن النخلة فجعلت أقول لابن عمه ماذا تقول ؟ ماذا تقول ؟
قال : فغضب سيدي فلكمني لكمة شديدة ثم قال مالك و لهذا ؟ أقبل على عملك
قال : فقلت لا شيء إنما أردت أن أستثبته عما قال
قال : و قد كان عندي شيء قد جمعته فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بقباء فدخلت عليه فقلت له : إنه قد بلغني أنك رجل صالح و معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة هذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم
قال : فقربته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه : [ كلوا ] و أمسك يده فلم يأكل
فقلت في نفسي : هذه واحدة
ثم انصرفت عنه فجمعت شيئا و تحول رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة ثم جئته فقلت له : إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة و هذه هدية أكرمتك بها قال : فأكل رسول الله صلى الله عليه و سلم منها و أمر أصحابه فأكلوا معه
قال : فقلت في نفسي هاتان ثنتان
قال : ثم جئت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو ببقيع الغرقد قد تبع جنازة رجل من أصحابه و عليه شملتان و هو جالس في أصحابه فسلمت عليه ثم استدبرته أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ؟ فلما رأني رسول الله صلى الله عليه و سلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وصف لي فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله و أبكي فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تحول ] فتحولت بين يديه فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس
فأعجب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يسمع ذاك أصحابه
ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بدر و أحد
قال سلمان : ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كاتب يا سلمان ] فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له بالفقير و أربعين أوقية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه : [ أعينوا أخاكم ] فأعانوني في النخل : الرجل بثلاثين ودية و الرجل بعشرين ودية و الرجل بخمس عشرة ودية و الرجل بعشرة يعين الرجل بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلاثمائة ودية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اذهب يا سلمان ففقر لها فإذا فرغت فائتني أكن أنا أضعها بيدي ]
قال : ففقرت و أعانني أصحابي حتى إذا فرغت جئته فأخبرته فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم معى إليها فجعلنا نقرب إليه الودى و يضعه رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده حتى إذا فرغنا فو الذي نفس سلمان بيده ما ماتت منها ودية واحدة
فأديت النخل و بقي على المال فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب من بعض المعادن فقال : [ ما فعل الفارسي المكاتب ؟ ] قال : فدعيت له قال : [ خذ هذه فأدها مما عليك يا سلمان ]
قال : قلت : و أين تقع هذه مما علي يا رسول الله ؟ قال : [ خذها فإن الله سيؤدي بها عنك ] قال : فأخذتها فوزنت لهم منها و الذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم
و عتق سلمان فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم الخندق حرا ثم لم يفتنى معه مشهد
قال ابن إسحاق : و حدثني يزيد بن أبي حبيب عن رجل من عبد القيس عن سلمان أنه قال : لما قلت : و أين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله ؟ أخذها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلبها على لسانه ثم قال : [ خذها فأوفهم منها ] فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقية (1/296)
و قال محمد بن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة حدثني من لا أتهم عن عمر بن عبد العزيز بن مروان قال : حدثت عن سلمان أنه قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم حين أخبره أن صاحب عمورية قال له : إيت كذا و كذا من أرض الشام فإن بها رجلا بين غيضتين يخرج كل سنة من هذه الغيضة مستجيرا يعترضه ذوو الأسقام فلا يدعو لأحد منهم إلا شفى فأسأله عن هذا الدين الذي تبتغي فهو يخبرك عنه
قال سلمان : فخرجت حتى جئت حيث وصف لي فوجدت الناس قد اجتمعوا بمرضاهم هناك حتى يخرج لهم تلك الليلة مستجيزا من إحدى الغيضتين إلى الأخرى فغشيه الناس بمرضاهم لا يدعو لمريض إلا شفي و غلبوني عليه فلم أخلص إليه حتى دخل الغيضة التي يريد أن يدخل إلا منكبه قال : فتناولته فقال : من هذا ؟ و التفت إلي قال : قلت يرحمك الله ! أخبرني عن الحنيفية دين إبراهيم
قال : إنك لتسأل عن شيء ما يسأل عنه الناس اليوم قد أظلت زمان نبي يبعث بهذا الدين من أهل الحرم فأته فهو يحملك عليه ثم دخل
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لسلمان : [ لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى ابن مريم ]
هكذا وقع في هذه الرواية و فيها رجل مبهم و هو شيخ عاصم بن عمر بن قتادة
و قد قيل إنه الحسن بن عمارة ثم هو منقطع بل معضل بين عمر بن عبد العزيز و سلمان رضي الله عنه
قوله : [ لئن كنت صدقتني يا سلمان لقد لقيت عيسى ابن مريم ] غريب جدا بل منكر فإن الفترة أقل ما قيل فيها أنها أربعمائة سنة و قيل ستمائة سنة بالشمسية و سلمان أكثر ما قيل أنه عاش ثلاثمائة سنة و خمسين سنة و حكى العباس بن يزيد البحراني إجماع مشايخه على أنه عاش مائتين و خمسين سنة و اختلفوا فيما زاد إلى ثلاثمائة و خمسين سنة و الله أعلم و الظاهر أنه قال لقد لقيت وصي عيسى ابن مريم فهذا ممكن بالصواب
و قال السهيلي : الرجل المبهم هو الحسن بن عمارة و هو ضعيف و إن صح لم يكن فيه نكارة لأن ابن جرير ذكر أن المسيح نزل من السماء بعد ما رفع فوجد أمه و امرأة أخرى يبكيان عند جذع المصلوب فأخبرهما أنه لم يقتل و بعث الحواريين بعد ذلك
قال : و إذا جاز نزوله مرة جاز نزوله مرارا ثم يكون نزوله الظاهر حين يكسر الصليب و يقتل الخنزير و يتزوج حينئذ امرأة من بني جذام و إذا مات دفن في حجرة روضة رسول الله صلى الله عليه و سلم (1/303)
و قد روى البيهقي في كتاب دلائل النبوة قصة سلمان هذه من طريق يونس بن بكير عن محمد ابن إسحاق كما تقدم و رواها أيضا عن الحاكم عن الأصم بن يحيى ابن أبي طالب
حدثنا علي بن عاصم حدثنا حاتم بن أبي صفرة عن سماك بن حرب عن يزيد ابن صوحان أنه سمع سلمان يحدث كيف كان أول إسلامه فذكر قصة طولية و ذكر أنه كان من رامهزمز و كان له أخ أكبر منه غني و كان سلمان فقيرا في كنف أخيه و أن ابن دهقانها كان صاحبا له و كان يختلف معه إلى معلم لهم و أنه كان يتخلف ذلك الغلام إلى عباد من النصارى في كهف لهم فسأله سلمان أن يذهب به معه إليهم فقال له : إنك غلام و أخشى أن تنم عليهم فيقتلهم أبي فالتزم له أن لا يكون منه شيء يكرهه
فذهب به معه فإذا هم ستة أو سبعة كأن الروح قد خرجت منهم من العبادة يصومون النهار و يقومون الليل يأكلون الشجر و ما وجدوا
فذكر عنهم أنهم يؤمنون بالرسل المتقدمين و أن عيسى عبد الله و رسوله و ابن أمته أديه بالمعجزات
و قالوا له : يا غلام إن لك ربا و إن لك معادا و إن بين يديك جنة و نارا و إن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر و ضلالة لا يرضى الله بما يصنعون و ليسوا على دينه
ثم جعل يتردد مع ذلك الغلام إليهم ثم لزمهم سلمان بالكلية ثم أجلاهم ملك تلك البلاد و هو أبو ذلك الغلام الذي صحبه سلمان إليهم عن أرضه و احتبس الملك ابنه عنده و عبد عرض سلمان دينهم على أخيه الذي هو أكبر منه فقال : إني مشتغل بنفسي في طلب المعيشة
فارتحل معهم سلمان حتى دخلوا كنيسة الموصل فسلم عليهم أهلها ثم أرادوا أن يتركوني عندهم فأبيت إلا صحبتهم فخرجوا حتى أتوا واديا بين جبال فتحدر إليهم رهبان تلك الناحية يسلمون عليهم و اجتمعوا ن تلك الناحية يسلمون عليهم و اجتمعوا إليهم و جعلوا يسألونهم عن غيبتهم عنهم و يسألونهم عني فيثنون على خيرا
و جاء رجل معظم فيهم فخطبهم فأثنى على الله بما هو أهله و ذكر الرسل و ما أيدوا به و ذكر عيسى ابن مريم و أنه كان عبد الله و رسوله قال فكان يصوم النهار و يقوم الليل من الأحد إلى الأحد فيخرج إليهم و يعظهم و يأمرهم و ينهاهم فمكث على ذلك مدة طويلة ثم أراد أن يزور بيت المقدس فصحبه سلمان إليه
قال : فكان فيما يمشي يلتفت إلي و يقبل على فيعظني و يخبرني أن لي ربا و أن بين يدي جنة و نارا و حسابا و يعلمني و يذكرني نحو ما كان يذكر القوم يوم الأحد قال فيما يقول لي : يا سلمان إن الله سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج من تهامة يأكل الهدية و لا يأكل الصدقة بين كتفيه خاتم النبوة و هذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب فأما أنا فإني شيخ كبير و لا أحسبني أدركه فإن أدركته أنت فصدقه و اتبعه قلت له : و إن أمرني بترك دينك و ما أنت عليه ؟ قال : و إن أمرك فإن الحق فيما يجيء به و رضا الرحمن فيما قال
ثم ذكر قدومها إلى بيت المقدس و أن صاحبه صلى فيه ها هنا و ها هنا ثم نام و قد أوصاه أنه إذا بلغ الظل مكان كذا أن يوقظه فتركه سلمان حينا آخر أزيد مما قال ليستريح فلما استيقظ ذكر الله ولام سلمان على ترك ما أمره من ذلك ثم خرجا من بيت المقدس فسأله مقعد فقال : يا عبد الله سألتك حين وصلت فلم تعطني شيئا و ها أنا أسالك فنظر فلم يجد أحدا فأخذ بيده و قال : قم بسم الله فقام و ليس به بأس و لا قلبة كأنما نشط من عقال فقال لي : يا عبد الله احمل علي متاعي حتى أذهب إلى أهلي فأبشرهم فاشتغلت به ثم أدركت الرجل فلم ألحقه و لم أدر أين ذهب و كلما سألت عنه قوما قالوا : أمامك
حتى لقيني ركب من العرب من بني كلب فسألتهم فلما سمعوا لغتي أناخ رجل منهم بعيره فحملني خلفه حتى أتوا بي بلادهم
فباعوني فاشترتني امرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها
وقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم ذكر ذهابه إليه بالصدقة و الهدية ليستعلم ما قال صاحبه ثم تطلب النظر إلى خاتم النبوة فلما رآه آمن من ساعته و أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم خبره الذي جرى له
قال : فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر فاشتراه من سيدته فأعتقه
قال : ثم سألته يوما عن دين النصارى فقال : لا خير فيهم قال : فوقع في نفسي من أولئك الذين صحبتهم و من ذلك الرجل الصالح الذي كان معي ببيت المقدس فدخلني من ذلك أمر عظيم حتى أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه و سلم { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود و الذين أشركوا و لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا و أنهم لا يستكبرون } فدعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم فجئت و أنا خائف فجلست بين يديه فقرأ : [ { بسم الله الرحمن الرحيم ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا و أنهم لا يستكبرون } ] الآيات ثم قال : [ يا سلمان أولئك الذين كنت معهم و صاحبك لم يكونوا نصارى كانوا مسلمين ] فقلت : يا رسول الله و الذي بعثك بالحق لهو أمرني باتباعك فقلت له : فإن أمرني بترك دينك و ما أنت عليه ؟ قال : نعم فاتركه فإن الحق و ما يرضى الله فيما يأمرك
و في هذا السياق غرابة كثيرة و فيه بعض المخالفة لسياق محمد ابن إسحاق و طريق محمد ابن إسحاق أقوى إسنادا و أحسن اقتصاصا و أقرب إلى ما رواه البخاري في صحيحه من حديث معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي عن أبيه عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي أنه تداوله بضعة عشر من رب إلى رب أي من معلم إلى معلم و مرب إلى مثله و الله أعلم
قال السهيلي : تداوله ثلاثون سيدا من سيد إلى سيد فالله أعلم
و كذلك استقصى قصة إسلامه الحافظ أبو نعيم في الدلائل و أورد لها أسانيد و ألفاظا كثيرة و في بعضها أن اسم سيدته التي كاتبته حلبسة فالله أعلم (1/304)
قال أبو نعيم في الدلائل : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن زكريا الغلابي حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي السوية المنقري حدثنا عباد بن كسيب عن أبيه عن أبي عتوارة الخزاعي عن سعير بن سوادة العامري قال : كنت عشيقا لعقيلة من عقائل الحي أركب لها الصعب و الذلول لا أبقي من البلاد مسرحا أرجو ربحا في متجر إلا أتيته فانصرفت من الشام بحرث و أثاث أريد به كبة الموسم و دهماء العرب فدخلت مكة بليل مسدف فأقمت حتى تعرى عني قميص الليل فرفعت رأسي فإذا قباب مسامتة شعف الجبال مضروبة بأنطاع الطائف و إذا جزر تنحر و أخرى تساق و إذا أكلة و حثثة على الطهارة يقولون ألا عجلوا ألا عجلوا و إذا رجل يجهر على نشز من الأرض ينادي : يا وفد الله ميلوا إلى الغداء و أنيسان على مدرجة يقول : يا وفد الله من طعم فليرح إلى العشاء فجهرني ما رأيت فأقبلت أريد عميد القوم فعرف رجل الذي بي فقال : أمامك و إذا شيخ كأن في خديه الأساريع و كأن الشعري توقد من جبينه قد لاث على رأسه عمامة سوداء قد أبرز من ملائها جمة فينانة كأنها سماسم قال في بعض الروايات : تحته كرسي سماسم و من دونها نمرقة بيده قضيب متخصر به حوله مشايخ جلس نواكس الأذقان ما منهم أحد يفيض بكلمة و قد كان نمى إلي خبر من أخبار الشام أن النبي الأمي هذا أوان نجومه فلما رأيته ظننته ذلك فقلت : السلام عليك يا رسول الله فقال : مه مه كلا و كأن قد و ليتني إيه فقلت : من هذا الشيخ ؟ فقالوا هذا أبو نضلة هذا هاشم بن عبد المناف فوليت و أنا أقول : هذا و الله المجد لا مجد آل جفنة ـ يعني ملوك عرب الشام من غسان كان يقال لهم آل جفنة ـ و هذه الوظيفة التي حكاها عن هاشم هي الرفادة يعني إطعام الحجيج زمن الموسم (1/308)
و قال أبو نعيم : حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر حدثنا محمد بن أحمد بن أبي يحيى حدثنا سعيد بن عثمان حدثنا علي بن قتيبة الخراساني حدثنا خالد بن الياس عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم عن أبيه عن جده قال سمعت أبا طالب يحدث عن عبد المطلب قال : بينا أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا هالتني ففزعت منها فزعا شديدا فأتيت كاهنة قريش و على مطرف خزوجمتي تضرب منكبي فلما نظرت إلي عرفت في وجهي التغير و أنا يومئذ سيد قومي فقالت : ما بال سيدنا قد أتانا متغير اللون ؟ هل رابه من حدثان الدهر سيء ؟ فقلت لها : بلى !
و كان لا يكلمها أحد من الناس حتى يقبل يدها اليمنى ثم يضع يده على أم رأسها ثم يذكر حاجته و لم أفعل لأني كنت كبير قومي
فجلست فقلت : إني رأيت الليلة و أنا نائم في الحجر كأن شجرة نبتت قد نال رأسها السماء و ضربت بأغصانها المشرق و المغرب و ما رأيت نورا أزهر منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفا و رأيت العرب و العجم ساجدين لها و هي تزداد كل ساعة عظما و نورا و ارتفاعا ساعة تخفي و ساعة تزهر و رأيت رهطا من قريش قد تعلقوا بأغصانها و رأيت قوما من قريش يريدون قطعها فإذا دنوا منها أخرهم شاب لم أر قط أحسن منه وجها و لا أطيب منه ريحا فيكسر أظهرهم و يقلع أعينهم فرفعت يدي لأتناول منها نصيبا فمنعني الشاب فقلت : لمن النصيب لهؤلاء الذين تعلقوا بها و سبقوك إليها فانتبهت مذعورا فزعا
فرأيت وجه الكاهنة قد تغير ثم قالت : لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق و المغرب و يدين له الناس ثم قال ـ يعني عبد المطلب ـ لأبي طالب لعلك تكون هذا المولود
قال : فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث بعد ما ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم و بعد ما بعث ثم قال كانت الشجرة و الله أعلم أبا القاسم الأمين فيقال لأبي طالب : ألا تؤمن ؟ فيقول : السبة و العار ! (1/309)
و قال أبو نعيم : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن زكرياء الغلابي حدثنا العباس بن بكار الضبي حدثنا أبو بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال العباس : خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب ـ منهم أبو سفيان بن حرب فقدمت اليمن فكنت أصنع يوما طعاما و أنصرف بأبي سفيان و بالنفر و يصنع أبو سفيان يوما و يفعل مثل ذلك فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه : هل لك يا أبا الفضل أن تنصرف إلى بيتي و ترسل إلي غذاءك ؟ فقلت : نعم
فانصرفت أنا و النفر إلى بيته و أرسلت إلى الغذاء فلما تغدي القوم قاموا و احتبني فقال : هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول الله ؟ فقلت : أي بني أخي ؟ فقال أبو سفيان : إياي تكتم ؟ ! و أي بني أخيك ينبغي أن يقول هذا إلا رجل واحد ! قلت و أيهم على ذلك ؟ قال : هو محمد بن عبد الله فقلت : قد فعل ؟ قال : بلى قد فعل
و أخرج كتابا باسمه من ابنه حنظلة بن أبي سفيان فيه : أخبرك أن محمدا قام بالأبطح فقال : [ أنا رسول أدعوكم إلى الله عز و جل ] فقال العباس : قلت أجده يا أبا حنظلة صادقا
فقال : مهلا يا أبا الفضل فو الله ما أحب أن يقول مثل هذا إني لا أخشى أن يكون على ضير من هذا الحديث يا بني عبد المطلب إنه و الله ما برحت قريش تزعم أن لكم هنة هنة كل واحدة منهما غاية ! لنشدتك يا أبا الفضل هل سمعت ذلك ؟ قلت : نعم قد سمعت قال فهذه و الله شؤمتكم قلت : فلعلها يمنتنا
قال : فما كان بعد ذلك إلا ليال حتى قدم عبد الله بن حذافة بالخبر و هو مؤمن ففشا ذلك في مجالس اليمن و كان أبو سفيان يجلس مجلسا باليمن يتحدث فيه حبر من أحبار اليهود فقال له اليهودي : ما هذا الخبر ؟ بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال ؟
قال أبو سفيان : صدقوا و أنا عمه فقال اليهودي : أخو أبيه ؟ قال : نعم
قال : فحدثني عنه
قال : لا تسألني ! ما أحب أن يدعى هذا الأمر أبدا و ما أحب أن أعييه و غيره خير مني
فرأى اليهودي أنه لا يغمس عليه و لا يحب أن يعييه
فقال اليهودي : ليس به بأس على اليهود و توراة موسى
قال العباس : فناداني الحبر فجئت فخرجت حتى جلست ذلك المجلس من الغد و فيه أبو سفيان بن حرب و الحبر فقلت للحبر : بلغني أنك سألت ابن عمي عن رجل منا زعم أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخبرك أنه عمه و ليس بعمه و لكن ابن عمه و أنا عمه و أخو أبيه قال : أخو أبيه ؟ قلت : أخو أبيه
فأقبل على أبي سفيان فقال : صدق ؟ قال : نعم صدق فقلت : سلني فإن كذبت فليرد علي
فأقبل علي فقال : نشدتك هل كان لابن أخيك صبوة أو سفهة
قلت : لا و إله عبد المطلب و كذب و لا خان و إنه كان اسمه عند قريش الأمين
قال : فهل كتب بيده ؟
قال العباس : فظننت أنه خير له أن يكتب بيده فأردت أن أقولها ثم ذكرت مكان أبي سفيان يكذبني و يرد علي فقلت : لا يكتب
فوثب الحبر و نزل رداؤه و قال : ذبحت يهود و قتلت يهود !
قال العباس : فلما رجعنا إلى منازلنا قال أبو سفيان : يا أبا الفضل إن اليهود تفزع من ابن أخيك قلت : قد رأيت ما رأيت فهل لك يا أبا سفيان أن تؤمن به فإن كان حقا كنت قد سبقت و إن كان باطلا فمعك غيرك من أكفائك
قال : لا أومن به حتى أرى الخيل في كداء
قلت : ما تقول ؟ قال : كلمة جاءت على فمي إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع من كداء
قال العباس : فلما استفتح رسول الله صلى الله عليه و سلم و نظرنا إلى الخيل و قد طلعت من كداء قلت : يا أبا سفيان تذكر الكلمة ؟ !
قال : إي و الله إني لذاكرها ! فالحمد لله هداني للإسلام
و هذا سياق حسن عليها البهاء و النور و ضياء الصدق و إن كان في رجاله من هو متكلم فيه و الله أعلم
و قد تقدم ما ذكرناه في قصة أبي سفيان مع أمية بن أبي الصلت و هو شبيه بهذا الباب و هو من أغرب الأخبار و أحسن السياقات و عليه النور
و سيأتي أيضا قصة أبي سفيان مع هرقل ملك الروم حين سأله عن صفات رسول الله صلى الله عليه و سلم و أحواله و استدلاله بذلك على صدقه و نبوته و رسالته و قال له : كنت أعلم أنه خارج و لكن لم أكن أظن أنه فيكم و لو أعلم أني أخلص إليه لتجمشت لقاءه و لو كنت عنده لغسلت عن قدميه و لئن كان ما تقول حقا ليمكن موضع قدمي هاتين و كذلك وقع و لله الحمد و المنة و قد أكثر الحافظ أبو نعيم من إيراد الآثار و الأخبار عن الرهبان و الأحبار و العرب فأكثر و أطنب و أحسن و أطيب رحمه الله و رضى عنه (1/311)
قال الطبراني : حدثنا علي بن إبراهيم الخراعي الأهوازي حدثنا عبد الله ابن داود بن دلهاث بن إسماعيل بن عبد الله بن شريح بن ياسر بن سويد صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم حدثنا أبي عن أبيه دلهاث عن أبيه إسماعيل أن أباه عبد الله حدثه عن أبيه أن أباه ياسر بن سويد حدثه عن عمرو بن مرة الجهني قال :
خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية فرأيت في نومي و أنا بمكة نورا ساطعا خرج من الكعبة حتى وصل إلى جبل يثرب و أشعر جهينة فسمعت صوتا بين النور و هو يقول : انقشعت الظلماء و سطع الضياء و بعث خاتم الأنيباء
ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة و أبيض المدائن و سمعت صوتا من النور و هو يقول : ظهر الإسلام و كسرت الأصنام و وصلت الأرحام
فانتبهت فزعا فقلت لقومي : و الله ليحدثن لهذا الحي من قريش حدث و أخبرتهم بما رأيت
فلما انتهينا إلى بلادنا جاءني الخبر أن رجلا يقال له أحمد قد بعث
فأتيته فأخبرته بما رأيت فقال لي [ يا عمرو بن مرة أنا النبي المرسل إلى العباد كافة أدعوهم إلى الإسلام و آمرهم بحقن الدماء و صلة الأرحام و عبادة الله و رفض الأصنام و حج البيت و صيام شهر رمضان شهر من اثني عشر شهرا فمن أجاب فله الجنة و من عصي فله النار فآمن يا عمرو يؤمنك الله من هول جهنم ]
فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله آمنت بما جئت من حلال و حرام و إن أرغم ذلك كثيرا من الأقوام ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به و كان لنا صنم و كان أبي سادنا له فقمت إليه فكسرته ثم لحقت بالنبي صلى الله عليه و سلم و أنا أقول :
( شهدت بأن الله حق و أنني ... لآلهة الأحجار أول تارك )
( و شمرت عن ساقي الإزار مهاجرا ... إليك أجوب القفر بعد الدكادك )
( لأصحب خير الناس نفسا و والدا ... رسول مليك الناس فوق الحبائك )
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ مرحبا بك يا عمرو بن مرة ] فقلت : يا رسول الله ابعثني إلى قومي لعل الله يمن عليهم بي كما من علي بك
فبعثني إليهم و قال : [ عليك بالرفق و القول السديد و لا تكن فظا و لا متكبرا و لا حسودا ]
فذكر أنه أتى قومه فدعاهم إلى ما دعاه إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلموا كلهم إلا رجل واحدا منهم و أنه وفد بهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فرحب بهم و حياهم و كتب لهم كتابا هذه نسخته :
[ بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب أمان من الله على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم بكتاب صادق و حق ناطق مع عمرو بن مرة الجهني لجهينة بن زيد : إن لكم بطون الأرض و سهولها و تلاع الأودية و ظهورها تزرعون نباته و تشربون صافيه على أن تقروا بالخمس و تصلوا صلاة الخمس و في التبعية و الصريمة شاتان إن اجتمعتا و إن تفرقنا شاة شاة ليس على أهل الميرة صدقة ليس الوردة اللبقة و شهد على نبينا صلى الله عليه و سلم من حضر من المسلمين بكتاب قيس ابن شماس ]
و ذكر شعرا قاله عمرو بن مرة في ذلك كما هو مبسوط من المسند الكبير و بالله الثقة و عليه التكلان (1/314)
و قال الله تعالى : { و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى ابن مريم و أخذنا منهم ميثاقا غليظا }
قال كثيرون من السلف : لما أخذ الله ميثاق بني آدم يوم [ ألست بربكم ؟ ] أخذ من النبيين ميثاقا خاصا و أكد مع هؤلاء الخمسة أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار الذين أولهم نوح و آخرهم محمد صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين (1/316)
و قد روى الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة من طريق عن الوليد بن مسلم [ حدثنا الأوزاعي حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة : سئل النبي صلى الله عليه و سلم : متى وجبت لك النبوة ؟ قال : بين خلق آدم و نفخ الروح فيه ]
و هكذا رواه الترمذي من طريق الوليد بن مسلم و قال : حسن غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه
و قال أبو نعيم : [ حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا يعقوب بن إسحاق بن الزبير الحلبي حدثنا أبو جعفر النفيلي حدثنا عمرو بن واقد عن عروة بن رويم عن الصنابحي قال : قال عمر : يا رسول الله متى جعلت نبيا ؟ قال : و آدم منجدل في الطين ]
ثم رواه من حديث نصر بن مزاحم [ عن قيس بن ربيع عن جابر الجعفي عن الشعبي عن ابن عباس قال : قيل يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال : و آدم بين الروح و الجسد ]
و في الحديث الذي أوردناه في قصة آدم حين استخرج الله من صلبه ذريته خص الأنبياء بنور بين أعينهم و الظاهر ـ و الله أعلم ـ أنه كان على قدر منازلهم و رتبهم عند الله
و إذا كان الأمر كذلك فنور محمد صلى الله عليه و سلم كان أظهر و أكبر و أعظم منهم كلهم
و هذا تنويه عظيم و تنبيه ظاهر على شرفه و علو قدره
و في هذا المعنى الحديث الذي قال الإمام أحمد [ حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني عند الله خاتم النبيين و إن آدم لمنجدل في طينته و سأنبئكم بأول ذلك : دعوة أبي إبراهيم و بشارة عيسى بي و رؤيا أمي التي رأت و كذلك أمهات المؤمنين يرين ]
و رواه الليث و ابن وهب عن عبد الرحمن بن مهدي و عبد الله بن صالح عن معاوية ابن صالح و زاد [ إن أمة رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام ]
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الرحمن حدثنا منصور بن سعيد عن بديل عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر : قال : قلت : يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال : و آدم بين الروح و الجسد ]
إسناده جيد أيضا
و هكذا رواه إبراهيم بن طمهان و حماد بن زيد و خالد الحذاء عن بديل بن ميسرة به
و رواه أبو نعيم [ عن محمد بن عمر بن أسلم عن محمد بن بكر بن عمرو الباهلي عن شيبان عن الحسن بن دينار عن عبد الله بن سفيان عن ميسرة الفجر قال : قلت : يا رسول الله متى كنت نبيا ؟ قال : و آدم بين الروح و الجسد ]
و قال الحافظ أبو نعيم في كتابه دلائل النبوة : [ حدثنا أبو عمرو بن حمدان حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم عن خليد بن دعلج و سعيد عن قتادة عن الحسن عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى { و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } قال : كنت أول النبين في الخلق و آخرهم في البعث ]
ثم رواه من طريق هشام بن عمار عن قتيبة عن سعيد بن نسير عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعا مثله
و قد رواه من طريق سعيد بن أبي عروبة و شيبان عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال مثله و هذا أثبت و أصح و الله أعلم
و هذا إخبار عن التنويه بذكره في الملأ الأعلى و أنه معروف بذلك بينهم بأنه خاتم النبيين و آدم لم ينفخ فيه الروح لأن علم الله تعالى بذلك سابق قبل خلق السموات و الأرض لا محالة فلم يبق إلا هذا الروح الذي ذكرناه من الإعلام به في الملأ الأعلى و الله أعلم
و قد أورده أبو نعيم من [ حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة الحديث المتفق عليه : نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا و أوتيناه من بعدهم ]
و زاد أبو نعيم في آخره : فكان صلى الله عليه و سلم آخرهم في البعث و به ختمت النبوة و هو السابق يوم القيامة لأنه أول مكتوب في النبوة و العهد
ثم قال : ففي الحديث الفضيلة لرسول الله صلى الله عليه و سلم لما أوجب الله له النبوة قبل تمام خلق آدم و يحتمل أن يكون هذا الإيجاب هو ما أعلم الله ملائكته ما سبق في علمه و قضائه من بعثته له في آخر الزمان
و هذا الكلام يوافق ما ذكرناه و لله الحمد
و روى الحاكم في مستدركه [ من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ـ و فيه كلام ـ عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما اقترف آدم الخطيئة قال : يا رب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي فقال الله : يا آدم كيف عرفت محمدا و لم أخلقه بعد ؟ فقال : يا رب لأنك لما خلقتني بيدك و نفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا : لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك فقال الله : صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي و إذ قد سألتني بحقه فقد غفرت لك و لولا محمد ما خلقتك ]
قال البيهقي : تفرد به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم و هو ضعيف و الله أعلم (1/317)
و قد قال الله تعالى { و إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول الله مصدق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه قال أأقررتم و أخذتم على ذلكم إصري ؟ قالوا أقررنا قال فاشهدوا و أنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }
قال علي بن أبي طالب و عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق : لئن بعث محمد صلى الله عليه و سلم و هو حي ليؤمنن به و لينصرنه و أمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن محمد و هم أحياء ليؤمنن به و لينصرنه
و هذا تنويه و تنبيه على شرفه و عظمته في سائر الملل و على ألسنة الأنبياء و إعلام لهم و منهم برسالته في آخر الزمان و أنه أكرم المرسلين و خاتم النبيين
و قد أوضح أمره و كشف خبره و بين سره و جلى مجده و مولده و بلده إبراهيم الخليل في قوله عليه السلام حين فرغ من بناء البيت { ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم }
فكان أول بيان أمره على الجلية و الوضوح بين أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل أكرم الأنبياء على الله بعد محمد صلوات الله عليه و سلامه عليهما و على سائر الأنبياء
و لهذا قال الإمام أحمد : [ حدثنا أبو النضر حدثنا الفرج ـ يعني ابن فضالة ـ حدثنا لقمان بن عامر سمعت أبا أمامة قال : قلت يا نبي الله ما كان بدء أمرك ؟ قال : دعوة أبي إبراهيم و بشرى عيسى و رأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام ]
تفرد به الإمام أحمد و لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة
و روى الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب المولد من طريق بقية عن صفوان بن عمرو عن حجر بن حجر عن أبي مريق أن أعرابيا قال : يا رسول الله أي شيء كان أول أمر نبوتك ؟
فقال [ أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم [ و رأت أم رسول الله صلى الله عليه و سلم في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام ] ]
و قال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار : [ حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال : دعوت أبي إبراهيم و بشرى عيسى و رأت أمي حين حبلت كأنه خرج منها نور أضاءت له بصرى من أرض الشام ]
إسناده جيد أيضا (1/320)
و فيه بشارة لأهل محلتنا أرض بصرى و أنها أول بقعة من أرض الشام خلص إليها نور النبوة و لله الحمد و المنة و لهذا كانت أول مدينة فتحت من أرض الشام و كان فتحها صلحا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه و قد قدمها رسول الله صلى الله عليه و سلم مرتين في صحبه عمه أبي طالب و هو ابن اثنتي عشرة سنة و كانت عندها قصة بحيرى الراهب كما بيناه و الثانية و معه ميسرة مولى خديجة في تجارة لها و بها مبرك الناقة التي يقال لها ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم بركت عليه فأثر ذلك فيها فيما يذكر فيما نقل و بنى عليه مسجد مشهور اليوم و هي المدينة التي أضاءت أعناق الإبل عندها من نور النار التي خرجت من أرض الحجاز سنة أربع و خمسين و ستمائة وفق ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله [ تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ]
و قال الله تعالى : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } (1/322)
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل عن الجريري عن أبي صخر العقيلي حدثني رجل من الأعراب قال : جلبت جلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما فرغت من بيعي قلت لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه
قال : فتلقاني بين أبي بكر و عمر يمشون فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها يعزى بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان و أجملهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجدني في كتابك ذا صفتي و مخرجي ؟ ] فقال برأسه هكذا ـ أي لا ـ فقال ابنه : إي و الذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك و مخرجك و أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله فقال : [ أقيموا اليهودي عن أخيكم ] ثم ولي كفنه و الصلاة عليه
هذا إسناد جيد و له شواهد في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه
و قال أبو القاسم البغوي : [ حدثنا عبد الواحد بن غياث ـ أبو بحر ـ حدثنا عبد العزيز ابن مسلم حدثنا عاصم بن كليب عن أبيه عن الصلتان بن عاصم و ذكر أن خاله قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه و سلم إذ شخص بصره إلى رجل فإذا يهودي عليه قميص و سراويل و نعلان قال : فجعل النبي صلى الله عليه و سلم يكلمه و هو يقول و هو يقول : يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : لا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتقرأ التوراة قال : نعم قال : أتقرأ الإنجيل ؟ قال : نعم قال : و القرآن ؟ قال : لا و لو تشاء قرأته
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : فبم تقرأ التوراة و الإنجيل أتجدني نبيا ؟ قال : إنا نجد نعتك و مخرجك فلما خرجت رجونا أن تكون فينا فلما رأيناك عرفناك أنك لست به
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و لم يا يهودي ؟ قال : إنا نجده مكتوبا : يدخل من أمته سبعون ألفا بغي حساب و لا نرى معك إلا نفرا يسيرا
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أمتي لأكثر من سبعين ألفا و سبعين ألفا ]
هذا حديث غريب من هذا الوجه و لم يخرجوه
و قال محمد بن إسحاق [ عن سالم مولى عبد الله بن مطيع عن أبي هريرة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم يهود فقال : أخرجوا أعلمكم فقالوا : عبد الله بن صوربا فخلا به رسول الله صلى الله عليه و سلم فناشده بدينه و ما أنعم الله به عليهم و أطعمهم من المن و السلوى و ظللهم به من الغمام أتعلمني رسول الله ؟ قال : اللهم نعم و إن القوم ليعرفون ما أعرف و إن صفتك و نعتك لمبين في التوراة و لكنهم حسدوك
قال : فما يمنعك أنت ؟ قال : أكره خلاف قومي و عسى أن يتبعوك و يسلموا فأسلم ]
و قال [ سلمة بن الفضل عن محمد بن اسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول : كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى يهود خيبر : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صاحب موسى و أخيه و المصدق بما جاء به موسى ألا إن الله قال لكم : يا معشر يهود و أهل التوراة إنكم لتجدون ذلك في كتابكم : إن محمدا { رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله و رضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما } و إني أنشدكم بالله و بالذي أنزل عليكم و أنشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسلافكم و أسباطكم المن و السلوى و أنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاكم من فرعون وعمله إلا أخبرتمونا هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد ؟ فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كره عليكم قد تبين الرشد من الغي و أدعوكم إلى الله و إلى نبيه صلى الله عليه و سلم ] (1/323)
و قد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب المبتدأ عن سعيد بن بشير عن قتادة عن كعب الأحبار و روى غيره عن وهب بن منبه أن بختنصر بعد أن خرب بيت المقدس و استذل بني إسرائيل بسبع سنين رأى في المنام رؤيا عظيمة هالته فجمع الكهنة و الحزار و سألهم عن رؤياه تلك فقالوا : ليقصها الملك حتى نخبره بتأويلها فقال : إني نسيتها و إن لم تخبروني بها إلى ثلاثة أيام قتلتكم عن آخركم
فذهبوا خائفين وجلين من وعيده فسمع بذلك دانيال عليه السلام و هو في سجنه فقال للسجان : اذهب إليه فقل له : إن هاهنا رجلا عنده علم رؤياك و تأويلها
فذهب إليه فأعلمه فطلبه فلما دخل عليه لم يسجد له فقال له : ما منعك من السجود لي ؟ فقال : إن الله آتاني علما و علمني و أمرني أن لا أسجد لغيره فقال له بختنصر : إني أحب الذين يوفون لأربابهم بالعهود فأخبرني عن رؤياي
قال له دانيال : رأيت صنما عظيما رجلاه في الأرض و رأسه في السماء أعلاه من ذهب و وسطه فضة و أسفله من نحاس و ساقاه من حديد و رجلاه من فخار فبينا أنت تنظر إليه قد أعجبك حسنه و إحكام صنعته قذفه الله بحجر من السماء فوقع على قمة رأسه حتى طحنه و اختلط ذهبه و فضته و نحاسه و حديده و فخاره حتى تخيل لك أنه لو اجتمع الإنس و الجن على أن يميزوا بعضه من بعض لم يقدروا على ذلك و نظرت إلى الحجر الذي قذف به يربو و يعظم و ينتشر حتى ملأ الأرض كلها فصرت لا ترى إلا الحجر و السماء
فقال له بختنصر : صدقت هذه الرؤيا التي رأيتها فما تأويلها ؟
فقال دانيال : أما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان و في وسطه و في آخره و أما الحجر الذي قذف به الصنم فدين يقذف الله به هذه الأمم في آخر الزمان فيظهره عليها فيبعث الله نبيا أميا من العرب فيدوخ به الأمم و الأديان كما رأيت الحجر دوخ أصناف الصنم و يظهر على الأديان و الأمم كما رأيت الحجر ظهر على الأرض كلها فيمحص الله به الحق و يزهق به الباطل و يهدي به أهل الضلالة و يعلم به الأميين و يقوي به الضعفة و يعز به الأذلة و ينصر به المستضعفين
و ذكر تمام القصة في إطلاق بختنصر بني إسرائيل على يدي دانيال عليه السلام (1/325)
و ذكر الواقدي بأسانيده عن المغيرة بن شعبة في قصة وفوده على المقوقس ملك الإسكندرية و سؤاله له عن صفات رسول الله صلى الله عليه و سلم قريبا من سؤال هرقل لأبي سفيان صخر بن حرب و ذكر أنه سأل أساقفة النصارى في الكنائس عن صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخبروه عن ذلك و هي قصة طويلة ذكرها الحافظ أبو نعيم في الدلائل
و ثبت في الصحيح ان رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بمدراس اليهود فقال لهم : [ يا معشر اليهودأسلموا فو الذي نفسي بيده إنكم لتجدون صفتي في كتبكم ] الحديث
و قال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود حدثنا فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفات رسول الله صلى الله عليه و سلم في التوراة فقال : أجل و الله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا و حرزا للأميين أنت عبدي و رسولي سميتك المتوكل لا فظ و لا غليظ و لا صخاب في الأسواق و لا يدفع بالسيئة السيئة و لكن يعفو و يغفر و لن يقبضه الله حتى يقيموا الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله يفتح به أعينا عميا و آذانا صما و قلوبا غلفا
و رواه البخاري عن محمد بن سنان عن فليح به
و رواه أيضا عن عبد الله ـ قيل بن رجاء و قيل بن صالح ـ عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال بن علوية و لفظه قريب من هذا و فيه زيادة
و رواه ابن جرير من حديث فليح عن هلال عن عطاء و زاد : قال عطاء : فلقيت كعبا فسألته عن ذلك فما اختلف حرفا و قال : في البيوع و قال : سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام
قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرناه أبو الحسين بن المفضل القطان حدثنا عبد الله ابن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان حدثنا أبو صالح حدثنا الليث حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال بن أسامة عن عطاء بن يسار عن ابن سلام أنه كان يقول : إنا لنجد صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نديرا و حرزا للأميين أنت عبدي و رسولي سميته المتوكل ليس بفظ و لا غليظ و لا صخاب في الأسواق و لا يجزي السيئة بمثلها و لكن يعفو و يتجاوز و لن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء بان يشهدوا أن لا إله إلا الله يفتح به أعينا عميا و آذانا صما و قلوباغلفا
و قال عطاء بن يسار : و أخبرني الليثي أنه سمع كعب الحبار يقول مثل ما قال ابن سلام
قلت : و هذا عن عبد الله بن سلام أشبه و لكن الرواية عن عبد الله بن عمرو أكثر مع أنه كان قد و جد يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب و كان يحدث عنهما كثيرا
و ليعلم أن كثيرا من السلف كانوا يطلقون [ التوراة ] على كتب أهل الكتاب فهي عندهم أعم من التي أنزلها الله على موسى و قد ثبت شلهد من الحديث و قال يونس : عن محمد ابن إسحاق حدثني محمد بن ثابت بن شرحبيل عن ابن أبي أوفى عن أم الدرداء : قالت : قلت لكعب الأحبار : كيف تجدون صفة رسول الله صلى الله عليه و سلم في التوراة ؟ قال : نجده : محمد رسول الله اسمه المتوكل ليس بفظ و لا غليظ و لا صخاب في الأسواق و أعطي المفاتيح فيبصر الله به أعينا عورا و يسمع آذاناو قرا و يقيم به ألسنامعوجة حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله واحد لا شريك له يعين به المظلوم و يمنعه و قد روى عن كعب من غير هذا الوجه و روى البيهقي عن الحاكم عن أبي الوليد عن الحسن بن سفيان حدثنا عتبة بن مكرم حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم حدثنا حمزة بن الزيات عن سليمان العمش عن علي بن مدرك عن أبي زرعة عن أبي هريرة [ و ما كنت بجانب الطور إذ نادينا ] قال : نودوا : يا أمة محمد استجبت لكم قبل أن تدعوني و أعطيتكم قبل أن تسألوني
و ذكر و هب بن منبه أن الله تعالى أوحى إلى داود في الزبور : يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد و محمد صادقا سيدا لا أغضب عليه أبدا و لا يغضني أبدا و قد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه و ما تأخر و أمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء و فرضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء و الرسل حتى يأتوني يوم القيامة و نورهم مثل نور الأنبياء
إلى أن قال : يا داود إني فضلت محمدا على الأمم كلها (1/326)
و العلم بأنه موجود في كتب أهل الكتاب معلوم من الدين ضرورة و قد دل على ذلك آيات كثيرة في الكتاب العزيز تكلمنا عليها في مواضعها و لله الحمد
فمن ذلك قوله { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون و إذا يتلى قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين }
و قال تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم و إن فريقا منهم ليكتمون الحق و هم يعلمون }
و قال تعالى : { إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا و يقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا } أي إن كان وعدنا ربنا بوجود محمد و إرساله لكائن لا محالة فسبحان القدير على ما يشاء لا يعجزه شيء و قال تعالى إخبارا عن القسيسين و الرهبان : { و إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين }
و في قصة النجاشي و سلمان و عبد الله بن سلام و غيرهم كما سيأتي شواهد كثيرة لهذا المعنى و لله الحمد و المنة
و ذكرنا في تضاعيف قصص الأنبياء وصفهم لبعثة رسول الله صلى الله عليه و سلم و نعته و بلد مولده و دار مهاجره و نعت أمته في قصة موسى و شعيا و أرمياء و دانيال و غيرهم (1/329)
و قد أخبر الله تعالى عن آخر أنبياء بني إسرائيل و خاتمهم عيسى بن مريم أنه قام في بني إسرائيل خطيبا قائلا لهم { إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } و في الإنجيل البشارة بالفارقليط و المراد محمد صلى الله عليه و سلم
و روى البيهقي [ عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن العيزار بن حرب عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : مكتوب في الإنجيل لافظ و لا غليظ و لا صخاب في الأسواق و لا يجزي بالسيئة مثلها بل يعفو ويصفح ]
و قال يعقوب بن سفيان : حدثنا فيض البجلي حدثنا سلام بن مسكين عن مقاتل بن حيان قال : أوحى الله عز و جل إلى عيسى بن مريم : جد في أمري و اسمع و اطع يا ابن الطاهرة البكر البتول أنا خلقتك من غير فحل فجعلتك آية للعالمين فإياي فاعبد فبين لأهل سوران بالسريانية بلغ من بين يديك أني أنا الحق القائم الذي لا أزول صدقوا بالنبي الأمي العربي صاحب الجمل و المدرعة و العمامة و هي التاج و النعلين والهرواة وهي القضيب الجعد الرأس الصلت الجبين المقرون الحاجبين الأنجل العينين الأهدب الأشفار الأدعج العينين الأقنى الأنف الواضح الخدين الكث اللحية عرقه في وجهه كاللؤلؤ ريح المسك ينضح منه كأنه عنقه إبريق فضة و كأن الذهب يجري في تراقيه له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقصب ليس في بطنه شعر غيره شثن الكف والقدم إذا جاء مع الناس غمرهم و إذا مشى كأنما يتقلع من الصخر و يتحدر من صبب ذو النسل القليل ـ و كأنه أراد الذكور من صلبه
هكذا رواه البيهقي في دلائل النبوة من طريق يعقوب بن سفيان
و روى البيهقي عن عثمان بن الحكم بن رافع بن سنان حدثني بعض عمومتي و آبائي أنهم كانت عندهم ورقة يتوارثونها في الجاهلية حتى جاء الله بالإسلام و بقيت عندهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة ذكروها له و أتوه بها مكتوب فيها : بسم الله و قوله الحق و قول الظالمين في تباب هذا الذكر لأمة تأتي في آخر الزمان يغسلون أطرافهم و يأتزرون على أوسطاهم و يخوضون البحور إلى أعدائهم فيهم صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان و في عاد ما أهلكوا بالريح و في ثمود ما أهلكوا بالصيحة بسم الله و قوله الحق و قول الظالمين في تباب ثم ذكر قصة أخرى قال فعجب رسول الله صلى الله عليه و سلم لما قرأت عليه فيها
و ذكرنا عند قوله تعالى في سورة الأعراف { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل } قصة هشام بن العاص الأموي حين بعثه الصديق في سرية إلى هرقل يدعوه إلى الله عز و جل فذكر أنه أخرج لهم صور الأنبياء في رقعة من آدم إلى محمد صلوات الله عليه و سلامه عليهم أجمعين على النعت و الشكل الذي كانوا عليه ثم ذكر أنه لما أخرج صورة رسول الله صلى الله عليه و سلم قام قائما إكراما له ثم جلس و جعل ينظر إليها و يتأملها قال : فقلنا له من أين لك هذه الصورة ؟ فقال : إن آدم سأل ربه أن يريه جميع الأنبياء من ذريته فأنزل عليه صورهم فكان في خزاعة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس فاستخرجها ذو القرنين فدفعها إلى دانيال
ثم قال : أما و الله إن نفسي قد طابت بالخروج من ملكي و أني كنت عبدا لأشركم ملكة حتى أموت ثم أجازنا فأحسن جائزتنا و سرحنا
فلما أتينا أبا بكر الصديق بما رأينا و ما أجازنا و ما قال لنا قال : فبكى و قال : مسكين لو أراد الله به خيرا لفعل ثم قال : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم و اليهود يجدون نعت محمد عندهم
رواه الحاكم بطوله فليكتب ها هنا من التفسير و رواه البيهقي في دلائل النبوة
و قال الأموي : حدثنا عبد الله بن زياد عن ابن إسحاق قال : و حدثني يعقوب بن عبد الله بن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه عن جده عمرو بن أمية قال : قدمت برقيق من عند النجاشي أعطانيهم فقالوا لي : يا عمرو لو رأينا رسول الله لعرفناه من غير أن تخبرنا فمر أبو بكر فقلت أهو هذا ؟ قالوا : لا فمر عمر فقلت : أهو هذا ؟ قالوا : لا فدخلنا الدار فمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فنادوني : يا عمرو هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم فنظرت فإذا هو هو من غير أن يخبرهم به أحد عرفوه بما كانوا يجدونه مكتوبا عندهم
و قد تقدم إنذار سبأ لقومه و بشارته لهم بوجود رسول الله صلى الله عليه و سلم في شعر أسلفناه في ترجمته فأغنى عن إعادته و تقدم قول الحبرين من اليهود لتبع اليماني حين حاصر أهل المدينة أنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان فرجع عنها و نظم شعرا يتضمن السلام على النبي صلى الله عليه و سلم (1/330)
و قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه هواتف الجان حدثنا علي بن حرب حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عمرو بن بكر ـ هو ابن بكار القعنبي ـ عن أحمد بن القاسم عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن عبد الله بن عباس قال : لما ظهر سيف بن ذي يزن ـ قال ابن المنذر : و اسمه النعمان ابن قيس ـ على الحبشة و ذلك بعد مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم بسنتين أتته وفود العرب و شعراؤها تهنئه وتمدحه و تذكر ماكان من حسن بلائه
و أتاه فيمن أتاه وفود قريش فيهم عبد المطلب بن هاشم و أمية بن عبد شمس و عبد الله بن جدعان و خويلد بن أسد في أناس من وجوه قريش فقدموا عليه صنعاء فإذا هو في رأس غمدان الذي ذكره أمية بن أبي الصلت :
( و اشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا )
فدخل عليه الآذن فأخبره بمكانهم فأذن لهم فدنا عبد المطلب فاستأذنه في الكلام فقال له : إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك فقال له عبد المطلب : إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعا صعبا منيعا شامخاباذخا و أنبتك منبتا طابت أرومته و عزت جرثومته و ثبت أصله و بسق فرعه في أكرم موطن و أطيب معدن فأنت ـ أبيت اللعن ـ ملك العرب و ربيعها الذي تخصب به البلاد و رأس العرب الذي له تنقاد و عمودها الذي عليه العماد و معقلها الذي يلجأ إليه العباد و سلفك خير سلف و أنت لنا منهم خير خلف فلن يخمل من هم سلفه و لن يهلك من أنت خلفه و نحن أيها الملك أهل حرم الله و سدنة بيته أشخصنا إليك الذي أبهجك من كشف الكرب الذي قد فدحنا فنحن و فد التهنئة لا و فد المرزئة
قال : و أيهم أنت أيها المتكلم
قال : أنا عبد المطلب بن هاشم قال : ابن أختنا ؟ قال : نعم قال ادن فأدناه ثم أقبل عليه و على القوم فقال : مرحبا و أهلا و ناقة و رحلا و مستناخا سهلا و ملكا ربحلا يعطي عطاء جزلا قد سمع الملك مقالتكم و عرف قرابتكم و قبل وسيلتكم فأنتم أهل الليل و النهار و لكم الكرامة ما أقمتم و الحباء إذا ظعنتم
ثم نهضوا إلى دار الكرامة و الوفود فأقاموا شهرا لا يصلون إليه و لا يأذن لهم بالانصراف ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطلب فأدنى مجلسه و أخلاه ثم قال : يا عبد المطلب إني مفض إليك من سر علمي ما لو يكون غيرك لم أبح به و لكني رأيتك معدنه فأطلعتكك عليه فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره
إني أجد في الكتاب المكنون و العلم المخزون الذي اخترناه لأنفسنا و احتجناه دون غيرنا خبرا عظيما و خطرا جسيما فيه شرف الحياة و فضيلة الوفاة للناس عامة و لرهطك كافة و لك خاصة فقال عبد المطلب : أيها الملك مثلك سر و بر فما هو فداؤك أهل الوبر زمرا بعد زمر ؟
قال : إذا ولد بتهامة غلام به علامة بين كتفيه شامة كانت له الإمامة ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة
قال عبد المطلب : أبيت اللعن لقد أبت بخير ما آب به وافد و لولا هيبة الملك و إجلاله و إعظامه لسألته من بشارته إياي ما أزداد به سرورا
قال ابن ذي يزن : هذا حينه الذي يولد فيه أوقد ولد و اسمه محمد يموت أبوه و أمه و يكفله جده و عمه و لدناه مرارا و الله باعثه جهارا و جاعل له منا أنصارا يعز بهم أولياءه و يذل بهم أعداءه ويضرب بهم الناس عن عرض و يستبيح بهم كرائم الأرض يكسر الأوثان و يخمد النيران يعبد الرحمن و يدحر الشيطان قوله فصل وحكمه عدل يأمر بالمعروف و يفعله و ينهي عن المنكر و يبطله
فقال عبد المطلب : أيها الملك ـ عز جدك و علا كعبك و دام ملكك و طال عمرك فهذا نجاري فهل الملك سار لي بإفصاح فقد أوضح لي بعض الإيضاح فقال ابن يزن : و البيت ذي الحجب و العلامات على النصب إنك يا عبد المطلب لجده غير كذب
فخر عبد المطلب ساجدا فقال : ارفع رأسك ثلج صدرك و علا أمرك فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك ؟
فقال أيها الملك كان لي ابن و كنت به معجبا و عليه رفيقا فزوجته كريمة من كرائم قومه آمنة بنت وهب فجاءت بغلام سميته محمدا فمات أبوه و أمه و كفلته أنا و عمه
قال ابن ذي يزن : إن الذي قلت لك كما قلت فاحتفظ بابنك و احذر عليه اليهود فإنهم له أعداء و لن يجعل الله لهم عليه سبيلا واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تدخل لهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة فيطلبون له الغوائل و ينصبون له الحبائل فهم فاعلون أو أبناؤهم و لولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي و رجلي حتى أصير بيثرب دار مملكته فإني أجد في الكتاب الناطق و العلم السبق أن بيثرب استحكام أمره و أهل نصرته و موضع قبره و لولا أني أقيه الآفات و أحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه أمره و لأوطأت أسنان العرب عقبه و لكني صارف ذلك إليك عن غير تقصير بمن معك
قال : ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد و عشرة إماء و بمائة من الإبل و حلتين من البرود و بخمسة أرطال من الذهب و عشرة أرطال فضة و كرش مملوء عنبرا
و أمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك و قال له : إذا حال الحول فائتني فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول
فكان عبد المطلب كثيرا ما يقول : يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم يجزيل عطاء الملك و إن كثر فإنه إلى نفاد و لكن ليغبطني بما يبقى لي و لعقبي من بعدي ذكره و فخره و شرفه
فإذا قيل له : متى ذلك ؟ قال : سيعلم و لو بعد حين
قال : و في ذلك يقول أمية بن عبد شمس :
( جلبنا النصح نحقبه المطايا ... على أكوار أجمال و نوق )
( مقلفة مراتعها تعالى ... إلى صنعاء من فج عميق )
( تؤم بنا ابن ذي يزن و تفرى ... بذات بطونها ذم الطريق )
( و ترعى من مخايله بروقا ... مواصلة الوميض إلى بروق )
( فلما واصلت صنعاء حلت ... بدار الملك و الحسب العريق )
و هكذا رواه الحافظ أبو نعيم في الدلائل من طريق عمرو بن بكير بن بكار القعنبي
ثم قال أبو نعيم : أخبرت عن أبي الحسن علي بن إبراهيم بن عبد ربه بن محمد ابن عبد العزيز بن عفير بن عبد العزيز بن السفر بن عفير بن زرعة بن سيف بن ذي يزن حدثني أبي أبو يزن إبراهيم حدثنا عمي أحمد بن محمد أبو رجاء به حدثنا عمي محمد بن عبد العزيز حدثني عبد العزيز بن عفير عن أبيه عن زرعة بن سيف بن ذي يزن الحميري قال : لما ظهر جدي سيف بن ذي يزن على الحبشة و ذكره بطوله (1/334)
و قال أبو بكر الخرائطي : حدثنا أبو يوسف يعقوب بن إسحاق القلوسي حدثنا العلاء ابن الفضل بن أبي سوية أخبرني أبي عن أبيه عبد الملك بن أبي سوية عن جده أبي سوية عن أبيه خليفة قال : سألت محمد بن عثمان بن ربيعة بن سواءة بن خثعم بن سعد فقلت : كيف سماك أبوك محمدا ؟ : سألت أبي عما سألتني عنه فقال : خرجت رابع أربعةمن بني تميم أنا منهم و سفيان بن مجاشع بن دارم و أسامة بن مالك بن جندب ابن العقيد و يزيد بن ربيعة بن كنانة بن حربوص بن مازن و نحن نريد ابن جفنة ملك غسان فلما شارفنا الشام نزلنا على غدير عليه شجرات فتحدثنا فسمع كلامنا راهب فأشرف علينا فقال : إن هذه لغة ماهي بلغة هذه البلاد فقلنا : نعم نحن قوم من مضر قال : من أي المضرين ؟ قلنا : من خندف قال : أما إنه سيبعث و شيكا نبي خاتم النبيين فسارعوا إليه و خذوا بحظكم منه ترشدوا فقلنا له : مااسمه ؟ قال : اسمه محمد
قال : فرجعنا من عند ابن جفنة فولد لكل واحد منا ابن فسماه محمدا
يعني أن كل واحد منهم طمع في أن يكون هذا النبي المبشر به ولده (1/338)
و قال الحافظ أبو بكر الخرائطي : حدثنا عبد الله بن أبي سعد حدثنا حازم بن عقال ابن الزهر بن حبيب بن المنذر بن أبي الحصين بن السموأل بن عاديا حدثني جابر بن جدان ابن جميع بن عثمان بن سماك بن الحصين بن السموأل بن عاديا قال : لما حضرت الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر الوفاة اجتمع إليه قومه من غسان فقالوا : إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى و كنا نأمرك بالتزويج في شبابك فتأبى و هذا أخوك الخزرج له خمسة بنين و ليس لك ولد غير مالك فقال : لن يهلك هالك ترك مثل مالك إن الذي يخرج النار من الوثيمة قادر أن يجعل لمالك نسلا و رجالا بسلا و كل إلى الموت
ثم أقبل على مالك و قال : أي بني : المنية و لا الدنية العقاب و لا العتاب التجلد و لا التلدد القبر خير من الفقر إنه من قل ذل و من كر فر من كرم الكريم الدفع عن الحريم و الدهر يومان : فيوم لك و يوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر و إذا كان عليك فاصطبر و كلاهما سينحسر ليس يثبت منهما الملك المتوج و لا اللئيم المعلهج سلم ليومك حياك ربك ثم أنشأ يقول :
( شهدت السبايا يوم آل محرق ... و أدرك عمري صيحة الله في الحجر )
( فلم أر ذا ملك من الناس واحدا ... و لا سوقة إلا إلى الموت و القبر )
( فعل الذي أردى ثمودا وجرهما ... سيعقب لي نسلا على آخر الدهر )
( تقر بهم من آل عمرو بن عامر ... عيون إلى الداعي إلى طلب الوتر )
( فإن لم تك الأيام أبلين جدتي ... و شيبن رأسي و المشيب مع العمر )
( فإن لنا ربا علا فوق عرشه ... عليما بما يأتي من الخير و الشر )
( ألم يأت قومي أن لله دعوة ... يفوز بها أهل السعادة و البر )
( إذا بعث المبعوث من آل غالب ... بمكة فيما بين مكة و الحجر )
( هنالك فابغوا نصره ببلادكم ... بني عامر إن السعادة في النصر )
قال : ثم قضى من ساعته (1/339)
و قد تقدم كلام شق و سطيح لربيعة بن نصر ملك اليمن في البشارة بوجود رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رسول زكي يأتي إليه الوحي من قبل العلي ]
و سيأتي في المولد قول سطيح لعبد المسيح : [ إذا كثرت التلاوة و غاضت بحيرة ساوة و جاء صاحب الهراوة ] يعني بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم كما سيأتي بيانه مفصلا
و قال البخاري : حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي حدثني ابن وهب حدثني عمرو هو محمد بن زيد ـ أن سالما حدثه عن عبد الله بن عمر قال : ما سمعت عمر يقول لشيء قط : [ إني لأظنه ] إلا كان كما يظن
بينما عمر بن الخطاب جالس إذ مر به رجل جميل فقال : لقد أخطأ ظني أو إن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم علي الرجل
فدعى به فقال له ذلك فقال : ما رأيت كاليوم أستقبل به رجلا مسلما
قال : فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني قال : كنت كاهنهم في الجاهلية قال : فما أعجب ما جاءتك به جنيتك ؟
قال : بينما أنا في السوق يوما جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت :
ألم تلا الجن و إبلاسها و يأسها من بعد أنكاسها و لحوقها بالقلاص و أحلاسها ؟
قال عمر : صدق بينما أنا نائم عند آلهتهم جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ ألم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول : " يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله فوثب القوم فقلت : لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ثم نادى : يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي
تفرد به البخاري
و هذا الرجل هو سواد بن قارب الأزدي و يقال السدوسي من أهل السراة من جبال البلقاء له صحبة و وفادة قال أبو حاتم و ابن مندة : روى عنه سعيد بن جبير و أبو جعفر محمد بن علي و قال البخاري : له صحبة و هكذا ذكره في أسماء الصحابة أحمد ابن روح البرذعي الحافظ و الدارقطني و غيرهما و قال الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري : سواد بن قارب بالتخفيف و قال عثمان الوقاصي : عن محمد بن كعب القرظي : كان من أشراف أهل اليمن
و ذكره أبو نعيم في الدلائل وقد روى حديثه من وجوه أخر مطولة بالبسط من رواية البخاري
و قال محمد بن إسحاق : حدثني من لا أتهم عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان أنه حدث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بينما هو جالس في الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ أقبل رجل من العرب داخل المسجد يريد عمر بن الخطاب فلما نظر إليه عمر قال : إن الرجل لعلى شركه ما فارقه بعد أو لقد كان كاهنا في الجاهلية
فسلم عليه الرجل ثم جلس فقال له عمر : هل أسلمت ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين قال : فهل كنت كاهنا في الجاهلية ؟
فقال الرجل : سبحان الله يا أمير المؤمنين لقد خلت في و استقبلتي بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت ما وليت
فقال عمر : اللهم غفرا قد كنا في الجاهلية على شر من هذا نعبد الأصنام و نعتنق الأوثان حتى كرمنا الله برسوله و بالأسلام
قال : نعم و الله يا أمير المؤمنين لقد كنت كاهنا في الجاهلية
قال : فأخبرني ما جاء به صاحبك قال : جاءني قبل الإسلام بشهر أو شيعه فقال : ألم تر إلى الجن و إبلاسها و إياسها من دينها و لحوقها بالقلاص و أحلاسها
قال ابن إسحاق : هذا الكلام سجع ليس بشعر
فقال عمر : عند ذلك يحدث الناس : و الله إني لعند وثن من أوثان الجاهلية في نفر من قريش قد ذبح له رجل من العرب عجلا فنحن ننتظر قسمه أن يقسم لنا منه إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت صوتا قط أشد منه و ذلك قبل الإسلام بشهر أو شعيه يقول : يا ذريح أمر نجيح رجل يصيح يقول لا إله إلا الله
قال ابن هشام : و يقال رجل يصيح بلسان فصيح يقول لا إله إلا الله
قال : و أنشدني بعض أهل العلم بالشعر :
( عجبت للجن و إبلاسها ... و شدها العيس بأحلاسها )
( تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن كأجناسها )
و قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا يحي بن حجر بن النعمان الشامي حدثنا علي بن منصور الأنباري عن محمد بن عبد الرحمن الوقاصي عن محمد بن كعب القرظي قال : بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم جالس إذ مر به رجل فقيل : يا أمير المؤمنين أتعرف هذا المار ؟ قال : و من هذا ؟ قالوا : هذا سواد بن قارب الذي أتاه رئية بظهور رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال : فأرسل إليه عمر فقال له : أنت سواد بن قارب ؟ قال : نعم
قال : فأنت على ما كنت عليه من كهانتك ؟
قال : فغضب و قال : ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت يا أمير المؤمنين
فقال عمر : يا سبحان الله ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك فأخبرني ما أنبأك رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال : نعم يا أمير المؤمنين بينما أنا ذات ليلة بين النائم و اليقظان إذ أتاني رئيي فضربني برجله و قال : قم يا سواد بن قارب و اسمع مقالتي و اعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله و إلى عبادته ثم أنشأ يقول :
( عجبت للجن و تطلابها ... و شدها العيس بأقتابها )
( تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الجن ككذابها )
( فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قدامها كأذنابها )
قال : قلت دعني أنام فإني أمسيت ناعسا
قال : فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله و قال : قم يا سواد بن قارب و اسمع مقالتي و اعقل إن كنت تعقل إنه بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله و إلى عبادته ثم أنشأ يقول :
( عجبت للجن و تخبارها ... و شدها العيس بأكوارها )
( تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن ككفارها )
( فارحل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها و أحجارها )
قال : قلت دعني أنام فإني أمسيت ناعسا
فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله و قال : قم يا سواد بن قارب فسمع مقالتي و اعقل إن كنت تعقل إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله و إلى عبادته ثم أنشأ يقول :
( عجبت للجن و تجساسها ... و شدها العيس بأحلااسها )
( تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما خير الجن كأنجاسها )
( فارحل إلى الصفوة من هاشم ... و اسم بعينيك إلى راسها )
قال : فقمت و قلت : قد امتحن الله قلبي فرحلت ناقتي ثم أتيت المدينة ـ يعني مكة ـ فإذ رسول الله صلى الله عليه و سلم في أصحابه فدنوت فقلت : اسمع مقالتي يا رسول الله قال : هات فأنشأت أقول :
( أتاني نجيي بعد هدء و رقدة ... و لم يك فيما قد بلوت بكاذب )
( ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب )
( فشمرت عن ذيلي الإزار و وسطت ... بي الذعاب الوجناء عبر السباسب )
( فأشهد أن الله لا شيء غيره ... و أنك مأمون على كل غائب )
( و أنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب )
( فمرنا بما يأتيك يا خير من مشى ... و إن كان فيما جاء شيب الذوائب )
( و كن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب )
قال : ففرح رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رئى الفرح في وجوههم
قال : فوثب إليه عمر بن الخطاب فالتزمه و قال : قد كنت أشتهي أن أسمع هذا الحديث منك فهل يأتيك رئيك اليوم
قال : أما منذ قرأت القرآن فلا و نعم العوض كتاب الله من الجن
ثم قال عمر : كنا يوما في حي من قريش يقال لهم أل ذريح و قد ذريح و قد ذبحواعجلا لهم و الجزار يعالجه إذا سمعنا صوتا من جوف العجل و لا نرى شيئا قال : يا آل ذريح أمر نجيح صائح يصيح بلسان فصيح يشهد أن لا إله إلا الله
وهذا منقطع من هذا الوجه و يشهد له رواية البخاري و قد تساعدوا على أن السامع الصوت من العجل هو عمر بن الخطاب و الله أعلم
و قال الحافظ أبو بكر محمد بن جعفر بن سهل الخرائطي في كتابه الذي جمعه في هواتف الجان : حدثنا أبو موسى عمران بن موسى المؤدب حدثنا محمد بن عمران بن محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثنا سعيد بن عبيد الله الوصابي عن أبيه عن أبي جعف محمد بن علي قال : دخل سواد بن قارب السدوسي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : نشدتك بالله يا سواد بن قارب هل تحسن اليوم من كهانتك شيئا فقال : سبحان الله ياأمير المؤمنين ما استقبلت أحدا من حلسائك بمثل ما استقبلتي به
قال : سبحان الله يا سواد : ما كنا عليه من شركنا أعظم مما كنت عليه من كهانتك و الله يا سواد لقد بلغني عنك حديث إنه لعجب من العجب
قال : إي و الله يا أمير المؤمنين إنه لعجب من العجب قال : فحدثنيه
قال : كنت كاهنا في الجاهلية فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ أتاني نجيي فضربني برجله ثم قال : يا سواد اسمع أقل لك قلت : هات قال :
( عجبت للجن و إيجاسها ... و رحلها العيس بأحلاسها )
( تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها )
( فارحل إلى الصفوة من هاشم ... و اسم بعينيك إلى رأسها )
قال : فنمت و لم أحفل بقوله شيئا فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله ثم قال لي : قم يا سواد بن قارب اسمع أقل لك قلت : هات قال :
( عجبت للجن و تطلابها ... و شدها العيس بأقتابها )
( تهوى إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الجن ككذابها )
( فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس القادين كأذنابها )
قال : فحرك قوله مني شيئا و نمت فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله ثم قال : يا سواد بن قارب أتعقل أم لا تعقل ؟ قلت : و ما ذاك ؟ قال : ظهر بمكة نبي يدعو إلى عبادة ربه فالحق به اسمع أقل لك قلت : هات قال :
( عجبت للجن و تنفازها ... و رحلها العيس بأكوارها )
( تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنو الجن ككفارها )
( فارحل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها و أحجارها )
قال : فعلمت أن الله قد أراد بي خيرا فقمت إلى بردة لي ففتقتها و لبستها و وضعت رجلي في غرز ركاب الناقة و أقبلت حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فعرض علي الإسلام فأسلمت و أخبرته الخبر فقال : [ إذا اجتمع المسلمون فأخبرهم ] فلمااجتمع المسلمون قمت فقلت :
( أتاني نجيي بعد هدء و رقدة ... و لم يك فيما قد بلوت بكاذب )
( ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب )
( فشمرت عن ذيلي الإزار و وسطت ... بي الذعلب الوجناء عبر السباسب )
( و أعلم أن الله لا رب غيره ... و انك مأمون عل كل غائب )
( و أنك أدنى المرسلين و سيلة ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب )
( فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل ... و إن كان فيما جاء شيب الذوائب )
قال : فسر المسلمون بذلك
فقال عمر : هل تحس اليوم منها بشيء ؟ قال : أما إذ علمني القرآن فلا
و قد رواه محمد بن السائب الكلبي عن أبيه عن عمر بن حفص قال : لما ورد سواد بن قارب على عمر قال : يا سواد بن قارب ما بقي من كهانتك ؟
فغضب و قال : ما أظنك يا أمير المؤمنين استقبلت أحدا من العرب بمثل هذا
فلما رأى مافي وجهه من الغضب قال : أنظر سواد للذي كنا عليه قبل اليوم من الشرك أعظم ثم قال : يا سواد حدثني حديثا كنت أشتهي أسمعه منك
قال : نعم بينا أنا في إبل لي بالسراة ليلا و أنا نائم و كان لي نجي من الجن أتاني فضربني برجله فقال لي : قم يا سواد بن قارب فقد ظهر بتهامة نبي يدعو إلى الحق و إلى طريق مستقيم فذكر القصة كما تقدم و زاد في آخر الشعر :
( و كن لي شفيعا يوم لا ذو قرابة ... سواك بمغن عن سواد بن قارب )
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ سر في قومك و قل هذا الشعر فيهم ]
و رواه الحافظ ابن عساكر من طريق سليمان بن عبد الرحمن عن الحكم بن يعلى بن عطاء المحاربي عن عباد بن عبد الصمد عن سعيد بن جبير قال : أخبرني سواد بن قارب الأزدي قال : كنت نائماعلى جبل من جبال السراة فأتاني آت فضربني برجله و ذكر القصة أيضا
و رواه أيضا من طريق محمد بن البراء عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء قال : قال سواد بن قارب : كنت نازلا بالهند فجاءني رئيي ذات ليلة فذكر القصة و قال بعد إنشاد الشعر الأخير : فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بدت نواجذه و قال : [ أفاحت يا سواد ] (1/341)
و قال أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة : حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر حدثنا عبد الرحمن بن الحسن حدثنا علي بن حرب حدثنا أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب عن أبيه عن عبد الله النعماني قال : كان منا رجل يقال له مازن بن العضوب يسدن صنما بقرية يقال لها سمايا من عمان و كانت تعظمه بنو الصامت و بنو حطامة و مهرة و هم أخوال مازن أمه زينب بنت عبد الله بن ربيعة بن خويص أحد بني نمران
قال مازن : فعترنا يوما عند الصنم عتيرة و هي الذبيحة فسمعت صوتا من الصنم يقول : يا مازن اسمع تسر ظهر خير و بطن شر بعث نبي من مضر بدين الله الأكبر فدع نحيتا من حجر تسلم من حر سقر
قال : ففزعت لذلك فزعا شديدا
ثم عترنا بعد أيام عتيرة أخرى فسمعت صوتا من الصنم يقول : أقبل إلي أقبل تسمع ما لا تجهل هذا نبي مرسل جاء بحق منزل فآمن به كي تعدل عن حر نار تشعل و وقودها الجندل
قال مازن : فقلت إن هذا لعجب و إن هذا لخير يراد بي و قدم علينا رجل من الحجاز فقلت : ما الخبر وراءك ؟ فقال : ظهر رجل يقال له أحمد يقول لمن أتاه : أجيبوا داعي الله
فقلت : هذا نبأ ما سمعت فثرت إلى الصنم فكسرته جذاذا و ركبت راحلتي حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فشرح الله صدري للإسلام فأسلمت و قلت :
( كسرت يا جر أجذاذا و كان لنا ... ربا نطيف به ضلا بتضلال )
( بالهاشمي هدانا من ضلالتنا ... و لم يكن دينه مني على بال )
( يا راكبا بلغن عمرا و إخواتها ... إني لمن قال ربي ياجر قالي )
يعني بعمرو : الصامت و إخواتها : حطامة
فقلت : يا رسول الله إني امرؤ مولع بالطرب و بالهلوك إلى النساء و شرب الخمر و ألحت علينا السنون فأذهبن الأموال و أهزلن السراري و ليس لي ولد فادع الله أن يذهب عني ما أجد و يأتينا بالحياء و يهب لي ولد
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن و بالحرام الحلال و بالأثم و بالعهر عفة و آته بالحياء وهب له ولدا ]
قال فأذهب الله عني ما أجد و أخصبت عمان و تزوجت أربع حرائر و حفظت شطر القرآن و وهب لي حيان بن مازن و أنشأ يقول :
( إليك رسول الله خبت مطيتي ... تجوب الفيافي من عمان إلى العرج )
( لتشفع لي يا خير من وطئ الحصى ... فيغفر لي ربي فأرجع بالفلج )
( إلى معشر خالفت في الله دينهم ... فلا رأيهم رأيي و لا شرجهم شرجي )
( و كنت امرءا بالخمر و العهر مولعا ... شبابي حتى آذن الجسم بالنهج )
( فبدلني بالخمر خوفا و خشية ... و بالعهر إحصانا فحصن لي فرجي )
( فأصبحت همي في الجهاد و نيتي ... فلله ما صومي و لله ما حجي )
قال : فلما أتيت قومي أنبوني و شتموني أمروا شاعرا لهم فهجاني فقلت إن رددت عليه فإنما أهجو نفسي
فرحلت عنهم فأتتني منهم زلفة عظيمة و كنت القيم بأمورهم فقالوا : يا ابن عم : نبنا عليك أمرا و كرهنا ذلك فإن أبيت ذلك فارجع و قم بأمورنا و شأنك و ما تدين به
فرجعت معهم و قلت :
( لبغضكم عندنا مر مذاقته ... و بغضنا عندكم يا قومنا لبن )
( لا يفطن الدهر إن بثت معائبكم ... و كلكم حين يثني عيبنا فطن )
( شاعرنا مفحم عنكم و شاعركم ... في حدبنا مبلغ في شتمنا لسن )
( ما في القلوب عليكم فاعلموا وغر ... و في قلوبكم البغضاء و الإحن )
قال مازن : فهداهم الله بعد إلى الإسلام جميعا (1/349)
و روى الحافظ أبو نعيم من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله قال : إن أول خبر كان بالمدينة بمبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أن امرأة بالمدينة كان لها تابع من الجن فجاء في صورة طائر أبيض فوقع على حائط لهم فقالت له : لم تنزل إلينا فتحدثنا و نحدثك و تخبرنا و نخبرك ؟ فقال لها : إنه قد بعث نبي بمكة حرم الزنا و منع منا الفرار
و قال الواقدي : حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز عن الزهري عن علي بن الحسين قال : إن أول خبر قدم المدينة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن امرأة تدعى فاطمة كان لها تابع فجاءها ذات يوم فقام على الجدار فقالت : ألا تنزل ؟ فقال : لا إنه قد بعث الرسول الذي حرم الزنا
و أرسله بعض التابعين أيضا و سماه بابن لوذان و ذكر أنه كان قد غاب عنها مدة ثم لما قدم عاتبته فقال : إني جئت الرسول فسمعته يحرم الزنا فعليك السلام
و قال الواقدي : حدثني محمد بن صالح عن عاصم بن عمر بن قتادة قال : قال عثمان بن عفان : خرجنا في عير إلى الشام قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما كنا بأفواه الشام و بها كاهنة فتعرضتنا فقالت : أتاني صاحبي فوقف على بابي فقلت : ألا تدخل ؟ فقال : لا سبيل إلى ذلك خرج أحمد و جاء أمر لا يطاق
ثم انصرفت فرجعت إلى مكة فوجدت رسول الله صلى الله عليه و سلم قد خرج بمكة يدعو إلى الله عز و جل (1/352)
و قال الواقدي : حدثني محمد بن عبد الله الزهري : كان الوحي يسمع فلما كان الإسلام منعوا
و كانت امرأة من بني أسد يقال لها سعيرة لها تابع من الجن فلما رأى الوحي لا يستطاع أتاها فدخل في صدرها فضج في صدرها فذهب عقلها فجعل يقول من صدرها : وضع العناق و منع الرفاق و جاء أمر لا يطاق و أحمد حرم الزنا
و قال الحافظ أبو بكر الخرائطي : حدثنا عبد الله بن محمد البلوي ـ بمصر ـ حدثنا عمارة بن زيد حدثنا عيسى بن يزيد عن صالح بن كيسان عمن حدثه عن مرداس بن قيس السدوسي قال : حضرت النبي صلى الله عليه و سلم و قد ذكرت عنده الكهانة و ما كان من تغييرها عند مخرجه فقلت : يا رسول الله قد كان عندنا في ذلك شيء أخبرك أن جارية منا يقال لها الخلصة لم يعلم عليها إلا خيرا إذ جاءتنا فقالت : يا معشر دوس العجب العجب لما أصابني هل علمتم إلا خيرا ؟ قلنا : و ماذاك ؟ قالت إني لفي غنمي إذ غشيتي ظلمة و وجدت كحس الرجل مع المرأة فقد خشيت أن أكون حبلت حتى إذا دنت ولادتها وضعت غلاما أغضف له أذنان كأذني الكلب فمكث فينا حتى إنه ليلعب مع الغلمان إذ وثب وثبة و ألقى إزاره و صاح بأعلى صوته و جعل يقول : يا ويلة يا ويلة يا عولة يا عولة يا ويل غنم يا ويل فهم من قابس النار الخيل و الله وراء العقبة فيهن فتيان حسان نجبة
قال : فركبنا و أخذنا للأداة و قلنا : يا ويلك ما ترى ؟ فقال : هل من جارية طامث ؟ فقلنا : و من لنا بها ؟ فقال شيخ منا : هي و الله عندي عفيفة الأم فقلنا فعجلها فأتى بالجارية و طلع الجبل و قال للجارية : اطرحي ثوبك و اخرجي في وجوههم و قال للقوم : اتبعوا أثرها و قال لرجل منا يقال له أحمد بن حابس : يا أحمد بن حابس عليك أول فارس فحعل أحمد فطعن أول فارس فصرعه و انهزموا فغنمناهم قال : فابتنينا عليهم بيتا و سميناه ذا الخلصة و كان لا يقول لنا شيئا إلا كان كما يقول
حتى إذا كان مبعثك يا رسول الله قال لنا يوما : يا معشر دوس نزلت بنو الحارث ابن كعب فركبنا فقال لنا : اكدسوا الخيل كدسا و احشوا القوم رمسا انفوهم غدية و اشربوا الخمر عشية
قال : فلقيناهم فهزموا و غلبونا فرجعنا إليه فقلنا : ما حالك و ما الذي صنعت بنا ؟ فنظرنا إليه و قد احمرت عيناه و انتصبت أذناه و انبرم غضبانا حتى كاد أن ينفطر و قام
فركبنا و اغتفرنا هذه له و مكثنا بعد ذلك حينا ثم دعانا فقال : هل لكم في غزوة تهب لكم عزا و تجعل لكم حرزا و يكون في أيديكم كنزا ؟ فقلنا : ما أحوجنا إلى ذلك ؟ فقال اركبوا فركبنا فقلنا : ما تقول ؟ فقال : بنو الحارث بن مسلمة ثم قال : قفوا فوقفنا ثم قال : عليكم بفهم ثم قال ليس فيهم دم عليكم بمضر هم أرباب خيل و نعم ثم قال : لا رهط دريد بن الصمة قليل العدد و في الذمة ثم قال لا و لكن عليكم بكعب بن ربيعة و أسكنوها ضيعة عامر بن صعصعة فليكن بهم الوقيعة
قال : فلقيناهم فهزموا و فضحونا فرجعنا و قلنا : ويلك ماذا تصنع بنا قال : ما أدرى كذبني الذي كان يصدقني اسجنوني في بيتي ثلاثا ثم ائتوني
ففعلنا به ذلك ثم أتيناه بعد ثالثة ففتحنا عنه فإذا هو كأنه حجرة نار فقال : يا معشر دوس حرست السماء و خرج خير الأنبياء قلنا : أين ؟ قال : بمكة و أنا ميت فادفنوني في رأس جبل فإني سوف أضطرم نارا و إن تركتموني كنت عليكم عارا فإذا رأيتم اضطرامي و تلهبي فاقذفوني بثلاثة أحجار ثم قولوا مع كل حجر : باسمك اللهم : فإني أهدأ و أطفى
قال : و إنه مات فاشتعل نارا ففعلنا به ما أمر و قد قذفناه بثلاثة أحجار نقول مع كل حجر : باسمك اللهم فحمد و طفى
و أقمنا حتى قدم علينا الحاج فأخبرونا بمبعثك يا رسول الله
غريب جدا
و روى الواقدي عن أبيه عن ابن أبي ذئب عن مسلم بن جندب عن النضر بن سفيان الهذلي عن أبيه قال : خرجنا في عير لنا إلى الشام فلما كنا بين الزرقاء و معان قد غرسنا من الليل فإذا بفارس يقول و هو بين السماء و الأرض : أيها النيام هبوا فليس هذا بحين رقاد قد خرج أحمد فطردت الجن كل مطرد
ففزعنا و نحن رفقة حزاورة كلهم قد سمع بهذا
فرجعنا إلى أهلنا فإذا هم يذكرون اختلافا بمكة بين قريش في نبي قد خرج فيهم من بني عبد المطلب اسمه أحمد
ذكره أبو نعيم (1/353)
و قال الخرائطي : حدثنا عبد الله بن محمد البلوي ـ بمصر حدثنا عمارة بن زيد حدثني عبد الله بن العلاء حدثني يحيى بن عروة عن أبيه أن نفرا من قريش منهم ورقة ابن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي و زيد بن عمرو بن نفيل و عبد الله بن جحش بن رئاب و عثمان بن الحويرث كانوا عند صنم لهم يجتمعون إليه قد اتخذوا ذلك اليوم من كل سنة عيدا كانوا يعظمونه و ينحرون له الجزور ثم يأكلون و يشربون الخمر و يعكفون عليه فدخلوا عليه في الليل فرأوه مكبوبا على وجهه فأنكروا ذلك فأخذوه فردوه إلى حاله فلم يلبث أن انقلب انقلابا عنيفا فأخذوه فردوه إلى حاله فانقلب الثالثة
فلما رأوا ذلك اغتموا له و أعظموا ذلك فقال عثمان بن الحويرث : ما له قد أكثر التنكس ؟ ! إن هذا لأمر قد حدث و ذلك في الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل عثمان يقول :
( أيا صنم العيد الذي صف حوله ... صناديد وفد من بعيد و من قرب )
( تنكست مغلوبا فما ذاك قل لنا ... أذاك سفيه أم تنكست للعتب )
( فإن كنت من ذنب أتينا فإننا ... نبوء بإقرار و نلوي عن الذنب )
( و إن كنت مغلوبا و نكست صاغرا ... فما أنت في الأوثان بالسيد الرب )
قال : فأخذوا الصنم فردوه إلى حاله فلما استوى هتف بهم هاتف من الصنم بصوت جهير و هو يقول :
( تردى لمولود أنارت بنوره ... جميع فجاج الأرض في الشرق و الغرب )
( و خرت له الأوثان طرا و أرعدت ... قلوب ملوك الأرض طرا من الرعب )
( و نار جميع الفرس باخت و أظلمت ... و قد بات شاه الفرس في أعظم الكرب )
( و صدت عن الكهان بالغيب جنها ... فلا مخبر عنهم بحق و لا كذب )
( فيا لقصي ارجعوا عن ضلالكم ... و هبوا إلى الإسلام و المنزل الرحب )
قال : فلما سمعوا ذلك خلصوا نجيا فقال بعضهم لبعض : تصادقوا و ليكتم بعضكم على بعض
فقالوا : أجل !
