علي بن محمد باخيِّل آل بابطين
……………1425هـ
{ ثبت المحتويات }
المدخل .................................................. 1 - 12
الفصل الأول ( الإرهاصات المبكرة )......................... 14 - 118
الفصل الثاني ( يوميات العذاب من باب البصرة إلى الكرخ ).... 120-210
الفصل الثالث ( لحظات على طريق الخروج )................. 211-283
المصادر والمراجع............................................ 285-300
[ مدخل ]
…الحمد لله حمد الشاكرين ، وأشهد ألا إله إلا الله شهادة أرجو السلامة بها يوم الدين ، وأصلي وأسلم على إمام المتقين وعلى آله وصحبه المؤمنين
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً }(1)
…{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } (2)
…وبعد فإن الله خلق الإنسان من عدم ، وأنزله إلى هذه الأرض خليفة يقيم فيها ذكر الله تعالى ، قال تعالى { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }(3) وقد أنزل معه عدوه لينظر كيف فعل هذا الإنسان أيقيم ذكر الله جل وعلا أم يتخذ الشيطان بدلا وبئس للظالمين بدلا .
… ولم يترك الله تعالى عبيده في حيرة من أمرهم ، بل أرسل لهم أنبياء ورسلا يبينون لهم طرق الحق ، ويأمرونهم بها ، وطرق الزيغ والباطل ويحذرونهم منها ، ليبدأ الصراع بين الحق والباطل ، وليقود الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه معسكر أهل الحق في كل زمان ومكان .
__________
(1) الأحزاب71
(2) الإسراء53
(3) البقرة30(1/1)
…وكان آخر الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله تعالى ليصحح مسيرة البشرية ، ويعيدها إلى جادة الحق ، وينفي عنها انحراف أتباع الديانات السماوية ، التي أضاعها المنتسبون لها وحرفوها وتركوا أمر أنبيائهم ، وأطاعوا هوى أنفسهم فضلوا وأضلوا . وهو النبي الذي أكرم الله به العرب ، ورفع من قدرهم ، وأعلى شأن لسانهم وحفظه من الزوال بإنزال القرآن الكريم بلغتهم ، بيد أن هذا الدين لم يكن دين العرب وحدهم ، وإنما هو دين البشرية جمعاء ، وبختم الله جل وعلا الديانات بنبوته صلى الله عليه وسلّم قام بالحق بعده رجال من أصحابه ، نهلوا من منهله العذب ، وتعلموا في كنفه الرحب ، فترفعت أنفسهم عن مصالحهم الضيقة وأهوائهم إلى مصالح هذا الدين ، و إلى ما يحبه الله ويرضاه ، لم يدنسوا فكرهم بالنعرات الإقليمية أو القبلية أو العرقية ، بل وجهوا جل نظرهم إلى إنقاذ هذه البشرية وإخراجها من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ليكملوا مسيرة النور التي انطلقت من جبال مكة – حرسها الله – وتردد ضوؤها ما بين عير إلى ثور ، ولما يمض قرن من الزمان على وفاة محمد صلى الله عليه وسلّم حتى كان الأذان يصدح من الصين حتى جنوب أوربا مقيما ذكر الله ومحققا الخلافة الحقة التي جعل الإنسان لها . وصدق الله تعالى {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ }(1)
…بيد أنه وكما قدّر الله جل وعلا بأن هذه الحياة هي حلبة صراع لا ينقضي بين الحق والباطل فقد كان صراعا ذا سجال بين المعسكرين ترى للباطل فيه ظهورا لا يلبث أن يهيج فتراه مصفرا كأن لم يغن بالأمس ، لذا أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالصبر والحق فأما الأمر بالصبر فهو عند ظهور الباطل واستفحاله .
__________
(1) النور37(1/2)
…و الإسلام هو الحق المطلق لأنه آخر الأديان ، والدين الذي رضيه الله ولم يرض غيره للبشرية حتى قيام الساعة وانقضاء الحياة على هذا الكوكب قال جل وعلا :" {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }(1)
…هذا الحق المطلق عرف بعد برهة من وفاة نبيه صلى الله عليه وسلّم التنازع وانحراف بعض المنتسبين له كما حدث للديانات قبله وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم أن الخيرية ستتناقص بتقادم الأزمان في الحديث المشهور :" خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ........ "(2)
…لكن ورغم كل هذا يبقى للحق رجال ، حفظا من الله تعالى لهذا الدين حتى ينزل عيسى عليه السلام فيبطل كل الأديان غير الإسلام ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلّم ، وقد أخبر النبي عليه أفضل الصلاة والسلام أتباعه أن هذا الانحراف وتسلط الأهواء والتفرق والشرذمة الذي حدث للأمم السابقة سيحدث لأمة الإسلام ، لكنه أخبرهم أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق قال صلى الله عليه وسلّم : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " (3)
__________
(1) آل عمران85"
(2) والحديث رواه مسلم في باب فضائل الصحابة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه ، ومثله من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه ومن حديث أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها ، وأخرجه الترمذي عن عمران في كتاب الشهادات
(3) *والحديث رواه مسلم في كتاب الإمارة من حديث ثوبان رضي الله عنه ورواه بألفاظ متقاربة من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه وجابر بن عبد الله رضي الله عنه ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ، ورواه ابن ماجه في سننه من حديث معاوية بن قرة ولفظه " لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة 5/1 كتاب اتباع السنة(1/3)
…هؤلاء المنصورون هم الغرباء (1) في الدنيا الناجون في الآخرة بفضل الله تعالى ثم بتمسكهم بأمر نبيهم صلى الله عليه وسلّم وعدم انجرافهم نحو شعب الهوى التي أضلت أكثر الناس .
…وظلت هذه الفرقة المنصورة في كل العصور التي مرت على الإسلام حاضرة بثباتها على الحق ، وكل فرقة ممن ينتسب للإسلام تزعم أنها الفرقة الناجية المنصورة ، وكل يزعم الحق معه ، وإنما الحق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم ومن زعم غير ذلك فقد كذب ، فإن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من كلام ربه مبلغا أو من كلامه مفسرا فهو الحق المطلق وهو الجادة التي تركها للناس جميعا ، لذا فإن القول الصواب بأن أكثر الفرق إتباعا لمحمد صلوات الله وسلامه عليه هي الناجية ومن زعم خلاف ذلك فهو كذاب أرعن .
__________
(1) … قال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ، وروي في تفسير الغرباء أقوال منها أنهم الذين يصلحون إذا فسد الناس وقيل ناس صالحون قليل في ناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم وقيل النزاع من القبائل وفي رواية نوازع الناس ، قال عبدالله الجديع مؤلف كشف اللثام عن طرق حديث غربة الإسلام وهذه اللفظة – أي التفسير الأخير – أصح ما ورد في تفسير الغرباء مرفوعا وهي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وحده "ص 50(1/4)
…وقد تكفل جل وعلا بحفظ كتابه من التحريف والزيادة والنقص كما يسر لسنة نبيه صلى الله عليه وسلّم أصحاب رسوله الذين كان حرصهم على معرفة السنة وحفظها وتعليمها مضرب المثل ، ومن ذلك كما هو مشهور خبر رحيل جابر - رضي الله عنه -إلى مصر طلبا لحديث واحد ، وكذا من جاء بعدهم من التابعين وتابعي التابعين ، ثم نشأ قوم يمحصون الأسانيد ويتكلمون في أحوال الرجال من الرواة ليعرفوا سقيم الحديث وصحيحه ، فبهؤلاء حُفظت السنة المطهرة ، وتيسر لنا معرفة أقوال وأفعال محمد صلى الله عليه وسلّم وتقريراته ، وكان هذا الحفظ رحمة من الله تعالى لعباده إذ لو ضاعت لتعسر عليهم معرفة الحق ، ونال هؤلاء العلماء بما بذلوه اسم أهل الحديث كرامة من الله لهم إذ كانوا أهله .
…وقد عنى هذا المصطلح (( أهل الحديث ))في النصف الأخير من القرن الثاني للهجرة العلماء وطلاب العلم الذين يهتمون بجمع متون الأحاديث وتدقيق سندها ، وقابل هذا مصطلح آخر (( أهل الرأي )) وهم الفقهاء وخاصة فقهاء الأحناف .
…بيد أنه ونتيجة اصطدام أهل الحديث بالفرق المنحرفة عن العقيدة وصراعهم مع الشيعة فالمعتزلة والجهمية فيما سمي في التاريخ بالمحنة ، فقد رافق هذا الاسم مصطلح آخر هو (( أهل السنة )) . وثبت أحد علماء الحديث وهو أحمد بن حنبل – رحمه الله – حتى صار موقفه من المحنة مثالا يحتذى ، إذ قاوم هجمة الفكر الاعتزالي المدعوم من السلطة العباسية فيما عرف بمحنة خلق القرآن ، وساهم هذا الموقف الثابت للإمام أحمد في تمحور ولاء سكان بغداد حول شخصية هذا الإمام ، ثم ساهمت الجهود الحثيثة لتلاميذه في ولادة مذهب فقهي جديد تركز بشكل واضح في مدينة بغداد سمي بالمذهب الحنبلي ، وسمي أتباعه بالحنابلة أو الحنبلية ، واستطاع هذا المذهب الجديد أن يزاحم المذهب الحنفي المذهب الرسمي للدولة الذي اقتصر وجوده آنذاك على الدوائر الرسمية كالقضاء والإفتاء .(1/5)
…وإني في قراءتي لتاريخ المذهب الحنبلي أحاول تتبع نمو البذور الأولى لهذا المذهب في بغداد ، مع ما رافق ذلك كله من مواجهات ونزاعات قُدر لهذا المذهب أن يخوضها باعتباره في بغداد عاصمة المسلمين ومقصد السالكين ، لذا سنجد الحنابلة في أطوار من التاريخ في وجه الفساد والظلم وتخاذل السلطان يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وسنجد الحنابلة يقفون في وجه المعتزلة دعاة التأويل الكامل المؤدي إلى تعطيل النص القرآني ، وسنجدهم حاضرين إبان فورة الرافضة وسيطرتهم على العالم الإسلامي يقفون في وجه منكراتهم ونياحهم وبدعهم ، ثم نجدهم في الصف الأول لمواجهة دعاة التأويل الجزئي الذين عرفوا بالأشاعرة في معركة داخلية داخل المعسكر السني اصطلاحا . ثم نجد رجالاتهم وعلمائهم في معركة داخل أوساط المذهب الحنبلي نفسه للوقوف في وجه ما تسرب لهذا المذهب من قبل المنتسبين له .(1/6)
…وقد انطلق الحنابلة منذ نشأتهم من عدد من الأسس الواضحة التي التزموا بها طوال تاريخهم في بغداد وغيرها ، من أهمها مسألة الالتزام بالنص على الصعيد المعرفي ، ومسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الصعيد العملي ، وهذا ماقاله أحد علمائهم أبو إسحاق العُلَثي في رسالته الناقدة لابن الجوزي قال " ومازال أصحابنا يجهرون بصريح الحق في كل وقت ولو ضربوا بالسيوف ولا يخافون لومة لائم "(1) وقد ذكر التاريخ الكثير من الشواهد الحية لمسألتي الالتزام بالنص والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقد ذكر المؤرخين أن الخرقي الحنبلي توفي في دمشق بسب بإنكاره للمنكر ، كذلك جاء في ترجمة أبي بكر الزاهد العلثي أن سبب تركه لصناعته – وكان يجصص الحيطان – أنه دخل مرة مع الصناع إلى بعض دور السلاطين مكرها وكان فيها صور من الاسفيداج(2) مجسمة فلما خلا كسرها كلها فاستعظموا ذلك فقال: هذا منكر والله أمر بكسره ، فانتهى أمره إلى السلطان وقيل هذا رجل صالح مشهور بالديانة وهو من أصحاب ابن الفراء فقال يخرج ولا يكلم ولا يقال له شيء يضيق به صدره ولا يُرجع يجاء به إلى عندنا " (3)
__________
(1) ابن رجب " ذيل الطبقات " ج2 ص 21
(2) قال صاحب القاموس " الاسفيداج بالكسر رماد الرصاص والآنك والآنكي إذا شدد عليه الحريق صار اسرنجا ملطِّف معرب " اهـ
(3) ابن رجب ذيل الطبقات ( طبعة الدهان ) ج 1 ص130(1/7)
…وقد رافق هذا السلوك العملي خشونة وزهدا في وجه الهجمة القوية لعوامل الترف والفساد الخلقي والاقتصادي الذي اجتاح بغداد عقب سيطرة الأتراك على الخلافة العباسية ، ويصف ابن عقيل الحنبلي وقد كتب له بعضهم أن صِفْ أصحابَ الإمام أحمد على ماعرفت من الإنصاف فكتب إليه يقول : هم قوم خُشن تقلصت أخلاقهم عن المخالطة ، وغلظت طباعهم عن المداخلة ، وغلب عليهم الجد وقل عندهم الهزل ، وغربت نفوسهم عن ذل المراءاة ، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات ، وتمسكوا بالظاهر تحرجا عن التأويل وغلبت عليهم الأعمال الصالحة ، فلم يدققوا في العلوم الغامضة بل دققوا في الورع وأخذوا ما ظهر من العلوم وماوراء ذلك قالوا الله أعلم بما فيها من خشية باريها ، ولم أحفظ على أحدهم منهم تشبيها ، وإنما غلبت عليهم الشناعة لإيمانهم بظواهر الآي والأخبار من غير تأويل ولا إنكار ، والله يعلم أني لا أعتقد في الإسلام طائفة محقة خالية من البدع سوى من سلك هذا الطريق والسلام "(1)
…وقال شيخ الإسلام ابن تيمية " والعجب أن هؤلاء المتكلمين إذا احتج عليهم بما في الآيات والأحاديث من الصفات قال : قالت الحنابلة : إن الله كذا وكذا بما فيه تشنيع وترويج لباطلهم ، والحنابلة اقتفوا أثر السلف وساروا بسيرهم ووقفوا بوقوفهم بخلاف غيرهم والله الموفق " (2)
__________
(1) المرجع السابق ج1 ص152
(2) ابن تيمية " مجموع الفتاوى " ج4 ص186(1/8)
…وذكر محققا كتاب الذيل هنري لاوست وسامي الدهان في مقدمة الكتاب : وسلك هؤلاء الحنابلة مسلكه في الزهد والعبادة فأسرفوا على أنفسهم وقسوا على الناس ، أراقوا الخمور وهاجموا الدور ، وحطموا آلات الطرب وضربوا المغنيات ، وكلما رأوا رجلا يمشي مع امرأة استوقفوهما وسألوهما عما يربط بينهما كما يقول ابن الأثير ، وقد حدثنا المؤرخون كابن الأثير وابن الجوزي وابن كثير وغيرهم عما كان من نضال الحنابلة وجدالهم في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يستوي في ذلك الكبير والصغير والسلطان والعامة ، دخلوا على الوزراء والملوك والخلفاء ينبهون ويعتبون ويحتجون عن إثم ظهر أو فاحشة اقترفت فكأنهم نصبوا أنفسهم لحماية الدين ورعاية الأخلاق وتقويم السلطان ، ولعل هذا بعض الذي أثار خصومهم فقاموا لإسكاتهم عن سبيل السلطان والمال وهما سلاحان ماضيان الحنابلة عزل منهما فلا هم يقبلون المناصب في الإفتاء والقضاء ولا هم يقبلون المال أو يرتضون جمع الثروة ولعل هذا الذي أثار المؤرخين والكتاب في الغضب منهم والتحامل عليهم إرضاء للسلطان طورا وطمعا في المال طورا آخرا ، أو حربا للمذهب أحيانا "(1)
…وقد عيروا عبر تاريخهم بالفقر وقلة المناصب ، وكان لأحمد بن الحسين البغدادي نزيل دمشق جزءا في الرد على ذلك .
وكانت آخر لحظات المقاومة الحنبلية في بغداد عند دخول المغول إليها واستباحتهم لها وقتلهم مئات الألوف إذ يذكر ابن كثير أنهم لما دخلوا بغداد دعوا الصرصري الحنبلي الضرير يحيى بن يوسف ، فأبى أن يجيب وأعد في داره حجارة فحين دخل عليه التتار رماهم بتلك الأحجار فهشم منهم جماعة ، فلما خلصوا إليه قتل بعكازه أحدهم ثم قتلوه شهيدا رحمه الله تعالى وله من العمر ثمان وستون سنة "(2)
__________
(1) ابن رجب " مرجع سابق " ج 1 ص11
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج13 ص211(1/9)
ويقول عبدالعزيز سيد الأهل : وقد غلب على مذهب الحنابلة اسم مذهب السلف وقد غلب هذا الاسم عليهم وعلى أمثالهم في الاعتقاد والأصول من أي مذهب كانوا ، ولذلك صار اسما جامعا لكل من تبع أحمد وطريقته يسمى سلفيا ، ولقد وقف أصحاب أحمد كالحراس على التراث المجيد يصونونه من كل عابث ويدفعون عنه يد كل سارق "(1)
وكم يصح القول بأن الحنابلة دفعوا ميراث الأزمنة الصعبة التي عاشوها في بغداد حتى سقطت على يد المغول .
…وينبغي التنبيه ونحن نضع أول أقدمنا على هذا الدرب العسير - مستعينين بالله عز وجل – أن المقصود بالحنابلة في هذه القراءة المذهب العقدي الذي ظل الحنابلة ينافحون عنه عبر تاريخهم ، إنه مذهب أحمد بن حنبل رحمه الله الذي استقاه من قول الله تعالى ومن سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ومن فهم السلف الصالح ، وإنما قلت بالاسم اصطلاحا ، ولأنهم دخلوا كل مواجهاتهم في بغداد تحت هذا الاسم
…وإني إذ أبحث في تاريخ الحنابلة إنما يعنيني الضوابط التي بني عليها هذا المذهب من الالتزام بالنصوص ، ثم استحضار التراث الحي من المقاومة في وجه الباطل وهو تراث مستمد من ضوابطهم ،
…قال نصر بن منصور النميري من شعراء أهل السنة ت 588
……سبرت شرائع العلماء طرا……فلم أر كاعتقاد الحنبلي
……فكن من أهله سرا و جهرا……تكن أبدا على النهج السوي
……هم أهل الحديث وما عرفنا……سوى القرآن و النص الجلي
…
…وإن كان في هذا كله دعوة للتمذهب فإنما هي دعوة للتمذهب على الحق الذي جاء به محمد صلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله وصحبه .
__________
(1) سيد الأهل " شيخ الأمة أحمد بن حنبل " ص 348(1/10)
…وقد عانى الحنابلة من المؤرخين كثيرا نظرا لاصطدامهم بأكبر الفرق المنتسبة للإسلام فإن غالب المؤرخين تأثر بهذا التوجه في كتاباته ، كما أن عزوف الحنابلة عن مخالطة السلطان جعل الطبقات المهتمة بالكتب - وهم من الوزراء والكتاب - من خصومهم ، فساهم هؤلاء في نشر ودعم كتب المذاهب الأخرى في حين عزَّت كتب الحنابلة خصوصا حنابلة بغداد . فهذا كتاب الفنون لابن عقيل لم يوجد منه سوى مجلدين وهو كتاب قيل أنه يبلغ أربعمائة مجلد ، وذكرت كتب التراجم أن مصنفات ابن المنادي الحنبلي ت 336هـ بلغت نحوا من أربعمائة مصنف لم يسمع من مصنفاته إلا أقلها ، وذكرت أن ابن البناء صنَّف خمسمائة مصنف .
…والغالب في كتب الحنابلة الموجودة – على غالب الظن –كتب حنابلة الشام وبعضا من مؤلفي الحنابلة في بغداد كابن الجوزي وابن أبي يعلى وابن هبيرة . وحتى هذا الموجود الغالب أن يوجد منه نسخ محدودة قال محمد محي الدين في مقدمة كتابه للمنهج الأحمد :" وعندما أردنا تحقيق هذا الكتاب لم نعثر إلا على نسخة واحدة مصورة عن نسخة استامبول ونسخة أخرى نسخت عنها وقد سألنا أهل العلم عن نسخة أخرى فلم نجد وكل ما بلغنا من الخبر عن نسخ هذا الكتاب يدل على أن الأصل لكل النسخ المحفوظة في دور الكتب هو نسخة استامبول "(1)
…وذكر محقق كتاب إبطال التأويلات لأبي يعلى بن الفراء في مؤلفات القاضي أبي يعلى :" ولم يكتب لهذه المؤلفات البقاء فلم يصل إلينا منها إلا أقل القليل " (2) .
…وكان لواقعة التتار أثر بلا شك في ندرة كتب حنابلة بغداد فقد ذُكر في ترجمة عبد الصمد بن أحمد البغدادي قوله : في قلبي حسرتان ولدي وكتبي وراحا في الواقعة " (3)
__________
(1) محمد محي الدين " مقدمة كتاب المنهج الأحمد ج 1 ص31
(2) مقدمة كتاب أبي على ابن الفراء " إبطال التأويلات " ج1 ص12
(3) ابن رجب " ذيل طبقات الحنابلة " ج 2 ص 292 .(1/11)
…وقد ذكر في ترجمة يحيى بن هبيرة الوزير أنه بيعت كتبه اشتراها بعض الأعداء فغسلها .
…وذكر المستشرق آدم متز أن المؤرخ في عرضة للخطأ في هذه المسائل – مسائل الخلاف بين المذاهب – لأن معارفنا عن هذه الحركات مستقاة من مصادر شافعية " (1)
…وكان من تبعات هذا التضييق والمحاربة أن غدا لفظة حنبلي تهمة ، ودافع الذهبي قديما عن أحد الحنابلة فقال وما التحنبل بعار و الله " (2) ، ودافع أحد المحدثين وهو محمد محي الدين في مقدمة تحقيقه للمنهج الأحمد قال :" وكنا في عهد الصبا نتوهم في هذه العبارة وما يشابهها أن مذهب الحنابلة في الفروع شديد الحرج صعب التكاليف فلما أن أراد الله بنا الخير علمنا علم اليقين أن هذا المعنى الذي مر بأذهاننا من قول الناس ليس له أصل يستند إليه ولا أساس يرتكز عليه "(3)
…وقال محققا ذيل طبقات الحنابلة هنري لاووست وسامي الدهان في معرض بيانه لحالة التضييق التي عانى منها الحنابلة " فأغفلوا ذكرهم في الكتب وتناسوا كتبهم وحاربوهم حربا لا هوادة فيها . وكانت هذه الحرب شديدة عنيفة على الحنابلة ظلمتهم في القرن الثالث الهجري وامتد الظلم حتى القرن الرابع عشر اليوم فقد جاء ذكرهم مقتضبا موجزا ووردت بعض تراجمهم في ثنايا الكتب قصيرة لا تكاد تشفي علة ولا تنقع غلة ، لهذا جهل العلم مكانهم الصحيح من التاريخ وموقعهم الحق من المذاهب على مر العصور الإسلامية "(4)
…قلت ولا شك أن لحنابلة الشام مِنَّة على الحنابلة فقد حفظوا كثيرا من تاريخ هذا المذهب كما أن كتب التراجم والطبقات ساهمت كثيرا في تسليط الضوء على تاريخ الحنابلة .
__________
(1) آدم متز " القرن الرابع الهجري " ج 1ص394
(2) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 18 ص382
(3) العليمي " المنهج الأحمد ج 1 ص9
(4) ابن رجب " ذيل طبقات الحنابلة " مقدمة التحقيق ج 1 ص11(1/12)
…وبعد كل هذا فهذه قراءة مجتهد ، ولا يلام المرء بعد اجتهاده ، فما فيها من خير وحق فمن توفيق الله وإعانته ، وما فيها من زلل وخطأ فمن نفس ما تعمدته ، نسأل الله جل في علاه أن يلهمنا الصواب وأن يرزقنا العلم والعمل مخلصين له الدين ولو كره الكافرون وأن يغفر سبحانه الذنوب ويستر العيوب بجميل فضله وكريم إحسانه إنه سميع قدير وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
كتبه : العبد الفقير إلى مولاه المحتاج لعطاياه
… علي بن محمد باخيل آل بابطين
مكة حرسها الله
…
…
الفصل الأول
الإرهاصات المبكرة
[ المطّوعة ] .… 29
[ المأمون المنتصر والصدام مع المعسكر السني ]…40
[ مقتل أحمد بن نصر الخزاعي ]…61
[ أهل السُنة بعد وفاة أحمد بن حنبل ]…71
[ الطبري والحنابلة ]…75
[ الحنابلة تحت قيادة البربهاري ]…100
…قبل الخوض في معترك هذه الإرهاصات الأولى لنشأة الحنابلة في بغداد ينبغي أن نتطرق إلى عدد من المداخل الأولية المتعلقة بقراءتنا ومن أهمها بغداد مدينة السلام .
…وبغداد مدينة العباسين ، ومولودة المنصور ، كانت الأرض البكر التي تبلور فيها المذهب الحنبلي بسبب تلاطم الأفكار الفكرية الكبرى ، التي ضمتهم بغداد في رحمها الواسع ، وانطلق من رؤية السلف وفهمهم للدين الإسلامي الذي كان أهل الحديث هم ممثلوه والمدافعون عنه .
…وكانت بغداد من أهم مدن العالم آنذاك وعاصمة الإسلام ومقصد الباحثين عن المال والعلم والشهرة .
… روى في تاريخ بغداد عن ابن مجاهد قال : " رأيت أبا عمر بن العلاء في النوم فقلت له : ما فعل الله بك ؟ فقال لي : دعني مما فعل الله بي من أقام ببغداد على السُنة والجماعة ومات نُقل من جنة إلى جنة "(1)
…ونقل كذلك قول أبي بكر ابن عياش قال : الإسلام ببغداد وإنها لصيادة تصيد الرجال ومن لم يرها لم ير الدنيا " (2)
__________
(1) الخطيب البغدادي "تاريخ بغداد ج1 ص 348
(2) المرجع السابق ج1 ص349(1/13)
…وهي أم الدنيا وسيدة البلاد كما يصفها ياقوت في معجم البلدان (1)
…وصفها عمارة بن عقيل الشاعر
……صفا العيش في بغداد واخضر عوده……
……………وعيش سواها غير خفض ولا غض
……
تطول بها الأعمار إن غذاءها
……………مريء ، وبعض الأرض أمرأ من بعض
… وبغداد كما يصفها الخطيب البغدادي بقوله : " وأكثر ما كانت عمارة وأهلا في أيام الرشيد إذ الدنيا قارة المضاجع دارة المراضع خصيبة المراتع موردة المشارع ، ثم حدثت فيها الفتن وتتابعت على أهلها المحن فخرب عمرانها وانتقل قطانها إلا أنها كانت قبل وقتنا والسابق لعصرنا على ما بها من الاختلال والتناقص في جميع الأحوال مباينة لجميع الأمصار ومخالفة لسائر الديار "(2)
…ومن ذلك ما جاء في ترجمة ابن كج القاضي الشافعي عند ابن العماد في شذرات الذهب قال : حكى السمعاني أن الشيخ أبا علي السنجي لما انصرف من عند الشيخ أبي حامد ( الغزالي ) واجتاز به-أي بابن كج القاضي - فرأى من علمه وفضله فقال له : يا أستاذ الاسم لأبي حامد والعلم لك فقال : ذاك رفعته بغداد و حطتني الدينور " (3)
…وبغداد محال متعددة وأحياء معروفة مثل المخرم وباب البصرة والكرخ والحربية والرصافة وباب الطاق .
…وينقل الخطيب البغدادي في وصفه لبغداد قول عبدالله بن أحمد بن حنبل قال : سمعت أبي يقول : المخرم كنانة السُنة " (4)
__________
(1) ياقوت " معجم البلدان " ج1 ص456
(2) الخطيب " تاريخ بغداد " ج1 ص440
(3) ابن العماد " شذرات الذهب " ج 5 ص36
(4) الخطيب " مرجع سابق " ج 1 ص412(1/14)
…والمخرم محلة في شرقها و يدل هذا القول على وجود فئات أخرى في فترة مبكرة من تاريخ بغداد ، وهو ما أثبته سائر المؤرخين ، ينقل الخطيب في المرجع السابق قول الواقدي قال : الكرخ مغيض السفل ، ويفسر الخطيب هذه العبارة بقوله : إنما عنى الواقدي بقوله هذا مواضع من الكرخ مخصوصة يسكنها الرافضة دون غيرهم ، ولم يرد سائر نواحي الكرخ ثم ينقل إثباتا لقوله شعرا لنفطويه الأديب والنحوي الحنبلي قال :
…سقى أربع الكرخ الغوادي بديمة وكل ملث دائم الهطل مسبلُ (1)
ثم ينقل حادثة عن أبي الحسن بن زرقويه قال : كنت يوما عند أبي بكر الجعابي* فجاءه قوم من الشيعة فسلموا عليه ودفعوا له صرة فيها دراهم ، ثم قالوا له : أيها القاضي إنك قد جمعت أسماء محدثي بغداد وذكرت من قدم إليها وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب قد وردها فنسألك أن تذكره في كتابك فقال : نعم يا غلام هات الكتاب فجيء به فكتب فيه : وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقال إنه وردها ، قال ابن زرقويه فلما انصرف القوم قلت له : أيها القاضي هذا الذي ألحقته في الكتاب من ذكره فقال : هؤلاء الذين رأيتهم "(2)
…قال الخطيب : " وقد اختط الشيعة موقعا زعموا أن عليا صلى فيه ، وفي السوق العتيقة مسجد تغشاه الشيعة وتزوره وتعظمه وتزعم أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى في ذلك الموضع ، ولم أر أحدا من أهل العلم يثبت أن عليا دخل بغداد سوى ما ذكره الجعابي(3) في كتابه " (4)
__________
(1) الخطيب البغدادي " تاريخ بغداد "ج 1 ص392
(2) المرجع السابق ج1 ص 404
(3) الجعابي ، هو محمد بن عمر بن سلم ، تخرج بأبي العباس بن عقدة وأخذ عنه علم الحديث وشيئا من التشيع ، ولما احتضر أوصى أصحابه أن تحرق كتبه فحرقت ، ولما أخرجت جنازته كانت سكينة نائحة الرافضة تنوح عليه في جنازته ت 355 هـ " ابن كثير " البداية والنهاية " ج11 ص261
(4) الخطيب البغدادي " تاريخ بغداد " ج1 ص 404(1/15)
…قلت : والمسجد الذي ذكره يسمى جامع براثا وسيرد علينا في التاريخ خبره ، وقوله في نفي دخول علي رضي الله عنه بغداد مراده أنه لم يمر بموضعها ، وتزعم الرافضة أنه مر بالموضع عند توجهه لقتال الحرورية .
…وكل ما سبق يدل على اختطاط الكرخ من قِبل السُنة والشيعة ، خصوصا وأنه يضم ما يمكن تسميته بالسوق الشعبي في بغداد .
…في حين يسيطر أهل السُنة علي الجهات الشرقية والشمالية والجنوبية
…جاء في الذيل لابن النجار قال : " قال عبدالله بن أحمد بن حنبل كنت أصبو فأخذ أبي بيدي وعبر بي الجسر فمضى إلى جامع الرصافة فرأينا حبابا فيها السويق والسكر والماء المبرد بالثلج وخدما في أيديهم الطاسات يقولون للناس : اشربوا على حب معاوية بن أبي سفيان " (1)
…قلت : وهذه الاحتفالية بشخص معاوية رضي الله عنه فعل من غلاة أهل السُنة نكاية بالروافض ، وقد تحولت شخصية معاوية رضي الله عنه في تلك الحقبة وما بعدها إلى رمز للتجاذب السياسي والديني بين السُنة والشيعة ، وسيمر علينا لاحقا الكثير من الجدل حولها .
… وكانت الكثافة السكانية للسنة في بغداد تلجم أي محاولة للظهور لدى الشيعة ، والذين يتركزون في الكرخ فقط ، أما ما ذكره المستشرق الفرنسي ماريوس كنار أن باب الطاق من محال الشيعة ، فهذا إنما امتد إليه وجودهم عند كثرتهم في العصر البويهي في أوسط القرن الرابع الهجري .(2)
…ونحن عندما نتحدث عن توازنات السكان وقوتهم فإننا يجب أن نعلم أن الحديث هو عن مدينة ذات كثافة سكانية هائلة ، لا تستوعبها كل مدن العصور القديمة ، حتى أن المتوكل لما نزل دمشق وعزم على سكناها غلت الأسعار وهو بها لكثرة الخلق الذين معه ، ولا شك أن ما نسميه حاليا بالبنية الأساسية التي تسمح بسكنى عدد كبير من الناس لم تكن متوفرة بدمشق ، وفي كل مدن الشرق الإسلامي عدا مدن العراق بغداد وسامرا .
__________
(1) ابن النجار " ذيل تاريخ بغداد " ج4ص63
(2) المورد ع2 1973 ص16(1/16)
…يذكر الخطيب البغدادي إحصاءات تقريبية لعدد سكان بغداد اعتمادا على عدد الحمامات قال : " إن عدد الحمامات بها ستون ألف حمّام ، وذكر أنه يكون بإزاء كل حمّام خمسة مساجد فيكون ذلك ثلاث مئة ألف مسجد ويكون أقل ما يكون في كل مسجد خمسة أنفس يكون بذلك ألف ألف وخمس مئة ألف إنسان "(1)
…قلت وهو وإن بالغ في عدد الحمامات إلا أنه اقتصد في عدد رواد كل مسجد ، وقد أحصيت الحمامات في عهد معز الدولة البويهي فبلغت بضعة عشر ألف حمام . كما ذكر الخطيب (2)، وتصل بعض التقديرات بعدد سكان بغداد – اعتمادا على إحصاء البيوت – إلى ستة وتسعين مليونا ، وهو رقم لا يصح أبدا .
…ويعقب يعقوب لسنر في كتابه عن خطط بغداد على هذه الأرقام فيقول :" إلا أن أدلة أخرى تشير – مما يظهر إلى أن الرقم 200.000 – 600.000 للسكان لم يكن مستحيلا " (3) .
…في حين يذكر أن القسطنطينية حاضرة الروم كان عدد السكان بها حسب أكثر التقديرات اعتدالا مئة وخمسون ألف .
…ولاشك أن قرابة نصف مليون هو عدد كبير بكل المقاييس في الأزمنة القديمة . ويشير ابن الأثير في حوادث سنة خمس وخمسين ومائتين خلال فتنة بين أهل بغداد وجندها القادمين مع محمد بن أوس البلخي من خراسان قال :" فقيل إنه عبر إلى الجزيرة من العامة أكثر من مئة ألف نفس وكان قيمة ما انتهب من المال ألفي ألف درهم " (4)
…قلت والرقم وإن احتوى على مبالغة أو سوء تقدير ، إلا أنه دال على ضخامة عابري النهر فهال العدد ناقل الخبر فوقع في سوء التقدير ، ولكن حتى لو اعتبرنا أن العدد كان عشرة آلاف من العوام الأشداء القادرين على الفعل العسكري فهو عدد فاعل في الأحداث وهذا ما سنلحظه لاحقا .
__________
(1) الخطيب البغدادي " تاريخ بغداد " ج 1 ص439
(2) الخطيب البغدادي " تاريخ بغداد "ج1 ص440
(3) لسنر " خطط بغداد " ص204
(4) ابن الأثير " الكامل " ج 7 ص202(1/17)
… هذه الكثافة السكانية لأهل السُنة في بغداد كانت عاملا من عوامل تفعيل الدور الحنبلي في بغداد ، وتنامي قوته في عاصمة الخلافة .
…أما المتغير الثاني في قراءتنا لتاريخ الحنابلة فهم أهل بغداد من أهل السُنة وهم غالبية بها و يعبر عنهم المؤرخون بالعامة والعوام .
…وينظر العديد من المؤلفين القدامى إليهم نظرة ازدراء فهم الغوغاء والسفل كما يسميهم الطبري في تاريخه .
…ذكر صاحب اللسان في مادة ( عمم ) قال : والعامة خلاف الخاصة قال ثعلب : سميت بذلك لأنها (في المطبوع لأنه ) تعم بالشر "(1). وفي الحديث : بادروا بالأعمال ستاً كذا وكذا وخويصة أحدكم وأمر العامة ، أراد بالعامة القيامة لأنها تعم الناس بالموت .
…قلت أما تفسير ثعلب فهو غير لغوي ، وإنما هو تعبير عن النظرة للعوام والتي نجدها عند كل المؤلفين القدامى ، ولعل الصواب أنها مشتقة من العموم وهو الكثرة . وقيل مشتقة من العمى و ليس بصحيح .
…والعامة في الحديث النبوي جاءت في أكثر من موضع منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وفيه " وأمر العامة (2)، رواه مسلم ، و حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه في تفسير الرويبضة قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة .
…وروي في المستدرك للحاكم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في التراحم قال : " إنه ليس برحمة أحدكم ولكن رحمة العامة رحمة العامة (3).
__________
(1) لسان العرب مادة ( عمم ) ج 6 ص 451
(2) الإمام مسلم " باب في بقية أحاديث الدجال "
(3) الحاكم " المستدرك " كتاب البر والصلة " ج 4 ص168(1/18)
…قلت : وكل ما ورد يتضمن مفهوما واحدا لكلمة العامة وهي من العموم ، ويقصد بهم غالب الناس . لكن ولغلبة الجهل على العوام فقد اقترن لفظ العامة بالجهل . بيد أن ذلك لم يكن مدعاة للتنقص منهم ، فالجميع مسلمون وحركاتهم التي قد لا تروق لبعض المؤرخين قد تكون منطلقة من عوامل دينية و اقتصادية واجتماعية وسياسية ، وأيا كان الأمر فإن الحكم يجب أن يكون من خلال الفعل لا من خلال فاعله .
…ولاشك أن كثيرا من الحوادث التي يصدر عنها فوضى اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية إنما تعزى للعامة إذ هو اسم عام .
… ومن عوامل ظهور دور العامة في الأحداث السياسية ضعف السلطة الحاكمة مع وجود دواعٍ شعبية مرتبطة بالتطلعات الدينية يدفعها للظهور وجود قادة ميدانيين يستطيعون تحريك الناس واتخاذ مواقف سياسية وعسكرية خارج الإطار السلطوي ، فمن ذلك ما جاء عند الطبري في أحداث سنة خمس ومائتين من أن عبدالرحمن المطوعي جمع جموعا بنيسابور ليقاتل بهم الحرورية بغير أمر والي خراسان "(1).
…وتعد الفتنة التي وقعت بين الأمين وجيوش أخيه المأمون في بغداد أول فرصة للعامة في بغداد لاتخاذ مواقف سياسية وعسكرية وهذه الحادثة تعد النقطة الزمنية المثلى التي يمكن الانطلاق منها ، إذ هي لم تكن حادثا تاريخيا عابرا ، وإنما كانت خطا فاصلا بين عصرين . عصر الاستقرار السياسي ، وعصر القلق السياسي الذي كُتب على بغداد هذه العاصمة الضخمة أن تعيشه حتى السقوط الكبير لها على يد المغول .
__________
(1) الطبري " تاريخ الرسل والملوك " ج 8 ص 579(1/19)
…وقد كان الخلاف العميق بين الأمين والمأمون على السلطة أول مناسبة اتضح فيها الفعل الشعبي بوضوح ، وهذا ما لحظه شاكر مصطفى في كتابه ( دولة بني العباس ) قال معدداً نتائج الخلاف بين الأمين والمأمون :" أدى اعتماد الأمين على عناصر العامة في بغداد إلى تكتيلها وشعورها بقوتها ، ولهذا فإنها سوف تظهر خلال العهود المقبلة كجماعة مسلحة وذات تأثير مباشر في الأحداث المختلفة ولا سيما عند الأزمات "(1)
ويذكر أحد شعراء بغداد عن الحرب بين الأخوين فيقول :
…خرّجت هذه الحروب رجالاً… لا لقحطانها ولا لنزار
…معشرا في جواشن الصفوف يغدو… ن إلى الحرب كالأسود الضواري
…ليس يدرون ما الفرار إذا الأبـ… طال عاذوا من القنا بالفرار
…ولم تكن مشاركة العوام في القتال إلى جانب الأمين لدوافع اقتصادية أو فوضوية كما توحي بذلك نصوص الطبري التي تعكس موقف أنصار المأمون ، و النظرة المتعالية التي ينظر بها المؤرخون والمثقفون للعوام بل كانت تعبيرا واضحا عن وجهة نظرهم إزاء سياسة المأمون التي لا تتفق مع ما يرونه ، وقد ظهر هذا التعارض بجلاء إثر نجاح المأمون في الاستيلاء على السلطة .
…ولم يكن اعتماد الأمين في صراعه مع طاهر بن الحسين على العامة نتيجة لتخاذل الجند النظاميين فحسب بل لثقته بهم إذ كان للعوام دور في إفشال تمرد أحد قادته وهو الحسين بن علي بن ماهان القادم من الشام ، جاء في البداية والنهاية عند الحديث عن ابن ماهان قال :" وقد قدم بالجيش من الشام فألهب الناس على الأمين واقتتل مع جيش الخلافة ، فاختلف عليه الناس وصار أهل بغداد فرقتين ، فرقة مع الأمين وفرقة عليه فاقتتلوا فغلب حزب الخليفة وأسروا الحسين ، فعند ذلك أمر الخليفة من لم يكن له سلاح من العامة أن يعطى سلاحا من الخزائن فانتهب الناس الخزائن "(2)
__________
(1) مصطفى " دولة بني العباس " ج 1 ص450
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 10 ص236(1/20)
…ولا يسعنا أن نعتبر تسليح العامة إجراء ارتجاليا من الأمين بل هو جزء من سياسة الأمين من العوام في بغداد ، وهو يتضمن مكافأة لهم على دورهم في إخماد التمرد ، وإعدادا لهم لمقاومة طاهر بن الحسين قائد المأمون . وقد دفعت سياسات طاهر الاقتصادية التي اتبعها خلال حصاره لبغداد كالمصادرات المالية لذوى النفوذ من التجار والقادة في معسكر الأمين إلى ضعف الرغبة من قبلهم في الوقوف إلى جانب الأمين فلم يبق أمامه سوى الاعتماد على العوام في هذه الحرب ، يقول الطبري " وسمى طاهر الأرباض التي خالفه أهلها ومدينة أبي جعفر الشرقية وأسواق الكرخ والخلد وما والاه دار النكث ، وقبض ضياع من لم ينحز إليه من بني هاشم والقواد والموالي وغلاتهم حيث كانت من عمله فذلوا وانكسروا وانقادوا ، وذلت الأجناد وتواكلت عن القتال إلا باعة الطرق والعراة وأهل السجون والأوباش والرعاع والطرارين وأهل السوق " (1)
…قلت ورغم كل هذه الألقاب المقذعة التي وصف بها الطبري المقاتلة من العوام ، إلا أن المقاومة التي أبدوها كانت كبيرة ، وقد أوقعوا بجيش المأمون الكثير من الخسائر . ويصف أحد شعراء جيش المأمون حالهم :
…يفنى الزمان وما يفنى قتالهم … والدور تُهدم والأموال تنتقص
…مع ذلك كان اقتصار الأمين بالاعتماد عليهم في مواجهة جيش منظم كجيش طاهر بن الحسين مقامرة خطرة اضطر لها الأمين ، وخسر بنتيجتها حكمه وحياته ، إلا أنها سلطت الضوء على قدرة العامة في بغداد على التعبير عن مواقفهم السياسية وكشفت عن قدراتهم العسكرية .
__________
(1) الطبري " تاريخ الرسل والملوك " ج 8 ص 448(1/21)
…وكانت نتائج الصراع هزيمة الأمين وسيطرة المأمون ذي التوجهات الدينية المخالفة للرأي العام السني ، والتي ستظهر لاحقا ، وتدفع أهل بغداد إلى مبايعة إبراهيم بن المهدي وتسميته بالخليفة السني كما جاء عند ابن الأثير ، إشارة إلى تشيع الخليفة المأمون الذي انحرف عن طريق السُنة وخالف نهج سلفه وبايع علي بن الرضا العلوي وليا للعهد .
…كما أن من أهم إفرازات هذا الصراع نشوء طبقة من المنتفعين المستغلين للفوضى التي حلت ببغداد ، والذين سيواصلون التحرك لاكتساب منافع اقتصادية جديدة ، وستسمى هذه الطبقة بالعيارين والشطار ، والتي يجمع المؤرخون القدامى على انتقاصها واعتبارهم مجموعة من اللصوص والرعاع ، بينما يراهم بعض المتأخرين على أنهم حركة مقاومة للنفوذ الأجنبي الفارسي على بغداد كما يرى النجار في دراسته ( حكايات الشطار والعيارين ) (1)
…قلت وينبغي التفريق بين جهود المقاومة السياسية في بغداد وبين السلوك الانتهازي للعيارين ، و قد تقتضي بعض المواقف والأحداث تلاقيا بينهما لما ينشأ من ذلك التلاقي من منافع مشتركة للطائفتين ، وهو تلاق طارئ بلا ريب إذ أن المصالح العليا لكل منهما متعارضة .
…هذه الأهداف الحسنة للمقاومة لا نجدها عند العيارين كما يدعي النجار في كتابه وأن هدفهم كان تخليص بغداد من النفوذ الأجنبي ، وهو تعليل يتضح فيه تأثير المعطيات التاريخية والسياسية السائدة زمن المؤلف ، غير أن هذا لا وجود له في واقع الأحداث المشار إليها .
__________
(1) النجار " الشطار والعيارون " ص ص117-131(1/22)
…و قد أعقب سقوط بغداد ومقتل الأمين سنة ثمان وتسعين ومئة ، وحتى عودة المأمون لها سنة مائتين وأربع أن عاشت بغداد عهدا من الفوضى السياسية لم تكن السلطة قادرة بوضوح على ضبط الأمن فيها ، خصوصا بعد عزل طاهر بن الحسين وتوليته الرقة وإرسال الحسن بن سهل واليا على بغداد وهو أخو الفضل بن سهل وزير المأمون و المكروه من قبل الأوساط العامة والخاصة في بغداد مما فجر النقمة على سياسات المأمون ، ويصف الطبري موقف أهل بغداد من هذا الإجراء بقوله :" فغضب لذلك بالعراق من كان بها من بني هاشم (1) ووجوه الناس وأنفوا من غلبة الفضل بن سهل على المأمون ، واجترؤوا على الحسن بن سهل بذلك " (2)
…وجاءت سياسة الحسن بن سهل الضعيفة ، ثم مقتل القائد العباسي هرثمة بن أعين على يد المأمون لتدفع محلة الحربية ببغداد إلى التمرد وطرد عمال الحسن بن سهل عليها ، وكانت كل محال بغداد متعاطفة مع هذا التمرد خلا ما ذكر عن موقف أهل الكرخ من الرافضة مما دفع المتمردين إلى حرق الكرخ ونهبه كما ذكر الطبري(3)
__________
(1) تعبير ( بني هاشم ) في هذا النص وفي غيره من كتاب الطبري لهذه الحقبة وما بعدها إنما يقصد به( بنو العباس ) غالبا . كما يظهر لمتتبع هذه التعبيرات .
(2) الطبري " مرجع سابق " ج 8 ص 528
(3) المرجع السابق ج 8 ص 544(1/23)
…ثم عقب ذلك في سنة إحدى ومائتين اختيار منصور بن المهدي على أنه أمير من قبل المأمون حتى يرجع ، وكانت بغداد آنذاك خارجة عن سلطة المأمون فعليا رغم كونها معترفة بشرعيته وخلافته حتى اختير علي بن موسى الرضا العلوي وليا للعهد فتحول الأمر إلى معارضة صريحة ، وتم إسقاط الاعتراف بخلافة وشرعية المأمون واختير إبراهيم بن المهدي خليفة لكنه لم يتسن له السيطرة على بغداد بسبب الحروب التي نشبت بين قادته في بغداد والحسن بن سهل القائد المأموني ، وكان للعوام خصوصا من العيارين حضور في جيش معارضي المأمون فعاشت بغداد حينئذ فوضى اجتماعية بالغة وتأذى الناس كثيرا من انفلات الوضع الأمني فكان أن نشأت حركة المطوعة .
…
[ المطّوعة ] .
…في سنة 201 ظهرت حركة المطوعة ، وهي حركة تنظيمية سنية نشأت في بغداد نتيجة عدد من الظروف الاجتماعية والأمنية الناشئة بسبب الفوضى السياسية والصراعات العسكرية .
…والمطوعة من التطوع وهو العمل الاختياري ، وأصلها المتطوعة أدغم التاء في الطاء لتقارب المخرج .
… وسيظل هذا المصطلح حيا في التاريخ الإسلامي لحقب تالية خصوصا في المجال العسكري إذ يقابل مصطلح المرتزقة وهم الجنود يعملون بأجر .
…قال الطبري شارحا الظروف التي نشأت فيها هذه الحركة :" لما رأى الناس ذلك وما قد أخذ منهم وبيع من متاع الناس في أسواقهم وما قد أظهروه من الفساد في الأرض والظلم والبغي وقطع الطريق وأن السلطان لا يغير عليهم "(1).
__________
(1) الطبري " مرجع سابق " ج 8 ص 522(1/24)
…وذكر ابن الأثير :" وفي هذه السنة تجردت المتطوعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان سبب ذلك أن فساق بغداد والشطار آذوا الناس أذى شديدا وأظهروا الفسق وقطعوا الطريق وأخذوا النساء والصبيان علانية وكانوا يأخذون ولد الرجل وأهله فلا يقدر أن يمتنع منهم وكانوا يطلبون من الرجل أن يقرضهم أو يصلهم فلا يقدر على الامتناع وكانوا ينهبون القرى لا سلطان يمنعهم ولا يقدر عليهم لأنه كان يعتز بهم وهم بطانته قال فلما رأى الناس ذلك قام صلحاء كل ربض ودرب ومشى بعضهم إلى بعض وقالوا إنما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة وأنتم أكثر منهم فلو اجتمعتم لقمعتم هؤلاء الفساق "(1)
…وذكر المسعودي في مروج الذهب أنه :" اضطربت بغداد في أيام إبراهيم بن المهدي وثارت الرويبضة وسموا أنفسهم المطوعة وهم رؤساء العامة والتوابع " (2)
…وذكر مسكويه قال " وتجردت المطوعة للنكير على الفساق ببغداد ورئيسهم خالد الدريوش وسهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان قال فلما رأى الناس ذلك وظهور هذا البغي والفسق والنهب وأن السلطان لا يغيره مشى بعضهم إلى بعض " وقال عن الدريوش فدعا جيرانه وأهل محلته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأجابوه إلى ذلك فشد على من يليه من الفساق والشطار فمنعهم فيما كانوا يصنعون وامتنعوا عليه فقاتلهم وهزمهم وأخذ بعضهم فضربهم وحبسهم "(3)
…وقال ابن كثير :" وفيها عم البلاء بالعيارين والشطار والفساق ببغداد وما حولها من القرى ، قال انتدب لهم رجل يقال له خالد الدريوش وآخر يقال له سهل بن سلامة أبو حاتم الأنصاري من أهل خراسان والتف عليهم جماعة من العامة فكفوا شرهم وقاتلوهم ومنعوهم من الفساد في الأرض واستقرت الأمور كما كانت وذلك في شعبان ورمضان "(4).
__________
(1) المرجع السابق ج 8 ص551
(2) المسعودي " مروج الذهب " ج 4 ص 29
(3) مسكويه " تجارب الأمم ج 6 ص 433
(4) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 10 ص 247(1/25)
…وقال صاحب العيون والحدائق :" وفيها ظهر رجلان أحدهما الدريوش والآخر سهل بن سلامة الأنصاري يأمران بالمعروف وينهيان عن المنكر فأجابهما إلى ذلك خلق كثير وسبب ذلك أن الحربية والفساق والشطار والعيارين كانوا ببغداد قويت شوكتهم وكثر فسادهم حتى دخلوا على حرم الناس واستباحوا الأموال وكثر عيثهم ببغداد والقرى حتى حطوا على الناس الخفائر وسبب ذلك أن السلطان تقوى بهم على محاربة الحسن بن سهل فلما ظهر هذان الرجلان ودعيا إلى كتاب الله وسنة رسوله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سارع الناس إلى قبول ذلك لما ظهر من الفساد فلما كثر الآمرون بالمعروف انخذل الفساق وذهبت شوكتهم . " (1)
…وذكرهم أبو الفدا قال " وفيها اشتد أذى فساق بغداد وشطارها على الناس حتى قطعوا الطريق ، قال فتجمع أهل بعض المحال ببغداد مع رجل يقال له خالد بن الدريوس ( هكذا في المطبوع بالمهملة ) وشدوا على من يليهم من الفساق فمنعوهم وطردوهم ، وقام بعده رجل يقال له سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان وردع الفساق واجتمع إليه جمع كثير من أهل بغداد وعلق مصحفا في عنقه وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، فقبل الناس منه ، وكان قيام سهل المذكور لأربع خلون من رمضان وقيام ابن الدريوس قبله بنحو ثلاثة أيام "(2) .
__________
(1) مؤلف مجهول " العيون والحدائق " ج 3 ص 353
(2) أبو الفدا " المختصر " ج2 ص22(1/26)
…قلت وقد اتفق جميع المؤرخين الذين ذكرنا على أن دافع المطوعة كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، في زمن اختلت فيه سبل الناس وانتهكت أعراضهم وانتهبت أموالهم مع عجز السلطة عن ردع ذلك ، أما قول المسعودي فلا يعتد به فهو معتزلي قح متشيع وقوله الرويبضة يشير إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلّم ، وفيه قيل وما الرويبضة قال التافه يتكلم في أمر العامة " (1) وفي رواية لأنس رضي الله عنه وأرضاه قيل وما الرويبضة قال الفويسق الذي يتكلم في أمر العامة " (2).
…قلت وفاعل ما يحبه الله ويرضاه ليس تافها إنما التافه الفويسق الذي يتطاول على المحرمات ويقترف المنهيات .
…وأشار الطبري ومسكويه إلى وجود خلاف بين الدريوش وسهل بن سلامة قال أبو جعفر رحمه الله :" إلا أن الدريوش خالفه وقال : أنا لا أعيب على السلطان شيئا ولا أغيره ولا أقاتله ولا آمره بشيء ولا أنهاه ، وقال سهل بن سلامة : ولكني أقاتل كل من خالف الكتاب والسُنة كائنا من كان سلطانا أو غيره والحق قائم في الناس أجمعين فمن بايعني على هذا قبلته ومن خالفني قاتلته "(3)
…قلت وينبغي أن نعرف مدلول كلمة ( سلطان ) في هذا الاختلاف فمن هو المقصود بذلك أهو المأمون الخليفة القائم بأمر الناس والمعترف به في بغداد آنذاك ، أم أن المقصود الجهات ذات النفوذ المتمثلة في منصور بن المهدي المختار حاكما على العراق نيابة عن المأمون ، والذي لم يصل إلى هذا المنصب بأمر ولي الأمر وإنما اختاره العباسيون في بغداد الذين أزعجهم تولية الحسن بن سهل ، وقالوا : لا نرضى المجوسي ابن المجوسي ، وكان في صف منصور هذا قائد جيشه عيسى بن محمد بن أبي خالد .
__________
(1) مسند أحمد 7899
(2) مسند أحمد 13231
(3) الطبري " مرجع سابق " ج 8 ص 552(1/27)
…والراجح القول الثاني لما في سياق النص من دلالة ، فقد جاء في نص للطبري عند الحديث عن الفساق " وجاء أهلها فاستعدوا السلطان عليهم فلم يمكنه اعداؤهم عليهم ولم يرد عليهم شيئا مما كان أخذ منهم "(1) وقال مسكويه :" فلما رأى الناس ذلك وظهور هذا البغي والفسق والنهب وأن السلطان لا يغيره "(2) وقول صاحب العيون والحدائق " وسبب ذلك أن السلطان تقوى بهم على محاربة الحسن بن سهل"(3) ولاشك أن عبارة السلطان فيما سبق لا يراد بها المأمون إطلاقا .
…وإن ترجح ذلك ألا يدخل الجند الذين في جيش عيسى بن أبي خالد تحت كلمة السلطان ، و هل التعرض لهم وقتالهم إلا تعرض للسلطان ، فكيف على قول الدريوش أنه لا يتعرض لهم ، وإنما هم أس الشر ودافع قيام المطوعة ، وقد ذكر المؤرخون أن قيام حركة المطوعة كسر منصور ابن المهدي لأنه إنما كان عظم أصحابه الشطار ومن لا خير فيه .
…وعلى هذا فالخلاف المذكور خلاف لفظي لا معنى له ، إذ لا يمكن لمدعٍ أن يقول بأن الدريوش وأتباعه يتركون العيارين والفساق واللصوص ممن ينضوي تحت لواء السلطة وينهون غيرهم .
…وعندي أن قيام حركة سهل بن سلامة لم يكن ذا بعد سياسي وإنما بعد اجتماعي أمني ، وقد بايعه على ذلك كل رموز السلطة في بغداد ، ولا يمكن أن يبايعوه وهم يرون فيه منافسا سياسيا ، قال ابن جرير :" وتحول منصور بن المهدي وخزيمة بن خازم والفضل بن الربيع وكانوا يوم تحولوا بايعوا سهل بن سلامة على ما يدعو إليه من العمل بالكتاب والسُنة "(4)
__________
(1) الطبري " تاريخ الرسل والملوك " ج 8 ص 551
(2) مسكويه " تجارب الأمم " ج 6 ص 433
(3) مؤلف مجهول " العيون والحدائق " ج3 ص 353
(4) الطبري " مرجع سابق " ج 8 ص 553(1/28)
…وكان من أكبر نتائج حركة المطوعة انكسار شوكة العيارين والشطار المنضوين تحت جيش منصور بن المهدي وعيسى بن أبي خالد ، فساهم ذلك في ضعف المعارضة البغدادية للحسن بن سهل أمير المأمون على العراق ووقوع الصلح بين عيسى بن أبي خالد والحسن بن سهل .
…ثم تحرك أحد أمراء الحرب في بغداد من الذين بايعوا سهل بن سلامة ، وهو المطلب بن عبدالله بن مالك الخزاعي يدعو إلى المأمون والى الفضل وأخيه الحسن ابني سهل ، وكان هذا الانقلاب داخل أمراء الحرب في بغداد من قبل المطلب غير معروفة دوافعه ، سوى ما يمكن اعتباره قراءة مبكرة من قبل المطلب لتهاوي المعارضة البغدادية في وجه المأمون ، وأراد المطلب لضمان نجاح حركته تأييد المطوع سهل بن سلامة صاحب الشعبية في بغداد ، إلا أن الأخير رفض تقديم يد العون له ، قال ابن جرير فامتنع عليه سهل بن سلامة وقال ليس على هذا بايعتني "(1) .
…والواضح أن امتناع سهل بن سلامة كان عن معاونة المطلب في ثورته ضد بقية أمراء الحرب في بغداد ، و قوله ليس على هذا بايعتني لا يعني إطلاقا أن المطلب الخزاعي كان من أتباع سهل بن سلامة ، أو أن حركته مشتقة من حركة المطوعة بل إن الراجح أن المبايعة هذه كانت صورية من المطلب كمبايعة منصور بن المهدي وغيره من قادة بغداد ، فليست المبايعة هنا بمفهومها الاصطلاحي المعروف بل هي أقرب إلى الموافقة على ما يدعو إليه فحسب .
…ويورد الطبري رواية مضطربة وينقلها كذلك مسكويه قال :" وجاء سهل بن سلامة إلى الحسن (بن سهل ) وبعث إلى المطلب أن يأتيه وقال ليس على هذا بايعتني فأبى المطلب أن يجيئه فقاتله سهل بن سلامة يومين أو ثلاثة قتالا شديدا حتى اصطلح عيسى والمطلب فدس عيسى إلى سهل من اغتاله فضربه ضربة بالسيف إلا أنها لم تعمل فيه فلما اغتيل سهل رجع إلى منزله وقام عيسى بأمر الناس " (2)
__________
(1) الطبري " مرجع سابق " ج 8 ص553
(2) الطبري " مرجع سابق " ج 8 ص 553(1/29)
…قلت والاضطراب في دعوى مقاتلة سهل بن سلامة للمطلب ، وهذا لا معنى له بعد مجيء سهل بن سلامة للحسن الذي قام المطلب يدعو له ، والصواب – والله أعلم – حدوث اختلاط ، وأن الذي قاتل المطلب هو عيسى بن أبي خالد ويصحح هذا قوله "حتى اصطلح عيسى والمطلب " ، وأما محاولة اغتيال عيسى لسهل بن سلامة فبسبب ما أفقده من دعم قطاعات من أهل بغداد ، لذا لما فشلت خطة الاغتيال بعث كما يقول الطبري :" إلى سهل بن سلامة فاعتذر له مما كان صنع به وبايعه وأمره أن يعود إلى ما كان عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه عونه على ذلك فقام سهل بما كان قام به أولا من الدعاء إلى العمل بالكتاب والسُنة "(1)
…ويظهر من خبر مجيء سهل بن سلامة للحسن بن سهل أنه كان مقرا بخلافة المأمون وأنه لم يظهر الميل إلى الاشتراك مع القادة المعارضين تجنبا عن الوقوع في سفك الدماء وفي جولات القتال المستمرة . كما يدل خبر لزومه بيته بعد محاولة الاغتيال ثم عودته أنه كان حريصا على تجنب الانجرار نحو القتال .
…وقد حدث سنة 202 تحول في موقف بني هاشم العباسيين في بغداد وفي موقف أمراء الحرب فيها من المأمون عقب تسمية علي بن موسى الرضا وليا للعهد ، فقد ثارت ثائرتهم من هذا التحول الجذري ، فخلعوا المأمون وبايعوا إبراهيم بن المهدي المغني المعروف خليفة ، وكان المتولي لذلك المطلب الخزاعي غضبا منهم على المأمون لما أراد إخراج الخلافة من ولد العباس إلى ولد علي ولتركه لباس آبائه من السواد ولبسه الخضرة " كما قال ابن جرير (2).
__________
(1) المرجع السابق ج 8 ص 554
(2) الطبري " مرجع سابق " ج8 ص557(1/30)
…وكان سهل بن سلامة مستمرا في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر قال الطبري " فدس إليه – أي إبراهيم – والى أصحابه الذين بايعوه على العمل بالكتاب والسُنة وألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (1) ومفعول الفعل دس هو اسم الموصول الذين . وقوله هذا يدل على أن السلطة في بغداد قد عملت على دس أطراف سعت إلى دفع الحركة إلى مواجهة ، وجرها نحو الاصطدام بالسلطة طلبا للتخلص من سهل بن سلامة ، لذا نجد إبراهيم بن المهدي وفي أول مناسبة يُقبل كما يقول الطبري هو وأخوته وجماعة من أصحابه نحو سهل بن سلامة لأنه كان يذكرهم بأسوأ أعمالهم وفعالهم ويقول الفساق ، لم يكن لهم عنده اسم غيره فقاتلوه أياما وكان الذي تولى قتاله عيسى بن محمد بن خالد " (2)ثم استطاعوا أسره وحبسوه وادعوا أنه كان دُفع إلى عيسى وأن عيسى قتله وإنما أشاعوا ذلك تخوفا من الناس أن يعلموا مكانه فيخرجوه " (3)
__________
(1) المرجع السابق ج 8 ص 562
(2) المرجع السابق ج8 ص 563
(3) المرجع السابق ج 8 ص 563(1/31)
…ويصوِّر الحوار الذي جرى بين إسحاق بن موسى ولي العهد في حكومة إبراهيم وبين سهل بن سلامة بعد القبض عليه إلى الطبيعة الحقيقية للحركة بأنها حركة اجتماعية أمنية كما سلف القول كانت تقر بحق بني العباس في الخلافة ولم تكن تطمح في الخروج عليها أو استبدالها ، فقد جاء عند ابن جرير أن إسحاق قال له بعد قبضه : حرضت علينا الناس وعبت أمرنا قال له : إنما كانت دعوتي عباسية وإنما كنت أدعو إلى العمل بالكتاب والسُنة وأنا على ما كنت عليه أدعوكم إليه الساعة فلم يقبلوا ذلك منه ثم قالوا له : اخرج إلى الناس فقل لهم إن ما كنت أدعوكم إليه باطل فأخرج إلى الناس وقال : قد علمتم ما كنت أدعوكم إليه من العمل بالكتاب والسُنة وأنا أدعوكم إليه الساعة فلما قال لهم هذا وجئوا عنقه وضربوا وجهه فلما فعلوا ذلك به قال : المغرور من غررتموه يا أصحاب الحربية فأخذ وأدخل على إسحاق فقيده " (1) .
… ولما قدم المأمون أتاه فأجازه ووصله وأمره أن يجلس في بيته "(2) وكان هذا متوقعا من المأمون فقد كان ضيق الصدر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تدل على ذلك النصوص التي تبحث في سيرته . أما سهل بن سلامة رحمه الله فقد انقطع ذكره بعد ذلك .
…وما من شك أن القتال على السلطة لم يكن من أهداف حركة المطوعة ، وجولة القتال الأخيرة إنما كانت انجرارا وخروجا عن دواعي الحركة ، ولم يكن الخروج على السلطان مطروحا البتة في أدبيات الحركة السنية التي لا تجيز لها النصوص الشرعية الخروج على ولي الأمر .
…ووضعت هذه الحركة السنية سابقة تاريخية ، وأساسا سيقف عليه الحنابلة في عصورهم التالية و سيمثل جزءا من شخصية المذهب الحنبلي .
__________
(1) المرجع السابق ج 8 ص563
(2) المرجع السابق ج 8 ص 573(1/32)
…وقد روى ابن الجوزي في المناقب قولا للإمام أحمد بن حنبل قال حدثنا محمد بن أبي منصور قال حدثنا عبدالقادر بن محمد قال أنبأنا إبراهيم بن عمر قال أنبأنا عبدالعزيز بن جعفر قال أخبرنا أحمد بن محمد الخلال قال حدثنا محمد بن الحسين أن أبابكر المروذي حدثهم قال أدخلت إبراهيم الحصري على أبي عبدالله وكان رجلا صالحا _ أي الحصري – فقال : إن أمي رأت كذا وكذا وذكرت الجنة فقال يا أخي إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا وخرج سهل إلى سفك الدماء وقال الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره " (1)
…قلت والخبر – إن صح – يتضمن نقدا لما صار إليه سهل بن سلامة من سفك الدماء مع أن استخدام كلمة ( خرج ) قد تدل على أن ذلك لم يكن من أهداف الحركة .
…ومن لطائف هذا الخبر ما جاء في سنده ، فإن ابن الجوزي يورد مرويات أبي بكر المروذي عن طريق تلميذه أحمد بن الخلال مباشرة في غالب كتابه ، إلا أنه في هذا الخبر وفي عدد محدود من الروايات يروي بزيادة محمد بن الحسين .
ومحمد بن الحسين هذا لا يمكن أن يكون هو محمد بن الحسين البرجلاني المتوفى سنة 238هـ ، وبما أن أحمد بن محمد بن الخلال مولود سنة 234 هـ فيبعد أن يروي عن البرجلاني .
__________
(1) ابن الجوزي " مناقب الإمام أحمد " ص379…* القاعدة التي وضعها أحمد بن حنبل رحمه الله قاعدة جليلة في التعامل مع الرؤى والأحلام وأن حدوث تأثيرها يجب أن يقتصر على النفس وألا يكون تأثيرا على السلوك العملي للفرد .(1/33)
كذلك لا يحتمل أن يكون هو محمد بن الحسين المعروف بأبي بكر الآجري المتوفى سنة 360هـ الذي لا يمكن له أن يروي عن أبي بكر أحمد بن محمد بن الحجاج المروذي المتوفى سنة 275 ، وقد ذكر الذهبي أن الآجري توفي سنة ستين وثلاثمئة وهو من أبناء الثمانين ، وعد شيوخه فكان أقدمهم أبا مسلم الكجي المتوفى سنة 292 ، ولو صح أخذ الآجري عن المروذي لكان له أن يأخذ عن مشاهير أهل الحديث في بغداد كأبي داود وإبراهيم الحربي وهذا لم يرد حسب علمي . كما أن ابن الجوزي يروي في كتابه هذا عن أبي بكر الآجري قال أخبرنا محمد بن كردي قال أخبرنا أبو بكر المروذي ، والآجري يروي هنا عن أبي بكر المروذي بواسطة .
أما مايرويه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة قال : أنبأنا علي عن ابن بطة حدثنا أبو بكر الآجري حدثنا المروذي قال سمعت أحمد بن الخليل يقول حدثني الحسن بن عيسى قال سمعت أبا بكر بن عياش يقول لابن المبارك قرأت القرآن على عاصم بن أبي النجود فكان يأمرني أن أقرأ عليه كل يوم آية لا أزيد عليها "(1)
فالمروذي هذا الراجح أنه أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد توفي سنة 292 وهو من الطبقة الأولى .
قلت : وقد ذكر ابن أبي يعلى في شيوخ الخلال محمد بن الحسين بن حسان ، قال محقق الطبقات في الحاشية : ولا أعرف في أصحاب أحمد محمد بن الحسين بن حسان ولا محمد بن الحسن بن حسان وإنما المقصود أحمد بن الحسين بن حسان "(2) .
[ المأمون المنتصر والصدام مع المعسكر السني ]
__________
(1) ابن أبي يعلى " طبقات الحنابلة " ج 1 ص229
(2) المرجع السابق ج 3 ص24(1/34)
…فتح مقتل الأمين ، ثم وفاة علي بن موسى الرضا ومقتل الفضل بن سهل الباب للمأمون للعودة إلى بغداد عاصمة آبائه وقلب خلافة بني العباس ، وكان ذلك سنة 204 هـ . والمأمون كما ينقل المسعودي عن الخراساني الإخباري قدم العراق وأظهر القول بالتوحيد والوعد والوعيد وجالس المتكلمين وقرب إليه كثيرا من الجدليين المبرزين والمناظرين "(1)
…وقال ابن كثير :" وكان فيه تشيع واعتزال وجهل بالسنة الصحيحة "(2)
… وقال الذهبي في العبر :" وكان شيعيا جهميا "(3) ، وقال عنه في السير وكان شيعيا "(4)
…قلت ومن المؤكد أن المأمون كان على إطلاع جيد بالنشاطات والمجهودات التي بذلها أهل بغداد في محاربة جيشه إبان محاصرة الأمين ، كما أنه كان على معرفة باتجاهات الرأي العام السائد في بغداد ، فقد ذكر من أخباره عند ابن كثير وغيره :" أنه ركب في حراقة فسمع ملاحا يقول لأصحابه : ترون هذا المأمون ينبل في عيني وقد قتل أخاه " (5)
…كما أنه كان بلا شك على معرفة بموقف أهل بغداد من التشيع ، ومن ذلك ما ذكره ابن الأثير عن أحمد بن عبدالله بن عمار قال كان المأمون شديد الميل للعلويين والإحسان إليهم وخبره مشهور معهم وكان يعمل ذلك طبعا لا تكلفا فمن ذلك أنه توفي في أيامه يحيى بن الحسين بن زيد بن علي فحضر الصلاة عليه بنفسه ورأى الناس عليه من الحزن والكآبة ما تعجبوا منه قال في تتمة الخبر أنه اعتذر عن الصلاة على أحد العباسيين وأرسل أخاه صالحا ، فمنعته أم المتوفى من الصلاة عليه وظهر غضبها وقالت لصالح قل له يا بن مراجل أما لو كان يحيى بن الحسين بن زيد لوضعت ذيلك على فيك وعدوت خلف جنازته "(6)
__________
(1) المسعودي " مروج الذهب " ج 4 ص 318
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 10 ص 275
(3) الذهبي " العبر في أخبار من غبر " ج 1 ص 375
(4) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 10 ص 281
(5) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 10 ص 277
(6) ابن الأثير " الكامل " ج 6 ص438(1/35)
…ونقل ابن طيفور عن إبراهيم بن السندي قال : وجدنا رقاعا في طرقات بغداد فيها شتم للسلطان وكلام قبيح فكرهت رفعها على جهرتها لما فيها "(1)…ويوضح خبر ابن البزار موقف المأمون من مسائل يكثر حولها الجدل في بغداد كمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسائل التشيع قال ابن البزار الحسن بن الصباح قال : أدخلت على المأمون ثلاث مرات ، رفع إليه أول مرة أنه يأمر بالمعروف قال وكان نهى أن يأمر أحد بمعروف فأخذت فأدخلت عليه فقال لي أنت الحسن البزار قلت نعم يا أمير المؤمنين قال وتأمر بالمعروف قلت لا ولكني أنهى عن المنكر قال فرفعني على ظهر رجل وضربني خمس درر وخلى سبيلي ، وأدخلت عليه المرة التالية عليه رفع أني أشتم عليا رضي الله عنه فأدخلت قال تشتم عليا فقلت صلى الله على مولاي وسيدي عليا يا أمير المؤمنين أنا لا أشتم يزيد بن معاوية لأنه ابن عمك فكيف أشتم مولاي وسيدي قال خلوا سبيله قال ثم الثالثة في المحنة " (2).
