به الزمخشري وتابعوه).
وقال صاحب الكفيل: (بل هي مضافة إلى مفعولها، وبسط الكلام على ذلك، والشديد البين القوة).
روى ابن عساكر عن معاوية بن قرة (1) - بضم القاف وتشديد الراء - رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ما أحسن ما أثنى عليك ربك: (ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين) ما كانت قوتك وما كانت أمانتك ؟ قال: أما قوتي فإني بعثت إلى مدائن لوط وهي أربع مدائن، وفي كل مدينة أربع مائة ألف مقاتل سوى الذرارى، فحملتهم من الارض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب، ثم هويت بهن فقلبتهن.
وأما أمانتي فلم أؤمر بشئ فعدوته إلى غيره).
وقال محمد بن السائب: (من قوة جبريل أنه اقتلع مدائن قوم لوط من الماء الاسود فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء حتى أسمع أهل السماء نتاح كلابهم وصياح ديكتهم، ثم قلبها، ومن قوته أيضا أنه أبصر إبليس يكلم عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم على بعض عقاب الارض المقدسة فنفحه بجناحه نفحة فألقاه في أقصى جبل بالهند.
ومن قوته هبوطه من السماء على الانبياء صلوات الله وسلامه عليه وعليهم، وصعوده إليها في أسرع من طرفة عين).
العاشر: في الكلام على قوله تعالى: (ذو مرة) [ النجم: 6 ].
القرطبي: قال قطرب: تقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل ذو مرة، قال
الشاعر: قد كنت قبل لقاكم ذا مرة * عندي لكل مخاصم ميزانه وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله أن الله تعالى ائتمنه على وحيه إلى جميع رسله.
الجوهري: (والمرة القوة وشدة العقل، ورجل مرير أي قوة ذو مرة.
قال: ترى الرجل النحيف فتزدريه * وحشو ثيابه أسد مرير ابن القيم: (أي جميل المنظر، حسن الصورة، ذو جلالة، ليس شيطانا، أقبح خلق الله تعالى وأشوههم صورة، بل هو من أجمل الخلق وأقواهم وأعظمهم أمانة ومكانة عند الله، وهذا تعديل لسند الوحي والنبوة، وتزكية له، كما ذكر نظيره في سورة التكوير، فوصفه بالعلم والقوة وجمال المنظر وجلالته.
وهذه كانت أوصاف الرسول البشري والملكي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأعلمهم وأجملهم وأصفاهم نفسا.
الامام: (في قوله: (ذو مرة) وجوه: الأول: ذو قوة، قلت، ورواه الفريابي عن مجاهد
__________
(1) معاوية بن قرة بن إياس المزني أبو إياس البصري.
عن علي مرسلا، وابن عباس وابن عمر.
وعنه قتادة وشعبة وأبو عوانة وخلق.
وثقه ابن معين وأبو حاتم.
قال خليفة: مات سنة ثلاث عشرة ومائة، ومولده يوم الجمل.
انظر الخلاصة 3 / 41، 42.
(*)(3/38)
ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي).
رواه الامام أحمد.
الثاني: ذو كمال في العقل وفي الدين جميعا.
الثالث: ذو منظر وهيبة عظيمة.
الرابع: ذو خلق حسن).
قلت زاد الماوردي خامسا: ذو غناء.
قلت: ولا تنافي بين هذه الاقوال، فإنه صلى الله عليه وسلم متصف بها.
فإن قيل: على قولنا ذو مرة، قد تقدم بيان كونه شديد القوى، فكيف تقول قواه شديدة وله قوة ؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أن ذلك لا يحسن إذا كان وصفا بعد وصف، وأما إذا جاء بدلا فيجوز، كأنه قال: علمه ذو قوة، ونزل شديد القوى فليس وصفا له وتقديره ذو قوة عظيمة أو كاملة.
الثاني: أن
إفراد (مرة) بالذكر ربما تكون لبيان أن قواه المشهورة شديدة وله قوة أخرى خصه الله تعالى بها.
على أنا نقول المراد ذو شدة وهي غير القوة، وتقديره علمه من قواه الشديدة، وفي ذاته أيضا شدة، فإن الانسان ربما يكون كثير القوة صغير الجثة.
وفيه لطيفة وهي أنه تعالى أراد بقوله: (شديد القوى)، أي قوة العلم، وبقوله: (ذو مرة)، أي شدة في الجسم، قدم العلمية على الجسمية، كما قال تعالى: (وزاده بسطة في العلم والجسم) [ البقرة: 247 ]، وتقدم الكلام على (ذو) في اسمه صلى الله عليه وسلم (ذو الوسيلة)، فراجعه.
الحادي عشر: في الكلام على قوله تعالى: (فاستوى، وهو بالافق الاعلى): [ النجم: 6 - 7 ].
اللباب: (قال مكي: استوى يقع للواحد وأكثر ما يقع من إثنين ولذلك جعل الفراء الضمير لاثنين).
الماوردي والقرطبي: (فاستوى) يعني جبريل أي ارتفع وعلا إلى مكانه في المساء، بعد أن علم محمدا صلى الله عليه وسلم، قاله ابن المسيب وابن جبير.
وقال الامام: (إنه المشهور)، وقيل (فاستوى) أي ظهر في صورته التي خلقه الله تعالى عليها، لانه كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة الادميين كما كان يأتي إلى الانبياء، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريه نفسه التي خلقه الله عليها، فأراه ن فسه مرتين: مرة في الارض ومرة في السماء، فأما في الارض ففي الافق الاعلى، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بحراء، فطلع له جبريل من المشرق، فسد الارض إلى المغرب، فخر النبي صلى الله عليه وسلم مغشيا عليه، فنزل إليه في صورة الادميين وضمه إلى نفسه وجعل يمسح الغبار عن وجهه، فلما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا جبريل ما ظننت أن الله تعالى خلق أحدا على مثل هذه الصورة).
فقال: يا محمد، إنما نشرت جناحين من أجنحتي وأن لي ستمائة جناح سعة كل جناح ما بين المشرق والمغرب.
فقال: (إن هذا لعظيم).
فقال له: وما أنا في جنب ما خلقه الله إلا يسيرا، ولقد خلق الله تعالى إسرافيل له ستمائة جناح، كل جناح قدر أجنحتي، وإنه(3/39)
ليتضاءل أحيانا - يتضاءل بالضاد المعجمة والهمز - من مخافة الله تعالى حتى يكون بقدر الوضع - بفتح الواو والصاد وبالعين المهملتين، يعني العصفور الصغير، قوله تعالى: (ولقد رآه بالافق المبين) [ التكوير: 23 ].
وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الانبياء على تلك الصورة إلا نبينا صلى الله عليه وسلم.
ابن كثير: (وهذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الاسراء، بل قبلها ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الارض في أوائل البعث بعد فترة الوحي).
اللباب: (في الضمير وجهان: أحدهما: وهو الاظهر أنه مبتدأ، (وبالافق) خبره، والضمير لجبريل أو للنبي صلى الله عليه وسلم.
ثم في هذه الجملة وجهان: الأول: أنها حال من فاعل (فاستوى) قاله مكي.
قال القرطبي: والمعنى فاستوى جبريل عاليا على صورته ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك رآه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا)، انتهى.
(الثاني: أنها مستأنفة، أخبر الله تعالى بذلك، ثانيهما: أن (وهو) معطوف على الضمير المستتر في استوى.
وضمير استوى إما أن يكون لله تعالى وهو قول الحسن أو لجبريل أو لمحمد، وهذا ضعيف، لانه يقال استوى هو وفلان ولا يقال استوى وفلان إلا في ضرورة الشعر، والصحيح استوى جبريل وجبريل بالافق الاعلى على صورته الاصلية لانه كان يتمثل للنبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بالوحي في صورة رجل، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يراه على صورته الحقيقية فاستوى جبريل في أفق المشرق فملا الافق).
وروى الامام أحمد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي، وأبو نعيم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته، له ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الافق وتسقط من أجنحته التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم.
وروى الامام أحمد عن ابن عباس في الاية قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه في
صورته، فقال: ادع ربك، فدعا ربه عزوجل، فطلع عليه سواد من قبل المشرق، فجعل يرتفع وينتشر، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم صعق، فأتاه فقرب منه ومسح الغبار عن وجهه.
المصباح: (الافق بضمتين الناحية من الارض ومن السماء والجمع آفاق، زاد في الصحاح: والافق بضمة فسكون مثل عسر وعشر).
الماوردي: (في الافق الاعلى ثلاثة أقوال: أحدها: مطلع الشمس قاله مجاهد، الثاني: هو بالافق الذي يأتي منه النهار قاله قتادة يعني طلوع الفجر، الثالث: هو أفق السماء وهو جانب من جوانبها، قاله ابن زيد، ومنه قول الشاعر:(3/40)
أخذنا بآفاق السماء ع ليكم * لنا قمراها والنجوم الطوالع الثاني عشر: في الكلام على قوله تعالى: (ثم د نا فتدلى).
[ النجم: 8 ].
الامام الرازي: (فيه وجوه: الأول: وهو أشهرها أن جبريل دنا من النبي صلى الله عليه وسلم، أي بعد ما مد جناحه وهو بالافق الاعلى عاد إلى الصورة التي كان يعتاد النزول عليها، وقرب من النبي صلى الله عليه وسلم).
القرطبي: أي دنا جبريل بعد استوائه بالافق الاعلى (فتدلى) على النبي صلى الله عليه وسلم، المعنى أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من عظمة جبريل ما رأى وهاله ذلك، رده الله تعالى إلى صورة آدمي حين قرب من النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي.
هذا قول الجمهور، انتهى.
وعليه ففي تدلى ثلاثة أقوال: الأول أن الدنو والتدلي بمعنى واحد كأنه قال: دنا فقرب.
اللباب: (ذهب الفراء إلى أن الفاء في (فتدلى) بمعنى الواو، والتقدير: ثم تدلى عليه الصلاة والسلام ودنا.
ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا قدمت أيهما شئت، تقول دنا فقرب، وقرب فدنا، وشتمني فأساء وأساء فشتمني لان الشتم والاساءة شئ واحد، وكذلك قوله تعالى: (اقتربت الساعة وانشق القمر) [ القمر: 1 ]، أي انشق القمر واقتربت الساعة.
القول الثاني: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ثم تدلى من الافق فدنا من النبي صلى الله عليه وسلم.
القول الثالث: أن دنا بمعنى قصد القرب من النبي صلى الله عليه وسلم وتحرك عن المكان الذي فيه فتدلى فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: أن المراد دنا من ربه تبارك وتعالى، والمراد بالدنو هنا المنزلة كما في قوله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه عز وجل: (من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) (1) وهذا إشارة إلى المعنى، ولهذا مزيد بيان في شرح القصة.
الوجه الثالث: دنا جبريل من ربه، قاله مجاهد.
الوجه الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم، دنا من ربه، ويحمل هو والذي قبله كما قال الامام الرازي على القرب من المنزلة.
والذي عليه الجم الغفير هو دنو جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث عشر: في الكلام على قوله تعالى: (فكان قاب قوسين أو أدنى).
[ النجم: 9 ].
اللباب: (ها هنا مضافان محذوفان نضطر لتقديرهما، أي فكان مقدار مسافة قربه منه مقدار مسافة قاب).
__________
(1) جزء من حديث أخرجه مسلم من رواية أبي ذر رضي الله عنه 4 / 2068 (22 - 2687).
(*)(3/41)
الامام الرازي: (أي فكان بين جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم مقدار قوسين إو أقل، فهذا على استعمال العرب وعادتهم، فإن الاميرين منهم أو الكبيرين إذا اصطلحا وتعاقدا خرجا بقوسيهما، جعل كل واحد منهما قوسه بطرف قوس صاحبه، ومن دونهما من الرعية يكون كفه بكف صاحبه فيمدان باعيهما، لذلك فسمي مبايعة.
وعلى هذا ففيه مقدار قوسين أو كان جبريل سفيرا بين حضرة الله تعالى عنه ومحمد صلى الله عليه وسلم فكان كالتبع لمحمد صلى الله عليه وسلم، فصار كالمبايع الذي يمد الباع لا القوس).
اللباب: القاب: القدر تقول: هذا قاب هذا، أي قدره ومثله: ألقيب والقاد والقيد والقيس.
الجوهري: (وقال بعضهم في الاية أراد قابي قوس فقلبه.
وفي الحديث الصحيح: لقاب قوس أحدكم [ أو موضع قده ] من الجنة خير من الدنيا وما فيها).
والقوس معروفة، وهي ما يرمى بها وهي مؤنثة وشذوا في تصغيره ا، فقالوا قويس من غير تأنيث، وإنما ضرب المثل بالقوس لانها لا تختلف بالقاب وإن لم يجر لها ذكر لعدم اللبس).
الواحدي: (المراد بالقوس التي يرمى بها عند الجمهور، قال: وقيل المراد الذراع لانها يقاس بها).
القرطبي: (وقال سعيد بن جبير، وعطاء، وإبو إسحق الهمداني، وأبو وائل (1) شقيق ابن سلمة (فكان قاب قوسين) أي قدر ذراعين، والقوس الذراع يقاس بها كل شئ، وهي لغة بعض الحجازيين، وقيل هي لغة أزد شنوءة أيضا).
قلت: ورواه ابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود أيضا.
قال الحافظ: وينبغي أن يكون هذا القول هو الراجح، فقد روى الطبراني وابن مردويه والضياء بسند صحيح عن ابن عباس قال: القاب والقيد والقوسان الذراعان.
اللباب: (أو) هنا كهي في قوله تعالى: (أو يزيدون) لان المعنى بأحد هذين المقدارين في رأي الرائي أي لتقارب ما بينهما لا (2) يشك الرائي في ذلك.
وقال ابن القيم: (أو) هنا ليست للشك بل لتحقيق قدر المسافة، وأنها لا تزيد على قوسين البتة، كما قال تعالى: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يريدون) [ الصافات: 147 ]، تحقيقا لهذا القدر وأنهم لا ينقصون عن مائة ألف أو يزيدون رجلا واحدا، ونظيره قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد
__________
(1) شقيق بن سلمة الاسدي، أبو وائل، الكوفي، ثقة، مخضرم، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة.
التقريب (35411).
(2) سقط في أ.
(*)(3/42)
ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) [ البقرة: 74 ]، أي لا تنقص قسوتها عن قسوة
الحجارة، بل إن لم تزد على قسوة الحجارة لم تكن دونها.
وهذا المعنى أحسن وألطف وأدق من قول من جعل (أو) في هذا الموضع بمعنى بل، ومن قول من جعلها للشك بالنسبة إلى الرائي، وقول من جعلها بمعنى الواو فتأمله، وجزم بذلك ابن كثير.
اللباب: (أدنى أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف أو أدنى من قاب قوسين، فمعنى الاية: ثم دنا جبريل بعد استوائه في الافق الاعلى من الارض، فتدلى، فنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فكان قاب قوسين أو أدنى بل أدنى.
تنبيه: هذا الذي قلناه من المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قال قوسين أو أدنى، إنما هو جبريل، نقله القاضي عن الجمهور.
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير: إنه هو الصحيح في التفسير، كما دل عليه كلام أكابر الصحابة.
قال ابن القيم: لان جبريل هو الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله: (ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى) [ ا لنجم: 13، 14 ] هكذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعائشة، قالت عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله عن هذه الاية، فقال: (ذاك جبريل لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين)، رواه مسلم، ولفظ القرآن لا يدل على غير ذلك من وجوه: الأول: أنه قال: (علمه شديد القوى) وهذا جبريل الذي وصفه بالقوة في سورة التكوير.
الثاني: أنه قال: (ذو مرة) [ النجم: 6 ] أي حسن خلق، وهو الكريم في سورة التكوير.
الثالث: أنه قال: (فاستوى وهو بالافق الاعلى) وهي ناحية السماء العليا وهذا استواء جبريل.
الرابع: أنه قال: (ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى)، فهذا دنو جبريل، وقد نزل إلى الارض حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بها.
وأما الدنو والتدلي في حديث المعراج فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان فوق سبع سموات.
الخامس: أنه قال: (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى).
والذي عند السدرة قطعا هو جبريل، وبهذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ذاك جبريل).
السادس: أن الضمير في قوله: (ولقد رآه)، وقوله: (دنا فتدلى)، وقوله: (فاستوى)، وقوله: (وهو بالافق الاعلى) واحد، فلا يجوز أن يخالف بين المفسرين من غير دليل.(3/43)
السابع: أنه سبحغنه وتعالى أخبر أن هذا الذي (دنا فتدلى) كان بالافق الاعلى، وهو أفق السماء، فدنا من الارض فتدلى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والدنو والتدلي الذي في حديث شريك غير هذا، وكذا جزم ابن كثير بأن الدنو والتدلي في حديث شريك غير الذي في الاية.
وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، في هذه الاية قال: (رأى بفؤاده مرتين)، فجعل هذا إحداها، ولهذا مزيد بيان في الباب الثالث.
الرابع عشر: في الكلام على قوله تعالى: (فأوحى إلى عبده ما أوحى) [ سورة النجم: 10 ].
ابن عادل متابعا الامام الرازي: (في فاعل أوحى وجهان: الأول: أن الله تعالى أوحى، وعلى هذا ففي (عبده) وجهان: أحدهما: أنه جبريل، أي أوحى الله تعالى إلى جبريل، وعلى هذا ففي فاعل أوحى الاخير وجهان: أحدهما: أنه الله تبارك وتعالى أيضا.
والمعنى حينئذ: فأوحى الله تعالى إلى جبريل الذي أوحاه الله تعالى أيهما أكثر تفخيما وتعظيما للموحي، ثانيهما: فاعل أوحى الثاني جبريل، أي أوحى الله تبارك وتعالى إلى جبريل ما أوحى جبريل، وعلى هذا فالمراد من الذي أوحى إليه جبريل يحتمل وجهين: أولهما: أن يكون مبينا، وهو الذي أوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ثانيهما: أن يكون عاما.
أي أوحى الله تعالى إلى جبريل ما أوحى إلى كل رسول.
وفيه بيان أن جبريل أمين لم يخن في شئ مما أوحى إليه، وهذا كقوله تعالى (نزل به الروح الامين) [ الشعراء: 193 ] وقوله (مطاع ثم أمين) [ التكوير: 21 ].
الوجه الثاني: في (عبده)، على قولنا هو الله تعالى، أنه محمد صلى الله عليه وسلم، أي أوحى الله
تعالى إلى محمد ما أوحى إلى كل رسول به أبهمه للتفخيم والتعظيم.
الوجه الثاني في فاعل أوحى الأول: هو أنه جبريل أوحى إلى عبده إلى عبد الله يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، ما أوحى إليه ربه عز وجل، قاله ابن عباس في رواية عطاء، والكلبي، والحسن، والربيع، وابن زيد.
وعلى هذا ففي فاعل أوحى الثاني وجهان: أحدهما: أنه جبريل إي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحى جبريل للتفخيم، وثانيهما: أن يكون هو الله تعالى أي أوحى جبريل إلى محمد ما أوحى الله تعالى إليه.
وفي (ما أوحى) وجوه: الأول: فضل الصلاة، الثاني: أن أحدا من الانبياء لا يدخل الجنة قبلك ولا قبل أمتك.
الثالث: أن (ما) للعموم، والمراد كل ما جاء به جبريل).
الخامس عشر: في الكلام على قوله تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى) [ النجم: 11 ].
ابن القيم: (أخبر الله تعالى عن تصديق فؤاده لما رأته عيناه وأن القلب صدق العين،(3/44)
وليس كمن رأى شيئا على خلاف ما هو به، فكذب فؤاده بصره، بل ما رآه ببصره صدقه الفؤاد وعلم أنه كذلك.
يقال كذبته عينه وكذبه قلبه وكذبه جسده إذا أخلف ما ظنه وحدسه.
قال الشاعر: كذبتك عينك أم رأيت بواسط * غلس الظلام من الرباب خيالا (1) ؟ أي أرتك ما لا حقيقة له.
فنفى الله تعالى هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن فؤاده لم يكذب ما رآه).
الماوردي: (في الفؤاد قولان: أحدهما: أنه أراد صاحب الفؤاد، فعبر عنه بالفؤاد، لانه قطب الجسد وبه قوام الحياة.
الثاني: أنه أراد نفس الفؤاد لانه محل الاعتقاد).
اللباب: (قرأ هشام (2) وأبو جعفر (3) بتشديد الذال من (كذب)، والباقون بتخفيفهما.
فأما الاولى فإن معناها أن ما رآه محمد صلى الله عليه وسلم بعينه صدقه قلبه، ولم ينكر الداري (أل) لتعريف ما
علم حاله لسبق ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: (إلى عبده) وفي قوله (وهو بالافق الاعلى) وقوله (ما ضل صاحبكم)، أي لم يقل إنه خيال لا حقيقة.
و (ما) الثانية مفعول له موصولة، والعائد محذوف، ففاعل (رأى) ضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم).
وأما قراءة التخفيف فقيل فيها كذلك.
وكذب يتعدى بنفسه.
وقيل هو على إسقاط الخافض أي فيما رآه، قاله مكي وغيره.
قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: لو كنت صادقة الذي حدثتني * لنجوت منجا الحارث بن هشام (4) أي في الذي حدثتني، وجوز (ما) في وجهين: أحدهما: أن تكون بمعنى (الذي)، فيكون المعنى: ما كذب الفؤاد الذي رأت بعينه، والثاني: أن تكون مصدرية.
__________
(1) البيت للاخطل انظر اللسان 4 / 3281.
(2) هشام بن عمار بن نصير بن ميسرة أبو الوليد السلمي وقيل: الظفري الدمشقي، إمام أهل دمشق وخطيبهم ومقرئهم ومحدثهم ومفتيهم، ولد سنة ثلاث وخمسين ومائة، وقال النسائي: لا بأس به وقال الدار قطني: صدوق كبير المحل، وكان فصيحا علامة واسع الرواية، قال عبدان الاهوازي.
سمعته يقول ما أعدت خطبة منذ عشرين سنة وقال محمد بن حريم: سمعته يقول في خطبته: قولوا الحق يريكم الحق منازل أهل الحق يوم لا يقضي إلا بالحق، وقال أبو علي أحمد بن محمد الاصبهاني المقري لما توفي أيوب بن تميم رجعت الامامة في القراءة إلى رجلين: ابن ذكوان وهشام، قال: وكان هشام مشهورا بالنقل والفصاحة والعلم والرواية والدراية رزق كبر السن وصحة العقل والرأي فارتحل الناس إليه في القراءات والحديث، مات سنة خمس وأربعين.
ومائتين وقيل سنة أربع وأربعين غاية النهاية 2 / 354، 355.
(3) يزيد بن القعقاع الامام أبو جعفر المخزومي المدني القارئ، أحد القراء العشرة تابعي مشهور كبير القدر، ويقال اسمه جندب بن فيروز وقيل: فيروز، مات بالمدينة سنة ثلاثين ومائة وقيل: سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة تسع وعشرين وقيل: سنة سبع وعشرين وقيل: سنة ثمان وعشرين.
انظر غاية النهاية 2 / 382، 383، 384.
(4) انظر ديوان حسان بن ثابت ص 213، 214.
(*)(3/45)
ابن القيم: فيكون المعنى: ما كذب فؤاده رؤيته، وعلى التقديرين فهو إخبار عن تطابق رؤية القلب لرؤية البصر وتوافقهما، وتصديق كل واحد منهما لصاحبه، وهذا ظاهر في قراءة التشديد.
وقد استشكلها طائفة منهم المبرد، وقال في هذه القراءة بعد، لانه إذا رأى بقلبه فقد علمه أيضا بقلبه، وإذا وقع العلم فلا كذب معه، فإذا كان الشئ في القلب معلوما فكيف يكون معه تكذيب ؟ والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن الرجل قد يتخيل الشئ على خلاف ما هو به فيكذبه قلبه، إذ يريه صورة المعلوم على خلاف ما هي عليه كما تكذبه عينه، فيقال كذبه قلبه وكذبه ظنه وكذبته عينه، فنفى ذلك سبحانه وتعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن ما رآه الفؤاد كما رآه، كمن يرى الشئ على حقيقة ما هو به، فإنه يصح أن يقال لم تكذبه عينه.
الثاني: أن يكون الضمير في (رأى) عائد إلى الرائي لا إلى الفؤاد، ويكون المعنى: ما كذب الفؤاد ما رآه البصر، وهذا بحمد الله لا إشكال فيه، والمعنى: ما كذب الفؤاد بل صدقه، وعلى القراءتين فالمعنى: ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ولم ير ولا اتهم بصره).
انتهى.
اللباب تبعا للامام الرازي: (ويجوز أن يكون فاعل (رأى) ضميرا يعود على الفؤاد [ أي ] لم يشك قلبه فيما رأى بعينه).
قال الزمخشري: [ ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، أي ما قال فؤاده، لما رآه: لم أعرفه ولو قال ذلك كان كاذبا، لانه عرفه، يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ولم يشك في أن ما رآه حق ].
فما كذب الفؤاد، هذا على قراءة التخفيف، يقال كذبه إذا قال له الكذب، وأما على قراءة التشديد فمعناه: ما قال إن الذي رآه كان خفيا لا حقيقة له.
وأما الرائي فقيل هو الفؤاد كأنه تعالى قال: ما كذب الفؤاد ما رآه الفؤاد، أي لم يقل إنه جن أو شيطان، بل تيقن أو ما رآه بفؤاده صدق صحيح.
وقيل الرائي هو البصر أي ما كذب الفؤاد ما رآه البصر، ولم يتدارك أن ما رآه البصر خيال.
ويحتمل أن تكون (أل) للجنس أي جنس الفؤاد، ويكون المعنى: ما كذب الفؤاد ما رأى محمد صلى الله عليه وسلم، أي شهدت ا لقلوب بصحة ما رآه محمد صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا في المرئي ما هو ؟ فقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا رفرف أخضر قد ملا ما بين السماء والارض.
رواه الفريابي والترمذي وصححه.
وقيل رأى الايات العجيبة.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: رأى ربه بفؤاده مرتين، رواه مسلم وغيره.
وسيأتي الكلام على رؤية الله تعالى في الباب الثالث.
السادس عشر: في الكلام على قوله تعالى: (أفتمارونه على ما يرى).
[ النجم: 12 ].(3/46)
ابن القيم: (أنكر عليهم سبحانه وتعالى مكابرتهم وجحدهم له على ما رآه مما ينكر على الجاهل مكابرته لعالم، ومماراته له على ما علمه).
اللباب: (قرأ الاخوان: (أفترمونه) بفتح التاء وسكون الميم، والباقون (تمارونه)، وعبد الله بن مسعود والشعبي: (أفتمرونه) بضم التاء وسكون الميم.
فأما الاولى ففيها وجهان: أحدهما: أنه من مريته حقه إذا غلبته عليه وجحدته إياه، وعدي بعلى لتضمنه معنى الغلبة، وأنشدوا: لئن هجرت أخا صدق ومكرمة * لقد مريت أخا ما كان يمريكا لانه إذا جحده حقه فقد غلبه عليه.
قال المبرد،: يقال مراه عن حقه وعلى حقه إذا منعه منه ودفعه عنه.
قال ومثل (على) بمعنى (عن) قول بني كعب بن ربيعة رضي الله عليك أي رضي عنك).
ابن القيم: (علي بابها ليست بمعنى (عن) كما قاله المبرد، بل الفعل متضمن معنى المكابرة، وهذا في قراءة الالف أظهر.
الثاني: أنه من مراه كذا على كذا أي غلبه فهو من المراء وهو الجدال).
وأما الثانية: فهي من ماراه يماريه، جادله واشتقاقه من مرى الناقة، لان كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه.
وكان من حقه أن يتعدى بفي كقولك: جادله في كذا.
وإنما ضمن
الغلبة فعدي تعديتها.
وأما قراءة عبد الله فمن (ما راه) رباعيا، والمعنى: (أفتجادلونه)، أي كيف تجادلونه على ما يرى مع أنه رأى ما رأى عين اليقين ؟ ولا شك بعد الرؤية.
القرطبي: (والمعنيان متداخلان لان مجادلتهم جحود، وقيل: إن الجحود كان دائما منهم وهذا جدال جديد).
ابن القيم: (القوم جمعوا بين الجدال والدفع في الانكار، فكان جدالهم جدال جحود ودفع له جدال استرشاد وتبيين للحق.
وإثبات الالف يدل على المجادلة، والاتيان بعلى يدل على المكابرة، فكانت قراءة الالف متضمنة للمعنيين جميعا، وذلك أنهم جادلوا حين أسري به، فقالوا صف لنا بيت المقدس، وأخبرنا عن عيرنا في الطريق، وغير ذلك مما جادلوه به.
والمعنى: أفتجادلونه جدالا ترمون به دفعه عما رآه وعلمه وتيقنه ؟ فإن قيل: هلا قيل: أفتمارونه على ما رأى ؟ بصيغة الماضي، لانهم إنما جادلوه حين أسري به كما تقدم، وما الحكمة في إبرازه بصيغة المضارع ؟ فالجواب أن التقدير: أفتمارونه على ما يرى ؟ فكيف وهو قد رآه في المساء، فماذا تقولون فيه) ؟.
السابع عشر: في الكلام على قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى).
[ النجم: 13 ].(3/47)
ابن القيم: (أخبر تعالى عن رؤيته لجبريل مرة أخرى.
فالمرة الاولى كانت دون السماء بالافق الاعلى والثانية كانت فوق السماء عند سدرة المنتهى).
ابن كثير: (هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها، وكانت ليلة الاسراء...وتقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يثبت الرؤية ليلة الاسراء ويستشهد بهذه الاية، وتابعة جماعة من السلف والخلف، وقد خالفه جماعات من الصحابة والتابعين).
قلت وسيأتي تحقيق ذلك في بابه.
اللباب: (ا لواو في (ولقد) يحتمل أن تكون عاطفة، ويحتمل أن تكون للحال، أي كيف تجادلونه فيما رآه، وهو قد رآه على وجه لا شك فيه ؟ والنزلة فعلة من النزول كجلسة من
الجلوس، وفي نصبها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها منصوبة على الظرف الذي هو مرة، لان الفعلة إسم للمرة من الفعل، فكانت في حكمها.
قال الشهاب الحلبي: وهذا ليس مذهب البصريين، وإنما هو مذهب القراء، نقله عنه مكي.
الثاني: أنها منصوبة نصب المصدر الواقع موقع الحال، أي رآه نازلا نزلة أخرى، وإليه ذهب الحوفي وابن عطية الثالث: أنها منصوبة على المصدر المؤكد، فقدره أبو البقاء مرة أخرى أو رؤية أخرى.
قال الشهاب الحلبي: وفي تأويل نزلة برؤية، نظر، وأخرى تدل على سبق رؤية قبلها، وعند سدرة المنتهى ظرف مكان لرأى).
الثامن عشر: في الكلام على السدرة وإضافتها إلى المنتهى.
قال الامام الرازي: (يحتمل وجوها: أحدها: إضافة الشئ إلى مكانه كقولك: أشجار بلدة كذا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه ملك أو روح من الارواح.
قال كعب الاحبار: هي في أصل العرش على رؤوس حملة العرش، وإليها ينقضى علم الخلائق وما خلفها بحيث لا يعلمه إلا الله تعالى.
ثانيها: إضافة المحل إلى الحال فيه، كقولك: كتاب الفقه، وعلى هذا فالتقدير: سدرة عندها منتهى العلوم.
ثالثها: إضافة الملك إلى مالكه كقولك: دار زيد أو شجرة زيد، وحينئذ المنتهى إليه محذوف تقديره: سدرة المنتهى إليه.
قال الله تعالى: (وأن إلى ربك المنتهى) [ النجم: 43 ].
فالمنتهى إليه هو الله تعالى، وإضافة السدرة إليه حينئذ كإضافة البينة للتشريف والتعظيم، كما يقال في التسبيح: يا غاية رغباه ويا منتهى أملاه).
القرطبي: (اختلف لم سميت سدرة المنتهى على أقوال تسعة: الأول لانه ينتهي إليها ما يهبط من فوقها فيقبض منها وإليها ينتهي ما يعرج من الارض، رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود، الثاني: علم الانبياء ينتهي إليها ويعزب عما وراءها، قال ابن عباس.
الثالث: أن الاعمال تنتهي إليها وتقبض منها، قاله الضحاك.
الرابع: لانتهاء الملائكة والانبياء إليها(3/48)
ووقوفهم عندها.
الخامس: لان أرواح الشهداء تنتهي إليها، قاله الربيع بن أنس.
السادس: لانه تأوي إليها أرواح المؤمنين، قاله قتادة.
السابع: لانه ينتهي إليها كل من كان على سنة
محمدص لى الله عليه وسلم ومنهاجه، قاله علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، والربيع بن أنس أيضا.
الثامن: [ هي شجرة على رؤوس حملة العرش ] إليها ينتهي علم الخلائق.
التاسع: لان من رفع إليها فقد انتهى في الكرامة).
الماوردي: (فإن قيل: لم اختيرت السدرة دون غيرها ؟ قيل لان السدرة تختص بثلاثة أوصاف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية، فشابهت الايمان الذي يجمع قولا ونية وعملا، فظلها من الايمان بمنزلة العمل لتجاوزه، وطعمها بمنزلة النية لكمونه أي استتاره، ورائحتها بمنزلة القول لظهوره).
الصحاح: (السدر شجر النبق الواحدة سدرة والجمع سدرات أي بكسر فسكون وسدرات بكسرتين، وسدرات بكسر ففتح، وسدر بكسر ففتح)، وسيأتي في شرح القصة الكلام على أصلها.
تنبيه: جاء في النهي عن قطع السدر أحاديث.
فروى أبو داود والطبراني والبيهقي والضياء في صحيحه عن عبد الله بن حبشي بضم المهملة ثم موحدة ساكنة، ثم معجمة بعدها ياء ثقيلة، ابن جنادة، بضم الجيم وبالنون والدال المهملة، بفتح السين المهملة ولامين، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار)، زاد الطبراني يعني من سدر الحرم.
وقال أبو داود رحمه الله تعالى: يعني من قطع السدر في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها.
وروى البيهقي عن أبي ثور أنه سأل الشافعي عن قطع السدر فقال: لا بأس به.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغسلها بماء وسدر)، فيكون محمولا على ما حمله عليه أبو داود.
وقال البيهقي: وروينا عن عروة أنه كان يقطعه وهو أحد رواة النهي، فيشبه أن يكون النهي خاصا كما قال أبو داود.
وقال الخطابي: سئل المزني (1) عن هذا فقال: وجهه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن هجم على قطع سدر لقوم أو يتيم أو لمن حرم الله تعالى أن يقطع عليه، فتحامل عليه فقطعه فاستحق ما قاله، فتكون المسألة سبقت لسامع فسمع الجواب ولم يسمع المسألة وجعل نظيره
__________
(1) إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق أبو إبراهيم، المزني، المصري، الفقيه الامام صاحب التصانيف.
أخذ عن الشافعي وكان يقول: أنا خلق من أخلاق الشافعي، كان زاهدا، عالما، عالما، مجتهدا، مناظرا، محجاجا، غواصا على المعاني الدقيقة، صنف كتبا كثيرة، قال الشافعي: المزني ناصر مذهبي.
ولد سنة خمس وسبعين ومائة وتوفي في رمضان، وقيل: في ربيع الأول سنة أربع وستين ومائتين، وكان مجاب الدعوة.
انظر طبقات ابن قاضي شهبة 1 / 58.
(*)(3/49)
حديث أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الربا في النسيئة)، فسمع الجواب ولم يسمع المسألة وقد قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل يدا بيد).
واحتج المزني بما احتج به الشافعي من إجازة النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل الميت بالسدر، ولو كان حراما لم يجز الانتفاع به.
وقال: والورق من السدر كالغصن.
قال: وقد سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما حرم قطعه من شجر الحرم بين ورقه وغيره، فلما لم يمنع من ورق السدر، دل على جواز قطع السدر.
قال الشيخ رحمه الله تعالى في فتاويه: (والاولى عندي في تأويل الحديث أنه محمول على سدر الحرم، كما وقع في رواية الطبراني.
قال ابن الاثير في النهاية: (قيل أراد به سدر مكة لانها حرم وقيل سدر المدينة، نهى عن قطعه ليكون أنسا وظلا لمن يهاجر إليها، وقيل أراد السدر الذي يكون في الفلاة يستظل به أبناء السبيل والحيوان أو في ملك إنسان، فيتحامل عليه ظالم فيقطعه بغير حق، ومع هذا فالحديث مضطرب الرواية فإن أكثر ما يروى عن عروة بن الزبير، وكان هو يقطع السدر ويتخذ منه أبوابا.
قال هشام: وهذه أبواب من سدر قطعه أبي، وأهل العلم مجمعون على إباحة قطعه).
وروى أبو داود عن حسان بن إبراهيم قال: (سألت هشام بن عروة عن قطع السدر، وهو مسند ظهره إلى قصر عروة، قال: ترى هذه الأبواب والمصاريع إنما هي من سدر قطعه أبي من أرضه).
التاسع عشر: في الكلام على قوله تعالى: (عندها جنة المأوى) [ النجم: 15 ]
قال القرطبي: هذا تعريف بموضع جنة ا لمأوى وأنها عند سدرة المنتهى، وهي عن يمين العرش، وقيل أوى إليها آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن أخرج منها.
وقيل: إن أرواح المؤمنين كلهم في جنة المأوى، وهي تحت العرش فيتنعمون [ بنعيمها ويتنسمون بطيب ريحها ].
وقيل: لان جبريل وميكائيل عليهما السلام يأويان إليها.
اللباب: (جملة إبتدائية في موضع الحال، والاحسن أن يكون الحال الظرف، وجنة المأوى فاعل به.
والعامة أن جنة إسم مرفوع وقرأ أمير المؤمنين علي، وأبو الدرداء (1)، وأبو هريرة، وابن الزبير وأنس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وزر بن حبيش، ومحمد بن كعب من التابعين: جنة فعلا ماضيا، والهاء ضمير المفعول يعود للنبي صلى الله عليه وسلم، والمأوى فاعل
__________
(1) عويمر بن زيد بن قيس الانصاري، أبو الدرداء، مختلف في اسم أبيه وإنما هو مشهور بكنيته، وقيل: اسمه عامر، وعويمر لقب، صحابي جليل، أول مشاهده أحد، وكان عابدا، مات في آخر خلافة عثمان، وقيل: عاش بعد ذلك.
التقريب 2 / 91.
(*)(3/50)
بمعنى سترة إيواء الله إياه.
ويقال ضمه البيت والليل، وقيل جنه بظلاله ودخل فيه).
قال الامام الرازي: (ويحتمل أن يكون الضمير في (عندها) على هذه القراءة عائدا إلى النزلة، أي عند النزلة جن محمدا المأوى، أي ستره، والصحيح أنه عائد إلى، السدرة).
اللباب: (وهذا قول الجمهور، وقد أنكرت عائشة رضي الله تعالى عنها هذه القراءة، وتبعها جماعة وقالوا: (أجن الله من قرأها).
فإذا ثبتت قراءة عن مثل هؤلاء فلا سبيل إلى ردها.
ولكن المستعمل إنما هو (أجنة) رباعيا، فإن استعمل ثلاثيا تعدى (بعلى)، كقوله تعالى: (فلما جن عليه الليل) [ الانعام: 76 ].
وقال أبو البقاء: هو شاذ والمستعمل: أجنة).
العشرون: في الكلام على قوله تعالى: (إذ يغشى السدرة ما يغشى) [ النجم: 16 ].
ابن القيم: (لما ذكر سبحانه رؤية محمد صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام عند سدرة المنتهى، استطرد منها وذكر أن جنة المأوى عندها وأنه يغشاها من أمره وخلقه ما يغشى، وهذا من
أحسن الاستطراد، وهو أسلوب لطيف جدا في القرآن).
اللباب: (إذ) منصوب يراه.
الامام: (العامل في (إذ) ما قبلها أو ما بعدها، فيه وجهان.
فإن قلنا ما قبلها ففيه احتمالان: أظهرهما رآه أي رأى وقت ما يغشى السدرة الذي يغشى.
والاحتمال الثاني العامل فيه الفعل الذي في النزلة أي رآه نزلة أخرى، تلك النزلة وقت ما يغشى السدرة ما يغشى، أي نزوله لم يكن إلا بعد ما ظهرت العجائب عند السدرة وغشيها ما غشيها، فحينئذ نزل محمد نزلة، إشارة أنه لم يرجع من غير فائدة.
وإن قلنا العامل فيه ما بعدها فالعامل: ما زاغ البصر، أي ما زاغ بصره وقت غشيان السدرة ما غشيها.
واختلفوا فيما يغشى السدرة فقيل فراش أو جراد من ذهب وهو قول ابن عباس وابن مسعود والضحاك.
قال القرطبي: ورواه ابن مسعود وابن عباس مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ا لسدرة يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة ملكا يسبح الله تعالى).
قلت وقول الامام: (إن هذا ضعيف، لان ذلك لا يثبت إلا بدليل سمعي، فإن صح فيه خبر وإلا فلا وجه له قصور شديد، فإن الحديث في صحيح مسلم وغيره.
ومثله لا يقال بالرأي.
وقيل: ملائكة يغشونها كأنهم طيور يرتقون إليها متشوقين متبركين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة، وقيل يغشاها أنوار الله تعالى لان النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى السدرة تجلى لها ربه تبارك وتعالى كما تجلى للجبل، فظهرت الانوار، ولكن السدرة كانت أقوى من الجبل وأثبت، فجعل الجبل دكا، ولم تتحرك الشجرة وخر موسى صعفا، ولم يتزلزل محمد صلى الله عليه وسلم).(3/51)
قلت: ولا منافاة بين هذه الاقوال، فقد ورد أن كلا منها يغشاها كما سيأتي ذلك في القصة.
وقيل أبهمه تعظيما له كأنه قال: إذ يغشى السدرة ما الله أعلم به من دلائل ملكوته وعجائب قدرته.
الامام: (يغشى يستر، ومنه الغواشي أو من معنى الاتيان، يقال فلان يغشانا كل وقت أي
يأتينا، الوجهان محتملان).
الحادي والعشرون: في الكلام على قوله تعالى: (ما زاغ البصر).
الصحاح: (الزيغ الميل، وقد زاغ يزيغ وزاغ البصر أي مال).
ابن القيم: (قال ابن عباس: (ما زاغ البصر يمينا ولا شمالا، ولا جاوز ما أمر به).
وعلى هذا المفسرون، فنفى تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم ما يعرض للرائي الذي لا أدب له بين أيدي الملوك والعظماء من التفاته يمينا وشمالا لما بين يديه، وأخب رعنه بكمال الادب في ذلك المقام، وفي تلك الحضرة، إذ لم يلتفت جانبا، ولم يمد بصره إلى غير ما أري من الايات وما هناك من العجائب، بل قام مقام العبد ا لذي أوجب أدبه إطراقه وإقباله على ما أريد له دون التفاته إلى غيره، ودون تطلعه إلى ما لم يره، مع ما في ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته.
وهذا غاية الكمال.
فزيغ البصر التفاته جانبا، وطغيانه مده أمامه إلى حيث ينتهي.
فنزه في هذه السورة عمله عن الضلال وقصده عن الغي ونطقه عن الهوى وفؤاده عن تكذيب بصره، وبصره عن الزيغ والطغيان.
وهكذا يكون المدح: تلك المكارم لا قعبان من لبن * شيبا بماء فعادا بعد أبوالا اللباب تبعا للامام الرازي، (اللام في البصر تحتمل وجهين: أحدهما: المعروف وهو بصر محمد صلى الله عليه وسلم، أي ما زاغ بصر محمد، وعلى هذا فعدم الزيغ لوجوه: إن قلنا الغاشي للسدرة هو الجراد أو الفراش، فمعناه لم يلتفت محمد إليه ولم يشتغل به، ولم يقطع نظره عن مقصوده.
وعلى هذا فغشيان الجراد والفراش يكون ابتلاء وامتحانا للنبي صلى الله عليه وسلم.
وإن قلنا أنوار الله تعالى ففيه وجهان: أحدهما: لم يلتفت يمنة ويسرة، بل اشتغل بمطالعتها، وثانيهما: ما زاغ البصر بضعفه، ففي الأول بيان أدب محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الثاني بيان قوته.
الوجه الثاني في اللام: أنها لتعريف الجنس، أي ما زاغ بصره أصلا في ذلك الموضع لعظم الهيبة.
فإن قيل: لو كان كذلك لقال: ما زاغ بصر، فإنه أدل على العموم لان النكرة في معرض النفي تعم.
فالجواب هو كقوله تعالى: (لا تدركه الابصار) [ الانعام: 103 ] ولم يقل لم يدركه بصر.
الثاني والعشرون: في الكلام على قوله تعالى: (وما طغى) [ النجم: 17 ].
اللباب تبعا للامام الرازي: (فيه وجهان: أحدهما أنه عطف جملة مستقلة على جملة(3/52)
أخرى.
الثاني: أنه عطف جملة تقديره مقدرة على جملة.
فمثال المستقلة: خرج زيد ودخل عمرو، ومثال المقدرة: خرج زيد ودخل، الوجهان جائزان هنا.
أما الأول فكأنه تعالى قال عند ظهور النور: ما زاغ بصر محمد وما طغى محمد بسبب الالتفات، ولو التفت لكان طاغيا.
وأما الثاني فظاهر.
فإن قيل بأن الغاشي للسدرة جراد، فالمعنى لم يلتفت إليه وما طغى، أي ما التفت إلى غير الله تعالى، ولم يلتفت إلى الجراد ولا إلى غير الجراد، بل إلى الله سبحانه وتعالى.
أما على قول من قال غشيها نور، فقوله تعالى: (ما زاغ) أي ما مال عن الانوار.
وما طغى، أي ما طلب شيئا وراءه.
وفيه لطيفة وهي أن الله تعالى قال: ما زاغ وما طغى ولم يقل ما مال وما جاوز، لان الميل في ذلك الموضع والتجاوز مذمومان، فاستعمل الزيغ والطغيان فيه.
وفيه وجه آخر، وهو أن يكون ذلك بيانا لوصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى شدة اليقين الذي لا يقين فوقه، ووجه ذلك أن بصره صلى الله عليه وسلم ما زاغ أي ما مال عن الطريق، فلم ير الشئ على خلاف ما هو عليه بخلاف من ينظر إلى عين الشمس مثلا، ثم ينظر إلى شئ أبيض فإنه يراه أصفر وأخضر، يزيغ بصره عن جادة الابصار.
وقوله: (وما طغى) أي ما تخيل المعدوم موجودا، وقيل: (وما طغى) أي ما تخيل المعدوم موجودا وقيل: (وما طغى) أي ما جاوز ما أمر به).
الثالث والعشرون: في الكلام على قوله تعالى: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) [ النجم: 18 ].
اللباب: (في الكبرى وجهان، أظهرهما أنه مفعول رأى من آيات ربه حال مقدمه، والتقدير: لقد رأى الايات ا لكبري من آيات ربه.
والثاني أن (من آيات ربه) هو مفعول الرؤية، والكبرى صفة الايات ربه.
وهذا الجمع يجوز وصفه بوصف المؤنثة الواحدة، وحسنه هنا كونها فاصلة).
الامام الرازي: (في الكبرى وجهان: أحدهما: أنهما صفة لمحذوف تقديره لقد رأى من آيات ربه.
ثانيهما: صفة الايات ربه، فيكون مفعول رأى محذوفا تقديره: رأى من آيات ربه الكبرى آية أو شيئا.
القرطبي: يوجوز أن تكون (من) زائدة، أي رأى آيات ربه الكبرى.
وقال بعضهم: آيات ربه الكبرى هي أنه رأى جبريل عليه السلام في صورته).
قال الامام: (والظاهر أن هذه الايات غير تلك لان جبريل وإن كان عظيما لكن ورد في الاخبار أن لله ملائكة أعظم منه.
والكبرى تأنيث الاكبر، فكأنه تعالى قال: رأى من آيات ربه آيات هي أكبر الايات.
وروى الامام أحمد والترمذي وصححه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (رأى جبريل في حلة من رفرف قد ملا ما بين السماء والارض).(3/53)
قال الحافظ: (وبهذه الرواية يعرف المراد بالرفرف وأنه حلة، ويؤيده قوله تعالى: (متكئين على رفرف خضر) [ الرحمن: 76 ].
وأصل الرفرف ما كان من الديباج رقيقا حسن الصفة.
ثم اشتهر استعماله في الستر، وكل ما فضل من شئ وعطف وثني فهو رفرف).
القرطبي: (هو ما رأى تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه وهذا أحسن).
قال الامام: (وهذه الاية تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير الله تعالى ليلة المعراج وإنما رأى آيات الله تعالى وفيه خلاف، ووجه الدلالة أنه تعالى ختم قصة المعراج ها هنا برؤية الايات وقال سبحانه وتعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) [ الاسراء: 1 ] إلى أن قال: (لنريه من آياتنا) ولو كان رأى ربه لكان ذلك أعظم ما يمكن، فكانت الاية للرؤية، وكان أكبر شئ هو الرؤية).
ابن كثير: (وبهاتين الايتين استدل من ذهب من أهل السنة إلى أن الرؤية تلك الليلة لم تقع لانه قال: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) ولو كان رأى ربه لاخبر بذلك ولقال ذلك للناس).
خاتمة: اشتملت هذه الايات على قسمه تعالى على هداية نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وتنزيهه عن الهوى وصدقه فيما تلا، وأنه وحي يوحى، يوصله إليه جبريل الشديد القوي عن الله تبارك وتعالى العلي الاعلى، واحتوى أيضا على تزكية جملته صلى الله عليه وسلم وعصمته من الارتياب في هذا المسرى، ثم أخبر تعالى فيها عن فضيلته بقصة الاسراء وانتهائه إلى سدرة المنتهى، وتصديق بصره فيما روي أنه رأى من آيات ربه الكبرى.(3/54)
الباب الثالث في اختلاف العلماء في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه تبارك وتعالى ليلة المعراج
اعلم أن الصواب الذي عليه أهل الحق [ أن ] رؤية الله سبحانه وتعالى ممكنة غير مستحيلة عقلا، وأجمعوا أيضا على وقوعها في الاخرة، وأن المؤمنين يرون الله تعالى.
وزعمت طوائف من أهل البدع أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلا.
وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح.
وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم من سلف الامة على إثبات رؤية الله سبحانه وتعالى في الاخرة للمؤمنين.
ورواها أحد وعشرون صحابيا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وآيات القرآن العظيم فيها مشهورة، واعتراضات المبتدعة عليها، لها أجوبة مذكورة في كتب المتكلمين من أهل السنة.
وأما رؤية الله تعالى في الدنيا فممكنة عقلا وسمعا، ومذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال الاشعة ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك.
ولكن جرت العادة في رؤية بعضنا بعضا بوجود ذلك على جهة الاتفاق لا على سبيل الاشتراط.
وقد قرر أئمتنا المتكلمون ذلك بالدلائل الجلية، ولا يلزم من رؤية الله تعالى إثبات
جهة الله - تعالى عن ذلك - بل يراه المؤمنون لا في جهة، كما يعلمون أنه لا في جهة.
وبيان الدليل العقلي على جوازها بطريق الاختصار أن الباري سبحانه وتعالى موجود، وكل موجود يصح أن يرى، فالباري عز وجل يصح أن يرى.
أما الصغرى فظاهرة، وأما الكبرى، فلان الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
وقد تبين أن الموجود هو العلة لصحة الرؤية، ولا يلزم من جوازها وقوعها وعدم تعلقها، إنما هو لجري عادته تعالى بعدم خلقها فينا الان، مع جواز خلقها فينا، إذ هي غير مستحيلة وهنا أبحاث محلها الكتب الكلامية.
وبيان الدليل الشرعي على جوازها في الدنيا أن موسى بن عمران، رسول الله وكليمه، العارف به سأل الله سبحانه وتعالى الرؤية، فقال: (رب أرني أنظر إليك) [ الاعراف: 143 ] مع اعتقاده أنه تعالى يرى، فسألها.
وفي هذه الاية دليلان.
الأول: محال أن يجهل نبي ما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز عليه، بل لم يسأل إلا جائزا غير محال، لاستحالة سؤال المحال من الانبياء، ولكن وقوعه ومشاهدته من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ومن(3/55)
أعلمه إياه وأطلعه عليه، فقال له تعالى غير ناف للجواز: (لن تراني)، دون لن أرى المؤذنة بنفيه أي لن تطيق ولا تحتمل رؤيتي الان لتوقفها على معد لها في الرائي لم يوجد فيك بعد.
ومثل له مثالا بما هو أقوى من نبيه موسى صلى الله عليه وسلم وأثبت، وهو الجبل في قوله: (ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) [ الاعراف: 143 ].
وهذا هو الدليل الثاني: وبيانه أنه تعالى علق رؤية موسى إياه تعالى باستقرار جبل المناجاة في مكانه وقت ا لتجلي له، والشئ المعلق بالممكن ممكن، إذ معنى التعليق الاخبار بثبوت المعلق عند ثبوت المعلق به.
وعلى هذا فالشرطية خبرية إذا كان الجزاء في الاصل خبريا كما هنا.
فثبت إمكان الرؤية ضرورة أن الله تعالى أخ بر بوقوعها على بعض التقادير، والمحال لا يقع على شئ من التقادير أصلا، وإذا ثبت الامكان انتفى الامتناع وبالعكس وهنا أبحاث محلها الكتب الكلامية.
وقول موسى صلى الله عليه وسلم: (تبت إليك)، أي من الاقدام على سؤالي
إياه في الدنيا ما لم تقدره لي.
وقيل: إن قوله: (تبت إليك) [ الاعراف: 143 ] إنما كان لما غشيه من شدة ما أفضى به إلى أن صعق، كما تقول من فعل جائر عراك منه مشقة: تبت عن فعل مثله.
وقال القاضي أبو بكر الهذلي، في قوله تعالى: (لن تراني) [ الاعراف: 143 ] أي ليس لبشر أن يطيق النظر إلي في الدنيا وأن من نظر إلي في الدنيا مات، أي في الحال، بشهادة صعق موسى إذ رأى الجبل) وقال القاضي: (وقد رأيت لبعض السلف والمتأخرين أن رؤيته تعالى في الدنيا ممتنعة، لا من حيث ذاتها، لثبوت جوازها فيها بما مر، وإنما امتنعت فيها لضعف تراكيب أهل الدنيا وقواهم، وكونها متغيرة عرضة للافات من نوائب مقلقلة ونواكب للاكباد معلقة تنذر بالموت والفناء، فلم تكن لهم قوة على الرؤية في الدنيا.
فإذا كان في الاخرة وركبوا تركيبا ورزقوا قوى ثابتة باقية وأتمت أنوار أبصارهم وقلوبهم حصل بذلك قوة على الرؤية في الاخرة).
وقد رأيت نحو هذا للامام مالك بن أنس رحمه الله قال: (لم ير في الدنيا لانه باق ولا يرى الباقي بالفاني.
فإذا كان في الاخرة ورزقوا أبصارا باقية رئي الباقي بالباقي) وهذا الذي قاله الامام مالك كلام حسن مليح، وليس فيه دلالة على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة، فإذا قوى الله تعالى من شاء أقدره على حمل أعباء الرؤية في حقه في أي وقت كان.
قال الحافظ: (ووقع في صحيح مسلم ما يؤيد هذه التفرقة في حديث مرفوع فيه (واعلموا أنكم لم تروا ربكم حتى تموتوا).