فقال لهم ورقة بن نوفل : تعلمون و الله ما قومكم على دين و لقد أخطأوا الحجة و تركوا دين إبراهيم ما حجر تطيفون به لا يسمع و لا يبصر و لا ينفع و لا يضر ؟ ! يا قوم التمسوا لأنفسكم الدين
قال : فخرجوا عند ذلك يضربون في الأرض و يسألون عن الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام
فأما ورقة بن نوفل فتنصر و قرأ الكتب حتى علم علما
و أما عثمان بن الحويرث فسار إلى قيصر فتنصر و حسنت منزلته عنده
و أما زيد بن عمرو بن نفيل فأراد الخروج فحبس
ثم أنه خرج بعد ذلك فضرب في الأرض حتى بلغ الرقة من أرض الجزيرة فلقى بها راهبا عالما فأخبروه بالذي يطلب فقال له الراهب : إنك لتطلب دينا ما تجد من يحملك عليه و لكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلدك يبعث بدين الحنيفة
فلما قال له ذلك رجع يريد مكة فغارت عليه لخم فقتلوه
و أما عبد الله بن جحش فأقام بمكة حتى بعث النبي صلى الله عليه و سلم ثم خرج مع من خرج إلى أرض الحبشة فلما صار تنصر و فارق الإسلام فكان بها حتى هلك هنالك نصرانيا
تقدم في ترجمة زيد بن عمرو بن نفيل له شاهد (1/355)
و قد قال الخرائطي : حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح أبو بكر الوراق حدثنا عمرو ابن عثمان حدثني أبي حدثنا عبد الله بن عبد العزيز حدثني محمد بن عبد العزيز عن الزهري عن عبد الرحمن بن أنس السلمي عن العباس بن مداس أنه كان يعر في لقاح له نصف النهار إذ طلعت عليه نعامة بيضاء عليها راكب عليه ثياب بياض مثل اللبن فقال : يا عباس بن مرداس ألم تر أن السماء قد كفت أحراسها و أن الحرب تجرعت أنفاسها و أن الخيل وضعت أحلاسها و أن الذي نزل بالبر والتقوى يوم الأثنين ليلة الثلاثاء صاحب الناقة القصوى
قال : فرجعت مرعوباقد راعني ما رأيت و سمعت حتى جئت وثنا لنا يدعى الضمار وكنا نعبده و نكلم من جوفه فكنست ما حوله ثم تمسحت به و قبلته فإذا صائح من جوفه يقول :
( قل للقبائل من سليم كلها ... هلك الضمار و فاز أهل المسجد )
( هلك الضمار و كان يعبد مرة ... قبل الصلاة مع النبي محمد )
( إن الذي ورث النبوة و الهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدي )
قال : فخرجت مرعوبا حتى أتيت قومي فقصصت عليهم القصة و أخبرتهم الخبر و خرجت في ثلاثمائة من قومي بني حارثة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بالمدينة فدخلنا المسجد فلما رآني رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لي : [ يا عباس كيف كان إسلامك ] ؟ فقصصت عليه القصة قال فسر بذلك و اسلمت أنا و قومي
و رواه الحافظ أبو نعيم في الدلائل من حديث أبي بكر بن أبي عاصم عن عمرو ابن عثمان به
ثم رواه أيضا من طريق الأصمعي حدثني الوصافي عن منصور بن المعتمر عن قبيصة بن عمرو بن إسحاق الخزاعي عن العباس بن مرداس السلمي قال : أول إسلامي أن مرداسا أبي لما حضرته الوفاة أوصاني بصنم له يقال له ضمار فجعلته في بيت و جعلت آتية كل يوم مرة فلما ظهر النبي صلى الله عليه و سلم سمعت صوتا مرسلافي جوف الليل راعني فوثبت إلى ضمار مستغيثا و إذا بالصوت من جوفه و هو يقول :
( قل للقبيلة من سليم كلها ... هلك الأنيس وعاش أهل المسجد )
( أودى ضمار وكان يعبد مرة ... قبل الكتاب إلى النبي محمد )
( إن الذي ورث النبوة و الهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدى )
قال : فكتمته الناس فلما رجع الناس من الأحزاب بينا أنا في إبل بطرف العقيق من ذات عرق راقدا سمعت صوتا و إذا برجل على جناح نعامة و هو يقول : النور الذي وقع ليلة الثلاثاء مع صاحب الناقة العضباء في ديار إخوان بني العنقاء فأجابه هاتف من شماله و هو يقول :
بشر الجن و إبلاسها أن وضعت المطي أحلاسها و كلأت السماء أحراسها قال : فوثبت مذعورا و علمت أن محمدا مرسل فركبت فرسي و احتثثت السير حتى انتهيت إليه فبايعته ثم انصرفت إلى ضمار فاحرقته بالنار ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنشدته شعرا أقول فيه :
( لعمرك إني يوم أجعل جاهلا ... ضمارا لرب العالمين مشاركا )
( و تركي رسول الله و الأوس حوله ... أولئك أنصار له ما أولئكا )
( كتارك سهل الأرض و الحزن يبتغي ... ليسلك في وعث الأمور المسالكا )
( فآمنت بالله الذي أنا عبده ... و خالفت من أمسى يريد المهالكا )
( و وجهت و جهي نحو مكة قاصدا ... أبايع نبي الأكرمين المباركا )
( نبي أتانا بعد عيسى بناطق ... من الحق فيه الفصل فيه كذلكا )
( أمين على القرآن أول شافع ... و أول مبعوث يجيب الملائكا )
( تلافي عري الإسلام بعد انتقاضها ... فاحكمها حتى أقام المنسكا )
( عنيتك يا خير البرية كلها ... توسطت في الفرعين و المجد مالكا )
( و أنت المصفى من قريش إذاسمت ... على ضمرها تبقي القرون المباركا )
( إذا انتسب الحيان كعب و مالك ... و جدناك محضنا و النساء العواركا ) (1/358)
قال الخرائطي : و حدثنا عبد الله بن محمد البلوي بمصر حدثنا عمارة بن زيد حدثنا إسحاق بن بشر و سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق حدثني شيخ من الأنصار يقال له عبد الله بن محمود من آل محمد بن مسلمة قال : بلغني أن رجالا من خثعم كانوا يقولون : إن مما دعانا إلى الإسلام أنا كنا قومنا نعبد الأوثان فبينا نحن ذات يوم عند وثن لنا إذ أقبل نفر يتقاضون إليه يرجعون الفرج من عنده لشيء شجر بينهم إذا هتف بهم هاتف يقول :
( يا أيها الناس ذوو الأجسام ... من بين أشياخ إلى غلام )
( ما أنتم و طائش الأحلام ... و مسند الحكم إلى الأصنام )
( أكلكم في حيرة نيام ... أم لا ترون ما الذي أمامي )
( من ساطع يجلو دجى الظلام ... قد لاح للناظر من تهام )
( ذاك نبي سيد الأنام ... قد جاء بعد الكفر بالإسلام )
( أكرمه الرحمن من إمام ... و من رسول صادق الكلام )
( أعدل ذي حكم من الأحكام ... يأمر بالصلاة و الصيام )
( و البر و الصلات للأرحام ... و يزجر الناس عن الآثام )
( و الرجس و الأوثان و الحرام ... من هاشم في ذروة السنام )
( مستعلنا في البلد الحرام )
قال : فلما سمعنا ذلك تفرقنا عنه و أتينا النبي صلى الله عليه و سلم فأسلمنا (1/361)
و قال الخرائطي حدثنا عبد الله البلوى حدثنا عمارة حدثنى عبيد الله بن العلاء حدثنا محمد بن عكبر عن سعيد بن جبير أن رجلا من بني تميم يقال له رافع بن عمير و كان أهدى الناس للطريق و أسراهم بليل و أهجمهم على هول و كانت العرب يسمية لذلك دعموص العرب لهدايته و جراءته على السير فذكر عن بدء إسلامه قال :
إني أسير برمل عالج ذات ليلة إذ غلبني النوم عن راحلتي و أنختها و توسدت ذراعها و نمت و قد تعوذت قبل نومي فقلت : أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن من أن أوذي أو أهاج فرأيت في منامي رجلا شابا يرصد ناقتي و بيده حربة يريد أن يضعها في نحرها فانتبهت لذلك فزعا فنظرت يمينا و شمالا فلم أر شيئا فقلت : هذا حلم ثم عدت فغفوت فرأيت في منامي مثل رؤياي الأولى فانتبهت فدرت حول ناقتي فلم أر شيئا و إذا ناقتي ترعد ثم غفوت فرأيت مثل ذلك فانتبهت فرأيت ناقتي تضطرب و التفت فإذا أنا برجل شاب كالذي رأيت في المنام بيده حربة و رجل شيخ ممسك بيده يرده عنها و هو يقول :
( يا مالك بن مهلهل بن دثار ... مهلا فدا لك مئزري و إزاري )
( عن ناقة الإنس لا تعرض لها ... و اختربها ما شئت من أثواري )
( و لقد بدا لي منك مالم أحتسب ... ألا رعيت قرابتي و ذماري )
( تسموا إليه بحربة مسمومة ... تبا لفلمك يا أبا الفغار )
( لولا الحياء و أن أهلك جيرة ... لعلمت ماكشفت من أخباري )
قال فأجابه الشاب و هو يقول :
( أأردت أن تعلو و تخفض ذكرنا ... في غير مزرية أبا العيزار )
( ما كان فيهم سيد فيما مضى ... إن الخيار هم بنو الأخيار )
( فاقصد لقصدك يا معكبر إنما ... كان المجير مهلهل بن دثار )
قال : فبينما هما يتنازعان إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش فقال الشيخ للفتى : قم يا ابن أخت فخذ أيها شئت فداء لناقة جاري الإنسي فقام الفتى فأخذ منها ثورا و انصرف ثم التفت إلى الشيخ فقال : إذا نزلت واديا من الأودية فخفت هوله فقل : أعوذ بالله رب محمد من هول هذا الوادي و لا تعذ بأحد من الجن فقد بطل أمرها قال : فقلت له : و من محمد هذا ؟ قال : نبي عربي لا شرقي و لا غربي بعث يوم الأثنين قلت : و أين مسكنه ؟ قال : يثرب ذات النخل قال فركبت راحلتي حين برق لي الصبح و جددت السير حتى تقحمت المدينة فرآني رسول الله صلى الله عليه و سلم فحدثني بحديثي قبل أن أذكر له منه شيئا و دعاني إلى الإسلام فأسلمت
قال سعيد بن جبير و كنا نرى أنه هو الذي أنزل الله فيه [ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ] (1/362)
و روى الخرائطي من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن داود ابن الحسين عن عكرمة ابن عباس عن علي قال : إذا كنت بواد تخاف السبع فقل أعوذ بدانيال و الجب من شر الأسد و روى البلوي عن عمارة بن زيد عن إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق حدثني يحيى بن عبد الله بن الحارث عن أبيه عن ابن عباس قصة قتال علي الجن بالبئر ذات العلم التي بالجحفة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم يستقي لهم الماء فأرادوا منعه و قطعوا الدلو فنزل إليهم و هي قصة منكرة جدا و الله أعلم
و قال الخرائطي : حدثني أبو الحارث محمد بن مصعب الدمشقي و غيره حدثنا سليمان ابن بنت شرحبيل الدمشقي حدثنا عبد القدوس بن الحجاج حدثنا خالد بن سعيد عن الشعبي عن رجل قال : كنت في مجلس عمر بن الخطاب و عنده جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يتذاكرون فضائل القرآن فقال بعضهم : خواتيم سورة النحل و قال بعضهم : سورة يس و قال علي : فأين أنتم عن فضيلة آية الكرسي : أما إنها سبعون كلمة في كل كلمة بركة
قال : و في القوم عمرو بن معدي كرب لا يحير جوابا فقال : أين أنتم عن بسم الله الرحمن الرحيم ؟ فقال عمر : حدثنا يا أبا ثور
قال : بينا أنا في الجاهلية إذ جهدني الجوع فأقحمت فرسي في البرية فما أصبت إلا بيض النعام فبينا أنا أسير إذا أنا بشيخ عربي في خيمة و إلى جانبه جارية كأنها شمس طالعة و معه غنمات له فقلت له : استأسر ثكلتك أمك فرفع رأسه إلي و قال : يا فتى إن أردت قرى فانزل و إن أردت معونة أعناك فقلت له : استأسر فقال :
( عرضنا عليك النزل منا تكرما ... فلم ترعوي جهلا كفعل الأشائم )
( و جئت ببهتان و زور و دون ما ... تمنيته بالبيض حز الغلاصم )
قال : و وثب إلي وثبة و هو يقول : بسم الله الرحمن الرحيم فكأني مثلت تحته
ثم قال : أقتلك أم أخلي عنك ؟ قلت : بل خلي عني قال : فخلى عني ثم إن نفسي جاذبتني بالمعاودة فقلت استأسر ثكلتك أمك فقال :
( ببسم الله و الرحمن فزنا ... هنالك و الرحيم به قهرنا )
( و ما تغني جلادة ذي حفاظ ... إذا يوما لمعركة برزنا )
ثم وثب لي وثبة كأني مثلت تحته فقال : أقتلك أم أخلي عنك ؟ قال : قلت بل خل عني فخلى عني فانطلقت غير بعيد ثم قلت في نفسي : يا عمرو أيقهرك هذا الشيخ ! و الله للموت خير لك من الحياة فرجعت أليه فقلت : استأسر ثكلتك أمك فوثب إلي وثبة وهو يقول : بسم الله الرحمن الرحيم فكأني مثلت تحته فقال : أقتلك أم أخلي عنك ؟ قلت : بل خل عني فقال : هيهات يا جارية ائتيني بالمدية فأتته بالمدية فجز ناصيتي و كانت العرب إذا ظفرت برجل فجزت ناصيته استعبدته فكنت معه أخدمه مدة ثم إنه قال : يا عمرو أريد أن تركب معي البرية و ليس بي منك وجل فإني ببسم الله الرحمن الرحيم لواثق
قال : فسرنا حتى أتينا واديا أشبا مهولا مغولا فنادى بأعلى صوته ببسم الله الرحمن الرحيم فلم يبق طير في وكره إلا طار ثم أعاد القول فلم يبق سبع في مربضه إلا هرب ثم أعاد الصوت فإذا نحن بحبشي قد خرج علينا من الوادي كالنخلة السحوق فقال لي : يا عمرو إذا رأيتنا قد اتحدنا فقل : غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم قال : فلما رأيتهما قد اتحدا قلت : غلبه صاحبي باللات و العزى فلم يصنع الشيخ شيئا فرجع إلي و قال : قد علمت أنك خالفت قولي قلت أجل و لست بعائد فقال : إذا رأيتنا قد اتحدنا فقل غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم فقلت : أجل فلما رأيتهما قد اتحدا قلت : غلبه صاحبي ببسم الله الرحمن الرحيم فاتكأ عليه الشيخ فبعجه بسيفه فاشتق بطنه فاستخرج منه شيئا كهيئة القنديل الأسود ثم قال : يا عمرو هذا غشه و غله ثم قال : أتدري من تلك الجارية ؟ قلت : لا قال : تلك الفارعة بنت السليل الجرهمي من خيار الجن و هؤلاء أهلها بنو عمها يغزوني منهم كل عام رجل ينصرني الله عليه ببسم الله الرحمن الرحيم ثم قال : قد رأيت ما كان مني إلى الحبشي و قد غلب علي الجوع فائتني بشيء آكله فأقحمت بفرسي البرية فما أصبت إلا بيض النعام فأتيته به فوجدته نائما و إذا تحت رأسه شيء كهيئة الخشبه فاستللته فإذا هو سيف عرضه شبر في سبعة أشبار فضربت ساقيه ضربة أبنت الساقين مع القدمين فاستوى على قفا ظهره و هو يقول : قاتلك الله ما أغدرك يا غدار قال عمر : ثم ماذا صنعت ؟ قلت : فلم أزل أضربه بسيفي حتى قطعته إربا إربا قال فوجم لذلك ثم أنشأ يقول :
( بالغدر نلت أخا الإسلام عن كثب ... ما إن سمعت كذا في سالف العرب )
( و العجم تأنف مما جئته كرما ... تبا لما جئته في السيد الأرب )
( إني لأعجب أني نلت قتلته ... أم كيف جازاك عند الذنب لم تنب )
( قرم عفا عنك مرات و قد علقت ... بالجسم منك يداه موضع العطب )
( لو كنت آخذ في الإسلام ما فعلوا ... في الجاهلية أهل الشرك و الصلب )
( إذا لنالتك من عدلي مشطبة ... تدعوا لذائقها بالويل و الحرب )
قال : ثم ما كان من حال الجارية ؟ قلت : ثم إني أتيت الجارية فلما رأتني قالت : ما فعل الشيخ ؟ قلت : قتله الحبشي فقالت : كذبت بل قتلته أنت بغدرك ثم أنشأت تقول :
( يا عين جودي للفارس المغوار ... ثم جودي بواكفات عزار )
( لا تملي البكاء إذ خانك الد هـ ... ر بواف ذي حقيقة صبار )
( و تقى و ذي وقار و حلم ... و عديل الفخار يوم الفخار )
( لهف نفسي على بقائك عمرو ... أسلمتك الأعمار للأقدار )
( و لعمري لو ترمه بغدر ... رمت ليثا كصارم بتار )
قال : فأحفظني قولها فاستللت سيفي و دخلت الخيمة لأقتلها فلم أر في الخيمة أحدا فاستقت الماشية و جئت إلى أهلي
و هذا أثر عجيب
و الظاهر أن الشيخ كان من الجان و كان ممن أسلم و تعلم القرآن و فيما تعلمه بسم الله الرحمن الرحيم وكان يتعوذ بها (1/363)
و قال الخرائطي : حدثنا عبد الله بن محمد البلوي حدثنا عمارة بن زيد قال : حدثني عبد الله بن العلاء عن هشام بن عروة عن أبيه عن جدته أسماء بنت أبي بكر قالت : كان زيد بن عمرو بن نفيل و ورقة بن نوفل يذكران أنهما أتيا النجاشي بعد رجوع أبرهة من مكة قالا : فلما دخلنا عليه قال لنا : اصدقاني أيها القرشيان هل ولد فيكم مولود أراد أبره ذبحه فضرب عليه بالقداح فسلم و نحرت عنه إبل كثيرة ؟ قلنا : نعم
قال : فهل لكما علم به مافعل ؟
قلنا : تزوج امرأة يقال لها آمنة بنت وهب تركها حاملا و خرج قال : فهل تعلمان ولد ام لا ؟ قال ولرقة بن نوفل : أخبرك أيها الملك إني ليلة قد بت عند وثن لنا كنا نطيف به و نعبده إذ سمعت من جوفه هاتفا يقول :
( و لد النبي فذلت الأملاك ... و نأي الضلال و أدبر الإشراك )
ثم انتكس الصنم على وجهه فقال زيد بن عمرو بن نفيل : عندي كخبره أيها الملك قال : هات قال : أنا في مثل هذه الليلة التي ذكر فيها حديثه خرجت من عند أهلي و هم يذكرون حمل آمنة حتى أتيت جبل أبي قبيس أريد الخلو فيه لأمر رابني إذ رأيت رجلا نزل من السماء له جناحان أخضران فوقف على أبي قبيس ثم أشرف على مكة فقال : ذل الشيطان و بطلت الأوثان ولد الأمين ثم نشر ثوبا معه و أهوى به نحو المشرق و المغرب فرأيته قد جلل ما تحت السماء و سطع نور كاد أن يختطف بصري و هالني ما رأيت و خفق الهاتف بجناحيه حتى سقط على الكعبة فسطع له نور أشرقت له تهامة و قال : ذكت الأرض و أدت ربيعها و أومأ إلى الأصنام التي كانت على الكعبة فسقطت كلها
قال النجاشي : و يحكما أخبركما عما أصابني إني لنائم في الليلة التي ذكرتما في قبة وقت خلوتي إذ خرج علي من الأرض عنق و رأس و هو يقول : حل الويل بأصحاب الفيل رمتهم طير أبابيل بحجارة من سجيل هلك الأشرم المعتدي المجرم و ولد النبي الأمي المكي الحرمي من أجابه سعد و من أباه عتد ثم دخل الأرض فغاب فذهبت أصيح فلم أطق الكلام و رمت القيام فلم أطق القيام فصرعت القبة بيدي فسمع بذلك أهلي فجاءوني فقلت : احجبوا عني الحبشة فحجبوهم عني ثم أطلق عن لساني و رجلي و سيأتي إن شاء الله تعالى في قصة المولد رؤيا كسرى في سقوط أربع عشرة شرفة من إيوانه و خمود نيرانه و رؤيا موبذانه و تفسير سطيح لذلك على يدي عبد المسيح (1/367)
و روى الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخه في ترجمة الحارث بن هانئ بن المدلج بن ابن المقداد بن زمل بن عمرو العذري عن أبيه عن جده عن أبيه عن زمل بن عمرو العذري قال : كان لبني عذرة صنم يقال له صمام و كانوا يعظمونه و كان في بني هند بن حرام ابن ضبة بن عبد بن كبير بن عذرة و كان سادنه رجلا يقال له طارق و كانوا يعترون عنده فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعنا صوتا يقول : يا بني هند بن حرام ظهر الحق و أودى صمام و دفع الشرك الإسلام قال : ففزعنا لذلك و هالنا فمكثنا أياما ثم سمعنا صوتا و هو يقول : يا طارق يا طارق بعث النبي الصادق بوحي ناطق صدع صادع بأرض تهامة لناصريه السلامة و لخاذليه الندامة هذا الوداع مني إلى يوم القيامة
قال زمل : فوقع الصنم لوجهه قال : فابتعت راحلة و رحلت حتى أتيت النبي صلى الله عليه و سلم مع نفر من قومي و أنشدته شعرا قلته :
( إليك رسول الله أعملت نصها ... و كلفتها حزنا و غورا من الرمل )
( لأنصر خير الناس نصرا مؤزرا ... و أعقد حبلا من حبالك في حبلي )
( و أشهد أن الله لا شيء غيره ... أدين به ما أثقلت قدمي نعلي )
قال : فأسلمت و بايعته و أخبرناه بما سمعنا فقال : [ ذاك من كلام الجن ]
ثم قال : [ يا معشر العرب إني رسول الله إليكم و إلى الأنام كافة أدعوهم إلى عبادة الله وحده و أني رسوله وعبده و أن تحجوا البيت و تصوموا شهرا من اثني عشر شهرا و هو رمضان فمن أجابني فله الجنة نزلا و من عصاني كانت النار له منقلبا ]
قال : فأسلمنا و عقد لنا لواء و كتب لنا كتابا نسخته : [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لزمل بن عمرو و من أسلم معه خاصة إني بعثته إلى قومه عامدا فمن أسلم ففي حزب الله و رسوله و من أبى فله أمان شهرين شهد علي بن أبي طالب و محمد بن مسلمة الأنصاري ] ثم قال ابن عساكر : غريب جدا (1/368)
و قال سعيد بن يحي بن سعيد الأموي في مغازيه : حدثني محمد بن سعيد ـ يعني عمه ـ قال : قال محمد بن المنكدر : إنه ذكر لي عن ابن عباس قال : هتف هاتف من الجن على أبي قبيس فقال :
( قبح الله رأيكم آل فهر ... ماأدق العقول و الأفهام )
( حين تغضي لمن يعيب عليها ... دين آبائها الحماة الكرام )
( حالف الجن جن بصرى عليكم ... و رجال النخيل و الآطام )
( يوشك الخيل أن تروها تهادى ... تقتل القوم في حرام بهام )
( هل كريم منكم له نفس حر ... ماجد الوالدين و الأعمام )
( ضارب ضربة تكون نكالا ... ورواحا من كربة و اغتمام )
قال ابن عباس : فأصبح هذا الشعر حديثا لأهل مكة يتناشدونه بينهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذا شيطان يكلم الناس في الأوثان يقال له مسعر و الله مخزيه ] فمكثوا ثلاثة أيام فإذا هاتف يهتف على الجبل يقول :
( نحن قتلنا في ثلاث مسعرا ... إذ سفه الجن و سن المنكرا )
( قنعته سيفا حساما مشهرا ... بشتمه نبينا المطهرا )
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذا عفريت من الجن اسمه سمج آمن بي سميته عبد الله أخبرني أنه في طلبه ثلاثة أيام ] فقال علي : جزاه الله خيرا يا رسول الله (1/370)
و قد روى الحافظ أبو نعيم في الدلائل قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر حدثنا أبو الفضل محمد بن عبد الرحمن بن موسى بن أبي حرب الصفار حدثنا عباس بن الفرج الرياشي حدثنا سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت عن أبيه عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن ابن عباس عن سعد بن عبادة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى حضرموت في حاجة قبل الهجرة حتى إذا كنت في بعض الطريق ساعة من الليل فسمعت هاتفا يقول :
( أبا عمرو تناوبني السهود ... و راح النوم و امتنع الهجود )
( لذكر عصابة سلفوا و بادوا ... و كل الخلق قصرهم يبيد )
( تولوا واردين إلى المنايا ... حياضا ليس منهلها الورود )
( مضوا لسبيلهم و بقيت خلفا ... وحيدا ليس يسعفني وحيد )
( سدى لا أستطيع علاج أمر ... إذا ما عالج الطفل الوليد )
( فلأيا ما بقيت إلى أناس ... و قد باتت بمهلكها ثمود )
( و عاد و القرون بذي شعوب ... سواء كلهم إرم حصيد )
قال : ثم صاح به آخر : يا خرعب ذهب بك العجب ؟ إن العجب كل العجب بين زهرة و يثرب
قال : و ما ذاك يا شاحب ؟ قال : نبي السلام بعث بخير الكلام إلى جميع الأنام فاخرج من البلد الحرام إلى نخيل و آطام قال : ما هذا النبي المرسل و الكتاب المنزل و الأمي المفضل ؟ قال رجل من ولد لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة قال : هيهات فات عن هذا سني و ذهب عنه زمني لقد رأيتني و النضر بن كنانة نرمي غرضا واحدا و نشرب حلبا باردا و لقد خرجت به من دوحة في غداة شبمة و طلع مع الشمس و غرب معها و يروى ما يسمع و يثبت ما يبصر و لئن كان هذا من ولده لقد سل السيف و ذهب الخوف و دحض الزنا و هلك الربا
قال : فأخبرني مايكون ؟ قال : ذهبت الضراء و البؤس و المجاعة و الشدة و الشجاعة إلا بقية في خزاعة و ذهبت الضراء و البؤس و الخلق المنفوس إلا بقية من الخزرج و الأوس و ذهبت الخيلاء و الفخر و النميمة و الغدر إلا بقية في بني بكر يعني ابن هوزان و ذهب الفعل المندم و العمل المؤثم إلا بقية في خثعم
قال : أخبرني ما يكون ؟ قال : إذا غلبت البرة و كظمت الحرة فاخرج من بلاد الهجرة و إذا كف السلام و قطعت الأرحام فاخرج من البلد الحرام قال : أخبرني ما يكون ؟ قال : لولا أذن تسمع و عين تلمع لأخبرتك بما تفزع ثم قال :
( لا منام هدأته بنعيم ... يا ابن غوط و لا صباح أتانا )
قال : ثم صرصر صرصرة كأنها صرصرة حبلى فذهب الفجر فذهبت لأنظر فإذا عظاية و ثعبان ميتان
قال : فما علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم هاجر إلى المدينة إلا بهذا الحديث
ثم رواره عن محمد بن جعفر عن إبراهيم بن علي عن النضر بن سلمة عن حسان ابن عبادة بن موسى عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر عن ابن عباس عن سعد بن عبادة قال : لما بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة خرجت إلى حضرموت لبعض الحاج قال : فقضيت حاجتي ثم أقبلت حتى إذا كنت ببعض الطريق نمت ففزعت من الليل بصائح يقول :
( أبا عمر تناوبني السهود ... و راح النوم و انقطع الهجود )
و ذكر مثله بطوله (1/371)
و قال أبو نعيم : حدثنا محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن علي حدثنا النضر بن سلمة حدثنا أبو غزية محمد بن موسى عن العطاف بن خالد الوصابي عن خالد بن سعيد عن أبيه قال : سمعت تميما الداري يقول : كنت بالشام حين بعث النبي صلى الله عليه و سلم فخرجت لبعض حاجتي فأدركني الليل فقلت : أنا في جوار عظيم هذا الوادي الليلة قال : فلما أخذت مضجعي إذا أنا بمنادي ينادي لا أراه : عذ بالله فإن الجن لا تجير أحدا على الله فقلت أيم الله ما تقول ؟ فقال : قد خرج رسول الأميين رسول الله و صلينا خلفه بالحجون فأسلمنا و اتبعناه و ذهب كيد الجن و رميت بالشهب فانطلق إلى محمد رسول الله رب العالمين فأسلم
قال تميم : فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب فسألت راهبا و أخبرته الخبر فقال الراهب : قد صدقوك يخرج من الحرم و مهاجره الحرم و هو خير الأنبياء فلا تسبق إليه
قال تميم : فتكلفت الشخوص حتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلمت و قال حاتم بن إسماعيل عن عبد الله بن يزيد الهذلي عن عبد الله بن ساعدة الهذلي عن أبيه قال : كنا عند صنمنا سواع و قد جلبنا إليه غنما لنا مائتي شاة قد أصابها جرب فأدنيناها منه لنطلب بركته فسمعت مناديا من جوف الصنم ينادي : قد ذهب كيد الجن و رمنينا بالشهب لنبي اسمه أحمد
قال فقلت غويت و الله فصدفت وجه غنمي منجدا إلى أهلي فرأيت رجلا فخبرني بظهور النبي صلى الله عليه و سلم ذكره أبو نعيم هكذا معلقا (1/373)
ثم قال : حدثنا عمر بن محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن السندي حدثنا النضر ابن سلمة حدثنا محمد بن مسلمة المخزومي حدثنا يحيى بن سليمان عن حكيم بن عطاء الظفري ـ من بني سليم من ولد راشد بن عبد ربه ـ عن أبيه عن جده عن راشد بن عبد ربه قال : كان الصنم الذي يقال له سواع بالمعلاة من رهط تدين له هذيل و بنو ظفر بن سليم فأرسلت بنو ظفر راشد بن عبد ربه بهدية من سليم إلى سواع
قال راشد : فألقيت مع الفجر إلى صنم قبل صنم سواع فإذا صارخ يصرخ من جوفه : العجب كل العجب من خروج نبي من بني عبد المطلب يحرم الزنا و الربا و الذبح للأصنام و حرست السماء و رمينا بالشهب العجب كل العجب ثم هتف صنم آخر من جوفه : ترك الضمار و كان يعبد خرج النبي أحمد يصلي الصلاة و يأمر بالزكاة و الصيام و البر و الصلات للأرحام ثم هتف من جوف صنم آخر هاتف يقول :
( إن الذي ورث النبوة و الهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدى )
نبي أتي يخبر بما سبق و بما يكون اليوم حقا أو غد
قال راشد : فألفيت سواعا مع الفجر و ثعلبان يلحسان ما حوله و يأكلان ما يهدي له ثم يعوجان عليه ببولهما فعند ذلك يقول راشد بن عبد ربه :
( أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب )
و ذلك عند مخرج النبي صلى الله عليه و سلم و مهاجره إلى المدينة و تسامع الناس به فخرج راشد حتى أتى النبي صلى الله عليه و سلم المدينة و معه كلب له و اسم راشد يومئذ ظالم و اسم كلبه راشد فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ ما اسمك ؟ ] قال : ظالم قال : [ فما اسم كلبك ؟ ] قال : راشد قال [ اسمك راشد و اسم كلبك ظالم ! ] و ضحك النبي صلى الله عليه و سلم
و بايع النبي صلى الله عليه و سلم و أقام بمكة معه ثم طلب من رسول الله صلى الله عليه و سلم قطيعة بوهاط ـ و وصفها له ـ فأقطعه رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمعلاة من وهاط شأو الفرس و رميته ثلاث مرات بحجر و أعطاه إداوة مملوءة من ماء و تفل فيها و قال له [ فرغها في أعلا القطيعة و لا تمنع الناس فضلها ] ففعل فجعل الماء معينا يجري إلى اليوم فغرس عليها النخل و يقال إن وهاط كلها تشرب منه فسماها الناس ماء الرسول صلى الله عليه و سلم و أهل وهاط يغتسلون بها و بلغت رمية راشد الركب الذي يقال له ركب الحجر و غدا راشد على سواع فكسره
2 (1/374)
و قال أبو نعيم : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا علي بن إبراهيم الخزاعي الأهوازي حدثنا أبو محمد عبد الله بن داود بن دلهاث بن إسماعيل بن مسرع بن ياسر ابن سويد صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم حدثنا أبي عن أبيه دلهاث عن أبيه إسماعيل أن أباه عبد الله حدثه عن أبيه مسرع بن ياسر أن أباه ياسر حدثه عن عمرو ابن مرة الجهني أنه كان يحدث قال :
خرجت حاجا في جماعة من قومي في الجاهلية فرأيت في المنام و أنا بمكة نورا ساطعا من الكعبة حتى أضاء في جبل يثرب و أشعر جهينة فسمعت صوتا في النور و هو يقول : انقشعت الظلماء و سطع الضياء و بعث خاتم الأنبياء
ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة و أبيض المدائن فسمعت صوتا في النور و هو يقول : ظهر الإسلام و كسرت الأصنام و وصلت الأرحام
فانتبهت فزعا فقلت لقومي : و الله ليحدثن في هذا الحي من قريش حدث و أخبرتهم بما رأيت فلما انتهينا إلى بلادنا جاءنا رجل فأخبرنا أن رجلا يقال له أحمد قد بعث فأتيته فأخبرته بما رأيت فقال : [ يا عمرو بن مرة إني المرسل إلى العباد كافة أدعوهم إلى الإسلام و آمرهم بحقن الدماء و صلة الأرحام و عبادة الله و رفض الأصنام و حج البيت و صيام شهر من اثني عشر شهرا و هو شهر رمضان فمن أجاب فله الجنة و من عصي فله النار فآمن يا عمرو بن مرة يؤمنك الله من نار جهنم ]
فقلت : أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله آمنت بكل ما جئت من حلال و حرام و إن أرغم ذلك كثيرا من الأقوام ثم أنشدته أبياتا قلتها حين سمعت به و كان لنا صنم و كان أبي سادنا له فقمت إليه فكسرته ثم لحقت النبي صلى الله عليه و سلم و أنا أقول :
( شهدت بأن الله حق و أنني ... لآلهة الأحجار أول تارك )
( و شمرت عن ساقي إزار مهاجر ... إليك أدوب الغور بعد الدكادك )
( لأصحب خير الناس نفسا و والدا ... رسول مليك الناس فوق الحبائك )
فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ مرحبا بك يا عمرو بن مرة ] فقلت : يا رسول أبي أنت و أمي ابعث بي إلى قومي لعل الله أن يمن بي عليهم كما من بك علي
فبعثني إليهم و قال : [ عليك بالقول السديد و لا تكن فظا و لا متكبرا و لا حسودا ]
فأتيت قومي فقلت لهم : يا بني رفاعة ثم يا بني جهينة إني رسول من رسول الله إليكم أدعوكم إلى الجنة و أحذركم النار و أمركم بحقن الدماء و صلة الأرحام و عبادة الله و رفض الأصنام و حج البيت و صيام شهر رمضان شهر من اثني عشر شهرا فمن أجاب فله الجنة و من عصى فله النار يا معشر جهينة : إن الله و له الحمد جعلكم خيار من أنتم منه و بغض إليكم في جاهليتكم ما حبب إلى غيركم من الرفث لأنهم كانوا يجمعون بين الأختين و يخلف الرجل على امرأة أبيه و الترات في الشهر الحرام فأجيبوا هذا النبي المرسل صلى الله عليه و سلم من بني لؤي بن غالب تنالوا شرف الدنيا و كرامة الآخرة سارعوا سارعوا في ذلك يكون لكم فضيلة عند الله
فأجابوا إلا رجلا منهم قام فقال : يا عمرو بن مرة أمر الله عليك عيشك ! أتأمرنا أن أن نرفض آلهتنا و نفرق جماعتنا بمخالفة دين آبائنا إلى ما يدعو هذا القرشي من أهل تهامة ؟ لا و لا مرحبا و لا كرامة ثم أنشأ يقول :
( إن ابن مرة قد أتى بمقالة ... ليست مقالة من يريد صلاحا )
( إني لأحسب قوله و فعاله ... يوما و إن طال الزمان رياحا )
( أنسفه الأشياخ ممن قد مضى ... من رام ذلك لا أصاب فلاحا )
فقال عمرو بن مرة : الكاذب مني و منك أمر الله عيشه و أبكم لسانه و أكمه بصره
قال عمرو بن مرة : و الله ما مات حتى سقط فوه و كان لا يجد طعم الطعام و عمى و خرس
و خرج عمرو بن مرة و من أسلم من قومه حتى أتوا النبي صلى الله عليه و سلم فرحب بهم و حباهم و كتب لهم كتابا هذه نسخته : [ بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله على لسان رسول الله بكتاب صادق و حق ناطق مع عمرو بن مرة الجهني لجهينة بن زيد : إن لكم بطون الأرض و سهولها و تلاع الأودية و ظهورها ترعون نباته و تشربون صافيه على أن تقروا بالخمس و تصلوا الصلوات الخمس و في التبعة و الصريمة شاتان إن اجتمعتا و إن تفرقنا فشاة شاة ليس على أهل الميرة صدقة ليس الوردة اللبقة ] و شهد من حضرنا من المسلمين بكتاب قيس ابن شماس رضي الله عنه
و ذلك حين يقول عمرو بن مرة :
( ألم تر أن الله أظهر دينه ... و بين برهان القران لعامر )
( كتاب من الرحمن نور لجمعنا ... و أخلافنا في كل باد و حاضر )
( إلى خير من يمشي على الأرض كلها ... و أفضلها عند اعتكار الضرائر )
( أطعنا رسول الله لما تقطعت ... بطون الأعادي بالظبي و الخواطر )
( فنحن قبيل قد بنى المجد حولنا ... إذا اجتلبت في الحرب هام الأكابر )
( بنو الحرب نقريها بأيد طويلة ... و بيض تلالا في أكف المغاور )
( ترى حوله الأنصار تحمي أميرهم ... بسمر العوالي و الصفاح البواتر )
( إذا الحرب دارت عند كل عظيمة ... و دارت رحاها بالليوث الهواصر )
( تبلج منه اللون و ازداد وجهه ... كمثل ضياء البدر بين الزواهر ) (1/375)
و قال أبو عثمان سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه : حدثنا عبد الله حدثنا أبو عبد الله حدثنا المجالد بن سعيد و الأجلح عن الشعبي حدثني شيخ من جهينة قال : مرض منا رجل مرضا شديدا فثقل حتى حفرنا له قبره و هيأنا أمره فأغمى عليه ثم فتح عينيه و أفاق فقال : أحفرتم لي ؟ قالوا : نعم قال : فما فعل الفصل ـ و هو ابن عم له ـ قلنا : صالح مر آنفا يسأل عنك قال : أما إنه يوشك أن يجعل في حفرتي إنه أتاني آت حين أغمى علي فقال : ابك هبل أما ترى حفرتك تنتثل و أمك قد كادت تثكل ؟ أرأيتك إن حولناها عنك بالمحول ثم ملأناها بالجندل و قذفنا فيها الفصل الذي مضى فأجزأك و ظن أن لن يفعل أتشكر لربك و تصل و تدع دين من أشرك و ضل ؟ قال : قلت نعم قال : قم قد برئت
قال : فبرئ الرجل و مات الفصل فجعل في حفرته
قال الجهيني : فرأيت الجهيني بعد ذلك يصلي و يسب الأوثان و يقع فيها
و قال الأموي : حدثنا عبد الله قال بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مجلس يتحدثون عن الجن فقال خريم بن فاتك الأسدي : ألا أحدثك كيف كان إسلامي ؟ قال : بلى
قال : إني يوما في طلب ذود لي أنا منها على أثر تنصب و تصعد حتى إذا كنت بأبرق العزاف أنخت راحلتي و قلت : أعوذ بعظيم هذه البلدة أعوذ برئيس هذا الوادي فإذا بهاتف يهتف بي :
( ويحك عذ بالله ذي الجلال ... والمجد و العلياء و الإفضال )
( ثم اتل آيات من الأنفال ... و وحد الله و لا تبالي )
قال : فذعرت ذعرا شديدا ثم رجعت إلى نفسي فقلت :
( يا أيها الهاتف ما تقول ... أرشد عندك أم تضليل ؟ )
( بين هداك الله ما الحويل )
قال : فقال :
( هذا رسول الله ذو الخيرات ... بيثرب يدعو إلى النجاة )
( يأمر بالبر و بالصلاة ... و يزع الناس عن الهنات )
قال قلت له : و الله لا أبرح حتى آتيه و أومن به فنصبت رجلي في غرز راحلتي و قلت :
( أرشدني أرشدني هديتا ... لا جعت ما عشت و لا عريتا )
( و لا برحت سيدا مقيتا ... لا تؤثر الخير الذي أتيتا )
( على جميع الجن ما بقيتا )
فقال :
( صاحبك الله و أدى رحلكا ... و عظم الأجر و عافى نفسكا )
( آمن به أفلج ربي حقكا ... و انصره نصرا عزيزا نصركا )
قال : قلت : من أنت عافاك الله حتى أخبره إذا قدمت عليه ؟ فقال أنا ملك بن ملك و أنا نقيبه على جن نصيبين و كفيت إبلك حتى أضمها إلى أهلك إن شاء الله
قال : فخرجت حتى أتيت المدينة يوم الجمعة و الناس أرسال إلى المسجد و النبي صلى الله عليه و سلم على المنبر كأنه البدر يخطب الناس فقلت أنيخ على باب المسجد حتى يصلي و أدخل عليه فأسلم و أخبره عن إسلامي فلما أنخت خرج إلي أبو ذر فقال : مرحبا و أهلا و سهلا قد بلغنا إسلامك فادخل فصل ففعلت ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرني بإسلامي فقلت : الحمد لله قال : [ أما أن صاحبك قد وفى لك و هو أهل ذلك و أدى إبلك إلى أهلك ]
و قد رواه الطبراني في ترجمة خريم بن فاتك من معجمه الكبير قائلا : حدثنا الحسين بن إسحاق اليسري حدثنا محمد بن إبراهيم الشامي حدثنا عبد الله بن موسى الإسكندري حدثنا محمد بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال خزيم بن فاتك لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين ألا أخبرك كيف كان بدء إسلامي ؟ قال : بلى
فذكره غير أنه قال : فخرج إلي أبو بكر الصديق فقال : ادخل فقد بلغنا إسلامك فقلت : لا أحسن الطهور فعلمني فدخلت المسجد فرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم كأنه البدر و هو يقول [ ما من مسلم توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى صلاة يحفظها و يعقلها إلا دخل الجنة ]
فقال لي عمر : لتأتين على هذا ببينة أو لأنكلن بك فشهد لي شيخ قريش عثمان بن عفان فأجاز شهادته ثم رواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن محمد بن تيم عن محمد ابن خليفة عن محمد بن الحسن عن أبيه قال : قال عمر بن الخطاب لخريم بن فاتك : حدثني بحديث يعجبني فذكر مثل السياق الأول سواء (1/378)
و قال أبو نعيم : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم القرشي الدمشقي حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ابن بنت شرحبيل حدثنا إسماعيل بن عياش عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن عبد الله بن الديلمي قال : أتى رجل ابن عباس فقال : بلغنا أنك تذكر سطيحا تزعم أن الله خلقه لم يخلق من بني آدم شيئا يشبهه ؟ قال : قال : نعم إن الله خلق سطيحا الغساني لحما على وضم و لم يكن فيه عظم و لا عصب إلا الجمجمة و الكفان و كان يطوى من رجليه إلى ترقوته كما يطوى الثوب و لم يكن فيه شيء يتحرك إلا لسانه فلما أراد الخروج إلى مكة حمل على وضمة فأتى به مكة فخرج إليه أربعة من قريش : عبد شمس و هاشم ابنا عبد مناف بن قصي و الأحوص بن فهر و عقيل بن أبي وقاص فانتموا إلى غير نسبهم و قالوا : نحن أناس من جمح أتيناك بلغنا قدومك فرأينا أن إتياننا إياك حق لك واجب علينا و أهدى إليه عقيل صفيحة هندية و صعدة ردينية فوضعت على باب البيت الحرام لينظروا هل يراها سطيح أم لا
فقال : يا عقيل : ناولني يدك فناوله يده فقال : يا عقيل و العالم الخفية و الغافر الخطية و الذمة الوفية و الكعبة المبنية إنك للجائي بالهدية الصفيحة الهندية و الصعدة الردينية قالوا : صدقت يا سطيح فقال : و الآتي بالفرح و قوس قزح و سائر الفرح و اللطيم المنبطح و النخل و الرطب و البلح إن الغراب حيث مر سنح فأخبر أن القوم ليسوا من جمح و أن نسبهم من قريش ذي البطح قالوا : صدقت يا سطيح نحن أهل البيت الحرام أتيناك لنزورك لما بلغنا من علمك فأخبرنا عما يكون في زماننا هذا و ما يكون بعده فلعل أن يكون عندك في ذلك علم
قال : الآن صدقتم خذوا مني و من إلهام الله إياي أنتم يا معشر العرب في زمان الهرم سواء بصائركم و بصائر العجم لا علم عندكم و لا فهم و ينشو من عقبكم ذوو فهم يطلبون أنواع العلم فيكسرون الصنم و يبلغون الردم و يقتلون العجم يطلبون الغنم
قالوا : يا سطيح فمن يكون أولئك ؟ فقال لهم : و البيت ذي الأركان و الأمن و السكان لينشأن من عقبكم ولدان يكسرون الأوثان و ينكرون عبادة الشيطان و يوحدون الرحمن و ينشرون دين الديان يشرفون البنيان و يستفتون الفتيان
قالوا : يا سطيح من نسل من يكون أولئك ؟
قال : و أشرف الأشراف و المفضى للأشراف و المزعزع الأحقاف و المضعف الأضعاف لينشئون الألاف من عبد شمس و عبد مناف نشوءا يكون فيه اختلاف
قالوا : يا سوءتاه يا سطيح مما تخبرنا من العلم بأمرهم و من أي بلد يخرج أولئك ؟
قال : و الباقي الأبد و البالغ الأمد ليخرجن من ذا البلد فتى يهدي إلى الرشد يرفض يغوث و الفند يبرأ من عبادة الضد يعبد ربا انفرد ثم يتوفاه الله محمودا من الأرض مفقودا و في السماء مشهودا ثم يلي أمره الصديق إذا قضى صدق في رد الحقوق لا خرق و لا نزق ثم يلي أمره الحنيف مجرب غطريف و يترك قول العنيف قد ضاف المضيف و أحكم التحنيف ثم يلي أمره داعيا لأمره مجربا فتجتمع له جموعا و عصبا فيقتلونه نقمة عليه و غضبا فيؤخذ الشيخ فيذبح إربا فيقول به رجال خطبا ثم يلي أمره الناصر يخلط الرأي برأي المناكر يظهر في الأرض العساكر ثم يلي بعده ابنه يأخذ جمعه و يقل حمده و يأخذ المال و يأكل وحده و يكثر المال بعقبه من بعده ثم يلي من بعده عدة ملوك لا شك الدم فيهم مسفوك ثم بعدهم الصعلوك يطويهم كطي الدرنوك ثم يلي من بعده عظهور يقضي الحق و يدني مصر يفتتح الأرض افتتاحا منكرا ثم يلي قصير القامة بظهره علامة يموت موتا و سلامة ثم يلي قليلا باكر يترك الملك بائر يلي أخوه بسنته سائر يختص بالأموال و المنابر ثم يلي من بعده أهوج صاحب دنيا و نعيم مخلج يتشاوره معاشره و ذووه ينهضون إليه يخلعونه يأخذ الملك و يقتلونه يلي أمره من بعده السابع يترك الملك محلا ضائع بنوه في ملكه كالمشوه جامع عند ذلك يطمع في الملك كل عريان و يلي أمره اللهفان يرضى نزارا جمع قحطان إذا التقيا بدمشق جمعان بين بنيان و لبنان يصنف اليمن يومئذ صنفان : صنف المشوؤة و صنف المخذول لا ترى إلا حباء محلول و أسيرا مغلول بين القراب و الخيول عند ذلك تخرب المنازل و تسلب الأرامل و تسقط الحوامل و تظهر الزلازل و تطلب الخلافة وائل فتغضب نزار فتدنى العبيد و الأشرار و تقصى الأمثال و الأخيار و تغلو الأسعار في صفر الأصفار يقتل كل حيا منه ثم سيرون إلى خنادق و إنها ذات أشعار و أشجار تصد له الأنهار و يهزمهم أول النهار تظهر الأخيار فلا ينفعهم نوم و لا قرار حتى يدخل مصرا من الأمصار فيدركه الفضاء و الأقدار ثم يجيء الرماة تلف المشاة لقتل الكماة و أسر الحماة و تهلك الغواة هنالك يدرك في أعلى المياه ثم يبور الدين و تقلب الأمور و تكفر الزبور و تقطع الجسور فلا يفلت إلا من كان في جزائر البحور ثم تبور الحبوب و تظهر الأعاريب ليس فيهم معيب على أهل الفسوق و الريب في زمان عصيب لو كان للقوم حيا و ما تغني المنى
قالوا : ثم ماذا ياسطيح ؟ قال : ثم يظهر رجل من أهل اليمن كالشطن يذهب الله على رأسه الفتن
و هذا أثر غريب كتبناه لغرابته و ما تضمن من الفتن و الملاحم
و قد تقدم قصة شق و سطيح مع ربيعة بن نصر ملك اليمن و كيف بشر بوجود رسول الله صلى الله عليه و سلم و كذلك تقدم قصة سطيح مع ابن أخته عبد المسيح حين أرسله ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان و خمود
النيران و رؤيا الموبذان و ذلك ليلة مولد الذي نسخ بشريعته سائر الأديان (1/381)
كان ذلك و له صلى الله عليه و سلم من العمر أربعون سنة
و حكى ابن جرير عن ابن عباس و سعيد بن المسيب : أنه كان عمره إذ ذاك ثلاثا و أربعين سنة
قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :
أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه و سلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم و كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح
ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه ـ و هو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله و يتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها
حتى جاءه الحق و هو في غار حراء
فجاءه الملك فقال : اقرأ فقال : ما أنا بقارئ قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : { اقرأباسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ و ربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم }
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه و سلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع
فقال لخديجة ـ و أخبرها الخبر ـ : لقد خشيت على نفسي
فقالت خديجة : كلا و الله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم و تقرى الضيف و تحمل الكل و تكسب المعدوم و تعين على نوائب الحق
فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة و كان امرءا قد تنصر في الجاهلية و كان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب و كان شيخا كبيرا قد عمي
فقالت له خديجة : يا بن عم ! اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة : يا بن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر ما رأى فقال ورقة : هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى يا ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أو مخرجي هم ؟ ! ] فقال : نعم لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودى و إن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا (1/385)
ثم لم ينشب ورقة أن توفي و فتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ فيما بلغنا ـ حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقى نفسه تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه و تقر نفسه فيرجع فإذا طالت عليه فقترة الوحي غدا كمثل ذلك قال : فإذا أوفي بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له : مثل ذلك
هكذا وقع مطولا في باب التعبير من البخاري قال ابن شهاب : و أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال ـ و هو يحدث عن فترة الوحي ـ فقال في حديثه : [ بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء و الأرض : فرعبت منه فرجعت فقلت : زملوني زملوني فأنزل الله { يا أيها المدثر قم فأنذر و ربك فكبر و ثيابك فطهر و الرجز فاهجر } فحمى الوحي و تتابع ]
ثم قال البخاري : تابعه عبد الله بن يوسف و أبو صالح يعني عن الليث و تابعه هلال ابن رداد عن الزهري و قال يونس و معمر : ـ بوادره
و هذا الحديث قد رواه الإمام البخاري رحمه الله في كتابه في مواضع منه و تكلمنا عليه مطولا في أول شرح البخاري في كتاب بدء الوحي إسنادا و متنا و لله الحمد و المنة
و اخرجه مسلم في صحيحه من حديث الليث به و من طريق يونس و معمر عن الزهري كما علقه البخاري عنهما و قد رمزنا في الحواشي على زيادات مسلم و رواياته و لله الحمد و انتهى سياقه إلى قول ورقة : أنصرك نصرا مؤزرا
فقول أم المؤمنين عائشة [ أول ما بدئ به الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ] يقوي ما ذكره [ محمد ابن إسحاق بن يسار عن عبيد بن عمير الليثي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : فجاءني جبريل و أنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ فقالت : ما أقرأ ؟ فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني ] و ذكر نحو حديث عائشة سواء
فكان هذا كالتوطئة لما يأتي بعده من اليقظة و قد جاء مصرحا بهذا في مغازي موسى بن عقبة عن الزهري أنه رأى ذلك في المنام ثم جاءه الملك في اليقظة و قد قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه دلائل النبوة : حدثنا محمد بن أحمد ابن الحسن حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا جناب بن الحارث حدثنا عبد الله بن الأجلح عن إبراهيم عن علقمة بن قيس قال : إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم ثم نزل الوحي بعد و هذا من قبل علقمة بن قيس نفسه و هو كلام حسن يؤيده ما قبله و يؤيده ما بعده (1/386)
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود بن أبي هند عن عامر الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نزلت عليه النبوة و هو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة و الشيء و لم ينزل القرآن فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة عشرا بمكة و عشرا بالمدينة فمات و هو ابن ثلاث و ستين سنة
فهذا إسناد صحيح إلى الشعبي و هو يقتضي أن إسرافيل قرن معه بعد الأربعين ثلاث سنين ثم جاءه جبريل
و أما الشيخ شهاب الدين أبو شامة فإنه قد قال : و حديث عائشة لا ينافي هذا فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا ثم وكل به إسرافيل في تلك المدة التي كان يخلو فيها بحراء فكان يلقي إليه الكلمة بسرعة و لا يقيم معه تدريجا له و تمرينا إلى أن جاءه جبريل فعلمه بعدما غطه ثلاث مرات فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل و لم تحك ما جرى له مع إسرافيل اختصارا للحديث أو لم تكن وقفت على قصة إسرافيل
و قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن هشام عن عكرمة عن ابن عباس : أنزل على النبي صلى الله عليه و سلم و هو ابن ثلاث و أربعين فمكث بمكة عشرا و بالمدينة عشرا و مات و هو ابن ثلاث و ستين
و هكذا روى يحيى بن سعيد و سعيد بن المسيب
ثم روى أحمد عن غندر و يزيد بن هارون كلاهما عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنزل عليه القرآن و هو ابن أربعين سنة فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة و بالمدينة عشر سنين و مات و هو ابن ثلاث و ستين سنة
و قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال : أقام النبي صلى الله عليه و سلم بمكة خمس عشرة سنة سبع سنين يرى الضوء و يسمع الصوت و ثماني سنين يوحي إليه و أقام بالمدينة عشر سنين (1/388)
قال أبو شامة و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يرى عجائب قبل بعثته فمن ذلك ما في صحيح مسلم [ عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ] انتهى كلامه
و إنما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحب الخلاء و الانفراد عن قومه لما يراهم عليه من الضلال المبين من عبادة الأوثان و السجود للأصنام و قويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه صلوات الله و سلامه عليه (1/389)
و قد ذكر محمد ابن إسحاق عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة ـ قال : و كان واعية ـ عن بعض أهل العلم قال : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه و كان من نسك قريش في الجاهلية يطعم من جاء من المساكين حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة
و هكذا روى عن وهب بن كيسان أنه سمع عبيد بن عمير يحدث عبد الله بن الزبير مثل ذلك
و هذا يدل على أن هذا كان عادة المتعبدين في قريش أنهم يجاورون في حراء للعبادة و لهذا قال أبو طالب في قصيدنه المشهورة :
( و ثور و من أرسى ثبيرا مكانه ... و راق ليرقى في حراء و نازل )
هكذا صوبه على رواية هذا البيت كما ذكره السهيلي و أبو شامة و شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي رحمهم الله و قد تصحف على بعض الرواة فقال فيه : وراق ليرقى في حر و نازل ـ و هذا ركيك و مخالف للصواب و الله أعلم
وحراء يقصر و يمد و يصرف و يمنع و هو جبل بأعلى مكة على ثلاثة أميال منها عن يسار المار إلى منى له قلة مشرفة على الكعبة منحنية و الغار في تلك الحنية و ما أحسن ما قال رؤية بن العجاج :
( فلا و رب الآمنات القطن ... و رب ركن من حراء منحني )
و قوله في الحديث : [ و التحنث : التعبد ] تفسير بالمعنى و إلا فحقيقة التحنث من حيث البنية فيما قاله السهيلي : الدخول في الحنث و لكن سمعت ألفاظ قليلة في اللغة معناها الخروج من ذلك الشيء كتحنث أي خرج من الحنث و تحوب و تحرج و تأثم و تهجد هو ترك الهجود و هو النوم للصلاة و تنجس و تقذر أوردها أبو شامة
و قد سئل ابن الأعرابي عن قوله [ يتحنث أي يتعبد ] فقال : لا أعرف هذا إنما هو يتحنف من الحنيفة دين إبراهيم عليه السلام قال ابن هشام : و العرب تقول : التحنث و التحنف يبدلون الفاء من الثاء كما قالوا جدف و جذف كما قال رؤبة :
( لو كان أحجاري مع الأجذاف )
يريد الأجداث
قال : و حدثني أبو عبيدة أن العرب تقول فم في موضع ثم
قلت : و من ذلك قول بعض المفسرين : و فومها أن المراد ثومها (1/390)
و قد اختلف العلماء في تعبده عليه السلام قبل البعثة هل كان على شرع أم لا ؟ و ما ذلك الشرع ؟
فقيل : شرع نوح
و قيل : شرع إبراهيم و هو الأشبه الأقوى
و قيل موسى و قيل عيسى
و قيل : كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه و حمل به
و لبسط هذه الأقوال و مناسباتها مواضع أخر في أصول الفقه و الله أعلم
و قوله [ حتى فجأه الحق وهو بغار حراء ] أي جاء بغتة على غير موعد كما قال تعالى : { و ما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك } الآية (1/391)
و قد كان نزول صدر هذه السورة الكريمة و هي { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ و ربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم } و هي أول ما نزل من القرآن كما قررنا ذلك في التفسير و كما سيأتي أيضا في يوم الاثنين
كما ثبت في صحيح مسلم [ عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : سئل عن صوم يوم الاثنين ؟ فقال ذاك يوم ولدت فيه و يوم أنزل علي فيه ]
و قال ابن عباس : ولد نبيكم محمد صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين و نبئ يوم الاثنين
و هكذا قال عبيد بن عمير و أبو جعفر الباقر و غير واحد من العلماء أنه عليه الصلاة و السلام أوحي إليه يوم الاثنين و هذا ما لا خلاف فيه بينهم
ثم قيل : كان ذلك في شهر ربيع الأول كما تقدم عن ابن عباس و جابر أنه ولد عليه السلام في الثاني عشر من ربيع الأول يوم الاثنين و فيه بعث و فيه عرج به إلى السماء
و المشهور أنه بعث عليه الصلاة و السلام في شهر رمضان كما نص على ذلك عبيد ابن عمير و محمد ابن إسحاق و غيرهما
و قال ابن إسحاق مستدلا على ذلك بما قال الله تعالى { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس } فقيل : في عشره و روى الواقدي بسنده عن أبي جعفر الباقر أنه قال : كان ابتداء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان و قيل في الرابع و العشرين منه
قال الإمام أحمد : [ حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عمران أبو العوام عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان و أنزلت التوراة لست مضين من رمضان و الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان و أنزل القرآن لأربع و عشرين خلت من رمضان ] و روى ابن مردوية في تفسيره عن جابر بن عبد الله مرفوعا نحوه
و لهذا ذهب جماعة من الصحابة و التابعين إلى أن ليلة القدر ليلة أربع و عشرين (1/392)
و أما قول جبريل { اقرأ } فقال : [ ما أنا بقارىء ] فالصحيح أنه قوله ما أنا بقارىء نفي أي لست ممن يحسن القراءة و ممن رجحه النووي و قبله الشيخ أبو شامة
و من قال إنها استفهامية فقوله بعيد لأن الباء لا تزاد في الإثبات
و يؤيد الأول رواية أبي نعيم من حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو خائف يرعد : [ ما قرأت كتابا قط و لا أحسنه 0 ، و ما أكتب و ما أقرأ ] فأخذه جبريل فغته غتا شديدا ثم تركه فقال له : اقرأ فقال محمد صلى الله عليه و سلم [ ما أرى شيئا أقرأه و ما أقرأ و ما أكتب ]
يروى : [ فغطني ] كما في الصحيحين [ و غتني ] و يروى [ قد غتني ] أي : خنقني [ حتى بلغ مني الجهد ] يروى بضم الجيم و فتحها و بالنصب و بالرفع و فعل به ذلك ثلاثا
قال أبو سليمان الخطابي و إنما فعل ذلك به ليبلو صبره و يحسن تأديبه فيرتاض لاحتمال ماكلفه به من أعباء النبوة و لذلك كان يعتريه مثل حال المحموم و تأخذه الرحضاء أي : البهر و العرق
و قال غيره : إنما فعل ذلك لأمور : منها أن يستيقظ لعظمة ما يلقى إليه بعد هذا الصنيع المشق على النفوس كما قال تعالى { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } و لهذا كان عليه الصلاة و السلام إذا جاءه الوحي يحمر وجهه و يغط كما يغط البكر من الإبل و يتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد
و قوله : [ فرجع بها رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى خديجة يرجف فؤاده ] وفي رواية : [ بوادره ] جمع بادرة قال أبو عبيدة : و هي لحمة بين المنكب و العنق و قال غيره هي عروق تضطرب عند الفزع
و في بعض الروايات ترجف بآدله واحدتها بدلة و قيل بادل و هو ما بين العنق و الترقوة و قيل أصل الثدي و قيل لحم الثديين و قيل غير ذلك
فقال : [ زملوني زملوني ] فلما ذهب عنه الروع قال لخديجة : [ ما لي ؟ أي شيء عرض لي ؟ ! ] و أخبرها ما كان من الأمر ثم قال : [ لقد خشيت على نفسي ] و ذلك لأنه شاهد أمرا لم يعهده قبل ذلك و لا كان في خلده و لهذا قالت خديجة : أبشر كلا و الله لا يحزنك الله أبدا قيل : من الخزي و قيل : من الحزن
و هذا لعلمها بما أجرى الله به جميل العوائد في خلقه أن من كان متصفا بصفات الخير لا يخزى في الدنيا و لا في الآخرة
ثم ذكرت له من صفاته الجليلة ما كان من سجاياه الحسنة فقالت : [ إنك لتصل الرحم و تصدق الحديث ] و قد كان مشهور بذلك صلوات الله و سلامه عليه عند الموافق و المفارق
[ و تحمل الكل ] أي عن غيرك تعطي صاحب العيلة ما يريحه من ثقل مؤنة عياله (1/393)
[ و تكسب المعدوم ] أي تسبق إلى فعل الخير فتبادر إلى إعطاء الفقير فتكسب حسنة قبل غيرك و يسمى الفقير معدوما لأن حياته ناقصة فوجوده و عدمه سواء كما قال بعضهم :
( ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء )
و قال أبو الحسن التهامي فيما نقله عنه القاضي عياض في شرح مسلم :
( عد ذا الفقر ميتا و كساه ... كفنا باليا و مأواه قبرا )
و قال الخطابي : الصواب [ و تكسب المعدم ] أي تبذل إليه أو يكون تكسب المعدم بعطيته ما لا يعيش به و اختار شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي أن المراد بالمعدوم ههنا المال المعطى أي يعطى المال لمن هو عادمه
و من قال إن المراد أنك تكسب باتجارك المال المعدوم أو النفيس القليل النظير فقد أبعد النجعة و أغرق في النزع و تكلف ما ليس له علم فإن مثل هذا لا يمدح به غالبا و قد ضعف هذا القول عياض و النووي و غيرهما و الله أعلم
[ و تقري الضيف ] أي تكرمه في تقديم قراه و إحسان مأواه
[ و تعين على نوائب الحق ] و يروى [ الخير ] أي إذا وقعت نائبة لأحد في خير أعنت فيها و قمت مع صاحبها حتى يجد سدادا من عيش أو قواما من عيش
و قوله : [ ثم أخذته فانطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل و كان شيخا كبيرا قد عمى ]
و قد قدمنا طرفا من خبره مع ذكر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله و أنه كان ممن تنصر في الجاهلية ففارقهم و ارتحل إلى الشام هو و زيد بن عمرو و عثمان بن الحويرث و عبيد الله بن جحش فتنصروا كلهم لأنهم وجدوه أقرب الأديان إذ ذاك إلى الحق
إلا زيد بن عمرو بن نفيل فإنه رأى فيه دخلا و تخبيطا و تبديلا و تحريفا و تأويلا فأبت فطرته الدخول فيه أيضا و بشره الأحبار و الرهبان بوجود نبي قد أزف زمانه و اقترب أوانه 0
فرجع يتطلب ذلك و استمر على فطرته و توحيده لكن اخترمته المنية قبل البعثة المحمدية
و أدركها ورقة بن نوفل و كان يتوسمها في رسول الله صلى الله عليه و سلم كما قدمنا بما كانت خديجة تنعته له و تصفه له و ما هو منطو عليه من الصفات الطاهرة الجميلة و ما ظهر عليه من الدلائل و الآيات
و لهذا لما وقع ما وقع أخذت بيد رسول الله صلى الله عليه و سلم و جاءت به إليه فوقفت به عليه و قالت : ابن عم اسمع من ابن أخيك فلما قص عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر ما رأى قال ورقة : سبوح سبوح هذا الناموس الذي أنزل على موسى
و لم يذكر عيسى و إن كان متأخرا بعد موسى لأنه كانت شريعته متممة و مكلمة لشريعة موسى عليهما السلام و نسخت بعضها على الصحيح من قول العلماء كما قال { و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم }
و قول ورقة هذا كما قالت الجن : { يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم }
ثم قال ورقة : [ يا ليتني فيها جذعا ] أي يا ليتني أكون اليوم شابا متمكنا من الإيمان و العلم النافع و العمل الصالح
[ يل ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك ] يعني حتى أخرج معك و أنصرك
فعندها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أومخرجي هم ] قال السهيلي : و إنما قال ذلك لأن فراق الوطن شديد على النفوس فقال : [ نعم ! إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي و إن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ] أي أنصرك نصرا عزيزا أبدا
و قوله [ ثم لم ينشب ورقة أن توفي ] أي توفي بعد هذه القصة بقليل رحمه الله و رضى عنه فإن مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وجد و إيمان بما حصل من الوحي و نية صالحة للمستقبل (1/395)
و قد قال الإمام أحمد : [ حدثنا حسن عن ابن لهيعة حدثني أبو الأسود عن عروة عن عائشة أن خديجة سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ورقة بن نوفل فقال : قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بياض ]
و هذا إسناد حسن لكن رواه الزهري و هشام عن عروة مرسلا فالله أعلم
و روى [ الحافظ أبو يعلى عن شريح بن يونس عن إسماعيل عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن ورقة بن نوفل فقال : قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض أبصرته في بطنان الجنة و عليه السندس ]
و سئل عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال [ يبعث يوم القيامة أمة وحده ]
و سئل عن أبي طالب فقال : [ أخرجته من غمرة من جهنم إلى ضحضاح منها ]
و سئل عن خديجة لأنها ماتت قبل الفرائض و أحكام القرآن فقال : [ أبصرتها على نهر في الجنة في بيت من قصب لا صخب فيه و لا نضب ]
إسناد حسن و لبعصه شواهد في الصحيح و الله أعلم
و قال الحافظ أبو بكر البراز : [ حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين ]
و كذا رواه ابن عساكر من حديث أبي سعيد الأشج عن أبي معاوية عن هشام عن أبيه عن عائشة هذا إسناد جيد و روى مرسلا و هو أشبه (1/397)
وروى الحافظان : البيهقي و أبو نعيم في كتابيهما دلائل النبوة من [ حديث يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن أبيه عن عمرو بن شرحبيل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لخديجة : إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء و قد خشيت و الله أن يكون لهذا أمر
قالت : معاذ الله ما كان ليفعل ذلك بك فو الله إنك لتؤدي الأمانة و تصل الرحم و تصدق الحديث
فلما دخل أبو بكر و ليس رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ذكرت له خديجة فقالت : يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة
فلما دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ بيده أبو بكر فقال : انطلق بنا إلى ورقة قال : و من أخبرك ؟ قال : خديجة فانطلقا إليه فقصا عليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي : يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض فقال له : لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول لك ثم ائتني فأخبرني
فلما خلا ناداه : يا محمد قل { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } حتى بلغ { و لا الضالين } قل : لا إله إلا الله
فأتى ورقة فذكر له ذلك فقال له ورقة : أبشر ثم أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر بك ابن مريم و إنك على مثل ناموس موسى و إنك نبي مرسل و إنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا و لئن أدركني ذلك لأجاهدن معك
فلما توفي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي و صدقني ] يعني ورقة
هذا لفظ البيهقي و هو مرسل و فيه غرابة و هو كون الفاتحة أول ما نزل (1/398)
و قد قدمنا من شعره ما يدل على إضماره الإيمان و عقده عليه و تأكده عنده ذلك حين أخبرته خديجة ما كان من أمره مع غلامها ميسرة و كيف كانت الغمامة تظلله في هجير القيظ فقال ورقة في ذلك أشعارا قدمناها قبل هذا منها قوله :
( لججت و كنت في الذكرى لجوجا ... لأمر طالما بعث النشيجا )
( و وصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا )
( ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا )
( مما خبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا )
( بأن محمدا سيسود قوما ... و يخصم من يكون له حجيجا )
( و يظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تعوجا )
( فيلقي من يحاربه خسارا ... و يلقى من يسالمه فلوجا )
( فياليتي إذا ما كان ذاكم ... شهدت و كنت أولهم ولوجا )
( و لوجا في الذي كرهت قريش ... و لو عجت بمكتها عجيجا )
( أرجى بالذي كرهوا جميعا ... إلى ذي العرش إذ سفلوا عروجا )
( فإن يبقوا و أبقى تكن أمور ... يضج الكافرون لها ضجيجا )
و قال أيضا في قصيدته الأخرى :
( و أخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح )
( بأن ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح )
( و ظني به أن سوف يبعث صادقا ... كما أرسل العبدان : هود و صالح )
( و موسى و إبراهيم حتى يرى له ... بهاء و منشور من الحق واضح )
( و يتبعه حيا لؤي بن غالب ... شبابهم و الأشيبون الجحاجح )
( فإن أبق حتى يدرك الناس دهره ... فإني به مستبشر الود فارح )
( و إلا فإني يا خديجة فاعلمي ... عن أرضك في الأرض العريضة سائج )
و قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق : قال ورقة :
( فإن يك حقا يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيانا فأحمد مرسل )
( و جبريل يأتيه و ميكال معهما ... من الله وحي يشرح الصدر منزل )
( يفوز به من فاز فيها بتوبة ... و يشقى به العاني الغرير المضال )
( فريقان منهم فرقة في جنانه ... و أخرى بأحواز الجحيم تعلل )
( إذا ما دعو بالويل فيها تتابعت ... مقامع في هاماتهم ثم تشعل )
( فسبحان من تهوى الرياح بأمره ... و من هو في الأيام ما شاء يفعل )
( و من عرشه فوق السموات كلها ... و أقضاؤه في خلقه لا تبدل )
و قال ورقة أيضا :
( يا للرجال و صرف الدهر و القدر ... و ما لشيء قضاه الله من غير )
( حتى خديجة تدعوني لأخبرها ... أمرا أراه سيأتي الناس من أخر )
( و خبرتني بأمر قد سمعت به ... فيما مضى من قديم الدهر و العصر )
( بأن أحمد يأتيه فيخبره ... جبريل أنك مبعوث إلى البشر )
( فقلت عل الذي ترجين ينجزه ... لك الإله فرجى الخير و انتظري )
( و أرسليه إلينا كي نسائله ... عن أمره ما نرى في النوم و السهر )
( فقال حين أتانا منطلقا عجبا ... يقف منه أعالي الجلد و الشعر )
( إني رأيت أمين الله واجهني ... في صورة أكملت من أعظم الصور )
( ثم استمر فكاد الخوف يذعرني ... مما يسلم من حولي من الشجر )
( فقلت ظني و ما أدري أيصدقني ... أن سوف يبعث يتلو منزل السور )
( و سوف يبليك إن أعلنت دعوتهم ... من الجهاد بلا من و لا كدر )
هكذا أورد ذلك الحافظ البيهقي في الدلائل و عندي في صحتها عن ورقة نظر و الله أعلم
و قال ابن إسحاق : حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي ـ و كان واعية ـ عن بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أراد الله كرامته و ابتدأه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى يحسر البيوت عنه و يفضي إلى شعاب مكة و بطون أوديتها فلا يمر بحجر و لا شجر إلا قال : السلام عليك يا رسول الله
قال : فيلتفت حوله عن يمينه و عن شماله و خلفه فلا يرى إلا الشجر و الحجارة فمكث كذلك يرى و يسمع ما شاء الله أن يمكث ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاء من كرامة الله و هو بحراء في رمضان (1/399)
قال ابن إسحاق : و حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال سمعت عبد الله ابن الزبير و هو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي : حدثنا يا عبيد : كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه و سلم من النبوة حين جاءه جبريل قال : فقال عبيد و أنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير و من عنده من الناس :
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجاور في حراء في كل سنة شهرا يتحنث قال : و كان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية و التحنث : التبرر
فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين فإذا قضى جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك ثم يرجع إلى بيته
حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به فيه ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه فيها و ذلك الشهر رمضان خرج إلى حراء كما كان يخرج لجواره و معه أهله حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته و رحم العباد به جاءه جبريل بأمر الله تعالى
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فجاءني و أنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ قلت : ما أقرأ ؟ قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال : اقرأ قلت : ما أقرأ ؟ قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال : اقرأ قلت : ما أقرأ ؟ قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت ثم أرسلني فقال : اقرأ قلت : ماذا أقرأ ؟ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي
فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ و ربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم }
قال : فقرأتها ثم انتهى و انصرف عني و هببت من نومي فكأنما كتبت في قلبي كتابا
قال : فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله و أنا جبريل
قال : فرفعت رأسي إلى السماء فأنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله و أنا جبريل
فوقفت أنظر إليه فما أتقدم و ما أتأخر و جعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فما أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك
فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي و ما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي فبلغوا مكة و رجعوا إليها و أنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني
و انصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها فقالت : يا أبا القاسم أين كنت ؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة و رجعوا إلي
ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت : أبشر يا ابن العم و اثبت فو الذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة
ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ورقة : قدوس قدوس و الذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى و إنه لنبي هذه الأمة و قولي له فليثبت
فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته بقول ورقة
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم جواره و انصرف صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها فلقيه ورقة بن نوفل و هو يطوف بالكعبة : فقال : يا ابن أخي أخبرني بما رأيت و سمعت
فأخبره فقال له ورقة : و الذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة و لقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى و لتكذبنه و لتؤذينه و لتخرجنه و لتقاتلنه و لئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ثم أدنى رأسه منه فقبل يا فوخه ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى منزله ]
و هذا الذي ذكره عبيد بن عمير كما ذكرناه كالتوطئة لما جاء بعده من اليقظة كما تقدم من قول عائشة رضي الله عنه : فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح
و يحتمل أن هذا المنام كان بعد ما رآه في اليقظة صبيحة ليلتئذ و يحتمل أنه كان بعده بمدة و الله أعلم (1/402)
و قال موسى بن عقبة : عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال : و كان فيما بلغنا أول ما رأى يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله تعالى أراه رؤيا في المنام فشق ذلك عليه فذكرها لامرأته خديجة فعصمها الله عن التكذيب و شرح صدرها للتصديق فقالت : أبشر فإن الله لم يصنع بك إلا خيرا
ثم إنه خرج من عندها ثم رجع إليها فأخبرها أنه رأى بطنه شق ثم غسل و طهر ثم أعيد كما كان قالت : هذا و الله خير فأبشر
ثم استعن له جبريل و هو بأعلى مكة فأجلسه على مجلس كريم معجب كان النبي صلى الله عليه و سلم : أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك فيه الياقوت و اللؤلؤ فبشره برسالة الله عز و جل حتى اطمأن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له جبريل اقرأ فقال : كيف اقرأ ؟ فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ و ربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم }
قال : و يزعم ناس أن { يا أيها المدثر } أول سورة نزلت عليه و الله أعلم
قال فقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم رسالة ربه و اتبع ما جاءه به جبريل من عند الله
فلما انصرف منقلبا إلى بيته جعل لا يمر على شجر و لا حجر إلا سلم عليه فرجع إلى أهله مسرورا موقنا أنه قد رأى أمرا عظيما فلما دخل على خديجة قال : أرأيتك التي كنت حدثتك أني رأيته في المنام ؟ فإنه جبريل استعلن إلي أرسله إلي ربي عز و جل و أخبرها بالذي جاءه من الله و ما سمع منه فقالت : أبشر فو الله لا يفعل الله بك إلا خيرا و اقبل الذي جاءك من أمر الله فإنه حق و أبشر فإنك رسول الله حقا
ثم انطلقت من مكانها فأتت غلاما لعتبة بن ربيعة بن عبد الشمس نصرانيا من أهل نينوى يقال له عداس فقالت له : يا عداس أذكرك بالله إلا ما أخبرتني : هل عندك علم من جبريل ؟ فقال : قدوس قدوس ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل الأوثان فقالت : أخبرني بعلمك فيه قال : فإنه أمين الله بينه و بين النبيين و هو صاحب موسى و عيسى عليهما السلام
فرجعت خديجة من عنده فجاءت ورقة بن نوفل فذكرت له ما كان من أمر النبى صلى الله عليه و سلم و ما ألقاه إليه جبريل فقال لها ورقة : يا بنية أخي ما أدري لعل صاحبك النبي الذي ينتظر أهل الكتاب الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل و أقسم بالله لئن كان إياه ثم أظهر دعواه و أنا حي لأبلين الله في طاعة رسوله و حسن مؤازرته للصبر و النصر
فمات ورقة رحمه الله
قال الزهري : فكانت خديجة أول من آمن بالله و صدق رسوله صلى الله عليه و سلم
قال الحافظ البيهقي بعد إيراده ما ذكرناه : و الذي ذكر فيه من شق بطنه يحتمل أن يكون حكاية منه لما صنع به في صباه يعني شق بطنه عنه حليمة و يحتمل أن يكون شق مرة أخرى ثم ثالثة حين عرج به إلى السماء و الله أعلم (1/405)
و قد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة ورقة بإسناده بن طرخان التيمي قال :
[ بلغنا أن الله تعالى بعث محمدا رسولا على رأس خمسين سنة من بناء الكعبة
و كان أول شيء اختصه به من النبوة و الكرامة رؤيا كان يراها فقص ذلك على زوجته خديجة بنت خويلد فقالت له أ بشر و الله لا يفعل الله بك إلا خيرا
فبينما هو ذات يوم في حراء و كان يفر إليه من قومه إذ نزل عليه جبريل ؟ فدنا منه فخافه رسول الله صلى الله عليه و سلم مخافة شديدة فوضع جبريل يده على صدره و من خلفه بين كتفيه فقال : اللهم ! حطط و زره و اشرح صدره و طهر قلبه يا محمد أبشر ! فإنك نبي هذه الأمة اقرأ فقال له نبي الله : و هو خائف يرعد : ما قرأت كتابا قط و لا أحسنه و ما أكتب و ما أقرأ
فأخذه جبريل فغته غتا شديدا ثم تركه ثم قال له : اقرأ فأعاد عليه مثله فأجلسه على بساط كهيئة الدرنوك فرأى فيه من صفائه و حسنه كهيئة اللؤلؤ و الياقوت و قال له : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } الآيات ثم قال له : لا تخف يا محمد إنك رسول الله
ثم انصرف و أقبل على رسول الله صلى الله عليه و سلم همه فقال : كيف أصنع و كيف أقول لقومي ؟ !
ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو خائف فأتاه جبريل من أمامه و هو في صعرته فرأى رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرا عظيما ملأ صدره فقال له جبريل : لا تخف يا محمد جبريل رسول الله جبريل رسول الله إلى أنبيائه و رسله فأيقن بكرامة الله فإنك رسول الله
فرجع رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يمر على شجر و لا حجر إلا هو ساجد يقول : السلام عليك يا رسول الله فاطمأنت نفسه و عرف كرامة الله إياه فلما انتهى إلى زوجته خديجة أبصرت ما بوجهه من تغير لونه فأفزعها ذلك فقامت إليه فلما دنت منه جعلت تمسح عن وجهه و تقول : لعلك لبعض ما كنت ترى و تسمع قبل اليوم
فقال : يا خديجة أرأيت الذي كنت أرى في المنام و الصوت الذي كنت أسمع في اليقظة و أهال منه ؟ فإنه جبريل قد استعلن لي و كلمني و أقرأني كلاما فزعت منه ثم عاد إلي أخبرني أني نبي هذه الأمة فأقبلت على شجر و حجارة فقلن : السلام عليك يا رسول الله
فقالت خديجة : أبشر فو الله لقد كنت أعلم أن الله لن نفعل بك إلا خيرا و أشهد أنك نبي هذه الأمة الذي تنتظره اليهود قد أخبرني به ناصح غلامي و بحيرى الراهب و أمرني أن أتزوجك منذ أكثر من عشرين سنة فلم تزل برسول الله صلى الله عليه و سلم حتى طعم و شرب و ضحك ]
ثم خرجت إلى الراهب و كان قريبا من مكة فلما دنت منه و عرفها قال : مالك يا سيدة نساء قريش ؟ ! فقالت : أقبلت إليك لتخبرني عن جبريل
فقال : سبحان الله ربنا القدوس ! ما بال جبريل يذكر في هذه البلاد التي يعبد أهلها الأوثان ؟ ! جبريل أمين الله رسوله إلى أنبيائه و رسله و هو صاحب موسى و عيسى
فعرفت كرامة الله لمحمد
ثم أتت عبدا لعتبة بن ربيعة يقال له عداس فسألته فأخبرها بمثل ما أخبرها الراهب و أزيد قال : جبريل كان مع موسى حين أغرق الله فرعون وقومه وكان معه حين كلمه الله على الطور و هو صاحب عيسى ابن مريم الذي أيده الله به ثم قامت من عنده فأتت ورقة بن نوفل فسألته عن جبريل فقال لها مثل ذلك ثم سألها : ما الخبر ؟ فأحلفته أن يكتم ما تقول له فحلف لها فقالت له : إن ابن عبد الله ذكر لي و هو صادق أحلف بالله ما كذب و لا كذب أنه نزل عليه جبريل بحراء و أنه أخبره أنه نبي هذه الأمة و أقرأه آيات أرسل بها قال : فذعر ورقة لذلك و قال : لئن كان جبريل قد استقرت قدماه على الأرض لقد نزل على خير أهل الأرض و ما نزل إلا على نبي وهو صاحب الأنبياء و الرسل يرسله الله إليهم و قد صدقتك عنه فأرسلى إلى ابن عبد الله أسأله و أسمع من قوله و أحدثه فإني أخاف أن يكون غير جبريل فإن بعض الشياطين يتشبه به ليضل به بعض بني آدم و يفسدهم حتى يصير الرجل بعد العقل الرضى مدلها مجنونا
فقامت من عنده و هي واثقة بالله أن لايفعل بصاحبها إلاخيرا فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته بما قال ورقة فأنزل الله تعالى : { ن و القلم و ما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون } الآيات فقال لها : كلا و الله إنه لجبريل فقالت له : أحب أن تأتيه فتخبره لعل الله أن يهديه
فجاءه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له ورقة : هذا الذي جاءك في نور أو ظلمة ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صفة جبريل و ما رآه من عظمته و ما أوجاه إليه
فقال ورقة : أشهد أن هذا جبريل و أن هذا كلام الله فقد أمرك بشيء تبلغه قومك و إنه لأمر نبوة فإن أدرك زمانك أتبعك ثم قال : أبشر ابن عبد المطلب بما بشرك الله به
قال : و ذاع قول ورقة و تصديقه لرسول الله صلى الله عليه و سلم فشق ذلك على الملأ من قومه
قال : و فتر الوحي فقالوا : لو كان من عند الله لتتابع و لكن الله قلاه فأنزل الله { و الضحى } و { ألم نشرح } بكمالهما (1/406)
و قال البيهقي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس عن ابن إسحاق حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير أنه حدثه عن خديجة بنت خويلد أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بينه مما أكرمه الله به من نبوته : يا ابن عم تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ فقال : نعم قالت : إذا جاءك فأخبرني
فبينا رسول الله صلى الله عليه و سلم عندها إذ جاء جبريل فرآه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا خديجة هذا جبريل فقالت : أتراه الآن ؟ قال : نعم قالت : فاجلس إلى شقي الأيمن فتحول فجلس فقالت : أتراه الآن ؟ قال نعم قالت : فتحول فاجلس في حجري فتحول فجلس في حجرها فقالت : هل تراه الآن ؟ قال : نعم فتحسرت رأسها فشالت خمارها و رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجرها فقالت : هل تراه الآن ؟ قال : لا قالت : ما هذا بشيطان إن هذا لملك يا ابن عم فاثبت و أبشر ثم آمنت به و شهدت أن ما جاء به هو الحق
قال ابن إسحاق : فحدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث فقال : قد سمعت أمي فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة إلا أني سمعتها تقول : أدخلت رسول الله صلى الله عليه و سلم بينها و بين درعها فذهب عند ذلك جبريل عليه السلام
قال : البيهقي و هذا شيء كان من خديجة تصنعه تستثبت به الأمر احتياطا لدينها و تصديقا
فأما النبي صلى الله عليه و سلم فقد كان وثق بما قال له جبريل و أراه من الآيات التي ذكرناها مرة بعد أخرى و ما كان من تسليم الشجر و الحجر عليه صلى الله عليه و سلم تسليما (1/410)
و قد قال مسلم في صحيحه : [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن بكير حدثنا إبراهيم بن طمهان حدثني سماك بن حرب عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ]
و قال أبو داود الطيالسي : [ حدثنا سليمان بن معاذ عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن بمكة لحجرا بمكة كان يسلم علي ليالي بعثت إني لأعرفه إذا مررت عليه ]
و روى البيهقي من حديث إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن عباد بن عبد الله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة فخرج في بعض نواحيها فما استقبله شجر و لا جبل إلا قال : السلام عليك يا رسول الله
و في رواية : لقد رأيتني أدخل معه الوادي فلا يمر بحجر و لا شجر إلا قال : السلام عليكم يا رسول الله و أنا أسمعه (1/411)
قال البخاري في روايته المتقدمة : ثم فتر الوحي حتى حزن النبي صلى الله عليه و سلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقا
فيسكن لذلك جأشه و تقر نفسه فيرجع
فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك
و في الصحيحين من [ حديث عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : سمعت أبا سلمة عبد الرحمن يحدث عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يحدث عن فترة الوحي قال : فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء فجثيت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلي فقلت زملوني زملوني فأنزل الله : { يا أيها المدثر قم فأنذر و ربك فكبر و ثيابك فطهر و الرجز فاهجر } ]
قال : ثم حمى الوحي و تتابع
فهذا كان أول ما نزل من القرآن بعد فترة الوحي لا مطلقا ذاك قوله { اقرأ باسم ربك الذي خلق }
و قد ثبت عن جابر أن أول ما نزل { يا أيها المدثر } و اللائق حمل كلامه ما أمكن على ما قلناه فإن في سياق كلامه ما يدل على تقدم مجيء الملك الذي عرفه ثانيا بما عرفه به أولا إليه ثم قوله : [ يحدث عن فترة الوحي ] دليل على تقدم الوحي على هذا الإيحاء و الله أعلم
و قد ثبت في الصحيحين من حديث علي بن المبارك و عند مسلم و الأوزاعي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن : أي القرآن أنزل قبل ؟ فقال : { يا أيها المدثر }
فقلت : و { اقرأ با سم ربك } ؟
فقال : سألت جابر بن عبد الله : أي القرآن أنزل قبل ؟ فقال : { يا أيها المدثر } فقلت : { اقرأ با سم ربك } ؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إني جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت بين يدي و خلفي و عن يميني و عن شمالي فلم أر شيئا ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء فأخذتني رعدة ـ أو قال وحشة ـ فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني فأنزل الله : { يا أيها المدثر } حتى بلغ { و ثيابك فطهر } ]
و قال في رواية : [ فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء و الأرض فجثيت منه ]
و هذا صريح في تقدم إتيانه إليه و إنزاله الوحي من الله عليه كما ذكرناه و الله أعلم
و منهم من زعم أن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة { و الضحى و الليل إذا سجى ما ودعك ربك و ما قلى } إلى آخرها قاله محمد بن إسحاق
و قال بعض القراء : و لهذا كبر رسول الله صلى الله عليه و سلم في أولها فرحا
و هو قول بعيد يرده ما تقدم من رواية صاحبي الصحيح من أن أول القرآن نزولا بعد فترة الوحي : { يا أيها المدثر قم فأنذر } و لكن نزلت سورة { و الضحى } بعد فترة أخرى كانت ليالي يسيرة
كما ثبت في الصحيحين و غيرهما من حديث الأسود بن قيس عن جندب بن عبد الله البجلي قال : اشتكى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يقم ليلة أو ليلتين أو ثلاثا فقال امرأة : ما أرى شيطانك إلا تركك فأنزل الله { و الضحى و الليل إذا سجى ما ودعك ربك و ما قلى }
و بهذا الأمر حصل الإرسال إلى الناس و بالأول حصلت النبوة
و قد قال بعضهم : كانت مدة الفترة قريبا من سنتين أو سنتين و نصفا
و الظاهر و الله أعلم أنها المدة التي اقترن معه ميكائيل كما قال الشعبي و غيره
و لا ينفي هذا تقدم إيحاء جبريل إليه أولا { اقرأ باسم ربك الذي خلق }
ثم اقترن به جبريل بعد نزول { يا أيها المدثر قم فأنذر و ربك فكبر و ثيابك فطهر و الرجز فاهجر } (1/412)
ثم حمى الوحي بعد هذا و تتابع أي تدارك شيئا بعد شيء
و قام حينئذ رسول الله صلى الله عليه و سلم في الرسالة أتم القيام و شمر عن ساق العزم و دعا إلى الله القريب و البعيد و الأحرار و العبيد فآمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد و استمر على مخالفته و عصيانه كل جبار عنيد
فكان أول من بادر إلى التصديق من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق
و من الغلمان علي بن أبي طالب
و من النساء خديجة بنت خويلد زوجته عليه السلام
و من الموالي مولاه زيد بن حارثة الكلبي رضي الله عنه و أرضاهم
و تقدم الكلام على إيمان ورقة بن نوفل بما وجد من الوحي و مات في الفترة رضي الله عنه (1/414)
فكان من رحمة الله و فضله و لطفه بخلقه أن حجبهم عن السماء كما قال الله تعالى إخبارا عنهم في قوله : { و أنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا و شهبا و أنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا و أنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا }
و قال تعالى : { و ما تنزلت به الشياطين و ما ينبغي لهم و ما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون }
قال الحافظ أبو نعيم : حدثنا سليمان بن أحمد و هو الطبراني حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم حدثنا محمد بن يوسف الفريابي حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فإذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعا فأما الكلمة فتكون حقا و أما ما زادوا فتكون باطلا
فلما بعث النبي صلى الله عليه و سلم منعوا مقاعدهم فذكروا ذلك لإبليس و لم تكن النجوم يرمي بها قبل ذلك فقال لهم إبليس : هذا لأمر قد حدث في الأرض
فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم قائما يصلي بين جبلين فأتوه فأخبروه فقال : هذا الأمر الذي حدث في الأرض
و قال أبو عوانة : عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ و قد حيل بين الشياطين و بين خبر السماء و أرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا و بين خبر السماء و أرسلت علينا الشهب فقالوا : ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض و مغاربها
فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة و هو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ و هو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء
فرجعوا إلى قومهم فقالوا : { ياقومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به و لن نشرك بربنا أحد } فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه و سلم : { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا }
أخرجاه في الصحيحين
و قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إنه لم تكن قبيلة من الجن إلا و لهم مقاعد للسمع فإذا نزل الوحي سمعت الملائكة صوتا كصوت الحديدة ألقيتها على الصفا
قال : فإذا سمعت الملائكة خروا سجدا فلم يرفعوا رءوسهم حتى ينزل فإذا نزل قال بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم ؟ فإن كان مما يكون في السماء قالوا : الحق و هو العلي الكبير و إن كان مما يقول في الأرض من أمر الغيب أو موت أو شيء مما يكون في الأرض تكلموا به فقالوا : يكون كذا و كذا فتسمعه الشياطين فينزلونه على أوليائهم (1/415)
فلما بعث النبي صلى الله عليه و سلم دحروا بالنجوم فكان أول من علم بها ثقيف فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه فيذبح كل يوم شاة و ذو الإبل فينحر كل يوم بعيرا فأسرع الناس في أموالهم فقال بعضهم لبعض : لا تفعلوا فإن كانت النجوم التي يهتدون بها و إلا فإنه لأمر حدث فنظروا فإذا النجزم التي يهتدى بها كما هي لم يزل منها شيء فكفوا
و صرف الله الجن فسمعوا القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا
و انطلقت الشياطين إلى إبليس فأخبروه فقال : هذا حدث حدث في الأرض فأتوني من كل أرض بتربة فأتوه بتربة تهامة فقال : هاهنا الحدث
و رواه البيهقي و الحاكم من طريق حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب
و قال الواقدي : حدثني أسامة بن زيد بن أسلم عن عمر بن عبدان العبسي عن كعب قال : لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى تنبأ رسول الله صلى الله عليه و سلم فرمى بها فرأت قريش أمرا لم تكن تراه فجعلوا يسيبون أنعامهم و يعتقون أرقاءهم يظنون أنه الفناء فبلغ ذلك من فعلهم أهل الطائف ففعلت ثقيف مثل ذلك
فبلغ عبد ياليل بن عمرو ما صنعت ثقيف قال : و لم فعلتم ما أرى ؟ قالوا : رمي بالنجوم فرأيناها تهافت من السماء فقال : إن إفادة المال بعد ذهابه شديد فلا تعجلوا و انظروا فإن تكن نجوما تعرف فهو عندنا من فناء الناس و إن كانت نجوما لا تعرف فهو لأمر قد حدث
فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه فقال : الأمر فيه مهلة بعد هذا عند طهور نبي
فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم عليهم أبو سفيان بن حرب إلى أمواله فجاء عبد ياليل فذاكره أمر النجوم فقال أبو سفيان : ظهر محمد بن عبد الله يدعي أنه نبي مرسل فقال عبد ياليل : فعند ذلك رمي بها (1/417)
و قال سعيد بن منصور عن خالد بن حصين عن عامر الشعبي قال : كانت النجوم لا يرمى بها حتى بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم فسيبوا أنعامهم و أعتقوا رقيقهم فقال عبد ياليل : انظروا فإن كانت النجوم التي تعرف فهو عند فناء الناس و إن كانت لا تعرف فهو لأمر قد حدث فنظروا فإذا هي لا تعرف
قال : فأمسكوا فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاءهم خروج النبي صلى الله عليه و سلم
و روى البيهقي و الحاكم من طريق العوفي عن ابن عباس قال : لم تكن سماء الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى و محمد صلوات الله عليهما و سلامه
فلعل مراد من نفى ذلك أنها لم تكن تخرس حراسة شديدة و يجب حمل ذلك على هذا لما ثبت في الحديث من [ طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما : بينا رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس إذ رمي بنجم فاستنار فقال : ما كنتم تقولون إذا رمي بهذا ؟ قالوا : كنا نقول مات عظيم ولد عظيم فقال : لا و لكن ] فذكر الحديث كما ذكرنا عند خلق السماء و ما فيها من الكواكب في أول بدء الخلق و لله الحمد (1/418)
وقد ذكر ابن إسحاق في السيرة قصة رمي النجوم و ذكر عن كبير ثقيف أنه قال لهم في النجوم : إن كانت أعلام السماء أو غيرها و لكن سماه عمرو بن أمية فالله أعلم
و قال السدي : لم تكن السماء تحرس إلايكون في الأرض نبي أو دين لله ظاهر و كانت الشياطين قبل محمد صلى الله عليه و سلم قد اتخذت المقاعد في سماء الدنيا يستمعون ما يحدث في السماء من أمر
فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه و سلم نبيا رجموا ليلة من الليالي ففزع لذلك أهل الطائف فقالوا : هلك أهل السماء ! لما رأوا من شدة النار في السماء و اختلاف الشهب فجعلوا يعتقون أرقاءهم و يسيبون مواشيهم فقال لهم عبد ياليل بن عمرو بن عمير : و يحكم يامعشر أهل الطائف ! أمسكوا عن أموالكم و انظروا إلى معالم النجوم فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء و إنما هو من ابن أبي كبشة و إن أنتم لم تروها فقد أهلك أهل السماء
فنظروا فرأوها فكفوا عن أموالهم
و فزعت الشياطين في تلك الليلة فأتوا إبليس فقال : ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب فأتوه فشم فقال : صاحبكم بمكة فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا مكة فوجدوا رسول الله الله في المسجد الحرام يقرأ القرآن فدنوا منه حرصا على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه ثم أسلموا فأنزل الله أمرهم على نبيه صلى الله عليه و سلم (1/419)
و قال الواقدي : حدثني محمد بن صالح ابن أبي الحكيم ـ يعني إسحاق ـ عن عطاء ابن يسار عن أبي هريرة قال : لما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أصبح كل صنم منكسا فأتت الشياطين فقالوا له : ما على الأرض من صنم إلا وقد أصبح منكسا
قال : هذا نبي قد بعث فالتمسوه في قرى الأرياف فالتمسوه فقالوا : لم نجده فقال : أنا صاحبه فخرج يلتمسه فنودي : عليك بجنبة الباب ـ يعني مكة ـ فالتمسه بها فوجده بها عند قرن الثعالب فخرج إلى الشياطين فقال : إني قد وجدته معه جبريل فما عندكم ؟ قالوا : نزين الشهوات في عين أصحابه و نحببها إليهم قال : فلا آسى إذا
و قال الواقدي : حدثني طلحة بن عمرو عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو قال : لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم منعت الشياطين من السماء و رموا بالشهب فجاءوا إلى إبليس فذكروا ذلك له فقال : أمر قد حدث هذا نبي قد خرج عليكم بالأرض المقدسة مخرج بني إسرائيل
قال : فذهبوا إلى الشام ثم رجعوا إليه فقالوا : ليس بها أحد فقال إبليس : أنا صاحبه
فخرج في طلبه بمكة فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم بحراء منحدرا معه جبريل فرجع إلى أصحابه فقال : قد بعث أحمد و معه جبريل فما عندكم ؟ قالوا : الدنيا نحببها إلى الناس قال : فذاك إذا
قال الواقدي : و حدثني طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن عباس قال : كانت الشياطين يستمعون الوحي فلما بعث محمد صلى الله عليه و سلم منعوا فشكوا ذلك إلى إبليس فقال : لقد حدث أمر فرقى فوق أبي قبيس و هو أول جبل وضع على وجه الأرض فرأى رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي خلف المقام فقال : أذهب فأكسر عنقه فجاء يخطر وجبريل عنده فركضه جبريل ركضة طرحه في كذا و كذا فولى الشيطان هاربا
ثم رواه الواقدي و أبو أحمد الزبيري كلاهما عن رباح بن أبي معروف عن قيس بن سعد عن مجاهد فذكر مثل هذا و قال : فركضه برجله فرماه بعدن (1/420)
قد تقدم كيفية ما جاءه جبريل في أول مرة و ثاني مرة أيضا
و قال مالك : [ عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها : أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟
فقال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال و أحيانا يتمثل لي الملك رجلا يكلمني فأعي ما يقول ]
قالت عائشة رضي الله عنها : و لقد رأيته صلى الله عليه و سلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إن جبينه ليتفصد عرقا
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به (1/421)
و رواه الإمام أحمد عن عامر بن صالح عن هشام بن عروة به نحوه
و كذا رواه عبدة بن سليمان و أنس بن عياض عن هشام بن عروة
و قد روها أيوب السختياني عن هشام عن أبيه عن الحارث بن هشام أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت كيف يأتيك الوحي ؟ فذكره و لم يذكر عائشة
و في حديث الإفك قالت عائشة : فو الله ما رام رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه كان يتحدر منه مثل الجمان من العرق و هو في يوم شات من ثقل الوحي الذي نزل عليه
و قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرني يونس بن سليم قال أملي علي يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عروة بن عبد الرحمن بن عبد القاري سمعت عمر بن الخطاب يقول : كان إذ نزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل و ذكر تمام الحديث في نزول { قد أفلح المؤمنون }
و كذا رواه الترمذي و النسائي من حديث عبد الرزاق
ثم قال النسائي : منكر لا نعرف أحدا رواه غير يونس بن سليم و لا نعرفه
و في صحيح مسلم و غيره من حديث الحسن [ عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ نزل عليه الوحي كربه ذلك و تربد وجهه و في رواية و غمض عينيه و كنا نعرف ذلك منه ]
و في الصحيحين حديث زيد بن ثابت حين نزلت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } فلما شكى ابن أم مكتوم ضرارته نزلت { غير أولي الضرر }
قال : و كانت فخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم على فخذي و أنا أكتب فلما نزل للوحي كادت فخذه ترض فخذي
و في صحيح مسلم من حديث همام بن يحيى عن عطاء عن يعلى بن أمية قال قال لي عمر : أيسرك أن تنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يوحى إليه ؟ فرفع طرف الثوب عن وجهه و هو يوحى إليه بالجعرانة فإذا هو محمر الوجه و هو يغط كما يغط البكر
و ثبت في الصحيحين [ من حديث عائشة لما نزل الحجاب و أن سودة خرجت بعد ذلك إلى المناصع ليلا فقال عمر : قد عرفناك يا سودة فرجعت رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألته و هو جالس يتعشى و العرق في يده فأوحى الله إليه و العرق في يده ثم رفع رأسه فقال : إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن ]
فدل هذا على أنه لم يكن الوحي يغيب عنه إحساسه بالكلية بدليل أنه جالس و لم يسقط العرق أيضا من يده صلوات الله و سلامه دائما عليه
و قال أبو داود الطياسي : [ حدثنا عباد بن منصور حدثنا عكرمة عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا نزل عليه الوحي تربد لذلك جسده و وجهه و أمسك عن أصحابه و لم يكلمه أحد منهم
و في مسند أحمد و غيره من حديث ابن لهيعة حدثنى يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو قلت : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم هل تحس بالوحي ؟ قال : نعم أسمع صلاصل ثم أثبت عند ذلك و ما من مرة يوحى إلى إلا ظننت أن نفسي تفيظ منه ]
و قال أبو يعلى الموصلي : [ حدثنا إبراهيم بن الحجاج حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عاصم بن كليب حدثنا أبي عن خاله العليان بن عاصم قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنزل عليه و كان إذا أنزل عليه دام بصره و عيناه مفتوحة وفرغ سمعه و قلبه لما يأتيه من الله عز و جل ]
و روى أبو نعيم [ من حديث قتيبة حدثنا علي بن غراب عن الأحوص بن حكيم عن أبي عوانة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا نزل عليه الوحي صدع و غلف رأسه بالحناء ]
هذا حديث غريب جدا
و قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية سنان عن ليث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ نزلت عليه المائدة كلها و كادت من ثقلها تدق عضد الناقة
و قد رواه أبو نعيم من حديث الثوري عن ليث بن أبي سليم به
و قال الإمام أحمد أيضا : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنى جبر بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم سورة المائدة و هو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها
و روى ابن مردويه من حديث صباح بن سهل عن عاصم الأحول حدثتني أم عمرو عن عمها أنه كان في مسير مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت عليه سورة المائدة فاندق عنق الراحلة من ثقبها
و هذا غريب من هذا الوجه
ثم ثبت في الصحيحين نزول سورة الفتح على رسول الله صلى الله عليه و سلم مرجعه من الحديبية و هو على راحلته فكان يكون تارة و تارة بحسب الحال و الله أعلم
و قد ذكرنا أنواع الوحي إليه صلى الله عليه و سلم في أول شرح البخاري و ما ذكره الحليمي و غيره من الأئمة رضي الله عنهم (1/422)
قال الله تعالى : { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه }
و قال تعالى : { و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه و قل رب زدني علما }
و كان هذا في الابتداء كان عليه السلام من شدة حرصه على أخذه من الملك ما يوحي إليه عن الله عز و جل ليساوقه في التلاوة فأمره الله تعالى أن ينصت لذلك حتى يفرغ من الوحي و تكفل له أن يجمعه في صدره و أن ييسر عليه تلاوته و تبليغه و أن يبينه له و يفسره و يوضحه و يوقفه على المراد منه
و لهذا قال : { و لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه و قل رب زدني علما }
و قال : { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه } أي في صدرك { و قرآنه } أي و أن تقرأه { فإذا قرأناه } أي تلاه عليك الملك { فاتبع قرآنه } أي فاستمع له و تدره { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرآنه } و هو نظير قوله : { و قل رب زدني علما }
و في الصحيحين من حديث موسى بن عقبة بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك شفتيه فأنزل الله { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرآنه } قال : جمعه في صدره ثم تقرأه { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } فاستمع له و أنصت { ثم إن علينا يبانه } قال : فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز و جل (1/425)
قال ابن إسحاق : ثم تتابع الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو مصدق بما جاءه منه و قد قبله بقبوله وتحمل منه ماحمله على رضا العباد و سخطهم
و للنبوة أثقال و مؤنة لا يحملها و لا يستضلع بها إلا أهل القوة و العزم من الرسل بعون الله و توفيقه لما يلقون من الناس و ما يرد عليهم مما جاءوا به عن الله عز و جل
فمضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما أمر الله على ما يلقى من قومه من الخلاف و الأذى
قال ابن إسحاق : و آمنت خديجة بنت خويلد و صدقت بما جاءه من الله و وازرته على أمره
و كانت أول من آمن بالله و رسوله و صدقت بما جاء منه
فخفف الله بذلك عن رسوله لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه و تكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته و تخفف عنه و تصدقه و تهون عليه أمر الناس رضي الله عنها و أرضاها
قال ابن إسحاق : [ و حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب لا صخب فيه و لا نصب ]
و هذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث هشام
قال ابن هشام : القصب هاهنا اللؤلؤ المجوف (1/426)
قال ابن إسحاق : و جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكر جميع ما أنعم الله به عليه و على العباد من النبوة سرا إلى من يطمئن إليه من أهله
و قال موسى بن عقبة عن الزهري : كانت خديجة أول من آمن بالله و صدق رسوله قبل أن تفرض الصلاة
قلت : يعني الصلوات الخمس ليلة الإسراء فأما أصل الصلاة فقد و جب في حياة خديجة رضي الله عنها كما سنبينه
و قال ابن إسحاق : و كانت خديجة أول من آمن بالله و رسوله و صدق بما جاء به (1/427)
ثم إن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم حين افترضت عليه الصلاة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت له عين من ماء زمزم فتوضأ جبريل و محمد عليهما السلام ثم صلى ركعتين و سجد أربع سجدات ثم رجع النبي صلى الله عليه و سلم و قد أقر الله عينه و طابت نفسه و جاءه ما يحب من الله فأخذ يد خديجة حتى أتى بها إلى العين فتوضأ كما توضأ جبريل ثم ركع ركعتين و أربع سجدات ثم كان هو و خديجة يصليان سرا
قلت : صلاة جبريل هذه غير الصلاة التي صلاها به عند البيت مرتين فبين له أوقات الصلوات الخمس أولها و آخرها فإن ذلك كان بعد فرضيتها ليلة الإسراء و سيأتي بيان ذلك إن شاء الله و به الثقة و عليه التكلان (1/427)
قال ابن إسحاق : ثم إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاء بعد ذلك بيوم و هما يصليان فقال علي : يا محمد ما هذا ؟ قال : دين الله الذي اصطفى لنفسه و بعث به رسله فأدعوك إلى الله و حده لا شريك له و إلى عبادته و أن تكفر باللات و العزى
فقال علي : هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب
فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره
فقال له : يا علي إذ لم تسلم فاكتم فمكث علي تلك الليلة ثم إن الله أوقع في قلب علي الإسلام فأصبح غاديا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جاءه فقال : ماذا عرضت علي يا محمد ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ تشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له و تكفر باللات و العزى و تبرأ من الأنداد ] ففعل علي و أسلم و مكث يأتيه علي خوف من أبي طالب و كتم علي إسلامه و لم يظهره و أسلم ابن حارثة يعني زيدا فمكثا قريبا من شهر يختلف علي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان مما أنعم الله به على علي أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل الإسلام (1/428)
قال ابن إسحاق : حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : و كان مما أنعم الله به على علي أن قريش أصابتهم أزمة شديدة و كان أبو طالب ذا عيال كثيرة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعمه العباس و كان من أيسر بني هاشم : [ يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال و قد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق حتى نخفف عنه من عياله ] فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا فضمه إليه فلم يزل مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي و آمن به و صدقه
و قال يونس بن بكير عن محمد ابن إسحاق حدثني يحيى بن أبي الأشعث الكندي من أهل الكوفة حدثني إسماعيل بن أبي إياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف و كان عفيف أخا الأشعث بن قيس لأمه أنه قال : كنت امرءا تاجرا فقدمت مني أيام الحج و كان العباس بن عبد المطلب امرءا تاجرا فأتيته أبتاع منه و أبيعه
قال : فبينا نحن إذ خرج رجل من خباء فقام يصلي تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت تصلي و خرج غلام فقام يصلي معه فقلت : يا عباس ماهذا الدين ؟ إن هذا الدين ماندري ماهو !