…ولا شك أن قيامه بتنصيب علي بن موسى الرضا وليا للعهد في سابقة هي الأولى والأخيرة في التاريخ العباسي كان لها دور كبير في إثارة الشك والتوجس من شخصية هذا الخليفة العباسي الذي خرج عن طريقة أسلافه ، فكان التشيع أولى المشارب الفكرية المتعارضة مع أهل بغداد .
…كذلك فإن من المشارب الفكرية التي استسقى منها المأمون فكره فكر المعتزلة الذين أحاط نفسه بهم كثمامة بن الأشرس وبشر بن غياث المريسي وأحمد بن أبي دؤاد . وقد ذكر في تاريخ هارون الرشيد أن بشر المريسي المعتزلي كان مختفيا لمدة عشرين عاما على زمن الرشيد فلما تولى المأمون قربه . وذكر ابن كثير عند الحديث عن المأمون قول البيهقي أنه لم يكن أحد من الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس إلا على مذهب السلف (3).
__________
(1) ابن طيفور " بغداد " ص42
(2) ابن أبي يعلى " طبقات الحنابلة " ج 1ص358
(3) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 10 ص 332(1/36)
…وكان هذان الاتجاهان التشيع والاعتزال اللذان قادا فكر الخليفة العباسي القادم على أنقاض حربه مع أخيه الأمين ، مثار قلق في بغداد المدينة التي هي مركز من مراكز أهل الحديث وقلعة من قلاع السُنة ، وكان الهاجس الشيعي خصوصا أكثر حضورا فيها ، وأكثر إقلاقا لها وهو ما نلحظه فيما ذكره عبدالله بن أحمد بن حنبل أنه كان مع أبيه في الرصافة فرأينا حبابا فيها السويق والسكر والماء المبرد بالثلج وخدما بين أيديهم الطاسات يقولون اشربوا على حب معاوية
ونلحظه في كونها المدينة التي عاش فيها مثل الخشاب الراوي الذي اتهم بحديث الأمناء ثلاثة " وذكر منهم معاوية (1)
…وكذلك عند طبقة العلماء كان هذا الشعور بخطورة التشيع حاضرا وكان موضع ملاحظة ، فقد ذكر في العبر في وفاة سليمان بن حرب الأزدي قال أبوداود وسمعته يقع في معاوية وكان بشر الحافي يهجره لذلك " (2) ، وذكر إبراهيم بن سويد قال قلت لأحمد بن حنبل من الخلفاء قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم قلت ومعاوية قال لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمن علي من علي - رضي الله عنه - ورحم الله معاوية "(3)
…وتدل هذه النصوص على وجود تساؤلات مستمرة حول التشيع في تلك الحقبة ببغداد .
__________
(1) الحديث نصه " الأمناء ثلاثة : أنا وجبريل ومعاوية " ذكر محمد بن طاهر المقدسي في تذكرة الموضوعات الحديث وقال : فيه أحمد بن عيسى الخشاب هو كذاب يضع الحديث ص66 ونقل الشوكاني في الفوائد المجموعة الحديث وقال إن الواضع له علي بن عبد الله بن الفرج البرداني ص404 والخشاب الراوي هو أحمد بن عيسى الخشاب أبو عيسى توفي ببغداد سنة 344هـ شذرات الذهب ج5 ص 234
(2) الذهبي " العبر في أخبار من غبر " ج 1 ص391
(3) ابن أبي يعلى " طبقات الحنابلة " ج 1 ص95(1/37)
… ورغم القلق الظاهر من الأفكار الشيعية إلا أن أولى الإجراءات التي سيسعى إليها المأمون بعد توطيد سلطته في بغداد محاولة بث أفكاره الشيعية وحقن المدينة السنية بشيء من أفكار هذا المذهب المخالف ، وهو خطأ سياسي وقع فيه المأمون لم يلبث أن تراجع عنه سريعا ، فقد ذكر الطبري في حوادث سنة 211هـ قال وفيها أمر المأمون مناديا فنادى برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير أو فضله على أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (1)
ثم ذكر أنه في سنة 212هـ أظهر المأمون القول بخلق القرآن وتفضيل علي بن أبي طالب عليه السلام وقال هو أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" (2) .
…وذكر المسعودي الخبر بتوسع فقال في حوادث سنة 212هـ نادى المأمون برئت الذمة من أحد من الناس ذكر معاوية بخير أو قدمه على أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتكلم في أشياء من التلاوة أنها مخلوقة وغير ذلك وتنازع الناس في السبب الذي لأجله أمر بالنداء في أمر معاوية فقيل في ذلك أقاويل منها أن بعض سماره حدث بحديث عن مطر بن المغيرة بن شعبة ، ثم ساق الحديث الواهي الموضوع وفيه قول معاوية - رضي الله عنه -: وإن أخا هاشم يصرخ به في كل يوم خمس مرات أشهد أن محمدا رسول الله فأي عمل يبقى مع هذا لا أم لك .
ثم قال وإن المأمون لما سمع هذا الخبر بعثه ذلك أن أمر بالنداء على ما وصفنا وأنشئت الكتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر فأعظم الناس ذلك وأكبروه واضطربت العامة فأشير عليه بترك ذلك فأعرض عما كان همّ به " (3)
__________
(1) الطبري " تاريخ الرسل والملوك " ج 8 ص618
(2) المرجع السابق ج 8 ص619
(3) المسعودي " مروج الذهب " ج 4 ص41(1/38)
…وعلق ابن كثير على هذا الأمر فقال : أظهر المأمون في الناس بدعتين فظيعتين إحداهما أطم من الأخرى وهي القول بخلق القرآن والثانية تفضيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخطأ في كل منهما خطأ كبيرا فاحشا وأثم إثما عظيما ." (1)
…وذكر ابن طيفور أمر صرف المأمون عما همّ به فقال " كان المأمون قد همّ بلعن معاوية وأن يكتب بذلك كتابا يقرأ يوم الدار وجفل الناس ففتاه ( كذا في المطبوع والصواب فثناه ) عن ذلك يحيى بن أكثم ، وقال يا أمير المؤمنين إن العامة لا تحتمل هذا وسيما أهل خراسان(2) ولا تأمن أن تكون لهم نفرة ، وإن كانت لم تدر ما عاقبتها والرأي أن تدع الناس على ماهم عليه ولا تظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق فإن ذلك أصلح في السياسة وأحرى في التدبير ، قال فركن المأمون إلى قوله " (3)
__________
(1) ابن كثير " مرجع سابق " ج 10 ص 267
(2) وقوله أهل خراسان قد يعني سكان المناطق الشمالية من بغداد والذين وفدوا من خراسان وكانوا يمثلون أكثرية الجيش العباسي ، وقد يكون مقصوده أهل خراسان الإقليم الذي يقع في المشرق والذي كان غالب أهله سنة وكانت بغداد على طريق حجهم .
(3) ابن طيفور " بغداد " 54(1/39)
…قلت ويحيى بن أكثم كان الصوت السني الوحيد في بلاط المأمون ولاه قضاء القضاة وكان هذا المنصب من مناصب فقهاء الرأي منذ بدايات دولة بني العباس ولم يكن في المعتزلة من يصلح لهذا المنصب الفقهي ، وقد اغتنم يحيى بن أكثم وجوده في بلاط المأمون ليثنيه عما عزم عليه ، كما ذكر أنه ثناه عن الأمر بإباحة المتعة ، فقد ذكر الذهبي نقلا عن الصولي قال سمعت إسماعيل القاضي يعظم شأن يحيى بن أكثم وذكر له يوم قيامه في وجه المأمون لما أباح متعة النساء فما زال به حتى رده إلى الحق ونص له الحديث في تحريمها ، فقيل لإسماعيل فما كان يقال ، قال معاذ الله أن تزول عدالة مثله بكذاب باغ أو حاسد ، ثم قال وكانت كتبه في الفقه من أجل كتب تركها الناس لطولها " (1)
…قلت وقد رموه رحمه الله باللواط وحاشاه عن ذلك ، قال الذهبي : ما هو ممن يكذب كلا وكان عبثه بالمرد أيام الشبيبة فلما شاخ أقبل على شأنه وبقيت الشناعة "(2)
…قلت وعبثه إنما كان مزاحا بالقول وتندرا بالشعر ، ذكر الخطيب قال سئل أحد البلغاء عن يحيى بن أكثم وابن أبي دؤاد أيهما أنبل فقال كان أحمد يجد مع جاريته وابنته ، ويحيى يهزل مع خصمه وعدوه " (3)
…ونقل كذلك قول طلحة بن محمد بن جعفر قال : يحيى بن أكثم أحد أعلام الدنيا ، ومن قد اشتهر أمره وعرف خبره ولم يستتر عن الكبير والصغير من الناس فضله وعلمه ورياسته وسياسته لأمره وأمر أهل زمانه من الخلفاء والملوك ، واسع العلم بالفقه كثير الأدب حسن العارضة قائم بكل معضلة ، وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعا ، وكان المأمون ممن برع في العلوم فعرف من حال يحيى بن أكثم وما هو عليه من العلم والعقل فأخذ بمجامع قلبه حتى قلده قضاء القضاة " (4)
__________
(1) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 12 ص9
(2) المرجع السابق ج 12 ص10
(3) الخطيب " تاريخ بغداد " ج 16 ص290
(4) المرجع السابق ج 16 ص 289(1/40)
قلت ولايعني هذا القول أن يحيى بن أكثم السني كان موجها لسياسة المأمون أو أنه كان غالبا على أمره ، فإن الأخير كان متعدد المشارب وكان يسمع ليحيى ما يراه مفيدا في تدبير سياساته ، ثم استبعده عندما همّ بتطبيق سياسته المخالفة للتوجه السني .
…وذكر الخطيب بسنده إلى عبدالله بن أحمد بن حنبل قال ذكر يحيى بن أكثم عند أبي فقال ما عرفت فيه بدعة فبلغت يحيى فقال صدق أبو عبدالله ما عرفني ببدعة قط ، قال وذكر له ما يرميه الناس قال سبحان الله سبحان الله ومن يقول هذا وأنكر ذلك أحمد إنكارا شديدا " (1)
…قال الخطيب قلت وكان يحيى سليما من البدعة ينتحل مذهب أهل السُنة "(2)
…قلت وقد ضعفه في الحديث جماعة منهم يحيى بن معين ، إلا أنه كان صوت أهل السُنة الوحيد عند المأمون ، وظل مقربا إليه حتى سنة 215 هـ حين سخط عليه المأمون بمصر ، وبعث به إلى العراق مغضوبا عليه كما يقول المسعودي " (3) وقيل سنة 217 هـ ، لينقطع ذكره أيام المأمون ومن جاء بعده حتى زمن المتوكل ، وقد جاء في خطاب الوصية التي كتبها المأمون إلى أخيه المعتصم تحذيره من يحيى بن أكثم . ولعل إزاحته كانت مقدمة لما سمي في التاريخ بالمحنة .
… ويمكن تعليل تأخر طرح المأمون لأفكاره رغم دخوله بغداد سنة 204هـ بسبب ما واجهه من ثورات مثل ثورة بابك الخرمي المستمرة منذ سنة 204هـ ، وثورة نصر بن شبث العقيلي التي انتهت سنة 209هـ ، كما قد يكون لوفاة يزيد بن هارون رحمه الله والمتوفى سنة 206هـ دور في ذلك فقد وصف المسعودي قال ويزيد عند أهل الحديث من عليتهم وعظيم من عظمائهم "(4)
__________
(1) المرجع السابق ج 16 ص290
(2) المرجع السابق ج 16 ص290
(3) المسعودي " مروج الذهب " ج 4 ص 33
(4) المرجع السابق ج 4 ص33(1/41)
…وذكر ابن الجوزي في المناقب بسنده إلى يحيى بن أكثم قال : قال لنا المأمون : لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت أن القرآن مخلوق ، فقال بعض جلسائه : يا أمير المؤمنين ومن يزيد حتى يتقى ، فقال : ويحك إني أخاف إن أظهرته فيرد علي فيختلف الناس فتكون فتنة وأنا أكره الفتنة "(1)
…ولا شك أن الإجراءات التي تتضمن تفضيل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وقراءة كتاب بلعن معاوية - رضي الله عنه - لم تتم ، بسبب خوف المأمون من تحرك أهل السُنة وهو تحرك خُوِّف به من قبل يحيى بن أكثم ، وكان متوقعا بسبب المشاعر العدائية التي يكنها المجتمع البغدادي السني للتشيع ، وقد عرف المأمون أن هذه الجوانب المؤيدة للتشيع لا يمكن بثها دون تضحيات فصرف النظر عنها ، وانطوى معها إظهاره بالقول بخلق القرآن ، وهو القول الذي لم يرافقه في المرة الأولى أي إجراءات عملية ، لكنه سيعود مرة أخرى لإحياء هذا القول في ربيع الأول سنة 218هـ(2)
__________
(1) ابن الجوزي " مناقب الإمام أحمد " 417
(2) ذكر العليمي في المنهج الأحمد قال " وقال بعض المؤرخين إن المحنة كانت سنة تسع عشرة ومائتين ورأيت في موضع أنها كانت في العشر الأواخر من رمضان سنة عشرين ومائتين والصواب ما قدمناه عند ابتداء خبر المحنة أن وقوعها في شهر رمضان سنة ثماني عشرة ومائتين بدليل أن بشرا المريسي هو الذي تولى كبرها ، ومات بشر في ذي الحجة سنة ثماني عشرة وقد قيل أن موته كان سنة تسع عشرة فعلى تقدير ذلك ففيه احتمال أن تكون المحنة في سنة تسع عشرة كما قاله بعض المؤرخون والأول أولى لأن المعتصم ولي الخلافة بعد المأمون ودخل بغداد في غرة رمضان سنة ثماني عشرة كما تقدم والإمام أحمد في الحبس وامتحنه عقب دخوله بغداد " ج 1 ص37
قلت المحنة التي يقصدها ضرب المعتصم للإمام أحمد ، و إلا فالثابت أنها في ربيع الأول سنة 218 هـ .(1/42)
فيما عرف في التاريخ باسم المحنة متجنبا مسائل التشيع ، بعد فشله في مرتين سابقتين أولاهما تنصيب علي بن موسى الرضا وليا للعهد ، والثانية في أمره بلعن معاوية .
… وهذا القول بخلق القرآن من أقوال المعتزلة ، ولم يكن الاعتزال أمرا ذا بال عند عامة أهل السُنة وكان من المتوقع ألا يثير تحركهم ، والأرجح أن المأمون كان يأمن من وقوع فتنة أو تحرك للعامة ، إذ لم تكن هذه المسألة النظرية تلامس حياتهم خلافا لمسائل التشيع التي كانت مطروحة للنقاش في أوساط العامة ، وكان تردده في إظهار هذه المسألة زمن يزيد بن هارون بسبب توقعه رد الأخير عليه وهو المسموع عند أهل السُنة عموما وأهل الحديث خصوصا ، فاعتقد المأمون أنه بعد وفاة يزيد لم يكن في العلماء من يستطيع تحريك العامة ، والوقوف في وجه مشروعه فأقدم على ما أقدم عليه ، ويجيب ابن الجوزي في المناقب على تساؤل لمَ أظهر المأمون هذا القول قال : قلت فلما توفي الرشيد كان الأمر كذلك في زمن الأمين فلما ولي المأمون خالطه قوم من المعتزلة فحسنوا له القول بخلق القرآن وكان يتردد في حمل الناس على ذلك ويراقب بقايا الأشياخ ثم قوي عزمه على ذلك فحمل الناس عليه " (1)
__________
(1) ابن الجوزي " مناقب الإمام أحمد " ص 417(1/43)
…أما ما يقوله مؤلف " العامة في بغداد " من أنه لعل المأمون أدرك ما تحتاجه طبقة العامة من تطبيق سياسة العدل فراح يتقرب منها متبنيا عقيدة الاعتزال عله يظفر بتأييد العامة بشقيها السني والشيعي داخل بغداد متوخيا تحقيق التصالح بين مقاطعات الخلافة ساعيا وراء إقامة علاقات أكثر توازنا بين سائر فئات المجتمع " (1) فقول لا وجه له ، والأجود منه ما قاله مؤلف كتاب " المحنة " بأنه كان يهدف من امتحان أهل الدين أن يسقطوا من أعين الناس فيظهر عندها أنهم ليسوا ممن يوثق بدينه "(2) . وقد سبق قول ابن كثير نقلا عن البيهقي قوله :" ولم يكن أحد في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم فلما ولي الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك وزينوا له "(3)
…أما الذهبي فيرى أن قيامه بذلك بسبب اعتقاده قال في العبر :" وقام في هذه البدعة قيام معتقد "(4) .
…وقد ساق الطبري نص الخطابين اللذين أرسلهما المأمون لإسحاق بن إبراهيم صاحب الشرطة في بغداد ، ويتضح من ثناياهما أنهما موجهان لطبقة العلماء فمما جاء في الأول قوله :" ثم هم الذين جادلوا بالباطل فدعوا إلى قولهم ونسبوا أنفسهم إلى السُنة ، قال ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة فاستطالوا بذلك على الناس وغروا به الجهال ، قال فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ورؤوس الضلالة المنقوصون من التوحيد حظا والمخسوسون من الإيمان نصيبا "(5) .
__________
(1) فهمي عبدالرزاق " العامة في بغداد " ص 348
(2) فهمي جدعان " المحنة " ص 280
(3) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 10 ص332
(4) الذهبي " العبر " ج1 ص372
(5) الطبري " تاريخ الرسل والملوك " ج 8 ص632(1/44)
وجاء فيه أن أمير المؤمنين لا يستعين على شيء من أمور المسلمين إلا بمن وثق بإخلاصه وتوحيده وأنه لا توحيد لمن لم يقر بأن القرآن مخلوق ، وجاء في الجواب الثاني قوله :" فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك جواب كتابه كان إليك فيما ذهب إليه متصنعة أهل القبلة وملتمسو الرئاسة فيما ليسوا له بأهل من أهل الملة من القول في القرآن "(1)
…واللافت للنظر أن المأمون في أمر المحنة تشدد مع بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي وأمر بقتلهما إن لم يجيبا أما الآخرون فقد قال :" ومن لم يرجع عن شركه ممن سميت لأمير المؤمنين في كتابك وذكره أمير المؤمنين لك أو أمسك عن ذكره في كتابه هذا ولم يقل إن القرآن مخلوق بعد بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي فاحملهم أجمعين موثقين إلى عسكر المأمون " (2)
…وأمر إبراهيم بن المهدي معروف بسبب ما سبق من توليه الخلافة وأنه سمي الخليفة السني آنذاك ، أما بشر بن الوليد فقد كان قاضي بغداد حتى سنة 213هـ و ذكر أنه كان ممن يشدد في قضائه مع المعتزلة ولا يقبل لهم شهادة أبدا فأعقبه ذلك كره المعتزلة له وقد قال شاعرهم يخاطب المأمون :
……ياأيها الرجل الموحد ربه…قاضيك بشر بن الوليد حمار
……ينفي شهادة من يدين بما به… …نطق الكتاب وجاءت الأخبار
……ويعد عدلا من يقول بأنه …شيخ يحيط بجسمه الأقطار
…وقوله نطق الكتاب وجاءت الآثار من تخرصاتهم أنهم ينزهون الله جل وعلا بنفي صفاته ، و بينما يرمي أهلَ السُنة بالتجسيم -وهي من دعاويهم - يسمي أصحابه بأهل العدل والتوحيد . وبشر بن الوليد كان من المعروفين بالسُنة ، قال الخطيب عن أبي قدامة : لا أعلم ببغداد رجلا من أهل الأهواء(3) من الرأي والرافضة إلا كانوا معينين على أحمد بن حنبل خلا بشر بن الوليد الكندي رجل من العرب " (4)
__________
(1) المرجع السابق ج 8 ص640
(2) المرجع السابق ج 8 ص643
(3) عد رحمه الله من أهل الأهواء لأنه كان حنفي المذهب من أهل الرأي .
(4) الخطيب " تاريخ بغداد " ج 7 ص565(1/45)
…ومن الملاحظ في أمر المحنة أن العلماء الممتحنين كلهم من السُنة ولم يكن بينهم من الشيعة أحد ، كذلك لم يُذكر يحيى بن أكثم القاضي المعزول ، والذي يظهر أن الطبقة المستهدفة إلى جانب القضاة كانت العلماء الذين يتصدرون للتحديث وللفتوى والجلوس في المساجد ، أي أنهم الطبقة المتصلة بالناس والتي لها شعبيتها ، ويؤكد ذلك أنه أمَرَ بإشهار أمْرِ من يجيب في هذه المحنة ، وقد أجاب كل من قد تم امتحانهم إكراها ، قال ابن كثير "وكان من أجاب مصانعة مكرها لأنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه وإن كان له رزق على بيت المال قطع وإن كان مفتيا منع من الإفتاء وإن كان شيخ حديث ردع عن الإسماع والأداء ووقعت فتنة صماء ومحنة شنعاء "(1)
…وثبَّت الله تعالى أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح في بغداد وثلة من علماء الأقطار ، وعجل الله بهلاك المأمون بعد أربعة أشهر من أمره بهذه المحنة ، وكان علماء بغداد في طريقهم إليه عندما بلغهم خبره وهم في الرقة فعادوا أدراجهم . ولم ينس المأمون أن يوصي لأخيه المعتصم أن يسير بسيرته في أمر القرآن .
…وقد ساهمت عوامل في عدم تحقيق المحنة لأهدافها من ذلك
ضعف هذا القول ومعارضته الصريحة لما جاءت به النصوص والآثار والتي كانت سلاحا ماضيا في يد معارضي هذه الفتنة ، ولا ريب أن الناس كانوا يتداولون الحجج والحجج المضادة مما كوّن شعبية جارفة ضد القول بخلق القرآن .
وفاة المأمون المبكرة ساهمت مساهمة فعالة في ضعف الجهات الداعمة لهذا القول ورغم أن المعتصم قد سار بسيرة أخيه إلا أن شخصيته العسكرية طغت على سلوكه السياسي فلم يقم في الأمر قيام معتقد ، وجدَّ الواثق في الأمر إلا أن الفكرة كانت قد فقدت زخمها ، كما ساهم انتقال العاصمة إلى سامرا زمن المعتصم في إبعاد التأثير المباشر عن بغداد ، ولعل هذه المحنة وموقف الناس منها كان من أسباب الانتقال .
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج10 ص273(1/46)
معارضة علماء السُنة وبذل بعضهم روحه في سبيل ما يعتقده من الحق ، وقد ذكر ابن الجوزي عددا منهم مثل نعيم بن حماد وأبي يعقوب البويطي والفضل بن دكين وأحمد بن نصر الخزاعي وأبي مسهر الدمشقي ، لكنه عقَّب على ذلك بقوله :" وعموم هؤلاء الذين لم يجيبوا أهمل منهم قوم وحبس منهم قوم فلم يلتفت إليهم وإنما كان المقصود أحمد بن حنبل لجلالة قدره وعظم موقعه " (1)
…قلت ولا أرى ما رآه ابن الجوزي ، فإن عظم موقع أحمد إنما كان بسبب المحنة ، والراجح في سبب انتشار أمره وخفوت ذكرهم أن كل هؤلاء عدا الأحمدَيْنِ كانوا من خارج بغداد ، فلم يكن لهم في بغداد ذلك التأثير الذي لأحمد بن حنبل ، الذي كان المعارض الوحيد الذي ظل على موقفه ولم يغيبه الموت كالبغدادي الآخر أحمد بن نصر أو الحبس شأن بقية المعارضين ، وقد نال أحمد بن نصر الخزاعي مكانة عالية لكنها اندرجت في بغداد تحت الهالة التي أحاطت بإمام أهل السُنة أحمد بن حنبل ، كما أن مكانة أحمد بن حنبل العلمية ساهمت بلا شك في رفع شأنه في المحنة رحم الله الجميع .
…وقد أفرزت هذه المحنة نتائج مصيرية في تاريخ الإسلام من أهمها اندحار الأفكار الاعتزالية وتواريها عن التأثير في الناس ، ثم زيادة تمسك الناس بالسُنة وارتفاع شأنها في بغداد خصوصا ، بيد أن أبرز نتائجها ارتفاع شعبية إمام أهل السُنة أحمد بن حنبل رحمه الله الذي غدا الموقف منه دليلا على حسن المعتقد وعلامة على الانتساب إلى أهل السُنة كقول سفيان بن وكيع :" أحمد عندنا محنة من عاب أحمد عندنا فهو فاسق "(2) ، وكذلك قول الشاعر :
……وأحمد محنة للناس طرا……نميز به المعَوَّج و السويا
…وقول ابن أبي حاتم :" لقد رفع الله عز وجل شأن أحمد بن حنبل بعدما امتحن وعظم عند الناس وارتفع أمره جدا "(3) .
__________
(1) ابن الجوزي " المناقب " ص539
(2) المقدسي " محنة الإمام أحمد بن حنبل " ص 157
(3) ابن الجوزي " المناقب " ص423(1/47)
…قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فتاويه " وكلام الإمام أحمد في هذا الباب – في القرآن والسُنة – جار على كلام من تقدم من أئمة الهدى ليس له قول ابتدعه ولكن أظهر السُنة وبيَّنها وذب عنها وبيَّن حال مخالفيها وجاهد عليها وصبر على الأذى فيها لما ظهرت الأهواء والبدع وقد قال الله تعالى " {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } " فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين "(1) .
…وتحول رحمه الله وأجزل مثوبته عند أهل السُنة في بغداد خصوصا إلى رمز من رموز الإسلام الصحيح ، وصار محط أنظارهم الباحثة عمن يقوم بحقيقة الإسلام ويصبر على ما يصيبه من جراء هذا الالتزام ، ويضحي بزهرة الدنيا من أجل دينه وهذا ما فعله إمام أهل الإسلام أحمد بن حنبل .
…وقد كان سلوك أحمد بن حنبل في هذه الفتنة وما بعدها سلوكا ملتزما بقواعد النصوص ، خلافا لما يراه القائلون بخلق القرآن فهم يفقدون النص القرآني تميزه بجعله والعقل في مرتبة واحدة باعتبارهما مخلوقين من مخلوقات الله ، وهذا قول المعتزلة وهو هدفهم من هذا القول . أما قول من قال بأن القرآن كلام الله وهم أهل السُنة فانه يجعل للنص القرآني الذي هو كلام الله قدسية لا يرقى إليها الشك أو الوهم بل هو عندهم نص قاطع مقدم على كل ما عداه ، وفي تقوية النص القرآني تقوية للسنة النبوية وهو ما فهمه الصحابي عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - عندما استدل على ذلك بقوله تعالى " وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }(2) في قصة المرأة الواصلة (3).
__________
(1) ابن تيمية " مجموع الفتاوى " ج 3 ص358
(2) الحشر7
(3) في صحيح مسلم ( كتاب اللباس الزينة )(1/48)
…كما أن الإمام أحمد قد التزم في علاقاته بالحاكم المسلم بما يعتقده انطلاقا من هذين الأصلين ، فقد ضُرب في عهد المعتصم ومع ذلك لم يدفعه ذلك ولا ما يعتقده من كفر قائل هذه المقولة أن يخرج على السلطان ، وقد نقل حنبل بن إسحاق أنه اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبدالله في ولاية الواثق وشاوروه في ترك الرضا بإمرته وسلطانه فقال عليكم النكرة في قلوبكم ولا تخلعوا يدا من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين " (1).
…أما ما جاء في رسالة نشرها محمد حامد الفقي في ملحق كتاب طبقات الحنابلة وفيها قول أحمد من دعا منهم إلى بدعة فلا تجيبوه ولا كرامة وإن قدرتم على خلعه فاخلعوه "(2) قال الدكتور الدميجي مؤلف الإمامة العظمى فهذا تصريح منه رحمه الله بأن صاحب البدعة إن قُدر على خلعه فللمسلمين ذلك قال وهذا ولا شك معارض للروايات السابق ذكرها - أي روايات المنع من الخروج والأمر بالصبر – ويصعب الجمع بينها "(3) .
…قلت والرواية ليست من أصل الكتاب بل قال الدكتور العثيمين محقق طبعة حديثة من الكتاب عن طبعة الفقي " وألحق في آخر هذه الطبعة بعض الرسائل الخارجة عن موضوع الكتاب حذفناها من طبعتنا لأنه لا علاقة لها بالكتاب ولا بصاحب الكتاب " (4) .
__________
(1) حنبل بن إسحاق "ذكر محنة الإمام أحمد " ص70
(2) ابن أبي يعلى " طبقات الحنابلة " طبعة الفقي ج 2 ص 305
(3) الدميجي " الإمامة العظمى " ص539
(4) ابن أبي يعلى " طبقات الحنابلة " ج 1 ص92(1/49)
…قلت وهي من رواية عبدالواحد بن عبدالعزيز التميمي المتوفى سنة 410 وسندها إلى الإمام أحمد لا يعرف يصعب التأكد من صحتها فلما عارضت مجموع الروايات الصحيحة الناقلة لمنع الإمام أحمد للخروج على السلطان ولصعوبة الجمع بين الروايتين قوّى ذلك القول بضعفها ، وقد قرر الدميجي أنه ذهب غالب أهل السُنة والجماعة إلى أنه لا يجوز الخروج على أئمة الظلم والجور بالسيف ما لم يصل ظلمهم وجورهم إلى الكفر البواح " قال وهو المشهور عند الإمام أحمد بن حنبل وعامة أهل الحديث "(1) . وقال ابن حجر في الفتح " وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء قال ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها "(2) .
__________
(1) الدميجي " مرجع سابق " ص503
(2) ابن حجر " فتح الباري " ج13 ص7(1/50)
…أما ما يقوله الكوثري في مقدمة كتاب تبيين كذب المفتري من أن أحمد كان يمنع عن رواية أحاديث الخروج على ظلمة الولاة فأفاده في تغاضي خلفاء بن العباس عن الحنابلة مهما عملوا بل في تقريبهم " (1) ، فهذا كذب صريح إذ معيار الصحة والضعف هو المانع من رواية حديث ما ، ولو علم ابن حنبل أو غيره من علماء الحديث حديثا صريحا يأمر بالخروج على ظلمة الولاة لما وسعهم منعه كيف وهم يعلمون أن ذلك من كتم العلم ، وغاية ما في الأمر ما ذكره ابن حجر رحمه الله في الفتح في شرح حديث ( حدثوا الناس بما يعرفونه أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله ) قال وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان قال ونحوه عن حذيفة وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بحديث العرنيين لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب "(2) .
…أما قوله أن ذلك أفاد الحنابلة فلا بينة له ، بل التاريخ يدحضه ، فقد واجه الحنابلة عبر تاريخهم الطويل في بغداد الكثير من المضايقات من قبل خلفاء بني العباس أو من وزرائهم وقادتهم .
…ومن قبيل هذا الخطل ما يورده مؤلف كتاب المحنة من أن أحمد بن حنبل قد انتهى إلى الاعتقاد بأن خلافة بن العباس قد سارت شوطا بعيدا في طريق الضلال والكفر فقد اعتقد أن تحالفا سنيا علويا يمكن أن يبدل الأحوال "(3)
__________
(1) الكوثري " حاشية تبيين كذب المفتري " ص16
(2) ابن حجر " مرجع سابق " ج 1 ص225
(3) جدعان " المحنة " ص289(1/51)
…وهذا رجم بالغيب بناه على ما ذكرته الأخبار من اتهام أحمد بن حنبل من إيواء علوي في زمن المتوكل وقد كبس منزله بحثا عنه فلم يوجد . وهذه التهمة والقبول بها رغم ظهور براءة صاحبها عند أهل عصره لا تدفع باحثا عاقلا مجردا من الهوى على اعتقاد ماقاله هذا المؤلف .
…ومن ذلك قوله أن أحمد بن حنبل كان أموي الهوى والطوية " (1) ، وهو قول فضلا عن أنه يناقض دعواه السابقة في التحالف السني – العلوي المزعوم ، فهو تخرص بالباطل وجهل بمذهب أهل السُنة وبطبيعة الواقع المعاش آنذاك ، بل إن الذين يسقون الناس على حب معاوية في بغداد لم يكونوا يطمحون أبدا في عودة حكم بني أمية ، وإنما ذلك جانب مذهبي وإن تعلق بجانب سياسي فهو دعم للجماعات التي تمثل السُنة في مواجهة النفوذ الشيعي في بغداد ولم يكن لبني أمية أي حضور في الطموحات السياسية في بغداد .
__________
(1) جدعان " مرجع سابق " ص283(1/52)
…قلت وبعد أن تقرر موقف الإمام أحمد من منع الخروج على السلطان الجائر ينبغي التأكيد على أن ذلك المنع لم يكن يعني أبدا الانغماس في هذا الظلم والجور ومتابعته على ظلمه ومشاركته في الأموال الحرام التي حازها وهذا ما فعله الإمام أحمد مع الخليفة المتوكل الذي نصر السُنة ورفع المحنة ، ومع ذلك امتنع الإمام أحمد عن قبول ماله ، بل ورفض أن ينزل لما وصل سامرا في منزل قائده العسكري ، وقد جاء في المناقب لابن الجوزي أنه قال لأبنائه لمَ تأخذوه والثغور معطلة غير مشحونة والفيء غير مقسوم بين أهله " (1) ، لكنه مع ذلك لا يرى هذا المال حراما فقد نقل ابن الجوزي في المناقب عن عبد الله بن أحمد قال دخل علي أبي رحمه الله في مرضه يعودني فقلت يا أبت عندنا شيء قد بقي مما كان يبرنا به المتوكل أفأحج منه قال نعم قلت فإذا كان هذا عندك هكذا فلم لم تأخذ قال يابني ليس هو عندي بحرام ولكني تنزهت عنه "(2) ، ومن ذلك ما ذكره ابن أبي يعلى في الطبقات عن عبد الله بن يحيى قال سمعت أحمد يقول أنزه نفسي عن مال السلطان وليس بحرام " (3) .
…ولا شك أن القول بكون مال السلطان حرام فيه تعطيل لمصالح الناس وإفساد لحياتهم فإن الدراهم إنما ضربت في دار السلطان كما نقل عنه ، لكنَّ أحمد بن حنبل لم يكن لتغيب عنه المصارف الشرعية المعطلة كالثغور وما يتعلق بها من أمور مجاهدة الكفار ، كما أنه رحمه الله لم يكن لتخفى عنه مظاهر الترف التي يعيشها الخليفة والحاشية المحيطة بها ، والتي تصطدم بالمبادئ الإسلامية الحقة ، وتخالف هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهدي خلفائه الراشدين رضي الله عنهم ، كما أن لشخصية الإمام أحمد الزاهدة أثر في التنزه عن هذا المال .
__________
(1) ابن الجوزي " المناقب " ص517
(2) المرجع السابق " ص 347
(3) ابن أبي يعلى " طبقات الحنابلة " ج2 ص67(1/53)
…كما أن هذا المنع من الخروج على السلطان الجائر لا يعني منع مناصحته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بالأسلوب الشرعي ، فقد جاء في طبقات الحنابلة في خبر أحمد بن شبويه قال قدمت بغداد على أن أدخل على الخليفة وآمره وأنهاه فدخلت على أحمد بن حنبل فاستشرته في ذلك فقال إني أخاف عليك ألا تقوم بذلك "(1) .
…وقد مثلت جنازة الإمام أحمد بن حنبل عند وفاته يوما مشهودا حتى قال المسعودي المعتزلي ": وحضر جنازته خلق من الناس لم ير مثل ذلك اليوم والاجتماع في جنازة من سلف قبله "(2) ، وروى ابن الجوزي في المناقب عن جعفر بن محمد النسوي قال شهدت جنازة أحمد بن حنبل وفيها بشر كثير والكرابيسي يلعن لعنا كثيرا بأصوات عالية والمريسي أيضا "(3) .
…والكرابيسي هو أحمد الكرابيسي قال عنه الذهبي في السير فقيه بغداد وأحد بحور العلم " 79/12 لكنه أُخذ عليه قوله لفظي بالقرآن مخلوق مما دفع الإمام أحمد إلى هجره والتحذير منه ، وقد بلغ أمره المتوكل فسأل عنه فقيل إنه رجل أحدث قولا لم يتقدمه أحد فأمره بلزوم بيته حتى مات " (4).
…أما المريسي فهو من رؤوس المعتزلة أكبر الخاسرين في هذه المحنة .
…ولا يكتمل القول عن أمور المحنة مالم نتحدث عن إحدى أهم توابعها وهي مقتل أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله على يد الخليفة الواثق .
[ مقتل أحمد بن نصر الخزاعي ]
…كان مقتل أحمد بن نصر الخزاعي أحد نتائج محنة المأمون فقد قتله الواثق بيده تقربا لله زعما منه ، ذكره ابن أبي يعلي في طبقات الحنابلة وقال :" قتل في خلافة الواثق لامتناعه بالقول بخلق القرآن سنة 231هـ "(5) وكان جده أحد نقباء بني العباس .
__________
(1) المرجع السابق " ج 1 ص111
(2) المسعودي " مروج الذهب " ج 4 ص102
(3) ابن الجوزي " المناقب " ص561
(4) ابن الجوزي " المرجع السابق ص561
(5) ابن أبي يعلى " طبقات الحنابلة " ج 1 ص 200(1/54)
…وقال الخطيب كان أحمد بن نصر الخزاعي من أهل الفضل والعلم مشهورا بالخير أمارا بالمعروف قوّالا بالحق "(1) .
…وقال عنه الذهبي في السير " الإمام الكبير الشهيد " (2).
…وروى الخطيب وغيره عن المروذي أنه قال سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل وذكر أحمد بن نصر فقال رحمه الله ما كان أسخاه لقد جاد بنفسه "(3) .
…وذكر الطبري خبره قال :" وفي هذه السنة تحرك قوم ببغداد في ربض عمرو بن عطاء فأخذوا على أحمد بن نصر البيعة ، قال وكان السبب في ذلك أن أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي ومالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس ، وكان أحمد يغشاه أصحاب الحديث كيحيى بن معين وابن الدورقي وابن خيثمة وكان يظهر المباينة لمن يقول القرآن مخلوق مع منزلة أبيه كانت من السلطان في دولة بني العباس ويبسط لسانه فيمن يقول ذلك مع غلظة الواثق كانت على من يقول ذلك وامتحانه إياهم فيه وغلبة أحمد بن أبي دؤاد عليه "(4) .
…قال : وكان فيمن يغشاه رجل – فيما ذكر – يعرف بأبي هارون السراج وآخر يقال له طالب وآخر من خراسان من أصحاب إسحاق بن إبراهيم بن مصعب صاحب الشرطة ممن يظهر القول بمقالته فحرك المطيفون به - يعني أحمد بن نصر - من أصحاب الحديث وممن أنكر القول بخلق القرآن من أهل بغداد أحمد وحملوه على الحركة لإنكار القول بخلق القرآن " (5).
__________
(1) الخطيب " تاريخ بغداد " ج 6 ص398
(2) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 11 ص166
(3) الخطيب " تاريخ بغداد " ج 6 ص402
(4) الطبري " تاريخ الرسل والملوك " ج 9 ص135
(5) المرجع السابق ج 9 ص125(1/55)
…قال : فذكر أنه أجاب من سأله ذلك وأن الذي كان يسعى له في دعاء الناس له الرجلان اللذان ذكرت اسميهما قبل ، وإن أبا هارون وطالبا فرقا في قوم مالا فأعطيا كل رجل منهم دينارا دينارا وواعداهم ليلة يضربون فيها الطبل للاجتماع في صبيحتها للوثوب بالسلطان فكان طالب بالجانب الغربي من مدينة السلام فيمن عاقده على ذلك وأبو هارون السراج بالجانب الشرقي فيمن عاقده عليه ، وكان طالب وأبو هارون أعطيا فيمن أعطيا رجلين من بني أشرس القائد دنانير يفرقانها في جيرانهم فانتبذ بعضهم نبيذا واجتمع عدة منهم على شربه فلما ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة ، قال فأكثروا ضرب الطبل فلم يجبهم أحد ، قال فدُل – أي صاحب الشرطة – على رجل يكون في الحمامات مصاب بعينه يقال له عيسى الأعور فهدده بالضرب فأقر على ابني أشرس وعلى أحمد بن نصر وعلى آخرين سماهم ، قال فتتبع من سماه عيسى الأعور في أيام وليال فصيروا في الحبس قال وقيد أبو هارون وطالب بسبعين رطلا من الحديد كل واحد منهما وأصيب في منزل ابني أشرس علمان أخضران فيهما حمرة في بئر ، قال ثم أخذ خصي لأحمد بن نصر فتهدد فأقر بما أقر به عيسى الأعور فمضى إلى أحمد بن نصر وهو في الحمام فقال لأعوان السلطان هذا منزلي فإن أصبتم فيه علما أو عدة أو سلاحا لفتنة فأنتم في حل منه ومن دمي ففتش فلم يوجد فيه شيء فحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب وأخذوا خصيين وابنين له ورجلا ممن كان يغشاه يقال له إسماعيل بن محمد الباهلي ومنزله بالجانب الشرقي ، فحمل هؤلاء الستة إلى أمير المؤمنين الواثق وهو بسامرا ، قال وكان الواثق قد أعلم بمكانهم وأحضر ابن أبي دؤاد وأصحابه وجلس لهم مجلسا عاما ليمتحنوا امتحانا مكشوفا ، قال فلما أتي بأحمد بن نصر لم يناظره الواثق في الشغب ولا فيما رفع عليه من إرادته الخروج عليه ولكنه قال يا أحمد ما تقول في القرآن قال كلام الله - وأحمد مستقتل قد تنور وتطيب _ قال(1/56)
فما تقول في ربك أتراه يوم القيامة قال يا أمير المؤمنين جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال :" ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته " فنحن على الخبر وذكر أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال فقال له إسحاق بن إبراهيم ويلك انظر ما ذا تقول قال أنت أمرتني بذلك فأشفق إسحاق من كلامه وقال أنا أمرتك بذلك قال نعم أمرتني أن أنصح له إذ كان أمير المؤمنين ومن نصيحتي له ألا يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم "(1) .
…وذكر الخطيب بسنده إلى محمد بن عمران المرزباني المعتزلي قال أخبرني محمد بن يحيى الصولي وذكر مثله مختصرا وفيه " ثم إن أمره - أحمد بن نصر - تحرك ببغداد في آخر أيام الواثق واجتمع إليه خلق من الناس يأمرون بالمعروف إلى أن ملكوا بغداد ، قال فتعدى رجلان من أصحابه يقال لأحدهما طالب في الجانب الغربي ويقال للآخر أبو هارون في الجانب الشرقي وكانا موسرين فبذلا مالا وعزما على الوثوب ببغداد فنم عليهم قوم إلى إسحاق بن إبراهيم فأخذ جماعة فيهم أحمد بن نصر ، قال فجلس لهم الواثق وقال لأحمد بن نصر دع ما أُخذت له ما تقول في القرآن "(2) .
…وقد ذكر مسكويه الخبر كذلك وفيه "وكان فيمن بايعه قوم من أصحاب إسحاق بن إبراهيم بن مصعب صاحب الشرطة يرون رأيه " (3).
…قلت والروايتان رغم ما فيهما من اختلاف طفيف إلا أن الراجح أن مصدرهما واحد ، بسبب تشابه البنية الأساسية لكل منهما ، والطبري لم يذكر مصدره فيها وإنما كان يكثر من القول ( وذكر) ( فيما ذكر ) وأما رواية الخطيب فهي عن الصولي المتوفى 350 هـ وهو لم يدرك الحادثة .
__________
(1) الطبري " مرجع سابق ج 9 ص ص 136-138
(2) الخطيب " تاريخ بغداد " ج6 ص401
(3) مسكويه " تجارب الأمم " ج 6 ص530(1/57)
…وذكر الذهبي في العبر قال " وفيها قتل أحمد بن نصر الخزاعي الشهيد كان من أولاد أمراء الدولة فنشأ في علم وصلاح وكتب عن مالك وجماعة قال قتله الواثق بيده لامتناعه من القول بخلق القرآن ولكونه أغلظ للواثق في الخطاب وقال له : يا صبي ، وكان رأسا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقام معه خلق من المطوعة واستفحل أمرهم فخافته الدولة من فتق يتم بذلك "(1) .
…وذكره الأزدي في تاريخ الموصل وقال عنه " الذي قتله الواثق في القرآن والأمر بالمعروف " (2) .
…وقال ابن الجوزي في المناقب " وكان قد اتهم بأنه يريد الخلافة " (3) .
…قال المسعودي :" قتل الواثق أحمد بن نصر الخزاعي في المحنة على القرآن "(4)
…ومن المتأخرين ذكر الدكتور الدميجي اعتماداً على رواية الطبري والصولي قال :" وممن طبّق الخروج فعلا على السلطان المبتدع الواثق بالله القائل بخلق القرآن أحمد بن نصر الخزاعي " (5).
…وقال محقق تاريخ دار السلام للخطيب تعليقا في الحاشية على سبب قتله قال " هذا هو السبب المعلن من قبل الخلافة أما الحقيقة فإنه كان يقود حركة دينية سياسية ضد الدولة "(6) .
…قلت وبعد عرض هذا كله يظهر بوضوح أن مسألة الوثوب على السلطان مرجعها رواية الطبري ومحمد بن يحيى الصولي ، وهي كما سبق القول أصلهما واحد وكلا منهما لم يعايش الحدث ولم يذكر عمدته في هذه الرواية ، والراجح أن هذه الرواية إنما سيقت من قبل السلطة العباسية الحاكمة بعد مقتل أحمد بن نصر تبريرا لقتله عند العامة الذين أظهروا تعاطفا مع شخصية هذا الشهيد .
__________
(1) الذهبي " العبر في أخبار من غبر " ج 1 ص408
(2) الأزدي " تاريخ الموصل " ص178
(3) ابن الجوزي " المناقب " 536
(4) المسعودي " مروج الذهب " ج 4 ص76
(5) الدميجي " الإمامة العظمى " ص540
(6) بشار عواد معروف " حاشية كتاب تاريخ بغداد للخطيب ج 6 ص400(1/58)
…والحقيقة أن في تفاصيل الرواية نواحي ضعف فقد جاء أنه بعث أحمد بن نصر وابنيه وخصيين له و إسماعيل بن محمد الباهلي إلى الواثق وكان الأولى بعث أبي هارون السراج وطالب ، وهما حسب الرواية كانا السبب الرئيسي في تحريك أحمد بن نصر بل إنهما اللذان تعديا كما عبرت رواية الصولي ، كما جاء فيها أن الثورة المزعومة التي يقودها أحمد بن نصر وجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد كُشفت – كما عند الطبري - بسبب أعضائها السكارى الذين ثملوا من الشراب .
…أما ما جاء في رواية الطبري من أن أهل الحديث حركوا أحمد بن نصر الخزاعي ونص كلامه " فحرك المطيفون به – يعني أحمد بن نصر - من أصحاب الحديث وممن ينكر القول بخلق القرآن من أهل بغداد أحمد " فهذه تهمة لم تثبت لأنه لم يعرف أن حملة الاعتقالات التي تلت القبض على أحمد بن نصر قد شملت أحد من رجال الحديث في بغداد .
…وغاية الأمر أن أحمد بن نصر كان يظهر المباينة لمن يقول بخلق القرآن في وقت بالغَ فيه الواثق في حملته حتى أنه شمل أسرى المسلمين والصبيان في المكاتب وهي إجراءات خطيرة لم يفعلها المأمون والمعتصم اللذان اقتصرت محنتهم على العلماء والقضاة ولم تتعداهما لبقية الناس .(1/59)
… وكانت هذه الإجراءات هي التي دفعت فقهاء بغداد للحضور إلى أحمد بن حنبل كما ينقل ابن أخيه حنبل بن إسحاق قال " فلما أظهر الواثق هذه المقالة وضرب عليها وحبس جاء نفر إلى أبي عبد الله من فقهاء بغداد وفيهم بكر بن عبدالله وإبراهيم بن علي المطبخي وفضل بن عاصم وغيره فأتوا أبا عبدالله وسألوا أن يدخلوا عليه فاستأذنت لهم فأذنوا لهم فدخلوا عليه فقالوا له يا أبا عبدالله إن الأمر قد فشا وتفاقم وهذا الرجل يفعل ويفعل وقد أظهر ما أظهر ونحن نخافه على أكثر من هذا وذكروا له أن ابن أبي دؤاد مضى على أن يأمر المعلمين بتعليم الصبيان في الكتاب مع القرآن القرآن كذاوكذا فقال لهم أبو عبد الله : وماذا تريدون ؟ قالوا أتيناك نشاورك فيما نريد قال فما تريدون قالوا لا نرضى بإمرته ولا بسلطانه فناظرهم أبو عبد الله ساعة حتى قال لهم وأنا حاضرهم أرأيتم إن لم يبق لكم هذا الأمر أليس قد صرتم من ذلك إلى المكروه ، عليكم بالنكرة بقلوبكم ولا تخلعوا يدا من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم انظروا إلى عاقبة أمركم ولا تعجلوا حتى يستريح بر ويستراح من فاجر ، ودار بينهم في ذلك كلام كثير لم أحفظه واحتج عليهم أبو عبد الله بهذا فقال له بعضهم إنا نخاف على أولادنا إذا ظهر هذا لم يعرفوا غيره ويمحى الإسلام ويدوس ( قلت هكذا في المطبوع والصواب ويدرس ) فقال أبو عبد الله كلا إن الله عز وجل ناصر دينه وإن هذا الأمر له رب ينصره وإن الإسلام عزيز منيع "(1) .
…قلت وغيرتهم رحمهم الله تعالى على الإسلام محمودة ، لكن موقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أصوب وأحق أن يتبع ، فإنه نظر إلى العواقب وعلم جازما أن هذا دين منصور بعز عزيز أو بذل ذليل ، وأن الأمر كله بيد الله تعالى ومن نظر في ما آل إليه الأمر عرف الحقيقة .
__________
(1) حنبل بن إسحاق " محنة الإمام أحمد " ص72(1/60)
…قال فمضى القوم فكان من أمرهم أنهم لم يحمدوا ولم ينالوا ما أرادوا ، اختفوا من السلطان وهربوا وأخذ بعضهم في الحبس " (1).
…قلت وهذا خبر مسند لم يُذكر فيه أحد من أهل الحديث والذين عدهم لم أجد من ترجم لهم ، وقوله " فقهاء بغداد " الراجح أنها تعني آنذاك فقهاء المذاهب المعروفة حينها كالحنفية والمالكية وكلها كانت ببغداد ، وهي عبارة اصطلاحية تقابل مصطلح أهل الحديث ، ولو كان لأهل الحديث دور كما ذكر الطبري لجاء ذكرهم لشهرتهم كيحيى بن معين والدورقي وغيرهم .
…وقد أوضح الخبر قول أحمد بن حنبل جليا في مسألة الخروج على الحاكم المبتدع ، ولو كان أحمد بن نصر مشتركا فيما سمي بالوثوب على السلطان لنقل عن الإمام أحمد إنكاره ذلك ، وهذا مما تتوفر الدواعي إلى نقله كيف وقد نُقل عنه الثناء عليه.
…والعجيب في الأمر أن المؤرخين كالطبري وغيره لم يذكروا حملةَ اعتقالاتٍ سوى ما ذُكر في أتباع أحمد بن نصر خلافا لرواية اسحق بن حنبل مما يؤكد أن حملة الاعتقالات التي حدثت لم يكن أحمد بن نصر طرفا فيها وإنما اعتقل لصوته المباين والرافض لمقالة خلق القرآن فخشيت الدولة من فتق كما يذكر الذهبي وقام الواثق بقتله .
…والذي عليه القول أن تهمة الوثوب على السلطة لم تكن مطروحة قبل مقتل أحمد بن نصر وإنما هي رواية سيقت عقب مقتله وظهور تيار متعاطف معه ، ويؤكد ذلك ما جاء في المبررات التي وضعت في الرقعة المعلقة بأذن أحمد بعد مقتله.
__________
(1) المرجع السابق ص72(1/61)
…وقد عُلق رأسه – رحمه الله - في بغداد وجاء في الرقعة المذكورة كما عند الطبري وغيره " هذا رأس الكافر المشرك الضال وهو أحمد بن نصر بن مالك ممن قتله الله على يد عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن ونفي التشبيه وعرض عليه التوبة ومكنه من الرجوع إلى الحق فأبى إلا المعاندة والتصريح والحمد لله الذي عجل به إلى ناره وأليم عقابه وإن أمير المؤمنين سأله عن ذلك فأقر بالتشبيه وتكلم بالكفر فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه ولعنه "(1) .
…قلت وكتابته جرأة على الله نعوذ بالله من الخذلان ، وصلب جسمه بسامرا ورأسه ببغداد ، وقد نسج على صلب رأسه حكايات كثيرة لا تصح رحمه الله وأثابه ، وأما الواثق فلم يلبث أن هلك في السنة التالية وهو ابن ست وثلاثين وأراح الله به البلاد والعباد قال ابن كثير : " فهكذا أيام أهل الظلم والبدع قليلة قصيرة "(2).
…وما نقله الطبري عن بعض أشياخه ولم يسمهم أن أحمد بن نصر كان يقول عند ذكر الواثق :ألا فعل هذا الخنزير أو قال الكافر "(3) ، يعارضه ما دار في الحوار بينهما فكان يسميه أمير المؤمنين ويظهر نصحه ، وكان رحمه الله استقتل ولم يكن محتاجا إلى المداهنة ، وما كان هناك ما يمنع لو أن أحمد بن نصر لم يعتقد خلافته أو كان يطمع في خلعه ، وقد أيس من الحياة أن يسميه أمير الكافرين كما فعل يحيى بن عامر بن إسماعيل لما لقي المأمون "(4) .
… كما أن الخطيب يروي عن يحيى بن معين قول أحمد بن نصر أنه ما دخل عليه أحد يصدقه يعني الخليفة "(5).
…وقد يقال فما الحاجة إلى رد رواية الوثوب على السلطان وتبرئه أحمد بن نصر من ذلك ؟
__________
(1) الطبري " تاريخ الرسل والملوك " ج9 ص139
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 10 ص308
(3) الطبري " مرجع سابق " ج 9 ص135
(4) انظر الطبري " المرجع السابق ج9 ص545
(5) الخطيب " تاريخ بغداد " ج6 ص400(1/62)
…قلت والحاجة إلى ذلك السياق التاريخي الذي يجب أن توضع فيه الرواية لمَّا صعب التعرف على مصدرها ، والسياق التاريخي يقوي رد قصد الوثوب عند أحمد بن نصر ومعه أهل الحديث- خصوصا في بغداد- والذين كان قولهم في مسألة الخروج على السلطان واضح(1) ، فلا يمكن لأحمد بن نصر وهو ينتسب لهذه الفرقة أن يضمر هدفا كهذا مع ما يجلبه ذلك من محاذير شرعية ومعارضة من علماء المذهب كأحمد بن حنبل .
…فإن قيل لعل أحمد بن نصر انحرف عن منهج أهل الحديث قلنا أن ذلك لو حدث لما أثنى عليه جمهور أهل الحديث بدءا بأحمد بن حنبل والخطيب وابن كثير والذهبي ونعتوه بالشهيد ولما يحضر معركة سوى وقوفه على الحق أمام السلطان الجائر .
…ثم تولى الخلافة المتوكل الذي أوقف المحنة ونصر السُنة وقمع المعتزلة جسديا بعد قمعهم فكريا على يد علماء المسلمين ، كما أنه قام بإجراءات ملموسة لكبح جماح الرافضة وإذلال اليهود والنصارى ، وكان تصرف المتوكل مُنتظرا بالنظر إلى المأزق الذي وقعت فيه خلافة بني العباس التي كانت ناصرة للسنة واعتبرت نفسها حامية للإسلام .
__________
(1) ذكر بعض علماء أهل السنة وجود خلاف بين تيارين متعارضين أحدهما يرى جواز الخروج والآخر يرى منعه ، لكن الراجح أن الخلاف حسم مبكرا ، ومنذ فشل محاولة عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث للثورة ضد الحجاج بن يوسف والتي اشترك فيها عدد من كبار علماء الحديث أبرزهم سعيد بن جبير الذي ذهب ضحية فشل هذه المحاولة ، ولعل النتائج التي آلت إليها هذه التجربة كانت عاملا من عوامل حسم مادة النزاع واستقرار الأمر على منع الخروج على السلطان الجائر .(1/63)
…وكان من أولى إجراءات المتوكل إنزال جثة أحمد بن نصر ودفنه قال ابن كثير ففرح الناس بذلك فرحا كثيرا واجتمع في جنازته خلق كثير جدا قال وزاد أمر فرحتهم فخرج بهم عن الحق فقد قيل أنهم أتوا إلى الجذع الذي صلب عليه فجعلوا يتمسحون به وأرهج العامة بذلك فرحا وسرورا فكتب المتوكل يأمر بردعهم .
…
[ أهل السُنة بعد وفاة أحمد بن حنبل ]
…نشأ مصطلح أهل السُنة نتيجة للصدامات مع المعتزلة فأصبح مطروحا مقابل أهل البدعة كما كان مصطلح أهل الحديث مطروحا أمام أهل الرأي ، وكان مصطلح ( السُنة ) في حقيقته مصطلحاً عقدياً لا فقهياً ، وكان هذا المصطلح يشمل في بداياته أهل الحديث وأتباع المذهبين الحنفي والمالكي إلا ما قيل عن نفي بعض أفكار المرجئة التي تسربت إلى أتباع أبى حنيفة رحمه الله تعالى .
…غير أن عماد أهل السُنة في بغداد هم من أهل الحديث أو أتباعهم ، وقد نشأ داخل تيار أهل الحديث بعد محنة خلق القرآن عدد من التيارات الفقهية التي كانت متفقة في المسائل العقدية ، فظهرت الشافعية حيث ذكر الذهبي رحمه الله تعالى في حوادث سنة مائتين وثمان وثمانين وفاة مفتي بغداد الفقيه عثمان بن سعيد بن بشار صاحب المزني قال : وهو الذي نشر مذهب الشافعي ببغداد "(1).
…ثم نشره أبو زرعة الثقفي محمد بن عثمان في دمشق قال السبكي في طبقاته :"يقال إنه الذي أدخل مذهب الشافعي إلى دمشق وأنه كان يهب لمن يحفظ مختصر المزني مئة دينار "(2).
وذكر ابن كثير سنة ست وثلاثمائة وفاة ابن سريج قال وعنه انتشر مذهب الشافعي في الآفاق "(3) ، على الرغم من أن الوجود الشافعي بمصر كان متقدما ، فقد توفي بها إسماعيل بن يحيى المزني سنة أربع وستين ومائتين والربيع بن سليمان المرادي الراوي لأكثر كتب الشافعي سنة سبعين ومائتين .
__________
(1) الذهبي " العبر في أخبار من غبر " ج 1 ص281
(2) السبكي " طبقات الشافعية " ج3 ص197
(3) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 11 ص129(1/64)
بيد أن النشاط الشافعي كان في جهة المشرق خراسان وجرجان وغيرها من بلدان المشرق أكثر وضوحا منه في بغداد .
أما التيار الرئيسي في بغداد فهو الذي التف حول تلميذ الإمام أحمد بن حنبل أبي بكر المروذي المتوفى سنة مائتين وخمس وسبعين ، وكان من أخص تلاميذ الإمام أحمد ، وقد ورد في ترجمته في مناقب ابن الجوزي ": أنه خرج إلى الغزو فشيعه الناس إلى سامرا فجعل يردهم فلا يرجعون فحزروا فإذا هم بسامرا – سوى من رجع – خمسين ألف إنسان فقيل له : يا أبا بكر احمد الله هذا علم (بفتحتين ) قد نشر لك قال فبكى ثم قال : ليس هذا العلم لي وإنما هو علم أحمد بن حنبل "(1).
وبغض النظر عن المبالغة في عدد الأتباع إلا أن في النص دلالة على شعبية المروذي الكبيرة في بغداد ، كذلك وعيه بأن هؤلاء الأتباع إنما هم في الحقيقة أتباع أحمد بن حنبل أو بتعبير آخر حنابلة .
وقد خطا تلاميذ أبي بكر المروذي بعد وفاته خطوتين كان من شأنهما بلورة المذهب الحنبلي ، الأولى وضع مختصر فقهي على يد الحسين بن علي أبي علي الخرقي المتوفى سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ، وكان وجود مثل هذا المختصر -وهو أشبه بالمقرر المدرسي – ضرورة مذهبية يتم من خلالها الحكم في أمور الناس وقضاياهم ، وهي خطوة جسدت المذهب الحنبلي في بغداد ، وللمختصرات دور و لاشك في نشر المذهب وقد مر بنا ما يدفعه أبو زرعة الثقفي لمن يحفظ مختصر المزني .
والخطوة الأخرى وهي استمرار الدور الذي كانت تقوم به حركة المطّوعة من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، وقاد هذا الدور تلميذ المروذي الحسن بن علي أبو محمد البربهاري ، وساهم هذا في استمرارية التعاضد الشعبي في بغداد حول أتباع مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى والذين سيعرفون منذ أوائل القرن الرابع بالحنابلة أو الحنبلية .
__________
(1) ابن الجوزي " المناقب " ص674(1/65)
و ساهم بقاء عبد الله بن أحمد بن حنبل وهو راوي مسنده حتى سنة تسعين ومائتين في حفظ وهج شخصية الإمام أحمد بن حنبل .
كما ظهرت اجتهادات فقهية خارج هذه المذاهب الأربعة الموجودة في بغداد منها المذهب الذي عُرف أتباعه بأهل الظاهر وسموا بذلك لالتزامهم بظاهر الكتاب و السُنة وكان إمامهم داود بن علي الأصفهاني الظاهري ذكر ابن كثير عن الخطيب قال": كان فقيها زاهدا وفي كتبه حديث كثير دال على غزارة علمه ، وذكر عن أبي إسحاق السيرامي أنه انتهت إليه رياسة العلم بها – أي ببغداد -وكان يحضر مجلسه أربعمائة طيلسان أخضر وكان من المتعصبين للشافعي " (1) . وقوله من المتعصبين للشافعي لعله كان في أول أمره ثم استقل بنفسه
وقد فطن ابن كثير رحمه الله تعالى لعلة عدم انتشار مذهبه وخفوت وهجه في مرحلة مبكرة فقال ": وقد كان من الفقهاء المشهورين ولكن حصر نفسه بنفيه للقياس الصحيح فضاق بذلك ذرعه في أماكن كثيرة من الفقه ، فلزمه القول بأشياء قطعية صار عليها بسبب إتباعه للظاهر المجرد من غير تفهم لمعنى النص "(2)
ومن هذه المذاهب المذهب الذي سلكه أبو جعفر الطبري وكان في صدد بلورة مذهب مستقل له ، وكان له في بغداد أتباع وتلاميذ غير أن مذهبه لم يكتب له الحياة ولعل اصطدامه بالحنابلة كان من أسباب خفوت مذهبه . وتعد مسألة خلافه مع الحنابلة من أولى المناسبات التي سيظهر فيها اسم الحنابلة .
[ الطبري والحنابلة ]
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 11 ص47
(2) المرجع السابق ج 11 ص48(1/66)
تعد حادثة الخلاف بين الحنابلة و الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري من أولى المناسبات التي ظهر فيها اسم الحنابلة على مسرح التاريخ ، كما أنها قد استغلت على نطاق واسع من قبل المؤرخين المعارضين والمسكونين بالعوامل المذهبية لتصفية حساباتهم مع الحنابلة . وزاد من حدة الاستغلال طبيعة المكانة التي عليها الإمام الطبري والمكتسبة بالدرجة الأولى من تفسيره للقران العظيم وهو كتاب من أعظم كتب أهل الإسلام ومن غرر كتب السلف ولاشك .
…وأقدم ذكر لهذه الحادثة ما ذكر عن ابن خزيمة فيما رواه الخطيب عن الحاكم (ت 405 هـ) قال سمعت أبا بكر بن بالويه ( ت340هـ) قال لي أبو بكر بن خزيمة ( ت 311 هـ) وقد استعار كتاب التفسير للطبري فقال : لقد نظرت فيه من أوله إلى آخره وما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير الطبري ولقد ظلمته الحنابلة "(1).
…ونقل عن أبي هذرم عمر بن أحمد العبدوي (ت 417هـ ) قال سمعت حسينك بن علي (ت 375هـ) يقول لما رجعت من بغداد إلى نيسابور سألني محمد بن إسحاق بن خزيمة فقال ممن سمعت ببغداد فذكرت له جماعة ممن سمعت منهم فقال هل سمعت من محمد بن جرير شيئا فقلت له لا إنه ببغداد لا يدخل عليه لأجل الحنابلة وكانت تمنع منه فقال لو سمعت منه لكان خيرا لك من جميع من سمعت منه " (2).
…وذكرها الذهبي في السير عن الحاكم باختلاف يسير ، قال أول ما سألني ابن خزيمة فقال لي كتبت عن محمد بن جرير الطبري قلت لا قال : لم قلت : لأنه كان لا يظهر وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه قال بئس ما فعلت "(3) .
__________
(1) الخطيب " تاريخ بغداد " ج 2 ص551
(2) المرجع السابق ج 2 ص551
(3) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 14 ص272(1/67)
…قلت : وحسينك كان في بغداد أوائل سنة309 ، إذ سمع من عمر بن إسماعيل المتوفى سنة 309 ، ولو أخذنا برواية الذهبي لترجح أن ابن خزيمة لم يكن سنة عودة حسينك قد بلغه أمر الخلاف ، ولهذا سأله لمَ لمْ يأخذ عن الطبري ، على هذا فليس استعارته لكتاب التفسير بسبب ما بلغه ، إذ تلك مسألة ملحة لا يحتاج معها إلى النظر في الكتاب لسنوات – كما ورد - ، والراجح عندي أنه استعار التفسير لابن جرير رفيقه القديم في الرحلة إلى مصر فرأى سعة علمه مما دفعه إلى القول بأنه لا يعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير . وعلى هذا فلا يبعد أن تكون عبارة ( ولقد ظلمته الحنابلة ) مدرجة من كلام رواة الخبر عنه .
…وقد نقل العماد في الشذرات كلمته دون قوله ( ولقد ظلمته الحنابلة ) فلا يُدرى أتركها انتصار لمذهبه أم أنه لا يراها من كلامه (1).
…وعلى كل فإن هذه العبارة لو كانت من كلام ابن خزيمة فهي أقدم حكم وصلنا عن هذا الخلاف .
…وذكر الخطيب البغدادي الخبر من خلال هذه الأخبار النيسابورية المنشأ ، وألمح إليه عند ذكر دفن محمد بن جرير قال " ولم يؤذن به أحد ودفن في داره "(2) عدا ذلك لم يذكر شيئا وهو المؤرخ البغدادي ، فلعل سكوته عن أمر هذا الخلاف بسبب سطوة الحنابلة في بغداد وقوتهم فتجنب الخطيب بذلك الخوض في هذا الأمر.
…قال مسكويه في تجارب الأمم :" وفيها – أي سنة 310 هـ - توفي محمد بن جرير الطبري وله نحو التسعين سنة ودفن ليلا لأن العامة اجتمعت ومنعت من دفنه نهارا وادعت عليه الرفض ثم ادعت عليه الإلحاد "(3) .
__________
(1) ابن العماد " شذرات الذهب " ج 4 ص53
(2) الخطيب " تاريخ بغداد " ج 2 ص 553
(3) مسكويه " تجارب الأمم " ج 1ص84(1/68)
…وقال ابن الجوزي في المنتظم " ودفن وقد أضحى النهار وقيل بل دفن ليلا ولم يؤذن به أحد واجتمع من لا يحصيهم إلا الله وصلي على قبره شهور ليلا ونهارا ، وذكر ثابت بن سنان في تاريخه : إنه إنما خفيت حاله لان العامة اجتمعوا ومنعوا من دفنه بالنهار وادعوا عليه بالرفض ثم ادعوا عليه الإلحاد . قال ابن الجوزي : كان ابن جرير يرى جواز المسح على القدمين ولا يوجب غسلهما فلهذا نسب إلى الرفض ، وكان قد رفع في حقه قصة إلى نصر الحاجب يذكر عنه أشياء فأنكرها منها أنه نسبه إلى رأي جهم وقال إنه قائل " بل يداه مبسوطتان " أي نعمتاه فأنكر هذا وقال ما قلته ومنها أنه روى أن روح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرجت سالت في كف علي فحساها فقال الحديث مسح بها على وجهه وليس فيها حساها . قال المصنف وهذا أيضا محال إلا أنه كتب ابن جرير في جواب هذا إلى نصر الحاجب : لا عصابة في الإسلام كهذه العصابة الخسيسة ، وهذا قبيح منه لأنه كان ينبغي أن يخاصم من خاصمه وأما أن يذم طائفته جميعا وهو لا يدري إلى من ينتسب فغاية في القبح " انتهى كلام ابن الجوزي(1) .