وأخرجه ابن خزيمة - بخاء معجمة مضمومة فزاي مفتوحة - من حديث أبي أمامة، ومن حديث عبادة بن الصامت.
فإذا جازت الرؤية في الدنيا(3/56)
عقلا، فقد امتنعت سمعا.
لكن من أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم له أن يقول إن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه).
قال القاضي: (ولا حجة لمن استدل على منعها بقوله تعالى: (لا تدركه الابصار)
[ الانعام: 103 ] لاختلاف التأويلات في الاية، فقد قيل: المراد بالادراك الاحاطة، فلا نفي فيها لمطلق الرؤية، وقيل: لا تدركه أبصار الكفار، وقيل غير ذلك: والجواب الصحيح أنه لا دلالة في هذا النفي على عموم الاوقات ولا حال من الاحوال لانه مسكوت عنه.
فمن أين أن المراد لا تدركه الابصار في وقت من الاوقات ولا حال من الاحوال ؟ بل يتعين الحمل على النفي بالنسبة إلى دار الدنيا جمعا بين الادلة السمعية).
وقال أبو العباس القرطبي في المفهم: (الابصار) جمع محلى بالالف واللام، فيقبل التخصيص، وقد ثبت ذلك سمعا في قوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) [ المطففين: 15 ] فيكون المراد الكفار، بدليل قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة) [ القيامة: 22، 23 ] قال: فإذا جازت في الاخرة جازت في الدنيا لتساوي الوقتين بالنسبة إلى الرائي) انتهى.
قال الحافظ: (وهو استدلال جيد).
وقد يستدل بهذه الاية على جواز إمكان الرؤية، إذ لو امتنعت الرؤية لما حصل التمدح في الاية بنفي الرؤية، ووجه الملازمة أن الممتنع منتف في حد ذاته، فلا يكون نفيه صفة مدح، لانه ضروري كالمعدوم الممتنع الرؤية، لا يمدح بعدم رؤيته، إذ لا يكون: (المعدوم لا يرى) تمدحا، لامتناع رؤية المعدوم.
وقد ثبت التمدح بنفي عدم رؤيته تعالى فتكون رؤيته ممكنة، والحاصل أن التمدح بنفي عدم الرؤية إنما يكون في إمكان رؤيته تعالى لكنه لا يرى للامتناع وتعذر الابصار والتحجب بحجاب الكبرياء والجلال لا في أنه لا يرى لامتناع رؤيته تعالى.
لكن الصفات السلبية على هذا، صفات تمدح، وإن جعلنا الادراك في الاية عبارة عن الرؤية على وجه الاحاطة بجوانب المرئي وحدوده.
فدلالة الاية حينئذ على جواز الرؤية بل على تحققها بالوقوع، أظهر من دلالتها على الجواز بما ذكر من التمدح.
إذ المعنى على هذا لا تدركه ا لابصار، إذ نظرت إليه على وجه الاحاطة، لانه تبارك وتعالى، مع كونه مرئيا بالابصار لا تدركه الابصار على وجه الاحاطة، لتعاليه قطعا عن التناهي وعن الاتصاف بالحدود التي هي
النهايات والجوانب على ما تبين في كتب الكلام.
والاحاطة بما لا يتناهى محال.
ولهذا مزيد بيان يأتي في الكلام على حديث عائشة رضي الله عنها.
ومع القول بجوازها في الدنيا، لم يحصل لبشر غير نبينا صلى الله عليه وسلم، على ما في(3/57)
ذلك من الخلاف، ومن ادعاها غيره فهو ضال.
كما جزم بكفره الامام موفق الدين الكواشي (1) - بالفتح والتخفيف وبالمعجمة - والامام المهدوي (2) في تفسيريهما، والامام جمال الدين الاردبيلي (3) - بالفتح وسكون الراء وضم الدال المهملة وكسر الموحدة وسكون التحتية - في كتاب (الانوار)، إذ قد سألها نبي الله ورسوله وكليمه موسى بن عمران، ولم تحصل له، أفتحصل لاحاد الناس ؟ هذا مما يتوقف فيه.
فصل: وإذا علم ما تقرر ففي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه تبارك وتعالى ليلة المعراج مذهبان: فنفتها عائشة وهو المشهور عن ابن مسعود، وجاء مثله عن أبي هريرة، وإليه ذهب كثيرون من المحدثين والمتكلمين.
وبالغ الحافظ عثمان عن سعيد ا لدارمي، فنقل فيه الاجماع، والثاني أنه رآه.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أنه كان يحلف بالله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه.
وروى ابن خزيمة عن عروة بن الزبير إثباتها، وكان يشتد عليه إنكار عائشة لها.
وبه قال سائر أصحاب ابن عباس، وبه جزم كعب الاحبار والزهري ومعمر وآخرون.
وبه قال الشيخ أبو الحسن الاشعري (4) وغالب أتباعه.
وجنح ابن خزيمة إلى ترجيحه بما يطول ذكره.
ثم اختلفوا:
__________
(1) أحمد بن يوسف بن الحسن بن رافع بن الحسين بن سويدان الشيباني الموصلي، موفق الدين أبو العباس الكواشي: عالم بالتفسير، من فقهاء الشافعية.
من أهل الموصل.
كان يزوره الملك ومن دونه فلا يقوم لهم ولا يعبأ بهم.
من كتبه: (تبصرة المتذكر) في تفسير القرآن، و (كشف الحقائق) و (تلخيص في تفسير القرآن العزيز).
توفي 680 ه.
الاعلام 1 / 274.
(2) أحمد بن عمار بن أبي العباس المهدوي التميمي، أبو العباس: مقرئ أندلسي أصله من المهدية بالقيروان.
رحل إلى الاندلس في حدود سنة 408 وصنف كتبا، منها (التفصيل الجامع لعلوم التنزيل) وهو تفسير كبير للايات، يذكر
القراءات والاعراب، واختصره وسماه (التحصيل في مختصر التفصيل) توفي نحو 440 ه.
الاعلام 1 / 184.
(3) محمد بن عبد الغني الاردبيلي، جمال الدين: نحوي.
له (شرح انموذج الزمخشري) في النحو.
توفي سنة 647 ه.
الاعلام 6 / 211.
(4) علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى، الشيخ أبو الحسن الاشعري البصري.
إمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين، والذاب عن الدين، والمصحح لعقائد المسلمين.
مولده سنة ستين ومائتين، وقيل: سنة سبعين.
أخذ علم الكلام أولا عن أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة، ثم فارقه، ورجع عن الاعتزال، وأظهر ذلك، وشرع في الرد عليهم، والتصنيف على خلافهم.
وقال أبو بكر الصيرفي: وهو من نظراء الشيخ أبي الحسن، كانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله الاشعري فحجرهم في أقماع السمسم.
قال الخطيب البغدادي: أبو الحسن الاشعري المتكلم، صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة وغيرهم من المعتزلة ؤالرافضة، والجهمية والخوارج، وسائر أصناف المبتدعة.
وهو بصري سكن بغداد إلى أن توفي.
وقد جمع الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر له ترجمة حسنة، ورد على من تعرض له بالطعن، وذكر فضائله، ومصنفاته، ومتابعته في كتبه المذكورة السنة، وانتصارها لها، وذبه عنها ومن أخذ عنه من العلماء الاعلام سماه (تبيين الكذب المفتري فيما نسب إلى الشيخ أبي الحسن الاشعري)، وهو كتاب مفيد مطبوع ومتداول بين أهل العلم توفي في سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
انظر الطبقات لابن قاضي شهبة 1 / 113، 114، وتاريخ بغداد 11 / 346 ووفيات الاعيان 2 / 446 والبداية والنهاية 11 / 187 وطبقات الشافعية للسبكي 2 / 245 وتبيين كذب المفتري ص 128 وشذرات الذهب 2 / 303 والنجوم الزاهرة 3 / 259 والجواهر المضية 1 / 353.
(*)(3/58)
هل رآه بعينه أو بقلبه ؟ والقولان رويا عن الامام أحمد.
وقال الامام النووي: الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة المعراج، وبسط الكلام على ذلك واستدل بأشياء نوزع في بعضها كما سيأتي بيانه في ذكر أدلة المذهب الاول.
وذهب جماعة إلى الوقف في هذه المسألة ولم يجزموا بنفي ولا إثبات لتعارض الادلة،
ورجح ذلك الامام أبو العباس القرطبي في المفهم، وعزاه لجماعة من المحققين، وقواه بأنه ليس في الباب دليل قاطع.
وغالب ما استدلت به الطائفتان ظواهر متعارضة قابلة للتأويل.
قال: وليست ا لمسألة من التعظيمات فيكتفي فيها بالدلالة الظنية، فإنما هي من المعتقدات فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعي.
وقال السبكي رحمه الله في السيف المسلول: (ليس من شرطه أن يكون قاطعا متواترا بل متى كان حديثا صحيحا ولو ظاهرا وهو من رواية الاحاد، جاز أن يعتمد عليه في ذلك لان ذلك من مسائل الاعتقاد التي يشترط فيها القطع، على أنا لسنا مكلفين بذلك).
انتهى.
وقال القاضي في الشفاء وغيره: (لا مرية في الجواز، إذا ليس في الايات: (لا تدركه الابصار) [ الانعام: 103 ]، (لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) [ الاعراف: 143 ] نص في المنع للرؤية، بل هي مشيرة للجواز كما تقرر ذلك.
وأما وجوب وقوعها لنبينا صلى الله عليه وسلم، والقول بأنه رآه بعينه، فليس فيه قاطع أيضا ولا نص يعول عليه، إذ المعول عليه فيه على آيتي النجم: (ما كذب الفؤاد ما رأى) [ النجم: 11 ] و (ما زاغ البصر وما طغى) [ النجم: 17 ].
والتنازع بين الائمة فيهما مأثور، والاحتمال لهما من حيث دلالتهما على الرؤية وعدمها ممكن، لعدم صراحتهما بها، لا أثر قاطع متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
وحديث ابن عباس أنه رآه بعينه أو بفؤاده إنما نشأ عن اعتقاد لم يسنده إلى ا لنبي صلى الله عليه وسلم حتى يعتبر فيجب العمل باعتقاد مضمنه من رؤيته ربه.
ومثله حديث شريك عن أبي ذر في تفسير الاية بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وحديث معاذ: (رأيت ربي في أحسن صورة) (1)، مضطرب الاسناد والمتن.
وحديث أبي ذر مختلف من حيث اللفظ محتمل لان يكون رآه أو لم يره، مشكل من حيث جعل ذاته نورا، فروي: (نور أني أراه) (2) - بفتح أوله وتشديد النون - أي نورا لن أراه، أي لجري العادة بأن النور إذا غشى البصر حجبه في رؤيته لما وراءه، وروي: (نوراني، أي بكسر النون الثانية وتشديد التحتية).
__________
(1) أخرجه السيوطي في اللالئ 1 / 15 وأخرجه من طرق بنحوه الخطيب في التاريخ 8 / 152 وابن سعد في الطبقات 7 /
304 وابن الجوزي في العلل 1 / 16 وابن أبي عاصم في السنة 1 / 204.
(2) أخرجه مسلم (161) والترمذي (3282) وأحمد في المسند 5 / 157 وأبو نعيم في الحلية 9 / 61 وسيأتي بتمامه في نص المصنف رحمه الله.
(*)(3/59)
قال القاضي: (وهذه الرواية لم تقع لنا، ولا رأيتها في أصل من الاصول، ومحال أن تكون ذاته تعالى نورا، إذ النور جسم يتعالى الله عز وجل عنه، ومن ثم كانت تسميته نورا بمعنى ذي النور أو خالقه.
وفي الحديث الاخر: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت نورا).
وليس يمكن الاحتجاج بواحد منهما لافصاحهما بأنه لم يره، فإن كان الصحيح (رأيت نورا)، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم ير الله تعالى، وإنما رأى نورا منعه وحجبه عن رؤية الله تعالى.
وإلى قوله: (رأيت نورا) يرجع قوله: (نور أنى أراه)، أي كيف أراه مع كون حجابه النور المغشي للبصر، وهذا الحديث مثل الحديث الاخر من حيث المعنى: حجابه النور، كما رواه مسلم وغيره.
وقال أيضا في الاكمال: وقف بعض مشايخنا في هذا.
وقال: ليس هذا عليه دليل واضح، ولكنه جائز، ورؤية الله تعالى في الدنيا جائزة.
ذكر أدلة القول الأول زاد الشيخان وعبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وغيرهم عن مسروق، زاد عبد الرزاق ومن بعده عنه، قال: لقي ابن عباس كعبا بعرفة فسإله عن شئ فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم نزعم، وفي لفظ نقول: إن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين.
فكبر كعب حتى جاوبته الجبال.
ثم قال: (إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى عليهما السلام [ فكلم موسى مرتين ] ورآه محمد صلى الله عليه وسلم مرتين).
ثم اتفقوا.
قال مسروق: فدخلت على عائشة فقلت يا أمتاه، هل رأى محمد ربه ؟ فقالت: لقد قف شعري بما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب، وفي لفظ: فقد أعظم على الله الفرية، من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب وفي لفظ فقد أعظم على الله الفرية، ثم قرأت (لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف
الخبير) [ الانعام: 103 ]، (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) [ الشورى: 51 ]، ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، وفي لفظ: فقد أعظم على الله الفرية، ثم قرأت: (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا) [ لقمان: 34 ] ومن حدثك أنه قد كتم فقد كذب، وفي لفظ فقد أعظم على الله الفرية، ثم قرأت: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) [ المائدة: 67 ] ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين.
زاد الامام أحمد ومسلم قال ومسروق: وكنت متكئا فجلست فقلت: ألم يقل الله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى) [ النجم: 13 ].
إن أول هذه الامة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقلت: يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ فقال: (لا، إنما رأيت جبريل منهبطا).
وروى الامام أحمد عن طريق همام، ومسلم عن طريق معاذ بن هشام عن أبيه، ومن طريق ى يزيد بن إبراهيم، ثلاثتهم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق، قال: قلت لابي ذر: لو رأيت(3/60)
رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته، فقال: عن أي شئ كنت تسأله، فقال: كنت أسأله: هل رأى ربه تبارك وتعالى.
قال: إني قد سألته قلت: يا رسول الله: هل رأيت ربك ؟ فقال: نور أنى أراه) وفي رواية: رأيت نورا.
تنبيهات الأول: قال جماعة: لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع، ولو كان معها لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرت من ظاهر الاية وما قالوه غفلة عن قولها: إنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالت: يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ فقال: (إنما رأيت جبريل منهبطا).
الثاني: من قال: إن النبي صلى الله عليه وئسلم خاطبها على قدر عقلها، ومن حاول تخطئتها فيما ذهبت إليه فهو مخطئ قليل الادب.
الثالث: قول ابن الجوزي: (إن أبا ذر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الاسراء، فأجابه بما
أجابه، ولو سأله بعد الاسراء لاجابه بالاثبات، ضعيف جدا، فإن عائشة رضي الله عنها سألته بعد الاسراء ولم تثبت لها الرؤية).
الرابع: احتجاج عائشة بالاية خالفها فيه ابن عباس، فروى الترمذي وحسنه من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: محمد رأى ربه.
قلت: أليس الله تعالى يقول: (لا تدركه الابصار) ؟ قال: (ويحك، ذلك نوره إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين).
والحاصل أن المراد بالاية الاحاطة به عند رؤيته، لا نفي أصل رؤيته.
وقال النووي: المراد بالادراك الاحاطة، والله تعالى لا يحاط به، وإذا ورد النص بنفي الاحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة، وأما احتجاجها بقوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا) [ الشورى: 51 ] فالجواب عنه من أوجه: أحدها: أنه لا يلزم مع الرؤية وجود الكلام حال الرؤية، فيجوز وجود الرؤية من غير كلام، الثاني: أنه عام مخصوص بما تقدم من الادلة، الثالث: ما قال بعض العلماء إن المراد بالوحي هنا الكلام من غير واسطة، وأن القول وإن كان محتملا لكن الجمهور على أن المراد بالوحي هنا الالهام والرؤيا في المنام وكلاهما يسمى وحيا.
وأما قوله تعالى (أو من وراء حجاب).
فقال الواحدي وغيره بمعناه غير مجاهر لهم بالكلام بل يسمعون كلامه تعالى من حيث لا يرونه، وليس المراد أن يكون هناك حجاب يفصل موضعا عن موضع، ويدل على تحديد المحجوب، فهو بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب حيث لم ير المتكلم.
الخامس: قول كعب: (وكلمه موسى مرتين)، فيه نظر.
والحق أنه كلمه أكثر منهما، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى) [ طه 17 ] وقوله عز وجل:(3/61)
(وما أعجلك عن قومك يا موسى) [ طه: 83 ].
وقوله تبارك وتعالى: (فإنا قد فتنا قومك من بعدك) [ طه 85 ] وقوله تقدس اسمه: (فخذها بقوة) [ الاعراف: 145 ]، وقوله تعالى: (اذهبا إلى فرعون) [ طه: 43 ]، وقوله عز وجل (وألقيت عليك محبة مني ولتصنع
على عيني إذ تمشي أختك)، إلى غير ذلك من الايات.
السادس: في غريب ما سبق.
(يا أمتاه): أصله يا أمه (1) والهاء للسكت فأضيفت إليها ألف الاستغاثة فأبدلت تاء، ثم زيدت هاء السكت بعد الالف.
ووقع في كلام الخطابي إذا نادوا قالوا يا أمه عند السكت وعند الوصل (يا أمتا).
فإذا تفجعوا للندبة قالوا: (يا أمتاه) والهاء للسكت.
وتعقبه الكرماني بأن قول مسروق: (يا أمتاه) ليس للندبة، إذ ليس هو تفجعا عليها.
قال الحافظ: وهو كما قال.
قف (ص) شعري: قام من الفزع لما حصل عندها من هيبة الله واعتقدته من تنزيهه واستحالة وقوع ذلك.
قال النضر - بالنون والضاد المعجمة - ابن شميل (3) - بضم الشين المعجمة وفتح الميم وسكون التحتية وباللام: القف - بفتح القاف وتشديد الفاء - كالقشعريرة، وأصله القبض والاجتماع لان الجلد ينقبض عند الفزع فيقوم الشعر لذلك.
(أين أنت من ثلاث)، أي كيف يغيب فهمك عن هذه الثلاث وكان ينبغي أن يكون مستحضرها ومعتقد الكذب ممن يدعي وقوعها.
(الفرية) بالكسر: الكذب وجمعها فرى كعنب.
ذكر أدلة القول الثاني تقدم حديث مسروق عن ابن عباس وكعب.
وروى النسائي بإسناد صحيح عن طريق عكرمة عن ابن عباس قال: أتعجبون أن الخلة تكون لابراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ ورواه ابن خزيمة بلفظ: (إن الله اصطفى إبراهيم بالخلة).
إلى آخره.
وروى ابن إسحق عن عبد الله بن أبي سلمة أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهم يسأله: هل رأى محمد ربه ؟ فأرسل إليه أن نعم.
تنبيهات الأول: قال الحافظ ابن كثير وابن حجر وغيرهما: جاءت عن ابن عباس أخبار مطلقة
__________
(1) انظر لسان العرب 1 / 144.
(2) انظر اللسان 5 / 3704، 3705.
(3) النضر بن شميل بن خرشة بن يزيد المازني التميمي، أبو الحسن: أحد الاعلام بمعرفة أيام العرب ورواية الحديث وفقه اللغة.
توفي بمرو.
من كتبه: (الصفات) كبير، في صفات الانسان والبيوت والجبال والابل والغنم والطير والكواكب والزروع، و (كتاب السلاح) و (المعاني) و (غريب الحديث) و (الانواء).
توفي 203 ه الاعلام 8 / 33.
(*)(3/62)
كما تقدم وأخبار مقيدة، فيجب حمل مطلقها على مقيدها.
فمن المقيدة ما رواه مسلم عن أبي العالية في قوله تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى) [ النجم: 11 ]، (ولقد رآه نزلة أخرى) [ النجم: 13 ]، قال: (رآه بفؤاده مرتين).
وروى أيضا عن طريق عطاء عنه قال: (رآه بقلبه).
وروى ابن مردويه من طريق عطاء عنه أيضا في الاية قال: (لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه إنما رآه بقلبه).
وروى النسائي وابن خزيمة عن أبي ذر في الاية قال: (رآه بقلبه ولم يره بعينه).
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق موسى بن عبيد عن محمد بن كعب القرظي - بالظاء المعجمة المشالة وبالتحتية - قال ابن جرير عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: يا رسول الله، هل رأيت ربك ؟ قال: لم أره بعيني، رأيته بفؤادي مرتين)، ثم تلا (ثم دنا فتدلى) [ النجم: 8 ] وموسى ضعيف.
الثاني: قال الحافظ: المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب، لا مجرد حصول العلم لانه صلى الله عليه وسلم كان عالما بالله تعالى على الدوام.
بل مراد من أنه أثبت له أنه رآه بقلبه أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره، زاد صاحب السراج: (بخلاف غيره من الاولياء، فإنهم إذا أطلقوا الرؤية والمشاهدة لانفسهم، فإنهم إنما يريدون (المعرفة) فاعلمه، فإنه من الامور المهمة التي يغلط فيها كثير من الناس).
انتهى.
والرؤية لا يشترط لها شئ مخصوص عقلا ولو جرت العادة بخلقها في العين.
قال الواحدي: (وعلى القول بأنه رآه بقلبه جعل الله تعالى بصره في فؤاده، أو خلق لفؤاده بصرا حتى رأى ربه رؤية صحيحة كما يرى بالعين).
الثالث: على هذه الاثار المقيدة عن ابن عباس يمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي
عائشة، بأن يحمل نفيها على رؤية البصر وإثباتها على رؤية القلب.
الرابع: قال ابن كثير: [ فأما الحديث الذي رواه الامام أحمد: حدثنا أسود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي عز وجل)، فإنه حديث إسناده صحيح.
على شرط الصحيح لكنه مختصر من حديث المنام كما رواه الامام أحمد عن ابن عباس.
الخامس: قال ابن كثير: من روى عن ابن عباس أنه رآه ببصره فقد أغرب فإنه لا يصح في ذلك شئ عن الصحابة.
وقول البغوي: وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه، وهو قول أنس والحسن وعكرمة فيه نظر.
قلت: سبق البغوي إلى ذلك الامام أبو الحسن الواحدي وقول ابن كثير: إنه لم يصح في ذلك شئ عن الصحابة فليس بجيد، قال: فقد روى الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس أنه كان يقول: نظر محمد إلى ربه مرتين: مرة ببصره ومرة بفؤاده.(3/63)
الباب الرابع في أي زمان ومكان وقع الاسراء
وفيه فصلان: الأول في مكانه.
ففي رواية أنه كان عند البيت كما عند البخاري في باب بدء الخلق وفي باب المعراج في الحطيم، وربما قال في الحجر، والشك من قتادة كما بينه الامام أحمد في روايته عن عفان عن همام ولفظه: (بينا أنا في الحطيم)، وربما قال قتادة في الحجر.
قال الحافظ: والمراد بالحطيم هنا الحجر، وأبعد من قال: المراد به ما بين الركن والمقام، أو ما بين زمزم والحجر.
قال: وهو وإن كان مختلفا في الحطيم بل هو الحجر أم لا فالمراد به هنا بيان البقعة ا لتي وقع ذلك فيها لانها لم تتعدد لان القصة متحدة باتحاد مخرجها.
وفي رواية الزهري عن أنس: (فرج سقف بيتي وأنا بمكة)، وفي رواية الواقدي أنه: (أسري به من شعب أبي طالب)، وفي حديث أم هانئ عند الطبراني أنه (بات في بيتها)، قالت: ففقدته من الليل / فقال: إن جبريل أتاني).
قال الحافظ: والجمع بين هذه الاقوال أنه
بات في بيت أم هانئ، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج عن سقف بيته، وأضاف البيت إليه لانه كان يسكنه، فنزل منه منزلة المالك، وأخرجه إلى المسجد، وكان به أثر النعاس، ثم أخرجه إلى باب المسجد، فأركبه البراق.
قال: وقد وقع في مرسل الحسن عند ابن إسحاق فأتاه فأخرجه إلى المسجد، وهو يؤيد هذا الجمع).
انتهى.
وقال بعضهم: ليس بين قوله: (بينا أنا في المسجد الحرام) وبين قوله: (في بيتي) وبين أم هانئ، تناف لانه قد يكون المراد بالمسجد الحرام.
الفصل الثاني: في زمانه: الصواب الذي اتفق عليه العلماء: أن الاسراء كان بعد البعثة.
أما ما وقع في رواية شريك من قوله: (جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه)، وفيه (فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى)، ولم يعين المدة التي بين المجيئين، فيحمل على أن المجئ الثاني كان بعد أن أوحي إليه، وحينئذ وقع الاسراء والمعراج، وإذا كان بين المجيئين مدة فلا فرق بين أن تكون المدة ليلة واحدة أو ليال كثيرة أو عدة سنين.
قال ابن كثير: (وهذا الحمل هو الاظهر)، وجزم به ابن القيم، وجرى عليه الحافظ، قال: (وبهذا يرتفع الاشكال عن رواية شريك، ويحصل به الاتفاق بأن الاسراء كان في اليقظة بعد البعثة وقبل الهجرة، ويسقط تشنيع الخطابي وابن حزم بأن شريكا خالف الاجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثة).
قال الحافظ: (وأما ما ذكره بعض الشراح أنه كان بين الليلتين اللتين أتاه فيهما الملائكة سبع وقيل تسع وقيل ثلاثة عشر، فيحمل على إرادة السنين كما فهمه الشارح المذكور، وأجاب بعضهم بأن القبلية هنا هي في أمر مخصوص وليست(3/64)
مطلقة، واحتمل أن يكون المعنى قبل أن يوحى إليه في شأن الاسراء والمعراج مثلا، أي أن ذلك وقع بغتة قبل أن ينذر به.
ويؤيده قوله في حديث الزهري: فرج سقف بيتي.
انتهى.
واختلفوا في أي سنة كان، فجزم جمع بأنه كان قبل الهجرة بسنة، وجرى عليه الامام النووي، وبالغ ابن حزم فنقل فيه الاجماع.
وقال القاضي: قبل الهجرة بخمس سنين لانه لا
خلاف أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء، وتعقبه ابن دحية بأن المراد بالصلاة التي صلتها معه هي التي كانت من أول البعثة، وكانت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، وإنما الذي فرض ليلة الاسراء الصلوات الخمس.
وقد قالت عائشة رضي الله عنها: (إن خديجة رضي الله عنها ماتت قبل أن تفرض الصلاة) رواه ابن سعد، ويعقوب بن سفيان.
فالمعتمد أن مراد من قال: بعد أن فرضت ا لصلاة، ما فرض قبل الصلوات الخمس، إن ثبت ذلك.
ومراد عائشة بقولها: ماتت قبل أن تفرض الصلاة، أي الخمس، فيجمع بين القولين بذلك.
ويلزم منه أنها ماتت قبل الاسراء وقد حكى العسكري أنها ماتت قبل الهجرة بسبع سنين وسيأتي تحقيق ذلك في ترجمتها.
واختلفوا في أي الشهور كان [ الاسراء ] فجزم ابن الاثير وجمع، منهم النووي في فتاويه كما في النسخ المعتمدة، بأنه كان في ربيع ا لاول، قال النووي: (ليلة سبع وعشرين).
وجرى عليه جمع، وهكذا عن الفتاوى الاسنوي في المهمات، والاذرعي - بفتح أوله والراء وسكون الذال المعجمة بينهما - في التوسط، والزركشي في الخادم، والدميري في حياة الحيوان، وغيرهم.
وكذا رأيته في عدة نسخ من الفتاوى وفي بعض النسخ من شرح مسلم كذلك، وفي أكثرها ربيع الاخر كما في نسخ الفتاوى.
ونقله ابن دحية في الابتهاج، والحافظ في الفتح، وجمع عن الحربي.
والذي نقله عنه ابن دحية في كتابيه: التنوير والمعراج الصغير، وأبو شامة في الباعث، والحافظ في فضائل رجب، ربيع الاول.
وقيل: كان في رجب، وجزم به النووي في الروضة تبعا للرافعي، وقيل في رمضان، وقيل في شوال.
قال ابن عطية بعد أن حكى الخلاف والتحقيق: (إنه كان بعد شق الصحيفة وقبل بيعة العقبة، قال ابن دحية: (ويمكن أن يعين ا ليوم الذي أسفرت عنه تلك الليلة، ويكون يوم الاثنين).
وذكر الدليل على ذلك بمقدمات حساب من تاريخ الهجرة، وحاصل الامر أنه استنبطه، وحاول موافقة كون المولد يوم الاثنين وكون المبعث يوم الاثنين وكون المعراج يوم الاثنين وكون الهجرة يوم الاثنين وكون الوفاة يوم الاثنين.
قال: فإن هذه أطوار الانتقالات النبوية
وجودا ونبوة ومعراجا وهجرة ووفاة، فهذه خمسة أطوار، فيكون يوم الاثنين في حقه صلى الله عليه وسلم كيوم الجمعة في حق آدم عليه الصلاة والسلام فيه خلق وفيه أنزل إلى الارض وفيه تاب الله عليه وفيه مات، وكانت أطواره الوجودية والدينية خاصة بيوم واحد.
انتهى.(3/65)
وروى ابن أبي شيبة عن جابر وابن عباس رضي الله عنهما قالا: (ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وفيه بعث وفيه عرج إلى السماء وفيه مات).
وقولهما: (وفيه عرج إلى السماء) أراد الليلة لان الاسراء كان بالليل اتفاقا.
تنبيه: ذكر أبو الخطاب بن دحية أن الاسراء كان في الليلة التي بين الاحد والاثنين على القول بأن الليلة تتبع اليوم الذي قبلها.
ثم قال: (ويدل على أن الليلة تتبع اليوم الذي قبلها أن ليلة عرفة هي التي قبلها بإجماع، وكان بعضهم يقول: ليلة السبت في ظن الناس هي ليلة الجمعة).
ا نتهى.
والذي ذكره النحاة في باب التأريخ أن ليلة كل يوم هي التي قبله، لان أول الشهر ليلة، وآخره يوم.
وبذلك صرح أئمتنا الشافعية في غير موضع من كتبهم.
وليلة عرفة وإن تأخرت عن يومها شرعا فذلك في الحكم، وهو مشروعية الوقوف في هذا الوقت المخصوص، ولا يعترض على ما سبق بقوله تعالى: (ولا الليل سابق النهار) لان المفسرين ذكروا فيه معنى غير هذا، فقال مجاهد: (في قضاء الله تعالى وعلمه لا يفوت الليل النهار حتى يدركه فيذهب بظلمته، وفي قضاء الله وعلمه لا يفوت النهار الليل حتى يدركه فيذهب بضوئه).
رواه ابن المنذر.
وقال الضحاك: (لا يذهب الليل من ههنا حتى النهار من ههنا).
رواه ابن أبي حاتم.
وقال البغوي: (أي هما يتعاقبان بحساب معلوم لا يجئ أحدهما قبل وقته).
وقيل لا يدخل أحدهما في سلطان آخر، فلا تطلع الشمس بالليل ولا يطلع القمر بالنهار وله ضوء.
فإذا اجتمعا وأدرك كل واحد منهما صاحبه قامت القيامة، وقيل: لا يتصل ليل بليل ولا يكون بينهما نهار فاصل.
والله أعلم.(3/66)
الباب الخامس في كيفية الاسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم وهل تكرر أم لا
وفيه فصلان: الأول: اعلم أنه لا خلاف في صحة الاسراء به صلى الله عليه وسلم.
إذ هو نص القرآن على سبيل الاجمال، وجاءت بتفصيله وشرح عجائبه أحاديث كثيرة منتشرة عن جماعة من الصحابة يأتي ذكرهم بعد في باب مفرد، وإنما الخلاف في كيفية الاسراء، فاختلف العلماء في ذلك على أقوال: الأول وهو قول الاكثر إنه كان بالروح والجسد معا يقظة لا مناما، من مكة إلى بيت المقدس، إلى السموات العلا إلى سدرة المنتهى إلى حيث شاء العلي الاعلى.
قال القاضي وغيره: (وهو الحق وعليه تدل الاية نصا وصحيح الاخبار إلى السموات استفاضة ولا يعدل عن الظاهر من الاية والاخبار الواردة فيه، ولا ع ن الحقيقة المتبادرة إلى الاذهان من ألفاظهما، إلى التأويل، إلا عند الاستحالة وتعذر حمل اللفظ على حقيقته، وليس في الاسراء بجسده وحال يقظته استحالة تؤذن بتأويل، إذ لو كان مناما لقال: سبحان الذي أسرى بروح عبده، ولم يقل: بعبده، والعبد حقيقة هو الروح والجسد، ويدل عليه قوله تعالى (ما زاغ البصر وما طغى) [ النجم: 17 ] أي ما عدل عن رؤية ما أمر برؤيته من عجائب الملكوت وما جاورها لصراحة ظاهرة في كونه بجسده يقظة لانه أضاف الامر إلى البصر، وهو لا يكون إلا يقظة بجسده بشهادة: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) [ النجم: 18 ].
ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة خارقة للعادة تورث عدم صدقه، وإن كانت رؤيا الانبياء وحيا، إذ ليس فيها من الابلغية وخرق العادة ما فيه يقظة.
وأيضا لو كان مناما لما استبعده الكفار ولا كذبوه، ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به، لبعده عن ساحة العادة، ووقوعه في زمن يستبعد فيه جدا، إذ مثل هذه المنامات لا ينكر، بل لم يكن منهم ذلك الاستبعاد والتكذيب، والارتداد والافتتان إلا وقد علموا أن خبره إنما هو عن جسمه وحال يقظته).
وقد روى البخاري في باب الاسراء من صحيحه، وسعيد بن منصور في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) [ الاسراء: 60 ] هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء.
زاد سعيد: (وليست رؤيا منام).
قال الحافظ: (إضافة الرؤية للعين للاحتراز عن رؤيا القلب.
وقد أثبت الله تعالى رؤيا القلب في القرآن بقوله: (ما كذب الفؤاد ما رأى) [ النجم: 11 ]، ورؤية العين بقوله: (ما زاغ البصر وما طغى) [ النجم: 17 ].
وأما ما رواه ابن مردويه عن طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الاية قال: (رأى أنه وصل مكة وأصحابه.
فلما رده المشركون كان(3/67)
لبعض الناس في ذلك فتنة).
وما رواه ابن مردويه عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، رفعه قال: (رأيت كأن بني أمية يتعاورون منبري هذا)، فقال: (هي (دنيا تنالهم)، ونزلت هذه الاية، فكلاهما إسناد ضعيف والصحيح ما تقدم، وجزم بما قاله ابن عباس إنها رؤيا عين ليلة الاسراء مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ومسروق وإبراهيم وقتادة وعبد الرحمن ابن زيد وغير واحد.
تنبيه: قال ابن دحية: (جنح البخاري إلى أن ليلة الاسراء كانت غير ليلة المعراج لانه أفرد لكل منهما ترجمة) قال الحافظ: (ولا دلالة في ذلك على التغاير عنده، بل كلامه في أول الصلاة ظاهر في اتحادهما، وذلك أنه ترجم باب: كيف فرضت الصلاة ليلة الاسراء، والصلاة إنما فرضت في المعراج، فدل على اتحادهما عنده، وإنما أفرد كلا منهما بترجمة لان كلا منهما يشتمل على قصة منفردة وإن كانا وقعا معا.
القول الثاني: إن الاسراء كان بالجسد يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح، ذهب إلى هذا طائفة واحتجوا بقوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى) [ الاسراء: 10 ] فجعل المسجد الاقصى غاية للاسراء الذي وقع التعجب فيه من حيث أنه كان في بعض ليلة.
والتعجب فيه من الكفار تعجب استحالة، ومن المؤمنين تعجب تعظيم القدرة الباهرة.
ووقع التمدح بتشريف النبي صلى الله عليه وسلم، وإظهار الكرامة
له بالاسراء إليه.
ولو كان الاسراء إلى مكان زائد على المسجد الاقصى لذكره تعالى فيكون ذكره أبلغ في المدح من عدم ذكره فيه.
وأجاب الائمة عن ذلك بأن استدرجهم إلى الايمان بذكر الاسراء أولا، فلما ظهرت أمارات صدقه، وصحت لهم براهين رسالته، واستأنسوا بتلك الاية الخارقة، أخبرهم بما هو أعظم منها، وهو المعراج، فحدثهم النبي صلى الله عليه وسلم به، وأنزله الله تعالى في سورة النجم.
ويؤيد وقوع المعراج عقب الاسراء في ليلة واحدة رواية ثابت عن أنس رضي الله عنه عند مسلم: (أتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس)، فذكر القصة إلى أن قال: (ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا) وحديث أبي سعيد الخدري: بالخاء المعجمة المضمومة وبالدال المهملة.
عند ابن إسحق: (فلما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج).
فذكر الحديث.
القول الثالث: إن الاسراء كان بالروح وإنه رؤيا منام، مع اتفاقهم أن رؤيا الانبياء وحي بشهادة: (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك) [ الصافات: 102 ]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (الانبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم) (1).
__________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري 6 / 670 (3570).
(*)(3/68)
واحتج من قال بهذا القول بقوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) [ الاسراء: 60 ] ولو كان يقظة لقال: (الرؤية) بالتاء، وقول أنس في حديثه في رواية شريك: (وهو نائم بالمسجد الحرام).
وذكر القصة الواردة ليلة الاسراء، ثم قال في آخرها: (استيقظت - أي انتبهت - من منامي وأنا في المسجد الحرام).
وهذا المذهب يعزى لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فإن ابن اسحاق قال: (حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الاخنس أن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كانت رؤيا من الله تعالى صادقة).
ويعقوب وإن كان ثقة إلا أنه لم يدرك معاوية فالحجة منقطعة.
ويعزى أيضا إلى عائشة رضي الله عنها، قال ابن إسحق: (حدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقول: (ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أسري بروحه).
كذا فيما وقفت عليه من نسخ السيرة (فقد) بالبناء للمفعول.
وفي الذي وقفت عليه من نسخ الشفا للقاضي (ما فقدت) بالبناء للفاعل وإسناد الفعل إلى تاء المتكلم.
وأجيب عن الأول بأن (الرؤيا) قد تكون بمعنى (الرؤية) في اليقظة كما نقله أبو الخطاب ابن دحية عن ابن عباس.
قال الشيخ السهيلي في الروض: (وأنشدوا للراعي يصف صائدا: وكبر للرؤيا وهش فؤاده * وبشر قلبا كان جما بلابله وقوله: (إلا فتنة للناس) [ الاسراء: 60 ] يدل على أنها رؤية عين، وإسراء شخص، إذا ليس في الحلم فتنة للناس من تعجبهم تعجب استحالة، حتى ارتد كثير ممن آمن.
وقال الكفار: (يزعم محمد أنه أتى بيت المقدس ورجع إلى مكة في ليلته، والعير تطرد إليها شهرا مقبلة وشهرا مدبرة.
ولو كانت رؤيا نوم لم يستبعد أحد منهم هذا، فمعلوم أن النائم قد يرى نفسه في السماء وفي المشرق وفي المغرب فلا يستبعد منه ذلك، ويؤيد كونها يقظة ما ورد من شربه تلك الليلة الماء الذي كان لسفار قريش، وضعوه في بعض مراحلهم في قدح وغطوه، فأصبحوا ولا ماء فيه، فعجبوا لذلك.
وإرشاد أصحاب العير الذين ند بعيرهم حين أنفره حس البراق حتى دلهم عليه، فأخبر أهل مكة بأمارة ذلك، حتى ذكر الغرارتين السوداء والبرقاء، ووعده لقريش بقدوم العير التي أرشد أصحابها إلى بعيرهم وشرب مائهم أن يقدموا يوم الاربعاء).
كما سيأتي بيان ذلك مبسوطا في القصة.
وهذا كله لا يكون إلا يقظة وقد تقدم في القول الأول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الاية: هذه رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء فراجعه.(3/69)
وأجيب عن الثاني وهو قوله: (بينا أنا بين النائم واليقظان، ثم استيقظت) بأنه لا حجة
في ذلك إذ يحتمل قوله (بين النائم واليقظان) إلى آخره أنه أول وصول الملك كان وهو نائم بشهادة حديث الحسن: (بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهزني بعقبه، فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي)، إلى أن قال: (فجرني إلى باب المسجد فإذا أنا بدابة) أو أنه محمول على ابتداء الحال، ثم لما خرج إلى باب المسجد، فأركبه البراق فاستمر في يقظته.
وليس في الحديث أنه كان نائما في القصة كلها.
وأما قوله: (ثم استيقظت وأنا بالمسجد الحرام)، قال الحافظ: (إن قيل بالتعدد فلا إشكال وإلا حمل على أن معناه أفقت أي أفاق مما كان فيه من شغل البال بمشاهدة عجائب الملكوت ورجع إلى العالم الدنيوي فلم يرجع إلى عالم البشرية إلا وهو بالمسجد الحرام).
قال ابن كثير: (ويؤيد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه يستغرق فيه فإذا انتهى رجع إلى حالته الاولى، فكني عنه بالاستيقاظ كما في حديث عائشة، حين ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فكذبوه، قال: (فرجع ت وأنا مهموم فلم أستفق إلا بقرن الثعالب) أي وهو مكان.
وفي حديث أبي أسيد - بضم الهمزة وفتح المهملة - حين جاء بابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكه، فوضعه على فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واشتغل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث مع الناس.
فرفع أبو أسيد ابنه ثم استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجد الصبي فسأل عنه فقالوا (رفع) فسماه المنذر أحد رواته استيقاظا.
وهذا الحمل أحسن من تغليط شريك.
تنبيه: قال بعضهم إنه صلى الله عليه وسلم كان تلك الليلة نائم العين حاضر القلب، غمض عينيه لئلا يشغله شئ من المحسوسات عن الله.
قال القاضي: (هذا غير صحيح الن المقام مشاهدة عجائب الملكوت بشهادة قوله تعالى: (لنريه من آياتنا) [ الاسراء: 1 ]، (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) [ النجم: 18 ]، إذ المتبادر منه رؤية العين، ولا يصح أيضا أن تكون في وقت صلاته بالانبياء.
وأما ما يعزى لعائشة رضي الله عنها، فلم يرد بسند يصلح للحجة بل في سنده انقطاع وارد مجهول كما تقدم.
وقال أبو الخطاب بن دحية في التنوير: إنه حديث موضوع عليها.
وقال في معراجه الصغير: (قال إمام الشافعية القاضي أبو العباس بن سريج: هذا حديث لا يصح وإنما وضع ردا للحديث الصحيح).
انتهى.
وعلى تقدير أن يكون صحيحا ورد بالبناء للمفعول فعائشة رضي الله عنها لم تحدث عن مشاهدة لانها لم تكن زوجة إذ ذاك، أو بالبناء للفاعل: (ما فقدت جسده الشريف) فعائشة لم يدخل بها إلا بالمدينة بالاجماع، ولا كانت وقت الاسراء في سن من يضبط الامور، لانها في سنة الهجرة كانت بنت ثمانس نين.
فعلى القول بأن الاسراء كان قبلها بسنة تكون بنت سبع،(3/70)
وعلى القول بأكثر من ذلك تكون أصغر من ذلك، وعلى قول من قال: إن الاسراء كان بعد البعث بعام لم تكن ولدت.
تنبيه: قال في زاد المعاد: (ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الاسراء مناما وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم.
وعائشة ومعاوية لم يقولا: كان مناما، وإنما قالا: الاسراء بروحه ولم يفقد جسده.
وفرق بين الامرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة، فيرى كأنه عرج به إلى السماء، أو ذهب به إلى مكة أو أقطار الارض، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، والذين قالوا: عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان: طائفة قالت عرج بروحه وبدنه، وطائفة قالت عرج بروحه ولم يفقد بدنه.
وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناما وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري وعرج بها حقيقة وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة.
وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة في صعودها إلى السموات سماء سماء، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فتقف بين يدي الله تعالى فيأمر فيها بما يشاء، ثم تنزل إلى الارض).
(والذي كان برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة.
ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم.
لكن لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام خرق العوائد، حتى شق بطنه وهو حي لا يتألم بذلك، عرج بذات روحه المقدسة حقيقة من غير إماتة.
ومن
سواه: لا ينال بذات روحه الصعود إلى السماوات إلا بعد الموت والمفارقة، إلى آخر كلامه، وسيأتي بتمامه في باب حياته صلى الله عليه وسلم في قبره.
الفصل الثاني: في تكرره: ذهب جماعة منهم الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشهير بأبي شامة رحمه الله تعالى إلى أن الاسراء وقع مرارا، واحتج بما رواه سعيد بن منصور، والبزار، والبيهقي، وابن عساكر عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم إذ جاء جبريل عليه السلام فوكز بين كتفي، فقمت إلى شجرة فيها مثل وكري الطير، فقعد جبريل في أحدهما وقعدت في الاخر، فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين، وأنا أقلب طرفي، فلو شئت أن أمس السماء لمسست وفتح لي باب من أبواب السماء فرأيت النور الاعظم، وإذا دون الحجاب رفرف الدر والياقوت، وفي رواية فدلي بسبب وهبط النور فوقع جبريل مغشيا عليه كأنه حلس، فعرفت فضل خشيته على خشيتي، فأوحى الله تعالى إلي ما شاء أن يوحي، وفي رواية: فأوحى إلي نبيا ملكا أو نبيا عبدا وإلى الجنة ما أنت، فأومأ إلي جبريل وهو مضطجع: أن تواضع.
قال.
قلت: لا بل نبيا عبدا.(3/71)
شرح غريب ما سبق (وكز) (1) ضرب برفق.
(وكري (2) الطائر) تثنية بفتح الواو وهو عش الطائر إن كان في جبل أو شجر، والمراد هنا بيتان شبيهان بعشه في الهيئة والوضع لا في المقدار.
(نمت) زادت.
(الخافقان) طرفا السماء والارض أو المشرق والمغرب وخوافق السماء جهاتها التي تهب منها الرياح الاربع.
(لمسست) بكسر أول سينيه وفتحها وقد يخفف وتنقل حركتها إلى الميم وقد تترك الميم مفتوحة.
(أقلب طرفي) حال من الضمير قبله أي مقلبا بصري في آيات الله في الافاق.
(حلس) (3) بكسر الحاء والسين المهملتين: كساء يلي ظهر الدابة تحت الرحل يشبه به من لزم شيئا من خشية أو نحو ذلك.
(ا لسبب) في الاصل الذي يتوصل به إلى الماء ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى شئ.
قال الحافظ: (وحديث أنس السابق رجاله لا بأس بهم إلا أن الدار قطني ذكر له علة تقتضي إرساله.
وعلى كل حال فهي قصة أخرى، الظاهر أنها وقعت بالمدينة، قال ولا بعد في وقوع مثل ذلك في المنام، وإنما المستغرب وقوع التعدد في قصة المعراج التي وقع فيها السؤال عن كل نبي وسؤال أهل كل سماء: هل بعث إليه ؟ وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك، فإن تعدد مثل ذلك في اليقظة لا يتجه، فيتعين رد بعض الروايات المختلفة إلى بعض والترجيح، إلا أنه لا بعد في وقوع جميع ذلك في المنام، ثم وقوعه في اليقظة على وفقه ولهذا مزيد بيان في الباب الثامن.
وذهب جماعة منهم المهلب شارح البخاري، وحكاه عن طائفة، وأبو نصر القشيري، والبغوي، والسهيلي، ونقل تصحيحه عن شيخه القاضي أبي بكر العربي، وجزم به النووي في فتاويه أن الاسراء وقع مرتين: مرة في النوم ومرة في اليقظة.
قالوا: (وكانت مرة النوم توطئة له وتيسيرا عليه، كما كان في بدء نبوته الرؤيا الصادقة، ليسهل عليه أمر النبوة، فإنه أمر عظيم
__________
(1) انظر لسان العرب 6 / 4906.
(2) المعجم الوسيط 2 / 353.
(3) اللسان 2 / 961.
(*)(3/72)
تضعف عنه القوى البشرية، وكذلك الاسراء سهله عليه الرؤيا لان هوله عظيم، فجاء في اليقظة على توطئة وتقدمة رفقا من الله تعالى بعبده وتسهيلا عليه).
قال الحافظ: (ومن المستغرب قول ابن عبد السلام في تفسيره: إن الاسراء كان في
النوم واليقظة ووقع بمكة والمدينة، فإن كان يريد تخصيص المدينة بالنوم ويكون كلامه على طريق اللف والنشر غير المرتب فيحتمل، ويكون الاسراء الذي اتصل بالمعراج وفرضت فيه الصلاة بمكة، والاخر في المنام بالمدينة، وينبغي أن يزاد فيه أن الاسراء في المنام تكرر بالمدينة النبوية.
ففي الصحيح في الجنائز حديث سمرة الطويل، وفي غيره حديث عبد الرحمن بن سمرة الطويل، وفي الصحيح حديث ابن عباس رضي الله عنهما في رؤيا الانبياء، وحديث ابن عمر في ذلك.
قلت وسيأتي في باب مناماته صلى الله عليه وسلم ما فيه مقنع.(3/73)
الباب السادس في دفع شبهة أهل الزيغ في استحالة المعراج
اعلم أن الاسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخالف في وقوعه أحد من المسلمين، وإنما طعن فيه أهل الزيغ بشبه باطلة.
وقد تصدى الامام الرازي وغيره للرد عليهم، وأنا مورد تلك الشبه ثم أتبعها بالرد.
قال أهل الزيغ والضلالة قبحهم الله تبارك وتعالى: (الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة، ولو صعد إلى السموات لوجب خرق الافلاك، وذلك محال، وصعود الجرم الثقيل إلى السموات غير مقبول، ولان هذا المعنى لو صح لكان أعظم من سائر معجزاته، وكان يجب أن يظهر ذلك عند اجتماع الناس حتى يستدلوا به على صدقه من ادعاء النبوة، فأما أن يحصل ذلك في وقت لا يراه فيه أحد ولا يشاهده فإن ذلك يكون عبثا لا يليق بالحكيم).
وأجيب عن الأول أن الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد ممكنة في نفسها، والله قادر على ذلك، ويدل على صحته أن الفلك الاعظم يتحرك من أول الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدور، وثبت في الهندسة أن نسبة القطر إلى الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة وسبع فبتقدير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتفع من مكة إلى ما فوق الفلك الاعظم فهو لم يتحرك إلا إلى
مقدار نصف القطر.
فلما حصل في ذلك القدر من الزمان نصف الدور كان حصول الحركة بمقدار نصف القطر أولى بالامكان، فهذا برهان قاطع على الارتفاع من مكة إلى ما فوق العرش في مقدار ثلث الليل وأنه أمر ممكن في نفسه.
وإذا كان كذلك كان حصوله في كل الليل أولى بالامكان.
وأيضا ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الارض مائة وستين مرة، ثم أنا نشاهد طلوع القرص يحصل في زمان لطيف سريع، فدل على أن بلوغ الحركة في السرعة إلى هذا الحد أمر ممكن في نفسه.
فإن كان الكلام مع من لا يعرف الهندسة فنقول له: أنت تشاهد الشمس والقمر والنجوم تقطع من الشروق إلى الغروب مسافة لا يقدر على قطعها في أعوام كثيرة.
وأيضا كانت الرياح تسير لسليمان بن داود عليهما السلام إلى المواضع البعيدة في الاوقات اليسيرة، قال الله تعالى: (غدوها شهر ورواحها شهر) [ سبأ: 12 ]، والحس يدل على ذلك وهو أن الرياح تنفذ عند شدة هبوبها من مكان إلى مكان آخر في غاية البعد في اللحظة الواحدة.
وقد أحضر الذي عنده علم من الكتاب كرسي بلقيس من أقصى اليمن إلى(3/74)
أرض الشام في أقل من لمح البصر.
والاجسام متماثلة في تمام ماهياتها، فلما حصل مثل هذه الحركة في حق بعض الاجسام وجب إمكان حصولها في سائر الاجسام، فهي ممكنة والله تعالى قادر على حصولها في جسد النبي صلى الله عليه وسلم.
والجواب عن الثاني: وهو خرق الافلاك فليس بمحال وقد منعه النفاة للجنة والنار.
قال الشيخ سعد الدين: (ادعاء استحالة المعراج باطل، لانه إنما ينبنى على أصول الفلاسفة من امتناع الخرق والالتئام على السموات، وإلا فالخرق والالتئام على السموات واقع عند أهل الحق، والاجسام العلوية والسفلية متماثلة مركبة من الجواهر الفردة المتماثلة، يصح على كل من الاجسام ما يصح على الاخر ضروة التماثل المذكور، فإذا أمكن خرق الاجسام السفلية
أمكن خرق الاجسام العلوية والله قادر على الممكنات كلها، فهو قادر على خرق السموات وقد ورد به السمع فيجب تصديقه).
والجواب عن الثالث: فكما أنه يستبعد صعود الجسم الكثيف يستبعد نزول الجسم اللطيف الروحاني من العرش إلى مركز العالم.
فإن كان القول بمعراج النبي صلى الله عليه وسلم في الليلة الواحدة ممتنعا كان القول بنزول جبريل عليه السلام من العرش إلى مكة في اللحظة الواحدة ممتنعا كذلك، ولو حكمنا بهذا الامتناع كان ذلك طعنا في نبوة جميع الانبياء عليهم الصلاة والسلام والقول بثبوت المعراج فرع على تسلم جواز أصل النبوة، فيلزم القائل بامتناع حصول هذه الحركة امتناع نزول جبريل عليه السلام.
ولما كان ذلك باطلا، كان ما ذكروه باطلا.
والجواب عن الرابع: إن في كونه ليلا فوائد منها: ليزداد الذين آمنوا إيمانا بالغيب، ويفتتن الذين كفروا زيادة على فتنتهم، وقد قال الله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) [ الاسراء: 60 ]، ومنها أنه وقت الخلوة والاختصاص عرفا، فإن بين جليس الملك نهارا وجليسه ليلا فرقا واضحا، والخصوصية لليل، ورحم الله من قال: الليل لي ولا حبائي أنادمهم * قد اصطفيتهم كي يسمعوا ويعوا وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالعلامات التي تفيد اليقين من وصف بيت المقدس ووصف العير التي مر بها في طريقه، وأنها تصل إليهم في وقت كذا، فكان كما ذكر كما سيأتي مفصلا.
ومع ذلك قالوا: (هذا سحر مبين) [ الاحقاف: 7 ].
فلا فرق بين أن يريهم ذلك نهارا وأن يخبرهم بخبر يفيد اليقين، وقد أراهم انشقاق القمر فقالوا: هذا: (سحر مستمر) [ القمر: 4 ].(3/75)
الباب السابع في أسماء الصحابة الذين رووا القصة عن النبي صلى الله عليه وسلم
أبي بن كعب رضي الله عنه، رواه عنه ابن مردويه من طريق عبيد بن عمير، ومن طريق
مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما مختصرا، وعبد الله بن الامام أحمد في زوائد المسند، وابن مردويه وابن عساكر بلفظ حديث أنس عن أبي ذر حرفا بحرف.
قال الحافظ في أطراف المسند: (إنه وقع تحريف وكان في الاصل: (عن أبي ذر فسقط من النسخة لفظة (ذر) فظن أن (أبي) [ هي ] (أبي)، فأدرج في مسند أبي بن كعب غلطا).