فقال : هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله و أن كنوز كسرى و قيصر ستفتح عليه و هذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به و هذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به
قال عفيف : فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون ثانيا !
و تابعه إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق و قال في الحديث : إذ خرج رجل من خباء قريب منه فنظر إلى السماء فلما رآها قد مالت قام يصلي ثم ذكر قيام خديجة و رواه
و قال ابن جرير : حدثني محمد بن عبيد المحاربي حدثنا سعيد بن خثيم عن أسد ابن عبدة البجلي عن يحيى بن عفيف قال : جئت زمن الجاهلية إلى مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب فلما طلعت الشمس و حلقت في السماء و أنا أنظر إلى الكعبة أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فقام مستقبلها فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب فركع الغلام و المرأة فرفع الشاب فرفع الغلام و المرأة فخر الشاب ساجدا فسجدا معه
فقلت : يا عباس أمر عظيم !
فقال : أمر عظيم فقال : أتدري من هذا ؟ فقلت : لا فقال : هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي أتدري من الغلام ؟ قلت : لا قال : هذا علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أتدري من هذه المرأة التي خلفهما ؟ قلت : لا قال : هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي
و هذا حدثني أن ربك رب السماء و الأرض أمره بهذا الذي تراهم عليه و ايم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة
و قال ابن جرير : حدثني ابن حميد حدثنا عيسى بن سوادة بن أبي الجعد حدثنا محمد بن امنكدر و ربيعة بن أبي عبد الرحمن و أبو حازم و الكلبي قالوا : علي أول من أسلم (1/429)
قال الكلبي : أسلم و هو ابن تسع سنين
و حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال : أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه و سلم معه و صدقه علي بن أبي طالب و هو ابن عشر سنين و كان في حجر رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل الإسلام
قال الواقدي : أخبرنا إبراهيم عن نافع عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : أسلم علي و هو ابن عشر سنين
قال الواقدي : و أجمع أصحابنا على أن عليا أسلم بعدما تنبأ رسول الله بسنة
و قال محمد بن كعب : أول من أسلم من هذه الأمة خديجة و أول رجلين أسلما أبو بكر و علي و أسلم علي قبل أبي بكر و كان علي يكتم إيمانه خوفا من أبيه حتى لقيه أبوه قال : أسلمت ؟ قال : نعم قال : و ازر ابن عمك و انصره
قال كان أبو بكر الصديق أول من أظهر الإسلام
و روى ابن جرير في تاريخه من حديث شعبة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال : أول من صلى علي
و حدثنا عبد الحميد بن يحيى حدثنا شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال : بعث النبي صلى الله عليه و سلم يو م الأثنين و صلى علي يوم الثلاثاء و روى من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة ـ رجل من الأنصار ـ سمعت زيد بن أرقم يقول : أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب
قال : فذكرته للنخعي فأنكره و قال : أبو بكر أول من أسلم
ثم قال : حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا العلاء عن المنهال بن عمرو عن عباد ابن عبد الله سمعت عليا يقول : أنا عبد الله و أخو رسوله و أنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر صليت قبل الناس بسبع سنين
و هكذا رواه ابن ماجة عن محمد بن إسماعيل الرازي عن عبيد الله بن موسى الفهمي ـ و هو شيعي من رجال الصحيح ـ عن العلاء بن صالح الأزدي الكوفي ـ وثقوه ـ و لكن قال أبو حاتم : كان من عتق الشيعة ـ و قال علي بن المديني : روى أحاديث مناكير و المنهال بن عمرو ثقة و أما شيخه عباد بن عبد الله ـ و هو الأسدي الكوفي ـ فقد قال فيه علي بن المديني : هو ضعيف الحديث و قال البخاري : فيه نظر و ذكره ابن حبان في الثقات
و هذا الحديث منكر بكل حال و لا يقوله علي رضي الله عنه و كيف يمكن أن يصلي قبل الناس بسبع سنين ؟ ! هذا لا يتصور أصلا و الله أعلم
و قال آخرون : أول من أسلم من هذه الأمة أبو بكر الصديق
و الجمع بين الأقوال كلها : أن خديجة أول من أسلم من النساء و ظاهر السياقات ـ و قبل الرجال أيضا ـ
و أول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة
و أول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب فإنه كان صغيرا دون البلوغ على المشهور و هؤلاء كانوا إذ ذاك أهل البيت (1/430)
و أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق و إسلامه كان أنفع من إسلام من تقدم ذكرهم إذ كان صدرا معظما و رئيسا في قريش مكرما و صاحب مال و داعية إلى الاسلام و كان محببا متألفا يبذل المال في طاعة الله و رسوله كما سيأتي تفصيله
قال يونس عن ابن إسحاق ثم إن أبا بكر الصديق لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أحق ما تقول قريش يا محمد ؟ من تركك آلهتنا و تسفيهك عقولنا و تكفيرك آباءنا ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بلى إني رسول الله و نبيه بعثني لأبلغ رسالته و أدعوك إلى الله بالحق فو الله إنه للحق أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له و لا تعبد غيره و الموالاة على طاعته ]
و قرأ عليه القرآن فلم يقر و لم ينكر
فأسلم و كفر بالأصنام و خلع الأنداد و أقر بحق الإسلام و رجع أبو بكر و هو مؤمن مصدق (1/432)
قال ابن إسحاق : [ حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله الحصين التميمي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة و تردد و نظر إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته و لا تردد فيه ]
عكم : أي تلبث
و هذا الذي ذكره ابن إسحاق في قوله : [ فلم يقر و لم ينكر ] منكر فإن ابن إسحاق و غيره ذكروا أنه كان صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل البعثة و كان يعلم من صدقه و أمانته و حسن سجيته و كرم أخلاقه ما يمنعه من الكذب على الخلق فكيف يكذب على الله ؟
و لهذا بمجرد ما ذكر له أن الله أرسله بادر إلى تصديقه و لم يتلعثم و لا عكم
و قد ذكرنا كيفية إسلامه في كتابنا الذي أفردناه في سيرته و أوردنا فضائله و شمائله و أتبعنا ذلك بسيرة الفاروق أيضا و أوردنا ما رواه كل منهما عن النبي صلى الله عليه و سلم من الأحاديث و ما روى من الآثار و الأحكام و الفتاوى فبلغ ذلك ثلاث مجلدات و لله الحمد و المنة (1/433)
و قد ثبت في صحيح البخاري [ عن أبي الدرداء في حديث ما كان بين أبي بكر و عمر رضي الله عنهما من الخصومة و فيه : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت و قال أبو بكر : صدق و واساني بنفسه و ماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي ] مرتين فما أوذي بعدها
و هذا كالنص على أنه أول من أسلم رضي الله عنه
و قد روى الترمذي و ابن حبان من حديث شعبة عن سعيد الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ألست أحق الناس بها ألست أول من أسلم ألست صاحب كذا ؟
و روى ابن عساكر من طريق بهلول بن عبيد حدثنا أبو إسحاق السبيعي عن الحارث سمعت عليا يقول : أول من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق و أول من صلى مع النبي صلى الله عليه و سلم من الرجال علي بن أبي طالب
و قال شعبة : عن عمرو بن مرة : عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم قال : أول من صلى مع النبي صلى الله عليه و سلم أبو بكر الصديق
رواه أحمد و الترمذي و النسائي من حديث شعبة و قال الترمذي حسن صحيح
و قد تقدم رواية ابن جرير لهذا الحديث من طريق شعبة عم عمرو بن مرة عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم قال : أول من أسلم علي بن أبي طالب
قال عمرو بن مرة : فذكرته لإبرياهيم النخعي فأنكره و قال : أول من أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه
و روى الواقدي بأسانيده عن أبي أروى الدوسي و أبي مسلم بن عبد الرحمن في جماعة من السلف : أول من أسلم أبو بكر الصديق (1/434)
و قال يعقوب بن سفيان حدثنا أبو بكر الحميدي حدثنا سفيان بن عيينة عن مالك ابن مغول عن رجل قال : سئل ابن عباس : من أول من آمن ؟ فقال أبو بكر الصديق أما سمعت قول حسان :
( إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا )
( خير البرية أوفاها و أعدلها ... بعد النبي و أولاها بما حملا )
( و التالي الثاني المحمود مشهده ... و أول الناس منهم صدق الرسلا )
( عاش حميدا لأمر لله متبعا ... بأمر صاحبه الماضي و ما انتقلا )
و قد رواه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شيخ لنا عن مجالد عن عامر قال : سألت ابن عباس ـ أو سئل ابن عباس ـ أي الناس أول إسلاما ؟ قال : أما سمعت قول حسان ابن ثابت فذكره
و هكذا رواه الهيثم بن عدي عن مجالد عن عامر الشعبي سألت ابن عباس فذكره
و قال أبو القاسم البغوي : حدثني سريج بن يونس حدثنا يوسف بن الماجشون قال : أدركت مشيختنا منهم محمد ابن المنكدر و ربيعة بن أبي عبد الرحمن و صالح بن كيسان و عثمان بن محمد لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر الصديق رضي الله عنه
قلت : و هكذا قال إبراهيم النخعي و محمد بن كعب و محمد بن سيرين و سعد بن إبراهيم و هو المشهور عن جمهور أهل السنة و روى ابن عساكر عن سعد بن أبي وقاص و محمد بن الحنفية أنهما قالا : لم يكن أولهم إسلاما و لكن كان أفضلهم إسلاما
قال سعد : و قد آمن قبله خمسة
و ثبت في صحيح البخاري من حديث همام بن الحارث عن عمار بن ياسر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و ما معه إلا خمسة أعبد و امرأتان و أبو بكر (1/435)
و روى الإمام أحمد و ابن ماجة من حديث عاصم بن أبي النجود عن زر عن ابن مسعود قال : أول من أظهر الإسلام سبعة : رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر و عمار و أمه سمية و صهيب و بلال و المقداد
فأما رسول الله صلى الله عليه و سلم فمنعه الله بعمه و أما أبو بكر فمنعه الله بقومه و أما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد و صهروهم في الشمس فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله و هان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول : أحد أحد
و هكذا رواه الثوري عن منصور عن مجاهد مرسلا
فأما ما رواه ابن جرير قائلا : أخبرنا ابن حميد حدثنا كنانة بن جباة عن إبراهيم بن طهمان عن حجاج عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عم محمد بن سعد بن أبي وقاص قال : قلت لأبي : أكان أبو بكر أولكم إسلاما ؟ قال : لا و لقد أسلم قبله أكثر من خمسين و لكن كان أفضلنا إسلاما
فإنه حديث منكر إسنادا و متنا
قال ابن جرير : و قال آخرون : كان أول من أسلم زيد بن حارثة ثم روى من طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب سألت الزهري : من أول من أسلم من النساء ؟ قال : خديجة قلت : فمن الرجال ؟ قال : زيد بن حارثة
و كذا قال عروة و سليمان بن يسار و غير واحد : أول من أسلم من الرجال زيد بن حارثة
و قد أجاب أبو حنيفة رضي الله عنه بالجمع بين هذه الأقوال بأن أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر ومن النساء خديجة و من الموالي زيد بن حارثة و من الغلمان علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين (1/436)
قال محمد بن إسحاق : فلما أسلم أبو بكر و أظهر إسلامه دعا إلى الله عز و جل
و كان أبو بكر رجلا مألفا لقومه محبا سهلا و كان أنسب قريش لقريش و أعلم قريش بما كان فيها من خير وشر و كان رجلا تاجرا ذا خلق و معروف
و كان رجال قومه يأتونه و يألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه و تجارته و حسن مجالسته
فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه و يجلس إليه
فأسلم على يديه فيمن بلغني : الزبير بن العوام و عثمان بن عفان و طلحة بن عبيد الله و سعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم
فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و معهم أبو بكر فعرض عليهم الإسلام و قرأعليهم القرآن و أنبأهم بحق الإسلام فآمنوا
و كان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا في الإسلام فصلوا و صدقوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و آمنوا بما جاء من عند الله و قال محمد بن عمر الواقدي : حدثني الضحاك بن عثمان عن مخرمة بن سليمان الوالبي عن إبراهيم بن محمد بن أبي طلحة قال : قال طلحة بن عبيد الله : حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول : سلوا أهل الموسم : أفيهم رجل من أهل الحرم ؟
قال طلحة : قلت : نعم أنا فقال : هل ظهر أحمد بعد ؟ قلت : و من أحمد ؟ قال : ابن عبد الله بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه و هو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم و مهاجره إلى نخل و حرة و سباخ فإياك أن تسبق إليه
قال طلحة : فوقع في قلبي ما قال فخرجت سريعا حتى قدمت مكة فقلت : هل كان من حديث ؟ قالوا : نعم محمد بن عبد الله الأمين قد تنبأ و قد اتبعه أبو بكر ابن أبي قحافة
قال : فخرجت حتى قدمت على أبي بكر فقلت : اتبعت هذا الرجل ؟ قال : نعم فانطلق إليه فادخل عليه فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق فأخبره طلحة بما قال الراهب
فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله صلى الله عليه و سلم ن فأسلم طلحة و أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم بما قال الراهب فسر بذلك فلما أسلم أبو بكر و طلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية و كان يدعى أسد قريش فشدهما في حبل واحد و لم يمنعهما بنو تيم فلذلك سمي أبو بكر و طلحة القرينين و قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللهم اكفنا شر ابن العدوية ] رواه البيهقي
و قال الحافظ أبو الحسن خيثمة بن سليمان الأطرابلسي : [ حدثنا عبيد الله بن محمد ابن عبد العزيز العمري قاضي المصيصة حدثنا أبو بكر بن الله بن عبيد الله بن إسحاق بن محمد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله حدثني عبد الله محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال حدثني أبي محمد بن عمران عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرج أبو بكر يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان له صديقا في الجاهلية فلقيه فقال : يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك و اتهموك بالعيب لآبائها و أمهاتها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إني رسول الله أدعوك إلى الله فلما فرغ كلامه أسلم أبو بكر فانطلق عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم و ما بين الأخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبي بكر ]
و مضى أبو بكر فراح لعثمان بن عفان و طلحة بن عبيد الله و الزبير بن العوام و سعد بن أبي وقاص فأسلموا
ثم جاء الغد بعثمان بن مظعون و أبي عبيدة بن الجراح و عبد الرحمن بن عوف و أبي سلمة بن عبد الأسد و الأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا رضي الله عنهم (1/437)
قال عبد الله بن محمد : [ فحدثني أبي محمد بن عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و كانوا ثمانية و ثلاثين رجلا ألح أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه و سلم في الظهور فقال : يا أبا بكر إنا قليل ]
فلم أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه و سلم و تفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته و قام أبو بكر في الناس خطيبا و رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس فكان أول خطيب دعا إلى الله و إلى رسوله صلى الله عليه و سلم و ثار المشركون على أبي بكر و على المسلمين فضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا و وطئ أبو بكر و ضرب ضربا شديدا و دنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين و يحرفهما لوجهه و نزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه
و جاء بني تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر و حملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله و لا يشكون في موته ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد و قالوا : و الله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة
فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة و بنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب فتكلم آخر النهار فقال : مافعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فمسوا منه بألسنتهم و عذلوه ثم قاموا و قالوا لأمه أم الخير : انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه فلما خلت به ألحت عليه و جعل يقول : ما فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقالت : و الله مالي علم بصاحبك فقال : اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه
فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت : إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله ؟ فقالت : ما أعرف أبا بكر و لا محمد بن عبد الله و إن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك قالت : نعم فمضت معها حتى و جدت أبا بكر صريعا دنفا فدنت أم جميل و أعلنت بالصياح و قالت و الله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق و كفر و إني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم
قال : فما فعل رسول الله ؟ قالت : هذه أمك تسمع قال : فلا شيء عليك منها قالت : سالم صالح قال : أين هو ؟ قالت : في دار ابن الأرقم
قال : فإن لله على أن لا أذوق طعاما و لا أشرب شرابا أو آتي رسول الله صلى الله عليه و سلم
فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل و سكن الناس خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقبله و أكب عليه المسلمون و رق له رسول الله صلى الله عليه و سلم رقة شديدة
فقال أبو بكر : بأبي و أمي يا رسول الله ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي و هذه أمي برة بولدها و أنت مبارك فادعها إلى الله و ادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار
قال : فدعا لها رسول الله صلى الله عليه و سلم و دعاها إلى الله فأسلمت
و أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في الدار شهرا و هم تسعة و ثلاثون رجلا
و قد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر
و دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم لعمر بن الخطاب ـ أو لأبي جهل بن هشام ـ فأصبح عمر و كانت الدعوة يوم الأربعاء فأسلم عمر يوم الخميس فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و أهل البيت تكبيرة سمعت بأعلى مكة
و خرج أبو الأرقم و هو أعمى كافر و هو يقول : اللهم اغفر لبني عبيد الأرقم فإنه كفر
فقام عمر فقال : يا رسول الله علام نخفي ديننا و نحن على الحق و يظهر دينهم و هم على الباطل ؟ قال : [ ياعمر إنا قليل قد رأيت ما لقينا ]
فقال عمر : فو الذي بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان
ثم خرج فطاف بالبيت ثم مر بقريش و هي تنتظره فقال أبو حهل بن هشام : يزعم فلان أنك صبأت ؟ فقال عمر : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله فوثب المشركون إليه و وثب على عتبة فبرك عليه و جعل يضربه و أدخل إصبعه في عينه فجعل عتبة يصيح فتنحى الناس فقام عمر فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ بشريف ممن دنا منه حتى أعجز الناس و اتبع المجالس التي كان يجالس فيها فيظهر الإيمان
ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه و سلم و هو ظاهر عليهم قال : ما عليك بأبي و أمي و الله مابقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان غير هائب و لا خائف
فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و خرج عمر أمامه و حمزة بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت و صلى الظهر مؤمنا ثم انصرف إلى دار الأرقم و معه عمر ثم انصرف عمر و حده ثم انصرف النبي صلى الله عليه و سلم
و الصحيح أن عمر إنما أسلم بعد خروج المهاجرين إلى أرض الحبشة و ذلك في السنة السادسة من البعثة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله
و قد استقصينا كيفية إسلام أبي بكر و عمر رضي الله عنهما في كتاب سيرتهما على انفرادها و بسطنا القول هنالك و لله الحمد (1/439)
و ثبت في صحيح مسلم [ من حديث أبي أمامة عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في أول ما بعث و هو بمكة و هو حينئذ مستخف فقلت : ما أنت ؟ قال نبي فقلت : و ما النبي ؟ قال رسول الله قلت : الله أرسلك ؟ قال نعم قلت : بم أرسلك ؟ قال : بأن تعبد الله و حده لا شريك له و تكسر الأصنام و توصل الأرحام قال : قلت : نعم ما أرسلك به فمن تبعك على هذا ؟ قال : حر و عبد يعني أبا بكر و بلالا
قال فكان عمر يقول : لقد رأيتني و أنا ربع الإسلام
قال فأسلمت قلت : فأتبعك يا رسول الله ؟ قال : لا و لكن الحق بقومك فإذا أخبرت أني قد خرجت فاتبعني ]
و يقال إن معنى قوله عليه السلام [ حر وعبد ] اسم جنس و تفسير ذلك بأبي بكر و بلال فقط فيه نظر فإنه قد كان جماعة قد أسلموا قبل عمرو بن عبسة و قد كان زيد بن حارثة أسلم قبل بلال أيضا فلعله أخبر أنه ربع الإسلام بحسب علمه فإن المؤمنين كانوا إذ ذاك يستسرون بإسلامهم لا يطلع على أمرهم كثير أحد من قراباتهم دع الأجانب دع أهل البادية من الأعراب و الله أعلم
و في صحيح البخاري من طريق أبي أسامة عن هاشم بن هاشم عن سعيد بن المسيب قال : سمعت أبا إسحاق سعد بن أبي و قاص يقول : ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه و لقد مكثت سبعة أيام و إني لثلث الإسلام
أما قوله [ ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه ] فسهل و يروى : [ إلا في اليوم الذي أسلمت فيه ] و هو مشكل إذ يقتضى أنه لم يسبقه أحد بالإسلام و قد علم أن الصديق و عليا و خديجة و زيد بن حارثة أسلموا قبله كما قد حكى الإجماع على تقدم إسلام هؤلاء غير واحد منهم ابن الأثير
و نص أبو حنيفة رضي الله عنه على أن كلا من هؤلاء أسلم قبل أبناء جنسه و الله أعلم
و أما قوله : [ و لقد مكثت سبعة أيام و إني لثلث الإسلام ] فمشكل و ما أدري على ماذا يوضع عليه إلا أن يكون أخبر بحسب ما علمه و الله أعلم (1/442)
و قال أبو داود الطيلسي : [ حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله و هو ابن مسعود قال : كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط بمكة فأتى علي رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر و قد فرا من المشركين فقال ـ أو فقالا ـ : عندك يا غلام لبن تسقينا قلت : إني مؤتمن و لست بساقيكما فقال : هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد ؟ قلت : نعم
فأتيتهما بها فاعتقلها أبو بكر و أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم الضرع و دعا فحفل الضرع و أتاه أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها ثم شرب هو و أبو بكر ثم سقياني ثم قال للضرع : اقلص فقلص
فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : علمني من هذا القول الطيب يعني القرآن فقال : إنك غلام معلم فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد ]
و هكذا رواه الإمام أحمد عن عفان عن حماد بن سلمة به
و رواه الحسن بن عرفة عن أبي بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود به
و قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو عبد الله بن بطة الأصبهاني حدثنا الحسن بن الجهم حدثنا الحسين بن الفرج حدثنا محمد بن عمر حدثني جعفر ابن محمد بن خالد بن الزبير عن أبيه ـ أو عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ـ قال : كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص قديما و كان أول إخوته أسلم
و كان بدء إسلامه أنه رأى في المنام أنه وقف به على شفير النار فذكر من سعتها ما الله أعلم به و يرى في النوم كأن آت أتاه يدفعه فيها و يرى رسول الله صلى الله عليه و سلم آخذا بحقويه لا يقع ففزع من نومه فقال : أحلف بالله إن هذه لرؤيا حق
فلقي أبا بكر بن أبي قحافة فذكر له فقال أريد بك خير هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم فاتبعه فإنك ستتبعه و تدخل معه في الإسلام يحجزك أن تدخل فيها و أبوك واقع فيها
فلقي رسول الله صلى الله عليه و سلم بأجياد فقال : يا رسول الله يا محمد إلم تدعو ؟ قال : [ أدعوك إلى الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله و تخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع و لا يضر و لا يبصر و لا ينفع و لا يدري من عبده ممن لا يعبده ]
قال خالد : فإني أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أنك رسول الله فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم بإسلامه
و تغيب خالد و علم أبوه بإسلامه فأرسل في طلبه فأتى به فأنبه و ضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه و قال : و الله لأمنعنك القوت فقال خالد : إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به
و انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان يكرمه و يكون معه (1/444)
قال يونس بن بكير : عن محمد بن إسحاق : حدثني رجل من أسلم ـ و كان واعية ـ أن أبا جهل اعترض رسول الله صلى الله عليه و سلم عند الصفا فآذاه و شتمه و نال منه ما يكره من العيب لدينه فذكر ذلك لحمزة بن عبد المطلب فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها ضربة شجة منها شجة منكرة
و قامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه و قالوا ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت
قال حمزة : و من يمنعني و قد استبان لي منه ما أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أن الذي يقول حق فو الله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين
فقال أبو جهل : دعوا أبا عمارة فإني و الله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد عز و امتنع فكفوا عما كانوا يتناولون منه و قال حمزة في ذلك شعرا
قال ابن إسحاق : ثم رجع حمزة إلى بيته فأتاه الشيطان فقال : أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ و تركت دين آبائك للموت خير لك مما صنعت
فأقبل حمزة على نفسه و قال : ما صنعت اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي و إلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا
فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان حتى أصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا ابن أخي إني قد وقعت في أمر و لا أعرف المخرج منه و إقامة مثلي على ما لا أدري ما هو أرشد أم هو غي شديد فحدثني حديثا فقد اشتهيت يا ابن أخي أن تحدثني
فأقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكره و وعظه و خوفه و بشره فألقى الله في قلبه الإيمان بما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أشهد أنك الصادق شهادة الصدق فأظهر ياابن أخي دينك فو الله ما أحب أن لي ماأظلته السماء و أني على ديني الأول
فكان حمزة ممن أعز الله به الدين
و هكذا رواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس ابن بكير به (1/445)
قال الحافظ البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ حدثنا الحسين بن محمد بن زياد حدثنا عبد الله بن الرومي حدثنا النضر بن محمد حدثنا عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك بن الوليد عن مالك بن مرثد عن أبيه عن أبي ذر قال : كنت ربع الإسلام أسلم قبلي ثلاثة نفر و أنا الرابع أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم
هذا سياق مختصر
و قال البخاري : إسلام أبي ذر : حدثنا عمرو بن عباس حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن المثنى عن أبي جمرة عن ابن عباس قال لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأخيه : اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء فاسمع من قوله ثم ائتني
فانطلق الآخر حتى قدمه و سمع من كلامه ثم رجع إلى أبي ذر فقال له : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق و كلاما ما هو بالشعر
فقال : ما شفيتني مما أردت
فتزود و حمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد فالتمس رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا يعرفه و كره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل اضطجع فرآه علي فعرف أنه غريب فلما رآه تبعه و لم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتىأصبح ثم احتمل قربته و زاده إلى المسجد و ظل ذلك اليوم و لا يراه النبي صلى الله عليه و سلم حتى أمسى فعاد إلى مضجعه فمر به علي فقال : أما آن للرجل أن يعلم منزله فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء
حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي على مثل ذلك فأقام معه فقال : ألا تحدثني بالذي أقدمك ؟ قال : إن أعطيتني عهدا و ميثاقا لترشدنني فعلت ففعل فأخبره قال : فإنه حق و إنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء و إن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي
ففعل فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه و سلم و دخل معه فسمع من قوله و أسلم مكانه
فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري ]
فقال : و الذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم
فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته : أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه
فأتى العباس فأكب عليه فقال : ويلكم ! ألستم تعلمون أنه من غفار و أن طريق تجارتكم إلى الشام ؟ ! فأنقذه منهم ثم عاد من الغد بمثلها فضربوه و ثاروا إليه فأكب العباس عليه
هذا لفظ البخاري
و قد جاء إسلامه مبسوطا في صحيح مسلم و غيره
فقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت قال أبو ذر : خرجنا من قومنا غفار و كانوا يحلون الشهر الحرام أنا و أخي أنيس و أمنا
فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مال و ذي هيئة فأكرمنا خالنا و أحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا له : إنك إذا خرجت عن أهلك خلفك إليهم أنيس
فجاء خالنا فنثى ما قيل له فقلت له : أما ما مضى من معروفك فقد كدرته و لا جماع لنا فيما بعد
قال : فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها و تغطى خالنا بثوبه و جعل يبكي
قال : فانطلقنا حتى نزلنا حضرة مكة قال فنافر أنيس عن صرمتنا و عن مثلها فأتيا الكاهن فخير أنيسا فأتانا بصرمتنا و مثلها
و قد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث سنين
قال : قلت لمن ؟ قال : لله قلت : فأين توجه ؟ قال : حيث وجهني الله قال : و أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألفيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس
قال : فقال أنيس : إن لي حاجة بمكة فألقني حتى آتيك قال : فانطلق فراث علي ثم أتاني فقلت : ما حبسك قال : لقيت رجلا يزعم أن الله أرسله على دينك قال : فقلت : ما يقول الناس له ؟ قال : يقولون إنه شاعر و ساحر و كان أنيس شاعرا
قال : فقال : لقد سمعت الكهان فما يقول بقولهم و قد وضعت قوله على إقراء الشعر فو الله ما يلتئم لسان أحد أنه شعر و و الله إنه لصادق و إنهم لكاذبون
قال : فقلت له : هل أنت كافي حتى أنطلق ؟ قال : نعم ! و كن من أهل مكة على حذر فإنهم قد شنعوا له و تجهموا له
قال : فانطلقت حتى قدمت مكة فتضعفت رجلا منهم فقلت : أين هذا الرجل الذي يدعونه الصابئ ؟ قال : فأشار إلي فمال أهل الوادي علي بكل مدرة و عظم حتى خررت مغشيا علي ثم ارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر فأتيت زمزم فشربت من مائها و غسلت عني الدم و دخلت بين الكعبة و أستارها فلبثت به يا ابن أخي ثلاثين من يوم و ليلة ما لي طعام إلا ماء زمام فسمنت حتى تكسرت عكن بطني و ما وجدت علي كبدي سخفة جوع
قال فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان و ضرب الله على أشحمة أهل مكة فما يطوف بالبيت غير امرأتين فأتتا علي و هما يدعوان إساف و نائلة فقلت : أنكحوا أحدهما الآخر فما ثناهما ذلك فقلت : و هن مثل الخشبة غير أني لم أركن
قال : فانطلقتا يولولان و يقولون : لو كان ههنا أحد من أنفارنا
قال : فاستقبلهما رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر و هما هابطان من الجبل فقالا : ما لكما ؟ فقالتا : الصابئ بين الكعبة و أستارها قالا : ما قال لكما ؟ قالتا : قال لنا كلمة تملأ الفم
قال : و جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم هو و صاحبه حتى استلم الحجر و طاف بالبيت ثم صلى
قال : فأتيته فكنت أول من حياه بتحية أهل الإسلام فقال : [ عليك السلام و رحمة الله من أنت ؟ ] قال : فقلت : من غفار قال : فأهوى بيده فوضعها على جبهته قال : فقلت في نفسي : كره أن انتميت إلى غفار
قال : فأردت أن آخذ بيده فقذفني صاحبه و كان أعلم به مني قال : متى كنت ههنا ؟ قال : قلت : كنت ههنا منذ ثلاثين من بين ليلة و يوم
قال : فمن كان يطعمك ؟ قلت : ما كان إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني و ما وجدت على كبدي سخفة جوع
قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنها مباركة إنها طعام طعم ]
قال : فقال أبو بكر : ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة قال : ففعل
قال : فانطلق النبي صلى الله عليه و سلم و انطلقت معهما حتى فتح أبو بكر بابا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف قال : فكان ذلك أول طعام أكلته بها فلبثت ما لبثت
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إني قد وجهت إلى أرض ذات نخل و لا أحسبها إلا يثرب فهل أنت مبلغ عني قومك لعل الله ينفعهم بك و يأجرك فيهم ] ؟
قال : فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسا قال : فقال لي : ما صنعت ؟ قال : قلت صنعت أني أسلمت و صدقت
قال : فما بي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت و صدقت
ثم أتينا أمنا فقالت : ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت و صدقت فتحملنا حتى أتينا قومنا غفار قال فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و كان يؤمهم خفاف بن أيماء بن رخصة الغفاري و كان سيدهم يومئذ قال بقيتهم : إذا قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم أسلمنا قال : فقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلم بقيتهم قال : و جاءت أسلم فقالوا : يا رسول الله إخواننا نسلم على الذي أسلموا عليه فقالوا رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ غفار غفر الله لها و أسلم سالمها الله ] و رواه مسلم عن هدبة بن خالد عن سليمان بن المغيرة به نحوه و قد روى قصة إسلامه على وجه آخر و فيه زيادات غريبة فالله أعلم و قد تقدم ذكر إسلام سلمان الفارسي في كتاب البشارات بمبعثه عليه الصلاة و السلام (1/447)
روى مسلم و البيهقي من حديث داود بن أبي هند عن عمرو بن سعيد عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال : قدم ضماد مكة و هو رجل من أزد شنوءة و كان يرقى من هذه الرياح فسمع سفهاء من سفه مكة يقولون : إن محمدا مجنون فقال : أين هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي ؟
فلقيت محمدا فقلت : إن أرقى من هذه الرياح و إن الله يشفي على يدي من شاء فهلم
فقال محمد : [ إن الحمد لله نحمده و نستعينه من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات ]
فقال : و الله لقد سمعت قول الكهنة و قول السحرة و قول الشعراء فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات فهلم يدك أبايعك على الإسلام
فبايعه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : [ و على قومك ] ؟ فقال : و على قومي
فبعث النبي صلى الله عليه و سلم جيشا فمروا بقوم ضماد فقال صاحب الجيش للسرية : هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئا ؟ فقال رجل منهم : أصبت منهم مظهرة فقال ردها عليهم فإنهم قوم ضماد
و في رواية فقال له ضماد : أعد على كلماتك هؤلاء فلقد بلغن قاموس البحر
و قد ذكر أبو نعيم في دلائل النبوة إسلام من أسلم من الأعيان فصلا طويلا و استقصى ذلك استقصاء حسنا رحمة الله و أثابه (1/452)
و قد سرد ابن إسحاق أسماء من أسلم من الصحابة رضي الله عنهم
قال : ثم أسلم أبو عبيدة و أبو سلمة و الأرقم بن أبي الأرقم و عثمان بن مظعون و عبيدة بن الحارث و سعيد بن زيد و امرأته فاطمة بنت الخطاب
و أسماء بنت أبي بكر و عائشة بنت أبي بكر و هي صغيرة
و قدامة بن مظعون و عبد الله بن مظعون
و خباب بن الأرت و عمير بن أبي وقاص و عبد الله بن مسعود و مسعود بن القارى و سليط بن عمرو و عياش بن أبي ربيعة و امرأته أسماء بنت سلمة بن مخربة التميمية و خنيس بن حذافة و عامر بن ربيعة
و عبد الله بن جحش و أبو أحمد بن جحش و جعفر بن أبي طالب و امرأته أسماء بنت عميس
و حاطب بن الحارث و امرأته فاطمة بنت المجلل و حطاب بن الحارث و امرأته فكيهة ابنة يسار
و معمر بن الحارث بن معمر الجمحي و السائب بن عثمان بن مظعون
والمطلب بن أزهر بن عبد مناف و امرأته رملة بنت أبي عوف بن صبيرة بن سعيد بن سهم و النحام و اسمه نعيم بن عبد الله بن أسيد و عامر بن فهيرة مولى أبي بكر و خالد بن سعيد و أمينة ابنة خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة من خزاعة و حاطب بن عمرو بن عبد شمس و أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة و واقد بن عبد الله بن عرين بن ثعلبة التميمي بني عدي
و خالد بن البكير و عامر بن البكير و عاقل بن البكير و إياس بن البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة من بني ليث و كان اسم عاقل غافلا فسماه رسول الله صلى الله عليه و سلم عاقلا و هم حلفاء بن عدي بن كعب
و عمار بن ياسر و صهيب بن سنان ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال و النساء حتى فشا أمر الإسلام بمكة و تحدث به
قال ابن إسحاق : ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه و سلم بعد ثلاث سنين من البعثة بان يصدع بما أمر و أن يصبر على أذى المشركين
قال : و كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب و استخفوا بصلاتهم من قومهم
فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر يصلون بشعاب مكة إذ ظهر عليهم بعض المشركين فناكروهم و عابوا عليهم مايصنعون حتى قاتلوهم
فضرب سعد رجلا من المشركين بلحى جمل فشجه فكان أول دم هريق في الإسلام
و روى الأموي في مغازيه من طريق الوقاصي عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه
فذكر القصة بطولها و فيه أن المشجوج هو عبد الله بن خطل لعنه الله (1/453)
إلى الخاص و العام و أمره له بالصبر و الاحتمال و الإعراض عن الجاهلين المعاندين المكذبين بعد قيام الحجة عليهم و إرسال الرسول الأعظم إليهم و ذكر ما لقي من الأذية منهم هو و أصحابه رضي الله عنهم
قال الله تعالى : { و أنذر عشيرتك الأقربين و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون و توكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم و تقبلك في الساجدين إنه هو السميع العليم }
و قال تعالى : { و إنه لذكر لك و لقومك و سوف تسألون }
و قال تعالى : { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } أي إن الذي فرض عليك و أوجب عليك بتبليغ القرآن لرادك إلى دار الآخرة و هي المعاد فيسألك عن ذلك كما قال تعالى : { فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون }
و الآيات و الأحاديث في هذا كثيرة جدا و قد تقصينا الكلام ذلك في كتابنا التفسير و بسطنا من القول في ذلك عند قوله تعالى في سورة الشعراء { أنذر عشيرتك الأقربين } و أوردنا أحاديث جمة في ذلك
فمن ذلك : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن منير عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزل الله { أنذر عشيرتك الأقربين } أتى النبي صلى الله عليه و سلم الصفا فصعد عليه ثم نادى : يا صباحاه فاجتمع الناس إليه بين الرجل يجيء إليه و بين رجل يبعث رسوله
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا بني عبد المطلب يا بني فهر يا بني كعب أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني ؟ ] قالوا نعم ! قال : [ فإن نذير لكم بين يدي عذاب شديد ]
فقال أبو لهب لعنه الله ك تبا لك سائر اليوم ! أما دعوتنا إلا لهذا
و أنزل الله عز و جل { تبت يدى أبي لهب و تب }
و أخرجاه من حديث الأعمش به نحوه
و قال أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة حدثنا عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية { أنذر عشيرتك الأقربين } دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا فعم و خص فقال : [ يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا معشربني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني و الله لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها ]
و رواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير و أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب و أبي سلمة عن أبي هريرة و له طرق أخر عن أبي هريرة في مسند أحمد و غيره
و قال أحمد أيضا : حدثنا وكيع بن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنه قالت : لما نزل { و أنذر عشيرتك الأقربين } قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم ] و رواه مسلم أيضا (1/455)
و قال الحافظ أبو بكر البيهقي في الدلائل : [ أخبرنا محمد بن عبد الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال : فحدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل و استكتمنى اسمه عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه و سلم { و أنذر عشيرتك الأقربين و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عرفت أني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره فصمت فجاءني جبريل عليه السلام فقال : يا محمد إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار
قال : فدعاني فقال يا علي إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام و أعد لنا عس لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب
ففعلت فاجتمعوا له يومئذ و هم أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون فيهم أعمامه : أبو طالب و حمزة و العباس و أبو لهب الكافر الخبيث
فقدمت إليهم تلك الجفنة فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم منها حذية فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها و قال : كلوا باسم الله فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما نرى إلا آثار أصابعهم و الله إن كان الرجل ليأكل مثلها ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اسقهم يا علي فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعا و أيم الله إن كان الرجل ليشرب مثله
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكلمهم بدره أبو لهب لعنه الله فقال : لهد ما سحركم صاحبكم فتفرقوا و لم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عد لنا مثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام و الشراب فإن هذا الرجل قد بدر إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم
ففعلت ثم جمعتهم له و صنع رسول الله صلى الله عليه و سلم كما صنع بالأمس فأكلوا حتى نهلوا عنه و أيم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اسقهم يا علي فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعا و أيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله
فلما أراد رسول الله أن يكلمهم بدره أبو لهب لعنه الله إلى الكلام فقال : لهد ما سحركم صاحبكم ؟ فتفرقوا و لم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام و الشراب فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم
ففعلت ثم جمعتهم له فصنع رسول الله صلى الله عليه و سلم كما صنع بالأمس فأكلوا حتى نهلوا عنه ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا و أيم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها و ليشرب مثلها
ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا بني عبد المطلب إني و الله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بأمر الدنيا و الآخرة ]
هكذا رواه البيهقي من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن شيخ أبهم اسمه عن عبد الله بن الحارث به (1/457)
و قد رواه أبو جعفر بن جرير عن محمد بن حميد الرازي عن سلمة بن الفضل الأبرش عن محمد بن إسحاق عن عبد الغفار أبو مريم بن القاسم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس عن علي فذكر مثله و زاد بعد قوله : [ و إني قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة و قد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ] و كذا و كذا
قال : فأحجم القوم عنها جميعا و قلت و لإني لأحدثهم سنا و أرمصهم عينا و أعظمهم بطنا و أخمشهم ساقا : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي فقال : [ إن هذا أخي و كذا و كذا فاسمعوا له و أطيعوا ]
قال : فقام القوم يضكحون و يقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك و تطيع !
تفرد به عبد الغفار ابن القاسم أبو مريم وهو كذاب شيعي اتهمه علي بن المديني و غيره بوضع الحديث و ضعفه الباقون
و لكن [ روى أبي حاتم في تفسيره عن أبيه : عن الحسين بن عيسى بن ميسرة الحارثي عن عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الله ابن الحارث قال : قال علي : { و أنذر عشيرتك الأقربين } قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام و إناء لبنا وادع لي بني هاشم فدعوتهم و إنهم يومئذ لأربعون غير رجل أو أربعون و رجل ]
فذكر القصة نحو ما تقدم إلى أن قال : و بدرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم الكلام فقال : [ أيكم يقضي عني ديني و يكون خليفتي في أهلي ؟ ]
قال : فكتوا و سكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله قال و سكت أنا لسن العباس
ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس فلما رأيت ذلك قلت : أنا يا رسول الله قال : أنت ؟ ! قال : و إني يومئذ لأسواهم هيئة و إني لأعمش العينين ضخم البطن خمس الساقين
و هذه الطريق فيها شاهد لما تقدم إلا أنه لم يذكر ابن عباس فيها فالله أعلم
و قد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عباد بن عبد الله الأسدي و ربيعة بن ناجذ عن علي نحو ما تقدم ـ أو كالشاهد له ـ و الله أعلم
و معنى قوله في هذا الحديث : [ من يقضي عني ديني و يكون خليفتي في أهلي ] يعني إذا مت و كأنه صلى الله عليه و سلم خشى إذا قام بإبلاغ الرسالة إلى مشركي العرب أن يقتلوه فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله ويقضي عنه و قد أمنه الله من ذلك في قوله تعالى { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس } الآية
و المقصود أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استمر يدعو إلى الله تعالى ليلا و نهارا و سرا و جهارا لا يصرفه عن ذلك صارف و لا يرده عن ذلك راد و لا يصده عن ذلك صاد يتبع الناس في أنديتهم و مجامعهم و محافلهم و في المواسم و مواقف الحج يدعو من لقيه من حر و عبد و قوي و غني و فقير جميع الخلق في ذلك عنده رشع سواء
و تسلط عليه و على من اتبعه من آحاد الناس من ضعفائهم الأشداء الأقوياء من مشركي قريش بالأذية القولية و الفعلية (1/459)
و كان من أشد الناس عليه عمه أبو لهب و اسمه عبد العزى بن عبد المطلب و امرأته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان
و خالفه في ذلك عمه أبو طالب بن عبد المطلب و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أحب خلق الله إليه طبعا و كان يحنو عليه و يحسن إليه و يدافع عنه و يحامي و يخالف قومه في ذلك مع أنه على دينهم و على خلتهم إلا أن الله تعالى قد امتحن قلبه بحبه حبا طبعيا لا شرعيا
و كان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى و مما صنعه لرسوله من الحماية إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش و جاهة و لا كلمة و لا كانوا يهابونه و يحترمونه و لا جترءوا عليه و لمدوا أيديهم و ألسنتهم بالسوء إليه و ربك يخلق ما يشاء و يختار و قد قسم خلقه أنواعا و أجناسا
فهذان العمان الكافران أبو طالب و أبو لهب و لكن هذا يكون في القيامة في ضحضاح من نار و ذلك في الدرك الأس
فل من النار و أنزل الله فيه سورة في كتابه تتلى على المنابر و تقرأ في المواعظ و الخطب تتضمن أنه سيصلى نارا ذات لهب و امرأته حمالة الحطب
قال الإمام أحمد : [ حدثنا إبراهيم بن أبي العباس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال أخبر رجل يقال له ربيعة بن عباد من بني الديل و كان جاهليا فأسلم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز و هو يقول : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا و الناس مجتمعون عليه و وراءه رجل وضئ الوجه أحول ذو غديرتين يقول : إنه صابئ كاذب يتبعه حيث ذهب فسألت عنه فقالوا : هذا عمه أبو لهب ]
ثم رواه هو و البيهقي من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد بنحوه
و قال البيهقي أيضا : حدثنا أبو طاهر الفقيه حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن القطان حدثنا أبو الأزهر حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا محمد بن عمر عن محمد بن المنكدر عن ربيعة الديلي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله و وراءه رجل أحول تقد وجنتاه و هو يقول : أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم و دين آبائكم
قلت : من هذا ؟ قيل : هذا أبو لهب
[ ثم رواه من طريق شعبة عن الأشعث بن سليم عن رجل من كنانة قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بسوق ذي المجاز و هو يقول : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا و إذا رجل خلفه يسفي عليه التراب و إذا هو أبو جهل و إذا هو يقول : يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات و العزى ]
كذا قال : [ أبو جهل ] و الظاهر أنه أبو لهب و سنذكر بقية ترجمته عند ذكر وفاته و ذلك بعد وقعة بدر إن شاء الله تعالى
و أما أبو طالب فكان في غاية الشفقة و الحنو الطبيعي كما سيظهر من صنائعه و سجاياه و اعتماده فيما يحامي به عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه رضي الله عنهم (1/461)
قال يونس بن بكير : [ عن طلحة بن يحيى عن عبد الله بن موسى بن طلحة أخبرني عقيل بن أبي طالب قال : جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا : إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا و مسجدنا فانهه عنا فقال : يا عقيل انطلق فأتني بمحمد فانطلقت فاستخرجته من كنس أو قال خنس يقول : بيت صغير فجاء به في الظهيرة في شدة الحر
فلما أتاهم قال : إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم و مسجدهم فانته عن أذاهم
فحلق رسول الله صلى الله عليه و سلم ببصره إلى السماء فقال : ترون هذه الشمس ؟ قالوا نعم ! قال : فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منه بشعلة
فقال أبو طالب : و الله ما كذب ابن أخي قط فارجعوا ]
رواه البخاري في التاريخ عن محمد بن العلاء عن يونس بن بكير و رواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عنه به ـ و هذا لفظه ـ
ثم روى البيهقي من طريق يونس عن ابن إسحاق : [ حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن قريشا حين قالت لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني و قالوا كذا و كذا فابق علي و على نفسك و لا تحملني من الأمر ما لا أطيق أنا و لا أنت فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك
فظن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن قد بدا لعمه فيه و أنه خاذله و مسلمه و ضعف عن القيام معه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا عم لو وضعت الشمس في يميني و القمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه ] ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فبكى
فلما ولى قال له حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله صلى الله عليه و سلم : يا ابن أخي فأقبل عليه فقال امض على أمرك و افعل ما أحببت فو الله لا أسلمك لشيء أبدا (1/463)
قال ابن إسحاق : ثم قال أبو طالب في ذلك :
( و الله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا )
( فامضي لأمرك ما عليك غضاضة ... أبشر و قر بذاك منك عيونا )
( و دعوتني و علمت أنك ناصحي ... فلقد صدقت و كنت قدم أمينا )
( و عرضت دينا قد عرفت بأنه ... من خير أديان البرية دينا )
( لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا )
ثم قال البيهقي : و ذكر ابن إسحاق لأبي طالب في ذلك أشعارا
و في ذلك دلالة على أن الله تعالى عصمه بعمه مع خلافه إياه في دينه و قد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما شاء لا معقب لحكمه
و قال يونس بن بكير : حدثني محمد بن إسحاق حدثني رجل من أهل مصر قديما منذ بضع و أربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس في قصة طويلة جرت بين مشركي مكة و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما قام رسول الله قال أبو جهل ابن هشام : يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ترون من عيب ديننا و شتم آبائنا و تسفيه أحلامنا و سب آلهتنا و إني أعاهد الله لأجلس له غدا بحجر فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم (1/464)
فلما أصبح أبو جهل لعنه الله أخذ حجرا لرسول الله صلى الله عليه و سلم ينتظره
و غدا رسول الله صلى الله عليه و سلم كما كان يغدو و كان قبلته الشام فكان إذا صلى بين الركنين الأسود و اليماني و جعل الكعبة بينه و بين الشام فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي و قد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون فلما سجد رسول الله صلى الله عليه و سلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منبهتا ممتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره حتى قذف الحجر من يده
و قامت إليه رجال من قريش فقالوا له : مابك يا أبا الحكم ؟ فقال : قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل و الله ما رأيت مثل هامته و لا قصرته و لا أنيابه لفحل قط فهم أن يأكلني
قال ابن إسحاق : فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ذلك جبريل و لو دنا منه لأخذه ]
و قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو النضر الفقيه حدثنا عثمان الدارمي حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث بن سعد عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن أبان بن صالح عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن عباس بن عبد المطلب قال : كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل ـ لعنه الله ـ فقال : إن لله علي إن رأيت محمدا ساجدا أن أطأعلى رقبته
فخرجت على رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى دخلت عليه فأخبرته بقول أبي جهل فخرج غضبان حتى جاء المسجد فعجل أن يدخل من الباب فاقتحم الحائط فقلت هذا يوم شر فاتزرت ثم اتبعته فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ { اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق } فلما بلغ شأن أبي جهل { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } فقال إنسان لأبي جهل : يا أبا الحكم هذا محمد فقال أبو جهل : ألا ترون ما أرى ! و الله لقد سد أفق السماء علي فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم آخر السورة سجد
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عبد الكريم عن عكرمة قال : قال ابن عباس : قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لو فعل لأخذته الملائكة غيانا ]
و رواه البخاري عن يحيى عن عبد الرزاق به
قال داود بن أبي هند : عن عكرمة عن ابن عباس قال مر أبو جهل بالنبي صلى الله عليه و سلم و هو يصلي فقال : ألم أنهك أن تصلي يا محمد ؟ لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا مني
فانتهره النبي صلى الله عليه و سلم فقال جبريل : { فليدع ناديه سندع الزبانية } و الله لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب
رواه أحمد و الترمذي و صححه النسائي من طريق داود به
و قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن يزيد أبو زيد حدثنا فرات عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا عند الكعبة يصلي لآتينه حتى أطأ عنقه
قال : فقال : [ لو فعل لأخذته الزبانية عيانا ] و قال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا يونس ابن أبي إسحاق عن الوليد بن العيزار عن ابن عباس قال : قال : أبو جهل لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه
فأنزل الله تعالى : { اقرأ باسم ربك الذي خلق } حتى بلغ من الآية { لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية }
فجاء النبي صلى الله عليه و سلم يصلي فقيل ما يمنعك ؟ قال : [ قد اسود ما بيني و بينه من الكتائب ]
قال ابن عباس : و الله لو تحرك لأخذته الملائكة و الناس ينظرون إليه
و قال ابن جرير حدثنا ابن عبد الأعلى حدثنا المعتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا : نعم
قال : فقال : و اللت و العزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته و لأعفرن و جهه بالتراب فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يصلي ليطأ على رقبته قال : فجأهم منه إلا و هو ينكص على عقبيه و يتقي بيديه
قال : فقيل له : مالك ؟ قال : إن بيني و بينه خندقا من نار و هولا و أجنحة قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا ]
قال : و أنزل الله تعالى ـ لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا ـ { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } إلى آخر السورة
و قد رواه أحمد و مسلم و النسائي و ابن حاتم و البيهقي من حديث معتمر بن سليمان ابن طرخان التيمي به (1/465)
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا وهب بن جرير حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن عمرو ابن ميمون عن عبد الله قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا على قريش غير يوم واحد فإنه كان يصلي و رهط من قؤيش جلوس و سلا جزور قريب منه فقالوا : من يأخذ هذه السلا فيلقبه على ظهره ؟ فقال عقبة بن أبي معيط : أنا فأخذه فألقله على ظهره فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم عليك بهذا الملأ من قريش اللهم عليك بعتبة بن ربيعة اللهم عليك بشيبة بن ربيعة اللهم عليك بأبي جهل بن هشام اللهم عليك بعقبة ابن أبي معيط اللهم عليك بأبي بن خلف ـ أو أمية بن خلف ـ شعبة الشاك ]
قال عبد الله : فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا ثم سحبوا إلى القليب غير أبي أو أمية بن خلف فإنه كان رجلا ضخما فتقطع
و قد رواه البخاري في مواضع متعددة من صحيحه و مسلم من طرق عن ابن إسحاق به
و الصواب : أمية بن خلف فإنه الذي قتل يوم بدر و أخوه أبي إنما قتل يوم أحد كما سيأتي بيانه
و السلا : هو الذي يخرج مع ولد الناقة كالمشيمة لولد المرأة
و في بعض ألفاظ الصحيح أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا حتى جعل بعضهم يميل على بعض أي يميل هذا على هذا من شدة الضحك لعنهم الله
و فبه أن فاطمة لما ألقته عنه أقبلت عليهم فسبتهم و أنه صلى الله عليه و سلم لما فرغ من صلاته رفع يديه يدعو عليهم فلما رأوا ذلك سكن عنهم الضحك و خافوا دعوته و أنه صلى الله عليه و سلم دعا على الملأ منهم جملة و عين في دعائه سبعة و قع في أكثر الروايات تسمية ستة منهم : و هم عتبة و أخوه شيبة ابنا ربيعة و الوليد بن عتبة و أبو جهل بن هشام و عقبة بن أبي معيط و أمية بن خلف
قال ابن إسحاق : و نسيت السابع قلت : و هو عمارة بن الوليد وقع تسميته في صحيح البخاري (1/468)
قال يونس بن بكير : عن محمد بن إسحاق حدثنا عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي قال : قدم رجل من إراش بإبل له إلى مكة فابتاعها منه أبو جهل بن هشام فمطله بأثمانها فأقبل الإراشي حتى وقف على نادي قريش و رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس في ناحية المسجد فقال : يا معشر قريش من رجل يعديني على أبي الحكم بن هشام فإني غريب و ابن سبيل و قد غلبني على حقي
فقال أهل المجلس : ترى ذلك ـ إلى رسول الله ـ يهزأون به صلى الله عليه و سلم لما يعلمون ما بينه و بين أبي جهل من العداوة ـ اذهب إليه فهو يؤديك عليه
فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقام معه فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن كان معهم : اتبعه فانظر ما يصنع
فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جاءه فضرب عليه بابه فقال : من هذا ؟ قال : [ محمد فاخرج ] فخرج إليه و ما في وجهه قطرة دم و قد انتقع لونه فقال : [ أعط هذا الرجل حقه ] قال : لا تبرح حتى أعطيه الذي له قال : فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال للإراشي : الحق لشأنك فأقبل الإراشي : حتى وقف على ذلك المجلس فقال : جزاه الله خيرا فقد أخذت الذي لي
و جاء الرجل الذي بعثوا معه فقالوا : ويحك ماذا رأيت ؟ قال : عجبا من العجب ! و الله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج و ما معه روحه فقال : أعط هذا الرجل حقه فقال : نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه فدخل فأخرج إليه حقه فأعطاه
ثم لم يلبث أن جاء أبو جهل فقالوا له : ويلك مالك ! فوالله ما رأينا مثل ما صنعت
فقال : ويحكم : و الله ما هو إلا أن ضرب علي بابي و سمعت صوته فملئت رعبا ثم خرجت إليه و إن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته و لا قصرته و لا أنيابه لفحل قط فوالله لو أبيت لأكلني (1/469)
و قال البخاري : حدثنا عياش بن الوليد حدثنا الوليد بن مسلم حدثني الأوزاعي عن يحي بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم التيمي حدثني عروة بن الزبير سألت ابن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني أشد شيء صنعه المشركون برسول الله
قال : بينما النبي صلى الله عليه و سلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقا شديدا
فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه و دفعه عن النبي صلى الله عليه و سلم و قال : { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله و قد جاءكم بالبينات من ربكم } الآية
تابعه ابن إسحاق قال : أخبرني يحي بن عروة عن أبيه قال : قلت لعبد الله بن عمرو
و قال عبدة : عن هشام عن أبيه قال : قيل لعمرو بن العاص و قال محمد بن عمرو : عن أبي سلمة حدثني عمرو بن العاص
قال البيهقي و كذلك رواه سليمان بن بلال عن هشام بن عروة كما رواه عبدة
انفرد به البخاري و قد رواه في أماكن من صحيحه و صرح في بعضها بعبد الله بن عمرو بن العاص و هو أشبه لرواية عروة منه و كونه عن عمرو أشبه لتقدم هذه القصة
و قد روى البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس عن محمد بن إسحاق حدثني يحي بن عروة عن أبيه عروة قال : قلت لعبد الله بن عمرو ابن العاص : ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما كانت تظهره من عداوته ؟ فقال : لقد رأيتهم و قد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط سفه أحلامنا و شتم آباءنا و عاب ديننا و فرق جماعاتنا و سب آلهتنا و صرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا
قال : فبينما هم في ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فغمزوه ببعض القول فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم فمضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفتها في وجهه فمضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها
فقال : [ أتسمعون يا معشر قريش ؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ]
فأخذت القوم كلمنه حتى ما منهم من رجل إلا و كأنما على رأسه طائر وقع حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفأه حتى إنه ليقول : انصرف أبا القاسم راشدا فما كنت بجهول فانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم
حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر و أنا معهم فقال بعضهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم و ما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه
فبينما هم على ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه و سلم فوثبوا إليه وثية رجل واحد فأحاطوا به يقولون : أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم و دينهم
فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ نعم أنا الذي أقول ذلك ]
و لقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ردائه و قام أبو بكر يبكي دونه و يقول : ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ثم انصرفوا عنه
فإن ذلك لأكبر ما رأيت قريشا بلغت منه قط (1/470)
قال الإمام أحمد : [ حدثنا وكيع عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد أوذيت في الله و ما يؤذى أحد و أخفت في الله و ما يخاف أحد و لقد أتت علي ثلاثون من بين يوم و ليلة و ما لي و لبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال ]
و أخرجه الترمذي و ابن ماجة من حديث حماد بن سلمة به و قال الترمذي : حسن صحيح
و قال ابن إسحاق : و حدب على رسول الله صلى الله عليه و سلم عمه أبو طالب و منعه وقام دونه
و مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على أمر الله مظهرا لدينه لا يرده عنه شيء (1/472)
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم و عيب آلهتهم و رأوا أن عمه أبو طالب قد حدب عليه و قام دونه فلم يسلمه لهم مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب : عتبة و شيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس ابن عبد مناف بن قصي و أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس و أبو البختري و اسمه العاص بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي و الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى و أبو جهل و اسمه عمرو بن هشام بن المغيرة ابن عبد الله بن عمر بن المخزوم و الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة ابن مرة بن كعب بن لؤي و نبيه و منبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي و العاص بن وائل بن سعيد بن سهم
قال ابن إسحاق : أو من مشى منهم
فقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا و عاب ديننا و سفه أحلامنا و ضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا و إما أن تخلي بيننا و بينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه
فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا و ردهم ردا جميلا فانصرفوا عنه
و مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما هو عليه يظهر دين الله و يدعو إليه
ثم شري الأمر بينهم و بينه حتى تباعد الرجال و تضاغنوا
و أكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم بينها فتذامروا فيه و حض بعضهم بعضا عليه (1/473)
ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا : يا أبا طالب إن لك سنا و شرفا و منزلة فينا و إنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا و إنا و الله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا و تسفيه أحلامنا و عيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله و إياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين أو كما قالوا ثم انصرفوا عنه
فعظم على أبي طالب فراق قومه و عداوتهم و لم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا خذلانه
قال ابن إسحاق : و حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا كذا و كذا للذي قالوا له فأبق علي و على نفسك و لا تحملني من الأمر ما لا أطيق
قال فظن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قد بدا لعمه فيه بدو و أنه خاذله و مسلمه و أنه قد ضعف عن نصرته و القيام معه
قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا عم و الله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته ]
قال : ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فبكى ثم قام !
فلما ولي نادوه أبو طالب فقال : أقبل يا بن أخي فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فو الله لا أسلمتك لشيء أبدا (1/474)
قال ابن إسحاق : ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه و سلم و إسلامه و إجماعه لفراقهم في ذلك و عداوتهم مشوا إليه بعمارة ابن الوليد بن المغيرة فقالوا له فيما بلغني : يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش و أجمله فخذه فلك عقله و نصره و اتخذه ولدا فهو لك و اسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك و دين آبائك و فرق جماعة قومك و سفه أحلامنا فنقتله فإنما هو رجل برجل !
قال : و الله لبئس ما تسومونني ! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم و أعطيكم ابني فتقتلونه ! هذا و الله ما لا يكون أبدا
قال : فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي : و الله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك و جهدوا على التخلص مما تكره فما أراك تريد أن تقبل منهم سيئا
فقال أبو طالب للمطعم : و الله ما أنصفوني و لكنك قد أجمعت خذلاني و مظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك أو كما قال
فحقب الأمر و حميت الحرب و تنابذ القوم و نادى بعضهم بعضا (1/475)
فقال أبو طالب عند ذلك يعرض بالمطعم بن عدي و يعم من خذله من بني عبد مناف و من عاداه من قبائل قريش و يذكر ما سألوه و ما تباعد من أمرهم :
( ألا قل لعمرو و الوليد و مطعم ... ألا ليت حظي من حياطتكم بكر )
( من الخور حبحاب كثير رغاؤه ... يرش على الساقين من بوله قطر )
( تخلف خلف الورد ليس بلاحق ... إذ ما علا الفيفاء قيل له وبر )
( أرى أخوينا من أبينا و أمنا ... إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر )
( بلى لهما أمر و لكن تجرجما ... كما جرجمت من رأس ذي علق الصخر )
( أخص خصوصا عبد شمس و نوفلا ... هما نبذانا مثل ما نبذ الجمر )
( هما أغمزا للقوم في أخويهما ... فقد أصبحا منهم أكفهما صفر )
( هما أشركا في المجد من لا أبا له ... من الناس إلا أن يرس له ذكر )
( و تيم و مخزوم و زهرة منهم ... و كانوا لنا مولى إذا بغي النصر )
( فو الله لا تنفك منا عدواة ... و لا منكم ما دام من نسلنا شفر )
فصل ـ في مبالغتهم في الأذية لآحاد المسلمين المستضعفين
قال ابن إسحاق : ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين أسلموا معه
فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم و يفتنونهم عن دينهم
و منع الله منهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بعمه أبي طالب
و قد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم و بني عبد المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه و سلم و القيام دونه فاجتمعوا إليه و قاموا معه و أجابوه إلى ما دعاهم إليه إلا ما كان من أبي لهب عدو الله (1/475)
فقال في ذلك يمدحهم و يحرضهم على ما وافقوه عليه من الحدب و النصرة لرسول الله صلى الله عليه و سلم
( إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ... فعبد مناف سرها و صميمها )
( و إن حصلت أشراف عبد منافها ... ففي هاشم أشرفها و قديمها )
( و إن فخرت يوما فإن محمدا ... هو المصطفى من سرها و كريمها )
( تداعت قريش غثها و سمينها ... علينا فلم تظفر و طاشت حلومها )
( و كنا قديما لا نفر ظلامة ... إذا ما ثنوا صعر الرقاب نقيمها )
( و نحمي حماها كل يوم كريهة ... و نضرب عن أحجارها من يرومها )
( بنا انتعش العود الذواء و إنما ... بأكنافنا تندى و تنمى أرومها ) (1/477)
فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا و لا ما إليه رغبوا لعلم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا و شاهدوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم يعمهون و لظلوا في غيهم و ضلالهم يتردون
قال الله تعالى { و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله و ما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون و نقلب أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة و نذرهم في طغيانهم يعمهون و لو أننا نزلنا إليهم الملائكة و كلمهم الموتى و حشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله و لكن أكثرهم يجهلون }
و قال تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون و لو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم }
و قال تعالى : { و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون و آتينا ثمود الناقة مبصرة فظلوا بها و ما نرسل بالآيات إلا تخويفا }
و قال تعالى { و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل و عنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله و الملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل : سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا }
و قد تكلمن على هذه الآيات و ما يشابهها في أماكنها في التفسير و لله الحمد
و قد روى يونس و زياد عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم و هو شيخ من أهل مصر يقال له محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير و عكرمة عن ابن عباس قال : اجتمع عليه من أشراف قريش و عدد أسماءهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه و خاصموه حتى تعذروا فيه
فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك
فجاءهم رسول الله صلى الله عليه و سلم سريعا و هو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بدو و كان حريصا يحب رشدهم و يعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم
فقالوا : يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك و إنا و الله لا نعلم رجلا من العرب دخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء و عبت الدين و سفهت الأحلام و شتمت الآلهة و فرقت الجماعة و ما بقي من قبيح إلا و قد جئته فيما بيننا و بينك
فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا و إن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا و إن كنت تريد ملكا ملكناك علينا و إن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك و كانوا يسمون التابع من الجن الرئى فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فتك
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم و لا الشرف فيكم و لا الملك عليكم و لكن الله بعثني إليكم رسولا و أنزل علي كتابا و أمرني أن أكون لكم بشيرا و نذيرا فبلغتكم رسالة ربي و نصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا و الآخرة و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم ] أو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم (1/477)
فقالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا ماعرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا و لا أقل مالا و لا أشد عيشا منا فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا و ليبسط لنا بلادنا و ليجر فيها أنهارا كأنهار الشام و العراق و ليبعث لنا من مضى من آبائنا و ليكن فيما يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقوا : أحق هو أم باطل ؟
فإن فعلت ما سألناك و صدقوك صدقناك و عرفنا به منزلتك عند الله و أنه بعثك رسولا كما نقول
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا و الآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم ]
قالوا : فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فسل ربك لنا ملكا يصدقك بما تقول و يراجعنا عنك و تسأله فيجعل لنا جنانا و كنوزا و قصورا من ذهب و فضة و يغنيك عما نراك تبتغي فإنك تقوم في الأسواق و تلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم
فقال لهم : [ ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا و ما بعثت إليكم بهذا و لكن الله بعثني بشيرا و نذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا و الآخرة و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم ]
قالوا : فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل
فقال : [ ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك ]
فقالوا : يا محمد ما علم ربك أنا سنجلس معك و نسألك عما سألناك عنه و نطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك و يعلمك ما تراجعنا به و يخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به
فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن و إنا و الله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما و الله لا نتركك و ما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا
و قال قائلهم : نحن نعبد الملائكة و هي بنات الله و قال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله و الملائكة قبيلا
فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهم و قام معه عبد الله بن أبي أمية ابن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم و هو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فو الله لا أومن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى منه و أنا أنظر حتى تأتيها و تأتي معك بنسخة منشورة و معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول و ايم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك
ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه
و هذا المجلس الذي اجتمع عليه هؤلاء الملأ مجلس ظلم و عدوان و عناد ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية و الرحمة الربانية ألا يجابوا إلى ما سألوا لأن الله علم أنهم لا يؤمنون بذلك فيعاجلهم بالعذاب (1/479)
كما قال الإمام أحمد : [ حدثنا عثمان بن محمد حدثنا جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا و أن ينحي عنهم الجبال فيزدرعوا فقيل له : إن شئت أن تستأني بهم و إن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم الأمم
قال : لا بل أستأني بهم
فأنزل الله تعالى : { و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون و آتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها و ما نرسل بالآيات إلا تخويفا } ]
و هكذا رواه النسائي من حديث جرير
و قال أحمد : [ حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن عمران ابن الحكيم عن ابن عباس قال : قالت قريش للنبي صلى الله عليه و سلم : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا و نؤمن بك قال : و تفعلوا ؟ قالوا : نعم
قال : فدعا فأتاه جبريل فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام و يقول لك : إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين و إن شئت فتحت لهم باب الرحمة و التوبة
قال : بل التوبة و الرحمة ]
و هذان إسنادان جيدان و قد جاء مرسلا عن جماعة من التابعين منهم سعيد بن جبير و قتادة و ابن جريج و غير واحد (1/482)
و روى الإمام أحمد و الترمذي من [ حديث عبد الله بن المبارك حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : عرض علي ربي عز و جل أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا فقلت : لا يا رب أشبع يوما و أجوع يوما أو نحو ذلك فإذا جعت تضرعت إليك و ذكرتك و إذا شبعت حمدتك و شكرتك ]
لفظ أحمد و قال الترمذي : هذا حديث حسن و علي بن يزيد يضعف في الحديث
و قال محمد ابن إسحاق : حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ بضع و أربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس قال : بعثت قريش النضر بن الحارث و عقبة ابن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالوا لهما : سلوهم عن محمد و صفا لهم صفته و أخبراهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول و عندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء
فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و وصفا لهم أمره و بعض قوله و قالا : إنكم أهل التوراة و قد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا قال : فقالت لهم أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل و إن لم يفعل فهو رجل متقول فروا فيه رأيكم
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم ؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب و سلوه عن رجل طواف طاف مشارق الأرض و مغاربها ما كان نبؤه ؟
و سلوه عن الروح ما هي ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه و إن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم
فأقبل النضر و عقبة حتى قدما على قريش فقالا : يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم و بين محمد قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبرهم بها
فجاءوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا محمد أخبرنا فسألوه عما أمروهم به
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أخبركم غدا بما سألتم عنه ] و لم يستثن
فانصرفوا عنه و مكث رسول الله صلى الله عليه و سلم خمس عشرة ليلة لا يحدث له في ذلك وحيا و لا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة و قالوا : وعدنا محمد غدا و اليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه و حتى أحزن رسول الله صلى الله عليه و سلم مكث الوحي عنه و شق عليه ما يتكلم به أهل مكة
ثم جاء جبريل عليه السلام من الله عز و جل بسورة الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم و خبر ما سألوه عنه من أمر الفتية و الرجل الطواف و قال الله تعالى : { و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا }
و قد تكلمنا على ذلك كله في التفسير مطولا فمن أراده فعليه بكشفه من هناك (1/483)
و نزل قوله : { أم حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجبا }
ثم شرع في تفصيل أمرهم و اعترض في الوسط بتعليمه الاستثناء تحقيقا لا تعليقا في قوله { و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله و اذكر ربك إذا نسيت }
ثم ذكر قصة موسى لتعلقها بقصة الخضر ثم ذي القرنين ثم قال : { و يسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا } ثم شرح أمره و حكى خبره
و قال في سورة سبحان : { و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } أي خلق عجيب من خلقه و أمر من أمره قال لها كوني فكانت و ليس لكم الاطلاع على كل ما خلقه و تصوير حقيقته في نفس الأمر يصعب عليكم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى و حكمته و لهذا قال : { و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا }
و قد ثبت في الصحيحين أن اليهود سألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة فتلا عليهم هذه الآية
فإما أنها نزلت مرة ثانية أو ذكرها جوابا و إن كان نزولها متقدما و من قال إنها إنما نزلت و استثناها من سورة سبحان ففي قوله نظر و الله أعلم (1/485)
قال ابن إسحاق : و لما خشي أبو طالب دهم العرب أن يركبوه مع قومه قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة و بمكانه منها و تودد فيها أشراف قومه و هو على ذلك يخبرهم و غيرهم في شعره أنه غير مسلم لرسول الله صلى الله عليه و سلم و لا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه فقال :
( و لما رأيت القوم لا ود فيهم ... و قد قطعوا كل العرى و الوسائل )
( و قد صارحونا بالعداوة و الأذى ... و قد طاعوا أمر العدو المزايل )
( و قد حالفوا قوما علينا أظنة ... يعضون غيظا خلفنا بالأنامل )
( صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... و أبيض عضب من تراث المقاول )
( و أحضرت عند البيت رهطي و إخوتي ... و أمسكت من أثوابه بالوصائل )
( قياما معا مستقبلين رتاجه ... لدى حيث يقضي حلفه كل نافل )
( و حيث ينيخ الأشعرون ركابهم ... بمفضى السيول من إساف و نائل )
( موسمة الأعضاد أو قصراتها ... مخيسة بين السديس و بازل )
( ترى الودع فيها و الرخام و زينة ... بأعناقها معقودة كالعثاكل )
( أعوذ برب الناس من كل عاطن ... علينا بسوء أو ملح بباطل )
( و من كاشح يسعى لنا بمعيبة ... و من ملحق في الدين ما لم نحاول )
( و ثور و من أرسى ثبيرا مكانه ... و راق ليرقى في حراء و نازل )
( و بالبيت حق البيت من بطن مكة ... و بالله إن الله ليس بغافل )
( و بالحجر المسود إذ يمسحونه ... إذ اكتنفوه بالضحى و الأصائل )
( و موطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل )
( و أشواط بين المروتين إلى الصفا ... و ما فيهما من صورة و تماثل )
( و من حج بيت الله من كل راكب ... من كل ذي نذر و من كل راجل )
( و بالمشعر الأقصى إذا عمدوا له ... إلال إلى مفضى الشراج القوابل )
( و توقافهم فوق الجبال عشية ... يقيمون بالأيدي صدور الرواحل )
( و ليلة جمع و المنازل من منى ... و هل فوقها من حرمة و منازل )
( و جمع إذا ما المقربات أجزته ... سراعا كما يخرجن من وقع وابل )
( و بالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها ... يؤمنون قذفا رأسها بالجنادل )
( و كندة إذ هم بالحصاب عشية ... تجيز بهم حجاج بكر بن وائل )
( حليفان شدا عقد ما احتلفا له ... و ردا عليه عاطفات الوسائل )
( و حطمهم سمر الرماح و سرحه ... و شبرقه و خد النعام الجوافل )
( فهل بعد هذا من معاذ لعائذ ... و هل من معيذ يتقي الله عادل )
( يطاع بنا أمر العدا ود أننا ... يسد بنا أبواب ترك و كابل )
( كذبتم و بيت الله نترك مكة ... و نظعن إلا أمركم في بلابل )
( كذبتم و بيت الله نبزى محمدا ... و لما نطاعن دونه و نناضل )
( و نسلمه حتى نصرع حوله ... و نذهل عن أبنائنا و الحلائل )
( و ينهض قوم بالحديد إليكم ... نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل )
( و حتى نرى ذا الضغن يركب ردعه ... من الطعن فعل الأنكب المتحامل )
( و إنا لعمر الله إن جد ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأماثل )
( بكفي فتى مثل الشهاب سميدع ... أخي ثقة حامى الحقيقة باسل )
( شهورا و أياما و حولا محرما ... علينا و تأتي حجة بعد قابل )
( و ما ترك قوم لا أبالك سيدا ... يحوط الذمار غير ذرب مواكل )
( و أبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل )
( يلوذ به الهلاك من آل هاشم ... فهم عنده في رحمة و فواضل )
( لعمري لقد أجرى أسيد و بكره ... إلى بغضنا و جزآنا لآكل )
( و عثمان لم يربع علينا و قنفذ ... و لكن أطاعا أمر تلك القبائل )
( أطاعا أبيا و ابن عبد يغوثهم ... و لم يرقبا فينا مقالة قائل )
( كما قد لقينا من سبيع و نوفل ... و كل تولى معرضنا لم يجامل )
( فإن يلفيا أو يمكن الله منهما ... نكل لهما صاعا بصاع المكايل )
( و ذاك أبو عمرو أبي غير بغضنا ... ليظعننا في أهل شاء و جامل )
( يناجي بنا في كل ممسى و مصبح ... فناج أبا عمرو بنا ثم خاتل )
( و يؤلي لنا بالله ما إن يغشنا ... بلى قد نراه جهزة غير خائل )
( أضاق عليه بغضنا كل تلعة ... من الأرض بين أخشب فمجادل )
( و سائل أبا الوليد ماذا حبوتنا ... بسعيك فينا معرضا كالمخاتل )
( و كنت امرأ ممن يعاش برأيه ... و رحمته فينا و لست بجاهل )
( فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح ... حسود كذوب مبغض ذي دغاول )
( و مر أبو سفيان عني معرضا ... كما مر قيل من عظام المقاول )
( يفر إلى نجد و برد مياهه ... و يزعم أني لست عنكم بغافل )
( و يخبرنا فعل المناصح أنه ... شفق و يخفي عارمات الدواخل )
( أمطعم لم أخذلك في يوم نجدة ... و لا معظم عند الأمور الجلائل )
( و لا يوم خصم إذ أتوك ألدة ... أولى جدل من الخصوم المساجل )
( أمطعم إن القوم ساموك خطة ... و إني متى أوكل فلست بوائل )
( جزى الله عنا عبد شمس و نوفلا ... عقوبة شر عاجلا غير آجل )
( بميزان قسط لا يخيس شعيرة ... له شاهد من نفسه غير عائل )
( لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا ... بني خلف قيضا بنا و الغياطل )
( و نحن الصميم من ذؤابة هاشم ... و آل قصي في الخطوب الأوائل )
( و سهم و مخزوم تمالوا و ألبوا ... علينا العدا من كل طمل و خامل )
( فعبد مناف أنتم خير قومكم ... فلا تشركوا في أمركم كل واغل )
( لعمري لقد و هنتم و عجزتم ... و جئتم بأمر مخطئ للمفاصل )
( و كنتم حديثا حطب قدر و أنتم ... ألان حطاب أقدر و مراجل )
( ليهن بني عبد مناف عقوقنا ... و خذلاننا و تركنا في المعاقل )
( فإن نك قوما نتئر ما صنعتم ... و تحتلبوها لقحة غير باهل )
( فأبلغ قصيا أن سينشر أمرنا ... و بشر قصيا بعدنا بالتخاذل )
( و لو طرقت ليلا قصيا عظيمة ... إذا ما لجأنا دونهم في المداخل )
( و لو صدقوا ضربا خلال بيوتهم ... لكنا أسى عند النساء المطافل )
( فكل صديق و ابن أخت نعده ... لعمري وجدنا غبه غير طائل )
( سوى أن رهطا من كلاب بن مرة ... براء إلينا من معقة خاذل )
( و نعم ابن أخت القوم غير مكذب ... زهير حساما مفردا من حمائل )
( أشم من الشم البهاليل ينتمي ... إلى حسب في حومة المجد فاضل )
( لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد ... و إخواته دأب المحب المواصل )
( فمن مثله في الناس أي مؤمل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل )
( حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالى إلاها ليس عنه بغافل )
( كريم المساعي ماجد و ابن مجد ... له إرث مجد ثابت غير ناصل )
( و أيده رب العباد بنصره ... و أظهر دينا حقه غير زائل )
( فو الله لولا أن أجئ بسبة ... تجر على أشياخنا في المحافل )
( لكنا تبعناه على كل حالة ... من الدهر جدا غير قول التهازل )
( لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا و لا يعنى بقول الأباطل )
( فأصبح فينا أحمد في أرومة ... تقصر عنها سورة المتطاول )
( حدبت بنفسي دونه و حميته ... و دافعت عنه بالذري و الكلاكل )
قال ابن هشام : هذا ما صح لي من هذه القصيدة و بعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها
قلت : هذه قصيدة عظيمة بليغة جدا لا يستطيع بقولها إلا من نسيت إليه و هي أفحل من المعلقات السبع ! و أبلغ في تأدية المعنى منها جميعها
و قد أوردها الأموي في مغازيه مطولة بزيادات أخر و الله أعلم (1/486)
قال ابن إسحاق : ثم إنهم عدوا على من أسلم و اتبع رسول الله صلى الله عليه و سلم من أصحابه
فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم و يعذبونهم بالضرب و الجوع و العطش و برمضاء مكة إذا اشتد الحر من استضعفوه منهم يفتنونهم عن دينهم
فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبهم و منهم من يصلب لهم و يعصمه الله منهم
فكان بلال مولى أبو بكر لبعض بني جمح مولدا من مولديهم و هو بلال بن رباح و اسم أمه حمامة و كان صادق الإسلام باطن القلب و كان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له : لا و الله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد و تعبد اللات و العزى
فيقول و هو في ذلك : أحد أحد
قال ابن إسحاق : فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال : كان ورقة بن نوفل يمر به و هو يعذب لذلك و هو يقول : أحد أحد فيقول : أحد أحد و الله يا بلال !
ثم يقبل على أمية بن خلف و من يصنع ذلك به من بني جمح فيقول : أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذته حنانا
قلت : قد استشكل بعضهم هذا من جهة أن ورقة توفي بعد البعثة في فترة الوحي و إسلام من أسلم إنما كان بعد نزول { يا أيها المدثر } فكيف يمر ورقة ببلال و هو يعذب ؟ و فيه نظر (1/492)
ثم ذكر ابن إسحاق مرور أبي بكر ببلال و هو يعذب فاشتراه من أمية بعبد له أسود فأعتقه و أراحه من العذاب
و ذكر مشتراه لجماعة ممن أسلم من العبيد و الإماء منهم بلال و عامر بن فهيرة و أم عميس و زنيرة التي أصيب بصرها ثم رده الله تعالى لها
و النهدية و ابنتها اشتراها من بني عبد الدار بعثتهما سيدتهما تطحنان لها فسمعها و هي تقول لهما : و الله لا أعتقكما أبدا فقال أبو بكر : حل يا أم فلان فقالت : حل أنت أفسدتهما فأعتقهما قال : فبكم هما ؟ قالت : بكذا و كذا قال : قد أخذتهما و هما حرتان أرجعا إليها طحينها قالتا : أونفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها قال : [ أو ] ذلك إن شئتما
و اشترى جارية بني مؤمل حي من بني عدي كان عمر يضربها على الإسلام
قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق عن عامر بن عبد الله ابن الزبير عن بعض أهله قال : قال أبو قحافة لابنه أبي بكر : يا بني إني أراك تعتق ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعونك و يقومون دونك
قال : فقال أبو بكر : يا أبت إني إنما أريد ما أريد
قال : فيحدث أنه ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيه و فيما قال أبوه : { فأما من أعطى و اتقى و صدق بالحسنى فسنيسره لليسرى } إلى آخر السورة
و قد تقدم ما رواه الإمام أحمد و ابن ماجة من حديث عاصم بن بهدلة عن زر عن ابن مسعود قال : أول من أظهر الإسلام سبعة : رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر و عمار و أمه سمية و صهيب و بلال و المقداد
فأما رسول الله صلى الله عليه و سلم فمنعه الله بعمه و أبو بكر منعه الله بقومه و أما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد و صهروهم في الشمس فما منهم من أحد إلا و قد واتاهم على ما أردوا إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى و هان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة و هو يقول : أحد أحد
و رواه الثوري عن منصور عن مجاهد مرسلا (1/493)
قال ابن إسحاق : و كانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر و بأبيه و أمه و كانوا أهل بيت إسلام إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة
فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقول ـ فيما بلغني ـ : [ صبرا آل ياسر موعدكم الجنة ]
و قد روى البيهقي عن الحاكم عن إبراهيم بن عصمة العدل حدثنا السري بن خزيمة حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام بن أبي عبيد الله عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر بعمار و أهله و هم يعذبون فقال : [ أبشروا آل عمار و آل ياسر فإن موعدكم الجنة ] فإما أمه فيقتلوها فتأبى إلا الإسلام
و قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد قال : أول شهيد كان في أول الإسلام استشهد : أم عمار سمية طعنها أبو جهل بحربة في قلبها
و هذا مرسل (1/494)
قال محمد ابن إسحاق : و كان أبو جهل الفاسق الذي يغرى بهم في رجال من قريش إن سمع برجل قد أسلم له شرف و منعة أنبه و خزاه و قال : تركت دين أبيك و هو خير منك لنسفهن حلمك و لنفيلن رأيك و لنضعن شرفك و إن كان تاجرا قال : و الله لنكدن تجارتك و لنهلكن مالك و إن كان ضعيفا ضربه و أغرى به لعنه الله و قبحه
قال ابن إسحاق : و حدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير قال : قلت لعبد الله ابن عباس : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟
قال : نعم و الله ! إن كانوا ليضربون أحدهم و يجيعونه و يعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له : اللات و العزى إلهآن من دون الله ؟ فيقول : نعم ! افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم قلت : و في مثل هذا أنزل الله تعالى { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم }
فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة و العذاب البليغ أجارنا الله من ذلك بحوله و قوته (1/495)
و قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسوق عن خباب بن الأرت قال : كنت رجلا قينا و كان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال : لا و الله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت : لا و الله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث قال فإني إذا مت ثم بعثت جئتني و لي ثم مال و ولد فأعطيك ! فأنزل الله تعالى { أفرأيت الذي كفر بآياتنا و قال لأوتين مالا و ولدا } إلى قوله { و بأتينا فردا } أخرجاه في الصحيحين و غيرهما من طرق عن الأعمش به
و في لفظ البخاري : [ كنت قينا بمكة فعلمت للعاص بن و ائل سيفا فجئت أتقصاه ] فذكر الحديث
و قال البخاري [ حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا بيان و إسماعيل قالا : سمعنا قيسا يقول : سمعت خبابا يقول : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم و هو متوسد ببردة و هو في ظل الكعبة و قد لقينا من المشركين شدة فقلت : ألا تدعوا الله ؟
فقعد و هو محمر وجهه فقال : قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه و يوضع المنشار على مفرق رأسه باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه و ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله عز و جل ] زاد بيان [ و الذئب على غنمه ]
و في رواية [ و لكنكم تستعجلون ]
انفرد به البخاري دون مسلم
و قد روى من وجه آخر عن خباب و هو مختصر من هذا و الله أعلم و قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن عن سفيان شعبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب عن خباب قال : شكونا إلى النبي صلى الله عليه و سلم شدة الرمضاء فما أشكانا يعني في الصلاة و قال ابن جعفر : فلم يشكنا
و قال أيضا : حدثنا سليمان بن داود حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت سعيد بن وهب يقول : سمعت خبابا يقول : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الرمضاء فلم يشكنا
قال شعبة : يعني في الظهيرة
و رواه مسلم و النسائي و البيهقي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن وهب عن خباب قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حر الرمضاء
ـ زاد البيهقي : في و جوهنا و أكفنا ـ فلم يشكنا
و في رواية شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الصلاة في الرمضاء فلم يشكنا
و رواه ابن ماجه عن علي بن محمد الطنافسي عن وكيع عن الأعمش عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب العبدي عن خباب قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حر الرمضاء فلم يشكنا
و الذي بقع لي و الله أعلم أن هذا الحديث مختصر من الأول و هو أنهم شكوا إليه صلى الله عليه و سلم ما يلقون من المشركين من التعذيب بحر الرمضاء و أنهم يسحبونهم على وجوههم فيتقون بأكفهم و غير ذلك من أنواع العذاب كما تقدم عن ابن إسحاق و غيره و سألوا منه صلى الله عليه و سلم أن يدعوا الله لهم على المشركين أو يستنص عليهم فوعدهم ذلك و لم ينجزه لهم في الحالة الراهنة و أخبرهم عمن كان قبلهم أهم كانوا يلقون من العذاب ما هو أشد مما أصابهم و لا يصرفهم ذلك عن دينهم و يبشرهم أن الله سيتم هذا الأمر و يظهره و يعلنه و ينشره و ينصره في الأقاليم و الآفاق حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عز و جل و الذئب على غنمه و لكنكم تستعجلون
و لهذا قال : [ شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حر الرمضاء في و جوهنا و أكفنا فلم يشكنا ] أي لم يدع لنا في الساعة الراهنة
فمن أستدل بهذا الحديث على عدم الإبراد أو على وجوب مباشرة المصلي بالكف كما هو أحد قولي الشافعي ففيه نظر و الله أعلم (1/496)
قال إسحاق بن راهويه : حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا قال : لم ؟ قال : ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله !
قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا
قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له
قال : و ماذا أقول ؟ فو الله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني و لا أعلم برجزه و لا بقصيده مني و لا بأشعار الجن و الله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا و و الله إن لقوله الذي يقوله حلاوة و إن عليه لطلاوة و إنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله و إنه ليعلو و لا يعلى و إنه ليحطم ما تحته
قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه
قال : قف عني حتى أفكر فيه
فلمل فكر قال : إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت { ذرني و من خلقت وحيدا و جعلت له مالا ممدودا و بنين شهودا } الآيات
هكذا رواه البيهقي عن الحاكم عن عبد الله بن محمد الصنعاني بمكة عن إسحاق به و قد رواه أحمد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلا فيه أنه قرأ عليه { إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون } (1/498)
و قال البيهقي : عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع و نفر من قريش و كان ذا سن فيهم و قد حضر الموسم فقال : إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه و قد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا و لا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا و يرد قول بعضكم بعضا
فقيل : يا أبا عبد شمس فقل و أقم لنا رأيا نقوم به
فقال : بل أنتم فقولوا و أنا أسمع فقالوا : نقول كاهن
فقال : ما هو بكاهن رأيت الكهان فما بزمزة الكهان فقالوا : نقول مجنون فقال : ما هو بمجنون و لقد رأينا الجنون و عرفناه فما هو بخنقه و لا تخالجه و لا وسوسته فقالوا : نقول شاعر فقال : ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر برجزه و هزجه و قريضه و مقبوضه و مبسوطه فما هو بالشعر قالوا : فنقول هو ساحر قال : ما هو بساحر قد رأينا السحار فما هو بنفثه و لا بعقده
قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ؟
قال : و الله إن لقوله لحلاوة و إن أصله لعذق و إن فرعه لجنى فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل و إن أقرب القول أن تقولوا : هذا ساحر فتقولوا هو ساحر يفرق بين المرء و دينه و بين المرء و أبيه و بين المرء و زوجته و بين المرء و أخيه و بين المرء و عشيرته
فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه و ذكروا لهم أمره
و أنزل الله في الوليد { ذرني ومن خلقت وحيدا و جعلت له مالا ممدودا و بنين شهودا } الآيات و في أولئك النفر الذين جعلوا القرآن عضين : { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون }
قلت : و في ذلك قال الله تعالى إخبارا عن جهلهم و قلة عقولهم : { بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } فحاروا ماذا يقولون فيه فكل شيء يقولونه باطل لأن من خرج عن الحق مهما قاله أخطأ قال الله تعالى : { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } (1/499)
و قال الإمام عبد بن حميد في مسنده : حدثني أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا علي ابن مسهر عن الأجلح هو ابن عبد الله الكندي عن الذبال بن حرملة الأسدي عن جابر بن عبد الله قال : اجتمع قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر و الكهانة و الشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا و شتت أمرنا و عاب ديننا فليكلمه و لينظر ماذا يرد عليه
فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة فقالوا : أنت يا أبا الوليد
فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم
فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت و إن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك إنا و الله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك فرقت جماعتنا و شتت أمرنا و عبت ديننا و فضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن قريش ساحرا و أن في قريش كاهنا و الله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى أيها الرجل ! كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا و إن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فرغت ؟ ] قال : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ { بسم الله الرحمن الرحيم حم تنويل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون } إلى أن بلغ { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود } ]
فقال عنبة : حسبك ما عندك غير هذا ؟ قال : [ لا ]
فرجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك ؟ قال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته
قالوا : فهل أجابك ؟ فقال : نعم ثم قال : لا و الذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود
قالوا : و يلك ! يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال ؟
قال : لا و الله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة
و قد رواه البيهقي و غيره عن الحاكم عن الأصم عن عباس الدوري عن يحيى بن معين عن محمد بن فضيل عن الأجلح به و فيه كلام
و زاد : و إن كنت إنما بك رياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت راسا ما بقيت
و عنده أنه لما قال : [ { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود } ]
أمسك عتبة على فيه و ناشده الرحم أن يكف عنه و لم يخرج إلى أهله و احتبس عنهم
فقال أبو جهل : و الله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا صبا إلى محمد و أعجبه طعامه و ما ذاك إلا من حاجة أصابته انطلقوا بنا إليه فأتوه
فقال أبو جهل : و الله يا عتبة ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد و أعجبك أمره فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد فغضب و أقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا و قال : لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا و لكني أتيته و قص عليهم القصة فأجابني بشيء و الله ما هو بسحر و لا بشعر و لا كهانة قرأ { بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم } حتى بلغ { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود } فأمسكت بفيه و ناشدته الرحم أن يكف و قد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب (1/501)
ثم قال البيهقي : عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس عن محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن أبي مولى بني هاشم عن محمد بن كعب قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة و كان سيدا حليما قال ذات يوم و هو جالس في نادي قريش و رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس وحده في المسجد : يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها و يكف عنا
قالوا : بلى يا أبا الوليد !