…وذكر ابن الأثير قال :" ودفن ليلا بداره لأن العامة اجتمعت عليه ومنعت من دفنه نهارا وادعوا عليه الرفض ثم ادعوا عليه الإلحاد وكان علي بن عيسى الوزير يقول لو سئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه و ما فهموه هكذا ذكره مسكويه صاحب تجارب الأمم وحوشي الإمام عن مثل هذه الأشياء وأما ما ذكره عن تعصب العامة فليس الأمر كذلك وإنما بعض الحنابلة تعصبوا عليه ووقعوا فيه فتبعهم غيرهم ولذلك سبب وهو أن الطبري جمع كتابا فيه اختلاف الفقهاء لم يصنف مثله ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل فقيل له في ذلك فقال لم يكن فقيها وإنما كان محدثا فاشتد ذلك على الحنابلة وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد فشغبوا عليه وقالوا ما أرادوا "(2) .
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم ج6 ص172
(2) ابن الأثير " الكامل في التاريخ " ج8 ص134(1/69)
…وذكر ياقوت هذا الخبر مطولا فقال عن عبدالعزيز بن هارون :" فلما قدم إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها تعصب عليه أبو عبدالله الجصاص وجعفر بن عرفة والبياضي وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة وعن حديث الجلوس على العرش فقال أبو جعفر أما أحمد بن حنبل فلا يعد خلافه فقالوا له قد ذكره العلماء في الاختلاف فقال ما رأيته روي عنه ولا رأيت له أصحابا يعوّل عليهم ، وأما حديث الجلوس فمحال ثم أنشد
……سبحان من ليس له أنيس……ولا له في عرشه جليس
فلما سمع ذلك الحنابلة منه وأهل الحديث وثبوا ورموه بمحابرهم وقيل كانت ألوفا فقام أبو جعفر بنفسه ودخل داره حتى صار على بابه كالتل العظيم وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة ووقف على بابه يوما إلى الليل وأمر برفع الحجارة عنه وكان قد كتب على بابه :
……سبحان من ليس له أنيس……ولا له في عرشه جليس
فأمر نازوك بمحو ذلك وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث
……لأحمد منزل لاشك عالٍ……إذا وافى إلى الرحمن وافد
……فيدنيه ويقعده كريما……على رغم لهم في أنف حاسد
……على عرش يغلفه بطيب……على الأكباد من باغ و عاند
……له هذا المقام الفرد حقا……كذاك رواه ليث عن مجاهد
فخلا في داره وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم وذكر مذهبه واعتقاده وجرّح من ظن فيه غير ذلك ، وقرأ الكتاب عليهم وفضل أحمد بن حنبل وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده ، ولم يزل في ذكره إلى أن مات ولم يخرج كتابه في الاختلاف حتى مات ، فوجدوه مدفونا في التراب فأخرجوه ونسخوه أعني اختلاف الفقهاء " انتهى كلام ياقوت (1).
__________
(1) ياقوت الحموي " معجم الأدباء " ج18ص59(1/70)
…وذكره ابن كثير فقال ": ودفن في داره لأن بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا من دفنه نهارا ونسبوه إلى الرفض ومن الجهلة من رماه بالإلحاد وحاشاه من ذلك بل كان أحد أئمة الإسلام علما وعملا بكتاب الله وسنة رسوله وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر بن داود الفقيه الظاهري حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم وبالرفض "(1) .
…وقد تبع ابن كثير في هذا أحد المتأخرين وهو مؤلف " دراسة الطبري للمعنى " قال ومن الأسباب المباشرة التي دعت إلى اتهام الطبري بالآراء والمذاهب السالفة ( الرفض والإلحاد والتشيع والميل إلى رأي الجهمية ) هي الصراعات والخلافات المذهبية والشخصية التي كانت بين عوام الحنابلة من جهة وبينه وبين داود بن علي الاصفهاني زعيم الظاهرية "(2) ، وقال مشيرا إلى خبر ابن كثير وفي هذا الخبر وغيره من الأخبار المذكورة في كتب التراجم ما يفيد أن الصراع بين أبي جعفر وبين الحنابلة لم يكن على المستوى العلمي الرفيع وإنما كان على المستوى العامي حيث أن بعض عوام الحنابلة هم الذين اتهموه بالرفض والإلحاد بتحريض من الفقيه الظاهري "(3).
…بينما يرى مؤلف ( الحنابلة في بغداد ) وقد اتهم الحنابلة بأنهم تعرضوا لفتنة الإمام البخاري ، بقوله(4) "ومر البخاري بهذه المحنة التي اتهمه فيها بعض الحنابلة "(5)
…قال بعد عده للأخبار الواردة في الخلاف بين الطبري و الحنابلة ": وهناك رواية أخرى هي أقرب إلى التاريخ من الروايات السابقة ثم يذكر رواية ياقوت المطولة "(6) .
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج11 ص146
(2) محمد المالكي " دراسة الطبري للمعنى " ص198
(3) المرجع السابق ص199
(4) قلت ومن المعلوم أنه زمن الإمام البخاري لم يكن للحنابلة ذكر ولم يظهروا كفرقة إلا بعد وفاته بزمن ، وما حدث كان نزاعا بين رجال أهل الحديث أو سوء فهم أو سوء نقل ولّد ما حدث للإمام البخاري .
(5) محمد أحمد محمود " الحنابلة في بغداد " ص172
(6) المرجع السابق ص179(1/71)
…وأشار الذهبي رحمة الله (ت 748هـ) إلى خلاف للطبري مع أحد أئمة بغداد وعلمائها هو أبو بكر بن أبي داود قال : قيل لابن جرير إن أبا بكر بن أبي داود يملي في مناقب علي فقال : تكبيرة من حارس " وهذا نقلا عن الخطيب لكنه يعقب بقوله : وقد وقع بين ابن جرير وبين ابن أبي داود وكان كل منهما لا ينصف صاحبه وكانت الحنابلة حزب أبي بكر بن أبي داود فكثروا وشغبوا على ابن جرير وناله أذى ولزم بيته نعوذ بالله من الهوى وكان ابن جرير من رجال الكمال وشنع عليه بيسير تشيع وما رأينا إلا الخير وبعضهم ينقل عنه أن كان يجيز مسح الرجلين في الوضوء ولم نر ذلك في كتبه "(1) .
…قلت وقد ظهر مما سبق ثلاثة أقوال في سبب هذا الخلاف ، أولها أن النزاع بين الطبري وأبي بكر الفقيه الظاهري كان سبب ثورة الحنابلة عليه وهذا ما جاء عند ابن كثير رحمه الله في قوله يقصد الحنابلة " وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر بن داود الفقيه الظاهري " (2)
…والسبب الثاني ما نقله ياقوت الحموي في معجم الأدباء وقد ترجم فيه لابن جرير ترجمة حافلة وسنقف وقفة متأنية مع هذا السبب .
…والسبب الثالث في أمر هذا الخلاف الشهير ما صرح به الذهبي من خلاف بين أبي جعفر وأبي بكر بن أبي داود السجستاني ، وقد ربط الذهبي بين هذا الخلاف وما حدث من الحنابلة .
__________
(1) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج14 ص277
(2) وعبارة الفقيه الظاهري ليست موجودة في بعض النسخ المطبوعة لهذا التاريخ ، والرواية هذه الغالب أن الوهم طرقها من ابن كثير أو من النساخ – كما أرجح – الذين تصحف عندهم اسم أبي بكر بن أبي داود إلى أبي بكر بن داود فاسقطوا كلمة ( أبي ) ولعل أحدهم زاد كلمة الفقيه الظاهري فدخلت في أصل الكتاب . وعلى كل فهذا أحد الأسباب المطروحة وسنفصل لاحقا سبب استبعاده(1/72)
…أما القول الأول وهو أن الخلاف وقع بسبب الاختلاف بين الطبري وأبي بكر بن داود فنقول أن أبا بكر هذا هو محمد بن داود بن علي الاصبهاني أحد علماء المذهب الظاهري وخلافه مع الطبري خلاف مشهور ، أصله ما ذكره ياقوت من قصة كتاب لأبي جعفر اسمه الرد على ذي الأسفار يرد فيه على داود بن علي الاصبهاني (ت276 ) قال :" وكان سبب تصنيف هذا الكتاب أن أبا جعفر كان قد لزم داود بن علي مدة وكتب من كتبه كثيرا ، قال وجرت مسألة يوما بين داود بن علي وبين أبي جعفر فوقف الكلام على داود ، فشق ذلك على أصحابه وكلم رجل من أصحاب داود أبا جعفر بكلمة مضة فقام من المجلس وعمل هذا الكتاب ، قال ثم قطع ذلك بعد ما مات داود بن علي فلم يحصل في يد أصحابه من ذلك إلا ما كتبه منه مقدمو أصحابه "(1) .
…وبعد وفاة داود بن علي ورث ابنه أبوبكر هذا الخلاف فقد نقل ياقوت عن الرؤاسي قوله : ثم تعرض محمد بن داود للرد على أبي جعفر فيما رده على أبيه فتعسف الكلام على ثلاث مسائل خاصة وأخذ في سب أبي جعفر وهو كتابه المنسوب في الرد على أبي جعفر بن جرير "(2) .
…قلت وقد ذكر الذهبي في السير اسم هذا الكتاب فقال في ترجمة أبي بكر بن داود وله كتاب الانتصار من محمد بن جرير الطبري "(3) .
…وقد ذكر ياقوت – رحمه الله - عن ابن المغلس الظاهري ما قد يفهم منه عدم تأليف الكتاب قال :" قال لي أبو بكر بن داود كان في نفسي مما تكلم محمد بن جرير في أبي فدخلت يوما على أبي بكر بن حامد وعنده أبو جعفر فقال له هذا أبو بكر محمد بن داود بن علي الاصبهاني فلما رآني أبو جعفر وعرف مكاني رحب بي وأخذ يثني على أبي ويمدحه ويصفني بما قطعني عن كلامه " (4).
__________
(1) ياقوت الحموي " معجم الأدباء " ج18 ص79
(2) المرجع السابق ج 18 ص80
(3) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج13 ص110
(4) ياقوت الحموي " معجم الأدباء " ج 18 ص80(1/73)
…قلت وسواء صح تأليف هذا الكتاب أم لا فإن هذا الخلاف سينقطع بوفاة أبي بكر محمد بن داود سنة 297 ، أي قبل وفاة أبي جعفر بثلاث عشرة سنة ، ويبعد أن يكون هذا الخلاف سبب تعصب الحنابلة عليه وأن يظلوا على موقف معارض من محمد بن جرير ، وأن يتعاطفوا مع خصمه حتى ينتهي بهم الأمر أن يمنعوا من دفنه نهارا كما نص ابن كثير رحمه الله تعالى .
…كما أن العلاقة بين الحنابلة والظاهرية لم تكن حسنة بسبب موقف الإمام احمد بن حنبل من داود بن علي وقوله في القرآن .
…لذا فان القول بعلاقة الحنابلة بهذا الخلاف كان بعيدا عن الحقيقة وهو ما أرجح به أن تكون رواية ابن كثير قد طرقها الوهم من جهة النساخ كما أسلفت .
…أما القول الثاني والذي مستنده رواية ياقوت الطويلة والتي ترجع سبب الخلاف إلى مسألتين أولاهما موقف الطبري من أحمد بن حنبل في كتاب اختلاف الفقهاء والثانية موقفه من مسألة الجلوس على العرش ، فالذي يقوى عندي عدم صحتها لما يظهر فيها من الوهن ، فمن ذلك ما جاء في أولها من تعصب أبي عبد الله والبياضي وجعفر بن عرفة والجصاص هو الجوهري المعروف وكان من أكابر تجار بغداد ، وأما البياضي فهو محمد بن عيسى الهاشمي قتله القرامطة سنة 294هـ وجعفر بن عرفة هو أبو الفضل المعدل توفي سنة 287هـ . والذي يفهم من سياق الرواية في قوله :" فلما قدم – أي أبو جعفر – إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها " ورجوعه إلى طبرستان كان في دفعتين كما ينقل ياقوت قال : ثم رجع إلى طبرستان وهي الدفعة الأولى ثم الثانية كانت في سنة 290 ثم رجع إلى بغداد فنزل في قنطرة البردان واشتهر اسمه في العلم وشاع خبره "(1)
__________
(1) ياقوت " مرجع سابق " ج 18 ص 56(1/74)
…فالذي يفهم مما سبق أن التعصب حدث من الثلاثة المذكورين كان بعد رجوعه لبغداد بعد الدفعة الثانية أي بعد سنة 290 ، وقد مر بنا أن جعفر بن عرفة توفي سنة287 أي قبل رجوع أبي جعفر بسنتين أو أكثر لذا فمن المحال أن يصح ما ورد في أول الرواية المطولة التي نقلها ياقوت .
…وسواء صح هذا التعصب أم لا فإن الأشخاص الثلاثة لم تعدهم كتب الطبقات في الحنابلة ، و لا يوجد دليل على علاقة هذا التعصب منهم بما حدث للطبري مع الحنابلة لاحقا .
…كذلك من علامات ضعف هذه الرواية ما ذكر عن قول أبي جعفر في مسألة الجلوس على العرش بأنه محال ، وهذا الجواب الموضوع على لسانه يخالف ما جاء في تفسيره الذي انتهى من تأليفه سنة 270 ، أي أنه يعبر عن قوله العلمي قبل ورود السؤال بسنوات طويلة ، قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى " { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } " قال ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود فقال أكثر أهل العلم ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلّم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم "(1) ، ثم قال :" وقال آخرون بل ذلك المقام المحمود الذي وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلّم أن يبعثه إياه هو أن يقاعده معه على عرشه ، قال حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال حدثنا ابن فضيل عن ليث عن مجاهد في قوله : { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } " قال يجلسه معه على عرشه ، وأولى القولين في ذلك بالصواب ما صح به الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" .
__________
(1) الطبري " جامع البيان " ج15 ص144(1/75)
ثم قال " وهذا وإن كان هو الصحيح – أي القول الأول – من القول في تأويل قوله تعالى " { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } " لما ذكرنا عن الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين فإن ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمدا - صلى الله عليه وسلم - قول غير مدفوع صحته لا من جهة خبر ولا نظر وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه ولا عن التابعين بإحالة ذلك "
ثم يذكر رحمه الله من جهة النظر مذاهب أهل الإسلام على ثلاثة أقوال يقول في آخرها وإن قال ذلك غير جائز كان منه خروجا من قول جميع الفرق التي حكينا قولهم وذلك فراق لقول جميع من ينتحل الإسلام إذ كان لا قول في ذلك إلا الأقوال الثلاثة التي حكيناها وغير محال في قول منها ما قال مجاهد في ذلك "(1) .
…كما أنه مما يضعف هذه الرواية ما جاء من تدخل نازوك قائد الشرطة في الحادث ، ونازوك تولى شرطة بغداد سنة 310 ، والتاريخ المفترض لهذه الحادثة كان بعد عودة الطبري الثانية إلى بغداد سنة تسعين أي قبل تولي نازوك بزمن .
…والذي يترجح عندي أن هناك تداخل بين حدثين تاريخيين في ذهن راوي هذه القصة ، هما خلاف الطبري مع الحنابلة ، والآخر ما حدث سنة 317 هـ ، والذي ذكره ابن الأثير وغيره قال :" وفيها وقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أصحاب أبي بكر المروذي الحنبلي وبين غيرهم من العامة ودخل فيها كثير من الجند وسبب ذلك أن أصحاب المروذي قالوا في تفسير قوله تعالى " { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } " هو أن الله سبحانه وتعالى يقعد النبي صلى الله عليه وسلّم معه على العرش وقالت الطائفة الأخرى إنما هو الشفاعة فوقعت الفتنة واقتتلوا فقتل بينهم قتلى كثيرة "(2) .
__________
(1) الطبري " جامع البيان " ج15 ص148
(2) ابن الأثير " الكامل " ج8 ص213(1/76)
…وفي زمن هذه الفتنة كان نازوك قائد الشرطة فالراجح تدخله فيها وقد تم عزله في نهاية هذه السنة . والأقرب إلى القبول أن الأشعار التي حفلت بها رواية ياقوت عن الخلاف بين الطبري و الحنابلة حول مسألة الجلوس على العرش إنما رافقت هذه الفتنة الأخرى .
…كما أنه مما يضعف تلك الرواية ما جاء في آخرها من كون أبي جعفر دفن كتاب الاختلاف الذي كان سبب الخلاف وهذا يخالف ما ساقه ياقوت من كون كتاب الاختلاف من أول مصنفاته قال :" وكان أبو جعفر يفضل كتاب الاختلاف وهو أول ما صنفه من كتبه " قال " ثم انتشر وطلب منه فقرأه على أصحابه " (1).
…بعد هذا كله وترجح سقوط السببين السابقين يبقى لنا السبب الثالث ، وهو عندي أقوى الأسباب وأقربها للواقع التاريخي للحادثة ، وهو أن سبب الخلاف بين الطبري و الحنابلة- رحم الله الجميع -هو الخلاف الذي استعر إواره بين محمد بن جرير وأحد كبار علماء بغداد آنذاك وهو أبو بكر بن أبي داود المتوفى سنة 316هـ وهو عبدالله بن سليمان بن الأشعث السجستاني ووالده أبو داود صاحب السنن المشهور تلميذ أحمد بن حنبل ، ترجم له ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة وذكر له قصيدة فيما يعتقده المسلم وفيها :
وقل له إن خير الناس بعد محمد ... وزيراه قدما ثم عثمان الأرجح
ورابعهم خير البرية بعدهم ... علي حليف الخير بالخير منجح
وإنهم الرهط لاريب فيهم ... على نجب الفردوس في الخلد تسرح
وقل خير قول في الصحابة كلهم ... ولا تك طعانا تعيب وتسرح
قلت : وهي من غرر القول ، وذكر ابن أبي يعلى بعدها قول ابن بطة قال قال أبوبكر بن أبي داود هذا قولي وقول أبي وقول أحمد بن حنبل وقول من أدركنا من أهل العلم ومن لم ندرك ممن بلغنا عنه فمن قال غير هذا فقد كذب "(2) .
__________
(1) ياقوت الحموي " معجم الأدباء " ج 16 ص72
(2) ابن أبي يعلى " طبقات الحنابلة " ج 3 ص102(1/77)
…ونقل الخطيب عن أبي الفضل صالح بن أحمد الحافظ قال أبو بكر عبدالله بن سليمان إمام العراق وعلّم العلم في الأمصار نصب له السلطان المنبر لفضله ومعرفته وحدّث قديما قبل التسعين ومئتين قدم همذان سنة نيّف وثمانين ومئتين وكتب عنه عامة مشايخ بلدنا ذلك الوقت وكان في زمنه بالعراق مشايخ أسند منه ولم يبلغوا في الآلة والإتقان ما بلغ هو " (1) .
…وذكره ابن خلكان فقال :" كان من أكابر الحفاظ ببغداد عالما متفقا عليه إمام بن إمام " (2).
…وذكره السبكي في طبقات الشافعية(3) فقال : الحافظ ابن الحافظ أحد الأجلاء "(4)
…وذكره الذهبي قال :" وكان من بحور العلم بحيث أن بعضهم فضله على أبيه "قال "وكان رئيسا عزيز النفس مدلا بنفسه سامحه الله " (5).
…قلت وقوله لعله بسبب ما نقل عن أبي حفص بن شاهين قال : أراد الوزير علي بن عيسى أن يصلح بين ابن أبي داود وابن صاعد فجمعهما وحضر أبو عمر القاضي فقال الوزير : يا أبا بكر أبو محمد أكبر منك فلو قمت إليه فقال : لا أفعل فقال : الوزير أنت شيخ زيف فقال الشيخ الزيف الكذاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال الوزير : من الكذاب قال : هذا ، ثم قام وقال : تتوهم أني أذل لك لأجل رزقي وأنه يصل إلي على يدك والله لا آخذ من يدك شيئا قال فكان الخليفة المقتدر يزن رزقه بيده ويبعث به في طبق على يد الخادم "(6).
__________
(1) الخطيب " تاريخ بغداد " ج 11 ص137
(2) ابن خلكان " وفيات الأعيان " ج 2 ص405
(3) لا يعتمد في الإثبات على الانتساب إلى المذهب على كتب الطبقات التي غالبا ما تتوسع في ذكر المنتسبين لمذهبها خصوصا في الطبقات الأولى . خلافا للنفي فإنه أكثر قوة .
(4) السبكي " طبقات الشافعية " ج3ص307
(5) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 13 ص223
(6) المرجع السابق ج13 ص226(1/78)
…وذكره ابن عدي في الكامل قال : " ولولا أن شرطنا أن كل من تكلم فيه ذكرناه لما ذكرت ابن أبي داود قال وقد تكلم فيه أبوه قال : ابني عبدالله كذاب "قال ابن عدي وهو مقبول عند عامة أصحاب الحديث وأما كلام أبيه فلا أدري إيش تبين له منه " (1).
…قال الذهبي : ولعل قول أبيه فيه – إن صح – أراد الكذب في اللهجة لا في الحديث فإنه حجة فيما ينقله ، أو كان يكذب ويوري في كلامه ومن زعم أنه لا يكذب أبدا فهو أرعن ، نسأل الله السلامة من عثرة الشباب ، ثم إنه شاخ وارعوى ولزم الصدق والتقى "(2) .
…قلت وتوفي أبوه وعمره خمس وأربعون فالغالب أن قول أبيه – إن صح النقل – كان في زمن شبابه والله أعلم .
…وكان ابن أبي داود يُرمى بالنصب وببغض علي رضي الله عنه وأرضاه وقد جرى له في ذلك وقائع يذكرها المؤرخون فمن ذلك ما رواه ابن عدي عن محمد بن الضحاك يقول أشهد على محمد بن يحيى بن مندة بين يدي الله تعالى أنه قال أشهد على أبي بكر بن أبي داود أنه قال : روى الزهري عن عروة قال حفيت أظافير فلان من كثرة ما يتسلق على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - "(3) .
…قلت والكناية بفلان ليست عند ابن عدي بل هي من تصرف الذهبي رحمه الله وقد آثرنا كناية الذهبي على تصريح ابن عدي .
__________
(1) ابن عدي " الكامل " ج 4 ص1577
(2) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 13 ص231
(3) ابن عدي " الكامل " ج 4 ص1578(1/79)
…قال الذهبي : هذا باطل وإفك مبين وأين إسناده إلى الزهري ثم هو مرسل ثم لا يسمع قول العدو في عدوه – أي العداوة بين ابن مندة وأبي بكر بن أبي داود - وما أعتقد أن هذا صدر من عروة أصلا ، وابن أبي داود إن كان حكى هذا فهو خفيف الرأس فلقد بقي بينه وبين ضرب العنق شبر لكونه تفوه بمثل هذا البهتان فقام معه وشد منه رئيس أصبهان محمد بن عبدالله بن حفص الهمداني الذكواني وخلصه من أبي ليلى أمير أصبهان وكان انتدب له بعض العلوية خصما ونسب إلى أبي بكر المقالة وأقام عليه الشهادة محمد بن يحيى بن مندة الحافظ ومحمد بن العباس الأخرم وأحمد بن علي بن الجارود واشتد الخطب وأمر أبو ليلى بقتله فوثب الذكواني وجرّح الشهود مع جلالتهم فنسب ابن مندة إلى العقوق ونسب أحمد أنه يأكل الربا وتكلم في الآخر وكان الهمداني الذكواني كبير الشأن فقام وأخذ بيد أبي بكر وخرج به من الموت فكان أبو بكر يدعو له طول حياته ويدعو على أولئك الشهود . قال الذهبي حكاها أبو نعيم الحافظ ثم قال – أي أبو نعيم – فاستجيب له فيهم منهم من احترق ومنهم من خلط وفقد عقله " (1).
…قال الخطيب : " وكان ابن أبي داود يتهم بالانحراف عن علي والميل عليه فأخبرني علي بن أبي علي قال حدثنا أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق قال سمعت أبا بكر بن أبي داود غير مرة وهو يقول كل من بيني وبينه شيء أو ذكرني بشيء شك أبو الحسن فهو في حل إلا من رماني ببغض علي بن أبي طالب "(2) .
…وقد ذكرت قصيدته في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ، وسواء صح النقل عنه أو لم يصح في الرواية السابقة فإنه من المؤكد لا يرى صحتها أو صحة ورودها عن الزهري عن عروة ، ولا أحد من علماء الإسلام يحفل بسواقط الروايات كهذه .
__________
(1) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج13 ص229
(2) الخطيب " تاريخ بغداد " ج 11 ص140(1/80)
…قال ابن عدي " كان في الابتداء ينسب إلى شيء من النصب فنفاه ابن الفرات من بغداد إلى واسط فرده ابن عيسى فحدث وأظهر فضائل علي ثم تحنبل فصار شيخا فيهم " (1).
…قلت ونفي ابن الفرات ليس حجة فقد كان وزيرا شيعيا .
…وقد يكون ما اتهم به ابن أبي داود من الميل عن علي - رضي الله عنه - مرده قوله في حديث غدير خم وحديث الطير فقد ثبت أنه يرى عدم صحتهما . وكان هذا الأمر مدار خلاف كبير بينه وبين أبي جعفر الطبري فقد ذكر ياقوت :" قال بعض الشيوخ بتكذيب غدير خم ثم قال : وبلغ أبا جعفر ذلك فابتدأ الكلام في فضائل علي بن أبي طالب وذكر طرق حديث غدير خم فكثر الناس لاستماع ذلك واجتمع قوم من الروافض ممن بسط لسانه بما لا يصلح في الصحابة رضي الله عنهم فابتدأ بفضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما " (2).
…وقد فسر الذهبي ما أبهم من اسم الشيخ المكذب لحديث غدير خم فقال إن أبا جعفر لما بلغه أن أبا بكر بن أبي داود تكلم في حديث غدير خم عمل كتاب الفضائل فبدأ بفضائل أبي بكر وعمر وتكلم في تصحيح غدير خم واحتج لتصحيحه " (3).
…قلت والراجح أن هذا منشأ الخلاف بين أبي بكر وأبي جعفر ، وقد ذكر الخطيب عن محمد بن عبدالله القطان قال كنت عند محمد بن جرير الطبري فقال له رجل إن ابن أبي داود يقرأ على الناس فضائل علي بن أبي طالب فقال ابن جرير : تكبيرة من حارس " (4).
…وعلّق الذهبي على هذا : لا يسمع هذا من ابن جرير للعداوة الواقعة بين الشيخين
…كما أثر عن أبي بكر بن أبي داود طعنه في حديث الطير (5)
__________
(1) ابن عدي " مرجع سابق " ج 4 ص1578
(2) ياقوت الحموي " معجم الأدباء " ج 18 ص85
(3) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 14 ص274
(4) الخطيب " تاريخ بغداد " ج 11 ص139
(5) حديث الطير ولفظه عند الحاكم عن أنس قال كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقدم له فرخ مشوي فقال اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير فقلت : اجعله رجلا من أهلي
من الأنصار فجاء علي فقلت إن رسول الله على حاجة ثم جاء فقلت ذلك فقال اللهم ائتني كذلك فقلت ذلك فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم افتح فدخل فقال ما حبسك يا علي فقال إن هذه آخر ثلاث كرات يردني أنس فقال ما حملك على ما صنعت قلت أحببت أن يكون رجلا من قومي فقال إن الرجل محب قومه "
ذكره الترمذي مختصرا وفيه عن أنس قال : كان عند النبي صلى الله عليه وسلّم طير فقال اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير فجاء علي فأكل معه " قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث السدي إلا من هذا الوجه "637/5
…قال الذهبي في السير وحديث الطير على ضعفه فله طرق جمة وقد أفردتها في جزء ولم يثبت ولا أنا بالمعتقد بطلانه " 233/13
وذكره ابن الجوزي في العلل الواهية وعد له ست عشرة طريقا عن أنس رضي الله عنه وطريقا عن ابن عباس وتكلم في ضعف هذه الطرق جميعها ونقل في آخره كلام ابن طاهر قال حديث الطائر موضوع إنما يجيء عن سقاط أهل الكوفة عن المشاهير والمجاهيل " 234/1
=…وقال شيخ الإسلام في منهاج السُنة حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل "371/7
…وذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة وقال :" قال في المختصر له طرق كثيرة كلها ضعيفة " 382(1/81)
فقد ذكر ابن عدي بسنده عن علي بن عبدالله الداهري قوله : سألت ابن أبي داود عن حديث الطير فقال إن صح حديث الطير فنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - باطلة لأنه حكى عن حاجب النبي خيانة – يعني أنسا – وحاجب النبي لا يكون خائنا "(1).
…قال الذهبي تعليقا : "هذه عبارة رديئة وكلام نحس بل نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - حق قطعي إن صح خبر الطير وإن لم يصح " قال : وقد أخطأ ابن أبي داود في عبارته وقوله وله على خطئه أجر واحد وليس من شرط الثقة أن لا يخطئ ولا يغلط ولا يسهو والرجل من كبار علماء الإسلام ومن أوثق الحفاظ رحمه الله تعالى " (2).
…قلت وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في ترجمة الطبري قال :" وقد رأيت كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين وكتابا جمع فيه طريق حديث الطير ونسب إليه أنه كان يقول بجواز مسح القدمين في الوضوء وأنه لا يوجب غسلهما وقد اشتهر عنه ذلك فمن العلماء من يزعم أن ابن جرير اثنان أحدهما شيعي و إليه ينسب ذلك وينزهون أبا جعفر عن هذه الصفات " (3).
…وقد ذكر الذهبي في ميزان الاعتدال في ترجمة ابن جرير قال :" ثقة صادق فيه تشيع يسير وموالاة لا تضر ، أقذع أحمد بن سليمان الحافظ فقال : كان يضع للروافض كذا قال السليماني وهذا رجم بالظن الكاذب بل ابن جرير من كبار أئمة الإسلام " وفي زيادة نقلت في الهامش من إحدى مخطوطات الكتاب قال : ولو حلفت أن السليماني ما أراد إلا الآتي لبررت والسليماني حافظ متقن كان يدري ما يخرج من رأسه فلا أعتقد أنه يطعن في مثل هذا الإمام بهذا الباطل والله أعلم " (4).
…ثم ترجم لشخص سماه محمد بن جرير بن رستم أبو جعفر الطبري قال رافضي له تواليف قلت وكذا نقل في السير(5).
__________
(1) ابن عدي " الكامل " ج 4 ص1578
(2) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 13 ص233
(3) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 11 ص147
(4) الذهبي " ميزان الاعتدال " ج 3 ص499
(5) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 14 ص282(1/82)
…من هنا يظهر جليا أن سبب الخلاف بين أبي بكر ومعه الحنابلة والطبري هو ما اتهم به الأخير رحمه الله من التشيع ومغالاة خصومه في ذلك .
…ومن الثابت تاريخيا أثر هذه التهمة في أوساط أهل السُنة عموما وأهل بغداد خصوصا في زمن أبي جعفر فقد كان الروافض آنذاك قد بدأوا بالظهور واحتلال مواقع بارزة في المسرح السياسي في العالم الإسلامي فكان القرامطة في الجنوب والعبيديون في المغرب وبنو حمدان في نواحي الموصل . وكان للقرامطة خصوصا تأثير نفسي سيء على أهل بغداد بسبب ما تقترفه يدهم الآثمة مع الحُجاج .
…كما أن الروافض كانوا قد أصبحوا يمثلون قوة سياسية في بغداد تتحكم في مصائر الخلفاء . وسيظهر لاحقا تأثير الوزراء والقادة من الرافضة في الحياة السياسة في بغداد .
…قلت : كل هذا الضغط الرافضي كان من المتوقع أن يسبب حساسية في كافة المسائل التي قد يتهم بها الشخص وتعد دليلا على ميله لهم . ومع كل هذا الجو المشحون بالعداء كان من الطبيعي جدا أن يقف الحنابلة ، وغيرهم من أهل السُنة مع صاحبهم أبي بكر بن أبي داود طالما أن الخلاف كان بسبب المسائل المثيرة للجدل .
ولسنا في صدد تخطئة أحد الفريقين وتبرئة الفريق الآخر ، إذ لا معصوم غير محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فالكل مجتهد معرض للخطأ إلا أننا نلحظ وقوف كافة المؤرخين إلى صف أبي جعفر الطبري متحاملين في الوقت نفسه على الحنابلة ولعل مرد ذلك أمرين :
- ما وصل إليه أبو جعفر الطبري من سمعة في أوساط علماء السُنة بسبب تأليفه لكتابه القيم تفسير القرآن . والإمام الطبري إمام من أئمة الإسلام ومن العلماء الأعلام ، ولو لم يكن له سوى تفسيره للقرآن لكفاه شاهدا على إمامته قال ابن كثير ": وكان في العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في ذلك لومة لائم "(1) .
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 11 ص146(1/83)
استغلال المؤرخين الحادثة لتصفية حسابات قديمة مع الحنابلة الذين قُدر لهم أن يصطدموا بالجهات الفكرية التي أنجبت كثيرا من المؤرخين كالمعتزلة والشيعة والأشعرية ، أو أنهم – أي المؤرخين - كانوا يمثلون الصوت الرسمي للسلطة التي واجهت الحنابلة في العديد من المناسبات التاريخية .
قلت والطبري رحمه الله إمام من أئمة السُنة وعلم من أعلام الإسلام عالم جليل القدر ، قال عنه الذهبي في السير ": كان من أفراد الدهر علما وذكاء وكثرة تصانيف قل أن ترى العيون مثله ، كان ثقة صادقا حافظا رأسا في التفسير إماما في الفقه والإجماع والاختلاف وأيام الناس عارفا باللغات وباللغة وغير ذلك " (1) .
…غير أنه من الإنصاف الإشارة إلى أن كتاب التاريخ للطبري لم يكن صافيا المشارب ، بل عكّر صفوه إيراد عدد من الروايات الساقطة التي تسربت إلى كتب أهل السُنة وهي روايات سمجة لا يقبلها ذو لب ، ولا أرى أن قول أبي جعفر في مقدمة كتابه يخليه من مسؤولية كتابه في نشر سواقط روايات الرافضة داخل مجتمع أهل السُنة ، ومن ذلك ما أورده – غفر الله له – من قول منسوب – كذبا وبهتانا – لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها بأنها قالت : اقتلوا نعثلا فقد كفر تقصد عثمان رضي الله عنه و أرضاه (2) .
…قلت وهذا من الكذب الصريح والإفك المبين كان حريا بإمام من أئمة الإسلام أن يضرب القول عنه صفحا .
…ومن ذلك نقله قول الغلام الجهني وشعره الساقط(3) ، ونقله رواية منكرة لخبر الحوأب (4)
__________
(1) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 14 ص267-270
(2) الطبري " تاريخ الرسل والملوك ط ج 9 ص459
(3) المرجع السابق ج 9 ص465
(4) قال محب الدين الخطيب في تعليقه على مختصر التحفة :" خبر الحوأب لم يذكر في كتاب من كتب السُنة المعتبرة قال فزعموا أنه أي صاحب الجمل سمع الكلام الذي رواه عنه مجهول بعده مجهول بعده ضعيف بعده شيعي من غلاة الشيعة لعله هو مخترع هذه الخرافة "270
…قلت و لعل مراده الرواية المنكرة التي في الطبري فإنها كما قال أما أصل خبر الحوأب فقد أخرجه أحمد في مسنده وأبو يعلى ومداره على قيس بن أبي حازم البجلي كوفي ثقة علم من كبار التابعين أخرج له الجماعة جاء في التهذيب قول علي بن المديني قال لي يحيى بن سعيد قيس بن أبي حازم ثم ذكر له أحاديث مناكير منها حديث كلاب الحوأب 562/4…وذكره ابن الجوزي في العلل الواهية 366/ 1 ، وذكر ابن حجر في الفتح الخبر عن عكرمة عن ابن عباس قال وهذا رواه البزار ورجاله ثقات "55/13(1/84)
وهي عن إسماعيل بن موسى الفزاري قال أخبرنا علي بن عابس الأزرق قال حدثنا أبو الخطاب الهجري عن صفوان بن قبيصة الأحمسي قال حدثني العرني صاحب الجمل ثم ساق الخبر .
…قلت وإسماعيل بن موسى شيخ الطبري فيه نقل ابن حجر في التهذيب قول ابن عبدان أنكر علينا أبوبكر بن أبي شيبة أو هناد بن السري ذهابنا إليه وقال ذاك الفاسق يشتم السلف "(1). قال ابن عدي إنما أنكروا عليه الغلو في التشيع(2) .
…وابن عابس نقل ابن حجر في التهذيب قال أبو داود عن يحيى ضعيف وكذا قال الجوزجاني والنسائي والأزدي "(3) ، وذكره ابن حبان في المجروحين قال : كان ممن فحش خطؤه وكثر وهمه فبطل الاحتجاج به " (4). وذكره الذهبي في ديوان الضعفاء والمتروكين(5) ، وقال عنه في الكاشف : ضعفوه (6) . …
…وأبو الخطاب الهجري قال ابن حجر في التقريب مجهول (7) . وصفوان بن قبيصة قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل سمعت أبي يقول هو مجهول " (8).
__________
(1) ابن حجر " تهذيب التهذيب " ج 1 ص 212
(2) ابن عدي " الكامل " ج 1 ص212
(3) ابن حجر " تهذيب التهذيب " ج4 ص216
(4) ابن حبان " المجروحين ج 4 ص105
(5) الذهبي " ديوان الضعفاء والمتروكين " ص284
(6) الذهبي " الكاشف " ج 2 ص 288
(7) ابن حجر " تقريب التهذيب " ص 1140
(8) ابن أبي حاتم " الجرح والتعديل " ج2 ص423 قسم 1(1/85)
…عودا على بدء فقد حاول علي بن عيسى الوزير السني أن يصلح بين الطرفين كما يذكر ابن كثير لكن الحنابلة لم يحضروا " (1) ، ولعل المقصود أن أبا بكر أحد أقطاب النزاع لم يحضر ، ويمكن أن يكون سبب ذلك ما حدث بين أبي بكر والوزير في المحاولة السابقة للإصلاح بين أبي بكر و يحيى بن صاعد ، أو أن يكون السبب ما ذكره مؤلف تحفة الوزراء من أن علي بن عيسى أمر بهدم مسجد للحنابلة قال :" وكان الحنابلة بنو مسجدا وجعلوه طريقا إلى المشاغبة والفتنة فتُظلم إلى علي بن عيسى في أمره فوقع على ظهر القصة : أحق بناء بهدم وتعفية رسم بناء أسس على غير تقوى من الله فليلحق بقواعده إن شاء الله " (2).
…ومن تداعيات هذا الخلاف ما ذكره ابن الجوزي في المنتظم من قول أبي جعفر " لا عصابة في الإسلام كهذه العصابة الخسيسة " وهي مقالة أستبعد صدورها من أبي جعفر إذ هي تجنٍ واضح - والله أعلم – وانفرد ابن الجوزي بذكر هذه العبارة ، في حين ذكر ابن النديم في رسائل أحد تلاميذ أبي جعفر وهو الدولابي رسالة إلى نصر القشوري ورسالة إلى علي بن عيسى "(3) .
…أما ما قاله السبكي في طبقات الشافعية من أن عدم ظهور الطبري لم يكن ناشئا عن أنه مُنع ولا كانت للحنابلة شوكة تقتضي ذلك وكان مقدار ابن جرير أرفع من أن يقدروا على منعه وإنما ابن جرير قد جمع نفسه عن مثل هؤلاء الأرذال المتعرضين إلى عرضه فلم يكن يأذن في الاجتماع به إلا لمن يختاره ويعرف أنه على السُنة قال وأمر الحنابلة في ذلك العصر كان أقل من ذلك "(4) ، فقول عجيب .
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 11 ص321
(2) الصولي " تحفة الوزراء " ص362
(3) ابن النديم " الفهرست " ص327
(4) السبكي " طبقات الشافعية " ج 3 ص125(1/86)
…ويعلل مؤلف " الحنابلة في بغداد " هذا القول لابن السبكي أنه شافعي المذهب مؤيد للأشاعرة ، قال ومما يضعف من رأي السبكي بل وينفيه ما صدر بعد ذلك عن الخليفة العباسي الراضي بعد وفاة الطبري سنة 323 من منشورات تهدد الحنابلة " (1).
قلت والسبكي رحمه الله لم يكن مؤيدا للأشاعرة كما قال ، بل هو من متعصبي الأشاعرة ، وأما نفي قوله بما صدر عن الراضي فإن الحنابلة قد ظهروا كقوة سياسية في بغداد قبل ذلك التاريخ ويثبت ذلك ما رواه ابن الأثير في فتنة ابن المعتز سنة 296 عندما قال " ولما رأى ابن المعتز ذلك ركب ومعه وزيره محمد بن داود بن الجراح وهربا وغلاما له ينادي بين يديه يا معشر العامة ادعو لخليفتكم السني البربهاري " (2).
…والبربهاري هو الحسين بن علي بن خلف مقدم الحنابلة يوم ذاك .
…أما قول السبكي بأن الطبري لم يكن يدخل عليه إلا من عرف بالسُنة فخطل من القول وتعنت في الرد لا دليل عليه ، ولم يكن مع ابن جرير من السُنة إلا ما أخذه عن علماء الحديث وعلماء أهل السُنة في بغداد وغيرها .
…وما قاله السبكي غير مسبوق ولم يقل به أحد من المتقدمين ، وكان الحري به وقد كتب في آداب نقلة التاريخ عدم الانجرار نحو هذا .
…ومما يتعلق بأمر هذا الخلاف ما ذكر من أن أبا جعفر كان يقول في تفسير قوله تعالى " { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }(3) نعمتاه ، وكلامه في تفسيره على النحو التالي قال :" واختلف أهل الجدل في تأويل قوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }(4) فقال بعضهم عنى بذلك نعمتاه ....وقال آخرون منهم عنى بذلك القوة .....وقال آخرون منهم بل يده ملكه ...وقال آخرون منهم بل يد الله صفة من صفاته هي يد غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم "(5) .
__________
(1) محمود " الحنابلة في بغداد " ص177
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص16
(3) المائدة64
(4) المائدة64
(5) الطبري " جامع البيان " ج6 ص301(1/87)
…قلت والقول الأخير قول السلف استرسل أبو جعفر في ذكر حجج أصحابه مما يرجح كونه يقول به إلا أنه لم يصرح بذلك كما هو عادته في كتابه.
…وقد نقل أبو يعلى في إبطال التأويلات عنه في أحد كتبه قال :" وذلك نحو إخبار الله تعالى ذكره أنه سميع بصير وأن له يدين بقوله " بل يداه مبسوطتان " وأن له يمينا بقوله " والسموات مطويات بيمينه " وأن له وجها بقوله " كل شيء هالك إلا وجهه " " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام " وأن له قدما بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" حتى يضع الرب فيها قدمه يعني جهنم " (1) .
…ومما يلفت الانتباه حول شخصية أبي جعفر ما ذكره ياقوت عن أبي بكر بن كامل قال حضرت أبا جعفر حين حضرته الوفاة فسألته أن يجعل كل من عاداه في حل وكنت سألته لأجل أبي الحسن بن الحسين الصوّاف لأني كنت قرأت عليه القرآن فقال كل من عاداني وتكلم في حل إلا رجل رماني ببدعة ، وكان الصواف من أصحاب أبي جعفر وكانت فيه سلامة ولم يكن فيه ضبط دون الفصل فلما أملى أبو جعفر ذيل المذيل ذكر أبا حنيفة وأطراه وقال كان فقيها عالما ورع فتكلم الصواف في ذلك الوقت فيه لأجل مدحه لأبي حنيفة وانقطع عنه وبسط لسانه فيه " (2).
…قلت وأبو الحسن هو الحسن بن الحسين أبو علي الصواف ذكره الخطيب فقال : كان ثقة فاضلا نبيلا يسكن الجانب الشرقي توفي قبل ابن جرير بأشهر "(3)
وذكره الذهبي في طبقات القراء قال :" بغدادي مقرئ كبير القدر " (4) ، ولم يعده أحد في الحنابلة .
[ الحنابلة تحت قيادة البربهاري ]
__________
(1) أبو يعلى " إبطال التأويلات "ج1 ص49
(2) ياقوت الحموي " معجم الأدباء " ج18 ص84
(3) الخطيب " تاريخ بغداد " ج8 ص251
(4) الذهبي " طبقات القراء " ج1 ص196(1/88)
…منذ مقتل الخليفة المتوكل والخلافة واقعة تحت النفوذ التركي الذي كان يمسك مقاليد الأمور السياسية من خلال سيطرته على القوى العسكرية ، كما أنه قد وضح بموازة ذلك تزايد نفوذ الوزراء العباسيين الذي اشتركوا بفعالية في تدبير المؤامرات السياسية والتخطيط للانقلابات العسكرية أو المساهمة في إحباطها ، واستمد هؤلاء الوزراء نفوذهم من خلال ثرواتهم المالية المتزايدة .
…وكانت محاولة الخليفة المستعين أهم المحاولات غير الناجحة للتخلص من هذا النفوذ التركي ، فقرر العودة إلى بغداد سنة 251 تاركا سامرا مقر المؤسسة العسكرية التركية مما دفع القادة العسكريين لاختيار المعتز بديلا عنه .
…وقد تقوى المستعين وهو في بغداد بعبدالله بن طاهر أمير بغداد وبأهل بغداد الذين يسميهم المؤرخون بالعامة ، بيد أن هذه المحاولة فشلت وخلع المستعين سنة 252 هـ ، وبقيت الهيمنة للمؤسسة العسكرية التركية ، ورغم ذلك لم تهدأ نشاطات العامة من أهل السُنة ، الهادفة إلى إخراج الخلافة العباسية من دوامة النفوذ التركي وإعادة الهيبة لها . فمن ذلك ما ذكره الطبري أنه في سنة 256 انتشر الخبر أن القوم – أي القادة الأتراك بمساعدة الكتاب – اتفقوا على خلع الخليفة المهتدي الذي خلف المعتز الذي خلع هو الآخر ، وأنهم قرروا الفتك به ، قال فكتب العامة الرقاع وألقوها في المسجد الجامع والطرقات قال فذكر من زعم أنه قرأ رقعة منها فيها :" بسم الله الرحمن الرحيم : يا معشر المسلمين ادعوا لخليفتكم العدل الرضي المضاهي لعمر بن الخطاب أن ينصره على عدوه ويكفيه مؤنة ظالمه "(1)
…وكان المهتدي كما يصفه ابن الأثير من أحسن الناس مذهبا وأجملهم طريقة وأظهرهم ورعا وأكثرهم عبادة "(2) .
__________
(1) الطبري " تاريخ الرسل والملوك " ج 9 ص444
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 7 ص233(1/89)
…بيد أن هذا لم يمنع من خلع المهتدي وتولى بعده المعتمد على الله سنة256 وظل النفوذ التركي يتلاعب بمصائر الخلفاء العباسيين حتى تفاقم أمر ثورة الزنج التي انطلق شررها سنة 255هـ بقيادة دعي زعم أنه علي بن محمد بن أحمد العلوي من جهة البصرة وقد تمكن سنة 257 من أخذ البصرة وتخريبها .
…وكان لهذا الضغط العسكري القادم من الجنوب أثره في تخفيف الضغط على الخلافة العباسية بدفعها بالقوى العسكرية الفاعلة لإخماد ثورة الزنج ، عندما عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد – الذي عُرف بالموفق – وسيره إلى حرب الزنج بالبصرة وكان ذلك سنة 258 وألحقه بموسى بن بغا أحد أبرز القادة الأتراك ، وباشر الموفق وابنه أبو العباس قتال الزنج حتى استطاعوا إخماد نار الثورة سنة 270 قال ابن الأثير ": وقّدم ابنه أبا العباس إلى بغداد ومعه رأس الخبيث ليراه الناس "(1) .
…وقد كان انتصار العباسيين تحت قيادة عسكرية مباشرة تمثلت في الموفق وابنه أبي العباس منعطفا مهما في تاريخ دولة بني العباس ساهم في تقوية نفوذ هذا القائد العباسي وابنه على القوى الميدانية لجيش الخلافة ، وساعده في مسك زمام السلطة قال ابن الأثير عند ذكره للخليفة المعتمد " وكان في خلافته محكوما عليه قد تحكم عليه أخوه أبو أحمد الموفق وضيق عليه قال وكان أول الخلفاء انتقل من سر من رأى مذ بنيت ثم لم يعد إليها أحد منهم "(2) . قال صاحب العيون والحدائق " وأهمل – المعتمد – أمور رعيته وأقبل على لهوه ولذاته حتى أشفى الملك على الذهاب فغلب على أمره وتدبيره وسياسة سلطانه أخوه الموفق وقام بأمر الملك أحسن قيام وقمع من قرب منه من الأعداء واستصلح من كان يأبى على كثرة ما كان يلقى من اعتراض الموالي وسوء طاعتهم " (3).
__________
(1) المرجع السابق ج 7 ص405
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 7 ص 455
(3) مؤلف مجهول " العيون والحدائق " ج4 ص12(1/90)
…كما ساعد هذا الانتصار العباسيين على استعادة سيطرتهم على السلطة وأعاد التوازن إلى الخلافة العباسية من جديد ، وكان نتيجة هذا النفوذ مبايعة أبي العباس ابن الموفق وليا للعهد سنة 279 وآلت إليه الخلافة رسميا بعد وفاة المعتمد في رجب من هذه السنة ولقب بالمعتضد .
… وكان المعتضد الخليفة الجديد رجل بغداد القوي يراقب الحالة العامة في عاصمته وكان من المؤكد أنه بعد إضعاف النفوذ التركي لم يبق للمعتضد ما يخشاه سوى ما قد يفترضه من تحرك للعامة في بغداد ، والذين كان لهم في الحقب السابقة مساهمات ملحوظة ، ففي محاولة لضبط نشاطات العامة قام في أول ولايته -كما يذكر الطبري- بالنداء بمدينة السلام ألا يقعد على الطريق ولا في مسجد الجامع قاص ولا صاحب نجوم ولا زاجر وحلف الوراقون ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة "(1).
وكان هذا الأمر منه محاولة لمنع تحزب العامة على قادتهم الميدانيين بسبب ما يحدث من جدل مذهبي كان مثارا للفتنة ، كما أنه اشتمل على ترضية للسواد الأعظم من هؤلاء العامة وهم أهل السُنة ، ويظهر ذلك من منع كتب الفلسفة وأصحاب النجوم والكهان . أما منع القصاص من القعود فذلك لتحول هؤلاء إلى بؤر مثيرة للشغب لما يقومون به من شحن نفسي للجماهير الغاضبة وتأجيج مشاعرها ، وعرَّف ابن الجوزي في كتابه عن القُصاص والمذكِّرين القاص بأنه " الذي يتبع القصة الماضية بالحكاية عنها والشرح لها " (2) ، ثم ذكر أن من أسباب كره القصص ما يكون فيه من إفساد لقلوب العامة . "(3)
__________
(1) الطبري " تاريخ الرسل والملوك " ج 10 ص28
(2) ابن الجوزي " القصاص والمذكرين " ص9
(3) المرجع السابق ص11(1/91)
…لكن قبضة المعتضد القوية على الأمور في بغداد واجراءته لم تحد من نشاطات العامة التي كانت تحركاتهم مثيرة للقلق ، من ذلك ما ذكره المؤرخون سنة284هـ مما حدث للخادم النصراني الذي يعمل عند طبيب السلطان والذي شهد عليه أنه يشتم النبي - صلى الله عليه وسلم - مما أثار حنق العامة قال الطبري :" اجتمع أهل باب الطاق إلى قنطرة البردان وما يليها من الأسواق وتداعوا ، قال فأدخل عليه – أي المعتضد – جماعة وسألهم عن الخبر فذكروه له "(1) ، ولا شك أن هذه الاضطرابات كانت تتعارض مع قبضة المعتضد القوية على بغداد ، فكان من المتوقع استثارة العامة وضربهم بالقوى العسكرية المؤيدة لموقفه.
…فلم يجد المعتضد وهو عازم على استثارة العامة أفضل من المسألة التقليدية لإثارتهم ، وهي الأمر بلعن معاوية رضي الله عنه وأرضاه ، وهي مسألة يقدم عليها خلفاء بني العباس الأقوياء استظهارا لقوتهم أمام العامة من أهل السُنة في بغداد قال أبو جعفر :" وفي هذه السنة عزم المعتضد بالله على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر وأمر بإنشاء كتاب بذلك يقرأ على الناس ، قال وذكر أن أول شيء بدأ به المعتضد حين أراد ذلك الأمر بالتقدم إلى العامة بلزوم أعمالهم وترك الاجتماع والقضية والشهادات عند السلطان إلا أن يسألوا عن شهادة إن كانت عندهم ، وبمنع القصاص من القعود على الطرقات وعملت بذلك نسخ قرئت بالجانبين بمدينة السلام في الأرباع والمحال والأسواق ثم منع القصاص من القعود في المسجدين ومنع أهل الحلق في الفتيا أو غيرهم من القعود في المسجدين ومنع الباعة من القعود في رحابهما ثم نودي في المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع على قاص أو غيره "(2) .
__________
(1) الطبري " تاريخ الرسل والملوك " ج 10 ص52
(2) المرجع السابق ج10 ص54(1/92)
…قال " ونودي في الجامعين بأن الذمة برية ممن اجتمع من الناس على مناظرة أو جدل وأن من فعل ذلك أحل بنفسه الضرب ، وتقدم إلى الشراب والذين يسقون الماء في الجامعين ألا يترحموا على معاوية ولا يذكروه بخير " ، قال "وتحدث الناس أن الكتاب الذي أمر المعتضد بإنشائه بلعن معاوية يقرأ بعد صلاة الجمعة فلما صلى الناس الجمعة بادروا إلى المقصورة ليسمعوا قراءة الكتاب فلم يقرأ ، فذكر أن المعتضد أمر بإخراج الكتاب الذي كان المأمون أمر بإنشائه بلعن معاوية فأخرج له من الديوان فأخذ من جوامعه نسخة هذا الكتاب ، وقد أورد الطبري هذا الكتاب كاملا ولم يعلق (1) ، أما ابن الأثير فقد قال:" وهو كتاب طويل قد أحسن كتابته – أي المأمون - إلا أنه استدل فيه بأحاديث كثيرة على وجوب لعنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم لا تصح "(2) ، قلت : ولا شك أن الطبري كان أقدر منه على مثل هذا التنبيه لولا كونه يكتب تحت مظلة العباسيين .
…وقد أحسن الطبري حين ربط بين الإجراءات التي أمر بها المعتضد وبين مقصودها وهو لعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ، أما شخصية معاوية فلم تكن مقصودة بعينها ولا كان لبني أمية أي خطورة سياسية تدفع العباسيين إلى محاربتهم ، وإنما الأمر كما ذكر سابقا من أن شخصية معاوية كانت في بغداد خصوصا مدار تجاذب بين أتباع مذهبي السُنة والشيعة ، كما أنه تحول في الأوساط السياسية إلى مؤشر واضح لردة الفعل المتوقعة من أهل السُنة في بغداد .
__________
(1) المرجع السابق ج 10 ص54
(2) ابن الأثير " الكامل ج7 ص485(1/93)
…كذلك يدل هذا الخبر والنداء أن عادة الشرب على حب معاوية والتي ذكرها عبدالله بن أحمد بن حنبل في صغره لم تزل حية . وقد انتقلت هذه الروح الجامحة في الدفاع عن معاوية انتقلت من بغداد إلى أهل السُنة في المشرق وهو ما نلحظه في محنة الحاكم صاحب المستدرك الذي أشير عليه بأن يخرج على الناس فيذكر شيئا في فضائل معاوية فقال لا يجيء من قلبي أو كما أورده الذهبي في ترجمته ، ولعل شخصية معاوية اعتبرت من قبل أهل السُنة حدا فاصلا بين مذهبهم ومذاهب الرافضة .
…وقد ذكر كل المؤرخين أن الكتاب لم يقرأ وبطل أمره بسبب جهود الوزير العباسي عبيدالله بن سليمان والقاضي يوسف بن يعقوب ، وذكر ابن جرير قال :" وذكر أن عبيدالله بن سليمان أحضر يوسف بن يعقوب القاضي وأمره أن يعمل الحيلة في إبطال ما عزم عليه المعتضد فمضى يوسف بن يعقوب فكلم المعتضد في ذلك وقال له : يا أمير المؤمنين إني أخاف أن تضطرب العامة ويكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة فقال : إن تحركت العامة أو نطقت وضعت سيفي فيها فقال يا أمير المؤمنين فما تصنع بالطالبيين الذين هم في كل ناحية يخرجون ويميل إليهم كثير من الناس لقرابتهم من رسول الله ومآثرهم وفي هذا الكتاب إطراؤهم أو كما قال وإذا سمع الناس هذا كانوا إليه أميل وكانوا أبسط ألسنة وأثبت حجة منهم اليوم فأمسك المعتضد فلم يرد عليه جوابا ولم يأمر في الكتاب بعده بشيء "(1).
…وزاد ابن الأثير أن الوزير كلم المعتضد وحذره اضطراب العامة وإثارة الفتنة فلم يسمع منه وقال معلقا : وكان عبيدالله من المنحرفة عن علي عليه السلام "(2) ، وتابعه ابن كثير وزاد فقال :" إن الوزير عبيدالله بن سليمان كان ناصبيا يكفر عليا رضي الله عنه "(3) .
__________
(1) الطبري " تاريخ الرسل والملوك " ج 10 ص63
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 7 ص486
(3) ابن كثير " البداية والنهاية " ج11 ص76(1/94)
…قلت ولا أدري ما الداعي إلى ربط ابن كثير فعل الوزير بتهمة تكفير علي - رضي الله عنه - ، وعمله في إبطال لعن معاوية - رضي الله عنه - مشروع عند أهل السُنة ولا رابط بينهما فإن كل أهل السنة لا يقولون بتكفير أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه كما أنهم لا يجيزون في الوقت ذاته لعن معاوية - رضي الله عنه - ، وهذا الفعل من الناحية الواقعية فعل سياسي يراعى فيه مصالح الدولة ، والقول بأن ابن كثير قد اطلع على ما استدل به على قوله لا يرد استغرابنا المبني على ما ظهر من قوله رحمه الله .
…أما ابن الأثير رحمه الله وقوله بأنه من المنحرفة عن علي - رضي الله عنه - فلا يؤبه له لأنه كان معروفا بتشيعه ، وربطه بين منع لعن معاوية والانحراف عن علي معتاد من مثله .
…قلت : وفي سنة 289 انتهت هذه الجولة بين القوى السياسية والعسكرية وبين العامة في بغداد بوفاة المعتضد رجل بغداد القوي وآخر الخلفاء العباسيين الأقوياء ، قال ابن الأثير يصفه : وكان مهيبا عند أصحابه يتقون سطوته ويكفون عن الظلم خوفا منه "(1) ، قال صاحب العيون والحدائق " وكانت الخلافة قد وهِيَ أمرها وضعفت فأعزها الله بالمعتضد وكان يقال له ( السفاح الثاني ) "(2) ، و خلَفه ابنه المكتفي بالله قال ابن كثير معلقا :" وحين ولي المكتفي كثرت الفتن وانتشرت في البلاد "(3). وكان من أكبر الفتن انتشار القرامطة جنوب العراق وقطعهم طريق الحاج وامتدادهم حتى بلاد الشام ، وكان أمرهم قد بدأ سنة 286هـ بساحل البحرين بشرقي جزيرة العرب .
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج7 ص515
(2) مؤلف مجهول " العيون والحدائق " ج 4 ص75
(3) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 11 ص94(1/95)
… ثم خلَف المكتفي أخوه المقتدر بالله ، وكان الوزير العباس بن الحسن قد سعى في ذلك بإشارة من علي بن الحسن بن الفرات ، وهو من أسرة شيعية معروفة . و كان عمر الخليفة عند توليه ثلاث عشرة سنة ، وفي هذا إشارة إلى عودة تنامي أمر الوزارة وعظم شأنها وتحكمها في أمر الخلفاء وهو ما سيظهر جليا لاحقا .
…وكان ضعف الخلافة وتنامي النفوذ الشيعي دافعا إلى المؤامرة التي حيكت سنة 296 لخلع المقتدر وتولية ابن المعتز وكان وراءها التيار السني بقيادة محمد بن داود بن الجرّاح و علي بن عيسى وعدد من القضاة الذين لم يرضهم تولية المقتدر ، وقد اشترك معهم فيها الحسين بن حمدان وهو من الشيعة .
…وقد تعجب ابن الأثير من اشتراك ابن حمدان على شدة تشيعه وميله إلى علي وأهل بيته(1) .
…وقد كان من أهم نتائج فشل هذه المؤامرة أن قوي جانب الرافضة وتنامي دورهم في بغداد ، وتولي ابن الفرات الوزارة وتوسط للحسين بن حمدان عند المقتدر فقبله وولاه قُم ، قال ابن الأثير :" فلما استوزر ابن الفرات تفرد بالأمر"(2) وقد استغل تهمة المؤامرة لإزاحة كل منافسيه ، وكان من شأن ابن الفرات مع عامة أهل السُنة أنه لما تحركت الأسعار سنة299 تكلمت العامة كما يقول الصولي : ولعنوه في الشوارع وكتبوا على المساجد حول داره مثل ما يكتب الآن من الترحم على أصحاب رسول الله - رضي الله عنه - والقرآن كلام الله غير مخلوق وأشباه ذلك فمحا بعض أسبابه ما كان على مسجده وزاد الأمر عليه "(3) ، وقال في موضع آخر ورموا العامة ابن الفرات وكتبوا على مسجده التي حول داره رحم الله أبابكر وعمر " (4) .
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص18
(2) المرجع السابق ج 8 ص 55
(3) الصولي " أخبار الراضي والمتقي " ص35
(4) المرجع السابق ص173(1/96)
…قلت وكل هذه مفردات يكثر تداولها لدى الحنابلة في وجه معارضيهم من المعتزلة والشيعة وهذا يدل بوضوح على أن المعارضة ضد سياسات الوزير وانتمائه كانت في مجملها سنية حنبلية .
…ورافق هذا النفوذ الرافضي في بغداد اتساع نفوذهم في كافة جوانب العالم الإسلامي فقد بدأ أمر الدولة العبيدية ( التي تسمى خطأ الفاطمية ) في المغرب بعد سقوط الأغالبة في أفريقية وكان مما ساهم في سقوطها أن وزراءها كانوا من الشيعة فلا يسوؤهم أن يظفر أبو عبدالله الشيعي كذا قال ابن الأثير(1).
…وفي هذه الحقبة جاءت أول إشارة تاريخية يذكر فيها الحنابلة تحديدا فقد ذكر ابن الأثير عند حديثه عن فتنة ابن المعتز الآنفة الذكر قال :" لما رأى ابن المعتز ذلك ومعه وزيره محمد بن داود هربا وغلاما له ينادي يا معشر العامة ادعوا لخليفتكم السني البربهاري وإنما نسبت هذه النسبة لأن الحسين بن القاسم بن عبيدالله البربهاري كان مقدم الحنابلة والسُنة من العامة ولهم فيه اعتقاد عظيم فأراد استمالتهم بهذا القول "(2) .
…قلت وقد خلّط ابن الأثير في سياق هذا الخبر فسمى البربهاري مقدم الحنابلة الحسين بن القاسم بن عبيدالله وهذا اسم أحد الوزراء العباسيين المعروفين .
…والبربهاري هو الحسين بن علي بن خلف تلميذ أبي بكر المروذي والذي قدر له أن يقود الحنابلة في تلك الحقبة .
…قال عنه ابن أبي يعلى في الطبقات :" شيخ الطائفة في وقته ومتقدمها في الإنكار على أهل البدع والمباينة لهم باليد وباللسان "(3).
…قال ابن الجوزي في المنتظم هو أبو محمد البربهاري جمع العلم والزهد وصحب المروذي وسهلا التستري وتنزه عن ميراث أبيه وكان سبعين ألف درهم وكان شديدا على أهل البدع فمازالوا يثقلون قلب السلطان عليه " (4).
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج8 ص35
(2) المرجع السابق ج 8 ص16
(3) ابن أبي يعلى " طبقات الحنابلة " ج 3 ص36
(4) ابن الجوزي " المنتظم " ج 6 ص323(1/97)
…وقال ابن كثير :" العالم الزاهد الفقيه الحنبلي كان شديدا على أهل البدع والمعاصي وكان كبير القدر تعظمه الخاصة والعامة " (1) .
…وأثنى عليه الذهبي فقال :" شيخ الحنابلة القدوة الإمام كان قوّالا بالحق داعية إلى الأثر لا يخاف في الله لومة لائم "(2)
ونقل ابن أبي يعلى ما يدل على سعة نفوذه عن ابن بطة قوله سمعت البربهاري يقول لما أُخذ الحاج – من قبل القرامطة –يا قوم إن كان يحتاج – أي الخليفة – إلى معونة مئة ألف دينار و مئة ألف دينار و مئة ألف دينار خمس مرات عاونته قال ابن بطة ولو أراد لحصلها من الناس "(3) .
… وللبربهاري كتاب اسمه شرح السُنة يتضمن عقيدة السلف ذكر فيه كافة المسائل التي خالف الحنابلة فيها الرافضة والمعتزلة وغيرهم فمن ذلك قوله :" واعلم رحمك الله أن الدين إنما جاء من قبل الله تبارك وتعالى لم يوضع على عقول الرجال وآرائهم "(4) ، وفيه قوله وخير هذه الأمة بعد وفاة نبيها أبو بكر وعمر وعثمان قال ثم أفضل الناس بعد هؤلاء علي وطلحة والزبير ، قال ثم أفضل الناس بعد هؤلاء من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوما أو شهرا أو سنة أو أقل من ذلك أو أكثر ترحَّمُ عليه وتذكر فضله وتكف عن زلته "(5) ، وفيه " ولا يحل قتل السلطان والخروج عليهم و إن جاروا " وفيه من المسائل الفقهية قوله " ولا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " وهذا يتضمن ردا على الحنفية رحمهم الله .
… وفيه " واعلم أن متعة النساء والاستحلال حرام إلى يوم القيامة " (6) ، وفيه " والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان والقلب بلا سيف "(7).
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 11 ص201
(2) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 15 ص 90
(3) ابن أبي يعلى " مرجع سابق " ج 3 ص71
(4) البربهاري " شرح السنة " ص66
(5) المرجع السابق ص74
(6) المرجع السابق 96
(7) . المرجع السابق ص 112 وقد أخذ عليه محقق الكتاب إيراده لبعض الأحاديث الواهية والضعيفة " ص51(1/98)
…وقد قاد البربهاري الحنابلة في تلك الفترة حتى وفاته رحمه الله ، فمن المصادمات التي حدثت في عصره ما ذكره ابن الأثير بين العامة و الحنابلة فأخذ الخليفة جماعة منهم وسيرهم إلى البصرة فحبسوا "(1) ، وهي فتنة كانت مع الرافضة بسبب توجههم لقبر الحسين - رضي الله عنه - . وكانت تلك الفترة شهدت نشاطا سياسيا للرافضة ، من ذلك ما ذكره ابن كثير في حوادث سنة 313 قال أنه بلغ الخليفة أن جماعة من الرافضة يجتمعون في ( براثا ) غربي بغداد فينالون من الصحابة ولا يصلون الجمعة ويكاتبون القرامطة ويتبرؤون من المقتدر فهدم البناء الذي في ذلك الموضع وعده مسجد ضرار " (2).
…وكانت الخلافة العباسية آنذاك مستقرة ظاهرا إلا أن النفوذ الشيعي كان قد قوي مع تزايد النفوذ العسكري للمناطق الشيعية جنوب العراق ، وقد استطاع هذا النفوذ القوي سنة 320 إزاحة المقتدر وتولية القاهر منهيا بذلك سنوات من الانتقال السلمي للسلطة ، وكان خلف هذا الخلع مؤنس المظفر قائد الجيش ، وعلق ابن الأثير على ذلك قال " وكان ما فعله مؤنس سببا لجرأة أصحاب الأطراف على الخلفاء وطمعهم فيما لم يكن يخطر على بال ، وانخرقت الهيبة وضعف أمر الخلافة كثيرا وحكم فيها النساء والخدم وفرط في الأموال وعزل من الوزراء وولى مما أوجب طمع أصحاب الأطراف والنواب " قال وإذا اعتبرت أحوال الخلافة في أيامه وأيام أخيه المكتفي ووالده المعتضد رأيت بينهم تفاوتا بعيدا "(3) .
…وكان المستفيد من هذا الانتقال الدموي للسلطة كلا من مؤنس المظفر وحاجبه بليق وابنه علي والوزير أبي علي بن مقلة ، وكان كل هؤلاء من الروافض قال الذهبي في ترجمته للقاهر بالله وحكم عليه علي بن بليق الرافضي الذي عزم على سب معاوية " (4) .
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص115
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 11 ص 152
(3) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص243
(4) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج15 ص99(1/99)
…وكان أولى إجراءات هذا التيار الاصطدام بأهل السُنة وهو ما ذكره ابن الأثير أن علي بن بليق وكاتبه الحسن بن هارون أمرا بلعن معاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد على المنابر ببغداد فاضطربت العامة فأراد علي بن بليق أن يقبض على البربهاري رئيس الحنابلة وكان يثير الفتن هو وأصحابه فعلم بذلك فهرب فأخذ جماعة من أعيان أصحابه وحبسوا وجعلوا في زورق وأحدروا إلى عمان " (1).
…قلت أما قوله عن البربهاري أنه كان يثير الفتن فنفثة مصدور ، والفتن التي كان يقصدها هو أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ووقوفه في وجه المبتدعة خصوصا الرافضة ، في ظل اضطراب السلطة العباسية وضعفها .
…والخبر ذكره صاحب العيون والحدائق وليس فيه تعليق ابن الأثير بل فيه " وفيها هم علي بن بليق والحسن بن هارون كاتبه بلعن معاوية فاضطربت العامة لذلك فقبض على البربهاري رئيس الحنابلة وعلى جماعة من كبار أصحابه وأحدروا إلى البصرة "(2) .
…وذكر ابن كثير أن اللعن لم يتم قال ": وسرت إشاعة بين الناس على أن الحاجب علي بن بليق يريد أن يلعن معاوية على المنابر فلما بلغ الحاجب ذلك بعث إلى رئيس الحنابلة البربهاري ليقابله على ذلك فهرب واختفى فأمر جماعة من أصحابه فنفوا إلى البصرة " (3) .
…قلت وهذا قول ابن الجوزي في المنتظم قال وفي جمادى الآخرة وقع الإرجاف بأن الأمير علي بن بليق وحاجبه قد عمل على لعن معاوية لكنه لم يشر إلى أمر المقابلة بل قال وتقدم علي بن بليق للقبض على أبي محمد البربهاري رئيس الحنابلة " (4)
__________
(1) ابن الأثير " مرجع سابق " ج 8 ص273
(2) مؤلف مجهول " العيون والحدائق " ج 4 ص13
(3) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 11 ص55
(4) ابن الجوزي " المنتظم " ج 6 ص 249(1/100)
…وذكر ابن أبي يعلى قال :" إنه في خلافة القاهر ووزيره ابن مقلة تقدم بالقبض على البربهاري فاستتر وقبض على جماعة من كبار أصحابه وحملوا إلى البصرة وعاقب الله تعالى ابن مقلة على فعله وعزله القاهر عن وزارته قال وقبض على القاهر وحبس وخلع "(1) .