قلت، نبه الدارقطني في العلل على أن الوهم فيه من أبي ضمرة أنس بن عياض.
وأسامة بن زيد، ذكره أبو حفص النسفي في تفسيره ولم أقف على حديثه.
وأنس بن مالك فروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير واسطة رواه عنه الامام أحمد ومسلم من طريق ثابت البناني.
والشيخان من طريق شريك بن عبد الله، وابن مردويه من طريق كثير بن خنيس - بضم الخاء المعجمة وفتح النون وسكون المثناة التحتية فسين مهملة - والنسائي، وابن مردويه من طريق يزيد بن أبي مالك وابن أبي حاتم من وجه آخر.
وابن جرير وابن مردويه والبيهقي من طريق عبد الرحمن بن هاشم (1)، وروي من طريق عبد العزيز بن صهيب (2)، والطبراني من طريق ميمون بن سياه (3) - بكسر السين المهملة بعدها مثناة تحتية - وابن جرير من طريق أبي سلمة بن سليم وابن مردويه من طريق أبي هاشم عن على بن زيد وعن ثمامة - بضم المثلثة وله، وابن سعد وسعيد بن منصور، والبزار عن أبي عمران الجوني - بفتح الجيم - وعند بعض هؤلاء ما ليس عند الاخر.
وبريدة - بضم أوله وفتح الراء وسكون المثناة التحتية - ابن الحصيب - بحاء مضمومة فصاد مفتوحة مهملتين - رضي الله عنه، ورواه الترمذي والحاكم وصححه، وبلال بن حمامة وبلال بن سعد ذكرهما أبو حفص النسفي.
وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما رواه الشيخان ورواه الطبراني وابن مردويه بلفظ آخر بسند صحيح.
وحذيفة بن اليمان رضى الله عنه رواه ابن
__________
(1) عبد الرحمن بن يونس بن هاشم، أبو مسلم المستملي، البغدادي، مولى المنصور، صدوق، طعنوا فيه للرأي، من العاشرة، مات سنة أربع وعشرين، أو بعدها.
التقريب 1 / 503.
(2) عبد العزيز بن صهيب البناني، البصري، ثقة: مات سنة ثلاثين.
التقريب 1 / 510.
(3) ميمون بن سياه، أبو بحر البصري.
كان أسن من الحسن البصر، وثقه أبو حاتم، والبخاري.
وقال أبو داود: ليس بذاك.
وضعفه يحيى بن معين.
ميزان الاعتدال 4 / 233.
(*)(3/76)
أبي شيبة وأحمد والترمذي وصححه وسمرة بن جندب رضي الله عنه رواه ابن مردويه.
وسهل بن سعد رضي الله عنه رواه ابن عساكر، وشداد بن أوس رضي الله عنه رواه البزار والطبراني والبيهقي وصححه.
وصهيب بن سنان رضي الله عنه رواه الطبراني وابن مردويه وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما رواه الامام أحمد وأبو نعيم وابن مردويه من طريق قابوس - بالقاف والموحدة - عن أبيه بسند صحيح.
والامام أحمد وأبو يعلى من طريق عكرمة.
والشيخان من طريق أبي العلية ومن طريق عكرمة.
والامام أحكم دو النسائي والبزار بسند صحيح عن طريق سعيد بن جبير.
والامام أحمد وابن أبي شيبد والبزار بسند صحيحمن طريق زرارة بن أوفي، وهذه الطرق كلها مختصرة.
وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما رواه أبو داود والبيهقي.
وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما رواه ابن سعد وابن عساكر.
وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
وعبد الله بن أب أوفى رضي الله عنهما ذكرهما أبو حفص النصفي.
وعبد الله بن أسعد بن زرارة رضي الله عنهما رواه البزار والبغوي وابن قانع كلاهما في معجم الصحابة.
وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه رواه مسلم من طريق مرة، وابن عرفة من طريق أبيه عن عبيد الله.
والامام أحمد وابن ماجه من طريق موثر - ببضم الميم وسكون الواو وكسر المثلثد - ابن عفازة بفتح المهملة والفاء ثم زاي - الكوفي.
والبزار وأبو يعلى والطبراني من طريق علقمة، والبيهقي من طريق زر - بكسر الزاي وبالراء - ابن جبيش - بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية وبالشين المعجمة.
وعبد الرحمن بن عابس (1)، ذكره ابن دحية في التنوير، والعباس بن عبد المطلب، وعثمان بن عفان رضي الله عنه ذكره أبو حفص النسفي.
وعلي بن أبي
طالب رضي الله عنه رواه الإمام أحمد وابن مردويه.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه رواه الإمام أحمد وابن مردويه.
وأنس بن عياض ذكره ابن دحية.
ومالك بن صعصعة رضي الله عنه رواه عنه الإمام أحمد والشيخان ابن جرير والبيهقي وغيرهم.
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ذكره ابن حية.
وأبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه رواه الشيخان في أثناء حديث أبي بن كعب.
وأبو الحمراء رضي الله عنه رواه الطبراني.
وأبو الدرداء رضي الله عنه ذكره أبو حفص النسفي.
وأبو ذر الغفاري رضي الله عنه رواه الشيخان.
وأبو سعيد الخدري - بضم الخاء
__________
(1) عبد الرحمن بن عابس بن ربيعة النخعي، الكوفي، ثقة، مات سنة تسع وعشرة.
التقريب 1 / 485.
(*)(3/77)
المعجمة والدال المهملة - رضي الله عنه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق أبي هارون العبدي (1) وهو متكلم فيه.
وقد روى البيهقي عن أبي الأزهر قال: حدثنا زيد بن أبي حكيم قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم، فقلت: يا رسول الله أين رجل من أمتك يقال له سفيان الثوري لا بأس به ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا بأس به.
حدثنا عن أبي هريرة عن أبي سعيد الخدري عنك أنك ليلة أسري بك قلت: رأيت في السماء، فحدثته بالحديث، فقال: نعم.
فقلت: يا رسول الله إن ناسا من أمتك يحدثون عنك في الإسراء العجائب.
فقال: ذلك حديث القصاص ".
وأبو سفيان بن حرب رضي الله عنه ذكره أبو حفص النسفي، وأبو سلمة بن دحية وأبو سلمى راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره أبو حفص النسفي.
وأبو ليلى الأنصاري رضي الله عنه رواه الطبراني وابن مردويه.
وأبو هريرة رضي الله عنه رواه مطولا ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي والحاكم وصححه من طريق أبي العالية، وفي سنده أبو جعفر الرازي وهو صدوق الحفظ، ومختصرا الشيخان من طريق سعيد بن المسيب، والإمام أحمد ومسلم من طريق أبي سلمة.
والإمام أحمد وابن ماجه عن طريق أبي الصلت.
وابن مردويه عن طريق سليمان التيمي.
وابن
سعد وسعيد بن منصور والطبراني من طريق مولاه.
وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها رواه ابن مردويه.
وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنه رواه الحاكم وصححه والبيهقي وابن مردويه من طريق الزهري عن عروة عنها.
وابن مردويه من طريق هشام عن أبيه عنها.
وأم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها ذكره أبو حفص النسفي.
وأم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها رواه أبو سعيد وابن عساكر.
وأم هانئ رضي الله عنها رواه الطبراني وأبو يعلى وابن عساكر عن طريق أبي صالح وابن إسحق بلفظ آخر.
والله أعلم.
__________
(1) عمارة بن جوين، أبو هارون العبدي.
تابعي لين بمرة.
كذبه حماد بن زيد.
وقال أحمد: ليس بشئ، وقال ابن معين: ضعيف، لا يصدق في حديثه.
وقال النسائي: متروك الحديث قال الجوزجاني: أبو هارون كذاب مفتر.
توفي سنة أربع وثلاثين ومائة.
ميزان الاعتدال 3 / 173، 174.
(*)(3/78)
الباب الثامن في سياق القصة
اعلم رحمني الله وإياك أن في حديث كل من الصحابة السابق ذكرهم في الباب السابع ما ليس في الآخر، فاستخرت الله تعالى وأدخلت حديث بعضهم في بعض ورتبت القصة على نسق واحد، لتكون أحلى في الآذان الواعيات، وليعم النفع بها في جميع الحالات.
فإن قلت إن أحاديث المعراح كل حديث منها مخالف للآخر.
فقد يكون المعراج تعدد بعددها فلم جعلت الكل قصة واحدة ؟ فأقول: قال في " زاد المعاد ": " هذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الرواة جعلوه مرة أخرى فكلما اختلفت عليهم الرواة عددوا هم الوقائع والصواب الذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة، ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه وقع مرارا كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا، ثم يقول: " أمضيت فريضتي
وخففت عن عبادي " ثم يعيدها في المرة الثانية خمسين ثم يحطها عشرا عشرا ؟.
قال الحافظ عماد الدين بن كثير رحمه الله تعالى في تاريخه، بعد أن ذكر أنه لم يقع في سياق مالك بن صعصعة ذكر بيت المقدس: " وكان بعض الرواة يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه، أو يذكر ما هو الأهم عنده، أو ينشط تارة فيسوقه كله، وتارة يحدث مخاطبه بما هو الأنفع له " " ومن جعل كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب وهرب إلى غير مهرب ولم يحصل على مطلب "، " وذلك أن كل السياقات فيها تعريفه بالأنبياء، وفي كلها تفرض عليه الصلوات، فكيف يدعى تعدد ذلك ؟ هذا في غاية البعد "، " ولم ينقل ذلك عن أحد من السلف ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به أمته ولنقله الناس على التكرار ".
انتهى.
وقال الحافظ في الفتح نحوه وزاد: " ويلزم أيضا وقوع التعدد في سؤاله صلى الله عليه وسلم عن كل نبي وسؤال أهل كل باب: هل بعث إليه ؟ وفرض الصلوات الخمس وغير ذلك، فإن تعدد مثل ذلك في القصة لا يتجه، فيتعين رد بعض الروايات المختلفة إلى بعض أو الترجيح إلا أنه لا يعد وقوع مثل ذلك في المنام توطئة ثم وقوعه يقظة ".
انتهى ملخصا.
إذا علم ما تقرر فأقول: " بينما النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت في الحجر، إذ أتاه جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر، فقال أولهم: أيهم ؟ فقال أوسطهم هو خيرهم.
فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى ليلة أخرى.
فقال الأول: هو هو.
فقال الأوسط: نعم، وقال الآخر: خذوا سيد القوم(3/79)
الأوسط بين الرجلين.
فرجعوا عنه حتى إذا كانت الليلة الثالثة، رآهم، فقال الأول: هو هو، فقال الأوسط: نعم، وقال الآخر: خذوا سيد القوم الأوسط بين الرجلين.
فاحتملوه حتى جاءوا به زمزم، فألقوه على ظهره فتولاء منهم جبريل ".
وفي رواية: " فرج سقف بيتي، فنزل جبريل، فشق من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه، ثم قال جبريل لميكائيل: ائتيني بطست من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح صدره، فاستخرج قلبه،
فغسله ثلاث مرات، ونزع ما كان فيه من أذى، واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسوت من ماء زمزم، ثم أتى بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغه في صدره، وملأه حلما وعلما ويقينا وإسلاما.
ثم أطبقه ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة، ثم أتي بالبراق مسرجا ملجما، وهو دابة أبيض، طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، مضطرب الأذنين، إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه، له جناحان في فخذيه يحفز بهما رجليه ".
وعند الثعلبي بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما: " له خد كخد الإنسان وعرف كعرف الفرس وقوائم كالإبل وأظلاف وذنب كالبقر ".
انتهى.
" فاستصعب عليه " وفي رواية " فشمس (1)، وفي رواية كأنها صرت (2) أذنيها فرزها جبريل وقال: مه أبمحمد تفعلين هذا ؟ " وفي رواية: " فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال: " ألا تستحي يا براق ؟ فوالله ما ركبك خلق " - وفي رواية - عبد لله قط أكرم على اللن منه.
فاستحى حتى ارفض عرقا، وقر حتى ركبها " - وفي رواية - ركبه.
وكانت الأنبياء تركبها قبله ".
وقال أنس بن مالك: " كانت الأنبياء تركبها قبله ".
وقال سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن: " وهي دابة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام ".
فانطلق به جبريل - وفي رواية - فانطلقت مع جبريل - وعند أبي سعيد النيسابوري في الشرف: فكان الآخذ بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل - وفي رواية: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره.
فساروا حتى بلغوا أرضا ذات نخل.
فقال له جبريل: انزل فصل ههنا ففعل، ثم ركب، فقال له جبريل: أتدري أين صليت ؟ قال: لا.
قال: صليت بطيبة وإليها المهاجر.
فانطلق البراق يهوي به، يضع حافره حيث أدرك طرفه.
فقال جبريل: انزل فصل، ففعل.
ثم ركب.
فقال جبريل: أتدري أين صليت ؟ قال: لا.
قال: صليت بمدين عند شجرة
__________
(1) شمس الدابة شموسا، وشماسا: جمحت ونفرت.
انظر المعجم الوسيط 1 / 496.
(2) ضر الفرس والحمار بأذنه يصر صرا وصرها، وأصر بها: سواها ونصبها للاستماع.
انظر لسان العرب 4 / 2430.
(*)(3/80)
موسى.
ثم ركب.
فانطلق البراق يهوي.
ثم قال: انزل فصل.
ففعل.
ثم ركب.
فقال: أتدري أين صليت ؟ قال: لا.
قال: صليت بطور سينا حيث كلم الله موسى.
ثم بلغ أرضا بدت له قصورا.
فقال له جبريل: انزل فصل.
ففعل، ثم ركب وانطلق البراق يهوي.
فقال له جبريل: أتدري أين صليت ؟ قال: لا.
قال: صليت ببيت لحم، حيث ولد عيسى.
وبينا هو يسير على لبرق إذ رأى عفريتا من الجن، يطلبه بشعلة من نار، كلما التفت رآه.
فقال له جبريل: ألا أعلمك كلمات تقولهن، فإذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، فقال جبريل: " قل أعوذ بوجه الله الكريم، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن برو ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن ".
فانكب لفيه وانطفأت شعلته.
فساروا حتى أتوا على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان فقال: يا جبريل ما هذا ؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف، وما أتفقوا من شئ فهو يخلفه.
ووجد ريحا طيبة، فقال: يا جبريل ما هذه الرائحة ؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها، بينا هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط، فقالت: بسم الله، تعس فرعون.
فقالت ابنة فرعون: أو لك رب غير أبي ؟ قلت: نعم، ربي وربك الله.
وكان للمرأة ابنان زوج فأرسل إليهم فراود المرأة وزوجها إن يرجعا عن دينهما، فقال: إني قاتلكما، فقالا: إحسانا منك كإن قتلتنا أن تجعلنا في بيت - وفي رواية قالت: إن لي إليك حاجة.
قال: وما هي ؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي، فتدفنا جميعا.
قال: ذلك لك بما لك علينا من الحق، فأمر بنقرة من نحاس فأحميت، ثم أمر بها لتلقى فيها هي وأولادها، فألقوا واحدا واحدا، حتى بلغوا أصغر رضيع فيهم، فقال: يا أمه قعي ولا تقاعسي فإنك على الحق.
قال: وتكلم أربعة وهم صغار: هذا وشاهد يوسف وصاحب جريح وعيسى
ابن مريم عليه السلام.
ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم، كلما رضخت عادت كما كانت.
ولا يفتر عنهم من ذلك شئ.
فقال: يا جبريل من هؤلاء ؟ فقال: هؤلاء الذين تتشاغل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة.
ثم أتى على قوم أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الإبل والغنم، ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها.
فقال: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم، وما ظلمهم الله شيئا، ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدور، ولحم آخر نيئ خبيث، فجعلوا يأكلون من النيئ الخبيث ويدعون النضيج.
فقال: ما هذا يا جبريل ؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب، فيأتي(3/81)
امرأة خبيثة، فيبيت عندها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا، فتأتي رجلا خبيثا فتبيت معه حتى تصبح.
ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب ولا شئ إلا خرفته.
فقال: ما هذا يا جبريل ؟ فقال: هذا مثل أقوام من أمتك يعقدون على الطريق فيقطعونه، وتلا: (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) (الأعراف: 76) ورأى رجلا يسبح في نهر من دم، يلقم الحجارة، فقال: من هذا ؟ قال: آكل الربا.
وأتى على قوم قد جمع الرجل منهم حزمة عظيمة لا يستطيع حملها، وهو يزيد عليها، فقال: ما هذا يا جبريل ؟ قال: هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها، ويريد أن يتحمل عليها.
ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عاد، لا يفتر عنهم من ذلك شئ، فقال: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة من أمتك يقولون ما لا يفعلون.
ومر بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقال: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم.
وأتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم، فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج
فلا يتسطيع، فقال: ما هذا يا جبريل ؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها.
وأتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة كريح المسك، وسمع صوتا، فقال: يا جبريل ما هذا ؟ قال: هذا صوت الجنة تقول: يا رب إيتني بما وعدتني، فقد كثرت غرفي واستبرقي وحريري وسندسي، وعبقري (1) ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي، وأكوابي وصحافي وأباريقي ومراكبي وعسلي ومائي، ولبني وخمري.
قال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة، ومن آمن بي وبرسلي، وعمل صالحا، ولم يشرك بي، ولم يتخذ من دوني أندادا، ومن خشيني فهو آمن، ومن سألني أعطيته، ومن أقرضني جزيته، ومن توكل علي كفيته، إني أنا الله لا إله إلا أنا، لا أخلف الميعاد، وقد أفلح المؤمنون، وتبارك الله أحسن الخالقين.
قالت: قد رضيت.
وأتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا منتنة، فقال: ما هذا يا جبريل ؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب إيتني بما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي، وقد بعد قعري واشتد حري، فأتني بما وعدتني.
فقال: لك كل مشرك ومشركة، وكافر وكافرة، وخبيث وخبيثة، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب: قالت: قد رضيت.
__________
(1) عبقري قيل: هو الديباج.
وقيل: البسط الموشية.
وقيل: الطنافس الثخان.
انظر النهاية لابن الأثير 3 / 173.
(*)(3/82)
ورأى الدجال في صورته رؤية عين لا رؤيا منام، فقيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف رأيته ؟ فقال: " رأيته فيلمانيا أقمر هجان إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري، كأن شعر رأسه أغصان شجرة، أشبهه بعبد العزى بن قطن " (1).
ورأى عمودا أبيض كأنه لؤلؤة، تحمله الملائكة، فقال: ما تحملون ؟ قالوا: عمود الإسلام، أمرنا أن نضعه بالشام.
وبينا يسير إذ دعاه داع عن يمينه: يا محمد، أنظرني أسألك.
فلم يجبه.
فقال: ما هذا يا جبريل ؟ قال: هذا داعي اليهود، أما أنك لو أجبته لتهودت أمتك.
وبينا هو يسير إذ دعاه عن شماله: يا محمد أنظرني أسألك، فلم يجبه،
فقال: ما هذا يا جبريل ؟ قال: هذا داعي النصارى، أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك.
وبينا هو يسير، إذا بأمرأة حاسرة عن ذراعها وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى.
فقالت: يا محمد أنظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: ما هذه يا جبريل ؟ قال: تلك الدنيا، أما إنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
وبينا هو يسير فإذا هو بشئ يدعوه متنحيا عن الطريق، يقول: هلم يا محمد، فقال جبريل، سر يا محمد، فقال: من هذا ؟ هذا عدو الله إبليس، أراد أن تميل إليه.
وسار فإذا هو بعجوز على جانب الطريق، فقالت: يا محمد أنظرني أسألك، فلم يلتفت إليها، فقال: من هذه يا جبريل ؟ قال: إنه لم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر هذه العجوز.
وبينا هو يسير إذ لقيه خلق من خلق الله، فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال جبريل: اردد السلام، فرد، ثم لقيه الثانية فقال له مثل ذلك، ثم لقيه الثالثة فقال له مثل ذلك.
فقال: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: إبراهيم وموسى وعيسى.
ومر على، موسى وهو يصلي في قبره الكثيب الأحمر، رجل طوال سبط آدم كأنه من رجال شنوءة، وهو يقول يرفع صوته: أكرمته وفضلته، فدفع إليه، فسلم عليه فرد عليه السلام، وقال: من هذا معك يا جبريل ؟ فقال: هذا أحمد، فقل: مرحبا بالنبي العربي الذي نصح لأمته ودعا له بالبركة وقال: سل لأمتك اليسر.
فساروا فقال: يا جبريل من هذا ؟ قال: هذا موسى بن عمران، قال: ومن يعاتب ؟ قال: يعاتب ربه.
قال: أو يرفع صوته على ربه ؟ قال جبريل إن الله تعالى قد عرف له حدته ثم مر برجل قائم يصلي قال: من هذا معك يا جبريل قال جبريل: هذا أخوك محمد، فرحب به ودعا له ببركة فقال: سل لأمتك اليسر، فقال من هذا يا جبريل: قال هذا أخوك عيسى.
ومر على شجرة كان ثمرها السلاح، تحتها شيخ وعياله، فرأى مصابيح وضوءا.
فقال: من هذا يا جبريل ؟ قال: هذا أبوك إبراهيم.
فسلم عليه فرد عليه السلام.
وقال: من هذا معك يا جبريل ؟ قال: هذا: ابنك
__________
(1) أخرجه مسلم بنحوه 4 / 2250 وأحمد في المسند 1 / 174.
(*)(3/83)
أحمد.
فقال: مرحبا بالنبي العربي الذي بلغ رسالة ربه ونصخ لأمته، يا بني إنك لاق ربك الليلة، وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل.
ودعا له بالبركة.
فسار حتى أتى الوادي الذي في المدينة يعني بيت المقدس، فإذا جهنم تنكشف عن مثل الروابي.
فقيل: يا رسول الله كيف وجدتها ؟ قال: " مثل الحمم " ثم سار حتى انتهى إلى المدينة، فدخلها من بابها اليماني، وإذا عن يمين المسجد وعن يساره نوران ساطعان.
فقال: يا جبريل ما هذان النوران ؟ قال: أما الذي عن يمينك فإنه محراب أخيك داود، وأما الذي عن يسارك فعلى قبر أختك مريم.
فدخل المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر، فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس، فوضع أصبعه فيها فخرقها، فشد بها البراق، وفي رواية مسلم، فربطه بالحلقة التي تربط بها الأنبياء.
فلما استوى بها النبي صلى الله عليه وسلم في صخرة المسجد، قال جبريل: يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين ؟ قال: نعم، قال جبريل: فأنطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن، وهن جلوس عن يسار الصخرة، فانتهى إليهن، فسلم عليهن، فرددن عليه السلام، فقال: من أنتن ؟ فقلن: " خيرات حسان ".
نساء قوم أبرار، نقوا فلم يدرنوا، وأقاموا فلم يظعنوا، وخلدوا فلم يموتوا.
ثم صلى هو وجبريل كل واحد ركعتين فلم يلبث إلا يسيرا حنى اجتمع ناس كثيرون فعرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة، فقاموا ينتظرون من يؤمهم، فأخذ جبريل بيده فقدمه فصلى بهم ركعتين.
وفي رواية: ثم أقيمت الصلاة، فتدافعوا حتى قدموا محمدا.
وعند الواسطي عن كعب: فأذن جبريل ونزلت الملائكة من السماء وحشر الله له المرسلين، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالملائكة والمرسلين، فلما انصرف، قال جبريل: يا محمد، أتدري من صلى خلفك ؟ قال: لا.
قال: كل نبي بعثه الله تعالى.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عند الحاكم وصححه البيهقي: فلقي أرواح
الأنبياء، فأثنوا على ربهم.
فقال إبراهيم: " الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما وجعلني أمة قانتا يؤتم بي، وأنقذني من النار، وجعلها علي بردا وسلاما، ثم إن موسى أثنى على ربه تبارك وتعالى فقال: " الحمد لله الذي كلمني تكليما وجعل هلاك فرعون ونجاة بني اسرائيل على يدي، وجعل من أمتي قوما يهدون بالحق وبه يعدلون ".
ثم إن داود أثنى على ربه فقال: " الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما، وعلمني الزبور، وألان لي الحديد، وسخر لي الجبال يسبحن والطير، وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب ".
ثم إن سليمان أثنى على ربه فقال: " الحمد لله الذي سخر لي الرياح وسخر لي(3/84)
الشياطين والإنس يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات، وعلمني منطق الطير وأتاني من كل شئ فضلا، وسخر لي جنود الشياطين والإنس والجن والطير، وفضلني على كثير من عباده المؤمنين، وأتاني ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعدي وجعل ملكي مكلا طيبا ليس فيه حساب ولا عقاب ".
ثم إن عيسى بن مريم أثنى على ربه تبارك وتعال فقال: الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي مثل آدم خلقه من تراب.
ثم قال له: كن فيكون، وعلمني الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله، ورفعني وطهرني.
وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان علينا سبيل ".
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " كلكم أثنى على ربه وإني مثن على ربي "، فقال: " الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل علي الفرقان فيه تبيان كل شئ، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي وسطا، وجعل أمتي هم الأولون والآخرون، وشرح لي صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحا وخاتما ".
فقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: " بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وسلم ".
ثم تذاكروا أمر الساعة، فردوا أمرهم إلى إبراهيم فقال: " لا علم لي بها ".
فردوا أمرهم
إلى موسى فقال: " لا علم لي بها ".
فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: " أما وجبتها فلا يعلمها إلا الله، وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج، ومعي قضيبان، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص، فيهلكم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج.
وهم من كل حدب ينسلون فيطأون بلادهم لا يأتون على شئ إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، ثم يرجع الناس فيشكونهم إلي، فأدعو الله تعالى عليهم، فيهلكهم ويميتهم حتى تحوي الأرض من ريحهم، فينزل الله تعالى المطر، فيجرف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر.
ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجأهم بولادتها ليلا أو نهارا ".
وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من العطش أشد ما أخذه، فأتي بقدحين أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال في أحدهما لبن والآخر عسل، وفي رواية أتي بآنية ثلاث مغطاة أفواهها، فأتي بإناء منها فيه ماء فشرب منه قليلا، وفي لفظ أنه لم يشرب منه شيئا، ثم دفع إليه إناء آخر فشرب منه حتى روي، ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر، فقيل له: اشرب فقال: " لا أريده قد رويت ".
فقال جبريل: " إنها ستحرم على أمتك ".
وفي رواية: فعرض عليه الماء والخمر واللبن، وفي(3/85)
رواية العسل بدل الماء فشرب من العسل قليلا، وتناول اللبن فشرب منه حتى روي، فضرب جبريل منكبيه وقال: " أصبت الفطرة " ولو شربت الخمر لغوت أمتك ولم يتبعك منهم إلا القليل، ولو شربت الماء لغرقت أمتك "، وفي رواية قال شيخ " متكئ على منبر له لجبريل: " أخذ صاحبك الفطرة، وإنا لمهتد ".
ثم أتي بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم، فلم ير الخلق أحسن من المعراج، له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب.
وفي رواية لأبي سعيد في شرف المصطفى أنه أتي بالمعراج من جنة الفردوس منضد باللؤلؤ، عن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة، فصعد هو وجبريل حتى انتهيا إلى باب من أبواب السماء الدنيا يقال له باب الحفظة وعليه ملك يقال له إسماعيل، وهو صاحب السماء الدنيا - وفي حديث جعفر بن
محمد عند البيهقي: (يسكن الهواء فلم يصعد إلى السماء قط ولم يهبط إلى الارض قط إلا يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم)، انتهى - وبين يديه سبعون ألف ملك مع كل ملك جنده مائة ألف.
فاستفتح جبريل باب السماء: قيل: من هذا ؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك ؟ قال: محمد، قيل: أو قد أرسل إليه ؟ - وفي رواية: بعث إليه ؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به وأهلا، حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الاخ ونعم الخليفة، ونعم المجئ جاء ففتح لهما.
فلما خلصا إلى السماء، فإذا فيها آدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته، تعرض عليه أرواح ذريته الكفار، فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة، اجعلوها في سجين وعن يمينه أسودة وباب تخرج منه ريح طيبة وعن شماله أسودة وباب تخرج منه ريح خبيثة، فإذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر، وإذا نظر عن شماله حزن وبكى.
فسلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فرد ع ليه السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل من هذا ؟ قال: هذا أبوك آدم، وهذه الاسودة نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، وأهل الشمال منهم أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة، إذا نظر من يدخله من ذريته ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم، إذا نظر من يدخله من ذريته بكى وحزن.
ثم مضى صلى الله عليه وسلم هنيهة، فإذا هو بأخونة عليها لحم مشرح ليس يقربه أحد، وإذا بأخونة عليها لحم قد أروح وأنتن، عنده ناس يأكلون منه.
فقال: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون الحرام.
وفي لفظ: وإذا هو بأقوام على مائدة عليها لحم مشوي كأحسن ما روي من اللحم، وإذا حوله جيف، فجعلوا يقبلون على الجيف يأكلون منها ويدعون اللحم.
فقال، من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الزناة يحلون ما حرم الله عليهم ويتركون ما أحل الله لهم.(3/86)
ثم مضى هنيهة فإذا هو بأقوام بطونهم أمثال البيوت فيها الحياة ترى من خارج بطونهم،
كلما نهض أح دهم خر، فيقول: اللهم لا تقم الساعة، قال: وهم على سابلة آل فرعون، فتجئ السابلة فتطؤهم فسمعتهم يضجون إلى الله تعالى.
فقال: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء من أمتك (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) [ البقرة: 275 ] ثم مضى هنيهة فإذا هو بأقوام مشافرهم كمشافر الابل، فتفتح أفواههم ويلقمون حجرا، وفي رواية: يجعل في أفواههم صخر من جهنم، ثم يخرج من أسافلهم، فسمعهم يضجون إلى الله تعالى.
فقال: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء (الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) [ النساء: 1 ] ثم مضى هنيهة فإذا هو بنساء معلقات بثديهن ونساء منكسات بأرجلهن، فسمعهن يضججن إلى الله تعالى، فقال: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن.
ثم مضى هنيهة إذا هو بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم فيلقمونه، فيقال له: كل كما كنت تأكل من لحم أخيك.
فقال: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون.
ثم صعدا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل.
قيل: من هذا ؟ قال: جبريل.
قيل: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: أوقد أرسل إليه ؟ قال: نعم.
قيل: مرحبا به وأهلا، حياه الله من إخ ومن خليفة، فنعم الاخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء.
ففتح لهما.
فلما خلصا فإذا هو بابني الخالة: عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا، شبيه أحدهما بصاحبه: ثيابهما وشعرهما ومعهما نفر من قومهما.
وإذا بعيسى جعد مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كأنما أخرج من ديماس أي حمام شبهه بعروة بن مسعود الثقفي.
فسلم عليهما فردا عليه السلام، ثم قالا: مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح ودعوا له بخير.
ثم صعدا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا ؟ قال: جبريل.
قيل: ومن معك ؟.
قال: محمد.
قيل: أوقد أرسل إليه ؟ قال: نعم.
قيل: مرحبا به وأهلا، حياه الله من أخ
ومن خليفة فنعم الاخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء.
ففتح لهما فلما خلصا فإذا هو بيوسف ومعه نفر من قومه فسلم عليه، فرد عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح ودعا له بخير، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن، وفي رواية أحسن ما خلق الله، قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
قال: من هذا يا جبريل ؟ قال: أخوك يوسف.
ثم صعدا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا ؟ قال: جبريل.
قيل: ومن(3/87)
معك ؟ قال: محمد.
قيل: أوقد أرسل إليه ؟ قال: نعم.
قيل: مرحبا به وأهلا حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الاخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء.
فلما خلصا فإذا هو بإدريس فقد رفعه الله مكانا عليا، فسلم عليه فرد عليه السلام ثم قال: مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح ثم دعا له بخير.
ثم صعدا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا ؟ فقال: جبريل.
قيل: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: أوقد أرسل إليه ؟ قال: نعم.
قيل: مرحبا به وأهلا، حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الاخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء.
ففتح لهما، فلما خلصا فإذا هو بهارون، ونصف لحيته بيضاء ونصف لحيته سوداء، تكاد تضرب إلى سرته من طولها، وحوله قوم من بني إسرائيل، وهو يقص عليهم فسلم عليه فرد عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح، ثم دعا له.
فقال: يا جبريل من هذا ؟ فقال: الرجل المحبب في قومه هارون بن عمران.
ثم صعد إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل.
قيل: من هذا ؟ قال: جبريل.
قيل: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: أوقد أرسل إليه ؟ قال: نعم.
قيل: مرحبا به وأهلا، حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الاخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء، ففتح لهما، فجعل يمر بالنبي والنبيين معهم الرهط، والنبي والنبيين معهم القوم، والنبي والنبيين ليس معهم أحد.
ثم مر بسواد عظيم، فقال: (من هذا) قيل له موسى وقومه ولكن ارفع رأسك فإذا بسواد عظيم قد سد الافق من ذا
الجانب ومن ذا الجانب فقيل له: هؤلاء أمتك وسوى هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب.
فلما خلصا فإذا بموسى بن عمران، رجل آدم طوال كأنه من رجال شنوءة، كثير الشعر، لو كان عليه قميصان لنفذ شعره دونهما.
فسلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، ثم قال: مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح، ثم دعا له بخير، وقال: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا، بل هذا أكرم على الله مني.
فلما جاوزه النبي صلى الله عليه وسلم بكى.
فقال له: ما يبكيك ؟ فقال: أبكى لان غلاما بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل الجنة من أمتي، ويزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله.
وهذا رجل من بني آدم خلفي في دنيا وأنا في أخ رى، فلو أنه بنفسه لم أبال، ولكن معه كل أمته.
ثم صعد.
فلما انتهينا إلى السماء السابعة رأى فوقه رعدا وبرقا وصواعق، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا ؟ قال: جبريل.
قيل: ومن معك ؟ قال: محمد.
قيل: أوقد أرسل إليه ؟ قال: نعم.
قيل: مرحبا به وأهلا، حياه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الاخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء.
ففتح لهما فسمع تسبيحا في السموات العلا مع تسبيح كثير: سبحت السموات العلى من ذي(3/88)
المهابة مشفقات، سبحان العلي الاعلى، سبحانه وتعالى.
فلما خلصا فإذا النبي صلى الله عليه وسلم بإبراهيم رجل أشمط، جالس عند باب الجنة، على كرسي مسندا ظهره إلى البيت المعمور، ومعه نفر من قومه، فسلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فرد عليه السلام، فقال: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح وقال: مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة.
فقال له: وما غراس الجنة ؟ قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
وفي رواية: (أقرئ على أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأن غراسها ؟ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر).
وهو أشبه ولده به، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال القراطيس، وقوم في ألوانهم شئ، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شئ، فدخلوا نهرا، فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد
خلصت ألوانهم وصارت مثل ألوان أصحابهم.
فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم فقال: يا جبريل من هؤلاء البيض الوجوه ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شئ وما هذه الانهار التي دخلوها ؟ فقال: أما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شئ فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا فتاب الله عليهم، وأما هذه الانهار فأولها رحمة الله والثاني نعمة الله والثالث (وسقاهم ربهم شرابا وطهورا) [ الانسان: 21 ] وقيل له: هذا مكانك ومكان أمتك، وإذا هو بأمته شطرين: شطر عليهم ثياب كأنها القراطيس، وشطر عليه ثياب رمد (1)، فدخل البيت المعمور، ودخل معه الاخرون الذين عليهم الثياب البيض وحجب الاخرون الذين عليهم الثياب الرمد وهم على خير، فصلى ومن معه من المؤمنين في البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، آخر ما عليهم، ثم خرج ومن معه.
وفي حديث عند الطبراني بسند صحيح: (مررت ليلة أسري بي على الملا الاعلى فإذا جبريل كالحلس (2) البالي من خشية الله، وفي رواية عند البزار (كأنه حلس لاطئ).
انتهى، ثم أتي بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فشرب اللبن، فقال جبريل: اختارت (3) أمتك الفطرة، وفي رواية هذه الفطرة التي أنت عليها وأمتك.
ثم رفع إلى سدرة المنتهى، وإليها ينتهي ما يعرض من الارض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوق فيقبض منها.
وإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها.
وإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها
__________
(1) رمد: أي عبر فيها كدورة كلون الرماد، واحدها أرمد.
انظر النهاية لابن الاثير 2 / 262.
(2) حلس جمع حلس، وهو الكساء الذي بلي ظهر البعير تحت القتب، شبهها به للزومها ودوامها.
انظر النهاية لابن الاثير 1 / 423.
(3) في أ: أصاب الله بك.
(*)(3/89)
كآذان الفيلة، تكاد الورقة تغطي هذه الامة، وفي رواية: الورقة منها مغطية للامة كلها.
وفي لفظ عند الطبراني: الورقة منها تظل الخلق، على كل ورقة ملك، تغشاها ألوان لا يدري ما هي، فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشيها تغيرت، وفي رواية: تحولت ياقوتا وزبرجدا فما يستطيع أحد أن ينعتها من حسنها، فيها فراش من ذهب، وفي رواية يلوذ بها جراد من ذهب.
فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد من أمتك خلا (1) على سبيلك، وإذا في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران، فقال: ما هذه يا جبريل ؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات.
وفي رواية: فإذا في أصلها عين تجري يقال لها السلسبيل، ينشق منها نهران: أحدهما الكوثر، يطرد عجاحا مثل السهم، عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعليه طيور خضر أنعم طير، رأى فيه آنية الذهب والفضة، تجري على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشد بياضا من اللبن، فأخذ من آنية، فاغترف من ذلك الماء، فشرب فإذا هو أحلى من العسل، وأشد ريحا من المسك، فقاله جبريل: هذا هو النهر الذي حباك به ربك، والنهر الاخر نهر الرحمة فاغتسل فيه، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عند السدرة له ستمائة جناح، جناح منها قد سد الافق، تتناثر من أجنحته التهاويل: الدر والياقوت مما لا يعلمه إلا الله تعالى.
انتهى.
ثم أخذ على الكوثر حتى إذا دخل الجنة فإذا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فرأى على بابها مكتوبا: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر.
فقال: يا جبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة ؟ قال: لان السائل يسأل وعنده، والمستقرض لا يسأل إلا من حاجة.
فاستقبلته جارية فقال: لمن أنت يا جارية ؟ فقالت: لزيد بن حارثة.
ورأى الجنة من درة بيضاء وإذا فيها جنابذ (2) اللؤلؤ.
فقال: يا جبريل، إنهم يسألوني عن الجنة.
فقال: إخبرهم أنها قيعان ترابها المسك، وسمع في خارجها وجسا (3)، فقال: يا جبريل ما هذا ؟ قال: بلال المؤذن.
فسار فإذا هو بأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة
للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وإذا رمانها كالدلاء، وفي رواية: وإذا فيها رمان كأنه جلود الابل المقتبة، وإذا بطيرها كالبخاتي (4).
فقال أبو بكر: يا رسول الله إن تلك الطير لناعمة.
قال:
__________
(1) خلا عليه: اعتمد عليه.
انظر المعجم الوسيط 1 / 253.
(2) جنبذ في صفة الجنة (فيها جنابذ من لؤلؤ) الجنابذ جمع جنبذة: وهي القبة) انظر النهاية لابن الاثير 1 / 305.
(3) الوجس: الصوت الخفي، وتوجس بالشئ: أحس به فتسمع له، انظر النهاية لابن الاثير 5 / 156.
والمعجم الوسيط 2 / 1025.
(4) البختية: الانثى من الجنال البخت، والذكر يختبئ، وهي جمال طوال الاعناق، وتجمع على بخت وبخاتي، واللفظة معربة.
انظر النهاية لابن الاثير 1 / 101.
(*)(3/90)
أكلتها أنعم منها وإني لارجو أن تأكل منها.
وبينا هو يسير بنهر على حافيته الدر المجوف، وإذا طينة مسك أذفر فقال: ما هذا يا جبريل ؟ قال: هو الكوثر.
ثم عرضت عليه النار فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته، ولو طرح فيها الحجارة والحديد لاكلتها، فإذا بقوم يأكلون الجيف، فقال: - من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس.
ورأى رجلا أحمر أزرق فقال: من هذا يا جبريل ؟ قال: هذا عاقر الناقة.
ورأى مالك خازن النار، فإذا رجل عابس يعرف الغضب في وجهه، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالسلام، ثم أغلقت دونه، ثم رفع إلى سدرة المنتهى، فغشيها من أنوار الخلائق ومن أنوار الملائكة أمثال الغربان حين يقض على الشجرة وينزل على كل ورقة ملك من الملائكة فغشيها سحابة من كل لون.
وفي حديث أن جبريل قال له: إن ربك يسبح.
قال: وما يقول ؟ قال: يقول: (سبوح قدوس، رب الملائكة والروح، سبقت رحمتي غضبي).
فتأخر جبريل، ثم عرج به حتى ظهر لمستوى سمع فيه صريف (1) الاقلام.
ورأى رجلا مغببا في نور العرش، فقال: من هذا ؟ ملك، قيل: لا، قال: نبي، قيل: لا، قال: من هو ؟ قيل: هذا رجل كان في الدنيا لسانه رطب من ذكر
الله، وقلبه معلق بالمساجد، ولم ينتسب لوالديه قط، فرأى ربه سبحانه وتعالى، فخر النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا، وكلمه ربه تعالى عند ذلك.
فقال له: يا محمد.
قال: لبيك يا رب.
قال: سل: فقال: إنك اتخذت إبراهيم خليلا، وأعطيته ملكا عظيما وكلمت موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما وسخرت له الجن والانس والشياطين وسخرت له الرياح وأعطيته ملكا لا ينبغي لاحد من بعده.
وعلمت عيسى التوراة والانجيل، وجعلته يبرئ الاكمه والابرص ويحيي الموتى بإذنك، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان عليهما سبيل.
فقال الله سبحانه وتعالى: قد اتخذتك حبيبا.
قال الراوي: وهو مكتوب في التوراة: حبيب الله.
وأرسلتك للناس كافرة بشرا ونذيرا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، لا أذكر إلا وذكرت معي وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس وجعلت أمتك أمة وسطا، وجعلت أمتك هم الاولون والاخرون، وجعلت أمتك لا يجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي، وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم، وجعلتك أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا، وأولهم يقضى له، وأعطيتك سبعا من المثاني لم أعطها نبيا قبلك، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرشي لم أعطها نبيا قبلك، وأعطيتك الكوثر،
__________
(1) أسمع صريف الاقلام أي صوت جريانها بما تكتبه من أقضية الله تعالى ووحيه، وما ينسخونه من اللوح المحفوظ.
انظر النهاية لابن الاثير 3 / 25.
(*)(3/91)
وأعطيتك ثمانية أسهم: الاسلام والهجرة والجهاد والصدقة وصوم رمضان والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأني يوم خلقت السموات والارض، فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فقم بها أنت وأمتك.
قال أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضلني ربي: أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وألقى في قلوب عدوي الرعب من مسيرة شهر، وأحل لي الغنائم، ولم تحل لاحد قبلي، وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا، وأعطيت فواتح الكلم
وخواتمه وجوامعه، وعرضت على أمتي فلم يخف علي التابع والمتبوع ورأيتهم على قوم ينتعلون بالشعر، ورأيتهم أتوا على قوم عراض الوجوه صغار الاعين كأنما أخرمت أعينهم بالمخيط فلم يخف علي ما هم، لا قوي من بعدي، وأمرت بخمسين صلاة).
انتهى.
وأعطي ثلاثا: أنه سيد المرسلين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين.
وفي حديث ابن مسعود: أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات (1).
ثم انجلت عنه السحابة وأخذ بيده جبريل، فانصرف سريعا، فأتى على إبراهيم، فلم يقل شيئا، ثم أتى على موسى، قال: ونعم الصاحب كان لكم، فقال: (ما صنعت يا محمد ؟ ما فرض عليك ربك وعلى أمتك ؟) قال: فرض علي وعلى أمتي خمسين صلاة كل يوم وليلة).
قال: (فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف عنك وعن أمتك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فإني قد خبرت الناس قبلك وبلوت بني إسرائيل وعالجتهم أشد المعالجة على أدنى من هذا فضعفوا وتركوه، فأمتك أضعف أجسادا وأبدانا وقلوبا وأبصارا وأسماعا).
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل يستشيره، فأشار إليه أن نعم إن شئت، فرجع سريعا حتى انتهى إلى الشجرة، فغشيته السحابة، وخر ساجدا.
وقال: " رب خفف عنا "، وفي لفظ: " عن أمتي فإنها أضعف الأمم ".
قال: " قد وضعت خمسا "، ثم انجلت السحابة، ورجع إلى موسى فقال: " وضع عني خمسا ".
قال: " ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك ".
فلم يزل يرجع بين موسى وبين ربه، يحط عنه خمسا خمسا، حتى قال: " يا محمد "، قال: " لبيك وسعديك " قال: " هن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فتلك خمسون صلاة لا يبدل القول لدي ولا ينسخ كتابي تخفيفها عنك كتخفيف خمس صلوات، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت لا حسنة فإن
__________
(1) المقحمات: أي الذنوب العظام التي تقحم أصحابها في النار: أي تلقيهم فيها.
انظر النهاية لابن الأثير 4 / 19.
(*)(3/92)
عملها كتبت له عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب شيئا فإن عمله كتبت سيئة واحدة ".
فنزل حتى انتهى إلى موسى، فأخبره فقال: " ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك ".
قال له: قد راجعت ربي حتى استحييت منه ولكن أرضى وأسلم ".
فناداه مناد أن " قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي " (1).
فقال له موسى: " اهبط بسم الله ".
ولم يمر على الملأ من الملائكة إلا قالوا له: " عليك بالحجامة " (2).
وفي لفظ: " مر أمتك بالحجامة ".
ثم انحدر، فقال جبريل: " مالي لم آت لأهل السماء إلا رحبوا بي وضحكوا إلي، غير واحد سلمت عليه فرد السلام ورحب بي ودعا لي، ولم يضحك إلي، قال: قال " مالك خازن النار، لم يضحك منذ خلق، ولو ضحك لأحد لضحك إليك ".
فلما نزل إلى السماء الدنيا نظر أسفل منه، فإذا هو برهج ودخان، فقال ما هذا يا جبريل ؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم، لا يتفكرون في ملكوت السموات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب.
ثم ركب منصرفا، فمر بعير لقريش بمكان كذا وكذا، منها جمل عليه غرارتان غرارة حزينا، فمر عليه عدو الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شئ ؟ قال: نعم، قال: ما هو ؟ قال: أسري بي الليلة.
قال: إلى أين ؟ قال: إلى بيت المقدس.
قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال: نعم.
فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه.
قال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني ؟ قال: نعم، قال يا معشر بني كعب بن لؤي.
فانفضت إليه المجالس، وجاءوا حتى جلسوا إليهما.
فقال: حدث قومك بما حدثتني فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني أسري الليلة بي ".
قالوا: إلى أين ؟ قال: إلى بيت المقدس، قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال: نعم فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا، وضجوا وأعظموا ذلك.
فقال المطعم بن عدي: كل أمرك قبل اليوم كان أمما غير قولك اليوم، أنا أشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى البيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا
شهرا، أتدعي أنت أتيته في ليلة ؟ واللات والعزى لا أصدقك.
__________
(1) أخرجه البخاري: 7 / 341 (3887).
(2) أخرجه البخاري بلفظ، إن أمثل ما تداويتم به الحجامة، (5696).
(*)(3/93)
فقال أبو بكر لمطعم: بئس ما قلت لابن أخيك، جبهته وكذبته، أما أنا فأشهد أنه صديق صادق.
فقالوا: يا محمد صف لنا بيت المقدس، كيف بناؤه وكيف هيئته ؟ وكيف قربه من الجبل ؟ وفي القوم من سافر إليه.
فذهب ينعت لهم بناءه كذا وهيئته كذا، وقربه من الجبل كذا، فما زال ينعته لهم حتى التبس عليه النعت فكرب كربا ما كرب مثله، فجئ بالمسجد وهو ينظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو عقال، فقالوا: كم للمسجد من باب ؟ ولم يكن عدها، فجعل ينظر إليه ويعدها بابا بابا، ويعلمهم، وأبو بكر يقول: صدقت صدقت، أشهد أنك رسول الله.
فقال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب.
ثم قالوا لأبي بكر: أفتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح ؟ قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أؤ روحة.
فبذلك سمي أبو بكر الصديق.
ثم قالوا: يا محمد أخبرنا عن عيرنا.
فقال: " أتيت على عير بني فلان بالروحاء قد ضلوا ناقة لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم، فليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه، ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم يقدمها جمل أورق عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان وها هي ذه تطلع عليكم من الثنية ".
قالوا: فمتى تجئ ؟ قال يوم الأربعاء.
فلما كان ذلك اليوم، انصرفت قريش ينظرون وقد ولى النهار، ولم تجئ.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، فزيد له في النهار ساعة، وحبست عليه الشمس، حتى دخلت العير، فاستقبلوا الليل.
فقالوا: هل ضل لكم بعير ؟ قالوا: نعم.
فسألوا البعير الأخر فقالوا: هل انكسر لكم ناقة حمراء ؟ قالوا: نعم.
قالوا: فهل كان عندكم قصعة من ماء ؟ فقال رجل: أنا والله وضعتها فما شربها أحد، متأولا أهريقت في الأرض.
فرموه بالسحر، وقالوا: صدق الوليد، فأنزل الله تعالى:
(وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) (الإسراء: 60).
فائدة: أخرج ابن مردوية عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذ أسرى به ريحه ريح عروس وأطيب من ريح عروس.
شعر ويرحم الله تعالى من قال: ساد الأنام محمد خير الورى * بفضائل جلت عن الإحصاء وجوامع الكلم التي ما نالها * أحد من الفصحاء والبلغاء وإلى الخلائق كلهم إرساله * فشفى القلوب الجمة الأدواء وله الشفاعة والوسيلة في غد * ومقامه السامي على الشفعاء ويحئ يومئذ كما قد قاله * أنا راكب والرسل تحت لوائي ولقد دنا من ربه لما دنا * في ليلة المعراج والإسراء سمع الخطاب بحضرة قدسية * ما حلها بشر من العظماء(3/94)
وبرؤية الجبار فاز ويا لها * من نعمة عظمت على النعماء ما نال موسى والخليل ومجتبى * ما نلته يا سيد الشفعاء يا كنز مفتقر وملجأ عائذ * يا أفضل الأجواد والكرماء أنت الوسيلة للإله فسل لنا * عفوا عن الزلات والأهواء ودخولنا الجنات أول وهلة * وشفاعة للمفسد الخطاء بك نستغيث ونستجير ونلتجي * من ذي البلاء وفتنة الأهواء ونروم فضلا من جنابك سيدي * وشفاعة يا سيد الشفعاء فإليك ساق (الله) سحب صلاته * وجزاك رب الناس خير جزاء وعلى صحابتك الرضى متعددا * والآل والأتباع والعلماء ولله در البوصيري حيث قال مخاطبا للذات الشريفة: سريت من حرم ليلا إلى حرم * كما سرى البدر في داج من الظلم
وبت ترقى إلى أن نلت منزلة * من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم وقدمتك جميع الأنبياء بها * والرسل تقديم مخدوم على خدم وأنت تخترق السبع الطباق بهم * في موكب كنت فيه صاحب العلم حتى إذا لم تدع شأوا لمستبق * من الدنو ولا مرقى لمستنم خفضت كل مقام بالإضافة إذ * (نوديت) بالرفع مثل المفرد العلم كيما تفوز بوصل أي مستتر * عن العيون وسر أي مكتتم فحزت كل فخار غير مشترك * وحزت كل مقام غير مزدحم وحل مقدار ما وليت من رتب * وعز مقدار ما أوليت من نعم بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا * من العناية ركنا غير منهدم لما دعا الله داعينا لطاعته * يا أكرم الرسل كنا أكرم الأمم(3/95)
الباب التاسع في تنبيهات على بعض فوائد تتعلق بقصة المعراج
الأول: قال ابن المنير: كانت كرامته صلى الله عليه وسلم في المناجاة على سبيل الفماجأة كما أشار إليه بقوله: " بينا أنا ".
وفي حق موسى عليه الصلاة والسلام عن ميعاد واستعداد فحمل عنه صلى الله عليه وسلم ألم الانتظار.
ويؤخذ من ذلك أن مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى مقام موسى مقام المراد بالنسبة إلى مقام المريد.
الثاني: قال ابن دحية في قوله: " فرج سقف بيتي " يقال: لم لم يدخل من الباب مع قوله تعالى: (وأتوا البيوت من أبوابها) (البقرة: 189)، فالحكمة في ذلك المبالغة في المناجاة، والتنبيه على أن الكرامة والاستدعاء كانا على غير ميعاد، ولعل كونه فرج عن سقف بيته توطئة وتمهيد لكونه فرج عن صدره، فأراه الملك، بإفراجه عن السقف فالتأم السقف على الفور، كيفية ما يصنع به، وقرب له الأمر في نفسه بالمآل المشاهد في بيته لطفا في حقه
وتبيينا لبصره، ولعله فرج عن سقف بيته حتى لا يعرج الملك، وقد جاء في هذا الأمر المهم العظيم على شئ سواه، فانصب له من السماء انصبابة واحدة وهي خرق الحجاب.
ولو أنه جاء على العادة من الباب لاحتاج أن يلج صحن الدار، ثم يعرج إلى البيت الذي هو فيه وقال الحافظ: قيل الحكمة في نزوله عليه من السقف المبالغة في مفاجأته بذلك والتنبيه على أن المراد منه أن يعرج به إلى جهة العلو.
الثالث: الرجلان اللذان كان النبي صلى الله عليه وسلم نائما بينهما تلك الليلة: حمزة وجعفر رضي الله عنهما، نبه عليه الحافظ.
قال ابن أبي جمرة: وفي هذا تواضعه صلى الله عليه وسلم وحسن خلقه، إذ أنه في الفضل حيث هو، ومع ذلك كان يضطجع مع الناس ويقعد معهم، ولم يجعل لنفسه المكرمة مزية عليهم، وفيه دليل على جواز نوم جماعة في موضع واحد، ولكن يشترط في ذلك أن يكون لكل واحد منهم ما يستر به جسده عن صاحبه.
الرابع: تقدم في أبواب صفاته الكلام على شق الصدر وخاتم النبوة والطست والذهب وزمزم.
الخامس: في كلام على جبريل وفيه فوائد: الأولى: في لغات اسمه وهي إحدى وعشرون:(3/96)
الأولى: جبريل بكسر الجيم والراء وياء ساكنة وهي قراءة نافع (1) وأبي عمرو (2) وابن عامر (3)، وحفص (4) عن عاصم (5) وهي لغة الحجازيين.
الثانية: جبريل كذلك إلا أنه بفتح الجيم وهي قراءة ابن كثير.
الثالثة: جبرءل كذلك كذلك إلا أنه بزيادة ياء بعد الهمزة وهي قراءة حمزة والكسائي ولغة تميم وقيس وكثير من أهل نجد كما قاله الفراء.