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر الحديث فيما قال له عتبة و فيما عرض على رسول الله صلى الله عليه و سلم من المال و الملك و غير ذلك
و قال زياد بن إسحاق : فقال عتبة : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه و أعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها و يكف عنا و ذلك حين أسلم حمزة و رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يزيدون و يكثرون
فقالوا : بلى يا أبا الوليد فقم إليه و كلمه
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السطة في العشيرة و المكان في النسب و إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت جماعتهم و سفهت به أحلامهم و عبت به آلهتهم و دينهم و كفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني حتى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها
قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا أبا الوليد أسمع ]
قال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا و إن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك و إن كنت تريد ملكا ملكناك علينا و إن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب و بذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه أو كما قال له
حتى إذا فرغ عتبة قال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفرغت يا أبا الوليد ؟ ]
قال : نعم قال : [ اسمع مني ] قال : أفعل
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ { حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون } فمضى رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرؤها ] فلما سمع بها عتبة أنصت لها و ألقى بيده خلفه أو خلف ظهره معتمدا عليهما ليسمع منه
حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى السجدة فسجدها ثم قال : [ سمعت يا أبا الوليد ؟ ] قال : سمعت قال : [ فأنت و ذاك ]
ثم قام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به
فلما جلسوا إليه قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال : ورائي أني و الله قد سمعت قولا ما سمعت مثله قط و الله ما هو بالشعر و لا الكهانة يا معشر قريش أطيعوني و اجعلوها بي خلوا بين هذا الرجل و بين ما هو فيه و اعتزلوه فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم و إن يظهر على العرب فملكه ملككم و عزه عزكم و كنتم أسعد الناس به
قالوا : سحرك و الله يا أبا الوليد بلسانه
قال : هذا رأيي لكم فا صنعوا ما بدا لكم
ثم ذكر يونس عن ابن إسحاق شعرا قاله أبو طالب يمدح فيه عتبة (1/503)
و قال البيهقي : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني أخبرنا أبو قتيبة سلمة ابن الفضل الأدمي بمكة حدثنا أبو أيوب أحمد بن بشر الطيالسي حدثنا داود بن عمرو الضبي حدثنا المثنى بن زرعة عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال : لما قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم على عتبة بن ربيعة { حم تنزيل من الرحمن الرحيم } أتى أصحابه فقال لهم : يا قوم أطيعوني في هذا الأمر اليوم و اعصوني فيما بعده فو الله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي كلاما مثله و ما دريت ما أردعليه
و هذا حديث غريب جدا من هذا الوجه
ثم روى البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس عن ابن إسحاق حدثني الزهري قال : حدثت أن أبا جهل و أبا سفيان و الأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يصلي بالليل في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع منه و كل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا و طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا و قال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلوا رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا
فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقالوا : لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : يا أبا ثعلبة و الله لقد سمعت أشياء أعرفها و أعرف ما يراد بها و أشياء لا أعرفها و لا أعرف ما يراد بها فقال الأخنس : و أنا و الذي حلفت به (1/505)
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال : ماذا سمعت ؟ ! تنازعنا نحن و بنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا و حملوا فحملنا و أعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب و كنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ! فمتى ندرك هذه ! و الله لا نسمع به أبدا و لا نصدقه فقام عنه الأخنس بن شريق
ثم قال البيهقي : [ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس حدثنا أحمد حدثنا يونس عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن المغيرة بن شعبة قال : إن أول يوم عرفت رسول الله صلى الله عليه و سلم أني أمشي أنا و أبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي جهل : يا أبا الحكم هلم إلى الله و إلى رسوله أدعوك إلى الله
فقال أبو جهل : يا محمد هل أنت منته عن سب آلهتنا ؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت ؟ فنحن نشهد أنك قد بلغت فو الله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك
فانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقبل علي فقال : و الله إني لأعلم أن ما يقول حق و لكن يمنعني شيء إن بني قصي قالوا : فينا الحجابة فقلنا : نعم ثم قالوا فينا السقاية فقلنا : نعم ثم قالوا فينا الندوة فقلنا : نعم ثم قالوا : فينا اللواء فقلنا : نعم ثم أطعموا و أطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا : منا نبي ! و الله لا أفعل ] (1/506)
و قال البيهقي : [ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم حدثنا محمد بن خالد حدثنا أحمد بن خلف حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال : مر النبي صلى الله عليه و سلم على أبي جهل و أبي سفيان و هما جالسان فقال أبو جهل : هذا نبيكم يا بني عبد شمس قال أبو سفيان : و تعجب أن يكون منا نبي ! فالنبي يكون فيمن أقل منا و أذل
فقال أبو جهل : أعجب أن يخرج من بين شيوخ نبيا !
و رسول الله صلى الله عليه و سلم يسمع فأتاهما فقال : أما أنت يا أبا سفيان فما لله و رسوله غضبت و لكنك حميت للأصل و أما أنت يا أبا الحكم فو الله لتضحكن قليلا و لتبكين كثيرا فقال : بئسما تعدني يا بن أخي من نبوتك ]
هذا مرسل من هذا الوجه و فيه غرابة و قول أبي جهل لعنه الله كما قال الله تعالى مخبرا عنه و عن أضرابه { و إذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا ؟ إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها و سوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا } (1/507)
و قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية و رسول الله صلى الله عليه و سلم متوار بمكة { و لا تجهر بصلاتك و لا تخافت بها }
قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن و سبوا من أنزله و من جاء به قال : فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه و سلم { و لا تجهر بصلاتك } أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن { و لا تخافت بها } عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك { و ابتغ بين ذلك سبيلا }
و هكذا رواه صاحبا الصحيح من حديث أبي بشر جعفر بن أبي حية به
و قال محمد بن إسحاق : حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا جهر بالقرآن و هو يصلي تفرقوا عنه و أبوا أن يستمعوا منه و كان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم بعض ما يتلو و هو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يستمع فإن خفض رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا فأنزل الله تعالى { و لا تجهر بصلاتك } فيتفرقوا عنك { و لا تخافت بها } فلا يسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك لعله يرعوى إلى بعض ما يسمع فينتفع به { و ابتغ بين ذلك سبيلا }
إلى هنا ينتهي الجزء الأول من السيرة النبوية لابن كثير
و يليه الجزء الثاني و أوله باب الهجرة إلى الحبشة (1/508)
قد تقدم ذكر أذية المشركين للمستضعفين من المؤمنين و ما كانوا يعاملونهم به من الضرب الشديد و الإهانة البالغة
و كان الله عز و جل قد حجرهم عن رسوله صلى الله عليه و سلم و منعه بعمه أبي طالب
كما تقدم تفصيله و لله الحمد و المنة (2/3)
و روى الواقدي أن خروجهم إليها في رجب سنة خمس من البعثة و أن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا و أربع نسوة و أنهم انتهوا إلى البحر ما بين ماش و راكب فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة (2/3)
وهم : عثمان بن عفان و امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو حذيفة بن عتبة و امرأته سهلة بنت سهيل و الزبير بن العوام و مصعب بن عمير و عبد الرحمن بن عوف و أبو سلمة بن عبد الأسد و امرأته أم سلمة بنت أبي أمية و عثمان بن مظعون و عامر بن ربيعة العنزى و امرأته ليلى بنت أبى حثمة و أبو سبرة بن أبي رهم و حاطب بن عمرو و سهيل بن بيضاء و عبد الله بن مسعود رضى الله عنهم أجمعين
قال ابن جرير : و قال آخرون : بل كانوا اثنين و ثمانين رجلا سوى نسائهم و أبائهم و عمار بن ياسر شك فإن كان فيهم فقد كانوا ثلاثة و ثمانون رجلا (2/3)
و قال محمد بن إسحاق : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يصيب أصحابه من البلاء و ما هو فيه من العافية بمكانة من الله عز و جل و من عمه أبى طالب و أنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد و هي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة و فرار إلى الله بدينهم
فكانت أول هجرة كانت في الإسلام (2/4)
فكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان و زوجته رقيه بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم
و كذا روى البيهقي من حديث يعقوب بن سفيان عن عباس العنبري عن بشر بن موسى عن الحسن بن زياد البرجمي حدثنا قتادة قال : أول من هاجر إلى الله تعالى بأهله عثمان بن عفان رضي الله عنه
سمعت النضر بن أنس يقول سمعت أبا حمزة يعني أنس بن مالك يقول : خرج عثمان بن عفان و معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أرض الحبشة فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه و سلم خبرهما فقدمت امرأة من قريش فقالت : يا محمد قد رأيت ختنك و معه امرأته : قال : على أي حال رأيتيهما ؟
قالت : رأيته قد حمل امرأته على حمار من هذه الدبابه و هو يسوقها
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صحبهما الله ! إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام
قال ابن إسحاق : و أبو حذيفة بن عتبه و زوجته سهله بنت سهيل بن عمرو و ولدت له بالحبشة محمد بن أبي حذيفة
الزبير بن العوام و مصعب بن عمير و عبدالرحمن بن عوف و أبو سلمة بن عبد الأسد و امرأته بنت أبي أمية بن المغيرة و ولدت له بها زينب
و عثمان بن مظعون و عامر بن ربيعة حليف آل الخطاب و هو من بنى عنز بن وائل و امرأته ليلى بنت أبي حثمة و أبو سبرة بن أبي رهم العامري و امرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو و يقال أبو حاطب بن عمرو بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر و هو أول من قدمها فيما قيل و سهيل بيضاء
فهؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة فيما بلغني
قال ابن هشام : و كان عليهم عثمان بن مظعون فيما ذكر بعض أهل العلم
قال ابن إسحاق : ثم حرج جعفر بن أبي طالب و معه امرأته أسماء بنت عميس و ولدت له بها عبد الله بن جعفر
و تتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة (2/4)
وقد زعم موسى بن عقبة أن الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة كانت حين دخل أبو طالب و من حالفه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الشعب
و في هذا نظر و الله أعلم
و زعم أن خروج جعفر بن أبي طالب إنما كان في الهجرة الثانية إليها و ذلك بعد عود بعض من كان خرج أولا حين بلغهم أن المشركين أسلموا و صلوا فلما قدموا مكة و كان فيمن قدم عثمان بن مظعون فلم يجدوا ما أخبروا به من إسلام المشركين صحيحا فرجع منهم و مكث آخرون بمكة و خرج آخرون من المسلمين إلى أرض الحبشة و هي الهجرة الثانية كما سيأتي بيانه
قال موسى بن عقبة : و كان جعفر بن أبي طالب فيمن خرج ثانيا
و ما ذكره ابن إسحاق من خروجه في الرعيل الأول أظهر كما سيأتي بيانه
و الله أعلم
لكنه كان في زمرة ثانية من المهاجرين أولا و هو المقدم عليهم و المترجم عنهم عند النجاشي و غيره كما سنورده مبسوطا (2/5)
ثم إن ابن إسحاق سرد الخارجين صحبة جعفر رضي الله عنهم
و هم : عمرو بن العاص و امرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرث ابن شق الكناني
و أخوه خالد و امرأته أمينة بنت خلف بن أسعد الخزاعي و ولدت له بها سعيدا و أمه التي تزوجها بعد ذلك الزبير فولدت له عمرا و خالدا
قال : و عبد الله بن جحش بن رئاب و أخوه عبيد الله و معه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان
و قيس بن عبد الله من بني أسد بن خزيمة و امرأته بركة بنت يسار مولاة أبي سفيان
و معيقيب بن أبي فاطمة و هو من موالي سعيد بن العاص قال ابن هشام : و هو من دوس
قال : و أبو موسى الشعري عبد الله بن قيس حليف آل عتبة بن ربيعة و سنتكلم معه في هذا
و عتبة بن غزوان و يزيد بن زمعة بن الأسود و عمر بن أمية بن الحارث بن أسد و طليب بن عمير بن وهب بن أبي كثير بن عبد و سويبط بن سعد بن حريملة و جهم بن قيس العبدوي و معه امرأته أم حرملة بنت عبد الأسود بن خزيمة و ولداه عمرو بن جهم و أبو الروم بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار و فراس بن النضر بن الحارث بن كلدة و عامر بن أبي وقاص أخو سعد و المطلب بن أزهر بن عبد عوف الزهر ي و امرأته رملة بنت أبي عوف بن ضبيرة و ولدت بها عبد الله
و عبد الله بن مسعود و أخوه عتبة و المقداد بن الأسود و الحارث بن خالد بن صخر التيمي و امرأته ربطة بنت الحارث بن جبيلة و ولدت له بها موسى و عائشة و زينب و فاطمة
و عمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة و شماس بن عثمان بن الشريد المخزومي قال : و إنما سمي شماسا لحسنه و أصل اسمه عثمان بن عثمان
و هبار بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي و أخوه عبد الله و هشام بن أبي حذيفة ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم و سلمة بن هشام بن المغيرة و عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة و معتب بن عوف بن عامر و يقال له عيهامة و هو من حلفاء بني مخزوم
قال : و قدامة و عبد الله أخوا عثمان بن مظعون و السائب بن عثمان بن مظعون و حاطب بن الحارث بن معمر و معه امرأته فاطمة بنت المجلل و ابناه منها محمد و الحارث و أخوه خطاب و امرأته فكيهة بنت يسار و سفيان بن معمر بن حبيب و امرأته حسنة و ابناه منها جابر و جنادة و ابنها من غيره و هو شرحبيل بن عبد الله أحد الغوث بن مزاحم بن تميم و هو الذي يقال شرحبيل بن حسنة
وعثمان بن ربيعة بن أهبان بن و هب بن حذافة بن جمح وخنيس بن حذافة بن قيس بن عدي و عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم و هشام بن العاص بن وائل بن سعيد و قيس بن حذافة بن قيس بن عدي و أخوه عبد الله
و أبو قيس بن الحارث بن قيس بن عدي و إخوته : الحارث و معمر و السائب و بشر و سعيد أبناء الحارث و أخو سعيد بن قيس بن عدي لمه و هو سعيد بن عمرو التميمي
و عمير بن رئاب بن حذيفة بن مهشم بن سعيد بن سهم و حليف لبني سهم و هو محمية بن جزء الزبيدي و معمر بن عبد الله العدوي و عروة بن عبد العزى وعدي بن نضلة بن عبد العزى و ابنه النعمان وعبد الله بن مخرمة العامري و عبد الله بن سهيل ابن عمرو و سليط بن عمر و أخوه السكران و معه زوجته سودة بنت زمعة و مالك بن ربيعة و امرأته عمرة بنت السعدي و أبو حاطب بن عمرو العامري و حليفهم سعد بن خولة و هو من اليمن
و أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري و سهيل بن بيضاء : و هي أمه و اسمها دعد بنت جحدم بن أمية بن ظرب بن الحارث بن فهر و هو سهيل بن وهب ابن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة و عمرو بن أبي سرح بن ربيعة بن هلال بن أ هيب بن مالك بن ضبة بن الحارث و عياض بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة و عمرو بن الحارث بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة و عثمان بن عبد غنم بن زهير أخوان و سعيد بن عبد قيس بن لقيط و أخوه الحارث الفهريون (2/6)
قال ابن إسحاق : فكان جميع من لحق بأرض الحبشة و هاجر إليها من المسلمين سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم
صغارا أو ولدوا بها : ثلاثة و ثمانين رجلا إن كان عمار ابن ياسر و هو يشك فيه
قلت : و ذكر ابن إسحق أبا موسى الأشعري فيمن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة غريب جدا
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى سمعت حديجا أخا زهير بن معاوية عن أبي إسحق عن عبد الله بن
عتبة عن ابن مسعود قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى النجاشي و نحن نحو من ثمانين رجلا فيهم
عبد الله بن مسعود و جعفر و عبد الله بن عرفطة و عثمان بن مظعون و أبو موسى فأتوا النجاشي
و بعثت قريش عمرو بن العاص و عمارة بن الوليد بهدية
فلما دخل على النجاشي سجدا له ثم ابتدراه عن يمينه و عن شماله ثم قالا له : إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك و
رغبوا عنا و عن ملتنا
قال : فأين هم ؟ قالا : في أرضك فابعث إليهم
فبعث إليهم فقال جعفر : أنا خطيبكم اليوم فاتبعوه
فسلم و لم يسجد فقالوا له : مالك لا تسجد للملك ؟
قال : إنا لا نسجد إلا لله عز و جل
قال : و ما ذاك ؟
قال : إن الله بعث إلينا رسولا ثم أمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز و جل و أمرنا بالصلاة و الزكاة
قال عمرو : فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم
قال : فما تقولون في عيسى ابن مريم و أمه
قال : نقول كما قال الله : هو كلمته و روحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر و لم يفرضها ولد
قال : فرفع عودا من الأرض ثم قال : يا معشر الحبشة و القسيسين و الرهبان و الله ما يزيدون على الذي نقول فيه
ما سوى هذا مرحبا بكم و بمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول الله و أنه الذي نجد في الإنجيل و أنه الرسول الذي
بشر به عيسى ابن مريم انزلوا حيث شئتم و الله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه !
و أمر بهدية الآخرين فردت إليهما
ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرا
و زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم استغفر له حين بلغه موته
و هذا إسناد جيد قوي و سياق حسن و فيه ما يقتضي أن أبا موسى كان فيمن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة إن لم
يكن مدرجا من بعض الرواة و الله أعلم (2/9)
وقد روى عن أبي إسحق السبيعي من وجه آخر
فقال الحافظ أبو نعيم في الدلائل : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن زكريا الغلابي حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل
و حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن ذكريا حدثنا الحسن بن علوية القطان حدثنا عباد بن موسى الختلى حدثنا إسماعيل بن جعفر حدثنا إسرائيل
و حدثنا أبو أحمد حدثنا عبد الله بن محمد بن شيروية حدثنا إسحق بن إبراهيم هو ابن راهوبه حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن أبي إسحق عن أبي بردة عن أبي موسى قال :
أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي
فبلغ ذلك قريشا فبعثوا عمرو بن العاص و عمار بن الوليد و جمعوا للنجاشي هدية
وقدما على النجاشي فأتياه بالهدية فقبلها و سجدا له
ثم قال عمرو بن العاص : إن ناسا من أرضنا رغبوا عن ديننا و هم في أرضك قال لهم النجاشي : في أرضى ؟ !
قالا : نعم فبعث إلينا فقال لنا جعفر : لا يتكلم منكم أحد أنا خطيبكم اليوم
فانتهينا إلى النجاشي و هو جالس في مجلسه و عمرو بن العاص عن يمينه و عمارة عن يساره والقسيسون جلوس سماطين و قد قال له عمرو و عمارة : إنهم لا يسجدون لك
فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين و الرهبان : اسجدوا للملك
فقال جعفر : لا نسجد إلا لله عز و جل
فلما انتهينا إلى النجاشي قال : ما منعك أن تسجد ؟
قال : لا نسجد إلا لله
فقال له النجاشي : و ما ذاك ؟
قال : إن الله بعث فينا رسولا و هو الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم عليه الصلاة و السلام من بعده اسمه أحمد فأمرنا أن نعبد الله و لا نشرك به شيئا و نقيم الصلاة و نؤتي الزكاة و أمرنا بالمعروف و نهانا عن المنكر
فأعجب النجاشي قوله
فلما رأى ذلك عمرو بن العاص قال : أصلح الله الملك إنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم
فقال النجاشي لجعفر : ما يقول صاحبكم في ابن مريم
قال : يقول فيه قول الله هو روح الله و كلمته أخرجه من العذراء البتول التي لم يقربها بشر و لم يفرضها ولد
فتناول النجاشي عودا من الأرض فرفعه فقال : يا معشر القسيسين و الرهبان : ما يزيدون هؤلاء على ما نقول في ابن مريم و لا وزن هذه
مرحبا بكم و بمن جئتم من عنده فأنا أشهد أنه رسول الله و أنه الذي بشر به عيسى و لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعليه امكثوا في أرضي ما شئتم و أمر لنا بطعام و كسوة و قال : ردوا على هذين هديتهما
و كان عمرو بن العاص رجلا قصيرا و كان عمارة رجلا جميلا و كانا أقبلا في البحر فشربا و مع عمرو امرأته فلما شربا قال عمارة لعمرو : مر امرأتك فلتقبلني فقال له عمرو : ألا تستحي ! فأخذ عمارة عمرا فرمى به في البحر فجعل عمرو يناشد عمارة حتى أدخله السفينة
فحقد عليه عمرو في ذلك فقال عمرو للنجاشي : إنك إذا خرجت خلفك عمارة في أهلك فدعا النجاشي بعمارة فنفخ في إحليله فطار مع الوحش
و هكذا رواه الحافظ البيهقي في الدلائل عن طريق أبى على الحسن بن سلام السواق عن عبيد الله بن موسى فذكر بإسناده مثله إلى قوله : فأمر لنا بطعام و كسوة (2/11)
قال : و هذا إسناد صحيح و ظاهره يدل على أن أبا موسى كان بمكة و أنه خرج مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة
و الصحيح عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة عن أبي موسى : إنهم بلغهم مخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و هم باليمين فخرجوا مهاجرين في بضع و خمسين رجلا في سفينة فألقتهم سفينتهم إلى النجاشي بأرض الحبشة فوافقوا جعفر بن أبي طالب و أصحابه عندهم فأمره جعفر بالإقامة فأقاموا عنده حتى قدموا عنده حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم زمن خبير
قال : و أبو موسى شهد ما جرى بين جعفر و بين النجاشي فأخبر عنه
قال : و لعل الراوي و هم في قوله : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ننطلق ) والله أعلم
و هكذا رواه البخاري في باب هجرة الحبشة : حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة حدثنا بريد بن عبد الله عن أبى بردة عن أبى موسى قال : بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه و سلم و نحن باليمن فركبنا سفينة فألقتنا سفننا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فأقمنا معه حتى قدمنا فوافينا النبي صلى الله عليه و سلم حين افتتح خيبر فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ ( لكم أنتم أهل السفينة هجرتان ) ] و هكذا رواه مسلم عن أبي كريب و أبي عامر عبد الله بن براد كلاهما عن أبي أسامة به و روياه في مواضع أخر مطولا والله أعلم (2/13)
و أما قصة جعفر مع النجاشي فإن الحافظ ابن عساكر رواها في ترجمة جعفر بن أبي طالب من تاريخه من رواية نفسه من رواية عمرو بن العاص و على يديهما جرى الحديث و من رواية ابن مسعود كما تقدم و أم سلمة كما سيأتي (2/14)
فأما رواية جعفر فإنها عزيزة جدا رواها ابن عساكر عن أبي القاسم السمرقندي عن أبي طاهر المخلص قال : حدثنا أبو عبد الرحمن الجعفي عن عمر بن أبان ن حدثنا أسد بن عمرو البجلي عن مجلد بن سعيد عن الشعبي عن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال :
بعثت قريش عمرو بن العاص و عمارة بن الوليد بهدية من أبي سفيان إلى النجاشي فقالوا له و نحن عنده : قد صار إليك ناس من سفلتنا و سفهائنا فادفعهم إلينا
قال : لا حتى أسمع كلامهم
قال : فبعث إلينا فقال : ما يقول هؤلاء ؟
قال : قلنا هؤلاء قوم يعبدون الأوثان و إن الله بعث إلينا رسولا فآمنا به و صدقناه
قال لهم النجاشي : أعبيد هم لكم ؟ قالوا : لا فقال فلكم عليهم دين ؟
قالوا : لا
قال : فخلوا سبيلهم قال : فخرجنا من عنده فقال عمرو بن العاص : إن هؤلاء يقولون في عيسى غير ما تقول
قال : إن لم يقولون في عيسى مثل قولي لم أدعهم في أرضي ساعة من نهار
فأرسل إلينا فكانت الدعوة الثانية أشد علينا من الأولى
قال : ما يقول صاحبكم في عيسى ابن مريم ؟
قلنا : يقول : هو روح الله و كلمته ألقاها إلى عذراء بتول
قال : فأرسل فقال : ادعوا لي فلان القس و فلان الراهب فأتاه ناس منهم فقال : ما تقولون في عيسى ابن مريم ؟ فقالوا : أنت أعلمنا فما تقول ؟
قال النجاشي و أخذ شيئا من الأرض قال : ما عدا عيسى ما قال هؤلاء مثل هذا
ثم قال : أيؤذيكم أحد ؟ قالوا : نعم
فنادى مناد : من آذى أحدا منهم فأغرموه أربعة دراهم ثم قال : أيكفيكم ؟ قلنا : لا فأضعفها
قال : فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و ظهر بها قلنا له : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد ظهر و هاجر إلى المدينة و قتل الذين كنا حدثناك عنهم و قد أردنا الرحيل إليه فردنا
قال : نعم فحملنا و زودنا ثم قال : أخبر صاحبك بما صنعت إليكم و هذا صاحبي معكم أشهد أن لا إله إلا الله و أنه رسول الله و قل له يستغفر لي
قال جعفر : فخرجنا حتى أتينا المدينة فتلقاني رسول الله صلى الله عليه و سلم و اعتنقني ثم قال : ما أدري أنا بفتح خيبر أفرح أم بقدوم جعفر !
و وافق ذلك فتح خيبر ثم جلس فقال رسول النجاشي : هذا جعفر فسله ما صنع به صاحبنا
فقال : نعم فعل بنا كذا و كذا و حملنا و زودنا و شهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله و قال لي : قل له يستغفر لي فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فتوضأ ثم دعا ثلاث مرات : اللهم اغفر للنجاشي فقال المسلمون : آمين ثم قال جعفر : فقلت للرسول : انطلق فأخبر صاحبك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم قال ابن عساكر : حسن غريب (2/15)
و أما رواية أم سلمة فقد قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحق حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : لما ضاقت مكة و أوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و فتنوا و رأوا ما يصيبهم من البلاء و الفتنة في دينهم و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم و كان رسول الله في منعة من قومه و من عمه لا يصل إليه شئ مما يكره و مما ينال أصحابه [ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا و مخرجا مما أنتم فيه ]
فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا ولم نخش فيها ظلما
فلما رأت قريش أنا قد أصبنا دارا و أمنا غاروا منا فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا ليخرجنا من بلاده و ليردنا عليهم
فبعثوا عمرو بن العاص و عبد الله بن أبي ربيعة فجمعوا له هدايا ولبطارقته فلم يدعوا منهم رجلا إلا هيأوا له هدية على حدة و قالوا لهما : ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلموا فيهم ثم ادفعوا إليه هداياه فإن استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا فقدما عليه فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته فكلموه فقالوا له : إنما قدمنا على هذا الملك في سفهائنا فارقوا أقوامهم في دينهم و لم يدخلوا دينكم
فبعثنا قومهم ليردهم الملك عليهم فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل
فقالوا نفعل
ثم قدموا إلى النجاشي هداياه و كان من أحب ما يهتدون إليه من مكة الدم و ذكر موسى بن عقبة أنهم أهدوا إليه فرسا وجبة ديباج
فلما أدخلوا عليه هداياه قالوا له : أيها الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم و لم يدخلوا في دينك و جاءوا بدين مبتدع لا نعرفه و قد لجأوا إلى بلادك و قد بعثنا إليك فيهم عشائرهم آباؤهم و أعمامهم و قومهم لتردهم عليهم فإنهم أعلى بهم عينا فإنهم لن يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك
فغضب ثم قال : لا لعمر الله ! لا أردهم عليهم حتى أدعوهم فأكلمهم و أنظر ما أمرهم قوم لجأوا إلى بلادي و اختاروا جواري على جوار غيري فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم و إن كانوا على غير ذلك منعتهم و لم أدخل بينهم و بينهم و لم أنعم عينا
و ذكر موسى بن عقبة أن أمراءه أشاروا عليه بأن يردهم إليهم فقال : لا و الله حتى أسمع كلامهم و أعلم على أي شئ هم عليه
فلما دخلوا عليه سلموا و لم يسجدوا له فقال : أيها الرهط ألا تحدثوني مالكم لا تحيوني كما يحييني من أتانا من قومكم ؟ ! فأخبروني ماذا تقولون في عيسى و ما دينكم ؟
أنصاري أنتم ؟
قالوا : لا
قال : أفيهود أنتم ؟ قالوا : لا
قال : فعلى دين قومكم ؟
قالوا : لا
قال : فما دينكم ؟
قالوا : الإسلام
قال : و ما الإسلام ؟
قالوا نعبد الله لا نشرك به شيئا قال : من جاءكم بهذا ؟
قالوا جاءنا به رجل من أنفسنا قد عرفنا وجهه و نسبه بعثه الله إلينا كما بعث الرسل إلى من قبلنا فأمرنا بالبر و الصدقة و الوفاء و أداء الأمانة و نهانا أن نعبد الأوثان و أمرنا بعبادة الله وحده لا شريك له فصدقناه و عرفنا كلام الله و علمنا أن الذي جاء به من عند الله فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا و عادوا النبي الصادق و كذبوه و أرادوا قتله و أرادونا على عبادة الأوثان ففررنا إليك بديننا و دمائنا من قومنا
قال : و الله إن هذا لمن المشكاة التي خرج منها أمر موسى قال جعفر : و أما التحية : فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام و أمرنا بذلك فحييناك بالذي يحي بعضنا بعضا
و أما عيسى ابن مريم فعبد الله و رسوله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه و ابن العذراء البتول
فأخذ عودا و قال : و الله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود
فقال عظماء الحبشة : و الله لئن سمعت الحبشة لتخلعنك
فقال : و الله لا أقول في عيسى غير هذا أبدأ و ما أطاع الله الناس في حين رد على ملكي فأطبع الناس في دين الله معاذ الله من ذلك
و قال يونس عن ابن إسحاق : فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم و لم يكن شئ أبغض لعمرو بن العاص و عبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا : ماذا تقولون ؟
فقالوا : و ماذا تقول ! نقول و الله ما نعرف و ما نحن عليه من أمر ديننا و ما جاء به نبينا صلى الله عليه و سلم كائن من ذلك ما كان
قلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه
فقال له النجاشي : ما هذا الدين الذي أنتم عليه ؟ فارقتم دين قومكم و لم تدخلوا في يهودية و لا نصرانية
فقال له جعفر : أيها الملك كنا قوما على الشرك نعبد الأوثان و نأكل الميتة و نسئ الجوار يستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء و غيرها لانحل شيئا و لا نحرمه فبعث الله إ لينا نبيا من أنفسنا نعرف وفاءه و صدقه أما نته فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له ونصل الأرحام و نحمى الجوار و نصلى لله عز و جل و نصوم له و لا نعبد غيره
و قال زياد عن ابن إسحاق : فدعانا إلى الله لنوحده و نعبده و نخلع ما كنا نعبد نحن و آباؤنا من دونه من الحجارة و الأوثان و أمرنا بصدق الحديث و أداء الأمانة و صلة الأرحام و حسن الجوار و الكف عن المحارم و الدماء و نهانا عن الفواحش و قول الزور و أكل مال اليتيم و قذف المحصنة و أمرنا أن نعبد الله و لا نشرك به شيئا و أمرنا بالصلاة و الزكاة و الصيام
قال : فعدد عليه أمور الإسلام فصدقناه و آمنا به و اتبعناه على ما جاء به من عند الله فعبدنا الله وحده لا شريك له و لم نشرك به شيئا و حرمنا ما حرم علينا و أحللنا ما أحل لنا فعدا علينا قومنا فعذبونا ليفتنونا عن ديننا و يردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله و أن نستحل من الخبائث فلما قهرونا و ظلمونا و ضيقوا علينا و حالوا بيننا و بين ديننا خرجنا إلى بلادك و اخترنا ك على من سواك و رغبنا في جوارك و رجونا ألا نظلم عندك أيها الملك
قالت : فقال النجاشي : هل معك شئ مما جاء به ؟
فقرأ عليه صدرا من كهيعص فبكى و الله النجاشي حتى أخضلت لحيته و بكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم
ثم قال : إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى انطلقوا راشدين لا و الله لا أردهم عليكم و لا أنعمكم عينا
فخرجنا من عنده و كان أبقى الرجلين فينا عبد الله بن ربيعة فقال عمرو بن العاص : و الله لآتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم و لأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد !
فقال له عبد الله بن ربيعة : لا تفعل فإنهم و إن كانوا خالفونا فإن لهم رحما و لهم حقا
فقال و الله لأفعلن
فلما كان الغد دخل عليه فقال : أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما فأرسل إليهم فسلهم عنه
فبعث و الله إليهم و لم ينزل بنا مثلها
فقال بعضنا لبعض : ماذا تقولون له في عيسى إن هو يسألكم عنه ؟
فقالوا : نقول و الله الذي قاله فيه و الذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه
فدخلوا عليه و عنده بطارقته فقال : ما تقولون في عيسى ابن مريم ؟ فقال له جعفر : هو عبد الله و رسوله و روحه و كلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول
فدلى النجاشي يده إلى الأرض فأخذ عودا بين إصبعيه فقال : ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العويد
فتناخرت بطارقته فقال : و إن تناخرتم و الله ! اذهبوا فأنتم شيوم في الأرض
الشيوم : الآمنون في الأرض من سبكم غرم من سبكم غرم من سبكم غرم ثلاثا ما أحب أن لي دبرا وأني آذيت رجلا منكم و الدبر بلسانهم : الذهب
و قال زياد عن ابن إسحاق : ما أحب أن لي دبرا من ذهب قال ابن هشام : و يقال : زبرا و هو الجبل بلغتهم
ثم قال النجاشي فو الله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد على ملكي و لا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه ردوا عليهما هداياهم فلا حاجة لي بها و اخرجا من بلادي
فخرجا مقبوحين مردود ا عليهما ما جاءا به
قالت فأقمنا مع خير جار في خير دار
فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه
علمتنا حزنا حزنا قط هو أشد منه فرقا من أن يظهر ذلك الملك عليه فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه
فجعلنا ندعو الله و نستنصره للنجاشي فخرج إليه سائرا
أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بعضهم لبعض : من يخرج فيحضر الوقيعة حتى ينظر على من تكون
قال الزبير و كان من أحدثهم سنا : أنا
فنفخوا له قربة فجعلها في صدره فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس فحضر الوقيعة فهزم الله ذلك الملك و قتله و ظهر النجاشي عليه
فجاءنا الزبير فجعل يليح لنا بردائه و يقول : ألا فأبشروا فقد أظهر الله النجاشي
قلت : فو الله ما علمتنا فرحنا بشئ قط فرحنا بظهور النجاشي ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا إلى مكة و أقام من أقام
قال الزهري : فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير عن أم سلمة فقال عروة : أتدري ما تقوله : ما أخذ الله منى الرشوة حتى رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه و لا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه ؟
فقلت : لا ما حدثني ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أم سلمة
فقال عروة : فإن عائشة حدثتني أن أباه كان ملك قومه و كان له أخ له من صلبه اثنا عشر رجلا و لم يكن لأبى النجاشي ولد غير النجاشي فأدارت الحبشة رأيها بينها فقالوا : لو أنا قتلنا أبا النجاشي و ملكنا أخاه فإن له اثني عشر رجلا من صلبه فتوارثوا الملك لبقيت الحبشة عليهم دهرا طويلا لا يكون بينهم اختلاف
فعدوا عليه فقتلوه و ملكوا أخاه
فدخل النجاشي بعمه حتى غلب عليه فلا يريد أمره غيره و كان لبيبا حازما من الرجال
فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالوا : قد غلب هذا الغلام على أمر عمه فما نأمن أن يملكه علينا و قد عرف أنا قتلنا أباه فلئن فعل لم يدع منا شريفا إلا قتله فكلموه فيه فليقتله أو ليخرجنه من بلادنا
فمشوا إلى عمه فقالوا : قد رأينا مكان هذا الفتى منك و قد عرفت أنا قتلنا أباه و جعلناك مكانه و إنا لا نأمن أنيملك علينا فيقتلنا فإما أن تقتله و إما أن تخرجه من بلادنا قال : و يحكم ! قتلتم أباه بالأمس و أقتله ! بل أخرجه من بلادكم
فخرجوا به فوقفوه في السوق و باعوه من تاجر من التجار قذفه في سفينة بستمائة درهم أو بسبعمائة فانطلق به
فلما كان العشى هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يتمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته
ففزعوا إلى ولده فإذا هم محمقون ليس في أحد منهم خير فمرج على الحبشة أمرهم
فقال بعضهم لبعض : تعلمون و الله إن ملككم الذي لا يصلح أمركم غيره للذي بعتم الغداة فإن كان لكم بأمر مر الحبشة حاجة فأدركوه قبل أن يذهب فخرجوا في طلبه فأدركوه فردوه فعقدوا عليه تاجه و أجلسوه على سريره و ملكوه فقال التاجر : ردوا على مالي كما أخذتم مني غلامي فقالوا : لا نعطيك فقال : إذا و الله لأكلمنه
فمشى إليه فكلمه فقال : أيها الملك إني ابتعت غلاما فقبض مني الذين باعوه ثمنه ثم عدوا على غلامي فنزعوه من يدي و لم يردوا علي مالي
فكان أول ما خبر من صلابة حكمه و عدله أن قال : لتردن عليه ماله أو لجعلن يد غلامه في يده فليذهبن به حيث شاء
فقالوا لوا : بل نعطيه ماله فأعطوه إياه
فلذلك يقول : ما أخذ الله مني الرشوة فآخذ الرشوة حين رد علي ملكي و ما أطاع الناس فيه
و قال موسى بن عقبة : كان أبو النجاشي ملك الحبشة فمات و النجاشي غلام صغير فأوصى إلى أخيه أن إليك ملك قومك حتى يبلغ ابني فإذا بلغ فله الملك
فرغب أخوه في الملك فباع النجاشي من بعض التجار
فمات عمه من ليلته و قضى فردت الحبشة النجاشي حتى وضعوا التاج على رأسه
هكذا ذكره مختصرا و سياق ابن إسحق أحسن و أبسط فالله أعلم (2/17)
و الذي وقع في سياق ابن إسحاق إنما هو ذكر عمرو بن العاص و عبد الله بن أبي ربيعة
و الذي ذكره موسى بن عقبة و الأموي و غير واحد أنهما عمرو بن العاص و عمارة ابن الوليد بن المغيرة
و هو أحد السبعة الذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين تضاحكوا يوم وضع سلا الجزور على ظهره صلى الله عليه و سلم و هو ساجد عند الكعبة
و هكذا تقدم في حديث ابن مسعود و أبي موسى الأشعري
و المقصود أنهما حين خرجا من مكة كانت زوجة عمرو معه و عمارة كان شابا حسنا فاصطحبا في السفينة و كان عمارة طمع في امرأة عمرو بن العاص فألقى عمرا في البحر ليهلكه فسبح حتى رجع إليها فقال له عمارة : لو أعلم أنك تحسن السباحة لما ألقيتك فحقد عمرو عليه فلما لم يقض لهما حاجة في المهاجرين من النجاشي و كان عمارة قد توصل إلى بعض أهل النجاشي فوشى به عمرو فأمر به النجاشي فسحر حتى ذهب عقله و ساح في البرية مع الوحوش
و قد ذكر الأموي قصته مطولة جدا و أنه عاش إلى زمن إمارة عمر بن الخطاب و أنه تقصده بعض الصحابة و مسكه فجعل يقول : أرسلني أرسلني و إلا مت فلما لم يرسله مات من ساعته فالله أعلم
و قد قيل : إن قريشا بعثت إلى النجاشي في أمر المهاجرين مرتين : الأولى مع عمرو ابن العاص و عمارة و الثانية مع عمرو و عبد الله بن أبي ربيعة
نص عليه أبو نعيم في الدلائل و الله أعلم
و قد قيل إن البعثة الثانية كانت بعد وقعة بدر قاله الزهري لينالوا ممن هناك ثأرا فلم يجبهم النجاشي رضي الله عنه و أرضاه إلى شئ مما سألوا فالله أعلم (2/26)
و قد ذكر زياد عن ابن إسحق أن أبا طالب لم رأى ذلك من صنيع قريش كتب إلى النجاشي أبياتا يحضه فيها على العدل و على الإحسان إلى من نزل عنده من قومه :
( أ لا ليت شعري كيف في النأى جعفر ... و عمرو و أعاء العدو الأقارب )
( و ما نالت أفعل النجاشي جعفرا ... و أصحابه أو عاق ذلك شاغب )
( تعلم ... أبيت اللعن أنك ماجد كريم فلا يشقى إليك المجانب )
( و نعلم أن الله زادك بسطة ... و أسباب خير كلها بك لازب ) (2/27)
و قال يونس عن ابن إسحق : حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال : إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان رضى الله عنه و المشهور أن جعفرا هو المترجم رضى الله عنه
و قال زياد البكائى عن ابن إسحق : حدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور
و رواه أبو داود عن محمد بن عمرو الرازي عن سلمة بن الفضل عن محمد بن أسحق به : لما مات النجاشي رضي الله عنه كنا نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور (2/27)
و قال زياد عن محمد بن إسحق : حدثني جعفر بن محمد عن أبيه قال : اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي : إنك فارقت ديننا و خرجوا عليه
فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا و قال : اركبوا فيها و كونوا كما أنتم فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم و إن ظفرت فاثبتوا
ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه : هو يشهد أن لا إله إلا الله و يشهد أن عيسى عبده و رسوله و روحه و كلمته ألقاها إلى مريم ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن و خرج إلى الحبشة و صفوا له فقال : يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم ؟ قالوا : بلى
قال : فكيف أنتم بسيرتي فيكم ؟ قالوا : خير سيرة
قال : فما بكم ؟ قالوا : فارقت ديننا و زعمت أن عيسى عبده و رسوله
قال : فما تقولون أنتم في عيسى ؟
قالوا : نقول هو ابن الله
فقال النجاشي و وضع يده على صدره على قبائه : و هو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا و إنما يعني ما كتب فرضوا و انصرفوا فبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما مات النجاشي صلى عليه و استغفر له (2/28)
و قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه و خرج بهم إلى المصلى فصف بهم و كبر أربع تكبيرات
[ و قال البخاري : موت النجاشي حدثنا أبو الربيع حدثنا ابن عيينة عن ابن جريج عن عطاء عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين مات النجاشي : مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة ]
و روى ذلك من حديث أنس بن مالك و ابن مسعود و غير واحد (2/29)
و في بعض الروايات تسميته أصحمة و هو أصحمة بن بحر و كان عبدا صالحا لبيبا ذكيا و كان عادلا عالما رضي الله عنه وأرضاه
و قال يونس عن ابن إسحق : اسم النجاشي مصحمة و في نسخة صححها البيهقي : أصحم و هو بالعربية عطية
قال : و إنما النجاشي اسم الملك كقولك كسرى هرقل
قلت : كذا و لعله يريد به قيصر فإنه علم لكل من ملك الشام مع الجزيرة من بلاد الروم و كسرى علم على من ملك الفرس و فرعون علم لمن ملك مصر كافة و المقوقس لمن ملك الإسكندرية و تبع لمن ملك اليمن و الشحر و النجاشي لمن ملك الحبشة و بطليموس لمن ملك اليونان و قيل الهند و خاقان لمن ملك الترك
ك (2/29)
و قال بعض العلماء : إنما صلى عليه لأنه كان يكتم إيمانه من قومه فلم يكن عنده يوم مات من يصلي عليه فلهذا صلى عليه قالوا : فالغائب إن كان قد صلى عليه ببلده لا تشرع الصلاة عليه ببلد أخرى و لهذا لم يصل على النبي صلى الله عليه و سلم في غير المدينة لا أهل مكة و لا غيرهم و هكذا أبو بكر و عمر و عثمان و غيرهم من الصحابة لم ينقل أنه صلى على أحد منهم في غير البلدة التي صلى عليه فيها فالله أعلم (2/30)
قلت : و شهود أبي هريرة رضي الله عنه الصلاة على النجاشي دليل على أنه إنما مات بعد فتح خيبر في السنة التي قدم فيها بقية المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يوم فتح خيبر و لهذا روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : و الله ما أدري بأيهما أنا أسير بفتح خيبر أم بقدوم جعفر بن أبي طالب ! و قدموا معهم بهدايا و تحف من عند النجاشي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه و سلم و صحبتهم أهل السفينة اليمينية أصحاب أبي موسى الأشعري و قومه من الأشعريين رضي الله عنهم
و مع جعفر و هدايا النجاشي : ابن أخي النجاشي ذو نختر أو ذو مخمر أرسله ليخدم النبي صلى الله عليه و سلم عوضا عن عمه رضي الله عنهما و أرضاهما
و قال السهيلي : توفي النجاشي في رجب سنة تسع من الهجرة و في هذا نظر
و الله أعلم (2/30)
و قال البيهقي : أنبأنا الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطوسي حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا هلال بن العلاء الرقي حدثنا أبي العلاء بن مدرك حدثنا أبو هلال بن العلاء عن أبيه عن غالب عن أبي أمامة قال : قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام يخدمهم فقال أصحابه :
نحن نكفيك يا رسول الله : فقال : [ إنهم كانوا لأصحابي مكرمين و إني أحب أن أكافئهم ]
ثم قال و أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني أنبأنا أبو سعيد بن الأعرابي حدثنا هلال بن العلاء حدثنا أبي حدثنا طلحة بن يزيد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي قتادة قال : قدم وفد النجاشي على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم يخدمهم فقال أصحابه : نحن نكفيك يا رسول الله فقال : [ إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين و إني أحب أن أكافئهم ]
تفرد به طلحة بن زيد عن الأوزاعي
و قال البيهقي : حدثنا أبو الحسين بن بشران حدثنا أبو عمرو بن السماك حدثنا حنبل بن إسحق حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال : أما قدم عمرو ابن العاص من أرض الحبشة جلس في بيته فلم يخرج إليهم فقالوا : ما شأنه ماله لا يخرج ؟ فقال عمرو : إن أصحمة يزعم أن صاحبكم نبي (2/31)
قال ابن إسحق : و لما قدم عمرو بن العاص و عبد الله بن أبي ربيعة على قريش و لم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و ردهم النجاشي بما يكرهون و أسلم عمر بن الخطاب و كان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و بحمزة حتى غظوا قريشا
فكان عبد الله بن مسعود يقول : ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة و صلينا معه
قلت : و ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الحطاب
و قال زياد البكائي ك حدثني مسعر بن كدام عن سعد بن إبراهيم قال : قال ابن مسعود : إن إسلام عمر كان فتحا و إن هجرته كانت نصرا و إن إمارته كانت رحمة و لقد كنا و نصلي عند الكعبة حتى صلى عند الكعبة و صلينا معه (2/32)
قال ابن إسحق : و كان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الحبشة
حدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن عبد العزيز ابن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله بنت أبي حثمة قالت : و الله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة و قد ذهب عامر في بعض حاجتنا إذ أقبل عمر فوقف و هو على شركه فقالت : و كنا نلقى منه أذى لنا و شدة علينا قالت : فقال : إنه للانطلاق يا أم عبد الله ؟ !
قلت : نعم و الله لنخرجن في أرض من أرض الله إذ آذيتمونا و قهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا
قالت : فقال : صحبكم الله !
و رأيت له رقة لم أكن أراها ثم انصرف و قد أحزنه فيما أرى خروجنا
قالت : فجاء عامر بحاجتنا تلك فقلت له : يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته و حزنه علينا !
قال : أطمعت في إسلامه ؟ قالت : قلت : نعم
قال : لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب !
قالت : يأسا منه لما كان يرى من غلظته و قسوته على الإسلام
قلت : هذا يرد قول من زعم أنه كان تمام الأربعين من المسلمين فإن المهاجرين إلى الحبشة كانوا فوق الثمانين
اللهم إلا أن يقال : إنه كان تمام الأربعين بعد خروج المهاجرين (2/32)
و يؤيد هذا ما ذكرها بن إسحاق ههنا في قصة إسلام عمر وحده رضى الله عنه و سياقها فإنه قال :
و كان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب و كانت عند سعيد بن زيد ابن عمر بن نفيل كانت قد أسلمت و أسلم زوجها سعيد بن زيد و هم مستخفون بإسلامهم من عمر
و كان نعيم بن عبد الله النحام رجل من بني عدى قد أسلم أيضا مستخفيا بإسلامه من قومه
و كان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم و رهطا من أصحابه قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا و هم قريب من أربعين من بين رجال و نساء و مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عمه حمزة و أبو بكر بن أبي قحافة الصديق و علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة و لم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة
فلقيه نعيم بن عبد الله فقال : أين تريد يا عمر ؟
قال : أريد محمدا هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها و سب آلهتها فأقتله
فقال له نعيم : و الله لقد غرتك نفسك يا عمر ! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض و قد قتلت محمدا ؟ ! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ؟
قال : و أي أهل بيتي ؟ قال : ختنك و ابن عمك سعيد بن زيد و أختك فاطمة فقد و الله أسلما و تابعا محمدا صلى الله عليه و سلم على دينه فعليك بهما
فرجع عمر عائدا إلى أخته فاطمة و عندها خباب بن الأرت معه صحيفة فيها طه يقرئها إياها
فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم أوفي بعض البيت و أخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها و قد سمع عمر حين دنا إلى الباب قراءة خباب عليها
فلما دخل قال : ما هذه الهينمة التي سمعت ؟ قالا له : ما سمعت شيئا
قال : بلى و الله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه و بطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها
فلما فعل ذلك قالت له أخته و ختنه : نعم قد أسلمنا و آمنا بالله و رسوله فاصنع ما بدا لك
فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع و ازعوى و قال لأخته : أعطيني هذه الصحيفة التي كنتم تقرأون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد و كان عمر كاتبا
فلما قال ذلك قالت له أخته : إنا نخشاك عليها قال : لا تخافي و حلف بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت يا أخي إنك نجس على شركك و إنه لا يمسه إلا المطهرون فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة و فيها طه فلما قرأ منها صدرا قال : ما أحسن هذا الكلام و أكرمه !
فلما سمع ذلك خباب بن الأرت خرج إليه فقال له : و الله يا عمر إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صلى الله عليه و سلم فإني سمعته أمس و هو يقول : اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله يا عمر فقال عند ذلك : فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم فقال له خباب : هو في بيت عند الصفا معه نفر من أصحابه (2/33)
فاخذ عمر سيفه فتوشحه ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه فضرب عليهم الباب فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فنظر من خلل الباب فإذا هو بعمر متوشح بالسيف فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو فزع فقال : يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا بالسيف فقال له حمزة فأذن له : فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه و إن كان يريد شرا قتلناه بسيفه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إيذن له فأذن له الرجل و نهض إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجرته أو بمجمع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة فقال : ما جاء بك يا بن الخطاب ؟ فو الله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة
فقال عمر : يا رسول الله جئتك لأومن بالله و رسوله و بما جاء من عند الله
قال : فكبر رسول الله صلى الله عليه و سلم تكبيرة فعرف أهل البيت أن عمر قد أسلم
فتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكانهم و قد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة و علموا أنهما سيمنعان رسول الله صلى الله عليه و سلم و ينتصغون بهما من عدوهم قال ابن إسحق : فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر حين أسلم رضي الله عنه
قال ابن إسحق : و حدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي عن أصحابه عطاء و مجاهد و عمن روى ذلك أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه أنه كان يقول :
كنت للإسلام مباعدا و كنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها و أشر بها و كان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة
فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك فلم أجد فيه منهم أحدا فقلت : لو أني جئت فلانا الخمار لعلى أجد عنده خمرا فأشرب منها
فخرجت فجئته فلم أجده قال : فقلت : لو أني جئت الكعبة فطفت سبعا أو سبعين قال : فجئت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم يصلي و كان إذا صلى استقبل الشام و جعل الكعبة بينه و بين الشام و كان مصلاة بين الركعتين الأسود و اليماني قال : فقلت حين رأيته : و الله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول فقلت : لئن دنوت منه لأستمع منه لأروعنه فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها فجعلت أمشي رويدا و رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم يصلي يقرأ القرآن حتى قمت في قبلته مستقبله ما بيني و بينه إلا ثياب الكعبة قال : فلما سمعت القرآن رق له قلبي و بكيت و دخلني الإسلام فلم أزل في مكاني قائما حتى قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاته ثم انصرف و كان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين و كان مسكنه في الدار الرقطاء التي كانت بيد معاوية
قال عمر : فتبعته حتى إذا دخل بين دار عباس و دار ابن أزهر أدركته فلما سمع حسى عرفني فظن أني إنما اتبعته لأوذيه فنهمني ثم قال : ما جاء بك يا بن الخطاب هذه الساعة ؟ قال : قلت : جئت لأومن بالله و برسوله و بما جاء من عند الله
قال : فحمد الله رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : [ قد هداك الله يا عمر ] ثم مسح صدري و دعا لي بالثبات ثم انصرف و دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم بيته
قال ابن إسحق : فالله أعلم أي ذلك كان قلت : و قد استقصيت كيفية إسلام عمر رضي الله عنه و ما ورد في ذلك من الأحاديث و الآثار مطولا في أول سيرته التي أفردتها على حدة و لله الحمد و المنة (2/36)
قال ابن إسحق : و حدثني نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال : لما أسلم عمر قال :
أي قريش أنقل للحديث ؟
فقيل له : جميل بن معمر الجمحي فعدا عليه قال عبد الله : و غدوت أتبع أثره و أنظر ما يفعل و أنا غلام أعقل كل ما رأيت
حتى جاءه له : أعلمت يا جميل أني أسلمت و دخلت في دين محمد صلى الله عليه و سلم ؟
قال : فو الله ما راجعه حتى قام يجر رداءه و اتبعه أنا حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش و هم في أنديتهم حول الكعبة
ألا إن ابن الخطاب قد صبأ
قال : يقول عمر من خلفه : كذب و لكني قد أسلمت أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله
و ثاروا إليه فما برح يقاتلهم و يقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم
قال : و طلح فقعد وقاموا على رأسه و هو يقول : افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أ تركتموها لنا
قال : فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة و قميص موشى حتى وقف عليهم
فقال : ما شأنكم ؟
فقالوا : صبأ عمر
قال : فمه رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون ؟ أترون بني عدى يسلمون لكم صاحبكم هكذا ؟ خلوا عن الرجل
قال : فو الله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه
قال : فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة : يا أبت من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت و هم يقاتلونك
قال : ذاك أي بني العاص بن وائل السهمي و هذا إسناد جيد قوي و هو يدل على تأخر إسلام عمر لأن ابن عمر عرض يوم أحد و هو ابن أربع عشرة سنة و كانت أحد في سنة ثلاث من الهجرة و قد كان مميزا يوم أسلم أبوه فيكون إسلامه قبل الهجرة بنحو من أربع سنين و ذلك بعد البعثة بنحو تسع سنين و الله أعلم (2/38)
و قال البيهقي : حدثنا الحاكم أخبرنا الأصم أخبرنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس عن ابن إسحق قال :
ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم عشرون رجلا و هو بمكة أو قريب من ذلك من النصارى حين ظهر خبره من أرض الحبشة فوجدوه في المجلس فكلموه و سألوه و رجال قريش في أنديتهم حول الكعبة
فلما فرغوا من مساءلتهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عما أرادوا دعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الله عز و جل و تلا عليهم القرآن فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له و آمنوا به و صدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره
فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقال : خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم و صدقتموه بما قال لكم ما نعلم ركبا أحمق منكم أو كما قال
قالوا لهم : لا نجاهلكم سلام عليكم لنا أعمالنا و لكم أعمالكم لا تألون أنفسنا خيرا
فيقال : إن النفر من نصارى نجران و الله أعلم أي ذلك كان
و يقال و الله أعلم أن فيهم نزلت هذه الآيات : { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون و إذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا و يدرأون بالحسنة السيئة و مما رزقناهم ينفقون و إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا و لكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } (2/40)
قال البيهقي في الدلائل : باب ما جاء في كتاب النبي صلى الله و سلم إلى النجاشي :
ثم روي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس عن ابن إسحق قال بسم الله الرحمن الرحيم [ هذا كتاب من محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة سلام على من اتبع الهدى و آمن بالله و رسوله و شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لم يتخذ صاحبة و لا و لدا و أن محمدا عبده و رسوله و أدعوك بدعاية الله فإني أنا رسوله فأسلم تسلم : { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دمن الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون }
فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك ]
هكذا ذكره البيهقي بعد قصة هجرة الحبشة وفي ذكره هاهنا نظر فإن الظاهر أن هذا الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذي كان بعد المسلم صاحب جعفر و أصحابه
و ذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوكم إلى الله عز و جل قبيل الفتح كما كتب إلى هرقل عظيم الروم قيصر الشام و إلى صاحب مصر و إلى النجاشي
قال الزهري : كانت كتب النبي صلى الله عليه و سلم إليهم واحدة يعني نسخة واحدة و كلها فيها هذه الآية و هي من سورة آل عمران و هي مدنية بلا خلاف فإنها من صدر السورة
و قد نزل ثلاث و ثمانون آية من أولها في وفد نجران كما قررنا ذلك في التفسير و لله الحمد و المنة
فهذا الكتاب إلى الثاني لا إلى الأول
و قوله فيه : [ إلى النجاشي الأصحم ] لعل [ الأصحم ] مقحم من الراوي بحسب ما فهم و الله أعلم (2/41)
و أنسب من هذا هاهنا ما ذكره البيهقي أيضا عن الحاكم عن أبي الحسن محمد بن عبد الله الفقيه بمرو حدثنا حماد بن أحمد حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحق قال :
بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن أمية الضمرى إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب و أصحابه و كتب معه كتابا :
[ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة
سلام عليك فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن و أشهد أن عيسى روح الله و كلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة فحملت بعيسى فخلقه من روحه و نفخه و إني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له و الموالاة على طاعته و أن تتبعني فتؤمن بي و بالذي جاءني فإني رسول الله و قد بعثت إليك ابن عمى جعفرا و معه نفر من المسلمين فإذا جاءوك فاقرهم ودع التجبر فإني أدعوك و جنودك إلى الله عز و جل و قد بلغت و نصحت فاقبلوا نصيحتي و السلام على من اتبع الهدى ]
فكتب النجاشي إلى رسول الله صلي الله عليه و سلم : بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبحر سلام عليك يا نبي الله من الله و رحمة الله و بركاته لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى فورب السماء و الأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت و قد عرفنا ما بعثت به إلينا و قرينا ابن عمك و أصحابه فأشهد أنك رسول الله صادقا و مصدقا و قد بايعتك و بايعت ابن عمك و أسلمت على يديه لله رب العالمين و قد بعثت إليك يا نبي الله بأريحا بن الأصحم بن أبحر فإني لا أملك إلا نفسي و إن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله فإني أشهد أن ما تقول حق (2/42)
في ذكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وبني عبد المطلب في نصر رسول الله صلى الله عليه و سلم
و حصرهم إياهم في شعب أبي طالب مدة طويلة و كتابهم بذلك صحيفة ظالمة فاجرة و ما ظهر في ذلك كله من آيات النبوة و دلائل الصدق
قال موسى بن عقبة عن الزهري : ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمون الجهد و اشتد عليهم البلاء و جمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم علانية فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب و أمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم شعبهم و أمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله فاجتمع على ذلك مسلمهم و كافرهم فمنهم من فعله حمية و منهم من فعله إيمانا و يقينا
فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و أجمعوا على ذلك اجتمع المشركون من قريش فأجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم و لا يبايعوهم و لا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه و سلم للقتل و كتبوا في مكرهم صحيفة و عهودا و مواثيق : لا يقبلوا من بني هاشم صلحا أبدا و لا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل
فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين و اشتد عليهم البلاء و الجهد و قطعوا عنهم الأسواق فلا يتركوا لهم طعاما يقدم مكة و لا بيعا إلا بادروهم إليه فاشتروه
يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه و سلم
فكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فاضجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد به مكرا أو اغتيالا له فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه فاضجعوا على فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه (2/43)
فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف و من قصي و رجال من سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم و رأوا أنهم قد قطعوا الرحم و استحفوا بالحق
و اجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر و البراءة منه
و بعث الله على صحيفتهم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من عهد و ميثاق
و يقال : كانت معلقة في سقف البيت فلم تترك اسما لله فيها إلا لحسته و بقى ما كان فيها من شرك و ظلم و قطيعة رحم
و أطلع الله عز و جل رسوله على الذي صنع بصحيفتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله علية و سلم لأبي طالب فقال لا و الثواقب ما كذبني
فانطلق يمشي بعصابته من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد و هو حافل من قريش فلما رأوهم عامدين لجماعتهم أنكروا ذلك و ظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء فأتوهم ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه و سلم
فتكلم أبو طالب فقال : قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم فآتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها فعله أن يكون بيننا و بينكم صلح
و إنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها
فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مدفوع إليهم فوضعوها بينهم و قالوا : قد آن لكم أن تقبلوا و ترجعوا إلى أمر يجمع قومكم فإنما قطع بيننا و بينكم رجل واحد جعلتموه خطرا لهلكة قومكم و عشيرتكم و فسادهم
فقال أبو طالب : إنما أتيتكم لأعطيكم أمر لكم فيه نصف إن ابن أخي أخبرني و لم يكذبني أن الله برىء من هذه الصحيفة التي في أيديكم و محا كل اسم هو له فيها و ترك فيها غدركم و قطيعتكم إيانا و تظاهركم علينا بالظلم
فإن كان الحديث الذي قال ابن أخي كما قال فأفيقوا فو الله لا نسلمه أبدا حتى يموت من عندنا آخرنا
و إن كان الذي قال باطلا دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتم
قالوا : قد رضينا بالذي تقول
ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدق صلى الله عليه و سلم قد أخبر خبرها
فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب قالوا : و الله إن كان هذا قط إلا سحرا من صاحبكم
فارتكسوا و عادوا بشر ما كانوا عليه من كفرهم و الشدة على رسول الله صلى الله عليه و سلم و القيام على رهطه بما تعاهدوا عليه
فقال أولئك النفر من بني عبد المطلب : إن أولى بالكذب و اسحر غيرنا فكيف ترون فإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت و السحر من أمرنا و لولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم و هي في أيديكم طمس ما كان فيها من اسمه و ما كان فيها من بغي تركه أفنحن السحرة أم أنتم
فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف و بني قصي و رجال من قريش ولدتهم نساء من بني هاشم منهم أبو البخترى و المطعم بن عدي و زهير بن أبي أمية بن المغيرة و زمعة بن الأسود و هشام بن عمرو و كانت الصحيفة عنده و هو من بني عامر بن لؤي في رجال من أشرافهم و وجوههم : نحن براء مما في هذه الصحيفة
فقال أبو جهل لعنه الله : هذا أمر قضى بليل
و أنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم و يمدح النفر الذين تبرأوا منها و نقضوا ما كان فيها من عهد و يمتدح النجاشي
قال البيهقي : وهكذا روى شيخنا أبو عبد الله الحافظ يعني من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير يعني كسياق موسى بن عقبة رحمه الله
وقد تقدم عن موسى بن عقبة أنه قال : إنما كانت هجرة الحبشة بعد دخولهم إلى الشعب عن أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم في ذلك فالله أعلم
قلت : و الأشبه أن أبا طالب إنما قال قصيدته اللامية التي قدمنا ذكرها بعد دخولهم الشعب أيضا فذكرها ههنا أنسب و الله أعلم (2/44)
ثم روى البيهقي من طريق يونس عن محمد بن إسحق قال :
لما مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على الذي بعث به و قامت بنو هاشم و بنو المطلب دونه و أبوا أن يسلموه و هم من خلافه على مثل ما قومهم عليه إلا أنهم اتقوا أن يستذلوا و يسلموا أخاهم لما قارفه من قومه
فلما فعلت ذلك بنو هاشم و بنو المطلب و عرفت قريش ألا سبيل إلى محمد اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم و بني عبد المطلب : ألا يناكحوهم و لا ينكحوا إليهم و ألا يبايعوهم و يبتاعوا منهم و كتبوا صحيفة في ذلك و علقوها بالكعبة
ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم و آذوهم و اشتد عليهم البلاء و عظمت الفتنة و زلزلوا زلزالا شديدا
ثم ذكر القصة بطولها في دخولهم شعب أبي طالب و ما بلغوا فيه من فتنة الجهد الشديد حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع
حتى كره عامة قريش ما أصابهم و أظهروا كراهيتهم لصحيفتهم الظالمة
و ذكروا أن الله برحمته أرسل على صحيفة قريش الأرضة فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أكلته و بقي فيها الظلم و القطيعة و البهتان فأخبر الله تعالى بذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبر بذلك عمه أبا طالب
ثم ذكر بقية القصة كرواية موسى بن عقبة وأتم (2/47)
وقال ابن هشام عن زياد بن إسحق :
فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قد نزلوا بلدا أصابوا منه أمنا و قرارا و أن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم و أن عمر قد أسلم فكان هو و حمزة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و جعل الإسلام يفشو في القبائل فاجتمعوا و ائتمروا على أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم و بني عبد المطلب على ألا ينكحوا إليهم و لا ينكحوهم و لا يبيعوهم شيئا و لا يبتاعوا منهم فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة ثم تعاهدوا و تواثقوا على ذلك ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم
و كان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار ابن قصي
قال ابن هشام : و يقال النضر بن الحارث فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فشل بعض أصابعه
وقال الواقدي : كان الذي يكتب الصحيفة طلحة بن أبي طلحة العبدري قلت : و المشهور أنه منصور بن عكرمة كما ذكره ابن إسحق و هو الذي شلت يده فما كان ينتفع بها و كانت قريش تقول بينها : انظروا إلى منصور بن عكرمة
قال الواقدي : و كانت الصحيفة معلقة في جوف الكعبة
قال ابن إسحق : فلما فعلت ذلك انحازت بنو هاشم و بنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه و اجتمعوا إليه (2/47)
و خرج من بني هاشم أبو لهب بن عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش فظاهرهم و حدثني حسين بن عبد الله أن أبا لهب لقي هند بنت عتبة بن ربيعة حين فارق قومه و ظاهر عليهم قريشا فقال : يابنة عتبة هل نصرت اللات و العزى و فارقت من فارقها و ظاهر عليها
قالت : نعم فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة
قال ابن إسحق : و حدثت انه كان يقول في بعض ما يقول : يعدني محمد أشياء لا أراها يزعم أنها كائنة بعد الموت فماذا وضع في يدي بعد ذلك ؟ !
ثم ينفخ في يديه فيقول : تبا لكما لا أرى فيكما شيئا مما يقول محمد
فأنزل الله تعالى { تبت يدا أبي لهب و تب } (2/48)
قال ابن اسحق : فلما اجتمعت على ذلك قريش وصنعوا فيه الذي صنعوا قال أبو طالب :
( ألا أبلغا عنا على ذات بيننا ... لؤيا و خصا من لؤي بني كعب )
( ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا ... نبيا كموسى خط في أول الكتب )
( وأن عليه في العباد محبة ... و لا خير ممن خصه الله بالحب )
( وأن الذي ألصقتم من كتابكم ... لكم كائن نحسا كراغية السقب )
( أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى ... و يصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب )
( و لا تتبعوا أمر الوشاة و تقطعوا ... أواصرنا بعد المودة و القرب )
( و تستجلبوا حربا عوانا ... و ربما أمر على من ذاقه حلب الحرب )
( فلسنا و رب البيت نسلم أحمدا ... لعزاء من عض الزمان و لا كرب )
( ولما تبين منا و منكم سوالف ... و أيد أترت بالقساسية الشهب )
( بمعترك ضيق ترى كسر القنا ... به و النسور الطخم يعكفن كالشرب )
( كأن مجال الخيل في حجراته ... و معمعة الأبطال معركة الحرب )
( أليس أبو هاشم شد أزره ... و أوصى بنيه بالطعان و بالضرب )
( و لسنا نمل الحرب حتى تملنا ... و لا نشتكي ما قد ينوب من النكب )
( و لكننا أهل الحفائظ و النهى ... إذا طار أرواح الكماة من الرعب ) (2/49)
قال ابن إسحق : فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا و لم يصل إليهم شئ إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش
و قد كان أبو جهل بن هشام فيما يذكرون لقى حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد و هي عند رسول الله صلى الله عليه و سلم في الشعب فتعلق به و قال : أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ؟ و الله لا تذهب أنت و طعامك حتى أفضحك بمكة
فجاءه أبو البحتري بن هشام بن الحارث بن أسد فقال : مالك و له ؟
فقال : يحمل الطعام إلى بني هاشم
فقال له أبو البختري : طعام كان لعمته عنده بعثت به إليه أتمنعه أن يأتيها بطعامها ؟ خل سبيل الرجل
قال فأبى أبو جهل لعنه الله حتى نال أحدهما من صاحبه فأخذ أبو البختري لحى بعير فضربه به فشجه و وطئه وطئا شديدا
و حمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك و هم يكرهون أن يبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه فيشمتون بهم (2/50)
و رسول الله صلى الله عليه و سلم على ذلك يدعو قومه ليلا و نهارا و سرا و جهارا مناديا بأمر الله تعالى لا يتقى فيه أحد من الناس
فجعلت قريش حين منعه الله منها و قام عمه و قومه من بني هاشم و بني عبد المطلب دونه و حالوا بينهم و بين ما أرادوا من البطش به يهمزونه و يستهزئون به و يخاصمونه
و جعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم و فيمن نصب لعداوته
منهم من سمى لنا و منهم من نزل القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار
فذكر ابن إسحاق أبا لهب و نزول السورة فيه و أمية بن خلف و نزول قوله تعالى : { ويل لكل همزة لمزة } السورة بكمالها فيه
و العاص بن وائل و نزول قوله { أفرأيت الذي كفر بآياتنا } و قال : { لأوتين مالا و ولدا } فيه و قد تقدم شئ من ذلك
و أبا جهل بن هشام و قوله للنبي صلى الله عليه و سلم : لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد و نزول قول الله فيه : { و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } الآية و النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة و منهم من يقول علقمة بن كلدة قاله السهيلي و جلوسه بعد النبي صلى الله عليه و سلم في مجالسه حيث يتلو القرآن و يدعوا إلى الله فيتلو عليهم النضر شيئا من أخبار رستم و اسفنديار و ما جرى بينهما من الحروب في زمن الفرس ثم يقول : و الله ما محمد بأحسن حديثا مني و ما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبها
فأنزل الله تعالى : { و قالوا أساطير الأولين اكتتبتا فهي تملى عليه بكرة و أصيلا } و قوله : { ويل لكل الفاك أثيم }
و قال ابن اسحق : و جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغنا يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد
فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم و في المجلس غير واحد من رجال قريش فتكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم فعرض له النضر فكلمه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم : { إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها أتردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها و كل فيها خالدون لهم فيها زفير و هم فيها لا يسمعون } ثم قام رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس فقال الوليد بن المغيرة له : و الله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا و ما قعد و قد زعم محمد أنا و ما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم فقال عبد الله بن الزبعري : أما و الله لو وجدته لخصمته فسلوا محمدا : أكل من يعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة و اليهود تعبد عزيرا و النصارى تعبد عيسى
فعجب الوليد و من كان معه في المجلس من قول ابن الزبعري و رأوا أنه قد احتج و خاصم
فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده في النار إنهم إنما يعبدون الشياطين و من أمرتهم بعبادته
فأنزل الله تعالى : { إن الذين سبقت لهم الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها و هم فيما اشتهت أنفسهم خالدون }
أى عيسى و عزير و من عبد من الأحبار و الرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى و نزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة و أنها بنات الله : { و قالوا اتخذ الرحمن و لا سبحانه بل عباد مكرمون } و الآيات بعدها
و نزل في إعجاب المشركين يقول ابن الزبعري : { و لما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون و قالوا أآلهتنا خير أم هو ؟ ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون } و هذا الجدل الذي سلكوه باطل
و هم يعلمون ذلك لأنهم قوم عرب و من لغتهم أن ما لما لا يعقل فقوله { إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } إنما أريد بذلك ما كانوا يعبدونه من الأحجار التي كانت صور أصنام و لا يتناول ذلك الملائكة الذين زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور و لا المسيح و لا عزيزا و لا أحدا من الصالحين لأن اللفظ لا يتناولهم لا لفظا و لا معنى
فهم يعلمون أن ما ضربوه بعيسى ابن مريم من المثل جدول باطل كما قال الله تعالى : { ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون }
ثم قال : ( إن هو ) أي عيسى إلا عبد أنعمنا عليه أي بنبوتنا و جعلناه مثلا لبني إسرائيل أي دليلا على تمام قدرتنا على ما نشاء حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر و قد خلقنا حواء من ذكر بلا أنثى و خلقنا أدم لا من هذا و لا من هذا و خلقنا سائر بني أدم من ذكر و أنثى
كما قال في الآية الأخرى { و لنجعله آية للناس } أي أمارة و دليلا على قدرتنا الباهرة و رحمة بها من نشاء
و ذكر ابن إسحق الأخنس بن شريق و نزول قوله تعالى فيه : { و لا تطع كل حلاف مهين } الآيات
و ذكر الوليد بن المغيرة حيث قال : أينزل على محمد و أترك و أنا كبير قريش و سيدها و يترك أبو مسعود عمرو بن عمرو الثقفي سيد ثقيف فنحن عظيما القريتين و نزول قوله فيه : { و قالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } و التي بعدها و ذكر أبي بن خلف حين قال لعقبة بن أبي معيط : ألم يبلغني أنك جالست محمدا و سمعت منه ؟ وجهي من وجهك حرام إلا أن تتفل في وجهه ففعل ذلك عدو الله عقبة لعنه الله فأنزل الله : { و يوم يعض الظالم على يديه يقول : يا ليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا لم أتخذ فلانا خليلا } و التى بعدها
قال : و مشى أبي بن خلف بعظم بال قد أرم فقال : يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم ؟ ! ثم فته بيده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه و سلم
فقال : نعم أنا أقول ذلك يبعثه الله و إياك بعد ما تكونان هكذا ثم يدخلك النار
و أنزل الله تعالى : { و ضرب لنا مثلا و نسى خلقه قال : من يحيى العظام و هي رميم قل : يحييها الذي أنشأها أول مرة و هو بكل خلق عليم } إلى آخر السورة
قال : و اعترض رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغي و هو يطوف عند باب الكعبة الأسود بن المطلب و الوليد بن المغيرة و أمية بن خلف و العاص بن وائل فقالوا : يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد و تعبد ما نعبد فنشترك نحن و أنت في الأمر فأنزل الله فيهم : { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون } إلى آخرها و لما سمع أبو جهل بشجرة الزقوم قال : أتدرون ما الزقوم ؟ هو تمر يضرب بالزبد ! ثم قال هلم فلنتزقم
فأنزل الله تعالى : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم }
قال : و وقف الوليد بن المغيرة فكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم و رسول الله صلى الله عليه و سلم يكلمه و قد طمع في إسلامه
فمر به ابن أم مكتوم عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة الأعمى فكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم و جعل يستقرئه القرآن
فشق ذلك عليه حتى أضجره وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد و ما طمع فيه من إسلامه
فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا و تركه فأنزل الله تعالى : { عبس و تولى أن جاءه الأعمى } إلى قوله : { مرفوعة مطهرة }
و قد قيل : إن الذي كان يحدث رسول الله صلى الله عليه و سلم حين جاءه ابن أم مكتوم : أمية بن خلف فالله اعلم (2/51)
ثم ذكر ابن إسحق من عاد من مهاجرة الحبشة إلى مكة
و ذلك حين بلغهم إسلام أهل مكة و كان النقل ليس بصحيح و لكن كان له سبب
و هو ما ثبت في الصحيح و غيره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جلس يوما مع المشركين و أنزل الله عليه : { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم } يقرؤها عليهم حتى ختمها و سجد فسجد من هناك من المسلمين و المشركين و الجن و الإنس
و كان لذلك سبب ذكره كثير من المفسرين عند قوله تعالى : { و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته و الله عليم حكيم }
و ذكروا قصة الغرانيق و قد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا لئلا يسمعها من لا يضعها على موضعها إلا أن أصل القصة في الصحيح
قال البخاري : حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال : سجد النبي صلى الله عليه و سلم بالنجم و سجد معه المسلمون و المشركون و الجن و الإنس
انفرد به البخاري دون مسلم
و قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبى إسحق سمعت الأسود عن عبد الله قال : قرأ النبي صلى الله عليه و سلم { و النجم } بمكة فسجد فيها و سجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصا أو تراب فرفعه إلى جبهته و قال : يكفيني هذا فرأيته بعد قتل كافرا
و رواه مسلم و أبو داود و النسائي من حديث شعبة
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا إبراهيم حدثنا رباح عن معمر عن ابن طاووس عن عكرمة بن خالد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة سورة النجم فسجد وسجد من عنده فرفعت رأسي و أبيت أن أسجد و لم يكن أسلم يومئذ المطلب فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرؤها إلا سجد معه ]
و قد رواه النسائي عن عبد الملك بن عبد الحميد عن أحمد بن حنبل به
و قد يجمع بين هذا و الذي قبله بأن هذا سجد و لكنه رفع رأسه استكبارا و ذلك الشيخ الذي استثناه ابن مسعود لم يسجد بالكلية و الله أعلم
و المقصود أن الناقل لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم اعتقد أنهم قد أسلموا و اصطلحوا معه ولم يبق نزاع بينهم
فطار الخبر بذلك و أنتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها فظنوا صحة ذلك
فأقبل منهم طائفة طامعين بذلك و ثبتت جماعة و كلاهما محسن مصيب فما فعل
فذكر ابن إسحق أسماء من رجع منهم :
عثمان بن عفان و امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو حذيفة ابن عتبة بن ربيعة و امرأته سهلة بنت سهيل و عبد الله بن جحش بن رئاب و عتبة ابن غزوان و الزبير بن العوام و مصعب بن عمير و سويبط بن سعد و طليب بن عمير و عبد الرحمن بن عوف المقداد بن عمرو و عبد الله بن مسعود و أبو سلمة بن عبد الأسد و امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة و شماس بن عثمان
و سلمة بن هشام و عياش بن أبي ربيعة و قد حبسا بمكة حتى مضت بدر و أحد و الخندق
و عمار بن ياسر و هو ممن شك فيه : أخرج إلى الحبشة أم لا
و متعب بن عوف و عثمان بن مظمون و ابنه السائب و أخواه قدامة و عبد الله ابنا مظعون و خميس بن حذافة و هشام بن العاص بن وائل و قد حبس بمكة إلى بعد الخندق و عامر بن ربيعة و امرأته ليلى بنت أبي حثمة و عبد الله بن مخرمة
و عبد الله بن سهيل بن عمرو و قد حبس حتى كان يوم بدر فانحاز إلى المسلمين فشهد معهم بدرا
و أبو سبرة بن أبي رهم و امرأته أم كلثوم بنت سهيل
و السكران بن عمرو بن عبد شمس و امرأته سودة بنت زمعة و قد مات بمكة قبل الهجرة و خلف على امرأته رسول الله صلى الله عليه و سلم
و سعد بن خولة و أبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن الحارث بن زهير و سهيل ابن بيضاء و عمرو بن أبي سرح
فجميعهم : ثلاثة و ثلاثون رجلا رضي الله عنهم
و قال البخاري : و قالت عائشة : قال رسول اله صلى الله عليه و سلم : [ أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين ]
فهاجر من هاجر قبل المدينة و رجع عامة من كان هاجر إلى الحبشة إلى المدينة
و فيه عن أبي موسى و أسماء رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم و قد تقدم حديث أبي موسى و هو في الصحيحين و سيأتي حديث أسماء بنت عميس بعد فتح خيبر حين قدم من كان تأخر من مهاجرة الحبشة إن شاء الله و به الثقة
و قال البخاري : [ حدثنا يحيى بن حماد حدثنا أبو عوانة عن سليمان بن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : كنا نسلم على النبي صلى الله عليه و سلم و هو يصلى فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشى سلمنا عليه فلم يرد علينا فقلنا : يا رسول الله إنا كنا نسلم عليك فترد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي لم ترد علينا
قال : إن في الصلاة شغلا ]
وقد روى البخاري أيضا و مسلم و أبو داود و النسائي من طرق أخر عن سليمان بن مهران عن الأعمش به
و هو يقوى تأويل من تأول حديث زيد بن أرقم الثابت في الصحيحين : كنا تتكلم في الصلاة حتى نزل قوله : [ { و قوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت و نهينا عن الكلام ]
على أن المراد جنس الصحابة فإن زيدا أنصاري مدني و تحريم الكلام في الصلاة ثبت بمكة فتعين الحمل إلى ما تقدم
و أما ذكره الآية و هي مدنية فمشكل و لعله اعتقده أنها المحرمة لذلك و إنما كان المحرم له غيرها معها و الله أعلم (2/56)
قال ابن إسحق : كان ممن دخل منهم بجوار فيما سمى لنا عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة و أبو سلمة بن عبد الأسد في جوار خاله أبي طالب فإن أمه برة بنت عبد المطلب
فأما عثمان بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثني عمن حدثه عن عثمان قال : لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من البلاء و هو يروح و يغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال : و الله إن غدوي و رواحي في جوار رجل من أهل الشرك و أصحابي و أهل ديني يلقون من البلاء و الأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كثير في نفسي !
فمشى الوليد بن المغيرة فقال له : يا أبا عبد شمس وفت ذمتك و قد رددت إليك جوارك
قال : لم يا بن أخي ؟ لعله آذاك أحد من قومي ؟
قال : لا ولكني أرضى بجوار الله عز و جل و لا أريد أن أستجير بغيره
قال : فانطلق إلى المسجد فاردد علي جواري علانية كما أجرتك علانية
قال : فانطبقا فخرجا حتى أتيا المسجد فقال الوليد بن المغيرة : هذا عثمان قد جاء يرد على جواري
قال : صدق قد وجدته وفيا كريم الجوار و لكني أحببت ألا أستجير بغر الله فقد رددت عليه جواره
ثم انصرف عثمان رضي الله عنه و لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر في مجلس من قريش ينشدهم فجلس معهم عثمان فقال لبيد :
ألا كل شئ ما خلا الله باطل
فقال عثمان : صدقت
فقال لبيد :
و كل نعيم لا محالة زائل
فقال عثمان : كذبت نعيم الجنة لا يزول فقال لبيد : يا معشر قريش و الله ما كان يؤذي جليسكم فمتى حدث هذا فيكم ؟ !
فقال رجل من القوم : إن هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا فلا تجدن في نفسك من قوله
فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما فقام إليه ذلك الرجل و لطم عينه فخضرها و الوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان فقال : أما و الله يا بن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية و لقد كنت في ذمة منيعة
قال : يقول عثمان : بل و الله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله ! و إني لفي جوار من هو أعز منك و أقدر يا أبا عبد شمس
فقال له الوليد : هلم يا بن أخي إلى جوارك فعد قال : لا (2/59)
قال ابن إسحق : و أما أبو سلمة بن عبد الأسد فحدثني أبي إسحق بن يسار عن سلمة بن عبد الله بن أبي سلمة أنه حدثه أن أبا سلمة لما استجار بأبي طالب مشى إليه رجال من بني مخزوم فقالوا له : يا أبا طالب هذا منعت منا ابن أخيك محمدا فمالك و لصاحبنا تمنعه منا ؟ قال : إنه استجار بي و هو ابن أختي و إن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي
فقام أبو لهب فقال : يا معشر قريش و الله لقد أكثرتم على هذا الشيخ ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه و الله لتنتهن أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد
قالوا : بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة و كان لهم وليا و ناصرا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأبقوا إلى ذلك
فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول و رجا أن يقوم معه في شأن رسول الله صلى الله عليه و سلم (2/61)
فقال أبو طالب يحرض أبا لهب على نصرته و نصرة رسول الله صلى الله عليه و سلم :
( إن امرءا أبو عتيبة عمه ... لفي روضة ما إن يسام المظالما )
( أقول له و أين منه نصيحتي ... أبا معتب ثبت سوادك قائما )
( و لا تقبلن الدهر ما عشت خطة ... تسب بها إما هبطت المواسما )
( و ول سبيل العجز غيرك منهم ... فإنك لم تخلق على العجز لازما )
( و حارب فإن الحرب نصف و لن ترى أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما )
( و كيف و لم يجنوا عليك عظيمة ... و لم يخذلوك غانما أو مغارما )
( جزى الله عنا عبد شمس و نوفلا ... و تيما و مخزوما عقوقا و مأثما )
( بتفريقهم من بعد ود و ألفة ... جماعتنا كيما ينالوا المحارما )
( كذبتم و بيت الله نبزى محمدا ... و لما تروا يوما لدى الشعب قائما )
قال ابن هشام : و بقي منها بيت تركناه (2/62)
ذكر عزم الصديق على الهجرة إلى أرض الحبشة
قال ابن إسحق : و قد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما حدثني محمد بن مسلم الزهري عن عروة عن عائشة حين ضاقت عليه مكة و أصابه فيها الأذى و رأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه ما رأى استأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الهجرة فأذن له
فخرج أبو بكر رضي الله عنه مهاجرا حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين لقيه ابن الدغنة أخو بني الحارث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة و هو يومئذ سيد الأحابيش
قال الواقدي : اسمه الحارث بن يزيد أحد بني بكر بن عبد مناة بن كنانة و قال السهيلي : اسمه مالك
فقال : إلى أين يا أبا بكر ؟ قال : أخرجني قومي و آذوني و ضيقوا علي
قال : و لم ؟ و الله إنك لتزين العشيرة و تعين على النوائب و تفعل المعروف و تكسب المعدوم ارجع فإنك في جواري
فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام معه ابن الدغنة فقال : يا معشر قريش إني قد أجرت ابن أبي قحافة فلا يعرض له أحد إلا بخير
قال : فكفوا عنه
قالت : و كان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمع فكان يصلي فيه و كان رجلا رقيقا إذا قرأ القرآن استبكى
قالت : فيقف عليه الصبيان و العبيد و النساء يعجبون لما يرون من هيئته
قال : فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة فقالوا : يا ابن الدغنة إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا إ نه رجل إذا صلى و قرأ ما جاء به محمد يرق و كانت له هيئة و نحن نتخوف على صبياننا و نسائنا و ضعفائنا أن يفتهم فأته فمره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء
قالت : فمشى ابن الدغنة إليه فقال : يا أبا بكر إني لم أجرك لتؤذي قومك و قد كرهوا مكانك الذي أنت به و تأذوا بذلك منك فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت
قال : أو أرد عليك جوارك و أرضى بجوار الله
قال : فاردد علي جواري قال : قد رددته عليك
قال : فقام ابن الدغنة فقال : يا معشر قريش إن ابن أبي قحافة قد رد على جواري فشأنكم بصاحبكم (2/63)
و قد روى الإمام البخاري هذا الحديث متفردا به و فيه زيادة حسنة
فقال : حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت :
لم أعقل أبوي قط إلا و هما يدينان الدين و لم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم طرفي النهار و عشية
فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة و هو سيد القارة فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي
فقال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج و لا يخرج مثله إنك تكسب المعدوم و تصل الرحم و تحمل الكل و تقرى الضيف و تعين على نوائب الحق و أنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلدك
فرجع و ارتجل معه ابن الدغنة و طاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم : إن أبا بكر لا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم و يصل الرحم و يحمل الكل و يقرى الضيف و يعين على نوائب الحق ؟ !
فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة و قالوا لابن الدغنة : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره و يصل فيها و ليقرأ ما شاء و لا يؤذينا بذلك و لا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا و أبناءنا
فقال ابن الدغنة ذلك لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره و لا يستعلن بصلاته و لا يقرأ في غير داره ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره و كان يصلي فيه و يقرأ القرآن
فيقذف نساء المشركين و أبناؤهم يعجبون منه و ينظرون إليه و كان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينه إذا قرأ القرآن
فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا : إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن الصلاة و القراءة فيه و إنا قد خشينا أن يفتتن أبناؤنا و نساؤنا فانهه فإن أحب أ يقتصر على أن يعبد ربه في داره فغل و أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك و لسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان
قالت عائشة : فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال : قد علمت الذي قد عاقدتك عليه فإما أن تقتصر على ذلك و إما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له
فقال أبو بكر : فإني أرد عليك جوارك و أرضى بجوار الله عز و جل
ثم ذكر تمام الحديث في هجرة أبي بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم كما سيأتي مبسوطا قال ابن إسحاق : و حدثني عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال : لقيه يعني أبا بكر الصديق حين خرج من جوار ابن الدغنة سفيه من سفهاء قريش و هو عامد إلى الكعبة فحثا على رأسه ترابا فمر بأبي بكر الوليد ابن المغيرة أو العاص بن وائل فقال له أبو بكر رضي الله عنه : ألا ترى ما يصنع هذا السفيه ؟ ! فقال : أنت فعلت ذلك بنفسك و هو يقول : أي رب ما أحلمك أي رب ما أحلمك أي رب ما أحلمك !