…والعقاب الذي يشير إليه ما حدث بين الخليفة القاهر وكلٍ من مؤنس وبليق وابنه علي ، وابن مقلة ، فقد خلع القاهر الوزير ابن مقلة وقتل كلا من مؤنس وبليق وابنه ، غير أن ابن مقلة نجح بعد ذلك بمساعدة الحسن بن هارون كاتب علي بن بليق في خلع القاهر ونجح في ذلك سنة 322 وتولى الراضي بالله الذي حاول توزير الوزير السني علي بن عيسى إلا أنه قيل له : إن الوقت لا يحتمل أخلاق علي وابن مقلة أليق بالوقت "(2) كما جاء عند ابن الأثير ، وهي عبارة لطيفة المعاني .
…وكان ابن مقلة رافضيا قال ابن العمراني عنه ": استبد بأمر الخلافة وقد كان إماميا لا يرى خلافة بني العباس " (3)164 ، وحدث زمن وزارته ما يسميه ابن الأثير فتنة الحنابلة ببغداد سنة 323 . قال الصولي في أخبار الراضي والمتقي :" وزاد أمر الحنبلية في هذا الوقت ونهبوا دكاكين بباب الشام لأن البربهاري مضى بعود أمر عبدالله بن أحمد بن حنبل وعاثوا في مربعة شبيب – موضع شمال غربي بغداد - فأنكر السلطان ذلك وأمر بطلب الدلاء وابن رمضان فلم يوجدا "(4) . .
…قلت وقوله ومضى بعود أمر عبدالله يدل أن له جهودا سابقة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
__________
(1) ابن أبي يعلى " طبقات الحنابلة " ج 3 ص78
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص283
(3) ابن العمراني " الإنباء " ص164
(4) الصولي " أخبار الراضي والمتقي " ص65(1/101)
…وقال ابن الأثير ": وفيها عظم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم وصاروا يكبسون من دور القواد والعامة و إن وجدوا نبيذا أراقوه و إن وجدوا مغنية ضربوها وكسروا آلة الغناء واعترضوا في البيع والشراء ومشْي الرجال مع النساء والصبيان فإن رأوا ذلك سألوه عن الذي معه من هو فأخبرهم و إلا ضربوه وحملوه إلى صاحب الشرطة وشهدوا عليه بالفاحشة وأرهجوا بغداد فركب بدر الخرشني وهو صاحب الشرطة عاشر جمادى الآخرة ونادى في جانبي بغداد في أصحاب أبي محمد البربهاري الحنابلة ألا يجتمع منهم اثنان ولا يتناظروا في مذهبهم ولا يصلي منهم إمام إلا إذا جهر ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة الصبح والعشائين فلم يفد فيهم وزاد شرهم وفتنتهم واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون إلى المساجد وكانوا إذا مر بهم شافعي المذهب أغروا به العميان فيضربونه بعصيهم حتى يكاد يموت فخرج توقيع الراضي بما يقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم " (1) ، وقد أورد مسكويه نص كتاب الراضي قال : وخرج توقيع الراضي بالله إلى الحنبليين بما نسخته " {بسم الله الرحمن الرحيم من نافق بإظهار الدين وتوثب على المسلمين وأكل به أموال المعاهدين كان قريبا من سخط رب العالمين وغضب الله وهو من الضالين ، وقد تأمل أمير المؤمنين أمر جماعتكم وكشفت له الخبرة عن مذهب صاحبكم (.....بياض ) زين لحزبه المحظور ويدلي لهم حبل الغرور فمن ذلك تشاغلكم بالكلام في رب العزة تباركت أسماؤه وفي نبيه والعرش ...(بياض) والكرسي وطعنكم على خيار الأمة ونسبكم شيعة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الكفر والضلال وإرصادهم بالمكاره في الطرقات والمحال ثم استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن ولا يقتضيها فرائض الرحمن وإنكاركم زيارة قبور الأئمة صلوات الله عليهم وتشنيعكم على زوارها بالابتداع وأنكم مع إنكاركم تتلفقون
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص308(1/102)
وتجتمعون لقصد رجل من العوام ليس بذي شرف ولا نسب ولا سبب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتأمرون بزيارة قبره والخشوع لدى تربته والتضرع عند حفرته فلعن الله ربا حملكم على هذه المنكرات ما أرداه وشيطانا زينها لكم ما أغراه وأمير المؤمنين يقسم الله فيما جهد إليه يلزمه الوفاء به لئن لم تنصرفوا عن مذموم مذهبكم ومعوج طريقتكم ليوسعنكم ضربا وتشريدا وقتلا وتبديدا ويستعملن السيف في رقابكم والنار في محالكم ومنازلكم فليبلغ الشاهد منكم الغائب فقد أعذر من أنذر وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل واليه ينيب }(1) .
…قلت والكتاب متخم بالترهات كتبه رافضي ذكر فيه رده على مواقف الحنابلة منهم ، وليس للخليفة الراضي ناقة فيه ولا جمل .
…قلت وأبرز ما في الكتاب إنكاره تعرض الحنابلة للرافضة في زيارته للقبور في بغداد وجنوبها ، وهذا أمر معروف فقد كان الحنابلة يعارضون بشدة ما يقوم به الرافضة من مظاهر مخالفة عند زيارتهم لقبور أئمتهم ، فقد ذكر التنوخي في النشوار قال : قال أبي وابن عايش : كانت في بغداد نائحة مجيدة حاذقة تعرف بخلب تنوح بهذه القصيدة فسمعناها في دور بعض الرؤساء ، لأن الناس إذ ذاك كانوا لا يتمكنون من النياحة إلا بعز سلطان أو سرا لأجل الحنابلة . ولم يكن النوح إلا مراثي الحسين وأهل بيته عليهم السلام فقط من غير تعريض بالسلف قالا فبلغنا أن البربهاري قال : بلغني أن نائحة يقال لها خلب تنوح اطلبوها فاقتلوها " (2).
…قال محققه في الحاشية : البربهاري كان رئيس الحنابلة وكان يدفعهم إلى كثير من أعمال العنف فأخذوا يكبسون الدور ويعترضون البيع والشراء وأرهبوا كل من لا يرى رأيهم ثم ذكر خبر الطبري وخبر إغراء العميان بالشافعية .
__________
(1) مسكويه " تجارب الأمم " ج1 ص ص 322-323
(2) التنوخي " نشوار المحاضرة " ج 2 ص124(1/103)
…وقال التنوخي في موضع آخر من كتابه :" وكان هذا في شعبان والناس إذ ذاك يلقون جهدا جهيدا من الحنابلة إذا أرادوا الخروج إلى الحائر "(1) .
…قلت وتعليق المحقق فيه تدليس وإنما وقفوا في وجه الفساد الذي انتشر في بغداد وكبسهم للدور – إن صح - فهي الدور التي هي مظنة الفساد فكانوا يريقون الخمر ويكسرون آلات اللهو ويعترضون عمليات الغش وكل هذا من الأمر بالمعروف ، وما أحنق المحقق غير منعهم للرافضة من النوح .
…ولا شك أن هذه الحملة هي إحياء للدور السني البارز في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي مثلته حركة المطوعة .
…أما ما ذكره ابن الأثير من مسألة التعرض للشافعية فلم يذكرها أحد ممن سبقه من المؤرخين - فيما أعلم - ، ولم يتعرض لها الكتاب المنسوب للراضي ، إضافة أن علاقة الشافعية بالحنابلة كانت آنذاك حسنة لم يكدرها بعد شيء ، ولم يكن هناك دافع للحنابلة أن يرتكبوا هذا المنكر وهم يقودون حملة مكافحة المنكرات في بغداد لذا فإن في هذه الزيادة نظر . ولا يظنن ظان أن إيراد اشتراط الجهر بالبسملة في المناداة دال على حضور المذهب الشافعي ذلك الوقت ، فإن الجهر بالبسملة من أقوال الشافعية إلا أنه من أقوال الرافضة كذلك ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المنهاج " وكذلك الجهر بالبسملة هو مذهب الرافضة وبعض الناس تكلم في الشافعي بسببها وبسبب القنوت ونسبه إلى قول الرافضة والقدرية لأن المعروف في العراق أن الجهر كان من شعار الرافضة "(2) .
__________
(1) المرجع السابق ج 2 ص232
(2) ابن تيمية " منهاج السنة " ج 4 ص150(1/104)
…وقد ذكر صاحب صلة تاريخ الطبري قال " واحترق ثمانية وأربعون صفا من أسواقها – يعني الكرخ – طرح النار قوم من الحنبلية حين قبض بدر الخرشني على رجل من أصحاب البربهاري يعرف بالدلاء " قال وكانت حال البربهاري قد زادت ببغداد قال وأصحابه يذكرون عنه صلاحا كثيرا وأضداده يذكرون خلاف ذلك "(1)
…عودا فإن الوقت لم يطل بابن مقلة وبدر الخرشني صاحب الشرطة الذين صرفهم الراضي بعد عام من صدامهم مع الحنابلة ، وتم إعادة الوزير السني المعروف علي بن عيسى الذي رشح أخاه عبدالرحمن إلا أن ضيق الموارد المالية لم يمكن هذا الوزير ولا غيره من إصلاح الأمور مما دفع الراضي إلى مراسلة محمد بن رايق صاحب واسط والبصرة يعرض عليه إمارة الأمراء مقابل القيام بالنفقات وأرزاق الجند ببغداد "(2) .
…وهذا كله دال على ضعف الأحوال الاقتصادية وتردي الأحوال السياسية في بغداد ويصف ابن الأثير حال أحد الوزراء قبل العرض العباسي لابن رايق قال :" ومازالت الإضاقة تزيد وطمع من بين يديه من المعاملين فيما عنده من الأموال وقطع ابن رايق حمل واسط والبصرة وقطع البريدي حمل الأهواز وأعمالها وكان ابن بويه قد تغلب على فارس فتحير أبو جعفر – الوزير 0 وكثرت المطالبات عليه ونقصت هيبته " (3) .
__________
(1) الهمذاني " صلة تاريخ الطبري " ص295 ، قلت ومما يذكره أصحابه مما لا يصدق أن صوت تشميت أصحابه له حين عطس بلغ دار الخلافة وما يذكره أضداده ونذكره - تندرا - ما رواه صاحب التكملة قال عن البربهاري أنه حمل في درج مقفول له منظر بعرة وجاء به إلى بزاز في الكرخ فقال هذه بعرة جمل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أريد أن أرهنها عندك على ألف دينار فاعتذر الرجل "295
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص322
(3) المرجع السابق ج 8 ص322(1/105)
…وفقد الوزراء دورهم السياسي بسبب ضعف الموارد الاقتصادية وتولى ابن رايق منصب أمير الأمراء قال ابن الأثير عن الوزير :" وليس له من الأمر شيء إنما الأمر جميعا إلى ابن رايق "(1) ، وكان النشاط الحنبلي تحت قيادة البربهاري حية جذوته فقد ذكر الصولي في حوادث سنة 326 قال " انه زاد أمر البربهاري وأصحابه فكتب إليه ابن رايق رقعة يحذره فيها وينذره فأظهر القبول وتضمن ترك المعاودة " كما ذكر أن ابن رايق ظفر بالدلاء أحد أصحاب البربهاري فحبس في دار ابن رائق ثم أفلت " (2) .
…قلت وكان عجز الخلفاء مدعاة إلى إعادة ابن مقلة سنة 326 فكان أول سعيه التدبير للتخلص من ابن رائق فكاتب الأمير التركي القوي والمسيطر على واسط بجكم وعرض الأمر على الراضي مقابل ثلاثة آلاف ألف دينار يستخلصها من ابن رائق في حال القبض عليه . غير أن هذا التدبير لم ينجح ولم يتم على هوى ابن مقلة فقد قبض عليه وقطعت يده ولسانه ولحقه شقاء شديد إلى أن مات (3) ، وقد أغرت هذه المكاتبات الأمير بجكم فاستولى على بغداد وقلده الراضي إمرة الأمراء بدل ابن رائق ، ورغم أن الراضي كان يحمل في نفسه معارضة النفوذ الشيعي إلا أنه كان عاجزا عن العمل ، بل كان لا مندوحة له عن التعامل مع هذه القوى الشيعية التي سيطرت على الحياة السياسية والعسكرية والمالية . وخَفَت الصوت السني وضعف حاله إلا بعض تحركاتٍ للحنابلة .
__________
(1) المرجع السابق ج 8 ص345
(2) الصولي " أخبار الراضي والمتقي " ص ص103-104
(3) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص346 ، قال ابن الأثير :" ومن العجب أنه ولي الوزارة ثلاث دفعات ووزر لثلاثة خلفاء وسافر ثلاث سفرات ودفن بعد موته ثلاث مرات "(1/106)
…وكان بجكم من أشد الأمراء محاربة للسنة عموما وللحنابلة خصوصا ، ومن أكثرهم نصرة للرافضة في بغداد ، من ذلك ما ذكره الصولي في حوادث سنة 327 قال :" وتعرض الحنبلية لمن قصد الحي للنصف من شعبان فنودي فيهم أنهم متى عرضوا لهم عوقبوا أشد معاقبة فكفوا وكان ابن إسماعيل بن أحمد قد ولي شرطة بغداد قبل هذا الوقت بشهر وأيام فركب ووقع بين الحنبلية والضرابين والنخاسين قتل فأعان على الحنبلية " (1) قال وطلب ابن إسماعيل بن أحمد البربهاري فاستتر "(2) ثم قال " وكان الدلاء صاحب البربهاري قد فر من الحبس في دار بجكم فوجد وآل أمره إلى أن قتل " . وذكر صاحب العيون والحدائق أنه خرج جماعة من أهل بغداد لزيارة قبر الحسين فخرج الحنابلة عليهم فنالوا منهم كل منال ووقعت فتنة فركب الأمير أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد في هذا اليوم فقتل منهم نفسين وجرح جماعة وأحرق منازلهم وظفر بجماعة من الحنابلة وضربوا بالسياط وكبست دار البربهاري فاستتر وقتل الدلاء صاحب البربهاري وصلب على الجسر "(3) .
…وضمن إجراءاته المؤيدة للرافضة قام بجكم ببناء مسجد براثا وأفتى بعض الفقهاء بنبش القبور وتحويلها - التي كان البربهاري وأصحابه أخذوا الناس بالدفن فيه – وأنفق عليه وصلى بالناس فيه(4) ، وكان هذا الموضع قد مر بنا هدمه ويسميه ابن كثير عش الروافض .
…وترافق هذا كله بحالة من الفوضى المالية والسياسية مع تزايد نشاط العيارين قال الصولى :" وكثر التخليط في أمر النقد والضرب " (5) .
__________
(1) الصولي " أخبار الراضي والمتقي ص136
(2) الصولي " مرجع سابق " ص 136
(3) مؤلف مجهول " العيون والحدائق " ج 4 ص332
(4) الصولي " مرجع سابق " ص 136
(5) المرجع السابق ص136(1/107)
…في هذا الجو المشحون بالفوضى توفي الراضي أول سنة 329 ولم يجدوا حنوطا لكفنه قال :" ولم يؤت بحنوط من الدار لأن الخزائن كلها أقفل عليها ووكل بها فوجه القاضي إلى الكرخ إلى المعروف بابن أبي ذكرى العطار حتى حمل من دكانه حنوط وجميع ما يحتاج إليه " (1) .
…قال ابن الأثير :" لما مات الراضي بالله بقي الأمر موقوفا انتظار لقدم أبي عبدالله الكوفي كاتب بجكم من واسط وكان بجكم به " (2).
…وتولى المتقي لله الخلافة بعده ، ولم يلبث عدو السُنة أمير بغداد القوي التركي الذي لم يكن يتكلم العربية أن هلك في نفس العام قال الصولي ": وهاج الحنبلية عند موت بجكم فقالوا ظهرت السُنة وحاولوا هدم مسجد براثا والإيقاع بالضرابين وأهل درب عون فأخرج توقيع من المتقي لله بأخذ قوم من الحنبلية فأخذوا وضربوا ونودي عليهم وأمر ابن جعفر الخياط بحفظ مسجد براثا وأن يضرب عنق من تعرض لهدمه " (3).
…قال ابن الأثير :" واستولى المتقي على دار بجكم فأخذ ماله منها وكان قد دفن فيها مالا كثيرا وكذلك في الصحراء لأنه خاف أن ينكب فلا يصل إلى ماله في داره "(4) .
…قلت وكانت مظاهر الرفض قد انتشرت جدا مما اضطر معه المتقي أن ينادي في بغداد أن من ذكر أحدا من الصحابة بسوء فقد برئت من الذمة " (5) وخرج عنها العالم الحنبلي أبو القاسم الخرقي – بكسر أوله وفتح ثانيه – لما كثر بها الشر والسب للصحابة كما يقول ابن كثير " (6).
…وفي هذه السنة 329 هـ توفي القائد الحنبلي الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الحسين بن علي بن خلف البربهاري وعمره ست وتسعون رحمه الله تعالى " كذا قال ابن كثير(7) أما ابن الأثير فعد له ستا وسبعين سنة وهو الأشبه بالصواب .
__________
(1) المرجع السابق ص183
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص368
(3) الصولي " مرجع سابق " ص198
(4) ابن الأثير " مرجع سابق " ج8 ص372
(5) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 11 ص206
(6) المرجع السابق ج 11 ص214
(7) المرجع السابق ج11 ص201(1/108)
…قلت وانطوت بوفاته رحمه الله تعالى صفحة من صفحات الحنابلة الذين عاشوا في عاصمة الخلافة ، وظلوا في ظل التخاذل السني وازياد نفوذ الرافضة يقاومون هذا المد الرافضي الذي اكتسح قلب العالم الإسلامي والذي سيطر على بغداد سيطرة كاملة عند دخول بني بويه إليها لتعيش بغداد أول حكم رافضي مباشر ، ولتبدأ سلسلة من يوميات العذاب داخل مدينة الحنابلة ، وسيودع التاريخ هذه الحقبة والمتقي لله الخليفة العباسية قد سُملت عيناه رغم محاولات الأمير محمد بن طغج الإخشيدي صاحب مصر والشام ، وسيطرق معز الدولة أحمد بن الحسين بن بويه في جحافل عظيمة بغداد وكان ذلك في سنة 334هـ ، وهذا ما سنبحثه في الفصل القادم بعون الله تعالى .
الفصل الثاني
يوميات العذاب من باب البصرة حتى الكرخ
] إطلالة على الآخر […124
[معز الدولة وبذور الفتنة]…148
[ البويهيون بعد معز الدولة ]…164
[الدم الجديد ...عضد الدولة في بغداد] .................................... 172
[ غروب شمس بني بويه ] … ...................................... 175
[استظهار أهل السُنة ] ............................. 183
[ السلاجقة في بغداد ]… ......................... 199
[الحنابلة داخل أروقة القصر]… ............................... 208
] إطلالة على الآخر [(1/109)
مرَّ بنا في الفصل الأول أن بغداد شهدت نفوذا شيعيا متزايدا ، هذا النفوذ المتنامي جر الخلافة العباسية إلى الاصطدام بالأغلبية السنية في بغداد وهم من الحنابلة ، الذين كانوا منذ أوائل القرن الرابع الهجري يمثلون الأغلبية في أهل السُنة ، ومع هذا النفوذ المتنامي كان الخليفة يملك هامشا من الحركة عن طريق مقابلة هذه القوى ببعضها ، إلا أنه ومنذ سنة 334هـ فقد هذا الهامش بدخول معز الدولة البويهي الذي سيطر على بغداد ، وكان هؤلاء البويهيون من الشيعة ، فكان هذا التحول من السلطة الجزئية إلى السلطة الكلية ذا أثر بالغ في الحياة السياسية والاجتماعية ، وفي العلاقة بين مذهب الرافضة ومذهب أهل السُنة ، هذه العلاقة بين الفئات الاجتماعية المنتمية لهذين المذهبين في بغداد هي محور الأحداث في السنوات القادمة في بغداد و التي سنحاول بحثها من خلال الفصل الذي نتابع فيه التحركات الاجتماعية والدينية و السياسية لمذهب الحنابلة في بغداد ، ولأننا قد قدمنا ما يكفي لتصور مذهب الحنابلة فإننا في حاجة إلى تسليط الضوء على المحاور الرئيسة التي يقوم عليها مذهب الرافضة في بغداد وهم على المذهب الإمامي الجعفري وبيان نقاط التقاطع بينه وبين مذهب أهل السُنة.
…يرى بعض علماء الإسلام أن ألفاظ التشيع والشيعة والرافضة درجات في سلم هذا المذهب ، ويرى الذهبي " أن كل من أحب الشيخين فليس بغال بلى من تعرض لهما بشيء من تنقص فإنه رافضي غال ، فإن سب فهو من شرار الرافضة فإن كفّر فقد باء بالكفر واستحق الخزي " (1). .
__________
(1) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 14 ص511(1/110)
…ويقول في تفضيل علي على عثمان تعليقا على قول الدارقطني بعد تفضيله عثمان وقوله وهذا قول أهل السُنة وهو أول عقد يُحل في الرفض قال : ليس تفضيل علي برفض ولا هو ببدعة ، قال والأفضل منهما بلاشك أبو بكر وعمر ومن خالف فهو شيعي جلد ومن أبغض الشيخين واعتقد صحة إمامتهما فهو رافضي جلد ومن أبغض الشيخين واعتقد أنهما ليسا بإمامي هدى فهو من غلاة الرافضة أبعدهم الله " (1) .
وتعد مسألة الإمامة الفكرة المركزية التي عليها مدار مذهب الشيعة و هي الفكرة التي انبثقت منها كل أفكار وطروحات هذا المذهب ، والإمامة التي يقصدونها هي النص على إمامة علي - رضي الله عنه - وذريته من بعده ، وأن أي خروج على هذا الفرع المنصوص عليه هو اغتصاب لحقه ، ولا يوافق أهل السُنة اعتماداً على أصلي الإسلام ( القرآن والحديث ) على هذا القول ولا يعدون الإمامة من أركان الدين إطلاقاً ، وينكرون وجود نص من هذا القبيل لكنهم يقرون بإمامة علي - رضي الله عنه - وأنه رابع الخلفاء الراشدين المأمورين باتباع نهجهم وسنتهم .
يقول أبو الحسن الأشعري في المقالات ( وهم مجمعون – أي الرافضة - على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصَّ على استخلاف علي بن أبي طالب باسمه وأظهر ذلك وأعلنه وأن أكثر الصحابة ضلوا بتركهم الإقتداء به بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن الإمامة لا تكون إلا بنص وتوقيف وأنها قرابة .. ) (2) .
__________
(1) المرجع السابق ج16 ص458
(2) الأشعري " مقالات الإسلاميين " ج 1 ص89(1/111)
وكان هذا القول هو أولى المآزق التي وضع المذهب الشيعي نفسه فيها إذ أنه ومع تفرع أبناء علي وذريته تفرع المذهب إلى فرق ومذاهب يعارض بعضها بعضاً ، وهذا ما يذكره النوبختي صاحب كتاب فرق الشيعة يقول : " فلما توفي أبو جعفر عليه السلام افترق أصحابه فرقتين فرقة قالت بإمامة محمد بن عبد الله بن الحسن .. فلما توفي أبو عبد الله جعفر بن عبد الله افترقت بعده شيعته ست فرق ففرقة قالت هو حي لم يمت وفرقة قالت أن الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل وفرقة قالت أن الإمام بعد جعفر ابنه محمد .." (1) .
ثم إنه من لوازم القول بالنص واعتباره ركنا من أركان الإسلام الاحتياج إلى القول بنقص القرآن واطّراح السُنة المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدم ورود هذا الركن فيهما ، أما القول بالنقص في القرآن والزيادة وهو ادعاء تحريفه فهو قول وارد عند أكثرهم ، فمن ذلك ما جاء في كتاب الطبرسي " فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب " وقولهم بمصحف فاطمة وغيرها من الترهات
يقول أحمد الموسوي مؤلف الشيعة والتصحيح : " والمتتبع المنصف لا يشك أبدا أن السبب الذي حدا بالمحدثين أن يذهبوا إلى تحريف الكتاب هو الاستدلال بآيات منصوصة في إمامة علي كانت مذكورة في السور والآيات المحرفة على حد زعمهم وبذلك كان بعض أعلام الشيعة يدافع عن عدم وجود نص إلهي في القرآن حول الإمامة بتلك الآيات المزعومة التحريف " (2) .
…قال محب الدين الخطيب – رحمه الله - وقد ألف أحد طواغيتهم واسمه حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي كتابا سماه " فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب " (3)
__________
(1) النوبختي " فرق الشيعة ص ص74 – 79 مختصرا .
(2) الموسوي " الشيعة والتصحيح ص131
(3) محب الدين الخطيب " حاشية كتاب مختصر التحفة الإثنا عشرية " ص 30(1/112)
قلت : ولم يفعل شيئا إلا أنه جمع أكاذيبهم في موطن واحد وادعى أنها نصوص علمائهم التي تثبت قوله بتحريف الكتاب العزيز ، فوزره وجنايته إنما هي جناية من قبله من علماء الضلالة ، والدلالة على قولهم بتحريف القرآن ليس في تأليف هذا المارق وإنما في الأقوال التي جمعها عن علمائهم . والعجب كل العجب من هذا المنتسب للإسلام وأهله يقول في مقدمة كتابه الأثيم الذي باء بإثمه :"فيقول العبد المذنب المسمى حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي جعله الله تعالى من الواقفين ببابه المتمسكين بكتابه هذا كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن وفضائح أهل الجور والعدوان وسميته فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب " (1).
وهذه مقدمة دالة على قلة عقله فكيف يدعو ربه أن يجعله من المتمسكين بكتابه وأي كتاب يعني فإن قيل القرآن قلنا هذا كتاب لا يقر بصحته ، وإن قيل مما يعرف كالتوراة والإنجيل قلنا هو كما اختار لنفسه ، وإن قيل مما لا يعرف كمصحف فاطمة – على زعمهم – فكيف يتوصل إلى التمسك بمجهول الحال والصفة .
…والقول بتحريف القرآن ونقصه أو زيادته نقض لأس الإسلام وجهل بمقتضى الكلام ، و إلا فلا يشك عاقل أن هذا القول مخرج من دين الله بالكلية أعاذنا الله من الخسران ، والله أصدق قيلا فقد وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . قال ابن حزم رحمه الله في الفِصَل " القول بأن بين اللوحين تبديلا كفر صحيح وتكذيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - "(2) .
__________
(1) صورة الكتاب في كتاب الإمامة لأبي نعيم رحمه الله أوردها محقق الكتاب ص 138 وعليها ختم الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
(2) ابن حزم " الفصل " ج 4 ص182 وقوله " صحيح " هكذا في المطبوع فإن صح فالمقصود كلمة "صريح "(1/113)
…ذكر الملطي الشافعي في التنبيه قال : " ويقال لهم : قال الله عز وجل :" {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } " هل صدق الله في قوله أم لا ؟
…فإن قالوا : لا ،كذَّبوا الله وكفروا بتكذيبهم ربهم .
…وإن قالوا : صدق الله هو أنزله وهو حفظه علينا تركوا قولهم " (1) .
…ويرى المجلسي الرافضي في مرآة العقول - كما نقله التونسوي في بطلان عقائد الشيعة – أن الاستدلال بهذه الآية ضعيف لأن الآية هنا بصيغة الماضي في سورة مكية وقد نزلت سور عديدة بعد هذه السورة وهذا ما عدا السور التي نزلت بالمدينة بعدها كثير فلا دلالة فيها على أن جميع القرآن محفوظ ... وأيضا
حفظ القرآن لا يدل على أن يكون محفوظا عند عامة الناس فإنه يمكن أن يراد منه أن محفوظ عند إمام الزمان وأتباعه الذين هم أصحاب سره " (2) .
…قلت : وكلامه من سفال الاحتجاج ، فإن الآية تضمنت التوكيد باستخدام " إنّ " و" اللام" ، واللام عند أهل اللغة جاءت لتقوية التوكيد كما عند الأربلي صاحب جواهر الأدب (3) ، وذكر المالقي في رصف المباني :" أن هذه اللام هي جائزة الدخول في هذا المكان لا واجبة لما يراد من المبالغة في التوكيد "(4)
…ولما كان الحال – أي حال حفظ الذكر – معلوما عند من أُنزل عليهم القرآن فإن تقوية التوكيد على هذا القول – قول تخصيص الحفظ لما مضى - لا معنى له ، وليس الأمر على هذا فإن تقوية التوكيد هنا جاءت للاستقبال فلم تستقبح .
__________
(1) الملطي الشافعي " التنبيه " ص41
(2) التونسوي " بطلان عقائد الشيعة " 36 ، وعزا المنقول إلى ج6 ص75 من الكتاب المذكور
(3) الأربلي " جواهر الأدب ص 88
(4) المالقي " رصف المباني ص308(1/114)
…ثم أن مقتضى الاستخدام الزماني للأفعال في القرآن يختلف عن مقتضاه عندنا ، فالمستقبل معلوم عند الله تعالى ، وحكمه حكم الماضي لذا نجده جل وعلا يحكم ماضيا على فعل مستقبلي كقوله تعالى {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ }(1) والمناداة لم تقع زمنا ولكنها واقعة حكما ، وقد جاء الفعل " نادى " على أصله في قوله تعالى " { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ } "(2) ، على هذا فذكر الماضي في قوله تعالى " نزلنا الذكر " لا يقتصر على ما سبق نزوله بل وما سينزل ، أو هو نزول كما في قوله تعالى {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } " (3).
…والله جل وعلا يعلم السر وأخفى وعنده علم ما كان وما سيكون وهذا مما يعلم من الدين بالضرورة لذا فهو لا يحكم على ما سيؤول أمره إلى التحريف بأنه محفوظ .
قال القرطبي في تفسيره :" وقد تقدم أن أخبار الله في الماضي والمستقبل سواء لأنه آتٍ لا محالة " (4).
…أما قوله بأن المراد حفظه عند إمام الزمان فلا يعول عليه فإن الله لا يتعبد عبيده بمجهول ، وإمام الزمان حيلة يحتالها الرافضة للخروج من مآزقهم الفكرية والعقلية ، وغاية الأمر أنهم حرفوا ما ورد عند أهل السُنة عن الإمام العادل الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر أنه على اسمه واسم أبيه- والذي سيحكم بالقرآن والسُنة عند خروجه (5) .
__________
(1) الأعراف 50
(2) هود 42
(3) القدر 1
(4) القرطبي " الجامع لأحكام القرآن " ج 10 ص65
(5) وهو المهدي ، وكلمة المهدي الغالب أنها سيقت كصفة لا كاسم له يعرف به وقت خروجه ، غير أنه ليس مندسا في سرداب كما يقول الروافض بل هو رجل من أهل السُنة يخرج فيقيم العدل وينصر الإسلام ، كما أننا لسنا مأمورين بانتظاره أو تعطيل أي فعل حتى يحين زمن خروجه .(1/115)
…ومن لطيف ما يروى – والحديث ذو شجون - ما رواه القرطبي بسنده إلى يحيى بن أكثم عن يهودي أسلم فسأله المأمون عن ذلك فقال اليهودي : انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن الأديان وأنت تراني حسن الخط فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها البيعة فاشتريت مني وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت فيها ونقصت وأدخلتها الوراقين فتصفحوها فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها فعلمت أن هذا كتاب محفوظ فكان هذا سبب إسلامي ، قال يحيى بن أكثم فحججت تلك السنة فلقيت سفيان بن عيينة فذكرت الخبر فقال : مصداق هذا في كتاب الله عز وجل ، قال : قلت : في أي موضع ؟ قال في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل " بما استحفظوا من كتاب الله " فجعل حفظه إليهم فضاع وقال عز وجل " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " فحفظه الله علينا فلم يضع " (1).
…وصدق الله جل وعلا {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ ليطفئوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }(2)
…ويقول جل من قائل {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } " (3)
__________
(1) المرجع السابق ج10 ص6
(2) الصف 7-8
(3) آل عمران 20(1/116)
…قلت : وقد ذكر القرطبي أن الحفظ واقع لمحمد - صلى الله عليه وسلم -(1) ، وهذا قول ضعيف جدا فإن الضمير في له عائد إلى أقرب مذكور وهو الذكر .
…ويعد القول بتحريف القرآن من أشنع أقوالهم بل أشنع أقوال من ينتسب إلى الإسلام من كل الفرق المخالفة ، وهو أبعدها عن الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم .
أما المحور الثاني من محاور مذهبهم فهو إنكارهم للسنة النبوية وهي نتيجة طبيعية لقولهم بإسقاط العدالة عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا هم يكفرون غالب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ويشتمونهم ويطعنون بعدالتهم عدا أفرادٍ يعدون على الأصابع ، فمن باب أولى أنهم لا يقبلون أقوالهم و لا يأخذون بحديثهم .
هذه العقيدة الفاسدة - عقيدة سب الصحابة - كانت مثارا لكثير من الفتن في المناطق التي يتجاور فيها الروافض مع أهل الإسلام
والتعرض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطراً و أشراً افتراءٌ على الله وقد قال الله جل وعلا في كتابه {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } (2)
ذكر أبو نعيم الأصبهاني في كتابه " الإمامة " قال " فالإمساك عن ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر زللهم وصرف أمورهم إلى أجمل الوجوه من أمارات المؤمنين المتبعين لهم بإحسان الذين مدحهم الله تعالى فقال " {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا .....} الآية . مع ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإكرام أصحابه وصحابتهم وصيانتهم وإجلالهم "(3) .
__________
(1) القرطبي " الجامع لأحكام القرآن " ج 10 ص6
(2) الأحزاب 58
(3) أبو نعيم الأصبهاني " الإمامة " ص373(1/117)
ولا شك أن نقض الرافضة لهذين الأصلين في الإسلام هو قطع لطريق التقارب بينهم وبين غيرهم من المسلمين ، وهذا التقارب الذي ينادي به بعض السذج من أهل الإسلام ممتنع ، فمذهبهم ومذهب أهل السُنة نقيضان لا يجتمعان ، فالقول بقول أهل السُنة نقض لمذهبهم والقول بقولهم نقض لمذهب أهل السُنة ، وأي تقارب لا يمكن إلا وأن يبنى على اشتراط نبذهم للقول بتحريف القرآن أو القول بوجود مصحف آخر ونبذهم لشتم الأصحاب رضوان الله عليهم ، والكف عن مسهم بأذى والإقرار بتقدمهم في أهل الإيمان ، ولو أقروا بذين النبذين لقضي الأمر ولنقضوا مذهبهم .
…قلت وأني لهم ذلك وكتبهم طافحة بالغث الذي لا خير فيه المنسوب كذباً وبهتاناً إلى أئمة آل البيت رضي الله عنهم وأرضاهم ، { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ }(1)
…أما المحور الثالث من محاور مذهب الرافضة ما يسموه بالتقية – وهي إظهار خلاف ما يبطن خوفا – لذا لا يثق المرء في قولٍ من أقوالهم ، فهم إن لم يعجبهم نسبة القول الذي قالوه ألحقوه بالتقية ، وهذه مصيبة نسأل الله العافية فإنها كذب صريح . ولهذا قيل أن الرافضة دينهم الكذب ، وهو كما قيل وقد حكي شيخ الإسلام في منهاج السُنة الإجماع على أن الكذب في الرافضة أظهر منه في سائر طوائف أهل القبلة " (2)، وهم في مذهبهم يعتمدون على كتب زعموا أنها تحتوي على أقاويل أئمة آل البيت رضي الله عنهم ، وهي كتب مشحونة بالأكاذيب ، يقول أحد عقلاء الشيعة وهو أحمد الكاتب " ومن المعروف أن الكليني وقد ألف كتاب الكافي في أيام النوبختي وقد ملأه بالأحاديث الضعيفة الموضوعة التي تتحدث عن تحريف القرآن وأمور أخرى باطلة " (3) .
__________
(1) الشعراء 227
(2) ابن تيمية " منهاج السنة النبوية " ج 1 ص 66
(3) أحمد الكاتب " تطور الفقه السياسي الشيعي " ص232(1/118)
قلت : صدق في هذا فقد تتبعت مئة حديث عشوائياً في كتاب الشافي في شرح أصول الكافي (1) الذي صنف الشارح أحاديثه بين صحيح وحسن وضعيف ومجهول ومرسل على طريقة أهل الحديث على زعمهم ، فتبين لي أن في المئة سبعاً وثلاثين منها حكم بصحته وحسنه ، وأن ثلاثاً وعشرين حكم بجهالته بينما حكم بضعف سبع وثلاثين و اثنين حكم بإرساله فعلى طريقة المحدثين يكون ستون بالمئة منها ساقط لضعفه أوجهالة راويه .(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السُنة " وعمدتهم في الشرعيات ما نقل لهم عن بعض أهل البيت وذلك النقل منه ما هو صحيح ومنه ما هو كذب عمداً أو خطأ وليسوا أهل معرفة بصحيح المنقول وضعيفه كأهل المعرفة بالحديث ثم إذا صح النقل عن بعض هؤلاء فإنهم بنوا وجوب قبول قول الواحد من هؤلاء على ثلاثة أصول : على أن الواحد من هؤلاء معصوم مثل عصمة الرسول وعلى أن ما يقوله أحدهم إنما يقوله نقلاً عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنهم قد عُلم منهم أنهم قالوا : مهما قلنا فإنما نقوله نقلاً عن الرسول ويدعون العصمة في أهل النقل ، والثالث أن إجماع العترة حجة ثم يدعون أن العترة هم الاثنا عشر ، ويدعون أن ما نقل عن أحدهم فقد أجمعوا كلهم عليه فهذه أصول الشرعيات عندهم وهي أصول فاسدة كما سنبين ذلك في موضعه لا يعتمدون على القرآن ، ولا على الحديث ، ولا على الإجماع إلا كون المعصوم منهم ، ولا على القياس وإن كان واضحاً جلياً " (3) .
__________
(1) انظر كتاب المظفر عبدالحسين " الشافي في شرح أصول الكافي "
(2) قلت : هذا على قولهم أما على طريقة التمحيص التي يتبعها أهل السُنة فلا يصح منها سوى ما يوجد أصله في كتب أهل السُنة .
(3) ابن تيمية " منهاج السنة " ج1 ص69(1/119)
قال المقدسي الشافعي تلميذ ابن حجر في رسالته في الرد على الرافضة " وأما أدلتهم من السُنة فكلها أو أكثرها ضعيفة أو موضوعة من الكذب المفترى على النبي صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة في مصنفاتهم والوضع فيها ظاهر لا يخفى إلا على غبي جامد " (1) .
قلت ولله در الخبزأرزى في قوله
من غابت الأخبار عنه ودينه …دين الإمامة قال بالأوهام
ومن عجيب ما قرأت من أقوال غلاتهم ونسوقه لبيان أن الضلال لا حد لتأثيره على الإنسان ، إن هو ترك أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما ساقه ابن حزم في الفِصل قال : ومنهم من يقول " أن عبدالرحمن بن ملجم المرادي – قاتل علي - أفضل أهل الأرض لأنه خلص روح اللاهوت مما كان يتشبث فيه من ظلمة الجسد وكدره " قال رحمه الله : فاعجبوا لهذا الجنون واسألوا الله العافية من بلاء الدنيا والآخرة فهي بيده لا بيد أحد سواه جعل الله حظنا منها الأوفى واعلموا أن كل من كفر هذه الكفرات الفاحشة ممن ينتمي إلى الإسلام فإنما عنصرهم الشيعة والصوفية "(2) .
ولاشك أن هذه الأقوال خطيرة على البناء الفكري الإسلامي ، وإن كان الخوارج والذين ورد التحذير منهم من الصادق - صلى الله عليه وسلم - أكثر خطرا على الصعيد العملي بسبب إقدامهم في مسألة الدماء ، ومسارعتهم لقتال أهل الإسلام ، فإن المذهب الرافضي أخطر فكريا على أهل الإسلام ، وقد ذكر ابن تيمية أن المعتزلة وإن كانت أقوالهم متضمنة لبدع منكرة فإن فيهم من العلم والدين والاستدلال بالأدلة الشرعية والعقلية ، بخلاف الرافضة فإنهم من أجهل الطوائف بالمنقول والمعقول " (3) ، وذكر كذلك عند ذكر الخوارج " والرافضة أكذب منهم وأجهل وأقرب إلى الكفر والنفاق لكنهم أعجز وأذل " (4).
__________
(1) المقدسي " الرد على الرافضة " ص200
(2) ابن حزم " الفصل في الملل والنحل " ج 4 ص188
(3) ابن تيمية " المرجع السابق " ج 4 ص135
(4) المرجع السابق ج 4 ص356(1/120)
وبهذه الأقوال يتضح عظم الشقة بين مذهب الرافضة ومذهب أهل السُنة والذي يظهر أن المعتقد لهذه الأقوال والقائل بصحتها ،- كالقول بتحريف القرآن ، وتكفير أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسبهم وشتمهم - خارج عن ملة أهل الإسلام بالكلية (1) ، وهذا ما يفسر التشدد الذي أبداه علماء الإسلام مع هذه الطائفة ، وهو ما يبرر ما تذكره كتب أهل السُنة فيهم ، فقد جاء عند العليمي من رواية إسماعيل بن إسحاق الثقفي النيسابوري أن أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن جار له رافضي يسلم عليه قال لا وإذا سلم لا يرد عليه "(2) .
وذكر كذلك أن أبا حفص العكبري كان إذا مات بعكبرا رجل من الرافضة فبلغه أن بزازا باع له كفنا أو غاسلا غسله أو حمالا حمله هجره على ذلك (3).
ومن ذلك ما ذكره الذهبي عن ابن جرير الطبري رحمه الله قال عن محمد بن علي بن سهل سمعت محمد بن جرير وهو يكلم ابن صالح الأعلم يقول من قال إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامي هدى أيش هو قال مبتدع فقال ابن جرير إنكارا عليه مبتدع مبتدع هذا يقتل "(4) .
وقال الملطي الشافعي :" واعلموا رحمكم الله أن في الرافضة اللواط والأبنة والحمق والزنا وشرب الخمر وقذف المؤمنين والمؤمنات والزور والبهت وكل قاذورة ليس لهم شريعة ولا دين " (5) .
__________
(1) يرى بعض المتأخرين من متنوري الشيعة أن الإمامية صنفان يطلق على متشدديهم اسم التشيع الصفوي ، وأنه القسم الذي يصح عليه كلامنا ، وقسم لايرى السب ولا القول بتحريف القرآن ويسمى التشيع العلوي ، فإن صح هذا التقسيم فإن القسم الأخير يقارب الزيدية ، وهي غير خارجة عن دائرة الإسلام باتفاق .
(2) العليمي " المنهج الأحمد " طبعة محمد محي الدين ج 2 ص6
(3) المرجع السابق ج 2 ص40
(4) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 14 ص275
(5) الملطي " التنبيه " ص44(1/121)
قلت وبعد هذه الإطلالة الموجزة على عقائد الرافضة الإمامية فإنه ينبغي الانتباه إلى أن الاختلافات العقدية قد لا تكون مثاراً للفتن لعدم وجود مظاهر خارجية لها خلافاً للعبادات أو الجوانب الفقهية التي هي ذات مظاهر خارجية مما قد يُوَلِدُ اختلافاً واحتكاكاً بين المذاهب فتنشأ الفتنة لذا عُدت المسائل الفقهية التي تختلف فيها المذاهب جزءاً من العقائد باعتبارها علامات تعكس طبيعة الانتماء المذهبي ، أو تكشف حقيقة العقيدة التي لا تظهر إلا بالتمحيص والمجادلة ، أما هذه المظاهر فتعد دلالة على الانتماء لابد منها ، حتى أن الروافض ينقلون أن التقية في كل شيء إلا في النبيذ والمسح على الخفين " (1) ، كما عد أهل السُنة بعض المسائل الفقهية الخلافية في بيان عقائدهم .
بيد أن بعض العقائد قد يظهر له أثر وفعل كعقيدة سب الصحابة رضوان الله عليهم عند الرافضة فهي عقيدة ذات أثر قولي بل وهم أخزاهم الله ـ يتعدونه إلى أثر فعلي كأن يحضرون دابة ويسمونها باسم أحد من الصحابة ثم يضربونها حتى يقتلونها وهذا فعل يتنزه عنه العقلاء فضلاً عن أهل الديانة والأمانة.
…وعقيدة السب عند الرافضة من أركان مذهبهم وكتبهم مليئة بالروايات التي يأنف المسلم من النظر إليها أو التفوه بها فصلاً عن الاستشهاد بها ، فهي في فروع الكافي وحق اليقين للمجلسي ورجال الكشي وتفسير القمي كما نقل الشيخ العلامة محمد بن عبد الستار التونسي والشيخ إحسان إلهي ظهير والشيخ محمد بن عبدالرحمن السيف وغيرهم وقد نقلوها ـ رحمهم الله ـ موثقة لا سبيل إلى التنصل منها .
ولا يعتقد عاقل أن الإسلام الذي انتشر من الصين حتى جنوب فرنسا كان بفعل جماعة من المرتدين الضالين ، بل أن آل البيت كالعباس عم نبيه وابنه حبر الأمة لم يسلما من شتمهم ورميهم بعدم كمال الإيمان كما في حياة القلوب للمجلسي . (2)
__________
(1) التونسوي " بطلان عقائد الشيعة " ص72
(2) المرجع السابق ص85(1/122)
ولأنه بما لا ريب فيه أن هذه المسألة وهي القول بكفر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حد فاصل بين الإسلام والكفر ، فإن الروافض لما أحسوا بقوة السلطان أظهروها وسط المجتمعات السنية ، أما في محلاتهم ومدنهم فهي ظاهرة واضحة ، فكان من الطبيعي جداً أن يرفض أهل السُنة هذا المظهر الكفري ، وكان من الطبيعي أن يحدث الاضطراب .
…وأول ذكر في التاريخ الإسلامي لمثل هذا الاصطدام بسبب سب الصحابة رضوان الله عليهم ، ما حدث في أصبهان المدينة السنية والتي كانت تحت الحكم البويهي والذي ترك عندها حامية عسكرية وكانت هذه الحامية من أهل مدينة قم وهي معقل من معاقل الرافضة وغلاتهم .
قال ابن الأثير سنة خمس وأربعين وثلاثمائة أنه " وقعت الفتنة بأصبهان بين أهلها وأهل قم بسبب المذهب وكان سببها أنه قيل عن رجل قمي أنه سب بعض الصحابة وكان من أصحاب شحنة أصبهان فثار أهلها واستغاثوا بأهل السواد - أي القرى الواقعة حولهم -وحضروا دار الشحنة وقتل بينهم قتلى ونهب أهل أصبهان أموال التجار من أهل قم" (1) ، وقد أثارت هذه الوقعة ركن الدولة البويهي فانتقم من أهل أصبهان وتجارها وهم من أهل السُنة بأن فرض عليهم أموالاً كثيرة .
و أصبهان كانت وما حولها مركزاً من مراكز أهل السُنة ، وكان هذا الحدث والفتنة بين أهل أصبهان وقم نذير شؤم يظهر تنامي قوة الرافضة وظهور سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي عقيدة لا يظهر الرافضة عادة تقية لكنها تظهر عندما يشعرون بكثرتهم وقوتهم فكان ذلك سبباً في نشوب فتنة جديدة في بغداد بعد فتنة أصبهان وكانت بسبب السب ثم بعد خمسة سنوات تقريباً فتنة أخرى في البصرة للسبب نفسه .
وقد يقول قائل أن السب لا أثر ولا وزر على أهل السُنة منهم فما الذي يحملهم على الفتنة وإنما يحمل الرافضة وزره .
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص517(1/123)
قلت لم يكن السب وحده دافعا للفتنة ، بل إن إحساس أهل السُنة أن وقوفهم دون اكتراث من هذا المظهر الصارخ للرفض كفيل بازدياد ثقة الرافضة وقوتهم وشعور أهل السُنة بضعف موقفهم ، مما قد يدفع الكثيرين إلى ترك هذا المذهب طلباً للسلامة أو طلباً لما يشتهون ، في حين أن الانتصار للمذهب قد يدفع للتماسك الداخلي .
بعد هذا البيان الموجز لعقائد الرافضة التي تتقاطع مع أقوال أهل السُنة غني عن الذكر أن التجاور بين المذهبين المتناقضين في بغداد مدعاة لعدد من الصراعات والمواجهات كما سيظهر لنا ، لكننا قبل ذلك محتاجون لبيان التوزيع السكاني في بغداد بين المذهبين ، فمن المعلوم أنه من البدايات الأولى لبناء بغداد كان الكرخ وهو في غرب بغداد مركزا للشيعة تحديدا خالطهم فيه عدد من أهل السُنة ، فيما عرف بخان الفقهاء وهو من محلات الكرخ ، وكان ينزله فقهاء الأحناف ، وظل هذا الخان بعيدا عن المنازعات ولم يذكر اشتراك أهله فيها أو تأثرهم بها ، سوى ما ذكر في إحدى الفتن الكبيرة والتي سنذكرها لاحقا .
…وقد ذُكر في ترجمة الوزير على بني عيسى المتوفى سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة أنه في خلال وزارته ساعد عطارا من أهل الكرخ كان مشهورا بالسُنة كما عند ابن كثير وبالستر (1) عند ابن الجوزي .
و إلى جانب الكرخ امتد وجودهم بعد دخول البويهيين بغداد إلى الجانب الشرقي في محلة باب الطاق وهي في الشمال الشرقي دون الرصافة .
__________
(1) ولفظة " الستر " عند ابن الجوزي تعني أنه من أهل السُنة فقد وصف الوفد الذي قابل عز الدين بختيار ( وهو وفد سني بغدادي ) قال وهم من " أهل الستر والصيانة من أهل بغداد " ، وهذا ما فهمه ابن كثير رحمه الله وهو ينقل الخير عن ابن الجوزي رحمه الله .انظر ابن الجوزي " المنتظم " ج 7 ص 60(1/124)
أما بقية المحلات في بغداد فقد كانت سنية بحتة وفي بداية القرن الرابع الهجري تحول غالب أهل هذه المحلات إلى حنابلة الذين كان لهم زمن البربهارى- رحمه الله ـ حضور كبير في أوساط أهل السُنة ، ولم يذكر لغيرهم من مذاهب أهل السُنة قريباً من هذا الحضور .
ومن الدلائل على ذلك أن باب الأزج وهو في الجانب الشرقي مثلاً لما مات أبو بكر عبد العزيز المعروف بغلام الخلال وهو من علماء الحنابلة اختلف أهل باب الأزج في دفنه فقال بعضهم يدفن عند قبر أحمد وقال بعضهم يدفن عندنا كما عند العليمي (1) .
أما باب البصرة فهو مركزهم وواسطة عقدهم وقد ذُكر عن ابن البقال الحنبلي أن منزله كان باب البصرة ـ وذكر ابن رجب في ترجمة ابن القواس البغدادي الحنبلي قال :"وتكلم فلم يتجاسر أحد أن يتكلم بكلمة ولو تكلم أحد لفضخ رأسه أهل باب البصرة فإنهم كانوا حوله قد لقن أولادهم القرآن والفقه وكان في شوكة ومنعة "(2) .
أما محلة الحربية فقد ذكر عن الحافظ عبد الغني الحنبلي أنه كان يقول : كان عندنا في الحربية قوم من المتشددين يسمون السبعة لا يسلمون على من سلم إلى سبعة على مبتدع " (3).
والحربية محلة كبيرة في الجانب الغربي ، وحتى محلة باب الطاق التي يكثر بها الرافضة فقد ذكر أن بعضها للحنابلة فقد ذكر ابن عقيل الحنبلي أنها محلته كما في وصفه لبغداد . كما ذكر عن الشريف أبي جعفر وهو من كبار الحنابلة و من أرفعهم قدراً رحمه الله أنه انتقل إلى باب الطاق وسكن درب الديوان من الرصافة لأجل ما لحق نهر المعلى من الغرق . لكن مما ينبغي التنبه له أن باب الطاق قد تطلق على الجانب الشرقي تجاوزا فلعل هذا من هذا .
__________
(1) العليمي " المنهج الأحمد " طبعة عبدالحميد ج 2 ص61
(2) ابن رجب " ذيل طبقات الحنابلة " ج 1 ص40
(3) المرجع السابق ج 2 ص377(1/125)
كما أن البربهارى ذُكر أنه كان يسكن باب محول وهو في الجانب الغربي ولا شك أن في ذلك علامة على ساكني هذه المحلات ، ولا يمكن القول أن ذلك ليس بعلامة فإن الفتن وضعف السلطان تدفع الإنسان بلا ريب لمحلة أهله وأنصاره طلباً للسلامة ، وهذا مما يعرف بداهة .
وذكر ياقوت الحموي ( ت 626هـ ) في معجم البلدان عند ذكر الكرخ :" وكانت محلة الكرخ أولا في وسط بغداد والمحال حولها فأما الآن فهي محلة مفردة في وسط الخراب وحولها محال إلا أنها غير مختلطة بها فبين شرقها والقبلة محلة باب البصرة وأهلها كلهم سنية حنابلة لا يوجد غير ذلك ، وبينهما نحو شوط فرس ، وفي جنوبها المحلة المعروفة بنهر القلائين وبينهما أقل مما بينهما وبين باب البصرة وأهلها أيضا سنية حنابلة وعن يسار قبلتها محلة تعرف بباب محول وأهلها سنية وفي قبلتها نهر الصراة وفي شرقيها نصب بغداد ومحال كثيرة وأهل الكرخ كلهم شيعة إمامية لا يوجد فيهم سني البتة " (1) .
قلت وهذا في زمانه .
وقال السمعاني : "باب الأزج محلة كبيرة ببغداد وكان منها جماعة كثيرة من العلماء والزهاد والصالحين وكلهم إلا ما شاء الله على مذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنه " (2)
كذلك نقل في الطبقات لأبي يعلى قول ابن البقال في حضرة الوزير ابن حاجب النعمان : الخلافة خيمة والحنبليون أطنابها (3).
وقد روى ابن الجوزي عن عبد الواحد بن عبد العزيز التميمي قال سمعت المطيع - أول خلفاء بني العباس زمن البويهيين - وقد أحدق به خلق كثير من الحنابلة حزروا ثلاثين ألفاً فأراد أن يتقرب إليهم فقال سمعت شيخي ابن بنت منيع يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول إذا مات أصدقاء الرجل ذل " (4) .
__________
(1) ياقوت الحموي " معجم البلدان " ج4 ص448
(2) السمعاني " الأنساب " ج 1 ص 197
(3) ابن أبي يعلى " طبقات الحنابلة " ج 3 ص 350
(4) ابن الجوزي " المنتظم " ج 6 ص344(1/126)
قلت والخبر على ما فيه من مبالغة مؤكد لما سبق والراجح أن المطيع قاله قبل تولي الخلافة ، إذا أنه من المعلوم أن الخليفة لم يكن ليختلط بالناس .
كما ذكر في حوادث سنة أربعين وأربعمائة أنه وقعت فتنة بين الحنابلة والأشاعرة وكلاهما ينسبان إلى أهل السُنة فقال ابن كثير " فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة بحيث أنه لم يكن لأحد من الأشاعرة أن يشهد الجمعة والجماعات "(1)
قلت وكل هذه الدلائل تدل على أن جماهير أهل السُنة في بغداد كانت تدين بالمذهب الحنبلي رغم وجود المذاهب الفقهية كالأحناف والشافعية والظاهرية ، غير أنه من الملاحظ أن الشافعية كانت آخذه في النمو لكن علاقاتهم بالحنابلة كانت أقوى من علاقة الحنابلة بالأحناف الذين كان الاعتزال قد بدأ يتغلغل بينهم وهو ما دل عليه استتابة الخليفة القادر للفقهاء والأحناف من الاعتزال في ثمان وأربعمائة ، وكما ذُكر عند ترجمة عدد من فقهائهم كأبي الحسن الكرخي وأبي القاسم التنوخي نعتوا بكونهم رؤوسا في الاعتزال ، أما العناصر البارزة في المذهب الشافعي في هذه الفترة كأبي حامد الاسفرائيني وتلاميذه ومنهم اللالكائي مؤلف شرح أصول اعتقاد أهل السُنة فقد كان مذهبهم العقدي على مذهب السلف مما جعلهم والحنابلة في خندق واحد أمام الرافضة والمعتزلة وما حادثة أبي حامد مع الرافضة والتي سنذكرها لاحقا ببعيد .
………
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج12 ص66(1/127)
عقب هذه المقدمات ومع أوائل القرن الرابع كان العالم الإسلامي يئن من سيطرة الرافضة و رافق ذلك انهيار الجبهة الشمالية للمسلمين حتى أخذ الروم حلب سنة351 هـ وكانوا قبل أوقعوا بأهل طرسوس وسروج وآمد وميافارقين وغيرها من مدن الثغور وقتلوا من المسلمين أعداداً ونهبوا واستباحوا حرمات المسلمين فكان المسلمون في حلب بين عدوين الروم من الخارج وشرطة الحمدانيين وهم من الرافضة في الداخل " يقول ابن الأثير " أنه حدث خلال حصار الروم " إن رجالة الشرط بحلب قصدوا منازل الناس وخانات التجار لينهبوها فلحق الناس أموالهم ليمنعوها فخلا السور منهم فلما رأى الروم السور خالياً من الناس قصدوه وقربوا منه فلم يمنعهم أحد فصعدوا إلى أعلاه فرأوا الفتنة قائمة في البلد بين أهله فنزلوا وفتحوا الأبواب ودخلوا البلد بالسيف يقتلون من وجدوا ولم يرفعوا السيف إلى أن تعبوا وخرجوا " (1) .
أما ابن كثير فكان أكثر وضوحاً وصراحة في تحليله ما حدث يقول "فلما جن الليل جد المسلمون في إعادتها ـ ثلمة في السور ـ فما أصبح الصباح إلا وهي كما كانت وحفظوا السور حفظاً عظيماً ثم بلغ المسلمون أن الشرط و البلاحية قد عاثوا في داخل البلد ينهبون البيوت فرجع الناس إلى منازلهم يمنعوها منهم قبحهم الله ، فإنهم أهل شر وفساد ، فلما فعلوا ذلك غلبت الروم على السور فعلوه ودخلوا البلد يقتلون من لقوه ، فقتلوا من المسلمين خلقاً كثيراً وانتهبوا الأموال وأخذوا الأولاد والنساء ، قال " وأقاموا في البلد تسعة أيام يفعلون فيها الأفاعيل الفاسدة العظيمة ، وكل ذلك بسبب فعل البلاحية والشرط في البلد قاتلهم الله ، وكذلك حاكمهم ابن حمدان كان رافضياً يحب الشيعة ويبغض أهل السُنة فاجتمع على أهل حلب عدة مصائب " (2) .
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص514
(2) ابن كثير " البداية والنهاية "ج 11 ص240(1/128)
قلت وابن حمدان هو سيف الدولة ممدوح الشاعر المتنبي وله شهرة بسبب هذا المدح ، وقد وصفه ابن كثير رحمه الله بأنه كان قليل الصبر أمام الروم ، وفي عهده انهارت هذه الجبهة .
ومن أبرز ما يصور هذا الأوضاع التي عاشها العالم الإسلامي القصيدة التي أوردها ابن كثير نقلاً عن ابن عساكر و التي أرسلها ملك الأرمن نقفور -المتوفى سنة 352هـ وقيل سنة 358هـ - إلى الخليفة العباسي المطيع مع ذكر رد ابن حزم ـ رحمه الله -عليها والقصيدة تعكس حال الخلافة العباسية آنذاك ننقل منها ما يبلغ مرادنا و قصيدة الروم(1)
__________
(1) * قلت ولعل القصيدة الأرمنية منحولة كتبها أحد شعراء أهل السُنة من غاضته الأحوال وأوتره مقتل المسلمين في الثغور وتسلط الرافضة في بغداد وما حولها ، فكتبها على لسان الأرمن ولم يطلع عليها نقفور أو أحد من أهل الأرمن ، ودلالة ذلك ما فيها من تحليلٍ قريبٍ من الواقع لأحوال المسلمين ، ومافيها مما لا يمكن للأرمن أن يقبلوه لو أنهم أرسلوا القصيدة فمن ذلك ادعاء الشاعر أن نصر الأرمن لم يأت إلا بجور ولاة المسلمين و إعلان المنكرات وهذا صحيح من وجهة نظر أهل الإسلام غير أنه لا يصح من وجهة نظرهم .
أما رد ابن حزم فلا يقتضي صحة التسمية فإنه مغربي بعيد زمانا ومكانا وردته القصيدة كما انتشرت عند أهل الشرق فرد عليها انتصاراً لحميته الدينية .وقول ابن كثير محمول على أنه صحت النسبة عنده فقد نقلها من ابن عساكر الذي نقلها عن صلة الصلة للفرغاني .
ويضعف هذا الشك ما نقله ابن الأثير عن نقفور أن أباه كان عربيا مسلما من أهل طرسوس يعرف بابن الفقاص تنصر وكان ابنه حسن التدبير فعظم أمره "607/8 ، لكنه لعنه الله كان من أشد ملوكهم إضرارا بأهل الإسلام فإن صح ذلك لم يستبعد أن يكون كتبها أو أمر بكتابتها انطلاقا مما كان يعرفه . مع ذلك فالقول الأول بالشك بنسبتها أقوى والله أعلم . ورغم ذلك كله وإن كانت القصيدة مشكوك في نسبتها للروم أو غير مشكوك إلا أنها تعبر بوضوح عن وجهة المعارضة السنية المكبوتة .(1/129)
مطلعها :
من الملك الطهر المسيحي مالك ... إلى خلف الأملاك من آل هاشم
إلى الملك الفضل المطيع أخي العلا
وفيها ... ومن يرتجى للمعضلات العظائم
ألا شمروا يا أهل بغداد ويلكم ... فلكم مستضعف غير رائم
رضيتم بحكم الديلمي ورفضه ... فصرتم عبيداً للعبيد الديالم
نصرنا عليكم حين جارت ولاتكم ... و أعلنتمو بالمنكرات العظائم
فعيسى علا فوق السموات عرشه ... يفوز الذي والاه يوم التخاصم
وصاحبكم بالترب أودى به الثرى ... فصار رفاتا بين تلك الرمائم
تناولتم أصحابه بعد موته ... بسب وقذف وانتهاك المحارم
قال ابن كثير آخرها : لعن الله ناظمها وأسكنه النار (1).
وقد أورد كذلك قصيدة ابن حزم وفيها :
دعوت إماماً ليس من أمرائه ... بكفيه إلا كالرسوم الطواسم
دهته الدواهي في خلافته كما ... دهت قبله الأملاك دهم الدواهم
……
……قال الذهبي : وضاع أمر الإسلام ببني بويه وبني عبيد الرافضة وتركوا الجهاد وهاجت نصارى الروم وأخذوا المدائن وقتلوا وسلبوا "(2)
قال ابن كثير في انهيار الجبهة الشمالية أمام الروم " وذلك لتقصير أهل ذلك الزمان وظهور البدع الشنيعة فيهم وكثرة العصيان من الخاص والعام منهم وفشو البدع فيهم وكثرة الرفض والتشيع منهم وقهر أهل السُنة بينهم فلهذا أديل عليهم أعداء الإسلام فانتزعوا ما بأيديهم من البلاد مع الخوف الشديد ونكد العيش والفرار من بلاد إلى بلاد فلا يبيتون ليلة إلا في خوف من قوارع الأعداء وطوارق الشرور المترادفة فالله المستعان "(3) .
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 11 ص244
(2) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 16 ص232
(3) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 11 ص243(1/130)
…وقال في موضع آخر " وامتلأت البلاد رفضاً وسباً للصحابة من بني بويه وبني حمدان والفاطميين وكل ملوك مصراً وشاماً وعراقاً وغير ذلك من البلاد كانوا رفضاً وكذلك الحجاز وغيره وغالب بلاد المغرب تكثر السب والتفكير منهم للصحابة" (1) ، وكان جوهر الصقلي قائد المعز العبيدي قد نجح في احتلال مصر سنة 358 هـ والشام سنة 359 هـ قال ابن كثير :" واستقرت يد الفاطميين على دمشق في سنة 360 كما سيأتي وأذن فيها وفي نواحيها بحي على خير العمل أكثر من مئة سنة وكتب لعن الشيخين على أبواب الجوامع وأبواب المساجد فإنا لله وإنا إليه راجعون " (2) .
[معز الدولة وبذور الفتنة]
كما سبق القول فإن بدايات القرن الرابع الهجري شهدت نشاطات كثيرة للأسر والممالك الرافضية ، وكان أبرز النجاحات التي حققوها دخول معز الدولة البويهي بغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة . وكان جيشه مكوناً من الديلم و الأتراك وكانت أولى الإجراءات خلع الخليفة المكتفي وتوليه المطيع وكان هذا الإجراء متوقعاً ولم يكن هناك من سبب ظاهر لعملية الاستبدال هذه سوى أن المكتفي صنيعة عصر سابق واحتيج إلى صنيعة جديدة (3) .
وقد تردت أحوال الخلافة العباسية طوال فترة حكم البويهيين وفقدت السيطرة على الموارد المالية التي أصبحت في يد السلطان ، يقول ابن كثير " وضعف أمر الخلافة جداً حتى لم يبق للخليفة أمر ولا نهي ولا وزير أيضاً وإنما يكون له كاتب على إقطاعه وإنما الدولة ومورد المملكة ومصدرها راجع إلى معز الدولة "(4)
__________
(1) المرجع السابق ج 11 ص233
(2) المرجع السابق ج 11 ص 267
(3) جاء عند ابن العمراني أن سبب هذا العزل مؤامرة دبرتها عكم القهرمانة - وكانت متحكمة بأمور الخلافة -لقتل معز الدولة ص 176
(4) ابن كثير " البداية والنهاية " ج11 ص212(1/131)
ويعزو ابن الأثير هذا الضعف ويقول " وكان من أعظم الأسباب في ذلك أن الديلم كانوا يتشيعون ويغالون في التشيع " (1) .
وكذا يرى ابن كثير أن بني بويه ومن معهم من الديلم كان فيهم تعسف شديد وكانوا يرون أن بني العباس قد غصبوا الأمر من العلويين " (2) .
وكان من الطبيعي أن يتطرق ملوك بني بويه إلى التفكير في إزالة الخلافة العباسية ذات الصبغة السنية وإيجاد خلافة علوية ذات صبغة شيعية ويذكر ابن كثير أن معز الدولة عزم على ذلك إلا أن رجلاً سديد الرأي - كما يصفه ـ صرفه عن ذلك بحجة أن هذا خليفة ترى أنت وأصحابك أنه غير صحيح الأمارة حتى لو أمرت بقتله قتله أصحابك ولو وليت رجلاً من العلويين اعتقدت أنت وأصحابك ولايته صحيحة فلو أمرت بقتله لم تطع بذلك ولو أمر بقتلك لقتلك أصحابك " (3) .
ويقال أن معز الدولة رجع عن ذلك بسبب هذا ، وهي كما مر بنا حيلة قديمة ذُكر أنها ردت المأمون و المعتضد قديما عن قصدهما لعن معاوية ، غير أنه لا يمكن الحكم بأنها كانت العامل الوحيد في هذا التراجع بل لعل الخشية من اضطراب أهل السُنة في بغداد وغيرها كان مطروحا في الأوساط البويهية ، وقد جاء في كتب التاريخ في حوادث سنة 343 هـ كما عند ابن الجوزي أنه عرض لمعز الدولة مرض فأرجف به فاضطربت بغداد اضطرابا شديدا واضطر إلى الركوب مع علته حتى رآه الناس فسكنوا " (4) .
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص452
(2) ابن كثير " مرجع سابق " ج11 ص212
(3) المرجع السابق ج 11 ص 213
(4) ابن الجوزي " المنتظم " ج 6 ص 375(1/132)
وأورد الهمذاني صاحب التكملة الأمر مفصلا وسمى سديد الرأي منعوت ابن كثير فقال " وعزم معز الدولة أن يبايع أبا الحسن محمد بن يحيى الزيدي العلوي فمنعه الصيمري على ذاك وقال إذا بايعته استنفر عليك أهل خراسان وعوام البلدان وأطاعه الديلم وقبلوا أمره فيك ، وبنو العباس قوم منصورون تعتل دولتهم مرة وتصح مرارا وتمرض تارة وتستقل أطوارا لأن أصلها ثابت وبنيانها راسخ فعدل معز الدولة عن تعويله " (1) .
قلت وكلامه عن استنفار أهل خراسان مشكل ، فإن أهل خراسان سنة كان حجاجهم يردون بغداد ويعينون أهل السُنة فيها ، وكانت خلافة بني العباس معظمة عندهم وقد مر بنا سابقاً أن يحيى بن أكثم قد حذر المأمون عند رغبته الأمر بلعن معاوية نفرة أهل خراسان ، والزيدي المذكور لم يكن له استنفارهم والراجح أن الصيمري حذّر من موقف أهل خراسان وعوام البلدان وهم في الأكثر من السُنة ، ثم أردف ذلك بتقديم طاعة الديلم وهم من الشيعة للزيدي على معز الدولة ، وقد فهم هذا محقق العيون والحدائق عمر السعيدي فقال في الهامش إن معز الدولة عزم على مبايعة أبي الحسن الزيدي فرده الصيمري وحذره نفور أهل خراسان عنه " (2) ، وقد جاء في الحدائق ما يفيد أن الأمر قد بُحث على نطاق واسع فقد ذكر المؤلف عن الراوي ( ذكا ) قال : لما قبض المستكفي لم يختلجني شك في أن الخليفة قد قتل وأن القوم قد عزموا على الاستبدال بولد العباس بسواهم فقلت لأبي الفضل سيجلسون في الخلافة علويا فقال ليس لهذا أصل ولا يقعد إلا عباسي فقلت من أين لك هذا فقال قد تناهى إلي من خبرهم شيء قبل اليوم " (3) .
__________
(1) الهمذاني " التكملة " ص354
(2) مؤلف مجهول " العيون والحدائق ج 4 ص37
(3) المرجع السابق ج 4 ص 171(1/133)
وقد كان هذا التراجع حفظا للشأن السياسي لدولته وتضحية بالشأن الديني الذي كان يعتقده ، كما عمد معز الدولة بعد ذلك إلى عدد من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية فتخلص من عبء أرزاق جنوده عبر إقطاعهم البلاد ثم قام بعدد من إجراءات إلهاء الناس والعوام في بغداد بالرياضات المختلفة كالجري و السباحة والمصارعة والملاكمة وقد أورد ابن الأثير ما يدل على انجرار الناس إلى هذه الإجراءات الإلهائية فقد ذكر تعصب أهل السُنة لأحد السعاة وتعصب الشيعة للآخر " (1) .
ومما ساهم في إنجاح هذه السياسات ما اجتاح بغداد قبل وبعد دخول البويهيين لها من غلاء وفناء حتى أنهم كما يذكر ابن كثير أكلوا الميتة والسنانير والكلاب وكان من الناس من يسرق الأولاد فيشويهم و يأكلهم وكثر الوباء في الناس حتى كان لا يدفن أحد أحداً بل يتركونه على الطرقات فيأكل كثيراً منهم الكلاب وبيعت الدور والعقار بالخبز " (2) .