الخامسة: جبرايل كذلك إلا أن ه بزيادة ألف بعد الراء وهي رواية حمزة ونعيم بن سعيد وغيرهما عن الأعمش ورواية أبان بن تغلب (7) - بفتح المثناة وسكون المعجمة وكسر اللام - وأبان بن يزيد العطار من رواية الثلاثة: بكار ويونس وعبيد، عنه كلاهما عن عاصم وأبو رجاء وأبو غزوان عن طلحة ذكره
الأهوازي.
السادسة: جبرائيل كذلك إلا أنه بكسر الجيم على وزن إسرائيل، وهي إحدى الروايات عن عكرمة ورواها عنه الزبير، وقرأ بها ابن صدقة عن يحيى ذكره ابن عيسى.
السابعة: جبراءل بفتح الجيم والراء وهمزة بدون ياء، وفي رواية رزين وابن قيس وابن خثيم، وأبي عمران وإسماعيل عن الحسن وغيرهم وإسحاق بن سويد بخلاف عنه والحسن الرازي (8) عن أصحابه
__________
(1) نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم الليثي بالولاء المدني: أحد القراء السبعة المشهورين.
كان أسود، شديد السواد، صبيح الوجه، حسن الخلق، فيه دعابة.
أصله من أصبهان، اشتهر في المدينة وانتهت إليه رياسة القراءة فيها، وأقرأ الناس نيفا وسبعين سنة، وتوفي بها نسة 169 ه.
الأعلام 8 / 5.
(2) زبان العلاء بن عمار بن العريان بن عبد الله بن الحسين بن الحارث بن جلهمة بن حجر بن خزاعي بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن معد بن عدنان الإمام السيد أبو عمرو التميمي المازني البصري أحد القراء السبعة، قال الحافظ أبو العلاء الهمذاني: هذا الصحيح الذي عليه الحذاق من النساب وقد قيل: إنه من بني العنبر وقيل: من بني حنيفة وحكى القاضي أسد اليزيدي أنه قيل إنه من فارس من موضع يقال له كازرون.
قال عبد الوارث: ولد أبو عمرو بمكة ونشأ بالبصرة ومات بالكوفة سنة أربع وخمسين ومائة.
غاية النهاية 1 / 288، 289، 290، 291، 292.
(3) عبد الله بن عامر بن يزيد، أبو عمران اليحصبي الشامي: أحد القراء السبعة، ولي قضاء دمشق في خلافة الوليد بن عبد الملك.
ولد في البلقاء، في قرية " رحاب " وانتقل إلى دمشق، بعد فتحها، وتوفي فيها.
قال الذهبي: مقرئ الشاميين، صدوق في رواية الحديث، انظر الأعلام 4 / 95.
(4) حفص بن سليمان بن المغيرة الأسدي بالولاء، أبو عمر، يعرف بحفيص: قارئ أهل الكوفة.
بزاز، نزل بغداد، وجاور بمكة.
وكان أعلم أصحاب عاصم بقراءته، وهو ابن امرأته وربيبه، ومن طريقه قراءة أهل المشرق.
توفي 180 ه الأعلام 2 / 264.
(5) عاصم بن أبي النجود ابن بهدلة الكوفي الأسدي بالولاء، أبو بكر: أحد القراء السبعة.
تابعي، من أهل الكوفة، ووفاته فيها.
كان ثقة في القراءات، صدوقا في الحديث، قيل: اسم أبيه عبيد، وبهدلة اسم أمه، توفي 127 ه.
الأعلام 3 / 248.
(6) شعبة بن عياش بن سالم الأزدي الكوفي الخياط، أبو بكر: من مشاهير القراء.
كان عالما فقيها في الدين.
توفي في
الكوفة سنة 193 ه.
الأعلام 3 / 165.
(7) أبان بن تغلب: بفتح المثناة وسكون المعجمة وكسر اللام، أبو سعد الكوفي، ثقة تكلم فيه للتشيع، من السابعة، مات سنة أربعين، التقريب 1 / 30.
(8) الحسن بن شعيب أبو علي الرازي مقرئ، روى القراءة عرضا عن الفضل بن شاذان، روى القراءة عنه عرضا عبد الرحيم.
انظر غاية النهاية 1 / 215.
(*)(3/97)
وأحمد بن يزيد وهي إحدى الروايات عن عكرمة أيضا.
الثامنة: جبرايل كذلك إلا أنه بياء ساكنة بدل الهمزة على الجمع بين التقاء الساكنين وهي قراءة طلحة بن مصرف اليامي (1).
التاسعة: جبرييل، بفتح الجيم والراء وياءين أولهما مكسورة والثانية ساكنة وهي إحدى الروايتين عن ابن محيصين (2) ويحيى بن يعمر وأبان بن يزيد العطار (3) عن عاصم.
العاشرة: جبرئيل كذلك إلا أنه بهمزة عوض الياء الأولى وتشديد اللام وهي إحدى الروايات عن ابن محيصن ويحيى بن يعمر وأبان بن يزيد العطار عن عاصم.
الحادية عشرة: جبرءل كذلك إلا أنه بحذف الياء بعد الهمزة وقرئ بها شاذا.
الثانية عشر: جبريل بفتح الجيم والراء وياء ساكنة لا غير، وهي قراءة محمد بن طلحة بن مصرف وابن محيصن في إحدى الروايات عنه.
الثالثة عشر: جبرإل كذلك إلا أنه بهمزة بدل الياء مشددة مكسورة ولام لا غير، وقد نقلها أبو عمر الداني في المجتبي في الشواذ عن ابن يعمر (4) أيضا.
الرابعة عشرة: جبرال بفتح الجيم والراء وألف ولام لا غير.
الخامسة عشرة: جبرال كذلك إلا أنه بكسر الجيم.
السادسة عشرة: جبرين بفتح الجيم وكسر الراء ونون بدل اللام.
السابعة عشرة: جبرين كذلك إلا أنه بكسر الجيم.
قال الفراء هي لغة بني أسد.
الثامنة عشرة: جبرئين بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة ونون، نقلها ابن الأنباري في كتاب الرد على من خالف مصحف عثمان.
التاسعة عشرة: جبرين كذلك إلا أنه بكسر الجيم نقلها ابن الجوزي وبرهان الدين الجعبري.
العشرون: جبرئيل بفتح الجيم والراء وهمزة ساكنة بعدها ياء.
الحادية والعشرون: جبراييل على وزن ميكاييل، نقل جميع ذلك الإمام العلامة محب الدين بن شيخ الحساب والفرائض الإمام العالم العلامة شهاب الدين بن الهائم في الغرر، ومن خطه نقلت.
الفائدة الثانية: قال في الروض الأنف: " ومعنى جبريل: عبد الرحمن أو عبد العزيز، هكذا جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا ومرفوعا أيضا والوقف أصح.
وأكثر الناس أن آخر الاسم منه أعجمي وهو " إيل " (5)، وكان شيخنا يعني ابن العربي يذهب مذهب طائفة من
__________
(1) طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب اليامي: بالتحتانية، الكوفي، ثقة قارئ فاضل، من الخامسة، مات سنة اثنتي عشرة أو بعدها.
التقريب 1 / 379، 380.
(2) محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي بالولاء، أبو حفص المكي: مقرئ أهل مكة بعد ابن كثير، وأعلم قرائها بالعربية.
انفرد بحروف خالف فيها المصحف، فترك الناس قراءته ولم يلحقوها بالقراءات المشهورة.
وكان لا بإس به في الحديث.
روى له مسلم والترمذي والنسائي حديثا واحدا.
توفي سنة 123 ه.
الأعلام 6 / 189.
(3) أبان بن يزيد العطار البصري، أبو يزيد، ثقة له أفراد، من السابعة، مات في حدود الستين.
التقريب 1 / 31.
(4) يحيى بن يعمر، بفتح التحتانية والميم بينهما مهملة ساكنة، البصري، نزيل مرو وقاضيها، ثقة فصيح، وكان يرسل، من الثالثة، مات قبل المائة، وقيل بعدها.
انظر التقريب 20 / 361.
(5) إيل: اسم الله تعالى بالعبرية.
انظر المعجم الوسيط 1 / 34.
(*)(3/98)
أهل العلم في أن هذه الأسماء إضافتها مقلوبة وكذلك الإضافة في كلام العجم يقولون في " غلام زيد ".
زيد غلام فعلى هذا يكون " إيل " عبارة عن العبد ويكون أول الاسم عبارة عن اسم من أسماء الله تعالى.
قلت: روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وابن المنذر عن عكرمة، وأبو الشيخ عن علي بن الحسين قالوا: اسم جبريل عبد الله وميكائيل عبيد الله، وكل شئ راجع إلى " إيل " فهو معبد لله عز وجل، زاد علي بن الحسين وإسرافيل عبد الرحمن، زاد عكرمة:
" والإبل: الله.
قال الماوردي: " ولا يعلم لابن عباس مخالف في ذلك "، وقال السهيلي: " إنه قول الأكثر ".
وقال الشيخ شهاب الدين الحلبي رحمه الله تعالى في شرح الشاطبية: " اختلف الناس في هذا الاسم هل هو مشتق أم لا ؟ والذي عليه الجمهور أنه لا اشتاق " أذا الأسماء الأعجمية لا اشتاق لها.
وقال آخرون: بل هو مشتق من جبروت الله تعالى.
وكذلك اختلفوا فيه هل هو اسم بسيط لا تركيب فيه أو هو مركب ؟ فإن جبر " معناه " عبد "، " وإيل " هو اسم الباري تعالى وقد قيل ذلك في إسرافيل، ثم اختلفوا في تركيبه، هل هو مركب تركيب إضافة أو تركيب مزج ؟ فذهب بعضهم إلى الأول، ورد بأنه كان ينبغي أن يعرب إعراب المتضايفين، فيجري الأول منهما مجرى الإعراب، ويجرى الثاني وينون، إذ لا مانع له من الصرف، كما انصرف " إل " في قول من جعله اسما لله تعالى من قوله عز وجل: (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) (التوبة: 10) وهذا كما تقول: جاءني عبد الله، ورأيت عبد الله ومررت بعبد الله.
وذهب آخرون كأبي العباس المهدوي إلى أنه مركب تركيب مزج كبعلبك وحضرموت، وهذا قريب إلا أن بعضهم رد عليه بأنه كان ينبغي أن يبنى الأول على الفتح ليس إلا، وأنت كما رأيتهم يكسرون الراء في بعض اللغات.
ورد عليه بعضهم أيضا بأنه لو كان مركبا تركيب مزج لجاز أن يعرب إعراب المتضايفين أو يبنى على الفتح كأحد عشر، فإنه مركب تركيب مزج يجوز فيه هذه الأوجه، فكونه لم يسمع فيه البناء ولا جريانه جريان المتضايفين دليل على عدم تركيبه تركيب مزج.
وهذا الرد مردود لأنه جاء على أحد الجائرين، واتفق أنه لم يستعمل إلا كذلك، انتهى.
قال السهيلي: " واتفق في اسم جبريل عليه السلام أنه موافق من جهة العربية لمعناه وإن كان أعجميا، فإن الجبر هو إصلاح ما وهى، وجبريل موكل بالوحي، وفي الوحي إصلاح ما فسد وجبر ما وهى من الدين، ولم يكن هذا الاسم معروفا بمكة ولا بأرض العرب، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة به انطلقت تسأل من عنده علم الكتاب كعداس ونسطور الراهب وورقة.(3/99)
فقالوا لها: قدوس قدوس أنى لهذا الاسم أن يذكر في هذه البلاد " كما تقدم بيان ذلك.
الفائدة الثالثة: في بعض فضائله: ذكره تعالى في كتابه في خمسة وثلاثين موضعا بالصريح وغيره، وذكره باسمه في ثلاثة مواضع: في البقرة في موضعين: (قل من كان عدوا لجبريل) (البقرة: 97)، (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل) (البقرة: 98)، والثالث في التحريم (وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل) (التحريم: 4)، وذكره بلفظ الجمع على سبيل التعظيم في أربعة مواضع الأول والثاني والثالث في آل عمران (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب) (آل عمران: 39)، وهو جبريل وحده بدليل قراءة ابن مسعود رضي الله عنه (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك) (آل عمران 42) (إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه) (آل عمران: 45) والرابع في النحل: (ينزل الملائكة بالروح من أمره) يعني جبريل والروح الوحي.
وذكر بلفظ الروح في ثمانية مواضع بلفظ الروح مطلقا، وبإضافته إلى نفسه وبإضافته إلى القدس وهو الطهارة، وبوصفه بالأمانة، فقال: (تعرج الملائكة والروح إليه) (المعارج: 4) يعني جبريل (تنزل الملائكة والروح فيها) (القدر: 4)، (فأرسلنا إليها روحنا) (مريم: 17)، (وأيدناه بروح القدس) (البقرة: 87) وفي المائدة: (إذ أيدتك بروح القدس) (المائدة: 9) وفي النحل (قل نزله روح القدس من ربك بالحق) (النحل: 102)، وفي الشعراء (نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين) (الشعراء: 193، 194)، ووصفه في موضع واحد بسبع صفات جميلة وهي: الرسالة والكرم والقوة والقربة والمكانة وطاعة الملائكة والأمانة، وذلك في سورة التكوير في قوله تعالى: (إنه لقول رسول الكريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين) (التكوير: 19، 20، 21).
وروي أبو الشيخ في العظمة عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أقرب الخلق إلى جبريل وميكائيل وإسرافيل وإنهم من الله بمسيرة ألف
سنة ".
وروى أبو الشيخ عن وهب.
قال: هؤلاء الأربعة أملاك: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، أول من خلقهم الله من الملائكة وآخر من يميتهم، وأول من يحييهم وهم المدبرات، وروى أبو الشيخ عن خالد بن أبي عمران قال: جبريل أمين الله تعالى إلى رسله، وميكائيل يلقي الكتب التي ترفع من أعمال الناس وإسرافيل بمنزلة الحاجب.
وروى أبو الشيخ عن عكرمة بن خالد أحد التابعين أن رجلا قال: يا رسول الله أي الملائكة أكرم على الله ؟ قال: لا أدري فجاءه جبريل فقال: يا جبريل أي الملائكة أكرم على الله ؟ قال: لا أدري، فعرج جبريل: ثم هبط فقال: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك(3/100)
الموت، فأما جبريل فصاحب الحرب وصاحب المرسلين وأما ميكائيل فصاحب كل قطرة تسقط وكل ورقة، وأما ملك الموت فهو موكل بقبض روح كل عبد في بر أو بحر، وأما إسرافيل فأمين الله بينه وبينهم.
التنبيه السادس: في لغات ميكائيل وهي سبع: الأولى وهي الأفصح: ميكال بوزن ميقات وميعاد وبها قرأ أبو عمرو.
الثانية: مكائيل: بهمزة فياء وهي قراءة نافع.
الثالثة: ميكائيل بياءين وهي قراءة باقي السبعة.
الرابعة: ميكئيل بهمزة بعد الكاف فمثناة تحتية وهي قراءة ابن محيصن.
الخامسة: كذلك (أي ميكئل) إلا أنه لا ياء بعد الهمزة وبها قرأ بعضهم.
السادسة: ميكاييل بياءين صريحتين بعد الألف وبها قرأ الأعمش.
السابعة: ميكاءيل بهمزة مفتوحة بعد الألف.
التنبيه السابع: في الكلام على البراق، وهو بضم الموحدة وتخفيف الراء مشتق من البريق فقد جاء في لونه أنه أبيض أو من البرق لأنه وصف بسرعة السير أو من قولهم: شاة برقاء إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سوداء، ولا ينافيه وصفه في الحديث بالبياض لأن البرقاء من الغنم معدودة في البيض.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد والحارث: " أبرقوا فإن دم عفراء أزكى عند الله من دم سوداوين "، فجعل البرقاء مقابلة
السوداوين تفضيلا للبياض، فلهذا يكون البراق أفضل الألوان ويجوز أن يجمع بين المعنيين فيسمى براقا للونه ولسرعة مسيره فيكون ذلك من قبيل مجملي اللفظ المشترك دفعة واحدة في اللفظ ويحتمل ألا يكون مشتقا.
قال ابن أبي جمرة: وإنما كان ركوب النبي صلى الله عليه وسلم على البراق إشارة إلى أن الاختصاص به لأنه لم ينقل أن أحدا ملكه بخلاف جنسه من الدواب.
قال: والقدرة صالحة لأن يصعد بنفسه بغير براق، لكن كان البراق بشارة له في تشريفه، لأنه لو صعد بنفسه لكان في صورة ماش، والراكب خلاف الماشي.
وقال ابن دحية: ربما مزج خرق العادة بالعادة تأنيسا، وقد كان الحق قادرا على أن يرفع نبيه صلى الله عليه وسلم بدون البراق، ولكن الركوب وصفة المركوب المعتاد تأنيس في هذا المقام العظيم بطرف من العادة، ولعل الإسراء بالبراق إظهار للكرامة العرفية، فإن الملك العظيم إذا استدعى وليا له وخصيصا به، وأشخصه إليه بعث إليه بمركوب سني، يحمله عليه في وفادته إليه.
ولم يكن البراق بشكل الفرس ولكنه بشكل البغل وكان ذلك - والله تعالى أعلم - للإشارة إلى أن الركوب في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة في الإسراع العجيب من دابة ما يوصف شكلها بالإسراع الشديد عادة.
فإن قيل: فقد ركب النبي صلى الله عليه وسلم البغلة في الحرب، فالجواب: كان ذلك لتحقيق نبوته(3/101)
عليه الصلاة والسلام في مواطن الضرب، والطعن والانتشاب في نحر العدو، ولما كان الله تعالى خصه بمزيد من الشجاعة والقوة.
وإلا فالبغال عادة من ركوب الطمأنينة والأمنة، فبين أن الحرب عنده كالسلم قوة قلب وشجاعة نفس، وثقة وتوكل.
وركبت الملائكة في الحرب على الخيل لا غير لأنها بصدد ذلك عرفا دون غيرها من المركوبات.
ولطف شكل البراق لما وصفه، عن شكل البغل: وما لطف من البغال واستدار أحمد وأحسن من المطهمات (1) منها، وذلك بخلاف الخيل.
ولم يسم الله سبحانه وتعالى سير البراق برسوله صلى الله عليه وسلم طيرانا، وإنما سماه بما يسمى به
السير المعتاد وسير الليل عند العرب سرى، فيؤخذ من هذا أن الولي إذا طويت له الأرض البعيدة في الساعة الواحدة يتناوله اسم المسافر، ويشمله أحكام السفر باعتبار القصر والفطر.
وإنما لم يذكر البراق في الرجوع لأن ذلك معلوم بذكره في الصعود، كقوله تعالى: (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر) (النحل: 2) يعني والبرد.
قال في فتح الصفا: فإن قيل: هلا كان الإسراء على أجنحة الملائكة والريح كما كانت تحمل سليمان عليه الصلاة والسلام أو الخطوة كطئ الزمان ؟ قلت المراد إطلاعه على الآيات الخارقة للعادة، وما يتضمن أمرا عجيبا، ولا عجب في حمل الملائكة أو الريح بالنسبة إلى قطعة هذه المسافة، بخلاف قطعها على دابة في هذا الحجم المحكي عن صفتها، ووقع من تعظيمه بالملائكة ما هو أعظم من حمله على أجنحتها فقط.
فقد أخذ جبريل بركابه وميكائيل بزمام البراق، وهما من أكابر الملائكة، فاجتمع له صلى الله عليه وسلم حمل البرق، وما هو كحمل البراق من الملائكة وهذا أتم في الشرف.
واختلفت الأقاويل في صفته، فنقل عن ابن عباس رضي الله عنهما ما ذكر، وقال صاحب الاحتفال: إنه دون البغل وفوق الحمار، وجهه كوجه الانسان، وجسده كجسد الفرس وقوائمه كقوائم الثور وذنبه كذنب الغزال.
وقال غيره: جسده كجسد الإنسان وذنبه كذنب البعير وعرفه كعرف الفرس وقوائمه الإبل وأظلافه كأظلاف البقر وصدره كأنه ياقوتة حمراء وظهره كأنه درة بيضاء، له جناحان في فخذيه لثقل مؤخر الدابة، أؤ لأن ذلك جار على هذا الأمر في خرق العادة، أو لأجل الراكب، لأنهما لو كانا في جنبيه، على العادة لكانا تحت فخذي الراكب أو فوقهما، ويحصل له من ذلك مشقة بضمهما ونشرهما خصوصا مع السرعة العظيمة.
__________
(1) المطهم: المنتفخ الوجه.
وقيل: الفاحش السمن: وقيل: النحيف الجسم، وهو من الأضداد.
انظر النهاية لابن الأثير 3 / 147.
(*)(3/102)
وفي بعض الآثار أنه ليس بذكر ولا أنثى، فاقتضى ذلك أن يكون مفردا بالخلق بهذه
الصفة من غير توليد، وقد قال تعالى: (ومن كل شئ خلقنا زوجين) (الذاريات: 49) ونقل الشيخ سعد الدين أن الملائكة الكرام لا ذكور ولا إناث إلى آخر ما ذكره.
وفي أثر آخر أن جبريل خاطبه خطاب المؤنث.
واختلف في الحكمة في استصعاب البراق، فقال ابن بطال: إنما استصعب عليه لبعده بركوب الأنبياء قبله، ويؤيده ما في المبتدأ لابن إسحاق رواية وثيمة بن موسى في ذكر الإسراء، فاستصعب البراق وكانت الأنبياء تركبها قبلي " وكانت بعيدة العهد بركوبهم فلم تكن ركبت في الفترة.
وقال ابن دحية وابن المنبر: " إنما استصعب تيها وزهوا بركوب النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد جبريل: بقوله: أبمحمد تستصعب ؟ استنطاقه بلسان الحال إذ أنه لم يقصد الصعوبة، وإنما تاه بركوب النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: فارفض عرقا، فكأنه أجاب بلسان الحال، فبرئ من الاستصعاب، وعرق من خجل العتاب، وذلك قريب من رجفة الجبل به حتى قال: اثبت فإنما عليك نبي وصديق وشهيد، فإنها هزة طرب لا هزة غضب، كما سيأتي الكلام على ذلك مبسوطا في المعجزات.
قال الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي رحمه الله تعالى: ولا يبعد أن يقال إنما كان استصعابه فرقا من هيبة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التنبيه الثامن: قال الحافظ: من الأخبار الواهية أن البراق لما عاتبة جبريل عليه السلام اعتذر إليه البراق بأنه مس الصفراء اليوم، وأن الصفراء صنم من ذهب عند الكعبة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مر به فقال: " نبأ لمن يعبدك من دون الله " (1)، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى زيد بن حارثة أن يمسه بعد ذلك، وكسره يوم الفتح، وقال في الزهر: هذا لا ينبغي أن يذكر ولا يغزى لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام أحمد - روى عنه ابنه عبد الله أنه قال: " هو موضوع " وأنكره جدا.
التنبيه التاسع: قال الحافظ: من الأخبار الواهية ما ذكره الماوردي والثعلبي والقرطبي في التذكرة من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الموت والحياة جسمان، فالموت ليس يجد في شئ إلا مات، والحياة فرس بلقاء أنثى وهي
التي كان جبريل والأنبياء يركبونها لا تمر بشئ ولا يجد ريحها شئ إلا حيي.
التنبيه العاشر: اختلف في ركوب جبريل على البراق مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى القول به هل ركب أمام النبي صلى الله عليه وسلم أم خلفه ؟ فعند الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه أن
__________
(1) انظر الفتح 7 / 207.
(*)(3/103)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق فلم يزايل ظهره هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس.
وفي رواية عنه عند ابن حبان أن جبريل حمله على البراق رديفا له، وفي لفظ: " فركبه خلف جبريل فسار بهما ".
وفي حديث أبي ليلي أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالبراق فحمه بين يديه، رواه الطبراني.
وفي حديث ابن مسعود، رفعه: " أتيت بالبراق فركبته خلف جبريل ".
والصحيح أنه كان معدا لركوب الأنبياء قبل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وروى الفاكهي بسند حسن عن علي رضي الله عنه قال: " كان إبراهيم يزور إسماعيل وأمه على البراق ".
وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: " وكانت الأنبياء تركبها قبلي ".
ورواه البيهقي وغيره.
وقال أنس رضي الله عنه: " وكانت تسخر للأنبياء قبلي "، ورواه النسائي وابن مردويه.
وقال سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن: " أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم على البراق، وهي دابة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام "، ورواه ابن جرير.
التنبيه الحادي عشر: قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: " وتكلم أربعة وهم صغار " فذكر ابن الماشطة وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى بن مريم.
وروى الشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعا: " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة "، فذكر عيسى وصاحب جريج وابن الماشطة.
وفي حديث مسلم عن صهيب رضي الله عنه في قصة أصحاب الأخدود: أن امرأة جئ بها لتلقى في النار أو لتكفر ومعها صبي يرضع فتقاعست فقال: يا أماه اصبري فإنك على الحق.
وفي رواية عند ابن قتيبة: إنه كان ابن سبعة أشهر.
وروى الثعلبي عن الضحاك أن يحيى بن زكريا تكلم في المهد وذكر البغوي في تفسيره أن إبراهيم الخليل عليه السلام
تكلم في المهد.
وفي سير الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم في أوائل ما ولد.
وقد تكلم في زمان النبي صلى الله عليه وسلم مبارك اليمامة كما سيأتي في المعجزات، فهذه عشرة، وتقدم نظمهم في أبواب المولد، وسيأتي الكلام على ذلك مبسوطا في المعجزات.
وإذا علم ذلك فقوله صلى الله عليه وسلم: " لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة " (2)، قاله قبل أن يعلم الزيادة على ذلك.
التنبيه الثاني عشر: ذكر في القصة نزوله صلى الله عليه وسلم عن البراق وصلاته بعدة مواضع كما هو مذكور في القصة، وقال حذيفة رضي الله عنه: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزايل ظهر البراق هو وجبريل حتى انتهيا إلى بيت المقدس ".
قال الحافظ: " وهذا لم يسنده حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه قاله عن اجتهاد ".
قلت: ويدل على ذلك إنكاره ربط البراق والصلاة
__________
(1) أخرجه مسلم 1 / 145 (259 - 162) وانظر مسند الإمام أحمد 3 / 148 والحاكم في المستدرك 4 / 606 الدر المنثور للسيوطي 4 / 136.
(2) أخرجه البخاري 4 / 201 ومسلم 4 / 1976 وأحمد في المسند 2 / 301 والحاكم في المستدرك 2 / 595.
(*)(3/104)
في بيت المقدس، مع ورود الأحاديث الصحيحة عن جماعة من الصحابة بوقوع ذلك كما سيأتي.
التنبيه الثالث عشر: أنكر حذيفة رضي الله عنه ربط البراق، فروى الإمام أحمد والترمذي عنه أنه لما قيل له: ربط البراق قال: أخاف أن يفر منه وقد سخره له عالم الغيب والشهادة ؟ قال البيهقي والسهيلي: والمثبت مقدم على النافي، يعني من أثبت ربط البراق في بيت المقدس معه زيادة علم على من نفى، فهو أولى بالقبول.
قال الإمام النووي: وفي ربط البراق الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب، وأن ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله سبحانه وتعالى.
وقال السهيلي: وفي هذا من الفقه التنبيه على الأخذ بالحزم مع صحته التوكل وأن الإيمان بالقدر كما روى عن وهب بن منبه لايمنع الحزم من توفي المهالك، قال وهب: وجدته في سبعين كتابا من كتب الله القديمة، وهذا نحو من قوله صلى الله عليه وسلم:
" اعقلها وتوكل " (1).
فإيمانه صلى الله عليه وسلم بأنه قد سخر له كإيمانه بقدر الله تعالى وعلمه بأنه قد سبق في أم الكتاب ما سبق، ومع ذلك كان يتزود في أسفاره، ويعد السلاح في حروبه، حتى لقد ظاهر بين درعين في غزوة أحد وربطه للبراق من هذا الفن.
التنبيه الرابع عشر: في بعض فضائل بيت المقدس وفيه فوائد: الأولى: في مبدأ خلقه: روى أبو بكر الواسطي عن علي رضي الله عنه قال: كانت الأرض ماء، فبعث الله تعالى ريحا فمسحت الماء مسحا، فظهرت على الأرض زبدة فقسمها أربع قطع، خلق من قطعة مكة ومن أخرى المدينة ومن أخرى بيت المقدس ومن أخرى الكوفة.
وتقدم حديث أبي ذر في الباب الأول من أبواب بعض فضائل بلده المنيف فراجعه.
وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن سليمان عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل ربه خلالا ثلاثا فأعطاه إياها: سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد يعني بيت المقدس خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه ".
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ونحن نرجو أن يكون الله تعالى قد أعطاه ذلك " (2).
وروى ابن أبي شيبة والواسطي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: " إن بيت المقدس لمقدس في السموات السبع بمقداره في الارض) وروى الواسطي عن عطاء
__________
(1) أخرجه ابن حبان (2549) وأبو نعيم في الحلية 8 / 390 وذكره العجلوني في كشف الخفا 1 / 161 وعزاه للترمذي عن أنس.
(2) أخرجه النسائي في المساجد باب (6) وأحمد في المسند 2 / 176 وذكره السيوطي في الدر 4 / 160.
(*)(3/105)
الخراساني قال: (لما فرغ سلميان بن داود عليهما الصلاة والسلام من بناء بيت المقدس أنبت الله شجرتين عند باب الرحمة أحدهما تنبت الذهب والاخرى تنبت الفضة، فكان كل يوم تنزع من كل واحدة مائة رطل ذهب وفضة، ففر ش المسجد، بلاطة ذهبا وبلاطة فضة.
فلما جاء بختنصر خربه واحتمل منه ثمانين عجلة ذهبا وفضة فطرحهما برومية).
وروى الواسطي عن سعيد بن المسيب رحمهما الله تعالى أن سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس فرغ له عشرة آلاف من قراء بني إسرائيل: خمسة آلاف بالليل وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل أو نهار إلا والله تعالى يعبد فيه.
وروى الواسطي عن كعب الاحبار أن سليمان بن داود عليهما السلام لما فرغ من بناء المسجد خر ساجدا شكرا لله وقال: (يا رب من دخله من خائف فأمنه أو من داع فاستجب له أو مستغفر فاغفر له).
فأوحى الله تعالى إليه: (إني قد أجبت لال داود الدعاء).
قال: فذبح أربعة آلاف بقرة وسبعة آلاف شاة، وصنع طعاما كثيرا ودعا بني إسرائيل إليه.
والاثار في هذا كثيرة، وقد ذكر المؤرخون في عمارته وما فيه من الجواهر والمعادن واليواقيت في سمائه وأرضه وجدرانه ما تعجز عنه ملوك الدنيا.
فلما دخل بختنصر خربه وأخذ تلك النفائس التي فيه، وذكر ذلك هنا ليس من غرضنا.
الثانية: في بعض فضله، قال الله سبحانه وتعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله) (الاسراء: 1) وهذه الاية هي المعظمة لقدره بإسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه قبل عروجه إلى السماء وإخبار الله تعالى بالبركة حوله.
وتقدم الكلام على ذلك.
وقال تعالى: (ونجيناه ولوطا إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين) (الانبياء: 71).
روى أبو المعالي المشرف بن المرجى المقدسي في فضائله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (الجنة تحن إلى بيت المقدس، وصخرة بيت المقدس من جنة الفردوس).
وروى الواسطي عن مكحول قال: (من صلى في بيت المقدس ظهرا وعصرا ومغربا وعشاء، ثم صلى الغداة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
وروى أيضا عن كعب قال: (في بيت المقدس، اليوم فيه كألف يوم وشهر فيه كألف شهر والسنة فيه كألف سنة، ومن مات فيه كأنما مات في السماء).
وروى الحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (في بيت المقدس لنعم المصلى، وليوشكن ألا
يكون للرجل مثل بسط فرشه من الارض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعا أو قال خير من الدنيا وما فيها).
وروى الواسطي عن كعب قال: (إن الله ينظر إلى بيت المقدس كل يوم مرتين).
والاثار في فضله كثيرة.(3/106)
الثالثة: في أسمائه: الأول: المسجد الاقصى وتقدم الكلام عليه.
الثاني: مسجد إيلياء بوزن كبرياء.
وحكى البكري وغيره قصر ألفه، وحكى ابن يونس في شرح التعجيز.
وابن الاثير في النهاية بتشديد الياء.
وحكى صاحب المطالع وغيره حذف الياء الاولى وكسر الهمزة وسكون اللام والمد، قال محمد بن سهل الكاتب: معنى إيلياء بيت الله.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما في مسند أبي يعلى: (الايلا) بالالف واللام، قال النووي: وهو غريب.
الثالث والرابع: (بيت المقدس) بفتح الميم وإسكان القاف وكسر الدال مخففة، (والبيت المقدس) بضم الميم وفتح القاف والدال المشددة.
قال الواحدي: (معناه المطهر)، قال: أبو علي المقدسي: (وأما بيت المقدس يعني بالتخفيف فلا يخلو إما أن يكون مصدرا أو مكانا، فإن كان مصدرا كان كقوله تعالى: (إليه مرجعكم جميعا) (يونس: 4) ونحوه من المصادر، وإن كان مكانا فالمعنى بيت المكان الذي جعل فيه الطهارة أو بيت مكان الطهارة، وتطهيره على معنى إخلائه من الاصنام وإبعاده منها)، وقال الزجاج: (البيت المقدس أي المكان المطهر، وبيت المقدس أي المكان الذي يطهر فيه من الذنوب، هذا ما ذكره الواحدي)، وقال غيره: (البيت المقدس وبيت المقدس لغتان الاولى على الصفة والثانية على إضافة الموصوف إلى صفته كصلاة الاولى ومسجد الجامع.
قال ابن سراقة: (ويقال الارض المقدسة ثلاثة: فلسطين - بفاء مفتوحة فلام مفتوحة - والاردن - بهمزة مضمومة فراء ساكنة فدال مهملة مضمومة فنون، قال البكري: مشددة - ودمشق، وهو ما أدرك بصر إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين رفع على الجبل وقيل له: (ما أدرك بصرك فهو ميراث لك ولولدك من بعدك).
الخامس: بيت المقدس: بضم الدال وإسكانها بغير ميم، ذكره الحازمي (2) في أسماء الاماكن ونقل عن ابن الاثير أيضا.
السادس: سلم بتشديد اللام لكثرة سلام الملائكة فيه.
قال ابن بري: وأصله (شلم) بالشين المعجمة لان الشين المعجمة في العربية سين، فالسلام شلام واللسان لشان والاسم اشم، وقال البكري في حرف الشين المعجمة: (شلم) (3) بفتح أوله وثانيه وتشديده على وزن
__________
(1) محمد بن يحيى بن سراقة العامري، أبو الحسن: فقيه فرضي.
من أهل البصرة.
صنف كتبا في فقه الشافعية والفرائض ورجال الحديث.
ووقف ابن الصلاح على (كتاب الاعداد) له.
توفي سنة 410 ه.
انظر الاعلام 7 / 136.
(2) محمد بن موسى بن عثمان بن حازم، أبو بكر، زين ا لدين، المعروف بالحازمي: باحث، من رجال الحديث.
أصله من همذان، ووفاته ببغداد.
له كتاب (ما اتفق لفظه واختلف مسماه) في الاماكن والبلدان المشتبهة في الخط، و (الفيصل) في مشتبه النسبة، و (الاعتبار في بيان الناسخ والمنسوخ من الاثار) في الحديث، و (عجالة المبتدي وفضالة المنتهي) توفي سنة 584 ه.
الاعلام 7 / 117.
(3) انظر لسان العرب 4 / 2318.
(*)(3/107)
فعل اسم لبيت ا لمقدس.
وقال الهمداني: (شلم): وقد تعربها العرب فنقول: شلم.
وحكى ابن القطاع: شلام على وزن فعاله.
وقال ابن الاثير: (شلم) بالمعجمة وتشديد اللام اسم لبيت المقدس ويروى بالمهملة وكسر اللام سلم كأنه عربه.
ومعناه بالعبرانية: بيت السلام.
السابع: روي عن كعب الاحبار، أن الجنة في السماء السابعة بحيال بيت المقدس والصخرة، ولو وقع حجر منها لوقع على الصخرة ولذلك دعيت: أورى شلم، ودعيت الجنة: دار السلام.
الثامن: أوري شلم، بضم الهمزة وسكون الواو وكسر الراء وسكون التحتية وفتح الشين المعجمة وكسر اللام المخففة، كذا قال أبو عبيدة معمر بن المثنى، والاكثرون بفتح الشين واللام.
التاسع: كوره إليا، العاشر: أورى شلم.
الحادي عشر: بيت إيل، أي بيت الله.
الثاني
عشر: (صهيون): بصاد مهملة مكسورة فهاء ساكنة فمثناة تحتية فواو فنون، ذكره البكري.
قال: وهو بفتح الصاد اسم قبيلة.
الثالث عشر: (مصرث) بميم فصاد فراء فثاء مثلثة.
الرابع عشر: (بابوش): بموحدتين وآخره شين معجمة.
الخامس عشر: (كورشيلاه).
السادس عشر: (صلعون): ذكر هذه الاسماء ابن خالويه.
السابع عشر: سليم.
الثامن عشر: (فسط مصر) بضم الفاء.
التاسع عشر: أرض المحشر والمنشر.
العشرون: المحفوظة.
الحادي والعشرون: المفرقة.
الثاني والعشرون: مدينة الجنة.
الرابعة: في خصائصه: الاولى في مضاعفة الصلاة فيه: وقد اختلفت الاحاديث في مقدارها: الأول: خمسمائة صلاة: روى الامام أحمد وابن ماجه والبزار والقاسم الحافظ أبي القاسم بن عساكر عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (الصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة (1)).
الثاني: ألف صلاة: روى ابن ماجه عن ميمونة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله افتنا في بيت المقدس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة) (2).
قال النووي: لا بأس بإسناده، وقال الذهبي: حديث منكر.
الثالث: خمسون ألف صلاة: روى ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة، وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة، وصلاته في المسجد الاقصى بخمسين ألف صلاة).
وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف
__________
(1) ذكره الهيثمي في المجمع 4 / 10 وعزاه للطبراني في الكبير وقال: ورجاله ثقات وفي بعضهم كلام وهو حديث حسن.
(2) أخرجه ابن ماجه (1407) والطحاوي في مشكل الاثار 1 / 249 وابن حجر في المطالب (1365) وذكره المتقي الهندي في الكنز (38198) والعجلوني في كشف الخفا 1 / 345.
(*)(3/108)
صلاة (1)).
الرابع: مائتان وخمسون: روى الطبراني في م عجمه عن أبي ذر رضي الله عنه،
مرفوعا: (صلاة في مسجدي أفضل من أربع فيه) (2)، يعني بيت المقدس، فدل على أن الصلاة في بيت المقدس بمائتين وخمسين صلاة.
الخامس: بعشرين ألف صلاة، روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ولهذا مزيد بيان في أبواب فضائل المدينة الشريفة.
الثانية: استحباب شد المطي إليه لما رواه الشيخان: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام والمسجد الاقصى) (3).
الثالثة: استحباب ختم القرآن فيه: روى سعيد بن منصور في سننه عن أبي مجلز - بكسر الميم ويحكي فتحها وإسكان الجيم وفتح اللام وبالزاي - واسمه لاحق بن حميد، قال: (كانوا يستحبون لمن أتى المساجد الثلاثة أن يختم بها القرآن قبل أن يخرج).
الرابعة: استحباب المجاورة به: روى الحاكم عن ثور بن يزيد عن مكحول قال: (كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس رضي الله عنهما يسكنان بيت المقدس).
وقد سكنه عدة من الصحابة رضي الله عنهم.
الخامسة: يستحب الصيام فيه فقد روي: (صوم في بيت المقدس براءة من النار).
السادسة: استحباب الاحرام بالحج والعمرة منه: روى أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الاقصى غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) (4).
السابعة: يستحب لمن لم يقدر على زيارته أن يهدي له زيتا، روى أبو داود وابن ماجه واللفظ له عن ميمونة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله: أفتنا في بيت المقدس.
قال: (أرض المحشر والمنشر، إيتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره).
قلت: يا رسول الله أرأيت إن لم أستطع أن أصل إليه ؟ قال: (فتهدي إليه زيتا ليسرج فيه فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه).
المحشر مفعل من الحشر وهو الجمع يعني يوم القيامة، فإذا فتحت الين فهو المصدر، وأما الموضع فهو بالكسر.
قال الجوهري: المحشر بالكسر موضع الحشر.
انتهى.
وذكر صاحب مختصر العين أن المحشر بالكسر والفتح الموضع الذي يحشر إليه الناس
والمنشر موضع النشور وهو قيام الموتى من قبورهم.
الثامنة: حكي عن بعض السلف أن السيئات تضاعف فيه، روي ذلك عن كعب
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (1413) وابن الجوزي في العلل 2 / 86.
(2) ذكره الهيثمي في المجمع 4 / 10 وعزاه للطبراني في الاوسط وقال: رجاله رجال الصحيح.
(3) أخرجه البخاري 3 / 70 (1197) ومسلم 2 / 976 (415 - 827).
(4) أخرجه أبو داود (1741) والبيهقي 5 / 30 والبخاري في التاريخ 1 / 161.
(*)(3/109)
الاحبار وأنه لما كان يأتي من حمص للصلاة فيه، فإذا صار منه قدر ميل اشتغل بالذكر والتلاوة والعبادة حتى يخرج منه بقدر ميل أيضا ويقول: (السيئات تضاعف فيه)، أي تزداد قبحا وفحشا لان العاصي في زمان أو مكان شريف أشد جرأة وأقل خوفا من الله تعالى.
وذكر أبو بكر الواسطي عن نافع قال: قال لي ابن عمر: (اخرج بنا من هذا المسجد فإن السيئات تضاعف فيه كما تضاعف الحسنات).
التاسعة: أن الدجال لا يدخل بيت المقدس.
روى ابن أبي شيبة في المصنف عن سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الدجال فقال: (وإنه سيظهر على الارض كلها إلا الحرم وبيت المقدس (وأنه يحصر المؤمنين في بيت المقدس قال: فيهزمه الله وجنوده حتى إن جذم الحائط وأصل الشجرة ينادي: يا مؤمن: هذا كافر يستتر بي تعالى اقتله إلى آخره).
العاشرة: أن الصخرة في المسجد الاقصى كالحجر الاسود في المسجد الحرام.
روى أبو نعيم عن وهب بن منبه قال: (إن الله تعالى قال لصخرة بيت المقدس: لاضعن عليك عرشي ولاحشرن إليك خلقي وليأتينك يومئذ داود راكبا، وروى أبو بكر الواسطي وابن عساكر عن يزيد بن جابر في قوله تعالى: (واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب) (ق 41)، قال: (يقف إسرافيل على صخرة بيت المقدس فينفخ في الصور فيقول: (يا أيتها العظام النخرة والجلود
المتمزقة والاشعار المتقطعة إن الله يأمرك أن تجتمعي لفصل الخطاب).
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم والواسطي عن قتادة في الاية قال: (كنا نتحدث أنه ينادى من بيت المقدس من الصخرة وهي أوسط الارض)، وحدثنا أن كعبا قال: هي أقرب الارض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.
الحادية عشرة: يكره استقبال بيت المقدس واستدباره بالبول والغائط ولا يحرم قاله في الروض.
الثانية عشرة: روي أنه من دفن في بيت ا لمقدس وفي فتنة القبر وسؤال الملكين ومن دفن في زيتون الملة (يعني بإيلياء) فكأنما دفن في السماء الدنيا.
وروى أبو نعيم في تاريخه عن أحمد بن جعفر بن سعيد قال حدثنا يحيى بن مطرف حدثنا محمد بن بكر، حدثنا يوسف بن عطية، عن أبي سفيان، عن الضحاك بن عبد الرحمن ابن عرزب - بفتح المهملة وسكون الراء وفتح الزاي ثم موحدة، وقد تبدل ميما - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات في بيت المقدس فكأنما مات في السماء) (1).
__________
(1) أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات 2 / 220.
(*)(3/110)
الثالثة عشرة: روى الخطيب في الموضح عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول من يدخل الجنة الانبياء ثم مؤذنو البيت ثم مؤذنو بيت المقدس ثم مؤذنو مسجدي ثم سائر المؤذنين) (1).
الرابعة عشرة: ليحذر من اليمين الفاجرة فيه وكذا في المسجد الحرام ومسجد المدينة فإن عقوبتها معجلة.
روي أن عمر بن عبد العزيز أمر بحمل عمال سليمان بن عبد الملك إلى الصخرة ليحلفوا عندها فحلفوا إلا واحدا، فدى يمينه بألف دينار، فما مر الحول على واحد منهم بل ماتوا كلهم.
الخامسة عشرة: روى ابن جرير عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم) (2).
قيل: فأين هم يا رسول الله ؟ قال: (ببيت المقدس أو بأكناف بيت المقدس).
وروى أبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله لا يضرهم خذلان من خذلهم ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة) (3).
السادسة عشرة: روى أبو المعالي المشرف بن المرجى المقدسي قال: (من حج وصلى في مسجد المدينة، ومسجد الاقصى في عام واحد خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
وإذا ثبت ذلك فقول النووي: (إنه لا أصل لذلك) فيه نظر.
السابعة عشرة: ذكر الدارمي: (أنه لا يجوز الاجتهاد يمنة ولا يسرة بمحراب بيت المقدس) وألحقه بمسجد المدينة.
الثامنة عشرة: نص الصيدلاني والماوردي والروياني والبغوي والبندنيجي - بفتح الموحدة وسكون النون الاولى وكسر الثانية ثم تحتية والجيم - والجويني في مختصره والغزالي في الخلاصة والخراساني في كافيه على استحباب صلاة العيد في مسجد بيت المقدس وأن فعلها فيه أولى من المصلى.
التاسعة عشرة: قال ابن سراقة في كتاب الاعداد: (أكبر مساجد الاسلام واحد وهو
__________
(1) أخرجه ابن الجوزي في العلل 1 / 393 والبغدادي في موضع أوهام الجمع والتفريق 1 / 50.
(2) أخرجه البخاري 9 / 125 ومسلم في كتاب الامارة (170) وأخرجه أبو داود في كتاب الفتن باب (1) والترمذي (2192) وابن ماجه (6) وأحمد في المسند 9 / 181.
(3) أخرجه ابن عدي في الكامل 7 / 2545 وذكره ابن حجر في المطالب (4244) والمتقي الهندي في الكنز (35051).
(*)(3/111)
بيت المقدس).
وقيل: (ما تم فيه صف واحد قط لا في عيد ولا في جمعة ولا غير ذلك).
العشرون: يستحب لزائره زيارة الاماكن المشهورة بآثار الانبياء لا سيما مواضع صلاة نبينا صلى الله عليه وسلم.
الحادية والعشرون: حشر الكعبة إلى بيت المقدس: روى الواسطي في فضائل بيت المقدس عن خالد بن معدان - بفتح الميم - قال: (لا تقوم الساعة حتى تزف الكعبة إلى الصخرة زف العروس، فيتعلق بها جميع من حج واعتمر، فإذا رأتها الصخرة قالت: مرحبا بالزائرة والمزور إليها).
وروي أيضا عن كعب قال: (لا تقوم الساعة حتى يزف البيت الحرام إلى بيت المقدس فيتغادان إلى الجنة، فيها أهلها، والعرض والحساب ببيت المقدس) وروى ابن مردويه والاصفهاني في ترغيبه والديلمي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة زفت الكعبة: البيت الحرام إلى قبري فتقول الكعبة: السلام عليك يا محمد، فأقول: عليك يا بيت الله، ما صنع بك أمتي بعدي ؟ فتقول: يا محمد من أتاني فأنا أكفيه وأكون له شفيعا، ولم يأتني فأنت تكفيه وتكون له شفيعا) (1).
وروى الجندي عن الزهري نحوه.
التنبيه الخامس عشر: أنكر حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس تلك الليلة، واحتج بأنه لو صلى فيه لكتب عليكم الصلاة فيه.
قال البيهقي وابن كثير: والمثبت مقدم على النافي، يعني من أثبت الصلاة في بيت المقدس، وهم الجمهور من الصحابة معه زيادة علم على من نفى ذلك، فهو أولى بالقبول.
والجواب عما استند إليه حذيفة رضي الله عنه منع التلازم في الصلاة إن كان أراد بقوله كتب عليكم الفرض، وإن أريد التشريع فيلتزمه، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس، فقرنه بالمسجد الحرام ومسجده في شد الراحلة وذكر فضيلة الصلاة فيه في غير ما حديث.
التنبيه السادس عشر: تظافرت الروايات على أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء قبل العروج وهو أحد الاحتمالين للقاضي، وقال الحافظ: " إنه الأظهر "، والاحتمال الثاني " أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم بعد أن هبط من السماء أيضا فهبطوا.
وصححه الحافظ ابن كثير، وقال صاحب السراج: " وما
المانع من أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم مرتين، فإن في بعض الأحاديث ذكر الصلاة بهم بعد ذكره المعراج ".
التنبيه السابع عشر: قيل: كيف يصلي الأنبياء وهم أموت في الدار الآخرة وليست
__________
(1) ذكر السيوطي في الدر 1 / 137 وعزاه لابن مردويه والأصبهاني في الترغيب والديلمي.
(*)(3/112)
دار عمل ؟ وأجاب القاضي وتبعه السبكي بجوابين: الأول: إنا نقول: إنهم كالشهداء بل أفضل، والشهداء أحياء عند ربهم، فلا يبعد أن يحجوا وأن يصلوا كما ورد في الحديث الآخر، وأن يتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا لأنهم وإن كانوا قد توفوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل حتى إذا فنيت مدتها، وتعقبها الآخرة التي هي دار الجزاء انقطع العمل، وحاصله أن البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور.
الثاني ولفظه للسبكي رحمه الله تعالى: " إنا نقول إن المنقطع في الآخرة إنما هو التكليف، وقد تحصل الأعمال من غير تكليف على سبيل التلذذ بها والخضوع لله تعالى.
ولهذا ورد أنهم يسبحون ويدعون ويقرأون القرآن وانظر إلى سجود النبي صلى الله عليه وسلم وقت الشفاعة، أليس ذلك عبادة وعملا ؟ وعلى كلا الجوابين لا يمتنع حصول هذه الأعمال في مدة البرزخ ".
وقد صح عن ثابت البناني التابعي أنه قال: " اللهم إن كنت أعطيت أحدا أن يصلي في قبره فأعطني ذلك ".
فرؤي بعد موته يصلي في قبره.
ويكفي رؤيه النبي صلى الله عليه وسلم لموسى قائما يصلي في قبره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء لم يقبضوا حتى خيروا بين البقاء في الدنيا وبين الآخرة فاختاروا الآخرة.
ولا شك أنهم لو بقوا في الدنيا لازدادوا من الأعمال الصالحة ثم انتقلوا إلى الجنة، فلو لم يعلموا أن انتقالهم إلى الله تعالى أفضل لما اختاروه، ولو كان انتقالهم من هذه الدار يفوت عليهم زيادة فيما يقرب إلى الله تعالى لما اختاروه.
انتهى ولهذا مزيد بيان يأتي في باب حياته في قبره صلى الله عليه وسلم.
التنبيه الثامن عشر: هذه الصلاة التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة
والسلام، الصواب أنها الصلاة المعروفة لأن النص يحمل على حقيقتها الشرعية قبل اللغوية إلا إذا تعذر حمله على الشرعية، ولم يتعذر هنا فوجب حمله على الشرعية.
وعلى هذا قال بعضهم: " كانت الصلاة التي صلاها العشاء " وقال بعضهم: " إنها الصبح ".
قلت: وليسا بشئ سواء قلنا صلى بهم قبل العروج أو بعده لأن أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس مطلقا الظهر بمكة باتفاق، ومن حمل الأولية على مكة فعليه الدليل، والذي يظهر والله تعالى أعلم أنها كانت من النفل أو كانت من الصلاة المفروضة عليه قبل ليلة الإسراء، وفي فتاوى النووي ما يؤيد الثاني.
التنبيه التاسع عشر: قال بعضهم: ورؤيته إياهم صلى الله عليه وسلم في السماء محمولة على رؤيته أرواحهم إلا عيسى، لما صح أنه رفع بجسده، وقد قيل في إدريس أيضا ذلك.
وأما الذين صلوا معه في بيت المقدس فيحتمل الأرواح خاصة، ويؤيده ما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عند الحاكم والبيهقي، " فلقي أرواح الأنبياء "، وفيه دليل على تشكل الأرواح(3/113)
بصور أجسادها في علم الله تعالى، ويحتمل الأرواح بالأجساد ويؤيده حديث عبد الرحمن بن هاشم عن أنس رضي الله عنه عند البيهقي.
وبعث الله له آدم فمن دونه من الأنبياء.
وعند البرار والطبراني: " فنشر لي الأنبياء، من سمى الله تعالى ومن لم يسم، فصليت بهم ".
التنبيه العشرون: قول سيدنا إبراهيم صلى الله عليه وسلم: " وأعطاني ملكا عظيما ": قال ابن دحية: لا يعهد لإبراهيم ملك عرفي، فإما أن يراد بالملك الإضافة إليه نفسه وذلك لقهره لعظماء الملوك، وناهيك بالنمرود، وقد قهره الله تعالى لخليله وأعجزه عنه، وغاية الملك العظيم قهر الملك العظيم، فالقاهر أعظم من المقهور قطعا، ويحتمل أن يراد الإضافة إلى نبيه وذريته وذلك نحو ملك يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم وهلم جرا كملك دواد وسليمان والكل من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفي التنزيل: (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا
عظيما) (النساء: 54) والإشارة هنا إلى ذريته.
وإما أن يراد ملك النفس في مظنة الاضطراب مثل ملكه لنفسه.
وقد سأله جبريل فقال: ألك حاجة ؟ فقال: أما إليك فلا.
التنبيه الحادي والعشرون: اختلف في تقديم الآنية هل هو قبل العروج أو بعده ؟ واختلف في عددها فأكثر الروايات أنه كان قبله.
روى أحمد والشيخان والنسائي والترمذي من حديث أنس عن مالك بن صعصعة رضي الله تعالى عنه: " ثم رفع إلى البيت المعمور "، إلى أن قال: " ثم أتيت بإناءين: أحدهما خمر والآخر لبن "، وعند البخاري في الأشربة من طريق شعبة عن قتادة عن أنس مرفوعا: " رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا فيها أربعة أنهار " قال: " وأتيت بثلاثة أقداح " (1).
لم يذكر شعبة في الإسناد مالك بن صعصة.
وعند ابن عائذ من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في حديث المعراج بعد ذكر رؤيته إبراهيم في السماء السابعة: " ثم انطلقنا فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة ".
قال السهيلي وابن دحية وابن المنبر وابن كثير والحافظ: " لعله قدم مرتين جمعا بين الروايات ".
قال ابن كثير والحافظ: " وأما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر، ومجموعها أربعة آنية فيها تعرض الآنية مرتين وأربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي تخرج من أصل سدرة المنتهى ".
التنبيه الثاني والعشرون: إذا قلنا بعرض الآنية مرتين ففائدة عرض الخمر (مع) إعراضه عنها في المرة الأولى وتصويب جبريل له، تكثير التصويب والتحذير.
وهل كانت
__________
(1) أخرجه البخاري 7 / 198 كتاب الأشربة (5610) أخرجه الحاكم في المستدرك 1 / 81 وذكره المتقي الهندي في الكنز (31846).
(*)(3/114)
الخمر من خمر الجنة أو من جنس خمر الدنيا ؟ فإن كان الأول فسبب تجنبها صورتها ومضاهاتها للخمر المحرمة، ويكون ذلك أبلغ في الورع.