كل هذه القصص ذكرها ابن إسحق معترضا بها بين تعاقد قريش على بني هاشم و بني المطلب و كتابهم عليهم الصحيفة الظالمة و حصرهم إياهم في الشعب و بين نقض الصحيفة و ما كان من أمرها هي أمور مناسبة لهذا الوقت و لهذا قال الشافعي رحمه الله : من أراد المغازى فهو عيال على ابن إسحق (2/64)
قال ابن إسحق : هذا و بنو هاشم و بنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش عليهم في الصحيفة التي كتبوها
ثم إنه قام في نقض الصحيفة نفر من قريش و لم يبل فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر ابن مالك بن حسل بن عامر بن لؤى و ذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هشام بن عبد مناف لأمه و كان هشام لبنى هاشم واصلا و كان ذا شرف في قومه
فكان فيما بلغني يأتي بالبعير و بنو هاشم و بنو المطلب في الشعب ليلا قد أوقره طعاما حتى إذا بلغ به فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فدخل الشعب عليهم ثم يأتي به قد أقره برا فيفعل به مثل ذلك
ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم و كانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب فقال : يا زهير أقد رضيت أن تأكل الطعام و تلبس الثياب و تنكح النساء و أخوالك حيث علمت لا يباعون و لا يبتاع منهم و لا ينكحون و لا ينكح إليهم ؟ أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا
قال : ويحك يا هشام فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد و الله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها
قال : قد وجدت رجلا قال : من هو ؟ قال : أنا قال له زهير : ابغنا ثالثا فذهب إلى المطعم بن عدي فقال له : يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف و أنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه ؟ ! أما و الله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا
قال : ويحك فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد
قال : وجدت لك ثانيا قال : من ؟ قال : أنا قال : ابغنا ثالثا قال : قد فعلت قال : من هو ؟ قال : زهير بن أبي أمية قال ابغنا رابعا : فذهب إلى أبي البختري بن هشام فقال نحو ما قال للمطعم بن عدي فقال : و هل تجد أحدا يعين على هذا ؟ قال : نعم قال : من هو ؟ قال : زهير بن أبي أمية و المطعم بن عدي و أنا معك قال : ابغنا خامسا
فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد فكلمه و ذكر له قرابتهم و حقهم فقال له : و هل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد ؟
قال نعم ثم سمى القوم
فاتعدوا حطم الحجون ليلا بأعلى مكة فاجتمعوا هنالك و أجمعوا أمرهم و تعاقدوا على القيم في الصحيفة حتى ينقضوها و قال زهير : أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم و غدا زهير بن أبي أمية عليه حلة فطاف بالبيت سبعا ثم أقبل الناس فقال : يا أهل مكة أنأكل الطعام و نلبس الثياب و بنو هاشم هلكي لا يبتاعون و لا يبتاع منهم و الله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة
قال أبو جهل : و كان في ناحية المسجد : و الله لا تشق
قال زمعة بن الأسود : أنت و الله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت
قال البخترى : صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها و لا نقر به
قال المطعم بن عدى : صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ إلى الله منها و مما كتب فيها و قال هشام بن عمرو نحوا من ذلك
قال أبو جهل : هذا أمر قد قضى بليل و تشوور فيه بغير هذا المكان
و أبو طالب جالس في ناحية المسجد
و قام المطعم بن عدي إلى الصحفية ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا باسمك اللهم
و كان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فشلت يده فيما يزعمون
قال ابن هشام : و ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لأبي طالب : يا عم إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته فيها و نفت منها الظلم و القطيعة و البهتان
فقال : أربك أخبرك بهذا ؟ قال : نعم
قال فو الله ما يدخل عليك أحد
ثم خرج إلى قريش فقال : يا معشر قريش إن ابن أخي قد أخبرني بكذا و كذا فهلم صحيفتكم فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا و انزلوا عنها و إن كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخي فقال القوم : قد رضينا فتعاقدوا على ذلك
ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فزادهم ذلك شرا
فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا
ز فكان (2/67)
قال ابن إسحاق : فلما مزقت و بطل ما فيها قال أبو طالب فيما كان من أمر أولئك القوم الذين قاموا في نقض الصحيفة يمدحهم :
( ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا ... على نأيهم و الله بالناس أرود )
( فيخبرهم أن الصحيفة مزقت ... و أن كل ما لم يرضه الله مفسد )
( تراوحها إفك و سحر مجمع ... و لم يلف سحر آخر الدهر يصعد )
( تداعى لها من ليس فيها بقرقر ... فطائرها في رأسها يتردد )
( و كانت كفاء وقعة بأثيمة ... ليقطع منها ساعد و مقلد )
( و يظعن أهل المكتين فيهربوا ... فرائصهم من خشية الشر ترعد )
( و يترك حراث يقلب أمره ... أيتهم فيها عند ذاك و ينجد )
( فمن ينش من حضار مكة عزه ... فعزتنا في بطن مكة أتلد )
( نشأنا بها و الناس فيها قلائل ... فلم ننفكك نزداد خيرا و نحمد )
( ونطعم حتى يترك الناس فضلهم ... إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد )
( جزى الله رهطا بالحجون تجمعوا ... على ملإ يهدى لحزم و يرشد )
( قعودا لدى حطم الحجون كأنهم ... مقاولة بل هم أعز و أمجد )
( أعان عليها كل صقر كأنه ... إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد )
( جرىء على جل الخطوب كأنه ... شهاب بكفى قابس يتوقد )
( من الأكرمين من لؤى بن غالب ... إذا سيم خسفا وجهه يتربد )
( طويل النجاد خارج نصف ساقه ... على وجهه يسقى الغمام و يسعد )
( عظيم الرماد سيد و ابن سيد ... يحض على مقرى الضيوف و يحشد )
( و يبني لأصحاب العشيرة صالحا ... إذا نحن طفنا في البلاد و يمهد )
( ألظ بهذا الصلح كل مبرإ ... عظيم اللواء أمره ثم يحمد )
( قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا ... على مهل و سائر الناس رقد )
( هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا ... و سر أبو بكر بها و محمد )
( متى شرك الأقوام في حل أمرنا ... و كنا قديما قبلها نتودد )
( و كنا قديما لا نقر ظلامة ... و ندرك ما شئنا و لا نتشدد )
( فيال قصى هل لكم في نفوسكم ... و هل لكم فيما يجئ به غد )
( فإني و إياكم كما قال قائل ... لديك البيان لو تكلمت أسود )
قال السهيلي : أسود اسم جبل قتل به قتيل و لم يعرف قاتله فقال أولياء المقتول : لديك البيان لو تكلمت أسود أي يا أسود لو تكلمت لأبنت لنا عمن قتلته ثم ذكر ابن إسحاق شعر حسان يمدح المطعم بن عدي و هشام بن عمرو لقيامهما في نقض الصحيفة الظالمة الفاجرة الغاشمة و قد ذكر الأموي هاهنا أشعارا كثيرة اكتفينا بما أورده ابن إسحاق (2/70)
و قال الواقدي : سألت محمد بن صالح و عبد الرحمن بن عبد العزيز : متى خرج بنو هاشم من الشعب ؟ قالا : في السنة العاشرة يعني من البعثة قبل الهجرة بثلاث سنين قلت : وفي هذه السنة بعد خروجهم توفي أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه و سلم و زوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى و قد ذكر محمد بن إسحاق رحمه الله بعد إبطال الصحيفة قصصا كثيرة تتضمن نصب عداوة قريش لرسول الله صلى الله عليه و سلم و تنفير أحياء العرب و القادمين إلى مكة لحج أو عمرة أو غير ذلك منه و إظهار الله المعجزات على يديه دلالة على صدقه فيما جاءهم به من البينات و الهدى و تكذيبا لهم فيما يرمونه من البغي و العدوان و المكر و الخداع و يرمونه من الجنون و السحر و الكهانة و التقول و الله غالب على أمره (2/71)
فذكر قصة الطفيل بن عمرو الدوسي مرسلة
و كان سيدا مطاعا في دوس و كان قد قدم مكة فاجتمع به أشراف قريش و حذروه من رسول الله و نهوه أن يجتمع به أو يسمع كلامه
قال : فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئا و لا أكلمه حتى حشوت أدنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شئ من قوله و أنا لا أريد أن أسمعه
قال فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم قائم يصلي عند الكعبة
قال : فقمت منه قريبا فأبى إلا أن يسمعني بعض قوله قال فسمعت كلاما حسنا قال : فقلت في نفسي : و اثكل أمي ! و الله إني لرجل لبيب ما يخفى على الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الجل ما يقول فإن كان الذي به حسنا قبلته و إن كان قبيحا تركته
قال : فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت : يا محمد إن قومك قالوا لي كذا و كذا للذي قالوا
قال : فو الله ما برحوا بي يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك ثم أبى الله إلا إن يسمعني قولك فسمعت قولا حسنا فاعرض على أمرك
قال : فعرض على رسول الله صلى الله عليه و سلم الإسلام و تلا علي القرآن فلا و الله ما سمعت قولا قط أحسن منه و لا أمرا أعدل منه قال : فأسلمت و شهدت شهادة الحق و قلت : يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي و إني راجع إليهم و داعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه قال فقال : اللهم اجعل له آية
قال فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر وقع بين عيني نور مثل المصباح قال : فقلت : اللهم في غير وجهي فإني أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم
قال : فتحول فوقع في رأس سوطى قال : فجعل الحاضرون يتراءون ذلك النور في رأس سوطى كالقنديل المعلق و أنا أنهبط عليهم من الثنية حتى جئتهم فأصبحت فيهم
فلما نزلت أتاني أبي و كان شيخا كبيرا فقلت : إليك عني يا أبت فلست منك و لست مني
قال : و لم يا بني ؟
قال : قلت أسلمت و تابعت دين محمد صلى الله عليه و سلم
قال : أي بني فقلت : فاذهب فاغتسل و طهر ثيابك ثم ائتني حتى أعلمك مما علمت
قال فذهب فاغتسل و طهر ثيابه ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم
قال : ثم أتتني صاحبتي فقلت : إليك عني فلست منك و لست مني
قالت : و لم ؟ بأبي أنت و أمي
قال : قلت : فرق بيني و بينك الإسلام و تابعت دين محمد صلى الله عليه و سلم
قالت : فديني دينك
قال : فقلت فاذهبي إلى حمى ذى الشرى فتطهري منه و كان ذو الشرى صنما لدوس و كان الحمى حمى حموه حوله به وشل من ماء يهبط من جبل
قالت : بأبي أنت و أمي أتخشى على الصبية من ذى الشرى شيئا ؟
قلت : لا أنا ضامن لذلك
قال : فذهبت فاغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت
ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطأوا علي ثم جئت رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة فقلت : يا رسول الله إنه قد غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم
قال : [ اللهم اهد دوسا ارجع إلى قومك فادعهم و ارفق بهم ]
قال : فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و مضى بدر و أحد و الخندق ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم بمن أسلم من قومي و رسول الله صلى الله عليه و سلم بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس فلحقنا برسول الله صلى الله عليه و سلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين ثم لم أزل مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى فتح الله عليه مكة فقلت : يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه
قال ابن إسحاق : فخرج إليه فجعل الطفيل و هو يوقد عليه النار يقول :
ياذا الكفين لست من عبادكا ميلادنا أقدم من ميلادكا إني حشوت النار في فؤادكا
قال : ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان معه بالمدينة حتى قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما ارتدت العرب خرج الطفيل مع المسلمين فسار معهم حتى فرغوا من طليحة و من أرض نجد كلها ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة و معه ابنه عمرو بن الطفيل
فرأى رؤيا و هو متوجه إلى اليمامة فقال لأصحابه : إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي رأيت أن رأسي حلق و أنه خرج من فمي طائر و أنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها وأرى ابني يطلبني طلبا حثيثا ثم رأيته حبس عني
قالوا : خيرا قال أما أنا و الله فقد أولتها قالوا : ماذا ؟ قال : أما حلق رأسي فوضعه و أما الطائر الذي خرج منه فروحي و أما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر لي فأغيب فيها و أما طلب ابني إياي ثم حبسه عني فإني أراه سيجتهد أن يصيبه ما أصابني
فقتل رحمه الله تعالى شهيدا باليمامة و خرج ابنه جراحه شديدة ثم استبل منها ثم قتل عام اليرموك زمن عمر شهيدا رحمه الله
هكذا ذكر محمد بن إسحاق قصة الطفيل بن عمرو مرسلة بلا إسناد و لخبره شاهد في الحديث الصحيح (2/72)
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : لما قدم الطفيل و أصحابه على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إن دوسا قد استعصت قال : [ اللهم اهد دوسا وائت بهم ]
رواه البخاري عن أبي نعيم عن سفيان الثوري
و قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أنبأنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قدم الطفيل بن عمرو الدوسي و أصحابه فقالوا : يا رسول الله إن دوسا قد عصت و أبت فادع الله عليها قال أبو هريرة فرفع رسول الله صلى الله عليه و سلم يديه فقلت : هلكت دوس ! فقال : [ اللهم اهد دوسا وائت بهم ]
إسناده جيد و لم يخرجوه
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله هل لك في حصن حصين و منعة ؟ قال : حصن كان لدوس في الجاهلية ] فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم للذي ذخر الله للأنصار (2/76)
فلما هاجر النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو و هاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص فقطع بها براجمه فشحبت يداه فما رقأ الدم حتى مات
فرأه الطفيل بن عمرو في منامه في هيئة حسنة و رآه مغطيا يديه فقال له : ما صنع ربك ؟ فقال : غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه و سلم قال : فما لي أراك مغطيا يديك ؟ قال : قيل لي لن يصلح منك ما أفسدت ! قال : فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم و ليديه فاغفر ]
رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة و إسحاق بن إبراهيم كلاهما عن سليمان ابن حرب به
فإن قيل : فما الجمع بين هذا الحديث و بين ما ثبت في الصحيحين من طريق الحسن عن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله عز و جل عبدي بادرني بنفسه فحرمت عليه الجنة ]
فالجواب من وجوه : أحدها : أنه قد يكون ذاك مشركا و هذا مؤمن
و يكون قد جعل هذا الصنيع سببا مستقلا في دخوله النار و إن كان شركه مستقلا إلا أنه نبه على هذا لتعتبر أمته
الثاني : قد يكون هذاك عالما بالتحريم و هذا غير عالم لحداثة عهده بالإسلام
الثالث : قد يكون ذاك فعله مستحيلا له و هذا لم يكن مستحيلا بل مخطئا
الرابع : قد يكون أراد ذاك بصنيعه المذكور أن يقتل نفسه بخلاف هذا فإنه يجوز أنه لم يقصد قتل نفسه و إنما أراد غير ذلك
الخامس : قد يكون هذاك قليل الحسنات فلم تقاوم كبر ذنبه المذكور فدخل النار و هذا قد يكون كثير الحسنات فقاومت الذنب فلم يلج النار بل غفر له بالهجرة إلى نبيه صلى الله عليه و سلم
و لكن بقي الشين في يده فقط و حسنت هيئة سائره فغطى الشين منه فلما رآه الطفيل بن عمرو مغطيا يديه قال له : مالك ؟ قال : قيل لي لن يصلح منك ما أفسدت فلما قصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا له فقال : [ اللهم و ليديه فاغفر ] أي فأصلح منها ما كان فاسدا و المحقق أن الله استجاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم في صاحب الطفيل ابن عمرو (2/77)
قال ابن هشام : حدثني خلد بن قرة بن خالد السدوسي وغيره من مشايخ بكر ابن وائل عن أهل العلم أن أعشى بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي ابن بكر بن وائل خرج إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد الإسلام فقال يمدح النبي صلى الله عليه و سلم :
( ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... و بت كما بات السليم مسهدا )
( و ما ذاك من عشق النساء و إنما ... تناسيت قبل اليوم خلة مهددا )
( و لكن أرى الدهر الذي هو خائن ... إذا أصلحت كفاى عاد فأفسدا )
( كهولا و شبانا فقدت ثروة ... فلله هذا الدهر كيف ترددا )
( و مازلت أبغي المال مذ أنا يافع ... وليدا و كهلا حين شبت و أمردا )
( و أبتذل العيش المراقيل تعتلى ... مسافة ما بين النجير فصرخدا )
( ألا أيهذا السائلى أين يممت ... فإن لها في أهل يثرب موعدا )
( فإن تسألى عنى فيارب سائل ... حفى عن الأعشى به حيث أصعدا )
( أجدت برجليها النجاء و راجعت ... يداها خنافا لينا غير أحردا )
( و فيها إذا ما هجرت عجر فيه ... إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا )
( و آليت لا آوى لها من كلالة ... و لا من حفى حتى تلاقى محمدا )
( متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحى و تلقى من فواضله ندى )
( نبى يرى مالا ترون و ذكره ... أغار لعمري في البلاد و أنجدا )
( له صدقات ما تغب و نائل ... فليس عطاء اليوم مانعه غدا )
( أجدك لم تسمع وصاة محمد ... نبى الإله حيث أوصى و أشهدا )
( إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... و لاقيت بعد الموت من قد تزودا )
( ندمت على أن لا تكون كمثله ... فترصد للأمر الذي كان أرصدا )
( فإياك و الميتات لا تقربنها ... و لا تأخذن سهما حديدا لتقصدا )
( و ذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... و لا تعبد الأوثان و الله فاعبدا )
( و لا تقربن حرة كان سرها ... عليك حراما فانكحن أو تأبدا )
( و ذا الحم القربى فلا تقطعنه ... لعاقبه و لا الأسير المقيدا )
( و سبح على حين العشية و الضحى ... و لا تحمد الشيطان و الله فاحمدا )
( و لا تسخرن من بائس ذى ضرارة ... و لا تحسبن المال للمرء مخلدا )
قال ابن هشام : فلما كان بمكة أو قرب منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم ليسلم فقال له : يا أبا بصير : إنه يحرم الزنا فقال الأعشى : و الله إن ذلك لأمر مالى فيه من أرب فقال : يا أبا بصير : إنه يحرم الخمر فقال الأعشى : أما هذه فو الله إن في نفسي منها العلالات و لكنى منصرف فأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأسلم فانصرف فمات في علمه ذلك ولم يعد إلى النبي صلى الله عليه و سلم هكذا أورد ابن هشام هذه القصة هاهنا و هو كثير المؤاخذات لمحمد بن إسحاق رحمه الله و هذا مما يؤاخذ به ابن هشام رحمه الله ! فإن الخمرة إنما حرمت بالمدينة بعد وقعة بني النضير كما سيأتي بيانه فالظاهر أن عزم الأعشى على القدوم للإسلام إنما كان بعد الهجرة و في شعره ما يدل على ذلك و هو قوله :
( ألا أيهذا السائلى أين يممت ... فإن لها في أهل يثرب موعدا )
و كان الأنسب و الأليق بابن هشام أن يؤخر ذكر هذه القصة إلى ما بعد الهجرة و لا يوردها ها هنا و الله أعلم قال السهيلي : و هذه غفلة من ابن هشام و من تابعه فإن الناس مجمعون على أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا في المدينة بعد أحد و قد قال : و قيل إن القائل للأعشى هو أبو جهل بن هشام في دار عتبة ابن ربيعة و ذكر أبو عبيدة أن القائل له ذلك هو عامر بن الطفيل في بلاد قيس و هو مقبل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : و قوله : ثم آته فأسلم لا يخرجه عن كفره بلا خلاف و الله أعلم ثم ذكر ابن إسحاق ها هنا قصة الإراشى و كيف استعدى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم من أبي جهل في ثمن الجمل الذي ابتاعه منه و كيف أذل الله أبا جهل و أرغم أنفه حتى أعطاه ثمنه في السعة الراهنة و قد قدمنا ذلك في ابتداء الوحي و ما كان من أذية المشركين عند ذلك و كيف أراه الشجرة التي دعاها فأقبلت صلى الله عليه و سلم (2/78)
قال ابن إسحاق : و حدثني أبي إسحاق بن يسار قال : كان ركانة بن عبد يزيد ابن هشام بن المطلب بن عبد مناف أشد قريش فخلا يوما برسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض شعاب مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : ياركانة ألا تتقي الله و تقبل ما أدعوك إليه قال : إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك فقال له رسول الله : [ أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق ؟ قال : نعم قال فقم حتى أصارعك ]
قال : فقام ركانة إليه فصارعه فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه و سلم أضجعه لا يملك من نفسه شيئا
ثم قال : عد يا محمد فعاد فصرعه فقال : يا محمد و الله إن هذا للعجب أتصرعني ؟ ! قال [ و أعجب من ذلك إن شئت أريكه إن اتقيت الله و اتبعت أمري ] قال : و ما هو ؟ قال : [ أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني ] قال : فادعها فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لها : [ ارجعي إلى مكانك ! فرجعت إلى مكانها ] قال : فذهب ركانة إلى قومه فقال : يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فو الله ما رأيت أسحر منه قط ! ثم أخبرهم بالذي رأى و الذي صنع هكذا روى ابن إسحاق هذه القصة مرسلة بهذا البيان و قد روى أبو داود و الترمذي من حديث أبي الحسن العسقلاني عن أبي جعفر ابن محمد بن ركانة عن أبيه أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه و سلم فصرعه النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال الترمذي : غريب و لا نعرف أبا الحسن و لا ابن ركانة قلت : و قد روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه و سلم فصرعه النبي صلى الله عليه و سلم ثلاث مرات كل مرة على مائة من الغنم فلما كان في الثالثة قال : يا محمد ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك و ما كان أحد أبغض إلى منك و أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله فقام عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم و رد عليه غنمه و أما قصة دعائه الشجرة فأقبلت فسيأتي في كتاب دلائل النبوة بعد السيرة من طرق جيدة صحيحة في مرات متعددة إن شاء الله و به الثقة و قد تقدم عن أبي الأشدين أنه صارع النبي صلى الله عليه و سلم فصرعه رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم ذكر ابن إسحاق قصة قدوم النصارى من أهل الحبشة نحوا من عشرين راكبا إلى مكة فأسلموا عن آخرهم و قد تقدم ذلك بعد قصة النجاشي و لله الحمد و المنة (2/82)
قال ابن إسحاق : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا جلس في المسجد فجلس إليه المستضعفون من أصحابه خباب و عمار و أبو فكيه يسار مولى صفوان بن أمية و صهيب و أشباههم من المسلمين هزئت بهم قريش و قال بعضهم لبعض : هؤلاء أصحابه كما ترون أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى و دين الحق لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه و ما خصه الله به دوننا
فأنزل الله عز و جل فيهم : { و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ و ما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين و كذلك قوتنا بعضهم ببعض ليقولوا بهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين و إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده و أصلح فأنه غفور رحيم }
قال و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم كثير ما يجلس عند المرة إلى مبيع غلام نصر انى يقال له جبر عبد لبني الحضرمي و كانوا يقولون : و الله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر
فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم { إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي و هذا لسان عربي مبين }
ثم ذكر نزول سورة الكوثر في العاص بن وائل حين قال عن رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنه أبتر أي لا عقب له فإذا مات انقطع ذكره فقال الله تعالى : { إن شانئك هو الأبتر } أي المقطوع الذكر بعده و لو خلف ألوفا من النسل و الذرية و ليس الذكر و الصيت و لسان الصدق بكثرة الأولاد و الأنسال و العقب و قد تكلمنا على هذه السورة في التفسير و لله الحمد
و قد روى عن أبي جعفر الباقر : أن العاص بن وائل إنما قال ذلك حين مات القاسم ابن النبي صلى الله عليه و سلم و كان قد باغ أن يركب الدابة و يسير على النجيبة
ثم ذكر نزول قوله { و قالوا لولا أنزل عليه ملك و لو أنزلنا ملكا لقضي الأمر } و ذلك بسبب قول أبي بن خلف و زمعة بن الأسود و العاص بن وائل و النضر بن الحارث : لولا أنزل عليك ملك يكلم الناس عنك
قال ابن إسحاق : و مر رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغنا بالوليد بن المغيرة و أمية بن خلف و أبي جهل ابن هشام فهمزوه و استهزءوا به فغاظه ذلك فأنزل الله تعالى في ذلك من أمرهم { و لقد استهزئ برسل من فبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون }
قلت : و قال الله تعالى { و لقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا و أوذوا حتى أتاهم نصرنا و لا مبدل لكلمات الله و لقد جاءك من نبأ المرسلين } و قال تعالى { إنا كفيناك المستهزئن }
قال سفيان : عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن عباس قال : المستهزءون : الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري و الأسود بن المطلب أبو زمعة و الحارث بن عطيل و العاص بن وائل السهمي
فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأراه الوليد فأشار جبريل إلى أنمله و قال : كفيته
ثم أراه الأسود بن المطلب فأومأ إلى عنقه و قال : كفيته
ثم أراه الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه و قال : كفيته
ثم أراه الحارث بن عطيل فأومأ إلى بطنه وقال : كفيته
و مر به العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه و قال : كفيته
فأما الوليد فمر برجل من خزاعة و هو يريش نبلا له فأصاب أنمله فقطعها
و أما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها
و أما الأسود بن المطلب فعمى و كان سبب ذلك أنه نزل تحت سمرة فجعل يقول : يا بني ألا تدفعون عني ! قد قتلت فجعلا يقولون : ما نرى شيئا و جعل يقول : يا بني ألا تمنعون عني قد هلكت هاهو ذا الطعن بالشوك في عيني فجعلوا يقولون : ما نرى شيئا فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه
و أما الحارث بن عطيل فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها
و أما العاص بن وائل فبينما هو كذلك يوما إذ دخل في رأسه شبرقة حتى امتلأت منها فمات منها
و قال غيره في هذا الحديث : فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة يعني شوكة فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته
رواه البيهقي بنحو من هذا السياق (2/83)
قال ابن إسحاق : و كان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر و كانوا ذوي أسنان و شرف في قومهم : الأسود بن المطلب أبو زمعة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ اللهم أعم بصره و أثكله ولده ]
و الأسود بن عبد يغوث و الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و الحارث ابن الطلاطلة
و ذكر أن الله تعالى أنزل فيهم { فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون }
و ذكر أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هم يطوفون بالبيت فقام و قام رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جنبه فمر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمى
و مر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى باطنه فمات منه حبنا
و مر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعبه كان أصابه قبل ذلك بسنين من مروره برجل يريش نبلا له من خزاعة فتعلق سهم بإزاره فخدشه خدشا يسيرا فانتقض بعد ذلك فمات
و مر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته
و مر به الحارث بن الطلاطل فأشار إلى رأسه فامتحض قيحا فقتله (2/86)
ثم ذكر ابن إسحاق : أن الوليد بن المغيرة لما حضره الموت أوصى بنيه الثلاثة و هم خالد و هشام و الوليد فقال لهم : أي بني أوصيكم بثلاث : دمي في خزاعة فلا تطلوه و الله إني لأعلم أنهم منه براء و لكني أخشى أن تسبوا به بعد اليوم و رباى في ثقيف فلا تدعوه حتى تأخذوه و عقرى عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتكم به و كان أبو أزيهر قد زوج الوليد بنتا له ثم أمسكها عنه فلم يدخلها عليه حتى مات و كان قد قبض عقرها منه و هو صداقها فلما مات الوليد و ثبت بنو مخزوم على خزاعة يلتمسون منهم عقل الوليد و قالوا إنما قتله سهم صاحبكم فأبت عليهم خزاعة ذلك حتى تقاولوا أشعارا وغلظ بينهم الأمر ثم أعطتهم خزاعة بعض العقل و اصطلحوا و تحاجزوا
قال ابن إسحاق : ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أزيهر و هو بسوق ذى المجاز فقتله و كان شريفا في قومه و كانت ابنته تحت أبي سفيان و ذلك بعد بدر فعمد يزيد بن أبي سفيان فجمع الناس لبني مخزوم و كان أبوه غائبا فلما جاء أبو سفيان غاظه ما صنع ابنه يزيد فلامه على ذلك و ضربه و ودى أبا أزيهر و قال لابنه : أعمدت إلى أن تقتل قريش بعضها بعضا في رجل من دوس ؟ !
و كتب حسان بن ثابت قصيدة له يحض أبا سفيان في دم أبي أزيهر فقال : بئس ما ظن حسان أن يقتل بعضنا بعضا و قد ذهب أشرافنا يوم بدر و لما أسلم خالد بن الوليد و شهد الطائف مع رسول الله صلى الله عليه و سلم سأله في ربا أبيه من أهل الطائف
قال ابن إسحاق : فذكر لي بعض أهل العلم أن هؤلاء الآيات نزلن في ذلك { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } و ما بعدها قال ابن إسحاق : و لم يكن في بني أزيهر ثأر نعلمه حتى حجز الإسلام بين الناس إلا أن ضرار بن الخطاب بن مرداس الأسلمي خرج في نفر من قريش إلى أرض دوس فنزلوا على امرأة يقال لها أم غيلان مولاة لدوس و كانت تمشط النساء و تجهز العرائس فأرادت دوس قتلهم بأبي أزيهر أم غيلان و نسوة كن معها حتى منعتهم
قال السهيلي : يقال إنها أدخلته بين درعها و بدنها
قال ابن هشام : فلما كانت أيام عمر بن الخطاب أتته أم غيلان و هي ترى أن ضرارا أخوه فقال لها عمر : لست بأخيه إلا في الإسلام و قد عرفت منتك عليه فأعطاها على أنها بنت سبيل
قال ابن هشام : و كان ضرار بن الخطاب لحق عمر بن الخطاب يوم أحد فجعل يضربه بغرض الرمح و يقول : انج يا بن الخطاب لا أقتلك فكان عمر يعرفها له بعد الإسلام رضي الله عنهما (2/87)
و ذكر البيهقي ها هنا دعاء النبي صلى الله عليه و سلم على قريش حين استعصت عليه بسبع مثل سبع يوسف
و أورد ما أخرجاه في الصحيحين من طريق الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن ابن مسعود قال : خمس مضين اللزام و الروم و الدخان و البطشة و القمر
وفي رواية عن ابن مسعود قال : إن قريشا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبطأوا عن الإسلام قال : [ اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ] قال : فأصابتهم سنة حتى حصت كل شئ حتى أكلوا الجيف و الميتة و حتى أن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع ثم دعا فكشف الله عنهم ثم قرأ عبد الله هذه الآية { إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون } قال فعادوا فكفروا فأخروا إلى يوم القيامة أو قال فأخروا إلى يوم بدر قال عبد الله : إن ذلك لو كان يوم القيامة كان لا يكشف عنهم { يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } قال : يوم بدر وفي رواية عنه : قال لما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم من الناس إدبارا قال : [ اللهم سبع كسيع يوسف ] فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة و الجلود و العظام فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا : يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة و إن قومك قد هلكوا فادع الله لهم فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر فقال [ اللهم حوالينا و لا علينا ] فانجذب السحاب عن رأسه فسقى الناس حولهم قال : لقد مضت آية الدخان و هو الجوع الذي أصابهم و ذلك قوله { إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون } و آية الروم و البطشة الكبرى و انشقاق القمر و ذلك كله يوم بدر قال البيهقي : يريد و الله أعلم البطشة الكبرى و الدخان و آية اللزام كلها حصلت ببدر قال : و قد أشار البخاري إلى هذه الرواية ثم أورد من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال جاء : أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يستغيث من الجوع لأنهم لم يجدوا شيئا حتى أكلوا العهن فأنزل الله تعالى { و لقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم و ما يتضرعون } قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى فرج الله عنهم ثم قال الحافظ البيهقي : و قد روى في قصة أبي سفيان ما دل أن ذلك بعد الهجرة و لعله كان مرتين و الله أعلم (2/89)
ثم أورد البيهقي قصة فارس و الروم و نزول قوله تعالى { آلم غلبت الروم في أدنى الأرض و هم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل و من بعد و يومئذ يفرح المؤمنون بنصر من يشاء و هو العزيز الرحيم }
ثم روى من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب و كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ أما أنهم سيظهرون ] فذكر أبو بكر ذلك للمشركين فقالوا : اجعل بيننا و بينك أجلا إن ظهروا كان لك كذا و كذا و إن ظهرنا كان لنا كذا و كذا فذكر ذلك أبو بكر للنبي صلى الله عليه و سلم فقال [ ألا جعلته أداة ] قال دون العشر فظهرت الروم بعد ذلك و قد أوردنا طرق هذا الحديث في التفسير و ذكرنا أن المباحث ـ أي المراهن ـ لأبي بكر أمية بن خلف و أن الرهن كان على خمس قلائص و أنه كان إلى مدة فزاد فيها الصديق عن أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم و في الرهن و أن غلبة الروم على فارس كان يوم بدر أو كان يوم الحديبية فالله أعلم
ثم روى من طريق الوليد بن مسلم حدثنا أسيد الكلابي ن أنه سمع العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه قال رأيت غلبة فارس الروم ثم رأيت غلبة الروم فارس ثم رأيت غلبة المسلمين فرس و الروم و ظهورهم على الشام و العراق
كل ذلك في خمسة عشرة سنة ! (2/91)
في الإسراء برسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة إلى بيت المقدس ثم وجه من هناك إلى السموات و ما رأى هنالك من الآيات
ذكر ابن عساكر أحاديث الإسراء في أوائل البعثة و أما ابن إسحاق فذكرها في هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين و روى البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال : أسرى برسول الله صلى الله عليه و سلم قبل خروجه إلى المدينة بسنة
قال : و كذلك ذكره ابن لهيعة عن أبي الأسود ن عن عروة
ثم روى الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن أسباط بن نصر عن إسماعيل السدى أنه قال : فرض على رسول الله صلى الله عليه و سلم الخمس ببيت المقدس ليلة أسرى به قبل وهاجره بستة عشر شهرا فعلى قول السدى يكون الإسراء في شهر ذي القعدة و على قول الزهرى و عروة يكون في ربيع الأول (2/93)
و قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا عثمان عن سعيد بن ميناء عن جابر و ابن عباس قالا : ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول و فيه بعث و فيه عرج به إلى السماء وفيه هاجر و فيه مات فيه انقطاع و قد اختاره الحافظ عبد الغنى بن سرور المقدسي في سيرته و قد أورد حديثا لا يصح سنده ذكرناه في فضائل شهر رجب أن الاسراء كان ليلة السابع و العشرين من رجب و الله أعلم و من الناس من يزعم أن الإسراء كان أول ليلة جمعة من شهر رجب و هي ليلة الرغائب التي أحدثت فيها الصلاة المشهورة و لا أصل لذلك و الله أعلم و ينشد بعضهم في ذلك :
( ليلة الجمعة عرج بالنبي ... ليلة الجمعة أول رجب )
و هذا الشعر عليه ركاكة و إنما ذكرناه استشهادا لمن يقول به :
و قد ذكرنا الأحاديث الواردة في ذلك مستقصاة عند قوله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير }
فلتكتب من هناك على ما هي من الأسانيد و العزو و الكلام عليها و معها ففيها مقنع و كفاية و لله الحمد و المنة (2/93)
و لنذكر ملخص كلام ابن إسحاق رحمه الله : فإنه قال بعد ذكر ما تقدم من الفصول ثم أسرى برسول الله صلى الله عليه و سلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى و هو بيت المقدس من إيلياء وقد فشا الإسلام بمكة في قريش وفي القبائل كلها
قال : و كان من الحديث فيما بلغني عن مسراة صلى الله عليه و سلم عن ابن مسعود و أبي سعيد و عائشة و معوية و أم هاني بنت أبي طالب رضي الله عنهم و الحسن بن أبي الحسن و ابن شهاب الزهري و قتادة و غيرهم من أهل العلم ما اجتمع في هذا الحديث كل بحدث عنه بعض ما ذكر لي من أمره
و كان في مسراة صلى الله عليه و سلم و ما ذكر لي منه بلاء و تمحيص و أمر من أمر الله و قدرته و سلطانه فيه عبرة لولي الألباب و هدى و رحمة و ثبات لمن آمن و صدق و كان أمر الله على يقين فأسرى به كيف شاء و كما شاء ليريه من آياته ما أراد حتى عاين ما عاين من أمره و سلطانه العظيم و قدرته التي يصنع بها ما يريد
و كان عبد الله بن مسعود فيما بلغني يقول : أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم : بالبراق و هي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله تضع حافرها في موضع منتهى طرفها فحمل عليها ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء و الأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم و موسى و عيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له فصلى بهم
ثم أتى بثلاثة آنية من لبن و خمر و ماء فذكر أنه شرب إناء اللبن فقال لي جبريل : هديت و هديت أمتك
و ذكر ابن إسحاق في سياق الحسن البصري مرسلا أن جبريل أيقظه ثم خرج به إلى باب المسجد الحرام فأركبه البراق و هو دابة أبيض بين البغل و الحمار و في فخديه جناحان يحفز بهما رجليه يضع حافره في منتهى طرفه ثم حملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني و لا أفوته
قلت : وفي الحديث و هو عن قتاده فيما ذكره ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أراد ركوب البراق شمس به فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال ألا تستحي يا براق مما تصنع ! فو الله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه قال : فاستحى حتى ارفض عرقا ثم قر حتى ركبته
قال الحسن في حديثه : فمضى رسول الله صلى الله عليه و سلم و مضى معه جبريل حتى انتهى به إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم و موسى وعيسى في نفر من الأنبياء فأمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى بهم ثم ذكر اختياره إناء اللبن على إناء الخمر و قول جبريل له : هديت و هديت أمتك و حرمت عليم الخمر قال : انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مكة فأصبح يخبر قريشا بذلك
فذكر أنه كذبه أكثر الناس و ارتدت طائفة بعد إسلامها و بادر الصديق إلى التصديق و قال : إني لأصدقه في خبر السماء بكرة و عشية أفلا أصدقه في بيت المقدس ! و ذكر أن الصديق سأله عن صقة بيت المقدس فذكرها له رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال : فيومئذ سمى أبو بكر الصديق قال الحسن : و أنزل الله في ذلك { و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } الآية
و ذكر ابن إسحاق فيما بلغه عن أم هانئ أنها قالت : ما أسرى برسول الله صلى الله عليه و سلم إلا من بيتي نام عندي تلك الليلة بعد ما صلى العشاء الآخرة فلما كان قبيل الفجر أهبنا فلما كان الصبح و صلينا معه قال : [ يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة في هذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت الغداة معكم كما ترين ]
ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه فقلت : يا نبي الله لا تحدث بهذا الحديث الناس فيكذبونك ويؤذونك قال : [ و الله لأحد ثنهموه ] فاخبرهم فكذبوه
فقال : [ و آية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا و كذا فأنفرهم حس الدابة فندلهم بعير فدللتهم عليه و أنا متوجه إلى الشام ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما و لهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشئ فكشفت غطاءه و شربت ما فيه ثم غطيت عليه كما كان و آية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم البيضاء يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء و الأخرى برقاء قال : فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول الجمل الذي وصف لهم و سألوهم عن الإناء و عن البعير فاخبروهم كما ذكر صلوات الله و سلامه عليه ]
و ذكر يونس بن بكير عن أسباط عن إسماعيل السدى أن الشمس كادت أن تغرب قبل أن يقدم ذلك العير فدعا الله عز و جل فحبسها حتى قدموا كما وصف لهم
قال : فلم تحتبس الشمس على أحد إلا عليه ذلك اليوم و على يوشع بن نون رواه البيهقي (2/94)
قال ابن إسحاق : و أخبرني من لا أتهم عن أبي سعيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتى بالمعراج و لم أر شيئا قط أحسن منه و هو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر فأصعدني فيه صاحبي حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء يقال له باب الحفظة عليه بريد من الملائكة يقال له إسماعيل تحت يده اثنا عشر ألف ملك تحت يد كل ملك اثنا عشر ألف ملك ]
قال : يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا حدث بهذا الحديث : [ و ما يعلم جنود ربك إلا هو ]
ثم ذكر بقية الحديث و هو مطول جدا و قد سقناه بإسناده و لفظه بكماله في التفسير و تكلمنا عليه فإنه من غائب الأحاديث و في إسناده ضعف و كذا في سياق حديث أم هانئ فإن الثابت في الصحيحين من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس أن الإسراء كان من المسجد من عند الحجر (2/98)
وفي سياقه غرابة أيضا من وجوه قد تكلمنا عليها هناك و منها قوله و ذلك قبل أن يوحى إليه و الجواب أن مجيئهم أول مرة كان قبل أن يوحى إليه فكانت تلك الليلة و لم يكن فيها شئ ثم جاءه الملائكة ليلة أخرى و لم يقل في ذلك : و ذلك قبل أن يوحى إليه بل جاءه بعد ما أوحى إليه فكان الإسراء قطا بعد الإيحاء إما بقليل كما زعمه طائفة أو بكثير نحو من عشر سنين كما زعمه آخرون و هو الأظهر و غسل صدره تلك الليلة قبل الإسراء غسلا ثانيا أو ثالثا على قول أنه مطلوب إلى الملأ الأعلى و الحضرة الإلهية ثم ركب البراق رفعه له و تعظيما و تكريما فلما جاء بيت المقدس ربطه بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء ثم دخل بيت المقدس فصلى في قبلته تحية المسجد و أنكر حذيفة رضي الله عنه دخوله إلى بيت المقدس و ربطه الدابة و صلاته فيه و هذا غريب و النص المثبت مقدم على النافي (2/98)
ثم اختلفوا في اجتماعه بالأنبياء و صلاته بهم : أكان قبل عروجه إلى السماء كما دل عليه ما تقدم أو بعد نزوله منهم كما دل عليه بعض السياقات وهو أنسب كما سنذكره على قولين فالله أعلم
و قيل : إن صلاته بالأنبياء كانت في السماء
و هكذا تخيره من الآنية اللبن و الخمر و الماء هل كانت ببيت المقدس كما تقدم ؟ أوفي السماء كما ثبت في الحديث الصحيح
والمقصود أنه صلى الله عليه و سلم لما فرغ من أمر بيت المقدس نصب له المعراج و هو السلم فصعد فيه إلى السماء و لم يكن الصعود على البرق كما يتوهمه بعض الناس بل كان البرق مربوطا على باب مسجد بيت المقدس ليرجع عليه إلى مكة
فصعد من سماء إلى سماء في المعراج حتى جاوز السابعة و كلما جاء سماء تلقته منها مقربوها و من فيها من أكابر الملائكة و الأنبياء
و ذكر أعيان من رآه من المرسلين كآدم في سماء الدنيا و يحيى و عيسى في الثانية و إدريس في الرابعة و موسى في السادسة على الصحيح و إبراهيم في السابعة مسندا ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه صلاة و طوافا ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة
ثم جاوز مراتبهم كلهم حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام و رفعت لرسول الله صلى الله عليه و سلم سدرة المنتهى و إ ذا ورقها كآذان الفيلة و نبقها كقلال هجر و غشيها عند ذلك أمور عظيمة و ألوان متعددة باهرة و ركبتها الملائكة مثل الغربان على الشجرة كثرة و فراش من ذهب و غشيها من نور الرب جل جلاله (2/99)
ورأى هنالك جبريل عليه السلام له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين السماء و الأرض و هو الذي يقول الله تعالى : { و لقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر و ما طغى } أي ما زاغ يمينا و لا شمالا و لا ارتفع عن المكان الذي حد له النظر إليه
و هذا هو الثبات العظيم و الأدب الكريم
و هذه الرؤيا الثانية لجبريل عليه السلام على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها كما نقله ابن مسعود و أبو هريرة و أبو ذر و عائشة رضي الله عنهم أجمعين
و الأولى هي قوله تعالى : { علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى و هو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى } و كان ذلك بالأبطح تدلى جبريل على رسول الله صلى الله عليه و سلم سادا عظم خلقه ما بين السماء و الأرض حتى كان بينه و بين قاب قوسين أو أدنى هذا هو الصحيح في التفسير كما دل عليه كلام أكابر الصحابة المتقدم ذكرهم رضي الله عنهم : فأما قول شريك عن أنس في حديث الإسراء : [ ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ] فقد يكون من فهم الراوي فأقحمه في الحديث و الله أعلم
و إن كان محفوظا فليس بتفسير للآية الكريمة بل هو شئ آخر غير ما دلت يليه الآية الكريمة و الله أعلم (2/100)
و فرض الله سبحانه و تعالى على عبده محمد صلى الله عليه و سلم و على أمته الصلوات ليلتئذ خمسين صلاة في كل يوم و ليلة ثم لم يزل يختلف بين موسى و بين ربه عز و جل حتى وضعها الرب جل جلاله و له الحمد و المنة إلى خمس و قال [ هي خمس و هي خمسون الحسنة بعشر أمثالها ] (2/101)
فحصل له التكليم من الرب عز و جل ليلتئذ و أئمة السنة كالمطبقين على هذا
و اختلفوا في الرؤية فقال بعضهم : رآه بفؤاده مرتين قاله ابن عباس و طائفة و أطلق ابن عباس و غيره الرؤية و هو محمول على التقييد
و ممن أطلق الرؤية أبو هريرة و أحمد بن حنبل رضي الله عنهما
و صرح بعضهم بالرؤية بالعينين و اختاره ابن جرير و بالغ فيه و تبعه على ذلك آخرون من المتأخرين (2/101)
و ممن نص على الرؤية بعيني رأسه الشيخ أبو الحسن الأشعري فيما نقله السهيلي عنه و اختاره أبو زكريا النووي في فتاويه و قالت طائفة : لم يقع ذلك لحديث أبي ذر في صحيح مسلم : قلت يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ فقال : [ نور أني أراه ] و في رواية [ رأيت نورا ]
قالوا : و لم يكن رؤية الباقي بالعين الفاتنة و لهذا قال الله تعالى لموسى فيما روى بعض الكتب الإلهية : إنه لا يراني حي إلا مات و لا يابس إلا تدهده
و الخلاف في هذه المسئلة مشهور بين السلف و الخلف و الله أعلم
ثم هبط رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيت المقدس و الظاهر أن الأنبياء هبطوا معه تكريما و تعظيما عند رجوعه من الحضرة الإلهية كما هي عادة الوافدين لا يجتمعون بأحد قبل الذي طلبوا إليه
و لهذا كان كلما مر على واحد منهم يقول له جبريل عندما يتقدم ذاك للسلام عليه : هذا فلان فسلم عليه فلو كان قد اجتمع بهم قبل صعوده لما احتاج إلى تعريف بهم مرة ثانية و مما يدل على ذلك أنه قال : فلما حانت الصلاة : [ أممتهم و لم يحن وقت إذ ذاك إلا صلاة الفجر فتقدمهم إماما بهم عن أمر جبريل فيما يرويه عن ربه عز و جل ] فاستفاد بعضهم من هذا أن الإمام الأعظم يقدم في الإمامة على رب المنزل حيث كان بيت المقدس محلتهم و دار إقامتهم (2/102)
ثم خرج منه فركب البراق و عاد إلى مكة فأصبح بها و هو في غاية الثبات و السكينة و الوقار و قد عاين في تلك الليلة من الآيات و الأمور التي لو رآها أو بعضها غيره لأصبح مندهشا أو طائش العقل و لكنه صلى الله عليه و سلم أصبح و اجما أي سكنا يخشى إن بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه (2/102)
فتلطف بإخبارهم أو لا بأنه جاء بيت المقدس في تلك الليلة
و ذلك أن أبا جهل لعنه الله رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد الحرام و هو جالس و اجم فقال له : هل من خبر ؟ فقال نعم فقال : و ما هو ؟ فقال : إني أسرى بي الليلة إلى بيت المقدس قال : إلى بيت المقدس ؟ قال : نعم قال : أ رأيت إن دعوت قومك لك لتخبرهم أتخبرهم بما أخبرتني به ؟ قال : نعم فأراد أبو جهل جمع قريش ليسمعوا منه ذلك و أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم جمعهم ليخبرهم ذلك و يبلغهم فقال أبو جهل : هيا معشر قريش و قد اجتمعوا من أنديتهم فقال أخبر قومك بما أخبرتني به فقص عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم خبر ما رأى و أنه جاء بيت المقدس هذه الليلة و صلى فيه فمن بين مصفق و بين مصفر تكذيبا له و استبعادا لخيره و طار الخبر بمكة و جاء الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه فأخبروه أن محمدا صلى الله عليه و سلم يقول كذا و كذا فقال : إنكم تكذبون عليه فقالوا : و الله إنه ليقوله فقال : إن كان قاله فلقد صدق
ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و حوله مشركوا قريش فسأله عن ذلك فأخبره فاستعلمه عن صفات بيت المقدس ليسمع المشركون و يعلموا صدقه فيما اخبرهم به و في الصحيح : أن المشركين هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك قال فجعلت أخبرهم عن آياته فالتبس على بعض الشئ فجلى الله لي بيت المقدس حتى جعلت أنظر إليه دون دار عقيل وأنعته لهم فقالوا : أما الصفة فقد أصاب و ذكر ابن إسحاق ما تقدم من إخباره لهم بمروره بعيرهم و ما كان من شربه ماءهم فأقام الله عليهم الحجة و استنارت لهم المحجة فآمن من آمن على يقين من ربه و كفر من كفر بعد قيام الحجة عليه كما قال الله تعالى { و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } أي اختبارا لهم و امتحانا (2/102)
قال ابن عباس : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه و سلم و هذا مذهب جمهور السلف و الجلف من أن الإسراء كان ببدنه و روحه صلوات الله و سلامه عليه كما دل على ذلك ظاهر السياقات من ركوبه و صعوده في المعراج و غير ذلك و لهذا قال { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه } و التسبيح إنما يكون عند الآيات العظيمة الخارقة فدل على أنه بالروح و الجسد و العبد عبارة عنهما و أيضا فلو كان مناما لما بادر كفار قريش إلى التكذيب به و الاستبعاد له إذ ليس في ذلك كبير أمر فدل على أنه أسرى به يقظة لا مناما و قوله في حديث شريك عن أنس [ ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر ] معدود في غلطات شريك أو محمول على أن الانتقال من حال إلى حال يسمى يقظة كما سيأتي في حديث عائشة رضي الله عنها حين ذهب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الطائف فكذبوه قال : [ فرجعت مهموما فلم أستفق إلا بقرن الثعالب ] و في حديث أبي أسيد حين جاء بابنه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ليحنكه فوضعه على فخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم و اشتغل رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحديث مع الناس فرفع أبو أسيد ابنه ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يجد الصبي فسأل عنه فقالوا رفع فسماه المنذر و هذا الحمل أحسن من التغليط و الله أعلم (2/104)
و قد حكى ابن إسحاق فقال : حدثني بعض آل أبي بكر عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول : ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه و سلم و لكن الله أسرى بروحه
قال : و حدثني يعقوب بن عتبة : أن معاوية كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كانت رؤيا من الله صادقة
قال ابن إسحاق : فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن : إن هذه الآية نزلت في ذلك { و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } و كما قال إبراهيم عليه السلام [ يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ] و في الحديث [ تنام عيناي و قلبي يقظان ]
قال ابن إسحاق : فالله أعلم أي ذلك كان قد جاءه و عاين فيه ما عاين من أمر الله تعالى على أي حالة كان نائما أو يقظان كل ذلك حق و صدق (2/105)
قلت : و قد توقف ابن إسحاق في ذلك و جوز كلا من الأمرين من حيث الجملة و لكن الذي لا شك فيه و لا يتمارى أنه كان يقظان لا محالة لما تقدم و ليس مقتضى كلام عائشة رضي الله عنها أن جسده صلى الله عليه و سلم ما فقد و إنما كان الإسراء بروحه أن يكون مناما كما فهمه ابن إسحاق بل قد يكون وقع الإسراء بروحه حقيقة و هو يقظان لا نائم و ركب البراق و جاء بيت المقدس و صعد السموات و عاين ما عاين حقيقة و يقظة لا مناما لعل هذا مراد عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها و مراد من تابعها على ذلك لا ما فهمه ابن إسحاق من أنهم أرادوا بذلك المنام و الله أعلم (2/105)
تنبيه : و نحن لا ننكر وقوع منام قبل الإسراء طبق ما وقع بعد ذلك فإنه صلى الله عليه و سلم كان لايرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وقد تقدم مثل ذلك في حديث بدء الوحي أنه رأى مثل ما وقع له يقظة مناما قبله ليكون ذلك من باب الإرهاص و التوطئة و التثبيت و الإيناس و الله أعلم ثم قد اختلف العلماء في أن الإسراء و المعراج هل كانا في ليلة واحدة أو كل في على حدة ؟ فمنهم من يزعم أن الإسراء في اليقظة و المعراج في المنام و قد حكى المهلب بن أبي صفرة في شرحه البخاري عن طائفة أنهم ذهبوا إلى أن الإسراء [ وقع ] مرتين مرة بروحه مناما و مرة ببدنه و روحه يقظة و قد حكاه الحافظ أبو القاسم السهيلي عن شيخه أبي بكر بن العربي الفقيه قال السهيلي : و هذا القول يجمع الأحاديث فإن في حديث شريك عن أنس : و ذلك فيما يرى قبله و تنام عيناه و لا ينام قلبه و قال في آ خره : [ ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر ] و هذا منام و دل غيره على اليقظة (2/106)
و منهم من يدعي تعدد الإسراء في اليقظة أيضا حتى قال بعضهم : إنها أربع إسراءات و زعم بعضهم أن بعضها كان بالمدينة
و قد حاول الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله أن يوفق بين اختلاف ما وقع في روايات حديث الإسراء بالجمع المتعدد فجعل ثلاث إسراءات مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق و مرة من مكة إلى السماء على البراق أيضا لحديث حذيفة ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السموات فنقول : إن كان إنما حمله على القول بهذه الثلاث اختلاف الروايات فقد اختلف لفظ الحديث في ذلك على أكثر من هذه الثلاث صفات و من أراد الوقوف إلى ذلك فلينظر فيما جمعناه مستقصى في كتابنا التفسير عند قوله تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا }
و إن كان إنما حمله أن التقسيم انحصر في ثلاث صفات بالنسبة إلى بيت المقدس و إلى السموات فلا يلزم من الحصر العقلى الوقوع كذلك في الخارج إلا بدليل و الله أعلم (2/106)
والعجب أن الإمام أبا عبد الله البخاري رحمه الله ذكر الإسراء بعد ذكره موت أبي طالب فوافق ابن إسحاق في ذكره المعراج في أواخر الأمر و خالفه في ذكره بعد موت أبي طالب و ابن إسحاق أخر ذكر موت أبي طالب على الإسراء فالله أعلم أي ذلك كان
و المقصود أن البخاري فرق بين الإسراء و بين المعراج فبوب لكل واحد منهما بابا على حدة
فقال : باب حديث الإسراء و قول الله سبحانه و تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال : سمعت جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ لما كذبني قريش كنت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أحدثهم عن آياته و أنا أنظر إليه ]
وقد رواه مسلم و الترمزي و النسائي من حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر به و رواه مسلم و النسائي و الترمزي من حديث عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم بنحوه (2/107)
ثم قال البخاري : باب حديث المعراج : حدثنا هدبة بن خالد حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس بن مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه و سلم حدثهم عن ليلة أسرى به قال : [ بينما أنا في الحطيم و ربما قال في الحجر مضطجعا إذ أتاني آت فقد قال : وسمعته يقول : ] فشق ما بين هذه إلى هذه فقلت للجارود و هو إلى جنبي ما يعني به ؟ قال : من نقرة نحره إلى شعرته و سمعته يقول من قصه إلى شعرته
[ فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا فغسل قلبي ثم حشى ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض ]
فقال الجارود : و هو البراق يا أبا حمزة ؟ قال أنس : نعم
[ يضع خطوة عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلق بي جبرائيل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح قيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل قيل : و من معك ؟ قال : محمد قيل : و قد أرسل ؟ قال نعم قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء
ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحبا بالابن الصالح و النبي الصالح
ثم صعد بي إلى السماء الثانية فاستفتح قيل من هذا ؟ قال : جبرائيل قيل : من و معك ؟ قال : محمد قيل : و قد أرسل إليه ؟ قال : نعم قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء
ففتح فلما خلصت إذا يحيى و عيسى و هما ابنا خالة قال : هذا يحيى و عيسى فسلم عليهما فسلمت عليهما فردا ثم قالا : مرحبا بالأخ الصالح و النبي الصالح
ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبرائيل قيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل قال و من معك ؟ قال : محمد قيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : نعم قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء
ففتح فلما خلصت إذا يوسف قال : هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح و النبي الصالح
ثم صعد بي حتى السماء الرابعة فاستفتح قيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل قال و من معك ؟ قال : محمد قيل : و قد أرسل إليه ؟ قال : نعم قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء
فلما خلصت إذا إدريس قال : هذا إدريس فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح و النبي الصالح
ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل قيل : و من معك ؟ قال : محمد قيل : و قد أرسل إليه ؟ قال : نعم قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء
فلما خلصت إذا هارون قال : هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح و النبي الصالح
ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح فقيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل قيل : و من معك ؟ قال محمد قيل : و قد أرسل إليه ؟ قال : نعم قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت إذا موسى قال : هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال : مرحبا بالأخ الصالح و النبي الصالح
فلما تجاوزت بكى فقيل له : ما يبكيك ؟ قال أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي
ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبرائيل قيل : من هذا ؟ قال : جبرائيل قيل : ومن معك ؟ قال : محمد قيل : وقد بعث إليه ؟ قال : نعم قيل : مرحبا به فنعم المجيء جاء
فلما خلصت إذا إبراهيم قال : هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحبا بالابن الصالح و النبي الصالح ثم رفعت إلى سدرة المنتهى و إذا أربعة أنهار : نهران ظاهران و نهران باطنان فقلت : ما هذا يا جبرائيل ؟ قال : أما الباطنان فنهران في الجنة و أما الظاهران فالنيل و الفرات
ثم رفع لي البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ملك ثم أتيت بإناء من خمر و إناء من لبن و إناء من عسل فأخذت اللبن قال : هي الفطرة التي أنت عليها و أمتك ثم فرض علي الصلوات خمسون صلاة كل يوم فرجعت فمررت على موسى فقال : بم أمرت ؟ قال : أمرت بخمسين صلاة كل يوم قال : إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم و إني و الله قد جربت الناس قبلك و عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك
فرجعت فوضع عني عشرا
فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا
فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا
فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم فقال مثله
فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم
فرجعت إلى موسى فقال : بم أمرت ؟ فقلت : بخمس صلوات كل يوم قال : إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم و إني قد جربت الناس قبلك و عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك قال : سألت ربي حتى استحييت و لكن أرضى و أسلم
قال : فلما جاوزت ناداني مناد : أمضيت فريضتي و خففت عن عبادي ]
هكذا روى البخاري هذا الحديث ههنا و قد رواه في مواضع أخر من صحيحة و مسلم و الترمذي و النسائي من طرق عن قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة
و رويناه من حديث أنس بن مالك عن أبي بن كعب و من حديث أنس عن أبي ذر و من طرق كثيرة عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم و قد ذكرنا ذلك مستقصى بطرقه و ألفاظه في التفسير
و لم يقع في هذا السياق ذكر بيت المقدس و كأن بعض الرواة يحذف بعض الخبر للعلم به أو ينساه أو يذكر ما هو الأهم عنده أو يبسط تارة فيسوقه كله و تارة يحذف عن مخاطبة بما هو الأنفع عنده
و من جعل كل رواية إسراء على حدة كما تقدم عن بعضهم فقد أبعد جدا
و ذلك أن كل السياقات فيها السلام على الأنبياء و في كل منها يعرفه بهم و في كلها يفرض عليه الصلوات فكيف يمكن أن يدعي تعدد ذلك ؟ !
هذا في غاية البعد و الاستحالة و الله أعلم
ثم قال البخاري : حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : { و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة أسرى به إلى بيت المقدس [ و الشجرة الملعونة في القرآن ] قال : هي شجرة الزقوم (2/108)
و لما أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم من صبيحة ليلة الإسراء جاءه جبرائيل عند الزوال فبين له كيفية الصلاة و أوقاتها
و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه فاجتمعوا و صلى به جبرائيل في ذلك اليوم إلى الغد و المسلمون يأتمون بالنبي صلى الله عليه و سلم و هو يقتدي بجبرائيل كما جاء في الحديث عن ابن عباس و جابر [ أمنى جبرائيل عند البيت مرتين ]
فبين له الوقتين الأول و الآخر فهما و ما بينهما الوقت الموسع و لم يذكر توسعه في وقت المغرب و قد ثبت ذلك في حديث أبي موسى و بريدة و عبد الله بن عمرو و كلها في صحيح مسلم و موضع بسط ذلك في كتابنا الأحكام و لله الحمد (2/112)
فأما ما ثبت في صحيح البخاري عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : [ فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر و زيد في صلاة الحضر ] و كذا رواه الوزاعي عن الزهري و رواه الشعبي عن مسروق عنها : و هذا مشكل من جهة أن عائشة كانت تتم الصلاة في السفر و كذا عثمان بن عفان و قد تكلمنا على ذلك عند قوله تعالى { و إذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } قال البيهقي : و قد ذهب الحسن البصري إلى أن صلاة الحضر أول ما فرضت أربعا كما ذكره مرسلا من صلاته عليه السلام صبيحة الإسراء : الظهر أربعا و العصر أربعا و المغرب ثلاثا يجهر في الأوليين و العشاء أربعا يجهر في الأوليين و الصبح ركعتين يجهر فيها قلت : فلعل عائشة أرادت أن الصلاة قبل الإسراء تكون ركعتين ركعتين ثم لما فرضت الخمس فرضت حضرا إلى ما هي عليه و رخص في السفر أن يصلى ركعتين كما كان الأمر عليه قديما وعلى هذا لا يبقى إشكال بالكلية و الله أعلم (2/112)
و جعل الله آية على صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما جاء به من الهدى و دين الحق حيث كان ذلك وقت إشارته الكريمة
قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز : { اقتريت الساعة و انشق القمر و إن يروا آية يعرضوا و يقولوا سحر مستمر و كذبوا و اتبعوا أهواءهم و كل أمر مستقر } و قد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه عليه الصلاة و السلام و جاءت بذلك الأحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع عند احاط بها و نظر فيها و نحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله و به الثقة و عليه التكلان و قد تقصينا ذلك في كتابنا التفسير فذكرنا الطرق و الألفاظ محررة و نحن نشير هاهنا إلى أطراف من طرقها و نعزها إلى الكتب المشهورة بحول الله و قوته (2/113)
و ذلك مروى عن أنس بن مالك و جبير بن مطعم و حذيفة و عبد الله بن عباس و عبد الله بن عمر و عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين أما أنس فقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه و سلم آية فانشق القمر بمكة مرتين فقال : [ اقتربت السعة و انشق القمر ] و رواة مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به و هذا من مرسلات الصحابة و الظاهر أنه تلقاه عن الجم الغفير من الصحابة أو عن النبي صلى الله عليه و سلم أو عن الجميع و قد روى البخاري و مسلم هذا الحديث من طريق شيبان زاد البخاري : و سعيد ابن أبي عروبة و زاد مسلم : و شعبة ثلاثتهم عن قتادة عن أنس : أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما لفظ البخاري و أما جبير بن مطعم فقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كثير حدثنا سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فصار فرقتين فرقة على هذا الجبل و فرقة على هذا الجبل فقالوا : سحرنا محمد فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم
تفرد به أحمد
و هكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضل و غيره عن حصين به و قد رواه البيهقي من طريق إبراهيم بن طهمان و هشيم كلاهما عن حصين بن عبد الرحمن عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده به فزاد رجلا في الإسناد (2/114)
و أما حذيفة بن اليمان فروى أبو نعيم في الدلائل من طريق عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمى قال : خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : [ اقتربت الساعة و انشق القمر ] آلا و إن الساعة قد اقتربت ألا و إن القمر قد انشق ألا و إن الدنيا قد آذنت بفراق ألا و إن اليوم المضمار و غدا السباق
فلما كانت الجمعة الثانية انطلقت مع أبي إلى الجمعة فحمد الله و قال مثله و زاد : ألا و إن السابق من سبق إلى الجمعة
فلما كنا في الطريق قلت لأبي : ما يعني بقوله ـ غدا السباق ـ قال : من سبق إلى الجنة
و أما ابن عباس فقال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير حدثنا بكر عن جعفر عن عراك بن مالك عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال : إن القمر انشق في زمان النبي صلى الله عليه و سلم
و رواه البخاري أيضا و مسلم حديث بكر و هو ابن نصر عن جعفر قوله : [ اقتربت الساعة و انشق القمر و إن يروا آية يعرضوا و يقولوا سحر مستمر ] قال : قد مضى ذلك كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه و هكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه و هو من مرسلاته و قال الحافظ أبو نعيم : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا بكر بن سهيل حدثنا عبد الغني بن سعيد حدثنا موسى بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس و عن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس في قوله : [ اقتربت الساعة و انشق القمر ] قال ابن عباس : اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم الوليد بن المغيرة و أبو جهل بن هشام ن و العاص بن وائل و العاص بن هشام و الأسود ابن عبد يغوث و الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى و زمعة بن الأسود و النضر بن الحارث و نظراؤهم كثير فقال للنبي صلى الله عليه و سلم : إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس و نصفا على قعيقعان فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن فعلت تؤمنوا ؟ ] قالوا : نعم و كانت ليلة بدر فسأل الله عز و جل أن يعطيه ما سألوا فأمسى القمر قد سلب نصفا على أبي قبيس و نصفا على قعيقعان و رسول الله صلى الله عليه و سلم ينادي : يا أبا سلمة بن عبد الأسد و الأرقم بن الأرقم اشهدوا ثم قال أبو نعيم : و حدثنا سليمان بن احمد حدثنا الحسن بن العباس الرازي عن الهيثم بن العمام حدثنا إسماعيل بن زياد عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : انتهى أهل مكة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : هل من آية نعرف بها أنك رسول الله فهبط جبرائيل فقال : يا محمد قل لأهل مكة أن يحتفلوا هذه الليلة فسيروا آية إن انتفعوا بها
فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بمقالة جبرائيل فخرجوا ليلة الشق ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا و نصفا على المروة فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا : يا محمد ما هذا إلا سحر راهب
فأنزل الله { اقتربت الساعة و انشق القمر } ثم روى الضحاك عن ابن عباس قال : جاءت أحبار اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : أرنا آية حتى نؤمن بها
فسأل ربه فأراهم القمر قد انشق بجزئين أحدهما على الصفا و الآخر على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب فقالوا : هذا سحر مفترى و قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو الرزاز حدثنا محمد بن يحيى القطعي حدثنا محمد بن بكر حدثنا ابن جريح عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال : كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : سحر القمر فنزلت { اقتربت الساعة و انشق القمر و إن يروا آية يعرضوا و يقولوا سحر مستمر } و هذا إسناد جيد و فيه أنه كسف تلك الليلة فلعله حصل له انشقاق في ليلة كسوفه و لهذا حفى أمره على كثير من أهل الأرض و مع هذا قد شوهد في كثير من بقاع الأرض و يقال : إنه أرخ ذلك في بعض بلاد الهند و بنى بناء تلك الليلة و أرخ بليلة انشقاق القمر (2/115)
و أما ابن عمر فقال الحافظ البيهقي : اخبرنا أبو عبد الله الحافظ و أبو بكر أحمد ابن الحسن القاضي قالا : حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا العباس بن محمد الدورى حدثنا وهب بن جرير عن الأعمش عن مجاهد به قال مسلم : كرواية مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود و قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح و أما عبد الله بن مسعود فقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم شقتين حتى نظروا إليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اشهدوا و هكذا أخرجاه من حديث سفيان و هو ابن عيينة به و من حديث الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله بن سمرة عن ابن مسعود قال : انشق القمر و نحن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بمنى فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ اشهدوا ] و ذهبت فرقة نحو الجبل لفظ البخاري ثم قال البخاري : و قال أبو الضحاك عن مسروق عن عبد الله بمكة و تابعه محمد بن مسلم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله رضي الله عنه و قد أسند أبو داود الطيالسي حديث أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة فقالوا : انظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم قال : فجاء السفار فقالوا ذلك و قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس حدثنا العباس بن محمد الدوري حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا هيشم حدثنا مغيرة عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله قال : انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين فقال كفار قريش لأهل مكة : هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة انظروا السفار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق و إن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به قال : فسئل السفار قال و قدموا من كل وجهة فقالوا : رأينا و هكذا رواه أبو نعيم من حديث جابر عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله به
و قال الإمام أحمد : حدثنا مؤمل حدثنا إسرائيل عن سماك عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله و هو ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى رأيت الجبل بين فرجتي القمر و هكذا رواه ابن جرير من حديث أسباط عن سماك به و قال الحافظ أبو نعيم : حدثنا أبو بكر الطلحي حدثنا أبو حصين محمد بن الحسين الوادعى حدثنا يحيى الحمانى حدثنا يزيد عن عطاء عن سماك عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم بمنى و انشق القمر حتى صار فرقتين فرقة خلف الجبل فقال النبي صلى الله عليه و سلم اشهدوا اشهدوا
و قال أبو نعيم : حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا جعفر بن محمد القلانسى حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا الليث بن سعد حدثنا هشام بن سعد عن عتبة عن عبد الله ابن عتبة عن ابن مسعود قال : انشق القمر و نحن بمكة فلقد رأيت أحد شقيه على الجبل الذي بمنى و نحن بمكة و حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم حدثنا محمد بن حاتم حدثنا معاوية بن عمرو عن زائدة عن عاصم عن زر عن عبد الله قال : انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين ثم روى من حديث على بن سعيد بن مسروق حدثنا موسى بن عمير عن منصور ابن المعتمر عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال : رأيت القمر و الله منشقا باثنتين بينهما حراء و روى أبو نعيم من طريق السدى الصغير عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال : انشق القمر فلقتين فلقة ذهبت و فلقة بقيت قال ابن مسعود لقد رأيت جبل حراء بين فلقتى القمر فذهب فلقة فتعجب أهل مكة من ذلك و قالوا : سحر مصنوع سيذهب و قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فصار فرقتين فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأبي بكر : فاشهد يا أبا بكر و قال المشركون : سحر القمر حتى انشق (2/118)
فهذه طرق متعددة قوية الأسانيد تفيد القطع لمن تأملها و عرف عدالة رجالها و ما يذكره بعض القصاص من أن القمر سقط إلى الأرض حتى دخل في كم النبي صلى الله عليه و سلم و خرج من الكم الآخر فلا أصل له و هو كذب مفترى ليس بصحيح (2/120)
و القمر حين انشق لم يزايل السماء غير أنه حين أشار إليه النبي صلى الله عليه و سلم انشق عن إشارته فصار فرقتين فسارت واحدة حتى صارت من وراء حراء و نظروا إلى الجبل بين هذه و هذه كما أخبر بذلك ابن مسعود أنه شاهد ذلك و ما وقع في رواية أنس في مسند أحمد : فانشق القمر بمكة مرتين فيه نظر و الظاهر أنه أراد فرقتين و الله أعلم (2/121)
ثم من بعده خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله صلى الله عليه و سلم و رضى الله عنها
و قيل : بل هي توفيت قبله و المشهور الأول (2/122)
و هذان المشفقان هذا في الظاهر و هذه في الباطن هذاك كافر و هذه مؤمنة صديقة رضى الله عنها و أرضاها قال ابن إسحاق : ثم إن خديجة و أبا طالب هلكا في عام واحد فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه و سلم المصائب بهلك خديجة و كانت له وزء صدق على الابتلاء يسكن إليها و بهلك عمه أبي طالب و كان له عضدا و حرزا في أمره و منعة و ناصرا على قومه و ذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين (2/122)
فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأذى مالم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا فحدثنى هشام بن عروة عن أبيه قال : فدخل رسول الله صلى الله عليه و سلم بيته و التراب على رأسه فقامت إليه إحدى بناته تغسله و تبكى و رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تبكى يا بنية فإن الله مانع أباك و يقول بين ذلك : [ ما نالت منى قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب ] و ذكر ابن إسحاق قبل ذلك : أن أحدهم ربما طرح الأذى في برمته صلى الله عليه و سلم إذا نصبت له قال : فكان إذا فعلوا ذلك ن كما حدثني عمر بن عبد الله عن عروة يخرج بذلك الشيء على العود فيقذفه على بابه ثم يقول [ يا بنى عبد مناف أي جوار هذا ؟ ! ] ثم يلقيه في الطريق (2/122)
قال ابن إسحاق : و لما اشتكى أبو طالب و بلغ قريشا ثقله قالت قريش بعضها لبعض : إن حمزة و عمر قد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها فانطلقوا بنا إلى أبى طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه و ليعطه منا فإنا و الله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا
قال ابن إسحاق : و حدثني العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس قال : لما مشوا إلى أبى طالب و كلموه و هم أشراف قومه عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و أبو جهل بن هشام و أمية بن خلف و أبو سفيان بن حرب في رجال من أشرافهم فقالوا : يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت و قد حضرك ما ترى و تخوفنا عليك و قد علمت الذي بيننا و بين ابن أخيك فادعه فخذلنا منه و خذ له منا ليكف عنا و لنكف عنه و ليدعنا و ديننا و لندعه و دينه
فبعث إليه أبو طالب فجاءه فقال : يا بن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك و ليأخذوا منك (2/123)
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا عم كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب و تدين لكم بها العجم ] فقال أبو جهل : نعم و أبيك و عشر كلمات قال : [ تقولون لا إله إلا الله و تخلعون ما تعبدون من دونه ] فصفقوا بأيديهم ثم قالوا : يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلهآ واحدا ؟ إن أمرك لعجب قال : ثم قال بعضهم لبعض : إنه و الله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون فانطلقوا و امضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم و بينه ثم تفرقوا قال : فقال أبو طالب : و الله يا بن أخي ما رأيتك سألتهم شططا قال : فطمع رسول الله صلى الله عليه و سلم فيه فجعل يقول له : [ أى عم فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة ] فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يا بن أخي و الله لو لا مخافة السبة عليك و على بنى أبيك من بعدي و أن تظن قريش أنى إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها لا أقولها إلا لأسرك بها قال : فلما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بأذنه
قال : فقال : يا بن أخي و الله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقوله قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لم اسمع ] قال : و أنزل الله تعالى في أولئك الرهط { ص و القرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة و شقاق } الآيات و قد تكلمنا على ذلك في التفسير و لله الحمد و المنة (2/124)
و قد استدل بعض من ذهب من الشيعة و غيرهم من الغلاة إلى أن أبا طالب مات مسلما بقول العباس في هذا الحديث لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها يعني لا إله إلا الله
و الجواب عن هذا من وجوه :
أحدها : أن في السند مبهما لا يعرف حاله و هو قوله : عن بعض أهله و هذا إبهام في الإسم و الحال و مثله يتوقف فيه لو انفرد و قد روى الإمام أحمد و النسائي و ابن جرير نحوا من هذا السياق من طريق أبي أسامة عن الأعمش حدثنا عباد عن سعيد بن جبير فذكره و لم يذكر قول العباس
و رواه الثوري أيضا عن الأعمش عن يحيى بن عمارة الكوفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره بغير زيادة قول العباس و رواه الترمذي و حسنه و النسائي و ابن جرير أيضا
و لفظ الحديث من سياق البيهقي فيما رواه من طريق الثوري عن الأعمش عن يحيى بن عمارة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : مرض أبو طالب فجاءت قريش و جاء النبي صلى الله عليه و سلم و عند رأس أبي طالب مجلس رجل فقام أبو جهل كي يمنعه ذاك و شكوه إلى أبي طالب فقال : يا بن أخي ما تريد من قومك ؟
فقال : [ ياعم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب تؤدي إليهم بها الجزية العجم كلمة واحدة ]
قال : ما هي ؟
قال : [ لا إله إلا الله ]
قال : فقالوا : أجعل الألهة إلها واحدا ؟ إن هذا لشئ عجاب قال : و نزل فيهم { ص و القرآن ذي الذكر } الآيات إلى قوله : { إلا اختلاق } (2/125)
ثم قد عارضه أعنى سياق ابن إسحاق ما هو أصيح منه و هو ما رواه البخاري قائلا :
حدثنا محمود حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهرى عن ابن المسيب عن أبيه رضي الله عنه أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه و سلم و عنده أبو جهل فقال : [ أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله ]
فقال أبو جهل و عبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ ! فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر ما كلمهم به : على مكة عبد المطلب فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لأستغفرن لك مالم أنه عنك ] فنزلت { ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولى قربى من مات بين لهم أنهم أصحاب الجحيم } و نزلت : { إنك لا تهدي من أحببت } و رواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم و عبد الله عن عبد الرزاق و أخرجاه أيضا من حديث الزهرى عن سعيد بن المسيب عن أبيه بنحوه و قال فيه : فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرضها عليه و يعودان له بتلك المقالة حتى قال آخر ما قال : على ملة عند المطلب و أبي أن يقول : لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم [ أما لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ] فأنزل الله يعنى بعد ذلك : { ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولى قربى }
و نزل في أبي طالب : { إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء و هو أعلم بالمهتدين } (2/126)
و هكذا روى الإمام أحمد و مسلم و الترمذي و النسائي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبى هريرة : لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا عماه قل لا إله إلا الله أشهد لك يوم القيامة ] فقال : لو لا أن تعيرنى قريش يقولون ما حمله عليه إلا فزع الموت لأقررت بها عينك و لا أقولها إلا لأقر بها عينك
فأنزل الله عز و جل : { إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء و هو أعلم بالمهتدين }
و هكذا قال عبد الله بن عباس و ابن عمر و مجاهد و الشعبي و قتادة : أنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقول [ لا إله إلا الله ] فأبى أن يقولها و قال : هو على ملة الأشياخ و كان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب (2/127)
و يؤكد هذا كله ما قال البخاري : حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن عبد الملك بن عمير حدثنى عبد الله بن الحارث قال حدثنا العباس بن عبد المطلب أنه قال : قلت للنبي صلى الله عليه و سلم : ما غنيت عن عمك فإنه كان يحوطك و يغضب لك ؟
قال : [ هو في ضحضاح من نار و لو لا أنا لكان في الدرك الأسفل ]
و رواه مسلم في صحيحه من طرق عن عبد الملك بن عمير به و أخرجاه في الصحيحين من حديث الليث حدثني ابن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم و ذكر عنده عمه فقال : [ لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه ] لفظ البخاري و في رواية [ تغلي منه أم دماغه ] و روى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أبى عثمان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أهون أهل النار عذابا أبو طالب منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه ] و في مغازى يونس بن بكير [ يغلي منها دماغه حتى يسيل على قدميه ] ذكره السهيلي و قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا عمرو هو ابن إسماعيل بن مجالد حدثنا أبي عن مجالد عن الشعبى عن جابر قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم أو قيل له : هل نفعت أبا طالب ؟ قال : [ أخرجته من النار إلى الضحضاح منها ]
تفرد به البزار
قال السهيلي : و إنما لم يقبل النبي صلى الله عليه و سلم شهادة العباس أخيه أنه قال الكلمة و قال : [ لم اسمع ] لأن العباس كان إذ ذاك كافرا غير مقبول الشهادة قلت : و عندى أن الخبر بذلك ما صح لضعف سنده كما تقدم و مما يدل على ذلك أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم بعد ذلك عن أبي طالب فذكر له ما تقدم و بتعليل صحته لعله قال ذلك عند معاينة الملك بعد الغرغرة حين لا ينفع نفسا إيمانها و الله أعلم (2/127)
و قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن إسحاق سمعت ناجية بن كعب يقول : سمعت عليا يقول : لما توفى أبي أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : إن عمك قد توفى فقال : [ اذهب فواره ] فقلت : إنه مات مشركا فقال [ اذهب فواره و لا تحدثن شيئا حتى تأتى ] ففعلت فأتيته فأمرنى أن أغتسل و رواه النسائى عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة و رواه أبو داود و النسائي من حديث سفيان عن أبى إسحاق عن ناجية عن علي : لما مات أبو طالب قلت : يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات فمن يواريه ؟ قال : [ اذهب فوار أباك و لا تحدثن شيئا حتى تأتيني ] فأتيته فأمرنى فاغتسلت ثم دعا لي بدعوات ما يسرنى أن لي بهن ما على الأرض من شئ (2/129)
و قال الحافظ البيهقي : أخبرنا أبو سعد المالينى حدثنا أبو أحمد بن عدى حدثنا محمد بن هارون بن حميد حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبى رزمة حدثنا الفضل عن إبراهيم بن عبد الرحمن عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه و سلم عاد من جنازة أبي طالب فقال : [ و صلتك رحم و جزيت خيرا يا عم ]
قال : و روى عن أبى اليمان الهوزنى عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا و زاد : و لم يقم على قبره قال : و إبراهيم بن عبد الحمن هذا هو الخوارزمى تكلموا فيه قلت : قد روى عنه غير واحد منهم الفضل بن موسى السينانى و محمد بن سلام البيكندى و مع هذا قال ابن عدى : ليس بمعروف و أحاديثه عن كل من روى عنه ليست بمستقيمة و قد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة و المحاجة و الممانعة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و الدفع عنه و عن أصحابه و ما قاله فيه من الممادح و الثناء و ما أظهره له و لأصحابه من المودة و الحبة و الشفقة في أشعاره التي أسلفناها و ما تضمنته من العيب و التنقيص لمن خالفه و كذبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تدانى و لا تسامى و لا يمكن عربيا مقارنتها و لا معارضتها (2/129)
و هو في ذلك كله يعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم صادق بار راشد و لكن مع هذا لم يؤمن قلبه و فرق بين علم القلب و تصديقه كما قررنا ذلك في شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري و شاهد ذلك قوله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم و إن فريقا منهم ليكتمون الحق و هم يعلمون } و قال تعالى في قوم فرعون : { و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم } و قال موسى لفرعون : [ لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات و الأرض بصائر و إني لأظنك يا فرعون مثبورا ] (2/130)
و قول بعض السلف في قوله تعالى : { و هم ينهون عنه و ينأون عنه } أنها نزلت في أبي طالب حيث كان ينهى عن أذية رسول الله صلى الله عليه و سلم و ينأى هو عما جاء به الرسول من الهدى و دين الحق فقد روى عن ابن عباس و القاسم بن محيمرة و حبيب بن أبي ثابت و عطاء بن دينار و محمد كعب و غيرهم ففيه نظر و الله أعلم و الأظهر و الله أعلم الرواية الأخرى عن ابن عباس و هم ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به و بهذا قال مجاهد و قتادة و الضحاك و غير واحد و هو اختيار ابن جرير و توجيهه : أن هذا الكلام سيق لتمام ذم المشركين حيث كانوا يصدون الناس عن إتباعه و لا ينتفعون هم أيضا به و لهذا قال : { و منهم من يستمع إليك و جعلنا على قلوبكم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا و إن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين و هم ينهون عنه و ينأون عنه و إن يهلكون إلا أنفسهم و ما يشعرون } و هذا اللفظ و هو قوله و هم يدل على أن المراد بهذا جماعة و هم المذكورون في سياق الكلام و قوله { و إن يهلكون إلا أنفسهم و ما يشعرون } يدل على تمام الذم و أبو طالب لم يكن بهذه المثابة بل كان يصد الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال و مقال و نفس و مال و لكن مع هذا لم يقدر الله له الإيمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة و الحجة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الإيمان بها و التسليم لها و لو لا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين لا ستغفرنا لأبي طالب و ترحمنا عليه ! (2/131)
و ذكر شئ من فضائلها و مناقبها رضي الله عنها و أرضاها و جعل جنات الفردوس منقلبها و مثواها و قد فعل ذلك لا محالة بخبر الصادق المصدوق حيث بشرها ببيت في الجنة من قصب لا صحب فيه و لا نصب قال يعقوب بن سفيان : حدثنا أبو صالح حدثنا الليث حدثني عقيل عن ابن شهاب قال : قال عروة بن الزبير : و قد كانت خديجة توفيت قبل أن تفرض الصلاة (2/132)
ثم روى من وجه آخر عن الزهري أنه قال : توفيت خديجة بمكة قبل خروج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و قبل أن تقرض الصلاة و قال محمد بن إسحاق : ماتت خديجة و أبو طالب في شهر واحد
و قال البيهقي : بلغني أن خديجة توفيت بعد موت أبي طالب بثلاث أيام ذكره عبد الله بن منده في كتاب المعرفة و شيخنا أبو عبد الله الحافظ
قال البيهقي : و زعم الواقدي أن خديجة و أبا طالب ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين عام خرجوا من الشعب و أن خديجة توفيت قبل أبي طالب بخمس و ثلاثين ليلة
قلت : مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء
و كان الأنسب بنا أن نذكر وفاة أبي طالب و خديجة قبل الإسراء كما ذكره البيهقي و غير واحد و لكن أخرنا ذلك عن الإسراء لمقصد ستطلع عليه بعد ذلك فإن الكلام به ينتظم و يتسق الباب كما تقف على ذلك إن شاء الله (2/132)
و قال البخاري : حدثنا قتيبة حدثنا محمد بن الفضل بن غزوان عن عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال أتى جبرائيل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها و مني و بشرها في الجنة من قصب لا صخب فيه و لا نصب و قد رواه مسلم من حديث محمد بن فضيل به
و قال البخاري : حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن إسماعيل قال : قلت لعبد الله بن أبي أوفى : بشر النبي صلى الله عليه و سلم خديجة ؟ قال نعم ببيت من قصب لا صخب فيه و لا نصب
و رواه البخاري أيضا و مسلم من طريق عن إسماعيل بن أبي خالد به
قال السهيلي : و إنما بشرها ببيت في الجنة من قصب يعني قصب اللؤلؤ لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان ـ لا صخب فيه و لا نصب ـ لأنها لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه و سلم و لم تتعبه يوما من الدهر فلم تصخب عليه يوم و لا آذته أبدا (2/133)
و أخرجاه في الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه و سلم ما غرت على خديجة ـ و هلكت قبل أن يتزوجني ـ لما كنت أسمعه يذكرها
و أمره الله أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب إن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن
لفظ البخاري
وفي لفظ عن عائشة : ما غرت على إمرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم إياها و تزوجني بعدها بثلاث سنين و أمره ربه أو جبرائيل أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب
و في لفظ له قالت : ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه و سلم ما غرت على خديجة و ما رأيتها و لكن كان يكثر ذكرها و ربما ذبح الشاة فيقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة ! فيقول : [ إنها كانت و كانت و كان لي منها ولد ]
ثم قال البخاري : حدثنا إسماعيل بن خليل أخبرنا على بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه و سلم فعرف استئذان خديجة فارتاع فقال : [ اللهم هالة ] ! قالت فغرت فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيرا منها و هكذا رواه مسلم عن سويد بن سعيد عن علي بن مسهر به و هذا ظاهر في التقرير على أن عائشة خير من خديجة إما فضلا و إما عشرة إذ لم ينكر عليها و لا رد عليها ذلك كما هو ظاهر سياق البخاري رحمه الله و لكن قال الإمام أحمد : حدثنا مؤمل أبو عبد الرحمن حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الملك ـ عن موسى بن طلحة عن عائشة قالت : ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما خديجة فأطنب في الثناء عليها فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة فقلت : لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين
قال : فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم تغيرا لم أره تغير عند شئ قط إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى يعلم رحمة أو عذابا
و كذا رواه عن بهز بن الأسد و عثمان بن مسلم كلاهما عن حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير به
و زاد بعد قوله : [ حمراء الشدقين ] : [ هلكت في الدهر الأول ] فقال : قلت : فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى ينظر رحمة أو عذابا تفرد أحمد و هذا إسناد جيد و قال الإمام أحمد أيضا : عن ابن إسحاق أخبرنا مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها بأحسن الثناء
قالت : فغرت يوما فقلت : ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين قد أبدلك الله خيرا منها
قال : [ ما أبدلني الله خيرا منها و قد آمنت بي إذ كفر بي الناس و صدقتني إذ كذبني الناس و آستني بمالها إذ حرمني الناس و رزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء ]
تفرد به أحمد أيضا و إسناده لا بأس به و مجالد روى له مسلم متابعة و فيه كلام مشهور و الله أعلم
و لعل هذا أعني قوله : [ و رزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء ] كان قبل أن يولد إبراهيم بن النبي صلى الله عليه و سلم من مارية و قبل مقدمها بالكليه و هذا متعين فإن جميع أولاد النبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم و كما سيأتي من خديجة إلا إبراهيم فمن مارية القبطية المصرية رضي الله عنها (2/133)
و قد استدل بهذا الحديث جماعة من أهل العلم على تفضيل خديجة إلى عائشة رضي الله عنها و أرضاها و تكلم آخرون في إسناده
و تأوله آخرون على أنها كانت خيرا عشرة و هو محتمل أو ظاهر و سببه أن عائشة تمت بشبابها و حسنها و جميل عشرتها مرادها بقولها : ( قد أبدلك الله خيرا منها ) أنها تزكى نفسها و تفضلها على خديجة فإن هذا أمر مرجعه إلى الله عز و جل كما قال { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } و قال تعالى { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء } الآية
و هذه مسألة وقع النزاع فيها بين العلماء قديما و حديثا و بجانبها طرق يقتصر عليها أهل التشيع و غيرهم لا يعدلون بخديجة أحدا من النساء : لسلام الرب عليها و كون ولد النبي صلى الله عليه و سلم جميعهم إلا إبراهيم منها و كونه لم يتزوج عليها حتى ماتت إكراما لها و تقدير إسلامها و كونها من الصديقات و لها مقام صدق في أول البعثة و بذلت نفسها و مالها لرسول الله صلى الله عليه و سلم
و أما أهل السنة فمنهم من يغلو أيضا و يثبت لكل واحدة منهما من الفضائل ما هو معروف و لكن تحملهم قوة التسنن على تفضيل عائشة لكونها ابنة الصديق و لكونها أعلم من خديجة فإنه لم يكن في الأمم مثل عائشة في حفظها و علمها و فصاحتها و عقلها و لم يكن الرسول يحب أحدا من نسائه كمحبته إياها و نزلت براءتها من فوق سبع سموات و روت بعده عنه عليه السلام علما جما كثيرا طيبا مباركا فيه حتى قد ذكر كثير من الناس الحديث المشهور ( خذوا شطر دينكم عن الحميراء ) (2/136)
و الحق أن كلا منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لبهره و حيره و الأحسن التوقف في ذلك إلى الله عز و جل و من ظهر له دليل يقطع به أو يغلب على ظنه في هذا الباب فذاك الذي يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم و من حصل له توقف في هذه المسألة أو في غيرها فالطريق الأقوم و المسلك الأسلم أن يقول : الله أعلم
و قد روى الإمام أحمد و البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر عن على بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ خير نسائها مريم بنت عمران و خير نسائها خديجة بنت خويلد ] أي خير زمانهما و روى شعبة عن معاوية بن قره عن أبيه قره بن إياس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كمل من الرجال كثير و لم يكمل من النساء إلا ثلاث : مريم بنت عمران و آسية امرأة فرعون و خديجة بنت خويلد و فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ] رواه ابن مردويه في تفسيره و هذا إسناد صحيح إلى شعبة و بعده
قالوا : و القدر المشترك بين الثلاث نسوة آسية و مريم و خديجة أن كلا منهن كفلت نبيا مرسلا و أحسنت الصحبة في كفالتها و صدقته حين بعث و مريم كفلت ولدها أتم كفالة و أعظمها و صدقته حين أرسل و خديجة رغبت في تزويج رسول الله صلى الله عليه و سلم بها و بذلت في ذلك أموالها كما تقدم و صدقته حين نزل عليه الوحى من الله عز و جل و قوله : [ وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ] هو ثابت في الصحيحين من طريق شعبة أيضا عن عمرو بن مرة عن مرة الطيب الهمدانى عن أبي موسى الأشعرى قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كمل من الرجال كثير و لم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون و مريم بنت عمران و إن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ] و الثريد هو الخبز و اللحم جميعا و هو أفخر طعام العرب كما قال بعض الشعراء :
( إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد )
و يحمل قوله : [ و فضل عائشة على النساء ] أن يكون محفوظا فيعم النساء المذكورات و غير هن ويحتمل أن يكون عاما فما عداهن و يبقى الكلام فيها و فيهن موقوفا يحتمل التسوية بينهن فيحتاج من رجح واحدة منهن على غيرها إلى دليل من خارج و الله أعلم (2/137)
و الصحيح أن عائشة تزوجها أولا كما سيأتي
قال البخاري في باب تزويج عائشة [ حدثنا معلى بن أسد حدثنا وهيب عن هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لها : أريتك في المنام مرتين أرى أنك في سرقة من حرير و يقول : هذه امرأتك فأكشف عنها فإذا هي أنت فأقول إن هذا من عند الله يمضه ] (2/139)
قال البخاري : باب نكاح الأبكار و قال ابن أبي مليكة : قال ابن عباس لعائشة : لم ينكح النبي صلى الله عليه و سلم بكرا غيرك حدثنا أخي عن سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله أرأيت لو نزلت واديا و فيه شجرة قد أكل منها و وجدت شجرة لم يؤكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك ؟ قال : [ في التي لم يرتع مها ] تعنى أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يتزوج بكرا غيرها انفرد به البخارى
ثم قال : حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أريتك في المنام فيجئ بك الملك في سرقة من حرير فقال لي هذه امرأتك فكشفت عن وجهك الثوب فإذا أنت هي فقلت : إن يكن هذا من عند الله يمضه ] وفي رواية : [ أريتك في المنام ثلاث ليال ] و عند الترمذي أن جبريل جاءه بصورتها في خرقة من حرير خضراء فقال : هذه زوجتك في الدنيا و الآخرة و قال البخاري : باب تزويج الصغار من الكبار حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث عن يزيد عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب عائشة إلى أبي بكر فقال له أبو بكر : إنما أنا أخوك فقال : [ أنت أخي في دين الله و كتابه و هي لي حلال ] هذا الحديث ظاهر سياقه كأنه مرسل و هو عند البخاري و المحققين متصل لأنه من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها و هذا من أفراد البخارى رحمه الله وقال يونس بن بكير عن هشام بن عروة عن أبيه قال : تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم عائشة بعد خديجة بثلاث سنين و عائشة يومئذ ابنة ست سنين و بنى بها و هي ابنة تسع و مات رسول الله صلى الله عليه و سلم و عائشة ابنة ثماني عشرة سنة و هذا غريب و قد روى البخاري عن عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه و سلم بثلاث سنين فلبث سنتين أو قريبا من ذلك و نكح عائشة و هي بنت ست سنين ثم بنى بها و هي بنت تسع سنين و هذا الذي قاله عروة مرسل في ظاهر السياق كما قدمنا و لكنه في حكم المتصل في نفس الأمر
ك (2/139)
و قوله [ تزوجها و هي ابنة ست سنين و بنى بها و هي ابنة تسع ] ما لا خلاف فيه بين الناس و قد ثبت في الصحاح و غيرها
و كان بناؤه بها عليه السلام في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة
و أما كون تزويجها كان بعد موت خديجة بنحو ثلاث سنين ففيه نظر
فإن يعقوب بن سفيان الحافظ قال : حدثنا الحجاج حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : تزوجني رسول الله صلى الله عليه و سلم متوفى خديجة قبل مخرجه من مكة و أنا ابنة سبع أو ست سنين فلما قدمنا المدينة جاءني نسوة و أنا ألعب في أرجوحة و أنا مجممة فهيأنني و صنعنني ثم أتين بي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم [ فبنى بي ] و أنا ابنة تسع سنين
فقوله في هذا الحديث : [ متوفى خديجة ] يقتضي أنه أثر ذلك قريبا اللهم إلا أن يكون قد سقط من النسخة بعد متوفى خديجة فلا ينفي ما ذكره يونس بن بكير و أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه و الله أعلم (2/141)
و قال البخاري : حدثنا فروة بن أبي المغراء حدثنا علي بن مسهر عن هشام بت عروة عن أبيه عن عائشة قالت : تزوجني النبي صلى الله عليه و سلم و أنا بنت ست سنين فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج فوعكت فتمزق شعري و قد وفت لي جمعية فأتتني أمي أم رومان و إني لفي أرجوحة و معي صواحب لي فصرحت بي فأتيتها ما أدري ما تريد مني فأخذت بيدي حتى أوقفتني إلى باب الدار و إني لأنهج حتى سكن بعض نفسي ثم أخذت شيئا من ماء فمست به وجهي و رأسي ثم أدخلتني الدار قال : فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن : على الخير و البركة و على خير طائر فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم ضحى فأسلمنني إليه و أنا يومئذ بنت تسع سنين (2/141)
و قال الإمام أحمد في مسند عائشة أم المؤمنين : حدثنا محمد بن بشر حدثنا محمد بن عمرو حدثنا أبو سلمة و يحيى قالا : لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكم امرأة عثمان بن مظعون فقالت : يا رسول الله ألا تزوج ؟ قال من ؟ قالت : إن شئت بكرا و إن شئت ثيبا
قال : فمن البكر ؟ قالت أحب خلق الله إليك عائشة ابنة أبي بكر قال : و من الثيب ؟ قالت سودة بنت زمعة قد آمنت بك و اتبعتك قال : فاذهبي فاذكريهما على فدخلت بيت أبي بكر فقالت : يا أم رومان ماذا أدخل الله عليك من الخير و البركة ! قالت : و ما ذاك ؟ قالت : أرسلني رسول الله صلى الله عليه و سلم أخطب عليه عائشة قالت : انظري أبا بكر حتى يأتي فجاء أبوبكر فقلت : يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير و البركة ! قال : و ما ذاك ؟ قالت : أرسلني رسول الله صلى الله عليه و سلم أخطب عليه قال : و هل تصلح له ؟ إنما هي ابنة أخيه فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له قال : [ ارجعي إليه فقولي له : أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام و ابنتك تصلح لي ] فرجعت فذكرت ذلك له قال : انتظري وخرج قالت أم رومان : إن مطعم بن عدى قد ذكرها على ابنه و و الله ما وعد أبو بكر وعدا قط فأخلفه فدخل أبو بكر على مطعم بن عدى و عنده امرأته أم الصبي فقالت : يا ابن أبي قحافة لعلك مصبئ صاحبنا تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك ؟ ! فقال أبو بكر للمطعم بن عدى أقول هذه تقول : إنها تقول ذلك فخرج من عنده و قد أذهب الله ما كان في نفسه من عدته التي وعده فرجع فقال لخولة : ادعي لي رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعته فزوجها إياه و عائشة يومئذ بنت ست سنين ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة فقالت : ما أدخل الله عليك من الخير و البركة ؟ !
قالت : و ما ذاك ؟ قالت : أرسلني رسول الله صلى الله عليه و سلم أخطبك إليه قالت : وددت ادخلي إلى أبو بكر فاذكري ذلك له و كان شيخا كبيرا قد أدركه السن قد يخلف عن الحج فدخلت عليه فحييته بتحية الجاهلية فقال : من هذه ؟ قالت : خولة بنت حكم قال : فما شأنك ؟ قالت : أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة فقال : كفء كريم ما تقول صاحبتك ؟ قالت : تحب ذلك قال : ادعيها إلي فدعتها قال : أي بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك و هو كفء كريم أتحبين أن أزوجك به ؟ قالت : نعم قال : ادعيه لي فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فزوجها إياه
فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج فجاء يحثى على رأسه التراب فقال بعد أن أسلم : لعمرك إني لسفيه يوم أحثى في رأسي التراب أن تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم سودة بنت زمعة !