ولم يتسنَ لمعز الدولة أن يظهر كافة سياساته في بغداد بسبب انشغاله في حروب جانبية مستمرة مع عمران بن شاهين صاحب البطيحة في الجنوب وبني حمدان في الموصل . كما أن ضعف الموارد المالية لمعز الدولة ساهم في ذلك فقد ذُكر أنه وأصحابه أخذوا من أموال التجار في بغداد ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار .
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج8 ص576 .
ويعلق ابن كثير رحمه الله على ذلك قال : " وأعجبه المصارعون والملاكمون وغيرهم من أرباب هذه الصناعات التي لا ينتفع بها إلا كل قليل العقل فاسد المروءة " ثم قال "وكل ذلك رعونة وقلة عقل وسخافة منه " ج11 ص213.
قلت وقول ابن كثير مخرجه ديانته رحمه الله ، لكن الأمر عند معز الدولة سياسي لإشغال الناس في بغداد واستهلاك أوقاتهم وإبعادهم عن الأنشطة المقلقة للدولة خصوصاً في مدينة كبغداد يعرف فيها الناس بالمسارعة إلى الاشتراك في الاضطرابات السياسية .
(2) المرجع السابق ج 11 ص213(1/134)
وفي سنة ثماني وثلاثين أي بعد أربع سنوات من السيطرة الرافضية على بغداد يذكر المؤرخون وقوع فتن في شهر ربيع الأول بين الشيعة والسُنة ونهب فيها الكرخ والفتنة المذكور وقوعها في شهر ربيع الأول هي أولى الحلقات في سلسلة طويلة من الفتن التي ستنشب في بغداد وغيرها بين السُنة والشيعة ، ولا شك إنها إحدى إفرازات التواجد الرافضي المتزايد على صعيد عدد السكان مما أوجد نوعاً من الشعور بالقوة في وجه أعداد السُنة في بغداد ووازن عدم التناسب السكاني وجود السلطان في صف الشيعة و لم تذكر المصادر التي ذكرت الخبر سبب هذه الفتنة لكن من المرجح أنها لم تكن بسبب ما يفعله الرافضة من النواح في عاشورا ولا مظاهر الفرح في غدير خم وهو في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة فإنها لم تعرف بعد ولم يكن الشيعة يفعلونها فقد ذكر أنها كانت في شهر ربيع الأول والذي أميل إليه أنها اشتباك جانبي بين عدد من أهل الكرخ من الرافضة ومن يجاورهم من أهل السُنة ، وقد استغلت من قبل بعض المنتفعين في نهب الكرخ حيث تجار بغداد ، غير أنه من المعتقد أنها كانت طفيفة باعتبار وصف المؤرخين لها فقد ذكر ابن الجوزي وعنه ابن كثير أنها " فتنة " ولم يصفوها بكونها عظيمة أو كبيرة أو أن أحدا قتل أو جرح فيها كما سنرى في ما يلي من ذلك لاحقاً ، ثم يذكر ابن الجوزي سنة أربعين فتنة أخرى بسبب المذهب و يزيد بوصفها بأنها عظيمة وكانت في شهر رمضان (1) ثم بعد وفي سنة 346 يذكر ابن كثير حدوث فتنة بين أهل الكرخ وأهل السُنة بسبب السب فقتل من الفريقين " (2) .
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 6 ص369
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 11 ص232(1/135)
…كما حدث سنتي ثمان وأربعين وثلاثمائة وتسع وأربعين وقوع فتنتين إحداهما في جمادى الأولى والأخرى في شعبان ولا جديد فيها غير ما ذكره ابن الأثير حيث عزا الفتنة إلى عامة بغداد ولم يفصل تفصيل ابن الجوزي وهذا مما يلاحظه القاري عليه فإن يتجنب في الغالب أن يذكر أطراف الفتنة بالاسم فلا يقول بين السُنة والشيعة بل تراه يقول " العامة " أو بين أهل باب البصرة و الكرخ (1)
__________
(1) قلت لعله يجد في نفسه حرجاً من تشيعه الذي يظهر في كتابه واضحاً فإنك لا تجده أبداً يسميهم بالروافض والرافضة ، و تجد في كلامه عن أبي يعلي بن الفراء الحنبلي غضا قال " ومما أنكر العلماء على أبي يعلي بن الفراء الحنبلي ما ضمنه في كتابه من صفات الله سبحانه وتعالى والمشعرة بأنه يعتقد التجسيم " 460/9
بينما هو شافعي شديد الدفاع عن شافعيته فمن ذلك ما ذكره عن القاضي التنوخي قال " وكان حنفي المذهب شديد التعصب على الشافعي يطلق لسانه فيه قاتله الله "15/ 9 .
قلت و مطلقو ألسنتهم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالدعاء عليهم بالقتل من القاضي التنوخي وأصحاب رسول الله أولى بالدفاع عنهم من الشافعي رحمه الله .
وقد تكلم في الوزير أبي الفضل الشيرازي فقال كان مضيعاً لجانب الله فمن ذلك أنه أحرق الكرخ ببغداد " وذلك أن صاحب المعونة قتل عامياً فثار به العامة والأتراك فهرب ودخل دار بعض الأتراك فأخرج منها مسحوباً وقتل وأحرق وفتحت السجون فأخرج من فيها فركب الوزير أبو الفضل لأخذ الجناة وأرسل حاجباً له يسمى صافياً في جمع لقتال العامة بالكرخ وكان شديد العصبية للسنة فألقى النار في عدة أماكن من الكرخ فاحترق حريقاً عظيماً " ج 8 ص 628 . ولا أدري ما مغزى الإشارة إلى التعصب
أما ابن الجوزي فيذكر خلافا لابن الأثير أن الكرخ هو المكان الذي حدثت فيه الجريمة التي ترتب عليها ردة فعل صاحب المعونة فيقول " قتل رجل من صاحب المعونة في الكرخ " ج7 ص60…
كذلك فإن ركن الدولة البويهي الذي صادر أهل أصبهان بأموال كثيرة لإنكارهم سب الصحابة ، نجد ابن الأثير يطريه إطراء بالغا ويقول كان حسن السياسة لرعاياه وجنده رؤوفا بهم عادلا في الحكم بينهم وكان بعيد الهمة متحرجا من الظلم مانعا لأصحابه منه " ج 8 ص670 ، ومعز الدولة أخذ على أهل بغداد كما يذكر ابن الأثير نفسه عشرة ألف دينار وأمر بالبدع ونصر الرافضة ،ومع ذلك يثني عليه ابن الأثير ويقول " كان حليماً كريماً عاقلاً " ج 8 ص57(1/136)
… وفي سنة 349 يذكر ابن الأثير وفي خامس شعبان كان ببغداد فتنة عظيمة بين العامة وتعطلت الجمعة من الغد لاتصال الفتنة في الجانبين سوى مسجد براثا فإن الجمعة تمت فيه وقبض على جماعة من بني هاشم اتهموا أنهم سبب الفتنة ثم أطلقوا من الغد " (1) ، وهي حادثة لم يعرج ابن كثير على ذكرها وتعبير بني هاشم مر بنا وسيمر وهو يعني الأسر غير الحاكمة من العباسيين .
بعد دخول سنة خمسين وثلاثمائة أي بعد ست عشرة سنة من دخول معز الدولة لبغداد بدا أن الأمر توطد للبويهيين وشعروا بالثقة فبدؤوا في الإجراءات التي تدل على امتلاكهم للأمر ، وأول هذه الإجراءات شروع معز الدولة في بناء دوره وقصوره في بغداد ، وبدأ من ذلك الحين في كشف وجهه و إعطاء بغداد وجهاً شيعياً ، إذ يذكر المؤرخون أنه في سنة 351 هـ كتب العامة على مساجد بغداد لعن معاوية ، قال ابن الجوزي ولم يمنع معز الدولة من ذلك وبلغه أن العامة قد محوا هذا المكتوب فأمر أن يكتب لعن الله الظالمين لآل محمد من الأولين والآخرين والتصريح باسم معاوية في اللعن فكتب ذلك " (2) .
أما ابن الأثير فيقول " وفي ربيع الآخر كتب عامة الشيعة ببغداد بأمر معز الدولة على المساجد ما هذه صورته " لعن الله معاوية بن أبي سفيان ولعن من غصب فاطمة رضي الله عنها فدكاً ومن منع من أن يدفن الحسن عند قبر جده عليه السلام ومن نفى أبا ذر الغفاري ومن أخرج العباس من الشورى " قال فأما الخليفة فكان محكوماً عليه لا يقدر على المنع وأما معز الدولة فبأمره كان ذلك ، فلما كان الليل حكه بعض الناس فأراد معز الدولة إعادته فأشار عليه الوزير أبو محمد المهلبي بأن يكتب مكان ما محي : لعن الله الظالمين لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يذكر أحد في اللعن إلا معاوية ففعل ذلك " (3) .
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج 5 ص533
(2) ابن الجوزي " المنتظم " ج 7 ص8
(3) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص543(1/137)
أما ابن كثير فيقول " وفيها كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد لعنة معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وكتبوا أيضاً ولعن الله من غصب فاطمة حقها وكانوا يعنون أبا بكر ومن أخرج العباس من الشورى يعنون عمر ـ ومن نفى أبا ذر يعنون عثمان ـ رضي الله عن الصحابة ، وعلى من لعنهم لعنة الله ، ولعنوا من منع من دفن الحسن عند جده يعنون مروان بن الحكم ، ولما بلغ ذلك جميعه معز الدولة لم ينكره ولم يغيره ثم بلغه أن أهل السُنة محوا ذلك وكتبوا عوضه لعن الله الظالمين لآل محمد في الأولين والآخرين والتصريح باسم معاوية في اللعن فأمر بكتب ذلك قبحه الله وقبح شيعته من الروافض " (1) .
وبقراءة الروايات التي نقلت أمر الكتابة على المساجد يلاحظ فيها أن ابن الأثير هو الوحيد الذي ذكر أن هذه الكتابة كانت بأمر معز الدولة وهو الأمر المتوقع ،كما أن رواية ابن الأثير أكثرها تفصيلاً فهو الذي أرجع الصيغة المعدلة للعن إلى الوزير أبي محمد المهلبي وأنها بإشارته وهي صيغة لو تجنبت التصريح بلعن معاوية لحملها أهل السُنة والشيعة كلٌ على ما يراه . أما رواية ابن كثير فهي أكثر تفسيراً إلا أن ما يفهم من قول ابن كثير أن أهل السُنة قد كتبوا الصيغة المعدلة عوضاً عن الصيغة الأولى لا يصح ، إذ من المستبعد أن يكتب أهل السُنة التصريح بلعن معاوية لذا فإشارة ابن الأثير لدور الوزير المهلبي أصح .
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج11 ص241(1/138)
ولا شك أن خطوة معز الدولة هذه كانت خطوة مهمة إلى الأمام في سياسة إضفاء الصبغة الشيعية على بغداد هذه المدينة ذات الأغلبية السنية ولا شك أن قراءته لموازين القوى دفعته لمثل هذا التصرف ، وأنه قصد استمزاج ردة فعل أهل السُنة من جراء ذلك إذ أنه من المؤكد أن الكتابة كانت في مساجد أهل السُنة الكبيرة ولم يبطء الرد فقد قام بعض أهل السُنة بحكه خفية ، وردة الفعل هذا كانت متوازنة مع المعطيات الجديدة لميزان القوى في بغداد فلم تنشأ فتن ومطالبات من أهل السُنة أو اضطرابات كبيرة ، بالنظر إلى كون السلطة البويهية الحاكمة خلف هذا الإجراء ، غير أن السلطة بعد حكه لم تعمد إلى إعادة كتابته بل كتبت عبارات أقل جرحاً لمشاعر أهل السُنة ، لكن هذا التراجع كان بلاشك مؤقتاً وممهدا في الوقت نفسه لإجراءات أكثر عرضة للاصطدام بأهل السنة ، وهو ماحدث في العالم التالي التي خطا معز الدولة فيها خطوة متقدمة في سبيل تحقيق هدفه تحويل وجه بغداد إلى وجه تملؤه ندوب التشيع ، فقد ذكر ابن الجوزي أنه في اليوم العاشر من محرم غلِّقت الأسواق ببغداد وعطل البيع ولم يذبح
القصابون ولا طبخ الهراسون ولا ترك الناس أن يستقوا من الماء ونصبت القباب في الأسواق وعلقت عليها المسوح وخرج النساء منتشرات الشعور يلطمن في الأسواق وأقيمت النائحة على الحسين " (1) .
أما ابن الأثير فقال " وفي هذه السنة عاشر المحرم أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء وأن يظهروا النياحة ويلبسوا قباباً عملوها بالمسوح وأن يخرج النساء منتشرات الشعور مسودات الوجوه قد شققن ثيابهن يدرن في البلد بالنوائح ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي رضي الله عنهما ففعل الناس ذلك فلم يكن للسنة قدرة على المنع لكثرة الشيعة ولأن السلطان معهم " (2) .
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 7 ص15
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص549(1/139)
أما ابن كثير فقد نقل رواية ابن الأثير بنصها .
وكان هذا الأمر من معز الدولة في أول السنة ، وفي آخرها وفي الثامن عشر من شهر ذي الحجة أمر أمراً آخر في نفس السياق فقد ذكر ابن الأثير أنه " في ثامن عشر أمر معز الدولة بإظهار الزينة في البلد وأشعلت النيران بمجلس الشرفية وأظهر الفرح وفتحت الأسواق بالليل كما يفعل ليالي الأعياد ، فعل ذلك فرحاً بعيد الغدير يعني غدير خم وضربت الدبادب والبوقات وكان يوماً مشهوداً " (1) . وذكر ابن كثير هذه الرواية ووصفها بأنها"بدعة شنيعة ظاهرة منكرة " وزاد صاحب التكملة زيادة ذات معنى فقال عند الحديث عن غدير خم " وبكر المتشيعون إلى مقابر قريش و صلوا هناك "(2) .
قلت وظاهرة النياحة (3)
__________
(1) المرجع السابق ج 8 ص550
(2) الهمذاني " التكملة " ص400
(3) * ويذكر التونسوي صفة هذه النياحة الموسمية في زمنه ننقلها مختصرة قال ورد في العشر الأول من محرم كل عام معتقدين أنها من أجل القربات فيضربون خدودهم بأيديهم وصدورهم وظهورهم ويشقون الجيوب يبكون ويصيحون بهتافات يا حسين .. يا حسين ، وخاصة في اليوم العاشر من كل محرم فإن ضجيجهم المليء بالويلات يبلغ أوج الكمال ويخرجون في ذلك اليوم مترابطين متصافين يحملون قبة الحسين ( التابوت ) المصنوعة من الخشب ونحوه ويقودون خيلاً مزيناً بسائر الزينة يمثلون به حالة الحسين في كربلاء بفرسه وجماعته ويستأجرون عمالاً بأجور ضخمة ليشتركوا معهم في هذا الضجيج والفوضى ويسبون أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ويتبرءون منهم "ص 101 .
قلت وهذا الوصف لها في زمنه .
وقد وصفها الباحث اللبناني رالف رزق الله في كتابه المثير عن هذا المأتم الموسمي والذي سماه ( يوم الدم ) وقد وصف هذه الشعيرة الشيعية بما شملته في الأيام العشر السابقة لعاشوراء والتي تتكون من مجالس التعزية وطواف اللطّامين الذي يبلغ دورته في يومه الأخير يقول " تزداد ضراوة الضربات التي يسددها الضريبة وتتضرج الوجوه والأيدي بالدماء " 112
قلت وهذا كله تطور عن الشكل الأول الذي اخترعه معز الدولة في بغداد ، إذا لم يرد أن الاحتفال يستمر أياما إنما يقع في اليوم العاشر من محرم ، غير أنه وللطبيعة المفتوحة للمذهب الشيعي فإن الزيادة في الأعمال والاعتقاد مستمرة دون ضابط من أصل أو عقل ، كما أن طبيعة المأتم في بغداد تختلف عنه في نسخته المطورة في العصور المتأخرة ، ففي بغداد كان هذا الموكب المأتمي يقتصر على البكاء والنواح ثم زيارة المشاهد ويتخلل ذلك التعبير عن عقيدة السب والشتم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما اللطم والضرب وخلافه فالراجح أنه لم يفعل .
ولا شك أن طبيعة المذهب الشيعي البكائية والتي تشبه فكرة الخطيئة عند النصارى دور في نشوء هذا الطقس كما يقول رالف رزق الله ناقلاً أقوال عدد من الباحثين الغربيين قال : " لقد لاحظ كالمار ـ باحث غربي ـ بحق أن التشيع مطبوع في أعماقه بالتشاؤم ، واستشهد بكوربان الذي يقارن بين الحزن الخفي الهائل في هذا المذهب وبين اليأس المطبق الخاص بالمذهب اللوثري ، ويذهب إلياس كانيتي إلى حد وصف التشيع بأنه مذهب مأتمي فيقول " ما من دين شدد بهذه القوة على الألم ، وهذا الألم هو المأثرة العظمى التي تفوق كثيراً كل عمل حسن آخر ، الأمر الذي يجيز لنا الكلام عن مذهب مأتمي جنائزى " 74 .
قلت ولا علاقة لهذه الروح البتة بالإسلام بتعاليمه السمحة فإنه مما تقرر عند أهل الديانة والأمانة من المسلمين أن الخطيئة لا تنتقل عبر الأجيال ، والحسين رضي الله عنه والذي قتل مظلوماً لم يلحق المسلمين من دمه شيء قال جل وعلا " ولا تزر وازرة وزر أخرى " وقال تعالى " كل نفس بما كسبت رهينة "
أما ورد عند أهل السُنة وعليه العمل أن الميت يعذب ببكاء أهله فمعناه أنه إن حسّن لهم الفعل قبل موته ولم ينههم ولم يعلّمهم الصبر في المصائب فإنه يأثم بذلك .
ولا شك أن هذه الطقوس لابد أن تصطدم بالعقلاء من بعض أتباع هذا المذهب ، كما ذكر عن محسن الأمين وهو من علمائهم في كتابه المجالس السنية والذي نقله عنه رزق الله قوله أن " اللطم من عمل الشيطان "
كما أورد رزق الله كذلك محاولة عدد من شباب الرافضة لوقف هذه الطقوس أو إعادة النظر فيها ويسميها المحاولة الإصلاحية والتي جرت سنة 1970
أما ما يقوله الدكتور خليل محمد خليل الأستاذ في الجامعة اللبنانية ومترجم كتاب ( يوم الدم ) من أن استذكار الحسين في يوم دمه هو ترميز لإمكان التغيير بالقوة بالدم إذا لزم الأمر " ص 13 فإنه محاولة للخروج من المأزق العقلي الذي يحيط بهذه الممارسة ، علما أنها نشأت في ظل سلطة شيعية مطلقة ولم يكن من داع لترميز إمكانية التغيير بالقوة ، بل إنها في ظل السلطات السنية الأولى لم تكن موجودة مع الحاجة إلى ترميز التغيير بالقوة على زعمه . وكل ما في الأمر أنها محاولة لتحسين وجه هذا المذهب أمام التيارات اليسارية التي ينتمي لها المؤلف والمترجم .(1/140)
التي تقام في العاشر من محرم حزناً على الحسين رضي الله عنه لم أجد التونسوي وهو يعدد عقائد الشيعة من كتبهم عزاها لأحد كتبهم المتقدمة بل نقل من كتبهم كمنتهى الآمال ومن لا يحضره الفقيه وتفسير الصافي وفروع الكافي ما يقتضي منعها وأنها تخالف المأمور به حتى عند الشيعة أنفسهم ، غير أن المذهب الشيعي مذهب مفتوح للاجتهادات التي تخالف الأصول العامة ، وهو من هذه الجهة ضعيف في الالتزام بهذه الأصول التي تنشأ عنها العقائد والعبادات ، خلافا للمذهب السني الذي تحكمه أصول وقواعد لا يمكن له تجاوزها (1) ، ولا شك أن معز الدولة قد سن للرافضة هذه السُنة الخبيثة فباء ـ نعوذ بالله من الضلال – بوزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، يقول رالف رزق الله : وفي عهد معز الدولة جرى في بغداد تنظيم أولى الاحتفالات الرسمية بذكرى عاشوراء " . قلت الرسمية وغيرها وهذا قول تؤكد عليها المعطيات التاريخية فلا أعرف مرجعاً ذكر إقامة مثل هذه الطقوس في العهود الإسلامية المتقدمة لا بصورة بسيطة ولا موسعة .
__________
(1) قد يعتبر بعض الكتاب المتحررين هذه الانفتاحية ميزة حسنة ، ويعتبرون موقف المذهب السني متشددا منغلقا ، إلا أن الحق - انطلاقا من كون الإسلام دينا سماويا – هو أن المحافظة على الصورة الأولى له أمر محمود عند العقلاء.(1/141)
أما ما ذكره التنوخي في النشوار قال :" كانت ببغداد نائحة مجيدة حاذقة تعرف بخلب تنوح بهذه القصيدة فسمعناها في دور بعض الرؤساء لأن الناس إذ ذاك كانوا لا يتمكنون من النياحة إلا بعز سلطان أو سرا لأجل الحنابلة " (1) ، فإن النياحة هنا هي ما كان يحدث خلال خروج الرافضة إلى الحائر للاحتفال بالنصف من شعبان كما ذكر في موضع آخر قال :" وكان هذا في شعبان والناس إذ ذاك يلقون جهدا جهيدا من الحنابلة إذا أرادوا الخروج إلى الحائر "(2) ، على هذا فهي ليست بالنياحة التي سنها معز الدولة ، ومنع الحنابلة المذكور الراجح أنه حدث سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة . وهذا الفعل من معز الدولة لم يكن مطلباً فقهياً كان الخوف وطلب السلامة يمنع من ظهوره ، ولا يمكن اعتباره مطلبا سياسيا ، إذ لا فائدة ترجى من ورائه بل هو مظنة الفتنة ولم تكن أي سلطة سياسية في حاجة إلى خلق بؤر للاضطرابات والفتن .
والمرجح لدي – والعلم بيد الله – أن هذا الإجراء كان مطلبا مذهبيا لخلق موسم خاص يحس فيه المنتمون لهذا المذهب بالتفافهم الاجتماعي لضمان عدم الذوبان في المحيط العام ، خصوصا وأن بنية المذهب الدينية والعقلية هشة ، وهذا عندي – إلى جانب طبيعة المذهب المفتوحة والتي سبق الحديث عنها – دفعت معز الدولة إلى إقامة هذه المآتم .
…بعد هذا الحديث عن هذه الممارسة الوثنية ، فإننا نعود إلى بغداد سنة إحدى وخمسين وثلاثمئة حيث لم تشهد تلك السنة أي موقف مضاد من الغالبية السنية في بغداد ، وأرجع ابن الأثير هذا الموقف السلبي من أهل السُنة لكثرة الشيعة ولأن السلطان معهم ، لكننا سنجد أن هذين العاملين لن يمنعا أهل السُنة من الاشتباك لاحقاً مع هذه المظاهر الشيعية ، وقوله بكثرة الشيعة نسبي فإنهم بالنسبة إلى السكان في بغداد كانوا أقلية .
__________
(1) التنوخي " نشوار المحاضرة " ج2 ص233
(2) المرجع السابق ج 2 ص232(1/142)
والحقيقة أنه من الصعب التعرف على خفايا موقف أهل السُنة في تلك السنة الذين لعلهم فوجئوا بمثل هذه المظاهر وهي جديدة ، ولم يتعرفوا على أبعادها ، لكنهم وبدءاً من السنة التالية سيقفون من هذه المظاهر موقفا معارضا مما يحول هذه المواسم إلى بؤرٍ لفتن لا تنقضي ، وسيكون أهل الكرخ أول من يصطلي بنارها ، ففي هذه السنة وهي سنة ثنتين وخمسين يذكر المؤرخون أن فتنة عظيمة وقعت بين السُنة والشيعة وتعبير ابن الجوزي يدل على اختلاف طبيعة هذا الاشتباك يقول ابن الجوزي " أنه عمل في عاشوراء مثل ما عمل في السنة الماضية من تعطيل الأسواق وإقامة النوح فلما أضحى النهار يومئذ وقعت فتنة عظيمة في قطيعة أم جعفر وطريق مقابر قريش بين السُنة والشيعة ونهب الناس بعضهم بعضاً ووقعت بينهم جراحات "(1) .
وذكرها ابن الأثير وابن كثير وزاد الأخير وقال " فاقتتل الروافض وأهل السُنة في هذا اليوم قتالاً شديداً " (2) .
ورواية ابن الجوزي تلفت انتباهنا لأمر مهم يدخل في طبيعة هذه الممارسات الشيعية في عاشوراء إذ تتضمن مسيرات نحو مقابر الشيعة ومشاهد أئمتهم وهي تقع في الشمال من الجانب الغربي فيما يعرف بمقابر قريش أو باب التبن كما سبق الذكر ، ومسيرات لهذه لابد أن تمر بمواقع أهل السُنة مع ما يرافق هذه المسيرات من مظاهر تمس عقائد أهل السُنة وتجرح مشاعرهم ، لذا كان من الطبيعي أن تنشأ هذه المنازعات ولوكانت هذه الطقوس تقوم في دائرة مكانية مغلقة لأمكن تلافي الكثير من هذه المنازعات والفتن .
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 7 ص31
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج11 ص253(1/143)
قلت : ونحن في حاجة إلى استجلاء موقف أهل السُنة من هذه المظاهر تاريخياً لا دينياً إذ موقف أهل السُنة دينياً واضح جلي . أما تاريخياً فإن لنا وقفة معه وأهل السُنة بلا ريب يضرهم الصمت إزاء هذا وينفعهم الإنكار ، وهم في موقف المعارض من هذه الممارسات المجاورة لهم والمارة بأحيائهم ملزمون بالإنكار و إلا فقد يخشى مع مرور السنوات وتتابع الشهوات أن تضيع الحدود بين أهل الحق والباطل ، فيغري ذلك سفهاء الناس للاشتراك فيها وقد تصبح طقوساً عامة خصوصاً وأن في الناس حب المهرجانات والاحتفالات ، وقد تعطي هذه المبادرة الشيعية المسكوت عنها وهجاً لدى بعض الجهال لما يراه من موقف الجانب الآخر فيميل لمذهب الرافضة ويعتنقه فيكثر أتباعه ، أما مع المخاصمة فإن شعوراً بالحاجة إلى الالتفاف يحفظ المذهب من الذوبان . وقد ألمح شيخ الإسلام إلى هذا عند حديثه عن أهل الأهواء وأثر ظهورهم وما أعجب إيراده – رحمه الله – للمعاني العجيبة قال :" ومع هذا فقد يكثر أهل هذه الأهواء في بعض الأمكنة والأزمنة حتى يصير بكثرة كلامهم مكافئا عند الجهال لكلام أهل العلم والسُنة حتى يشتبه الأمر على من يتولى أمر هؤلاء فيحتاج إلى من يقوم بإظهار حجة الله وتبيينها حتى تكون العقوبة بعد الحجة " (1).
ومن الإنصاف عدم تحميل أهل السُنة وزر هذه الفتن فإن فعلهم ما كان غير ردة فعل لم يكن من الممكن تجنبها وأما الوزر فعلى من اعتدى والله لا يحب المعتدين .
وقد ظلت الأمور على ما هي عليه طوال الفترة الممتدة بين 352 إلى 354هـ ، ولم يكن في أخبار المؤرخين ما يلفت النظر غير ما أورده ابن كثير من عمل الشيعة لمأتمهم سنة 354 هـ قال :" ثم تسلطت أهل السُنة فكبسوا مسجدهم مسجد براثاً الذي هو عش الرافضة وقتلوا من كان فيه من القومة " (2) ،
__________
(1) ابن تيمية " مجموع الفتاوى ج3 ص240
(2) المرجع السابق ج 11 ص254(1/144)
وقد ذكر ابن الجوزي الخبر منفصلاً وأنه حدث في ربيع الآخر وعبارة ابن كثير قد توحي بأنه رحمه لله عدَّ كبس مسجد برائاً مؤشراً لتغير موازين القوى بين السُنة والشيعة ، والأمر عندي خلاف ذلك إذا الأمر لم يتعدى عملية منفردة قام بها بعض أهل السُنة إما لعوامل مذهبية أو لغير ذلك والذي تميل إليه النفس أن عبارة " كبس " فيها إشارة إلى أن الأمر حدث سراً وإنه مصطلح يستخدم للعمليات المخططة التي تحدث سرا ، ولم يكن علنياً لذا فلا يعد مؤشراً لتغير موازين القوى في بغداد .
…واستمرت المواسم الشيعية حتى صارت عادة لهم كما يقول ابن الأثير(1) ، حتى أنه اشتهر ذكر المرأة التي تنوح فيها واسمها سكينة وقد ذكر أنها خرجت تنوح في وفاة القاضي السني -المتشيع أبو بكر الجعابي الذي مر ذكره سابقاً .
على أن المنازعات التي وقعت بين السُنة والشيعة وخلال السنوات العشر الأولى للبويهيين كانت محدودة ، حتى أن أحياء أهل السُنة الكبيرة مثل باب البصرة والقلائيين لاحقاً لم يمر ذكر اشتراكها في الفتن ، وهذا راجع إلى كون الفتن إنما تنشأ من ورود موكب الشيعة خلال هذه الطقوس بمناطق الحربية في شمال بغداد اتجاهاً نحو المشاهد الشيعية في مقابر باب التبن أو ما يعرف بمقابر قريش وهي مقابر شيعية ، وكان محلات أهل السُنة كباب البصرة لا تقع في الطريق .
وظلت الأمور على ما هي عليه حتى وفاة معز الدولة أحمد بن بويه سنة 356 قال ابن كثير :" فلما أحس الموت أظهر التوبة وأناب إلى الله ورد كثيرا من المظالم وتصدق بكثير من ماله قال وعهد بالأمر بعده إلى ولده بختيار عز الدولة وقد اجتمع ببعض العلماء فكلمه في السُنة وأخبره أن عليا زوج ابنته أم كلثوم إلى عمر بن الخطاب فقال والله ما سمعت بهذا قط ورجع إلى السُنة ومتابعتها"(2) .
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج8 ص600
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج11 ص262(1/145)
قلت : إن فعل ذلك فقد خلص نفسه وأنقذها بفضل من الله ونعمة وإلا فلا قال ابن الأثير : وكان حليما كريما عاقلا " (1)
[ البويهيون بعد معز الدولة ]
كانت لوفاة معز الدولة وتولية ابنه بختيار والملقب عز الدولة أثراً في زعزعة الدولة البويهية خصوصاً أن بختيار لم يكن ذلك الرجل القوي المناسب فقد ذكر ابن كثير أنه لما مات معز الدولة قام بالأمر بختيار عز الدولة فأقبل على اللهو واللعب " (2) .
وقد حمل عهد معز الدولة بذور انشقاق سوف يظهر بسرعة عقب وفاته بين الأتراك والديلم وقد أشار ابن الأثير إلى ذلك فقال عن معز الدولة " أنه فضل غلمانه الأتراك على الديلم فحسدهم الديلم وتولد من ذلك الوحشة والنفرة " (3)
وتأكدت هذه الوحشة بين المعسكرين زمن بختيار بين القائد التركي سبكتكين وبين بختيار وتعد سنة إحدى وستين وثلاثمائة السنة التي ظهر فيها هذا الانشقاق بوضوح والذي أصبح عاملاً حاسماً في تغيير موازين القوى في بغداد .
وكان هذا الانشقاق عاماً فقد وقعت الحرب في البصرة أولاً ثم حاول بختيار القبض على سبكتكين لكنه فشل ، وقد كان الأتراك عمود الجيش البويهي الفقري حتى أن ابن الأثير ذكر أنه لما صار الخلاف اجتمع عقلاء الديلم ببختيار وقالوا له " لابد لنا في الحرب من الأتراك يدفعون عنا بالنشاب " (4) .
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص575
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج11 ص263
(3) ابن الأثير " مرجع سابق " ج 8 ص457
(4) المرجع السابق ج8 ص643(1/146)
والسؤال المطروح ما هي العوامل المشتركة التي جمعت بين الأتراك والديلم أو بعبارة أخرى هل كان الأتراك الذين مع البويهيين من الشيعة أم من السُنة عملوا لأجل المال . والذي لا ينبغي أن يغيب عن الذهن أنهم جنود مقاتلون لا يهمهم الانتساب لأي المذاهب ، لكنهم تبعاً لمصالحهم المالية كانوا يظهرون ما يوافق هذا المذهب أو ذاك فمما ذكر في تشيع قائدهم سبكتكين ما روى سنة سبع وخمسين وثلاثمئة في خبر المهدي المزعوم وظهوره قال ابن كثير " وكان من جملة المستحسنين له سبكتكين الحاجب وكان شيعياً فظنه علوياً .. فلما تحقق أنه عباسي وليس بعلوي انثنى رأيه فيه فتفرق شمله " (1).
وقويت شوكة هذا القائد التركي والأتراك ببغداد وصار الأمر لهم بها ، في حين كان السلطان البويهي يقضي أغلب وقته في لهوه خارج بغداد ، يذكر ابن الأثير أن بختيار اشتغل باللهو واللعب وعشرة النساء والمساخر والمغنين وشرع في إيحاش كاتبيه و سبكتكين ، فاستوحشوا ، وانقطع سبكتكين عنه فلم يحضر داره " (2) .
…في هذه الأثناء اجتاح الروم الجبهة الشمالية ووصلوا إلى نصيبن سنة361هـ وقد دفع هذا التهديد أهالي الجزيرة الفراتية للذهاب إلى بغداد للضغط على السلطة العباسية وعلى القوى الحاكمة في بغداد للتحرك ، ويذكر المؤرخون أن أهالي بغداد تعاطفوا معهم قال ابن الجوزي " دخل أهل تلك البلاد فانتشروا في الجوامع وكسروا المنابر ومنعوا الخطبة " (3) .
__________
(1) ابن كثير " مرجع سابق " ج11 ص265
(2) ابن الأثير " مرجع سابق " ج8 ص576
(3) ابن الجوزي " المنتظم " ج7 ص60(1/147)
…أما ابن الأثير فيقول :"فسار جماعة من أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنفرين وقاموا في الجوامع والمشاهد واستنفروا المسلمين ، وذكروا ما فعله الروم من النهب والقتل والأسر والسبي فاستعظموه ، وخوفهم أهل الجزيرة من انفتاح الطريق وطمع الروم وأنهم لا مانع لهم عندهم فاجتمع معهم أهل بغداد وقصدوا دار الخليفة الطائع لله ( هكذا في المطبوع والصواب المطيع ) وأرادوا الهجوم عليه فمنعوا من ذلك " (1) .
ولم يكن للخليفة حول ولا طول حتى أنه لما طُلب منه المال للغزاة قال إن الغزاة والنفقة عليها وغيرها من مصالح المسلمون تلزمني إذا كانت الدنيا في يدي وتجبي إليَّ الأموال ، وذكر ابن كثير أن الخليفة قال :" لو كان الخراج يجيء إلي لدفعت منه ما يحتاج المسلمين إليه ولكن أنت تصرف منه في وجوه ليس بالمسلمين إليها ضرورة وأما أنا فليس عندي شيء أرسله إليك فترددت الرسل بينهم وأغلظ بختيار للخليفة في الكلام وتهدده ، فاحتاج الخليفة أن يحصل به شيئا فباع بعض ثياب بدنه وشيئا من أثاث بيته ونقض بعض سقوف داره وحصل له أربعمائة ألف درهم فصرفها بختيار في مصالح نفسه وأبطل تلك الغزاة فنقم الناس للخليفة وساءهم ما فعل به ابن بويه الرافضي من أخذه مال الخليفة وتركه الجهاد فلا جزاه الله خيرا عن المسلمين " (2) .
__________
(1) ابن الأثير " مرجع سابق " ج 8 ص618
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج11 ص272(1/148)
وكان لهذه الحادثة أثر كبير في إعادة ترتيب الأوراق في بغداد و تحريك أهل السُنة فيها . ومن أكبر دلائل هذا التحرك الوفد السني الذي قصد بختيار في هذه السنة وهم كما يذكرهم ابن كثير : أبو بكر الرازي الفقيه الحنفي وأبو الحسن علي بن عيسى الرماني وابن الدقاق الحنبلي وكان ذهاب هذا الوفد سنة اثنتين وستين عند ابن الجوزي وابن كثير خلافاً لابن الأثير الذي ذكره في أحداث سنة إحدى وستين ولعل مرد ذلك إلى ما يقع فيه ابن الأثير من الاستطراد في الحدث دون الالتزام بتاريخه فيذكره قبل وقوعه استطراداً لحدث سابق وقد ذكر ذلك عن نفسه .
وطبيعة تركيبة الوفد تعكس شيئاً من القوى السياسية المعارضة في بغداد فإن الفقيه الحنفي كان يمثل المذهب الرسمي للخلافة السنية والذي ينتمي له عدد من القضاة ، في حين أن الرماني كان أحد وجوه بغداد وعلمائها ، أما ابن الدقاق الحنبلي فكان تعبيراً عن جماهير أهل السُنة في بغداد ، كما أنه من الملاحظ أن الوفد لم يضم أحداً من كبار المذهب الإمامي الذي ينتمي له شيعة بغداد .
ويظهر أن سبكتكين القائد التركي المناوئ لبختيار كان مؤيداً لإرسال هذا الوفد للضغط على خصمه وتكتيل الرأي العام عليه في بغداد وبقية العراق فقد ذكر ابن الأثير أن الوفد أنكر على بختيار اشتغاله بالصيد وقتاله عمران بن شاهين وهو مسلم وترك جهاد الروم " (1) .
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج8 ص618(1/149)
وقد أدى هذا الضغط على بختيار دوره فأمر حاجبه سبكتكين أن يتولى ذلك وقد اهتبل سبكتكين هذه الفرصة فجيش أهل السُنة ، وقد اضطربت المصادر في عرض هذه الأحداث ، فحين أن ابن الجوزي ذكر أنه استنفر الناس فخرج من العوام عدد الرمل ، ثم نفذ جيشاً فهزم الروم وقتل منهم وأنفذت رؤوس القتلى إلى بغداد " (1) ، وكل ذلك سنة اثنتين وستين في حين يرى ابن الأثير أن سبكتكين فعل ذلك سنة إحدى وستين فاجتمع من العامة عدد كثير لا يحصون كثرة إلا أن الغزو لم يقع وبطل حديث الغزاة كما يعبر (2) .
أما ابن كثير فيذكر أن الاستنفار وقع للناس فتجهر خلق كثير من العامة قال ولما تجهزت العامة للغزاة وقعت بينهم فتنة شديدة بين الروافض وأهل السُنة وأحرق أهل السُنة دور الروافض في الكرخ وقالوا : الشر كله منكم " ثم قال " إن بختيار صرف أموال الغزاة على نفسه وأبطل تلك الغزاة " (3) ، وهذا سنة إحدى وستين ثم يذكر خبر الوفد في السنة التالية وأنه قابلوا بختيار وحرضوه على غزو الروم فبعث جيشاً لقتالهم فأظفره الله بهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وبعثوا برؤوسهم إلى بغداد فسكنت أنفس الناس " (4) .
ويتفق غالب المؤرخين أن هذا الاستنفار أثر على موازين القوى في بغداد ويعنون مسكويه الفصل بقوله " ذكر السبب في تجاسر العامة على السلطان والفتن الثائرة بهم حتى خربت بغداد " (5) .
أما ابن الأثير فيذكر أن في هذه السنة وقعت ببغداد فتنة عظيمة وأظهروا العصبية الزائدة وتحزب الناس ، وكان سبب ذلك ما ذكرناه من استنفار العامة للغزاة " (6).
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج7 ص60
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص620
(3) ابن كثير " البداية والنهاية " ج11 ص272
(4) المرجع السابق ج11 ص273
(5) مسكويه " تجارب الأمم " ص303
(6) ابن الأثير " الكامل " ج8 ص619(1/150)
لذا فإن اعتبار سنة إحدى وستين وثلاثمائة سنة فاصلة في تلك الحقبة من تاريخ بغداد هو أمر قريب من الصواب . فهي كانت إيذاناً بيوميات العذاب من باب البصرة إلى الكرخ ، أو بين السُنة والشيعة ، كما أنها ستكون نهاية سكوت أهل السُنة على ما يقيمه الشيعة من مظاهرات في عاشوراء وفي ذكرى غدير خم ، و ستكون أولى سنوات الفشل البويهي في إضفاء ثوب التشيع على معقل السُنة .
ولا شك أن سبكتكين قد اكتشف حليفاً جديداً له في صراعه مع بختيار هم أهل السُنة فإن المؤرخين يذكرون أنه في سنة ثلاث وستين وهي السنة التي فسدت فيها الأمور تماما بين سبكتكين و بختيار أو بين الديلم والأتراك ، أصبح سبكتكين حاكم بغداد الجديد فكان أولى هذه السياسات أن خلع المطيع الخليفة المفلوج والذي لم يعد قادراً على تولي أمور الخلافة ، ونصب الطائع ثم حاصر دار بختيار في بغداد وطرد الديلم منها ، وكان ذلك بدعم من أهل السُنة إذ يذكر ابن الأثير أن العامة من أهل السُنة ينصرون سبكتكين لأنه كان يتسنن فخلع عليهم وجعل لهم العرفاء والقواد " .
وعبارة " يتسنن " لطيفة فيه عدة دلالات منها شك ابن الأثير في ادعاء سبكتكين نصر السُنة وهو شك في محله ، إذ أن الأتراك لما كانوا مع الديلم ذُكر أنهم أظهروا التشيع ، وقد مر بنا ذكر تشيع سبكتكين وسيمر بنا موقف القائد التركي البساسيري الذي سيدعو للفاطميين في بغداد .
والذي عليه القول أن سبكتكين وبقية من معه من الأتراك وبسبب موقف أهل السُنة منهم ومساعدتهم لهم فكوا التحالف القديم بينهم وبين البويهيين وعدوا أنفسهم من أهل السُنة ، وقد ساهم هذا التحالف بلا شك في تقوية أهل السُنة أو إضعاف الشيعة بعبارة أصح ، إذ أن الشيعة قد تقوا في بغداد بالسلطان.(1/151)
كما أنه ينبغي التأكيد على أن الوضع الأمني كان شبه منهار في تلك الآونة لذا سنجد أغلب المؤرخين يذكرون تزايد العياريين ونشوء الفتن ، وقد ساهم غياب السلطة بلا شك إلى تفعيل الكثرة العددية لأهل السُنة في بغداد مرة أخرى فضعف أمر الشيعة وخبت شأنهم ، وهذا ما يشير إليه مسكويه بوضوح قال : " لما انبسطت العامة الذين ذكرنا حالهم مع سبكتكين وهم الفرقة المعروفة بالسُنة استضاموا الشيعة وناصبوهم الحرب وتحزب الفريقان وكانت عدة الشيعة قليلة فتحصنوا في أرباض الكرخ من الجانب الغربي واتصلت الحروب حتى سفكت الدماء واستبيحت المحارم وأحرق الكرخ حريقا ثانيا بعد الحريق الأول في وزارة أبي الفضل فافتقر التجار وغلبهم العيارون على أموالهم وبضائعهم وحرمهم ، وانتثر النظام وانخزل السلطان وصارت العصبية بين هذين الصنفين في أمر الدين والدنيا بعد أن كانت في أمر الدين خاصة وذلك أن الشيعة ثاروا بشعار بختيار والديلم وأهل السُنة ثاروا بشعار سبكتكين والأتراك " (1) .
وقد شهدت سنة ثلاث وستين أولى الصدامات الحقيقية بين أهل السُنة والشيعة بسبب ما يحدث في عاشوراء .
فيذكر ابن كثير أن فيها - في عاشوراء - عملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض ووقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أهل السُنة والرافضة وكلا الفريقين قليل عقل أو عديمه بعيد عن السداد وذلك أن جماعة من أهل السُنة أركبوا امرأة وسموها عائشة وتسمى بعضهم بطلحة وبعضهم بالزبير وقالوا نقاتل أصحاب علي ، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلق كثير " (2) .
__________
(1) مسكويه " تجارب الأمم " ج6 ص328
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج11 ص275(1/152)
أما ابن الأثير فيذكر أنه وقعت فتنة عظيمة بين السُنة والشيعة وحمل أهل سوق الطعام وهم من السُنة امرأة على جمل وسموها عائشة وسمى بعضهم نفسه طلحة وبعضهم الزبير وقاتلوا الفرقة الأخرى وجعلوا يقولون : نقاتل أصحاب على بين أبي طالب وأمثال هذه من الشر "(1) .
وقد حدث هذا المشهد إن جاز التعبير ـ في وقت قوة العياريين خصوصاً في الجانب الغربي من بغداد ـ وكانوا في محلات السُنة كباب البصرة وسوق الطعام وغيرها فنشأ نوع من التحالف بينهم وبين أتباع الوعاظ والقُصاص الذين كانوا يحركون مشاعر العداء لدى الناس على الرافضة مع ما يقيمه هؤلاء من مهرجانات استفزازية كما أن عامل التعصب للمحلة وللمذهب كانت عاملاً من عوامل تشجيع مثل هذه المواقف فكان من المتوقع من هذا التحالف غير المتجانس أن تنشأ مثل هذه التجاوزات التي من المؤكد عدم موافقة أتباع الفقهاء أو طلبة العلم الملتفين حول شيوخهم على مثل هذه الممارسات .
كما أن كون الكرخ مركز التجار الطرف الآخر في هذه المنازعات ساعد على اشتراك العيارين في هذه المنازعات وقيادتها في المراحل التي شهدت قوتهم حتى أن كثيراً من المؤرخين يذكر أسماءهم كالبرجمي والطقطقي وابن الأصفهاني.
ويذكر ابن الجوزي أنه في السنة التالية أي أربع وستين زاد أمر العيارين حتى ركبوا الدواب وتلقبوا بالقواد وغلبوا على الأمور وأخذوا الخفائر عن الأسواق والدروب " (2) .
وقد اضطرب أمر بني بويه جدا في بغداد بسبب معارضة سبكتكين القائد التركي وتحزب الأتراك عليه وسيطرته على بغداد لكن العمر لم يطل به فقد توفي سنة 363هـ ففرح بختيار وكان في واسط بوفاته ، وظن أن أمر الأتراك ينحل وينتشر بموته فلما رأى انتظام أمورهم ساءه ذلك "(3) .
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص632
(2) ابن الجوزي " المنتظم " ج 7 ص75
(3) ابن الأثير " الكامل " ج 8 ص645(1/153)
وكان ذلك مدعاة لبختيار لطلب المساعدة من عضد الدولة الذي دخل بغداد وملكها سنة أربع وستين ثم خرج منها ثم عاد ودخولها سنة 367هـ
[الدم الجديد ...عضد الدولة في بغداد]
…كادت الأمور أن يفلت زمامها من البويهيين لولا الدم الجديد الذي ضخه فيهم عضد الدولة البويهي الذي دخل بغداد وملكها وقبض علي بختيار سنة أربع وستين ، لكنه خرج منها وتركها لبختيار بسبب الضغوط عليه من أبيه ركن الدولة ، وبعد وفاة والده دخلها مرة أخرى سنة سبع وستين وثلاثمئة ، وقد شهدت بغداد في عهده هدوءاً لم تعتده حتى وفاته سنة اثنتين وسبعين وعندي أن عضد الدولة خير ملوك بني بويه وأعقلهم ، وهو وإن كان سيء المذهب ، وهذه ضلالة ماحقة إلا أن ضلالته على نفسه وعدله لغيره ، فقد ارتاحت بغداد في السنوات الخمس التي حكمها من الفتن المتعددة بين الرافضة والسُنة وارتاحت كذلك من شرور العيارين .
ولم يذكر المؤرخون - حسب علمي ـ خلال حكم عضد الدولة حدوث فتنة بين السُنة والشيعة ، والمرجح أنه منع الرافضة من إقامة شعرائهم في عاشوراء وفي ذكرى غدير خم لقطع دابر هذه الفتن التي أشغلت السلطان ، وقد يقول قائل لعل الشيعة لم يقطعوا عادتهم ، وإنما امتنع أهل السُنة من التنازع معهم خوفاً من سلطة عضد الدولة ، وهو قول محتمل لكنه مرجوح لعلل منها .
ـ ما ذكره المؤرخون في أول حكم عضد الدولة ، فقد ذكر ابن كثير أنه قيل لعضد الدولة إن أهل بغداد قد قلوا كثيراً بسبب الطاعون وما وقع بينهم من الفتن بسبب الرفض والسُنة وأصابهم حريق وغرق فقال : إنما يهيج الشر بين الناس هؤلاء القصاص والوعاظ ثم رسم أن أحداً لا يقص ولا يعظ في بغداد ولا يسأل سائل باسم أحد من الصحابة وإنما يقرأ القرآن فمن أعطاه أخذ منه فعمل بذلك البلد " (1) .
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج11 ص289(1/154)
ـ موقفه من الواعظ الحنبلي أبي الحسين ابن سمعون الذي لم يمتثل لقرار المنع فأحضره والقصة مختصرة كما في ابن كثير وتحول من مكانه وجلس وحده لئلا يبدر من ابن سمعون إليه بين الدولة كلام يكرهه وقيل لابن سمعون إذا دخلت على الملك فتواضع في الخطاب وقبِّل التراب فلما دخل دار الملك وجده قد جلس وحده ودخل ابن سمعون ثم استفتح القراءة بقوله تعالى {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ } الآية ثم التفت بوجهه نحو دار عز الدولة بختيار ، ثم قرأ {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } ثم أخذ في مخاطبة الملك ووعظه فبكى عضد الدولة بكاء كثيراً وجزاه خيراً فلما خرج من عنده قال للحاجب : اذهب فخذ ثلاثة آلاف درهم وعشرة أثواب وادفعها له فإن قبلها جئني برأسه قال الحاجب فقلت : هذا أرسل به الملك إليك فقال لا حاجة لي به هذه ثيابي من عهد أبي منذ أربعين سنة كلما خرجت إلى الناس لبستها فإذا رجعت طويتها ولي دار آكل من أجرتها تركها لي أبي فأنا في غنية عما أرسل به الملك فقلت فرقها في فقراء أهلك فقال فقراء أهله أحق بها من فقراء أهلي وأفقر إليها منهم فرجعت إلى الملك لأشاوره وأخبره بما قال ، فسكت ساعة ثم قال : الحمد لله الذي سلمه منا وسلمنا منه " (1) .
ـ موقفه من الخليفة العباسي وإكرامه وأنه إذا خرج إلى حرب طلب خروجه فيستعفي فيعفيه . قال ابن كثير " وأظهر عضد الدولة من تعظيم الخلافة ما كان دارسا وجدد دار الخلافة حتى صار كل محل منها أنسا وأرسل إلى الخليفة بالأموال والأمتعة الحسنة العزيزة " (2).
وقد ذكر عن عضد الدولة بعض الأمور المرذولة ومنها تسمية شاهنشاه أي ملك الملوك
وقد ذكر عليه كذلك أنه قال شعراً فيه بيت ما أفلح بعده قط وهو قوله :
عضد الدولة وابن ركنها……مالك الأملاك غلاب القدر
__________
(1) المرجع السابق ج 11 ص290
(2) المرجع السابق ج11 ص279(1/155)
وعلق ابن كثير رحمه الله على هذا البيت فقال : " قبحه الله وقبح شعره وقبح أولاده " (1) ، وقال عنه وكان فيه رفض وتشيع " (2) ، وقد توفي سنة 372هـ وخلفه ابنه شرف الدولة .
[ غروب شمس بني بويه ]
عقب وفاة عضد الدولة البويهي دب الوهن والاختلاف في ملوك بني بويه وتم عزل الطائع وتوليه القادر وكان من خيار الخلفاء كما ذكر ابن كثير . واللافت للنظر ما ذكر من حكاية منام رآه القادر قبل توليه الخلافة وفيه أنه رأى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأنه أوصاه بشيعته " (3).
…ولعل في هذا المنام علاقة بالجدل الدائر في الأوساط السياسية الشعبية في بغداد ولعله روي من قبل أنصار القادر للتقرب إلى أوساط البويهيين في بغداد .
بيد أن الشأن السياسي ظل محصوراً في القوتين التقليديتين الأتراك والديلم الذين انشغلوا بأمر الصراع بينهما والذي شمل العراق بأجمعه فكان من الطبيعي والأمر كذلك أن يعود لبغداد جوها المضطرب حيث تفاقم أمر العياريين سنة 380هـ ونشب القتال بين أهل باب البصرة وأهل الكرخ .
وذكر ابن الجوزي في سنة إحدى وثمانين أن أهل باب البصرة استظهروا وقوى أمرهم مما دفعهم لحرق أعلام السلطان فقتل منهم جماعة "(4) .
وتجددت الفتن والمنازعات وعظم خطب العيارين واشتركوا في أمر هذه النزاعات رغبة في استغلالها لجمع المال والضغط على تجار الكرخ ويذكر ابن الجوزي خبر العيار المعروف بعزيز وهو من أهل باب البصرة قال ثم صالح أهل الكرخ وقصد سوق التمارين وطالب بضرائب الأمتعة " (5) .
__________
(1) المرجع السابق ج11 300
(2) المرجع السابق ج11 ص301
(3) ابن الأثير " الكامل " ج9 ص81
(4) ابن الجوزي " المنتظم " ج 7 ص164
(5) المرجع السابق ج 7 ص174(1/156)
ومثلما كان الأمر في المرة السابقة فإنه مما يلاحظ أن هذه الفتن التي كانت تقع بين السُنة والشيعة اعتبرت فرصة لدخول أطراف اجتماعية لاستغلال ما يمكن أن تسببه هذه الفوضى من مكاسب اقتصادية ، فاشتراك العيارون وغيرهم في ركوب الموجة الجديدة . وهم عند تزايد نفوذهم واشتراكهم في أمر هذه الفتن إلى جانب أهل السُنة فإنهم يظهرون فيها من الانحرافات والبدع التي لا يقرها أهل العلم .
وتدل هذه الانحرافات على نفوذ العيارين في أمر هذه المنازعات ومن ذلك ما حدث سنة تسع وثمانين حيث ذكر ابن الجوزي أن الطائفة الأخرى ـ أي السُنة ـ أن تعمل في مقابلة هذا شيئاً فادعت أن اليوم الثامن من يوم الغدير كان اليوم الذي حصل النبي صلى الله عليه وسلم في الغار وأبو بكر معه وعملت فيه مثل ما عملت الشيعة في يوم الغدير وجعلت بإزاء يوم عاشوراء يوم بعده بثمانية أيام نسبته إلى مقتل مصعب بن الزبير وزارت قبره بمسكن كما يزار قبر الحسين "(1) .
ولم يكن هذا الإجراء جديداً فقد ذكر المؤرخون سنة ست وثمانين حادثة كشف قبر بالبصرة فظن للزبير - رضي الله عنه - واتخذوا عند قبره مسجداً – ومع الإقرار بعدم جواز ذلك – إلا أن في هذا الإجراء تجسيدا للمعارضة السنية للشيعة حيث يعد الزبير وابنه ـ عند الرافضة ـ من أعداء أمير المؤمنين علي رضي الله عنهم ، ولا شك أن هذه المقابلة كما يسميها ابن الجوزي كان القصد منها مقابلة التجسيد الزماني المكاني لعقائد الرافضة فقام عوام أهل السُنة بالبحث في الزمان والمكان عن معان تصلح لمقابلة هذه التجسيد الرافضي زماناً ومكاناً وحرصوا أن يتضمن الزمن المختار والمكان المختار رموزاً تشير إلى المعارضة السنية للروافض .
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج7 ص206(1/157)
بيد أن هذا الأمر لم يكن مقدراً له النجاح وهذه الإجراءات السنية لم تستطع الاستمرار مثلما قدر للمواسم الشيعية ، ولا شك أن لذلك مدلولات لا يمكن للباحث المنصف تجاهلها فلمَ ظلت هذه المظاهر الشيعية وهي مظاهر مولدة وليست من صميم العقيدة المذهبية ، بل تحولت مع الزمن إلى عقائد رئيسية في حين أن المظاهر السنية لم يكتب لها الحياة ؟ .
ولا شك أن ذلك مرده ما سبق أن ذكرناه من انفتاح المذهب الشيعي وانغلاق مذهب أهل السُنة عقدياً إذ أنه من المؤكد عند أهل السُنة بأن الوحيد الذي كان بإمكانه زيادة أو نقص العقائد هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وما يأتي به من وحي وقد انقطع الوحي بوفاته ، ولم يكن للعالم من أهل السُنة مهما بلغ من شأنه أن يدعي عقيدة جديدة ، أو ينجح بإضافة مظهر تعبير أو موسم ديني ،
ورغم أنه لا يوجد نصوص معاصرة لهذا الحدث تنتقد هذه الانحرافات يمكن من خلالها الاستدلال على معارضة علماء الحنابلة لها إلا أن سرد ابن الجوزي رحمه الله ، ورفضه لهذه الممارسات يسلط شيئا من الضوء على الموقف العلمي عند علماء الحنابلة من هذه الانحرافات ، أما المتأخرين فقد ذكر ابن كثير رحمه الله عن هذه البدع " وهذا من مقابلة البدعة ببدعة مثلها ولا يرفع البدعة إلا السُنة الصحيحة " (1) .
عودا على بدء فلا شك أن هذه السنوات قد شهدت ضعف أمر الشيعة في بغداد ففي سنة تسعين يذكر ابن الأثير أن الفتنة وقعت بين الأتراك والعامة من أهل الكرخ وقتل بينهم قتلى كثيرة ثم إن السُنة من أهل بغداد ساعدوا الأتراك على أهل الكرخ فضعفوا عن الجميع فسعى الأشراف في إصلاح الحال فسكنت الفتنة (2) .
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج11 ص326
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 9 ص168(1/158)
وقوله الأشراف يعني بهم العلويين أمثال أبو أحمد الموسوي النقيب العلوي والد الرضي والمرتضى وهم في بغداد على مذهب الشيعة لكنهم كانوا همزة وصل بين الشيعة وبين السلطة العباسية ، وسيظهر في المقابل مصطلح " الهاشميين " ويقصد بهم العباسيون الذي ستشهد هذه السنوات وما يليها قيادتهم لأهل السُنة في بغداد وسيظهر من أبرزهم الشريف أبو جعفر .
ومن أول الجولات التي سيقودها الهاشميون ما حدث سنة ثمان وتسعين وهي من أكبر المواجهات بين السُنة والشيعة ، وقد ذكرها المؤرخون ونذكرها مختصرة عن ابن كثير وكان سببها أن بعض الهاشميين من أهل باب البصرة قصدوا ابن المعلم محمد بن النعمان فقيه الشيعة في مسجده فعرضوا له بالسب فثار أصحابه واستنفروا أهل الكرخ فقصدوا دار القاضي ودار الشيخ أبي حامد الإسفرائيني واحضروا مصحفاً زعموا أنه مصحف لعبد الله بن مسعود وهو مخالف للمصاحف كلها فعقد الفقهاء والأشراف والقضاة وأشار الشيخ أبو حامد بتحريقه ففعل ذلك . " (1)
…وقد أغضب هذا الفعل الشيعة فيذكر ابن الجوزي زيادة على ما سبق قال" أنه رُفع للخليفة أن رجلاً حضر المشهد- مشهد الشيعة في بغداد - ليلة النصف من شعبان ودعا على من أحرق المصحف وسبه فتقدم الخليفة بطلبه فأُخذ وقُتل ، قال " فتكلم أهل الكرخ في هذا المقتول لأنه من الشيعة ووقع القتال بينهم وبين أهل باب البصرة وباب الشعير والقلائيين وقصد أحداث الكرخ دار أبي حامد فانتقل منها إلى دار القطن " (2) ، وهي منطقة من مناطق أهل السُنة خلف محلة القلائيين وهي بعيدة عن مواطن الشيعة ـ وصاح أهل الكرخ يا حاكم يا منصور يريدون الحاكم العبيدي في مصر فغضب الخليفة وبعث أعوانه لنصرة أهل السُنة فحرِّقت دور كثيرة من دور الشيعة وجرت خطوب كثيرة .
وزاد ابن الجوزي " وضعف أهل الكرخ " (3)
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 11 ص 339
(2) ابن الجوزي " المنتظم " ج 7 ص 238
(3) ابن الجوزي " مرجع سابق " ج 7 ص238(1/159)
…وقام عميد الجيوش بنفي ابن المعلم فقيه الشيعة ثم أعيد بشفاعة علي بن مزيد صاحب الحلة - وهو شيعي معروف - وقد مُنع القُصّاص من أهل السُنة ثم أعيدوا بشرط ترك التعرض للفتن ، والسماح لهم بعد المنع جاء لاسترضائهم بعد إعادة الفقيه الشيعي .
هذه الحادثة التي أطال فيها المؤرخون لاشك أنها حلقة من الحلقات التي سيضعف فيها أهل الكرخ وتشير هذه الواقعة إلى مواطن القوة لكل من أهل السُنة والشيعة ففي حين يقف الخليفة والأتراك مع أهل السُنة فإن الوزير فخر الملك (1) في بغداد وأمراء الحلة من بني مزيد يقفون خلف الشيعة وقد كان موقف الخليفة من أهل السُنة مصدر إقلاق للشيعة ولا شك أنهم خلف الشائعات التي انطلقت في بغداد بوفاة القادر سنة أربعمائة ويذكر ابن كثير أنه " فيها أرجف الناس بأن الخليفة مات فجلس للناس يوم جمعة بعد الصلاة وعليه البردة و بيده القضيب وجاء الشيخ أبو حامد الإسفرايني فقبَّل الأرض بين يديه (2) وقرأ {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ }فتباكى الناس ودعوا وانصرفوا وهم فراحا" (3) .
قلت وقراءته تدل على مطلقي هذه الشائعة وفرح الناس بخروجه يدل على المواقف المتناقضة من الخليفة بين السُنة والشيعة .
وأبو حامد الإسفرايني رحمه الله عالم شافعي كان له قبول عند السلطان وعند أهل السُنة ، وقد دفن الشيخ عند وفاته بباب حرب وهو من مقابر الحنابلة وفيها قبر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله .
__________
(1) فخر الملك محمد بن علي بن خلف قال ابن كثير كان فيه ميل إلى التشيع وهو أول من فرّق الحلاوة ليلة النصف من شعبان ت 407هـ .
(2) تقبيل الشيخ أبي حامد التراب لا تعرف صفته و إلا لو تضمن السجود والانحناء فهو منكر ولا أدري لم سكت المؤرخون عنه .
(3) ابن كثير " مرجع سابق " ج11 ص342(1/160)
وكان من نتائج هذه الأحداث إيقاف العمل بالمواسم الاحتفالية للسنة والشيعة على السواء وكان هذا الإيقاف طبيعياً محققا للسلامة السياسية لولا وجود قوى متنفذة مستفيدة من إعادة العمل بهذه الطقوس ولعلها مما دفع الوزير فخر الملك سنة اثنين وأربعمائة للإذن للشيعة والسُنة بعمل طقوسهم ، قال ابن الجوزي :" وأذن لأهل الكرخ وباب الطاق " قال وعُمل الغدير والغار على سكون وطمأنينة وأظهرت الفتيان من التعليق شيئاً كثيراً واستعمل أهل السُنة الأتراك فأعاروهم الثياب والفروش الحسان والمصاغ والأسلحة " (1) .
أما ابن كثير فقد وهم في روايته عن ذلك إذ يقول " وفيها عملت الشيعة بدعتهم التي كانوا يعملونها يوم غديرهم وتمكنوا بسبب الوزير وكثيرٍ من الأتراك تمكناً كثيراً " (2) .
قلت وأمر تقوى الشيعة بالأتراك هو الوهم توضحه رواية ابن الجوزي أن مساعدة الأتراك كانت لأهل السُنة في يوم الغار على زعمهم وهو المقابل ليوم غدير خم . وهما موسما فرح كان أهله يظهرون من الزينة واللباس ما يكون في أعياد المسلمين .
ولم يذكر المؤرخون وقوع فتنة في تلك السُنة ولا فيما تلاها حتى سنة ست وأربعمائة حيث وقعت فتنة لم تكن عظيمة بل يظهر أن الوزير فخر الملك سارع في التوسط فيها .
__________
(1) ابن الجوزي " مرجع سابق " ج 7 ص257
(2) ابن كثير " مرجع سابق " ج11 ص347(1/161)
ولم يطل العمر بالوزير فخر الدولة فقد توفي سنة سبع وأربعمائة قتله سلطان الدولة البويهي وكانت هذه السنة نذير شؤم على الرافضة فقد ذكر المؤرخون أن الشيعة بأفريقية وهم بقايا الحكم العبيدي قد أبيدوا كاملاً على يد الناس في عهد المعز بن باديس (1) وتلقى الشيعة ضربة أخرى في واسط بالعراق إذ وقعت فتنة بينهم وبين السُنة انتصر فيها أهل السُنة "وهرب وجوه الشيعة والعلويين إلى علي بن مزيد فاستنصروه " (2) ، ونهبت محال الشيعة والزيدية " (3).
كما تمت مطاردتهم في إقليم خراسان السني على يد محمود بن سبكتكين .
كما أن أمر السُنة في بغداد قد ارتفع فقد ذكر المؤرخون أنه في تلك السُنة استتاب القادر فقهاء المعتزلة الحنفية .. ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة " (4) .
ومع ذلك ظلت بقية من نزاع أثرت عن العصور السالفة و استمرت الفتن بين الشيعة والسُنة وتوالت فقد ذكر في سنة ثمان وأربعين وقوع فتنة بين أهل الكرخ وأهل القلائيين من السُنة وعمل كل فريق باباً على محلته.
[استظهار أهل السُنة ]
__________
(1) حتى أن ابن الأثير المؤرخ المتحرز في إظهار تشيعه غمز من فعل الحاكم العبيدي عندما سير الخلع من مصر إلى ابن باديس بالمغرب قال" ولم يذكر ما كان منه إلى الشيعة من القتل والحرق " ابن الأثير ج 9 ص258 .
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 9 ص295
(3) ابن الجوزي " مرجع سابق " ج 7 ص283
(4) المرجع السابق ج 7 ص288(1/162)
شهدت الحال السياسية في حدود سنة عشرين وأربعمائة تطور ملحوظاً ضعفت فيه هيبة الأتراك والديلم معا ، و ساهم وجود محمود بن سبكتكين ( ت 422هـ) الأمير السني القوي في خراسان في تعزيز موقف الخليفة القادر في بغداد حيث كانت العلاقات بينهما وثيقة ، وبسبب هذه العلاقات تمت الإجراءات التي قام بها محمود بن سبكتكين ، الذي لما أخذ الري كتب إلى الخليفة القادر بأنه أوقع بأهل الري من الروافض الباطنية ، وأنه وجد لمجد الدولة من النساء الحرائر ما يزيد عن خمسين امرأة فلما سئل عن ذلك قال هذه عادة سلفي وقد صلب محمود الباطنية ونفى المعتزلة وأحرق كتب الفلسفة ومذاهب الاعتزال.
كل ذلك ساعد الخليفة القادر أن يملأ شيئاً من الفراغ السياسي حتى أن ابن الأثير يذكر أن الخلافة قبله قد طمع فيها الديلم والأتراك فلما وليها القادر بالله أعاد جدتها وجدد ناموسها وألقى الله هيبته في قلوب الخلق فأطاعوه أحسن طاعة وأتمها " (1) .
وعمل القادر على تتبع أحوال الشيعة وإضعافهم فمن ذلك ما أورده المؤرخون سنة 420هـ عن مسجد براثا الذي هو جامع الشيعة الذي يلتقون فيه ، وكان الجامع الوحيد الذي تقام فيه الجمعة بخطيب شيعي فقد ذكر ابن الجوزي كتاب الخليفة بأحوال مسجد براثا وفيه أنه كان يخطب فيه إنسان يقول في خطبته بعد الصلاة على النبي وعلى أخيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مكلم الجمجمة ومحييها البشرى الإلهي مكلم الفتية أصحاب الكهف إلى غير ذلك من الغلو المبتدع الذي تقشعر منه الجلود ويتحرك منه المسلمون وتنخلع قلوبهم ويرون الجهاد فيه كجهاد الثغر "(2) .
وذكر ابن الأثير الخبر دون قوله " الذي تقشعر منه الجلود وما بعدها "(3).
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج9 ص 415
(2) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص42
(3) ابن الأثير " الكامل " ج 9 ص 393(1/163)
ثم ذكر أن الخليفة أقام خطيباً سنياً فلما خطب رماه الشيعة بالآجر فخرج أمر الخليفة كما يذكر ابن الجوزي بالعمل على ركوب الجمع الغفير وجمهور كبراء العسكر في الجمعة التالية بصحبة الخطيب وقد أشفق الوزير من وقوع فتنة فتوسط إلى إقناع الخليفة بالتوقف عن هذا الإجراء حتى تهدأ الفورة فتعطلت الصلاة فيه ، فتوسط شيوخ الكرخ والأشراف لدى الخليفة في إعادتها فاتفقوا على حل وسط أن تكون الخطبة مكتوبة واعفوا من دق الخطيب المنبر بعقب سيفه _ وهو مظهر سني _ ومن قول الخطيب " اللهم اغفر للمسلمين ومن اعتقد أن علياً مولاه " (1) .
ولا شك أن الاتفاق على وجود خطيب سني في جامع براثا جزء من دلائل واضحة على تراجع النفوذ الشيعي في بغداد وهي دلائل بدأت سابقاً وستتوالى لاحقاً .
وضمن المسلسل المستمر للفتن في بغداد يذكر المؤرخون أنه حدث سنة 421هـ فتنة سببها رجوع الشيعة إلى عادتهم الأولى كما يعبر ابن الجوزي ويعلل ذلك إلى ابتعاد الأتراك عن بغداد بسبب انحدارهم نحو الأهواز مع السلطان جلال الدولة ، فمشى إليهم أهل السُنة بالحديد فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل من الفريقين طوائف كثيرة ، وانتهت الفتنة بمراسلة الخليفة للمرتضى العلوي في إنفاذ من يحط التعاليق فحُطت ورتب بين الدقاقين- وهم شيعة – والقلائيين – وهم من السُنة - مَن يمنع القتال " (2) .
__________
(1) ابن الجوزي " مرجع سابق " ج8 ص 45
(2) المرجع السابق ج 8 ص 47(1/164)
وفي السنة التالية سنة 422هـ حدثت فتنة أخرى ذكرها المؤرخون ونقلها ابن الأثير مختصرة عن ابن الجوزي وسببها لم يكن ما يحدثه الشيعة في مواسمهم بل هو ما ذكر أن الخزلجي الصوفي الملقب بالمذكور عزم على الغزو واستأذن السلطان فكتب له منشور وأعطى منحوقاً - عَلَماً كما يفسرها ابن الأثير ـ ومر في مظاهرة بالرجال والسلاح بالكرخ فذكر بعض من معه أبا بكر وعمر وقالوا هذا يوم مغازي (1) وذكر ابن الأثير وقالوا : هذا يوم معاوية "(2) .
قال ابن الجوزي فنافرهم أهل الكرخ ورموهم وثارت الفتنة " (3) .
والظاهر أن أهل السُنة لم ينالوا منهم فاجتمعوا من اليوم التالي قال ابن الجوزي فاجتمع عامة أهل السُنة من الجانبين وانضاف إليهم كثير من الأتراك وقصدوا الكرخ فأحرقوا وهدموا الأسواق وأشرف أهل الكرخ على خطة عظيمة "(4) .