وإن كان الثاني فاجتنابها واضح.
وعلى التقدير الأول يستفاد منه فائدة: وهو أول من وضع من الماء ونحوه من الأشربة ما يضاهي
الخمر في الصورة وهيأة بالهيئة التي يتعاطاها (بها) أهل الشهوات من الاجتماعات والآلات فقد أتى منكرا وإن كان لا يحد.
وذكر أصحابنا أن إدارة كأس الماء على شاربه تشبها بشارب الخمر حرام، ويعزر فاعله.
التنبيه الثالث والعشرون: قال ابن دحية: اعلم أن التخيير قد يكون بين واجبين كخصال الكفارة وقد يكون بين مباحين وأما التخيير بين واجب وممنوع أو مباح وممنوع فمستحيل، فانظر في إحضار اللبن والخمر، هل أريد به الإباحة لهما والإذن فيهما ؟ كما لو أحضرت طعامين لضيف وأبحتهما له، فما معنى إختياره لأحدهما ؟ وما معنى قول جبريل: " اخترت الفطرة " أو " أصبت، أصاب الله بك ؟ " وإن كان المراد الإذن في أحدهما لا بعينه "، بحيث يكون الآخر ممنوعا لزم التخيير بين ممنوع ومباح * وذلك لا يتصور، والذي يرفع الإشكال إن شاء الله تعالى أن يكون المراد تفويض الأمر في تحريم ما يحرم منها وتحليل ما يحل إلى إجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وسداد نظره المعصوم.
فلما نظر فيها أداة اجتهاده إلى تحريم الخمر وتحليل اللبن، فوافق الصواب في علم الله تعالى، فقال له جبريل: " أصبت "، وعلى تقدير ألا تكون الخمر محرمة لأنها حرمت بالمدينة فيكون توقيها ورعا وتعريضا بأنها ستحرم.
التنبيه الرابع والعشرون: قال أبو الخطاب الكلبي: " الفطرة تطلق على الإسلام وتطلق على أصل الخلقة، فمن الأول قوله صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة " (1).
ومن الثاني قوله تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها) (الروم: 30)، وقال تعالى: (فاطر السموات والأرض) (فاطر: 1)، أي مبدئ خلقهما، وقول جبريل: " اخترت الفطرة " أي اخترت اللبن الذي عليه بنيت الخلقة وبه ينبت اللحم، أو اخترته لأنه الحلال الدائم في دين الإسلام، وأما الخمر فحرام فيما يستقر عليه الأمر، وقد تكون الإشارة بتقديم اللبن إلى أن شعار العلم في التعبير، كما ورد أنه عليه الصلاة والسلام قال: (رأيت كأني أتيت بقدح من لبن فشربت حتى أرى الري يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلى عمر بن الخطاب)، قالوا: يا رسول الله ما أولته ؟
قال: (العلم) (1).
والاسراء وإن كان يقظة إلا ربما وقعت في اليقظة إشارة إلى حكم الفأل يعبر كما يعبر في المنام.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن، فكأنه لما ملئ قلبه إيمانا وحكمة أردف
__________
(1) أخرجه البخاري 12 / 410 (7006).
(*)(3/115)
ذلك بالعلم مطلقا، ويجعل الله تعالى ذلك اللبن سببا في ترادف العلم وأشجان القلب النبوي بأنوارها.
وقال القرطبي: يحتمل أن يكون تسمية اللبن فطرة لكونه أول شئ يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي صلى الله عليه وسلم إليه دون غيره لكونه مألوفا له، ولانه لا ينشأ عن جنسه مفسدة، وافهم قول جبريل (أصبت)، فإن اختيار الخمر خطأ عصم منه النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت المسألة حينئذ اجتهادية لان الخمر لم تكن حرمت بعد، فقد وقع تخييره في ملك الله الاعظم.
التنبيه الخامس والعشرون: ظاهر قوله: (ثم أتي بالمعراج) أن العروج كان لا على البراق وفي ذلك خلاف، فظاهر حديث مالك بن صعصعة أنه استمر على البراق حتى عرج به إلى السماء، وهو مقتضى كلام ابن أبي جمرة وابن دحية.
قال الحافظ: (لكن في غير هذه الرواية من الاخبار أن العروج لم يكن على البراق بل رقي في المعراج وهو السلم، ويؤيده قوله في حديث ثابت عن أنس كما في صحيح مسلم: (ثم أتيت بالمعراج).
وقال الحافظ ابن كثير: (إنه لما فرغ صلى الله عليه وسلم من أمر بيت المقدس نصب له المعراج وهو السلم، فصعد فيه إلى السماء، ولم يكن الصعود على البراق كما قد توهمه بعض الناس، بل كان البراق مربوطا على باب مسجد بيت المقدس ليرجع عليه إلى مكة).
وقال الشيخ رحمه الله تعالى: (إنه الصحيح الذي تقرر من الاحاديث الصحيحة).
التنبيه السادس والعشرون: (نوع ابن دحية المعراج إلى عشرة أنواع على عدد سني الهجرة، منها سبعة معاريج إلى السموات السبع، والمعراج الثامن إلى سدرة المنتهى والمعراج التاسع الذي سمع فيه صريف الاقلام في تصريف الاقدار، والمعراج العاشر إلى العرش
والرفرف والرؤية وسيأتي ما أبداه من الحكم في ذلك.
التنبيه السابع والعشرون: ورد أن بين الدرجة والدرجة في الجنة خمسمائة عام وأن الدرجة تهبط كالابل ليصعد عليها ولي الله تعالى ثم ترفع به إلى مكانها والظاهر أن درج المعراج كذلك.
التنبيه الثامن والعشرون: لا يتوهم بما تسمعه في قصة المعراج من الصعود والهبوط أن بين العبد وربه مسافة، فإن ذلك كفر، نعوذ بالله من ذلك، وإنما هذا الصعود والهبوط بالنسبة إلى العبد لا إلى الرب، والنبي صلى الله عليه وسلم مع انتهائه ليلتئذ إلى أن كان قاب قوسين أو أدنى، لم يجاوز مقام العبودية، وكان هو ونبي الله يونس بن متى صلى الله عليه وسلم إذا التقمه الحوت وذهب به إلى البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر، في مباينة الله تعالى خلقه وعدم الجهة والتحيز والحد والاحاطة سواء.
وقد ذهب به مسيرة سنة آلاف سنة ذكره الامام البغوي وغيره.
وإذا علمت ذلك فالمارد بترقيه صلى الله عليه وسلم وقطع هذه المسافات إظهار مكانته عند أهل(3/116)
السموات وأنه أفضل المخلوقات.
ويقوي هذا المراد بكونه أركبه البراق ونصب له المعراج وجعله إماما للنبيين والملائكة، مع أنه تعالى قادر على أن يرفعه بدون البراق والمعراج.
ويقال لاصحاب الجهة: إنما منعكم من اعتقاد الحق استبعادكم موجودا إلا في جهة، فاحلتم ذلك.
فأخبرونا عن العرش والفوق هل ذلك قديم ؟ أو محدث ؟ فإن قالوا قديما جاهروا بقدم العالم وأدى ذلك إلى محالين: أحدهما أن يكون مع الباري تعالى في الازل غيره، والقديمان ليس أحدهما بأن يكون مكانا للثاني بأولى من الاخر.
ثانيهما أن الجهة والمكان إما أن يكونا جسمين، وهذا يؤدي إلى جواز وجود الاجساد كلها، وهو قول من قال بقدم العالم، نعوذ بالله من ذلك.
وإن قالوا: محدث، قل فقد صدقتم بأن الرب تعالى كان موجودا أولا ولا جهة، والمستحيل (لا) ينقلب جائزا أو واجبا لان الحادث لا يحتاج إليه القديم، فإنه قبل كونه كان مستغنيا عنه، وهو على استغنائه عنه لم يزل وكذلك لا يزال، ومحال أن يكون خالق الكل
مفتقرا إلى بعض مخلوقاته.
وما ورد من الاستواء والنزول وغير ذلك من الصفات التي يشكل إجراؤها على ظاهرها، نؤمن به ونكل علم معناه إلى الله تعالى، ولا نشبهه تعالى بخلقه ولا ننفي الصفات التي أثبتها لنفسه وأثبتها له رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
التنبيه التاسع والعشرون: نقل ابن دحية عن ابن حبيب، والحافظ عن ابن النمير عن ابن حبيب وأقره: أن بين السماء والارض بحرا يسمى المكفوف تكون بحار الدنيا بالنسبة إليه كالقطرة من المحيط، فعلى هذا يكون ذلك البحر انفلق لنبينا صلى الله عليه وسلم فهو أعظم من انفلاق البحر لموسى عليه الصلاة والسلام.
التنبيه الثلاثون: في قدر ما بين السماء والارض: روى الامام أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه، وابن خزيمة في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اتدرون كم بين السماء والارض) ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: (بينهما مسيرة خمسمائة سنة، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء خمسمائة سنة، وفوق السماء ا لسابعة بحر من أعلاه وأسفله كما بين السماء والارض ثم فوق ذلك ثمانية أو عال (2) بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء وفوق ظهورهن العرش وبين أعلاه وأسفله كما بين السماء والارض ثم الله تعالى فوق ذلك.
وروى إسحق بن راهويه والبزار بسند صحيح عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بين السماء والارض خمسمائة عام وغلظ كل سماء خمسمائة عام
__________
(1) سقط في أ.
(2) ثمانية أو عال: أي ملائكة على صورة الاوعال.
انظر النهاية لابن الاثير 5 / 207.
(*)(3/117)
كذلك إلى السماء السابعة، والارضون مثل ذلك.
وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك) (1).
وروى ابن جرير وابن المنير عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم قالوا:
إن الله عز وجل كان عرشه على الماء لم يخلق شيئا غير ما خلق، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين: الاحد والاثنين، فخلق الارض على الحوت، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله (ن والقلم وما يسطرون)، والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة على الريح، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الارض، فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الارض فأرسى عليها الجبال فقرت وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين: الثلاثاء والاربعاء، ثم استوى إلى السماء وهي دخان، والدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين: الخميس والجمعة وإنما سمي الجمعة لانه جميع فيه خلق السموات والارض وأوحى في كل سماء أمرها أي خلق خلقها من الملائكة والخلق الذي فيهما من البحار والجبال والبرد وما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب، فجعلها زينة وحفظا من الشياطين.
وروى ابن أبي حاتم عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (إن الله تعالى على عرشه وعرشه على سمواته، وسمواته على أرضه هكذا)، وقال بأصبعه: (مثل القية) وروى ابن حاتم عن القاسم بن أبي بزة - بالزاي المعجمة - قال: (ليس السماء مربعة ولكنها مقبوة يراها الناس خضراء) وروى ابن راهويه والطبراني في الاوسط، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: (السماء ا لدنيا موج مكفوف والسماء ا لثانية زمردة بيضاء والثالثة حديد والرابعة نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء)، زاد ابن أبي حاتم: (وما فوق ذلك صحاري من نور، ولا يعلم ما فوق ذلك إلا الله تعالى وملك هو موكل بالحجب يقال له ميطاطروس).
وروى أبو الشيخ وابن أبي حاتم عن كعب قال: (السماء أشد بياضا من اللبن واخضرت من خضرة جبل قاف).
شرح الغريب
(الموج) - بميم فواو فجيم - ما ارتفع من فوران الماء.
(المكفوف) - بميم
__________
(1) ذكره السيوطي في الدر 1 / 43 وعزاه لاسحاق بن راهويه في مسنده والبزار وأبي الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي.
(*)(3/118)
فكاف بفاءين بينهما واو - المحبوس.
التنبيه الحادي والثلاثون: استفتاح جبريل باب السماء يحتمل أن يكون بقرع أو صوت.
قال الحافظ: (والاشبه الأول لانه صوت معروف).
قلت: في حديث ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه: (فقرع الباب).
قال ابن دحية: وفي استفتاح جبريل لأبواب السماء دليل على أنه صادف أبوابها مغلقة، وإنما لم تهيأ للنبي صلى الله عليه وسلم بالفتح قبل مجيئه، وإن كان أبلغ في الاكرام، لانه لو رآها مفتحة لظن أنها لا تزال كذلك، ففعل ذلك ليعلم أن ذلك فعل من أجله، وأن الله تعالى أراد أن يطلعه على كونه معروفا عند أهل السموات، وقول أمين الوحي لما قيل له: من هذا ؟ (جبريل): سمى نفسه لئلا يلتبس بغيره ولا يحتاج إلى موقف للمراجعة في المرة، فإنه معهود عندهم نزوله وصعوده ولذلك قدم اسمه لانه الرسول بإحضار النبي صلى الله عليه وسلم.
واستنبط ابن دحية وتبعه ابن المنير من قول الملك: (مرحبا) إلى آخره، جواز رد السلام بغير لفظه.
وتعقبا بأن قول الملك: مرحبا، ليس رد السلام، فإنه كان قبل أن يفتح الباب، والسياق يرشد إليه.
وقد نبه على ذلك ابن أبي جمرة.
ووقع في رواية أن جبريل قال له عند كل نبي: (سلم عليه)، فرد عليه السلام.
التنبيه الثاني والثلاثون: ينبغي للمستأذن إذا قيل له هذا أن يسمي نفسه فيقول: محمد الشامي مثلا، ولا يقتصر على قوله: محمد، مثلا، لان المسمى بمحمد كثير، فيشتبه عليه، ولا يقول: (أنا) فإن جبريل ههنا لم يقل: (أنا)، بل سمى نفسه، ولم يرد أن أحدا من الملائكة سمى جبريل غير أمين الله تعالى على وحيه.
وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على الذي استأذن عليه فقال: (من هذا ؟) فجعل يقول: (أنا) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أنا إنكارا لذلك (1).
وكرهت هذه اللفظة
لوجهين: أحدهما أن فيها إشعارا بالعظمة.
وفي الكلام السائر أول من قال: أنا إبليس فشقي حيث قال: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) (الاعراف: 12)، وتعس فرعون حيث قال (أنا ربكم الاعلى) (النزعات: 24) والثاني أنها مبهمة لافتقار الضمير إلى العود، فهي غير كافية في البيان، والضمير إذا عاد وتعين مضمره كان أعرف المعارف، والمستأذن محجوب عن المستأذن عليه غير متعين عنده فكأنه أحاله على جهالة.
التنبيه الثالث والثلاثون: قول الخازن: (وقد بعث إليه ؟) أراد الاستفهام فحذف الهمزة للعلم بها أي: (أو قد بعث إليه ؟) قال العلماء: ليس هذا الاستفهام عن البعث الذي هو الرسالة لانه كان مشهورا في الملكوت الاعلى، بل البعث للمعراج، وقيل: بل سألوا تعجبا من
__________
(1) أخرجه البخاري 11 / 37 (6250).
(*)(3/119)
نعمة الله تعالى بذلك أو استبشارا به، وقد علموا أن بشرا لا يترقى هذا الترقي إلا بإذن الله تعالى وأن جبريل لا يصعد بمن لا يرسل إليه.
وقول الخازن: (من معك ؟) يشعر أنهم أحسوا معه برفيق وإلا لكان السؤال: (أمعك أحد ؟) وذلك الاحساس إما بمشاهدة لكون السماء شفافة، وإما لامر معنوي بزيادة أنوار، ولزم من البعث إليه صلى الله عليه وسلم الاذن في إزالة الموانع وفتح أبواب السماء.
ولم يتوقف الخازن على أن يوحى إليه بالفتح، لانه لزم عنده من البعث الاذن، وفي قول الخازن: (مرحبا به) إلى آخره ما يدل على أن الحاشية إذا فهموا من سيدهم عزما لاكرام وافد أن يبشروه بذلك وإن لم يأذن لهم فيه، ولا يكون في ذلك إفشاء للسر، لان الخازن أعلم النبي صلى الله عليه وسلم حال استدعائه أنه استدعاء إكرام وإعظام، فعجل بالبشرى والفراسة الصادقة عند أهلها وفي محلها يحصل (بها) العلم كما يحصله الوحي، ولم يخاطبه الخازن بصيغة الخطاب فيقول: (مرحبا بك) وإنما أراد التحية بصيغة الغيبة، والسر في ذلك أنه حياه قبل أن يفتح الباب وقبل أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم خطاب، ولهذا قال الملك لجبريل: (ومن معك ؟) فخاطبه بصيغة الخطاب، لان جبريل خاطب الملك، فارتفع حكم الغيبة بالتخاطب
من الجانبين، ويجوز أن يكون حياه بغير صيغة الخطاب تعظيما له لان هاء الغيبة ربما كانت أفخم من كاف الخطاب.
التنبيه الرابع والثلاثون: قول جبريل حين سئل: (من معه) فقال: (محمد)، دليل على أن الاسم أرفع من الكنية لانه أخبر باسمه ولم يخبر بكنيته، وهو عليه الصلاة والسلام مشهور في العالمين العلوي والسفلي، فلو ك انت الكنية أشرف من الاسم لاخبر بها.
التنبيه الخامس والثلاثون: قال ابن أبي جمرة: (استفهام الملائكة): (وقد أرسل إليه ؟) دليل على أن أهل العالم العلوي يعرفون رسالته ومكانته لانهم سألوا عن وقتها: هل جاء ؟ لا عنها، ولذلك أجابوا بقولهم: (مرحبا ونعم المجئ جاء) وكلامهم بهذه الصيغة أدل دليل على ما ذكرناه من معرفتهم بجلالة مكانته وتحقيق رسالته لان هذا أجل ما يكون من حسن الخطاب، والترفيع على المعروف من عادة العرب.
وقد قال العلماء في معنى قوله تعالى: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) (النجم: 18) إنه رأى صورة ذاته المباركة في الملكوت فإذا هو عروس المملكة).
التنبيه السادس والثلاثون: وقع في رواية أنس ومن رواية أبي ذر رضي الله عنهما: (قلت لجبريل: من هذا ؟ قال: أبوك آدم).
وظاهره أنه سأل عنه بعد أن قال له آدم: (مرحبا).
ورواية مالك بن صعصعة بعكس ذلك، وهي المعتمدة، فتحمل هذه عليها، وليس في رواية أبي ذر ترتيب، وفي قول آدم: (مرحبا بالابن الصالح)، إشارة إلى افتخاره بأبوته للنبي صلى الله عليه وسلم.(3/120)
وظاهر قوله في رواية آدم: (تعرض عليه أرواح ذريته) إلى آخره أن أرواح بني آدم من أهل الجنة والنار في السماء.
قال القاضي: (وهو مشكل، فقد جاء أن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة وأن أرواح الكفار في سجين، فكيف تكون مجتمعة في السماء ؟ وأجاب بأنه يحتمل أنها تعرض أوقاتا فصادف وقت عرضها مرور النبي صلى الله عليه وسلم، ويدل على أن ك ونهم في النار في أوقات دون أوقات قوله تعالى: (النار، يعرضون عليها غدوا وعشيا)، (غافر: 3) واعترض بأن أرواح
الكفار لا تفتح لهم أبواب السماء كما هو نص القرآن)، والجواب ما أبداه القاضي احتمالا أن الجنة كانت في جهة يمين آدم والنار كانت في جهة شماله وكان يكشف له عنهما.
وقال الحافظ: (ويحتمل أن النسم المرئية هي التي لم تدخل الاجساد بعد وهي مخلوقة قبل الاجساد ومستقرها عن يمين آدم وشماله، وقد أعلم بما سيصيرون إليه فلذلك كان يستبشر إذا نظر إلى من على يمينه ويحزم إذا نظر إلى من على يساره، بخلاف التي في الاجساد فليست مرادة قطعا وبخلاف التي نقلت من الاجساد إلى مستقرها من الجنة أو النار فليست مرادة أيضا فيما يظهر، وبهذا يندفع الايراد، ويعرف أن قوله: (نسم بنيه) عام مخصوص أو أريد به الخصوص).
انتهى.
وقال في الفتح في باب المعراج: (وظهر لي الان احتمال آخر وهو أن يكون المراد من (خرجت من الاجساد لا أنها مستقرة ولا يلزم من رؤية إدم لها وهو في السماء الدنيا أن تفتح لها أبواب السماء ولا أن تلجها، ويؤيد هذا ما رواه ابن إسحاق: فإذا أنا بآدم تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول: روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين، ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجين.
وفي حديث أبي هريرة: فإذا عن يمينه باب بخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، فهذا لو صح لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم ولكن سنده ضعيف وظاهرها عدم اللزوم المتقدم) انتهى.
وقال السهيلي: (فإن قيل كيف رأى عن يمينه أصحاب اليمين ؟ ولم يكن إذا ذاك منهم إلا نفر قليل، ولعله لم يكن مات تلك الليلة منهم أحد، وظاهر الحديث يقتضي أنهم كانوا جماعة، والجواب أن يقال: إن كان الاسراء رؤيا بقلبه فتأويلها أن ذلك سيكون وإن كانت رؤيا عين فمعناها أن أرواح المؤمنين رآها هنالك لان الله يتوفى الخلق في منامهم كما قال في التنزيل (الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الاخرى إلى أجل مسمى) (الزمر: 42) (فصعد بالارواح إلى هنالك ثم أعيدت إلى أجسادها).
وقال ابن دحية: (فإن قيل: كيف تكون نسم السعداء كلهم في السماء، وقد كان حين الاسراء جماعة من الصحابة رضي الله عنهم في الارض وهم من السعداء ؟ فالجواب: أن آدم(3/121)
إنما رآهم في مواضعهم ومقارهم في الارض، ولكنه يراهم من الجانب الايمن فالتقييد للنظر لا للمنظور).
وفي قول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (هذا أبوك آدم فسلم عليه) ما يقتضي أن القادم يبدأ بالسلام على المقيم.
التنبيه السابع والثلاثون: وقع في رواية شريك: (فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان - أي يجريان - النيل والفرات، ويجمع منصرفهما) - أي أصلهما.
وظاهر هذا يخالف حديث مالك بن صعصعة فإن فيه بعد ذكر سدرة المنتهى: (فإذا أصلها أربعة)، فذكر منها النيل والفرات، ويجمع بينهما بأن أصل منبعهما من تحت سدرة المنتهى ومقرهما في السماء الدنيا ومنها ينزلان إلى الارض.
التنبيه الثامن والثلاثون: وقع في رواية شريك أيضا: (ثم مضى النبي صلى الله عليه وسلم في السماء الدنيا فإذا هو بنهر آخر عليه قصور من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فيه فإذا طينه مسك أذفر فقال: يا جبريل ما هذا ؟ قال: هذا الكوثر الذي خبا لك ربك، وهذا مما استشكل في رواية شريك، فإن الكوثر في الجنة وإن الجنة في السماء السابعة.
وقد روى الامام أحمد عن طريق حميد الطويل عن أنس، رفعة: (دخلت الجنة فإذا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي في مجرى مائه فإذا هو مسك أذفر).
فقال جبريل: (هذا الكوثر الذي أعطاك الله تعالى ".
وأصل هذا الحديث عند البخاري بنحوه، وأخرجه في التفسير عن قتادة عن أنس رضي الله عنه، ولكن ليس فيه ذكر الجنة.
ورواه أبو داود من طريق سليمان التيمي عن قتادة ولفظه: " لما عرج بنبي الله صلى الله عليه وسلم عرض له في الجنة نهر "، قال الحافظ: ويمكن أن يكون في هذا الموضوع شئ تقديره: ثم مضى به في السماء الدنيا إلى السماء (السابعة) فإذا هو بنهر، قال تلميذه الحافظ
قطب الدين الخيضري في الخصائص: " وهذا بعيد إذ بينه وبين السماء السابعة خمس سماوات أخرى وكل منها له صفة خلاف صفة الأخرى ولها أبواب وخدام غير الأخرى، فإطلاق المسير إليها وذكرها منها له صفة خلاف صفة الأخرى ولها أبواب وخدام غير الأخرى، فإطلاق المسير إليها وذكرها بعد السادسة مما يبعده أيضا، ولكن يقال من غير استبعاد: إن أصل النهر - الذي هو الكوثر - في الجنة، وجعل الله تعالى منه فرعا في السماء الدنيا عجل لنبيه صلى الله عليه وسلم رؤيته استبشارا لأنها أول المراتب العلوية، ويؤيد هذا قول جبريل: " خبأ لك ربك ".
انتهى.
التنبيه التاسع والثلاثون: في قول آدم: " مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح "، ثناء جميل جليل للنبي صلى الله عليه وسلم، ووصفه بالصلاح مكررا مع النبوة، أي صالح مع النبيين جميعا، وفيه تنويه بفضيلة الصلاح وعلو درجته، ولهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم.
قال بعضهم: وصلاح الأنبياء صلاح خاص لا يتناول عموم الصالحين.
واحتج على ذلك بأنه قد تمين كثير من الأنبياء أن يلحق بالصالحين، ولا يتمنى الأعلى أن يلحق بالأدنى، ولا خلاف في أن النبوة أعلى من(3/122)
صلاح الصالحين من الأمم، وبهذا تحقق أن الصلاح المضاف إلى الأنبياء غير الصلاح المضاف إلى الأمم، فصلاح الأنبياء صلاح كامل لأنه يزول بهم كل فساد، فلهم كل صلاح ومن دونهم الأمثل فالأمثل، فكل واحد يستحق اسم الصلاح على قدر ما زال به أو منه من الفساد، واقتصر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم على وصفه صلى الله عليه وسلم بالصلاح وتواردوا على ذلك لأن الصلاح يشمل خصال الخير، ولذلك كررها كل منهم عند وصفه.
والصالح هو الذي يقوم بما يلزمه من حقوق الله تعالى وحقوق العباد، فمن ثم كانت كلمة جامعة مانعة شاملة لسائر الخصال المحمودة ولم يقل له أحد: مرحبا بالنبي الصادق ولا بالنبي الأمين لما ذكرنا من أن الصلاح شامل لسائر أنواع الخير.
التنبيه الأربعون: إنما رأى أكلة الربا منتفخة بطونهم لأن العقوبة مشاكلة للذنب، فآكل الربا يربو بطنه كما أراد أن يربو ماله بأكل ما حرم عليه فمحقت البركة من ماله وجعلت نفخا
في بطنه حتى يقوم (كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس).
وإنما جعلوا بطريق آل فرعون يمرون عليهم غدوا وعشيا، لأن آل فرعون هم أشد الناس عذابا فضلا عن غيرهم من الكفار، وهم لا يستطيعون القيام.
ومعنى كونهم في طريق جهنم بحيث يمر بالكفار عليهم أن الله سبحانه وتعالى قد أوقف أمرهم بين أن ينتهوا فيكون خيرا لهم وبين أن يعودوا ويصروا فيدخلهم النار، وهذه صفة من هو في طريق النار، قال الله تعالى: (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله، ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة: 257) وفي بعض الأحاديث أنه رأى بطونهم كالبيوت يعني أكلة الربا، وفيها حيات ترى من خارج البطون.
التنبيه الحادي والأربعون: فإن قيل: هذه الأحوال التي ذكرها عن أكلة الربا، إن كانت عبارة عن حالهم في الآخرة، فآل فرعون قد أدخلوا أشد العذاب وإنما يعرضون على النار غدوا وعشيا في البرزخ، وإن كانت الحال التي رآهم عليها فأي بطون لهم وقد صاروا عظاما ورفاتا ومزقوا كل ممزق ؟ فالجواب أنه إنما رآهم عليها فأي بطون لهم وقد صاروا عظاما ورفاتا ومزقوا كل ممزق ؟ فالجواب أنه إنما رآهم في البرزخ، وهذه الحال هي حال أرواحهم بعد الموت.
وفيها تصحيح لمن قال: الأراح أجساد لطيف قابلة للنعيم والعذاب، فخلق الله تعالى في تلك الأرواح من الآلام ما يجده من انتفخ بطنه حتى وطئ بالأقدام ولا يستطيع معه قياما.
وليس في هذا دليل على أنهم أشد عذابا من آل فرعون، ولكن فيه دليل على أنه يطؤهم آل فرعون وغيرهم من الكفار الذين لم يأكلوا الربا، ما داموا في البرزخ إلى أن يقوموا يوم القيامة كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، ثم ينادي منادي الله تعالى (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) (غافر: 46).
وكذلك ما رأى من النساء المعلقات(3/123)
بثديهن يجوز أن يكون رأى أرواحهن وقد خلق من الآلام ما يجده من هذه حاله، ويحتمل أيضا أن يكون مثلت له حالهن في الآخرة.
التنبيه الثاني والأربعون: ذكره لإدريس في السماء الرابعة مع قوله تعالى: (ورفعناه مكانا عليا) (مريم: 57)، مع أنه قد رأى موسى وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهما في مكان أعلى من مكان إدريس، فذلك - والله تعالى أع لم - لما ذكر عن كعب الأحبار أن إدريس خص من بين جميع الأنبياء بأنه رفع قبل وفاته إلى السماء الرابع، رفعه ملك كان صديقا له وهو الملك الموكل بالشمس.
وكان إدريس سأله أن يريه الجنة فأذن له الله في ذلك، فلما كان في السماء الرابعة رآه هناك ملك الموت فعجب وقال: أمرت أن أقبض روح إدريس الساعة في السماء الرابعة فقبضه هنالك، فرفعه حيا إلى ذلك المكان العلي الذي خص به دون سائر الأنبياء، قاله السهيلي.
وتقدم الكلام في النسب النبوي على قوله: " مرحبا بالأخ الصالح ".
التنبيه الثالث والأربعون: قال العلماء: " لم يكن بكاء موسى حسدا، معاذ الله، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع عن آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاهم الله تعالى، بل كان أسفا على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجة بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم والمستلزمة لتنقيص أجره، لأن لكل نبي أجر من تبعه، ولهذا كان من اتبعه في العدد دون من اتبع نبيا صلى الله عليه وسلم مع طول مدتهم بالنسبة لمدة هذه الأمة.
وقال ابن أبي حمزة: " قد جعل الله تعالى في قلوب أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الرحمة والرأفة لأمتهم، وقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم، فسئل عن بكائه فقال: " هذه رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء " (1).
والأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أخذوا من رحمة الله تعالى أوفر نصيب، فكانت الرحمة في قلوبهم لعباد الله أكثر من غيرهم.
فلأجل ما كان لموسى عليه الصلاة والسلام من الرحمة واللطف بكى إذا ذاك رحمة منه لأمته لأن هذا وقت إفضال وجود وكرم.
فرجا لعله يكون وقت القبول والإفضال فيرحم الله تعالى أمته ببركة هذه الساعة.
فإن قيل: كيف يكون هذا وأمته لا تخلو من قسمين: قسم مات على الإيمان، قسم مات على الكفر فالذي مات على الإيمان لا بد له من دخول الجنة والذي مات على الكفر لا يدخل الجنة
أبدا، فبكاؤه لأجل ما ذكرتم لا يسوغ إذ أن الحكم فيه قد مر ونفذ.
قيل في الجواب: وكذلك قدر الله عز وجل قدره على قسمين، كما شاءت حكمته، فقدر قدرا أن ينفذ على كل الأحوال وقدر قدرا وقدر ألا ينفذ، ويكون وقوعه بسب دعاء أو صدقة أو غير ذلك ".
__________
(1) أخرجه البخاري 2 / 100 ومسلم في كتاب الجنائز (11).
(*)(3/124)
ومثاله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوات الثلاث لأمته وهي: ألا يظهر عليهم عدو من غيرهم، وألا يهلكهم بالسنين، فأعطيهما ودعا بألا يجعل بأسهم بينهم، فاستجيب في الاثنتين ولم يتسجب له في الثالثة، وقيل له: هذا أمر قدرته أي أنفذته (1)، فكانت الاثنتان من القدر الذي قدره الله تعالى وقدر ألا ينفذه بسبب الدعاء وكانت دعوته الثالثة من القدر الذي قدره الله تعالى وقدر إنفاذه على كل الأحوال لا يرده راد.
وسيأتي لهذا مزيد إيضاح.
" فلأجل ما ركب في موسى عليه الصلاة والسلام من اللطف والرحمة بالأمة طمع لعل أن يكون ما اتفق لأمته من القدر الذي قدره الله تعالى وقدر ارتفاعه بسبب الدعاء والتضرع.
وهذا وقت يرجى فيه التعطف والإحسان من الله تعالى لأنه وقد أسري فيه بالحبيب ليخلع عليه خلع القرب والفضل العميم، فطمع الكليم لعل أن يلحق لأمته نصيبا ".
وبوجه آخر وهو البشارة للنبي صلى الله عليه وسلم وإدخال السرور عليه يشهد لذلك بكاؤه حين ولى النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يبعد عند لكي يسمعه، لأنه لو كان البكاء خاصا بموسى لم يكن ليبكي حتى يبعد عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمعه لأن البكاء والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع، فيه شئ من التهوين عليه.
فلما أن كان المراد بذلك ما يصدر عن البشارة له صلى الله عليه وسلم بسبب البكاء بكى والنبي صلى الله عليه وسلم يسمعه، والبشارة التي يتضمنها البكاء هي قول موسى عليه الصلاة والسلام للذي هو أكثر الأنبياء اتباعا: " إن الذي يدخل الجنة من أمة محمد أكثر ممن يدخلها من أمتي ".
" وقد وقع من موسى عليه السلام من العناية بهذه الأمة في أمر الصلاة ما لم يقع لغيره ووقعت الاشارة لذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، موفوعا: (كان موسى أشدهم
علي حين مررت به وخيرهم حين رجعت إليه).
وفي حديث أبي سعيد: فأقبلت راجعا فمررت بموسى ونعم الصاحب كان لكم).
التنبيه الرابع والاربعون: قول موسى عليه الصلاة والسلام: (لان غلاما...) ليس على سبيل النقص بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظيم كرمه، إذ أعطى نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك السن ما لم يعطه أحدا قبله ممن هو أسن منه.
وقال الخطابي: العرب تسمي الرجل المستجمع السن: غلاما ما دامت فيه بقية من القوة (في الكهولة) وقال ابن أبي جمرة: العرب إنما يطلقون على المرء غلاما إذا كان سيدا فيهم.
فلاجل ما في هذا اللفظ من الاختصاص على غيره من ألفاظ الافضلية ذكره موسى دون غيره تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: ويظهر أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله
__________
(1) أخرجه مسلم 4 / 2216 (20 - 2890).
(*)(3/125)
به على نبينا عليه السلام من استمرار القوة في الكهولة إلى أن دخل في سن الشيخوخة ولم يدخل على بدنه هرم ولا عرا قوته نقص، حتى أن الناس لما رأوه مردفا أبا بكر عند قومه المدينة أطلقوا عليه اسم الشاب وعلى أبي بكر اسم الشيخ مع كونه عليه السلام في العمر أسن من أبي بكر.
التنبيه الخامس والاربعون: قول موسى: (رب لم أظن أن ترفع علي أحدا - بفتح المثناة الفوقية و (أحدا) بالنصب، ورواته في الصحيح بضم المثناة التحتية و (أحد) بالرفع.
قال ابن بطال: فهم موسى عليه الصلاة والسلام من اختصاصه بكلام الله تعالى في الدنيا دون غيره من البشر لقوله تعالى: (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) (الاعراف: 144) أن المراد بالناس هنا البشر كلهم، وأنه استحق بذلك ألا يرفع عليه أحد، فلما فضل الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام من المقام المحمود وغيره ارتفع على موسى وغيره بذلك.
التنبيه السادس والاربعون: قال ابن أبي جمرة: الظاهر أن القائل لموسى: (ما أبكاك) ؟
هو الباري تبارك وتعالى، يدل على ذلك قوله في الجواب: (رب (هذام غلام بعثته من بعدي، يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي)).
التنبيه السابع والاربعون: أكثر الروايات على أن موسى عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة بتفضيل الله تعالى، هذا مطابق لقوله تعالى: (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) وهذا يدل على أن شريكا ضبط كون موسى في السابعة، وحديث أبي ذر يوافقه فإن فيه (فيما رواه ابن شهاب الزهري عن أنس بن مالك قال: (فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم) ولم يثبت منازلهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة).
فإن قلنا بالتعدد فلا إشكال ومع عدمه فقد يجمع بأن موسى كان حالة العروج في السماء السادسة وإبراهيم في السماء السابعة على ظاهر حديث مالك بن صعصعة وعند الهبوط كان موسى في السابعة، لانه لم يذكر في القصة أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كلمه في شئ مما يتعلق بما فرض على أمته من الصلاة كما كلمه موسى عليه السلام والسماء السابعة هي أول شئ انتهى إليه حالة الهبوط، فناسب أن يكون لقي موسى في السادسة فأصعد معه إلى السماء السابعة تفضيلا له على غيره من أجل كلام الله تعالى وظهرت فائدة ذلك في كلامه مع نبينا فيما يتعلق بأمر أمته في الصلاة.
التنبيه الثامن والاربعون: وقع في رواية شريك عن أنس رضي الله عنه أن كل سماء فيها أنبياء قد سماهم (فوعيت منهم إدريس في السماء الثانية وهارون في السماء الرابعة وآخر(3/126)
في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة).
وفي رواية أنس عن أبي ذر رضي الله عنهما قال: (فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم)، ولم يثبت منازلهم، غير أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة).
انتهى.
وهذا موافق لرواية شريك في إبراهيم، وهما مخالفان لرواية قتادة عن أنس
عن مالك بن صعصعة، والاكثر وافقوه، وسياقه يدل على رجحان روايته، فإنه ضبط اسم كل نبي والسماء التي هو فيها، ووافقه ثابت البناني عن أنس، كما هو عند مسلم فقال في روايته: (ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية وفيها فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة)، وذكر في الثالثة يوسف وفي الرابعة إدريس وفي الخامسة هارون وفي السادسة موسى وفي السابعة إبراهيم، وفي سياق الزهري في روايته عن أنس عن أبي ذر أنه لم يثبت أسماءهم، وسياق شريك فيه أنه لم يضبط منازلهم.
ولا شك أن رواية من ضبط أولى، ولا سيما مع اتفاق قتادة وثابت وقد وافقهما يزيد بن أبي مالك عن أنس إلا أنه خالق في إدريس وهارون، فقال: هارون في الرابعة وإدريس في الخامسة، ووافقهم أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، في رواية إلا أنه قال: (رأى يوسف في الثانية وعيسى ويحيى في الثالثة).
قلت: والأول أثبت، وأما إبراهيم فالارجح من الروايات أنه في السماء السابعة لقوله فيها: إنه رآه مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وهو في السابعة بلا خلاف.
وأما (ما جاء عن علي رضي الله عنه أن البيت المعمور في السماء السادسة عند شجرة طوبى فإن ثبت حمل على البيت الذي في السادسة بجانب شجرة طوبى لانه جاء عنه أن في كل سماء بيتا يحاذي الكعبة وكل منها معمور بالملائكة، وكذا القول فيما جاء عن الربيع بن أنس وغيره أن البيت المعمور في السماء.
التنبيه التاسع والاربعون: اختلفت طرق المتكلمين على حديث الاسراء في ذكر من ذكر من الانبياء وترتيبهم في السموات، فمن العلماء من لم ير الكلام على سر ذلك أصلا، ومنهم من تكلم فيه، ثم اختلف هؤلاء، فمنهم من قال: اختص من ذكر من الانبياء بلقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على عرف الناس إذا تلقوا الغائب مبتدرين للقائه، فلابد غالبا أن يسبق بعضهم بعضا، ويصادف بعضهم اللقاء ولا يصادفه بعضهم وإلى هذا جنح ابن بطال وهذا زيقه السهيلي فأصاب.
وذهب غير ابن بطال إلى أن ذلك تنبيه على الحالات الخاصة بهؤلاء
الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وتمثيل لما سيقع للنبي صلى الله عليه وسلم مما اتفق لهم مما قصه الله تعالى عنهم في كتابه.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل الحسن ويستدل على حسن(3/127)
العاقبة وبالضد من ذلك.
والفأل في اليقظة نظير الرؤيا في المنام.
وأهل التعبير يقولون من رأى نبيا من الانبياء بعينه في المنام فإن رؤياه تؤذن بما يشبه من حال ذلك النبي من شدة أو رخاء أو غير ذلك من الامور التي أخبر بها عن الانبياء في القرآن والحديث.
قال ابن أبي جمرة: (الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا لانه أول الانبياء وأول الاباء فهو أصل فكان الأول في الاولى، ولاجل تأنيس النبوة بالابوة) وقال السهيلي رحمه الله: (فآدم وقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الارض بما سيقع للنبي صلى الله عليه وسلم من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة وكراهة فراق ما لقيه في الوطن، ثم كان لكل منهما أن يرجع إلى وطنه الذي خرج منه).
وقال ابن دحية: (إن في ذلك تنبيها على أنه يقوم مقامه في مبدأ الهجرة لان مقام آدم التهيئة والنشأة وعمارة الدنيا بأولاده، وكذا كان مقام المصطفى أول سنة من الهجرة مقام تنشئة الاسلام وتربية أهله واتخاذ الانصار لعمارة الارض كلها بهذا الدين الذي أظهره الله على الدين كله، وزوى الارض لنبيه حتى أراه مشارقها ومغاربها، فقال صلى الله عليه وسلم: (وليبلغن ملك أمتي ما زوي لي منها).
واتفق ذلك في زمن هشام بن عبد الملك حتى جئ إليه خراج الارض شرقا وغربا، وكان إذا نشأت سحابة يقول: (أمطري حيث شئت فسيصل إلي خراجك).
ثم رأى في السماء الثانية عيسى ويحيى وهما الممتحنان باليهود.
أما عيسى فكذبته اليهود وآذته وهموا بقتله فرفعه الله تعالى، وأما يحيى فقتلوه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى المدينة صار إلى حالة ثانية من الامتحان.
وكان محنته فيها باليهود (آذوه) وظاهروا عليه وهموا بإلقاء الصخرة عليه ليقتلوه فنجاه الله تعالى كما نجى عيسى منهم ثم سموه في الشاة، فلم تزل تلك الاكلة تعاده حتى قطعت أبهره (كما قال عند الموت).
وقال ابن أبي جمرة: لانها أقرب الانبياء عهدا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن دحية: كانت حالة عيسى ومقامه معالجة بني إسرائيل والصبر على معاداة اليهود وحيلهم ومكرهم، وطلب عيسى الانتصار عليهم بقوله: (من أنصاري إلى الله) أي مع الله ؟ (قال الحواريون نحن أنصار الله) (يوسف: 92) فهذه كانت حالة نبينا صلى الله عليه وسلم في السنة الثانية من الهجرة، ففيها طلب الانصار للخروج إلى بدر العظمى فأجابوا ونصروا، فلقاؤه لعيسى في السماء الثانية تنبيه على أنه سيلقى مثل حاله ومقامه في السنة الثانية من الهجرة.
وأما لقاؤه ليوسف عليه السلام في السماء الثالثة فإنه يؤذن بحالة ثالثة تشبه حال يوسف بما جرى له مع إخوته الذين أخرجوه من بين أظهرهم ثم ظفر بهم فصفح عنهم وقال: (لا تشريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) (يوسف: 92) وكذلك نبينا عليه(3/128)
الصلاة والسلام أخرجه قومه ثم ظفر بهم في غزوة الفتح فعفا عنهم وقال: (أقول كما قال أخي يوسف: (لا تثريب عليكم)).
قال ابن أبي جمرة: لان أمة محمد صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة على صورته، زاد ابن أقرص وإشارة إلى جعله على خزائن الارض.
وقال ابن دحية: مناسبة لقائه ليوسف في السماء الثالثة أن السنة الثالثة من سني الهجرة اتفقت فيها غزوة أحد وكانت على المسلمين لم يصابوا بنازلة قبلها ولا بعدها مثلها، فإنها كانت وقعة أسف وحزن.
وأهل التعبير يقولون: من رأى أحدا اسمه يوسف آذن ذلك من حيث الاشتقاق ومن حيث قصد يوسف عليه السلام بأسف يناله.
قال ابن دحية: فإن كان يوسف النبي فالعاقبة حميدة والاخرة خير من الاولى.
ومما اتفق في غزوة أحد من المناسبة شيوع قتل المصطفى فناسب ما حصل للمسلمين من الاسف على فقد نبيهم ما حصل ليعقوب من الاسف على يوسف لاعتقاده أنه فقد إلى أن وجد ريحه بعد تطاول الامد.
ومن المناسبة أيضا بين القصتين أن يوسف كيد وألقي في غيابة
الجب حتى أنقذه الله تعالى عليد يد من شاء.
قال ابن إسحاق: وكبت الحجارة على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش حتى سقط لجنبه في حفرة كان أبو عامر الفاسق قد حفرها مكيدة للمسلمين، فأخذ علي كرم الله وجهه بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتضنه طلحة حتى قام.
قال السهيلي: (ثم لقاؤه لادريس عليه السلام في السماء الرابعة وهو المكان الذي سماه الله (مكانا عليا) (مريم: 57) وإدريس أول من آتاه الله الخط بالقلم فكان ذلك مؤذنا بحال رابعة وهي علو شأنه عليه السلام حتى خافه الملوك وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته حتى قال أبو سفيان وهو عند ملك الروم حين جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ورأى ما رأى من خوف هرقل: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة حتى أصبح يخافه ملك بني الاصفر، (وكتب عنه بالقلم إلى جميع ملوك الارض فمنهم من اتبعه على دينه كالنجاشي وملك عمان، ومنهم من هادنه وأهدى إليه وأتحفه كهرقل والمقوقس، ومنهم من تعصى عليه فأظهره الله عليه، فهذا مقام علي وخط بالقلم كنحو ما أوتى إدريس عليه السلام).
(ولقاؤه في السماء الخامسة لهارون المحبب في قومه يؤذن بحب قريش وجميع العرب له بعد بغضهم فيه).
وقال ابن أبي جمرة: إنما كان هارون في الخامسة لقربه من أخيه موسى، وكان موسى أرفع منه بفضل كلام الله تعالى.
وقال ابن دحية ما نال هارون من بني إسرائيل من الاذى ثم الانتصار عليهم والايقاع بهم وقصر التوبة فيهم على القتل دون غيره من العقوبات المنحطة عنه، وذلك أن هارون عندما تركه موسى في بني إسرائيل وذهب لموعد(3/129)
المناجاة تفرقوا على هارون وتحزبوا عليه وداروا حول قتله ونقضوا العهد وأخلفوا الموعد واستضعفوا جانبه كما حكى الله تعالى ذلك عنهم وكانت الجناية العظمى التي صدرت منهم عبادة العجل فلم يقبل الله تعالى منهم التوبة إلا بالقتل فقتل في ساعة واحدة سبعون ألفا كان نظير ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم ما لقيه في السنة الخامسة من الهجرة من يهود قريظة والنضير وقينقاع، فإنهم نقضوا العهد وحزبوا الاحزاب وجمعوها وحشدوا وحشروا وأظهروا عداوة
النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله.
وذهب إليهم قبل الوقعة بزمن يسير يستعينهم في دية قتيلين فأظهروا إكرامه وأجلسوه تحت جدار ثم تواعدوا أن يلقوا عليه رحى، فنزل جبريل فأخبره بمكرهم الذي هموا به.
فمن حينئذ عزم على حربهم وقتلهم، وفعل الله تعالى ذلك، وقتل قريظة بتحكيمهم سعد بن معاذ، فقتلوا شر قتلة وحاق المكر السئ بأهله.
ونظير استضعاف اليهود لهارون استضعافهم المسلمين في غزوة الخندق كما سيأتي بشط ذلك.
ولقاؤه في السماء السادسة لموسى يؤذن بحالة تشبه حالة موسى حين أمر بغزو الشام، فظهر على الجبابرة الذين كانوا فيها وأدخل بني اسرائيل البلد الذي خرجوا منه بعد إهلاك عدوهم، وكذلك غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك من أرض الشام وظهر على صاحب دومة حتى صالحه على الجزية بعد أن أتي به أسيرا، وافتتح مكة ودخل أصحابه البلد الذي خرجوا منه.
وقال ابن دحية: (يؤذن لقاؤه في السادسة بمعالجة قومه فإن موسى ابتلي بمعالجة بني إسرائيل والصبر على أذاهم، وما عالجه المصطفى في السنة السادسة لم يعالج قبله ولا بعده مثله، ففي هذه السنة افتتح خيبر وفدك وجميع حصون اليهود وكتب الله عليهم الجلاء وضربهم بسوط البلاء وعالج النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة كما عالج موسى من قومه، أراد أن يقيم الشريعة في الارض المقدسة وحمل قومه على ذلك فتقاعدوا عنه وقالوا: إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها أبدا حتى يخرجوا منها.
وفي الاخر سجلوا بالقنوط فقالوا: إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها، فغضب الله عليهم وحال بينهم وبينها، وأوقعهم في التيه.
وكذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة أن يدخل بمن معه مكة يقيم بها شريعة الله وسنة إبراهيم، فصدوه فلم يدخلها في هذا العام، فكان لقاؤه لموسى تنبيها على التأسي به وجميل الاثر في السنة القابلة.
ثم لقاؤه في السماء السابعة لابراهيم عليه السلام لحكمتين: إحداهما أنه رآه عند البيت المعمور مسندا ظهره إليه.
والبيت المعمور حيال الكعبة وإليه تحج الملائكة، كما أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة وأذن في الناس بالحج إليها والحكمة الثانية أن آخر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم حجه إلى البيت الحرام وحج معه في ذلك العام نحو من سبعين ألفا (من المسلمين).
ورؤية
إبراهيم عند أهل التأويل تؤذن بالحج لانه الداعي إليه والرافع لقواعد (الكعبة المحجوجة).(3/130)
قال ابن أبي جمرة: (وإنما كان إبراهيم في السماء السابعة لانه الاب الاخير، فناسب أن يتجدد للنبي صلى الله عليه وسلم بلقائه أنس لتوجهه بعده إلى عالم آخر، وأيضا فمنزلة الخليل تقتضي أرفع المنازل، ومنزلة الحبيب أرفع من منزلته فلذلك ارتفع النبي صلى الله عليه وسلم عن منزلة إبراهيم إلى قاب قوسين أو أدنى) (1).
وقال ابن دحية: (مناسبة لقائه لابراهيم عليه السلام في السماء السابعة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرة القضاء في السنة السابعة من الهجرة، ودخل مكة وأصحابه ملبين معتمرين محييا لسنة إبراهيم ومقيما لرسمه الذي كانت الجاهلية أماتت ذكره وبدلت أمره.
وفي بعض الطرق أنه رأى إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور في السماء السابعة، وذلك - والله أعلم - إشارة إلى أنه يطوف بالكعبة في السنة السابعة وهي أول دخلة دخل فيها مكة بعد الهجرة.
والكعبة في الارض قبالة البيت المعمور.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم في وصف البيت المعمور: (فإذا هو يدخله كل يوم سبعون / ألفا لا يرجعون إليه إلى آخر الدهر إشارة إلى أنه إذا دخل البيت ا لحرام لا يرجع إليه لانه لم يدخله بعد الهجرة إلا عام الفتح ولم يعاوده في حجة الوداع.
التنبيه الخمسون: فإن قيل كيف أم الانبياء في بيت ا لمقدس وسلم عليهم وعرفهم ثم سأل عنهم ثم يراهم تلك الليلة في السموات ويسأل عنهم جبريل ؟ فإنه لو رآهم وعرفهم لما احتاج إلى سؤال جبريل عنهم.
والجواب أنه لما اجتمع بهم ببيت المقدس وأمهم على الهيئة البشرية تحقق وجودهم في الارض، ثم لما وصل إلى الملكوت العلوي لم يجدهم على تلك الحالة التي شاهدهم عليها، وإنما هم على صفات روحانية يشكل الله تعالى لهم أشكالا لائقة بالملكوت العلوي تأنيسا لهم بأصلهم البشري وتكريما لهم وتعظيما للقدرة الالهية حيث شاهدهم تلك الساعة في الارض ثم رآهم في منازلهم في السماء، فلذلك سأل عنهم استثباتا لا تعجبا، فإنه عالم أن الله تعالى الذي أصعده إلى هذا المكان في لحظة قادر على نقلهم إلى
السموات في أسرع من طرفة عين سبحانه وتعالى.
التنبيه الحادي والخمسون: استشكل رؤية الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم في السموات مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم في الارض.
وأجيب بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم، أو أحضرت أجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة تشريفا وتكريما ويؤيده حديث عبد الرحمن بن هاشم عند البيهقي وغيره: (وبعث له آدم فمن دونه من الانبياء).
وقال ابن أبي جمرة: (رؤيته لهؤلاء الانبياء تحتمل وجوها: الأول: أن يكون عليه السلام عاين كل واحد منهم في قبره في الارض على الصورة التي أخبر بها عن الموضع الذي عاينه فيه فيكون الله عز وجل قد أعطاه من القوة في البصر والبصيرة ما أدرك به ذلك.
ويشهد لهذا الوجه قوله صلى الله عليه وسلم: (رأيت الجنة والنار في عرض الحائط).
وهو محتمل لوجهين أحدهما: أن(3/131)
يكون صلى الله عليه وسلم رآهما من ذلك الموضع كما يقال رأيت الهلال من منزلي من الطاق والمراد من موضع الطاق، الوجه الثاني: أن يكون مثل له صورتهما في عرض الحائط، والقدرة صالحة لكليهما.
الثاني: أن يكون صلى الله عليه وسلم عاين أرواحهم هناك في صورهم.
الثالث: أن يكون الله عز وجل لما أراد الاسراء بنبينا رفعهم من قبورهم لتلك المواضع إكراما لنبيه عليه السلام ولا نعلمه نحن، وإظهارا له عليه الصلاة والسلام القدرة التي لا يغلبها شئ ولا تعجز عن شئ وكل هذه الاوجه محتملة ولا ترجيح لاحدهما على الاخر لان القدرة الصالحة لكلها.
وقال ابن القيم في كتاب الروح (الارواح قسمان: أرواح معذبة وأرواح منعمة، فالمعذبة في شغل بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي.
والارواح المنعمة المرسلة غير المحبوسة تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا، فتكون كل روح معها رفيقها الذي هو على مثل عملها.
وروح نبينا صلى الله عليه وسلم في الرفيق الاعلى.
قال تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) (النساء: 69) وهذه المعية ثابتة في الدنيا وفي دار البرزخ
وفي دار الجزاء والمرء مع من أحب.
ثم ذكر حديث أبي هريرة: (لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم لقي إبراهيم وموسى وعيسى فتذاكروا أمر الساعة).
الحديث.
قال: فهذا نص في تذاكر الارواح العلم، وقد أخبر الله تعالى عن الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون وأنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل هذا يدل على تلاقيهم من ثلاثة أوجه: أحدها أنهم أحياء عند الله وإذا كانوا أحياء عند الله فهم يتلاقون.
الثاني: أنهم إنما يستبشرون بإخوانهم لقدومهم عليهم ولقائهم لهم.
الثالث: أن لفظ يستبشرون يفيد في اللغة أنهم يبشر بعضهم بعضا مثل يتباشرون وقد تواترت المرائي بذلك فذكر عدة منامات.
ثم قال: وقد جاءت سنة صريحة بتلاقي الارواح وتعارفها.
قال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن عبد الله بن بزيغ أنبأنا الفضيل بن سليمان النميري حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن أبي أنيسة عن جده قال: لما مات بشر بن البراء بن معرور - بمهملات - وجدت أم بشر عليه وجدا شديدا، فقالت: يا رسول الله إنه لا يزال الهالك يهلك من بني سلمة، فهل يتعارف الموتى فأرسل إلى بشر بالسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم والذي نفسي بيده يا أم بشر، إنهم ليتعارفون كما يتعارف الطير في رؤوس الشجر).