قالت عائشة : فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح
قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل بيتنا و اجتمع إليه رجال من الأنصار و نساء فجاءتني أمي و إني لفي أرجوحة بين عذقين يرجح بي فأنزلتني من الأرجوحة و لي جميمة ففرقتها و مسحت وجهي بشئ من ماء ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب و إني لأنهج حتى سكن من نفسي ثم دخلت بي فإذا رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس على سرير في بيتنا و عنده رجال و نساء من الأنصار فأجلستني في حجره ثم قالت : هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم و بارك لهم فيك فوثب الرجال و النساء و بنى بي رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيتنا ما نحرث على جزور و لا ذبحت على شاة حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دار إلى نسائه و أنا يومئذ ابنة تسع سنين و هذا السياق كأنه مرسل و هو متصل لما رواه البيهقي من طريق أحمد بن عبد الجبار حدثنا عبد الله بن إدريس الأزدى عن محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال : قالت عائشة : لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم فقالت : يا رسول الله ألا تزوج ؟ قال و من قالت : إن شئت بكرا و إن شئت ثيبا قال : من البكر و من الثيب ؟ قالت : أما البكر فابنة أحب الناس إليك و أما الثيب فسودة بنت زمعة قد آمنت بك و اتبعتك قال [ فاذكريهما علي ]
و ذكر تمام الحديث نحو ما تقدم
و هذا يقتضي أن عقده على عائشة كان متقدما على تزويجه بسودة بنت زمعة و لكن دخوله على سودة كان بمكة و أما دخوله على عائشة فتأخر إلى المدينة في السنة الثانية كما تقدم و كما سيأتي و قال الإمام أحمد : حدثنا شريك عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت : لما كبرت سودة وهبت يومها لي فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقسم لي بيومها مع نسائه قالت : و كانت أول إمرأة تزوجها بعدي (2/142)
و قال الإمام أحمد [ حدثنا أبو النصر حدثنا عبد الحميد حدثني شهر حدثني عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب امرأة من قومه يقال لها سودة و كانت مصبية كان لها خمس صبية أو ست من بعلها مات : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما يمنعك مني ؟ ] قالت و الله يا نبي الله ما يمنعني منك أن لا تكون أحب البرية إلي و لكني أكرمك أن يمنعوا هؤلاء الصبية عند رأسك بكرة و عشية قال : [ فهل منعك مني غير ذلك ؟ ] قالت : لا و الله قال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يرحمك الله ! إن خير نساء ركبن أعجاز الإبل صالح ؟ نساء قريش أحناه على ولد في صغره و أرعاه على بعل بذات يده ] قلت : و كان زوجها قبله عليه السلام السكران بن عمرو أخو سهيل بن عمرو و كان ممن أسلم و هاجر إلى الحبشة كما تقدم ثم رجع إلى مكة فمات بها قبل الهجرة رضي الله عنه هذه السياقات كلها دالة إلى أن العقد على عائشة كان متقدما على العقد بسودة و هو قول عبد الله بن محمد بن عقيل و رواه يونس عن الزهري و اختار ابن عبد البر أن العقد على سودة قبل عائشة و حكاه قتادة و أبي عبيد قال : و رواه عقيل عن الزهري (2/145)
قد تقدم ذكر موت أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنه كان ناصرا له و قائما في صفه و مدافعا عنه بكل ما يقدر عليه من نفس و مال و مقال و فعال
فلما مات اجترا سفهاء قريش على رسول الله صلى الله عليه و سلم و نالوا منه مالم يكون يصلون إليه و لا يقدرون عليه
كما قد رواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني حدثنا يوسف بن بهلول حدثنا عبد الله بن إدريس حدثنا محمد بن إسحاق عمن حدثه عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن جعفر قال : لما مات أبو طالب عرض لرسول الله صلى الله عليه و سلم سفيه من سفهاء قريش فألقى عليه ترابا فرجع إلى بيته فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب و هي تبكي فجعل يقول : [ أي بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك ]
و يقول ما بين ذلك : [ ما نالت قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب ثم شرعوا ]
و قد رواه زياد البكائي [ عن محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلا و الله أعلم
و روى البيهقي أيضا عن الحاكم و غيره عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما زالت قريش كاعين حتى مات أبو طالب ]
ثم رواه [ عن الحاكم عن الأصم عن عباس الدوري عن يحيى بن معين حدثنا عقنة المجدر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما زالت قريش كاعة حتى توفي أبو طالب ] و قد روى الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي بسنده عن ثعلبة بن صقير و حكيم بن خزام أنهما قالا : لما توفي أبو طالب و خديجة و كان بينهما خمسة أيام اجتمع على رسول الله صلى الله عليه و سلم مصيبتان و لزم بيته و أقل الخروج و نالت منه قريش ما لم تكن تنال و لا تطمع فيه (2/146)
فبلغ ذلك أبا لهب فجاءه فقال : يا محمد امض لما أردت و ما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا فاصنعه لا و اللات لا يوصل إليك حتى أموت
و سب ابن الغيطلة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقبل إليه أبو لهب فنال منه فولى يصيح : يا معشر قريش صبأ أبو عتبة فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب فقال : ما فارقت دين عبد المطلب و لكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد
فقالوا : لقد أحسنت و أجملت و وصلت الرحم
فمكث رسول الله صلى الله عليه و سلم كذلك أياما يأتي و يذهب لا يعرض له أحد من قريش و هابوا أبا لهب إذ جاء عقبة بن أبي معيط و أبو جهل إلى أبي لهب فقالا له : أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك ؟
فقال له أبو لهب : يا محمد أين مدخل عبد المطلب ؟ قال : مع قومه فخرج إليهما فقال : قد سألته فقال : مع قومه
فقالا : يزعم أنه في النار ! فقال : يا محمد أيدخل عبد المطلب النار ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و من مات على ما مات عليه عبد المطلب دخل النار ]
فقال أبو لهب ـ لعنه الله ـ : و الله لا برحت لك إلا عدوا أبدا و أنت تزعم أن عبد المطلب في النار
و اشتد عند ذلك أبو لهب و سائر قريش عليه (2/147)
قال ابن إسحاق : و كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيته : أبو لهب و الحكم بن أبي العاص بن أمية و عقبة بن أبي معيط و عدي بن الحمراء و ابن الأصداء الهذلي
و كانوا جيرانه لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن العاص
و كان أحدهم فيما ذكر لي يطرح عليه رحم الشاة و هو يصلي و كان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم حجرا يستتر به منهم إذا طرحوا شيئا من ذلك يحمله على عود ثم يقف به على بابه ثم يقول : [ يا بني عبد مناف أي جوار هذا ؟ ! ثم يلقيه في الطريق ]
قلت : و عندي أن غالب ما روى مما تقدم ـ من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه و هو يصلي كما رواه ابن مسعود و فيه أن فاطمة جاءت فطرحته عنه و أقبلت عليهم فشتمتهم ثم لما انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا على سبعة منهم كما تقدم
و كذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقا شديدا حتى حال دونه أبو بكر الصديق قائلا : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ! و كذلك عزم أبي جهل لعنه الله على أن يطأ على عنقه و هو يصلي فحيل بينه و بين ذلك و ما أشبه ذلك ـ كان بعد وفاة أبي طالب و الله أعلم فذكرها ههنا أنسب و أشبه (2/148)
في ذهابه عليه السلام إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الله تعالى و إلى نصرة دينه فردوا عليه ذلك و لم يقبلوا فرجع عنهم إلى مكة (2/149)
قال ابن إسحاق : فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه و سلم من الأذى مالم تكن نالته منه في حياة عمه أبي طالب
فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة و المنعة بهم من قومه و رجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى
فخرج إليهم وحده
فحدثني يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظى قال : انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الطائف و عمد إلى نفر من ثقيف و هم سادة ثقيف و أشرافهم و هم إخوة ثلاثة عبد يا ليل و مسعود و حبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة ابن عوف بن ثقيف و عند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح
فجلس إليهم فدعاهم إلى الله و كلهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام و القيام معه على من خالفه من قومه فقال أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك
و قال الآخر : أما وجد الله أحدا أرسله غيرك ؟ و قال الثالث : و الله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظى خطرا من أن أرد عليك الكلام و لئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك
فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم من عندهم و قد يئس من خير ثقيف و قد قال لهم فيما ذكر لي إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا على و كره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه
فلم يفعلوا و أغروا به سفهاءهم و عبيدهم يسبونه و يصيحون به حتى اجتمع عليه الناس و ألجأوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و هما فيه و رجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه
فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه و ابنا ربيعة ينظران إليه و يريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف
و قد لقي رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما ذكر لي المرأة التي من بني جمح فقال لها : ماذا لقينا من أحمائك !
فلما اطمأن قال فما ذكر : [ اللهم إليك أشكو ضعف قوتي و هواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين أنت ربى إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري ؟ ! إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي و لكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات و صلح عليه أمر الدنيا و الآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى لا حول و لا قوة إلا بك ]
قال : فلما رآه ابنا ربيعة عتبة و شيبة و ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس و قالا له خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه
ففعل عداس ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال له كل
فلما وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده فيه قال : [ بسم الله ] ثم أكل ثم نظر عداس في وجهه ثم قال : و الله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و من أهل أي بلاد أنت يا عداس و ما دينك ؟ ] قال : نصراني و أنا رجل من أهل نينوى
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ ]
فقال له عداس : و ما يدريك ما يونس بن متى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ذلك أخي كان نبيا و أنا نبي ] فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل رأسه و يديه و قدميه
قال : [ يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه : أما غلامك فقد أفسده عليك ]
فلما جاء عداس قالا له : ويلك يا عداس ! ما لك تقبل رأس هذا الرجل و يديه و قدميه ؟ قال يا سيدي ما في الأرض شئ خير من هذا لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي
قالا له : ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه (2/149)
و قد ذكر موسى بن عقبه نحوا من هذا السياق إلا أنه لم يذكر الدعاء و زاد : و قعد له أهل الطائف صفين على طريقه فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه و لا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموه فخلص منهم و هما يسيلان الدماء فعمد إلى ظل نخلة و هو مكروب و في ذلك الحائط عتبة و شيبة ابنا ربيعة فكره مكانهما لعداوتهما الله و رسوله
ثم ذكر قصة عداس النصراني كنحو ما تقدم
و قد روى الإمام أحمد عن أبي بكر ابن شيبة حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه و سلم في مشرق ثقيف و هو قائم على قوس أو عصى حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول : [ و السماء و الطارق ] حتى ختمها
قال : فوعيتها في الجاهلية و أنا مشرك ثم قرأتها في الإسلام قال : فدعتني ثقيف فقالوا : ماذا سمعت من هذا الرجل ؟ فقرأتها عليهم فقال من معهم من قريش : نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقا لا تبعناه (2/151)
و ثبت في الصحيحين [ من طريق عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن زيد عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم : هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟
قال : ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت و أنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا و أنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك و ما ردوا عليك و قد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ثم ناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال : يا محمد قد بعثني الله إن الله قد سمع قول قومك لك و أنا ملك الجبال قد بعثني إليك ربك لتأمرني ما شئت إن شئت تطبق عليهم الأخشبين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من بعيد الله لا يشرك به شيئا ] (2/152)
و قد ذكر محمد بن إسحاق سماع الجن لقراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم و ذلك مرجعه من الطائف حين بات بنخلة و صلى بأصحابه الصبح فاستمع الجن الذين صرفوا إليه قراءته هنالك قال ابن إسحاق : و كانوا سبعة نفر و أنزل الله تعالى فيهم قوله : { و إذا صرفنا إليك نفرا من الجن }
قلت : و قد تكلمنا على ذلك مستقصى في التفسير و تقدم قطعة من ذلك و الله أعلم (2/153)
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة مرجعه من الطائف في جوار المطعم بن عدى و ازداد قومه عليه حنقا و غيظا و جرأة و تكذيبا و عنادا و الله المستعان و عليه التكلان و قد ذكر الأموي في مغازية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث أريقط إلى الأخنس بن شريق فطلب منه أن يجيره بمكة فقال : إن حليف قريش لا يجير على صميمها ثم بعثه إلى سهيل بن عمرو ليجيره فقال : إن بنى عامر بن لؤى لا تجير على بني كعب بن لؤى
فبعثه إلى المطعم بن عدى ليجيره فقال : نعم قل له فليات فذهب إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فبات عنده تلك الليلة فلما أصبح خرج معه و بنوه ستة أو سبعة متقلدي السيوف جميعا فدخلوا المسجد و قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم : طف و احتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف فأقبل أبو سفيان إلى مطعم فقال : أمجير أو تابع ؟ قال : لا بل مجير قال : إذا تخفر
فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم طوافه فلما انصرف انصرفوا معه و ذهب أبو سفيان إلى مجلسه
قال : أياما ثم أذن له في الهجرة (2/153)
فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة توفي مطعم بن عدي بعده بيسير فقال حسان بن ثابت : و الله لأرثينه فقال فيما قال :
( فلو كان مجد مخلد اليوم واحدا ... من الناس نحي مجده اليوم مطعما )
( أجرت رسول الله منهم فأصبحوا ... عبادك مالي محل و أحرما )
( فلو سئلت عنه معد بأسرها ... و قحطان أو باقي بقية جرهما )
( لقالوا : هو الموفى بخفرة جاره ... و ذمت يوما إذا ما تجشما )
( و ما تطلع الشمس المنيرة فوقهم ... على مثله فيهم أعز و أكرما )
( إباء إذا يأبى و ألين شيمة ... و أنوم عن جار إذا الليل أظلما )
قلت : و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم يوم أساري بدر : [ لو كان المطعم بن عدي حبا ثم سألني في هؤلاء النتنى لوهبتهم له ] (2/154)
في عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم نفسه الكريمة على أحياء العرب في مواسم الحج أن يؤووه و ينصره و يمنعوه ممن كذبه و خالفه فلم يجيه أحد منهم لما ذخره الله تعالى للأنصار من الكرامة العظيمة رضي الله عنهم
قال ابن إسحاق : ثم قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة و قومه أشد ما كانوا عليه من خلافه و فراق دينه إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به
فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرض نفسه في المواسم إذا كانت على قبائل العرب يدعوهم إلى الله عز و جل و يخبرهم أنه نبي مرسل و يسألهم أن يصدقوه و يمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به (2/155)
قال ابن إسحاق : [ فحدثني من أصحابنا من لا أتهم عن زيد بن أسلم عن ربيعة ابن عباد الدؤلي و من حدثه أبو الزناد عنه و حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال : سمعت ربيعة بن عباد يحدثه أبي قال : إني لغلام شاب مع أبي بمنى و رسول الله صلى الله عليه و سلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول : يا بني فلان إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و أن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد و أن تؤمنوا بي و تصدقوا بي و تمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به ]
قال : و خلفه رجل أحول وضئ له غديرتان عليه حلة عدنية فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم من قوله و ما دعا إليه قال ذلك الرجل : يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات و العزى من أعناقكم و حلفائكم من الجن من بني مالك ابن أقيش إلى ما جاء به من البدعة و الضلالة فلا تطيعوه و لا تسمعوا منه
قال : فقلت لأبي يا أبت من هذا الرجل الذي يتبعه و يرد عليه ما يقول ؟
قال : هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبو لهب
و قد روى الإمام أحمد هذا الحديث [ عن إبراهيم بن أبي العباس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخبرني رجل يقال له ربيعة بن عباد من بني الديل و كان جاهليا فأسلم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز و هو يقول : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ] و الناس مجتمعون عليه و وراءه رجل وضئ الوجه أحول ذو غديرتين يقول : إنه صابئ كاذب
يتبعه حيث ذهب فسألت عنه فقالوا : هذا عمه أبو لهب
و رواه البيهقي [ من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمرو عن مجمد ابن المنكدر عن ربيعة الديلي : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بسوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله و وراءه رجل أحول تقد وجنتاه و هو يقول : أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم و دين آبائكم ] قلت : من هذا ؟ قالوا هذا أبو لهب
و كذا رواه أبو نعيم في الدلائل من طريق ابن أبي ذئب و سعيد بن سلمة بن أبي الحسام كلاهما عن محمد بن المنكدر به نحوه
ثم رواه البيهقي [ من طريق شعبة عن الأشعب بن سليم عن رجل من كنانة قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بسوق ذي المجاز و هو يقول : يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ] و إذا رجل خلفه يسفى عليه التراب فإذا هو أبو جهل و هو يقول : يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات و العزى
كذا قال في هذا السياق : أبو جهل قد يكون وهما و يحتمل أن يكون تارة يكون ذا و تارة يكون ذا و أنهما كانا يتناوبان على إذائه صلى الله عليه و سلم (2/155)
قال ابن إسحاق : و حدثني ابن شهاب الزهرى أنه عليه السلام أتى كندة في منازلهم و فيهم سيدلهم يقال له مليح فدعاهم إلى الله عز و جل و عرض عليهم نفسه فأبوا عليه قال ابن إسحاق : و حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصين أنه أتى كلبا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله فدعاهم إلى الله و عرض عليهم نفسه حتى إنه ليقول : يا بنى عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم و حدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله و عرض عليهم نفسه فلم يك أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم (2/157)
و حدثني الزهري أنه أتى بنى عامر صعصة فدعاهم إلى الله و عرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس : و الله لو أنى أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ثم قال له : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟
قال : الأمر لله يضعه حيث يشاء
قال : فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرك !
لحاجة لنا بأمرك فأبوا عليه فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كان أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك المواسم فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم فقالوا : جاءنا فتى من قريش ثم أحد بنى المطلب يزعم أنه نمنعه و نقوم معه و نخرج به إلى بلادنا قال : فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال : يا بني عامر هل لها من تلاف ؟ هل لذناباها من مطلب ؟ و الذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلي قط و إنها لحق فأين رأيكم كان عنكم ! (2/157)
و قال موسى بن عقبة عن الزهري : فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم و يكلم كل شريف قوم لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤووه و يمنعوه و يقول لا أكره أحدا منكم على شئ من رضى منكم بالذي أدعوه إليه فذلك و من لم أكرهه إنما أريد أن تحرزونى فيما يراد لي من القتل حتى أبلغ رسالة ربى و حتى يقضي الله لي و لمن صحبني بما شاء
فلم يقبله أحد منكم و ما يأتي أحدا من تلك القبائل إلا قال : قوم الرجل أعلم به أترون أن رجلا يصلحنا و قد أفسد قومه و لفظوه !
و كان ذلك مما ذخره الله للأنصار و أكرمهم به (2/158)
و قد روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الله بن الأجلح و يحيى بن سعيد الأموي كلاهما عن محمد بن السائب الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس عن العباس
قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا أرى لي عندك و لا عند أخيك منعة فهل أنت مخرجي إلى السوق غدا حتى نقر في منازلهم قبائل الناس ] و كانت مجمع العرب
قال : فقلت : هذه كندة و لفها و هي أفضل من يحج البيت من اليمن و هذه منازل بكر بن وائل و هذه منازل بني عامر بن صعصعة فاختر لنفسك قال : فبدأ بكندة فأتاهم فقال : ممن القوم ؟ من أهل اليمن قال : من أي اليمن ؟ قالوا : من كندة قال : من أي كندة ؟ قالوا : من بني عمرو بن معاوية قال : فهل لكم إلى خير ؟ قالوا : و ما هو ؟
قال : تشهدون أن لا إله إلا الله و تقيمون الصلاة و تؤمنون بما جاء من عند الله قال عبد الله بن الأجلح : و حدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له : إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الملك لله يجعله حيث يشاء ] فقالوا : لا حاجة لنا فيما جئتنا به و قال الكلبي : فقالوا : أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا و ننابذ العرب الحق بقومك فلا حاجة لنا بك فانصرف من عندهم فأتى بكر بن وائل فقال : ممن القوم ؟ من بكر بن وائل فقال : من أبى بكر بن وائل ؟ قالوا : من بني قيس بن ثعلبة
قال : كيف العدد ؟ قالوا : كثير مثل الثرى
قال : فكيف المنعة ؟ قالوا : لا منعة جاورنا فارس فنحن لا نمتنع منهم و لا نجير عليهم
قال : فتجعلون لله عليهم إن هو أبقا كم حتى تنزلوا منازلهم و تستنكحوا نساءهم و تستعبدوا أبناءهم أن تستحبوا الله ثلاثا و ثلاثين و تحمدوه ثلاثا و ثلاثين و تكبروه أربعا و ثلاثين ؟
قالوا : و من أنت ؟
قال أنا رسول الله ثم انطلق (2/159)
فلما ولى عنهم قال الكلبي : و كان عمه أبو لهب يتبعه فيقول للناس لا تقبلوا قوله ثم أبو لهب فقالوا : هل تعرف هذا الرجل ؟ قال : نعم في الذروة منا فعن آي شأنه تسألون ؟ فأخبروه بما دعاهم إليه و قالوا : أنه رسول الله
قال : ألا لا ترفعوا برأسه قولا فإنه مجنون يهذي من أم رأسه
قالوا : قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر !
قال الكلبي : فأخبرني عبد الرحمن العامري عن أشياخ من قومه قالوا : أتانا رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن بسوق عكاظ فقال : ممن القوم ؟ قلنا : من عامر بن صعصعة قال : من أي بني عامر بن صعصعة ؟ قالوا : بنو كعب بن ربيعة قال كيف المنعة فيكم ؟ قلنا : لا يرام ما قبلنا و لا يصطلى بنارنا
قال : فقال لهم : [ إني رسول الله و آتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي و لا أكره أحد منكم على شئ ]
قالوا : و من أي قريش أنت ؟ قال : [ من بني عبد المطلب ] قالوا : فأين أنت من عبد مناف ؟ قال : [ هم أول من كذبني و طردني ]
قالوا : و لكنا لا نطردك و لا نؤمن بك و سنمنعك حتى تبلغ رسالة ربك قال : [ فنزل إليهم و القوم يتسوقون ] إذ أتاهم بيحرة بن فراس القشيري فقال : من هذا الرجل أراه عندكم أنكره ؟
قالوا محمد بن عبد الله القرشي قال : فما لكم و له ؟ قالوا زعم لنا أنه رسول الله فطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه قال : ماذا رددتم عليه ؟ قالوا : بالترحيب و السعة نخرجك إلى بلادنا و نمنعك ما نمنع به أنفسنا
قال بيحرة : ما أعلم أحدا من أهل هذه السوق يرجع بشئ أشد من شئ ترجعون به بدأتم لتنابذوا الناس و ترميكم العرب عن قوس واحدة قومه أعلم به لو آنسوا منه خيرا لكانوا أسعد الناس به أتعمدون إلى زهيق قد طرده قومه و كذبوه فتؤوونه و تنصرونه ؟ فبئس الرأي رأيتم
ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : قم فالحق بقومك فو الله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك
قال : فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ناقته فركبها فغمز الخبيث بيحرة شاكلتها فقمصت برسول الله صلى الله عليه و سلم فألقته و عند بني عامر يومئذ ضباعة ابنة عامر بن قرط كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله بمكة جاءت زائرة إلى بني عمها فقالت : يا آل عامر و لا عامر لي ! أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم ! فقام ثلاثة من بني عمها إلى بيحرة و اثنين أعاناه فأخذ كل رجل منهم رجلا فجلد به الأرض ثم جلس على صدره ثم علوا وجوههم لطما
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم بارك على هؤلاء و العن هؤلاء ]
قال : فأسلم الثلاثة الذين نصروه و قتلوا شهداء و هم : غطيف و غطفان ابنا سهل و عروة أو عذرة بن عبد الله بن سلمة رضي الله عنهم
و قد روى هذا الحديث بتمامه الحافظ سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في مغازيه عن أبيه به و هلك الآخرون و هم بيحرة بن فراس و حزن بن عبد الله بن سلمة بن قشير و معاوية بن عبادة أحد بني عقيل لعنهم الله لعنا كثيرا و هذا أثر غريب كتبناه لغرابته و الله أعلم (2/160)
و قد روى أبو نعيم له شاهدا من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة عامر ابن صعصعة و قبيح ردهم عليه
و أغرب من ذلك و أطول ما رواه أبو نعيم و الحاكم و البيهقي و السياق لأبي نعيم رحمهم الله من حديث أبان بن عبد الله البجلي عن أبان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عباس حدثني علي بن أبي طالب قال : لما أمر الله رسوله أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج و أنا معه و أبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب
فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فسلم و كان أبو بكر مقدما في كل خير و كان رجلا نسابة فقال : ممن القوم ؟ قالوا : من ربيعة قال : و أي ربيعة أنتم أمن هامها أم لها زمها ؟ قالوا : بل من هامها العظمى قال أبو بكر : فمن أي هامتها العظمى ؟ فقال : ذهل الأكبر قال لهم أبو بكر : منكم عوف الذي كان يقال : لا حر بوادي عوف ؟ قالوا : لا قال : فمنكم بسطام بن قيس أبو اللواء و منتهى الأحياء ؟ قالوا : لا قال : فمنكم الحوفزان بن شريك قاتل الملوك و سألها أنفسها ؟ قالوا : لا
قال : فمنكم جساس بن ذهل حامي الذمار و مانع الجار ؟ قالوا : لا
قال : فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة ؟ قالوا : لا
قال : فأنتم أخوال الملوك من كندة ؟ قالوا : لا
قال : فأنتم أصهار الملوك من لخم ؟ قالوا : لا قال لهم أبو بكر رضي الله عنه : فلستم بذهل الأكبر بل أنتم ذهل الأصغر
قال : فوثب إليه منهم غلام يدعى دغفل بن حنظلة الذهلي حين بقل وجهه فأخذ بزمام ناقة أبي بكر و هو يقول :
( إن على سائلنا أن نسأله ... و العبء لا نعرفه أو نحمله )
قال : رجل من قريش
فقال الغلام : بخ بخ : أهل السؤدد و الرئاسة قادمة العرب و هاديها فمن أنت من قريش ؟ فقال له : رجل من بني تيم بن مرة فقال له الغلام : أمكنت و الله الرامي من سواء الثغرة ! أفمنكم قصي بن كلاب الذي قتل بمكة المتغلبين عليها و أجلى بقيتهم و جمع قومه من كل أوب حتى أوطنهم مكة ثم استولى على الدار و أنزل قريشا منازلها فسمته العرب بذلك مجمعا و فيه يقول الشعر :
( أليس أبوكم كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر )
فقال أبو بكر : لا
قال : فمنكم عبد مناف الذي انتهت إليه الوصايا و أبو الغطاريف السادة ؟ فقال أبو بكر : لا
قال : فمنكم عمر بن عبد مناف هاشم الذي هشم الثريد لقومه و لأهل مكة ففيه يقول الشاعر :
( عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... و رجال مكة مسنتون عجاف )
( سنوا إليه الرحلتين كليهما ... عند الشتاء و رحلة الأصياف )
( كانت قريش بيضة فتفلقت ... فالمح خالصه لعبد مناف )
( الرائشين و ليس يعرف رائش ... و القائلين هلم للأضياف )
( و الضارين الكبش يبرق بيضه ... و المانعين البيض بالأسياف )
( لله درك لو نزلت بدارهم ... منعوك من أزل و من إقراف )
فقال أبو بكر : لا
قال : فمنكم عبد المطب شيبة الحمد و صاحب عير مكة و مطعم طير السماء و الوحوش و السباع في الفلا الذي كأن وجهه قمر يتلألأ في الليلة الظلماء ؟ قال : لا قال أفن أهل الإفاضة أنت ؟ قال : لا قال : أفمن أهل الحاجة أنت ؟ قال : لا قال : أفمن أهل أهل الندوة أنت ؟ قال : لا قال : أفمن أهل السقاية أنت ؟ قال : لا قال : أفن أهل الرفادة أنت ؟ قال : لا
قال : فمن المفيضين أنت ؟ قال : لا
ثم جذب أبو بكر رضي الله عنه زمام ناقته من يده فقال له الغلام :
( صادف در السيل در يدفعه ... يهيضه حينا و حينا يرفعه )
ثم قال : أما و الله يا أخا قريش لو ثبت لخبرتك أنك من زمعات قريش و لست من الذوائب قال : فأقبل إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يتبسم قال علي : فقلت له : يا أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة : فقال : أجل يا أبا الحسن إنه ليس من طامة إلا و فوقها طامة و البلاء موكل بالقول
قال : ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينة و الوقار و إذا مشايخ لهم أقدار و هيئات
فتقدم أبو بكر فسلم قال علي : و كان أبو بكر مقدما في كل خير
فقال لهم أبو بكر : ممن القوم ؟ قالوا من بني شيبان بن ثعلبة فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : بأبي أنت وأمي ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم و في رواية : ليس وراء هؤلاء عذر من قومهم و هؤلاء غرر في قومهم غرر الناس
و كان القوم مفرق بن عمرو و هانئ بن قبيصة و المثنى بن حارثة و النعمان ابن شريك
و كان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق بن عمرو و كان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بيانا و لسانا و كانت له غديرتان تسقطان على صدره فكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر
فقال أبي بكر : كيف العدد فيكم ؟ فقال له : إنا لنزيد على ألف و لن تغلب ألف من قلة
فقال له : فكيف المنعة فيكم ؟ فقال : علينا الجهد و لكل قوم جد
فقال أبو بكر : فكيف الحرب بينكم و بين عدوتكم ؟
فقال مفروق : إنا أشد ما نكون لقاء حين نغضب و إنا لنؤثر الجياد على الأولاد و السلاح على اللقاح و النصر من عند الله يديلنا مرة و يديل علينا [ مرة ] لعلك أخو قريش ؟
فقال أبو بكر : إن كان بلغكم أن رسول الله فها هو هذا
فقال مفروق : قد بلغنا أنه يذكر ذلك
ثم التفت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم [ فقال : إلام تدعو يا أخا قريش ؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم ] فجلس و قام أبو بكر يظله بثوبه فقال صلى الله عليه و سلم : [ أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أني رسول الله و أن تؤوني و تنصروني حتى أودي عن الله أمرني به فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله و كذبت رسوله و استغنت بالباطل عن الحق و الله هو الغني الحميد ]
قال له : و إلام ما تدعو أيضا يا أخا قريش ؟
فتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم : ألا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا } إلى قوله : { ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون }
فقال له مفروق : و إلام تدعو يا أخا قريش ؟ فو الله ما هذا من كلام أهل الأرض و لو كان من كلامهم لعرفناه
فتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم : { إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهي عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون }
فقال له مفروق : دعوت و الله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق و محاسن الأعمال و لقد أفك قوم كذبوك و ظاهروا عليك
و كأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال : و هذا هانئ بن قبيصة شيخنا و صاحب ديننا
فقال له هانئ : قد سمعت مقالتك يا أخا قريش و صدقت قولك و إني أرى أن تركنا ديننا و اتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول و لا آخر لم نتفكر في أمرك و ننظر في عاقبة ما تدعو إليه زلة في الرأي و طبشة في العقل و قلة نظر في العاقبة و إنما تكون الزلة مع العجلة و إن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدا و لكن ترجع و نرجع و تنظر و ننظر
و كأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة فقال : و هذا المثنى شيخنا و صاحب حربنا
فقال المثنى : قد سمعت مقالتك و استحسنت قولك يا أخا قريش و أعجبني ما تكلمت به و الجواب هو جواب هانئ بن قبيصة و تركنا ديننا و اتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا و إنما نزلنا بين صريين أحدهما اليمامة و الآخر السماوة
فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و ما هذان الصريان ؟ ]
فقال له : أما أحدهما فطفوف البر و أرض العرب و أما الآخر فأرض فارس و أنهار كسرى و إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا يحدث حدثا و لا نؤوي محدثا و لعل هذا الذي تدعونا إليه مما تكره الملوك فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور و عذره مقبول و أما كان [ مما ] يلي بلاد فارس فذنب صاحبه غير مقبول فإن أردت أن ننصرك و نمنعك مما يلي العرب فعلنا
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه ]
ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم و أموالهم و يفرشكم بناتهم أتسبحون الله و تقدسونه ؟ ]
فقال له النعمان بن شريك : اللهم و إن ذلك لك يا أخا قريش !
فتلا رسول الله صلى الله عليه و سلم : { إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا }
ثم نهض رسول الله صلى الله عليه و سلم قابضا على يدي أبي بكر
قال علي : ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا علي أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية ما أشرفها ! بها يتحاجزون في الحياة الدنيا ]
قال : ثم دفعنا إلى مجلس الأوس و الخزرج فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلى الله عليه و سلم
قال علي : و كانوا صدقاء صبراء فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم من معرفة أبي بكر رضي الله عنه بأنسابهم
قال : فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا يسيرا حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم : [ احمدوا الله كثيرا فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس قتلوا ملوكهم و استباحوا عسكرهم و بي نصروا ] قال : و كانت الوقعة بقراقر إلى جنب ذي قار و فيها يقول الأعشي :
( فدي لبني ذهل بن شيبان ناقتي ... و راكبها عند اللقاء و قلت )
( هم ضربوا بالحنو حنو قراقر ... مقدمة الهامرز حتى تولت )
( فلله عينا من رأى من فوارس ... كذهل بن شيبان بها حين ولت )
( فثاروا و ثرنا و المودة بيننا ... و كانت علينا غمرة فتجلت )
هذا حديث غريب جدا كتبناه لما فيه من دلائل النبوة و محاسن الأخلاق و مكارم الشيم و فصاحة العرب
و قد ورد هذا من طريق أخرى و فيه انهم لما تحاربوا هم و فارس و التقوا معهم بقراقر مكان قريب من الفرات جعلوا شعارهم اسم محمد صلى الله عليه و سلم فنصروا على فارس بذلك و قد دخلوا بعد ذلك في الإسلام (2/163)
و قال الواقدى : أخبرنا عبد الله بن و ابصة العبشى عن أبيه عن جده قال : جاءنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في منازلنا بمنى و نحن نازلون بإزاء الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف و هو على راحلته مردفا خلفه زيد بن حارثة فدعانا فو الله ما استجبنا له و لا خير لنا
قال : و قد كنا سمعنا و بدعائه في المواسم فوقف علينا يدعونا فلم نستجب له و كان معنا ميسرة بن مسروق العبشي فقال لنا : أحلف بالله لو قد صدقنا هذا الرجل و حملناه حتى تحل به وسط بلادنا لكان الرأى فأحلف بالله ليظهران
أمره حتى يبلغ كل مبلغ
فقال القوم : دعنا منك لا تعرضنا لما لا قبل لنا به
و طمع رسول الله صلى الله عليه و سلم في ميسرة فكلمه فقال ميسرة : ما أحسن كلامك و أنوره و لكن قومى يخالفوننى و إنما الرجل بقومه فإذا لم يعضدوه فالعدى أبعد
فانصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم و خرج القوم صادرين إلى أهليهم فقال لهم ميسرة : ميلوا نأتى فدك فإن بها يهودا نسائلهم عن هذا الرجل فمالوا إلى يهود فأخرجوا سفرا لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم النبي الأمي العربي يركب الحمار و يجتزي بالكسرة ليس بالطويل و لا بالقصير و لا بالجعد و لا بالسبط في عينه حمرة مشرق اللون فإن كان هو الذي دعا كم فأجيبوه و ادخلوا في دينه فإنا نحسده و لا نتبعه و إنا منه في مواطن بلاء عظيم و لا يبقى أحد من العرب إلا اتبعه و إلا قاتله فكونوا ممن يتبعه
فقال ميسرة : يا قوم ألا إن هذا الأمر بين
فقال القوم : نرجع إلى الموسم و نلقاه فرجعوا إلى بلادهم و أبى ذلك عليهم رجالهم فلم يتبعه أحد منهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة مهاجرا و حج حجة الوداع لقاه ميسرة فعرفه فقال : يا رسول الله و الله ما زالت حريصا على إتباعك من يوم أنحت بنا حتى كان ما كان و أبى الله إلا ما ترى من تأخر إسلامى و قد مات عامة النفر الذين كانوا معي فأين مدخلهم يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل من مات على غير دين الإسلام فهو في النار ]
فقال الحمد لله الذي أنقذني فأسلم و حسن إسلامه و كان له عند أبى بكر مكان
و قد استقصى الإمام محمد بن عمر الواقدى فقص خبر القبائل واحدة واحدة فذكر عرضه عليه السلام نفسه على بنى عامر و غسان و بنى فزارة و بنى مرة و بنى حنيفة و بنى سليم و بنى عبس و بنى نضر بن هوازن و بنى ثعلبة بن عكابة و كندة و كلب و بنى الحارث بن كعب و بنى عذرة و قيس بن الحطيم و غيرهم
و سياق أخبارها مطولة و قد ذكرنا من ذلك طرفا صالحا و لله الحمد و المنة
و قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر أخبرنا إسرائيل عن عثمان يغنى ابن المغيرة عن سالم بن أبى الجعد عن جابر بن عبد الله قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول : [ هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعونى أن أبلغ كلام ربى عز و جل ؟ ] (2/170)
فأتاه رجل من همدان فقال : ممن أنت ؟ قال الرجل : من همدان قال : فهل عند قومك من منعة ؟ قال : نعم ! ثم إن الرجل خشى أن يخفره قومه فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : آتيهم فأخبرهم ثم آتيك من عام قابل قال نعم فانطلق و جاء و قد الأنصار في رجب و قد رواه أهل السنن الأربعة من طرق عن إسرائيل به و قال الترمذي : حسن صحيح (2/129)
في قدوم وفد الأنصار عاما بعد عام حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بيعة بعد بيعة ثم بعد ذلك تحول إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة فنزل بين أظهرهم كما سيأتي بيانه و تفصيله إن شاء الله و به الثقة (2/173)
و هو سويد بن الصامت بن عطية بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك ابن الأوس و أمه ليلى بنت عمرو النجارية أخت سلمى بنت عمرو أم عبد المطلب بن هاشم
فسويد هذا ابن خالة عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه و سلم
قال محمد بن إسحاق بن يسار : و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم على ذلك من أمره كلما اجتمع الناس بالمواسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله و إلى الإسلام و يعرض عليهم نفسه و ما جاء به من الهدى و الرحمة و لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم و شرف إلا تصدى له و دعاء إلى الله تعالى و عرض عليه ما عنده
قال ابن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قالوا : قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا و كان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده و شعره و شرفه و نسبه وهو الذي يقول :
( ألا رب من تدعو صديقا و لو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفرى )
( مقالته كالشهد ما كان شاهدا ... و بالغيب مأثور على ثغره النحر )
( يسرك باديه و تحت أديمه ... تميمة غش تبترى عقب الظهر )
( تبين لك العينان ما هو كاتم ... من الغل و البغضاء بالنظر الشزر )
( فرشني بخير طالما قد بريتني ... و خير الموالي من يريش و لا يبرى )
قال : فتصدى له رسول الله صلى الله عليه و سلم حين سمع به فدعاه إلى الله و الإسلام فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي
فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : و ما الذي معك ؟ قال مجلة لقمان يعني حكمة نعمان فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اعرضها علي فعرضها عليه فقال : [ إن هذا الكلام حسن و الذي معي أفضل من هذا قرآن أنزله الله علي هو هدى و نور ]
فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم القرآن و دعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه و قال : إن هذا القول حسن
ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج فإن كان رجال من قومه ليقولون : إنا لنراه قتل و هو مسلم و كان قتله قبل بعاث
و قد رواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن ابن إسحاق بأخصر من هذا (2/173)
قال ابن إسحاق : [ و حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن محمود بن لبيد قال : لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج سمع بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتاهم فجلس إليهم فقال : هل لكم في خير مما جئتم له ] ؟ قال قالوا : و ما ذاك ؟
قال : [ أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله و لا يشركوا به شيئا و أنزل علي الكتاب ثم ذكر لهم الإسلام و تلا عليهم القرآن ]
قال : فقال إياس بن معاذ و كان غلاما حدثا : يا قوم هذا و الله خير مما جئتم له
فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ و قال : دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا
قال : فصمت إياس و قام رسول الله صلى الله عليه و سلم عنهم و انصرفوا إلى المدينة و كانت وقعة بعاث بين الأوس و الخزرج
قال ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك
قال محمود بن لبيد : فأخبرني من حضرني من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله و يكبره و يحمده و يسبحه حتى مات فما كانوا يشكون أنه قد مات مسلما لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم ما سمع
قلت : كان يوم بعاث و بعاث موضع بالمدينة كانت فيه وقعة عظيمة قتل فيها خلق من أشراف الأوس و الخزرج و كبرائهم و لم يبق من شيوخهم إلا القليل
و قد روى البخاري في صحيحه عن عبيد بن إسماعيل عن أبي أمامة عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت : كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و قد افترق ملؤهم و قتل سراتهم (2/174)
قال ابن إسحاق : فلما أراد الله إظهار دينه و إعزاز نبيه و إنجاز موعده له خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في الموسم الذي لقبه فيه النفر من الأنصار فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا [ فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قالوا : لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لهم من أنتم ؟ ] قالوا : نفر من الخزرج قال : [ أمن موالي يهود ؟ ] قالوا : نعم قال : [ أفلا تجلسون أكلمكم ؟ قالوا : بلى
فجلسوا معه فدعاهم إلى الله و عرض عليهم الإسلام و تلا عليهم القرآن ]
قال : و كان مما صنع الله بهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم و كانوا أهل كتاب و علم و كانوا هم أهل شرك أصحاب أوثان و كانوا قد غزوهم ببلادهم فكانوا إذا كان بينهم شئ قالوا : إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه
نقتلكم معه قتل عاد و إرم فلما كلم رسول الله صلى الله عليه و سلم أولئك النفر و دعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض يا قوم تعلمون و الله إنه النبي الذي توعدكم به يهود فلا يسبقنكم إليه
فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه و قبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام و قالوا إنا قد تركنا قومنا و لا قوم بينهم من العداوة و الشر ما بينهم و عسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك و نعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا و صدقوا (2/176)
قال ابن إسحاق : و هم فيما ذكر لي ستة نفر كلهم من الخزرج و هم : أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار
قال أبو نعيم : و قد قيل إنه أول من أسلم من الأنصار من الخزرج
ومن الأوس : أبو الهيثم بن التيهان و قيل إن أول من أسلم رافع بن مالك و معاذ ابن عفراء و الله أعلم و عوف بن الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار و هو ابن عفراء النجاريان و رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن زريق الزرقي
و قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غنم بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن سار بن يزيد بن جثم بن الخزرج السلمي ثم من بني سواد و عقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب بن سلمة السلمي أيضا ثم من بني حرام و جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد بن عدى ابن غنم بن كعب بن سلمة السلمي أيضا ثم من بني عبيد رضي الله عنهم
و هكذا روى عن الشعبي و الزهري و غيرهما أنه كانوا ليلتئذ ستة نفر من الخزرج
و ذكر موسى بن عقبة فيما رواه عن الزهري و عروة بن الزبير أن أول اجتماعه عليه السلام بهم كانوا ثمانية و هم : معاذ بن عفراء و أسعد بن زرارة و رافع بن مالك و ذكوان و هو ابن عبد قيس و عبادة بن الصامت و أبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة و أبو الهيثم بن التيهان و عويم بن ساعدة فأسلموا و واعدوه إلى قابل
فرجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى الإسلام و أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم معاذ بن عفراء و رافع بن مالك أن ابعث إلينا رجلا يفقهنا
فبعث إليهم مصعب بن عمير فنزل على أسعد بن زرارة
و ذكر تمام القصة كما سيوردها ابن إسحاق أتم من سياق موسى بن عقبة و الله أعلم (2/177)
قال ابن إسحاق : فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و دعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم تبقى دار من الأنصار إلا و فيها ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم
حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا و هم : أبو أمامة أسعد بن زرارة المتقدم ذكره و عوف بن الحارث المتقدم و أخوه معاذ و هما ابنا عفراء و رافع بن مالك المتقدم أيضا و ذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر ابن زريق الزرقى قال ابن هشام : و هو أنصارى مهاجرى و عبادة بن الصامت بن قيس ابن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج و حليفهم أبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم البلوى و العباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن يزيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الجزرج العجلانى و عقبة بن عامر بن نابى المتقدم و قطبة بن عامر بن حديدة المتقدم
فهؤلاء عشرة من الخزرج و من الأوس اثنان و هما : عويم بن ساعدة و أبو الهيثم مالك بن التيهان
قال ابن هشام التيهان يخفف و يثقل كميت و ميت
قال السهيلي : أبو الهيثم بن التيهان اسمه مالك بن مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر بن زعور بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس قال : و قيل إنه إراشى و قيل بلوى و هذا لم ينسبه ابن إسحاق و لا ابن هشام
قال : و الهيثم فرخ العقاب و ضرب من النبات
و المقصود أن هؤلاء الاثنى عشر رجلا شهدوا الموسم عامئذ و عزموا على الاجتماع برسول الله صلى الله عليه و سلم فلقوه بالعقبة فبايعوه عندها بيعة النساء و هي العقبة الأولى
و روى أبو نعيم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ عليهم من قوله في سورة إبراهيم { و إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا } إلى آخرها
و قال ابن إسحاق : حدثني يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزنى عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحى عن عبادة و هو ابن الصامت قال كنت ممن حضر العقبة الأولى و كنا اثنى عشر رجلا : فبايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على بيعة النساء و ذلك قبل أن تفترض الحرب على ألا نشرك بالله شيئا و لا نسرق و لا نزنى و لا نقتل أولدنا و لا نأتى بهتان نفتريه بين أيدينا و أرجلنا و لا نعصيه في معروف فإن و فيم فلكم الجنة و إن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله إن شاء عذب و إن شاء غفر
و قد روى البخاري و مسلم هذا الحديث من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب به نحوه
قال ابن إسحاق : و ذكر ابن شهاب الزهري عن عائذ الله أبى إدريس الخولانى أن عبادة بن الصامت حدثه قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة الأولى ألا نشرك بالله شيئا و لا نسرق و لا نزنى و لا نقتل أولادنا و لا نأتي بهتان نفتريه بين أيدينا و أرجلنا و لا نعصيه في معروف فإن و فيم فلكم الجنة و إن غشيتم من ذلك شيئا فأخذه في الدنيا فهو كفارة له و إن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء غفر
و هذا الحديث مخرج في الصحيحين و غيرها من طرق عن الزهري به نحوه
و قوله : على بيعة النساء يعنى على وفق ما نزلت عليه بيعة النساء بعد ذلك عام الحديبية و كان هذا مما نزل على وفق ما عليه أصحابه ليلة العقبة و ليس هذا عجيبا فإن القرآن نزل بموافقة عمر بن الخطاب في غيرما موطن كما بيناه في سيرته و في التفسير و إن كان هذه البيعة وقعت عن وحي غير متلو فهو أظهر و الله أعلم (2/178)
قال ابن إسحاق : فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي و أمره أن يقرئهم القرآن و يعلمهم الإسلام و يفقههم في الدين و قد روى البيهقي عن ابن إسحاق قال : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما بعث مصعبا حين كتبوا إليه أن يبعثه إليهم و هو الذي ذكره موسى بن عقبة كما تقدم الإ أنه جعل المرة الثانية هي الأولى
قالوا كلهم : فنزل مصعب على أسعد بن زرارة فكان يسمى بالمدينة المقرئ
قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه كان يصلى بهم و ذلك أن الأوس و الخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض رضي الله عنهم أجمعين
قال ابن إسحاق : و حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال : كنت قائد أبي حين ذهب بصرة فكنت إذا خرجت إلى الجمعة فسمع الأذان بها صلى إلى أبي أمامة أسعد بن زرارة
قال : فمكث حينا على ذلك لا يسمع لأذان الجمعة إلا صلى عليه و استغفر له
قال : فقلت في نفسي و الله إن هذا بي لعجز ألا أسألة ؟ فقلت : يا أبت مالك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة ؟ فقال : أي بني كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم النبيت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له : بقيع الخضمات قال : قلت : و كم أنتم يومئذ ؟ قال : أربعون رجلا و قد روى هذا الحديث أبو داود بن ماجة من طريق محمد بن إسحاق رحمة الله
و قد روى الدار قطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى مصعب بن عمير يأمره بإقامة الجمعة و في إسناده غرابة و الله أعلم (2/180)
قال ابن إسحاق : و حدثني عبيد الله بن الكغيرة بن معيقيب و عبد الله بن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل و دار بني ظفر و كان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر على بئر يقال لها : بئر مرق فجلسنا في الحائط و اجتمع إليهما رجال ممن أسلم و سعد بن معاذ و أسيد بن الحضير يومئذ سيدا قومها من بني عبد الأشهل و كلاهما مشرك على دين قومه فلما سمعنا به قال سعد لأسيد : لا أبالك ! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد يأتنا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما و انههما أن يأتيا دارينا فإنه لو لا أسعد بن زرارة منى حيث قد علمت كفيتك ذلك هو ابن خالتى عليه مقدما
قال : فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا سيد قومه و قد جاءك فاصدق الله فيه
قال مصعب : إن يجلس أكلمه
قال فوقف عليهما متشتما فقال : ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة
و قال موسى بن عقبة : فقال له غلام : أتينا في دارنا بهذا الرعيد الغريب الطريد ليتسفه ضعفاءنا بالباطل و يدعوهم إليه قال ابن إسحاق : فقال له مصعب : أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبليه و إن كرهته كف عنك ما تكره قال : أنصفت قال : ثم ركز حربته و جلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام و قرأ عليه القرآن
فقالا فيما يذكر عنهما : و الله لعرفناه في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه و تسهله
ثم قال : ما أحسن هذا و أجمله ! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا اللذين
قالا له : تغتسل فتطهر و تطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلى
فقام فاغتسل و طهر ثوبيه و تشهد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين ثم قال لهما : إن وراءي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه و سأرسله إليكما الآن سعد بن معاذ
ثم أخذ حربته و انصرف إلى سعد و قومه و هم جلوس في ناديهم فلما نظر إليه سعد ابن معاذ مقبلا قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسيد يغير الوجه الذي ذهب به من عندكم
فلما وقف على النادي قال له سعد : ما قلت ؟ كلمت الرجلين فوالله ما رأيت يهما بأسا و قد نهيتهما فقالا : نفعل ما أحببت و قد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه و ذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك
قال : فقام سعد بن معاذ مغضبا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة و أخذ الحربة في يده ثم قال : و الله ما أراك أغنيت شيئا
ثم خرج إليهما سعد فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما فوقف متشتما ثم قال لأسعد بن زرارة : و الله يا أبا أمامة و الله لولا ما بيني و بينك من القرابة ما رمت هذا مني أتغشانا في دارنا بما نكره ؟ قال : و قد قال أسعد لمصعب : جاءك و الله سيد من ورائه من قممه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان
قال : فقال له مصعب : أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا رغبت فيه قبلته و إن كرهته عزلنا عنك ما تكره
قال سعد : أنصفت ثم ركز الحربة و جلس فعرض عليه الإسلام و قرأ عليه القرآن
و ذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول الزخرف
قال : فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه و تسهله
ثم قال لهما : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم و دخلتم في هذا الدين
قالا : تغتسل فتطهر و تطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم نصلي ركعتين
قال : فقام فاغتسل و طهر ثوبيه و شهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين
ثم أخذ حربته فأقبل عائدا إلى نادي قومه و معه أسيد بن الحضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا : نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم
فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا : سيدنا و أفضلنا رأيا و أيمننا نقيبة
قال : فإن كلام رجالكم و نسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله و رسوله
قال : فو الله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل و لا امرأة إلا مسلما أو مسلمة (2/181)
و رجع سعد و مصعب إلى منزل أسعد بن زرازة فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الإسلام حتى لم تبقى دار من دور الأنصار إلا و فيها رجال و نساء مسلمون
إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد و خطمة و وائل و واقف و تلك أوس و هم من الأوس بن حارثة
و ذلك أنهم كان فيهم أبو قيس بن الأسلت و اسمه صيفي و قال الزبير بن بكار : اسمه الحارث و قيل عبيد الله و اسم أبيه الأسلت و اسم أبيه الأسلت عامر بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس و كذا نسبه الكلبي أيضا
و كان شاعرا لهم قائدا يستمعون منه و يطيعونه بهم عن الإسلام حتى كان بعد الخندق قلت : و أبو قيس بن الأسلت هذا ذكر له ابن إسحاق أشعارا بائية حسنة تقرب من أشعار بن أبي الصلت الثقفي (2/184)
قال ابن إسحاق فيما تقدم : و لما انتشر أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم في العرب و بلغ البلدان ذكر بالمدينة و لم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم حين ذكر و قبل أن يذكر من هذا الحي من الأوس و الخزرج و ذلك لما كان يسمعون من أخبار يهود
فلما وقع أمره بالمدينة و تحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف قال أبو قيس بن الأسلت أخو بني واقف
قال السهيلي : هو أبو قيس صرمة بن أبي أنس و اسم أبي قيس بن صرمة بن مالك بن عدي بن عمرو بن غنم بن عدي بن النجار قال : و هو الذي أنزل فيه و في عمر { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } الآية
قال ابن إسحاق : و كان يحب قريشا و كان لهم صهرا كانت تحته أرنب بنت أسد ابن عبد العزى بن قصي و كان يقيم عندهم السنين بامرأته
قال قصيدة يعظم فيها الحرمة و ينهى قريشا فيها عن الحرب و يذكر فضلهم و أحلامهم و يذكرهم بلاء الله عندهم و دفعه عنهم الفيل و كيده و يأمرهم بالكف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم :
( أيا راكبا إما عرضت فبلغن ... مغلغلة عني لؤي بن غالب )
( رسول امرئ قد راعه ذات بينكم ... على النأي محزون بذلك ناصب )
( و قد كان عندى للهموم معرس ... و لم أفض منها حاجتي و مآربي )
( نبيتكم شرجين كل قبيلة ... لها أرمل من بين مذك و حاطب )
( أعيذ كم بالله من شر صنعكم ... و شر تباغيكم و دس العقارب )
( و إظهار أخلاق و نجوى سقيمة ... كوخز الأشافي و قعها حق صائب )
( فذكرهم بالله أول وهلة ... و إحلال أحرام الظباء الشوازب )
( و قل لهم و الله يحكم حكمه ... ذروا الحرب تذهب عنكم في المراحب )
( متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ... هي الغول للأقصين أو للأقارب )
( تقطع أرحاما و تهلك أمة ... و تبرى السديف من سنام و غارب )
( و تستبد بالأتحمية بعدها ... شليلا و أصداء ثياب المحارب )
( و بالمسك و الكافور غبرا سوابغا ... كأن قتيريها عيون الجنادب )
( فإياكم و الحرب لا تعلقنكم ... و حوضا و خيم الماء مر المشارب )
( تزين للأقوام ثم يرونها ... بعاقبة إذ بينت أم صاحب )
( تحرق لا تشوى ضعيفا و تنتحى ... ذوي العز منكم بالحتوف الصوائب )
( ألم تعلموا ما كان في حرب داحس ... فتعتبروا أو كان في حرب حاطب )
( و كم ذا أصابت من شريف مسود ... طويل العماد ضيفه غير خائب )
( عظيم رماد النار يحمد أمره ... و ذى شيمة محض كريم المضارب )
( و ماء هريق في الضلال كأنما ... أذاعت به ريح الصبا و الجنائب )
( يخبركم عنها امرؤ حق عالم ... بأيامها و العلم علم التجارب )
( فبيعوا الحراب ملمحارب و اذكروا ... حسابكم و الله خير محاسب )
( و لي امرئ فاختار دينا فلا يكن ... عليكم رقيبا غير رب الثواقب )
( أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتم ... لنا غاية قد يهتدي بالذوائب )
( و أنتم لهذا الناس نور و عصمة ... تؤمون و الأحلام غير عوازب )
( و أنتم إذا ما حصل الناس جوهر ... لكم سرة البطحاء شم الأرانب )
( تصونون أنسابا كراما عتيقة ... مهذبة الأنساب غير أشائب )
( يرى طالب الحاجات نحو بيوتكم ... عصائب هلكى تهتدي بعصائب )
( لقد علم الأقوم أن سراتكم ... على كل حال خير أهل الجباجب )
( و أفضله رأيا أعلاه سنة ... و أقوله للحق وسط المواكب )
( فقوموا فصلوا ربكم و تمسحوا ... بأركان هذا البيت بين الأخاشب )
( فعندكم منه بلاء و مصدق ... غداة أبي يكسوم هادي الكتائب )
( كتبته بالسهل تمشى و رجله ... على القاذفات في رءوس المناقب )
( فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم ... جنود المليك بين ساف و حاصب )
( فولوا سراعا هاربين و لم يؤب ... إلى أهله ملحبش غير عصائب )
( فإن تهلكوا نهلك و تهلك مواسم ... يعاش بها قول امرئ غير كاذب ) (2/185)
و حرب داحس التي ذكره أبو قيس في شعره كانت في زمن الجاهلية مشهورة و كان سببها فيما ذكره أبو عبيد معمر بن المثنى و غيره : أن فرسا يقال لها داحس كانت لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحه الغطفاني أجراها مع فرس لحذيفة بن بدر بن عمرو ابن جؤية الغطفاني أيضا يقال لها الغبراء فجاءت داحس سابقا فأمر حذيفة من وجهها فوثب مالك بن زهير فلطم وجه الغبراء فقام حمل بن بدر فلطم مالكا ثم إن أبا جنيدب العبسي لقي عوف بن حذيفة فقتله ثم لقي رجل من بني فزارة مالكا فقتله فشبت الحرب بين بني عبس و فزارة حذيفة بن بدر و أخوه حمل ابن بدر و جماعات آخرون و قالوا في ذلك أشعارا كثيرة يطول بسطها و ذكرها قال ابن هشام : و أرسل قيس داحسا و الغبراء و أرسل حذيفة الخطار و الحنفاء و الأول أصح قال : و أما حرب حاطب فيعنى حاطب بن الحارث بن قيس بن هيشة بن الحارث بن أمية بن معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس كان قتل يهوديا جارا للخزرج فحرج إليه زيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر ابن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن مالك بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الحزرج و هو الذي يقال له ابن فسحم في نفر من بني الحارث بن الخزرج فقتلوه فوقعت الحرب بين الأوس والخزرج فاقتتلوا قتالا شديدا و كان الظفر للخرزرج و قتل يومئذ الأسود بن الصامت الأوسي قتله المجذر بن ذياد حليف بني عوف بن الحزرج ثم كانت بينهم حروب يطول ذكرها أيضا (2/187)
و المقصود أن أبا قيس بن الأسلت مع علمه وفهمه لم ينتفع بذلك حين قدم مصعب ابن عمير المدينة و دعا أهلها إلى الإسلام فأسلم من أهلها بشر كثير و لم يبق دار أي محلة من دور المدينة إلا و فيها مسلم و مسلمات غير دار بني واقف قبيلة أبي قيس ثبطهم عن الإسلام و هو القائل أيضا :
( أرب الناس أشياء ألمت ... يلف الصعب منها بالذلول )
( أرنب الناس إما إن ضللنا ... فيسرنا لمعروف السبيل )
( فلولا ربنا كنا يهودا ... و مادين اليهود بذى شكول )
( ولولا ربنا كنا نصارى ... مع الرهبان في جبل الجليل )
( و لكنا خلقنا إذا خلقنا ... حنيفا ديننا عن كل جيل )
( تسوق الهدى ترسف مذعنات ... مكشفة المناكب في الجلول )
و حاصل ما نقول : أنه حائر فيما وقع من الأمر الذي قد سمعه من بعثة رسول الله صلى الله عليه و سلم فتوقف الواقفي في ذلك مع علمه و معرفته و كان الذي ثبطه عن الإسلام أولا عبد الله بن أبي بن سلول بعدما أخبره أبو قيس أنه الذي بشر به يهود فمنعه عن الإسلام قال ابن إسحاق : و لم يسلم إلى يوم الفتح هو و أخوه و خرج و أنكر الزبير بن بكار أن يكون أبو قيس أسلم و كذا الواقدي قال : كان عزم على الإسلام أول ما دعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فلامه عبد الله بن أبي فحلف لا يسلم إلى حول فمات في ذي القعدة
و قد ذكر غيره فيما حكاه ابن الأثير في كتابه أسد الغابة أنه لمل حضره الموت دعاه النبي صلى الله عليه و سلم إلى الإسلام فسمع يقول : لا إله إلا الله
و قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عاد رجلا من الأنصار فقال : [ ياخال قل لا إله إلا الله ] فقال : أخال أم عم ؟ قال : بل خال قال : فخير لي أن أقول لا إله إلا الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعم تفرد به أحمد رحمه الله و ذكر عكرمة و غيره أنه لما توفى أراد ابنه أن يتزوج امرأته كبيشة بنت معن بن عاصم فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك فأنزل الله { و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } الآية (2/188)
و قال ابن إسحاق و سعيد بن يحيى الأموي قي مغازية كان أبو قيس هذا ترهب في الجاهلية و لبس المسوح و فارق الأوثان و اغتسل من الجنابة و تطهر من الحائض من النساء و هم بالنصرانية ثم أمسك عنها و دخل بيتا له فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه فيه حائض و لا جنب و قال : أعبد إله إبراهيم حين فارق الأوثان و كرهها
حتى قدم رسول الله فأسلم فحسن إسلامه
و كان شيخا كبيرا و كان قوالا بالحق معظما لله في جاهلية يقول في ذلك أشعارا حسانا و هو الذي يقول : (2/190)
( يقول أبو قيس و أصبح غاديا ... ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا )
( فأوصيكم بالله و البر و التقى ... و أعراضكم و البر بالله أول )
( و إن قومك سادوا فلا تحسدنهم ... و إن كنتم أهل الرياسة فاعدلوا )
( و إن نزلت إحدى الدواهي بقومكم ... فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا )
( و إن ناب غرم فادح فارفقوهم ... و ما حملوكم في الملمات فاحملوا )
( و إن أنتم أمعزتم فتعففوا ... و إن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا )
و قال أبو القيس أيضا :
( سبحوا الله شرق كل صباح ... طلعت شمسه و كل هلال )
( عالم السر و البيان جميعا ... ليس ما قال ربنا بضلال )
( و له الطير تستزيد و تأوي ... في وكور من آمنات الجبال )
( و له الوحش بالفلاة تراها ... في حقاف و في ظلال الرمال )
( و له هودت يهود و دانت ... كل دين مخافة من عضال )
( و له شمس النصارى و قاموا ... كل عيد لربهم و احتفال )
( و له الراهب الحبيس تراه ... رهن بؤس و كان أنعم بال )
( يا بني الأرحام لا تقطعوها ... و صلوها قصيرة من طوال )
( و اتقوا الله في ضعاف اليتامى ... ربما يستحل غير الحلال )
( و اعلموا أن لليتيم وليا ... عالما يهتدي بغير سؤال )
( ثم مال اليتيم لا تأكلوه ... إن مال اليتيم يرعاه والي )
( يا بني التخوم لا تخزلوها ... إن خزل التخوم ذو عقال )
( يا بني الأيام لا تأمنوها ... و احذروا مكرها و مر الليالي )
( و اعلموا أن مرها لنفاد ال ... خلق ما كان من جديد و بالي )
( و اجمعوا أمركم على البر و التق ... وى و ترك الخنا و أخذ الحلال )
قال ابن إسحاق : و قال أبو القيس صرمة أيضا يذكر ما أكرمهم الله به من الإسلام و ما خصهم به من نزول رسول الله صلى الله عليه و سلم عندهم :
( ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا )
و سيأتي ذكرها بتمامها فيما بعد إن شاء الله و به الثقة (2/190)
قال ابن إسحاق : إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة و خرج من خرج من الأنصار من المسلمين مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم العقبة من أواسط أيام التشريق حين أراد الله بهم من كرامته و النصر لنبيه إعزاز الإسلام و أهله و إذلال الشرك و أهله فحدثني معبد بن كعب بن مالك أن أخاه عبد الله بن كعب و كان من أعلم الأنصار حدثه أن أباه كعبا حدثه و كان ممن شهد العقبة و بايع رسول الله صلى الله عليه و سلم بها قال : (2/192)
خرجنا في حجاج قومنا من المشركين و قد صلينا وفقهنا و معنا البراء بن معرور سيدنا و كبيرنا فلما وجهنا لسفرنا و خرجنا من المدينة قال البراء : يا هؤلاء إنى قد رأيت رأيا و الله ما أدرى أتوافقوننى عليه أم لا ؟ قلنا : و ما ذلك ؟ قال : قد رأيت أن لا أدع هذه البينة منى بظهر يعني الكعبة و أن أصلى إليها قال : فقلنا و الله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه و سلم يصلى إلا إلى الشام و ما نريد أن نخالفه فقال : إنى لمصل إليها قال : فقلنا له : لكنا لا نفعل
قال : فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام و صلى هو إلى الكعبة حتى قدمنا مكة قال : و قد كنا عبنا عليه ما صنع و أبى الإقامة على ذلك فلما قدمنا مكة قال لي : يا أخى انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أسأله عما صنعت في سفرى هذا فإنه قد وقع في نفسي منه شئ لما رأيت من خلافكم إياى فيه قال : فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و كنا لا نعرفه و لم نره قبل ذلك فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : هل تعرفانه ؟ فقلنا : لا فقال : هل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه ؟ قال : قلنا : نعم و قد كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا قال : فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس قال : فدخلنا المسجد وإذا العباس جالس و رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس معه فسلمنا ثم جلسنا إليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم للعباس : [ هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل ؟ ] قال : نعم هذا البراء بن معرور سيد قومه و هذا كعب بن مالك
قال : فو الله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه و سلم : الشاعر ؟ قال : نعم ؟
فقال له البراء بن معرور : يا نبي الله إني خرجت في سفري هذا قد هداني الله تعالى للإسلام فرأيت ألا أجعل هذه البنية منى بظهر فصليت إليها و قد خالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شئ فماذا ترى ؟
قال [ قد كنت على قبلة لو صبرت عليها ] قال : فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى معنا إلى الشام قال : و أهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات و ليس ذلك كما قالوا نحن أعلم به منهم (2/192)
قال كعب بن مالك : ثم خرجنا إلى الحج و واعدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم العقبة من أواسط أيام التشريق فلما فرغنا من الحج و كانت اللية التي و اعدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها و معنا عبد الله بن عمرو بن أبو جابر سيد من سادتنا أخذناه و كنا نكلم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا فكلمناه و قلنا له : يا أبا جابر إنك سيد من سادتنا و شريف من أشرافنا و إنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون إيانا العقبة قال فأسلم و شهد معنا العقبة و كان نقيبا و قد روى البخارى حدثنى إبراهيم حدثنا هشام أن ابن جريح أخبرهم قال عطاء قال جابر : أنا و أبى و خالاى من أصحاب العقبة قال عبد الله بن محمد : قال ابن عيينيه : أحدهما البراء بن معرور حدثنا على بن المدينى حدثنا سفيان قال كان عمرو يقول : سمعت جابر بن عبد الله يقول : شهد بى خالاى العقبة (2/194)
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن خثيم عن أبى الزبير عن جابر قال : مكث رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم عكاظ و مجنة في الموسم يقول : من يؤوينى ؟ من ينصرنى ؟ حتى أبلغ رسالة ربى و له الجنة ] فلا يجد أحدا يؤويه و لا ينصره حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر ن كذا قال فيه فيأتيه قومه و ذوو رحمه فيقولون : احذر غلام قريش لا يفتنك و يمضي بين رحالهم و هم يشترون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله من يثرب فآويناه و صدقناه فيخرج الرجل منا فيؤمن به و يقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم تبق دار من الأنصار إلا و فيها رهط من المسلمون يظهرون الإسلام
ثم ائتمروا جميعا فقلنا : حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه و سلم يطوف و يطرد في جبال مكة و يخاف ؟
فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة عندها من رجل و رجلين حتى توافينا فقلنا : يا رسول الله نبايعك ؟
قال : [ تبايعونى على السمع و الطاعة في النشاط و الكسل و النفقة قي العسر و اليسر و على الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و أن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم و على أن تنصرونى فتمنعونى إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم و أزواجكم و أبناءكم و لكم الجنة ] فقمنا إليه فبايعناه و أخذ بيده أسعد بن زرارة و هو من أصغرهم و في رواية البيهقي : و هو أصغر السبعين إلا أنا فقال : رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا و نحن نعلم أنه رسول الله و إن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة و قتل خياركم و أن تعضكم السيوف فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه و أجركم على الله و أما أنتم قوم تخالفون من أنفسكم خيفة فذروه فيبنوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله قالوا أمط عنا يا أسعد فو الله لا ندع هذه البيعة و لا نسلبها أبدا
قال : فقمنا إليه فبايعناه و أخذ علينا و شرط و يعطينا على ذلك الجنة
و قد رواه الإمام أحمد أيضا و البيهقي من طريق داود بن عبد الرحمن العطار
زاد البيهقي عن الحاكم بسنده إلى يحيى بن سليم كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن أبى إدريس به نحوه و هذا إسناد جيد على شرط مسلم و لم يخرجوه
و قال البزار : و روى غير واحد عن ابن خثيم و لا نعلمه يروى عن جابر إلا من هذا الوجه
و قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود حدثنا عبد الرحمن بن أبى الزناد عن موسى بن عبد الله عن أبى الزبير عن جابر قال : كان العباس آخذا بيد رسول الله صلى الله عليه و سلم و رسول الله يواثقنا فلما فرغنا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أخذت و أعطيت
و قال البزار : [ حدثنا محمد بن معمر حدثنا قبيصة حدثنا سفيان هو الثورى عن جابر يعني الجعفى عن داود و هو ابن أبى هند الشعبى عن جابر يعنى ابن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للنقباء من الأنصار : تؤوونى و تمنعونى ؟ قال : نعم قالوا : فما لنا ؟ قال : الجنة ]
ثم قال : لا نعلمه يروي إلا بهذا الإسناد عن جابر (2/194)
ثم قال ابن إسحاق عن معبد عن عبد الله عن أبيه كعب بن مالك قال : فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه و سلم نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة و نحن ثلاثة و سبعون رجلا و معنا امرأتان من نساءنا نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بني مازن بن النجار و أسماء ابنة عمرو بن عدي بن نابى إحدى نساء بني سلمة و هي أم منيع
وقد صرح ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير عنه بأسمائهم و أنسابهم و ما ورد في بعض الأحاديث أنهم كانوا سبعين و العرب كثيرا ما تحذف الكسر
و قال عروة بن الزبير و موسى بن عقبة : كانوا سبعين رجلا و امرأة واحدة قال : منهم أربعون من ذوى أسنانهم و ثلاثون من شبابهم قال : و أصغرهم أبو مسعود و جابر بن عبد الله
قال كعب بن مالك : فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جاءنا و معه العباس بن عبد المطلب و هو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه و يتوثق له
فلما جلس كان أول ميكام العباس بن عبد المطلب فقال : يا معشر الخزرج ـ قال : و كانت العرب إنما يسمون هذا الحى من الأنصار الخزرج خزرجها و أوسها ـ إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عزة من قومه و منعه في بلده و إنه قد أبى إلا الانجاز إليكم و اللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه و مانعوه ممن خالفه فانتم و ما تحملتم من ذلك و إن كنتم ترون أنكم مسلموه و خاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عزة و منعة من قومه و بلده
قال : فقلنا له : قد سمعنا ما قلت فتكام يا رسول الله فخذ لنفسك و لربك ما أحببت قال فتكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم فتلا القرآن و دعا إلى الله و رغب في الإسلام قال : [ أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم و أبناءكم ]
قال : فأخذ البراء بن معرور بيده و قال : نعم فو الذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب و رثناها كابرا عن كابر
قال : فاعترض القول و البراء يكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو الهيثم بن التيهان فقال : يا رسول الله إن بيننا و بين الرجال حبالا و إنا قاطعوها يعني اليهود فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك و تدعنا ؟ قال : فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : [ بل الدم و الهدم أنا منكم و أنتم مني أحارب من حاربتم و أسالم من سالمتم ] (2/196)
قال كعب : و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أخرجوا إلي منكم اثنى عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم ]
فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس
قال ابن إسحاق : و هم : أبو أمامة أسعد بن زرارة المتقدم و سعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج ابن الحارث بن الخزرج و عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج و رافع بن مالك بن العجلان المتقدم و البراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي ابن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الحزرج و عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة و عبادة بن الصامت المتقدم و سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج و المنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبد و زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الحزرج
فهؤلاء تسعة من الخزرج
و من الأوس ثلاثة و هم : أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس و سعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النحاط بن كعب بن حارثة ابن غنم بن السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس و رفاعة بن عبد المنذر بن زنير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك ابن الأوس
قال ابن هشام : و أهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان بدل رفاعة هذا و هو كذلك في رواية يونس عن ابن إسحاق و اختاره السهيلي و ابن الأثير في الغابة (2/198)
ثم استشهد ابن هشام على ذلك بما رواه عن أبي زيد الأنصاري فيما ذكره من شعر كعب بن مالك في ذكر النقباء الاثنى عشر هذه الليلة ليلة العقبة الثانية حين قال :
( أبلغ أبيا أنه فال رأيه ... و حان غداة الشعب و الحين واقع )
( أبى الله ما منتك نفسك إنه ... بمرصاد أمر الناس راء و سامع )
( و أبلغ أبا سفيان أن قد بدالنا ... بأحمد نور من هدى الله ساطع )
( فلا ترغبن في حشد أمر تريده ... و ألب و جمع كل ما أنت جامع )
( و دونك فاعلم أن نقض عهودنا ... أباه عليك الرهط حين تبايعوا )
( أباه البراء و ابن عمرو كلاهما ... و أسعد يأباه عليك و رافع )
( و سعد أباه الساعدي و منذر ... لأنفك إن حاولت ذلك جدع )
( و ما ابن ربيع إن تناولت عهده بمسلمه لا يطمعن ثم طامع )
( و أيضا فلا يعطيكه ابن رواحة ... و إخفاره من دونه السم ناقع )
( وفاء به و القوقلى ابن صامت ... بمندوحة عما تحاول يافع )
( أبو هيثم أيضا و في بمثلها ... و فاء بما أعطى من العهد خانع )
( و ما ابن حضير إن أردت بمطمع فهل أنت عن أحموقة الغى نازع )
( وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه ضروح لما حاولت ملأمر مانع )
( أولاك نجوم لايغبك منهم ... عليك بنحس في دجى الليل طالع )
قال ابن هشام : فذكر فيهم أبا الهيثم بن التيهان و لم يذكر رفاعة
قلت : و ذكر سعد بن معاذ و ليس من النقباء بالكلية في هذه الليلة (2/199)
و روى يعقوب بن سفيان عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن مالك قال : كان الأنصار ليلة العقبة سبعين رجلا و كان نقباؤهم اثنى عشر نقيبا تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس
و حدثني شيخ من الأنصار أن جبرائيل كان يشير إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى من يجعله نقيبا ليلة العقبة و كان أسيد بن حضير أحد النقباء تلك الليلة رواه البيهقي (2/200)
و قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال للنقباء : [ أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحوار يين لعيسى ابن مريم و أنا كفيل على قومي ] قالوا : نعم
و حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصارى أخوه بنى سالم بن عوف : يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا : نعم (2/201)
قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر و الأسود من الناس فغن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة و أشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو و الله إن فعلتم خزى الدنيا و الآخرة و إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نكهة الأموال و قتل الأشراف فحذوه فهو و الله خير الدنيا و الآخرة
قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الموال و قتل الأشراف فما لنا يا رسول الله إن نحن و فينا ؟
قال : [ الجنة ]
قالوا : ابسط يدك فبسط يده قبايعوه (2/201)
قال عاصم بن عمر بن قتادة : و إنما قال العباس بن عبادة ذلك ليشد العقد في أعناقهم
و زعم عبد الله بن أبي بكر أنه إنما قال ذلك ليؤخر البيعة تلك الليلة رجاء أن يحصرها عبد الله بن أبي بن سلول سيد الخزرج ليكون أقوى لأمر القوم فالله أعلم أي ذلك كان
قال ابن إسحاق : فبنوا النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده و بنو عبد الأشهل يقولون : بل أبو الهيثم بن التيهان قال ابن إسحاق : و حدثني معبد بن كعب عن أخيه عبد الله عن أبيه كعب بن مالك (2/201)
قال : فكان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه و سلم البراء بن معرور ثم بايع القوم
و قال ابن الأثير في الغابة : و بنو سلمة يزعمون أن أول من بايعه ليلتئذ كعب بن مالك
و قد ثبت في صحيح البخاري و مسلم من حديث الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله ابن كعب عن أبيه عن كعب بن مالك في حديثه حين تخلف عن غزوة تبوك
قال : و لقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام و ما أحب أن لي بها مشهد بدر و إن كانت بدر أكثر في الناس منها (2/202)
و قال البيهقي : [ أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا عمرو بن السماك حدثنا حنبل بن إسحاق حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن عامر الشعبي قال :
انطلق رسول الله صلى الله عليه و سلم مع العباس عمه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة فقال : ليتكلم متكلمكم و لا يطل الخطبة فإن عليكم من المشركين عينا و إن يعلموا بكم يفضحوكم فقال قائلهم و هو أبو أمامة : سل يا محمد لربك ما شئت ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله و عليكم إذا فعلنا ذلك قال : أسألكم لربي أن تعبدوه و لا تشركوا به شيئا و أسألكم لنفسي و أصحابي أن تؤوونا و تنصرونا و تمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم ] قالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك
قال : [ لكم الجنة ]
قالوا : فلك ذلك ؟
ثم رواه حنبل عن الإمام أحمد عن يحيى بن زكريا عن مجالد عن الشعبي عن أبي مسعود الأنصاري فذكره قال : و كان أبو مسعود أصغرهم
و قال أحمد عن يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال : فما سمع الشيب و الشبان خطبة مثلها (2/202)
و قال البيهقي : أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمد بن محمش أخبرنا محمد بن إبراهيم بن الفضل الفحام أخبرنا محمد بن يحيى الذهلى أخبرنا عمرو بن عثمان الرقى حدثنا زهير عبد الله بن عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد الله بن رفاعة عن أبيه قال : قدمت روايا خمر فأتاها عبادة بن الصامت فخرقها و قال : إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على السمع و الطاعة في النشاط و الكسل و النفقة في العسر و اليسر و على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و على أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم و على أن ننصر رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قدم علينا يثرب مما نمنع به أنفسنا و أرواحنا و أبناءنا و لنا الجنة
فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه و سلم التي بايعناه عليها
و هذا إسناد جيد قوي و لم يخرجوه
و قد روى يونس عن ابن إسحاق حدثنا عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بيعة الحرب على السمع و الطاعة في عسرنا و يسرنا و منشطنا و مكرهنا و أثرة علينا و أن لا ننازع الأمر أهله و أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم (2/203)
قال ابن إسحاق في حديثه [ عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك قال : فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط : يا أهل الجباجب ـ و الجباجب المنازل ـ هل لكم في مذمم و الصباء معه قد اجتمعوا على حربكم
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هذا أزب العقبة هذا ابن أزيب ]
قال ابن هشام : و يقال ابن أزيب
أتسمع أي عدو الله أما و الله لأتفرغن لك ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ارفضوا إلى رحالكم ]
قال العباس بن عبادة بن نضلة : يا رسول الله و الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لم نؤمر بذلك و لكن ارجعوا إلى رحالكم ]
قال : فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا فيها حتى أصبحنا (2/204)
فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاءونا في منازلنا فقالوا : يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا و تبايعونه على حربنا و إنه و الله ما من حي من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا و بينهم منكم
قال فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون ما كان من هذا شئ و ما علمناه
قال : و صدقوا لم يعلموا قال و بعضنا ينظر إلى بعض قال : ثم قام القوم و فيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي و عليه نعلان له جديدان قال : فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بهما فيما قالوا : يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ و أنت سيد من سادتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ؟ قال : فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إلي قال و الله لتنتعلنهما قال يقول أبو جابر : مه أحفظت والله الفتى فاردد إليه نعليه قال قلت : و الله لا أردهما فال والله صالح لئن صدق الفال لأسلبنه ! قال ابن إسحاق : و حدثني عبد الله بن أبي بكر أنهم أتوا عبد الله بن أبي بن سلول فقالوا مثل ما ذكر كعب من القول فقال لهم : إن هذا الأمر جسيم ما كان قومي ليتفرقوا على مثل هذا و ما علمته كان قال فانصرفوا عنه قال : و نفر الناس من منى فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان فخرجوا في طلب القوم (2/204)
فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر و المنذر بن عمرو أخا بنى ساعدة بن كعب بن الخزرج و كلاهما كان نقيبا فأما المنذر فأعجز القوم و أما سعد بن عبادة فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحلة ثم أقبلوا به حتى أدخلوا مكة يضربونه و يجذبونه بجمته و كان ذا شعر كثير
قال سعد : فو الله إنى لفى أيديهم إذ طلع نفر من قريش فيهم رجل و ضئ أبيض شعشاع حلو من الرجال فقلت في إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا فلما دنا منى رفع يده فلكمنى لكمة شديدة فقلت في نفسي : لا و الله ما عندهم بعد هذا من خير ! (2/206)
فو الله إنى لفي أيديهم يسحبونني إذا أوى لي رجل ممن معهم قال : و يحك ! أما بينك و بين أحد من قريش جوار و لا عهد ؟ قال : قلت : بلى و الله لقد كنت أجير لجبير ابن مطعم تجارة و أمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي و للحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس فقال : و يحك ! فاهتف باسم الرجلين و اذكر ما بينك و بينهما
قال فعلت و خرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد عند الكعبة فقال لهما : إن رجلا من الخزرج الآن ليضرب بالأبطح ليهتف بكما قالا : و من هو ؟ قال : سعد بن عبادة قالا : صدق و الله إن كان ليجير لنا تجارنا و يمنعهم أن يظلموا ببلده قال : فجاءا فخلصا سعدا من أيديهم فانطلق و كان الذي لكم سعدا سهيل ابن عمرو
قال ابن هشام : و كان الذي أوى له أبو البحتري بن هشام
و روى البيهقي بسنده عن عيسى بن أبي عيسى بن جبير قال : سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس :
( فإن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف المخالف )
فلما أصبحوا قال أبو سفيان : من السعدان ؟ أسعد بن بكر أم سعد بن هذيم ؟
فلما كانت الليلة الثانية سمعوا قائلا يقول :
( أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ... و يا سعد سعد الخزرجين الغطارف )
( أجيبا إلى داعي الهدى و تمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف )
( فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات رفارف )
فلما أصبحوا قال أبو سفيان : هو و الله سعد بن معاذ و سعد بن عبادة (2/206)
قال ابن إسحاق : فلما رجع الأنصار الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة الثانية إلى المدينة أظهروا الإسلام بها
و في قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك منهم عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة
و كان ابنة معاذ بن عمرو ممن شهد العقبة و كان عمرو بن الجموح من سادات بني سلمة و أشرافهم و كان قد اتخذ صنما من الخشب في داره يقال له مناة كما كانت الأشراف يصنعون يتخذه إلها يعظمه و يظهره فلما أسلم فتيان بني سلمة ابنة معاذ و معاذ بن جبل كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة و فيها عذر الناس منكسا على رأسه فإذا أصبح عمرو قال : ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة ؟ ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله و طيبه و طهره ثم قال : أما و الله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينه فإذا أمسى و نام عمرو عدوا عليه ففعلوا مثل ذلك فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى فيغسله و يطيبه و يطهره ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله و طهره و طيبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال له : إني و الله ما أعلم من يصنع بك ما أرى فإن كان فيك خير فامتنع هذا السيف معك فلما أمسى و نام عمرو عدوا عليه فأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس و غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به فخرج يتبعه حتى إذا وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت فلما رآه أبصر شأنه و كلمه من أسلم من قومه فأسلم برحمة الله و حسن إسلامه فقال حين أسلم و عرف من الله ما عرف و هو يذكر صنمه ذلك و ما أبصر من أمره و يشكر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمى و الضلالة و يقول :
( و الله لو كنت إلها لم تكن ... أنت و كلب وسط بئر في قرن )
( أف لملقاك إلها مسندن ... الآن فتشناك عن سوء الغبن )
( الحمد لله العلي ذي المنن ... الواهب الرزاق ديان الدين )
( هو الذي أنقذني من قبل أن ... أكون في ظلمة قبر مرتهن ) (2/207)
فصل يتضمن أسماء من شهد بيعة العقبة الثانية و جملتهم على ما ذكره ابن إسحاق ثلاثة و سبعون رجلا و امرأتان (2/209)
أسيد بن حضير أحد النقباء و أبو الهيثم بن التيهان يدرى أيضا و سلمة بن سلامة ابن وقش بدري و ظهير بن رافع و أبو بردة بن نيار و نهير بن الهيثم بن نابي بن مجدعة بن حارثة و سعد بن حيثمة أحد النقباء بدرى و قتل بها شهيدا و رفاعة بن عبد المنذر بن زنير نقيب بدرى و عبد الله بن جبير بن النعمان بن أمية بن البرك بدرى و قتل يوم أحد شهيدا أميرا على الرماة و معن بن عدي بن الجد بن عجلان بن الحارث ابن ضبيعة البلوى حليف للأوس شهد بدرا و ما بعدها و قتل باليمامة شهيدا و عويم بن ساعدة شهد بدرا و ما بعدها (2/209)
أبو أيوب خالد بن زيد و شهد بدرا و ما بعدها و مات بأرض الروم زمن معاوية شهيدا و معاذ بن الحارث و أخواه عوف و معوذ و هم بنو عفراء بدريون و عمارة بن حزم شهد بدرا و ما بعدها و قتل باليمامة و أسعد بن زرارة أبو أمامة أحد النقباء مات قبل بدر و سهل بن عتيك بدري و أوس بن ثابت بن المنذر بدرى و أبو طلحة زيد بن سهل بدرى و قيس بن أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف ابن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن كان أميرا على الساقة يوم بدر و عمرو بن غزية و سعد بن الربيع أحد النقباء شهد بدرا و قتل يوم أحد و خارجة بن زيد شهد بدرا و قتل يوم أحد
و عبد الله بن رواحة أحد النقباء شهد بدرا و أحدا و الخندق و قتل يوم مؤتة أميرا و بشير بن سعد بدرى و عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الذي أرى النداء و هو بدرى
و خلاد بن سويد بدرى أحد خندقى و قتل يوم بني قريظة شهيدا طرحت عليه رحى فشدخته فيقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن له لأجر شهيدين ]
و أبو مسعود عقبة بن عمرو البدرى قال ابن إسحاق : و هو أحدث من شهد العقبة سنا و لم يشهد بدرا
و زياد بن لبيد و بدرى و فروة بن عمرو بن وذفة و خالد بن قيس بن مالك بدرى و رافع بن مالك أحد النقباء و ذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق و هو الذي يقال له مهاجري أنصار لأنه أقام عند رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة حتى هاجر منها و هو بدرى قتل يوم أحد و عباد بن قيس بن عامر بن خالد بن عامر بن زريق بدرى و أخوه الحارث بن قيس بن عامر بدرى أيضا
و البراء بن معرور أحد النقباء و أول من بايع فيما تزعم بنو سلمة و قد مات قبل مقدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة و أوصى له بثلث ماله فرده رسول الله صلى الله عليه و سلم على ورثته
و ابنة بشر بن البراء و قد شهد بدرا و أحدا و الخندق و مات بخيبر شهيدا من أكلة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم من تلك الشاة المسمومة رضي الله عنه و سنان بن صيفي ابن صخر بدرى و الطفيل ابن النعمان بن الخنساء بدرى قتل يوم الخندق و معقل بن المنذر بن سرح بدرى و أخوه يزيد بن سنان المنذر بدرى و مسعود بن زيد بن سبيع و الضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بدرى و زيد بن خذام بن سبيع و جبار بن صخر بن أمية بن خنساء بن سنان بن عبيد بدرى و الطفيل ابن مالك بن خنساء بدرى و كعب بن مالك و سليم بن عامر بن حديدة بدرى و قطبة بن عامر بن حديدة بدرى و أخوه أبو المنذر يزيد بدرى أيضا و أبو اليسر كعب بن عمرو بدرى و صيفي ابن سواد بن عباد
و ثعلبة بن غنمة بن عدي بن نابي بدرى و استشهد بالخندق و أخوه عمرو بن غنمة بن عدي و عبس بن عامر بن عدي بدرى و خالد بن عمرو بن عدي بن نابي و عبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة
و عبد الله بن عمرو بن حرام أحد النقباء بدرى و استشهد يوم أحد و ابنه جابر ابن عبد الله و معاذ بن عمرو بن الجموح بدرى و ثابت بن الجذع بدرى و قتل شهيدا بالطائف و عمير بن الحارث بن ثعلبة بدرى و خديج بن سلامة حليف لهم من بلى و معاذ بن جبل شهد بدرا و ما بعدها و مات بطاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب
و عبادة بن الصامت أحد النقباء شهد بدرا و ما بعدها و العباس بن عبادة بن نضلة و قد أقام بمكة حتى هاجر منها فكان يقال له مهاجري أنصاري أيضا و قتل يوم أحد شهيدا و أبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم حليف لهم من بني غصينةمن بلى و عمرو بن الحارث بن لبدة و رفاعة بن عمرو بن زيد بدرى و عقبة ابن وهب بن كلدة حليف لهم بدرى و كان ممن خرج إلى مكة فأقام بها حتى هاجر منها فهو ممن يقال له مهاجري أنصاري أيضا و سعد بن عبادة بن دليم أحد النقباء و المنذر بن عمرو نقيب بدرى أحدى و قتل يوم بئر معونة أميرا و هو الذي يقال له : أعتق ليموت
و أما المرأتان فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو ابن غنم بن مازن بن النجار المازنية النجارية
قال ابن إسحاق : و قد كانت شهدت الحرب مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و شهدت معها أختها و زوجها زيد بن عاصم بن كعب و ابناها حبيب و عبد الله
و ابنها حبيب هذا هو الذي قتله مسيلمة الكذاب حين جعل يقول له : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ فيقول : نعم فيقول : أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول : لا أسمع فجعل يقطعه عضوا عضوا حتى مات في يديه لا يزيده على ذلك فكانت أم عمارة ممن خرج إلى اليمامة مع المسلمين حين قتل مسيلمة و رجعت و بها اثنا عشر جرحا من بين طعنة و ضربة رضي الله عنها و الأخرى أم منيع أسماء ابنة عمرو بن عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة رضي الله عنها (2/209)
قال الزهرى عن عروة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم - و هو يومئذ بمكة النبي صلى الله عليه و سلم للمسلمين : [ قد رأيت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لا بتين ]
فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم و رجع إلى المدينة من كان أرض الحبشة من المسلمين
رواه البخارى
و قال أبو موسى : عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ رأيت في المنام أنى أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل و هلى إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هى المدينة يثرب ]
و هذا الحديث قد أسنده البخاري في مواضع أخر بطوله (2/213)
و رواه مسلم كلاهما عن أبى كريب زاد مسلم و عبد اله بن مراد كلاهما عن أبي أسامة عن يزيد بن عبد الله بن أبى بردة عن جده أبى بردة عن أبى موسى عبد الله ابن قيس الأشعري عن النبي صلى الله عليه و سلم الحديث بطوله
قال الحافظ أبو بكر البيهقي : [ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس القاسم بن القاسم السيارى بمرو حدثنا إبراهيم بن هلال حدثنا العامرى عن علي بن الحسن بن شقيق حدثنا عيسى بن عبيد الكندى عن غيلان بن عبد الله العامرى عن أبى زرعة بن عمرو بن جرير عن جرير أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن الله أوحى إلى أي هؤلاء البلاد الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك : المدينة أو البحرين أو قنسرين ]
قال أهل العلم : ثم عزم له على المدينة فأمره أصحابه بالهجرة إليها (2/213)
هذا حديث غريب جدا و قد رواه الترمذى في المناقب من جامعة منفردا به عن أبى عمار الحسين بن حريث عن الفضل بن موسى عن عيسى بن عبيد عن غيلان بن عبد الله العامرى عن أبى زرعة بن جرير عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله أوحى إلى أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك المدينة أو البحرين أو قنسرين ] ثم قال : غريب لا نعرفه إلا من حديث الفضل تفرد به أبو عمار
قلت : و غيلان بن عبد الله العامرى هذا ذكره ابن حبان في الثقات إلا أنه قال : روى عن أبى زرعة حديثا منكرا في الهجرة و الله أعلم (2/214)
قال ابن إسحاق : لما إذن الله تعالى في الحرب بقوله { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } الآية
فلما أذن الله في الحرب و تابعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام و النصرة له و لمن اتبعه و أوى إليهم من المسلمين (2/214)
أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه من المهاجرين من قومه و من معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة و الهجرة إليها و اللحوق بإخوانهم من الأنصار و قال : [ إن الله قد جعل لكم إخوانا و دارا تأمنون بها ]
فخرجوا إليها أرسالا
و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة و الهجرة إلى المدينة (2/215)
فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من المهاجرين من قريش من بني مخزوم أبو سلمة عبد الله الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم و كانت هجرته إليها قبل بيعة العقبة بسنة حين آذته قريش مرجعة من الحبشة فعزم على الرجوع إليها ثم بلغه أن بالمدينة لهم إخوانا فعزم إليها (2/215)
قال ابن إسحاق : فحدثني أبى عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبى سلمة عن جدته أم سلمة قالت : لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بغيره ثم حمنلنى عليه و جعل معى ابنى سلمة بن أبى سلمة في جحرى ثم خرج يقود بى بعيره فلما رأته رجال بنى المغيرة قاموا إليه فقالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد ؟ قالت : فنزعوا خطام البعير من يده و أخذونى منه
قالت و غضب ند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبى سلمة و قالوا : و الله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا قالت : فتجاذبوا ابنى سلمة بينهم حتى خلعوا يده و انطلق به بنو عبد الأسد و حبسنى بنو المغيرة عندهم و انطلق زوجى أبو سلمة إلى المدينة
قالت : ففرق بينى و بين زوجى
قالت : فكنت أخرج كل غداة فأجلس في الأبطح فما أزال أبكى حتى أمسى سنة أو قريبا منها
حتى مر رجل من بنى عمى أحد بنى المغيرة فرأى ما بي فرحمنى فقال لبنى المغيرة : ألا تحرجون من هذه المسكينة ؟ فرقتم بينها و بين زوجها و بين ولدها ؟ !