وقوله "خطة عظيمة" مقصود بها أن الفتنة نالت منهم وأوجعتهم وقد حاول الوزير الفصل بينهم فلم ينجح ، وشملت الفتنة الجانبين الشرقي والغربي من بغداد واشتركت فيها كل محلات الرافضة والسُنة ، وهو مالم يحدث من قبل ، وتعد هذه الفتنة حلقة مهمة في مسيرة تصفية الحسابات ، كما أن اليهود قد نالهم من أثر هذه الفتنة لما اتهموا به من مساعدة الشيعة في صراعهم ، وكان من تداعيات هذه الفتنة كذلك سطو بعض أهل السُنة على جامع براثا فأخذوا أثاثه وقلعوا شُبَّاكه ، واعترض أهل باب البصرة قوما من قم أرادوا زيارة مشهد علي والحسين فقتلوا منهم ثلاثة وامتنعت زيارة مشهد موسى بن جعفر " (5)
__________
(1) المرجع السابق ج 8 ص 55
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 9 ص 418 ، وعندي أن " كلمة مغازي " خطأ والصواب ما ذكره ابن الأثير ولعلها تصحفت على الناسخ أو المحقق ومن يسلم من التصحيف لا أحد يسلم منه كما قال الإمام أحمد .
(3) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص55
(4) المرجع السابق ج 8 ص 55
(5) ابن الأثير " الكامل " ج 9 ص 420(1/165)
…ومن تداعياتها تزايد نشاط العيارين من أهل السُنة في الكرخ فقد ذكروا أنه عملت عملة في أصحاب الأكسية وهم من الشيعة فأخذت أمتعة كثيرة وثار أهل الكرخ بالعيارين الذين قوي أمرهم .
وشهد هذا العام وفاة الخليفة القادر الذي أعاد شيئا من جِدة الخلافة غير أنه كان قليل الحيلة بسبب ضعف موارده المالية ، وتولى ابنه القائم مكانه قال ابن كثير عن القادر الذي مكث في الخلافة إحدى وأربعين عاما :" وقد كان حليما كريما محبا لأهل العلم والدين والصلاح ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكان على طريقة السلف في الاعتقاد وله في ذلك مصنفات كانت تقرأ على الناس " (1) .
…وقد شهدت الأعوام من ثلاث وعشرين وحتى سنة ثمان وعشرين وأربعمائة زيادة نفوذ العيارين حتى أن قائدهم البرجمي علا شأنه جدا واستطاع اغتيال صاحب الشرطة ، ويذكر ابن الجوزي أن المخافة زادت من هذا العيار حتى صار أهل الرصافة وباب الطاق ودار الروم لا يتجاسرون على ذكره إلا أن يقولوا القائد أبو علي " قال " وثار العوام في جامع الرصافة ومنعوا من الخطبة ورجموا القاضي الخطيب وقالوا إن خطبت للبرجمي وإلا فلا تخطب لخليفة ولا لملك " (2) .
وانقطع ذكر العيارين بعد سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ولعله يرجع إلى ما آل إليه أمر جلال الدولة البويهي بعد الخلاف بينه وبين قائده التركي بارسطعان والأحداث التي نجمت عن هذا الخلاف من مقتل بارسطعان ووقوع الصلح بين جلال الدولة وابن أخيه أبي كاليجار ، حتى أن جلال الدولة قد أحس في نفسه زهوا فطلب من الخليفة تسميته بملك الملوك .
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج12 ص 31
(2) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص75(1/166)
بيد أن هذا الزهو لم يكتب له أن يبقى طويلا ، إذ أنه في سنة خمس وثلاثين وأربعمائة دخل إلى الحياة السياسية في مشرق العالم الإسلامي لاعب جديد سيقدر له لسنوات طويلة قادمة أن يكون المحرك الأساسي – بعد الله تعالى – للأحداث وهم من سيعرفون بالسلاجقة ، فقد ورد كتاب طغرلبك رجل المشرق القوي وسلطان السلاجقة ، وفيه أمرٌ للملك جلال الدولة البويهي بالإحسان إلى الرعايا والوصاة بهم قبل أن يحل به ما يسوءه " (1).
…ولاشك أن هذا يعد تدخلا سافرا في شؤون بني بويه ، ويدل على طبيعة موازين القوى بين الجانبيين ، وقد زاد من ضعف البويهيين موت جلال الدولة وتولى ابن أخيه أبي كاليجار الحكم في بغداد .
وكان من آثار هذا الحدث زيادة نفوذ الخليفة القائم وبروز نفوذ وزيره السني أبي القاسم علي بن الحسن المعروف بابن المسلمة الملقب برئيس الرؤساء ، والذي كان يقف خلف أهل السُنة ، والذي اعتبره ابن الأثير مؤيدا للحنابلة ، وهو الذي راسل السلاجقة السنيين في القدوم على بغداد ، فكان لهذا الوزير مع ضعف النفوذ البويهي أثر في مجريات الأمور بين السُنة والشيعة .
…ففي سنة إحدى وأربعين وأربعمئة ذكر ابن الأثير أنه " منع أهل الكرخ من النوح " (2) ، وقال ابن كثير أنه تقدم إلى أهل الكرخ أن لا يعملوا بدع النوح" (3) .
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 12 ص 51
(2) ابن الأثير " الكامل " ج9 ص 561
(3) ابن كثير " مرجع سابق " ج 12 ص 59(1/167)
…وذكر ابن الجوزي أن أهل الكرخ الشيعة وعدوا بالامتناع لكنهم أخلفوا وعدهم " (1) ، في حين يذكر ابن الأثير أنهم لم يقبلوا وفعلوا ذلك " ولاشك أن الامتناع وعدم القبول قراءة خاطئة لموازين القوى ، والتغيرات التي شهدتها بغداد ، فكان من الطبيعي أن تقع إحدى أكبر الفتن فذكر ابن الجوزي أنه جرى بين أهل السُنة والشيعة ما يزيد عن الحد من الجرح والقتل حتى عبر الأتراك وضربوا الخيم "(2).
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص 140
(2) ابن الجوزي " مرجع سابق " ج8 ص 140(1/168)
…ولأن أهل الكرخ لا يثقون في الأتراك ، ويعرفون موقفهم من أهل السُنة فقد ذكر ابن الجوزي وتابعه غيره أن أهل الكرخ نقضوا سوق الأنماط - المحاذي لمحلة القلائين السنية – دكاكينها وأرحاها وبنوا بآخرها سورا من ورائها يحصنون بها الكرخ ويقطعون به ما بين خراب القلائين وبينه ، فلما رأى أهل السُنة من القلائين شرعوا في بناء سورا على سوق القلائين ، وبدؤوا بعمل بابه محاذيا لباب السماكين ، ونقضوا كل حائط أمكنهم نقضه وأخذوا كل آجر وجدوه ، واجتمع منهم جمع كثير يحملون الآجر إلى موضع العمل ، وعاونهم الأتراك بأموالهم وساعدوهم ببغالهم ، وجرى من اجتماع الجموع ما لم يجر مثله من قبل في شيء حتى جرت سفينة على العجل حُمل فيها آجر ، وعلى ملاحها قباء ديباج وعمامة قصب أهبة ، وعنَّ لأهل الكرخ أن يبنوا بابا آخر من آجر الدقاقين وحملوا الآجر إلى موضعه على رؤوس الرجال في البافدانات المجللة بالثياب الديباج والمناديل الديبقي وقدامها الطبول والزمور والمخانيث معهم آلات الحكاية ، وقابل أهل القلائين ذلك بأن حملوا آجرهم بين يدي حمالية البوقات والدبادب وزاد الأمر وسخف وأفرط الوهن ونقضت أبنية كثيرة وأخذ من تنانير الآجر الجديدة عدة ، وجرى في عمل هذه الأبواب وبنائها وجمع آجرها وآلاتها وتقسيط نفقاتها والخلع على بنائيها وطرح ماء الورد في أساساتها ما خرج عن الحد حتى أن امرأة اجتازت بباب القلائين فنزعت جوكانية ديباج كانت عليها فأعطتها للبناء " (1) .
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج8 ص 141(1/169)
قال " وفي يوم عيد الفطر ثارت الفتنة بين أهل الكرخ وأهل القلائين فاشتدت ووقع بينهم جراحات وقتل ، ونقل أهل القلائين آخر السور الذي على سوق الأنماط فاستعملوه في بنائهم ، وجعل مع كل جهة قوم من الأتراك يشدون منهم ، وامتنع على السلطان الإصلاح وعمل أهل القلائين بابا آخر دون بابهم وسقفوا ما بينهما وبنو دكاكين جانبيها وفرشوا الحصر وعلقوا القناديل وخلقوا الحيطان وأظهروا عمل ذلك مسجدا أذنوا للصلوات فيه وسمي الباب المسعود ، وبطلت الأسواق ، و دعي أبو محمد ابن النسوي ورسم له العبور إلى الجانب الغربي وإزالة الفتنة فقتل جماعة من المذكورين " (1) .
… قلت والخبر نقلناه كاملا كما يرويه ابن الجوزي مطولا لما فيه من لطائف
عديدة وطرائف مفيدة (2).
__________
(1) المرجع السابق ج 8 ص141
(2) من ذلك أن العلاقة بين المذهبين كانت هاجسا اجتماعيا عاما تشترك فيه كافة قطاعات المجتمع ، وأن هذا التعصب للمذهب كان يدفع للتفكير في أحسن الطرق التي تعبر عن الاعتزاز مما فتق أذهانهم لما يمكن تسميته بالاستخدام التطويري للآلة وهو ما يدل عليه السفينة التي تسير على العجل . ومن ذلك قوله عن مسيرات الشيعة وفيها " المخانيث معهم آلات الحكاية " فالغالب على الظن أن آلات الحكاية يقصد بها آلات تستخدم لما يعرف حاليا بالتمثيل أو لعلها ما يعرف بمسرح العرائس ، وهي غرائب دلت هذه الحادثة على وجودها وإلا فإن ذكرها عزيز .
…كما أنه من لطيف ما ذكر أمر التعاون المالي أو تقسيط النفقات على المشتركين في العمل ، ولعلها من أقدم المحاولات لتجميع رأس المال على الصعيد الشعبي بعيدا عن الفعل السلطوي(1/170)
…كذلك مما يستفاد من هذه الرواية اشتراك الأتراك فعليا بأموالهم وبغالهم واشتراكهم في رفع معنويات المشتركين من السُنة ، وهذه المساهمة المالية تؤكد أن التحالف الشعبي السني – التركي قد تجاوز مرحلة المصالح الاقتصادية المؤقتة وتحولت المسألة الشيعية إلى هاجس أغلب الأتراك أيضا . أما قوله " وكان مع كل جهة قوم من الأتراك يشدون منهم فلعل المقصود أنه مع كل جهة من السور المبني على القلائين محلة السُنة جماعة منهم .
ويؤكد نص آخر عند ابن الجوزي أن هذه المسألة قد أصبحت مطروحة للبحث لدى الأوساط الرسمية الحاكمة ، وأن التعاطف مع الشيعة قد يؤدي بصاحبه إلى الإبعاد عن الدوائر الحاكمة ، فيذكر ابن الجوزي " أنه انتهى إلى الخليفة أن القضاة أبا الحسن السمناني وأبا الحسن البيضاوي وأبا عبدالله الدامغاني وابن الواثق وابن المحسن الوكيلين حضروا عند القاضي علي بن المحسن التنوخي وجرى ذكر أهل الكرخ وما عملوا فقال التنوخي : هذه طائفة نشأت على سب الصحابة وما منعت منه إلا وجدت به ، ولا كان لدار الخلافة أمر عليه فما تحاول الآن منها وإني لأذكره وأنا أحمل رقاع ابن حاجب النعمان عن دار الخلافة القادرية إلى الرضي فلا يفضها ويقول إن كانت لك حاجة قضيتها فلما قام أخوه المرتضي أظهر الطاعة حفظا لنعمته ، فكتب الوكيلان بما جرى للديوان وشهد بذلك شهود فتقدم بما وقف عليه ابن عبد الرحيم الوزير فكاتب الخليفة وسأله الصفح عن التنوخي فوقع الاقتصار على أن كتب رئيس الرؤساء إلى قاضي القضاة ليتوقف عن شهادة التنوخي وليوعز عليه بملازمة منزله إلى أن يكشف عن حاله " (1).
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص 142(1/171)
قلت : وقراءة التنوخي للأحوال الراهنة في غير محلها فقد اقتضت التطورات التي طرأت على نفوذ الخلافة العباسية عقب ظهور السلاجقة في الشرق ، واضطراب وضعف أمر بني بويه ، من السلطة العباسية إعادة النظر في السياسة القديمة من الشيعة ، وقياس الحاضر على الماضي سياسيا قياس فاسد ، ولا شك أن رأي التنوخي لم يعجب السلطات الحاكمة خصوصا رئيس الرؤساء مما دفعه للأمر له بملازمة منزله مع ما يقتضي ذلك من كف يده عن ممارسة وظائفه الرسمية . كما أن هذا الرأي من التنوخي يدل على أنه يحمّل السلطة ما حدث ويحدث ، والصحيح أن الأمر بالمنع هو الإجراء الوحيد المتخذ من قبل السلطة أما التطورات اللاحقة فهي نتيجة تحركات شعبية الراجح أنه ليس للسلطة دور فيها ، بل أنها لم ترضَ التطورات التي نتجت عن هذا الفتنة وهو ما يفسر أمرها لابن النسوي بالعبور إلى الجانب الغربي . ولم تكن إجراءات ابن النسوي كافية لقطع دابر هذه الفتنة إذ أن الروايات تدل على استمرارها ، ويؤكد ابن الجوزي في نهاية عرضه ذلك ويقول " ثم زادت الفتن بين أهل السُنة و الشيعة ونقضت المحال ورميت فيها النار " (1) .
وقد رافق هذه الاضطرابات ازدياد أمر العيارين بسبب ضعف التواجد السلطوي بالجانب الغربي مما دفع بالناس إلى الانتقال إلى الجانب الشرقي وخصوصا في ما يعرف بالحريم وهي منطقة مغلقة كانت تضم قصور الخليفة والسلطة الحاكمة .
__________
(1) المرجع السابق ج8 ص 142(1/172)
ثم لما دخلت السنة التالية يذكر ابن الجوزي أنه ندب ابن النسوي للعبور وضبط البلد قال : ثم اجتمع العامة من أهل الكرخ – وهم شيعة - والقلائين وباب الشعير وباب البصرة – وهي محلات أهل السُنة – على كلمة واحدة في أنه متى عبر ابن النسوي أحرقوا أسواقهم وانصرفوا عن البلد فصار أهل الكرخ إلى باب نهر القلائين فصلوا فيه وأذنوا في المشهد حي على خير العمل ، وأهل القلائين بالعتيقة والمسجد والبزازين بالصلاة خير من النوم واختلطوا واصطلحوا وخرجوا إلى زيارة المشهدين مشهد علي والحسين وأظهروا بالكرخ الترحم على الصحابة " (1) .
قال ابن الجوزي " واستهل ذو الحجة فعمل الناس على الخروج لزيارة المشهدين بالحائر والكوفة فبدأ أهل القلائين بعمل طرد أسود عليه اسم الخليفة ، ونصبوه على بابهم وأخرج أهل نهر الدجاج و الكرخ مناجيق ملونة مذهبات واختلط الفريقان من أهل السُنة و الشيعة وساروا إلى الجامع بالمدينة فلقيهم مناجيق أهل باب الشام وشارع دار الرقيق ، ثم عادوا والعلامات بين أيديهم تقدمها العلامة السوداء والبوقات تضرب فجازوا بصينية الكرخ فنثر عليهم أهل الموضعين دراهم ، وخرج إلى الزيارة من الأتراك وأهل السُنة من لم تجر له عادة بها " (2) .
والذي يظهر أن المناجيق عبارة عن أعلام دالة على أهل المحلة ، والعلامة السوداء هي علم لأهل السُنة والسواد شعار العباسيين . وذكر ابن كثير الخبر مقتضبا متعجبا منه وقال : " وفيها اصطلح الروافض و أهل السُنة ببغداد وذهبوا كلهم لزيارة مشهد علي ومشهد الحسين وترضوا في الكرخ على الصحابة كلهم وترحموا عليهم وهذا عجيب جدا إلا أن يكون من باب التقية " (3).
قلت وتعجب ابن كثير بسبب شكه في صدق الرافضة في ترحمهم على الصحابة ، لأن ترحمهم صدقا ينقض أصلا من أصول مذهبهم .
__________
(1) المرجع السابق ج8 ص 145
(2) المرجع السابق ج 8 ص145
(3) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 12 ص 61(1/173)
أما سبب هذا الصلح المثير للعجب هو ما ذكرته رواية ابن الجوزي وأنه بسبب عزم ابن النسوي صاحب الشرطة على العبور للجانب الغربي لضبط البلد . والذي يظهر لي أن ابن النسوي كان مكروها من الجانبين ، من جانب أهل السُنة لما ذكر من علاقته التقليدية الحسنة بأهل الكرخ وهو ما تكشف عنه رواية ابن الجوزي إذ يقول " وقلد أبو محمد ابن النسوي المعونة لسكون أهل الكرخ إليه ثم خاف فاستعفى وأظهر التوبة "(1) .
والدلالة في قوله " لسكون أهل الكرخ إليه " أما خوفه وإظهار التوبة فدال على موقف أهل السُنة منه وكراهيتهم له ، خصوصا وقد ذكر في روايات أخرى أنه استخدم العيارين لضبط الأمور . أما موقف أهل الكرخ فإنهم وإن كانت علاقته به سابقا جيدة فلربما طرأ ما يعكرها أو أن موقفهم المعارض له بسبب تمثيله للسلطة العباسية المناوئة لهم .
وعلى كلٍ فهذا الوضع لم يكتب له الاستمرار لما في الصدور من الإحن كما يعبر ابن الأثير . ففي سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة قامت فتنة وتفاقمت وأسهب المؤرخون في ذكرها ، وسننقلها عن ابن الأثير لاكتمال روايته مع التنويه بما في الروايات الأخرى من الزيادات .
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج8 ص 79(1/174)
ذكر ابن الأثير " في هذه السنة في صفر تجددت الفتن ببغداد بين أهل السُنة و الشيعة وعظمت أضعاف ما كانت قديما فكان الاتفاق الذي ذكرناه في السنة الماضية غير مأمون الانتقاض لما في الصدور من الإحن .. وكان سبب هذه الفتنة أن أهل الكرخ شرعوا في عمل باب السماكين وأهل القلائين – من أهل السُنة - في عمل ما بقي من باب مسعود ، ففرغ أهل الكرخ و عملوا أبراجا كتبوا عليها بالذهب ( محمد وعلي خير البشر ) و أنكر السُنة ذلك وادعوا أن المكتوب ( محمد وعلي خير البشر فمن رضي فقد شكر ومن أبى فقد كفر ) و أنكر أهل الكرخ هذه الزيادة وقالوا ما تجاوزنا ما جرت به عادتنا فيما نكتبه على مساجدنا ، فأرسل الخليفة القائم بأمر الله أبا تمام نقيب العباسيين ونقيب العلويين وهو عدنان بن الرضي لكشف الحال وإنهائه فكتبا بتصديق قول الكرخيين ، فأمر حينئذ الخليفة ونواب الرحيم – آخر ملوك بني بويه ببغداد - بكف القتال فلم يقبلوا ، وانتدب ابن المذهب القاضي (وهو تصحيف وفي نسخة من المخطوط القاص وهو الصواب ) والزهيري وغيرهما من الحنابلة أصحاب عبد الصمد أن يحمل العامة على الإغراق في الفتنة ، فأمسك نواب الملك الرحيم عن كفهم غيضا من رئيس الرؤساء لميله إلى الحنابلة ، ومنع هؤلاء السُنة من حمل الماء من دجلة إلى الكرخ وكان نهر عيسى قد انفتح بثقه فعظم الأمر عليهم – أي على الشيعة – فانتدب جماعة منهم وقصدوا دجلة وحملوا الماء وجعلوه في الظروف وصبوا عليه ماء الورد ونادوا الماء للسبيل فأغروا بهم السُنة .(1/175)
وتشدد رئيس الرؤساء على الشيعة فمحوا خير البشر وكتبوا عليهما السلام ، فقالت السُنة لا نرضى إلا أن يقلع الآجر الذي عليه محمد وعلي وأن لا يؤذن حي على خير العمل ، وامتنع الشيعة من ذلك ودام القتال إلى ثالث ربيع الأول ، وقتل رجل هاشمي من السُنة فحمله أهله على نعش وطافوا به في الحربية وباب البصرة وسائر محال السُنة واستنفروا الناس للأخذ بثأره ثم دفنوه عند أحمد بن حنبل وقد اجتمع معهم خلق كثير أضعاف ما تقدم ، فلما رجعوا من دفنه قصدوا مشهد باب التبن – وفيه مقابر الشيعة – فأُغلق بابه فنقبوا في سوره وتهددوا البواب فخافهم وفتح الباب فدخلوا ونهبوا ما في المشهد من قناديل ومحاريب ذهب وفضة وستور وغير ذلك ونهبوا ما في الترب والدور وأدركهم الليل فعادوا ، فلما كان من الغد كثر الجمع فقصدوا المشهد وأحرقوا جميع الترب والأزج واحترق ضريح موسى وضريح ابن ابنه محمد بن علي والجوار والقبتان الساج اللتان عليهما واحترق ما يقابلهما ويجاورهما من قبور ملوك بني بويه معز الدولة وجلال الدولة ومن قبور الوزراء والرؤساء وقبر جعفر بن أبي جعفر المنصور وقبر الأمير محمد بن الرشيد وقبر أمه زبيدة وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجر في الدنيا مثله ، فلما كان من الغد خامس الشهر عادوا وحفروا قبر موسى بن جعفر ومحمد بن علي لينقلونهما إلى مقبرة أحمد بن حنبل فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر فجاء الحفر إلى جانبه ، وسمع أبو تمام نقيب العباسيين وغيره من الهواشم السُنة فجاءوا ومنعوا من ذلك ، وقصد أهل الكرخ إلى خان الفقهاء الحنفيين فنهبوه ، وقتلوا مدرس الحنفية أبا سعد السرخسي وأحرقوا الخان ودور الفقهاء ، وتعدت الفتنة إلى الجانب الشرقي فاقتتل أهل باب الطاق وسوق (بج ) (1) والأساكفة وغيرهم ، ولما انتهى خبر إحراق المشهد إلى
__________
(1) هكذا في المطبوع وفي نسخة من المخطوط يحيى بدون تنقيط والراجح أنه سوق يحيى محلة معروفة مجاورة لباب الطاق أهلها سنة .(1/176)
نور الدولة دبيس بن مزيد _ أمير الحلة - عظم عليه واشتد وبلغ منه كل مبلغ لأنه وأهل بيته وسائر أعماله من النيل وتلك الولاية كلهم شيعة ، فقطعت في أعماله خطبة الإمام القائم بأمر الله ، فروسل في ذلك وعوتب واعتذر بأن أهل ولايته شيعة واتفقوا على ذلك فلم يمكنه أن يشق عليهم كما أن الخليفة لم يمكنه كف السفهاء الذين فعلوا بالمشهد ما فعلوا ، وأعاد الخطبة إلى حالها " (1).
قلت : وهذه رواية ابن الأثير كاملة ، ويظهر فيها تعاطفه مع الشيعة ، وزاد ابن الجوزي أنه حدد بدء الفتنة بأول شهر صفر ، كما ذكر دور العيار التائب الطقطقي(2) " (3) ، وذكر كذلك أنه استدعي ابن النسوي وأمر بالعبور فقال قد جرى ما لم يجر مثله فإن عبر معي الوزير عبرت فقويت يده ، وذكر أنه أظهر أهل الكرخ الحزن وقعدوا في الأسواق للعزاء و علقوا المسوح على الدكاكين فقال الوزير إن أخذنا الكل خرب البلد فالأصلح التغاضي ، ثم يضيف أنه في شهر ربيع الآخر خطب بجامع براثا وأسقط حي على خير العمل ودق المنبر وقد كانوا يمنعون منه وذكر العباس في خطبته "(4) .
أما ابن كثير -رحمه الله- فقد وهم في روايته وذكر أن الشيعة هموا بقبر الأمام أحمد فمنعهم النقيب وخاف من غائلة ذلك " (5) .
قلت وليس هذا بصحيح فإنه سبق قلم منه ولم تذكر بقية الروايات ذلك ، كما أنه غير متصور لكون قبر الإمام وبقية المقابر حتى مقابر الشيعة كانت في محلات سنية ولم يكن للشيعة قدرة على الاعتداء عليها .
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج 9 ص 578
(2) ورد اسمه عند ابن كثير بالقطيعي والأول أصوب والله أعلم .
(3) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص 150
(4) المرجع السابق ج 8 ص 151
(5) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 12 ص 26(1/177)
وحرق القبور الوارد في هذه الروايات لا يقصد به ذات القبر بل البناء المبني عليه ، ولعل ابن كثير ظن خلاف ذلك فعده من مفاسد هذه الفتنة ، وحتى همُ أهل السُنة بقبري موسى بن جعفر وابن أخيه لم يكن المقصود منه إهانة أصحاب القبر بل نقلهم إلى مقابر أهل السُنة بجوار أحمد بن حنبل ، و أيا كان القصد فإن الصواب يقتضي ترك الموتى على حالهم .
وقد تفرد ابن الأثير في هذه الفتنة خلافا لكل الفتن السابقة واللاحقة التي وقعت بين أهل السُنة و الشيعة بالإشارة إلى دور الحنابلة وقدرتهم في تحريك الشارع السني ، كما أشار إلى جماعة عبد الصمد وهي جماعة حنبلية سنتحدث عنها في موضع لاحق ، والدور الحنبلي في قيادة وتحريك جماهير أهل السُنة في بغداد ضد التواجد الشيعي في بغداد واضح جلي منذ البدايات الأولى للصراع ، ولا يمكن إنكاره بل هو من مقتضيات الواقع الاجتماعي والتاريخي لمدينة بغداد . كما أن ابن الأثير تفرد بذكر دور رئيس الرؤساء المتعاطف مع الحنابلة والذي عده تشددا ، بيد أن السياق الذي وضع فيه ابن الأثير دور الحنابلة كان مدعاة للنظر إذ يحمل نبرة كلامه لوما واضحا للحنابلة ، وغمزا في موقفهم من الفتنة ، و إلا فلمَ ذُكروا لفظا في هذه الفتنة دون غيرها ، ولا يوجد تعليل مقبول سوى أن ما حدث من تجاوزات لا يرضاها المسلمون من نبش للقبور هو موضع إدانة ، فأحب ابن الأثير الإشارة إليهم تحديدا تحميلاً لهم وزر ما حدث .
وتتميز رواية ابن الجوزي بأمر مهم لم يذكره ابن الأثير وهو مآل أهل الكرخ وضعفهم حتى أنه خطب بجامع براثا الشيعي وأسقطت مظاهر الرافضة وأقيمت مظاهر أهل السُنة .(1/178)
ولاشك أننا لا نبتعد عن الصواب إذا اعتبرنا هذه الفتنة الفاصلة – والتي سبقت دخول السلاجقة لبغداد - كانت إعلان نجاح جهود ما يقارب قرنا من الزمان من تصحيح أهل السُنة للخطأ التاريخي لمعز الدولة البويهي الذي حاول إضفاء عباءة التشيع على بغداد ، غير أنها لم تكن آخر الجولات بل استمرت المناوشات وتجدد الشر والقتال حتى سنة سبع وأربعين وأربعمائة حين دخل السلطان السلجوقي طغرلبك بغداد ناصرا للخليفة ولمذهب أهل السُنة . منهيا مائة عام أو تزيد من التواجد البويهي الشيعي على هرم السلطة والتي أثمرت عن إشغال بغداد بالفتن والمنازعات التي أزالت بهجة عاصمة الرشيد .
[ السلاجقة في بغداد ]
…كان السبب المباشر في دخول السلطان السلجوقي لبغداد في رمضان سنة 447هـ مراسلات الخليفة له بدعم من رئيس الرؤساء ابن المسلمة خوفا من بقايا النفوذ البويهي الذي يقوده القائد التركي البساسيري المتحالف مع أمير الحلة الشيعي . قال ابن العمراني " وحين استشعر رئيس الرؤساء من البساسيري راسل التركمان السلجوقية وكتب كتابا إلى أبي طالب بن ميكائيل يخاطبه فيه بالأمير الجليل ركن الدولة ويحسن له دخول الحضرة " (1) .
__________
(1) ابن العمراني " الإنباء " ص188(1/179)
وذكر ابن الأثير أنه في أول سنة 447هـ ثار جماعة من أهل السُنة وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحضروا الديوان وطلبوا أن يؤذن لهم في ذلك وأن يتقدم إلى أصحاب الديوان بمساعدتهم فأجيبوا إلى ذلك وحدث من ذلك شر كثير " ، وقد مثل ابن الأثير لهذا الشر الكثير بما حدث لأبي سعد النصراني صاحب البساسيري أنه حمل في سفينة ستمائة جرة خمر ليحدرها إلى البساسيري بواسط في ربيع الآخر فحضر ابن سكرة الهاشمي وغيره من الأعيان في هذا الباب وتبعه خلق كثير وحاجب باب المراتب من قبل الديوان وقصدوا السفينة ، وكسروا جرار الخمر وأراقوها ، وبلغ ذلك البساسيري فعظم عليه ونسبه إلى رئيس الرؤساء وتجددت الوحشة فكتب فتاوى أخذ فيها خطوط الفقهاء الحنفية بأن الذي فعل من كسر الجرار وإراقة الخمر غير واجب ، قال وكانت حالة الوحشة بين البساسيري ورئيس الرؤساء من أعظم الأسباب في ملك السلطان طغرلبك العراق "(1) .
وقد رافق دخول السلطان السلجوقي لبغداد أن اشتعلت فتنة بين عوام الجانب الشرقي والأتراك – وهم هنا بقايا الحكم البويهي ولا يقصد بهم الأتراك السلاجقة – وهذا ما ذكره ابن الجوزي أما ابن الأثير فيذكر رواية مشكلة هي أن العامة في الجانب الشرقي هاجموا عسكر طغرلبك ثم اشتعلت الفتنة يقول :" فارتج البلد من أقطاره وأقبلوا – أي الناس _ من كل حدب ينسلون يقتلون من الغز من وجد في محال بغداد ، إلا أهل الكرخ فإنهم لم يتعرضوا إلى الغز بل جمعوهم وحفظوهم ، وبلغ السلطان ما فعله أهل الكرخ من حماية أصحابه فأمر بإحسان معاملتهم " ، ثم ذكر نهب الغز محلات أهل السُنة ودور رئيس الرؤساء ودور أهله " (2)
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج 9 ص 608
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 9 ص 612(1/180)
قلت ورواية ابن الأثير عسير جدا قبولها ، والشك في أن ما ذكره لم يقع منه شيء قوي ، وهي عندي مختلقة أعادت عرض ما وقع بين الأتراك من بقايا الحكم البويهي والناس في الجانب الشرقي لأسباب اقتصادية أو انتقامية للتعسف الذي كان يمارسه الأتراك على معايش الناس ، وكان الهدف من إعادة العرض تحسين صورة الشيعة ، وقد أعرض ابن كثير عن هذه الرواية الموهمة وغاية ما ذكر أن الجيش نهب البلد غير دار الخليفة وصودر خلق كثير من التجار "(1) .
ورواية ابن الأثير لا تتفق مع سياق الأحداث ولا مع طبيعة العلاقات بين رموز أهل السُنة كابن المسلمة والسلطان طغرلبك ، وما تبع دخول السلطان السلجوقي من إطلاق يد رئيس الرؤساء ، فقد ذكر ابن الجوزي في السنة التالية سنة ثمان وأربعين " أن رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسين ابن المسلمة أمر بأن تنصب أعلام سود في الكرخ فانزعج لذلك أهلها ، وكان يجتهد في أذاهم وإنما كان يدفع منهم (2) عميد الملك الكندري وزير السلطان " (3) .
قلت : ولعل أقرب تفسير لهذا العمل أنه أراد رفع شعار العباسيين وهو السواد دليلا على ارتفاع شأن الخلافة العباسية وإشعارهم بذلك وهم الذين عاشوا في ظل السلطات البويهية المناوئة إلى جانب كونهم معارضين تقليديين للسلطة العباسية السنية .
وقد نعت ابن الجوزي و ابن كثير هذا العمل بكونه أذية للشيعة .
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج12 ص82
(2) هكذا في المطبوع
(3) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص 171(1/181)
وتبع هذا الإجراء إجراء آخر عزاه ابن الأثير للخليفة ، فقد ذكر ابن الجوزي أنه في 448هـ أقيم الأذان في المشهد بمقابر قريش ومشهد العتيقة ومساجد الكرخ بالصلاة خير من النوم ، وأزيل ما كانوا يستعملونه في الأذان حي على خير العمل ، وقلع جميع ما كان على الدور والأبواب من ( محمد وعلي خير البشر ) ودخل إلى الكرخ منشدو أهل السُنة من باب البصرة فأنشدوا الأشعار في مدح الصحابة وتقدم رئيس الرؤساء إلى ابن النسوي بقتل أبي عبد الله ابن الجلاب شيخ البزازين بباب الطاق لما كان يتظاهر به من الغلو في الرفض وقُتل و صلب على باب دكانه ، وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره " (1).
وذكر ابن الأثير الخبر مقتضبا وزاد بامتثال أهل الكرخ لهذا الأمر بسبب الخوف من السلطنة وقوتها " ً (2) .
أما ابن كثير فيعلل هذا الأمر بأن نوء الرافضة اضمحل لأن بني بويه كانوا حكاما وكانوا يقوونهم وينصروهم فزالوا وبادوا وذهبت دولتهم وجاء بعدهم قوم آخرون من الأتراك السلاجقة الذين يحبون أهل السُنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم والله المحمود أبدا على طول المدى " (3) .
ثم تبع ذلك في سنة تسع وأربعين أن كبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة بالكرخ وأخذ ما وجد من دفاتر وكرسي كان يجلس عليه للكلام وأخرج إلى الكرخ وأضيف إليه ثلاثة مناجيق كان الزوار من أهل الكرخ قديما يحملونها معهم إذا قصدوا زيارة الكوفة فأحرق الجميع كما ذكر ابن الجوزي "(4)
__________
(1) المرجع السابق ج 8 ص 172
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 9 ص 632
(3) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 12 ص 69
(4) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص 179(1/182)
ولاشك أن ذلك يعد نهاية عصر كما يعبر ابن كثير غير أن العصر اللاحق ظل مثقلا بمعطيات العصر السابق ، فلم يزل للشيعة حضور واضح في بغداد ، وهذا ما يفسر الفتن التي ستظهر بين الآونة والأخرى في بغداد لأسباب مختلفة ليس منها في الغالب إقامة مسيرات النواح في عاشوراء والاحتفالات يوم غدير خم . ولن تستطيع بغداد أن تتخلص من هذا الوجود كما حدث في الشمال الأفريقي سابقا وكما سيحدث في مصر لاحقا بسبب الوضع الجغرافي لبغداد وقربها من مراكز الشيعة في الجنوب .
ولم يعكر هذا الانتصار السني سوى ما حدث عند دخول البساسيري القائد التركي المناوئ للوجود السلجوقي والرافض لسياسات ابن المسلمة في بغداد ، وكان دخوله في ذي القعدة من سنة خمسين وأربعمائة ، بمساعدة قريش بن بدران العقيلي أمير الموصل الشيعي ، وقد نجح في احتلال بغداد عقب أسر السلطان السلجوقي طغرلبك على يد أخيه إبراهيم ينال في همذان ، ولم تفلح محاولات ابن المسلمة في استخدام العوام وتسليحهم ، فدخل البساسيري بغداد وذكر أن أهل الكرخ الشيعة تلقوه ليدخل من عندهم فرحا بوصوله ، وقال ابن الجوزي " فتلقاه أهل الكرخ فوقفوا في وجه فرسه وتضرعوا إليه أن يجتاز من عندهم فدخل الكرخ " (1).
وكان أول إجراءاته القبض على ابن المسلمة وقتله شر قتلة ، وقتل محمد ابن الأمين رسول الخليفة إلى السلاجقة ، وأكثر ما نقم عليه هو مراسلاته للسلطان يستدعيه إلى بغداد ، وقد فرح الشيعة بقدوم البساسيري كثيرا ، ويذكر ابن الجوزي أن أهل الكرخ أعادوا الأذان بحي على خير العمل وظهر عليهم السرور ، قال ونهب أكثر باب البصرة بأيدي أهل الكرخ تشفيا لأجل المذهب "(2).
__________
(1) المرجع السابق ج 8 ص 192
(2) المرجع السابق ج 8 ص 192(1/183)
وكان قتل ابن المسلمة – رحمه الله – قد أخذ مظهرا إذلاليا لإذلاله وإذلال أهل السُنة ، ويصف ابن الأثير ذلك فيقول " انه أخرج من محبسه مقيدا وعليه جبة صوف وطرطور من لبد احمر وفي رقبته مخنقة جلود بعير " (1) ثم يقول عن قتله " أنه أنزل عن الجمل وألبس جلد ثور وجعلت قرونه على رأسه وجعل في فكيه كُلابا من حديد وصلب فبقي يضطرب إلى آخر النهار ومات "(2) . وكان آخر كلامه كما نقل ابن كثير " الحمد لله الذي أحياني سعيدا وأماتني شهيدا "(3) .
وقد خطب البساسيري في بغداد للمستنصر العبيدي الرافضي صاحب مصر ، ثم سار للبصرة فملكها . أما الخليفة فقد خرج بأمان قريش بن بدران إلى صاحب عانة فحفظه . ويثني ابن الأثير على البساسيري وهو ثناء منتظر من مثله لمثله ويقول :" وأجرى الجرايات على المتفقهة ولم يتعصب لمذهب " (4) .
في حين يذكر ابن كثير أن البساسيري- ويسميه الخبيث - انتقم من أعيان أهل بغداد انتقاما عظيما وغرق خلقا ممن كان يعاديه " (5).
غير أن الأمور لم تسر على ما يحب البساسيري ومحبوه وشيعته بل رجع السلطان السلجوقي الذي بلغ أهل بغداد انتصاره ففرحوا بيد أنهم لم يظهروا ذلك خوفا ، ولما رجع السلطان كان البساسيري خارج بغداد وخرج معه الكثير من شيعة بغداد ظانين أنه سيعود إلى بغداد ونهبت أموالهم ، وقد التقى السلطان بجيش البساسيري فهزمهم الله حتى أنه لم ينج من أصحابه إلا القليل وقتل البساسيري " (6)..
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج 9 ص 644
(2) المرجع السابق ج 9 ص644
(3) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 12 ص 79
(4) ابن الأثير " مرجع سابق " ج 9 643
(5) ابن كثير " مرجع سابق " ج 12 ص 78
(6) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 12 ص 83(1/184)
وكان دخول طغرلبك بغداد كما يذكر ابن الجوزي في ذي القعدة من سنة إحدى وخمسين قال :" وثار الهاشميون وأهل باب البصرة إلى الكرخ فنهبوها وطرحوا النار في أسواقها ودروها " (1) .
أما ابن الأثير فيقول في أسف مغموز :" وأحرقوا درب الزعفران وهو من أحسن الدروب وأعمرها " (2) .
وبعد هلاك البساسيري استقر الأمر للخليفة العباسي في بغداد بعد عودة السلطان السلجوقي واستقراره في المشرق ، لذا نجد أنه في سنة ثمان وتسعين أغلق أهل الكرخ دكاكينهم وأحضروا نساء ينحن كما جرت عادتهم السالفة ، فحين وقع ذلك – كما يقول ابن كثير - أنكرته العامة وطلب الخليفة أبا الغنائم وأنكر عليه ذلك فاعتذر إليه بأنه لم يعلم به وحين علم به أزاله ، وتردد أهل الكرخ إلى الديوان يعتذرون عن ذلك ، وأخرج التوقيع بكفر من سب الصحابة وأظهر البدع "(3) .
قلت ومن الملاحظ أنه لم تقع فتنة بين أهل الكرخ وأهل السُنة الذين بادروا بالإنكار ولم يبادروا بالفتنة لعلمهم بموقف السلطة العباسية من هذه المسألة وأن إنكارهم سيجد آذانا صاغية خلافا للعهد السابق الذي كان يشجع الشيعة فلم يكن للإنكار القولي فائدة .
…
…قلت : ولم يستطع كل هذا الزخم التاريخي أن يهزم جغرافية بغداد التي ظلت مثقلة بالتجاور السني – الرافضي ، وماتبع ذلك من فتن لا تنقضي ، حتى قال الذهبي وفتن السُنة والشيعة متتالية ببغداد لا يعبر عنها " (4) .
…وشهدت الأعوام 478-479-502-561-571 فتنا عديدة من ذلك ما ذكره ابن الجوزي سنة 480هـ قال " وفيها وقع القتال بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة وأصعد أهل باب الأزج ناصرين أهل باب البصرة بالزينة والسلاح فقصدهم سعد الدولة فمنعهم من العبور وقاتلهم فانطفأت الفتنة " (5)
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج8 ص 205
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 9 ص 646
(3) ابن كثير " مرجع سابق " ج 12 ص 93
(4) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج18 ص 322
(5) ابن الجوزي " المنتظم " ج 9 ص 38(1/185)
…قلت ومساعدة باب الأزج وهم في الجانب الشرقي من بغداد لباب البصرة بسبب طاعون بغداد سنة 478هـ ، والذي قال فيه ابن الجوزي " وهلك عامة أهل باب البصرة " (1) .
…وظلت الأمور بين السُنة والشيعة مرتبطة بميزان القوى الحاكمة في بغداد ، وكان النفوذ الشيعي قد استعاد عافيته وشهدت بغداد عددا من وزراء الشيعة ، كان آخرهم ابن العلقمي الذي شهدت بغداد في عهده سنة 655 هـ فتنة عظيمة بين الرافضة وأهل السُنة فنهب الكرخ حتى دور قرابات الوزير ابن العلقمي وكان ذلك من أقوى الأسباب في ممالأته للتتار " كذا قال ابن كثير ، وفي كلامه نظر فإنه قد ذكر المؤرخون أن ابن العلقمي سعى إلى إضعاف الخلافة ، وصرف جيوشها التي قدرت بمائة ألف عند توليه الوزارة حتى بلغت عشرة آلاف عند دخول التتار ، ثم هو من أتباع مذهب لا يرى خلافة بني العباس ، فمهَّد هذا المشؤوم بأفعاله ومكاتباته للتتار الوثنيين لاجتياح عاصمة الإسلام وغرة البلدان ، ليشفي غيضه لكنه مات فيه ، وذاق وبال أمره حتى قيل أنه كان يتأسف على حاله بعد الوقيعة .
…قال ابن كثير :" وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم وعلمهم بها وعليها ، فلم يقدره الله تعالى على ذلك بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة ، وأتبعه بولده فاجتمعا والله أعلم في الدرك الأسفل من النار " (2) .
__________
(1) المرجع السابق ج 9 ص 15
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 13 ص203(1/186)
…قلت وكان أول الخاسرين بعد أن ارتفعت عنه سحابة أهل السُنة وظل خلفاء بني العباس ووقع في غبراء صفراء ، نعود بالله من البلاء ودرك الشقاء جاء في التواريخ أن امرأة رأته بعد الحادثة وهو في الذل والهوان وهو راكب في أيام التتار برذونا وهو موسم عليه وسائق يسوق به ويضرب رأسه فوقفت إلى جانبه وقالت له يابن العلقمي هكذا كان بنو العباس يعاملونك فوقعت كلمتها في قلبه وانقطع في داره إلى أن مات كمدا وغبينة وضيقا وقلة وذلة " (1) .
[الحنابلة داخل أروقة القصر]
…قبل الفراغ من هذا الفصل ينبغي لفت الانتباه إلى أن الفترة التي تولى فيها الخلافة القادر ثم ابنه القائم من الحقب التي شهدت تقريب علماء الحنابلة في بغداد .
…وعلى الرغم من ندرة إشارة المصادر التاريخية إلى هذا الدور إلى أن نتفا من هنا وهناك قد تسلط الضوء على ما دار داخل أروقة القصر .
…وكان الوضع السياسي في بغداد عندما تولى القادر الخلافة سنة 381هـ مضطربا ، وكانت الإمارة البويهية مضعضعة ، والصراع بين الأتراك والديلم مستمر ، ورغم ذلك لم يكن للقادر الذي أعاد للخلافة جدتها – القدرة العسكرية أو الاقتصادية التي تعينه على ضبط الأمور ، إلا أنه امتلك قدرا من الحركة وفرها له تنازع القوى في العراق ، وبزوغ قوى سنية قوية في المشرق كدولة السلطان محمود بن سبكتكين ودولة السلاجقة لاحقا .
__________
(1) المرجع السابق ج 13 ص 213(1/187)
…وعُرف القادر بالرسالة التي ألفها في العقيدة والتي ستظل حاضرة لحقب بعد وفاته رحمه الله ، وستظل ورقة يستخدمها الحنابلة بالمطالبة بقراءتها للضغط على الخلافة العباسية ولكبح جماح المخالفين ، قال ابن الجوزي عن القادر :" وكان صنف كتابا فيه الأصول وذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أهل الحديث وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبدالعزيز وأفكار المعتزلة القائلين بخلق القرآن وكان الكتاب يقرأ في كل جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي ويحضر الناس سماعه " (1) .
…وكان من أبرز رجال الحنابلة المتصلين بقصر الخلافة القاضي أبو يعلى بن الفراء الذي تولى قضاء الحريم – وهو القصر وما حوله- وقضاء باب الأزج وقضاء حران ، وذكر مؤلف طبقات الحنابلة في ترجمة والده أبي يعلى ابن الفراء " وعنه انتشر مذهب الإمام أحمد ، كان له المحل السامي عند القادر والقائم " (2) .
…قلت وانتشار مذهب أحمد على يديه من قبل تلميذيه عبدالوهاب بن أحمد قاضي حران ، وعبدالواحد بن محمد الشيرازي الذي نشر مذهب أحمد في بلاد الشام .
…كما كان من رجالات الحنابلة آنذاك أبو محمد التميمي وهو رزق الله بن عبدالوهاب التميمي ( ت 488هـ) ، نقل الذهبي قول أبي علي الصدفي :" كان كبير بغداد وجليلها " وقول ابن ناصر :" وكان ذا قدر رفيع عند الخلفاء "
…قلت : وقد بعثه القائم بجوابه إلى طغرلبك سنة451 هـ
…قال عنه ابن أبي يعلى :" أحد الحنابلة المشهورين في الحنبلية ، وكان إمام العصر يراسل به في بعض مهماته إلى أمراء الأطراف لأنه كان له قبول عند الأمراء والوزراء " .
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 7 ص 161
(2) ابن أبي يعلى " طبقات الحنابلة " ج 3 ص 362(1/188)
…وقد نقل ابن الجوزي عن أبي محمد التميمي قوله بعد وفاة الخليفة القائم وغسل الشريف أبي جعفر له وخروجه ، قال ونحن كل جالس على الأرض متحف مغير لزيه مخرق ثوبه يهمه ما يحدث بعد موت هذا الرجل " (1) .
…قلت وقد توفي القائم رحمه الله سنة 467هـ وقد ساهم في زيادة نفوذ الحنابلة داخل القصر موقف الوزير علي بن الحسن بن المسلمة رئيس الرؤساء رحمه الله الذي ذكر تقربه للقاضي أبي يعلى ، وموقف الشيخ الأجل عبدالملك بن منصور بن يوسف الذي أثنى عليه كافة من أرخ لوفاته رحمه الله تعالى .
وبذا نكون قد وصلنا إلى نهاية تتبعنا لعلاقة الحنابلة بالرافضة في بغداد ، وما رافق ذلك من صعود نجم الرافضة تارة ، وضعف شأنهم تارة أخرى ، مع بيان ما قدمه الحنابلة في وجه التجاوزات الرافضية على الإسلام وأهله ، ولم تكن المواجهات المستمرة بكل ما رافقها من عنف ، وما خالطها من تعدٍ سوى محاولة اجتهادية بذلها أناس شعروا بالخطر على دينهم ومعتقدهم .
… وقفوا في وجه تيارٍ طمَّ وعمَّ ، وسيقت له الأموال ، وحشدت لأجله الجيوش ، ومع ذلك بقي صوت الحنابلة صوت أهل السنة واضحا ، وأسَّس هذا الموقف الذي شهدته بغداد من وقوف الحنابلة في وجه الرافضة وسْماً عاما يَسِمُ رجال هذا المذهب حتى بعد خروجهم من بغداد ، وبعدِهم عن وطأة الجغرافيا ، فألف أحدهم وهو شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحنبلي الحراني والذي نشأ في بلدة نشر فيها مذهب أحمد أحد تلاميذ حنابلة بغداد ، كتاب منهاج السنة ، فكبت الله به أقلام الرافضة بعدما كبتت أيديهم أكفُ حنابلة بغداد .
…وضمن ما كتبه الله لهم من خير ، وهم الواقفون على بوابة من بوابات أهل الإسلام ، اصطدم الحنابلة مجددا مع فرقة أخرى من الفرق المنتسبة للإسلام ، وهذا ما سنبحثه لا حقا بعناية الله وتوفيقه . و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص 295(1/189)
لحظات على طريق الخروجالفصل الثالث……………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………………
الأشاعرة يطرقون باب بغداد…213
الصراع الحنبلي – الأشعري....................... ........................…228
وأسفر صباح الزمان ... الحقبة الأشعرية في بغداد…242
بين يدي الرحيل ...تشريح الجسد الحنبلي…261
صولة البزل القناعيس..اللحظات الأخيرة على عتبات بغداد…281
الأشاعرة يطرقون باب بغداد
استعرضنا في الفصل الماضي التأثيرات السياسية التي حدثت في المشرق الإسلامي الذي كانت أرضه تعج بالكثير من الأفكار والمذاهب المتصارعة ، وكيف أن هذه الصراعات تسري نحو بغداد تحديدا باعتبارها مقصدا لجميع المسلمين آنذاك ، وكانت تداعيات القوى والمذاهب والقوميات المتصارعة واضحة المعالم والأثر في بغداد ، وكان انتصار بني بويه وزحفهم من المشرق نحو بغداد هو جزء من صراع كانت تشهده منطقة فارس وجنوب العراق ، بين القوى الشيعية التي نجحت في السيطرة عبر بني بويه على بغداد ، وما رافق هذه السيطرة من آثار اقتصادية واجتماعية عليها ، من ذلك ما سميته بيوميات العذاب بين المحلات السنية والشيعية في بغداد طوال عهد البويهيين الذين فشلت جهودهم في زحزحة القوى السنية خصوصا الحنابلة عن مواقعهم في عاصمة الخلافة العباسية .
وعند أفول نجم البويهيين وخلفهم كافة القوى الشيعية بزغ نجم السلطنة السلجوقية السنية القوية في المشرق ، والتي تشكلت فيه عسكريا وفكريا ومذهبيا ، وجاءت ممثلة للجانب السني وعاضدة من قواه في بغداد .(1/190)
وقد تشكلت هذه القوى في إقليم خراسان السني (1)، وإقليم خراسان كما يقول ابن حوقل يحيط به من شرقيه نواحي سجستان وبلد الهند وغربيها مفازة الغزية ونواحي جرجان وشماليها بلاد ماوراء النهر وشيء من بلاد الترك , وجنوبيها مفازة فارس وقومس .(2)
قال : " وأعظم هذه النواحي منزلة وأكثرها جيشا وشحنة وأجلها منزلة وجباية نيسابور ومرو وبلخ وهراة "(3)
ويسمي الذهبي في كتابه الأمصار ذوات الآثار"نيسابور فيقول دار السنة والعوالي ويعدد من علمائها مسلم بن الحجاج وابن راهويه وابن خزيمة " (4)
ويصف البشاري المقدسي الشيعي المذهب والمتوفى سنة 380هـ مذاهب أهلها فيقول : ومذاهبهم مستقيمة غير أن الخوارج بسجستان ونواحي هراة كثيرة ، وللمعتزلة ظهور بلا غلبة ، وللشيعة والكرامية بها جلبة ، والغلبة في الإقليم لأصحاب أبي حنيفة إلا في كورة الشاش وإبلاق وطوس وأبيورد وسواد بخارا وغيرها فإنهم شفعوية كلهم ، والعمل في هذه المواضع على مذاهبهم ولهم جلبة بهراة و سجستان وسرخس والمروين ولا يكون قاضيا إلا من الفريقين "(5)
ويذكر الحموي هراة فيقول :" من أمهات مدن خراسان ولم أر بخراسان عند كوني بها سنة 607 هـ مدينة أجل ولا أعظم ولا أفخم ولا أحسن ولا أكثر أهلا منها " (6) ، ويصف نيسابور بأنها معدن الفضلاء ومنبع العلماء " (7)
__________
(1) جزء منه ما يعرف بأفغانستان تقريبا
(2) ابن حوقل " صورة الأرض " ص 358
(3) المرجع السابق ص 36
(4) الذهبي " الأمصار ذوات الآثار " ص206
(5) البشاري " أحسن التقاسيم " ص 252
(6) ياقوت " معجم البلدان " ج5 396
(7) المرجع السابق ج5ص332(1/191)
ولم تزل خراسان إقليما تترعرع فيه الأفكار ، وهو عبارة عن محاضن فكرية فعالة ، فالشافعية التي ولدت في مصر ترعرعت هناك ، وصار الوجود الشافعي أكثر وضوحا في المشرق ، إذ وجد أرضا خصبة خالية فنما فيها ، وهو أمر قريب من الفهم إذ أن بغداد كانت عند انتقال المذهب الشافعي إلى خراسان ذات حضور حنبلي قوي ، فلم يتمكن المذهب الشافعي من الحضور الجمعي ، واقتصر في تمثيله على عدد محدود من العلماء ، كذلك لم يجد فرصة للحياة في مناطق فارس وجنوب العراق لوجود المذهب الشيعي ، في حين كانت خراسان دارا لأهل الحديث فانتشر المذهب الفقهي فيهم واستطاع مزاحمة المذهب الحنفي الذي كان مذهب عامة بلاد العجم من أهل السنة .
كما أنه من الطبيعي أن يلجأ المذهب الاعتزالي إلى تلك الجهات عقب اندحاره في بغداد ، والذي مثّل اندحارا شاملا في المنطقة المركزية من العالم الإسلامي والمتمثلة في بلاد الشام والعراق ، وتمثل هذا الاندحار في جانبين ، أحدهما بعد ما عرف في التاريخ بمحنة خلق القرآن ، وما تبعها من مضايقات حنبلية لعلماء المعتزلة ، والآخر الانقلاب الذي قاده أبو الحسن الأشعري والذي ابتعد عن مذهب المعتزلة واقترب من مذهب أهل الحديث .(1/192)
ولكن هذا الناشئ ما يلبث أن يصبح المعارض الرئيسي للمذهب الحنبلي ، و هو مذهب عرف لاحقا بالمذهب الأشعري و ينسب إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري ولد سنة 260 هـ بالبصرة ، وبها نشأ ولازم أبا علي الجبائي المعتزلي ، ينقل ابن عساكر - ت 571هـ - عن إسماعيل القيرواني المعروف بابن عزرة قال : الأشعري شيخنا وإمامنا ومن عليه معولنا ، قام على مذاهب المعتزلة أربعين سنة ، وكان لهم إماما ثم غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يوما فبعد ذلك خرج إلى الجامع فصعد المنبر وقال : معاشر الناس إني إنما تغيبت عنكم في هذه المدة لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة ولم يترجح عندي حق على باطل ولا باطل على حق فاستهديت الله تبارك وتعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده كما انخلعت من ثوبي هذا ، وانخلع من ثوب كان عليه ورمى به ودفع الكتب إلى الناس فمنها كتاب اللمع وكتاب أظهر فيه عوار المعتزلة سماه كشف الأسرار وهتك الأستار ، وغيرهما فلما قرأ تلك الكتب أهل الحديث والفقه من أهل السنة والجماعة أخذوا بما فيها وانتحلوه واعتقدوا تقدمه واتخذوه إماما "(1)
وذكر السبكي نقلا عن الحسين بن محمد العسكري : كان الأشعري تلميذا للجبائي وكان صاحب نظر وذا إقدام على الخصوم وكان الجبائي صاحب تصنيف وقلم إلا أنه لم يكن قويا في المناظرة فكان إذا عرضت مناظرة قال للأشعري : نب عني " (2)
__________
(1) ابن عساكر " تبيين كذب المفتري " ص39
(2) السبكي " الطبقات " ج3ص349(1/193)
والرواية التي ذكرها ابن عساكر لتوبة الشيخ فيها رغبة في تحسين أمر هذه العودة بكونها هداية من الله تعالى رغم تكافؤ الأدلة في ذهن الشيخ ، والأقوى منها رواية ابن النديم التي يذكر فيها " أنه رقي كرسيا ونادى بأعلى صوته من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي : أنا فلان بن فلان ، كتب بخلق القرآن وأن الله لا يرى بالأبصار وأن أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة " (1)
وعلى العموم فإن من الضروري قبل قبول الخبر أو رفضه فيما يتعلق بالأشعري أن يلاحظ أن العمدة في ترجمته على ابن عساكر في تبيين كذب المفتري ، والسبكي في الطبقات وهما شديدا التعصب للأشعري ، وكل ما كتب إنما كتب بعد اشتهار أمره ودخول مذهبه دائرة الاهتمام ، فالواجب أخذها بحذر ، وشاهد هذا الاختلاف الذي سيمر علينا في ذكر وفاته وفي حقيقة انتمائه للمذهب الفقهي ، وفي ذلك بقول السبكي :" وقد زعم بعض الناس أن الشيخ كان مالكي المذهب وليس ذلك بصحيح ، إنما كان شافعيا تفقه على أبي إسحاق الاسفراييني "(2)
بل إن الكوثري محقق كتاب تبيين كذب المفتري يقول " وفقهاء المذاهب يتجاذبون الأشعري إلى مذاهبهم ويترجمونه في طبقاتهم والحنابلة أحق بذلك حيث يصرح الأشعري في مناظراته معهم أنه على مذهب أحمد لكنهم لا يترجمونه في طبقاتهم ولا يعدونه منهم بل يمقته الحشوية منهم " (3)
وقد مر الأشعري بثلاثة أطوار فكرية : أولها الطور المعتزلي جاء عند ابن النديم أنه كان أولا معتزليا ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة "(4)
__________
(1) ابن النديم " الفهرست " ص 257
(2) السبكي " الطبقات " ج 3 ص 352
(3) الكوثري " حاشية كتاب تبيين كذب المفتري " 16
(4) ابن النديم " مرجع سابق " ص 257(1/194)
ثم الطور الثاني والذي يمكن تسميته بالطور الكلابي – بتشديد اللام – نسبة لابن كُلاّب أحد متكلمي السنة ، وقد عد ابن النديم الأشعري من متكلمي الكلابية ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " إن الأشعري وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب فإنه كان تلميذ الجبائي ومال إلى طريقة ابن كلاّب "(1)
وابن كلاّب هو عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان ذكره الذهبي فقال :" رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه صاحب التصانيف في الرد على المعتزلة وربما وافقهم " (2)
اتهم بالنصرانية فقد نقل ابن النديم المعتزلي عن أبي العباس البغوي قوله : دخلنا على فثيون النصراني وكان في دار الروم في الجانب الغربي فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب فقال رحم الله عبد الله كان يجيئني فيجلس في تلك الزاوية – وأشار إلى ناحية في البيعة وعني أخذ هذا القول ولو عاش لنصرنا المسلمين " (3)
قلت وهذه مقالة مفتراة نفاها علماء الإسلام فذكر ابن تيمية ذلك فقال :" وكان ممن انتدب للرد عليهم – أي على الجهمية والمعتزلة – أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب – وكان له فضل وعلم ومن قال انه ابتدع ما ابتدعه ليظهر دين النصرانية في المسلمين كما يذكره طائفة في مثالبه ويذكرون أنه أوصى أخته بذلك فهذا كذب عليه " (4)
ودافع الذهبي عنه : " وقال بعض من لا يعلم : انه ابتدع ما ابتدعه ليدس دين النصارى في ملتنا وإنه أرضى أخته بذلك وهذا باطل ، والرجل أقرب المتكلمين إلى السنة " (5)
وعد السبكي وفاته فيما ظهر له بعد الأربعين ومائتين بقليل .
__________
(1) ابن تيمية " الفتاوى الكبرى " ج 3 ص 228
(2) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 11 ص 174
(3) ابن النديم " مرجع سابق " ص 256
(4) ابن تيمية" مرجع سابق " ج 5 ص555
(5) الذهبي " مرجع سابق " ج 11 ص 175(1/195)
وعلى الرغم من كون مؤرخي الأشاعرة لا يذكون العلاقة التي بين أقوال أبي الحسن اشعري وابن كلاب بل هي عندهم مجهودات خاصة للأشعري . ومع أن ابن كلاب توفي – حسب ما ذكر – قبل ولادة الأشعري ، إلا أن أقوال ابن كلاب البصري كانت شائعة في البصرة موطن أبي الحسن الأشعري ولا يبعد تأثره بها .
عودا على مسألة أطوار أبي الحسن الأشعري الفكرية والعقدية فإن الطور الثالث والأخير هو ما يمكن تسميته بالطور الحنبلي ، وهو الطور الذي شهد تأليف كتاب " الإبانة في أصول الديانة " ويبدأ هذا الطور غالبا بعد عام 300 هـ بعد دخوله إلى بغداد ، ولا شك أن دخوله بغداد واحتكاكه بالجو الحنبلي القوي أثر في نشوء هذا الطور في حياة الأشعري ، حتى أن أبا الحسن الأهوازي المتوفى سنة 446 ألف كتابا في مثالب الأشعري ذكر فيه كما ينقل ابن عساكر أنه جعل الإبانة من الحنابلة وقاية " (1)
وجاء في طبقات الحنابلة قال قرأت على علي القرشي عن الحسن الأهوازي قال سمعت أبا عبد الله الحمراني يقول لما دخل الأشعري بغداد جاء إلى البربهاري فجعل يقول رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس وقلت لهم وقالوا وأكثر الكلام في ذلك فلما سكت قال البربهاري ما أدري مما قلت قليلا أو كثيرا و لا نعرف إلا ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل ، قال فخرج من عنده وصنف كتاب الإبانة فلم يقبله منه ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها " (2)
__________
(1) ابن عساكر " مرجع سابق " ص 388
(2) ابن أبي يعلى " الطبقات " ج 3 ص37(1/196)
وقد أنكر ابن عساكر هذا الخبر بشدة ، وعلى الرغم من ذلك فإن مسألة عرض نفسه على البربهاري مقدم الحنابلة في بغداد آنذاك غير مستبعدة ، وموقف البربهاري منه مفهوم إذ عرف بتشدده في وجه أهل البدع ، كما أنه- أي البربهاري - يمثل تيارا يمنع الخوض في علم الكلام الذي اشتهر به الأشعري حتى في كتابه الإبانة ، ورفض الحنابلة في ذلك الحين لهذا الكتاب ممكن بسبب ما احتواه من رد على المعتزلة ومناقشته معهم استنادا على المعقول دون المنقول إذ أنه من الواضح فقر كتاب الإبانة في الأحاديث والآثار النبوية والتي تكثر عادة في ردود أهل الحديث عند ردهم على المعتزلة.
وقد جاء عند أبي الفدا في حوادث سنة330 عند الحديث عن أبي الحسن الأشعري قال ": ودفن بمشرعة الزوايا ثم طمس قبره خوفا عليه لئلا تنبشه الحنابلة وتحرقه فإنهم عزموا على ذلك مرارا عديدة ويردهم السلطان عنه " قال " ومعظم الحنابلة يحكمون بكفره ويستبيحون دمه ودم من يقول بقوله وذلك لجهلهم " (1)
قلت وقول أبي الفدا زعم لا سند له ، والحنابلة لم يكونوا زمن أبي الحسن يهتمون بخلافه ولا هم كما زعم يحكمون بكفره ولا يستحلون دمه أو إحراق جسده ، وهذا تباك منه لا مسوغ له ، رغم أن الحنابلة قد وجدوا في أنفسهم قلقا مبكرا من الأفكار التي يروج لها الأشاعرة ، إلا إن أحد أكبر علماء الأشعرية وهو أبو بكر ابن الباقلاني كان يعيش تحت الحماية الحنبلية إن صح القول . وسوف نجد لاحقا أن تيارات حنبلية قد تأثرت بالمنحى الأشعري .
__________
(1) أبو الفدا " المختصر " ج 2 ص 90(1/197)
ويكاد الأشاعرة يتغافلون عن هذا الطور ، بل يشكك البعض في نسبة كتاب الإبانة وهذا ما دفع أبا القاسم عبدالملك بن درباس المتوفى سنة 576هـ لكتابة رسالته في الذب عن أبي الحسن الأشعري بإثبات أن المستقر من رأيه ما أثبته في الإبانة .(1)
قلت وبعد الحديث عن الأطوار التي مر بها أبو الحسن الأشعري كفرد إلا أن الأشعرية كفكرة ومذهب كانت طورا واحدا تمثل فيما سمي بالطور الكلابي .
أما عن انتشار مذهبه فيقول السبكي عند الحديث عن تلامذة الشيخ :" وأخصهم بالشيخ أربعة :
ابن مجاهد ، وهو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي شيخ القاضي أبي بكر الباقلاني .
أبو الحسن الباهلي العبد الصالح شيخ الأستاذ أبي إسحاق والأستاذ ابن فورك وشيخ القاضي أبي بكر أيضا ، إلا أن القاضي أبا بكر كان أخص بابن مجاهد ، والأستاذان أخص بالباهلي.
الثالث : بندار خادمه .
الرابع أبو الحسن علي بن محمد بن مهدي الطبري "(2)
ومن الملاحظ أن انتشار المذهب الأشعري تم عن طريقين اثنين أحدهما عن طريق الباهلي ثم تلميذه ابن فورك الذي نشر المذهب في المشرق عموما وفي خراسان خصوصا . أما الطريق الآخر فهو عن طريق ابن مجاهد ثم تلميذه أبو بكر ابن الباقلاني الذي نشر مذهبه في بغداد ومن ثم في الغرب الإسلامي .
__________
(1) للفائدة في مسألة نسبة الكتاب انظر حاشية الرسالة ، وكلام الدكتور علي بن محمد الفقيهي محقق الرسالة ص ص117-128
(2) السبكي " مرجع سابق " ج 3 ص 369(1/198)
ذكر السبكي أن ابن فورك – بضم أوله – أقام أولا بالعراق إلى أن درس بها مذهب الأشعري على أبي الحسن الباهلي ، ثم لما ورد الري وشت به المبتدعة وسعوا عليه ، قال الحاكم أبو عبد الله فتقدمنا إلى الأمير ناصر الدولة أبي الحسن محمد بن إبراهيم والتمسنا منه المراسلة في توجهه إلى نيسابور فبنى له الدار والمدرسة من خانقاه أبي الحسن البوشنجي وأحيا الله له في بلادنا أنواعا من العلوم لما استوطنها وظهرت بركته على جماعة من المتفقهة وتخرجوا له " (1)
قلت : تتلمذ على يديه رؤساء الأشاعرة من الشافعية كأبي بكر البيهقي وأبي القاسم القشيري .
وجاء عند السبكي كذلك أنه دعي إلى مدينة غزنة وجرت له بها مناظرات ولما عاد منها سم في الطريق فتوفي سنة ست وأربعمائة " (2)
أما ابن الباقلاني فهو أبو بكر محمد بن الطيب البصري اختاره عضد الدولة لفصاحته وعلمه وذكائه رسولا إلى ملك الروم ، حتى قيل لو أوصى رجل بثلث ماله أن يدفع إلى أفصح الناس لوجب أن يدفع لأبي بكر الأشعري "(3)
…قلت وقد أخذ عنه أبو ذر الهروي الذي بث ذلك بمكة وحمله عنه المغاربة إلى المغرب والأندلس ، وقبل ذلك كانت علماء المغرب لا يدخلون في الكلام"(4)
…بعد هذه الإطلالة على نشأة المذهب الأشعري ينبغي الوقوف لمعرفة الحدود العامة لأقوال هذا المذهب والفروق بينه وبين المذهب الحنبلي ، كي تتضح الرؤية عند الحديث الصراعات التي حدثت بين المذهبين .
…يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : إن أمهات المسائل التي خالف فيها متأخرو المتكلمين ممن ينتحل مذهب الأشعري لأهل الحديث ثلاث مسائل :
وصف الله بالعلو على العرش
ومسألة القرآن
ومسألة تأويل الصفات "(5)
__________
(1) المرجع السابق " ج 4 ص 128
(2) المرجع السابق ج 4 ص130
(3) السبكي " مرجع سابق " ج 3 ص 366
(4) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 17 ص 557
(5) ابن تيمية " مرجع سابق " ج 6 ص 355(1/199)
وفي مسألة الصفات يقول شيخ الإسلام : ثم أقرب هؤلاء الجهمية الأشعرية يقولون إن له صفات سبعا : الحياة والعلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر ، وينفون ما عداها وفيهم من يضم إلى ذلك اليد فقط " قال :" أما الأشعري نفسه وأئمة أصحابه فلم يختلف قولهم في إثبات الصفات الخبرية وفي الرد على من يتأولها "(1)
أما مسألة الأفعال الاختيارية فيقول :" إن الفعل عندهم هو المفعول والخلق هو المخلوق فهم يفسرون أفعاله المتعدية مثل قوله تعالى " خلق السموات والأرض " وأمثاله إن ذلك وجد بقدرته من غير أن يكون منه فعل قام بذاته ، بل حاله قبل أن يخلق وبعد ما خلق سواء ولم يتجدد عندهم إلا الإضافة ونسبةٌ ، وهي أمر عدمي لا وجود له كما يقولون مثل ذلك في كونه يسمع أصوات العباد "(2) .
أما مسألة الاستواء فمن المشهور عندهم أنهم يفسروا الاستواء بالاستيلاء .
وهم في مسألة القرآن مضطربون . قال في المجرد لابن فورك حاكيا قول الأشعري " وربما كان يستدل من جهة اللغة والشعر تقريبا لقوله إن الكلام القائم بالنفس دون الأصوات والحروف "(3)
…وذكر الغزالي في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد :" ونحن لا نثبت في حق الله تعالى إلا الكلام النفسي " (4)
قلت وهذا القول يؤول إلى قول المعتزلة الذين يقولون بخلق الكلام ، ولا عبرة بإثبات المعنى دون اللفظ ، إذ المعنى لا يسمى كلاما ، واحتجاجهم بقول أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - بأنه زوَّر في نفسه كلاما عند انطلاقه لاجتماع السقيفة ليلقيه المراد منه في هذا الموضع أنه زور معانيا وألفاظا .