وذكر الحديث وآثارا تؤيد ذلك، ثم قال: (والروح ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل وتنفصل وتخرج وتذهب وتجئ، وتتحرك وتسكن، وعلى هذا أكثر من مائة دليل قد ذكرناها في كتابنا: معرفة الروح والنفس، وبينا بطلان ما خالف هذا القول من وجوه كثيرة، وأن من قال(3/132)
غيره لم يعرف نفسه وقد وصفها الله تعالى بالدخول والخروج، والقبض والتوفي والرجوع، وصعودها السماء وفتح أبوابها وغلقها عنها، وقد ذكرت آيات وأحاديث كثيرة تشهد بما قاله).
ثم قال: (وأما إخباره صلى الله عليه وسلم عن رؤية الانبياء ليلة الاسراء به، فقد زعم بعض أهل الحديث أن الذي رآه أشباحهم وأرواحهم.
قال: فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
وقد رأى المصطفى إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور ورأى موسى قائما في قبره يصلي، وقد
نعت الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم لما رآهم بنعت الاشباح).
ونازعهم آخرون وقالوا: هذه الرواية إنما هي لارواحهم دون أجسادهم، والاجساد في الارض قطعا وإنما تبعث يوم تبعث الاجساد، ولا تبعث قبل ذلك، إذ لو بعثت قبل ذلك لكانت قد انشقت عنهم الارض قبل يوم القيامة، وكانت تذوق الموت عند نفخة الصور، وهذه موتة ثالثة وهذا باطل قطعا، ولو كانت قد بعثت الاجساد من القبور لم يعدهم الله تعالى إليها، بل كانت في الجنة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله إن الله تعالى حرم الجنة على الانبياء حتى يدخلها هو، فهو أول من يستفتح باب الجنة، وأول من تنشق عنه الارض على الاطلاق، ولم تنشق عن أحد قبله، ومعلوم بالضرورة أن جسده صلى الله عليه وسلم في الارض طري.
وقد سأله أصحابه: كيف تعرض عليك صلاتنا وقد بليت ؟ فقال: (إن الله حرم على الارض أن تأكل أجساد الانبياء) (1) ولو لم يكن جسده في ضريحه طريا لما أجاب بهذا الجواب.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى وكل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام، وصح عنه صلى الله عليه وسلم لما خرج بين أبي بكر وعمر قال: (هكذا نبعث).
هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الاعلى في أعلى عليين مع أرواح الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
وقد صح أنه رأى موسى عليه السلام قائما يصلي في قبره ليلة الاسراء ورآه في السماء السادسة أو السابعة، فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراق عليه وتعلق به بحيث تصلي في قبره وترد سلام من سلم عليه وهو في الرفيق الاعلى.
ولا تنافي بين الامرين فإن شأن الارواح غير شأن الابدان، فأنت تجد الروحين المتلائمتين المتناسبتين في غاية التجاور والقرب وإن كان بين بدنيهما غاية البعد، وتجد الروحين المتنافرتين المتباغضتين في غاية البعد وإن كان جسداهما متجاورين متلاصقين، وليس نزول الروح وصعودها، وقربها وبعدها من جنس ما للبدن فهي تصعد إلى فوق سبع سموات ثم تهبط إلى الارض ما بين قبضها ووضع الميت في قبره، وهو زمن يسير لا يصعد
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الجمعة باب (1) وابن ماجه (1085) وأحمد في المسند 4 / 8 والبيهقي في السنن
3 / 249 والحاكم في المستدرك 4 / 560 والطبراني في الكبير وابن حبان (55).
(*)(3/133)
البدن وينزل في مثله، وكذلك صعودها وعودها إلى البدن في النوم واليقظة.
وقد مثلها بعضهم بالشمس في السماء وشعاعها في الارض.
قال شيخنا - يعني أبا ا لعباس الحراني: وليس هذا مثالا مطابقا فإن نفس الشمس لا تزول من السماء والشعاع الذي على الارض لا هو الشمس ولا صفتها بل عرض حصل بسبب الشمس والجرم المقابل لها، والروح نفسها تصعد وتنزل وبسط الكلام على ذلك ولهذا مزيد بيان في باب حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قبره.
التنبيه الثاني والخمسون: في الكلام على البيت المعمور: قال أبو عبيدة: معنى المعمور الكثير الغاشية ويسمى الضراح (1) - بضم الضاد المعجمة - ويقال المهملة.
قال الزمخشري في ربيع الابرار وهو غلط صراح، وبالضراح تسميه الملائكة، وسمي به لانه ضرح عن الارض أي بعد قال مجاهد: (البيت المعمور وهو الضريح) يعني بالمعجمة وهو في اللغة: البعيد، وأكثر الروايات على أنه في السماء السابعة.
وروى ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (البيت المعمور في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة) (2).
ورواه الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا أيضا.
وروى إسحاق بن راهويه عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن البيت المعمور، قال: (بيت الله في السماء السابعة بحيال البيت، وحرمته كحرمة هذا في الارض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه).
وفي حديث أبي هريرة عند ابن مردويه والعقيلي وابن أبي حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (في السماء السابعة بيت يقال له البيت المعمور وفي السماء الرابعة نهر يقال له الحيوان، يدخله جبريل كل يوم فينغمس فيه انغماسة ثم يخرج فينتفض انتفاضة فيخرج عنه سبعون ألف
قطرة، يخلق الله من كل قطرة ملكا يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور فيصلون فيه فيفعلون ثم يخرجون فلا يعودون إليه أبدا، ويولى عليه أحدهم ثم يؤمر أن يقف بهم في السماء موقفا يسبحون الله في إلى أن تقوم الساعة) (3).
وإسناده ضعيف.
والصحيح أنه ليس بموضوع كما
__________
(1) الضراح بيت في السماء حيال الكعبة ويروى: الضريح وهو البيت المعمور، من المضارحة، وهي المقابلة والمضارعة.
انظر النهاية لابن الاثير 3 / 81.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير 11 / 417 وأحمد في المسند 3 / 153 والحاكم في المستدرك 3 / 468 وذكره السيوطي في الدر 6 / 117 والمتقي الهندي في الكنز (34794).
(3) أخرجه ابن كثير في التفسير 7 / 404 وقال: هذا حديث غريب جدا، تفرد به روح بن جناح هذا، وقد أنكر هذا الحديث عليه جماعة من الحفاظ منهم: الجوزجاني والعقيلي، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري وغيرهم: وقال الحاكم: لا أصل له من حديث أبي هريرة ولا سعيد ولا الزهري.
(*)(3/134)
بينته في: (الفوائد المجموعة في بيان الاحاديث الموضوعة).
وروى أبو الشيخ من طريق الليث قال: حدثني خالد بن سعيد قال: (بلغني أن إسرافيل مؤذن أهل السماء يسمع تأذينه من في السموات السبع ومن في الارض، إلا الجن والانس، ثم يتقدم عظيم الملائكة فيصلي بهم)، قال: (وبلغنا أن ميكائيل يؤم الملائكة بالبيت المعمور) واستدل بهذه الاحاديث على أن الملائكة أكثر المخلوقات، لانه لا يعرف من جميع العوالم من يتجدد من جنسه في كل يوم سبعون ألف غير ما ثبت في هذه الاحاديث.
التنبيه الثالث والخمسون: قوله: (فرفع إلى البيت المعمور)، معناه أنه أري له.
وقد يحتمل أن يكون المراد الرفع والرؤية معا، لانه قد يكون بينه وبين البيت عوالم حتى لا يقدر على إدراكه، فرفع إليه وأمد في بصره وبصيرته حتى رآه، ويحتمل أن تكون تلك العوالم التي كانت بينه وبين البيت المعمور أزيلت حتى أدركه بصره.
وقد يحتمل أن يكون العالم بقي على حاله والبيت على حاله، وأمد في بصره وبصيرته حتى أدركه وعاينه، والقدرة صالحة
للكل، يشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع إلي بيت المقدس على ما سيأتي فيه)، والتأويل فيه كالتأويل في البيت المعمور.
وأكثر الروايات: (رفعت إلى سدرة المنتهى)، بضم الراء وسكون العين وضم التاء من (رفعت)، وبعده حرف الجر.
ولبعضهم (ورفعت) بفتح العين وسكون التاء، أي (السدرة لي) باللام أي من أجلي، ويجمع بين الروايتين بأن المراد أنه رفع إليها أي ارتقي بها فظهرت له والرفع إلى الشئ يطلق على التقريب منه.
التنبيه الرابع والخمسون: وجه مناسبة المعراج الثامن إلى سدرة المنتهى لما اشتملت عليه السنة الثامنة من الهجرة.
إن السنة الثامنة اشتملت على فتح مكة، ومكة أم القرى وإليها المنتهى ومنها المبتدأ، على ما ورد أن الارض كلها دحيت (1) من مكة، فلذلك سميت أم القرى، أو هي أم القرى لان أهل القرى يرجعون إليها في الدين والدنيا حجا واعتمارا وجوارا وكسبا واتجارا قال الله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياسا للناس) (المائدة: 97) أي تقوم بأبدانهم وأديانهم.
نوقال تعالى (ليشهدوا منافع لهم) الحج 28) قيل هي الاجر والتجارات في الموسم.
فبين سدرة المنتهى وأم القرى من المناسبة ما لا يخفى، إذ سدرة المنتهى ينتهي إليها علم الخلائق، ومكة ينتهي إليها أهل الافاق شرقا وغربا وفيها يكون الاجتماع.
فكان بلوغه إلى سدرة المنتهى تنبيها على بلوغه إلى فتح مكة أم القرى في العام
__________
(1) الدحو: البسط، والمدحوات: الارضون.
يقال: دحا يدحو ويدحى: أي بسط ووسع.
انظر النهاية لابن الاثير 2 / 106.
(*)(3/135)
الثامن، وقد غشى السدرة الجراد والفراش والغربان الذي هو جند من جند الله كما غشى مكة في الفتح جند الله وحزبه وغشيها أيضا أجناس من الخلق وألوان من الاسود والاحمر.
وجاء اللفظان معا في الحديث، كما غشى سدرة المنتهى ألوان لا يعلمها إلا الله تعالى: فلما غشيت الالوان السدرة حسنت إلى أن لا يحسن أحد أن ينعتها لفرط الحسن.
كما أن ألوان الخلق لما غشيت مكة يوم الفتح حسنت حينئذ بالايمان وبأهل القرآن حتى لا يحسن أحد أن يصف
حالها حينئذ من عظم الشأن.
ثم كان ظهور الانهار الاربعة حينئذ دليلا على أن تلك الامة ستبلغها ويحققه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: (زويت لي الارض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها) (1).
التنبيه الخامس والخمسون: وقع في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند مسلم أن السدرة في السماء السادسة وظاهر حديث أنس رضي الله عنها أنها في السابعة، قال القرطبي: (وهذا تعارض لا شك فيه).
وحديث أنس قول الاكثرين وهو الذي يقتضيه وصفها بكونها التي ينتهي إليها علم كل نبي مرسل وكل ملك مقرب، (ويترجح حديث أنس بأنه مرفوع وحديث ابن مسعود بأنه موقوف).
قال الحافظ: (كذا قال ولم يعرج على الجمع بل جزم بالتعارض ولا يعارض قوله إنها في السادسة ما دلت عليه بقية الاخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل في السماء السابعة لانه يحمل على أن أصلها في السماء السادسة وأغصانها وفروعها في السابعة وليس في السادسة منها إلا أصل ساقها، والله أعلم.
التنبيه السادس والخمسون: قال ابن أبي جمرة: (والاظهر أن شجرة المنتهى مفروشة بأرض بدليل قوله: (ونهران باطنان) ولا يطلق هذا اللفظ وما أشبهه إلا على ما يفهم، والباطن لا بد أن يكون سريانه تحت شئ، وحينئذ يطلق عليه اسم الباطن.
التنبيه السابع والخمسون: قال القاضي رحمه الله: دل الحديث على أن أصل سدرة المنتهى في الارض لكونه قال: (إن النيل والفرات يخرجان من أصلها)، وهما بالمشاهدة يخرجان من الارض، فيلزم فيه أن يكون أصل السدرة في الارض.
وتعقبه النووي بأن المراد بكونهما يخرجان من أصلها غير خروجهما بالنبع من الارض، والحاصل أن أصلهما من الجنة وهما يخرجان أولا من أصل السدرة إلى أن يستقرا في الارض ثم ينبعان.
التنبيه الثامن والخمسون: قال ابن أبي جمرة رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: (في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان ونهران ظاهران)، هذا اللفظ يحتمل أن يكون على الحقيقة، ويحتمل أن
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (3952) وذكره العراقي في تخريجه على الاحياء 2 / 387.
(*)(3/136)
يكون من باب تسمية الشئ بما قاربه، فإن كان على الحقيقة فتكون هذه الانهار تنبع من أصل الشجرة نفسها فتكون الشجرة طعمها نبق وأصلها ينبع منه الماء، والقدرة لا تعجز عن هذا.
وإن كان من باب تسمية الشئ بما قاربه فتكون الانهار تنبع قريبا من أصل الشجرة).
التنبيه التاسع والخمسون: في قوله: (أما الباطنان فنهران في الجنة)، دليل على أن الباطن أجل من الظاهر، لانه لما كان الباطنان أصلا جعلا في دار البقاء، ولما كان الظاهران أقل أخرجا إلى دار الفناء، ومن ثم كان الاعتماد على ما في الباطن، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم).
التنبيه الستون: في حديث أبي سعيد: (فإذا فيها - أي السماء السابعة - عين تجري يقال لها السلسبيل فينشق منها نهران أحدهما نهر الكوثر والاخر يقال له نهر الرحمة.
(ويمكن أن يفسر بهما النهران الباطنان المذكوران في الحديث، وكذا روي عن مقاتل، قال: (الباطنان السلسبيل والكوثر).
التنبيه الحادي والستون: قال النووي في هذا الحديث: إن أصل النيل والفرات من الجنة وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى ثم يسيران حيث شاء الله تعالى ثم ينزلان إلى الارض ثم يسيران فيها ثم يخرجان منها.
وهذا لا يمنعه العقل وقد شهد به ظاهر الخبر فليعتمد).
التنبيه الثاني والستون: استدل بهذا الحديث على فضيلة ماء النيل والفرات لكون منبعهما من الجنة.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة) (1).
قال العلماء: والمراد به أن في الارض أربعة أنهار أصلها من الجنة وحينئذ لم يثبت لسيحان وجيحان أنهما ينبعان من أصل سدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك، وأما الباطنان المذكوران في الحديث فهما غير سيحان وجيحان.
قال القرطبي: (لعل ترك ذكرهما في حديث الاسراء لكونهما ليسا أصلا برأسهما وإنما يحتمل أن
يتفرعا من النيل والفرات).
التنبيه الثالث والستون: قيل: إنما أطلق على هذه الانهار أنها من الجنة تشبيها لها بأنهار الجنة لما فيها من شدة العذوبة والحسن والبركة.
قال القرطبي: والاولى أنهار من أنهار الجنة.
وقال غيره: صورة ا نصبابها كانصباب المطر متفرقا ثم يجتمع في مواقعها في الارض إلى أن ينساق كل منها إلى مستقره ومجراه.
ويحتمل أن يكون انصبابها في نواحي الارض
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجنة (26) وأحمد في المسند 2 / 289 والبغوي في التفسير 6 / 177.
(*)(3/137)
النائية المتصلة بمبادئ هذه الانهار فإنه لم يقف أحد على مباديها حتى الان.
وروى أبو الشيخ في العظمة وأبو المخلص - بوزن اسم الفاعل - بسند من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث بن سعد قال: بلغني أنه كان رجل من بني العيص يقال له حائد بن شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، خرج هاربا من ملك من ملوكهم حتى دخل أرض مصر، فأقام بها، فلما رأى أعاجيب نيلها، جعل لله عليه ألا يفارق ساحلها حتى يبلغ منتهاه ومن حديث يخرج أو يموت.
فسار عليه، قبل ثلاثين سنة في الناس، وثلاثين سنة في غير الناس، وقبل خمس عشرة كذا وخمس عشرة كذا حتى انتهى إلى بحر أخضر، فنظر إلى النيل ينشق مقبلا، وإذا رجل قائم يصلي تحت شجرة تفاح، فلما رآه استأنس به وسلم عليه، فقال له: من أنت ؟ قال: أنا حائد بن شالوم بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام فمن أنت ؟ قال: أنا عمران بن فلان بن العيص، فما الذي جاء بك يا حائد ؟ قال: جئت من أجل هذا النيل وهل بلغك في الكتب أن أحدا من بني آدم يبلغه ولا أظنه غيرك قال كيف الطريق إليه ؟ قال: سر كما أنت على هذا البحر فإنك ستأتي دابة ترى آخرها ولا ترى أولها فلا يهولنك آخرها، وهي معادية للشمس إذا طلعت أهوت إليها لتلتقمها وإذا غربت أهوت إليها كذلك، فاركبها تذهب بك إلى جانب البحر، فسر عليها فإنها ستبلغ أرضا
من حديد، فإن جزتها وقعت في أرض من ذهب فيها ينتهي إليها علم النيل.
فسار حتى انتهى إلى أرض من الذهب فسار فيها حتى انتهى إلى سور من ذهب، وشرفة من ذهب وقبة من ذهب لها أربعة أبواب، فنظر إلى ما ينحدر من فوق ذلك السور حتى يستقر في القبة ثم ينصرف في الأبواب الاربعة، فأما الثلاثة فتفيض في الارض وأما واحد فيسير على وجه الارض وهو النيل.
فشرب منه واستراح وهوى إلى السور ليصعد فأتاه ملك فقال له: (يا حائد قف فإنه قد انتهى إليك علم هذا النيل، وهذه الجنة، وإنما ينزل من الجنة.
التنبيه الرابع والستون: قال ابن أبي جمرة في قول جبريل عليه السلام: (أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات)، دليل على أن النيل والفرات ليسا من الجنة لان النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن جبريل أخبره أن هذه الانهار منبعها من سدرة المنتهى، فيسير الباطنان إلى الجنة، والنيل والفرات ينزلان إلى الدنيا، وسدرة المنتهى ليست في الجنة حتى يقال إنهما يخرجان منها بعد نبعهما من الجنة.
وهذا معارض لما رواه مسلم عن أبي هريرة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة).
والجمع بينهما(3/138)
- والله تعالى أعلم - أن النيل والفرات منبعهما من سدرة المنتهى، وإذا نزلا يسلكان أولا طريقا إلى الجنة فيدخلانها ثم بعد ذلك ينزلان إلى الارض.
التنبيه الخامس والستون: قال ابن أبي جمرة: وردت الاخبار أن من شرب من ماء الجنة لا يموت ولا يفنى وأنه ليس له فضلة تخرج على ما يعهد في دار الدنيا خروجه وإنما خروجه رشح مسك على البدن، فجعل فيه هذه الخاصية العظيمة، ثم لما شاءت الحكمة نزوله إلى هذه الدار نزعت منه تلك الخصوصية، وبقي جوهره بحاله، وكل الخواص مثله في هذا المعنى، إن شاء الله عز وجل أبقى له الخاصية وإن شاء سلبها مع بقاء جوهره وليس لذوات الخواص تأثير بل الخاصية خلقه والجوهر خلقه وإنما القدرة هي المؤثرة في كلها.
التنبيه السادس والستون: قول ابن كثير: (المراد - والله أعلم - أن هذه الانهار تشبه أنهار الجنة في صفائها وعذوبتها وجريانها من جنس تلك في هذه الصفات كما قال في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العجوة من الجنة) (1) أي تشبه ثمر الجنة لا أنها مجتناة من الجنة فإن الحس يشهد بخلافه.
فيتعين أن يكون المراد غ يره، وكذلك أصل منابع هذه الانهار مشاهدة من الارض)، انتهى.
وهو متعقب بأنه لا يلزم من كونها كذلك ألا تكون من الجنة، لما قدمنا من كيفية النزول.
وقد جزم النووي وغيره أنها من الجنة، ولا يشكل ذلك لان في ماء الجنة خواص ليست في هذه الانهار لما سبق في كلام ابن أبي جمرة.
التنبيه السابع والستون: وقع في رواية شريك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في السماء الدنيا نهرين يطردان فقال له جبريل: (هما النيل والفرات عنصرهما).
وفي رواية غيره: (رآهما في السماء السابعة).
قال ابن دحية: والجمع بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة، ورأهما في السماء الدنيا دون نهري الجنة وأراد بالعنصر عنصر انتشارهما.
التنبيه الثامن والستون: روى أبو نعيم والضياء عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعلكم تظنون أن أنهار الجنة أخدودا في الارض، لا والله إنها لسائحة على وجه الارض) (2) الاخدود شق في الارض مستطيل.
التنبيه التاسع والستون: روى الحارث بن أبي أسامة في مسندة والبيهقي في الشعب
__________
(1) أخرجه الترمذي (2066) وابن ماجه (3543) وأحمد في المسند 2 / 301 والدارمي 2 / 338 وعبد الرزاق في المصنف (20170) والخطيب في التاريخ 14 / 445.
(2) ذكره السيوطي في الدر 1 / 38 وعزاه لابن مردويه وأبي نعيم والضياء المقدسي كلاهما في صفة الجنة.
(*)(3/139)
عن كعب الاحبار قال: (إن نهر العسل نهر النيل ونهر اللبن نهر دجلة ونهر الخمر نهر الفرات ونهر الماء نهر سيحان).
التنبيه السبعون: قوله في السدرة: (يغشاها جراد من ذهب).
قال البيضاوي: (ذكر الجراد والفراش وقع على سبيل التمثيل لان من شأن الشجر أن يسقط عليه الجراد وشبهه، وجعلها من ذهب لصفاء لونها وإضاءتها في نفسها).
وقال الحافظ: (ويجوز جعلها من الذهب حقيقة، ويخلق الله فيها الطيران، والقدرة صالحة لذلك).
انتهى.
التنبيه الحادي والسبعون: قوله (فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر)، قال شيخ الاسلام تقي الدين السبكي رحمه الله: (المراد تشريف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الامر، أي لو كان له ذنوب لغفرت ولم يكن له ذنب البتة).
وحكى الشيخ رحمه الله في كتابه المحرر، في الكلام على هذه الاية اثني عشر قولا، ونقل عن السبكي فساد خمسة منها وبين الشيخ فساد الباقي، ثم قال: (أما الاقوال المقبولة ففي الشفا للقاضي قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أن يقول: (وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم) (الاحقاف: 9) سر بذلك الكفار فأنزل الله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) (الفتح: 2) وأخبر بمال المؤمنين في الاية الاخرى بعدها، فمقصد الاية أنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب وهذا الاثر رواه ابن المنذر في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، بدون قوله وأخبر بمال المؤمنين إلى آخره، وروى الامام أحمد والترمذي والحاكم نحوه.
قال القاضي: قال بعضهم: المغفرة هنا تنزيه من العيوب، وقال بعض المحققين: المغفرة هنا كناية عن العصمة أي فعصمت فيما تقدم من عمري وفيما تأخر منه، وهذا القول في غاية الحسن.
وقد عد البلغاء من أساليب البلاغة في القرآن أنه يكنى عن التخفيفات بلفظ المغفرة والعفو والتوبة، كقوله عند نسخ قيام الليل: (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم) (المزمل: 20) وعند نسخ تقديم الصدقة بين يدي النجوى (فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم) (المجادلة: 13) وعند نسخ تحريم الطباع ليلة الصيام: (فتاب عليكم وعفا عنكم فالان باشروهن) (البقرة: 187).
ثم نقل عن السبكي أنه قال: (قد تأملت هذه الاية بذهني مع ما قبلها وما بعدها
فوجدتها لا تحتمل إلا وجها واحدا وهو تشريف النبي صلى الله عليه وسلم، من غير أن يكون هناك ذنب، ولكنه أريد أن تستوعب في الاية جميع أنواع النعم من الله تعالى على عباده.
وجميع النعم الاخروية شيئان: سلبية وهي غفران الذنوب، وثبوتية وهي لا تتناهى وقد أشار إليها بقوله: (ويتم نعمته عليك) (البقرة: 187) وجميع النعم الدنيوية شيئان: دينية أشار إليها بقوله:(3/140)
(ويهديك صراطا مستقيما) (الفتح: 2) ودنيوية وإن كان المقصود بها الدين وهي قوله تعالى: (وينصرك الله نصرا عزيزا) (الفتح: 3) وقدم الاخروية على الدنيوية تقديما للاهم، فانتظم بذلك تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام أنواع نعم الله تعالى المتفرقة في غيره).
وبعد أن وقفت على هذا المعنى رأيت ابن عطية قد وقع عليه فقال: (وإنما المعنى تشريف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحكم، ولم تكن ذنوبا البتة)، وقد وفق فيما قاله.
التنبيه الثاني والسبعون: قوله: (ثم أخذ على الكوثر حتى دخل الجنة).
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في تفسيره: (هذا الحديث دليل على أن السدرة ليست في الجنة).
وجزم به ابن أبي جمرة.
وقال ابن دحية: (ثم هنا ليست للترتيب كما في قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا) (البلد: 17) إنما هي مثل الواو للجمع والاشتراك فهي بذلك خارجة عن أصلها، قال صاحب فتح الصفا: (وهي خلاف الظاهر).
التنبيه الثالث والسبعون: قال بعض العلماء في توجيه كون درهم القرض بثمانية عشر: إن درهم القرض بدرهمين من دراهم الصدقة كما ورد، ودرهم الصدقة بعشرة، ودرهم القرض يرجع للمقرض بدله، وهو بدرهمين من جملة مبلغ أصله عشرون يتأخر للمقرض منه ثمانية عشر.
وسمعت شيخنا الامام العلامة نور الدين المحلي يذكر ذلك [ في ] الاصول.
ثم رأيت في (نوادر الاصول) للحكيم الترمذي ما نصه: (معنى الحديث أن المتصدق حسب له الدرهم الواحد بعشرة، فدرهم صدقته وتسعة زائدة فصارت له عشرة، والقرض ضوعف له فيه بدرهم
والتسعة مضاعفة فهذه ثمانية عشر، ودرهم القرض لم يحسب لانه يرجع إليه، فيبقى التضعيف وهو ثمانية عشر، وفي الصدقة لم يرجع إليه فصارت له عشرة.
التنبيه الرابع والسبعون: قال ابن دحية: (في عرض الجنة عليه كرامة عظيمة لانه كان يعرض الجنة على أمته ليشتروها كما قال عن ربه تبارك وتعالى: (إن الله ا شترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) (التوبة: 111).
فأراد الله تعالى أن يعاين نبيه صلى الله عليه وسلم ما يعرضه على أمته ليكون وصفه لها عن مشاهدة ولانه كان يدعو الناس إلى الجنة وهي الدار التي هيأها الله تعالى لضيافة عباده المؤمنين وبعثته صلى الله عليه وسلم داعيا إليها فأراد الله تعالى أن يريه الدار وكثرة ما أعد فيها من النعيم والكرامة لئلا يضن بالدعوة وليعلم أنها تسع الخلائق كلهم ولا تمتلئ حتى ينشئ الله لها خلقا، كما ثبت في الحديث.
ويحتمل أنه إنما أراه إياها ليعلم خسة الدنيا في جنب ما رآه فيكون في الدنيا(3/141)
أزهد وعلى الشدائد أصبر.
فقد قيل: حبذا محنة تؤدي بصاحبها إلى الرخاء وبؤس نعمة تؤدي بصاحبها إلى البلاء.
ويحتمل أن الله تعالى أراد ألا يكون لاحد كرامة إلا ولمحمد مثلها، ولما كان لادريس كرامة دخول الجنة قبل يوم القيامة أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون (ذلك) أيضا لصفيه ونجيه محمد صلى الله عليه وسلم).
التنبيه الخامس والسبعون: قال ابن دحية: (إنما عرضت عليه النار ليكون آمنا يوم القيامة، فإذا قال سائر الانبياء: نفسي نفسي فنبينا يقول: (أمتي أمتي، وذلك حين تسجر جهنم، ولذلك أمن الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فقال عز من قائل: (يوم لا يخزي الله النبي) (التحريم: 8) والحكمة في ذلك أن يفزع إلى شفاعة أمته، ولو لم يؤمنه لكان مشغولا بنفسه كغيره من الانبياء، لانهم لم يروا قبل يوم القيامة شيئا منها، فإذا رأوا جزعوا وكفت ألسنتهم
عن الخطبة والشفاعة من هولها وشغلتهم أنفسهم عن أممهم، وهو صلى الله عليه وسلم قد رآها قبل ذلك فلا يفزع منها مثل ما فزعوا فيقدر على الخطبة وهو المقام المحمود، لان الكفار لما كانوا يكذبونه ويستهزئون ويؤذونه أشد الاذى أراه الله سبحانه وتعالى النار التي أعدها للمستخفين به تطييبا لقلبه وتسكينا لفؤاده وللاشارة إلى أن من طيب قلبه بإهانة أعدائه والانتقام منهم فأولى أن يطيبه في أوليائه بالشفاعة والاكرام، وليعلم منة الله عليه حين أنقذهم منها ببركته وشفاعته.
التنبيه السادس والسبعون: لم ير مالكا في صورته التي يراه عليها المعذبون في الاخرة، ولو رآه على تلك الصورة لما استطاع أن ينظر إليه.
التنبيه السابع والسبعون: قال الطيبي: (إنما بدأ مالك رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالسلام ليزيل ما استشعر من الخوف منه بخلاف سلامه على الانبياء ابتداء).
التنبيه الثامن والسبعون: ذكر صلى الله عليه وسلم أنه لم يلقه ملك من الملائكة إلا ضاحكا مستبشرا إلا مالكا خازن النار، وذلك أنه لم يضحك لاحد قبله، ولا هو ضاحك لاحد بعده.
قال الله تعالى (عليها ملائكة غلاظ شداد) (التحريم: 6) وهو موكلون بغضب الله تعالى، فالغضب لا يزايلهم أبدا.
وفي هذا الحديث معارضة لما رواه الامام أحمد وأبو الشيخ عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: (مالي لم أر ميكائيل ضاحكا قط ؟) قال: (ما ضحك منذ خلقت النار) (1).
وهذا الحديث يعارضه ما رواه الدار قطني وغيره أن رسول الله تبسم في الصلاة، فسئل عن ذلك فقال: (رأيت ميكائيل راجعا في طلب القوم وعلى جناحيه الغبار، فضحك إلي، فتبسمت إليه) قال السهيلي: (وإذا صح الحديثان فوجه الجمع بينهما أن يكون لم
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3 / 224 وابن كثير في البداية والنهاية 1 / 46.
(*)(3/142)
يضحك منذ خلقت النار إلا هذه المرة التي ضحك فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون الحديث عاما يراد به الخصوص أو يكون الحديث الأول حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هذا الحديث
الاخر، ثم حدث بعد بما حدث به من ضحكه إليه).
التنبيه التاسع والسبعون: المناسبة بين المعراج التاسع - وهو المستوى الذي سمع فيه صريف الاقلام - والعام التاسع من سني الهجرة.
قال ابن دحية: (كان في العالم التاسع غزوة تبوك وفيها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى الشام في العدد ا لذي لم يتم قبله مثله، كان العدد ثلاثين ألفا، وكانت الشقة بعيدة، ولهذا لم يور فيها، بل أعلم الناس بوجههم ليكون تأهبهم بحسب ذلك، ومع هذا الاجتهاد في الاستعداد لم يلق صلى الله عليه وسلم حربا ولا افتتح بلدا، لان أجل فتح الشام لم يكن حل بعد، فانتسخ العزم بالقدر وبجفاف القلم ورجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وعلى المسلمين الوقار والسكينة من غير اضطراب عند انصراف العزيمة.
التنبيه الثمانون: صريف الاقلام، بالصاد المهملة وكسر الراء وبالفاء.
قال القاضي والنووي رحمهما الله تعالى: هو صوت حركتها وجريانها على ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه وما ينسخونه من اللوح المحفوظ أو ما شاء الله من ذلك أن يكتب ويرفع لما أراده من أمره وتدبيره.
وفيه حجة لاهل السنة في الايمان بصحة كتابة الوحي والمقادير في كتب الله تعالى من اللوح المحفوظ بالاقلام التي هو يعلم كيفيتها على ما جاءت به الايات في كتابه والاحاديث الصحيحة، وأن ما جاء من ذلك على ظاهره، لكن كيفية ذلك وصورته وجنسه لا يعلمه إلا الله تعالى، ومن أطلعه على شئ منه من ملائكته ورسله.
وما يتأول هذا ويحيله إلا ضعيف النظر والايمان، إذ جاءت به الشريعة، ودليل العقول لا يحيله، والله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، حكمة من الله وإظهارا لما يشاء من غيبه لمن يشاء من ملائكته وسائر خلقه وإلا فهو غني عن الكتب والاستذكار.
التنبيه الحادي والثمانون: قال ابن دحية: (قد علم أن الاقلام إنما تكتب الاقدار، والقدر المكتوب قديم، وإنما الكتابة حادثة.
وظاهر الاخبار أن اللوح المحفوظ فرغ من كتابته وجف القلم بما فيه قبل خلق السموات والارض، وإنما هذه الكتابة المحدودة في صحف الملائكة كالفروع ا لمنتسخة من الاصل، وفيها المحو والاثبات على ما ورد في الاثر.
وأصل
اللوح المحفوظ الذي انتسخ منه اللوح هو علم الغيب القديم في أزل القدم وهو الذي لا محو فيه ولا إثبات حيث لا لوح ولا قلم.
والحكمة البالغة - والله أعلم - في سماعه لصريف الاقلام حصول الطمأنينة بجفاف القلم بما في القدر حتى يمكن التفويض للقدر لا للسبب، وحتى يتعاطى السبب تعبدا لا(3/143)
تعوذا وبذلك يتم التوكل ويسكن الاضطراب عند اختلاف الاسباب.
وقال القرطبي: (وأصل الاقلام الموصوفة هنا، هي المعبر عنها بالقلم المقسم به في قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون) (القلم: 1) ويكون القلم هذا للجنس).
التنبيه الثاني والثمانون: المناسبة بين المعراج العاشر وهو الرفرف حين لقى الله تعالى وحضر بحضرة القدس وقام مقام الانس ورفع الحجاب وسمع الخطاب، وكان قاب قوسين أو أدنى لا بالصورة بل بالمعنى، أن العام العاشر اجتمع فيه اللقاءان: أحدهما: لقاء البيت وحج الكعبة ووقوف عرفة وإكمال الدين وإتمام النعمة على المسلمين، واللقاء الثاني: بقارب البيت وكانت فيه الوفاة واللقاء والانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء والعروج بالروح الكريمة إلى المقعد الصدق وإلى الموعد الحق وإلى الوسيلة وهي المنزلة الرفيعة التي لا تنبغي إلا لعبد واحد اختاره الله تعالى وهو محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح الخبر أنه سئل عن الوسيلة فقال: (درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله فأرجو أن أكون إياه (1) ورجاؤه محقق صلى الله عليه وسلم، وخاطره موفق.
التنبيه الثالث والثمانون: قال ابن دحية: خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرؤية والمكالمة لانه صاحب الشفاعة يوم القيامة، فتوسط قبلها لئلا يقع له حشمة ا لبديهة كما يقع لغيره من الانبياء فأراد الله سبحانه وتعالى أن يزيل عنه الانقباض قبل ذلك ليتمكن من المقام المحمود وأهله قبل المشهد الاعلى للمشاهدة والكلام.
التنبيه الرابع والثمانون: قوله تعالى: (وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز
تحت عرشي)، إلى آخر الحديث.
قال التوربشتي: ليس يعني بقوله: (أعطى) أنها أنزلت عليه بل المعنى أنه استجيب له فيما لقن من الايتين: (غفرانك ربنا وإليك المصير) (البقرة: 285) إلى قوله تعالى: (أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) (البقرة: 286)، ولمن يقوم بحقهما من السائلين).
وقال الطيبي: (وفي كلامه إشعار بأن الاعطاء بعد الانزال لان المراد منه الاستجابة وهي مسبوقة بالطلب والسورة والمعراج كان بمكة، ويمكن أن يقال هذا من قبيل (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) (النجم: 3، 4) وإنما أوثر الاعطاء لما عبر عنه بكنز تحت العرش).
وروى الامام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي).
__________
(1) أخرجه مسلم 1 / 288 (11 - 384).
(*)(3/144)
التنبيه الخامس والثمانون: الحكمة في تخصيص فرض الصلاة بليلة ا لاسراء أنه صلى الله عليه وسلم لما عرج به رأى تلك الليلة تعبد الملائكة، وأن منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله تعالى له ولامته تلك العبادات كلها في ركعة واحدة يصليها العبد بشرائطها من الطمأنينة والاخلاص.
التنبيه السادس والثمانون: وفي اختصاص فرضها بليلة ا لاسراء إشارة إلى عظم شأنها ولذلك اختص فرضها بكونه بغير واسطة بل بمراجعات عدة.
قال السهيلي: (وأما فرض الصلاة عليه هنا لك، ففيه التنبيه على فضلها حيث لم تفرض إلا في الحضرة القدسية المطهرة، ولذلك كانت الطهارة من شأنها ومن شرائط أدائها والتنبيه على أنها من مناجاة الرب، وأن الرب تبارك وتعالى مقبل بوجهه على المصلي يناجيه يقول: حمدني عبدي أثنى علي عبدي إلى آخر السورة، وهذا مشاكل لفرضها عليه في السماء السابعة حيث سمع كلام الرب وناجاه،
ولم يعرج به حتى طهر ظاهره وباطنه بماء زمزم كما يتطهر المصلي للصلاة وأخرج عن الدنيا بجسمه كما يخرج المصلي عن الدنيا بقلبه ويحرم عليه كل شي إلا مناجاة ربه، وتوجهه إلى قبلته في ذلك الحين وهي بيت ا لمقدس، ورفع إلى السماء كما يرفع المصلي يديه إلى جهة السماء إشارة إلى القبلة العليا وهي البيت المعمور وإلى جهة عرش من يناجيه ويصلي له سبحانه وتعالى).
التنبيه السابع والثمانون: قوله: (قد وضعت عنك خمسا)، كذا في رواية ثابت عن أنس.
وفي رواية مالك بن صعصعة: (عشرا)، وفي رواية شريك: (وضع شطرها).
قال النووي: (المراد بحط الشطر أنه حط في مرات بمراجعات فلا يخالف رواية ثابت).
قال الحافظ: (وكذا العشر فكأنه وضع العشر في دفعتين والشطر في خمس دفعات، والمراد بالشطر هنا البعض).
قال: (وقد حققت رواية ثابت أن التخفيف كان خمسا، وهي زيادة معتمدة يتعين حمل باقي الروايات عليها.
قلت: ويؤيد رواية ثابت ما رواه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي وابن مردويه من حديث مالك بن صعصعة: (فحط عني خمسا)، وفيه: (فما زلت بين موسى وبين ربي يحط عني خمسا خمسا).
قال ابن دحية: (ذكر الشطر أعم من كونه وقع دفعة واحدة).
التنبيه الثامن والثمانون: قال أبو طالب الجمحي في كتاب (التحيات): (لكل قوم تحية، فتحية العرب السلام وتحية الاكاسرة السجود قدام الملك وتقبيل الارض وتحية الفرس طرح اليد على الارض قدام الملك، وتحية الحبشة عقد اليدين على الصدر بين يدي الملك بسكون، وتحية الروم كشف غطاء الرأس من بعد تنكيس رأسه.
وتحية النوبة إيماء الرجل بالدعاء(3/145)
بالاصابع وتحية البجا وضع يد الداخل على كتف الملك، فإن بلغ الخدمة رفعها ووضعها مرارا.
وهذه التحيات غالبها مجموعة في الصلاة التي هي خدمة ملك الملوك سبحانه وتعالى، ولهذا ناسب أن يقال في آخرها: (التحيات لله) إشارة إلى أنه تعالى يستحق جميع التحيات).
التنبيه التاسع والثمانون: وقع في رواية أنس عن أبي ذر رضي الله عنهما: (فرض الله على أمتي خمسين صلاة) وفي رواية ثابت عن أنس: (فرض الله علي خمسين صلاة كل يوم وليلة).
ونحوه في رواية مالك بن صعصعة، فيحتمل أن يقال في كل من رواية أبي ذر والرواية الاخرى اختصار.
ويؤيد قوله في الرواية الاخرى: (إني فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة) إلى آخره.
ويقال ذكر الفرض عليه يستلزم ذكر الفرض على الامة وبالعكس، إلا ما استثني من خصائصه.
التنبيه التسعون: قال ابن أي جمرة: (الحكمة في كون إبراهيم عليه السلام لم يكلم المصطفى في طلب التخفيف أن مقام الخلة إنما هو الرضى والتسليم، والكلام في هذا ا لشأن ينافي ذلك المقام.
وموسى هو الكليم، والكليم أعطي الا دلال والانبساط).
وقال القرطقي: (الحكمة في تخصيص موسى عليه الصلاة والسلام بمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة، لعلها لكون أمة موسى كلفت من الصلوات ما لم يكلف به غيرها من الاممم فثقلت عليهم فأشفق موسى على أمة محمد - عليهما الصلاة والسلام - من مثل ذلك ويشير إلى ذلك قول موسى: (إني قد جربت الناس قبلك).
وقال غيره: لعلها من جهة أنس ليس في الانبياء من له أتباع أكثر من موسى، ولا من له كتاب أك بر ولا أجمع للاحكام من كتابه، فكان من هذه الجهة مضاهيا للنبي صلى الله عليه وسلم، فناسب أن يتمنى أن يكون له مثل ما أنعم به عليه من غير أن يريد زواله عنه، وناسب أن يطلعه على ما وقع له وينصحه فيما يتعلق به.
ويحتمل أن موسى عليه السلام لما غلب عليه في الابتداء الاسف على نقص حظ أمته بالنسبة لامة محمدص لى الله عليه وسلم حتى تمنى ما تمنى أن يكون منهم، استدرك ذلك ببذل النصيحة لهم والشفقة عليهم ليزيل ما عساه أن يتوهم عليه مما وقع منه في الابتداء، والعلم عند الله تعالى.
قال القرطبي: (وأما قول من قال إنه أول من لقيه بعد الهبوط فليس بصحيح، لان حديث مالك بن صعصعة أنه رآه في السادسة وإبراهيم في السابعة، وهو أقوى إسنادا من
حديث شريك الذي فيه أنه رأى موسى في السابعة).
قال الحافظ: (إذا جمعنا بينهما بأنه لقيه في الصعود في السادسة، وصعد موسى معه إلى السابعة فلقيه فيها بعد الهبوط ارتفع الاشكال وبطل الرد).
قال السهيلي: (وأما اعتناء موسى عليه السلام بهذه الامة وإلحاحه على نبيها أن يشفع(3/146)
لها ويسأل التخفيف عنها فلقوله - والله أعلم - حين قضي إليه الامر بجانب القربى ورأى صفات أمة محمد عليه السلام في الالواح وجعل يقول: إني أجد في الالواح أمة صفتهم كذا: اللهم اجعلهم أمتي.
فيقال له: تلك أمة محمد.
قال: اللهم اجعلني من أمة محمد، وهو حديث مشهور في التفاسير.
فكان إشفاقه عليهم واعتناؤه بأمرهم يعتني بالقوم من هو منهم لقوله: اللهم اجعلني منهم).
التنبيه الحادي والتسعون: في قول موسى: (قد عالجت الناس قبلك) إلى آخره دليل على أن علم التجربة زائدة على العلوم، ولا يقدر على تحصيله بكثرة العلوم ولا يكتسب إلا بها، أعني التجربة، لان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس وأفضلهم سيما وهو حديث عهد بالكلام مع ربه تبارك وتعالى وورد إلى موضع لم يطأه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ثم مع هذا الفضل العظيم قال له موسى عليه السلام: (أنا أعلم بالناس منك)، وذكر له العلة التي لاجلها كان أعلم منه بقوله: (عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة).
فأخبره أنه أعلم منه في هذا العلم الخاص الذي لا يوجد ولا يدرك إلا بالمباشرة وهي التجربة.
التنبيه الثاني والتسعون: وفيه دليل على جواز الحكم بما أجرى الله تعالى بحكمته من ارتباط العوائد لان موسى عليه السلام حكم على هذه الامة بأنها لا تطيق، وذلك سبب ما أخبر به وهو علاج بني إسرائيل، ومن تقدم أقوى وأجلد ممن يأتي بعد، كما أخبر تعالى بقوله: (كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الارض وعمروها أكثر مما عمروها) (الروم: 9) فرأى موسى أن ما لم يحمله القوي فمن باب أولى ألا يحمله الضعيف فهو بعد محكم بأثر الحكمة في ارتباط
العادة، مع أن القدرة صالحة لان يحمل الضعيف ما لا يحمل القوي.
وقد ورد أن الصلاة التي كلف بها بنو إسرائيل ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي ومع هذا لم يقوموا بذلك.
التنبيه الثالث والتسعون: وفي سؤال موسى طلب التخفيف عن هذه الامة دليل على أن بكاءه أولا حين صعود النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا للوجه الذي أبديناه لا لغيره، لانه لو كان لغير ذلك لبكى حين رجوع النبي صلى الله عليه وسلم أو سكت، ولكنه قام في الخدمة والنصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أن كان بكاؤه أولا للوجه الذي ذكرناه ولم يصادف ما أشرنا إليه وإنما كانت هذه النفحة من النفحات الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، تعرض أيضا لهذه الامة بطلب التخفيف، فصادف اعتراض هذه النفحة في موضعها لانها خاصة بهذه الامة.
وتكلم هو صلى الله عليه وسلم في حقها فأسعف فيما أراد وحقق عز وجل دعاءه إذ ذاك ورد الخمسين إلى خمس، وزاد بالافضال فجعل الحسنة عشرا في الثواب عليها، فأزال الله تعالى عن الامة فرض تلك الصلوات وأبقى لهم ثوابا تفضلا منه وإحسانا.
التنبيه الرابع والتسعون: قال ابن أبي جمرة: (في الحديث دليل للصوفية حيث(3/147)
يقولون: (حسنات الابرار سيئات المقربين)، لان ابراهيم عليه السلام لم يتكلم في هذا الشأن بسبب أن مقامه أعلى من الكلام، فلو تكلم لكان ذلك في حقه سيئة بالنسبة إلى مقامه الخاص، وموسى عليه السلام كان كلامه مما يتقرب به إلى مقامه الخاص، كل منهم له مقام خاص لا يتعداه).
التنبيه الخامس والتسعون: قال ابن دحية: (في هذه المراجعة التي وقعت بين موسى والنبي عليهما السلام فوائد منها: تكرار الشفاعة في القصة الواحدة إلى أن يتم مقصود الشافع، ومنها أن الامر إذا انتهى إلى حد الالحاح كان الاولى الترك، ومنها تعظيم الامر الذي لا يقدر عليه، ومنها الرجوع إلى المشير الناصح، ومنها أن الشافع لا يتوقف على طلب المشفوع له في ذلك، ومنها أن الشافع يقيم عذر المشفوع له عند المشفوع عنده في ذلك، ومنها أنه لا
يمتنع من الشفاعة وإن كان داخلا فيها).
التنبيه السادس والتسعون: إنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من طلب التخفيف في المرة العاشرة لما أمره موسى بذلك لامرين: أحدهما: أن الامر إذا انتهى إلى حد الالحاح كان الاولى الترك.
ثانيهما: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تفرس أن هذا العدد لا يحط عنه فاستحى أن يسأل في مظنة الرد، ووجه التفرس أن الله تعالى أدرج التخفيف خمسا خمسا من خمس إلى خمس.
فالقياسي أنه إن خفف بحذف الخمسة الاخيرة ارتفعت الصلاة بجملتها، وقد علم أنه لابد من وظيفة، فلهذا ترك السؤال، وكشف الغيب أن العلم القديم تعلق ببقاء هذه الخمس، ولهذا بقيت، فصدقت الفراسة، وأصابت الفكرة، ولهذا جاء في بعض الطرق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما امتنع من المراجعة في العاشرة نادى مناد: (أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي).
التنبيه السابع والتسعون: قال ابن دحية: (دلت مراجعته صلى الله عليه وسلم في طلب التخفيف تلك المرات كلها، لانه علم أن الامر في كل مرة لم يكن على سبيل الالزام بخلاف المرة الاخيرة، ففيها ما يشعر بذلك لقوله تعالى: (ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) (ق: 29).
التنبيه الثامن والتسعون: قال ابن أبي جمرة: (في امتناع النبي صلى الله عليه وسلم في المرة العاشرة من طلب التخفيف دليل على أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد إسعاد عبد جعل اختياره في مرضاة ربه، لان النبي صلى الله عليه وسلم جعل اختياره وإيثاره لما أراد الحق تبارك وتعالى إنفاذه وإمضاءه، وهو فرض الصلوات ا لخمس، وذلك تكريم له صلى الله عليه وسلم ورتفيع، لانه لو رجع لطلب التخفيف فلم يخفف كما خفف أولا لكان اختياره مخالفا للمقدور.
فلما أن اختار وأسعف في اختياره كان دليلا على ما استدللنا عليه وهو علو منزلته صلى الله عليه وسلم، فإنه ما دام يطلب التخفيف أسعف في مناه، ففي كل حالمن طلب ومن عدم طلب كان اختياره موافقا للمقدور).(3/148)
وفيه دليل للصوفية حيث يقولون: (إن الحال حامل (لا محمول)، لان النبي صلى الله عليه وسلم لما
أن ورد عليه حال الاشفاق على أمته بادر إلى طلب التخفيف عنهم ولم ينظر لغير ذلك، ثم لما ورد عليه حال الحياء من الله تعالى لم يلتفت لامته إذ ذاك ولا طلب شيئا).
التنبيه التاسع والتسعون: في هذا الحديث دليل على أن قدر الله تعالى على قسمين، كما قدمنا.
فالقدر الذي قدره وقدر ألا ينفذ بسبب واسطة أو دعاء هو فرضه هنا للخمسين صلاة لانه تعالى لما أن أمر بالخمسين أولا وسبقت إرادته ألا ينفذ ذلك جعل بحكمته موسى هناك سببا لرفع ذلك.
والقدر الذي قدر إنفاذه ولا يرده راد هو فرضه للخمس صلوات لانه تعالى لما أن أمر بها وسبقت إرادته بإمضائها لم ينفع كلام موسى عليه السلام إذ ذاك لانه من القدر المحتوم.
التنبيه الموفى مائة: قال ابن دحية: (فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: (ما يبدل القوم لدي) (ق: 29) ؟ فإن كان المراد لا يبدل الخبر فكيف يطلق الحديث، لان السياق في الاحكام فلهذا نسخ الخمسين إلى خمس وتبديل النسخ لا يبقى، فإن كان المراد لا يبدل الحكم فقد تقرر أن النسخ في الاحكام جائز وقد وقع في هذا الحديث إلى خمس.
فالجواب أنه تعالى إذا أخبر عن الحكم أنه مؤبد استحال التبديل والنسخ حينئذ لاجل العلم، وقد أخبر الله تعالى أنه الفريضة أي أبدها فلا يبدل الخبر ولا يتوقع النسخ بعد ذلك والله تعالى أعلم).
ويكون المراد أنه تعالى وعد هذه الامة على ألسنة الملائكة أو في صحفها أن لهم أجر خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فلما نسخها إلى خمس حصل للعدد نقص، وإن الاجر المراد لم ينقص لان الحسنة بعشر أمثالها، ولهذا قال تعالى: (هن خمس وهن خمسون أي هن خمس عددا وخمسون اعتدادا، ذلك الفضل من الله، ويكون ذلك كقوله في الصيام: (من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر) (1)، بتأويل أن الحسنة بعشر أمثالها، فستة وثلاثون في عشرة بثلثمائة وستين عدد أيام السنة.
واعتبرت الصلاة بما تحتاج إليه كل صلاة من وضوء ونحوه، فوجد لهاما يأتي على ساعتين وبعض الساعة غالبا، فعلم بذلك أن الخمسين لو استقرت على أمة لاستوعبت اليوم
والليلة لما تحتاج إليه كل صلاة من طهارة وغيرها، وكانت الطهارة واجبة التجديد في أول الامر، ثم نسخ الوجوب إلى الندب، فكأن المصلي من هذه الامة لهذه ا لخمس استوعب الدهر صلاة وكأنه أيضا استوعب الدهر صياما.
__________
(1) أخرجه مسلم 2 / 822 (204 - 1164).
(*)(3/149)
والظاهر أن نقص الخمسين إلى خمس ليس من تبديل القول لانه تبديل تكليف، وأما بعد الاخبار بالخمس والخمسين فتبديل أخبار.
التنبيه الحادي والمائة: قال أبو الخطاب وتبعه ابن المنير: (جواز النسخ قبل التمكن من الفعل قبل دخول الوقت مذهب أهل السنة خلافا للمعتزلة، وجرى كل فريق على قاعدته وعقيدته.
فعند أهل السنة التكليف على خلاف الاستطاعة جائز، بل واقع إذ الافعال كلها مخلوقة لله تعالى، والعبد مطالب بما لا يقدر على إيجاده ولا يتمكن من التأثير في إحرازه، عملا بقوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) (الصافات: 96) بتقدير أن (ما) هنا مصدرية، والمعتزلة تجعل (ما) هنا موصولة وجروا على عقيدتهم في إعتقادهم أن العبد يخلق فعل نفسه، ويوجد طاعة ربه باستطاعته واختياره، ولا يسقط التكليف عندهم على خلاف الاستطاعة فلا يتصور النسخ قبل التمكن من الفعل كما تتصور قاعدته.
واستدل أهل السنة على جواز النسخ قبل التمكن بأنه وقع.
وأي دليل على الجواز أتم من الوقوع ؟ ومثلوا ذلك بقصة الذبيح فإن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده، ثم خفف ذلك ونسخه إلى الفداء قبل أن يمضي زمن يسع الذبح ولا يمكن فيه الفعل.
ومن هنا ضاقت على المعتزلة المضايق حتى غالطوا في الحقائق، واختلفوا في الاجوبة، فمنهم من قال لم يأمره بالذبح لان ذلك كان في المنام لا في اليقظة، ولا عقل أضل من عقل من زعم أنه استظهر على نبي في واقعة هو صاحبها وقضى فيها ومنه ظهرت، وعنه أثرت، فإن الذبيح قال فيما حكاه الله تعالى وصوبه (يا أبت افعل ما تؤمر) (الصافات: 102)، ونحن نقول إن راوي الحديث أعرف
بتأويله وتفسيره، وأقعد بتبيينه وتنزيله.
وحتى لو تعارض تأويلان قدمنا تأويل صاحب الواقعة لانه أفهم لها.
فكيف لا يقدم تأويل الذبيح النبي الذكي المسدد المصوب من رب العالمين على تأويل المبتدع الضال الحائر المسكين ؟ ومنهم من قال: أمر ولكن بالمقدمات: الشد والتل والصرع وتناول (المدية).
وهذا من الطراز الأول لتهافت القول، فإن إبراهيم قال: (إني أذبحك) (الصافات: 102) ولم يقل أصرعك، وأيضا ليست المقدمات (بلا)، ولا سيما في حق إبراهيم عليه السلام الذي علم أن الحال لا ينتهي بغى رالاضطجاع خاصة لما لا يتعنى حينئذ للفداء، فهذا أحيد عن السنن وجنوح إلى العناد والغبن.