قالت : فقالوا لى الحقى بزوجك إن شئت
قالت : فرد بنو عبد الأسد إلى عند ذلك ابنى قالت : فارتحلت بعيري ثم أخذت ابنى فوضعته في حجرى ثم خرجت أريد زوجى بالمدينة
قالت : و ما معى أحد من خلق الله حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة ابن أبى طلحة أخا بنى عبد الدار فقال : إلى أين يا أمية ؟ قالت : أريد زوجى بالمدينة قال : أو ما معك أحد ؟ قلت : ما معى أحد إلا الله و بنى هذا فقال : و الله مالك من مترك
فأخذ بخطام البعير فانطلق معى يهوى بى فو الله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه كان إذا بلغ المنزل أناخ بى ثم استأخر عنى حتى إذا نزلت استأخر ببعيرى فحط عنه ثم قيده في الشجر ثم فاضطجع تحتها فإذا دنا الرواح قام إلى بعيرى فقدمه فرحله ثم استأخر عنى و قال : اركبى فإذا ركبت فاستويت على بعيرى أتى فأخذه بخطامه فقادنى حتى ينزل بي فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمنى المدينة فلما نظر إلى قرية بنى عمرو بن عوف بقباء قال : زوجك في هذه القرية و كان أبو سلمة بها نازلا فادخلها على بركة الله
ثم انصرف راجعا إلى مكة
فكانت تقول : ما أعظم أهل بيت في الإسلام أصابتهم ما أصاب آل أبى سلمة و ما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة
أسلم عثمان بن طلحت بن أبى طلحة العبدرى هذا بعد الحديبية و هاجر هو و خالد بن الوليد معا و قتل يوم أحد أبوه و إخوته الحارث و كلاب و مسافع و عمه عثمان بن أبى طلحة و دفع إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح و إلى ابن عمه شيبة والد بنى شيبة مفاتيح الكعبة أقرها عليهم في الإسلام كما في الجاهلية و نزل في ذلك قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } (2/215)
قال ابن إسحاق : ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبى سلمة عامر بن ربيعة حليف بن عدى معه امرأته ليلى بنت أبى حثيمة العدوية ثم عبد الله بن جحش ابن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مر بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة حليف بنى أمية بن عبد شمس احتمل بأهله و بأخيه عبد أبى أحمد اسمه عبد كما ذكره ابن إسحاق و قيل السهيلي : و الأول أصح
و كان أبو أحمد رجلا ضرير البصر و كان يطوف مكة أعلاها و أسفلها بغير قائد و كان شاعرا و كانت عنده الفارعة بنت أبى سفيان بن حرب و كانت أمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم (2/217)
فغلقت دار بنى جحش هجرة فمر بها عتبة بن ربيعة و العباس بن المطلب و أبو جهل بن هشام و هم مصعدون إلى أعلى مكة فنظر إليها عتبة تخفق أبوبها يبابا ليس بها ساكن فلما رآها كذلك تنفس الصعداء و قال :
( و كل دار و إن طالت سلامتها ... يوما ستدركها النكباء و الحوب )
قال ابن هشام : و هذا البيت لأبى دؤاد الإيادي في قصيدة له قال السهيلي : و اسم أبي دؤاد حنظلة بن شرقي و قيل حارثة
ثم قال عتبة : أصبحت دار بنى جحش خلاء من أهلها فقال أبو جهل : و ما تبكى عليه من فل بن فل ثم قال يعنى للعباس : هذا من عمل ابن أخيك هذا فرق جماعتنا و شئت أمرنا و قطع بيننا (2/217)
قال ابن إسحاق : فنزل أبو أسامة و عامر بن ربيعة و بنو جحش بقباء على مبشر بن عبد المنذر ثم قدم المهاجرون أرسالا
قال : و كان بنو غنم بن دودان أهل إسلام قد أوعبوا إلى المدينة هجرة رجالهم و نساؤهم و هم : عبد الله بن جحش و أخوه أبو أحمد و عكاشة بن محصن و شجاع و عقبة ابنا وهب و أربد بن جميرة و منقذ بن نباته و سعيد بن رقيش و محرز بن نضلة و زيد بن رقيش و قيس بن جابر و عمرو بن محصن و مالك بن عمرو و صفوان بن عمرو و ربيعة بن أكثم و الزبير بن عبيدة و تمام بن عبيدة و سخبرة بن عبيدة و محمد بن عبد الله بن جحش و من نسائهم زينب بنت جحش و حمنة بنت جحش و أم حبيب بنت ثمامة و آمنة بنت رقيش و سخبرة بنت تميم (2/218)
قال أبو أحمد بن جحش في هجرتهم إلى المدينة :
( و لما رأتني أم أحمد غاديا ... بذمة من أخشى و أرهب )
( تقول فأما كنت لابد فاعلا ... فيمم بنا البلدان و لتنا يثرب )
( فقلت لها : ما يثرب بمظنة ... و ما يشأ الرحمن فالعبد يركب )
( إلى الله وجهي و الرسول و من يقم إلى الله يوما وجهه لا يخيب )
( فكم تركنا من حميم مناصح ... و ناصحة تبكي بدمع و تندب )
( ترى أن وترا نأينا عن بلادنا ... و نحن نرى أن الرغائب نطلب )
( دعوت بنى غنم لحقن دمائهم ... و للحق لما لاح للناس ملحب )
( أجابوا بمحمد الله لما دعاهم ... إلى الحق داع و النجاح فأوعبوا )
( و كنا و أصحابا لنا فارقوا الهدىأعانوا علينا بالسلاح و أجلبوا )
( كفوجين أما منهما فموفق ... على الحق مهدي و فوج معذب )
( طغوا و تمنوا كذبة و أزلهم ... عن الحق إبليس فخابوا و خيبوا )
( و رعنا إلى قول النبي محمد ... فطاب ولاة الحق منا و طيبوا )
( نمت بأرحام إليهم قريبة ... و لا قرب بالأرحام إذ لا تقرب )
( فأي ابن بعدنا يأمننكم ... و أية صهر بعد صهري يرقب )
( ستعلم يوما أينا إذ تزايلوا ... و زيل أمر الناس للحق أصوب ) (2/219)
قال ابن إسحاق : ثم خرج عمر بن الخطاب و عياش بن أبي ربيعة حتى قدما المدينة (2/219)
فحدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : اتعدنا لما أردت الهجرة إلى المدينة أنا و عياش بن أبي ربيعة و هشام بن العاص من بني غفار فوق سرف و قلنا : أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه
قال : فأصبحت أنا و عياش عند التناضب و حبس هشام و فتن فافتتن
فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء و خرج أبو جهل بن هاشم و الحارث بن هشام إلى عياش و كان ابن عمهما و أخاهما لأمهما حتى قدما المدينة و رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة فكلماه و قالا له : إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك و لا تستظل من شمس حتى تراك فرق لها فقلت له : إنه و الله إن يريدك القوم إلا يفتنوك عن دينك فاحذرهم فو الله لو قد آذى أمك القمل لا متشطت و لو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت ! قال : فقال : أبر قسم أمي و لي هنالك مال فآخذه قال : قلت : و الله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا فلك نصف مالي و لا تذهب معهما
قال : فأبى على إلا أن يخرج معهما فلما أبى إلا ذلك قلت : أما إذ فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها فإن رابك من أمر القوم ريب فانج عليها
فخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل : يا أخي و الله لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال : بلى فأناخ و أناخا ليتحول عليها فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطا ثم دخلا به مكة و فتناه فافتتن
قال عمر : فكنا نقول : لا يقبل الله ممن افتتن توبة و كانوا يقولون ذلك لأنفسهم (2/220)
حتى قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و أنزل الله : { قل يعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم و أسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون و اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة و أنتم لا تشعرون }
قال عمر : و كتبها و بعثت بها إلى هشام بن العاص قال هشام : فلما أتتني جعلت أقرأها بذي طوى أصعد بها و أصوب و لا أفهمها حتى قلت : اللهم فهمنيها فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا و فيما كنا نقول في أنفسنا و يقال فينا
قال : فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة
و ذكر ابن هشام أن الذي قدم بهشام بن العاص و عياش ابن أبي ربيعة إلى المدينة الوليد بن الوليد بن المغيرة سرقهما من مكة و قدم بهما يحملها على بعيره و هو ماش معهما فعثر فدميت أصبعة فقال :
( هل أنت إلا إصبع دميت ... و في سبيل الله ما لقيت )
و قال البخارى : حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة أنبأنا أبو إسحاق سمع البراء قال : أول من قدم علينا مصعب بن عمير و ابن أم مكتوم ثم قدم علينا عمار و بلال
و حدثني بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبى إسحاق سمعت البراء ابن عازب قال : أول من قدم علينا مصعب بن عمير و ابن أم مكتوم و كانا يقرئان الناس فقدم بلال و سعد و عمار بن ياسر ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ثم قدم النبي صلى الله عليه و سلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشئ فرحهم برسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جعل الإماء يقلن : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم فما قدم حتى قرأت { سبح اسم ربك الأعلى } في سور من المفصل
و رواه مسلم في صحيحة من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب بنحوه
و فيه التصريح بأن سعد بن أبي وقاص هاجر قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و قد زعم موسى بن عقبة عن الزهري أنه إنما هاجر بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و الصواب ما تقدم
قال ابن إسحاق : و لما قدم عمر بن الخطاب المدينة هو و من لحق به من أهله و قومه و أخوه زيد بن الخطاب و عمرو و عبد الله ابنا سراقة بن المعتمر و خنيس بن حذافة السهمي زوج ابنته حفصه و ابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل و واقد بن عبد الله التميمي حليف لهم و خولى بن أبي خولى و مالك بن أبي خولى حليفان لهم من بني عجل و بنو البكير إياس و خالد و عاقل و عامر و حلفاؤهم من بني سعد بن ليث فنزلوا على رفاعة عبد المنذر بن زنير في بني عمرو بن عوف بقباء
قال ابن إسحاق : ثم تتابع المهاجرون رضي الله عنهم فنزل طلحة بن عبيد الله و صهيب بن سنان على خبيب بن إساف أخي بلحارث بن الخزرج بالسنح و يقال : بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة (2/221)
قال ابن هشام : و ذكر لي عن أبي عثمان النهدي أنه قال : بلغني أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش : أتينا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا و بلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك و نفسك ؟ ! و الله لا يكون ذلك فقال لهم صهيب : أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي ؟ قالوا : نعم
قال : فإني قد جعلت لكم مالي
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ ربح صهيب ربح صهيب ]
و قد قال البيهقي : حدثنا الحافظ أبو عبد الله إملاء أخبرنا أبو العباس إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكال أخبرنا عبدان الأهوازى حدثنا زيد بن الجريش حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثنا حصين بن حذيفة بن صيفي بن صهيب حدثني أبي و عمومتي عن سعيد بن المسيب عن صهيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أرأيت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين فإما أن تكون هجر أو تكون يثرب ]
قال : و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و خرج معه أبو بكر و كنت قد هممت معه بالخروج فصدني فتيان من قريش فجعلت ليلتي تلك أقوم لا أقعد فقالوا : قد شغله الله عنكم ببطنه و لم أكن شاكيا فناموا فخرجت و لحقني منهم ناس بعد ما سرت يريدون ليردوني فقلت لهم : إ ن أعطيتكم أواقي من ذهب و تخلون سبيلي و توفون لي ؟ ففعلوا فتبعتهم إلى مكة فقلت : احفروا تحت أسكفة الباب فإن بها أواقي و اذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين
و خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم بقباء قبل أن يتحول منها فلما رآني قال : [ يا أبا يحيى ربح البيع ] فقلت : يا رسول الله ما سبقني إليك أحد و ما أخبرك إلا جبرائيل عليه السلام (2/223)
قال ابن إسحاق : و نزل حمزة بن عبد المطلب و زيد بن حارثة و أبو مرثد كناز بن الحصين و ابنة مرثد الغنويان حليفا حمزة و أنسة و أبو كبشة موليا رسول الله صلى الله عليه و سلم على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف بقباء و قيل على سعد بن خيثمة و قيل بل نزل حمزة على أسعد بن زرارة و الله أعلم
قال : و نزل عبيده بن الحارث و أخواه الطفيل و حصين و مسطح بن أثاثة و سويبط ابن سعد بن حريملة أخو بني عبد الدار و طليب بن عمير أخو بني عبد بن قصي و خباب مولى عتبة بن غزوان على عبد الله بن سلمة أخي بلعجلان بقباء و نزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع و نزل الزبير بن العوام و أبو سبرة بن أبي رهم على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة دار بني جحجبي و نزل مصعب بن عمير على سعد بن معاذ و نزل أبو حذيفة بن عتبة و سالم مولاه على سلمة
قال ابن إسحاق و قال الأموي : على خبيب بن إساف أخي بني حارثة و نزل عتبة بن غزوان على عباد بن بشر بن وقش في بني عبد الأشهل و نزل عثمان بن عفان على أوس ابن ثابت بن المنذر أخي حسان بن ثابت في دار بني النجار
قال ابن إسحاق : و نزل العزاب من المهاجرين على سعد بن خيثمة و ذلك أنه كان عزبا و الله أعلم أي ذلك كان
و قال يعقوب بن سفيان : حدثني أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة ابن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف حدثنا عبد العزيز بن محمد بن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه قال : قدمنا [ من ] مكة فنزلنا العصبة عمر بن الخطاب و أبو عبيدة بن الجراح و سالم مولى أبي حذيفة فكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة لأنه كان أكثرهم قرآنا (2/224)
قال الله تعالى { و قل رب أدخلني مدخل صدق و أخرجني مخرج صدق و أجعل لي من لدنك سلطنا نصيرا } أرشده الله و ألهمه أن يدعو بهذا الدعاء أن يجعل له مما هو فيه فرجا قريبا و مخرجا عاجلا فأذن له تعالى في الهجرة إلى المدينة النبوية حيث الأنصار و الحباب فصارت له دارا و قرارا و أهلها له أنصار
قال أحمد بن حنبل و عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة فأمر بالهجرة و أنزل عليه : { وقل ربي أدخلني مدخل صدق و أخرجني مخرج صدق و اجعل لي من لدنك سلطنا نصيرا }
و قال قتادة : { أدخلني مدخل صدق } المدينة { و أخرجني مخرج صدق } الهجرة من مكة { و اجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا } كتاب الله و فرائضه و حدوده (2/226)
قال ابن إسحاق : و أقام رسول الله بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة
و لم يتخلف معه بمكة إلا من حبس أو فتن إلا علي بن أبى طالب و أبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهما وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الهجرة فيقول له [ لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا ] فيطمع أبو بكر أن يكونه فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد صار له شيعة و أصحاب من غيرهم بغير بلدهم و رأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا و أصابوا منهم منعة فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه و سلم إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم (2/226)
فاجتمعوا له في دار الندوة و هي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها يتشاورن فيما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم حين خافوه
قال ابن إسحاق : فحدثني من لا أتهم من أصحابنا عن عبد الله بن أبي نجبح عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عباس و غيره ممن لا أتهم عن عبد الله عباس قال :
لما اجتمعوا لذلك و اتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم غدوا في اليوم الذي اتعدوا له و كان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ جليل عليه بت له فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا : من الشيخ ؟ قال : شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون و عسى أن لا يعدمكم منه رأيا و نصحا قالوا : أجل فادخل فدخل معهم و قد اجتمع فيها أشراف قريش : عتبة و شيبة و أبو سفيان و طعيمة ابن عدي و جبير بن مطعم بن عدي و الحارث بن عامر بن نوفل والنضر بن الحارث و أبو البخترى بن هشام و زمعة بن الأسود و حكيم بن حزام و أبو جهل ابن هشام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأمية بن خلف و من كان منهم و غيرهم ممن لا يعد من قريش
فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم و إننا و الله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا قال : فتشاوروا ثم قال قائل منهم قيل إنه أبو البخترى بن هشام : احبسوه في الحديد و أغلقا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا و النابغة و من مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم فقال الشيخ النجدي : لا و الله ما هذا لكم برأى و الله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب هذا الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيدكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فتشاوروا ثم قال قائل منهم : نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فو الله ما نبالي أين ذهب و لا حيث وقع إذا غاب عنا و فرغنا منه فأصلحنا أمرنا و ألفتنا كما كانت
قال الشيخ النجدي : لا و الله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه و غلبته على قلوب الرجال بما يأتي به ؟ ! و الله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله و حديثه حتى يتابعوه عليه ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد أديروا فيه رأيا غير هذا فقال أبو جهل بن هشام : و الله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد قالوا : و ما هو يا أبا الحكم ؟
قال : أرى أن بأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا ثم نعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعها فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا منا بالعقل فعلقناه لهم
قال : يقول الشيح النجدي : القول ما قال الرجل هذا الرأي و لا رأى غيره فتفرق القوم على ذلك و هم مجمعون له فأتى جبرائيل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه قال : فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم مكانهم قال لعلي بن أي طالب : نم على فراشي وتسبح ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينام في برده ذلك إذا نام و هذه القصة التي ذكرها ابن إسحاق قد رواها الواقدي بأسانيده عن عائشة و ابن عباس و علي و سراقة بن مالك بن جعشم و غيرهم دخل حديث بعضهم في بعض فذكر نحو ما تقدم (2/227)
قال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي قال : لما اجتمعوا له و فيهم أبو جهل قال و هم على بابه : إن مجمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب و العجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن و إن لم تفعلوا كان فيكم ذبح ثم بعثتم بعد موتكم ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال : [ نعم أنا أقول ذلك أنت أحدهم ]
و أخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رءوسهم و هو يتلو هذه الآيات : { يس و القرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم } إلى قوله : { و جعلنا من بين أيديهم سدا و من خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } و لم يبق منهم رجل إلا و قد وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال : ما تنتظرون ههنا ؟ قالوا : محمدا فقال : خيبكم الله ! قد و الله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا و قد وضع على رأسه ترابا و انطلق لحاجته أفما ترون ما بكم ؟ ! قال : فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا ببرد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقولون : و الله إن هذا لمحمد نائما عليه برده فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش
فقالوا : و الله لقد كان صدقنا الذي كان حدثنا
قال ابن إسحاق : فكان مما أنزل الله في ذلك اليوم و ما كانوا أجمعوا له قوله تعالى : { و إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين } و قوله { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإنى معكم من المتربصين }
قال ابن إسحاق : فأذن الله لنبيه صلى الله عليه و سلم عند ذلك بالهجرة (2/230)
هجرة رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه الكريمة من مكة إلى المدينة و معه أبو بكر رضي الله عنه
و ذلك أول التاريخ الإسلامي كما اتفق عليه الصحابة في الدولة العمرية كما بيناه في سيرة عمر رضي الله عنه و عنهم أجمعين
قال البخاري : حدثنا روح حدثنا هشام حدثنا عكرمة عن ابن عباس قال بعث النبي صلى الله عليه و سلم لأربعين سنة فمكث فيها ثلاث عشرة يوحى إليه ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين و مات و هو ابن ثلاث و ستين سنة (2/232)
و قد كانت هجرته عليه السلام في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من بعثته عليه السلام و ذلك في يوم الإثنين
كما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال : ولد نبيكم يوم الإثنين و خرج من مكة يوم الإثنين و نبئ يوم الإثنين و دخل المدينة يوم الإثنين و توفي يوم الإثنين
قال محمد بن إسحاق : و كان أبو بكر حين استأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الهجرة فقال له : لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا قد طمع بأن يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما يعني نفسه
فابتاع راحلتين فحبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك قال الواقدي : اشتراهما بثمانمائة درهم (2/232)
قال ابن إسحاق : فحدثني من لا أتهم عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكرة و إما عشية
حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم في الهجرة و الخروج من مكة من بين ظهري قومه أتانا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها
قالت : فلما رآه أبو بكر قال ما جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه الساعة إلا لأمر حدث
قالت : فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم و ليس عند رسول الله صلى الله عليه و سلم أحد إلا أنا و أختي أسماء بنت أبي بكر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أخرج عني من عندك ] قال : يا رسول الله إنما هما ابنتاي و ما ذاك فداك أبي و أمي ؟
قال : [ إن الله قد أذن لي في الخروج و الهجرة قالت : قال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله ؟ قال الصحبة ] قالت : فو الله ما شعرت قط قبل اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي !
ثم قال : يا نبي الله إن هاتين راحلتين كنت أعددتهما لهذا فاستأجر عبد الله بن أرقط قال ابن هشام : و يقال عبد الله بن أريقط رجلا من بني الديل و كانت أمه من بني سهم بن عمرو و كان مشركا يدلهما على الطريق و دفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما
قال ابن إسحاق : و لم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله صلى الله عليه و سلم أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب و أبو بكر الصديق و آل أبي بكر أما علي فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره أن يتخلف حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الوداءع التي كانت عنده للناس و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم و ليس بمكة أحد عنده شئ يحشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه و أمانته (2/233)
قال ابن إسحاق : فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه و سلم الخروج أتى أبا بكر ابن أبي قحافة فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته
و قد روى أبو نعيم [ من طريق إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما خرج من مكة مهاجرا إلى الله يريد المدينة قال الحمد الله الذي خلقني و لم أك شيئا اللهم أعنى على هول الدنيا و بوائق الدهر و مصائب الليالي و الأيام
اللهم اصحبني في سفري و اخلفني في أهل و بارك لي فيما رزقتني و لك فذللني و على صالح خلقي فقومني و إليك رب فحببني و إلى الناس فلا تكلني
رب المستضعفين و أنت ربي أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات و الأرض و كشفت به الظلمات و صلح عليه أمر الأولين و الآخرين أن تحل على غضبك أو تنزل بي سخطك أعوذ بك من زوال نعمتك و فجأة نقمتك و تحول عافيتك و جميع سخطك لك العتبى عندي خير ما استطعت لاحول و لا قوة إلا بك ] (2/234)
قال ابن إسحاق : ثم عمدا إلى غار بثور جبل بأسفل مكة فدخلاه و أمر أبو بكر الصديق ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر
و أمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليها إذا أمسى في الغر
فكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم يسمع ما يأتمرون به و ما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبي بكر ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر و كان عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا و ذبحا فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامر ابن فهيرة أثره بالغنم يعفى عليه
و سيأتي في سياق البخاري ما يشهد لهذا
و قد حكى ابن جرير عن بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سبق الصديق في الذهاب إلى غار ثور و أمر عليا أن يدله على مسيره ليلحقه فلحقه في أثناء الطريق و هذا غريب جدا و حلاف المشهور من أنهما خرجا معا (2/235)
قال ابن إسحاق : و كانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحها
قالت أسماء : و لما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم فقالوا : أين أبوك يا ابنة أبي بكر ؟ قالت : قلت : لا أدري و الله أين أبي قالت : فرفع أبو جهل يده و كان فاحشا خبيثا فلطم حدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا
قال ابن إسحاق : و حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه عن جدته أسماء قالت : لما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و خرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف درهم فانطلق بها معه
قالت : فدخل علينا جدي أبو قحافة و قد ذهب بصره فقال : و الله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه
قالت : قلت : كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا قالت : و أخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت : يا أبت ضع يدك على هذا المال قالت : فوضع يده عليه فقال : لا بأس إذا كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن و في هذا بلاغ لكم و لا و الله ما ترك لنا شيئا و لكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك ! و قال ابن هشام : و حدثني بعض أهل العلم أن الحسن بن أبي الحسن البصري (2/236)
قال : انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر إلى الغار ليلا فدخل أبو بكر قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم فلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حية يقي رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه
و هذا فيه انقطاع من طرفيه
و قد قال أبو القاسم البغوي : حدثنا داود بن عمرو الضبي حدثنا نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة أن النبي صلى الله عليه و سلم لما خرج هو و أبو بكر إلى ثور فجعل أبو بكر يكون أمام النبي صلى الله عليه و سلم مرة و خلفه مرة فسأله النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك و إذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك
حتى إذا انتهى إلى الغار من ثور قال أبو بكر : كما أنت حتى أدخل يدي فأحسه و أقصه فإن كانت فيه دابة أصابتني قبلك قال نافع : فبلغني أنه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوفا أن يخرج منه دابة أو شئ يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم
و هذا مرسل و قد ذكرنا له شواهد أخر في سيرة الصديق رضي الله عنه
و قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق أنبأنا موسى بن الحسن حدثنا عباد حدثنا عفان بن مسلم حدثنا السري بن يحيى حدثنا محمد بن سيرين قال : ذكر رجال على عهد عمر فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر فبلغ ذلك عمر فقال : و الله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر و ليوم من أبي بكر خير من آل عمر !
لقد خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة انطلق إلى الغار و معه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه و ساعة خلفه حتى فطن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا أبا بكر مالك تمشي ساعة خلفي و ساعة بين يدي ؟ ] فقال : يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك فقال : [ يا أبا بكر لو كان شئ لأحببت أن يكون بك دوني ؟ ] قال : نعم و الذي بعثك بالحق
فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار فدخل فاستبراه حتى إذا كان ذكر أنه لم يستبرئ الحجرة فقال : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ فدخل فاستبرأ قال : انزل يا رسول الله فنزل
ثم قال عمر : و الذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر
و قد رواه البيهقي من وجه آخر عن عمر و فيه : أن أبا بكر جعل يمشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم تارة و خلفه أخرى و عن يمينه وعن شماله و فيه أنه لما حفيت رجلا رسول الله صلى الله عليه و سلم حمله الصديق على كاهله و أنه لما دخل الغار سدد تلك الأجحرة كلها و بقى منها جحر واحد فألقمه كعبه فجعلت الأفاعي تنهشه و دموعه تسيل فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تحزن إن الله معنا ]
و في هذا السياق غرابة و نكارة
و قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ و أبو سعيد بن أبي عمرو قالا : حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا عباس الدوري حدثنا أسود بن عامر شاذان حدثنا إسرائيل عن الأسود عن جندب بن عبد الله قال : كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في الغار فأصاب يده حجر فقال :
( إن أنت إلا إصبع دميت ... و في سبيل الله ما لقيت ) (2/237)
و قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني عثمان الجزري أن مقسما مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله تعالى { و إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك } قال : تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه و سلم و قال بعضهم : بل اقتلوه و قال بعضهم : بل أخرجوه فأطلع الله نبيه صلى الله عليه و سلم على ذلك فبات علي على فراش النبي صلى الله عليه و سلم تلك الليلة و خرج النبي صلى الله عليه و سلم حتى لحق بالغار و بات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه و سلم
فلما أصبحوا ثاروا عليه فلما رأوا عليا رد الله عليهم مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا ؟ فقال : لا أدري
فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا : لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال
و هذا إسناد حسن و هو من أجود ما روى في قصة نسج العنكبوت على فم الغار و ذلك من حماية الله و رسوله صلى الله عليه و سلم (2/239)
[ و قال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد القاضي في مسند أبي بكر حدثنا بشار الخفاف حدثنا جعفر و سليمان حدثنا أبو عمران الجوني حدثنا المعلى بن زياد عن الحسن البصري قال : انطلق النبي صلى الله عليه و سلم و أبو بكر إلى الغار و جاءت قريش يطلبون النبي صلى الله عليه و سلم و كانوا إذا رأوا على باب الغار نسج العنكبوت قالوا : لم يدخل أحد
و كان النبي صلى الله عليه و سلم قائما يصلي و أبو بكر يرتقب فقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه و سلم : هؤلاء قومك يطلبونك أما و الله ما على نفسي أئل و لكن مخافة أن أرى فيك ما أكره
فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ يا أبا بكر لا تخف إن الله معنا ]
و هذا مرسل عن الحسن و هو حسن بحاله من الشاهد و فيه زيادة صلاة النبي صلى الله عليه و سلم في الغار و قد كان عليه السلام إذا أحزنه أمر صلى
و روى هذا الرجل أعني أبا بك أحمد بن علي القاضي عن عمرو الناقد عن خلف بن تميم عن موسى بن مطير عن أبيه عن أبي هريرة أن أبا بكر قال لابنه يا بني إذا حدث في الناس حدث فأت الغار الذي اختبأت فيه أنا و رسول الله صلى الله عليه و سلم فكن فيه فإنه سيأتيك رزقك فيه بكرة و عشيا ]
و قد نظم بعضهم هذا في شعره حيث يقول
( نسج داود ما حمى صاحب الغا ... ر و كان الفخار للعنكبوت )
و قد ورد أن حمامتين عششتا على بابه أيضا و قد نظم ذلك الصرصري في شعره حيث يقول :
( فغمى عليه العنكبوت بنسجه ... و ظل على الباب الحمام يبيض ) (2/239)
و الحديث بذلك رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن محمد بن صاعد حدثنا عمرو بن علي حدثنا عون بن عمرو أبو عمرو القيسي و يلقب بعوين حدثني أبو مصعب المكي قال : أدركت زيد بن أرقم و المغيرة بن شعبة و أنس بن مالك يذكرون أن النبي صلى الله عليه و سلم ليلة الغار أمر الله شجرة فخرجت في وجه النبي صلى الله عليه و سلم تستره و أن الله بعث العنكبوت فنسجت ما بينها فسترت وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أمر الله حمامتين وحشيتين فأقبلتا تدفان حتى وقعتا بين العنكبوت و بين الشجرة و أقبلت فتيان قريش من كل بطن منهم رجل معهم عصيتهم و قسيهم و هراواتهم حتى إذا كانوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم قدر مائتي ذراع قال الدليل و هو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي : هذا الحجر ثم لا أدري أين وضع رجله فقال الفتيان : أنت لم تخطئ منذ الليلة حتى إذا أصبحوا قال : انظروا في الغار فاستبقه القوم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه و سلم قدر خمسين ذراعا فإذا الحمامتان فرجع فقالوا : ما ردك أن تنظر في الغار ؟ قال : رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغر فعرفت أن ليس فيه أحد فسمعها رسول الله صلى الله عليه و سلم فعرف أن الله قد درأ عنهما بهما فسمت عليها أي برك عليهما و أحدرهما الله إلى الحرام فأفرخا كما ترى و هذا حديث غريب جدا من هذا الوجه قد رواه الحافظ أبو نعيم من حديث مسلم بن إبراهيم و غيره عن عون بن عمرو و هو الملقب بعوين بإسناده مثله و فيه أن جميع حمام مكة من نسل تيك الحمامتين
و في هذا الحديث أن القائف الذي اقتفى لهم الأثر سراقة بن مالك المدلجي
و قد روى الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه أن الذي اقتفى لهم الأثر كزز بن علقمة
قلت : و يحتمل أن يكونا جميعا اقتفيا الأثر و الله أعلم (2/240)
و قد قال الله تعالى : { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها و جعل كلمة الذين كفروا السفلي و كلمة الله هي العليا و الله عزيز حكيم } يقول تعالى مؤنبا لمن تخلف عن الجهاد مع الرسول : { إلا تنصروه } أنتم فإن الله ناصره و مؤيده و مظفره كما نصره { إذ أخرجه الذين كفروا } من أهل مكة هاربا ليس معه غير صاحبه و صديقه أبي بكر ليس غيره
و لهذا قال { ثاني اثنين إذ هما في الغار } أي و قد لجآ إلى الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام ليسكن الطلب عنهما و ذلك لأن المشركين حين فقدوهما كما تقدم ذهبوا في طلبهما كل مذهب من سائر الجهات و جعلوا لمن ردهما أو أحدهما مائة من الإبل و اقتصوا آثارهما حتى اختلط عليهم و كان الذي يقتص الأثر لقريش سراقة بن مالك بن جعشم كما تقدم فصعدوا الجبل الذي هما فيه و جعلوا يمرون على باب الغار فتحاذى أرجلهم لباب الغار و لا يرونهما حفظا من الله لهما
كما قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا همام أنبأنا ثابت عن أنس بن مالك أن أبا بكر حدثه قال : قلت
للنبي صلى الله عليه و سلم و نحن في الغار : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه (2/242)
فقال : [ يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ]
و أخرجه البخاري و مسلم في صحيحهما من حديث همام به
و قد ذكر بعض أهل السير أن أبا بكر لما قال ذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم : لو جاؤونا من هاهنا لذهبنا من هنا
فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر و إذا البحر قد اتصل به و سفينة مشدودة إلى جانبه
و هذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة و لكن لم يرد ذلك بإسناد قوي و لا ضعيف و لسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا و لكن ما صح أو حسن سنده قلنا به و الله أعلم
و قد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا الفضل بن سهل حدثنا خلف بن تميم حدثنا موسى بن مطير القرشي عن أبيه عن أبي هريرة أن أبا بكر قال لابنه : يا بني إن حدث في الناس حدث فأت الغار الذي رأتني اختبأت فيه أنا و رسول الله صلى الله عليه و سلم فكن فيه فإنه سيأتيك فيه رزقك غدوة و عشية
ثم قال البزار : لا نعلم يرويه غير خلف بن تميم
قلت : و موسى بن مطير هذا ضعيف متروك و كذبه يحيى بن معين فلا يقبل حديثه (2/243)
و قد ذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن الصديق قال في دخولها الغار و سيرهما بعد ذلك و ما كان من قصة سراقة كما سيأتي شعرا فمنه قوله :
( قال النبي و لم أجزع يوقرني ... و نحن في سدف من ظلمة الغار )
( لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا ... و قد توكل لي منه بإظهار )
و قد روى أبو نعيم هذه القصية من طريق زياد عن محمد بن إسحاق فذكرها مطولة جدا و ذكر معها قصيدة أخرى و الله أعلم (2/244)
و قد روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال : فمكث رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد الحج يعني الذي بايع فيه الأنصار بقية ذي الحجة و المحرم و صفر
ثم إن مشركي قريش أجمعوا أمرهم و مكرهم على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أو يحبسوه أو يخرجوه فأطلعه الله على ذلك فأنزل عليه : { و إذا يمكر بك الذين كفروا } الآية فأمر عليا فنام على فراشه و ذهب هو و أو بكر فلما أصبحوا ذهبوا في طلبهما في كل وجه يطلبونهما
و هكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازية و أن خروجه هو و أبو بكر إلى الغار كان ليلا
و قد تقدم عن الحسن البصري فيما ذكره ابن هشام التصريح بذلك أيضا (2/244)
و قال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت : لم أعقل أبوي قط إلا و هما يدينان الدين و لم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم طرفي النهار بكرة و عشية فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ بر الغماد لقيه ابن الدغنة و هو سيد القارة
فذكرت ما كان من رده لأبي بكر إلى مكة و جواره له كما قدمناه عند هجرة الحبشة إلى قوله : فقال أبو بكر : فإني أرد عليك جوارك و أرضى بجوار الله
قالت و النبي صلى الله عليه و سلم يومئذ بمكة فقال النبي صلى الله عليه و سلم للمسلمين : [ إني أريت دار هجرتكم ذات نخل لا بتين ] و هما الحرتان
فهاجر من هاجر قبل المدينة و رجع بعض من كان هاجر قبل الحبشة إلى المدينة
و تجهز أبو بكر مهاجرا قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي ] فقال أبو بكر : و هل ترجو ذلك بأبي أنت و أمي ؟ قال : نعم
فحبس نفسه على رسول الله صلى الله عليه و سلم ليصحبه و علف راحلتين كانتا عنده ورق السمر و هو الخبط أربعة أشهر و ذكر بعضهم أنه علفهما ستة أشهر
قال ابن شهاب : قال عروة : قالت عائشة : فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في حر الظهيرة فقال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر : فاء له أبي و أمي و الله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر !
قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أخرج من عندك ] فقال أبو بكر : إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال : [ فإنه قد أذن لي في الخروج ] فقال أبو بكر : الصحبة بأبي أنت و أمي ! النبي صلى الله عليه و سلم : نعم
قال أبو بكر : فخذ أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بالثمن
قالت عائشة : فجهزناهما أحث الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فلذلك سميت ذات النطاقين
قالت : ثم لحق رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر و هو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت لا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام و يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء فيبيتان في رسل و هو لبن منحتهما و رضيفهما حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث و استأجر رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر رجلا من بني الديل و هو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا و الخريت : الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي و هو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما و واعداه غر ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ليال و انطلق معهما عامر بن فهيرة و الدليل فأخذ بهم طريق السواحل (2/244)
قال ابن شهاب : فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجى و هو ابن أخي سراقة أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول : جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره
فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا و نحن جلوس فقال : يا سراقة إني رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا و أصحابه قال سراقة : فعرفت أنهم هم فقلت له : إنهم ليسوا بهم و لكنك رأيت فلانا و فلانا انطلقوا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي و هي من وراء أكمة فتحبسها علي و أخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت فخططت بزجه الأرض و خفضت عالية حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فا ستقسمت بها أضرهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره فركبت فرسي و عصيت الأزلام فجعل فرسي يقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو لا يلتفت و أبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها فأهويت ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت الأزلام فخرج الذي أكره
فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم و وقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية و أخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم و عرضت عليهم الزاد و المتاع فلم يرزآني و لم يسألاني إلا أن قالا : اخفف عنا فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم (2/246)
و قد روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم عن أبيه عن عمه سارقة فذكر هذه القصة إلا انه استقم بالأزلام أول ما خرج من منزله فخرج السهم الذي يكره : لايضره و ذكر أنه عثر به فرسه أربع مرات و كل ذلك يستقم بالأزلام و يخرج الذي يكره : لا يضره حتى ناداهم بالأمان و سأل أن يكتب له كتابا يكون أمارة ما بينه و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فكتب لي كتابا في عظم أو رقعة أو خرقة و ذكر أنه جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو بالجعرانة مرجعه من الطائف فقال له ( يوم وفاء وبر ادنه )
فدنوت منه وأسلمت قال ابن هشام : هو عبد الرحمن بن الحارث بن مالك بن جعشم و هذا الذي قاله جيد و لما رجع سراقة جعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا رده و قال : كفيتم هذا الوجه (2/248)
فلما ظهر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد وصل إلى المدينة جعل سراقة يقص على الناس ما رأى و ما شاهد من أمر النبي صلى الله عليه و سلم و ما كان من قصة جواده : و اشتهر هذا عنه فخاف رؤساء قريش معرته و خشوا أن يكون ذلك سببا لإسلام كثير منهم و كان سراقة أمير بني مدلج و رئيسهم فكتب أبو جهل لعنه الله إليهم :
( بني مدلج إني أخاف سفيهكم ... سراقة مستغو لنصر محمد )
( عليكم به ألا يفرق جمعكم ... فيصبح شتى بعد عز و سؤدد )
قال : فقال سراقة بن مالك يجيب أبا جهل في قوله هذا :
( أبا حكم و الله لو كنت شاهدا ... لأمر جوادى إذ تسوخ قوائمه )
( عجبت و لم تشكك بأن محمدا ... رسول و برهان فمن ذا يقاومه )
( عليك فكف القوم عنه فإنني ... أخال لنا يوما ستبدو معالمه )
( بأمر تود النصر فيه فإنهم ... و إن جميع الناس طرا مسلمه )
و ذكر هذا الشعر الأموي في مغازيه بسند عن أبي إسحاق وقد رواه أبو نعيم بسنده من طريق زياد عن ابن إسحاق و زاد في شعر أبي جهل أبياتا تتضمن كفرا بليغا (2/249)
و قال البخاري بسنده إلى ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبا بكر ثياب بياض (2/249)
و سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظيرونه حتى يردهم حر الظهيرة
فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون
فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله صلى الله عليه و سلم بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف و ذلك يوم الإثنين من شهر ربيع الأول
فقام أبو بكر الناس وجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم صامتا فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه و سلم يحيى أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه و سلم عند ذلك (2/250)
فلبث رسول الله صلى الله عليه و سلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة و أسس المسجد الذي أسس على التقوى و صلى فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم ركب راحلته و سار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة و هو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين و كان مربدا للتمر لسهيل و سهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين بركت به راحلته : [ هذا إن شاء الله المنزل ]
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدا
فطفق رسول الله صلى الله عليه و سلم ينقل معهم اللبن في بنيانه و هو يقول حين ينقل اللبن :
( هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا و أطهر )
و يقول :
( لا هم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار و المهاجرة )
فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي قال ابن شهاب : و لم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات
هذا لفظ البخاري و قد تفرد بروايته دون مسلم و له شواهد من وجوه أخر و ليس فيه قصة أم معبد الخزاعية
و لنذكر هنا ما يناسب ذلك مرتبا أولا فأولا (2/250)
قال الإمام أحمد : حدثنا عمرو بن محمد أبو سعيد العنقزي حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال : أبو بكر من عازب سرجا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر لعازب : مر البراء فليحمله إلى منزلي فقال : لا حتى تحدثنا كيف صنعت حين خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنت معه فقال أبو بكر : خرجنا فأدلجنا فأحثثنا يومنا و ليلتنا حتى أظهرنا و قام قائم الظهيرة فضربت بصرى هل أرى ظلا نأوى إليه فإذا أنا بصخرة فأهويت إليها فإذا بقية ظلها فسويته لرسول الله صلى الله عليه و سلم و فرشت له و قلت : اضجع يا رسول الله فاضجع ثم خرجت أنظر هل أرى أحدا من الطلب فإذا أنا يراعى غنم فقلت : لمن أنت يا غلام ؟ فقال : لرجل من قريش فسماه فعرفته فقلت : هل في غنمك من لبن ؟ قال : ضرعها من الغبار ثم أمرته فنفض كفيه من الغبار و معى إداوة على فمها خرقة فحلب لي كثبه من اللبن فصببت على القدح حتى برد أسفله ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فوافيته و قد استيقظ فقلت : اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت ثم قلت : هل آن الرحيل ؟ فارتحلنا و القوم يطلبوننا
فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له فقلت : يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا ؟ قال : [ لا تحزن إن الله معنا ]
حتى إذا فكان بيننا و بينه قدر رمح أو رمحين أو قال رمحين أو ثلاثة قلت : يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا ! و بكيت قال : [ لم تبكى ؟ ] قلت : أما و الله ما على نفسي أبكى و لكن أبكى عليك فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ اللهم اكفناه بما شئت ] فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد و وثب عنها و قال : يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه فو الله لاعمين على من ورائي من الطلب و هذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بإبلى و غنمي بموضع كذا و كذا فخذ منها حاجتك
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا حاجة لي فيها ] و دعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم فأطلق و رجع إلى أصحابه
و مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنا معه حتى قدمنا المدينة و تلقاه الناس فخرجوا في الطرق و على الأجير و اشتد الخدم و الصبيان في الطريق يقولون : الله أكبر جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم جاء محمد قال : و تنازع القوم أيهم ينزل عليه قال : فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنزل الليلة على بني النجار أخوال عبد المطلب لأكرمهم بذلك ] فلما أصبح غدا حيث أمر قال البراء : أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار ثم قدم علينا ابن أم مكتوم الأعمى أحد بني فهر ثم قدم علينا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا فقلنا : ما فعل رسول الله ؟ قال : هو على أثرى ثم قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر معه
قال البراء : و لم يقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قرأت سورا من المفضل
أخرجاه في الصحيحين من حديث إسرائيل بدون قول البراء : أول من قدم علينا إلخ فقد افرد به مسلم فرواه من طريق إسرائيل به (2/251)
و قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم في الغار ثلاثا و معه أبو بكر و جعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن رده عليهم فلما مضت الثلاث و سكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما و بعير له و أتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما و نسيت أن تجعل لها عصاما فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام فتحل نطاقها فتجعله عصاما ثم علقها به فكان يقال لها : ذات النطاقين لذلك قال ابن إسحاق : فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم له أفضلها ثم قال : اركب فداك أبي و أمي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إني لا أركب بعيرا ليس لي ] قال فهي لك يا رسول الله بأبي أنت و أمي قال [ لا و لكن ما المن الذي ابتعتها به ؟ ] قال كذا و كذا قال أخذتها بذلك قال : هي لك يا رسول الله
و روى الواقدي بأسانيده أنه عليه السلام أخذه القصواء قال و كان أبو بكر اشتراهما بثمانمائة درهم
و روى ابن عساكر من طريق أبي أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت و هي الجدعاء و هكذا حكى السهيلي عن ابن إسحاق أنها الجدعاء و الله أعلم
قال ابن إسحاق : فركبا و انطلقا و أردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه ليخدمها في الطريق
فحدثت عن أسماء أنها قالت : لما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر أتانا نفر من قريش منهم أبو جهل فذكر ضربة لها على خدها لطمة طرح منها قرطها من أذنها كما تقدم
قالت : فمكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب و إن الناس ليتبعونه يسمعون صوته و ما يرونه حتى خرج من أعلى مكة و هو يقول :
( جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد )
( هما نزلا بالبر ثم تروحا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد )
( ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... و مقعدها للمؤمنين بمرصد )
قالت أسماء : فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أن وجهه إلى المدينة
قال ابن إسحاق : و كانوا أربعة رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر و عامر ابن فهيرة مولى أبي بكر و عبد الله بن أرقط كذا يقول ابن إسحاق و المشهور عبد الله بن أريقط الدبلى و كان إذ ذاك مشركا
قال ابن إسحاق : و لما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقط سلك بهما أسفل مكة ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان ثم سلك بهما على أسفل أمج ثم استيجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قديدا ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرار ثم أجاز بهما ثنية المرة ثم سلك بهما لقفا ثم أجاز بهما مدلجة لقف ثم استبطن بهما مدلجة مجاج ثم سلك بهما مرجح مجاج ثم تبطن بهما مرجح من ذي العضوين ثم بطن ذي كشر ثم أحذ بهما على الجد اجد ثم على الأجرد ثم سلك بهما ذا سلم من بطن أعداء مدلجة تعهن ثم على العبابيد ثم أجاز بهما القاحة ثم هبط بهما العرج و قد أبطأ عليهم بعض ظهرهم فحمل رسول الله صلى الله عليه و سلم رجل من أسلم يقال له أوس بن حجر على جمل يقال له ابن الرداء إلى المدينة و بعث معه غلاما يقال له مسعود بن هنيدة ثم خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بها ثنية العاثر عن يمين ركوبة و يقال ثنية الغائر فيما قال ابن هشام حتى هبط بهما بطن رئم ثم قدم بهما قباء علي بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الإثنين حين اشتد الضحاء و كادت الشمس تعتدل و قد روى أبو نعيم من طريق الواقدي نحوا من ذكر هذه المنازل و خالفه في بعضها و الله أعلم
قال أبو نعيم : حدثنا أبو حامد بن جبلة حدثنا محمد بن إسحاق عن السراج حدثنا محمد بن عبادة بن موسى العجلي حدثني أخي موسى بن عبادة حدثني عبد الله بن سيار حدثني إياس بن مالك بن الأوس الأسلمي عن أبيه قال : لما هاجر رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر مروا بإبل لنا بالجحفة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لمن هذه الإبل ؟ ] فقالوا : لرجل من أسلم فالتفت إلى أبي بكر فقال : [ سلمت إن شاء الله ] فقال : [ ما اسمك ؟ ] قال : مسعود فالتفت إلى أبي بكر فقال : [ سعدت إن شاء الله ] قال : فأتاه أبي فحمله على جمل يقال له ابن الرداء قلت و قد تقدم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج من مكة يوم الإثنين و دخل المدينة يوم الإثنين و الظاهر أن بين خروجه عليه السلام من مكة و دخوله المدينة خمسة عشر يوما لأنه أقام بغار ثور ثلاثة أيام ثم سلك طريق الساحل و هي أبعد من الطريق الجادة
و اجتاز في مروره على أم معبد بنت كعب من بني كعب بن خزاعة قال ابن هشام : و قال يونس عن ابن إسحاق : اسمها عاتكة بنت خلف بن معبد ابن ربيعة بن أصرم و قال الأموي : هي عاتكة بنت تبيع حليف بني منقذ بن ربيعة بن أصرم بن صنبيس بن حرام بن خيسة بن كعب بن عمرو
و لهذه المرأة من الولد معبد و نضرة و حنيدة بنو أبي معبد و اسمه أكثم بن عبد العزى ابن معبد بن ربيعة بن أصرم بن صنبيس
و قصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا (2/254)
و هذه قصة أم معبد الخزاعية :
قال يونس عن ابن إسحاق : فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم بخيمة أم معبد و اسمها عاتكة بنت معبد بن ربيعة بن أصرم فأرادوا القرى فقالت : و الله ما عندنا طعام و لا لنا منحة و لا لنا شاة إلا حائل
فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده و دعا الله و حلب في العس حتى أرغى و قال : اشربي يا أم معبد فقالت : اشرب فأنت أحق به فرده عليها فشربت ثم دعا بحائل أخرى ففعل مثل ذلك بها فشربه ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامرا ثم تروح و طلبت قريش رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى بلغوا أم معبد فسألوا عنه فقالوا : أرأيت محمدا من حليته كذا و كذا ؟ فوصفوه لها فقالت : ما أدري ما تقولون قدمنا فتى حلب الحائل قالت قريش : فذاك الذي نريد و قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن معمر حدثنا يعقوب بن محمد حدثنا عبد الرحمن بن عقبة بن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله حدثنا أبي عن أبيه عن جابر قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر مهاجرين فدخلا الغار إذا في الغار جحر فألقمه أبو بكر عقبه حتى أصبح مخافة أن يخرج على رسول الله صلى الله عليه و سلم منه شئ
فأقاما في الغر ثلاث ليال ثم خرجا حتى نزل بخيمات أم معبد فأرسلت إليه أم معبد : إني أرى وجوها حسانا و إن الحى أقوى على كرامتكم مني فلما أمسو عندها بعثت مع ابن لها صغير بشفرة و شاة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اردد الشفرة و هات لنا فرقا ] يعني القدح فأرسلت إليه أن لا لبن فيها و لا ولد قال : هات لنا فرقا فجاءت بفرق فضرب ظهرها فاجترت ودرت فحاب فملأا لقدح فشرب و سقى أبا بكر ثم حلب فبعث فيه إلى أم معبد ثم قال البزار :
لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد و عبد الحمن بن عقبة لا نعلم أحدا حدث عنه إلا يعقوب بن محمد و إن كان معروفا في النسب
و روى الحافظ البيهقي من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بكر الصديق قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة فانهينا إلى حي من أحياء العرب فنظر رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيت منتحيا فقصد إليه فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت : يا عبد الله إنما أنا امرأة و ليس معي أحد فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى قال : فلم يجبها و ذلك عند المساء فجاء ابن لها بأعنز يسوقها فقالت : يا بني انطلق بهذه العنز و الشفرة إلى هذين الرجلين فقل لهما تقول لكما أمي اذبحا هذه و كلا و أطعمانا فلما جاء قال له النبي صلى الله عليه و سلم : انطلق بالشفرة و جئنى بالقدح قال : إنها قد عزبت و ليس بها لبن قال : انطلق فجاء بقدح فمسح النبي صلى الله عليه و سلم ضرعها ثم حلب حتى ملأ القدح ثم قال : انطلق به إلى أمك فشربت حتى رويت ثم جاء به فقال : انطلق بهذه و جئني بأخرى ففعل بها كذلك ثم سقى أبا بكر ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك ثم شرب النبي صلى الله عليه و سلم فبتنا ليلتنا ثم انطلقنا فكانت تسميه المبارك و كثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة فمر أبو بكر فرأى ابنها فعرفه فقال : يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك فقامت إليه فقالت : يا عبد الله من الرجل الذي كان معك ؟ قال : أو ما تدرين من هو ؟ قالت لا قال : هو نبي الله قالت فأدخلني عليه قال : فأدخلها فأطعمها رسول الله صلى الله عليه و سلم و أعطاها زاد ابن عبدان في روايته : ـ قالت : فدلني عليه فانطلقت معي و أهدت لرسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا من أقط و متاع الأعاب قال : فكساها و أعطاها
قال : و لا أعلمه إلا قال : و أسلمت إسناد حسن
و قال البيهقي : هذه القصة شبيهة بقصة أم معبد و الظاهر أنها هي و الله أعلم
و قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ و أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا : حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا الحسن بن مكرم حدثني أبو أحمد بشر بن محمد السكري حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجي حدثنا أنجر بن الصباح عن أبي معبد الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو و أبو بكر و عامر بن فهيرة مولى أبي بكر و دليلهم عبد الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية
و كانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبى و تجلس بفناء الخيمة فتطعم و تسقى فسألوها هل عندها لحم أو لبن يشترونه منها ؟ فلم يجدوا عندها شيئا من ذلك و قالت : لو كان عندنا شئ ما أعوزكم القرى و إذا القوم مرملون مسنتون فنظر رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا شاة في كسر خيمتها فقال : فهل بها من اللبن ؟
قالت : هي أجهد من ذلك قال : تأذنين لي أن أحلبها ؟ قالت : إن كان بها حليب فاحلبها فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشاة فمسحها و ذكر اسم الله و مسح ضرعها و ذكر اسم الله و دعا بإناء لها يربض الرهط فتفاجت و اجترت فحلب فيه ثجا حتى ملأه فسقاها و سقى أصحابه فشربوا عللا بعد نهل حتى إذا رووا شرب آخرهم و قال :
ساقي القوم آخرهم ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء فغادره عندها ثم ارتحلوا
قال : فقل ما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلا لانقي بهن مخهن قليل فلما رأى اللبن عجب و قال : من أين هذا اللبن يا أم معبد و لا حلوبة في البيت و الشاء عازب ؟
فقالت : لا و الله إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت و كيت
فقال : صفيه لي فو الله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب
فقالت رأيت رجلا ظاهر الوضاءة حسن الخلق مليح الوجه لم تعبه ثجلة و لم تزر صعلة قسيم وسيم في عينيه دعج و في أشفاره و طف و في صوته صحل أحول أكحل أزج أقرن في عنقه سطع و في لحيته كثاثة إذا صمت فعليه الوقار و إذا تكلم سما و علاه البهاء حلو المنطق فصل لا نزر و لا هذر كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن أبهى الناس و أجمله من بعيد و أحسنه من قريب ربعة لا تشنأه عين من طول ولا تقتحمه عين من قصر غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدا له رفقاء يحفون به إن قال استمعوا لقوله و إن أمر تبادروا لأمره محفود لا عبس و لا مفند فقال ـ يعني بعلها ـ : هذا و الله صاحب قريش الذي تطلب و لو صادفته لا لمست أن أصحبه و لأجهدن إن و جدت إلى ذلك سبيلا قال : و أصبح صوت بمكة عال بين السماء و الأرض يسمعونه و لا يرون من يقول و هو يقول :
( جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلا خيمتي أم معبد )
( هما نزلا بالبر و ارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد )
( فيالقصي مزوى الله عنكم ... به من فعال لا تجازى و سؤدد )
( سلوا أختكم عن شاتها و إنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد )
( دعاها بشاة حائل فتحلبت ... له بصريح ضرة الشاة مزبد )
( فغادره رهنا لديها لحالب ... يدر لها في مصدر ثم مورد )
قال : و أصبح الناس يعنى بمكة و قد فقدوا نبيهم فأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا برسول الله صلى الله عليه و سلم
قال : و أجابه حسان بن ثابت :
( لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم ... و قد سر من يسرى إليهم و يغتذى )
( ترحل عن قوم فزالت عقولهم ... و حل على قوم بنور مجدد )
( و هل يستوى ضلال قوم تسفهوا ... عمى و هداة يهتدون بمهتد )
( نبي يرى ما ل يرى الناس حوله ... و يتلو كتاب الله في كل مشهد )
( و إن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد )
( ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد )
( و يهن بني كعب مكان فتاتهم ... و مقعدها للمسلمين بمرصد )
قال يعني عبدالملك بن وهب ـ : فبلغني أن أبا معبد أسلم و هاجر إلى النبي صلى الله عليه و سلم
و هكذا روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الملك بن وهب المدحجي فذكر مثله سواء و زاد في آخره : قال عبد الملك : بلغني أن أم معبد هاجرت و أسلمت و لحقت برسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم رواه أبو نعيم من طرق عن أبو بكر بن مخرز الكلبي الخزاعي عن أبيه محرز ابن مهدي عن حرام بن هشام بن حبيش بن خالد عن أبيه عن جده حبيش بن حالد صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أخرج من مكة خرج منها مهاجرا هو و أبو بكر و عامر بن فهيرة و دليلهما عبد الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمة أم معبد و كانت امرأة برزة جلدة تحتبى بفناء القبة و ذكر مثل ما تقدم سواء
قال و حدثناه فيما أظن محمد بن أحمد بن علي بن مخلد حدثنا محمد بن يونس ابن موسى يعني الكديمي حدثنا عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز مولى العباس بن عبد المطلب حدثنا محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري حدثنى أبي عن أبيه سليط البدري قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في الهجرة و معه أبو بكر و عامر ابن فهيرة و ابن أريقط يدلهم على الطريق مر بأم معبد الخزاعية و هي لا تعرفه فقال لها : يا أم معبد هل عندك من لبن ؟ قالت : لا و الله إن الغنم لعازبة قال : فما هذه الشاة ؟ قالت : حلفها الجهد عن الغنم ؟ ثم ذكر تمام الحديث كنحو ما تقدم
ثم قال البيهقي : يحتمل أن هذه القصص كلها واحدة ثم ذكر قصة شبيهة بقصة شاة أم معبد الخزاعية فقال : حدثنا أبو عبد الله الحافظ إملاء حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب أخبرنا محمد بن غالب حدثنا أبو الوليد حدثنا عبد الله بن إياد بن لقيط حدثنا إياد بن لقيط عن قيس بن النعمان قال : لما انطلق النبي صلى الله عليه و سلم و أبو بكر مستخفين مروا بعبد يرعى غنما فاستسقاه اللبن فقال : ما عندي شاة تحلب غير أن هاهنا عناقا حملت أول الشتاء و قد أخدجت و ما بقي لها من لبن فقال : ادع بها فدعا بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه و سلم و مسح ضرعها و دعا حتى أنزلت و جاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر ثم حلب فسقى الراعي ثم حلب فشرب فقال الراعي : بالله من أنت ؟ فو الله ما رأيت مثلك قط قال : أو تاك تكتم على حتى أخبرك ؟ قال : نعم
قال : فأني محمد رسول الله
فقال : أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ ؟ قال : إنهم ليقولون ذلك قال : فإني أشهد أنك نبي و أشد أن ما جئت به حق و أنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي و أنا متبعك قال : إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا و رواه أبو يعلى الموصلي عن جعفر بن حميد الكوفي عن عبد الله بن إياد ابن لقيط به (2/257)
و قد ذكر أبو نعيم هاهنا قصة عبد الله بن مسعود فقال : حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود قال كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط بمكة فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر و قد فرا من المشركين فقلا : يا غلام عندك لبن تسقينا ؟ فقلت : إني مؤتمن و لست بساقيكما فقالا : هل عندك من جذعة لم ينزعليها الفحل بعد ؟ قلت : نعم فأتيتهما بها فاعتقلها أبو بكر وأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم الضرع فدعا فحفل الضرع و جاء أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها ثم شرب هو و أبو بكر و سقياني ثم قال للضرع : اقلص فقلص فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : علمني من هذا القول الطيب يعني القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إنك غلام معلم ] فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد
فقوله في هذا السياق : [ و قد فرا من المشركين ] ليس المراد منه وقت الهجرة إنما ذلك في بعض الأحوال قبل الهجرة فإن ابن مسعود ممن أسلم قديما و هاجر إلى الحبشة و رجع إلى مكة كما تقدم و قصته هذه صحيحة ثابتة في الصحاح و غيرها و الله أعلم (2/264)
و قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن مصعب بن عبد الله هو الزبير حدثني أبي عن فائد مولى عبادل قال : خرجت مع إبراهيم بن عبد الرحمن بن سعد حتى إذا كنا بالعرج أتى ابن سعد و سعد و هو الذي دل رسول الله صلى الله عليه و سلم على طريق ركوبة فقال إبراهيم : ما حدثك أبوك ؟ قال ابن سعد : حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاهم و معه أبو بكر و كانت لأبي بكر عندنا بنت مترضعة و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أراد الاختصار في الطريق إلى المدينة فقال له سعد : هذا الغامر من ركوبه و به لصان من أسلم يقال لهما المهانان فإن شئت أخذنا عليهما فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ حذبنا عليهما ]
قال سعد : فحرجنا حتى إذ أشرفنا إذا أحدهما يقول لصاحبه : هذا اليماني فدعاهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فعرض عليهما الإسلام فأسلما ثم سألهما عن أسمائهما فقالا : نحن المهانان فقال : [ بل أنتما المكرمان ] وأمرهما أن يقدما عليه المدينة فحرجنا حتى إذا أتينا ظاهر قباء فتلقاه بنو عمرو بن عوف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أين أبو أمامة أسعد بن زراره ؟ ] فقال سعد بن خيثمة : إنه أصاب قبلي يا رسول الله أفلا أخبره ذلك ؟
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا طلع على النخل فإذا الشرب مملوء فالتفت رسول الله إلى أبي بكر فقال : يا أبا بكر هذا المنزل رأيتني أنزل إلى حياض كحياض بني مدلج
انفرد به أحمد (2/265)
قد تقدم فيما رواه البخاري عن الزهري عن عروة أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل المدينة عند الظهيرة
قلت و لعل ذلك كان بعد الزوال لما ثبت في الصحيحين من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب عن أبي بكر في حديثه الهجرة قال : فقدمنا ليلا فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك ] (2/267)
و هذا و الله أعلم إما أن يكون يوم قدومه إلى قباء فيكون حال وصوله إلى قرب المدينة كان في حر الظهيرة و أقام تحت تلك النخلة ثم سار بالمسلمين فنزل قباء و ذلك ليلا و أنه أطلق على ما بعد الزوال ليلا فإن العشي من الزوال و إما أن يكون المراد بذلك لما رحل من قباء كما سيأتي فسار فما انتهى إلى بني النجار إلا عشاء كما سيأتي بيانه و الله أعلم
و ذكر البخاري عن الزهري عن عروة أنه نزل في بني عمرو بن عوف بقباء و أقام فيهم بضع عشرة ليلة و أسس مسجد قباء في تلك الأيام
ثم ركب و معه الناس حتى بركت به راحلته في مكان مسجده و كان مربدا لغلامين يتمين و هما سهل و سهيل فابتاعه منهما و اتخذه مسجدا و ذلك في دار بني النجار رضي الله عنهم (2/267)
و قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة قال حدثني رجال من قومي من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قالوا : لما بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه و سلم من مكة و توكفنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظر النبي صلى الله عليه و سلم فو الله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال فإذا لم نجد ظلا دخلنا و ذلك في أيام حارة
حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله جلسنا كما نجلس حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا و قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين دخلنا البيوت فكان أول من رآه رجل من اليهود فصرخ بأعلى صوته : يا نبي قيلة هذا جدكم قد جاء
فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو في ظل نخلة و معه أبو بكر في مثل سنه و أكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل ذلك و ركبه الناس و ما يعرفونه من أبي بكر حتى زال عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقام أبو بكر فأظله بردائه فعرفناه عند ذلك
و قد تقدم ذلك في سياق البخاري و كذا ذكر موسى بن عقبة في مغازية
و قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم حدثنا سليمان عن ثابت عن أنس بن مالك قال : إني لأسعى في الغلمان يقولون : جاء محمد فأسعى و لا أرى شيئا ثم يقولون : جاء محمد فأسعى و لا أرى شيئا
قال : حتى جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم و صاحبه أبو بكر فكمنا في بعض خراب المدينة ثم بعثا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما الأنصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انهوا إليهما فقالت الأنصار : انطلقا آمنين مطاعين (2/268)
فأقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم و صاحبه بين أظهرهم فخرج أهل المدينة حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن : أيهم هو ؟ أيهم هو ؟ فما رأينا منظرا شبيها به
قال أنس : فلقد رأيته يوم دخل علينا و يوم قبض فلم أر يومين شبيها بهما
و رواه البيهقي عن الحاكم عن الأصم عن محمد بن إسحاق الصنعاني عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بنحوه أو مثله
و في الصحيحين من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء عن أبي بكر في حديث الهجرة قال : و خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق و على البيوت و الغلمان و الخدم يقولون : الله أكبر جاء رسول الله الله أكبر جاء محمد الله أكبر جاء محمد الله أكبر جاء رسول الله فلما أصبح انطلق و ذهب حيث أمر
و قال البيهقي : أخبرنا أبو عمرو الأديب أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي سمعت أبا خليفة يقول : سمعت ابن عائشة يقول : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة جعل النساء و الصبيان يقلن :
( طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع )
( وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع ) (2/269)
قال محمد بن إسحاق : فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما يذكرون يعني حين نزل بقباء على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف ثم أحد بني عبيد و يقال : بل نزل على سعد بن خيثمة
و يقول من يذكر أنه نزل على كلثوم بن الهدم : إنما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا خرج من منزل كلثوم بن الهدم جلس للناس في بيت سعد بن خثيمة و ذلك أنه كان عزبا لا أهل له و يقال لبيته بيت العزاب و الله أعلم
و نزل أبو بكر رضي الله عنه على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسنح و قيل : على خارجه بن زيد بن أبي زهير أخي بني الحارث بن الخزرج
قال ابن إسحاق : و أقام على بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال و أيامها حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم الودائع التي كانت عنده
ثم لحق برسول الله صلى الله عليه و سلم فنزل معه على كلثوم بن الهدم فكأن علي بن أبي طالب إنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين
يقول : كانت بقباء امرأة لا زوج لها مسلمة فرأيت إنسانا يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه فاستربت بشأنه فقلت لها : يا أمة الله من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدري ما هو و أنت امرأة مسلمة لا زوج لك ؟
قالت : هذا سهل بن حنيف و قد أني إمراة لا أحد لي فإذا أمسى عدا على أو ثان قومه فكسرها ثم جاءني بها فقال : احتطبي بهذا
فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف هلك عنده بالعراق
قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الإثنين و يوم الثلاثاء و يوم الأربعاء و يوم الخميس و أسس مسجده
ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة و بنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك
و قال عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق قال : و بنو عمرو بن عوف يزعمون أنه عليه السلام أقام فيهم ثماني عشرة ليلة
قلت : و قد تقدم فيما رواه البخاري من طريق الزهري عن عروة أنه عليه السلام أقام فيهم بضع عشرة ليلة
و حكى موسى بن عقبة عن مجمع بن يزيد بن الحارث أنه قال : أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فينا يعني في بني عمرو بن عوف بقباء اثنتين و عشرين ليلة
و قال الواقدي : و يقال أقام فيهم أربع عشرة ليلة (2/270)
قال ابن إسحاق : فأدركت رسول الله صلى الله عليه و سلم الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي و أدى رانوناء فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة
فأتاه عتبان بن مالك و عباس بن عبادة بن نضلة في رجال بني سالم فقالوا : يا رسول الله أقم عندنا في العدة و المنعة قال [ خلوا سبيلها فإنها مأمورة لناقته فخلوا سبيلها ]
فانطلقت حتى إذا وازت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد و فروة بن عمرو رجال من بني بياضة فقالوا : يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد و العدة و المنعة قال : [ خلوا سبيلها فإنها مأمورة ] فخلوا سبيلها (2/271)
فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة و المنذر بن عمرو في رجال من بني ساعدة فقالوا : يا رسول الله هلم إلينا في العدد والمنعة قال : [ خلوا سبيلها فإنها مأمورة ] فخلوا سبيلها
فانطلقت حتى إذا وازت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع و خارجه بن زيد و عبد الله بن رواحة في رجال من بني الحارث بن الخزرج فقالوا : يا رسول الله هلم إلينا إلى العدة و المنعة قال : [ أخلوا سبيلها فإنها مأمورة ] فخلوا سبيلها
فانطلقت حتى إذا مرت بدار عدي بن النجار و هم أخواله دنيا أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو إحدى نسائهم اعترضه سليط بن قيس أبو سليط أسيرة بن أبي خارجة في رجال من بني عدي بن النجار فقالوا : يا رسول الله هلم إلى إخوالك إلى العدد و العدة و المنعة
قال : [ خلوا سبيلها فإنها مأمورة ]
فانطلقت حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار و هما سهل و سهيل ابنا عمرو و كانا في حجر معاذ بن عفراء
قلت : و قد تقدم في رواية البخاري من طريق الزهري عن عروة أنهما كانا في حجر أسعد بن زرارة و الله أعلم (2/272)
و ذكر موسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر في طريقه بعبد الله ابن أبي بن سلول و هو في بيت فوقف رسول الله صلى الله عليه و سلم ينتظر أن يدعوه إلى المنزل و هو يومئذ سيد الخزرج في أنفسهم فقال عبد الله : انظر الذين دعوك فانزل عليهم
فذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم لنفر من الأنصار فقال سعد بن عبادة يعتذر عنه : لقد من الله علينا بك يا رسول الله و إنا نريد أن نعقد على رأسه التاج و نملكه علينا
قال موسى بن عقبة : و كانت الأنصار قد اجتمعوا قبل أن يركب رسول الله صلى الله عليه و سلم من بني عمرو بن عوف فمشوا حول ناقته لا يزال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة شحا على كرامة رسول الله صلى الله عليه و سلم و تعظيما له
و كلما مر بدار من دور الأنصار دعوه إلى المنزل فيقول صلى الله عليه و سلم : [ دعوها فإنها مأمورة فإنما أنزل حيث أنزلني الله ]
فلما انتهت إلى أبي أيوب بركت به على الباب فنزل فدخل بيت أبي أيوب حتى ابتنى مسجده و مساكنه
قال ابن إسحاق : لما بركت الناقة برسول الله صلى الله عليه و سلم لم ينزل عنها حتى وثبت فسارت غير بعيد و رسول الله صلى الله عليه و سلم واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت و رزمت و وضعت جرانها فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم
فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله فوضعه في بيته و نزل عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم [
و سأل عن المربد لمن هو ؟ ] فقال له معاذ بن عفراء : هو يا رسول الله لسهل و سهيل ابني عمرو و هما يتيمان لي و سأرضيهما منه فاتخذه مسجدا فأمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يبنى
و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في دار أبي أيوب حتى بنى المسجد و مساكنه فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون من المهاجرين و الأنصار
و ستأتي قصة بناء المسجد قريبا إن شاء الله (2/272)
و قال البيهقي في الدلائل : و قال أبو عبد الله : أخبرنا أبو الحسن على بن عمرو الحافظ حدثنا أبو عبد الله محمد بن مخلد الدوري حدثنا محمد بن سليمان بن إسماعيل بن أبي الورد حدثنا إبراهيم بن صرمة حدثنا يحيى بن سعيد عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فلما دخلنا جاء الأنصار برجالها و نسائها فقالوا : إلينا يا رسول الله فقال [ دعوا الناقة فإنها مأمورة ]
فبركت على باب أبي أيوب فخرجت جوار من بني النجار يضر بن بالدفوف و هن يقلن
( نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار )
فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ أتحبونني ؟ ] فقالوا : إي و الله يا رسول الله فقال : [ و أنا و الله أحبكم و أنا و الله أحبكم و أنا و الله أحبكم ]
هذا حديث غريب من هذا الوجه لم يروه أحد من أصحاب السنن و قد خرجه الحاكم في مستدركه كما يروي
ثم قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمى أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن سليمان النحاس المقرئ ببغداد حدثنا عمر بن الحسن الحلبي حدثنا أبو خثيمة المصيصي حدثنا عيسى بن يونس عن عوف الأعرابي عن ثمامة عن أنس
قال : مر النبي صلى الله عليه و سلم بحي من بني النجار و إذا جوار يضربن بالدفوف يقلن
( نحن جوار من بني النجار ... يا حبذا محمد من جار )
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ يعلم الله أن قلبي يحبكم ]
و رواه ابن ماجة عن هشام بن عمار عن عيسى بن يونس به
و في صحيح البخاري عن معمر عن عبد الوارث عن عبد العزيز عن أنس قال : رأى النبي صلى الله عليه و سلم النساء و الصبيان مقبلين حسبت أنه قال من عرس فقام النبي صلى الله عليه و سلم ممثلا فقال : [ اللهم أنتم من أحب الناس إلى ] قالها ثلاث مرات (2/274)
و قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي حدثني عبد العزيز ابن صهيب حدثنا أنس بن مالك قال ك أقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و هو مردف أبا بكر و أبو بكر شيخ يعرف و رسول الله صلى الله عليه و سلم شاب لا بعرف قال : فيلقي الرجل أبا بكر فيقول : يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك ؟ فيقول : هذا الرجل يهديني السبيل
فيحسب الحاسب أنما يهديه الطريق و إنما يعني سبيل الخير
فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم فقال : يا نبي الله فارس قد لحق بنا فالتفت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال [ اللهم اصرعه ] فصرعته فرسه ثم قامت تحمحم ثم قال : مر ني يا نبي الله بما شئت فقال : [ قف مكانك و لا تتركن أحدا يلحق بنا ]
قال : فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان آخر النهار مسلحة له
قال : فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم جانب الحرة ثم بعث إلى الأنصار فجاءوا فسلموا عليهما و قالوا : اركبا آمنين مطاعين
فركب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر و حفوا حولهما بالسلاح
و قيل في المدينة : جاء نبي الله صلى الله عليه و سلم فاستشرفوا نبي الله ينظرون إليه و يقولون : جاء نبي الله
قال : فأقبل يسير حتى إلى جانب دار أبي أيوب
قال : فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام و هو في نخل لأهله يحترف
لهم فعجل أن يضع الذي يحترف فيها ن فجاء و هي معه و سمع من نبي الله صلى الله عليه و سلم و رجع إلى أهله
و قال نبي الله : أي بيوت أهلنا أقرب ؟ فقال أبو أيوب : أنا يا نبي الله هذه داري و هذا بابي قال : فانطلق فهيئ لنا مقيلا فذهب فهيأ ثم جاء فقال : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم قد هيأت مقيلا قوما على بركة الله فقيلا فلما جاء نبي صلى الله عليه و سلم جاء عبد الله بن سلام فقال : أشهد أنك نبي الله حقا و أنك جئت بحق علمت يهود أني سيدهم و ابن سيدهم و أعلمهم و ابن أعلمهم فادعهم فسلهم
فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا معشر اليهود و يلكم اتقوا الله فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلموا أني رسول الله حقا و أني جئت بحق أسلموا ]
فقالوا : ما نعلمه ثلاثا
و كذا رواه البخاري منفردا به عن محمد غير منسوب عبد الصمد به (2/275)
قال ابن إسحاق : و حدثني يزيد أن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي رهم السماعي حدثني أبو أيوب قال لما نزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيتي نزل قي السفل و أنا و أم أيوب في العلو فقلت له : بأبي أنت و أمي يا رسول الله إني أكره و أعظم أن أكون فوقك و تكون تحتي فاظهر أنت فكن في العلو و ننزل نحن فنكون في السفل
فقال : [ يا أبا أيوب إن أرفق بنا و بمن يغشانا أن أكون في سفل البيت ]
فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفله و كنا فوقه في المسكن فلقد انكسر حب لنا فيه ماء فقمت أنا و أم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا على رسول الله صلى الله عليه و سلم منه شئ فيؤذيه
قال : و كنا نصنع له العشاء ثم نبعث إليه فإذا رد علينا فضلة تيممت أنا و أم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه و قد جعلنا له فيه بصلا أو ثوما فرده رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم أر ليده فيه أثرا قال : فجئته فزعا فقلت : يا رسول الله بأبي أنت و أمي رددت عشاءك و لم أر فيه موضع يدك ؟ فقال [ إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة و أنا رجل أناجي فأما أنتم فكلوه ] قال فأكلنا و لم نصنع له تلك الشجرة بعد
و كذلك رواه البيهقي من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الحسن أو أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي رهم عن أبي أيوب فذكره
و رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي يونس بن محمد المؤدب عن اليث
و قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو عمرو الحيري حدثنا عبد الله ابن محمد حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي حدثنا أبو النعمان حدثنا ثابت بن يزيد حدثنا عاصم الأحول عن عبد الله بن الحارث عن أفلح مولى أبي أيوب عن أبي أيوب أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل عليه في السفل و أيوب في العلو فانتبه أبو أيوب فقال : نمشي فوق رأس رسول الله صلى الله عليه و سلم ! فتنحوا فباتوا في جانب ثم قال للنبي صلى الله عليه و سلم يعني في ذلك فقال : [ السفل أرفق بنا ] فقال : لا أعلو سقيفة أنت تحتها فتحول رسول الله صلى الله عليه و سلم في العلو و أبو أيوب في السفل
فكان يصنع لرسول الله صلى الله عليه و سلم طعاما فإذا جئ به سأل عن موضع أصابعه فيتبع موضع أصابع رسول الله صلى الله عليه و سلم فصنع له طعاما فيه ثوم فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقيل له : لم يأكل ففزع و صعد إليه فقال : أحرام ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا و لكني أكرهه ] قال فإني أكره ما تكره أو ما كرهت قال : و كان النبي صلى الله عليه و سلم يأتيه الملك
رواه مسلم عن أحمد بن سعيد به
وثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك قال : جئ رسول الله صلى الله عليه و سلم ببدر و في رواية بقدر فيه خضروات من بقول قال فسأل فأخبر بما فيها فلما رآها كره أكلها قال : [ كل فإني أناجي من لا تناجي ]
و قد روى الواقدي أن أسعد بن زرارة لما نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في دار أيوب أخذ بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم فكانت عنده (2/277)
و روى عن زيد بن ثابت أنه قال : أول هدية أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حين نزل دار أبي أيوب أنا جئت بها قصعة فيها خبز مثرود بلبن و سمن فقلت أرسلت بهذه القصعة أمي فقال : [ بارك الله فيك و دعا أصحابه فأكلوا ] ثم جاءت قصعة سعد بن عبادة ثريد و عراق لحم و ما كانت من ليلة إلا و على باب رسول الله صلى الله عليه و سلم الثلاثة و الأربعة يحملون الطعام يتناوبون و كان مقامه في دار أبي أيوب سبعة أشهر (2/279)
قال : و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو نازل في دار أبي أيوب مولاه زيد بن حارثة و أبا رافع و معهما بعيران و خمسمائة درهم ليجيئا بفاطمة و أم كلثوم ابنتي رسول الله صلى الله عليه و سلم و سودة بنت زمعة زوجته و أسامة بن زيد و كانت رقية قد هاجرت مع زوجها عثمان و زينب عند زوجها بمكة أبي العاص بن الربيع و جاءت معهم أم أيمن امرأة زيد بن حارثة و خرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر و فيهم عائشة أم المؤمنين و لم يدخل بها رسول الله صلى الله عليه و سلم (2/224)
و قال البيهقي : أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار حدثنا خلف بن عمرو العكبري حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عطاف بن خالد حدثنا صديق بن موسى عن عبد الله بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم المدينة فاستناخت به راحلته بين دار جعفر بن محمد بن علي و بين دار الحسن ابن زيد فأتاه الناس فقالوا : يا رسول الله المنزل فانبعث به راحلته فقال : [ دعوها فإنها مأمورة ]
ثم خرجت به حتى جاءت موضع المنبر فاستناخت ثم تحللت و ثم عريش كانوا يعرشونه و يعمرونه و يتبردون فيه فنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن راحلته فيه فآوى إلى الظل فأتاه أبو أيوب فقال : يا رسول الله إن منزلي أقرب المنازل إليك فانقل رحلك إلي ؟ قال : نعم فذهب برحله إلى المنزل ثم أتاه رجل فقال يا رسول الله أين تحل ؟ قال : [ إن الرجل مع رحله حيث كان ] و ثبت رسول الله صلى الله عليه و سلم في العريش اثنتي عشرة ليلة حتى بنى المسجد (2/279)
و هذه منقبة عظيمة لأبي أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه حيث نزل في داره رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قد روينا من طريق يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه لما قدم أبو أيوب البصرة و كان ابن عباس نائبا عليها من جهة علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فخرج له ابن عباس عن داره حتى أنزله فيها كما أنزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في داره و ملكه كل ما أغلق عليها بابها و لما أراد الانصراف أعطاه ابن عباس عشرين ألفا و أربعين عبدا
و قد صارت دار أبي أيوب بعده إلى مولاه أفلح فاشتراها منه المغيرة بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام بألف دينار و أصلح ما وهى من بنيانها و وهبها لأهل بيت فقراء من أهل المدينة و كذلك نزوله عليه السلام في دار بني النجار و اختيار الله له ذلك منقبة عظيمة و قد كان في المدينة دور كثيرة تبلغ تسعا كل دار محلة مستقلة بمساكنها و نخيلها و زروعها و أهلها كل قبيلة من قبائلهم قد اجتمعوا في محلتهم و هي كالقرى المتلاصقة فاختار الله لرسول الله صلى الله عليه و سلم دار بني مالك بن النجار (2/280)
و قد ثبت في الصحيحين من [ حديث شعبة سمعت قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الأشهل : ثم بنو الحارث بن الخزرج ثم بنو ساعدة و في كل دور الأنصار خير ]
فقال سعد بن عبادة : ما أرى النبي صلى الله عليه و سلم إلا قد فضل علينا فقيل : قد فضلكم على كثير
هذا لفظ البخاري
و كذلك رواه البخاري و مسلم من حديث أنس و أبي أسيد مالك بن ربيعة و من حديث عبادة بن سهل عن أبي حميد عن النبي صلى الله عليه و سلم بمثله سواء زاد في حديث أبي حميد : فقال أبو أسيد لسعد بن عبادة : ألم تر أن النبي صلى الله عليه و سلم خير الأنصار فجعلنا آخرا فأدرك سعد النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله خيرت دور الأنصار فجعلتنا آخرا ؟ قال : [ أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الأخيار ]
و قد ثبت لجميع من أسلم من أهل المدينة و هم الأنصار الشرف و الرفعة في الدنيا و الآخرة
قال الله تعالى : { و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم }
و قال تعالى : { و الذين تبوأوا الدار و الإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم و لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون }
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار و لو سلك الناس واديا و شعبا لسلكت وادي الأنصار و شعبهم الأنصار شعار و الناس دثار ]
و قال : [ الأنصار كرشي عيبتي ]
و قال : [ أنا سلم لمن سالمهم و حرب لمن حاربهم ]
و قال البخاري : [ حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة حدثني عدي بن ثابت قال : سمعت البراء بن عازب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم أو قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن و لا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أحبه الله و من أبغضهم أبغضه الله ]
و قد أخرجه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث شعبة به
و قال البخاري أيضا : [ حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن جبير عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : آية الإيمان حب الأنصار و أية النفاق بغض الأنصار ]
و رواه البخاري أيضا عن أبي الوليد و الطيالسي و مسلم من حديث خالد بن الحارث و عبد الرحمن بن مهدي أربعتهم عن شعبة به
و الآيات و الأحاديث في فضائل الأنصار كثيرة جدا
و ما أحسن ما قال أبو قيس صرمة بن أبي أنس المتقدم ذكره أحد شعراء الأنصار في قدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم إليهم و نصرهم إياه و مواساتهم له و لأصحابه رضي الله عنهم أجمعين (2/281)
قال ابن إسحاق : و قال أبو قيس صرمة بن أبي أنس أيضا يذكر ما أكرمهم الله به من الإسلام و ما خصهم به من رسوله عليه السلام :
( ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا )
( و يعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يؤوي و لم ير داعيا )
( فلما أتانا و اطمأنت به النوى ... و أصبح مسرورا بطيبة راضيا )
( و ألفى صديقا و اطمأنت به النوى ... و كان له عونا من الله باديا )
( يقص لنا ما قال نوح لقومه ... و ما قال موسى إذ أجاب المناديا )
( فأصبح لا يخشى من الناس واحدا ... قريبا و لا يخشى من الناس نائيا )
( بذلنا له الأموال من جل مالنا ... وأنفسنا عند الوغى و التآسيا )
( نعادي الذي عادى من الناس كلهم ... جميعا و لو كان الحبيب المواسيا )
( و نعلم أن الله لا شئ غيره ... و أن كتاب الله أصبح هاديا )
( أقول إذا صليت في كل بيعة ... حنانيك لا تظهر علينا الأعاديا )
( أقول إذا جاوزت أرضا مخيفة ... تباركت اسم الله أنت المواليا )
( فطأ معرضا إن الحتوف كثيرة ... و إنك لا تبقي لنفسك باقيا )
( فو الله ما يدري الفتى كيف سعيه ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا )
( و لا تحفل النخل المعيمة ربها ... إذا أصبحت ريا و أصبح ثاويا )
ذكرها ابن إسحاق و غيره و رواها عبد الله بن الزبير الحميدي و غيره عن سفيان ابن عيينة عن بن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عجوز من الأنصار قالت : رأيت عبد الله بن عباس يختلف إلى صرمة يروي هذه الأبيات رواه البيهقي (2/282)
وقد شرفت المدينة أيضا بهجرته عليه السلام إليها و صارت كهفا لأولياء الله و عباده الصالحين و معقلا و حصنا منيعا للمسلمين و دار هدى للعالمين
و الأحاديث في فضلها كثيرة جدا لها موضع آخر نوردها فيه إن شاء الله
وقد ثبت في الصحيحين من طريق [ حبيب بن يساف عن جعفر بن عاصم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ]
و رواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع عن شبابة عن عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن ابن عمر ن عن النبي صلى الله عليه و سلم نحوه و في الصحيحين أيضا من [ حديث مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع أبا الحباب سعيد بن يسار سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب و هي المدينة تنقى الناس كما ينقى الكير خبث الحديد ]
وقد انفرد الإمام مالك عن بقية الأئمة الأربعة بتفضيلها على مكة وقد قال البيهقي : [ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الوليد و أبو بكر بن عبد الله قالا حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا أبو موسى الأنصاري حدثنا سعيد بن سعيد حدثني أخي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلى فأسكني أحب البلاد إليك ] فأسكنه الله المدينة وهذا حديث غريب جدا (2/284)
و المشهور عن الجمهور أن مكة أفضل من المدينة إلا المكان الذي ضم جسد رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قد استدل الجمهور على ذلك بأدلة يطول ذكرها ها هنا و محلها ذكرناها في كتاب المناسك من الأحكام إن شاء الله تعالى
و أشهر دليل لهم في ذلك ما قال الإمام أحمد : [ حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن أن عبد الله بن عدي بن الحمراء أخبره أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم و هو واقف بالحزورة في سوق مكة يقول : و الله إنك لخير أرض الله و أحب أرض الله إلي و لو لا أني أخرجت منك ما خرجت ] و كذا رواه أحمد عن يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن صالح بن كيسان عن الزهري به
و هكذا رواه الترمذي و النسائي و ابن ماجة من حديث الليث عن عقيل عن الزهري به و قال الترمذي : حسن صحيح و قد رواه يونس عن الزهري به و رواه محمد بن عمر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وحديث الزهري عندي أصح
قال الإمام أحمد : [ حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم على الحزورة فقال : علمت أنك خير أرض الله و أحب الأرض إلى الله و لو لا أن أهلك أخرجوني منك ماخرجت ] و كذا رواه النسائي من حديث معمر به قال الحافظ البيهقي : و هذا و هم من معمر
و قد رواه بعضهم عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة و هو أيضا و هم و الصحيح رواية الجماعة و قال أحمد أيضا : [ حدثنا إبراهيم بن خالد حدثنا رباح عن معمر عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن أبي سلمة عن بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال و هو في سوق الحزورة : و الله إنك لخير أرض الله و أحب الأرض إلى الله و لو لا أني أخرجت منك ما خرجت ]
و رواه الطبراني عن أحمد بن خوليد الحلبي عن الحميدي عن ابن أخي الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عدي بن الحمراء به
فهذه طرق هذا الحديث و أصحها ما تقدم و الله أعلم (2/285)
وقائع السنة الأولى من الهجرة ذكر ما وقع في السنة االأولى من الهجرة النبوية من الحوادث و الوقائع العظيمة (2/287)
اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة و قيل سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة في الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة
و ذلك أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رفع إليه صك أي حجة لرجل على آخر و فيه أنه يحل عليه في شعبان فقال عمر : أي شعبان ؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها أو السنة الماضية أو الآتية ؟
ثم جمع الصحابة فاستشارهم في وضع تاريخ يتعرفون به حلول الديون و غير ذلك
فقال قائل : أرخوا كتأريخ الفرس فكره ذلك
و كانت الفرس يؤرخون بملوكهم واحدا بعد واحد
و قال قائل : أرخوا بتأريخ الروم و كانوا يؤرخون بملك اسكندر بن فلبس المقدوني فكره ذلك
و قال آخرون : أرخوا بمولد رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قال آخرون : بل بمبعثه و قال آخرون : بل بهجرته
و قال آخرون : بل بوفاته عليه السلام
فمال عمر رضي الله عنه إلى التأريخ بالهجرة لظهوره و اشتهاره و اتفقوا معه على ذلك
و قال البخاري في صحيحه : التاريخ و متى أرخوا التاريخ : حدثنا عبد الله بن مسلم حدثنا عبد العزيز عن أبيه عن سهل بن سعد قال : ما عدوا من مبعث النبي صلى الله عليه و سلم و لا من وفاته ما عدوا إلا من مقدمه المدينة
و قال الواقدي : حدثنا ابن الزناد عن أبيه قال : استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة و قال أبو داود الطيالسي عن قرة بن خالد السدوسي عن محمد بن سيرين قال : قام رجل إلى عمر فقال أرخوا فقال : ما أرخوا ؟ فقال : شيء تفعله الأعاجم يكتبون في شهر كذا من سنة كذا فقال عمر : حسن فأرخوا فقالوا : من أي السنين نبدأ ؟ فقالوا : من مبعثه و قالوا : من وفاته ثم أجمعوا على الهجرة ثم قالوا و أي الشهور نبدأ ؟ قالوا : رمضان ثم قالوا : المحرم فهو مصرف الناس من حجهم و هو شهر حرام فاجتمعوا على المحرم
و قال ابن جرير : حدثنا قتيبة حدثنا نوح بن قيس الطائي عن عثمان بن محصن أن ابن عباس كان يقول في قوله تعالى : { و الفجر و ليال عشر } هو المحرم فجر السنة و روى عن عبيد بن عمير قال : إن المحرم شهر الله و هو رأس السنة يكسى فيه البيت و يؤرخ به الناس و يضرب فيه الورق قال أحمد : حدثنا روح بن عبادة حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار قال : إن أول من أرخ الكتب يعلى بن أمية باليمن و إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قدم المدينة في ربيع الأول و إن الناس أرخوا لأول السنة
و روى محمد بن إسحاق عن الزهري و عن محمد بن صالح عن الشعبي أنهما قالا : أرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم ثم أرخوا من بنيان إبراهيم و إسماعيل البيت ثم أرخوا من موت كعب بن لؤي ثم أرخوا من الفيل ثم أرخ عمر بن الخطاب الهجرة و ذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة
و قد ذكرنا هذا الفصل محررا بأسانيده و طرقه في السيرة العمرية و لله الحمد (2/287)
و المقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة و جعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم هذا هو قول جمهور الأئمة