__________
(1) ابن تيمية " مرجع سابق " ج 5 ص 359
(2) المرجع السابق ج 5 ص 379
(3) ابن فورك " المجرد " ص68
(4) الغزالي " الاقتصاد في الاعتقاد " ص75(1/200)
…قلت وهم مضطربون في بقية مسائلهم من ذلك مسألة المعرفة وطرق اكتسابها بأنه العقل والسمع لكنهم عند الحديث عن الصفات وطرق معرفتها يقولون إنها على قسمين فما اقتضى العقل إثباتها وورد السمع مؤكدا لذلك فلا اشتباه في معناها ، وكذلك ما ورد في إثبات القدر لله تعالى في سائر الأفعال خيرها وشرها ، أما الصفات التي طريقها السمع كإثبات اليد والعين فهي من الآي المتشابهة التي لا يمكن معرفة معانيها بالكتاب وإنما يتوصل إلى معرفة الجملة من ذلك بالنظر والاستدلال " (1)
…ويقول إن المعتبر في ذلك حدوث العلم وزوال الشك عن السامع عند سماع تلك الأخبار وذلك بأن يراعي حال نفسه في سماعه للأخبار فإذا وجدها على ريب وتهمة لم يقطع بصدق المحبر وإذا زالت الريب والتهمة عنه قطع بصدقهم "(2)
…قلت : ومآل السمع عندهم بذلك إلى العقل ، وعلى قولهم هم يعتمدون العقل أصلا وحيدا لاكتساب المعرفة دون اعتبار لصحة الخبر ، فإن المراد بمراعاة حال نفسه أي الاحتكام إلى عقله فإن قبل الخبر قطع بصدق المخبرين ، وإلا فلا، ولا اعتبار بحال المخبر قبل ورود التهمة .
…ومن مسائلهم المشهورة مسألة فعل الإنسان وهل هو فعل له على الحقيقة أو لا ، وهم يقولون في هذا الباب إن الفعل كسب للإنسان ، يقول في المجرد :" وكان يقول أن عين الكسب وقع على الحقيقة بقدرة محدثة ووقع على الحقيقة بقدرة قديمة فيختلف معنى الوقوع فيكون وقوعه من الله عز وجل بقدرته القديمة إحداثا ووقوعه من المحدث بقدرته المحدثة اكتسابا " (3)
…وينفون عن أنفسهم القول بالجبر فيقول :" إن تسمية مخالفينا – من المعتزلة - لنا بذلك خطأ إذ ليس في مذهبنا وأقوالنا ما يوجب ذلك ، ولا نحن معترفون بأمر يقتضيه كما أنهم معترفون بأنهم مقدرون لأفعالهم من دون الله " (4)
__________
(1) ابن فورك " مرجع سابق " ص22
(2) المرجع السابق " ص18
(3) ابن فورك " مرجع سابق " ص 9
(4) المرجع السابق " ص16(1/201)
…ويروي الأمير الصنعاني نقاشا له مع عالم أشعري من علماء المدينة المنورة – حرسها الله – فسأله عن الكسب فقال الأشعري هو تصميم العبد فقلت له من أي المقولات التصميم فقال من مقولات الفعل قلت العبد يوجده قال نعم وبهذا فارقنا الجهمية قلت قد أثبت كون العبد موجدا كما تقول المعتزلة " (1)
…ثم يعلق الأمير على ذلك بقوله :" ثم العجب من إيرادهم لما ذكرناه من الأدلة الواهية مع أنها لو صحت لنفت الاختيار بالكلية ، وأبطلت الواسطة التي بها يميزون أنفسهم من الجبر الخالص أعني الكسب الذي زعموه " (2)
…قال :" وأما التفصيل فالمروي عن الأشعري أن الكسب وجود قدرة حال الفعل لا قبله ولا أثر لها ولا يخفى سقوطه "(3)
…وبالجملة يقول شيخ الإسلام عن أقوالهم :" والأشعرية الأغلب عليهم أنهم مرجئة في باب الأسماء والأحكام جبرية في باب القدر ، وأما الصفات فليسوا بجهمية محضة بل فيهم نوع من التجهم ، قال وأما الأشعرية فلا يرون السيف موافقة لأهل الحديث وهم في الجملة أقرب المتكلمين إلى مذهب أهل السنة والحديث "(4)
…ويذكر الكوثري " والأشعرية هم القول العدل الوسط بين المعتزلة والحشوية لا ابتعدوا عن النقل كما فعل المعتزلة ولا عن العقل كعادة الحشوية "(5)
__________
(1) الصنعاني " إيقاظ الفكرة " ص 257
(2) المرجع السابق ص261
(3) المرجع السابق ص271
(4) ابن تيمية " مرجع سابق " ج 6 ص 55
(5) الكوثري حاشية كتاب تبين كذب المفتري " ص 19(1/202)
…قلت هذه الوسطية المدعاة هي التي جعلت شيخ الإسلام ينقل عمن سبقه ولم يسمهم فيقول :" إن المعتزلة مخانيث الفلاسفة والأشعرية مخانيث المعتزلة(1) ، قال وكان يحيى بن عمار يقول : المعتزلة الجهمية الذكور والأشعرية الجهمية الإناث قال ومرادهم الذين ينفون الصفات الخبرية ، وأما من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك فهو من أهل السنة "(2)
قلت والوصف وطأته ثقيلة لكن ينبغي الانتباه أنه ليس من كلام شيخ الإسلام كما يدلس أعداؤه ، بل عرف رحمه الله بالقول المفصل فيهم الذي يرى خير ما هم فيه ، كما يرى شره رغبة في تأليف القلوب ودليل ذلك قوله " والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة و منافرة وأنا كنت من أعظم الناس تأليفا لقلوب المسلمين وطلبا لاتفاق كلمتهم واتباعا لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله وإزالة عامة ما كان في النفوس من الوحشة (3)، وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد رحمه الله ونحوه المنتصرين لطريقه كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه "(4)
الصراع الحنبلي – الأشعري
__________
(1) كلمة " مخانيث " جمع مخنث وهو المتكسر في مشيه والمقصود بها الخنثى التي بين النوعين
(2) ابن تيمية " مجموع الفتاوى "ج 6 ص359
(3) قلت رحم الله الشيخ وأين من هذا القول قول متعصبة الأشاعرة فإن من ينظر إلى موقف السبكي من شيخه الذهبي ، والكوثري من الحنابلة عموما يلق عجبا ، فسبحان الهادي إلى سواء السبيل .
(4) ابن تيمية المرجع السابق " ج 3 ص227(1/203)
كما ذكرنا سابقا أن المشرق الإسلامي ، وإقليم خراسان تحديدا كان منطقة تجاذب بين الفرق والمذاهب الإسلامية ، وقد يقتصر هذا التجاذب على الجدل الفكري إلا أنه عند ميل السلطة لجانب ما يتخذ أشكالا عنيفة ، ولأن الدول القائمة هناك كانت دولا سنية تعتبر شرعيتها مستقاة من شرعية العباسين ، وممنوحة من قبل خلفاء بغداد ، فقد كان التأثير متبادلا بين قوة الشرعية وقوة السلطة .
وفي الفترة التي نشأ فيها المذهب الأشعري كانت الخلافة العباسية قد استعادت شيئا من سلطتها السياسية ، كما استعادت شرعيتها بسبب ضعف الدولة البويهية المسيطرة على بغداد ، وكان ذلك في عهد الخليفة القادر بالله ، والذي حكم بين عامي 381-422هـ ، وكانت علاقة القادر بأهل السنة وثيقة إذ قرب في عهده الشيخ الأجل عبدالملك بن يوسف ، وكانت علاقته بالباقلاني الأشعري جيدة حيث كان أحد مبعوثيه ، كما أنه قرّب أبا يعلى ابن الفراء شيخ الحنابلة ، قال ولده في ترجمته : وكان له المحل السامي والخطر الرفيع عند الإمامين القادر والقائم "(1)
وقد قام الخليفة القادر سنة 408 هـ باستتابة فقهاء المعتزلة فأظهروا الرجوع وتبرؤا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام وأخذت خطوطهم بذلك "(2)
وقد استغل الخليفة عودة الشرعية لمؤسسة الخلافة فكتب إلى السلطان المشرقي القوي محمود بن سبكتكين بذلك فامتثل له واستن بسنته في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم ونفاهم وأمر بلعنهم على المنابر وأبعد جميع طوائف أهل البدع ونفاهم عن ديارهم وصار بذلك سنة في الإسلام " (3)
__________
(1) ابن أبي يعلى " الطبقات ج 3 ص 362
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 12ص6
(3) المرجع السابق " ج 12ص6(1/204)
وفِعلُ السلطان المجاهد محمود وإن كان في ظاهره استجابة للخليفة العباسي في بغداد إلا أن جزء من تفاعل السلطة في التجاذب الفكري والمذهبي في المشرق، وقد ذكر أن السلطان سبكتكين المتوفى سنة 387هـ قد دخل مدينة بلخ ودعا إلى مناظرة الكرامية "(1)
كما أنه ذُكر أن ولده السلطان محمود كذلك كان حنفيا يحب الحديث فوجد كثيرا منه يخالف مذهبه فجمع الفقهاء بمرو وأمر بالبحث في أيما أقوى مذهب أبي حنيفة أو الشافعي "(2)
كما ذُكر عنه أنه استدعى ابن فُورك الأشعري فلما دخل عليه قال لايجوز أن يوصف الله بالفوقية لأن لازم ذلك وصفه بالتحتية ، فمن جاز أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت ، فقال السلطان : ما أنا وصفته حتى يلزمني بل هو وصف نفسه فبهت ابن فورك "(3)
ويذكر مؤرخو الأشعرية " أنه دعي إلى مدينة غزنة وجرت له بها مناظرات ولما عاد منها سُم في الطريق فتوفي سنة ست وأربعين " (4)
ولم يكن هذا التجاذب خاصا بالأوساط الحاكمة ، بل شمل كافة طبقات المجتمع فقد اشتهر الخلاف بين أبي نعيم الأصبهاني وآل ابن مندة ، فذكر أبو العلاء الفرساني أني حضرت مجلس أبي بكر بن أبي علي الذكواني المعدل في صغري مع أبي فلما فرغوا من إملائه قال إنسان من أراد أن يحضر مجلس أبي نعيم فليقم ، وكان أبو نعيم في ذلك الوقت مهجورا بسبب المذهب وكان بين الأشعرية والحنابلة تعصب زائد يؤدي إلى فتنة وقيل وقال وصداع طويل فقام إليه أصحاب الحديث بسكاكين الأقلام وكاد الرجل يقتل "(5)
قال الذهبي : قلت قد كان أبو عبد الله ابن مندة يقذع في المقال في أبي نعيم لمكان الاعتقاد المتنازع فيه بين الحنابلة وأصحاب أبي الحسن " (6)
__________
(1) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج17 ص 484
(2) المرجع السابق ج 17 ص486
(3) المرجع السابق ج 17 ص 487
(4) السبكي " الطبقات " ج4ص130
(5) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 17 ص460
(6) المرجع السابق " ج 17 ص462(1/205)
وقد كانت هراة مرتعا خصبا للمنازعات المذهبية ، فقد كانت منزلا ليحي بن عمار الشيباني صاحب المقالة التي نقلها شيخ الإسلام في فتاويه ووصف فيها الأشاعرة بأنهم إناث ، قال الذهبي عنه " وكان متحرقا على المبتدعة والجهمية بحيث يؤول به ذلك إلى تجاوز طريقة السلف ، وقد جعل الله لكل شيء قدرا ، إلا أنه كان له جلالة عجيبة بهراة وأتباع وأنصار " (1)
قلت وهو شيخ أبي إسماعيل الأنصاري ، الذي تعد ترجمته مثالا على قوة التجاذب والصراع العنيف بالمشرق الإسلامي وخراسان خاصة .
وهو أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي الأنصاري يسميه مترجموه من الحنابلة وأهل الحديث شيخ الإسلام ، بينما يعلق السبكي على ذلك فيقول :" وبالجملة كان لا يستحق هذا اللقب وإنما لقب به تعصبا وتشبيها له بأبي عثمان الصابوني " (2)
وقال في ترجمة أبي عثمان الصابوني الملقب بشيخ الإسلام لقبه أهل السنة في بلاد خراسان وأما المجسمة بمدينة هراة فلما ثارت نفوسهم من هذا اللقب عمدوا إلى أبي إسماعيل الأنصاري فلقبوه بشيخ الإسلام " (3)
ويذكر أبو إسماعيل الأنصاري " قصدت الحافظ أبا حاتم بن خاموس بالري وكان السلطان محمود بن سبكتكين لما دخل الري قتل بها سائر الباطنية ومنع سائر الفرق الكلام على المنابر غير أبي حاتم ، وكان من دخل الري من سائر الفرق يعرض اعتقاده عليه فإن رضيه أذن له في الكلام على الناس ، وإلا منعه فلما قربت من الري كان معي في الطريق رجل من أهلها فسألني عن مذهبي فقلت أنا حنبلي فقال مذهب ما سمعت به هذه بدعة وقال لا أفارقك حتى أذهب بك إلى الشيخ أبي حاتم ، فقال الشيخ لما أخبره دعه فكل من لم يكن حنبليا فليس بمسلم " (4)
قلت : المعتبر في هذه اللفظة الجانب العقدي لا الجانب الفقهي وإلا فقد كان الأنصاري شافعي المذهب
__________
(1) المرجع السابق ج 17 ص481
(2) السبكي " الطبقات " ج 4 ص 272
(3) المرجع السابق ج 4 ص 272
(4) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 18 ص508(1/206)
وعلّق الذهبي عليها فقال : " قد كان أبو حاتم أحمد بن حسن بن خاموس صاحب سنة واتباع وفيه يبس وزعارة العجم وما قاله فمحل نظر " (1)
ونقل ابن رجب عن كتاب المنثور لابن طاهر قول أبي إسماعيل :" عرضت على السيف خمس مرات لا يقال لي ارجع عن مذهبك لكن يقال لي اسكت عمن خالفك فأقول لا أسكت " (2)
قال ومر ببلخ – مدينة بخراسان – فهمَّ أهلها برجمه ، وعلق الرهاوي وإنما همّ أهل بلخ بما هموا به لأنهم معتزلة شديدة الاعتزال وكان شيخ الإسلام مشهورا بالحنبلية والشدة في السنة " (3)
وقال عنه ابن تيمية :" وهو في الفقه على مذهب أهل الحديث يعظم الشافعي وأحمد ويقرن بينهما في أجوبته في الفقه ما يوافق قول الشافعي تارة وقول أحمد تارة ، والغالب عليه اتباع الحديث على طريقة ابن المبارك " (4)
ونقل ابن رجب عن كتاب الفصول لأبي الحسن الكرجي من شعر الأنصاري ":
كن إذا ما حاد عن حد الهوى…أشعريُ الرأي شيطانُ البشرْ
شافعيَ الشرع سني الحلى…حنبليَ العقد صوفي السيرْ(5)
…………**********
__________
(1) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج18ص509
(2) ابن رجب " ذيل طبقات الحنابلة " ج1ص54
(3) المرجع السابق ج1ص57
(4) ابن تيمية " الفتاوى " ج1ص66
(5) ابن رجب " مرجع سابق " ج 1 ص67(1/207)
قلت أما في بغداد فقد كتب الخليفة القادر كتابا في الاعتقاد قُرِن باسمه ، قال ابن كثير في حوادث سنة 420هـ :" وفيه جمع القضاة والعلماء في دار الخلافة وقُرئ عليهم كتاب جمعه القادر بالله فيه مواعظ وتفاصيل مذاهب أهل البصرة (1) ، وفيه الرد على أهل البدع وتفسيق من قال بخلق القرآن وصفة ما وقع بين بشر المريسي وعبدالعزيز بن يحيى الكناني من المناظرة ، ثم ختم القول بالمواعظ والقول بالمعروف والنهي عن المنكر وأخذ خطوط الحاضرين بالموافقة على ما سمعوه .. ثم جمعوا أيضا وقرئ عليهم كتاب آخر طويل يتضمن بيان السنة والرد على أهل البدع "(2)
وفي سنة 422هـ توفي القادر بالله وتولى بعده ولده القائم بالله الذي زاد من تقريب الحنابلة ، كما زادت حدة المنازعات بين الحنابلة والأشاعرة ، فمن ذلك ما حدث سنة 429هـ إبان زيارة ابن القزويني فذكر ابن الأثير أن في هذه السنة أنكر العلماء على أبي يعلى ابن الفراء الحنبلي ما ضمنه كتابه من صفات الله سبحانه وتعالى والمشعرة بأنه يعتقد التجسيم وحضر أبو الحسن القزويني بجامع المنصور وتكلم في ذلك " (3)
__________
(1) قوله أهل البصرة لا معنى له في هذا السياق والراجح أن المقصود أهل باب البصرة محلة من محال بغداد أهلها حنابلة ، وقد ذكر أن ابن الفرا الحنبلي زعيم الحنابلة كان خلف هذا الاعتقاد القادري .
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 12ص26
(3) ابن الأثير " الكامل " ج 9 ص 460(1/208)
أما ابن الجوزي فقال أنه إبان زيارة ابن القزويني للوعظ في بغداد قام إليه ابن المذهب الواعظ وقرأ أحاديث الرؤية فناداه ابن التميمي الواعظ : اذكر في كل باب حديثا فلم يلتفت إلى قوله فقام التميمي فتخطا رقاب الناس وصعد على المنبر وأخذ الكتاب من يده وقرأ أحاديث الصفات ثم التفت لابن القزويني فقال إن رأى الشيخ الزاهد أن يقول قول قولا تسمعه الجماعة فيروونه عنه فقال بلغهم عني أن القرآن كلام الله وأن الجدل بدعة والمتكلمين على ضلالة "(1)
وفي سنة 432 هـ حدث نزاع يذكره صاحب طبقات الحنابلة عن والده قال :" وكان قد حضر الوالد السعيد – قدس الله روحه – في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة في دار الخلافة في أيام القائم بأمر الله – رضوان الله عليه – مع الجم الغفير والعدد الكثير من أهل العلم وكان صحبته الشيخ الزاهد أبو الحسن القزويني لفساد قول ٍ جرى من المخالفين لما شاع قراءة كتاب ( إبطال التأويلات ) فخرج إلى الوالد السعيد من الإمام القائم بأمر الله رضوان الله عليه الاعتقاد القادري في ذلك بما يعتقد الوالد السعيد ، وكان قبل ذلك قد التمس منه حمل كتاب ( إبطال التأويلات ) ليتأمل فيه فأعيد إلى الوالد وشكر له تصنيفه " (2)
قلت : ومما يلزم الانتباه له أن كلمة المخالفين قد توسعت لتشمل تيارا من الحنابلة سنتحدث عنه لاحقا . وقد سبق الذكر أن الفرع الثاني من الأشاعرة وهو المتمثل في تيار الباقلاني الذي كان موطنه بغداد ، وكان ذلك في الثلث الأخير من القرن الرابع ، قد استطاع أن يوطد علاقاته مع تيار من تيارات الحنابلة ، وساعده في ذلك عاملان :
وحدة موقف أهل السنة من الشيعة في بغداد إبان العصر البويهي ، مما جعل ابن الباقلاني في جانب الحنابلة فكريا على أقل تقدير فهو مؤلف كتاب التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة .
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص 96
(2) ابن أبي يعلى " طبقات الحنابلة " ج3ص37(1/209)
يعتبر تيار ابن الباقلاني من أقرب تيارات المتكلمين من أهل السنة ، وقد مر بنا ثناء علماء الحنابلة عليه .
ويذكر الذهبي في وفاة ابن الباقلاني أنه أمر شيخُ الحنابلة أبو الفضل التميمي مناديا يقول بين يدي جنازته : هذا ناصر السنة والدين والذاب عن الشريعة ، هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة " (1)
قال الذهبي معلقا " قلت : هو الذي كان ببغداد يناظر عن السنة وطريقة الحديث بالجدل والبرهان وبالحضرة رؤوس المعتزلة والرافضة والقدرية وألوان البدع ، ولهم دولة وظهور بالدولة البويهية ، وكان يرد على الكرامية وينصر الحنابلة عليهم وبينه وبين أهل الحديث عامر "(2)
وينقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن أبي إسحاق الشيرازي قوله :" إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة ، وكان أئمة الحنابلة المتقدمين كأبي بكر عبدالعزيز وأبي الحسن التميمي ونحوهما يذكرون كلامه في كتبهم ، بل كان عند متقدميهم كابن عقيل عند المتأخرين ولكن ابن عقيل له اختصاص بمعرفة الفقه وأصوله وأما الأشعري فهو أقرب إلى أصول أحمد من ابن عقيل وأتبع لها "(3)
ويذكر ابن عساكر : ولم تزل الحنبلية ببغداد في قديم الدهر على مر الأوقات تعتضد بالأشعرية على أصحاب البدع لأنهم المتكلمون عن أهل الإثبات "(4)
قلت : وقوله الحنابلة فيه توسع والصحيح أن التي قبلت الأفكار الأشعرية هي فئات محددة من الحنابلة ، يقول ابن تيمية :" وكان من أعظم المائلين إليهم التميميون : أبو الحسن التميمي و ابنه وابن ابنه ونحوهم وكان بين أبي الحسن التميمي وبين القاضي أبي بكر ابن الباقلاني من المودة والصحبة ماهو معروف مشهور " (5)
__________
(1) الذهبي "سير أعلام النبلاء " ج 17ص193
(2) المرجع السابق ج 17ص558
(3) ابن تيمية " الفتاوى " ج 3ص228
(4) ابن عساكر : تبيين كذب المفتري " ص 163
(5) بن تيمية " مرجع سابق " ج 4 ص167(1/210)
لكن وفاة ابن الباقلاني ساهمت في حدوث تباعد بين الأشاعرة من جهة والتيار المؤيد لهم من الحنابلة ، وزاد من ذلك قوة التيار المناوئ لهم والمتمثل في الحسن بن حامد المتوفى سنة 403هـ وتلامذته كأبي يعلى ابن الفراء الذي كان من ضمن مؤلفاته كتاب باسم الخلاف مع الأشعري وهو تيار شديد المعارضة للأشاعرة ، حتى أن أبي علي الأهوازي مؤلف مثالب الأشعري كان تلميذا للحسن بن حامد ، ثم تنامت قوة هذا التيار بصعود نجم الشريف أبي جعفر الهاشمي بعد وفاة أبي يعلى بن الفراء سنة 458هـ .
ورافق هذا كله تنامي قوة جماعة عبدالصمد ، وهي جماعة حنبلية ذُكر لها الكثير من النشاطات القائمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بغداد ، فقد ذكرت سنة 443 عند ابن الأثير عند الحديث عن دورهم في فتنة وقعت بين السنة والشيعة "(1)
وذكرت في مواجهة البساسيري القائد التركي الشيعي ، فقد وصل زورق للبساسيري إلى مشرعة باب الأزج فنزل إليه ابن سكرة الهاشمي وجماعة من أصحاب عبدالصمد فكسروه "(2)
وذكر ابن الجوزي في حوادث سنة 450 " وفي رمضان تجدد للعوام المتدينين المتسمين بأصحاب عبدالصمد إلزام أهل الذمة الغيار وحضر الديوان رجل هاشمي منهم يعرف بابن سكرة فخاطب رئيس الرؤساء وكلمه بكلام فيه غلظة فكتب إلى الخليفة بذلك فخرج ما قوى أمر ابن سكرة " (3)
وهي جماعة تنسب إلى أبي القاسم الواعظ عبدالصمد بن عمر ، قال الخطيب في تاريخه " كان ثقة صالحا زاهدا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر واليه تنسب الطائفة المعروفة بأصحاب عبدالصمد "(4)
وذكره ابن الأثير في وفيات سنة 397 فقال توفي عبدالصمد الزاهد ودفن عند قبر أحمد وكان في غاية الزهد والورع " (5)
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج9 ص576
(2) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص162
(3) المرجع السابق " ج 8 ص190
(4) الخطيب البغدادي " تاريخ بغداد " ج12ص310
(5) ابن الأثير " مرجع سابق " ج 9 ص204(1/211)
وقد جاء عند الخطيب ما يدل على وجود دعم لها فقد ذكر أنه جاء رجل إلى عبدالصمد بمئة دينار ليدفعها له فقال أنا غني عنها ولست بمحتاج إليها قال ففرقها بين أصحابك هؤلاء فقال ضعها على الأرض ففعل ثم قال عبدالصمد للجماعة : من احتاج منكم لشيء فليأخذ على قدر حاجته فتوزعتها الجماعة على صفات مختلفة في القلة والكثرة ولم يمسها هو بيده "(1)
…………
في هذا الوقت كان المشرق الإسلامي يشهد حركة جديدة ودولة وليدة سيكتب لها المشاركة الفاعلة في التاريخ ، هي دولة السلاجقة الأتراك ، وقد ساعدهم ضعف سلطان دولة آل سبكتكين السلطان مسعود بن محمود ، ثم نشؤ النزاع داخل البيت السبكتكيني الحاكم ، مما مهد الطريق للسلاجقة لاكتساح العالم الإسلامي وصولا إلى العراق ، وقد كان الاتصال بين السلاجقة والخلافة العباسية مبكرا في سنة 435هـ ، عندما أرسل الخليفة الفقيه الشافعي الماوردي لإقرار الصلح بين طغرلبك والملك البويهي جلال الدولة ، ونقل الماوردي عند عودته طاعة طغرلبك للخلافة وتعظيمه لها ووقوفه عند أمر الخليفة " (2)
ولم تأت سنة 440 حتى كان السلاجقة يسيطرون تماما على إقليم خراسان والأقاليم الغربية المحاذية للعراق ، فكانوا يمارسون ضغطا قويا على دولة بني بويه .
__________
(1) الخطيب البغدادي " تاريخ بغداد " ج12ص311
(2) ابن الأثير " الكامل " ج9 ص522(1/212)
ومثلت سنة 445هـ سنة مهمة في سني الصراعات المذهبية ، فقد تلقى الأشاعرة ضربة قوية إذ أمر السلطان طغرلبك كما يذكر ابن كثير :" وفيها نقل إلى الملك طغرلبك أن الشيخ أبا الحسن الأشعري يقول بكذا وكذا وذكر بشيء من الأمور التي لا تليق بالدين والسنة فأمر بلعنه وصرح أهل نيسابور بتكفير من يقول ذلك ، فضج أبو القاسم القشيري عبدالكريم بن هوازن من ذلك وصنف رسالة في شكاية أهل السنة لما نالهم من المحنة ، واستدعى السلطان جماعة من رؤساء الأشاعرة منهم القشيري فسألهم عما أنهي إليه من ذلك فأنكروا ذلك وأن يكون الأشعري قال ذلك فقال السلطان نحن إنما لعنا من يقول هذا وجرت فتنة عظيمة طويلة "(1)
قلت وقد أسهب السبكي في ذكر الخبر وبكى وتباكى ، وشن هجوما لاذعا على وزير الملك عميد الملك الكندري متهما إياه بأنه خلف الأمر بالسب فقال ما ننقله مختصرا بتصرف يسير " وكان لهذا السلطان وزير سوء وهو وزيره أبو نصر منصور بن محمد الكندري كان معتزليا رافضيا خبيث العقيدة لم يبلغنا أن أحدا جمع له من خبث العقيدة ما اجتمع له فإنه على ماذكر كان يقول بخلق الأفعال وغيره من قبائح القدرية وسب الشيخين وسائر الصحابة وغير ذلك من قبائح شر الروافض وتشبيهه الله بخلقه وغير ذلك من قبائح الكرامية والمجسمة وكان له مع ذلك تعصب عظيم ، فحسن للسلطان لعن المبتدعة على المنابر فعند ذلك أمر السلطان أن تلعن المبتدعة على المنابر فاتخذ الكندري ذلك ذريعة إلى ذكر الأشاعرة وصار يقصدهم بالإهانة والأذى ، وعزلهم عن خطابة الجامع واستعان بطائفة من المعتزلة الذين زعموا أنهم يقلدون مذهب أبي حنيفة ، واتخذوا التمذهب بالمذهب الحنفي سياجا عليهم ، فحببوا إلى السلطان الإزراء بمذهب الشافعي عموما والأشعرية خصوصا .
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 12 ص64(1/213)
ثم جاء الأمر من قبل السلطان طغرلبك بالقبض على الرئيس الفراتي والأستاذ أبي القاسم القشيري وإمام الحرمين وأبي سهل بن الموفق ونفيهم ومنعهم عن المحافل ، ولما قرئ الكتاب بنفيهم أغرى بهم الغاغة والأوباش فأخذوا بالأستاذ أبي القاسم القشيري والفراتي يجرونهم ويستخفون بهما وحبسا ، وأما إمام الحرمين فخرج إلى الحجاز ، وقبض على أبي سهل(1) وحبس في بعض القلاع .
قال : فهذا ما كان من الفتنة وكان هذا السلطان مع دينه وخيره ممن لم يمهله الله بعد إذنه بالسب وبحبس القشيري ، ولم يمكث بعد هذه الواقعة الشنيعة واتفاق هذه الفضيحة الفظيعة إلا زمنا يسيرا وتوفي ولم يلبث الكندري إلا يسيرا وقتل شر قتلة وجعل كل جزء من أعضائه في ناحية "(2)
قلت : وعميد الملك الكندري كان معتزليا قال فيه الذهبي :" كان معتزليا قيل يؤذي الشافعية ويبالغ في الانتصار لمذهب أبي حنيفة "(3)
قال عنه ابن خلكان " كان من رجال الدهر جودا وسخاء وكتابة وشهامة واستوزره السلطان طغرلبك السلجوقي ونال عنده المرتبة العالية والمنزلة الجليلة ، ولم تكن له منقبة إلا صحبة إمام الحرمين أبي المعالي عبدالملك ابن الشيخ أبي محمد الجويني الفقيه الشافعي " (4)
وذكره ابن الجوزي بأنه شديد التعصب لأبي حنيفة "(5)
وقال ابن الأثير : " كان شديد التعصب على الشافعية كثير الوقيعة في الشافعي رضي الله عنه بلغ من تعصبه أن خاطب السلطان في لعن الرافضة على منابر خراسان فأذن في ذلك فأمر بلعنهم وأضاف إليهم الأشعرية "(6)
__________
(1) قاد أبو سهل هذا تمردا عسكريا احتجاجا على ما حدث لكنه لم ينجح وقبض عليه
(2) السبكي " الطبقات " ج 3ص391-393
(3) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 18ص114
(4) ابن خلكان " وفيات الأعيان " ج 5 ص138
(5) ابن الجوزي " المنتظم " ج 9 ص23
(6) ابن الأثير " الكامل " ج 10 ص33(1/214)
قلت : وتهمة السبكي بأنه كان رافضيا تقلدها عن ابن عساكر والصحيح أنه لم يكن كذلك ، وإنما الصراع كان بين الحنفية المعتزلة والشافعية الأشاعرة (1) ، و لايصح تعليق الذهبي على الفتنة بقوله " وقويت المعتزلة والشيعة " (2) ، فإن لم يكن الرافضة هم المقصودون باللعن بدءا ، والذين ألحق بهم الأشاعرة ، فمن المبتدعة الذين أمر بلعنهم ابتداء ، والصحيح قول ابن الأثير أن الرافضة هم المقصودون ابتداء .
أما في بغداد فقد وصلت آثار الرياح القادمة من الشرق فوقعت أول فتنة بين الحنابلة والأشاعرة لتخرج الصراع المكبوت لأول مرة على السطح ، قال ابن كثير في حوادث سنة 447 :" وفيها وقعت الفتنة بين الأشاعرة و الحنابلة فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة بحيث كان ليس لأحد من الأشاعرة أن يشهد الجمعة والجماعات "(3)
وقال ابن الجوزي عنها " وقعت بين الحنابلة والأشاعرة فتنة عظيمة حتى تأخر الأشاعرة عن الجمعات خوفا من الحنابلة "(4)
كما في سنة 456هـ هجم قوم من أصحاب عبدالصمد على أبي علي بن الوليد المدرس لمذهب المعتزلة فسبوه وشتموه لامتناعه من الصلاة في الجامع وتدريسه لهذا المذهب فقال لهم : لعن الله من يمنعني منها ويخيفني إيماء إليهم والى أمثالهم من العوام وأوقعوا به وجرحوه وصاح صياحا خافوا اجتماع أهل الموضع معه فتركوه ثم أغلق بابه واتصل اللعن بالمعتزلة في جامع المنصور وجلس أبو سعد بن أبي عمامة فلعن المعتزلة (5).
وأسفر صباح الزمان ... الحقبة الأشعرية في بغداد
__________
(1) من الطريف ما قاله ابن الجوزي في ترجمة أبي الحسن السمناني وتوفي سنة 466 قال وكان أشعريا وهذا مما يستظرف أن يكون الحنفي أشعريا " ج 8 ص 287
(2) الذهبي سير أعلام النبلاء " ج 18ص143
(3) ابن كثير " البداية والنهاية " ج12 ص66
(4) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص 163
(5) ابن الجوزي " المرجع السابق " ج 8 ص235(1/215)
بعد هذه الجولة الخاسرة والتي تعرض فيها الأشاعرة للتشتيت والملاحقة ، حدث تحول جذري سرعان ما لمع فيه ضوء الأشاعرة من جديد ، فقد توفي السلطان طغرلبك السلجوقي سنة 455هـ ، وحاول الوزير الكندري صرف الملك إلى سليمان بن داود أخي السلطان ، إلا أن الأمور سارت لصالح ألب أرسلان محمد بن داود ووزيره نظام الملك فدفع الكندري ثمن ذلك ، وكان هذا التحول حاسما في صراع القوى المذهبية في خراسان وفي بغداد والغرب الإسلامي لاحقا ، واعتضد هذا التحول بالوزير نظام الملك الذي كان شافعيا أشعريا والذي أسفر بطلعته صباح الزمان فقام في نصرة الدين قياما مؤزرا وعاد الحق معززا موقرا وأمر بإسقاط السب وتأديب من فعله كما يقول السبكي في مقطوعة يغلب عليها طابع الفرح (1)
وسيحاول هذا الوزير النشط لاحقا مد ذراعه القوي إلى بغداد ، التي شهدت في السنوات بين 456-469 هـ فترات تهيئة وتسابق نحو تثبيت الأقدام في بغداد عاصمة العالم الإسلامي ، فقد شن الحنابلة هجومهم المعروف على المعتزلة ورموزهم في بغداد ، كما شنوا حملة أخلاقية سنة 464هـ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الجانب الغربي من بغداد إذ يذكر ابن الجوزي أن أبوسعد بن أبي عمامة لقي مغنية فكسر عودها فرجعت إلى التركي فبعث من كبس داره ، فخرج إلى أبي موسى الهاشمي شاكيا ما لقي ، واجتمع الحنابلة في جامع القصر ، وأدخلوا عليهم أبا إسحاق الشيرازي _ الشافعي – وأصحابه ، وطلبوا قلع المواخير وتتبع المفسدات ومن يبيع النبيذ وضرب دراهم تقع المعاملة بها عوض القراضة ، فتقدم أمير المؤمنين بذلك فهرب المفسدات ، ووعد بقلع المواخير ومكاتبة عضد الدولة برفعها والتقدم بضرب دراهم يتعامل بها فلم يقتنع أقوام منهم بالوعد وأظهر أبو إسحاق الخروج من البلد فروسل برسالة أسكتته "
__________
(1) السبكي " طبقات " ج 3 ص393(1/216)
قال ونقل عن الشريف أبي جعفر أنه رأى محمد بن الوكيل – أحد مسؤولي الخلافة – حين غرقت بغداد سنة 466 وجرى على دار الخلافة العجائب فقال كتبنا وكتبتم وجاء جوابنا قبل جوابكم "(1)
أما في الجانب الأشعري فقد قام نظام الملك ببناء المدرسة النظامية في بغداد سنة 457 هـ وافتتحت سنة 459 هـ .
كما قام شرف الملك الوزير العباسي الحنفي المذهب سنة 459هـ بعمارة مشهد أبي حنيفة وعمل بإزائه مدرسة .
غير أنه وفي حمأة السباق الحثيث تعرض المذهب الحنبلي لعدد من المؤثرات السلبية منها :
وفاة أبي يعلى ابن الفراء شيخ الحنابلة و الذي توفي سنة 458هـ.
فقد دعم الشيخ الأجل عبد الله بن محمد بن يوسف بوفاته سنة 460 هـ ، وهو من قال عنه ابن الجوزي " كان أوحد زمانه في النصرة لأهل السنة والقمع لأهل البدع "(2) ، وقد ظهرت آثار وفاته مبكرة إذ ذكر ابن الجوزي أن ابن الوليد المعتزلي عزم على التدريس وحرضه على ذلك جماعة من أهل مذهبه وقالوا قد مات الأجل ابن يوسف ، وما بقي من ينصرهم ، فعبر الشريف أبو جعفر إلى جامع المنصور وفرح أهل السنة بذلك ، وكان أبو مسلم الليثي البخاري المحدث معه كتاب التوحيد لابن خزيمة فقرأه على الجماعة ، وكان قد اجتمع الأصحاب وجماعة الفقهاء وأعيان أهل الحديث بالديوان وسألوا إخراج الاعتقاد القادري وقراءته فأجيبوا "(3)
كما تعرض الحنابلة لهزة داخلية سنة 461هـ ، عندما نقموا على ابن عقيل الحنبلي ، وهو ما سنتعرض له لاحقا .
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص272
(2) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص250
(3) المرجع السابق ج 8 ص248(1/217)
فقد الحنابلة بعد ذلك سنة 467 هـ دعم الخليفة القائم بأمر الله بعد وفاته ، وجاء عند ابن الجوزي مقالة عجيبة تسلط الضوء بدرجة واضحة على الإحساس بالخسارة الحنبلية بوفاة القائم ، فقد ذكر عن أبي محمد التميمي قوله بعد وفاة القائم وغسل الشريف أبي جعفر له وخروجه ، قال :" ونحن كلٌ جالس على الأرض متحف مغير لزيه مخرق لثيابه يهمه ما يحدث بعد موت هذا الرجل "(1)
ولم يطل الوقت لتتحقق نبوءة التميمي ، وتهب عواصف الشرق الملتهب على بغداد عاصمة الخلافة فيما سيعرف بالفتنة القشيرية ، ليكتشف بعدها الحنابلة أن بغداد قد طرق قلبها عاشق جديد .
أما العاشق الجديد وهم الأشاعرة فقد قوي موقفهم بافتتاح المدرسة النظامية سنة 459هـ واختير أبو إسحاق الشيرازي للتدريس فيها ، وشهدت البداية بعض الصعوبات ، فقد ذكر أن أبا إسحاق جاء ليدرس فيها فلقيه فقيه شاب فقال : ياسيدي تذهب تدرس في مكان مغصوب فامتنع أبو إسحاق من الحضور ورجع إلى بيته فأقيم الشيخ أبو نصر الصباغ مكانه فدرس ، فلما بلغ نظام الملك ذلك تغيظ على العميد ، وأرسل إلى الشيخ أبي إسحاق فرده إلى التدريس بالنظامية "(2)
وسواء صحت مسألة الأرض المغصوبة أم لا ، فإن هذه البداية تشير إلى شيء من الريبة الموجودة في الأنفس من هذه المدرسة ، ولعل في تغيظ الوزير نظام الملك على العميد إشارة إلى هذا الشعور .
واختيار أبي إسحاق لم يكن عبثا ، وكذلك الإصرار عليه ، فقد عُرف بمكانته الرفيعة في بغداد ، وعند الشافعية بصورة خاصة .
وبعد عشر سنوات من افتتاح هذه المدرسة بدأت أولى مهامها الخطيرة في توفير الدعم للمشروع الذي يقوده نظام الملك والذي وضح أنه يستهدف وجود الحنابلة في بغداد أولا ، ثم الحلول محلهم في تمثيل المذهب السني . وكانت هذه الجولة هي ما يعرف بالفتنة القشيرية .
__________
(1) المرجع السابق ج 8 ص295
(2) ابن كثير البداية والنهاية " ج 12 ص96(1/218)
وقد توسع المؤرخون في ذكر هذه الفتنة فمن ذلك ما ننقله عن ابن كثير الشافعي - السلفي المتوازن قال:" وفي شوال سنة 469هـ وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشاعرة وذلك أن ابن القشيري (1) قدم بغداد فجلس يتكلم في النظامية وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم ، وساعده في ذلك أبو سعد الصوفي ومال معه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وكتب إلى نظام الملك يشكو إليه الحنابلة ويسأله المعونة عليهم ، وذهب جماعة إلى الشريف أبي جعفر بن أبي موسى شيخ الحنابلة وهو في مسجده فدافع عنه آخرون واقتتل الناس بسبب ذلك وقتل رجل خياط من سوق التبن وجرح آخرون ، وثارت الفتنة وكتب الشيخ أبو إسحاق وأبو بكر الشاشي إلى نظام الملك في كتابه إلى فخر الدولة ينكر ماوقع ويكره أن ينسب إلى المدرسة التي بناها شيء من ذلك . وعزم الشيخ أبو إسحاق على الرحلة من بغداد غضبا مما وقع من الشر فأرسل الخليفة يسكنه "(2)
وذكر الذهبي في ترجمة أبي نصر القشيري " وحج فوعظ ببغداد وبالغ في التعصب للأشاعرة والغض من الحنابلة فقامت الفتنة على ساق واشتد الخطب وشمّر لذلك أبو سعد أحمد بن محمد الصوفي عن ساق الجد ثم حج ثانيا وجلس والفتنة تغلي مراجلها ، وكتب ولاة الأمر إلى نظام الملك لطلب أبا نصر ابن القشيري إلى الحضرة إطفاء للنائرة "(3)
__________
(1) ابن القشيري هو أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم بن هوازن القشيري ، وكان لأبيه القدح المعلى في فتنة نيسابور وهو صاحب رسالة شكاية أهل السنة ، وتوفي أبو نصر سنة 514 هـ
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 12 ص115
(3) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 19 ص425(1/219)
قلت : وقد حاول الخليفة العباسي معالجة الأمر خشية من غضب الوزير نظام الملك فجمع بين أبي إسحاق الشيرازي والشريف أبي جعفر وأبي سعد الصوفي وأبي نصر ابن القشيري عند الوزير العباسي ، فأقبل الوزير على أبي جعفر يعظمه في الفعال والمقال(1) وقام إليه الشيخ أبو إسحاق فقال : أنا ذلك الذي كنت تعرفه وأنا شاب ، وهذه كتبي في الأصول ما أقول فيها خلافا للأشعرية ، ثم قبّل رأس أبي جعفر ، فقال أبو جعفر : صدقت إلا أنك لما كنت فقيرا لم تظهر لنا ما في نفسك فلما جاء الأعوان والسلطان وخواجه بزك(2) – يعني نظام الملك – وشبعت أبديت لنا ما كان مختفيا في نفسك ، وقام الشيخ أبو سعد الصوفي وقبّل رأس الشريف أبي جعفر أيضا وتلطّف به فالتفت إليه مغضبا وقال أيها الشيخ أما الفقهاء إذا تكلموا في مسائل الأصول فلهم فيها مدخل ، وأما أنت فصاحب لهو وسماع وتغيير(3) فمن زاحمك منا على باطلك ثم قال : أيها الوزير أنى تصلح بيننا ؟ وكيف يقع بيننا صلح ونحن نوجب ما نعتقده وهم يحرمون ويكفرون ، وهذا جد الخليفة القائم والقادر قد أظهرا اعتقادهما للناس على رؤوس الأشهاد على مذهب أهل السنة الجماعة والسلف ، ونحن على ذلك كما وافق عليه العراقيون والخراسانيون وقرئ على الناس في الدواوين كلها فأرسل الوزير إلى الخليفة يعلمه بما جرى "(4)
__________
(1) قال له – كما جاء عند ابن الجوزي – أن أمير المؤمنين ساءه ما جرى من اختلاف المسلمين في عقائدهم ، وهؤلاء يصالحونك على ما تريد وأمرهم بالدنو من الشريف ج 8 ص 306 .
(2) بزرك عند ابن الجوزي .
(3) وبغتة ) عند ابن الجوزي
(4) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 12 ص115(1/220)
قلت وفشل اجتماع الصلح أوقع الأطراف كلها في حرج ، فلا الخليفة العباسي ولا الوزير نظام الملك قادران ولا راغبان في حسم أمر النزاع ، وكان الصلح محاولة للخروج بحل وسط ، وكان الخليفة حسبما ينقل ابن الجوزي لما خاف من تشنيع الشافعية عليه عند النظام أمر الوزير العباسي أن يجيل الفكر فيما تنحسم به الفتنة فجمعهم " (1)
بيد أن موقف الشريف الحنبلي كان حاسما قطع الطريق أمام كل الحلول الوسط ، لكنه كان موقفا متوقعا بسبب العلاقات المتوترة أصلا مع الأشاعرة .
وكان من نتائج فشل هذا الاجتماع أن أمر الخليفة المقتدي والذي خلف القائم بأمر الله – كما يذكر ابن الجوزي – الوزير أن يقول لابن أبي موسى الشريف أنه قد أفرد له موضع قريب من الخدمة ليراجع في كثير من الأمور الدينية وليتبرك بمكانه ، فلما سمع الشريف هذا قال : فعلتموها فحمل إلى موضع أفرد له وكان الناس يدخلون عليه مديدة ، ثم قيل له قد كثر استطراق الناس دار الخلافة فاقتصر على من يعين دخول فقال مالي غرض في دخول أحد ثم مرض الشريف مرضا أثر في رجله فانتفختا فيقال إن بعض المتفقهة من الأعداء نزل له في مداسه سما " (2)
قلت وكانت إقامة الشريف الجبرية محاولة من الخلافة للتقرب من السلطنة السلجوقية و وزيرها نظام الملك ، والنأي بنفسها عن تهمة التعاطف مع الحنابلة ، كما أن في ذلك عزل للشريف أبي جعفر عن أنصاره وأعوانه ، وهذا يساهم في تخفيف أوار الفتنة.
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص306
(2) المرجع السابق ج 8 ص307(1/221)
أما نظام الملك فقد بعث أولا خطابا إلى بغداد يظهر امتعاضه من تسلط الحنابلة على الطائفة الأخرى (1)، إلا أنه خطا خطوة للوراء في مسيرة الاصطدام مع الحنابلة فقد بعث خطابا ثانيا الشيخ أبي إسحاق الشيرازي مخالفا لخطابه الأول ، وقد ذكر ابن الجوزي مقاطع من الخطاب الثاني جاء فيها " ورد كتابك بشرح أطلت فيه الخطاب وليس توجب سياسة السلطان وقضية العدالة إلى أن نميل في المذاهب إلى جهة دون جهة ، ونحن بتأييد السنن أولى من تشييد الفتن ، ولم نتقدم ببناء هذه المدرسة إلا لصيانة أهل العلم والمصلحة لا للاختلاف وتفريق الكلمة ومتى جرت الأمور خلاف ما أردناه من هذه الأسباب فليس إلا التقدم بسد الباب وليس في المكنة ( إلا بيان(2) ) على بغداد ونواحيها ونقلهم عن ماجرت عادتهم فيها فإن الغالب هناك هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل ومحله معروف بين الأئمة وقدره معلوم في السنة "(3)
وكان وقع هذه الخطوة التراجعية متباينا بين الفريقين ، فحين تداول هذا الكلام بين الحنابلة وسروا به وقووا ، كان الطرف الثاني غاضبا من هذا التراجع إذ يذكر ابن الجوزي " أنه خرج من المدرسة – النظامية – متفقه يعرف بالإسكندراني ومعه بعض من يؤثر الفتنة إلى سوق الثلاثاء فتكلم بتكفير الحنابلة فرمي بآجرة فدخل إلى سوق المدرسة واستغاث بأهلها فخرجوا معه إلى سوق الثلاثاء ونهبوا بعض ما كان فيه ووقع الشر وغلب أهل سوق الثلاثاء بالعوام ودخلوا سوق المدرسة وقتلوا مريضا وجدوه فخاف مؤيد الملك على داره فأرسل إلى العميد أبي نصر فأنفذ إليه الديلم والخراسانية فدفعوا العوام ، وكتب بذلك إلى النظام فجاءت مكاتبات منه بالجميل ثم ثناها بضد ذلك "(4)
__________
(1) ابن رجب " ذيل الطبقات " ج 1 ص20
(2) هكذا في المطبوع
(3) ابن الجوزي " المنتظم " ج 8 ص312
(4) المرجع السابق ج 8 ص 312(1/222)
ورغم هذه الخطوة التراجعية من نظام الملك إلا أن سياسته ومحاولته التأثير على التواجد الحنبلي ، و نقل انتصاره في خراسان إلى بغداد ، لم تتوقف ، وهذا الظاهر من فعله رغم ما تضمنه خطابه من مبادئ ، وقد فطن زعماء الحنابلة إلى دوره فأشار إليه الشريف أبي جعفر عند كلامه مع أبي إسحاق الشيرازي والذي سقناه آنفا ، وفطن له ابن عقيل أبو الوفاء المتابع اليقظ للأحداث ، والقريب من الدوائر الرسمية ، فقد نقل ابن الجوزي عنه قوله : أنه لما أنفذ نظام الملك ابن القشيري تكلم بمذهب أبي الحسن فقابلوه بأسخف كلام على ألسن العوام ، فصبر لهم هنيئة ثم أنفذ البكري سفيها طرقيا شاهد أحواله الإلحاد فحكى عن الحنابلة ما لا يليق بالله سبحانه فأغرى بشتمهم " (1)
وقد أعقب هذه الجولة من الصراع عددا من الأحداث منها وفاة الشريف أبي جعفر عبدالخالق بن عيسى الهاشمي سنة 470هـ ، وكانت العوام تقول في جنازته " ترحموا على الشريف الشهيد القتيل المسموم " (2)
ورغم فقد الحنابلة لهذه الشخصية القيادية الجذابة ذات النفوذ الواسع ، وهي خسارة مؤثرة جدا ، إلا أن الجولة الأولى من الصراع لم تستطع كسر أو إضعاف الروح المقاومة لدى الحنابلة في وجه هذا التيار الجارف ، فقد ظلت اللهجة الحادة منهم مسموعة بوضوح في شوارع بغداد ، فقد ذكر ابن عقيل فيما يذكره المؤرخون في ترجمة ابن القواس البغدادي قال عنه :" يهابه المخالفون حتى إنه لما توفي ابن الزوزني وحضره أصحاب الشافعي على طبقاتهم وجموعهم في فورة أيام القشيري وقوتهم بنظام الملك حضر فلما بلغ الأمر إلى تلقين الحفار قال له تنح حتى ألقنه أنا فهذا كان على مذهبنا ثم قال يا عبدالله وابن أمته قل رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا لا أشعري ولا معتزلي بل حنبلي سني فلم يتجاسر أحد على أن يتكلم بكلمة "(3)
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 9 ص4
(2) المرجع السابق ج 8 ص316
(3) ابن رجب " ذيل الطبقات " ج 1 ص40(1/223)
ولم ينتظر نظام الملك كثيرا فقد شرع في محاولته الثانية سنة 475هـ إذ يذكر ابن الجوزي أنه في هذه السنة " عبر قاص من الأشعرية يقال له البكري إلى جامع المنصور ومعه الفضولي الشحنة – قائد الحامية العسكرية للسلطنة في بغداد – والأتراك والعجم بالسلاح فوعظ وكان هذا البكري فيه حدة وطيش ، وكان النظام قد أنفذ ابن القشيري فتلقاه الحنابلة بالسب والشتم وكان له عرض فائق من هذا فأخذه النظام إليه وبعث إليهم هذا الرجل وكان ممن لا خلاق له فأخذ يسب الحنابلة ويستخف بهم وكان معه كتاب من النظام يتضمن الإذن له في الجلوس في المدرسة والتكلم بمذهب الأشعري فجلس في الأماكن كلها وقال لابد من جامع المنصور ، فنودي في باب البصرة وتلك الأصقاع دعوا لنا اليوم الجامع فمنعهم من الحضور وصعد المنبر وقال " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " ما كفر أحمد وإنما أصحابه فجاء الآجر ، فأخذ النقيب قوام المسجد وقال هذا من أين فقال إن قوما من الهاشميين تبطنوا السقف وفعلوا هذا "(1)
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 9 ص4(1/224)
أما ابن الأثير فقال :" ورد إلى بغداد هذه السنة الشريف أبو القاسم البكري المغربي الواعظ وكان أشعري المذهب ، وكان قد قصد نظام الملك فأحبه ومال إليه وسيره إلى بغداد وأجرى عليه الجراية الوافرة فوعظ بالمدرسة النظامية وكان يذكر الحنابلة ويعيبهم ويقول :" وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " والله ما كفر أحمد ولكن أصحابه كفروا ، ثم إنه قصد يوما دار قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني بنهر القلائين فجرى بين بعض أصحابه وبين قوم من الحنابلة مشاجرة أدت إلى الفتنة وكثر جمعه فكبس دور بني الفراء وأخذ كتبهم وأخذ منها كتاب الصفات لأبي يعلى فكان يقرأ بين يديه وهو جالس على الكرسي للوعظ فيشنع به عليهم وجرى له معهم خصومات وفتن ولقب البكري من الديوان بعلم السنة ومات ببغداد ودفن عند قبر أبي الحسن الأشعري "(1)
أما الذهبي فيذكر أنه وفد على النظام الوزير فنفق عليه وكتب له توقيعا بأن يعظ بجوامع بغداد فقدم فجلس واحتفل الخلق فذكر الحنابلة وحط وبالغ ونبزهم بالتجسيم فهاجت الفتنة وغلت بها المراجل ، وكفّر هؤلاء ولما عزم على الجلوس بجامع المنصور ، قال نقيب النقباء : قفوا حتى أنقل أهلي فلابد من قتل ونهب ، ثم أغلقت أبواب الجامع وصعد البكري وحوله الترك بالقسي ولقب بعلم السنة فتعرض لأصحابه طائفة من الحنابلة فشدت الدولة منه وكُبست دور بني القاضي ابن الفراء وأخذت كتبهم " قال :" وكان يعظ فقال " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " فجاءته حصاة ثم أخرى فكشف النقيب عن الحال فكانوا أناسا من الهاشميين حنابلة قد تخبؤوا في بطانة السقف فعاقبهم النقيب ثم رجع البكري عليلا وتوفي سنة 476 هـ "(2)
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج 10 ص124
(2) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 18 ص562(1/225)
وذكر ابن النجار أنه قد كتب له نظام الملك أن يجلس في كل جوامع بغداد " وقال :" إنه لما أراد الجلوس بجامع المنصور قال النقيب : مروا كل أمير ببغداد معه تركي أن يبعثه إلي ، فانتقى الأتراك وأغلق باب جامع المنصور إلا الباب الذي يلي باب البصرة وحده وترك مع كل باب مع غلقه تركيين يحفظونه وقال لايخرج أحد منكم يا أهل البصرة أعيرونا الجامع نكفر فيه ساعة ومن خرج فعلت به وصنعت وكان الخطيب يذكر في خطبته شاة أم معبد في أكثر أوقاته فقال له النقيب عجل الخطبة لا نذبح الشاة اليوم ، فلما فرغوا من الصلاة وقد أخرجوا الكرسي إلى الصحن الذي يلي القبلة صعد البكري والأتراك معهم القسي والنبل كأنهم يريدون القتال ولم يكن الجمع إلا قليلا ، فتكلم ومدح أحمد وقال" وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " فجاءت حصاة وأخرى فأحس بذلك النقيب فلما خرجوا أخذ القوام وقال ويلكم أفعل ما أفعل ويجري ما يجري قد جاءت ثلاث حصيات من أين هذا فقالوا لا ندري فعاقب بعضهم فقالوا والله فلان وفلان عدوا عشرة أو نحوهم منهم من يقرب إلى النقيب من الهاشميين اختفوا في السطح وفعلوا ذلك فأخذهم وعاقبهم"(1)
__________
(1) ابن النجار " ذيل تاريخ بغداد " ج 2 ص186(1/226)
قلت : وفي هذه الجولة الثانية ظهر تصميم نظام الملك على إضعاف المذهب الحنبلي ، ومعاودة ما فشل فيه في فتنة القشيري . ويظهر ذلك بوضوح من تصميم الواعظ الأشعري على الجلوس في جامع المنصور قلب المؤسسة العلمية الحنبلية ، أي أنه اختار أرض المعركة في عقر دار الخصم ، وكان ذلك في ظل صمت كامل من الخلافة العباسية التي استسلمت لنفوذ نظام الملك ، خصوصا بعد وفاة الشريف أبي جعفر الحنبلي صاحب النفوذ القوي داخلها ، وظهر تعاطي الخلافة مع المعطيات الجديدة باختيار أبي إسحاق الشيرازي مبعوثا للخليفة لدى السلطان السلجوقي ملكشاه الذي خلف والده ألب أرسلان وأبقى الوزير القوي نظام الملك ، وقد استجابت السلطنة لكل المقترحات العباسية لإزالة العميد أبي الفتح ممثل السلطنة في بغداد .
وفي هذا الجو المشحون من التنافر يفهم قول الشاعر البغدادي محمد بن عبدالباقي المتوفى سنة 539هـ
احفظ لسانك لا تبح بثلاثةٍ …سنٍ ومالٍ ما استطعتَ و مذهبِ
فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثةٍ……بمموهٍ و مكفرٍ و مكذبِ
كذلك كانت هناك محاولات حثيثة لفك الارتباط بين الشافعية والأشعرية ، من ذلك ما حكاه أبو الحسن الهكاري (ت 486 ) قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت : يا رسول الله أوصني فقال عليك باعتقاد أحمد بن حنبل ومذهب الشافعي "(1)
وجاء عند ابن رجب في ذيل الطبقات في ترجمة ابن البناء الحنبلي ( ت 531 ) أن من مؤلفاته " ثناء أحمد على الشافعي ، ثناء الشافعي على أحمد ، فضائل الشافعي ، قال ورأيت له في مجموعاته ما يوافق بين المذهبين الشافعي وأحمد يقصد به تأليف القلوب " (2)
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 12 ص145
(2) ابن رجب " ذيل طبقات الحنابلة " ج 1 ص33(1/227)
ويصف ابن عقيل الحنبلي تداول الأوضاع في بغداد ، وحال الناس ومذاهبهم وأثر الأحداث عليهم بمقولة نفيسة يقول فيها : وقد رأيت أكثر أعمال الناس لا يقع إلا للناس إلا من عصم الله ، فمن ذلك إني رأيت في زمن أبي يوسف – الشيخ الأجل – كثر أهل القرآن والمنكرون لإكرام أصحاب عبدالصمد وكثر متفقهة الحنابلة ، ومات فاختل ذلك فاتفق ابن جهير – الوزير – فرأيت من كان يتقرب إلى ابن جهير برفع أخبار العاملين ، ثم جاءت دولة النظام فعظم الأشعري فرأيت من كان يتسخط عليّ بنفي التشبيه غلوا في مذهب أحمد وكان يظهر بغضي يعود عليّ بالغمض على الحنابلة ، وصار كلامه ككلام رافضي وصل إلى مشهد الحسين فأمن وباح ، ورأيت كثيرا من أصحاب المذاهب انتقلوا ونافقوا وتوثق بمذهب الأشعري والشافعي طمعا في العز والجرايات ، ثم رأيت الوزير أبا شجاع يدين بحب الصالحين والزهاد فانقطع البطالون إلى المساجد وتعمد خلق للزهد فلما افتقدت ذلك قلت لنفسي هل حظيت من هذا الافتقاد بشيء ينفعك فقالت البصيرة : نعم استفدت أن الثقة خيبة والغنى بهم إفلاس ولا ينبغي أن يعوّل على غير الله " (1)
قلت : ومن الطريف أنه برزت ظاهرة ( الحنفشة ) (2)، وبسببها هجي أحد الحنابلة(3) على تبديله مذهبه تبعا للمذهب الغالب فقيل له :
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبلٍ……وذلك لما أعوزتك المآكلُ
وما اخترت رأي الشافعي ديانةً……ولكنما تهوى الذي هو حاصلُ
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 9 ص93
(2) الحنفشة ) مصطلح منحوت من اسم المذاهب الثلاثة الحنبلي والحنفي والشافعي ، وتعني انتقال الحنبلي إلى الحنفي ثم تحوله شافعيا ، وقد لقب أبو بكر البندنيجي البغدادي المتوفى سنة 538 بلقب حنفش وهو مصطلح قديم ذكره صاحب المستفاد في تاريخ بغداد ص11
(3) هو الوجيه الأعمى اشتغل بعلم العربية ، كان حنبليا ثم انتقل إلى الحنفية ثم صار شافعيا وولي تدريس النحو بالنظامية ، توفي سنة 612 هـ .(1/228)
قلت : ومن الصعب معرفة حجم الفوائد والأضرار للطائفتين على وجه الدقة ، إلا أنه من المؤكد أن الأشاعرة داخل العباءة الشافعية قد وطدوا أقدامهم في بغداد ، في حين خف الحضور الحنبلي حتى أنه ذكر في حوادث سنة 494هـ أمر الخليفة في رمضان أن يفتح جامع القصر ويصلى فيه بالتراويح ويجهر فيه بالتسمية ، والقنوت على مذهب الشافعي " (1)
قلت وفي هذا السياق التاريخي من التنافس المحموم بين التيارات الرئيسية داخل المنظومة السنية في بغداد ظهر تيار قديم – جديد سيكتب له مزاحمة غيره في بغداد ، وهو التيار الصوفي ، وهو تيار ارتفع شأنه بسبب الأحداث الماضية ، وساعده في انتشاره فكره الهروبي غير الصدامي ، ووجد في شخصية الوزير البغدادي أبي شجاع _ وهو ما سبق الإشارة إليه في كلام ابن عقيل الحنبلي – داعما له ، وهذا التنامي الظاهر يبدو أنه كان السبب في عزل نظام الملك للوزير أبي شجاع ، ويصف ابن عقيل أبا شجاع محمد بن حسين أنه عاهد الله ألا يتعصب في الفروع أبدا ، وفي زمانه أسقطت المكوس وألبس أهل الذمة الغيار ، قال وكان الوزير أبوشجاع كثير البر للخلق كثير التلطف بهم ، قال فخرج من الخليفة إنكار عليه وأمره أن يلبس أخلاق السياسة " (2)
ومن المرجح أن جزءا من أتباع المذهب الصوفي هم من الحنابلة الذين شعروا بوطأة التضييق في ظل تراجع الزخم السني المبني على شخصية الإمام أحمد بن حنبل ، وغياب القيادات الجذابة داخل الشارع الحنبلي ، وغياب التعاطف المعتاد الذي كانت خلافة بني العباس تبديه إزاء متأخري الحنابلة .
………*************
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 9 ص 123
(2) ابن الجوزي " المنتظم " ج 9 ص92(1/229)
في بداية العقد التاسع من القرن الخامس الهجري أي منذ سنة 480 هـ بدا أن الأشعرية قد حققت مكاسب ضخمة في المشرق الإسلامي ، وفي قلب العالم الإسلامي بغداد و التي أصبحت منطقة جذب لعلماء الأشاعرة والشافعية ، ورغم خسارة أشعرية بغداد بوفاة أبي إسحاق الشيرازي ، إلا أنهم كسبوا وجود أبي حامد الغزالي الذي كان مرشحا مؤهلا لملء الفراغ الذي تركه الشيرازي .
ثم إنه وفي سنة 485 قررت السلطنة السلجوقية الممثلة في الملك ملكشاه ووزيره الأشعري نظام الملك أن يستوطنوا بغداد ، وشرع كما يذكر المؤرخون في بناء دار هائلة له بها .
وهي خطوة تعتبر بلاشك تدشينا لعصر الانتصار الواضح ، واحتفالا بالمولود الغريب في بغداد.
قال ابن كثير في حوادث سنة 485 وقدم السلطان بغداد بنية غير صالحة فلقاه الله في نفسه ماتمناه لأعدائه وذلك أنه لما استقر ركابه ببغداد ، وأرسل إليه الخليفة يهنئه ، فأرسل إلى الخليفة يقول له لابد أن تنزل لي عن بغداد وتتحول إلى أي البلاد شئت فأرسل إليه الخليفة يستنظره شهرا فرد عليه ولا ساعة فأرسل إليه يتوسل إليه في إنظاره عشرة أيام فأجاب بعد تمنع شديد "(1)
وذكر المؤرخون أن السلطان مات قبل انقضاء الأيام العشرة ، أما رجل المشرق القوي والأشعري العتيد الوزير نظام الملك فقد لقي مصرعه على يد الباطنية الحشاشين ، وكان مقتله ضربة قوية للنفوذ الأشعري في بغداد والمشرق الإسلامي ، إذ أوقف استمرارية الجهود المنظمة لدعم المذهب الأشعري ومنحه الشرعية التي تجعله ممثلا للموقف السني .
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج12 ص139(1/230)
وكانت أولى تداعيات وفاة السلطان ملكشاه السلجوقي انقسام البيت السلجوقي بين ابني ملكشاه بركياروق ومحمود ، وقد دعم العباسيون والنفوذ الأشعري في بغداد تولية بركياروق عبر فتوى الغزالي بعدم جواز تولية محمود صاحب السنوات الخمس ، بينما دعم المفتي الحنفي تولي السلطان الصغير ، وكان انتصار بركياروق على أخيه الصغير فيه دعم للنفوذ الأشعري ، أو أنه إن جاز التعبير لم يعجل على أقل تقدير بضعفه ، إلا أن ذلك لم يكن ليحجب الحقيقة التي بدأت في التبلور ، والتي يميزها ضعف السلاجقة بسبب السلسلة الطويلة من حالة عدم الاستقرار التي أنهكت قواهم ، إضافة إلى بروز الدولة الخوارزمية الجديدة في المشرق سنة 490 هـ والتي ستمثل عامل ضغط إضافي عليهم .
كما أن الأضواء بدأت تخبو في بغداد باعتبارها مركزا إسلاميا جذابا ، إذ تحول الاهتمام في العالم الإسلامي إلى بلاد الشام بسبب الغزو الصليبي والذي بلغ ذروته سنة 492 هـ باحتلال الصليبين لبيت المقدس ، وفقدت بغداد دورها الديني إلى حد كبير حتى أن الوفد الذي زار بغداد للتحريض على الجهاد وصد الصليبين لم يجد في المدينة المثخنة بالتاريخ أي تجاوب ، ولم يحركها كل ما نظمه القاضي أبو سعد الهروي ولا كل أشعار أبي المظفر الأبيوردي .
قال ابن الأثير :" وورد المستنفرون من الشام في رمضان إلى بغداد صحبة القاضي أبي سعد الهروي فأوردوا في الديوان كلاما أبكى العيون وأوجع القلوب لكنهم عادوا من غير بلوغ أرب ولا قضاء حاجة " (1)
__________
(1) ابن الأثير " الكامل " ج 10 ص284(1/231)
وظلت الأمور تحت سلطة بركياروق المتحالف مع الأشاعرة ، واستمر قدوم وعاظ الأشاعرة إلى بغداد ، ونشوء الفتن بسبب ذلك ، من ذلك ورود الغزنوي الواعظ ، والذي تسبب في حدوث فتنة بين الأشاعرة والحنابلة سنة 495هـ ، إلا أن الزخم الذي كان للأشاعرة قد خف وهجه ، وخبا بريقه ، فترك أبو حامد الغزالي التدريس في النظامية واتجه إلى التصوف ، واتهم الكيا الهراسي المدرس الذي خلفه في النظامية بالانتماء إلى الباطنية ثم سلم ، كما فقد الأشاعرة حليفا مهما هو أبو محمد التميمي الحنبلي .
ولم يصف الجو للسلطان بركياروق بسبب صعود نجم أخيه الثالث السلطان محمد ، وظل الصراع بينهما متداولا ، حتى وفاة الأول سنة 498هـ ، وكانت وفاته تحولا واضحا في موازين القوى بين المذاهب ، وفتر سوق الأشاعرة حتى أن ابن الجوزي يذكر أنه في سنة 498 هـ قصد الوزير سعد الملك المدرسة النظامية وحضر تدريس الكيا الهراسي ليرغب الناس بالعلم " (1)
بل إنه في سنة 506هـ دخل يوسف بن داود الواعظ الشافعي بغداد ، وكان من تلاميذ أبي إسحاق الشيرازي فقام إليه وهو يعظ الناس ابنا أبي بكر الشاشي الشافعي- المدرس السابق بالنظامية – فقالا له : إن كنت تتكلم على مذهب الأشعري وإلا فاسكت فقال : لامتعتما بشبابكما فماتا شابين " (2) ، وفي هذا دلالة على اختلال الصف الشافعي وظهور تيارات داخله تعارض التوجه الأشعري .
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 9 ص143
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 12 ص174(1/232)
وعلى الرغم من الوهن الذي بدأ يدب في الجسد الأشعري في بغداد إلا أنهم كانوا يحافظون على جزء من وضعهم القوي الناشئ من تمكنهم من موطئ قدم في عاصمة الخلافة ، وكانت هذه التغيرات وهذه الحالة الجديدة التي بدأت تتضح داخل النفوذ الأشعري في بغداد ساهمت في انتعاش المذاهب الأخرى المنافسة ، فارتفع صوت المذهب الحنفي إذ يذكر المؤرخون أن الحسن بن أبي بكر النيسابوري ورد إلى بغداد بصحبة السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه ، وهو فقيه كبير القدر من أصحاب أبي حنيفة وجلس للوعظ فحضر السلطان وعظه فشن هجوما شديدا على الأشاعرة وعلى شخصية أبي الحسن الأشعري ، وكان قد كتب على المدرسة النظامية اسم الأشعري فتقدم السلطان بمحوه وكتب مكانه اسم الشافعي " (1)
وفي المعسكر الحنبلي كانت هناك محاولات حثيثة لتعويض الخسائر التي تعرضوا لها إبان العاصفة الأشعرية ، وساعدهم في ذلك التوجه العباسي القوي نحو الاستقلال عن النفوذ السلجوقي والذي بدأه الخليفة المسترشد ( 512-529 ) وساعده في ذلك تنامي الصراعات السلجوقية وتفاقمها ، وتحول اهتمامات أمراء آل زنكي الأقوياء نحو محاربة الإفرنج في الشام ، ورغم أن هذا المشروع الاستقلالي شهد نكسة ذريعة بمقتل الخليفة على يد السلطان مسعود السلجوقي إلا أنه لم يمت ، بل تمم الخلفاء من بعده هذه السياسة الاستقلالية ، حتى أن ابن الأثير يصف الخليفة المقتفي ( 530 -555) بأنه أول من استبد بالعراق منفردا عن سلطان يكون معه من أول أيام الديلم إلى الآن "(2)
__________
(1) ابن الجوزي " مرجع سابق " ج 10 ص 106 - 107
(2) ابن الأثير " الكامل " ج 11 ص256(1/233)
ودفع التلاقي بين المشروعين – مشروع الخلافة الاستقلالي ومشروع التعويض الحنبلي – إن جاز التعبير إلى وصول عون الدين ابن هبيرة الوزير الحنبلي قال ابن الأثير في حوادث سنة 544هـ :" وفيه ولي أبو المظفر يحيى بن هبيرة وزارة الخليفة المقتفي لأمر الله - وكان قبل صاحب ديوان الزمام -وظهر له كفاية عظيمة عند نزول العساكر بظاهر بغداد وحسن قيام في ردهم فرغب الخليفة فيه فاستوزره " (1)
قلت ومن الطريف ما يذكره المؤرخون سنة 542 هـ أن رجلا رأى في المنام قائلا يقول له من زار أحمد بن حنبل غفر له ، قالوا فلم يبق خاص ولا عام إلا زاره .