ومنهم من قال: (أمر بالذبح وفعل، ولكن انقلبت السكين أو لم تقطع، أو انقلبت العنق حديدا، وهذا من النمط المردود، وحاصله النقل بالتقدير وهو الكذب بعينه، ومنهم من قال: (ذبح والتحم)، وهذه معايرة النقول ومكابرة العقول.
وذلك أن الامر لو كان على هذه المثابة(3/150)
لم يقع الاقتصار في الاية على حكاية (وتله للجبين) (الصافات: 103) ولكان ذكر الذبح أوقع في الابتلاء ولسقطت فائدة ا لفداء.
فبطل ما قالوه، وتعين القول بجواز النسخ قبل التمكن بدليل وقوعه في قصة الذبيح، فلا يمكنهم ترديد مثلها في قصة الاسراء إذ لا خفاء بأنه صلى الله عليه وسلم أمر في حق الامة بخمسين صلاة ثم نسخ ما نسخ قبل أن يدخل وقت ا لصلاة فضلا عن أن يمضي زمان يسعها.
قال شيخنا السهيلي: وأما فرض الصلوات خمسين ثم حط منها عشرا بعد عشر إلى خمس صلوات وقد روي أيضا أنها حطت خمسا بعد خمس.
وقد يمكن الجمع بين الروايتين لدخول الخمس في العشر، فقد تكلم في هذا ا لنقص من الفريضة أهو نسخ أم لا ؟ على قولين.
فقال قوم: هو من باب نسخ العبادة قبل العمل بها، وأنكر أبو جعفر النحاس هذا القول من وجهين:
أحدهما: البناء على أصله ومذهبه في أن العبادة لا يجوز نسخها قبل العمل لها لان ذلك عنده من البداء، والبداء محال على الله سبحانه.
الثاني: أن العبادة إن جاز نسخها قبل العمل بها عند من يرى ذلك فليس يجوز عند أحد نسخها قبل هبوطها إلى الارض وهبوطها إلى المخاطبين...إنما هي شفاعة شفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لامته ومراجعة راجعها ربه ليخفف عن أمته ولا يسمى مثل هذا نسخا).
أما مذهب أبي جعفر النحاس في أن العبادة لا تنسخ قبل العمل بها وأن ذلك بداء فليس بصحيح لان حقيقة البداء أن يبدو للامر رأي يتبين له الصواب فيه بعد أن لم يكن تبينه، وهذا محال في حق من يعلم الاشياء بعلم قديم.
وليس النسخ من هذا في شئ، إنما النسخ تبديل حكم بحكم، والكل سابق في علمه ومقتضى حكمته، كنسخه المرض بالصحة والصحة بالمرض ونحو ذلك، وأيضا بأن العبد المأمور يجب عليه عند توجه الامر إليه ثلاث عبادات: الفعل الذي أمر به، والعزم على الامتثال عند سماع الامر، واعتقاد ا لوجوب إن كان واجبا، فإن نسخ الحكم قبل الفعل فقد حصلت فائدتان: العزم، واعتقاد الوجوب، وعلم الله تعالى ذلك منه علم مشاهدة.
فصح امتحانه له واختباره إياه، وأوقع الجزاء على حسب ما علم من نيته والذي لا يجوز إنما هو نسخ الامر قبل نزوله وقبل علم المخاطب به.
والذي ذكر النحاس من نسخ العبادة بعد العمل بها ليس هو حقيقة النسخ لان العبادة المأمور بها قد مضت وإنما جاء الخطاب بالنهي عن مثلها لا عنها.
وقولنا في الخمس والاربعين صلاة الموضوعة عن محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
أحد وجهين إما أن يكون نسخ ما وجب على النبي صلى الله عليه وسلم من أدائها، ورفع عنه استمرار العزم واعتقاد الوجوب.
وهذا قد قدمنا أنه نسخ على الحقيقة، ونسخ عنه ما وجب(3/151)
عليه من التبليغ، فقد كان في كل مرة عازما على تبليغ ما أمر به (وقول أبي جعفر إنما كان شافعا ومراجعا ينفي النسخ فإن النسخ قد يكون عن سبب معلوم فشفاعته عليه السلام لأمته كانت سببا للنسخ لا مبطلة لحقيقته، ولكن المنسوخ ما ذكرنا من حكم التبليغ الواجب عليه
قبل النسخ وحكم الصلوات الخمس في خاصته وأما أمته فلم ينسخ عنهم حكم (إذ) لا يتصور نسخ الحكم قبل وصوله إلى المأمور به.
وهكذا كله أحد الوجهين في الحديث.
والوجه الثاني: أن يكون هذا خبرا لا تعبدا وإذا كان خبرا لم يدخله النسخ، ومعنى الخبر أنه عليه السلام، أخبره ربه أن على أمته خمسين صلاة ومعناه: أنها خمسون في اللوح المحفوظ، وكذلك قال في آخر الحديث: هي خمس، وهي خمسون والحسنة بعشر أمثالها، فتأوله رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنها خمسون بالفضل، فلم يزل يراجع ربه حتى بين له أنها خمسون في الثوب لا بالعمل.
التنبيه الثاني والمائة: قد علم مما سبق جواز نسخ الفعل قبل التمكن من فعله، وأن ذلك صحيح في حقه صلى الله عليه وسلم، وغير صحيح بالنسبة لأمته لاستحالة النسخ قبل البلاغ إذ شرط التكليف تمكين المكلف من العلم به، أي إذا لم يكن العلم به شرطا فإن نسخ التكليف قبل البلاغ يناقض ذلك.
وقال ابن دحية: " يصح النسخ في حق الأمة أيضا بأن الإسلام يوجب على كل مسلم الدخول في فروغه وفي شرائع الدين بتفصيلها، وكل من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته دخل في الإسلام، على أن هنالك تكاليف منها ما نزل وبين بكل وجه، ومنها ما نزل مجملا من وجه ومبينا من وجه، ومنها ما لم ينزل بعد وسينزل، والإيمان والالتزام شامل للجميع.
فكما يجوز نسخ التكليف بعد أن يبلغ بخصوصية يجوز أيضا قبله.
وأكثر القواعد أن ما وجب مجملا ثم بين في وقت الحاجة كالصلاة والزكاة، لم يقترن بأول وجوبها ذكر أعدادها ولا إعدادها ولا أوقاتها ولا هيئاتها ولا شرائطها، بل للتكليف بها مستقر مع هذه الإجمالات، لأن المكلف بالالتزام الأول قد دخل على الالتزامها على ما هي عليه في نفس الأمر.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الإسلام هو " أن تشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله وتقيم الصلاة والمكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم شهر رمضان وتحج البيت (1) ".
فنجز التكليف عليه بهذه القواعد مجملة غير مبينة ".
التنبيه الثالث والمائة: قال ابن دحية: " أذا سمعت العلماء يتكلمون على النسخ قبل
__________
(1) أخرجه البخاري 1 / 114 (50) ومسلم / 40 (7، 10).
(*)(3/152)
الفعل فاعلم أنهم أرادوا قبل مضي زمن يسع الفعل الأول.
هذا هو المتخلف فيه، وإلا فكل نسخ متفق عليه لا يتصور إلا قبل الفعل ما فعل مضى وانقطع التكليف به والنسخ فيه.
قال: وإذا سمعتهم يقولون نسخ التكليف قبل البلاغ متعذر لأن شرط التكليف البلاغ فاعلم أنهم يريدون تنجيز التكليف، هذا هو المشروط بالبلاغ.
وأما أصل التكليف عندنا فلا يتوقف على ذلك فإن مذهبنا أن الأمر قديم محقق قبل وجود المأمور فضلا عن بلاغه والله تعالى الموفق.
التنبيه الرابع والمائة: قال بعض أهل الإشارات: " لما تمكنت المحبة من قلب موسى عليه السلام أضاءت له أنوار نور الطور ليقتبس، فاحتبس فلما نودى في النادي اشتاق إلى المنادي فكان يطوف في بني إسرائيل فيقول: من يحملني حتى أبلغ رسالة ربي، ومراده أن تطول المناجاة مع الحبيب، فلما مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ردده في أمر الصلاة ليسعد برؤية حبيب الحبيب.
وقال آخر: لما سأل موسى عليه السلام الرؤية ولم تحصل له البغية، بقي الشوق يقلقه والأمل يعلله، فلما تحقق أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم منج الرؤية وفتح له باب المزية أكثر السؤال ليسعد برؤية من قد رأى، كما قيل:
وأستنشق الأرواح من نحو أرضكم * لعلي أراكم أو أرى من يراكم وأنشد من لاقيت عنكم عساكم * تجودون لي بالعطف منكم عساكم فأنتم حياتي إن حييت وإن أمت * فيا حبذا إن مت عبد هواكم
وقال آخر:
وإنما السر في موسى يردده * ليجتلي حسن ليلى حين يشهده يبدو سناها على وجه الرسول فيا * لله در رسول حين أشهده
وقال آخر: لما جلس الحبيب في مقام القرب، دارت عليه كؤوس الحب، ثم عاد وهلال (ما كذب الفؤاد ما رأى) (النجم: 11) بين عينيه، وبشر (فأوحى إلى عبده ما أوحى) (النجم: 10) مل ء قلبه وأذنيه.
فلما اجتاز بموسى عليه السلام قال لسان حاله لنبينا صلى الله عليه وسلم: يا واردا من أهيل الحي يخبرني * عن جيرتي شنف الأسماع بالخبر ناشدتك الله يا راوي حديثهم * حدث فقد ناب سمعي اليوم عن بصري فأجاب لسان حال نبينا صلى الله عليه وسلم: ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا * سر أرق من النسيم إذا سرى وأباح طرفي نظرة أملتها * فغدوت معروفا وكنت منكرا(3/153)
التنبيه الخامس والمائة: قوله فلما جاوزت نادى مناد: " أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي "، من أقوى ما يستدل به على أن الله تبارك وتعالى كلم نبيه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بغير واسطة.
التنبيه السادس والمائة: ظاهر سياق حديث شريك أن موسى هو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: " فاهبط باسم الله "، لأنه ذكر عقب قوله صلى الله عليه وسلم " قد والله استحييت من ربي مما أختلف إليه "، قال: " فاهبط "، وليس كذلك بل الذي قال له: " اهبط باسم الله " جبريل، وبذلك جزم الداودي.
التنبيه السابع والمائة: قال السهيلي: " فإن قيل: " كيف استباح النبي صلى الله عليه وسلم شرب الماء الذي في القدح وهو ملك لغيره، وأملاك الكفار لم تكن أبيحت يومئذ ولا دماؤهم ؟ " فالجواب أن العرب في الجاهلية كان في عرف العادة عندهم إباحة اللبن لابن السبيل فضلا عن الماء وكانوا يعهدون بذلك إلى رعاتهم ويشترطونه عليهم عند عقد إجارتهم ألا يمنعوا (الرسل وهو) اللبن من أحد مر بهم، فكيف بالماء ؟ وللحكم بالعرف في الشريعة أصول تشهد له وقد ترجم
البخاري عليه في كتاب البيوع وخرج حديث هند بنت عتبة وفيه: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
قلت: وذكر أئمتنا رحمهم الله تعالى في الخصائص أنه صلى الله عليه وسلم أبيح له الطعام والشراب من مالكهما المحتاج إليهما إذا احتاج صلى الله عليه وسلم إليهما فإنه يجب على صاحبهما البذل له صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) (الأحزاب: 6).
التنبيه الثامن والمائة: يأتي الكلام على حبس الشمس في المعجزات.
التنبيه التاسع والمائة: قوله صلى الله عليه وسلم: " فجئ بالمسجد وأنا أنظر إليه " إلى آخره كذا في رواية ابن عباس رضي الله عنهما عند الإمام أحمد والنسائي بسند صحيح، وفي رواية عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عند مسلم قال: " فسألوني عن أشياء لم أثبتها فكربت كربا لم أكرب مثله قط، فرفعه الله تعالى لي أنظر إليه ما يسألوني عن شئ إلا أنبأتهم به ".
وفي رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: " فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه ".
ومعنى " جلى الله بيت المقدس " كشف الحجب بيني وبينه حتى رأيته، ويحتمل أن يريد أنه حمل إلى أن وضع بحيث يراه، ثم أعيد، ويؤيده رواية ابن عباس السابقة، وهذا أبلغ في المعجزات ولا استحالة في ذلك.
وقد أحضر عرش بلقيس في أقل من طرفة عين.
ووقع في حديث أم هانئ عند ابن سعد: " فخيل إلي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن(3/154)
آياته ".
فإن ثبت احتمل أن يكون المراد أنه مثل قريبا كما قيل في حديث: " أريت الجنة والنار " ويؤيد قوله: " حتى جئ بمثاله ".
التنبيه العاشر والمائة: مجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره: من المشهور اثنا عشر شيئا: الأول: كون المعراج قبل البعثة وقدمنا جوابه.
الثاني: كونه مناما وتقدم الكلام على ذلك.
الثالث: أمكنة الأنبياء في السموات وقد اتضح أنه لم يضبط منازلهم لكن وافقه الزهري في بعض ما ذكر.
الرابع: مخالفته في محل سدرة المنتهى وأنها فوق السماء السابعة،
مما لا يعلمه إلا الله تعالى، والمشهور أنها في السابعة أو السادسة كما تقدم.
الخامس: مخالفته في النهرين وهما النيل والفرات وأن عنصرهما في السماء الدنيا، والمهشور في غير روايته أنهما في السماء السابعة وأنهما تحت سدرة المنتهى وتقدم جوابه السادس: شق الصدر عند الاسراء وقد وافقته رواية غيره كما تقدم بسط ذلك في أبواب صفاته.
السابع: ذكر نهر الكوثر في السماء الدنيا، والمشهور في الحديث أنه في الجنة، وتقدم الكلام على ذلك.
الثامن: نسبة الدنو والتدلي إلى الله تعالى، والمشهور أنه جبريل.
قال الخطابي: (ليس في هذا الكتاب - يعني صحيح البخاري - أشنع ظاهرا ولا أمنع مذاقا من هذا - يعني قوله: (ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى) - فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الاخر وتمييز مكان كل واحد منهما، هذا مع ما في التدلي من التشبيه، والتمثيل له بالشئ ا لذي تعلق من فوق إلى أسفل.
قال: فمن لم يبلغه من هذا الحديث إلا هذا القدر مقطوعا من غيره، ولم يعتبره بأول القصة ولا بآخرها اشتبه عليه وجهه ومعناه، وكان فصاراه إما رد الحديث من أصله وإما الوقوع في التشبيه، وهما خطان مرغوب عنهما.
(وأما من اعتبر أول الحديث بآخره فإنه يزول عنه الاشكال فإنه مصرح فيهما بأنه كان رؤيا لقوله في أوله: (وهو نائم) وفي آخره: (استيقظ).
وفي بعض الرؤيا مثل يضرب ليتناول على الوجه الذي يجب أن يصرف إليه معنى التعبير في مثله، وبعض الرؤيا لا يحتاج إلى ذلك بل يأتي كالمشاهدة).
قال الحافظ: (وهو كما قال ولا التفات إلى من تعقب كلامه بقوله: إن في الحديث الصحيح أن رؤيا الانبياء وحي فلا يحتاج إلى تعبير، لانه كلام من لم يمعن النظر في هذا المحل، فإن بعض مرائي الانبياء يقبل التعبير، فمن ذلك قول بعض الصحابة له صلى الله عليه وسلم في رؤيا القميص: (فما أولته يا رسول الله ؟) قال: (الدين).
وفي رؤيا اللبن قال: (العلم).
لكن جزم الخطابي بأن ذلك كان مناما، وهذا متعقب بما قدمناه من ترجيح كونه في اليقظة بالادلة التي أشرنا إليها.(3/155)
ثم قال الخطابي مشيرا إلى رفع الحديث من أصله (إن القصة بطولها إنما هي حكاية يحكيها أنس من تلقاء نفسه لم يعزها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا نقلها عنه ولا أضافها إلى قوله، فحاصل الامر في النقل أنها من جهة الراوي أنس، وأما شريك فإنه كثير التفرد بمناكير الالفاظ التي لا يتابعه عليها سائر الرواة).
قال الحافظ: (وما نفاه من أن أنسا لم يسند هذه القصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا تأثير له، فأدنى أمره فيها أن تكون مرسل صحابي، فإما أن يكون تلقاها عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي تلقاها عنه.
ومثل ما اشتملت عليه لا يقال بالرأي فيكون لها حكم الرفع.
ولو كان لما ذكره تأثير لم يحمل حديث أحد روى مثل ذلك على الرفع أصلا وهو خلاف عمل المحدثين قاطبة فالتعليل بذلك مردود.
ثم قال الخطابي: (إن الذي وقع في هذه الرواية من نسبة التدلي للجبار عز وجل مخالفة لعامة السلف والعلماء وأهل التفسير ومن تقدم منهم ومن تأخر.
والذي قيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها: دنا جبريل من محمد فتدلى أي تقرب منه، وقيل هو على التقديم والتأخير أي تدلى فدنا لان التدلي سبب الدنو.
الثاني: تدلى جبريل بعد الانصباب والاندفاع حتى رآه متدليا كمار آه مرتفعا، وذلك من آيات الله حيث أقدره على أن يتدلى في الهواء من غير اعتماد على شئ وتمسك بشئ.
الثالث: دنا جبريل فتدلى محمد ساجدا لربه شكرا على ما أعطاه من الزلفى.
وقد روي هذا الحديث عن أنس رضي الله عنه من غير طريق شريك فلم يذكر هذه لالفاظ الشنيعة، وذلك مما يقوي الظن أنها صادرة من شريك).
قال الحافظ: (قد أخرج البيهقي من طريق الاموي في مغازيه عن محمد بن عمر بن أبي سلمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة أخرى) (النجم: 13)، قال: (دنا منه ربه)، وهذا سند حسن وهو شاهد قوي لرواية شريك.
ثم قال الخطابي: (وفي هذا الحديث لفظة أخرى تفرد بها شريك أيضا لم يذكرها غيره، وهي قوله: (فعلا به) يعني جبريل إلى الجبار تعالى، فقال وهو مكانه: (رب خفف عنا).
قال الخطابي:
(والمكان لا ينسب إلى الله تعالى، إنما هو مكان النبي صلى الله عليه وسلم في مقامه الأول الذي قام فيه قبل هبوطه).
قال الحافظ: (وهذا الاخير متعين وليس في السياق تصريح بإضافة المكان إلى الله تعالى، وأما ما جزم به من مخالفته للسلف والخلف فقد ذكرنا من وافقه).
وقد نقل القرطبي عن ابن عباس أنه قال: (دنا الله)، قال القرطبي: (والمعنى دنا أمره وحكمه، وأصل التدلي النزول إلى الشئ حتى يقرب منه).
قال: (وقيل التدلي تدلي الرفرف لمحمد حتى جلس عليه، ثم دنا محمد من ربه).
وقد أزال العلماء إشكاله فقال القاضي: (إضافة الدنو والقرب هنا من الله أو إلى الله تعالى ليس بدنو مكان وقرب مدى ينتهي إليه وإنما دنو(3/156)
النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وقربه منه إبانة لعظيم منزلته وتشريف رتبته اعتناء بشأنه وإظهارا لما لم يؤته أحدا غيره وإشراق أنوار معرفته ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته، كما قال جعفر بن محمد: (الدنو من الله تعالى لا حد لا ينتهي إليه مطمح فهم أو مطرح وهم، ومن العباد بالحدود الغائية المنتهية إلى غاية).
وقال أيضا: (انقطعت الكيفية عن الدنو، ألا ترى كيف حجب جبريل عن دنوه ودنا محمد إلى ما أودع قلبه من المعرفة والايمان فتدلى بسكونق لبه إلى ما أدناه إليه وأزال من قلبه الشك والارتياب أي الذي عرا خاطره: هل يغشى حضرة هذا القرب وينال مواهبه من إنافة وإكرام وشرف وإنعام فأنجح الله أمنيته لا الشك في ذلك، إذ كان أثبت الناس معرفة وإيمانا وأسكنهم جنانا وأملكهم طمأنينة وسكونا، وإنما الدنو والقرب من الله تعالى أو إليه كناية عن جزيل فوائده إليه وجميل عوائده عليه وتأنيس لاستيحاشه بانقطاع الاصوات عنه، وبسط بالمكاملة وإكرام بشرائف منيفة، يتأول في دنوه تعالى منه ما يتأول به في قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الاخر) (1)، على أحد الوجوه من أن نزوله تعالى إنما هو نزول إفضال وإجمال وقبول توبة وإحسان بمعرفة وإشفاق).
وقال الواسطي: (من توهم أنه بنفسه دنا فقد جعل ثم مسافة ولا مسافة لاستحالتها بل
كلما دنا بنفسه من الحق تدلى بعدا، يعني كلما قرب منه نزل بساحة البعد كناية عن نفيهما جميعا أو عن إدراك حقيقته إذ لا يدركها أحد، ولا دنو للحق ولا بعد، لاستحالتهما.
وأما قوله تعالى: (فإني قريب) فتمثيل لكمال علمه وإجابة لتعاليه عن القرب مكانا.
ويتأول في الدنو ما يتأول في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري حكاية عن ربه تبارك وتعالى: (من تقرب مني سشبرا تقربت منه ذراعا)، وهو تمثيل يقرب المعنى للافهام، أي من تقرب إلى طاعتي جازيته بأضعاف ما تقرب به إلي.
(ومن أتاني يمشي أتيته هزولة)، أي سبقته بجزائه، فهو أقرب بالاجابة والقبول، وإتيان بإحسان، وتعجيل المأمول، ثوابا مضاعفا على حسب ما تقرب به، وقد سبق به طريق المشاكلة فمساه تقربا).
التاسع: تصريحه بأن امتناعه صلى الله عليه وسلم من الرجوع إلى سؤال ربه تبارك وتعالى في طلب التخفيف كان عند الخامسة، ومقتضى رواية ثابت أنه كان بعد السابعة.
العاشر: قوله: (فعلا به الجبار)، وهو مكانه تقدم ما فيه.
الحادي عشر: رجوعه بعد الخمس، والمشهور في الاحاديث أن موسى أمره بالرجوع بعد أن انتهى التخفيف إلى خمس فلم يرجع.
الثاني عشر: زيادة ذكر (التور) بالتاء المثناة في الطست، فإنه قال: (أتي بطست من ذهب فيه تور من
__________
(1) أخرجه البخاري 3 / 29 (1145) ومسلم 1 / 521 (168 - 758).
(*)(3/157)
ذهب)، فيحتمل أنه طست صغير كبير لئلا يتبدد منه شئ فيكون في الكبير.
وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه ورواية شريك أنهم غسلوه بماء زمزم فيحتمل أن يكون أحدهما فيه ماء زمزم والاخر هو المحشو بالايمان، ويحتمل أن يكون التور ظرف الماء والايمان والطست لما يصب فيه عند الغسل صيانة له عن التبدد في الارض وجريا له على العادة في الطست وما يوضع فيه الماء.
التنبيه الحادي عشر والمائة: في بيان غريب ما تقدم: (بينما): الاصل (بين) فأشبعت الفتحة فصارت ألفا وزيدت الميم فيقال: (بينا)
و (بينما).
قال في النهاية: وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، وقال في المطالع: (بينا أنا) و (بينما أنا) من البين الذي هو الوصل أي أنا متصل بفعل كذا.
(الحجر)، بكسر الحاء وسكون الجيم وهو هنا حطيم مكة وهو المدار عليه بالبناء من جهة الميزاب وسمي حجرا لانه حجر عنه بحيطانه وحطيما لانه حطيم جداره عن مساواة الكعبة وعليه ظاهر قوله: (بينا أنا في الحطيم)، وربما قال: (في الحجر)، والشك من قتادة.
وقال الطيبي: (لعله صلى الله عليه وسلم حكى لهم قصة المعراج فعبر بالحطيم تارة وبالحجر أخرى).
وقيل: الحطيم غير الحجر، وهو ما بين المقام إلى الباب، وقيل: ما بين الركن والمقام وزمزم والحجر، والراوي شك أنه سمع في الحطيم، أو في الحجر.
(أوسطهم) خيرهم.
(الثغرة) (1) بضم المثلثة وسكون المعجمة الموضع المنخفض بين الترقوتين، إلى أسفل بطنه أي شعرته بكسر الشين المعجمة أي شعر العانة.
وفي رواية: (فشق جبريل ما بين نحره إلى لبيه وهي بفتح اللام وتشديد الموحدة موضع القلادة من الصدر، وفي رواية (إلى ثنته) بضم المثلثة وتشديد النون أي ما بين سرته إلى عانته.
وفي رواية: (من قصته بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة أي رأس صدره، وفي رواية: (فرج صدري) ومعنى الروايات واحد.
(الطشت) (2) بفتح الطاء وسكون السين المهملة، وإعجامها ليس بلحن، بل لغة صرح بها صاحب القاموس فيه وفي كتاب: (تخيير الموشين فيما يقال بالسين والشين)، وبمثناة وقد تحذف وهو الاكثر وإتيانها لغة طئ، وأخطأ من أنكرها، وتدغم السين في التاء بعد قلبها فيقال طس وهي مؤنثة وجمعها طساس وطسوس وطسوت.
__________
(1) انظر الوسيط 1 / 97.
(2) الطساس: جمع طس، وهو الطست، والتاء فيه بدل من السين، فجمع على أصله، ويجمع على طسوس أيضا.
انظر النهاية لابن الاثير 3 / 124، والمعجم الوسيط 3 / 3651.
(*)(3/158)
(اختلف إليه): تردد.
(ممتلئ) بالتذكير على معنى الاناء، وفي رواية: (مملوءة)، بالتأنيث أي الطست، وفي رواية (محشوا) بالنصب وأعرب بأنه حال من الضمير في الجار والمجرور، وفي رواية (محشو)، وفي رواية شريك: بطشت من ذهب بمثناة فوقية ويأتي لهذا مزيد بيان.
(إيمانا) منصوب على التمييز (وحكمة) معطوف عليه.
قال ابن أقي جمرة: وفي هذا الحديث أن الحكمة ليس بعد الايمان أجل منها، ولذلك قرنت به، ويؤيده قوله تعالى: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) (البقرة: 269) وقد اختلف في تفسير الحكمة فقيل إنها العلم المشتمل على معرفة الله تعالى مع نفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق للعمل به والكف عن ضده، والحكيم من حاز ذلك، قال النووي: (هذا ما صفا لنا من أقوال كثيرة)، انتهى.
وقد تطلق الحكمة على القرآن وهو مشتمل على ذلك كله، وعلى النبوة كذلك، وقد تطلق على العلم فقط ونحو ذلك.
قال الحافظ: (وأصح ما قيل فيها إنها وضع الشئ في محله، أو الفهم في كتاب الله، وعلى التفسير الثاني قد توجد الحكمة دون الايمان وقد لا توجد، وعلى الأول قد يتلازمان لان الايمان يدل على الحكمة.
(دابة أبيض) إنما قال أبيض ولم يقل بيضاء لانه أعاده على المعنى أي مركوب أو براق.
(مسرجا ملجما) حالان من البراق.
(الحافر) (1) أحد حوافر الدابة سمي بذلك لحفره الارض لشدة وطئه عليها.
(الطرف) بسكون الراء وبالفاء النظر.
(مضطرب الاذنين) أي طويلهما والطاء بدل من التاء.
(يحفز (2) بها رجليه) بمثناة تحتية مفتوحة فحاء مهملة ساكنة ففاء مكسورة قال في النهاية: الحفز الحث والاعجال.
(عرف (3) الفرس) بضم العين المهملة وبالفاء الشعر النابت في محدب رقبته.
(الاظلاف) جمع ظلف بكسر الظاء المعجمة المشالة وهو من الشاء والبقر كالظفر للانسان.
__________
(1) انظر لسان العرب 2 / 925.
(2) أنظر اللسان 2 / 926.
(3) أنظر المعجم الوسيط 2 / 595.
(*)(3/159)
(صرت بأذنيها) أي جمعت بينهما وأصل الصر الجمع والشد قاله في النهاية وفي الصحاح: الصره الشدة من كرب وعيره.
(ارفض) جرى وسال.
(عرفا) منصوب على التمييز من الفاعل ولذا ورد مخففا والمعنى فتبرأ من الاستصعاب وعرق من خجل العتاب فوثب.
(الزمام) بالكسر المقود.
(طيبة) (1) من أسماء المدينة الشريفة.
(يهوي به) يسرع السير.
(مدين) بفتح الميم وسكون الدال المهملة وفتح المثناة التحتية بلد بالشام تلقاء غزة.
(طور سيناء): الطور جعل ببيت المقدس وسيناء بكسر السين اسم للبقعة.
(بيت لحم) بلام مفتوحة فحاء (مهملة) ساكنة قرية من قرى الشام تلقاء بيت المقدس.
(العفريت) من الجن العارم الخبيث ويستعمل في الانسان استعارة الشيطان له.
(الشعلة) من النار بالضم وهي شبه الجذوة، والجذوة مثلثة الجيم الجمرة.
(خر لفيه) أي على فمه.
(الكلمات التامات) أي الكاملة فلا يدخلها نقص ولا عيب، وقيل النافعة الشافية.
(لا يجاوزهن) أي لا يتعداهن.
(البر) بفتح الباء التقي.
(الفاجر) المائل عن الحق.
(ذرأ) خلق.
(طوارق الليل) (2) حوادثه التي تأتي ليلا.
(الماشطة) اسم فاعل من مشط الشعر يمشطه ويمشطه بضم المعجمة وكسرها مشطا سرحه، والتثقيل مبالغة.
(المشط) بضم الميم وإسكان الشين ومع ضمها أيضا، وبكسر الميم مع إسكان الشين، ويقال ممشط بميمين الاولى مكسورة.
__________
(1) اللسان 4 / 2734.
(2) المعجم الوسيط 2 / 556.
(*)(3/160)
و (تعس) بفتح العين وتكسر، تعسا بسكون العين وفتحها لم يستقل من عثرته وأتعسه الله فتعس ويقال تعس أكب على وجهه.
(راودوا (1) المرأة) أي راجعوها.
(فأمر ببقرة من نحاس) بباءين موحدتين فقاف، قال الحافظ أبو موسى المديني: الذي يقع لي في معناه أنه لا يريد شيئا مصوغا على صورة البقرة، ولكنه ربما كانت قدرا كبيرة واسعة فسماها بقرة مأخوذا من التبقر التوسع أو كان شيئا يسع بقرة تامة بتوابلها فسميت بذلك.
ولا تقاعسي) (2) أي لا تتأخري وتتوقفي عن إلقائك في النار، يقال تقاعس عن الامر إذا تأخر ولم يتقدم فيه.
(ترضخ (3) رؤوسهم) تشدخ كذا في الغريب.
وقال في المصباح: تكسر.
(لا يقر) لا يسكن.
(يسرحون) يقال سرحت الابل به سرحا وسروحا أيضا رعت.
(الضريع) (4): الشوك اليابس أو نبات أحمر منتن الريح يرمي به البحر.
(الزقوم) ثمر شجر كريه الطعم قيل لا يعرف في شجر الدنيا وإنما هي في النار يكره أهل النار أكلها، كما قال تعالى (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين) (الصافات: 64، 65) (رضف جهنم) بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة بعدها فاء، هي الحجارة المحماة واحدها رضفة (5).
(النئ) بالهمز وزان حمل كل شئ شأنه أن يعالج بشئ أو طبخ لم ينضج يقال لحم نئ والادغام والابدال عامي.
(الجحر) بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وهو النقب المستدير.
(الثور) بالمثلثة معروف..(الغرف) بالضم جمع غرفة وهي العلية.
__________
(1) راوده على الامر: طلب منه فعله.
انظر المعجم الوسيط 1 / 382.
(2) اللسان 5 / 3692.
(3) الرضخ: الشدخ.
والرضخ أيضا: الدق والكسر.
انظر النهاية لابن الاثير 2 / 229.
(4) المفردات في غريب القرآن 295.
(5) رضفه: كواه بالرضفة، الرضفة: الحجر المحمى بالنار أو الشمس.
انظر المعجم الوسيط 1 / 351.
(*)(3/161)
(الاستبرق) ثخين الديباج.
(السندس) رقيب الديباج.
(العبقري) قيل هو الديباج وقيل البسط الموشية وقيل الطنافس الثخان والاصل في العبقري فيما قيل إن عبقر قرية يسكنها الجن فيما يزعمون فكلما يرون شيئا فائقا غريبا مما يصعب عمله ويدق أو شيئا عظيما في نفسه نسبوه إليها.
(اللؤلؤ (1)) بهمزتين وبحذفهما وبإثبات الاولى دون الثانية.
(المرجان): قال الازهري وغيره هو صغار اللؤلؤ وقال الطرطوشي هو عروق حمر تطلع من البحر كأصابع الكف، قال: وهكذا شاهدناه بمغارب الارض كثيرا.
(الاكواب): جمع كوب: إناء لا عروة ولا خرطوم.
(الصحاف).
جمع صحفة إناء كالقصعة.
(السعير) النار، وسعرتها وأسعرتها وأوقدتها.
(الدجال): أصل الدجل الخلط يقال رجل دجل (2) إذا لبس وموه والدجال فعال من أبنية المبالغة أي يكثر من الكذب والتلبيس وهو الذي يظهر في آخر الزمان.
(فيلمانيا) (3)): قال في النهاية الفيلم العظيم الجثة والفيلم الامر العظيم والياء زائدة والفيلماني منسوب إليه بزيادة ا لالف والنون للمبالغة.
(أقمر) أي شديد البياض.
(هجان): شديد البياض.
(دري): مضئ.
(عبد العزى بن قطن): بفتح القاف والمهملة وهو ابن عمرو بن جندب / بن سعيد بن عابد بن مالك بن المصطلق.
هلك في الجاهلية، ووقع عند ابن مردويه: قطن بن عبد العزى وهو وهم من بعض رواته.
(العمود) بفتح العين المهملة وضم الميم معروف وجمعه عمد بضمتين وأعمدة بكسر الميم وفتح الدال.
__________
(1) اللؤلؤ: الدر، وهو يتكون في الاصداف من رواسب أو جوامد صلبة لماعة مستديرة في بعض الحيوانات المائية الدنيا من الرخويات.
واحدته: لؤلؤة.
انظر المعجم الوسيط 2 / 817.
(2) لسان العرب 2 / 1330.
(3) انظر اللسان 5 / 3467.
(*)(3/162)
(حاسرة) اسم فاعل من حسر.
(يا أول حاشر) تقدم الكلام عليهما في الاسماء النبوة.
(الكثيب) (1): التل من الرمل.
(طوال): يقال رجل طويل فإن زاد قيل طوال بالضم مخففا، فإن زاد قيل طوال مشددا.
(شعر سبط) (2) بفتحتين وككتف ويسكن، ثم قد يكسر، مسترسل، وجسم سبط ككتف ويسكن حسن القد والاستواء.
(آدم): بالمد أسمر.
(أزد) بفتح الهمزة وسكون الزاي وبالدال المهملة.
(شنوءة) بفتح الشين المعجمة وضم النون وسكون الواو وبعدها همزة ثم تاء تأنيث حي من اليمن ينسبون إلى شنوءة وهو عبد الله بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الازد، ينسبون إلى شنوءة وهو عبد الله بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الازد، ولقب شنوءة لشنآن كان بينه وبين أهله والنسبة إليه شنوئي بالهمز بعد ا لواو وشنأي (3) بالهمز بغير واو.
وقال ابن قتيبة: (أزد شنوءد): من قولك: رجل فيه شنوءة أي تقزز.
والتقزز بقاف وزايين التباعد من الادناس.
قال الداودي: (رجال الازد معروفون بالطول).
وفي رواية: كانوا من رجال الزط (4) وهم معروفون بالطول والادمة.
(يعاتب ربه) وفي رواية سمعت صوتا وتذميرا فقلت من هذا ؟ قال: هذا موسى.
قلت: أعلى ربه ؟ قال: نعم قد عرف حدته.
قال الخليل رحمه الله تعالى: حقيقة العتاب مخاطبة الا دلال ومذاكرة الموجدة، والتذمر بذال معجمة مثله.
(الحدة) بكسر الحاء المهملة.
(السرح) بسين فراء فحاء مهملات وزن كتب جمع سرحة وهي الشجرة العظيمة.
(جلها) بضم الجيم معظمها.
(مثل الزرابي) بزاي فراء كما رأيته بخط جماعة منهم الذهبي في تاريخ الاسلام والهيثمي في مجمع الزوائد والشيخ في تفسيره جمع زربية بتثليث الزاي وهي الطنفسة بكسر
الطاء والفاء وبضمهما وبكسر الطاء وفتح الفاء وهي البساط الذي له خمل رقيق، ورأيت بخط
__________
(1) انظر المعجم الوسيط 2 / 777.
(2) أنظر اللسان 3 / 1922.
(3) اللسان 4 / 2335.
(4) انظر لسان العرب 3 / 1830.
(*)(3/163)
بعض المحدثين الروابي براء فواو وأظنه تصحيفا وإن كان قريب المعنى.
(الحمة) بحاء مضمونة الفحمة.
(السخنة) بضم السين المهملة وسكون الخاء المعجمة أي الحارة.
(بالحلقة) بإسكان اللام ويجوز فتحها وبالفتح جمعها حلق وحلقات وبالاسكان حلق وحلق بفتح الحاء وكسرها.
(يربط به الانبياء): قال النووي: كذا في الاصول (به) بضمير المذكر أعاده على معنى الحلقة وهو الشئ.
قال صاحب التحرير: المراد حلقة باب مسجد بيت المقدس.
(الخليل والامة والقانت) سبق بيانها في أسمائه الشريفة (المحاريب (1))، قال في أنوار التنزيل هي قصور حصينة ومساكن شريفة سميت بذلك لانه يذب عنها ويحارب عليها.
(التماثيل) الصور ولم تكن محرمة في زمنه.
(الجفان) جمع جفنة بفتح الجيم وسكون الفاء وهي القصعة الكبيرة، قال ابن الجوزي في زاد المسير: قال المفسرون كانوا يصنعون القصاع الكبيرة كحياض الابل يجتمع على الواحدة منها ألف رجل.
(الجوابي) جمع جابية وهي الحوض الكبير يجبى فيه الماء أي يجتمع.
(الاكمة) الذي يولد أعمى.
(كافة للناس): تقدم في الاسماء الشريفة.
(قدور راسيات): أي ثوابت قال في زاد ا لمسير: وكانت القدور كالجبال لا تتحرك من أماكنها يأكل من القدر ألف رجل.
(الفرقان) من أسماء القرآن وسمي به لانه فرق به بين الحق والباطل.
(التبيان): بكسر أوله البيان الشافي.
(وسطا): خيارا عدلا: (الاولون) في دخول الجنة (والاخرون) في الوجود.
(الوزر): يأتي الكلام عليه في أبواب عصمته.
(ورفع لي ذكري): يأتي ذكره في الخصائص.
(جعلني فاتحا): أي الأبواب الايمان والهداية إلى صراط مستقيم ولبيان أسباب التوفيق وما استعلق من العلم أو هو من الفتح بمعنى الحكم فجعله حاكما في خلقه فانفتح ما انغلق
__________
(1) انظر المفردات في غريب القرآن 112.
(*)(3/164)
بين الخصمين بأحيائه الحق وإيضاح وإماتته الباطل وإذ حاضه.
(خاتما للنبيين): أي آخرهم بعثا.
(وجبتها) سقوطها.
(النجد) ما ارتفع من الارض.
(ينسلون) يسرعون.
(تجزم الارض) (1).
من ريحهم بالجيم تنتن من جيفهم.
(الحامل المتم) أي التي دنا ولادها.
(الفطرة): بالكسر الهدى والاستقامة.
(المعراج) لغة السلم وجمعه معارج ومعاريج.
قال الاخفش إن شئت جعلت الواحد معرج ومعرج بفتح الميم وكسرها، فعلى هذا يكون الجمع لمعرج بفتح الميم معاريج بياء ومعرج بكسرها معارج بغير ياء، والمعارج المصاعد، ويقال عرج في السلم بفتح الراء يعرج
بضمها عروجا إذا ارتقى وعرج أيضا بفتح الراء إذا غمز من شئ أصابه في رجله فخمع (2) ومشى مشية الاعراج إذا لم يكن خلقة أصلية، فإذا كان خلقة يقال عرج بكسر الراء يعرج بفتحها.
(طمح) (3) بصره إلى الشئ ارتفع وكل طامح مرتفع.
(المرقاة (4)) موضع الرقي ويجوز فيها فتح الميم على أنه موضع الارتفاع ويجوز الكسر تشبيها باسم الالة كالمطهرة وأنكر أبو عبيد الكسر.
(منضد باللؤلؤ): أي جعل بعضه على بعض.
(مرحبا) بالتنوين: كلمة تقال عند المسرة بالقادم ومعناها صادفت رحبا أي سعة ويكنى بذلك عن الانشراح فوضع المرحب موضع الترحيب.
(وأهلا) أي أتيت أهلا فاستأنس ولا تستوحش.
(حياه الله) أي أبقاه، من الحياة وقيل سلم عليه من التحية والسلام وقول الملائكة: (من أخ)، المراد بهذه الاخوة أخوة الايمان المشار إليها بقوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) (الحجرات: 10).
__________
(1) انظر اللسان 1 / 619.
(2) الخمع: العرج ورجل في رجل خمع أي عرج.
انظر ترتيب القاموس 2 / 110.
(3) انظر لسان العرب 3 / 2704.
(4) اللسان 3 / 1711.
(*)(3/165)
(الخليفة): تقدم في أسمائه الشريفة..(نعنم المجئ جاء): المخصوص بالمدح محذوف وفيه تقديم وتأخير، والاصل: فلنعم المجئ مجيئه.
(خلصا) وصلا.
(عليين): اسم لاعلى الجنة.
(سجين) (1): موضع فيه كتاب الفجار.
(الاسودة) (2) جمع سواد ويجمع على أساود.
قال النووي: قال أهل اللغة: السواد الشخص وقيل السواد الجماعة.
وقال في التقريب: السواد نقيض البياض وكل شخص من متاع أو حيوان والجمع أسودة ثم أساود.
(نسم (3) نبيه) بنون فسين مهملة مفتوحتين جمع نسمة بالتحريك وهي الروح.
(قبل يمينه) بكسر القاف وفتح الموحدد أي جهة يمينه.
(هنيهة (4)) تصغير هنة يعني شيئا يسيرا والهاء بدل من الياء والاصل هنية.
(الاخونة) (5) جمع خوان بكسر المعجمة وضمها الذي يؤكل عليه.
وقال الخليل: هو المائدة.
(أروح) تغيرت رائحته.
(المائدة) الخوان إذا كان عليه طعام.
(جيف) (6) بكسر الجيم وفتح الياء جمع جيفة وهي الميتة من الدواب والماشية سميت بذلك لتغير ما في جوفها.
(ا لسابلة): أبناء السبيل المختلفة.
(يضجون): بالجيم يصيحون من الفزع.
(المس) الجنون.
__________
(1) المفردات 225.
(2) انظر المعجم الوسيط 1 / 461.
(3) انظر المعجم الوسيط 2 / 919.
(4) انظر المعجم الوسيط 2 / 998.
(5) المصباح المنير 185.
(6) المعجم الوسيط 1 / 150.
(*)(3/166)
(المشافر) بالمعجمة جمع مشفر بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الفاء وهي من البعير كالجحفلة من الفرس وهي من ذي الحافر كالشفة للانسان.
(ثديهن) بضم المثلثة وكسر المهملة جمع ثدي يذكر ويؤنث فيقال هو الثدي وهي الثدي ويجمع أيضا على أثد وزن أكل وربما جمع على ثداء مثل سهم وسهام.
(الهمازون) الذين يغتابون الناس من غير مواجهة: (ا للمازون (1)) العيابون.
(بابني الخالة): قال ابن السكيت: (يقال أبناء خالة ولا يقال أبناء عمة، ويقال أبناء عم ولا يقال أبناء خال).
قال الحافظ: (وسبب ذلك أن ابني الخالة أم كل منهما خالة الاخر، بخلاف ابني العمة.
(عيسى): اسم أعجمي غير منصرف، للعلمية والعجمة، وقيل مشتق من العيس وهو البياض، والاعيس الجميل الابيض وجمعه عيسى فقيل له عيسى لبياض لونه.
وقيل من العوس وهو السياسة وأصله عوسا فقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها، وقيل له عيسى لانه ساس نفسه بالطاعة، وقلبه بالمحبة.
وأمته بالدعوة إلى رب العزة.
(مريم): اسم أعجمي فيه ثلاث علل: العلمية والتأنيث المعنوي والمعجمة، وقيل معناه بالعبراني: خادمة الله، وقيل أمة الله، وقيل المحررة.
(يحيى): مشتق من الحياة وأطلق عليه هذا الاسم لانه ولد في حال شيخوخة والديه، وغالبا لا يطول عمر من كان كذلك، فوهبه الله تعالى هذا الاسم طمأنة لقلبيهما أن يحيا كثيرا، وأنه ولد يحيا بالمحبة، حي الجسم بالطاعة حي اللسان بالذكر حي السر بالمعرفة معصوما من الزلة.
(زكريا): اسم أعجمي يقصر ويمد وقرئ بهما في السبعة، ويقال له زكريا بتخفيف الياء
وتشديدها.
وزكريا كان عالما بالتوراة والانجيل وكان إمام علماء بيت المقدس ومقدمهم وكان من تلاميذه أربعة آلاف عالم قارئ للتوراة: (النفر) محركا جماعة الرجا لمن ثلاثة إلى عشرة أو إلى سبعة.
(وإذا هو بعيسى جعد (2)): قال النووي: قال العلماء: (المراد بالجعد هنا جعودة الجسم وهو اجتماع واكتنازه وليس المراد جعودة الشعر).
(مربوع) هو الرجل الذي بين الرجلين في القامة ليس بالطويل البائن ولا بالقصير الحقير.
__________
(1) المفردات في غريب القرآن 454.
(2) اللسان 1 / 632.
(*)(3/167)
(سبط الرأس) بفتح الباء وكسرها ويجوز إسكان الباء مع فتح السين ومع كسرها على التخفيف أي مسترسل الشعر وليس فيه تكسير.
(الديماس) (1) بكسر الدال المهملة وتفتح وبإسكان المثناة ا لتحتية، فسره الراوي وهو عبد الرزاق بالحمام، والمعروف عند أهل اللغة أن الديماس هنا هو الشرب، والمراد من ذلك وصفه بصفاء اللون ونضارة الجسم وكثرة ماء الوجه حتى كأنه كان في موضع كن فخرج منه وهو عرقان.
قال السهيلي: وفي هذه الصفة من صفات عيسى عليه السلام إشارة إلى الري والخصب في أيامه إذا أهبط إلى الارض.
(عروة بن مسعود) أحد السادة الصحابة رضي الله عنهم.
(يوسف): اسم أعجمي وتثلث سينه وهو غير منصرف للعلمية والعجمة.
(إذ هو قد أعطى) بدل من الأول بدل اشتمال (الشطر): قال بعض شراح المصابيح: المراد به هنا النصف، وقيل: البعض لان الشطر كما يراد به نصف الشئ قد يراد به بعضه مطلقا.
قال الطيبي: وقد يراد به الجهة أيضا نحو قوله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) (البقرة: 144) أي جهته (من الحسن) أي مشحة منه كما يقال على وجهه مسحة ملك ومسحة جمال أي أثر ظاهر ولا يقال ذلك إلا في المدح.
(هارون): اسم أعجمي للعلمية والعجمة وقل معرب.
(أرون) والارن النشاط سمي به لنشاطه في طاعة الله تعالى، ثم قيل هارون كما قالوا في إياك هياك.
(الرهط) بسكون الهاء وفتحها ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة أو منها إلى الاربعين.
(القوم): جماعة الرجل عند الاكثرين.
(الافق) بضمتين وجمعها آفاق بالمد أي النواحي.
(موسى) اسم معرب أصله (مو) وهو بالعبرانية الماء، (والسا) وهو الشجر، سمي به لانه وجد في الماء والشجر الذي كان حول قصر فرعون.
(آدم أسمر طوال): تقدم.
(جاوزة): عداه وفارقه.
__________
(1) لسان العرب 2 / 1421.
(*)(3/168)
(يزعم): يقول: (إسرائيل) يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، ومعناه عبد الله وقيل صفوة الله وقيل سر الله لانه أسرى به لما هاجر، وفيه لغات أشهرها بباءين بعد الهمزة ثم لام، وقرئ إسراييل بلا همز.
(الشمط) (1): بياض شعر الرأس يخالطه سواده والرجل أشمط وقوم شمطان مثل أسود وسودان وقد شمط بالكسر شمطا والمرأة شمطاء.
(مسند ظهره)، مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو مسند ظهره، وفي رواية: مسندا ظهره بالنصب على الحال.
فائدة: نقل في النور أن السلطان الملك برقوق سأل عن البيت المعمور من أي شئ هو ؟ قال بعض الحاضرين بأنه من عقيق، ونقله عن بعض التفاسير.
(الغراس) بكسر الغين المعجمة وبالسين المهملة يقال غرست الشجرة غرسا من باب ضرب، والشجر مغروس ويطلق عليه أيضا غرس وغراس بالكسر فاعل بمنى مفعول مثل كتاب وبساط.
(القراطيس) جمع قرطاس ما يكتب فيه، وكسر القاف فيه أشهر من ضمها، والقرطس وزان جعفر فيه لغة.
(ولم يلبوسا إيمانهم بظلم) أي لم يخلطوه بشرك.
(ثياب رمد) (2) أي لون الرماد.
(آخر ما عليهم) بضم الراء وفتحها، فالرفع على تقدير: ذلك آخر ما عليهم، والنصب على الظرف، قال القاضي: والرفع أجود.
(الحلس) - بحاء مهملة مكسورة وبفتح فلام ساكنة فسين مهملة.
كساء يلي ظهر البعير القتب، والمراد أنه لتصاغره واختفائه عن هيبة الله تعالى أشبه الحلس المختفي تحت القتب، ولهذا في بعض الروايات قال (لا طئ) وهو بهمزة في آخره.
ويقال لطئ بالارض لطوءا لصق بها، وهو شدة معرفته بها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (فعرفت فضل علمه بالله علي).
قال بعضهم: وإنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم تواضعا إذ لا خلاف أنه أفضل خلق الله، وإنما الخلاف في غيره من الملائكة.
قلت: أو قال ذلك قبل أن يصل إلى ما وصل إليه.
(أسن الماء) (3) بفتح السين وكسرها يأسن مثلثة (أسنا وأسنا) وأسونا تغير فلم يشرب فهو آسن.
__________
(1) لسان العرب 3 / 2327.
(2) لسان العرب 3 / 1727.
(3) المفردات في غريب القرآن 18.
(*)(3/169)
(النبق): بفتح النون وكسر الباء وتسكن ثمرة السدرة.
(قلال هجر): قال الخطابي بكسر القاف جمع قلة بالضم وهي الجرار الواحدة تسع قربتين أو أكثر وهجر بفتح الهاء والجيم من قرى المدينة ولا تنصرف للتأنيث والعلمية، ويجوز الصرف، يريد أن ثمر السدرة في الكبر مثل القلال، وكانت معروفة عند المخاطبين، ولذلك وقع التمثيل بها.
تنبيه: سئل: هل ثمر سدرة المنتهى كالثمار المأكولة في أنه يزول ويعقبه غيره ؟ وهل الزائل يؤكل أو يسقط ؟ (وإذا ورقها مثل آذان الفيلة): بكسر الفاء وفتح المثناة التحتية بعدها لام، وحكى الزركشي والبرماوي (1) فتح الفاء وقال الدماميني: إنه سهو، والفيلة جمع فيل، وفي رواية: مثل آذان الفيول وهي جمع فيل أيضا، ولا منافاة بين ذلك وبين قوله: (تكاد الورقة تغطي هذه الامة)، لان المراد التشبيه في الشكل خاصة لا في الكبر ولا في الاحسن.
(أنهار): جمع نهر بسكون الهاء وفتحها.
(غشيها ألوان): علاها ولابسها، (فلما غشيها من الله ما غشيها) هو كقوله تعالى: (إذ يغشى السدرة ما يغشى) (النجم: 16) في إرادة الابهام للتفخيم والتهويل، وإن كان معلوما كما في قوله تعالى: (فغشيهم من اليم ما غشيهم) (طه: 78) في حق فرعون.
وقوله: فراش بيان له.
(الزبرجد) (2) بزاى مفتوحة وبالدال المهملة جوهرم عروف ويقال هو الزمد (3).
(يلوذ بها): يطوف بها.
(الفراش) بالفتح جمع فراشة: الطير الذي يلقي نفسه في ضوء السراج.
__________
(1) محمد بن عبد الدائم بن موسى، الشيخ الامام، العالم المفنن، شمس الدين أبو عبد الله العسقلاني الاصل البرماوي، المصري.
مولده في ذي القعدة سنة ثلاث وستين وسبعمائة، وأخذ عن الشيخ سراج الدين البلقيني، والشيخ سراج الدين بن الملقن، والشيخ زين الدين العراقي، والشيخ عز الدين بن جماعة، ومجد الدين البرماوي، والقاضي بدر الدين ابن أبي البقاء.
وكان في صغره في خدمته، وسمع الكثير وفضل وتميز في الفقه والنحو، والحديث والاصول وكانت معرفته بهذه العلوم الثلاثة أكثر من معرفته بالفقه.
وكتب شرحا على البخاري لم يبينه، وجمع شرحا على العمدة سماه
جمع العدة لفهم العمدة، وأفرد أسماء رجال العمدة.
وله الالفية في الاصول وشرحها، أخذ أكثره من البحر للزركشي، وله منظومة أخرى في الفرائض وغير ذلك، ومات في جمادي الاخرة سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة.
الطبقات لابن قاضي شهبة 4 / 101، 102، 103، وإنباء الغمر 8 / 161، والاعلام 7 / 60، وشذرات الذهب 7 / 201.
(2) أنظر المعجم الوسيط 1 / 388.
(3) الزمرد: حجر أخضر اللون، شديد الخضرة.
شفاف، واشده خضرة أجوده وأصفاه جوهرا، واحدته زمردة.
انظر المعجم الوسيط 1 / 401.
(*)(3/170)
(خلي على سبيلك): بالبناء للمفعول، وهو صفة لقوله: أي أحد من أمتك ترك على طريقك.
(الفرات): بضم الفاء وبالتاء المبسوطة وصلا ووقفا.
ومن قال بالهاء فقد أخطأ.
(العنصر): بضم العين والصاد المهملتين بينهما نون ساكنة، وهو الاصل.
(السلسبيل) اسم عين في الجنة.
(الكوثر): يأتي الكلام عليه في الخصائص وفي أبواب حشره صلى الله عليه وسلم.
(يطرد): يجري.
(عجاجا) (1): كثير الماء كأنه يعج من كثرته وصوت تقعقعه.
(الخيام) جمع خيم كفرخ وفراخ وسهم وسهام وهو مثل الخيمة، وهو بيت تبنيه العرب من عيدان الشجر.
قال ابن الاعرابي: لا تكون الخيمة عند العرب من ثياب بل من أربعة أعواد ثم يسقف بالثمام بضم الثاء (المثلثة) وهو نبت ضعيف له خوص أو شبيه بالخوص، والجمع خيمات وخيم وزان بيضات وقطع.
(الرضراض) (2): بفتح الراء وسكون الضاد المعجمة، وبأخرى مثلها: الحصى الصغار.
(الزمرذ) بزاي فميم فراء مشددة مضمومات فذال معجمة، هو الزبرجد.