و حكى السهيلي و غيره عن الإمام مالك أنه قال : أول السنة الإسلامية ربيع الأول لأنه الشهر الذي هاجر فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قد استدل السهيلي على ذلك في موضع آخر بقوله تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } أي من أول يوم حلول النبي صلى الله عليه و سلم و هو أول يوم من التاريخ كما اتفق الصحابة على أول سنى التاريخ عام الهجرة
و لا شك أن هذا الذي قاله الإمام مالك رحمه الله مناسب و لكن العمل على خلافه و ذلك لأن أول شهور العرب المحرم فجعلوا السنة الأولى سنة الهجرة و جعلوا أولها المحرم كما هو المعروف لئلا يختلط النظام و الله أعلم
فتقول و بالله المستعان : استهلت سنة الهجرة المباركة و رسول الله صلى الله عليه و سلم مقيم بمكة و قد بايع الأنصار بيعة العقبة الثانية كما قدمنا في أوسط أيام التشريق و هي ليلة الثاني عشر من ذي الحجة قبل سنة الهجرة ثم رجع الأنصار و أذن رسول الله صلى الله عليه و سلم للمسلمين في الهجرة إلى المدينة (2/289)
فهاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة حتى لم يبق بمكة من يمكنه الخروج إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم و حبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه و سلم ليصحبه في الطريق كما قدمنا ثم خرجا على الوجه الذي تقدم بسطه و تأخر علي بن أبي طالب بعد النبي صلى الله عليه و سلم بأمره ليؤدي ما كان عنده عليه السلام من الودائع ثم لحقهم بقباء فقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الاثنين قريبا من الزوال و قد اشتد الضحاء
قال الواقدي و غيره : و ذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول و حكاه ابن إسحاق إلا أنه لم يعرج عليه و رجع أنه لثنتى عشرة ليلة خلت منه
و هذا هو المشهور الذي عليه الجمهور و قد إقامته عليه السلام بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة في أصح الأقوال و هو رواية حماد بن سلمة عن أبي حمزة الضبي عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم لأربعين سنة و أقام بمكة ثلاث عشرة سنة
و هكذا روى ابن جرير إن محمد بن معمر عن روح بن عبادة عن زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال : مكث رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة ثلاث عشرة
و تقدم أن عباس كتب أبيات صرمة بن أبي أنس بن قيس :
( ثوي في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا )
و قال الواقدي : عن إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه استشهد بقوله صرمة :
( ثوي في قريش بضع عشرة حجة ... يذكر لو يلقى صديقا مواتيا )
و هكذا رواه ابن جرير عن الحارث عن محمد بن سعد عن الواقدي خمس عشرة حجة و هو قول غريب جدا
و أغرب منه ما قال ابن جرير : حديث عن روح بن عبادة حدثنا سعيد عن قتادة قال : نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه و سلم ثماني سنين بمكة و عشرا بالمدينة
و كان الحسن يقول : عشرا بمكة و عشرا بالمدينة
و هذا القول الآخر الذي ذهب إليه الحسن البصرى من أنه أقام بمكة عشر سنين ذهب إليه أنس بن مالك و عائشة و سعيد بن المسيب و عمرو بن دينار فيما رواه ابن جرير عنهم
و هو رواية عن ابن عباس رواها أحمد بن حنبل عن يحيى بن سعيد عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس قال : أنزل على النبي صلى الله عليه و سلم و هو ابن ثلاث و أربعين فمكث بمكة عشرا
و قد قدمنا عن الشعبي أنه قال : قرن إسرافيل برسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث سنين يلقي إليه الكلمة و الشئ
و في رواية يسمع حسه و لا يرى شخصه ثم كان بعد ذلك جبريل
و قد حكى الواقدي عن بعض مشايخه أنه أنكر قول الشعبي هذا و حاول ابن جرير أن يجمع بين قول من قال : إنه عليه السلام أقام بمكة عشرا و قول من قال : ثلاث عشرة بهذا الذي ذكره الشعبي و الله أعلم
و لما حل الركاب النبوي بالمدينة و كان أول نزوله بها في دار بني عمرو بن عوف و هي قباء كما فأقام بها أكثر ما قيل ثنتين و عشرين ليلة و قيل ثماني عشرة ليلة و بضع عشرة ليلة و قال موسى بن عقبة : ثلاث ليال
و الأشهر ما ذكره ابن إسحاق و غيره انه عليه السلام أقام فيهم بقباء من يوم الاثنين إلى يوم الجمعة
و قد أسس في هذه المدة المختلف في مقدارها على ما ذكرناه مسجد قباء (2/290)
و قد ادعى السهيلي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أسسه في أول يوم قدم إلى قباء و حمل على ذلك قوله تعالى { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } ورد قول من أعربها : من تأسيس أول يوم و هو مسجد شريف فاضل نزل فيه قوله تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا و الله يحب المطهرين } كما تكلمنا على تقرير ذلك في التفسير و ذكرنا الحديث الذي في صحيح مسلم أنه مسجد المدينة و الجواب عنه
و ذكرنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد : [ حدثنا حسن بن محمد حدثنا أبو إدريس حدثنا شرحبيل عن عويم بن ساعدة أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتاهم في مسجد قباء فقال : إن الله قد أحسن الثناء عليكم في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟ ] قالوا : و الله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا و أخرجه ابن خزيمة في صحيحه و له شواهد أخر
وروى عن خزيمة بن ثابت و محمد بن عبد الله بن سلام و ابن عباس
و قد روى أبو داود و الترمذي و ابن ماجه من [ حديث يونس بن الحارث عن إبراهيم بن أبي ميمونة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : نزلت هذه الآية فبي أهل قباء ] { فيه رجال يحبون أن يتطهروا و الله يحب المطهرين } قال : كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية
ثم قال الترمذي : غريب من هذا الوجه
قلت : و يونس بن الحارث هذا ضعيف و الله أعلم
و ممن قال بأنه المسجد الذي أسس على التقوى ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير و رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس و حكى زيد بن أسلم و غيرهم
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يزوره فيما بعد و يصلي فيه و كان يأتي قباء كل سبت تارة راكبا و تارة ماشيا و في الحديث : [ صلاة في مسجد قباء كعمرة ] و قد ورد في حديث أن جبرائيل عليه السلام هو الذي أشار للنبي صلى الله عليه و سلم إلى موضع قبلة مسجد قباء
فكان هذا المسجد أول مسجد بني في الإسلام بالمدينة بل أول مسجد جعل لعموم الناس في هذه الملة
و احترزنا بهذا عن المسجد الذي بناه الصديق بمكة عند باب داره يتعبد فيه و يصلى لأن ذاك كان لخاصة نفسه لم يكن للناس عامة و الله أعلم
و قد تقدم إسلام سلمان في البشارات و أن سلمان الفارسي لما سمع بقدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة ذهب إليه و أخذ معه شيئا فوضعه بين يديه و هو بقباء [ و ] أن سلمان الفارسي لما سمع بقدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إلى المدينة ذهب إليه و أخذ معه شيئا فوضعه بين يديه و هو بقباء [ و ]
قال : هذا صدقة [ فكف رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يأكله و أمر أصحابه فأكلوا منه ثم جاء مرة أخرى و معه شئ فوضعه و قال هذه هدية فأكل منه و أمر أصحابه فأكلوا ] تقدم الحديث بطوله ] (2/292)
في إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال الإمام أحمد : [ حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عوف عن زرارة عن عبد الله ابن إسلام قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة انجفل الناس فكنت فيمن انجفل فلما تبينت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب فكان أول شئ سمعته يقول : أفشوا السلام و أطعموا الطعام و صلوا باليل و الناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ]
و رواه الترمذي و ابن ماجه من طرق عن عوف الأعرابي عن زرارة بن أبي أوفى به عنه و قال الترمذي : صحيح
و مقتضى هذا السياق يقتضي أنه سمع بالنبي صلى الله عليه و سلم و رآه أول قدومه حين أناخ بقباء في بني عمرو بن عوف
و تقدم في رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس أنه اجتمع به حين أناخ عند دارأبي أيوب عند ارتحاله من قباء إلى دار بني النجار و الله أعلم و في سياق البخاري من طريق عبد العزيز عن أنس قال : فلما جاء النبي صلى الله عليه و سلم جاء عبد الله بن سلام فقال : أشهد أنك رسول الله و أنك جئت بحق و قد علمت يهود أني سيدهم و ابن سيدهم و أعلمهم فادعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ما ليس في
فأرسل نبي الله صلى الله عليه و سلم إلى اليهود فدخلوا عليه فقال لهم : [ يا معشر اليهود ويلكم اتقوا الله فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا و أني جئتكم بحق فأسلموا ] قالوا : ما نعلمه قالوا : [ ذلك ] للنبي صلى الله عليه و سلم قالها ثلاث مرار قال : [ فأي رجل فيكم عبد الله بن رستم ؟ ]
قالوا : ذاك سيدنا و ابن سيدنا و أعلمنا و ابن أعلمنا قال : [ أفرأيتم إن أسلم ؟ ] قالوا : حاش لله ما كان ليسلم
قال : [ يا بن سلام اخرج عليهم ]
فخرج فقال : يا معشر يهود اتقوا الله فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله و أنه حاء بالحق فقالوا : كذبت فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا لفظه
و في رواية : فلما خرج عليهم شهد شهادة الحق قالوا شرنا و ابن شرنا و تنقصوه فقال : يا رسول الله هذا الذي كنت أخاف
و قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا الأصم حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني حدثنا عبد الله بن أبي بكر حدثنا حميد عن أنس قال : سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي صلى الله عليه و سلم و هو في أرض له فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة ؟ و ما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ و ما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه قال : [ أخبرني بهن جبريل آنفا ] قال : جبريل قال : [ نعم ] قال : عدو اليهود من الملائكة ثم قرأ : { من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله }
قال : [ أما أول أشراط الساعة فنار تخرج على الناس من المشرق تسوقهم إلى المغرب و أما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت و أما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد و إذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد ]
فقال أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله يا رسول الله إن اليهود قوم بهت و إنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني فجاءت اليهود فقال : [ أي رجل عبد الله فيكم ؟ ] قالوا : خيرنا و ابن خيرنا و سيدنا و ابن سيدنا قال : [ أرأيتم إن أسلم ؟ ] قالوا : أعاذه الله من ذلك
فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمد رسول الله قالوا شرنا و ابن شرنا و انتقصوه
قال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله و رواه البخاري عن عبد بن حميد عن عبد الله بن أبي بكر به و رواه عن حامد بن عمر عن بشر بن المفضل عن حميد به قال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر عن يحيى بن عبد الله عن رجل من آل عبد الله بن سلام قال : كان من حديث عبد الله بن سلام حين أسلم و كان حبرا عالما قال : لما سمعت برسول الله و عرفت صفته و اسمه و هيئته و [ زمانه ] الذي كنا نتوكف له فكنت بقباء مسرا بذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فلما قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه و أنا في رأس نخلة لي أعمل فيها و عمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة
فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه و سلم كبرت فقالت عمتي حين سمعت تكبيري : لوكنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت
قال : قلت لها : أي عمة و الله هو أخو موسى بن عمران و على دينه بعث بما بعث به
قال : فقلت له : يا ابن أخي أهو الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة ؟ قال : قلت لها نعم قالت : فذاك إذا
قال فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا و كتمت إسلامي من اليهود و قلت : يا رسول الله إن اليهود قوم بهت و إني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك فتغيبني عنهم ثم تسألهم عني فيخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إن يعلموا بذلك بهتوني و عابوني و ذكر نحو ما تقدم
قال : فأظهرت إسلامي و إسلام أهل بيتي و أسلمت عمتي خالدة بنت الحارث
و قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر حدثني محدث عن صفية بنت حيي قالت : لم يكن أحد من ولد أبي و عمي أحب إليهما مني لم ألقهما في ولد قط أهش إليهما إلا أخذاني دونه فلما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم قباء قرية بني عمرو بن عوف غدا إليه أبي و عمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين فو الله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس فجاءانا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان الهويتي فهششت إليهما كما كنت أصنع فو الله ما نظر إلي واحد منهما فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي : أهو هو ؟ قال : نعم و الله قال : تعرفه بنعمته و صفته ؟ قال : نعم و الله قال : فماذا في نفسك منه ؟ قال : عداوته و الله ما بقيت ! و ذكر موسى بن عقبة عن الزهري أن أبا ياسر بن أخطب حين قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة ذهب إليه و سمع منه و حادثه ثم رجع إلى قومه فقال : يا قوم أطيعون فإن الله قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون فاتبعوه و لاتخالفوه فانطلق أخوه حيي بن أخطب و هو يومئذ سيد اليهود و هما من بني النضير فجلس إلى رسول الله و سمع منه ثم رجع إلى قومه و كان فيهم مطاعا فقال : أتيت من عند رجل و الله لا أزال له عدوا أبدا فقال له أخوه أبو ياسر : يا ابن أم أطعني في هذا الأمر و اعصني فيما شئت بعده لا تهلك
قال : لا و الله لا أطيعك أبدا و استحوذ عليه الشيطان و اتبعه قومه على رأيه
قلت : أما أبو ياسر و اسمه حيي بن أخطب فلا أدري ما آل إليه أمره و أما حيي ابن أخطب والد صفية بنت حيي فشرب عداوة النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه و لم يزل ذلك دأبه لعنه الله حتى قتل صبرا بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم قتل مقاتلة بني قريظة كما سيأتي إن شاء الله (2/294)
و لما ارتحل عليه السلام من قباء و هو راكب ناقته القصواء و ذلك يوم الجمعة أدركه وقت الزوال وهو في دار بني سالم بن عوف فصلى بالمسلمين الجمعة هنالك في واد يقال له وادي رانواناء
فكانت أول جمعة صلاها رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمسلمين بالمدينة أو مطلقا لأنه و الله أعلم لم يكن يتمكن هو و أصحابه بمكة من الاجتماع حتى يقيموا بها جمعة ذات خطبة و إعلان بموعظة و ما ذاك إلا لشدة مخالفة المشركين له و أذيتهم إياه (2/299)
قال ابن جرير : [ حدثني يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي أنه بلغه عن خطبة النبي صلى الله عليه و سلم في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عمرو بن عوف رضي الله عنهم : الحمد لله أحمده و أستعينه و أستغفره و أشهديه و أومن به و لا أكفره و أعادي من يكفره و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله أرسله بالهدى و دين الحق و النور و الموعظة على فترة من الرسل و قلة من العلم و ضلالة من الناس و انقطاع من الزمان : و دنوا من الساعة وقرب من الأجل
من يطع الله و رسوله فقد رشد و من يعصهما فقد غوى و فرط و ضل ضلالا بعيدا
و أوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصي به المسلم المسلم أن يحضنه على الآخرة و إن يأمره بتقوى الله فاحذروا ما حذركم الله من نفسه و لا أفضل من ذلك نصيحة و لا أفضل من ذلك ذكرى و إنه تقوى لمن عمل به على وجل و مخافة و عون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة
و من يصلح الذي بينه و بين الله من أمر السر و العلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره و ذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم و ما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه و بينه أمدا بعيدا و يحذركم الله نفسه و الله رؤوف بالعباد
و الذي صدق قولا و أنجز وعده لا خلف لذلك فإنه يقول تعالى : { ما يبدل القول لدي و ما أنا بظلام للعبيد }
و اتقوا الله في عاجل أمركم و آجله في السر و العلانية فإنه { من يتق الله يكفر عنه سيئاته و يعظم له أجرا }
{ و من يتق الله فقد فاز فوزا عظيما } و إن تقوى الله توقي مقته و توقي عقوبته و توقي سخطه و إن تقوى الله تبيض الوجه و ترضي الرب و ترفع الدرجة
خذوا بحظكم و لا تفرطوا في جنب الله قد علمكم الله كتابه و نهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا و ليعلم الكاذبين فأحسنوا كما أحسن الله إليكم و عادوا أعداءه و جاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم و سماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة و يحيا من حي عن بينة و لا قوة إلا بالله فأنه أصلح ما بينه و بين الله ما بينه و بين الناس ذلك بأن الله يقضي على الناس و لا يقضون عليه و يملك من الناس و لا يملكون منه الله أكبر و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ]
هكذا وردها ابن جرير و في السند إرسال (2/299)
و قال البيهقي : باب أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قدم المدينة :
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس الأصم حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق [ حدثني المغيرة بن عثمان بن محمد بن عثمان و الأحنس بن شريق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال : كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة أن قام فيهم فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد أيها الناس فقدموا لأنفسكم تلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ثم ليقولن له ربه ليس له ترجمان و لا حاجب يحجبه دونه : ألم يأتك رسولي فبلغك و آتيتك مالا و أفضلت عليك فما قدمت لنفسك ؟ فينظر يمينا و شمالا فلا يرى شيئا ثم ينظر قدامه فلا يرى غير جهنم فمن استطاع أن يقى وجه من النار و لو بشق تمرة فليفعل و من لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف و السلام على رسول الله و رحمة الله و بركاته ]
ثم خطب رسول الله صلى الله عليه و سلم مرة أخرى فقال [ إن الحمد لله أحمده و أستعينه نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إن أحسن الحديث كتاب الله قد أفلح من زينه الله في قلبه و أدخله في الإسلام بعد الكفر و اختاره على ماسواه من أحاديث الناس إنه أحسن الحديث و أبلغه أحبوا من أحب الله أحبوا الله من كل قلوبكم و لا تملوا كلام الله و ذكره و لا تقسى عنه قلوبكم فإنه من كل مايخلق الله يختار الله و يصطفى فقد سماه خيرته من الأعمال و خيرته من العباد و الصالح من الحديث و من كل ما أوتي الناس من الحلال و الحرام فاعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا و اتقوه حق تقاته و اصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم و تحابوا بروح الله بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ]
و هذه الطرق أيضا مرسلة إلا أنها مقوية لما قبلها و أن اختلفت الألفاظ (2/301)
في بناء مسجده الشريف في مدة مقامه عليه السلام بدار أبي أيوب رضي الله عنه
و قد اختلف في مدة مقامه بها فقال الواقدي : سبعة أشهر و قال غيره أقل من شهر و الله أعلم قال البخاري : حدثنا إسحاق بن منصور أخبرنا عبد الصمد قال سمعت أبي يحدث فقال حدثنا أبو التياح يزيد بن حميد الضبي حدثنا أنس بن مالك قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة نزل في علو المدينة في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملأ بني النجار فجاءوا متقلدي سيوفهم قال : و كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم على راحلته و أبو بكر ردفه و ملأ بني النجار حوله حتى ألقى بفناء أبي أيوب
قال : فكان يصلي حيث أدركته الصلاة و يصلي في مرابض الغنم
قال : ثم إنه أمر ببناء المسجد فأرسل إلى ملأ بني النجار فجاءوا فقال : يابني النجار ثامنوني بحائطكم هذا فقالوا : لا و الله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله عز و جل قال : فكان فيه ما أقول لكم : كانت فيه قبور المشركين و كانت فيه خرب و كان فيه نخل فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقبور المشركين فنبشت و بالخرب فسويت و بالنخل فقطع
قال : فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه حجارة قال : فجعلوا ينقلون ذلك الصخر و هم يرتجزون و رسول الله صلى الله عليه و سلم معهم يقول [ اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار و المهاجرة ] و قد رواه البخاري في مواضع أخر و مسلم من حديث أبي عبد الصمد و عبد الوارث ابن سعيد
و قد تقدم في صحيح البخاري عن الزهري عن عروة أن المسجد الذي كان مربدا
ـ و هو بيدر التمر ـ ليتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة و هما سهل و سهيل فساومهما فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله فأبى حتى ابتاعه منهما و بناه مسجدا
قال : و جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول و هو ينقل معهم التراب :
[ ( هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر ربنا و أطهر )
و يقول :
( لا هم إن الأجر أجر الآخره ... فارحم الأنصار و المهاجره ) ]
و ذكر موسى بن عقبة أن أسعد بن زرارة عوضهما منه نخلا له في بياضة قال : و قيل ابتاعه منهما رسول الله صلى الله عليه و سلم
قلت : و ذكر محمد بن إسحاق أن المربد كان لغلامين يتيمين في حجر معاذ بن عفراء و هما سهل و سهيل ابنا عمرو فالله أعلم و روى البيهقي من طريق أبى بكر بن أبي الدنيا حدثنا الحسن بن حماد الضبي حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن قال : لما بنى رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد أعانه عليه أصحابه و هو معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره فقال : [ ابنوه عريشا كعريش موسى ] فقلت للحسن : ما عريش موسى ؟ قال : إذا رفع يديه بلغ العريش يعني السقف
و هذا مرسل و روى من حديث حماد بن سلمة عن أبي سنان عن يعلي بن شداد بن أوس عن عبادة أن الأنصار جمعوا مالا فأتوا به النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله ابن هذا المسجد و زينه إلى متى نصلي تحت هذا الجريد ؟ فقال : [ مابي رغبة عن أخي موسى عريش كعريش موسى ]
و هذا حديث غريب من هذا الوجه
و قال أبو داود : حدثنا محمد بن حاتم حدثنا عبد الله بن موسى عن سنان عن فراس عن عطية العوفي عن ابن عمر أن مسجد النبي صلى الله عليه و سلم كانت سواريه على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم من جذوع النخل أعلاه مظلل بجريد النخل ثم إنها تخربت في خلافة أبي بكر فبناها بجذوع و بجريد النخل ثم إنها تخربت في خلافة عثمان فبناها بالآجر فما زالت ثابتة حتى الآن
و هذا غريب
و قد قال أبو داود أيضا : حدثنا مجاهد بن موسى حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثني أبي عن أبي صالح حدثنا نافع عن ابن عمر أخبره أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم مبنيا باللبن و سقفه الجريد و عمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا و زاد فيه عمر و بناه على بنائه في عهد النبي صلى الله عليه و سلم باللبن و الجريد و أعاد عمده خشبا و غيره عثمان رضي الله عنه و زاد فيه زيادة كثيرة و بنى جداره بالحجارة المنقوشة و الفصة و جعل عمده من حجارة منقوشة و سقفه بالساج
و هكذا رواه البخاري عن عي بن المديني عن يعقوب بن إبراهيم به
قلت : زاده عثمان بن عفان رضي الله عنه متأولا قوله صلى الله عليه و سلم : [ من بنى لله مسجدا و لو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ]
و وافقه الصحابة الموجودين على ذلك و لم يغيروه بعده فيستدل بذلك على الراجح من قول العلماء أن حكم الزيادة حكم المزيد فتدخل الزيادة في حكم سائر المسجد من تضعيف الصلاة فيه و شد الرحال إليه
و قد زيد في زمان الوليد بن عبد الملك باني جامع دمشق زاده له بأمره عمر بن عبد الغزيز حين كان نائبه على المدينة و أدخل الحجرة النبوية فيه ثم زيد زيادة كثيرة فيما بعد و زيد من جهة القبلة حتى صارت الروضة و المنبر بعد الصفوف المقدمة كما هو المشاهد اليوم (2/302)
قال ابن إسحاق : و نزل رسول الله على أبي أيوب حتى بني مسجده و مساكنه و عمل فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم ليرغب المسلمين في العمل فيه فعمل فيه المهاجرون و الأنصار و دأبوا فيه فقال قائل من المسلمين :
( لئن قعدنا و النبي يعمل ... لذلك منا العمل المضلل )
و ارتجز المسلمون و هم يبنونه يقولون :
( لا عيش إلا عيش الآخرة ... اللهم ارحم الأنصار و المهاجره )
فيقول رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا عيش إلا عيش الآخرة اللهم ارحم المهاجرين و الأنصار ] (2/306)
قال : فدخل عمار بن ياسر و قد أثقلوا باللبن فقال : يا رسول الله قتلوني يحملون على ما لا يحملون
قالت : أم سلمة فرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ينفض و فرته بيده و كان رجلا جعدا و هو يقول : ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك إنما تقتلك الفئة الباغية
و هذا منقطع من هذا الوجه بل هو معضل بين محمد بن إسحاق و بين أم سلمة و قد وصله مسلم في صحيحه من حديث شعبة [ عن خالد الحذاء عن سعيد و الحسن يعني ابني أبي الحسن البصري عن أمهما خيرة مولاة أم سلمة عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تقتل عمارا الفئة الباغية ] و رواه من [ حديث ابن علية عن ابن عون عن الحسن عن أمه عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمار و هو ينقل الحجارة : ويح لك يا ابن سمية ! تقتلك الفئة الباغية ]
و قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الحسن يحدث عن أمه عن أم سلمة قالت : لما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه يبنون المسجد جعل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يحمل كل واحد لبنة لبنة و عمار يحمل لبنتين لبنة عنه و لبنة عن النبي صلى الله عليه و سلم فمسح ظهره و قال : [ ابن سمية للناس أجر و لك أجران و آخر زادك شربه من لبنة و تقتلك الفئة الباغية ]
و هذا اسناد على شرط الصحيحين
و قد ورد البيهقي و غيره من طريق جماعة عن خالد الحذاء عن عكرمة عن أبي سعيد الخدري قال : كنا نحمل في بناء المسجد لبنة لبنة و عمار يحمل لبنتين لبنتين
فرأه النبي صلى الله عليه و سلم فجعل ينفض التراب عنه و يقول : [ ويح عمار ! تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة و يدعوهم إلى النار ] قال يقول عمار : أعوذ بالله من الفتن
لكن روى هذا الحديث الإمام البخاري [ عن مسدد عن عبد العزيز بن المختار إن خالد الحذاء و عن إبراهيم بن موسى عن عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء به إلا أنه لم يذكر قوله : تقتلك الفئة الباغية ]
قال البيهقي و كأنه إنما تركها لما رواه مسلم من طريق [ عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمار حين جعل يحفر الخندق جعل يمسح رأسه و يقول : بؤس ابن سمية ! تقتله فئة باغية ]
و قد رواه مسلم أيضا من [ حديث شعبة عن أبي مسلم عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : حدثني من هو خير مني أبو قتادة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعمار بن ياسر بؤسا لك يا بن سمية تقتلك الفئة الباغية ]
و قال أبو داود الطيالسي : [ حدثنا وهيب عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما حفر الخندق كان الناس يحملون لبنة لبنة و عمار ناقة من وجع اكن به فجعل يحمل لبنتين لبنتين قال أبو سعيد : فحدثني بعض أصحابي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ينفض التراب عن رأسه و يقول : و يحك ابن سمية تقتلك الفئة الباغية ]
قال البيهقي : فقد فرق بين ما سمعه بنفسه و ما سمعه من أصحابه قال : و يشبه أن يكون قوله : ( الخندق ) و هما أو أنه قال له ذلك في بناء المسجد و في حفر الخندق و الله أعلم
قلت حمل اللبن في حفر الخندق لا معنى له و الظاهر أنه اشتبه على الناقل و الله أعلم
و هذا الحديث من دلائل النبوة حيث أخبر صلوات الله و سلامه عليه من عمار أنه تقتله الفئة الباغية
و قد قتله أهل الشام في وقعة صفين و عمار مع علي و أهل العراق
و قد كان على أحق بالأمر من معاوية و لا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة و غيرهم لأنهم و إن كانوا بغاة في نفس الأمر فإنهم كانوا مجهدين فيما تعاطوه من القتال و ليس كل مصيبا بل المصيب له أجران و المخطئ له أجر
و من في هذا الحديث بعد : [ قتلتك الفئة الباغية ] : [ لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة ] فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه لم يقلها إذ لم تنقل من طريق تقبل و الله أعلم و أما قوله : [ يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار ] فإن عمارا و أصحابه يدعون أهل الشام إلى الإلفة و اجتماع الكلمة و أهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به و أن يكون الناس أوزاعا على كل قطر إمام برأسه و هذا يؤدي إلى افترق الكلمة و اختلاف الأمة فهو لازم مذهبهم و ناشئ عن مسلكهم و إن كانوا لا يقصدونه و الله أعلم
و المقصود ها هنا إنما هو قصة بناء المسجد النبوي على بانية أفضل الصلاة و التسليم (2/306)
و قد قال الحافظ البيهقي في الدلائل : [ حدثنا أبو عبد الله الحافظ إملاء حدثنا أبو بكر بن إسحاق أخبرنا عبيد بن شريك حدثنا نعيم حماد حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا حشرج بن نباته عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولي رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : جاء أبو بكر بحجر فوضعه ثم جاء بحجر فوضعه ثم جاء عثمان بحجر فوضعه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : هؤلاء ولاة الأمر بعدي ]
ثم رواه من [ حديث يحيى بن عبد الحميد الحماني عن حشرج عن سعيد عن سفينة قال : لما بنى رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد وضع حجرا ثم قال ليضع أبو بكر حجرا إلى جنب حجري ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر ثم ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر ] فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هؤلاء الخلفاء من بعدي ]
و هذا الحديث بهذا السياق غريب جدا
و المعروف ما رواه الإمام أحمد [ عن أبي النضر عن حشرج بن نباته العبسي و عن بهز و زيد بن الحباب و عبد الصمد و حماد بن سلمة كلاهما عن سعيد بن جهمان عن سفينة قال سمعت رسول الله يقول : الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون من بعد ذلك الملك ] ثم قال سفينة : أمسك خلافة أبي بكر سنتين و خلافة عمر عشر سنين و خلافة عثمان اثنتا عشرة سنة و خلافة على ست سنين
هذا لفظ الإمام أحمد
و رواه أبو داود و الترمذي و النسائي من طرق [ عن سعيد بن جمهان و قال الترمذي حسن لا نعرفه إلا من حديثه و لفظه الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا عضوضا ] و ذكر بقيته
قلت : و لم في المسجد النبي صلى الله عليه و سلم أول ما بني منبر يخطب الناس عليه بل كان النبي صلى الله عليه و سلم يخطب و هو مستند إلى جذع عند مصلاه في الحائط القبلي فلما اتخذ له عليه السلام المنبر كما سيأتي بيانه في موضعه و عدل إليه ليخطب عليه فلما جاوز ذلك الجذع خار ذلك الجذع و حن حنين النوق العشار لما كان يسمع من خطب الرسول عليه السلام عنده فرجع إليه النبي صلى الله عليه و سلم فاحتضنه حتى سكن كما يسكن المولود الذي يسكت كما سيأتي تفصيل ذلك من طرق عن سهل بن سعد الساعدي و جابر و عبد الله بن عمر و عبد الله بن عباس و أنس بن مالك و أم سلمة رضي الله عنهم
و أما ما قال الحسن البصري بعد ما روى هذا الحديث عن أنس بن مالك : يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم شوقا إليه أو ليس الرجال الذين يرجون لقاءه أحق أن يشتاقوا إليه ؟ ! (2/309)
قال الإمام أحمد : [ حدثنا يحيى بن أنيس بن أبي يحيى حدثني أبي قال : سمعت أبا سعيد الخدري قال : اختلف رجلان رجل من بني خدرة و رجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى فقال الخدري : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال العمري : هو مسجد فباء فأتيا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألاه عن ذلك فقال : هو هذا المسجد ] لمسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال : [ في ذلك خير كثير ] يعني مسجد قباء
و رواه الترمذي عن قتيبة عن حاتم بن إسماعيل عن أنيس بن أبي يحيى الأسلمي به و قال : حسن صحيح و روى الإمام أحمد عن إسحاق بن عيسى عن الليث بن سعد و الترمذي و النسائي جميعا عن قتيبة عن الليث عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى و ذكر نحو ما تقدم
و في صحيح مسلم من [ حديث حميد الخراط عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عبد الرحمن ابن أبي سعيد كيف سمعت أباك في المسجد الذي أسس على التقوى ؟ قال أبي : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألته عن المسجد الذي أسس على التقوى فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض ثم قال : هو مسجدكم هذا ]
و قال الإمام أحمد : [ حدثنا وكيع حدثنا ربيعة بن عثمان التميمي عن عمران بن أبي أنس عن سهل بن سعد قال : اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال الآخر : هو مسجد قباء فأتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألاه فقال : هو مسجدي هذا ]
و قال الإمام أحمد [ حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي عن عمران بن أبي أنس عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا ]
فهذه طرق متعددة لعلها تقرب من إفادة القطع بأنه مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم
و إلى هذا ذهب عمر و ابنه عبد الله و زيد بن ثابت و سعيد بن المسيب و اختاره ابن جرير
و قال آخرون : لا منافاة بين نزول الآية في مسجد قباء كما تقدم بيانه و بين هذه الأحاديث لأن في المسجد أولى بهذه الصفة من ذلك لأن هذا أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها كما ثبت في الصحيحين من [ حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا و المسجد الحرام و مسجد بيت المقدس ]
و في صحيح مسلم [ عن أبي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ] و ذكرها
و ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ]
وفي مسند أحمد بإسناد حسن زياد حسنة و هي قوله ( فإن ذلك أفضل )
و في الصحيحين من [ حديث يحيى القطان عن حبيب عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما بين بيتي و منبري روضة من رياض الجنة و منبري على حوضي ]
و الأحاديث في فضائل هذا المسجد الشريف كثيرة جدا و سنوردها في كتاب المناسك من كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله و به الثقة و عليه التكلان و لا حول و لا قوة إلا بالله العزيز الحكيم
و قد ذهب الإمام مالك و أصحابه إلى أن مسجد المدينة أفضل من المسجد الحرام لأن ذاك بناه إبراهيم و هذا بناه محمدا صلى الله عليه و سلم و معلوم أن محمدا صلى الله علليه و سلم أفضل من إبراهيم عليه السلام
و قد ذهب الجمهور إلى خلاف ذلك و قرروا أن المسجد الحرام أفضل لأنه في بلد حرمه الله يوم حلق السموات و الأرض و حرمه إبراهيم الخليل عليه السلام و محمد خاتم المرسلين فاجتمع فيه من الصفات ما ليس في غيره و بسط هذه المسألة موضع آخر و بالله المستعان (2/311)
و بنى لرسول الله صلى الله عليه و سلم حول مسجده الشريف حجرا لتكون مساكن له و لأهله و كانت مساكن قصيرة البناء قريبة الفناء
قال الحسن بن أبي الحسن البصري و كان غلاما مع أمه خيرة مولاة أم سلمة لقد كنت أنال أطول سقف في حجرة النبي صلى الله عليه و سلم بيدي
قلت : إلا أنه قد كان الحسن البصري شكلا ضخما طوالا رحمه الله و قال السهيلي في الروض : كانت مساكنه عليه السلام مبنية من جريد
و قد حكى عن الحسن البصري ما تقدم
و كانت حجرة من شعر مربوطة بخشب من عرعر
قال : و في تاريخ البخاري أن بابه عليه السلام كان يقرع بالأظافر فدل على أنه لم يكن لأبوابه حلق
قال : و قد أضيفت الحجر كلها بعد موت أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المسجد (2/313)
قال الواقدي و ابن جرير و غيرهما : و لما رجع عبد الله بن أريقط الدبلي إلى مكة بعث معه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر زيد بن حارثة و أبا رافع موليا رسول الله صلى الله عليه و سلم ليأتوا بأهاليهم من مكة و بعثنا معهم بحملين و خمسمائة درهم ليشتروا بها إبلا من قديد فذهبوا فجاءوا ببنتي النبي صلى الله عليه و سلم فاطمة و أم كلثوم و زوجته سودة و عائشة و أمها أم رومان و أهل النبي صلى الله عليه و سلم و آل أبي بكر صحبة عبد الله بن أبي بكر و قد شرد بعائشة و أمها أم رومان الجمل في أثناء الطريق فجعلت أم رومان تقول : و اعروساه و ابنتاه قالت عائشة : فسمعت قائلا يقول : رسلي خطامه فأرسلت خطامه فوقف بإذن الله و سلمنا الله عز و جل
فتقدموا فنزلوا بالسنح ثم دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم بعائشة في شوال بعد ثمانية أشهر كما سيأتي
و قدمت معهم أسماء بنت أبي بكر امرأة الزبير بن العوام و هي حامل متم بعبد الله ابن الزبير كما سيأتي بيانه في موضعه من آخر هذه السنة (2/314)
فيما أصاب المهاجرين من حمى المدينة رضي الله عنهم أجمعين و قد سلم الرسول منها بحول الله و قوته و دعا ربه فأزاحها الله عن مدينته
قال البخاري : حدثنا عبد الله بن وهب بن يوسف حدثنا مالك بن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وعك أبو بكر و بلال قالت فدخلت عليهما فقلت : يا أبت كيف تجدك ؟ و يا بلال كيف تجدك ؟ قالت و كان أبو بكر إذا أخذته الحمى بقول :
( كل امرئ مصبح في أهله ... و الموت أدنى من شراك نعله )
و كان بلال إذا أقلع عنه الحمى يرفع عقيرته و يقول :
( ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد و حولي إذخر و جليل )
( و هل أردن يوما مياه مجنة ... و هل يبدون لي شامة و طفيل )
قالت عائشة : فجئت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته فقال : [ اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد و صححها و بارك لنا في صاعها و مدها و انقل حماها فاجعلها بالجحفة ]
و رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن هشام مختصرا و في رواية البخاري له عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة فذكره و زاد بعد شعر بلال ثم يقول : اللهم العن عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة و أمية بن خلف كما أخر جونا إلى أرض الوباء
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الله حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد اللهم بارك لنا في صاعها و في مدها و صححها لنا و انقل حماها إلى الجحفة ]
قالت : و قدمنا المدينة و هي أوبأ أرض الله و كان بطحان يجري نجلا يعني ماء آجنا
و قال زياد عن محمد بن إسحاق : حدثني هشام بن عروة و عمر بن عبد الله بن عروة ابن الزبير عن عائشة قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى فأصاب أصحابه منها بلاء و سقم و صرف الله ذلك عن نبيه قالت : فكان أبو بكر و عامر بن فهيرة و بلال موليا أبي بكر في بيت واحد فأصابتهم الحمى فدخلت عليهم أدعوهم و ذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب و بهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك فدنوت من أبي بكر فقلت : كيف تجدك يا أبت ؟ فقال :
( كل امرئ مصبح في أهله ... و الموت أدنى من شراك نعله )
قالت : فقلت : و الله ما يدري أبي ما يقول قالت : ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة فقلت : كيف تجدك يا عامر ؟ قال :
( لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه )
( كل امرئ مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي جلده بروقه )
قال : فقلت : و الله ما يدري ما يقول قالت : و كان بلال إذا أدركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال :
( ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفخ و حولي إذخر و جليل )
( و هل أردن يوما مياه مجنة ... و هل يبدون لي شامة و طفيل )
قالت عائشة : فذكرت لرسول الله صلى الله عليه و سلم ما سمعت منهم و قلت : [ إنهم ليهذون و ما يعقلون من شدة الحمى كما حببت إلينا مكة أو أشد و بارك لنا في مدها و صاعها و انقل وباءها إلى مهيعة ] و مهيعة هي الجحفة
و قال الإمام أحمد : حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي بكر بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن عروة عن عروة عن عائشة قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة اشتكى أبو بكر و عامر بن فهيرة مولى أبي بكر و بلال فاستأذنت عائشة رسول الله صلى الله عليه و سلم في عيادتهم فأذن لها فقالت لأبي بكر : كيف تجدك ؟ فقال :
( كل امرئ مصبح في أهله ... و الموت أدنى من شراك نعله )
و سألت عامرا فقال :
( إني وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه )
و سألت بلالا فقال :
( يا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفخ و حولي إذخر و جليل )
فأتت رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ فأخبرته فنظر إلى السماء و قال : [ اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد اللهم بارك لنا في صاعها و في مدها و انقل وباءها إلى مهيعة ] و هي الجحفة فيما زعموا
و كذا رواه النسائي عن قتيبة عن الليث به و رواه الإمام أحمد من طريق عبد الرحمن ابن الحارث عنها مثله و قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ و أبو سعيد بن أبي عمرو قالا : حدثنا
أبو العباس الأصم حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و هي أوبأ أرض الله و واديها بطحان نخل قال هشام : و كان وباؤها معروفا في الجاهلية و كان إذا كان الوادي وبيئا فأشرف عليها الإنسان قيل له أن ينهق الحمار فإذا فعل ذلك لم يضره و باء ذلك الوادي و قد قال الشاعر حين أشرف على المدينة :
( لعمري لئن عبرت من خيفة الردى ... نهيق الحمار إنني لجزوع )
و روى البخاري من حديث موسى بن عقبة [ عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة و هي الجحفة فأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة و هي الجحفة ]
هذا لفظ البخاري و لم يخرجه مسلم و رواه الترمذي و صححه و النسائي و ابن ماجه من حديث موسى بن عقبة
و قد روى حماد بن زيد [ عن هشام بن عروة عن عائشة قالت : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و هي و بيئة فذكر الحديث بطوله إلى قوله : و انقل حماها إلى الجحفة ]
قال هشام : فكان المولود يولد بالجحفة فلا يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى و رواه البيهقي في دلائل النبوة
و قال يونس عن ابن إسحاق : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و هي و بيئة فأصاب أصحابه بها بلاء و سقم حتى أجهدهم ذلك و صرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه و سلم
و ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه صبيحة رابعة يعني مكة عام عمرة القضاء فقال المشركون : إنه يقدم عليكم وفد قد وهنهم حمى يثرب فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يرملوا و أن يمشوا ما بين الركنين و لم يمنعه أن يرملوا الأشواط إلا الإبقاء عليهم
قلت : و عمرة القضاء كانت في سنة سبع في ذي العقدة فإما أن يكون تأخر دعاؤه عليه السلام بنقل الوباء إلى قريب من ذلك أو أنه رفع و بقي آثار منه قليل أو أنهم بقوا في خمار ما كان أصابهم من ذلك إلى تلك المدة و الله أعلم و قال زياد عن ابن إسحاق : و ذكر ابن شهاب الزهري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما قدم المدينة هو و أصحابه أصابتهم حمى المدينة حتى جهدو مرضا و صرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه و سلم حتى كانوا و ما يصلون إلا و هم قعود
قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و هم يصلون كذلك فقال لهم : [ اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم ] فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف و السقم التماس الفضل ! (2/315)
في عقدة عليه السلام الألفة بين المهاجرين و الأنصار بالكتاب الذي أمر به فكتب بينهم و المؤاخاة التي أمرهم بها و قررهم عليها و موادعته اليهود الذين كانوا بالمدينة و كان بها من أحياء اليهود بنو قينقاع و بنو النضير و بنو قريظة
و كان نزولهم بالحجاز قبل الأنصار أيام تختنصر حين دوخ بلاد المقدس فيما ذكره الطبري
ثم لما كان سيل العرم و تفرقت شذر مذز نزل الأوس و الخزرج المدينة عند اليهود فحالفوهم و صاروا يتشبهون بهم لما يرون لهم عليهم من الفضل في العلم المأثور عن الأنبياء
لكن من الله على هؤلاء الذين كانوا مشركين بالهدى و الإسلام و خذل أولئك لحسدهم و بغيهم و استكبارهم عن اتباع الحق
و قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا عاصم الأحول عن أنس بن مالك قال : حالف رسول الله صلى الله عليه و سلم بين المهاجرين و الأنصار في دار أنس بن مالك (2/319)
و قد رواه الإمام أحمد أيضا و البخاري و مسلم و أبو داود من طرق متعددة عن عاصم بن سليمان الأحول عن أنس بن مالك قال : حالف رسول الله صلى الله عليه و سلم بين قريش و الأنصار في داري و قال الإمام أحمد : حدثنا نصر بن باب عن حجاج هو ابن أرطاة قال : و حدثنا سريج حدثنا عباد عن حجاج عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب كتابا بين المهاجرين و الأنصار أن يعلقوا معاقلهم و أن يفدوا عانيهم بالمعروف و الإصلاح بين المسلمين
قال أحمد : حدثنا سريج حدثنا عباد عن حجاج عن الحكم عن قاسم عن ابن عباس مثله
تفرد به الإمام أحمد
و في صحيح مسلم عن جابر : كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم على بطن عقولة و قال محمد بن إسحاق : كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا بين المهاجرين و الأنصار و ادع فيه اليهود و عاهدهم و أقرهم على دينهم و أموالهم و اشترط عليهم و شرط لهم : بسم الله الرحمن الرحيم [ هذا كتاب من محمد النبي الأمي بين المؤمنين و المسلمين من قريش و يثرب و من تبعهم فلحق بهم و جاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم و هم يفدون عانيهم بالمعروف و القسط بين المؤمنين
ثم ذكر كل بطن من بطون الأنصار و أهل كل دار : بني ساعدة و بني جشم و بني النجار و بني عمرو بن عوف و بني النبيت
إلى أن قال : و إن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء ( أ ) و عقل و لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه و إن المؤمنين المتقين على من بغي منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين و إن أيديهم عليه جميعهم و لو كان ولد أحدهم و لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر و لا ينصر كافرا على مؤمن و إن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم و إن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس
و إنه من تبعنا من يهود فإن له النصر و الأسوة غير مظلومين و لا متناصر عليهم و إن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن من دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء و عدل بينهم و إن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا
و إن المؤمنين يئ بعضهم بعضا بما نال دماءهم في سبيل الله و إن المؤمنين المتقين على أحسن هدى و أقومه و إنه يجير مشرك مالا لقريش و لا نفسا و لا يحول دونه على مؤمن و إنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينه فإنه قود به إلى أن يرضى و لي المقتول و إن المؤمنين عليه كافة و لا يحل لهم إلا قيام عليه
و إنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة و آمن بالله و اليوم الآخر أن ينصر محمدنا و لا يؤويه و إنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله و غضبة يوم القيامة و لا يؤخذ منه صرف و لا عدل و إنكم منها اختلفتم فيه من شئ فإنه مرده إلى الله عز و جل و إلى محمد صلى الله عليه و سلم
و إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين و إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم و للمسلمين دينهم مواليهم و أنفسهم إلا من ظلم و أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه و أهل بيته
و إن ليهود بني النجار و بني الحارث و بني ساعدة و بني جشم و بني الأوس و بني ثعلبة و جفنة و بني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف و إن بطانة يهود كأنفسهم و إنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد و لا ينحجز على ثأر جرح و إنه من فتك فبنفسه ( فتك و أهل بيته ) إلا من ظلم و إن الله على أبر هذا و إن على اليهود نفقتهم و على المسلمين نفقتهم و إن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة و إن بينهم النصح و النصيحة و البر دون الإثم و إنه لم يأثم اموؤ بحليفه النسائي و إن النصر للمظلوم و إن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة و إن الجار كالنفس غير مضار و لا آثم و إنه لا تجار جرمة إلا بإذن أهلها و إنه ما كان بين أهل الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله و إلى محمد رسول الله و إن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة و أبره و إنه لا تجار قريش و لا من نصرها و إن بينهم النصر على من دهم يثرب و إذا إلى صلح يصالحونه و يلبسونه فإنهم يصالحونه و إنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إ لا من حارب في الدين على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم
و إنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم و إنه من خرج آمن و من قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم و إن الله جار لمن بر و اتقى ]
كذا أورده ابن إسحاق بنحوه و قد تكلم عليه أبو عبيدة القاسم بن سلام رحمه الله في كتاب الغريب و غيره بما يطول (2/320)
في مؤاخاة النبي صلى الله عليه و سلم بين المهاجرين و الأنصار ليرتفق المهاجري بالأنصاري
كما قال تعالى : { و الذين تبوأوا الدار و الإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم و لا يجدون في صورهم حاجة مما أوتوا و يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } وقال تعالى { و الذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا }
قال البخاري : حدثنا الصلت بن محمد حدثنا أبو أسامة عن إدريس عن طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير بن ابن عباس ( و لكل جعلنا موالي ) قال : ورثة ( و الذين عاقدت أيمانكم ) كان المهاجرين لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمة للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه و سلم بينهم فلما نزلت ( و لكل جعلنا موالي ) نسخت ثم قال : ( و الذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ) من النصر و الرفادة و النصيحة و قد ذهب الميراث و يوصي له
و قال الإمام أحمد : قرئ على سفيان : سمعت عاصما عن أنس قال حالف النبي صلى الله عليه و سلم بين المهاجرين و الأنصار في دارنا قال سفيان : كأنه يقول آخى
و قال محمد بن إسحاق : و آخى رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أصحابه من المهاجرين و الأنصار فقال : ـ فيما بلغنا و نعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل ـ { تأخوا في الله أخوين أخوين }
ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال : ( هذا أخي )
فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم سيد المرسلين و إمام المتقين و رسول رب العالمين الذي ليس له خطير و لا نظير من العباد و على بن أبي طالب أخوين و كان حمزة بن عبد المطلب أسد الله و أسد رسول الله صلى الله عليه و سلم و زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم أخوين و إليه أوصى حمزة يوم أحد و جعفر بن أبي طالب ذو الجناحين و معاذ بن جبل أخوين
قال ابن هشام : كان جعفر يومئذ غائبا بأرض الحبشة
قال ابن إسحاق : و كان أبو بكر و خارجة بن زيد الخزرجي أخوين و عمر بن الخطاب و عتبان بن مالك أخوين و أبو عبيدة و سعد بن معاذ أخوين و عبد الرحمن ابن عوف و سعد بن الربيع أخوين و الزبير بن العوام و سلمة بن سلامة بن وقش أخوين و يقال : بل كان الزبير و عبد الله بن مسعودا أخوين و عثمان بن عفان و أوس بن ثابت بن المنذر النجاري أخوين و طلحة ( بن عبيد الله ) و كعب بن مالك أخوين و سعيد بن زيد و أبي بن كعب أخوين و مصعب بن عمير و أبو أيوب أخوين و أبو حذيفة ابن عتبة و عباد بن بشر أخوين و عمار و ثابت بن قيس بن شماس أخوين
قلت : و هذا السند من وجهين
قال : و أبو ذر برير بن جنادة و المنذر بن عمرو المعنق ليموت أخوين و حاطب بن أبي بلتعة و عويم بن ساعدة أخوين و سليمان و أبو الدراء أخوين و بلال و أبو رويحة عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي ثم أحد الفزع أخوين
قال : فهؤلاء من سمى لنا ممن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم آخى بينهم من أصحابه رضي الله عنهم
قلت : و في بعض ما ذكره نظر
أما مؤاخاة النبي صلى الله عليه و سلم و على فإن من العلماء من ينكر ذلك و يمنع صحته و مستنده في ذلك أن هذه المؤاخاة إنما شرعت لأجل ارتفاق بعضهم من بعض و ليتألف قلوب بعضهم على بعض فلا معنى لمؤاخاة النبي صلى الله عليه و سلم لأحد منهم و لا مهاجري لمهاجري آخر كما ذكره من مؤاخاة حمزة و زيد بن حارثة
اللهم إلا أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم لم يجعل مصلحة علي إلى غيره فإنه كان ممن ينفق عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم من صغره في حياة أبيه أبي طالب كما تقدم عن مجاهد و غيره
و كذلك يكون حمزة قد التزم بمصالح مولاهم زيد بن حارثة فآخاه بهذا الاعتبار
والله أعلم
و هكذا ذكره لمؤاخاة جعفر و معاذ بن جبل فيه نظر كما أشار إليه عبد الملك بن هشام فإن جعفر بن أبي طالب إنما قدم في فتح في أول سنة سبع كما سيأتي بيانه فكيف يؤاخى بينه و بين معاذ بن جبل أول مقدمه عليه السلام إلى المدينة ؟ اللهم إلا أن يقال إنه أرصد لأخوته إذا قدم حين يقدم
و قوله : ( و كان أبو عبيدة و سعد بن معاذ أخوين ) يخالف ما رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم آخى بين أبي عبيدة بن الجراح و بين أبي طلحة
و كذا رواه مسلم منفردا به عن حجاج بن الشاعر عن عبد الصمد بن عبد الوارث به
و هذا أصح مما ذكره ابن إسحاق من مؤاخاة أبي عبيدة و سعد بن معاذ و الله أعلم
و قال البخاري : باب كيف آخى النبي صلى الله عليه و سلم بين أصحابه و قال عبد الرحمن بن عوف : آخى النبي صلى الله عليه و سلم بيني و بين سعد بن الربيع لما قدمنا المدينة
و قال أبو جحيفة : آخى النبي صلى الله عليه و سلم بين سلمان الفارسي و أبي الدراء رضي الله عنهما
حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن حميد عن أنس قال : قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي صلى الله عليه و سلم بينه و بين سعد بن الربيع الأنصاري فعرض عليه أن يناصفه أهله و ماله فقال عبد الرحمن : بارك الله لك في أهلك و مالك دلني على السوق فربح شيئا من أقط و سمن فرآه النبي صلى الله عليه و سلم بعد أيام و عليه وضر من صفرة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ مهيم يا عبد الرحمن ؟ ] قال : يا رسول الله تزوجت امرأة من الأنصار قال : [ فما سقت فيها ؟ ] قال : وزن نواة من ذهب قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أو لم و لو بشاة ]
تفرد به من هذا الوجه و قد رواه أيضا في مواضع أخر و مسلم من طرق عن حميد به
و قال الإمام أحمد : حدثنا عفان حدثنا حماد حدثنا ثابت و حميد عن أنس أن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه و سلم بينه و بين سعد ابن الربيع الأنصاري فقال له سعد : أي أخي أنا أكثر أهل المدينة مالا فانظر شطر مالي فخذه و تحتي امرأتان فانظر أيهما أعجب إليك حتى أطلقها
فقال عبد الرحمن : بارك الله لك في أهلك و مالك دلوني على السوق فدلوه فذهب فاشترى و باع فربح فجاء بشيء من أقط و سمن ثم لبث ما شاء الله أن يلبث فجاء و عليه ودع زعفران فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مهيم ؟ ] فقال يا رسول الله تزوحت امرأة قال : [ ما أصدقها ؟ ] قال وزن نواة من ذهب قال [ أو لم و لو بشاة ]
قال عبد الرحمن : فلقد رأيتني و لو رفعت حجرا لرجوت أن أصيب ذهبا و فضة
و تعليق البخاري هذا الحديث عن عبد الرحمن بن عوف غريب فإنه لا يعرف مسندا إلا عن أنس اللهم إلا أن يكون أنس تلقاه عنه فالله أعلم
و قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد أخبرنا حميد عن أنس قال : قال المهاجرون : يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل و لا أحسن بذلا من كثير لقد كفونا المؤونة و أشركونا في المهنأ حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله
قال : [ لا ما أثنيتم عليهم و دعوتم الله لهم ]
هذا حديث ثلاثي الإسناد على شرط الصحيحين و لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه و هو ثابت في الصحيح من ( غيره )
و قال البخاري : أخبرنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قالت الأنصار : اقسم بيننا و بين إخوتنا النخيل قال : لا قالوا أفتكفوننا المؤونة و نشرككم في الثمرة قالوا : سمعنا و أطعنا تفرد به
و قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم للأنصار [ إن إخوانكم قد تركوا الأموال و
الأولاد و خرجوا إليكم ] فقالوا : أموالنا بيننا قطائع فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أو غير ذلك ؟ ] قالوا و ما ذاك يا رسول الله ؟ قال : [ هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم و تقاسمونهم الثمر ] قالوا نعم
و قد ذكرنا ما ورد من الأحاديث و الآثار في فضائل الأنصار و حسن سجاياهم عند قوله تعالى : { و الذين تبوأوا الدار و الإيمان من قبلهم } الآية (2/324)
ابن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار أحد النقباء الاثنى عشر ليلة العقبة على قومه بنى النجار و قد شهد العقبات الثلاث و كان أول من بايع رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة العقبة الثانية في قول و كان شابا و هو أول من جمع بالمدينة في نقيع الخضمات في هزم النبيت كما تقدم
قال محمد بن إسحاق : و هلك في تلك الأشهر أبو أمامة أسعد بن زرارة و المسجد يبنى أخذته الذبحة أو الشفقة و قال ابن جرير في التاريخ : أخبرنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كوى أسعد بن زرارة في الشوكة
رجاله ثقات
قال ابن إسحاق : [ حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة قال : قال بئس الميت أبو أمامة ليهود و منافقي العرب يقولون : لو كان نبيا لم يمت صاحبه و لا أملك لنفسي و لا لصاحبي من الله شيئا ] و هذا يقتضي أنه أول من مات بعد مقدم النبي صلى الله عليه و سلم و قد زعم أبو الحسن بن الأثير في الغابة أنه مات في شوال بعد مقدم النبي صلى الله عليه و سلم بسبعة أشهر فالله أعلم و ذكر محمد بن إسحاق [ عن عاصم بن عمر بن قتادة أن بني النجار سألوا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يقيم لهم نقيبا بعد أبي أمامة أسعد بن زرارة فقال : أنتم أخوالي و أنا بما فيكم و أنا نقيبكم ] و كره أن يخص بها بعضهم دون بعض فكان من فضل بني النجار الذي يعتدون به على قومهم أن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم نقيبهم
قال ابن الأثير : و هذا يرد قول أبي نعيم و ابن منده في قولهما : إن أسعد بن زرارة كان نقيبا على بني ساعدة إنما كان على بني النجار و صدق ابن الأثير فيما قال و قد قال أبو جعفر بن جرير في التاريخ : كان أول من توفي بعد مقدمه عليه الصلاة و السلام المدينة من المسلمين فيما ذكر صاحب منزله كلثوم بن الهدم لم يلبث بعد مقدمه إلا يسيرا حتى مات ثم توفي بعده أسعد بن زرارة و كانت وفاته في سنة مقدمه قبل أن يفرغ بناء المسجد بالذبحة أو الشهقة قلت : و كلثوم بن الهدم بن امرئ القيس بن الحارث بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي و هو من بني عمرو بن عوف و كان شيخا كبيرا أسلم قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و لما قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و نزل بقباء نزل في منزل هذا الليل و كان يتحدث بالنهار مع أصحابه في منزل سعد بن الربيع رضي الله عنهما إلى أن ارتحل إلى دار بني النجار كما تقدم قال ابن الأثير : و قد قيل إنه أول من مات من المسلمين بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم بعده أسعد بن زرارة ذكره الطبري (2/329)
في ميلاد عبد الله بن الزبير في شوال سنة الهجرة
فكان أول مولود ولد في الإسلام من المهاجرين كما أن النعمان بن بشير أول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة رضي الله عنهما
و قد زعم بعضهم أن الزبير ولد بعد الهجرة بعشرين شهرا قاله أبو الأسود و رواه الواقدي عن محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه عن جده
و زعموا أن النعمان ولد قبل الزبير بستة أشهر على رأس أربعة عشر شهرا من الهجرة
و الصحيح ما قدمنا فقال البخاري : حدثنا زكريا بن يحيى حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء أنها حملت بعبد الله بن الزبير قالت : فخرجت و أنا متم فأتيت المدينة فنزلت بقباء فولدته بقباء ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه و سلم فوضعه في حجره ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فمه فكان أول شئ دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم حنكه بتمرة ثم دعا له و برك عليه فكان أول مولود يولد في الإسلام تابعه خالد بن مخلد عن علي ابن مسهر عن هشام عن أبيه عن أسماء أنها هاجرة إلى النبي صلى الله عليه و سلم و هي حبلى حدثنا قتيبة عن أبي أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : أول مولود ولد في الإسلام عبد الله بن الزبير أتوا به النبي صلى الله عليه و سلم فأحذ النبي صلى الله عليه و سلم تمرة فلاكها ثم أدخلها في فيه فأول ما دخل بطنه ريق رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا حجة على الواقدي و غيره لأنه ذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث مع عبد الله بن أريقط لما رجع إلى مكة زيد بن حارثة و أبا رافع ليأتوا بعياله و عيال أبي بكر فقدموا بهم إثر هجرة النبي صلى الله عليه و سلم و أسماء حامل متم أي مقرب قد دنا وضعها لولدها فلما ولدته كبر المسلمون تكبيرة عظيمة فرحا بمولده لأنه كان قد بلغهم عن اليهود أنهم سحروهم حتى لا يولد لهم بعد هجرتهم ولد فأكذب الله اليهود فيما زعموا (2/331)
و بنى الرسول صلى الله عليه و سلم بعائشة في شوال من هذه السنة
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن إسماعيل بن أمية عن عبد الله بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : تزوجني رسول الله صلى الله عليه و سلم في شوال و بنى بي في شوال فأي نساء رسول الله صلى الله عليه و سلم كان أحظى عنده مني ؟
و كانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال
و رواه مسلم و الترمزي و النسائي و ابن ماجه من طرق عن سفيان الثوري به و قال الترمذي : حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سفيان الثوري
فعلى هذا يكون دخولها بها عليه السلام بعد الهجرة بسبعة أشهر أو ثمانية أشهر
و قد حكى القولين ابن جرير و قد تقدم في تزويجه عليه السلام بسودة كيفية تزويجه و دخوله بعائشة بعد ما قدموا المدينة و أن دخوله بها كان بالسنح نهارا و هذا خلاف ما يعتاده الناس اليوم و في دخوله عليه السلام بها في شوال رد لما يتوهمه بعض الناس من كراهية الدخول بين العيدين خشية المفارقة بين الزوجين و هذا ليس بشيء لما قالته عائشة رادة على من توهمه من الناس في ذلك الوقت : تزوجني في شوال و بن بي في شوال أي دخل بي في شوال فأي نسائه كان أحظى عنده مني ؟ فدل هذا على أنها فهمت منه عليه السلام أنها أحب نسائه إليه و هذا الفهم منها صحيح لما دل على ذلك من الدلائل الواضحة و لم يكن إلا الحديث الثابت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص : قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك ؟ قال : [ عائشة ] قلت من الرجال ؟ قال : [ أبوها ] (2/332)
قال ابن جرير : و في هذه السنة يعني السنة الأولى من الهجرة زيد في صلاة الحضر فيما قيل ركعتان و كانت صلاة الحضر و السفر ركعتين و ذلك بعد مقدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة بشهر من ربيع الآخر لمضى ثنتي عشر ليلة مضت
و قال : و زعم الواقدي أنه لا خلاف بين أهل الحجاز فيه
قلت : قد تقدم الحديث الذي رواه البخاري من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر و زيد في صلاة الحضر
و روى من طريق الشعبي عن مسروق عنها
و قد حكى البيهقي عن الحسن البصري أن صلاة الحضر أول ما فرضت فرضت أربعا و الله أعلم
و قد تكلمنا على ذلك في سورة النساء عند قوله تعالى { و إذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } (2/333)
في الأذان و مشروعية عند مقدم النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة النبوية
قال ابن إسحاق : فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة و اجتمع إليه إخوانه من المهاجرين و اجتمع أمر الأنصار استحكم أمر الإسلام فقامت الصلاة و فرضت الزكاة و الصيام و قامت الحدود و فرض الحلال و الحرام و تبوأ الإسلام بين أظهرهم
و كان هذا الحي من الأنصار هم الذين تبوأ الدار و الإيمان و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة فهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجعل بوقا كبوق يهود الذي يدعون به لصلاتهم ثم كرهه ثم أمر بالناقوس فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة
فبيناهم على ذلك رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه أخو بلحارث بن الخزرج النداء فأتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إنه طاف بي هذه الليلة طائف مر بي رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده فقلت : يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس ؟ فقال : و ما تصنع به ؟ قال : قلت : ندعو به إلى الصلاة قال : ألا أدلك على خير من ذلك ؟ قلت : و ما هو ؟ قال : تقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله
فلما أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إنها لرؤيا حق إن شاء الله فقم مع بلال فألقها عليه فليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك ]
فلما أذن بها بلال سمعه عمر بن الخطاب و هو في بيته فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يجر رداءه و هو يقول : يانبي الله و الذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فلله الحمد ]
قال ابن إسحاق : فحدثني بهذا الحديث محمد بن إبراهيم بن الحارث عن محمد بن عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه عن أبيه
و قد روى هذا الحديث أبو داود و الترمذي و ابن ماجة ابن خزيمة من طرق عن محمد بن إسحاق به و صححه الترمذي و ابن خزيمة و غيرهما
و عند أبي داود أنه علمه الإقامة قال : ثم نقول إذا أقمت الصلاة : الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله و قد روى ابن ماجة هذا الحديث عن أبي عبيد محمد بن عبيد بن ميمون عن محمد بن سلمة الحراني عن ابن إسحاق كما تقدم
ثم قال : أبو عبيد : و أخبرني أبو بكر الحكمي أن عبد الله بن زيد الأنصاري قال في ذلك :
( الحمد لله ذي الجلال و ذي الإكرام حمدا على الأذان كبيرا )
( إذا أتاني به البشير من الله فأكرم به لدى بشيرا )
( في ليال والي بهن ثلاث ... كلما جاء زادني توقيرا )
قلت : و هذا الشعر غريب و هو يقتضي أنه رأى ذلك ثلاث ليال حتى أخبر به رسول الله صلى الله عليه و سلم فالله أعلم
و رواه الإمام أحمد من حديث محمد بن إسحاق قال : و ذكر الزهري عن سعيد ابن المسيب عن عبد الله بن زيد به نحو رواية ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي و لم يذكر الشعر
و قال ابن ماجة : حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي حدثنا أبي عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استشار الناس لما يهمهم من الصلاة فذكروا البوق فكرهه من أجل اليهود ثم ذكروا الناقوس فكرهه من أجل النصاري فأرى النداء تلك الليلة رجل من الأنصار يقال له : عبد الله بن زيد و عمر بن الخطاب فطرق الأنصاري رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلا فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بلالا فأذن به
قال الزهري : و زاد بلال في نداء صلاة الغداة : ( الصلاة خير من النوم ) مرتين فأقرها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عمر : يا رسول الله رأيت مثل الذي رأى و لكنه سبقني
و سيأتي تحرير هذا الفصل في باب الأذان من كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله تعالى و به الثقة
فأما الحديث الذي أورده السهيلي بسنده من طريق البزار حدثنا محمد بن عثمان بن مخلد حدثنا أبي عن زياد بن المنذر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب فذكر حديث الإسراء و فيه : فخرج ملك من وراء الحجاب فأذن بهذا الأذان و كلما قال كلمة صدقه الله تعالى ثم أخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه و سلم فقدمه فأم بأهل السماء و فيهم آدم و نوح ثم قال السهيلي : و أخلق بهذا الحديث أن يكون صحيحا لما يعضده و يشا كله من حديث الإسراء
فهذا الحديث ليس كما زعم السهيلي أنه صحيح بل هو منكر تفرد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية و هو من المتهمين ثم لو كان هذا قد سمعه رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة الإسراء لأوشك أن يأمر به بعد الهجرة في الدعوة إلى الصلاة و الله أعلم
قال ابن هشام : و ذكر ابن جريح قال : قال لي عطاء : سمعت عبيد بن عمير يقول : ائتمر النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه ( بالناقوس ) للاجتماع للصلاة فبينا عمر ابن الخطاب يريد أن يشتري خشبتين للناقوس إذ رأى عمر في المنام : لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا للصلاة
فذهب عمر إلى النبي صلى الله عليه و سلم ليخبره بما رأى و قد جاء النبي صلى الله عليه و سلم الوحي بذلك فما راع عمر إلا بلال يؤذن فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أخبره بذلك : [ قد سبقك بذلك الوحي ]
و هذا يدل على أنه قد جاء الوحي بتقرير ما رآه عبد الله بن زيد بن عبد ربه كما صرح به بعضهم و الله تعالى أعلم
قال ابن إسحاق : و حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار قالت : كان بيتي من أطول بيت حول المسجد فكان بلال يؤذن عليه للفجر كل غداة فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينتظر الفجر فإذا رآه تمطى ثم قال : اللهم أحمدك و أستعينك على قريش أن يقيموا دينك قالت : ثم يؤذن قالت : و الله ما علمته كان تركها ليلة واحدة يعني هذه الكلمات و رواه أبو داود من حديثه منفردا به (2/334)
قال ابن جرير : و زعم الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عقد في هذه السنة في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجرة لحمزة بن عبد المطلب لواء أبيض في ثلاثين رجلا من المهاجرين ليعرض لعيرات قريش و أن حمزة لقي أبا جهل في ثلاثمائة رجل من قريش فحجز بينهم مجدى بن عمرو و لم يكن بينهم قتال
قال : و كان الذي يحمل لواء حمزة أبو مرثد الغنوى (2/338)
في سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب
قال ابن جرير : و زعم الواقدي أيضا أن النبي صلى الله عليه و سلم عقد في هذه السنة على رأس ثمانية أشهر في شوال لعبيدة بن الحارث لواء أبيض و أمره بالمسير إلى بطن رابغ
و كان لواؤه مع مسطح بن أثاثة فبلغ ثنية المرة و هي بناحية الجحفة في سنتين من المهاجرين ليس فيهم أنصاري و أنهم التقوا هم و المشركون على ماء يقال له أحياء و كان بينهم الرمي دون المسايفة قال الواقدي : و كان المشركون مائتين عليهم أبو سفيان صخر بن حرب و هو المثبت و عندنا و قيل كان عليهم مكرز بن حفص (2/338)
قال الواقدي : و فيها يعني في السنة الأولى في ذي العقدة عقد رسول الله صلى الله عليه و سلم لسعد بن أبي وقاص إلى الخرار لواء أبيض يحمله المقداد ابن الأسود
فحدثني أبو بكر بن إسماعيل عن أبيه عن عامر بن سعد ( عن أبيه ) قال : خرجت في عشرين رجلا على أقدامنا أو قال : أحد و عشرين رجلا فكنا نكمن النهار و نسير الليل حتى صبحنا الخرار صبح خامسة و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد عهد إلى ألا أجاوز الخرار و كانت العير قد سبقتني قبل ذلك بيوم
قال الواقدي : كانت العير ستين و كان من مع سعد كلهم من المهاجرين
قال أبو جعفر بن جرير : و عند ابن إسحاق أن هذه السرايا الثلاث التي ذكرها الواقدي كلها قي السنة الثانية من الهجرة من وقت التاريخ قلت : كلام ابن إسحاق ليس بصريح فيما قاله أبو جعفر لمن تأمله كما سنورده في أول كتاب المغازي في أول السنة الثانية من الهجرة و ذلك تلو ما نحن فيه إن شاء الله
و يحتمل أن يكون مراده أنها وقعت هذه السرايا في السنة الأولى و سنزيدها بسطا و شرحا إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى
و الواقدي عنده زيادات حسنة و تاريخ محرر غالبا فإنه من أثمة هذا الشأن الكبار و هو صدوق في نفسه مكثار كما بسطنا القول في عدالته و جرحه في كتابنا الموسوم ( بالتكميل في معرفة الثقات و الضعفاء و المجاهيل )
و لله الحمد و المنة (2/339)
و ممن ولد في هذه السنة المباركة و هي الأولى من الهجرة عبد الله بن الزبير فكان أول مولود ولد في الإسلام بعد الهجرة كما رواه البخاري عن أمه أسماء و خالته عائشة أم المؤمنين ابنتي الصديق رضي الله عنهما
و من الناس من يقول : ولد النعمان بن بشير قبله بستة أشهر فعلى هذا يكون ابن الزبير أول مولود ولد بعد الهجرة من المهاجرين
و من الناس من يقول إنهما ولدا في السنة الثانية من الهجرة و الظاهر الأول كما قدمنا بيانه و لله الحمد و المنة و سنشير في آخر السنة الثانية إلى القول الثاني إن شاء الله تعالى قال ابن جرير : و قد قيل إن المختار بن أبي عبيد و زياد بن سمية ولدا في هذه السنة الأولى فالله أعلم و ممن توفي في هذه السنة الأولى من الصحابة كلثوم بن الهدم الأوسي الذي نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسكنه بقباء إلى حين ارتحل منها إلى دار بني النجار كما تقدم و بعده فيها أبو أمامة أسعد بن زرارة نقيب بني النجار توفي و رسول الله صلى الله عليه و سلم يبني المسجد كما تقدم رضي الله عنهما و أرضاهما قال ابن جرير : و في هذه السنة يعني الأولى من الهجرة مات أبو أحيحة بماله بالطائف و مات الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل السهمي فيها بمكة
قلت : و هؤلاء ماتوا على شركهم لم يسلموا لله عز و جل (2/340)
وقع فيها كثير من المغازي و السرايا و من أعظمها و أجلها بدر الكبرى التي كانت في رمضان منها و قد فرق الله بها بين الحق و الباطل و الهدى و الغي
و هذا أو أن ذكر المغازي و البعوث فنقول و بالله المستعان : (2/342)
قال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة بعد ذكر أحبار اليهود و نصبهم العداوة للإسلام و أهله و ما نزل فيهم من الآيات فمنهم حيي بن أخطب و أخواه أبو ياسر و جدى و سلام بن مشكم و كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق و سلام بن أبي الحقيق و هو أبو رافع الأعور تاجر أهل الحجاز و هو الذي قتله الصحابة بأرض حيبر كما سيأتي و الربيع أبي الحقيق و عمرو بن جحاش و كعب بن الأشرف و هو من طئ ثم أحد بني نبهان و أمه من بني النضير و قد قتله الصحابة قبل أبي رافع كما سيأتي و حليفاه الحجاج بن عمر و كردم بن قيس لعنهم الله
فهؤلاء من بني النضير
و من ثعلبة بن الفطيون عبد الله بن صوريا و لم يكن بالحجاز بعد أعلم بالتوراة منه قلت : و قد قيل أنه أسلم
و ابن صلوبا و مخيريق و قد أسلم يوم أحد كما سيأتي و كان حبر قومه و من بني قينقاع زيد بن اللصيت و سعد بن حنيف و محمود بن سيحان و عزيز بن أبي عزيز و عبد الله بن ضيف و سويد بن الحارث و رفاعة بن قيس و فنحاص و أشيع ونعمان بن أضا و بحري بن عمرو وشأس بن عدي وشأس بن قيس و زيد بن الحارث و نعمان بن عمرو و سكين بن أبي سكين و عدي ابن زيد و نعمان بن أبي أوفى أبو أنس و محمود بن دحية و مالك بن صيف و كعب بن راشد و عازر و رافع بن أبي رافع و خالد و أزاز قال ابن هشام : و يقال آزر بن أبي آزر و رافع بن حارثة و رافع بن حريملة و رافع بن خارجه و مالك بن عوف و رفاعة بن زيد بن التابوت و عبد الله بن سلام قلت : و قد تقدم إسلامه رضي الله عنه قال ابن إسحاق : و كان حبرهم و أعلمهم و كان اسمه الحصين فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه و سلم عبد الله قال ابن إسحاق : و من بني قريظة الزبير بن باطا بن وهب و غزال بن شمويل و كعب بن أسد و هو صاحب عقدهم الذي نقضوه عام الأحزاب و شمويل بن زيد و جبل بن عمرو بن سكينة و النحام بن زيد و كردم بن كعب و وهب بن زيد و نافع بن أبي نافع وعدي بن زيد و الحارث بن عوف و كردم بن زيد و أسامة بن حبيب و رافع بن رميلة و جبل بن أبي قشير و وهب بن يهوذا : قال و من بني زريق لبيد بن أعصم و هو الذي سحر رسول الله صلى الله عليه و سلم و من يهود بني حارثة : كنانة بن صوريا و من يهود بني عمرو بن عوف قردم ابن عمرو و من يهود بني النجار سلسلة بن برهام قال ابن إسحاق : فهؤلاء أحبار يهود و أهل الشرور و العداوة لرسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه رضي الله عنهم و أصحاب المسألة الذين يكثرون الأسئلة لرسول الله صلى الله عليه و سلم على وجه التعنت و العناد و الكفر قال : و أصحاب النصب لأمر الإسلام ليطفئوه إلا ما كان من عبد الله بن سلام و مخيريق ثم ذكر إسلام عبد الله بن سلام و إسلام عمته خالدة كما قدمناه (2/342)
و ذكر إسلام مخيريق يوم أحد كما سيأتي و أنه قال لقومه و كان يوم السبت يا معشر يهود و الله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق قالوا : إن اليوم يوم السبت قال : لا سبت لكم ثم أخذ سلاحه و خرج و عهد إلى من و راءه من قومه : إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد يرى فيها ما أراه الله و كان كثير الأموال ثم لحق برسول الله صلى الله عليه و سلم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه قال : فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول فيما بلغني : [ مخيريق خير يهود ] (2/344)
ثم ذكر ابن إسحاق من مال إلى هؤلاء الأضداد من اليهود من المنافقين من الأوس و الخزرج فمن الأوس : زوي بن الحارث و جلاس بن سويد بن الصامت الأنصاري و فيه نزل { يحلفون بالله ما قالوا و لقد قالوا كامة الكفر و كفروا بعد إسلامهم } و ذلك أنه قال حين تخلف عن غزوة تبوك : لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمر فنماها ابن امرأته عمير بن سعد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنكر الجلاس ذلك و حلف ما قال فنزل فيه ذلك
قال : و قد زعموا أنه تاب و حسنت توبته حتى عرف منه الإسلام و الخير
قال : و أخوه الحارث بن سويد و هو الذي قتل المجذر بن ذياد البلوي و قيس بن زيد أحد بني ضبيعة يوم أحد خرج مع المسلمين و كان منافقا فلما التقى الناس عدا عليهما فقتلهما ثم لحق بقريش
قال ابن هشام : و كان المجذر قد قتل أباه سويد بن الصامت في بعض حروب الجاهلية فأخذ بثأر أبيه منه يم أحد كذا قال ابن هشام و قد ذكر ابن إسحاق أن الذي قتل سويد بن الصامت إنما هو معاذ بن عفراء قتله في غير حرب قبل يوم بغاث رماه بسهم فقتله و أنكر ابن هشام أن يكون الحارث قتل قيس بن زيد قال : لأن ابن إسحاق لم يذكره في قتلى أحد قال ابن إسحاق : و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر عمر بن الخطاب بقتله إن هو ظفر به فبعث الحارث إلى أخيه الجلاس يطلب له التوبة ليرجع إلى قومه فأنزل الله فيما بلغني عن ابن عباس : { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أن الرسول حق و جاءهم البينات و الله لا يهدي القوم الظالمين } إلى آخر القصة
قال : و بجاد بن عثمان بن عامر و نبتل بن الحارث و هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أحب أن ينظر إلى شيطان فلينظر إلى هذا ] و كان جسيما أدلم ثائر شعر الرأس أحمر العينين أسفع الخدين و كان يسمع الكلام من رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ينقله إلى المنافقين و هو الذي قال : إنما أذن من حدثه بشئ صدقه فأنزل الله فيه { و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن } الآية
قال : و آبو حبيبة بن الأزعر و كان ممن بنى مسجد الضرار و ثعلبة بن حاطب و معتب بن قشير و هما اللذان عاهدا الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ثم نكثا فنزل فيهما ذلك و معتب هو الذي قال يوم أحد : لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ها هنا فنزلت فيه الآية و هو الذي قال يوم الأحزاب : كان محمد يعدنا أنا نأكل كنوز كسرى و قيصر و أحدنا لا أمن أن يذهب إلى الغائط فنزل فيه { و إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله و رسوله إلا غرورا } قال ابن إسحاق : و الحرث بن حاطب
قال ابن هشام و معتب بن قشير و ثعلبة و الحارث ابنا حاطب و هم من بني أمية بن زيد من أهل بدر و ليسوا من المنافقين فيما ذكر لي من أثق به من أهل العلم قال : و قد ذكر ابن إسحاق ثعلبة و الحارث في بني أمية بن زيد في أسماء أهل بدر
قال ابن إسحاق : و عباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف و بحزج و كان ممن بنى مسجد الضرار و عمرو بن خذام و عبد الله بن نبتل و جارية بن عامر بن العطاف و ابناه يزيد و مجمع ابنا جارية و هم ممن اتخذ مسجدالضرار و كان مجمع غلاما حدثا قد جمع أكثر القرآن و كان يصلي بهم فيه فلما خرب مسجد الضرار كما سيأتي بيانه بعد غزوة تبوك و كان في أيام عمر سأل أهل قباء عمر أن يصلي بهم مجمع فقال : لا و الله أوليس إمام المنافقين في مسجد الضرار ؟ ! فحلف بالله ما علمت بشئ من أمرهم فزعموا أن عمر تركه فصلى بهم
قال : و وديعة بن ثابت و كان ممن بنى مسجد الضرار و هو الذي قال : إنما كنا نخوض و نلعب فنزل فيه ذلك
قال : و خذام بن خالد و هو الذي أخرج مسجد الضرار من داره
قال ابن هشام مستدركا على ابن إسحاق في منافقي بني النبت من الأوس : و شر و رافع ابنا زيد قال ابن إسحاق : و مربع بن قيظي و كان أعمى و هو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم حين أجاز في حائطه و هو ذاهب إلى أحد : لا أحل لك إن كنت نبيا أن يمر في حائطي و أخذ في يده حفنة من تراب ثم قال : و الله لو أعلم أني لاأصيب بها غيرك لرميتك بها فابتدر القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دعوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر ] و قد ضربه سعد بن زيد الأشهلي بالقوس فشجه
قال : و أخوه أوس بن قيظى و هو الذي قال : إن بيوتنا عورة قال الله : { و ما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا }
قال : و حاطب بن أمية بن رافع و كان شيخا جسيما قد عسا في الجاهليتة و كان له ابن من حيار المسلمين يقال له يزيد بن حاطب أصيب يوم أحد حتى أثبتته الجراحات فحمل إلى دار بني ظفر
فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه اجتمع إليه من بها من رجال المسلمين و نسائهم و هو يموت فجعلوا يقولون : أبشر بالجنة من حرمل غررتم و الله هذا المسكين من نفسه !
قال و بشير بن أبيرق أبو طعم سارق الدرعين الذي أنزل الله فيه { و لا تجادل عن الذين يخانون أنفسهم } الآيات
قال : و قزمان حليف لبني ظفر الذي قتل يوم أحد سبعة نفر ثم لما آلمته الجراحة قتل نفسه و قال : و الله ما قاتلت إلا حمية على قومي ثم مات لعنه الله
قال ابن إسحاق : و لم يكن في بني عبد الأشهل منافق و لا منافقة يعلم إلا أن الضحاك بن ثابت كان يتهم بالنفاق و حب يهود فهؤلاء كلهم من الأوس
قال ابن إسحاق : و من الخزرج : رافع بن وديعة و زيد بن عمرو و عمرو بن قيس و قيس بن عمرو بن سهل و الجد بن قيس و هو الذي قال : ائذن لي و لا تفتني و عبد الله بن أبي بن سلول و كان رأس المنافقين و رئيس الخزرج و الأوس أيضا كانوا قد أجمعوا على أن يملكوه عليهم في الجاهلية فلما هداهم الله للإسلام قبل ذلك شرق اللعين بريقه و غاطه ذلك جدا و هو الذي قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأغر منها الأذل و قد نزلت فيه آيات كثيرة جدا و فيه و في وديعة رجل من بني عوف و مالك ابن أبي قوقل و سويد و داعس و هم من رهطه نزل قوله تعالى : { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم } الآيات حين مالوا في الباطن إلى بني النضير (2/244)
ثم ذكر ابن إسحاق من أسلم من أحبار اليهود على سبيل التقية فكانوا كفارا في الباطن فأتبعهم بصنف المنافقين و هم من شرهم : سعد بن حنيف و زيد بن اللصيت و هو الذي قال حين ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم : يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء و هو لا يدري أين ناقته ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ و الله لا أعلم إلا ما علمني الله و قد دلني الله عليها فهي في هذا الشعب قد جستها شجرة بزمامها ] فذهب رجل من المسلمين فوجدوها كذلك
قال : و نعمان بن أوقي و عثمان بن أوقي و رافع بن حريملة و هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم مات ـ فيما بلغنا ـ : [ قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين ] و رفاعة بن زيد بن التابوت و هو الذي هبت الريح الشديدة يوم موته عند مرجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من تبوك فقال : [ إنها هبت لموت عظيم من عظماء الكفار ]
فلما قدموا المدينة و جدوا رفاعة قد مات في ذلك اليوم
و سلسلة بن برهام و كنانة بن صوريا
فهؤلاء من أسلم من منافقي اليهود (2/349)
قال : فكان هؤلاء المنافقون يحضرون المسجد و يستمعون أحاديث المسلمين و يسخرون و يستهزئون بدينهم
فاجتمع في المسجد يوما منهم أناس فرآهم رسول الله صلى الله عليه و سلم يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم قد لصق بعضهم إلى بعض فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا
فقام أبو أيوب إلى عمر بن قيس بن أحد بني النجار و كان صاحب آلهتهم في الجاهلية فأخذ برجله فسحبه حتى أخرجه و هو يقول لعنة الله : أتخرجني يا أبا أيوب من مربد بني ثعلبة
ثم أقبل أبو أيوب إلى رافع بن وديعة النجاري فلببه بردائه ثم نتره نترا شديدا و لعلم و جهه فأخرجه من المسجد و هو يقول : أف لك منافقا خبيثا
و قام عمارة بن حزم إلى زيد بن عمرو و كان طويل اللحية فأخذه بلحيته و قاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه من المسجد ثم جمع عمارة يديه جميعا فلدمه بهما لدمة في صدره خر منها قال يقول : خدشتني يا عمارة فقال عمارة أبعدك الله يا منافق فما أعد الله لك من العذاب أشد من ذلك فلا تقر بن مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم
و قام أبو محمد مسعود بن أوس بن زيد بن أصرم بن زيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك ابن النجار و كان بدريا إلى قيس بن عمرو بن سهل و كان شابا و ليس قي المنافقين شاب سواه فجعل يدفع في فقاه حتى أخرجه
و قام رجل من بني خدرة إلى رجل يقال له الحارث بن عمرو و كان ذاجمة فأخذ بحمته فسحبه بها سحبا عنيفا على ما مر به من الأرض حتى أخرجه فجعل يقول المنافق : قد أغلطت يا أبا الحارث فقال : إنك أهل لذلك أي عدو الله لما أنزل فيك فلا تقر بن مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنك نجس
و قام من بني عمرو بن عوف إلى أخيه زوي بن الحارث فأخرجه إخراجا عنيفا و أقف منه و قال : غلب عليك الشيطان و أمره
ثم ذكر ابن إسحاق ما نزل فيهم من الآيات من سورة البقرة و من سورة التوبة و تكلم على تفسير ذلك فأجاد و أفاد رحمة الله (2/349)
و هو بعث حمزة بن المطلب أو عبيدة بن الحارث كما سيأتي في المغازي
قال البخاري : كتاب المغازي قال ابن إسحاق : أول ما غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم الأبواء ثم بواط ثم العشيرة (2/352)
ثم روى عن زيد بن أرقم أنه سئل : كم غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : تسع عشرة شهد منها سبع عشرة أو لهن العشيرة أو العشيرة
و سيأتي الحديث بإسناده و لفظه و الكلام عليه عند غزوة العشيرة إن شاء الله و به الثقة
و في صحيح البخاري عن بريدة قال : غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم ست عشرة غزوة
و لمسلم عنه : أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ست عشرة غزوة و في رواية له أن رسول الله صلى الله عليه و سلم غزا تسع عشرة غزوة و قاتل في ثمان منهن
و قال الحسين بن واقد عن ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم غزا سبع عشرة غزوة و قاتل في ثمان يوم بدر و أحد و الأحزاب و المريسيع و قد يد و خبير و مكة و حنين و بعث أربعا و عشرين سرية
و قال يعقوب بن سفيان : [ حدثنا محمد بن عثمان الدمشقي التنوخي حدثنا الهيثم ابن حميد أخبرني النعمان عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه و سلم غزا ثماني عشرة غزوة قاتل في غزوات أو لهن بدر ثم أحد ثم الأحزاب ثم قريظة ثم بئر معونة ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة ثم غزوة خبير ثم غزوة مكة ثم حنين و الطائف
قوله : بئر معونة ] بعد قريظة فيه نظر و الصحيح أنها بعد أحد كما سيأتي
قال يعقوب : حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري سمعت سعيد بن المسيب يقول : غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثماني عشرة غزوة و سمعته مرة أخرى يقول : أربعا و عشرين فلا أدري أكان ذلك و هما أو شيئا سمعته بعد ذلك
و قد روى الطبراني عن الدبري عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال : غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعا و عشرين غزوة و قال عبد الرحمن بن حميد في مسنده : حدثنا سعيد بن سلام حدثنا زكريا بن إسحاق حدثنا أبو الزبير عن جابر قال : غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم إحدى و عشرين غزوة
و قد روى الحاكم من طريق هشام عن قتادة أن مغازي رسول الله صلى الله عليه و سلم و سراياه كانت ثلاثا و أربعين ثم قال الحاكم : لعله أراد السرايا دون الغزوات فقد ذكرت في ( الإكليل ) على الترتيب بعوث رسول الله صلى الله عليه و سلم و سراياه زيادة إلى المائة
قال : و أخبرني الثقة من أصحابنا ببخاري أنه قرأ في كتاب أبي عبد الله محمد بن نصر السرايا و البعوث دون الحروب نيفا و سبعين
و هذا الذي ذكره الحاكم غريب جدا و حمله كلام قتادة على مقاتل فيه نظر
و قد روى الإمام أحمد عن أزهر بن القاسم الراسبي عن هشام الدستوائي عن قتادة أن مغازي رسول الله صلى الله عليه و سلم و سراياه ثلاث و أربعون أربع و عشرون بعثا ويسع عشرة غزوة خرج في عثمان منها بنفسه : بدر و أحد و الأحزاب و المريسع و خبير و فتح مكة و حنين و ( الطائف )
و قال موسى بن عقبة عن الزهري : هذه مغازي رسول الله صلى الله عليه و سلم التي قاتل فيها : يوم بدر في رمضان سنة ثنتين ثم وقاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث ثم قاتل فيها يوم الخندق و هو يوم الأحزاب و بني قريظة في شوال من سنة أربع ثم قاتل بني المصطلق و بني لحيان في شعبان سنة خمس ثم قاتل يوم خبير سنة ست ثم قاتل يوم الفتح في رمضان سنة ثمان ثم قاتل يوم حنين و حاصر أهل الطائف في شوال سنة ثمان ثم حج أبو بكر سنة تسع ثم حج رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة الوداع سنة عشر و غزا ثنتي عشرة غزوة و لم يكن فيها قتال و كانت أول غزاة غزاها الأبواء
و قال حنبل بن هلال عن إسحاق بن العلا عن عبد الله بن جعفر الرقي عن مطرف بن مازن اليماني عن معمر عن الزهري قال : أول آية نزل في القتال : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } الآية بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة
فكان أول مشهد رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم بدر يوم الجمعة لسبع عشرة من رمضان
إلى أن قال : ثم غزا بني النضير ثم غزا أحدا في شوال يعني من سنة ثلاث ثم قاتل يوم الخندق في شوال سنة أربع ثم قاتل بني لحيان في شعبان سنة خمس ثم قاتل يوم الفتح في شعبان سنة ثمان و كانت حنين في رمضان سنة ثمان و غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم إحدى عشرة غزوة لم يقال فيها فكانت أول غزوة غزا رسول الله صلى الله عليه و سلم الأبواء ثم العشيرة ثم غزوة غطفان ثم غزوة بني سليم ثم غزوة الأبواء ثم غزوة بدر الأولى ثم غزوة الطائف ثم غزوة الحديبية ثم غزوة الصفراء ثم غزوة تبوك آخر غزوة ثم ذكر البعوث
هكذا كتبه من تاريخ الحافظ ابن عساكر و هو غريب جدا و الصواب ما سنذكره فيما بعد إن شاء الله مرتبا
و هذا الفن مما ينبغي الاعتناء به و الاعتبار بأمره و التهيؤ له كما رواه محمد بن عمر الواقدي عن عبد الله بن عمر بن علي عن أبيه سمعت علي بن الحسين يقول : كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه و سلم كما نعلم السورة من القرآن
قال الواقدي : و سمعت محمد بن عبد الله يقول : سمعت عمي الزهري يقول : في علم المغازي علم الآخرة و الدنيا
و قال محمد بن إسحاق في المغازي يعد ذكره ما تقدم مما سقناه عنه من تعين رؤوس الكفر من اليهود و المنافقين لعنهم الله أجمعين و جمعهم في أسفل سافلين ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم تهيأ لحربه و قام فيما أمره الله به من جهاد عدوه و قتال من أمره به ممن يليه من المشركين
قال : و قد قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة يوم الاثنين حين اشتد الضحاء و كادت الشمس تعتدل لثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول و رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ ابن ثلاث و خمسين سنة و ذلك بعد أن بعثه الله بثلاث عشرة سنة فأقام بقية شهر ربيع الأول و شهر ربيع الآخر و جمادين و رجبا و شعبان و شهر رمضان و شوالا و ذا العقدة و ذا الحجة و ولي تلك الحجة المشركون و المحرم ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم غازيا في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة
قال ابن هشام : و استعمل على المدينة سعد بن عبادة (2/352)
قال ابن إسحاق : حتى بلغ ودان و هي الأبواء قال ابن جرير : و يقال لها غزوة ودان أيضا يريد قريشا و بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة فوادعته فيها بنو ضمرة و كان الذي وادعه منهم محشى بن عمرو الضمري و كان سيدهم في زمانه ذلك
و رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و لم يلق كيدا فأقام بها بقية صفر و صدرا من شهر ربيع الأول
قال ابن هشام : و هي أول غزوة غزاها عليه السلام
قال الواقدي : و كان لواؤه مع عمه حمزة و كان أبيض
قال ابن إسحاق : و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم في مقامه ذلك بالمدينة عبيدة بن الحارث بن المطلب بن مناف بن قصي في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة فلقى بها جمعا عظيما من قريش فلم يكن بينهم قتال إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمى يومئذ بسهم فكان أول سهم رمى به في سبيل الله في الإسلام
ثم انصرف القوم عن القوم و للمسلمين حامية و فر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة و عتبة بن غزوان بن جابر المازني حليف بني نوفل بن عبد المناف و كانا مسلمين و لكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار
قال ابن إسحاق : و كان على المشركين يومئذ عكرمة بن أبي جهل و روى ابن هشام عن ابن أبي عمرو بن العلاء عن أبي عمرو المدني أنه قال : كان عليهم مكرز بن حفص
قلت : و قد تقدم عن حكاية الواقدي قولان : أحدهما أنه مكرز و الثاني أنه أبو سفيان صخر بن حرب و أنه رجح أنه أبو سفيان فالله أعلم (2/356)
ثم ذكر ابن إسحاق القصيدة المنسوبة إلى أبي بكر الصديق في هذه السرية التي أولها :
( أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث ... أرقت و أمر في العشيرة حادث )
( ترى من لؤي فرقة لا يصدها ... عن الكفر تذكير و لا بعث باعث )
( رسول أتاهم صادق فتكذبوا ... عليه و قالوا لست فينا بما كث )
( إذا مادعوناهم إلى الحق أدبروا ... و هروا هرير المجحرات اللواهث )
القصيدة إلى آخرها (2/357)
و ذكر جواب عبد الله بن الزبعري في مناقضتها التي أولها :
( أمن رسم دار أقفرت بالعثاعث ... بكيت بعين دمعها غير لابث )
( و من عجب الأيام و الدهر كله ... له عجب من سابقات و حادث )
( لجيش أتانا ذى عرام يقوده ... عبيدة يدعى في الهياج ابن حارث )
( لنترك أصناما بمكة عكفا ... مواريث موروث كريم لوارث )
و ذكر تمام القصيدة و ما منعنا من إيرادها بتمامها إلإ أن الإمام عبد الملك بن هشام رحمه الله و كان إماما في اللغة ذكر أن كثر أهل العلم بالشعر ينكر هاتين القصيدتين (2/357)
قال ابن إسحاق : و قال سعد بن أبي وقاص في رميته تلك فيما يذكرون :
( ألا هل أتى رسول الله أنى ... حميت صحابتي بصدور نبلى )
( أذود بها أوائلهم ذيادا ... بكل حزونة و بكل سهل )
( فما يعتد رام في عدو ... بسهم يا رسول الله قبلى )
( و ذلك أن دينك دين صدق ... و ذو حق أتيت به و فضل )
( ينجي المؤمنون به و يخزي ... به الكفار عند مقام مهل )
( فمهلا قدغويت فلا تعبني ... غوي الحي ويحك يا بن جهل )
قال ابن هشام : و أكثر أهل العلم بالشعر ينكرها لسعد
قال ابن إسحاق : فكانت راية عبيدة فيما بلغنا أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه و سلم في الإسلام لأحد من المسلمين
و قد خالفه الزهري و موسى بن عقبة و الواقدي فذهبوا إلى أن بعث حمزة قبل بعث عبيدة بن الحارث و الله أعلم و سيأتي في حديث سعد بن أبي وقاص أن أول أمراء السرايا عبد الله بن جحش الأسدي قال ابن إسحاق : و بعض العلماء يزعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء قبل أن يصل إلى المدينة
و هكذا حكى موسى بن عقبة عن الزهري (2/358)
قال ابن إسحاق : و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم في مقامه ذلك حمزة بن عبد المطلب بن هاشم إلى سيف البحر من ناحية العيص في ثلاثين راكبا من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدى بن عمرو الجهني و كان موادعا للفريقين جميعا فانصرف بعض القوم عن بعض و لم يكن بينهم قتال (2/359)
قال ابن إسحاق : و بعض الناس يقول : كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه و سلم لأحد من المسلمين و ذلك أن بعثه و بعث عبيدة كانا معا فشبه ذلك على الناس
قلت : و قد حكى موسى بن عقبة عن الزهري أن بعث حمزة قبل عبيدة بن الحارث و نص على أن بعث حمزة كان قبل غزوة الأبواء فلما قفل عليه السلام من الأبواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين من المهاجرين و ذكر نحو ما تقدم
و قد تقدم عن الواقدي أنه قال : كانت سرية حمزة في رمضان من السنة الأولى و بعدها سرية عبيدة في شوال منها و الله أعلم
و قد أورد ابن إسحاق عن حمزة رضي الله عنه شعرا يدل على أن رأيته أول راية عقدت في الإسلام قال ابن إسحاق : فإن كان حمزة قال ذلك فهو كما قال لم يكن يقول إلا حقا و الله أعلم أي ذلك كان (2/359)
فأسمعنا ما سمعنا من أهل العلم عندنا : فعبيدة أول و القصيدة هي قوله :
( ألا يا لقومي للتحلم و الجهل ... و للنقص من رأى الرجال و للعقل )
( و للراكبينا بالمظالم لم نطأ ... لهم حرمات من سواهم و لا أهل )
( كأنا تبلناهم و لا تبل عندنا ... لهم غير أمر بالعفاف و بالعدل )
( و أمر بإسلام فلا يقبلونه ... و ينزل منهم مثل منزلة الهزل )
( فما برحوا حتى انتدبت لغارة ... لهم حيث حلوا أبتغي راحة الفضل )
( بأمر رسول الله ... أول خافق عليه لواء لم يكن لاح من قبلي )
( لواء لديه النصر من ذي كرامة ... إله عزيز فعله أفضل الفعل )
( عشية ساروا حاشدين و كلنا ... مراجله من غيظ أصحابه تغلي )
( فلما تراءينا أناخوا فعقلوا ... مطايا و عقلنا مدى غرض النبل )
( و قلنا لهم حبل الإله نصيرنا ... و مالكم إلا الضلالة من حبل )
( فثار أبو جهل هنالك باغيا ... فخاب و رد الله كيد أبي جهل )
( و ما نحن إلا في ثلاثين راكبا ... و هم مائتان بعد واحدة فضل )
( فيال لؤي لا تطيعوا غواتكم ... و فيئوا إلى الإسلام و المنهج السهل )
( فإني أخاف أن يصب عليكم ... عذاب فتدعوا بالنامة و الثكل ) (2/359)
قال : فأجابه أبو جهل بن هشام لعنه الله فقال :
( عجبت لأسباب الحفيظة و الجهل ... و للشاغبين بالخلاف و بالبطل )
( و للتاركين ما وجدنا جدودنا ... عليه ذوى الاحساب و السؤدد الجزل )
ثم ذكر تمامها
قال ابن هشام : و أكثر أهل العلم بالشعر ينكر هاتين القصيدتين لحمزة رضي الله عنه و لأبي جهل لعنه الله (2/360)