وسواء صدق الحاكي في منامه أم لا فإن ذلك تعبير بينٌ عما سبق القول فيه عن محاولات الحنابلة للتعويض ، وكان هذا الحلم المثير في نفس سنة تولي ابن هبيرة لديوان الزمام .
قلت وقاد هذه المحاولات الحنبلية جيل جديد من الحنابلة أبرز وجوهه الوزير ابن هبيرة ، وعبدالقادر الجيلاني الصوفي ، وابن الجوزي المؤرخ الواعظ ، لكنها لم تكن سوى محاولات يائسة تعبر عن انتفاضة الرحيل أو ارتعاشه الموت إن جاز القول ، وقد قيل :
إذا وجد الشيخ في نفسه……نشاطا فذلك موت خفي
ألست ترى ضوء السرا……ج له لهب قبل أن ينطفي
بين يدي الرحيل ...تشريح الجسد الحنبلي
يلتزم المذهب الحنبلي بركيزتين أساسيتين ، ظل على مدى عصوره يتشبث بهما وهذا سبب ما خاضه من معارك وما تعرض له من محن .
__________
(1) المرجع السابق ج 11 ص 146(1/234)
أولاهما مسألة الالتزام بالنص ، وهذا جانب معرفي ينطلق أساسا من منظورهم عن قدسية النص ضمن الإطار اللفظي الذي نشأ فيه ، وهذان الجانبان ( القدسية والإطار اللفظي ) اللذان تقوم عليهما النظرية المعرفية لدى الحنابلة تعرضا لمحاولات متعددة لتحطيمهما ، ولعل أول هذه المحاولات هي المحاولة المشهورة في التاريخ بمحنة خلق القرآن ، وهي مسألة منتقاة بعناية ودقة ، القصد منها تحطيم قدسية النص لإفساح المجال للعقل كمعيار حكمي ، وهو المعيار الحكمي عند المعتزلة ، وتقديم هذا المعيار هو أحد نواتج القول ، وأحد منطلقاته كذلك ، وللقول بخلق القرآن منطلق آخر معلن في أدبيات الجدل المذهبي ومفاده أن إثبات صفة الكلام وهي عرض لو قامت بالله لقامت به الأعراض فيلزم التشبيه والتجسيم كما يذكر ذلك ابن تيمية .(1)
كما أن القبول بهذه الصفة مدعاة للقبول بكل ماورد من صفات الله ، وفي هذا انقياد للنص ، يؤدي للاعتراف به كمصدر مستقل للمعرفة بل وكمصدر أولي لها ، وهو ما يهدم الأساس المعرفي القائم على العقل وتقديمه لدى المعتزلة .
وليس صحيحا ما يقوله الكوثري من أن خصومة أهل السنة – الحشوية حسب وصفه – متوجهة نحو العقل والعلوم النظرية وكل فرقة قائمة ، والمعتزلة ضد الحشوية بخط مستقيم أنتجها البحث العلمي " (2)
__________
(1) ابن تيمية " مجموع الفتاوى " ج 6 ص35
(2) الكوثري " حاشية تبيين كذب المفتري " ص18(1/235)
فالحنابلة وقبلهم جماهير علماء المسلمين في القرون الأولى لا يلغون العقل إلا عند معارضته للنص ، إذ أن حقيقة الإسلام قائمة على تقديس النص ، وبدون هذا القول يصبح الإسلام بكامله تابع لا متبوع ، ومع الاتفاق على عدم وجود عقل جمعي واحد(1) يمكن الرجوع إليه في مسألة التحسين والتقبيح فإن تسليط العقل على النقل إبطال للنقل ، فيصبح لكل زمن دينه ، ولكل مجتمع إسلامه ، وهذا باطل لا مرية فيه ، ومبطل لأعظم الاختصاصات التي اختص بها الإسلام من كونه آخر الأديان . وبناء على هذا يصح أو لايصح قول من يقول بالارتباط الديني – النفعي ، فإن كان العقل أولا مقدما على النقل لم يصح هذا الارتباط ، ولا يلزم من كون الشيء نافعا أن يكون دينا ، وإن كان النقل أولا وهو المعتبر في التحسين والتقبيح صح هذا الارتباط .
وفي الحقيقة إن هذه المسألة المعرفية هي أس الخلاف بين الحنابلة والمعتزلة ، الذين يتهمون الحنابلة بتغييب العقل بينما يتهمون بتغييب النص ، وكل ذلك في دعوى وجود تعارض بين العقل والنص وقد كتب شيخ الإسلام ابن تيمية كتابا في درء تعارض العقل والنقل .
__________
(1) هو ما يسميه شيخ الإسلام ابن تيمية بتفاوت قوى ابن آدم في الإدراك ، قال وكذلك العلوم الكلية البدهية قد علمتم أنها ليس لها حد في بني آدم ، فمن أين لكم أن بعض النفوس يكون لها من العلوم البديهية ما يختص بها وحدها أو بها وبأمثالها ما لايكون من البديهيات عندكم " كتاب نقض المنطق ص162(1/236)
عودا على ما سبق فإن المحاولة الاعتزالية للسيطرة على الفكر الإسلامي بتحطيم قدسية النص فشلت فشلا ذريعا على يد أهل الحديث ، وقام الحنابلة لاحقا بقيادة أهل السنة لمحاصرة هذا الفكر والعمل على قوقعته ، أما مايقال عن نجاح الأشاعرة في إضعاف المبادئ الاعتزالية فلا يصح لأن المذهب الأشعري بنى كثيرا من مقدماته على مذهب المعتزلة خصوصا في مسألة المعرفة وطرق اكتسابها ، لكن النجاح الذي حققه هو استقطاب عدد كبير من العقليين باعتباره مذهبا وسطا بين المعتزلة وأهل السنة ، ولقربه من أهل السنة في اعتبار النص القرآني ، مما ساهم في إضعاف جاذبية المذهب الاعتزالي .
وإن كان الهجوم المعتزلي منصبا على البوابة الرئيسية للفكر الإسلامي ، فإن الهجوم الأشعري جاء من خلال الأبواب الخلفية – إن صح التعبير – فالأشاعرة في أدبياتهم يقدسون النص خصوصا القرآني باعتبار التسمية ، لكنهم يركزون هجومهم على مسألة الإطار اللفظي الذي نشأ فيه النص ، ومن هنا يفهم إقرار الأشاعرة بالكلام النفسي ، أي أنهم بعبارة أخرى يقرون بالمعنى دون اللفظ ، فاللفظ عندهم مدار بحث ، وهو مادفعهم إلى تأويل النصوص وصرفها عن ظاهرها ، وهو الأمر الذي يؤدي حتما إلى تعطيل النص وهي نفس النتيجة التي يسعى إليها المعتزلة .
وبعد تبني الشافعية الحليف السابق للحنابلة والخارج مثلهم من عباءة أهل الحديث للفكر الأشعري العقدي ، وتبني المذهب الحنفي للاعتزال عقديا لم يبق سوى الحنابلة للدفاع عن السلفية الأولى ، وهذا على الصعيد المذهبي الجمعي لا على الصعيد الفردي .(1/237)
والحقيقة أن التحالف الشافعي – الأشعري تحالف غير منسجم ، إذ أن البناء الفقهي الشافعي يعتمد مسألة النقل ويقدمها على العقل ، وقد كانت العلاقات بين الشافعية وأهل الحديث وطيدة متداخلة ، خلافا للمذهب الحنفي أو مذهب أهل الرأي الذي عرف منذ بداياته اعتماده على الرأي أولا ، فكان من المستساغ تبني هذا المذهب للفكر الاعتزالي المقدم للعقل ، والذي شهد تغلغلا واسعا في أوساط فقهاء المذهب الحنفي .
وقد استفاد الأشاعرة من الانتشار الواسع للشافعية في أنحاء العالم الإسلامي من مصر غربا وحتى بلاد ماوراء النهر شرقا .
أما الركيزة الثانية والتي سببت دخول الحنابلة في كثير من صراعاتهم مع الفرق والمذاهب المناوئة فهي مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكان هذا جزء من اختيار سلفي قديم ، إذ نقل ابن حجر في الفتح عن الطبري قوله :" اختلف السلف في الأمر بالمعروف فقالت طائفة يجب مطلقا واحتجوا بحديث طارق بن شهاب رفعه " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " وبعموم قوله " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ..الحديث ، وقال بعضهم يجب إنكار المنكر لكن شرطه أن لا يلحق بالمنكر بلاء لا قيل له به ، قال والصواب اعتبار الشرط المذكور " (1)
وقد كان الحنابلة ممن قال بقول الطائفة الأولى التي أوجبته مطلقا ، وكان لهذه المسألة شقان : شق على الصعيد الاجتماعي – الخلقي و كانت تقوم به جماعات متطوعة حنبلية ، كان من أشهرها جماعة عبدالصمد ، انطلاقا من إرث قديم بدأته جماعة المطوعة .
وشق على الصعيد المذهبي - العقدي استتبعه نشوء نزاعات وفتن ترتبت على إنكار المنكر الذي يظهر في الفرق والمذاهب الأخرى التي اصطدم بها الحنابلة في بغداد ، وهي استتباعات غير مرغوب فيها لكنها لا تلغي الأصل المشروع ، المبني على المدافعة المشروعة .
__________
(1) ابن حجر العسقلاني " فتح البارئ " ج 13 ص53(1/238)
كانت هاتان الركيزتان هما المحوران الرئيسيان لكل ما يحدث بين الحنابلة ومنافسيهم ، لكنها كذلك ذات علاقة بالجدل الداخلي والذي تطور إلى تيارات ضمتها العباءة الحنبلية .
وكان التيار الرئيسي والقوي والذي ظل مهيمنا على الشارع الحنبلي لمدة طويلة ، هو التيار المحافظ الذي حافظ على كل الأدبيات الأولى للمذهب ، كما كان له اليد الطولى في قيادة القواعد الشعبية له ، وكان أبرز رموز هذا التيار أبا محمد البربهاري الذي لمع نجمه في العقود الأولى من القرن الرابع ، ولعله كان أول القادة الميدانين الذين تعرضوا لملاحقة السلطات الحاكمة ، وكان يمثل المرجع الرئيسي أو هو بوابة الانضواء في المؤسسة المذهبية الحنبلية ، ويمثل العرض الذي ذكره المؤرخون لأبي الحسن الأشعري حين عرض نفسه على البربهاري وجهوده في الرد على المعتزلة إشارة إلى هذا القول .
وورث مكانه أبو يعلى ابن الفراء القاضي بعد انتهاء مرحلة تأرجحه بين التيارين الرئيسيين ، وحسم موقفه لصالح المحافظين ، خصوصا بعد وفاة عبد الله بن حامد أحد أبرز علماء التيار المحافظ ، والذي قال عنه الخطيب :" كان معظما في النفوس مقدما عند السلطان والعامة " وهو شيخ أبي يعلى وشيخ أبي الحسن الأهوازي المقرئ الدمشقي الذي شن هجوما لاذعا على أبي الحسن الأشعري دفع ابن عساكر إلى تأليف كتابه تبيين كذب المفتري .
وإن كان دور ابن حامد مقتصرا على الجوانب النظرية ، فإن تلميذه أبا يعلى ابن الفراء يصح فيه أن نقول أنه قاد التيار المحافظ قيادة فعلية ، وكانت فترة قيادته حاسمة في تاريخ المذهب ، إذ خرج فيها المذهب من قوقعته في بغداد ليغرس بذورا له سيقدر لها أن تمارس دورا مهما في تاريخ الحنابلة في كل من حران ودمشق .(1/239)
كما أنه لعب دورا في تقوية الحنابلة في بغداد عبر مجموعة من التلاميذ ، وكما كان الحال زمن البربهاري فقد دخل الحنابلة تحت قيادة أبي يعلى في منازعات وصراعات ، لكنه خلافا للبربهاري كانت السلطة العباسية الضعيفة إلى جانبه ، ويكاد يجمع كافة المؤرخين على دوره في تقوية المذهب الحنبلي ونشره .
وبعد وفاته سنة 458هـ خلفه تلميذه الأخص الشريف أبو جعفر عبدالخالق بن عيس الهاشمي ، صاحب النفوذ القوي داخل الوسط العباسي الحاكم ليقود هذا التيار إبان اصطدامه بالأشاعرة ، ويقول عنه ابن النجار :" كان منقطعا إلى العبادة وخشونة العيش والصلابة في مذهبه حتى أفضى ذلك إلى مسارعة العوام إلى إيذاء الناس وإراقة الدماء وسفك الدماء وسب العلماء فحبس " (1)
قلت وكلام ابن النجار لا طائل منه إذ يشير إلى ما حدث إبان فتنة القشيري ، ولم يكن الحنابلة فيها سوى ضحية للمشروع الأشعري الذي وقف خلفه الوزير نظام الملك كما سبق بيانه .
وكان أخر زعماء هذا التيار الحافظ إسحاق بن أحمد العلثي قال عنه ابن رجب ": كان أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر قال ناصح الدين ابن الحنبلي هو اليوم شيخ العراق "(2)
أما المحاور التي تدور عليها مواقف هذا التيار فهي ثلاثة محاور:
أولا : الإثبات وهي مسالة إثبات الصفات الواردة لله في القرآن والسنة ، ويختلف بعضهم في فرعيات هذه المسالة ففي حين يبالغ بعضهم في ذلك الإثبات ، نجد غالبهم يلتزمون بالخط الأساسي للحنابلة وأهل الحديث .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية :" واختلف أصحاب أحمد وغيرهم من المنتسبين للسنة والحديث في النزول والإتيان والمجيء وغير ذلك هل يقال إنه بحركة وانتقال أم يقال بغير حركة وانتقال أم يمسك عن الإثبات والنفي على ثلاثة أقوال :
الأول قول أبي عبد الله بن حامد وغيره
الثاني قول أبي الحسن التميمي وأهل بيته
__________
(1) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 18 ص548
(2) ابن رجب " ذيل طبقات الحنابلة " ج 2 ص210(1/240)
والثالث قول أبي عبد الله ابن بطة وغيره " (1)
ويقول ابن الجوزي – وهو من التيار الآخر - ": ورأيت من أصحابنا من يتكلم في الأصول بما لا يصلح ، وانتدب للتصنيف ثلاثة أبو عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي أبو يعلى وابن الزاغوني فصنفوا كتبا شانوا بها المذهب ، ورأيتهم قد نزلوا مرتبة العوام فحملوا الصفات على مقتضى الحس " (2)
وقد انتقد الذهبي على ابن الزاغوني بيتا من الشعر له قال فيه :
…عال على العرش الرفيع بذاته…سبحانه عن قول غاو وملحد
قال: " وقد ذكرنا أن لفظة ( بذاته ) لا حاجة لها وهي تشغب النفوس وتركها أولى" قال : وقد رأيت لأبي الحسن بخطه مقالة في الحرف والصوت عليه فيها مآخذ والله يغفر له فليته سكت "(3)
ويحدد شيخ الإسلام صورة واضحة حول هذه المسألة وموقف هذا التيار منها فيقول ": أما الحنبلية فأبو عبد الله بن حامد قوي في الإثبات وسلك طريقه صاحبه القاضي أبي يعلى لكنه ألين منه وأبعد عن الزيادة في الإثبات ، وأما أبو عبد الله ابن بطة فطريقته طريقة المحدثين المحضة " (4)
__________
(1) ابن تيمية " مجموع الفتاوى " ج 5 ص402
(2) ابن الجوزي " نفي التشبيه " ص6
(3) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 19 ص607
(4) ابن تيمية " مجموع الفتاوى " ج 6 ص55(1/241)
قلت : وأبو يعلى عرف عنه في أول عهده التأرجح بين التيارين الرئيسيين ، لذا يعد له شيخ الإسلام في بعض المسائل قولين أحدهما يوافق المعتزلة والأشاعرة والقول الآخر يوافق فيه جمهور الحنابلة وأهل الحديث ، كقوله في مسألة الأفعال الاختيارية والخلاف فيها حول هل الخلق هو المخلوق أم لا .(1) لكنه حسم تأرجحه في كتابه الشهير ( إبطال التأويلات لأخبار الصفات ) وهو الكتاب الذي أثار ضجة في الوسط المذهبي في بغداد ، حتى أن بعض الحنابلة كانوا من المعارضين للكتاب ، ولهذا ذكر ابن الأثير في ترجمته :" وهو مصنف كتاب الصفات أتى فيه بكل عجيبة وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض تعالى الله عن ذلك ، وكان ابن تميمي الحنبلي يقول : لقد خريء أبو يعلى ابن الفراء على الحنابلة خرية لا يغسلها الماء " (2)
وابن تميمي هذا هو أبو محمد رزق الله التميمي ، ويعبر ابن الجوزي عن هذه العبارة بقوله :" وقد كان أبو محمد التميمي يقول في بعض أئمتكم لقد شان المذهب شيئا قبيحا لا يغسل إلى يوم القيامة " (3)
قلت : وأبو يعلى في إبطال التأويلات لا مأخذ عليه سوى سوقه لبعض الأحاديث الواهية والاعتماد عليها ، لكنه لم يخرق الأصل الذي عليه الحنابلة في القبول بالصفات إن جاء بها نص من كتاب وسنة .
أما المحور الثاني من المحاور المميزة لهذا التيار فهي مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث تميز هذا التيار بتطبيق هذه المسألة تطبيقا صارما .
__________
(1) للمزيد انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية ج 5 ص379
(2) ابن الأثير " الكامل " ج10 ص52
(3) ابن الجوزي " دفع شبه التشبيه " ص9(1/242)
أما المحور الثالث فهو يدور حول العلاقة بالسلطان ، فمنذ نشوء محنة خلق القرآن زاد تشدد أهل الحديث في مسألة العلاقة مع السلطان ، وعزز موقف الإمام أحمد من الخلفاء العباسيين بدءا من المأمون وانتهاء بالمتوكل من هذا التوجه الانعزالي ، وقد حافظ التيار المحافظ على موقفه ، مما جعل علاقاته في الغالب الأعم سيئة مع الخلافة العباسية ، خصوصا عند زيادة التأثير الخارجي عليها ، وقد أورد المؤرخون أخبار استتار البربهاري وأنه مات مستترا ، وذكر عن ابن بطة خبرا بتواريه " (1)
كما أن أبا جعفر الشريف حكم عليه بالإقامة الجبرية حتى توفي ، ولم يكن أبو يعلى في الحقيقة خرقا لهذه القاعدة ، فرغم كونه كان قاضيا لدى العباسيين إلا أنه لم يؤثر عنه اختلاطه بهم أو انتفاعه من هذا المنصب مالا أو جاها . ويذكر ابن الجوزي عن شيخه ابن ناصر عند الحديث عن أحد المترجم له فيقول :" كان شيخنا ابن ناصر يغمزه بشيئين أحدهما الميل إلى الأشاعرة والثاني خدمة السلطان " (2)
وكانت مسألة العلاقة مع السلطان منطلقة في جانب منها من مسألة الزهد والورع الذي عُرف به رجالات هذا التيار ، ورغم أن هذه الروح الزاهدة كان لها أن تتطور إلى نسق صوفي كما حدث لاحقا إلا أنها تحت قيادات التيار المحافظ ظل الفصل بينها وبين الصوفية واضحا .
………****************
أما التيار الرئيسي الآخر من تيارات الحنابلة فهو التيار التوفيقي إن صحت التسمية ، وهو تيار وقف بنفسه في منتصف الطريق بين الإثباتين المحافظين والتأويليين ، وهذا على سبيل العموم ، وإلا فإن بعضهم كان أقرب إلى الأشاعرة ، فيما تعدى بعضهم هذا الحد واقترب من المعتزلة ، وتتركز زعامة هذا التيار في البيت التميمي ، وهو بيت حنبلي عريق .
__________
(1) ابن أبي يعلى " طبقات الحنابلة " ج 3 ص261
(2) ابن الجوزي " مشيخة ابن الجوزي " ص77(1/243)
وأول من برز من هذه الأسرة عبدالعزيز بن الحارث التميمي أبو الحسن ، الذي يذكر ابن الجوزي أن أبا الحسن الأشعري استجار بداره حذرا من القتل ، وفي هذا نظر لأن ولادة أبي الحسن التميمي كانت سنة 317 في حين يتفق مؤرخو الأشاعرة على أن وفاة الأشعري كانت سنة 324هـ ، وعلى قول ابن الجوزي 331هـ ، وفي كلا الحالتين يبعد أن يجير أبو الحسن التميمي أبا الحسن الأشعري ، وسواء كان ذلك مما يمكن اعتباره من أثر الواقع في خلق الرواية التاريخية أو في التأثير عليها أم لا ، فإن التأثيرات الأشعرية قد تسربت إلى البيت التميمي ، حيث ذكر أن أبا الفضل بن أبي الحسن التميمي كان صديقا للقاضي أبي بكر ابن الباقلاني وأن العلاقة بينهما كانت وثيقة ، مما جعل أبا الفضل يأمر مناديا عند وفاة ابن الباقلاني ينادي بين يدي جنازته : هذا ناصر السنة والدين والذاب عن الشريعة هذا الذي صنف سبعين ألف ورقة ، ثم كان يزور قبره كل جمعة .(1)
ومن أبرز رجالات هذا التيار كذلك أبو محمد رزق الله التميمي ، وكان أحد وجهاء بغداد ورؤساء الحنابلة فيها ، ومن اللافت للنظر ما ذكره ابن أبي يعلى في الطبقات عند ذكر مشايخه فقال :" تفقه على القاضي أبي علي وقرأ على الوالد السعيد قطعة من المذهب "(2) ، وعبارته ذات دلالة على أن هناك انقساما حتى في التلقي والتفقه بين التيارين ، ونقل الذهبي قول أبي محمد التميمي ": كل الطوائف تدعيني "(3) وفي هذه إشارة إلى وقوف هذا التيار التوفيقي في منتصف الطريق بين التيار الحنبلي المحافظ وبين الفرق والأفكار المخالفة له .
__________
(1) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 17 ص193
(2) ابن أبي يعلى " طبقات الحنابلة " ج 3 ص465
(3) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 18 ص 613(1/244)
ومن رجالات هذا التيار المؤرخ الحنبلي ابن البناء الذي ذكر ابن الجوزي أن مصنفاته تبلغ خمسمئة مصنف ذكر منها ( ثناء أحمد على الشافعي ) , ( ثناء الشافعي على أحمد ) ( فضائل الشافعي ) قال ابن رجب ورأيت له في مجموعاته ما يوافق بين المذهبين الشافعي وأحمد ويقصد به تأليف القلوب " (1)
وكانت العلاقة بين هذا التيار والأشاعرة حسنة حتى قال ابن تيمية عند الحديث عن الأشاعرة :" وكان أعظم المائلين إليهم التميميون أبو الحسن التميمي وابنه وابن ابنه ، وكان بين أبي الحسن التميمي وبين القاضي أبي بكر ابن الباقلاني من المودة والصحبة ما هو معروف مشهور" (2)
وقد ضم هذا التيار التوفيقي في ثناياه من غالى في مواقفه وحاد عن الخط التوسطي بين الحنابلة و الأشاعرة فمال إلى المعتزلة ووافقهم ، وأبرز هؤلاء العالم الحنبلي الكبير أبو الوفاء ابن عقيل ثم تلميذه الأخص عبدالرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي .
ولهذا قال شيخ الإسلام :" وأما ابن عقيل فإذا انحرف وقع في كلامه مادة قوية معتزلية في الصفات والقدر وكرامات الأولياء بحيث يكون الأشعري أحسن قولا منه وأقرب إلى السنة " وقال :" وأما ابن عقيل إنما وقع في كلامه المادة المعتزلية بسبب شيخه أبي علي ابن الوليد وأبي القاسم ابن التبان المعتزليين ولهذا له في إثبات التنزيه وفي غيره كلام يضاهي كلام المريسي ونحوه ، لكن له في الإثبات كلام كثير حسن وعليه استقر أمره في كتاب الإرشاد " ، ولهذا يقول بعض الحنبلية أنا أثبت متوسطا بين تعطيل ابن عقيل وتشبيه ابن حامد (3)"
وقد تعرض ابن عقيل للاضطهاد من قبل التيار المحافظ إبان قوته في عهد الشريف أبي جعفر . وقد نقل عنه المؤرخون قوله :" وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء وكان ذلك يحرمني علما نافعا .
__________
(1) ابن رجب " ذيل طبقات الحنابلة " ج 1 ص33
(2) ابن تيمية " مجموع الفتاوى " ج 4 ص 167
(3) ابن تيمية " مجموع الفتاوى " ج 6 ص52-54(1/245)
وقد علق الذهبي على كلامه قال :" قلت كانوا ينهونه عن مجالسة المعتزلة ويأبى حتى وقع في حبائلهم وتجسر على النصوص نسأل الله السلامة "(1)
قال ابن رجب " والأذية التي ذكرها من أصحابه له وطلبهم منه هجران جماعة من العلماء ، وذلك أن أصحابنا كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد وابن التبان شيخي المعتزلة وكان يقرأ عليهما في السر علم الكلام ، ويظهر منه بعض الأحيان نوع انحراف عن السنة وتأول لبعض الصفات ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله " (2)
قلت وتردده على شيخي المعتزلة في بغداد مخاطرة كبيرة بلا شك ، وقد ظهر في كتبه مادل على متابعته لهما ، وبهذا القدر من الانحراف كان التضييق عليه مفهوما ، حتى أعلن توبته وقد ذكر ابن رجب وغيره خطاب التوبة متضمنا المآخذ التي رجع عنها وهي مذاهب الاعتزال وقوله في الحلاج ، وكلاهما طوام ، وكانت توبته سنة 465 هـ ، وقاد حملة التضييق عليه الشريف أبو جعفر .
وتعرض تلاميذه كذلك للمضايقة ومنهم ابن الحمامي الذي نقم عليه الحنابلة فحمله ذلك على الانتقال إلى المذهب الشافعي ودرّس في النظامية شهرا .(3)
وممن تأثر به تأثرا بالغا تلميذه ابن الجوزي الذي كان بحرا زاخرا ألف كتبا كثيرة لكنه كما قيل كثير الغلط فيما يصنفه ، فإنه كان يفرغ من الكتاب ولا يعتبره ، قال الذهبي معلقا على ذلك : قلت هكذا هو له أوهام وألوان من ترك المراجعة وأخذ العلم من صحف ، وصنف شيئا لو عاش عمرا ثانيا لما لحق أن يحرره ويتقنه"(4)
__________
(1) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 19 ص447
(2) ابن رجب " ذيل طبقات الحنابلة " ج 1 ص144
(3) مما ينبغي أن ينتبه له القاري أن هذا الجدل كله كان سبب في ما ذكره ابن أبي يعلى من تراجم مخلة لعدد من مشاهير الحنابلة كابن عقيل والتميميين .
(4) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج21 ص378(1/246)
قلت وله كتاب مثير سماه " دفع شبه التشبيه " قال عنه :" ولما علم بكتابي هذا جماعة من الجهال لم يعجبهم لأنهم ألفوا كلام رؤسائهم من المجسمة فقالوا ليس هذا المذهب"(1) ، لكن كلامه في كتب أخرى خير من كلامه في هذا الكتاب ، وهذا من تناقضه الذي عرف به ، وقد ألمح شيخ الإسلام إلى ذلك فقال : إن أبا الفرج نفسه متناقض في هذا الباب لم يثبت على قدم النفي ولا على قدم الإثبات بل له من الكلام في الإثبات نظما ونثرا ما أثبت به كثيرا من الصفات التي أنكرها في هذا المصنف ، فهو في هذا الباب مثل كثير من الخائضين في هذا الباب من أنواع الناس يثبتون تارة وينفون أخرى في مواضع كثيرة من الصفات كما هو حال أبي الوفاء ابن عقيل وأبي حامد الغزالي "(2)
وهو في كتابه المنتظم حنبلي قح ، خصوصا إذا تعلق الأمر بالأشاعرة وغيرهم ، وكان شديد الوطأة على الخطيب البغدادي وابن عساكر والسمعاني .
__________
(1) ابن الجوزي " دفع شبه التشبيه " 80
(2) ابن تيمية " مجموع الفتاوى " ج 4 ص169(1/247)
ولم يتعرض ابن الجوزي لما تعرض له شيخه ابن عقيل من التضييق والمحاصرة ، ولا دفع للتوبة مثله ، وإنما كان أبو الفتح ابن المني يعاتبه في أشياء ، وبعث له أبو إسحاق العلثي رسالة أوردها ابن رجب كاملة يتبين فيها مآخذ علماء الحنابلة عليه ، خصوصا من التيار المحافظ أومن بقاياه إن جاز التعبير ، ومآخذهم عليه تتلخص على كلامه في الوعظ وكلامه في الصفات وماعرف به من تناقضات ، وجاء فيها " ولك القول وضده منصوران وكل ذلك بناء على الواقعات والخواطر " وختمها بقوله " ولقد سودت وجوهنا بمقالتك الفاسدة وانفرادك بنفسك كأنك جبار من الجبابرة ولا كرامة لك ولا نعمى ، ولا نمكنك من الجهر بمخالفة السنة ، ولو استقبل من الرأي ما استدبر لم يحك عنك كلام في السهل ولا في الجبل ، ولكن قدر الله وما شاء فعل ، بيننا وبينك كتاب الله وسنة رسوله قال الله تعالى " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله " ولم يقل إلى ابن الجوزي "(1)
وكان ابن الجوزي دائم التشكي من أصحابه الحنابلة فقد ذكر سبطه أبو المظفر :" وكان جدي يقول والله لولا أحمد والوزير ابن هبيرة لانتقلت عن المذهب فإني لو كنت حنفيا أو شافعيا لحملني القوم على رؤوسهم "(2) لكنه رغم ذلك لم يضيق عليه كما حدث لسلفه والسبب هو ضعف التيار المحافظ في بغداد ، بل إن في رسالة العلثي ما يفيد بأنها لم تكن النقد الأول الذي وجه له فقد قال له :" واعلم أنه قد كثر النكير عليك من العلماء والفضلاء " (3) ومع ذلك لم يؤثر أن ذلك دفعه إلى التراجع أو أن مضايقة حصلت له .
__________
(1) ابن رجب " ذيل طبقات الحنابلة " ج 2 ص210
(2) أبو المظفر سبط ابن الجوزي " مرآة الزمان " نقلا عن المنتظم لابن الجوزي " انظر الحاشية ج10 ص253
(3) ابن رجب " ذيل طبقات الحنابلة " ج 2 ص206(1/248)
وكانت الحقبة التي عاش فيها ابن الجوزي هي حقبة تسلم فيها التيار التوفيقي زعامة المذهب ، خلفا للتيار المحافظ ، لكنها حقبة آذنت برحيل الحنابلة عن بغداد ، وهذا ماسنناقشه لاحقا.
وأبرز ما يميز التيار التوفيق مسائل :
الموقف من الصفات أو جدلية النفي والإثبات ، ففي حين يميل المحافظون إلى الإثبات ويغالي فيه بعضهم ، يميل التوفيقيون إلى النفي مقتربين بذلك من الأشاعرة ، ويغالي بعضهم فيتجاوز الحد الأشعري .
الموقف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتساهلهم فيه فلم يتشددوا في إقامته ولم تذكر جهود لهم في هذا المجال ، خلافا للمحافظين الذين عرفوا بتشددهم وصلابتهم التي لم يحمدها لهم كثيرون ، في حين عرف التوفيقيون باللين مما جعله مقبولين اجتماعيا لدى الكثير من المذاهب الأخرى ، حتى أن قاضي أشبيلية لما زار بغداد قال عن ابن البناء " مارأيت في الحنابلة مثله "(1)
الموقف من السلطان ، فقد عرف التيار منذ بداياته في عهد أبي الحسن التميمي علاقات جيدة بالخلافة العباسية ، وكان رزق الله التميمي مبعوثا للخليفة ، واشتهرت علاقات ابن عقيل بالسلطة الحاكمة خصوصا الوزير نظام الملك ، وتطورت هذه النظرة إلى السلطان في عهد ابن الجوزي الذي كان كثير الاتصال بالبلاط العباسي ، ولانبعد عن الصواب إذا اعتبرناه واعظ السلطان .
__________
(1) ابن رجب " ذيل طبقات الحنابلة " ج 10 ص 356(1/249)
الخلافات حول شخصية يزيد بن معاوية وجواز لعنه من عدمه ، وهي مسألة اختلف فيها علماء الأشاعرة كذلك ، وكان أبو حامد الغزالي يمنع من سب يزيد أو لعنه ، أما عند الحنابلة فقد كان التيار التوفيقي يراه مستحقا للعن ، أما المحافظون فخلاف ذلك ، ويذكر ابن رجب في ترجمة عبدالمغيث بن زهير الحنبلي المنتقل لدمشق سنة 538 هـ ، أنه كان بينه وبين ابن الجوزي نفرة سببها الطعن على يزيد بن معاوية ، وكان عبدالمغيث يمنع من سبه ، وتتبع ابن البناء الذي صنف كتابا فيمن يستحق اللعن وذكر فيهم يزيد "(1)
*************
أما التيار الثالث الذي برز داخل أوساط الحنابلة في بغداد ، فهو التيار الصوفي الذي نشأ على حطام التيار المحافظ في بداية القرن ا لسادس الهجري تقريبا.
والصوفية قديمة الحضور في بغداد ، لكنها كانت تسير متوازية مع كافة المذاهب ، وتلتقط لها أتباعا من كافة المذاهب ، إذ تعتبر نفسها ثوبا فضفاضا ، لكنه ثوب يرتديه المنهزمون المنزوون نحو خبايا الزوايا هربا من الحاضر والماضي وقتلا للمستقبل .
وقد عرف أتباع التيار المحافظ في الحنابلة بالزهد والتقلل من الدنيا والإعراض عنها ، غير أنه قدر لهذه الروح أن تتحول بعد ضعف هذا التيار إلى نسق صوفي ، متجاوزة بذلك ما عرف في أدبيات المذهب الحنبلي عموما والمحافظين خصوصا من شك وريبة في أتباع الصوفية .
وقد ورد آنفا ما قاله الشريف أبو جعفر الهاشمي لأبي سعد الصوفي إبان فتنة القشيري من نقد لاذع تضمن بصورة قاطعة عدم وجود أهلية لهذا المذهب للدخول في مناقشات علمية ، بل كان في اعتبارهم مذهبا قائما على الرقص والسماع والتمويهات الأخرى.
ورغم هذا الموقف الصارخ في وجه الصوفية ، ورغم تناقض الأسس التي يقوم عليها المذهبان ، إلا أن ظهور شخصية عبدالقادر الجيلاني المثيرة كانت عاملا للربط بين المتناقضات .
__________
(1) ابن رجب " ذيل طبقات الحنابلة " ج 1 ص 306(1/250)
وهوعبدالقادر بن أبي صالح بن جنكي دوست(1) ولد سنة 471هـ ، ورد بغداد وأخذ عن علماء الحنابلة بها مثل أبي الوفاء ابن عقيل وأبي الخطاب الكلوذاني وغيرهم ، لكنه صحب حماد الدباس الصوفي ، ثم اشتهر أمره وأمر وعظه في بغداد .
و شيخه في التصوف هو حماد الدباس ترجم له معاصره ابن الجوزي ، والبغدادي مثله ، وهو أعرف به فقال": كان يتصوف ويدعي المعرفة والمكاشفة وعلوم الباطن ، وكان عاريا من علم الشرع ونفق على الجهال ، كان ابن عقيل ينفر الناس منه " (2)
قال الذهبي : قلت نقم ابن الأثير وسبط ابن الجوزي هذا وعظما حمادا رحمه الله وكان الشيخ عبدالقادر من تلامذته " (3)
وأخذ الجيلاني عن شيخه أبي سعد المخرمي خرقة التصوف وسندها ، ساقه العليمي وفيه عبدالواحد بن عبدالعزيز التميمي وينتهي السند عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وهي أكذوبة ملفقة وسند واه ، نعوذ بالله من الخذلان.
والمخرمي هذا كما يصفه الذهبي نابَ في القضاء وحصل كتبا عظيمة وفتحت عليه الدنيا وبنى دارا وحماما وبستانا "(4) ومثله بعيد أن يعد في الصوفية .
__________
(1) تنسبه الكتب المتأخرة إلى ذرية الحسين بن علي رضي الله عنهما ، ولم يذكر ذلك معاصروه كابن الجوزي ، ولا ذكره المتقدمون كابن الأثير ، والذهبي لم يشر إلى هذا ، وهو الراجح ، أما المتأخرون فقد ذكروا النسب تأثرا بشخصيته وما كتب عنه لاحقا ، وعلق الشيخ سعيد بن مسفر على ذلك في كتابه نقلا عن الشطنوفي أن أدلة الطاعنين ضعيفة ونادرة وأدلة المثبتين قوية وكثيرة ، ص28 ، وهذا عجيب ، وابن الجوزي أعرف به وبنسبه فلو كان ذلك لما أخفاه هذا المؤرخ الحنبلي ، وما أوتي الشيخ سعيد – غفر الله لنا وله - إلا من قبل اعتماده على كتاب الشطنوفي وخزعبلاته .
(2) ابن الجوزي " المنتظم " ج 10 ص 22
(3) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 19 ص596
(4) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 19 ص 428(1/251)
وللجيلاني – رحمه الله – عبارات كثيرة الإشكال – الأغلب أنها مكذوبة عليه وكما قال الذهبي في نهاية ترجمته ، قال " وفي الجملة الشيخ عبدالقادر كبير الشأن وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه والله الموعد ، وبعض ذلك مكذوب عليه "(1)
من ذلك على سبيل المثال ما ذكره العليمي عن بعضهم قال : ضمن الشيخ لمريديه إلى يوم القيامة أن لايموت أحد منهم إلا على توبة ، وأعطي أن مريديه ومريدي مريديه إلى سبعة يدخلون الجنة " (2)
ومن ذلك أنه قال : أقمت في الصحاري صحاري العراق وخرابه خمسا وعشرين سنة مجردا سائحا لاأعرف الخلق ولا يعرفوني ، وتأتيني طوائف من رجال الغيب والجان أعلمهم الطريق إلى الله عز وجل ورافقني الخضر عليه السلام في أول دخولي العراق وما كنت أعرفه وشرط أن لا أخالفه ، وقال لي أقعد هنا ، فجلست بالمكان الذي أقعدني فيه ثلاث سنين " (3)
قلت وكل هذا خزعبلات لا تسوى جناح بعوضة ، وهي – نسأل الله السلامة – انحراف بين عن منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
و سواء قالها الجيلاني أم لا فذلك لا يقويها بل يوهن قائلها كائنا من كان ، وقد تسرب لكتب أهل السنة بسبب الصوفية الروايات الكثير ة الساقطة كهذه(4) .
__________
(1) الذهبي " سير أعلام النبلاء " ج 20 ص 451
(2) العليمي " المنهج الأحمد " ج 3 ص232
(3) المرجع السابق ج 3 ص222
(4) من أراد العجب والاستزادة من ذلك فلينظر كتاب العليمي الحنبلي " المنهج الأحمد " في ترجمة الجيلاني يجد العجب الذي لاينقضي .(1/252)
وقد شن ابن الجوزي هجوما شديد الوطأة على الصوفية ، وهو نقد عارفٍ بهم معاشر لهم لا تخفى عليه من أمورهم الكثير ، وأسقط أول ما أسقط نظرية المنع من نقد الصوفية باعتبارهم زهادا أولياء لله فقال في كتابه " تلبيس إبليس" الذي خصص معظمه للحديث عن صوفية بغداد ، ": ولا اعتبار بقول جاهل يقول كيف يرد على فلان الزاهد المتبرك به لأن الانقياد إنما يكون إلى ما جاءت به الشريعة لا إلى الأشخاص ، وقد يكون الرجل من الأولياء وأهل الجنة وله غلطات فلا تمنع منزلته من بيان زلله "(1)
وقد سرت عدوى هذا التصوف لبعض الحنابلة فذكر المؤرخون عددا ممن يترجم لهم في طبقات الحنابلة ويوصفون بالصوفي مثل هبة الله بن أبي عبد الله البغدادي ، وسعد بن نصر المعروف بابن الدجاجي قال عنه العليمي " كان يخالط الصوفية ويحضر معهم سماع الغناء " (2)
وهذا لما توفي سنة 564هـ دفن عند الصوفية إرضاء لهم فبقي خمسة أيام ومازال الحنابلة يلومون ولده على هذا ويقولون : مثل هذا الرجل الحنبلي أي شيء يصنع عند الصوفية فنبشه بعد خمسة أيام بالليل "(3)
على الرغم من ذلك فإن الصوفية لم تستطع تثبيت مكان لها داخل الإطار الحنبلي ، بل إن تيار الجيلاني سرعان ما استقل مكونا فرقا صوفية لا علاقة لها بالمذهب الحنبلي .
صولة البزل القناعيس.....اللحظات الأخيرة على عتبات بغداد
…يذكر المؤرخون أنه في سنة 605هـ عاد فخر الدين ابن تيمية – جد شيخ الإسلام – خطيب حران من الحج إلى بغداد ، وجلس بباب بدر للوعظ مكان يوسف ابن الجوزي فقال في كلامه :
……وابن اللبون إذا مالز في قرن……لم يستطع صولة البزل القناعيس
كأنه يعرض بابن الجوزي – الابن – لكونه شابا "(4)
__________
(1) ابن الجوزي " تلبيس إبليس " ص169
(2) العليمي " المنهج الأحمد ج 3 ص249
(3) ابن رجب " ذيل طبقات الحنابلة " ج 1 ص 305
(4) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 13 ص51(1/253)
…قلت وهذا الاستشهاد كان في موضعه تماما ، إذ أنه في تلك الحقبة وضح تحول الثقل الحنبلي من بغداد إلى بلاد الشام ، وحقبة الرحيل عن بغداد من الصعب افتراض بداية محددة لها لكن يمكن اعتبار حدودها منذ الطبقة السابعة من طبقات الحنابلة ، وهي على وجه التقريب الفترة الممتدة بين سنتي 541 وحتى سقوط بغداد على يد المغول .
وأبرز ما يميز هذه المرحلة التاريخية في بغداد أن الخلافة العباسية استعادت جزءا كبيرا من سلطتها واستقلالها ، بعد أن خف الضغط المعتاد عليها من قبل ممالك الشرق ، وذلك رغم فشل محاولة المسترشد بقتله سنة 529هـ ، ومقتل الراشد على يد السلاجقة سنة 532هـ .
إلا أن الصراعات السلجوقية العنيفة بين السلطان مسعود والسلطان سنجر صرفت اهتمام السلاطين السلاجقة ، ثم تنفست بغداد الصعداء بوفاة السلطان القوي مسعود سنة 547هـ ، وتشتت مملكة السلطان سنجر سنة 548هـ .
كما ساهم في تحقيق الاستقلالية العباسية انشغال البيت الزنكي في معاركه ضد الصليبين في الشام ، وقد حولت نجاحات نور الدين زنكي العسكرية الشام إلى منطقة جذب حالة بذلك محل بغداد ، فتحول إليها الكثير من أمراء الحرب والعلماء والصلحاء والزهاد وطلاب الدنيا وطلاب الآخرة .
وكانت نتيجة هذا كله الاستقلال العباسي بالعراق ، وكما هي العادة عند تحرر الخلافة العباسية من الهيمنة الخارجية فإنه يحدث تقارب بينها وبين القيادات السنية ، ورافق ذلك ما أشرنا له سابقا بمشروع التعويض الحنبلي ، فوصل عون الدين ابن هبيرة الحنبلي إلى الوزارة سنة 544 هـ ، وكان لهذا الوزير حرص بالغ في توطيد دعائم الخلافة وتخفيف الضغط عليها ، وقد شهدت الفترة اللاحقة حملات عسكرية للجيش العباسي ، منها حملته(1/254)
على جنوب العراق سنة 547هـ ، وحملة على دقوقا شمال شرق بغداد سنة 550 هـ ، وفي سنة 551هـ حدث ما يؤكد استقلال العباسيين ، فقد زار بغداد السلطان السلجوقي سليمان شاه وقابل الخليفة وتقرر في اللقاء أن للخليفة العراق ولسليمان شاه ما يفتحه من خراسان .
واستمرت المحاولات العباسية لتوطيد استقلالهم على أغلب مناطق العراق ، فخرج الوزير ابن هبيرة لقتال قبيلة خفاجة في الجنوب سنة 556هـ ، وتم في سنة 558هـ طرد بني أسد من الحلة ، وحكمهم كان مثيرا للمشاكل في وجه العباسيين .
ولم تغير وفاة ابن هبيرة الأمر بل ظلت الأمور السياسية والعسكرية للعباسيين على ماهي عليه ، وقد وصف ابن كثير الوزير الحنبلي ابن هبيرة صاحب كتاب " الإفصاح عن معاني الصحاح " فقال:" وزر للمقتفي ثم لابنه المستنجد وكان من خيار الوزراء وأحسنهم سيرة وأبعدهم عن الظلم ، وقد كان يبالغ في إقامة الدولة العباسية وحسم مادة الملوك السلاجقة عنهم بكل ممكن حتى استقرت الخلافة في العراق كله ليس للملوك معهم حكم بالكلية ولله الحمد " (1)
وقد شهدت هذه الفترة بناء عدد من المدارس للحنابلة ، منها مدرسة الوزير ابن هبيرة في باب البصرة ، ومدرسة لعبدالقادر الجيلاني ، ومدرسة لابن الجوزي بدرب دينار ومدرسة بنفشا الرومية مولاة المستضيء ، غير أن هذه المدارس لم تستطع تأدية الدور الذي نجحت فيه المدرسة النظامية التي عززت الوجود الشافعي ببغداد عموما والأشعري خصوصا ، ولا تفسير لذلك سوى أن المرحلة كانت مرحلة إدبار للحنابلة ورحيل عن بغداد .
__________
(1) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 12 ص251 ، قلت وقد شهدنا دورا مماثلا في مرحلة انتقالية سابقة ، قام به ابن المسلمة الوزير العباسي في الفترة التي شهدت مغيب نجم البويهيين وبزوغ نجم السلاجقة .(1/255)
وفي الفترة التي تلت حكم الوزير ابن هبيرة ظهر العديد من الرموز الحنبلية التي استطاعت توثيق علاقاتها بالسلطة العباسية ، ومن أبرزهم عبدالرحمن بن علي بن محمد أبو الفرج ابن الجوزي ، الذي حاز على ثقة الخليفة المستنجد ، لكنه بلغ شأوا عظيما في زمن الخليفة المستضيء ، والذي كتب كتاب سماه " المصباح المضيء في دولة المستضيء " ، وتتفق الأدبيات الحنبلية على أن الشيخ قوي اتصاله بالخليفة المستضيء ، حتى أنه أمر سنة 574 بكتابة لوح على قبر الإمام أحمد مكتوب فيه " هذا قبر تاج السنة وحيد الأمة العالي الهمة العالم العابد الفقيه الزاهد الورع المجاهد العامل بكتاب الله وسنة رسول الله الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني "(1)
وحصل للشيخ أبي الفرج وللحنابلة التعظيم الزائد ، وجعل الناس يقولون للشيخ أبي الفرج هذا بسببك فإنه ما ارتفع هذا المذهب عند السلطان حتى مال إلى الحنابلة إلا بسماع كلامك "(2)
ورغم وفاة المستضيء مبكرا سنة 575 هـ ، أي بعد أقل خمس سنوات في الخلافة ، وخلافة ابنه الناصر فقد ظلت الأمور على ما هي عليه في السنوات الأولى من حكم الناصر ، واستطاع عبيدالله بن يونس أن يصل لمنصب الوزارة سنة 583 لكنه لم يكن مؤهلا كسلفه ، إضافة أنه لم تتح له الفرصة كاملا إذ هزم في معركة مع السلطان السلجوقي طغرل سنة 585هـ .
وقد عرف الناصر بتناقضاته ، وذكر المؤرخون عنه أنه كان قبيح السيرة في رعيته ظالما لهم ، خرب في أيامه العراق ، وتفرق أهله في البلاد وكان يعمل الشيء وضده "(3)
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 10 ص283
(2) المرجع السابق ج 10 ص 284
(3) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 13 ص106(1/256)
انقلب الناصر على النفوذ الحنبلي ، فقرب ابن القصاب الوزير الشيعي الذي جهد في تتبع بقايا النفوذ الحنبلي ، ولم يكن الشيعة وحدهم مستائين من هذا النفوذ ، فقد نقل المؤرخون خبر مرجان الخادمي وهو شافعي توفي سنة 560 هـ و فرح ابن الجوزي بموته كثيرا ، وكان يبغض الحنابلة جدا ويعادي الوزير ابن هبيرة وابن الجوزي جدا ويقول له : مقصودي قلع مذهبكم وقطع ذكركم " وذكر ابن الجوزي كذلك أن الوزير ابن هبيرة عمل حطيما بمكة يصلي فيه إمام الحنابلة فمضى مرجان وقلعه من غير إذن الوزير " (1)
عودا على بدء حاول ابن القصاب الوزير الشيعي تتبع بقايا النفوذ الحنبلي فلم يجد خيرا من ابن الجوزي ممثلا له ، فسعى بمشورة الركن عبدالسلام بن عبدالرزاق حفيد عبدالقادر الجيلاني إلى القبض على ابن الجوزي والاعتداء عليه وعلى كتبه ونفيه إلى واسط سنة 590 هـ .
ذكر العليمي في ذلك فقال :" فلما ولي ابن القصاب الوزير الشيعي وكان رافضيا خبيثا ، سعى في القبض على ابن يونس – بعد تخلصه من الأسر ورجوعه إلى بغداد مستترا – وتتبع أصحابه فأغراه الركن عبدالسلام إلى أن كتب إلى الخليفة الناصر ، وكان الناصر له ميل إلى الشيعة ولم يكن له ميل إلى الشيخ أبي الفرج لأنه قيل إن الشيخ ربما كان يعرض في مجالسه بذم الناصر فأمر بتسليمه إلى الركن عبدالسلام فجاء إلى دار الشيخ وشتمه وأغلظ عليه وختم على كتبه وداره وشتت عياله وحمل الشيخ إلى واسط "(2)
__________
(1) ابن الجوزي " المنتظم " ج 10 ص 213
(2) العليمي " المنهج الأحمد " ج4 ص35(1/257)
ومما لاشك فيه أن الناصر كان داعما قويا لهذه السياسة فقد كان بينه وبين ابن الجوزي نفرة ، فقد أورد العليمي في كتب ابن الجوزي كتابا سماه " عقد الخناصر في ذم الناصر " ورغم أنه من غير المستبعد أن الكتاب منحول على الشيخ ، إلا أن علاقة الناصر والحنابلة عموما كانت غير جيدة ، إضافة إلى تعدد الجبهات المعادية لابن الجوزي ، وكل ذلك ساعد على التخلص من ابن الجوزي سنة 590 ، وظل في منفاه حتى سنة 595هـ ، ولم يصدر أمر العفو عنه إلا بعد وفاة ابن القصاب سنة 592 وبتدخل من والدة الخليفة الناصر نفسه .
وكانت محنة ابن الجوزي تعبيرا عن محنة حنابلة بغداد ، والذين لم يظهر فيهم بعد ابن الجوزي شخصية تمكنت من تعبئة الفراغ الذي تركه ابن الجوزي ، ويصح أن ندعي أن وقوف ابن الجوزي على عتبات بغداد منفيا كان في الحقيقة وقوفا للمذهب الحنبلي لكنّ وجهته لم تكن جنوبا حيث نفي ابن الجوزي ، بل غربا حيث الثقل الجديد للإسلام والموطن الجديد للحنابلة ، وابتليت المليحة أخيرا بالطلاق الأخير(1) .
ولم تكن بغداد آنذاك في حاجة إلى التتر سوى في إعلانها إخراجها من دائرة التاريخ ، وحق لها أن يبكى عليها ، بعد أن كانت مقصدا لأهل الإسلام ، ومزار للعلماء وطلابهم ، وبعد أن كانت النبع الذي يرده الظامئون ، ودعت بغداد المذهب الحنبلي على الصعيد الجمعي وعلى صعيد الحضور الفاعل ، وبقيت بقايا وأطلال وأفراد بقي بعضهم حتى بعد الاجتياح التتري ، لكنه وجود أشباح ، وأجساد بدون أرواح ، ولما اجتمع محي الدين بن عبدالرحمن ابن الجوزي بمجد الدين ابن تيمية فانبهر له وقال هذا الرجل ما عندنا ببغداد مثله " وكان ذلك سنة 653هـ .
__________
(1) هذا تعبير لطيف ذكره أحد الشعراء لما عزم المتوكل العباسي على الانتقال إلى الشام راحلا من بغداد فقال
……فإن تدع العراق وساكنيها……فقد تبلى المليحة بالطلاق(1/258)
وكانت هذه البقايا تتمثل في جهود عدد من الحنابلة بعضهم من التيار المحافظ كإسحاق بن أحمد العلثي المتوفى سنة 634هـ ومحمود بن عثمان البغدادي المتوفى سنة 609هـ .
وفي هذا الوقت برز علماء كبار مثلوا المذهب من أهل الشام مثل الحافظ عبدالغني المقدسي المتوفى سنة 600هـ ، وموفق الدين ابن قدامة صاحب الموسوعة الفقهية الحنبلية " المغني في شرح الخرقي " وآل تيمية في حران وآل المقدسي في دمشق 0
ومن اللطيف ما يذكر في ترجمة ابن قدامة لما زار بغداد قال له الشيخ أبو الفتح ابن المني : اسكن هنا فإن بغداد مفتقرة إليك وأنت تخرج من بغداد ولا تخلف فيها مثلك " (1)
وفي زمن الخسائر الحنبلية في بغداد ، كان الحنابلة يكسبون نفوذا جديدا في مناطق أخرى في الشام ومصر ، فقد ذكر ابن كثير في وفاة الملك العزيز الأيوبي سنة 595 هـ أنه عزم على إخراج الحنابلة من بلده مصر ، ويكتب إلى بقية إخوانه بإخراجهم من البلاد فشاع ذلك عنه وذاع وسمع ذلك منه ، وصرح به وكل ذلك من معلميه وخلطائه وعشرائه من الجهمية وقلة علمه بالحديث فلما وقع ذلك منه ونوى هذه النية القبيحة الفاسدة أهلكه الله ودمره سريعا وعظم قدر الحنابلة بين الخلق بمصر والشام عند الخاص والعام " (2)
وكان لابن نجا الواعظ الحنبلي المتوفى سنة 599هـ حظوة عند صلاح الدين وكانت له بمصر مكانة .
وفي سنة 617هـ نصب محراب الحنابلة في الرواق الثالث الغربي من جامع دمشق بعد ممانعة من بعض الناس لهم ولكن ساعدهم بعض الأمراء في نصبه لهم وهو الأمير ركن الدين المعظمي وصلى فيه الشيخ موفق الدين ابن قدامة " (3)
__________
(1) العليمي " المنهج الأحمد " ج 4 ص151
(2) ابن كثير " البداية والنهاية " ج 13 ص 18
(3) المرجع السابق ج 13 ص 91(1/259)
أما بغداد فقد عاشت منذ بداية القرن السابع الهجري على وقع أقدام التتر الذين كانوا يقتربون منها منذ سنة 618هـ ، ودخلها خوفهم ورعبهم لكنهم رجعوا عنها ، ثم عادوا الكرة سنة 628هـ ، لكنهم حاموا حول العراق ولم يدخلوه إلا في سنة 656هـ ، حين اجتاحتها جموعهم منهية حكم الخلافة العباسية العتيد ، وكانت هي المرة الأولى التي تدخل فيها جيوش كافرة مدينة الرشيد عاصمة الإسلام .
ومع دخول أول جندي تتري لبغداد نكون قد أنهينا تتبعنا التاريخي للحنابلة في بغداد والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لايعلمون .
…………كتبه / علي بن محمد بن عبدالله باخيِّل بابطين
مكة المكرمة
{ المصادر والمراجع }
{ المصادر و المراجع }
- القرآن الكريم
ابن الأثير.علي بن محمد الشيباني
- " الكامل في التاريخ "
دار صادر – بيروت 1385-1965
الأربلي . علاء الدين
-" جواهر الأدب في معرفة كلام العرب "
تحقيق : حامد أحمد نيل
مكتبة النهضة المصرية 1404
الأزدي 0 يزيد بن محمد بن إياس
تاريخ الموصل
تحقيق : علي حبيبة
المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية – القاهرة
1387-1967
الأشعري . أبو الحسن علي بن إسماعيل
- " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين "
تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد
مكتبة النهضة المصرية – القاهرة ط 2 -1389-1969
الأصبهاني . أبو نعيم
- " الإمامة والرد على الرافضة "
تحقيق : علي بن محمد الفقيهي
مكتبة العلوم والحكم – المدينة المنورة 0 ط 1 - 1407
الأمير . محمد بن إسماعيل الصنعاني
-" إيقاظ الفكرة لمراجعة الفطرة "
تحقيق : محمد صبحي حلاق – دار ابن حزم – بيروت
ط 1 - 1420-1999
حنبل . حنبل بن إسحاق
- " ذكر محنة الإمام أحمد بن حنبل "
تحقيق : محمد نغش
ط 2 - 1403 – 1983
البربهاري . الحسن بن علي بن خلف
- " شرح السنة "
تحقيق : خالد بن قاسم الردادي
دار السلف – الرياض ، ط 2 - 1418
البشاري . محمد بن أحمد المقدسي
- " أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم "(1/260)
تحقيق : محمد مخزوم
دار إحياء التراث العربي – بيروت 1408
الترمذي . محمد بن عيسى بن سورة
-" الجامع الصحيح "
تحقيق : محمد فؤاد عبدالباقي
مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر ، ط2 - 1388
التنوخي . المحسن بن علي
-" نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة "
تحقيق : عبود الشالجي 1392- 1972
التونسوي . محمد عبدالستار
- " بطلان عقائد الشيعة "
1408
ابن تيمية . أحمد بن عبدالحليم الحنبلي الحراني
- " مجموع الفتاوى "
جمع : عبدالرحمن بن محمد بن قاسم "
الرئاسة العامة لشؤون الحرمين الشريفين
" بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية "
علق عليه : محمد بن عبدالرحمن بن قاسم
" منهاج السنة النبوية "
تحقيق : محمد رشاد سالم
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – الرياض 1406
نقض المنطق
تحقيق : محمد عبدالرزاق حمزة -
مكتبة السنة المحمدية – القاهرة
جدعان . فهمي
- " المحنة "
دار الشروق – بيروت ط1 - 1989
الجديع . عبد الله
" كشف اللثام عن طرق حديث غربة الإسلام "
مكتبة الرشد – الرياض 1409
ابن الجوزي . عبدالرحمن بن علي بن محمد أبو الفرج
" دفع شبهة التشبيه "
تحقيق محمد زاهد الكوثري – المكتبة الأزهرية – القاهرة
المنتظم في تاريخ الملوك والأمم "
دائرة المعارف العثمانية – الهند ط 1 - 1359
"مناقب الإمام أحمد بن حنبل "
تحقيق : عبد الله بن عبدالمحسن التركي
دار هجر – الرياض ط 2 - 1409
" تلبيس إبليس "
دار الندوة الحديثة – بيروت ( نسخة مصورة عن الطبعة المنيرية)
العلل المتناهية في الأحاديث الواهية "
تحقيق : إرشاد الحق الأثري
المكتبة الامدادية – مكة
مشيخة ابن الجوزي
تحقيق : محمد محفوظ
دار الغرب الإسلامي – بيروت ، ط2 1400هـ
" كتاب القصاص والمذكرين "
تحقيق : مارلين سوارتز
دار المشرق – بيروت 1986
ابن أبي حاتم . عبدالرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس التميمي الحنضلي الرازي
" الجرح والتعديل "
مطبعة دائرة المعارف العثمانية – الهند - ط1 1372(1/261)
الحاكم أبو عبد الله النيسابوري
- " المستدرك على الصحيحين "
مكتب المطبوعات الإسلامية – حلب
ابن حبان . محمد بن حبان أبو حاتم البستي
- " المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين "
تحقيق : محمود إبراهيم زايد
دار الوعي – حلب 1396
ابن حجر . أحمد بن حجر العسقلاني
" تهذيب التهذيب "
دار إحياء التراث العربي – بيروت ط2 1413 هـ
" تقريب التهذيب "
حققه : صغير أحمد شاغف الباكستاني
دار العاصمة – الرياض ، ط 1 - 1416
" فتح الباري شرح صحيح الإمام البخاري "
تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي دار الفكر ( نسخة مصورة )
ابن حزم . علي بن أحمد الظاهري الأندلسي
- " الفصل في الملل والأهواء والنحل "
دار الفكر – بيروت ( نسخة مصورة )
الحموي . ياقوت بن عبد الله
معجم الأدباء "
دار المأمون – أحمد فريد رفاعي
" معجم البلدان "
دار صادر – بيروت 1404
ابن حوقل . أبو القاسم بن حوقل النصيبي
- " صورة الأرض "
دار مكتبة الحياة – بيروت ، 1979
الخطيب . أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي
-" تاريخ مدينة السلام ( تاريخ بغداد ) "
تحقيق : بشار عواد معروف
دار الغرب الإسلامي – بيروت ط1 – 1422-2001
ابن خلكان . أحمد بن محمد بن أبي بكر
-" وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان "
تحقيق : إحسان عباس دار الثقافة – بيروت
ابن درباس . عبدالملك بن عيسى
" رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري "
تحقيق : علي بن محمد الفقيهي
ط 1 - 1404- 1984
ابن الدمياطي . أحمد بن أيبك الحسيني
- " المستفاد من تاريخ ذيل بغداد "
مطبعة المعارف العثمانية - الهند ، ط 1 - 1399
الدميجي . عبد الله بن عمر
- " الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة "
الرياض – دار طيبة 1407
الدهلوي . شاه عبدالعزيز ولي الله أحمد عبدالرحيم
- " مختصر التحفة الاثني عشرية "
الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والإرشاد
الرياض 1404 هـ
الذهبي . محمد بن عثمان
" الأمصار ذوات الآثار "(1/262)
تحقيق : قاسم علي سعد
دار البشائر الإسلامية – بيروت ، ط 1 1406هـ
- " ديوان الضعفاء والمتروكين "
تحقيق : حماد الأنصاري
مكتبة النهضة الحديثة – مكة ، ط 2
- " سير أعلام النبلاء "
تحقيق " شعيب الأرناؤوط وآخرون
مؤسسة الرسالة – بيروت ، ط 11 - 1417-1996
- " العبر في خير من غبر "
تحقيق : صلاح الدين المنجد
مطبعة حكومة الكويت - ط2 1984
- " الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة "
تحقيق عزت عطية – موسى الموشى
دار الكتب الحديثة – القاهرة ط 1 - 1392-1972
- " معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار "
تحقيق : محمد سيد جاد الحق
دار الكتب الحديثة – مصر ط1 -
- " المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال"
حققه وعلق عليه : محب الدين الخطيب
الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والإرشاد
الرياض 1409 هـ
- ميزان الاعتدال في نقد الرجال
تحقيق : علي محمد البجاوي
دار إحياء الكتب العربية – القاهرة
ط1 1382 - 1963
ابن رجب . عبدالرحمن بن شهاب البغدادي الحنبلي
- " الذيل على طبقات الحنابلة "
- تحقيق محمد حامد الفقي
مطبعة أنصار السنة – القاهرة 1372- 1952
- تحقيق سامي الدهان – هنري لاوست
المعهد الفرنسي – دمشق 1370 – 1950 ج1
رزق الله . رالف
- " يوم الدم "
دار الطليعة – بيروت ط 1 1997
سعد . فهمي عبدالرزاق
- " العامة في بغداد "
الأهلية للنشر والتوزيع – بيروت ، 1983
السبكي . عبدالوهاب بن علي
-" طبقات الشافعية الكبرى"
تحقيق : محمود الطناحي - عبدالفتاح الحلو
ط1 - مطبعة عيسى البابي الحلبي – القاهرة
السمعاني . أبو سعد عبدالكريم بن محمد بن منصور التميمي
" الأنساب "
علق عليه : عبدالرحمن بن يحيى المعلمي
ط 2 محمد أمين دمج – بيروت 1400هـ
الشوكاني . محمد بن علي
- " الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة "
تحقيق : عبدالرحمن بن يحيى المعلمي اليماني
مطبعة السنة المحمدية – مصر 1398(1/263)
الشيباني . أحمد بن حنبل
- " المسند "
تحقيق : أحمد محمد شاكر – حمزة أحمد الزين
دار الحديث – القاهرة ط 1 - 1416هـ
الصولي . محمد بن يحيى
- "أخبار الراضي بالله والمتقي لله "
نشره : ج 0 هيورث. دن
دار المسيرة – بيروت ، ط 2 1399
الصولي " الهلال بن المحسن
- " تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء "
تحقيق : عبدالستار فراج
دار إحياء الكتب العربية – مصر 1958
الطبري . محمد بن جرير
- " تاريخ الرسل والملوك "
تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم "
دار المعارف – مصر ط 3
" جامع البيان عن تأويل آي البيان "
مطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر ، ط 3 - 1388
ابن طيفور أحمد بن طاهر الكاتب
- " بغداد "
تحقيق : محمد زاهد الكوثري 1368- 1949
ابن عدي . أبو أحمد عبد الله بن عدي
- " الكامل في ضعفاء الرجال "
بغداد - مطبعة سلمان الأعظمي 1977
ابن عساكر . علي بن الحسن بن هبة الله الدمشقي
- تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري"
دار الكتاب العربي – بيروت ط 3 - 1404هـ
العليمي . عبدالرحمن بن محمد المقدسي الحنبلي
المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد "
تحقيق : عبدالقادر الأرناؤوط – محمود الأرناؤوط
دار صادر – بيروت ط1 - 1997
تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد
ابن العماد . عبدالحي بن أحمد العكري الحنبلي
" شذرات الذهب في أخبار من ذهب "
تحقيق : عبدالقادر الأرناؤوط وآخرون
دار ابن كثير – دمشق - ط1 1406
ابن العمراني . محمد بن علي بن محمد
- " الإنباء في تاريخ الخلفاء "
تحقيق : قاسم السامرائي
لايدن – 1973
الغزالي أبو حامد
- " الاقتصاد في الاعتقاد "
دار الكتب العلمية – بيروت ط1 - 1403هـ
الفراء . القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين
" إبطال التأويلات في أخبار الصفات "
تحقيق : محمد بن حمد الحمود
دار إيلاف – الكويت ط 1 1416-1995
- المسائل العقدية من كتاب الروايتين والوجهين "
تحقيق : سعود بن عبدالعزيز الخلف(1/264)
دار أضواء السلف – الرياض ط 1 1419هـ
ابن الفراء . القاضي أبو الحسين محمد بن أبي يعلى البغدادي الحنبلي
- " طبقات الحنابلة "
تحقيق : عبدالرحمن بن سليمان العثيمين
الأمانة العامة للاحتفال بمرور مئة عام – 1419
ابن فورك . أبو بكر محمد بن الحسين
- " مجرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري "
حققه : دانيال جيماريه – دار المشرق – بيروت
الفيروزابادي . مجد الدين
- " القاموس المحيط "
مطبعة المأمون – القاهرة ط4 - 1357-1938
القحطاني .سعيد بن مسفر
- " الشيخ عبدالقادر الجيلاني وأراؤه الاعتقادية والصوفية "
ط 1 - 1418هـ
القرطبي . محمد بن أحمد الأنصاري
- " الجامع لأحكام القرآن "
دار الكتب المصرية – القاهرة ، ط 1 1357- 1938
القشيري . الإمام مسلم بن الحجاج
- " الجامع الصحيح "
المكتبة الإسلامية – استانبول - تركيا
الكاتب . أحمد
- " تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه "
بيروت - دار الجديد ط1 1998
ابن كثير . إسماعيل بن عمر القرشي الدمشقي
- " البداية والنهاية "
دار الفكر العربي ( نسخة مصورة )
كنار . ماريوس
- " بغداد في القرن الرابع الهجري "
ترجمة : أكرم فاضل - مجلة المورد 1973 ع 2 – بغداد
لسنر . يعقوب
- " خطط بغداد في العهود العباسية الأولى "
ترجمة : صالح العلي
مطبعة المجمع العلمي العراقي – بغداد 1984
المالقي . أحمد بن عبدالنور
- " رصف المباني في شرح حروف المعاني "
تحقيق : أحمد محمد الخراط
دار القلم – دمشق ، ط2 1405
المالكي . محمد
- " دراسة الطبري للمعنى من خلال تفسيره "
وزارة الأوقاف المغربية - 1417-1996
متز . آدم
- " الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري "
ترجمة : محمد عبدالهادي أبو ريدة
دار الكتاب العربي – بيروت ، ط4 1387-1967
مجهول . مؤلف
- " العيون والحدائق في أخبار الحقائق "
تحقيق : عمر السعيدي
دمشق 1973
محمود . محمد أحمد علي
- " الحنابلة في بغداد "(1/265)
المكتب الإسلامي – بيروت ط1 1406
المسعودي . علي بن الحسين
- " مروج الذهب ومعادن الجوهر "
تحقيق : محمد محي الدين عبدالحميد
دار المعرفة – بيروت ( نسخة مصورة )
مسكويه . أبو علي أحمد بن محمد
- " تجارب الأمم "
صححه : هـ 0 ف 0 آمدروز
مطبعة التمدن الصناعية – مصر 1332-1914
المظفر . عبدالحسين
- " الشافي شرح أصول الكافي "
النجف – مطبعة الغري الحديثة 1389هـ
مصطفى . شاكر
- " دولة بني العباس "
وكالة المطبوعات – الكويت
الملطي . محمد بن أحمد بن عبدالرحمن الشافعي
-" التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع "
تحقيق : يمان بن سعد الدين المياديني
رمادي للنشر – الدمام ط1 1414هـ
الموسوي . موسى
-" الشيعة والتصحيح "
1408هـ - 1988
ابن منظور . محمد بن مكرم
" لسان العرب "
دار الحديث – القاهرة 1423 هـ
النجار . محمد رجب
" حكايات الشطار والعيارين في التراث العربي"
المجلس الوطني للثقافة – الكويت – سلسلة عالم المعرفة 45 ط1 - 1401
ابن النجار . محمد بن محمود بن الحسن البغدادي
- " ذيل تاريخ بغداد "
مطبعة دائرة المعارف العثمانية – الهند ط1 - 1398-1978
ابن النديم . محمد بن إسحاق
- " الفهرست "
المطبعة الرحمانية – مصر 1948
النوبختي . الحسن بن موسى
- " كتاب فرق الشيعة "
حققه : عبدالمنعم الحفني
دار الرشاد – القاهرة ، ط 1 - 1412
الهمذاني . محمد بن عبدالملك
- " تكملة تاريخ الطبري "
تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم
دار المعارف – القاهرة ، ط3(1/266)