(خبأ لك): بفتح الخاء المعجمة والموحدة مهموزا أي ادخره لك ربك.
(ابن حارثة): يأتي الكلام عليه في الموالي.
(جنابذ اللؤلؤ) (3): بجيم فنون مفتوحتين فألف فباء موحدة فذال معجمة وهي القباب واللؤلؤ تقدم.
(القيعان): جمع قاع وهو المكان المستوي من الارض، ويجمع أيضا على أقوع وأقواع.
(الوجس) (4) بفتح الواو وسكون الجيم بعدها سين مهملة: الصوت الخفي.
(الدلاء) بكسر الدال جمع دلو.
(للابل المقتبة) أي التي بأقتابها (5).
__________
(1) انظر اللسان 4 / 2813.
(2) اللسان 3 / 1659.
(3) انظر لسان العرب 1 / 695.
(4) انظر المعجم الوسيط 2 / 1014.
(5) القتب: الرحل الصغير على قدر سنام البعير.
والجمع أقتاب.
المعجم الوسيط 2 / 720.
(*)(3/171)
(مسك أذفر): يقال ذفر الشئ بالكسر ذفرا بالتحريك اشتدت رائحته طيبة كانت أو كريهة.
(عاقر الناقة): اسمه قدار بضم القاف والتخفيف، ابن سالف بالسين المهملة والفاء.
(غشيها أنوار الخلائق): إضافة تشريف كما يقال بيت الله.
(الغربان) جمع غراب.
(ظهر) ارتفع.
(سبوح (2) قدوس (2)) بضم أولهما أي نزه عن سوء وعيب.
(لمستوى): بفتح الواو وبالتنوين: موضع مشرف (يستوي عليه) أي يصعد وقيل المكان المستوي، (وفي بعض الاصول): (بمستوي) بموحدة بدل اللام وعليهما فالباء ظرفية.
وعلى رواية اللام: قال التوربشتي: اللام للعلة أو ارتفعت لاستعلاء مستوى أو لرؤيته أو لمطالعته ويحتمل أن يكون متعلقا بالمصدر أي ظهرت ظهور المستوى، ويحتمل أن تكون بمعنى (إلى).
قال تعالى: (أوحى لها) أي إليها، والمعنى: إني أقمت مقاما بلغت فيه من رفعة المحل إلى حيث اطلعت على الكوائن فظهر لي ما يراد من أمر الله وتدبيره في خلقه، وهذا هو المنتهى الذي لا تقدم فيه لاحد عليه.
وقال الطيبي: (لام) الغرض (وإلى) الغائية يلتقيان في المعنى، قال في الكشاف في قوله تعالى: (كل يجري إلى أجل مسمى) (لقمان: 29): (فإن قلت: يجري لاجل مسمى، ويجري إلى أجل مسمى، أهو من تعاقب الحرفين ؟ قلت: كلا ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العطن (3)، ولكن المعنيين أعني الانتهاء والاختصاص كلواحد منهما ملائم لصحة الغرض، لان قولك: يجري إلى أجل مسمى معناه يبلغه وينتهي إليه، وقولك: يجري لاجل مسمى، تريد: يجري لادراك أجل مسمى.
فالحاصل أن (اللام) و (إلى)، وإن كان معناهما أعني الادراك والانتهاء ملائما لصحة الغرض فليستا متعاقبتين، فمعنى: ظهرت إلى مستوى بلغته وانتهيت إليه، ومعنى (لمستوى) هو أدركت مستوى.
__________
(1) لسان العرب 3 / 1914.
(2) اللسان 5 / 3550.
(3) يقال: فلان واسع العطن: واسع الصبر والحيلة عند الشدائد، سخي كثير المال.
وضده: ضيق العطن.
انظر المعجم الوسيط 2 / 615.
(*)(3/172)
(صريف الاقلام) بفتح الصاد المهملة وكسر الراء وبالفاء وهو صوت حركتها وجريانها على المكتوب فيه من أقضية الله تعالى ووحيه وما ينسخونه من اللوح المحفوظ وما شاء الله تعالى الذي يعلم بكيفيتها.
(العرش): السرير الذي للملك كما قال الله تعالى: (ولها عرش عظيم) (النمل: 23)، وثبت في الشرع أنه له قوائم تحمله الملائكة، وهو فوق الجنة والجنة فوق السموات، وفي الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والارض، وهو كالقبة على العالم وهو سقف المخلوقات، وقد بسطت الكلام عليه في (الجواهر النفائس في تحبير كتاب العرائس).
(لسانه رطب من ذكر الله): أي لم يجف.
(قلبه معلق بالمساجد) كأنه ربط بها أو حبا من العلاقة وهي المحبة.
(لم يستسب لوالديه) أي لم يعرضهما للسب وهو الشتم ولا جرهما إليه بأن يسب أبا غيره فيسب (هذا) أباه مجازاة له.
وقد جاء مفسرا في الحديث الاخر: (أن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه).
قيل: وكيف يسب والديه ؟ قال: (يسب أبا الرجل فيسب أباه وأمه).
(لبيك): هو من التلبية وهي إجابة ا لمنادي أي إجابتي لك يا رب وهو مأخوذ من لب بالمكان وألب إذا أقام به، وألب على كذا إذا لم يفارقه، ولم يستعمل إلا على لفظ التثنية في معنى التكرير أي إجابة بعد إجابة، وهو منصوب على المصدر بعامل لا يظهر كأنك قلت: ألب إلبابا بعد إلباب.
(يحفظون الكتاب المجيد): يتلونه حفظا.
(أناجيلهم): الاناجيل جمع انجيل وهو اسم كتاب الله تعالى المنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام.
(سبعا من المثاني): هي كل سورة دون الطوال ودون المائتين.
(الرعب) الفزع وسيأتي الكلام على ذلك في الخصائص.
(فواتح الكلم) وفي رواية مفاتيحه ومفاتحه وهما جمع مفتاح ومفتح وهما في الاصل كل ما يتوصل به إلى استخراج المغلقات التي يتعذر الوصول إليها، فأخبر أنه أوتي مفاتيح الكلم، وهو ما يسر الله له من البلاغة والفصاحة والوصول إلى غوامض المعاني وبدائع الحكم ومحاسن العبارات التي أغلقت على غيره وتعذرت.
(خواتمه) به فصل الخطاب.
(جوامعه): أي من الكلمات القليلة الالفاظ، الكثيرة المعاني.(3/173)
(ا لمخيط): بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح التحتية وبالطاء المهملة ما خيط به الثوب.
(الملك القائد): بقاف فألف فهمزة فدال مهملة: المقدم.
(الغر) (1): بالغين المعجمة: جمع أغر، وهو هنا الابيض الوجه من نور الوضوء.
(المحجلين) (2): البيض الوجوه والرجلين من نور الوضوء.
(المقحمات): بضم الميم وإسكان القاف وكسر الحاء المهملة: الذنوب العظام الكبار التي تهلك أصحابها وتقودهم إلى النار، والتقحم الوقوع في المهالك.
قال النووي: والمراد بغفرانها ألا يخلد في النار بخلاف المشركين، وليس المراد، ألا يعذب أيضا فقد علم من نصوص الشرع وإجماع أهل السنة إثبات عذاب العصاة من الموحدين).
(فسله): أصله فاسأله لانه أمر من السؤال، فنقلت حركة الهمزة إلى السين فحذفت واستغني عن همزة الوصل فحذفت.
(خبرت (3) الناس وبلوت بني إسرائيل): بمعنى جربتهم ومارستهم وعالجتهم من المعالجة مثل المزاولة، ولقيت الشدة فيما رأيت منهم من نبذ الطاعة.
(أن نعم): بفتح الهمزة في (أن) والتخفيف وهي المفسرة، فهي من معناه مثل (أي)، وهي بالتخفيف.
(فلم يزل يرجع بين موسى وبين ربه): أي بينه وبين مناجاة ربه.
(ومن هم بحسنة): أي أراد فعلها مصمما بقلبه.
(كتبت له حسنة): أي كتبت له الحسنة التي هم بها ولم يعملها كتابة واحدة لان الهم بسببها أو بسبب الخير خير، فوضع حسنة موضع المصدر، وكذا إن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا فأن عملها كتبت سيئة واحدة.
(لبيك): تقدم.
(وسعديك): أي إسعادا لك بعد إسعاد أو مساعدة بعد مساعدة، والاصل في الاسعاد والمساعدة متابعة العبد أمر ربه ورضاه.
(ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب شيئا): أي إذا لم يصمم على الفعل كما هو مذكور في محله.
__________
(1) انظر لسان العرب 5 / 3234 والمعجم الوسيط 2 / 648.
(2) لسان العرب 2 / 788، 789.
(3) المعجم الوسيط 1 / 214.
(*)(3/174)
(ولكن أرضى وأسلم): قال الطيبي: فإن قلت: وقوع هذا بين كلامين متغايرين معنى فما وجهه ناهنا ؟ قلت: تقدير الكلام: حتى استحييت فلا أرجع، فإني إذا رجعت كنت غير راض ولا مسلم، ولكني أرضي.
(برهج): بفتح الهاء وهو الغبار وفي قوله: (ثم ركب منصرفا)، دليل على أنه حالة العروج لم يكن راكبا.
(العير): بكسر العين المهملة - الابل بأحمالها -.
(الغرارتان) (1): تثنية غرارة وهي الجوالق بجيم مضمومة فواو فألف فلام فقاف: (الخرج.
(فظع) (2) بفاء فظاء معجمة مشالة أي اشتد عليه وهابه.
(بين ظهرانينا): بفتح النون أي: بيننا.
(المطعم بن عدي): بضم الميم وسكون الطاء وكسر العين مخففا، هلك كافرا.
(مصعد شهرا): بميم مضمومة فصاد ساكنة فعين مكسورة فدال مهملات.
(منحدرا شهرا): بميم مضمومة فنون ساكنة فحاء فدال مكسورة مهملتين فراء (جبهته): بفتح الجيم والموحدة والهاء والفوقية أي استقبلته بالمكروه، وأصله من إصابة الجبهة يقال جبهته إذا أصبت جبهته.
(كرب كربا): وفي رواية: فكربت كربة - بضم الكاف وسكون الراء - ما كربت مثله قط والضمير في مثله يعود على معنى الكربة وهو الكرب أو الغم أو الهم أو الشئ.
(الروحاء (3)): براء مفتوحة فواو ساكنة فحاء مهملة فألف ممدودة: بلد من عمل الفرع (4) على نحو أربعين ميلا من المدينة ويقال على ستة وثلاثين ميلا، ويقال على ثلاثين ميلا.
التنعيم (5): من الحل بينه وبين سرف على فرسخين من مكة نحو المدينة.
__________
(1) لسان العرب 5 / 3236.
(2) المعجم الوسيط 2 / 695.
(3) الروحاء من الفرع، على نحو أربعين ميلا من المدينة.
وفي كتاب مسلم بن الحجاج: على ستة وثلاثين ميلا.
وفي كتاب ابن أبي شيبة: على ثلاثين ميلا وهو الموضع الذي نزل به تبع حين رجع من قتال أهل المدينة يريد مكة، فأقام بها وأرواح فسماها الروحاء.
(4) الفرع بالضم، ثم السكون، وآخره عين مهملة.
وقيل: بضمتين: قرية من نواحي الربذة، عن يسار السقيا، بينها وبين المدينة ثمانية برد، على طريق مكة.
وقيل: أربع ليال: قرية.
(5) التنعيم: موضع بمكة خارج الحرم، هو أدنى الحل إليها، على طريق المدينة، منه يحرم المكيون بالعمرة، به مساجد مبنية بين سرف ومكة.
قال: على فرسخين من مكة.
وقيل: أربعة.
قلت: لا خلاف بين الناس أنه على ثلاثة أميال من مكة.
(*)(3/175)
(يقدمها): بضم الدال في المضارع وبفتحها في الماضي، يقال: قدم يقدم قدما، بضم
القاف في المصدر، أي تقدم.
قال تعالى: (يقدم قومه يوم القيامة) (هود: 6).
(جمل أورق) (1): أي في لونه بياض إلى سواد، قاله الاصمعي.
وقال أبو زيد: يضرب لونه إلى الخضرة.
(أهريقت) (2): انكبت.
(في غدوة): بضم الغين المعجمة: ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس.
(الروحة) (3): اسم للوقت من الزوال إلى الليل.
هذا ما يسر الله تعالى من الكلام على بعض فوائد القصة وشرح مشكلها، وقد جمعت جزءا في بيان تخريج أحاديثها سميته: (الافراج في تخريج أحاديث قصة المعراج)، فمن توقف في ورود لفظ فليراجع ذلك الجزء يظفر بمعرفة من رواه من الائمة، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
__________
(1) اللسان 6 / 4816، 4817.
(2) أنظر لسان العرب 6 / 4654.
(3) انظر المعجم الوسيط 1 / 380، 381.
(*)(3/176)
الباب العاشر في صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء وكيف فرضت الصلاة
روى الامامان الشافعي وأحمد، وأبو داود والترمذي وحسنه، والطحاوي (1) والبيهقي عن ابن عباس، والامام أحمد والنسائي والدار قطني والحاكم وصححه وأقره الذهبي عن جابر بن عبد الله، والدار قطني والحاكم والاسماعيلي في معجمه، وابن السكن في صحيحه عن أنس، والدار قطني بإسناد جيد عن ابن عمر، والنسائي والحاكم وصححه وأقره الذهبي عن أبي هريرة وإسحاق بن راهويه عن أبي مسعود الانصاري، وعبد الرزاق وإسحاق عن أبي سعيد الخدري، وإسحق عن أبي بكر بن منحمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه عن جده عمرو بن حزم
رضي الله تعالى عنهم.
قال الحافظ في المطالب: إسناده حسن، إلا أن محمد بن عمرو بن حزم لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم لصغر سنه، فإن كان الضمير في جده يعود على أبي بكر توقف على سماع أبي بكر من عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمني جبريل عند البيت) - ولفظ الشافعي والطحاوي والبيهقي: (عند باب البيت) - (مرتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس، وكانت قدر الشراك، وصلى بي العصر حين صار ظل كل شئ مثله، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله) - وفي لفظ: (كوقت العصر بالامس) - (وصلى بي العصر حين كان ظله مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء إلى ثلث الليل الاول، وصلى بي الفجر فأسفر)، ثم التفت فقال: (يا محمد هذا وقت الانبياء من قبلك، والوقت ما بين هذين) (2).
هذا ما وقفت عليه في صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بالصلوات الخمس، وأما عدد ركعاتها حين فرضت فمن الناس من ذهب إلى أنها فرضت أول ما فرضت ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر فأكملت أربعا إلا المغرب وأقلت صلاة السفر ركعتين.
وروى ذلك عن عائشة رضي الله عنها الشعبي وميمون بن مهران ومحمد بن إسحاق.
ومنهم من ذهب إلى أنها
__________
(1) منهم أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي: وإليه انتهت رياسة أصحاب أبي حنيفة بمصر.
أخذ العلم عن أبي جعفر بن أبي عمران وعن أبي خازم وغيرهما.
وكان شافعيا يقرأ على أبي إبراهيم المزني فقال له يوما: والله لا جاء منك شئ، فغضب أبو جعفر من ذلك وانتقل إلى أبي جعفر بن أبي عمران، فلما صنف مختصره قال: رحم الله أبا إبراهيم لو كان حيا لكفر عن يمينه وصنف (اختلاف العلماء) و (الشروط) و (أحكام القرآن) و (معاني الاثار).
ولد سنة ثمان وثلاثين ومائتين ومات سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
طبقات الفقهاء للشيرازي 142.
(*) (2) أخرجه الشافعي في الام 1 / 71 وأحمد في المسند 1 / 333 وأبو داود 1 / 274 (393) والترمذي 1 / 278 (149) وابن خزيمة في صحيحه 1 / 168 (325) والدار قطني 1 / 258 (6 - 9).
(*)(3/177)
فرضت أول ما فرضت أربعا إلا ا لمغرب ففرضت ثلاثا والصبح ركعتين، وبه قال الحسن ونافع بن جبير بن مطعم وابن جرير.
ومنهم من ذهب إلى أنها فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، يروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكر أدلة هذه الاقوال والكلام عليها مذكور في المطولات.
وروى الشيخان وابن إسحاق عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما افترضت ركعتين ركعتين كل صلاة ثم إن الله أتمها في الحضر أربعا وأقرها في السفر على فرضها الأول ركعتين).
تنبيهات الأول: ذكر بعضهم أن المعروف في رواية المواقيت عند البيت - وروي عند باب البيت - وقد علمت أنها رواية الشافعي والطحاوي والبيهقي.
الثاني: المشهور في الاحاديث السابقة الابتداء بالظهر.
روى ابن أبي خيثمة في تاريخه عن أحمد بن محمد، حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبي إسحاق عن عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما فرضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فصلى به الصبح حين طلع الفجر)، وذكر الحديث.
وكذا وقع في رواية الدار قطني وابن حيان في الضعفاء من طريق محبوب بن جهم، وهو ضعيف، وفي رواية أبي هريرة عند النسائي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم)، فصلى الصبح حين طلع الفجر.
الثالث: قال أبو عمر: لم أجد قوله (هذا وقتك ووقت الانبياء قبلك)، إلا في هذا الحديث، يعني رواية ابن عباس، قلت: قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: ظاهره يوهم أن هذه الصلوات في هذه الاوقات مشروعة لمن قبله من الانبياء، وليس كذلك، إنما معناه: هذا وقتك المشروع لك، يعني الوقت الموسع المحدود بطرفين: الأول والاخر، ووقت الانبياء قبلك، يعني مثله وقت الانبياء قبلك أي صلاتهم كانت واسعة الوقت وذات طرفين
مثل هذا.
وإلا فلم تكن هذه الصلوات على هذا الميقات إلا لهذه الامة خاصة وإن كان غيرهم قد يشاركهم في بعضها.
وقد روى أبو داود في حديث العشاء: (أعتموا بهذه الصلاة فإنكم قد فضلتم بها على سائر الامم ولم تصلها أمة قبلكم وكذا قال أبو الفتح: (يريد بها التوسعة عليهم في أن للوقت أولا وآخرا إلا أن الاوقات هي أوقاتهم بعينها).(3/178)
الرابع: استشكل بعضهم لفظ (عند البيت) بأنه صلى الله عليه وسلم كان يستقبل بيت المقدس قبل الهجرة.
قلت: ولا إشكال في ذلك لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم جعل البيت بينه وبين بيت المقدس، وكذلك رواية: (عند الباب) لا إشكال فيها، إذ لا يلزم في كون الصالة عند الباب أن تكون الصلاة إليه.
الخامس: قال ابن المنير: (لما أمر الله سبحانه وتعالى جبريل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، كانت هذه فرضا عليه لانه أمر بذلك، فكانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم صلاة مفترض خلف مفترض).
السادس: قال الحربي: (أول ما فرضت الصلاة عليه: ركعتين أول النهار وركعتين آخره بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين ركعتين ثم زاد فيها في الحضر).
قال أبو عمر: (ليس في حديث عائشة دليل على صحة ما ذهب إليه الحربي، ولا يوجد هذا في أثر صحيح، بل فيه دليل على أن الصلاة التي فرضت ركعتين ركعتين هي الصلوات الخمس لان الاشارة بالالف واللام في (الصلاة) إشارة إلى المعهود).
قال الحافظ: (الذي يظهر وبه تجمع الادلة أن الصلاة فرضت ليلة الاسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت عقب الهجرة إلا الصبح كما روى ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي من طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: (فرضت صلاة السفر والحضر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن، زيد في صلاة الحضر ركعتان
وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب لانها وتر).
انتهى.
ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الاية وهي قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) (النساء: 101) قال ويؤيد ذلك ما ذكره ابن الاثير في شرح مسند الشافعي: إن قصر الصلاة كان في ربيع الأول من السنة ا لثانية، وهو مأخوذ مما ذكره غيره أن نزول آية الخوف كان فيها.
وقيل قصر الصلاة كان في ربيع الأول من السنة الاولى ذكره الدولابي وأورده السهيلي بلفظ بعد الهجرة بعام أو بنحوه، وقيل بعد الهجرة بأربعين يوما.
فعلى هذا فالمراد بقول عائشة: فأقرت صلاة السفر باعتبار ما آل إليه الامر من التخفيف لانها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة.
السابع: قال السهيلي: هل هذه الزيادة في الصلاة نسخ أم لا ؟ فيقال: أما زيادة ركعتين أو ركعة إلى ما قبلها من الركوع حتى تكون صلاة واحدة فنسخ، لان النسخ رفع الحكم، وقد(3/179)
ارتفع حكم الاجزاء (1) من الركعتين وصار من سلم فيها عامدا مفسدا لها، وإن أراد أن يتم صلاته بعد ما سلم عامدا لم يجزه إلا أن يستأنف الصلاة من أولها، فقد ارتفع حكم الاجزاء بالنسخ، وأما الزيادة في عدد الصلوات حتى المكث خمسا بعد ما كانت اثنتين فسميت نسخا عند أبي حنيفة، قال الزيادة عنده نسخ، وجمهور المتكلمين على أنه ليس بنسخ، ولاحتجاج الفريقين موضع غير هذا.
الثامن: في بيان غريب ما سبق: (زوال الشمس): عبارة عن ميلها من جانب الشمال إلى جانب اليمين إذا استقبلت القبلة.
(الشراك) (2): أحد سيور النعل التي على وجهها وقدرة هنا ليس على معنى التحديد.
__________
(1) يقال: أجزأني الشئ: أي كفاني، ويروى بالياء.
انظر النهاية لابن الاثير 1 / 266.
(2) أنظر لسان العرب 4 / 2250.
(*)(3/180)
جماع أبواب بدء إسلام الانصار
الباب الأول في نسبهم
قال السهيلي رحمه الله تعالى: (الانصار جمع ناصر على غير قياس في جمع فاعل، ولكن على تقدير حذف الالف من ناصر لانها زائدة، فالاسم على تقدير حذفها ثلاثي، والثلاثي يجمع على أفعال، وقد قالوا في نحوه صاحب وأصحاب وشاهد وأشهاد).
وفي الصحاح النصير الناصر، والجمع أنصار مثل شريف وأشراف، وجمع الناصر نصر مثل صاحب وصحب).
انتهى.
ولم يكن (الانصار) اسما لهم في الجاهلية بل سماهم الله تعالى به في كتابه كما سيأتي في الباب بعده.
والانصار حزبان: الأول: بنو الاوس، قال السهيلي: وهو لغة العطية أو العوض.
زاد في الزهر: وأوس زجر للغنم والبقر، ودخول الالف واللام فيه على حد دخولها في التيم جمع تيمي، وهو من باب رومي وروم، ومثل هذا إذا كان علما لا تدخله الالف واللام.
والثاني: بنو الخزرج، قال السهيلي: وهو في اللغة الريح الباردة، وقال بعضهم: هي الجنوب خاصة، وقال بعضهم في الزهر: الريح الشديدة.
والاوس والخزرج ابنا حارثة - بحاء مهملة وثاء مثلثة - ابن ثعلبة العنقاء - بعين مهملة مفتوحة فنون ساكنة فقاف فهمزة ممدودة، لقب به لطول عنقه - ابن عمرو مزيقياء - بميم مضمومة فزاي مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة، فقاف مكسورة فمثناة تحتية فهمزة ممدودة، لقب عمرو بذلك لانه كان من ملوك اليمن، وكان يلبس كل يوم حلتين فيمزقهما بالعشي ويكره أن يعود فيهما، ويأنف أن يلبسهما أحد غيره، قاله في النور والروض يمزق كل يوم حلة بالافراد - ابن عامر ماء السماء - لان قومه كانوا إذا قحطوا بث
فيهم ماله، فكان يقوم لهم مقام ماء السماء - ابن حارثة - بحاء مهملة ومثلثة، ويلقب بالغطريف - بغين معجمة مكسورة فطاء مهملة ساكنة فراء مكسورة وفي آخره فاء، وهو في اللغة السيد وفرخ البازي - ابن امرئ القيس - ويلقب: البطريق بباء موحدة فطاء مهملة ساكنة وفي آخره قاف - وهو القائد من قواد الروم وهو معرب، والجمع بطارقة، وهو في اللغة السمين من الطير وغيره، وأيضا المختال في مشيه - ابن ثعلبة - ويلقب بالبهلول بباء موحدة مضمومة(3/181)
وهاء ساكنة وهو في اللغة السيد - ابن مازن - ويلقب: زاد السفر - ابن الازد - اسم الازد (درا) بدال مكسورة فراء مهملتين فألف ممدودة - ابن الغوث - بغين معجمة مفتوحة فواو ساكنة فمثلثة - ابن مالك بن زيد بن كهلان - بكاف مفتوحة فهاء ساكنة وآخره نون - ابن سبا - يمد ويقصر، ويصرف ولا يصرف واسمه عامر وقيل عبد شمس - ابن يشجب - بمثناة تحتية مفتوحة فشين معجمة ساكنة فجيم مضمومة فموحدة، وزان ينصر، ولا ينصرف للعلمية - ابن يعرب - بعين مهملة وزان يشجب - ابن قحطان - بقاف مفتوحة فحاء ساكنة مهملتين فنون، والنسبة إليهما قحطاني على القياس، ولقبه يقطن - بمثناة تحتية فقاف فطاء مهملة وزان يعرب وسمي بقحطان لانه كان أول من قحط أموال الناس من ملوك العرب واسمه مهزم، ويقال إن قحطان كان أول من تكلم بالعربية وهو والد العرب المتعربة وأما إسماعيل فهو والد العرب المستعربة، وقيل قحطان أول من قيل له: أبيت اللعن، وعم صباحا، وذهب الزبير بن بكار إلى أن قحطان من ذرية إسماعيل عليه السلام وأنه قحطان بن الهميسع وتقدم ضبطه في النسب النبوي: ابن إسماعيل وهو ظاهر قول أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم في قصة هاجر حيث قال وهو يخاطب الانصار: (تلك أمكم يا بني ماء السماء).
قال الحافظ: (وهذا هو الراجح في نقدي).
وبسط الكلام على ذلك.(3/182)
الباب الثاني في فضلهم وحبهم والوصية بهم والتجاوز عن مسيئهم والنهي عن بغضهم
قال الله سبحانه وتعالى: (والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا) (الانفال: 74) وقال الله عز وجل: (والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحشر: 9) وقال تقدس اسمه: (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) (الانعام: 89).
وعن غيلان بن جرير قال: (قلت لانس: أرأيت اسم الانصار كنتم تسمون به أم سماكم الله ؟ قال: بل سمانا الله عز وجل)، رواه البخاري والنسائي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، يرفعه: (إن الله أمدني بأشد الناس ألسنا وأذرعا، بابني قيلة: الاوس والخزرج)، رواه الطبراني في الكبير.
وعن أبي واقد الليثي قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه آت فالتقم أذنه فتغير وجهه وسار الدم في أساريره، ثم قال: (هذا رسول عامر بن الطفيل يتهددني فكفانيه الله بالبيتين من ولد إسماعيل بابني قيلة)، يعني الانصار، رواه الطبراني في الكبير والاوسط.
وعن أنس رضي الله عنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء والصبيان مقبلين قال: حسبت أنه قال: من عرس فقام النبي صلى الله عليه وسلم ممثلا، فقال: (اللهم أنتم من أحب الناس إلي)، قالها ثلاث مرات.
رواه البخاري (1).
وعنه أيضا قال: جاءت امرأة من الانصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها صبي لها فكلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (والذي نفسي بيده إنكم أحب الناس إلي)، مرتين، رواه الشيخان والنسائي (2).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه يرفعه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الانصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أح به الله ومن أبغضهم أبغضه الله) (3)، رواه الستة خلا أبو داود.
وعن أنس رضي الله عنه يرفعه: (آية الايمان حب الانصار وآية النفاق بغض الانصار) (4).
رواه الشيخان والنسائي.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر ببعض سكك المدينة فإذا بجوار يضربن بدفين ويتغنين ويقلن: نحن جوار من بنى النجار يا حبذا محمد من جار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم تعلم أني لاحبكن)، حديث
صحيح رواه ابن ماجة، وعن سعد بن عبادة يرفعه: (إن هذا الحي من الانصار محنة: حبهم
__________
(1) أخرجه البخاري 5 / 111 (3785).
(2) أخرجه البخاري 5 / 40 (دار الفكر) ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (175).
(3) أخرجه البخاري 7 / 113 (3783) ومسلم 1 / 85 (129 - 75).
(4) أخرجه البخاري 7 / 113 ومسلم 1 / 85 (128 - 74).
(*)(3/183)
إيمان وبغضهم نفاق) (1)، رواه الامام أحمد.
وعن أبي سعيد الخدري يرفعه: (حب الانصار إيمان وبغضهم نفاق) (2)، رواه الامام أحمد.
وعنه، (لا يبغض الانصار رجل يؤمن بالله واليوم الاخر) (3)، رواه الامام أحمد.
وعنه أيضا يرفعه: (من أحبني أحب الانصار ومن أبغضني فقد أبغض الانصار، لا يحبهم منافق ولا يبغضهم مؤمن، من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله، الناس دثار والانصار شعار، ولو سلك الناس شعبا وسلك الانصار شعبا لسلكت شعب الانصار) رواه الامام أحمد (4).
وعن جده رباح بن عبد الرحمن بن حويطب يرفعه: (لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولا يؤمن بالله من لا يؤمن بي ولا يؤمن بي من لا يحب الانصار)، رواه الترمذي وابن ماجه دون ذكر الانصار فيه، وقال الترمذي عن البخاري إنه قال: هذا أحسن حديث في هذا الباب.
وعن علي بن سبرة عن أبيه عن جده يرفعه: (أيها الناس لا صلاة إلا بوضوء ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه، ولم يؤمن بالله من لم يؤمن بي ولم يؤمن بي من لم يعرف حق الانصار)، رواه البغوي في معجمه والطبراني في الاوسط.
وعن الحارث بن زياد يرفعه: (من أحب الانصار أحبه الله ومن أبغض الانصار أبغضه الله) رواه الامام أحمد (5).
وعنه أيضا يرفعه: (والذي نفسي بيده لا يحب رجل الانصار حتى يلقى الله إلا لقي الله وهو يحبه، ولا يبغض رجل الانصار حتى يلقى الله إلا لقي الله وهو يبغضه)، رواه الامام أحمد والطبراني وسنده صحيح (6).
وعن أنس رضي الله عنه قال: افتخر الحيان من
الامام أحمد والطبراني وسنده صحيح (6).
وعن أنس رضي الله عنه قال: افتخر الحيان من الانصار: الاوس والخزرج، فقالت الاوس: (منا غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر الراهب، ومنا من اهتز له عرش الرحمن، سعد بن معاذ، ومنا من حمته الدبر، عاصم بن ثابت (7) بن أبي
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 5 / 285 والطبراني في الكبر 6 / 24 وذكره الهيثمي في المجمع 10 / 28 والمتقي الهندي في الكنز (33743).
(2) أخرجه أحمد في المسند 3 / 70 وابن عدي في الكامل 2 / 730.
(3) أخرجه مسلم 1 / 86 (77 - 130) والترمذي (6 - 39) وأحمد في المسند 1 / 309 - 2 / 419 والطبراني في الكبير 12 / 17.
(4) ذكره الهيثمي في المجمع 10 / 32 وعزاه للبزار بإسنادين وفيهما كلاهما عطية وحديثه يكتب على ضعفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(5) أخرجه ابن ماجه (163) وأحمد في المسند 2 / 501 والطبراني في الكبير 3 / 299 وابن أبي شيبة في المصنف 12 / 158.
(6) ذكره الهيثمي في المجمع 10 / 41 وعزاه لاحمد والطبراني بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح غير محمد بن عمرو وهو حسن الحديث.
(7) عاصم بن ثابت بن أبي الاقلح قيس بن عصمة بن النعمان بن مالك بن أمية بن ضبيعة بن بدر بن مالك بن عمرو بن عوف الانصاري جد عاصم بن عمرو بن الخطاب لامه من السابقين الاولين من الانصار...الاصابة 4 / 3.
(*)(3/184)
الاقلح، ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين، خزيمة بن ثابت.
فقال الخزرجيون: منا أربعة نفر جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجمعه غيرهم: زيد بن ثابت، وأبو زيد، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل)، حديث رواه أبو يعلى والبزار، والطبراني في الكبير، وفي الصحيح منه الذين جمعوا القرآن.
وعن معاوية بن أبي سفيان وأبي هريرة يرفعانه: (من أحب الانصار أحبه الله ومن أبغض
الانصار أبغضه الله) (1)، رواه أبو يعلى، وهو حديث حسن صحيح رواه البزار عن أبي هريرة والطبراني عن معاوية، وله طريق آخر عند الطبراني عن معاوية يرفعه: (من أحب الانصار فبحبي أحبهم ومن أبغض الانصار فببغضي أبغضهم) (2)، حديث صحيح.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قالت الانصار يوم فتح مكة وأعطى قريشا: (والله إن هذا لهو العجب إن سيوفنا تقطر من دماء قريش وغنائمنا ترد عليهم).
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الانصار، قال: فقال: (ما الذي بلغني عنكم ؟) وكانوا لا يكذبون، فقالوا: (هو الذي بلغك).
قال: (أو لا ترضون أن يرجع الناس بالغنائم إلى بيوتهم وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم، لو سلكت الانصار واديا أو شعبا لسلكت وادي الانصار أو شعبهم) (3).
رواه الشيخان والنسائي، وهو عند البخاري أيضا من حديث أبي هريرة، وفي آخره: (ولولا الهجرة لكنت امرأ من الانصار).
وعند النسائي بعد الشعب: (اللهم ارحم الانصار وأبناء الانصار وأبناء أبناء الانصار) (4)، فبكى الانصار حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: (رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا)، حديث صحيح رواه الامام أحمد.
وعن أبي هريرة يرفعه: (ألا إن الناس دثار والانصار شعار، ولو سلك الناس وسلك الانصار شعبا لا تبعت شعب الانصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الانصار، فمن ولى من أمر الانصار شيئا فليحسن إلى محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم، من أفزعهم فقد أفزع هذا الذي بين هذين (6)، وأشار إلى نفسه، حديث صحيح رواه الامام أحمد والطبراني، وزاد في آخره: يعني قلبه.
وعن
__________
(1) أخرجه أبو يعلى في المسند 13 / 356 (14 - 7367) وذكره الهيثمي في المجمع 10 / 42 وعزاه لابي يعلى وقال: إسناده جيد.
ورواه البزار وفيه محمد بن عمرو وهو حسن الحديث وبقية رجاله رجال الصحيح.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير 19 / 341 وذكره الهيثمي 10 / 42 وعزاه للطبراني وقال: ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن حاتم وهو ثقة.
(3) أخرجه البخاري 5 / 38 (دار الفكر) ومسلم في كتاب الزكاة (134).
(4) أخرجه أحمد في المسند 3 / 77 والبيهقي في الدلائل 5 / 178 وابن سعد في الطبقات 2 / 1 / 111.
(5) أخرجه البخاري 13 / 238 (7244) ومسلم في كتاب الزكاة (139).
(6) ذكره الهيثمي في المجمع 10 / 35 وعزاه للطبراني في الاوسط عن شيخه مقدام بن داود وهو ضعيف.
وقال ابن دقيق العيد: إنه وثق، وبقية رجاله ثقات.
(*)(3/185)
السائب بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الفئ الذي أفاء الله تعالى بحنين من غنائم هوازن، فأحسن، فذكر الحديث وفيه: ثم قال: (يا معشر الانصار ألم يمن الله عليكم بالايمان وخصكم بالكرامة وسماكم بأحسن الاسماء: أنصار الله وأنصار رسوله ؟ ولولا الهجرة لكنت أمرأ أنصاريا ولو سلك الناس واديا وسلكتم واديا لسلكت واديكم، أو لا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والنعم وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم) ؟ قالوا: قد رضينا.
قال: (أجيبوني فيما قلت).
قالت الانصار: يا رسول الله وجدتنا في ظلمة فأخرجنا الله بك، ووجدتنا على شفا حفرة من النار فأيدنا الله بك، ووجدتنا ضلالا فهدانا الله بك، فرضينا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا فاصنع يا رسول الله ما شئت فأوسع الحل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أجبتموني بغير هذا القول لقلت صدقتم، لو قلتم: ألم تأتنا طريدا فآويناك، ومكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، قبلنا مارد الناس عليك ؟ لو قلتم هذا لصدقتم).
فقالت الانصار: (بل الله ذو الفضل علينا وعلى غيرنا).
ثم بكوا فكثر بكاؤهم وبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم.
رواه الطبراني في الكبير (1).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ملحفة متعطفا بما على منكبيه وعليه عصابة دسماء حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد أيها الناس فإن الناس يكثرون وتقل الانصار حتى يكونوا كالملح في الطعام.
فمن ولي منك أمرا يضر فيه أحدا أو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم).
رواه البخاري (2).
وعن أنس رضي الله عنه يرفعه: (الانصار كرشي وعيبتي والناس سيكثرون ويقلون فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم)، رواه البخاري (3).
وعن أنس أيضا، قال: مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الانصار وهم يبكون فقال: ما يبكيكم ؟ قالوا، ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم
فأخبره بذلك.
قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أوصيكم بالانصار فإنهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم (4))، رواه الشيخان والنسائي والترمذي.
وعن أسيد بن حضير يرفعه: (الانصار كرشي وعيبتي وإن الناس يكثرون وهم يقلون،
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير 7 / 180 وذكره السيوطي في الدر 3 / 270 وعزاه للطبراني.
(2) أخرجه البخاري 6 / 628 (3628).
(3) أخرجه البخاري 7 / 151 (3801).
(4) أخرجه البخاري 7 / 120 (3799).
(*)(3/186)
فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم) (1)، حديث صحيح رواه الطبراني في الكبير.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما، يرفعه: (اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم)، يعني الانصار، رواه البزار والطبراني وهو حديث حسن.
وعن أبي سعيد يرفعه: (ألا إن عيبتي التي أوى إليها أهل بيتي وأن كرشي الانصار فاعفوا عن مسيئهم واقبلوا من محسنهم) (2) حديث صحيح حسن رواه الترمذي.
وعن كعب بن مالك عن رجل من الصحابة قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه واستغفر للشهداء ا لذين قتلوا بأحد ثم قال: (إنكم يا معشر المهاجرين تزيدون وإن الانصار لا يزيدون، وإن الانصار عيبتي التي آوي إليها، أكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم، وإنهم قد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم)، رواه الامام أحمد عن عبد الله بن زيد بن عاصم في ذكر قسم غنائم هوازن في المؤلفة قلوبهم، وفي آخره: (إنكم ستلقون بعدي أثره فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) (3)، رواه الشيخان.
وعن أبي طلحة يرفعه: (أقرئ قومك السلام فإنهم ما علمت أعفة صبر)، حديث حسن صحيح، رواه الترمذي والبزار.
وعن عائشة رضي الله عنها ترفعه: (ما يضر امرأة نزلت بين بيتين من الانصار أو نزلت بين أبويها)، رواه الامام أحمد، والبزار.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: (أسلمت الملائكة طوعا، وأسلمت الانصار طوعا وأسلمت عبد القيس طوعا) حديث حسن رواه الطبراني في الاوسط (4).
وعن أنس رضي الله عنه يرفعه: (ألا إن لكل نبي تركة وضيعة، وإن تركتي وضيعتي الانصار فاحفطوني فيهم) (5)، رواه الطبراني في الاوسط.
وعنه يرفعه: (الانصار أحبائي، وفي الدين إخواني وعلى الاعداء أعواني (6)، غريب رواه الديلمي في مسند الفردوس.
تنبيه في غريب ما سبق (ألسنا) جمع لسان.
(قيلة) بفتح القاف وسكون المثناة التحتية، أم الاوس والخزرج.
__________
(1) ذكره الهيثمي في المجمع 10 / 40 وعزاه للطبراني وقال: ورجاله رجال الصحيح.
(2) أخرجه الترمذي (3904) وابن أبي شيبة في المصنف 12 / 159 وذكره السيوطي في الدر 3 / 270.
(3) أخرجه البخاري 7 / 146 (3792).
(4) ذكره الهيثمي في المجمع 10 / 31 وعزاه للطبراني في الاوسط عن شيخه علي بن سعيد بن بشير وفيه لين، وبقية رجاله ثقات.
(5) ذكره الهيثمي في المجمع 10 / 35 وعزاه للطبراني في الاوسط وقال: إسناده جيد.
(6) أخرجه ابن الجوزي في العلل 1 / 284 وابن حجر في اللسان 2 / 858 والذهبي في اللسان (1810) وذكره المتقي الهندي في الكنز (33746).
(*)(3/187)
(التقم أذنه) أي ساره بشئ.
(الاسارير): خطوط الجبهة واحدها سر أو سرر والجمع أسرار، وأسارير جمع الجمع، وفي تكملة الصغاني عن بعض أهل اللغة هي الخدان والوجنتان ومحاسن الوجه.
(إزائي) بالزاي أي حذائي أي بالقرب مني.
(السكك) (1) جمع سكة بالكسر الزقاق.
(الدثار) (2) بالكسر والمثلثة ما يتدثر به الانسان، وهو ما يلقيه عليه من كساء وغيره فوق الشعار.
(الشعار): ما ولي الجسد، سمي بذلك لانه يلي الشعر، المعنى أنهم الخاصة والبطانة.
(الشعب): بالكسر الطريق في الجبل.
(الدبر): بفتح الدال المهملة وسكون الموحدة يقال لجماعة النحل والزنابير أيضا قيل وهو المراد هنا.
(ا لاقلح): بالقاف والمهملة.
(قسما): بكسر القاف أي نصيبا.
(طريدا): أي مخرجا من بلده.
(الملحفة): بكسر الميم الملاءة التي يلتحف بها.
(متعطفا بها): أي ثانيا طرفي الملحفة على كتفيه.
(دسماء): أي سوداء.
(الكرش): ككتف ويخفف، والمراد هنا ما يحفظ فيه نفيس المتاع.
(العيبة) (3) من الرجل موضع سره وأمانته.
(أثرة): بفتح الهمزة والمثلثة الاسم من آثر يؤثر إيثارا إذا أعطى أراد أن يستأثر عليكم فيفضل غيركم في نصيبه من الفئ.
(أعفة) جمع عفيف وهو من يكف عما لا يحل ولا يجمل.
(صبر) (4): بضم أوله وثانيه جمع صبير وهو هنا مقدم القوم.
(التركة): الشئ المتروك أي الذي تركه الميت لوارثه.
(الضيعة): بالفتح العقار.
__________
(1) انظر لسان العرب 3 / 2051.
(2) انظر لسان العرب 2 / 1327.
(3) انظر اللسان 4 / 3184.
(4) انظر لسان العرب 4 / 2393.
(*)(3/188)
الباب الثالث في بدء اسلامهم رضي الله عنهم
قال ابن إسحق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره كلما اجتمع له ناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله تعالى وإلى الاسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاءهم به من الله تعالى من الهدى والرحمة، ولا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى وعرض عليه ما عنده.
وروى ابن إسحق بسند جيد عن محمود بن لبيد قال: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع [ مكة ] - فيما ذكره ابن إسحق، وبشر فيما ذكره الزبير بن بكار - في فتية من قومه بني عبد الاشهل يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم جلس إليهم فقال لهم: هل لكم في خير مما جئتم له ؟).
فقالوا له: وما ذاك ؟ قال، (أنا رسول الله بعثني إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وأنزل علي الكتاب)، ثم ذكر لهم الاسلام وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ، وكان غلاما حدثا: (أي قوم هذا والله خير مما جئتم له).
فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا.
فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وئسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة.
وكانت وقعة بعاث بين الاوس والخزرج ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك.
قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومي عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله تعالى ويكبره ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكون أن قد مات مسلما، لقد كان
استشعر الاسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع.
وروى أبو زرعة الرازي في دلائل النبوة له بسند حسن، والحاكم وصححه عن معاذ بن رفاعة بن رافع (1) عن أبيه عن جده أنه خرج هو وابن خالته معاذ بن عفراء (2) حتى قدما مكة (3)،
__________
(1) معاذ بن رفاعة الانصاري الزرقي..ذكره الواقدي وقال: شهد غزوة بني قريظة مع النبي صلى الله عليه وسلم على فرس، قلت: وفي التابعين ماذ بن رفاعة آخر يروي عن أبيه وجابر وخولة روى عنه عبد الله بن محمد بن عقيل.
الاصابة 6 / 108.
(2) معاذ بن الحرث بن رفاعة بن الحرت بن سواد بن مالك بن غ نم بن مالك النجاري الانصاري الخزرجي المعروف بابن عفرا وقيل: بحذف الحرث الثاني في نسبه وعفراء أمه عرف بها..شهد العقبة الاولى مع الستة الذين هم أول من لقي النبي صلى الله عليه وسلم من الاوس والخزرج وشهد بدرا وشرك في قتل أبي جهل وعاش بعد ذلك وقيل: بل جرح ببدر فمات من جراحته.
الاصابة 6 / 107، 108.
(3) مكة بيت الله الحرام: بلدة فيها الكعبة القبلة التي يتوجه المسلمون إليها في صلاتهم من سائر الافاق، سميت مكة، لانها تمك أعناق الجبابرة، أي تذهب نخوتهم وتذلهم.
وقيل: لتمكك الناس بها، وهو ازدحامهم.
وتسمي بكة أيضا - بالباء - لتبكك الناس بها، وهو ازدحامهم.
وقيل: مكة اسم المدينة، وبكة اسم للبيت.
مراصد الاطلاع 3 / 1303.
(*)(3/189)
فلما هبطا من الثنية (1)، رأى رجلا تحت شجرة.
قال: وهذا قبل خروج الستة من الانصار، فلما رأيناه قلنا نأتي هذا الرجل لنستودعه راحلتنا حتى نطوف بالبيت، فجئنا فسلمنا عليه تسليم أهل الجاهلية، فرد علينا تسليم أهل الاسلام، وقد سمعت بالنبي، فأنكرنا فقلنا: من أنت ؟ قال: (انزلوا) فنزلنا فقلنا: أين هذا الرجل الذي يدعي ما يدعي ويقول ما يقول ؟ قال: (أنا هو).
قلنا: أعرض علينا الاسلام، فعرض، وقال: من خلق السموات والارض والجبال ؟) قلنا: خلقهن الله عز وجل.
قال: (فمن خلقكم ؟) قلنا: الله عز وجل.
قال: (فمن عمل هذه الاصنام التي تعبدون ؟) قلنا: نحن.
قال: (الخالق أحق بالعبادة أو المخلوق ؟) قلنا: ا لخالق.
قال: (فأنتم أحق أن تعبدوا ربكم وأنتم عملتموهن والله أحق أن تعبدوه من شئ عملتموه وأنا أدعوكم إلى عبادة الله عز وجل وشهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله، وصلة الرحم وترك العدوان وإن غضب
الناس).
فقالا: لو كان هذا الذي تدعو إليه باطلا لما كان من معالي الامور ومحاسن الاخلاق، فأمسك راحلتنا حتى نأتي البيت.
فجلس عنده معاذ بن عفراء.
قال رافع: فجئت البيت فطفت وأخرجت سبعة أقداح وجعلت له بينها قدحا، فاستقبلت البيت وقلت: اللهم إن كان ما يدعو إليه محمد حقا فأخرج قدحه سبع مرات، فضربت بها سبع مرات، فصحت: (أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)، فاجتمع الناس علي وقالوا: مجنون رجل صبأ، فقلت: بل رجل مؤمن، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فلما رآني معاذ بن عفراء قال: لقد جئت بوجه ما ذهبت به يا رافع، لقد جئت وآمنت.
وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يوسف، وسورة العلق: (اقرأ باسم ربك الذي خلق.
خلق الانسان من علق).
ثم خرجنا راجعين إلى المدينة.
بيان غريب ما سبق ((2) الحلف) - بكسر الحاء وسكون اللام: المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والاتفاق.
(أبو الحيسر): بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية بعدها سين مهملة ثم راء، ذكره ابن مندة في الصحابة، وذكره الحافظ في الاصابة في الاسماء وفي الكنى في القسم الرابع فيمن ذكر في الصحابة غلطا.
(إياس بن معاذ): ذكره ابن السكن وابن حبان في الصحابة، وذكره البخاري في تاريخه الاوسط فيمن مات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والانصار.
__________
(1) ثنية أم قردان الثنية في الاصل كل عقبة في جبل مسلوكة.
وقردان بالكسر جمع قراد، وهي بمكة عند بئر الاسود بن سفيان المخزومي.
(2) المعجم الوسيط 1 / 192.
(*)(3/190)
(الثنية (1)) كل عقبة مسلوكة.
(الاقداح): جمع قدح - بكسر القاف - وهو عود السهم إذا قوم وإلى أن يراش فإذا
ركب فيه النصل وريش فهو سهم، والمراد هنا السهم الذي يستقسمون به.
__________
(1) انظر لسان العرب 1 / 516.
(*)(3/191)
الباب الرابع في ذكر يوم بعاث
قالت عائشة رضي الله عنها: (كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا، فقدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم في الاسلام).
رواه البخاري (1).
بيان غريبه (بعاث): بضم الموحدة، وحكى القزاز في الجامع فتحها وبتخفيف العين المهملة وآخره المثلثة - قال الجمهور - وقال ابن دريد: وذكر عن الخليل إعجامها ولم يسمع من غيره وإنما هو بالعين المهملة.
وذكر الازهري أن الذي صحفه الليث عن الخليل.
وذكر القاضي أن الاصيلي (2) أحد رواة الصحيح رواه بالوجهين أي بالغين المعجمة والعين المهملة، وأن وجها واحدا هو الذي وقع في رواية أبي ذر بالغين المعجمة.
ويقال إن أبا عبيدة ذكره بالمعجمة أيضا.
وبعاث: مكان ويقال حصن، وقيل مزرعة عند بني قريظة على ميلين من المدينة كانت به وقعة بين الاوس والخزرج قتل فيه كثير منهم، وكان رئيس الاوس فيه.
حضير - بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة وسكون التحتية بعدها راء - والد أسيد بن حضير، وكان يقال له: حضير الكتائب، وبه قتل، وكان رئيس الخزرج يومئذ عمرو بن النعمان البياضي فقتل بها أيضا.
وكان النصر فيها أولا للخزرج ثم هزم حضير فرجعوا وانتصرت الاوس وجرح حضير يومئذ فمات منهزما، وذلك قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل بأربعين سنة وقيل بأكثر.
قال الحافظ: (الأول أصح).
وذكر أبو الفرج الاموي أن سبب ذلك كان من قاعدتهم أن الاصيل لا يقتل بالحليف، فقتل رجل من الاوس حليفا للخزرج، فأرادوا أن
يقيدوه، فامتنعوا، فوقعت بينهما الحرب لاجل ذلك، فقتل فيها من أكابرهم من كان لا يؤمن أن يتكبر، ويأنف أن يدخل في الاسلام حتى لا يكون تحت حكم غيره، وقد كان بقي منهم من هذا النحو عبد الله بن أبي بن سلول كما سيأتي بيان ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري 5 / 131 (3846).
(2) عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جعفر، أبو محمد، الاموي المعروف بالاصيلي: عالم بالحديث والفقه.
من أهل أصيلة (في المغرب) أصله من كورة (شدونة) ولد فيها ورحل به أبوه إلى (آصيلا) من بلاد العدوة فنشأ فيها.
ويقال: ولد في آصيلا.
رحل في طلب العلم، فطاف في الاندلس والمشرق.
ودخل بغداد سنة 351 ه، وعاد إلى الاندلس في آخر أيام المستنصر، فمات بقرطبة.
له كتاب (الدلائل على أمهات المسائل) في اختلاف مالك والشافعي وأبي حنيفة.
الاعلام 4 / 63.
(*)(3/192)
(سرواتهم) (1): بفتح المهملة والراء المخففة والواو، أي خيارهم، والسروات جمع السراة - بفتح المهملة وتخفيف الراء - والسراة جمع السري، وهو الشريف.
(جرحوا) للاكثر بضم الجيم والراء المكسورة مثقلا ومخففا فحاء مهملة، وعند الاصيلي بجيمين جرجوا أي اضطرب قولهم، من قول العرب جرج الخاتم إذا جال في الاصبع، وعند ابن أبي صفرة بحاء مهملة مفتوحة من الحرج: أي ضيق الصدر، وعند المستملي وعبدوس والقابسي: (وخرجوا) بفتح الخاء المعجمة والراء من الخروج، وصوب ابن الاثير الأول وقال صاحب التقريب إنه المشهور، وصوب غيره الثالث.
__________
(1) لسان العرب 3 / 2002.
(*)(3/193)
الباب الخامس في بيعة العقبة الاولى وكانت في رجب.
وقال الزهري وابن عقبة وابن إسحق: (فلما أراد الله سبحانه وتعالى
إظهار دينه وإعزاز رسوله وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الانصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم.
فبينما هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا.
فقال لهم: (من أنتم) ؟ قالوا: نفر من الخزرج.
قال: (أمن موالي يهود ؟) قالوا: نعم.
قال: (أفلا تجلسون أكلمكم ؟) قالوا: بلى، من أنت ؟ فانتسب لهم وأخبرهم خبره.
فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الاسلام، وتلا عليهم القرآن.
وكان مما صنع الله لهم به من الاسلام أن يهود، كانوا معهم في بلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا [ هم ] أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد عزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شئ قالوا لهم: إن نبيا مبعوث الان قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم قتل عاد وإرم.
فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله أيقنوا به واطمأنت قلوبهم إلى ما سمعوا منه وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب من صفته، فقال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه [ فأجابوه إلى ما دعاهم إليه ] بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الاسلام.
ثم قالوا: قد علمت الذي بيننا من الاختلاف وسفك الدماء، ونحن حراص على ما أرسلك الله به، مجتهدون لك بالنصيحة، وإنا لنشير عليك برأينا، فامكث على رسلك باسم الله حتى نرجع إلى قومنا، فنذكر لهم شأنك، وندعوهم إلى الله ورسوله، فلعل الله يصلح ذات بينهم ويجمع لهم أمرهم، فإنا اليوم متباغضون متباعدون، ولكنا نواعدك الموسم من العام المقبل.
فرضي بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفوا راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا.
وهم فيما ذكر ابن إسحق في رواية ستة نفر من الخزرج: 1 - من بني النجار: أبو أمامة أسعد بن زرارة - بضم الزاي - ابن عدس بن عبيد بن ثعلبة ابن غنم بن مالك بن النجار.
2 - عوف بن الحارث ابن رفاعة - بكسر الراء وبالفاء - ابن الحارث بن سواد بن
مالك بن غنم بن مالك بن النجار وهو ابن عفراء.
3 - ومن بني زريق - بتقديم الزاي على الراء - ابن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن(3/194)
مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج: رافع بن مالك بن العجلان.
قال ابن الكلبي: وهو أول من أسلم من الانصار.
4 - ومن بني سلمة - بلام مكسورة - [ ابن سعد بن علي بن أسد ]: قطبة - بضم القاف وسكون الطاء المهملة وبالموحدة - ابن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب ابن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج بن حارثة.
5 - ومن بني حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة: عقبة - بضم العين المهملة وسكون القاف - ابن عامر بن نابي - بنون فألف فباء موحدة فمثناة تحتية - ابن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة.
6 - ومن بني عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة: جابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد...وفي رواية جرير بن أبي حازم عن ابن إسحاق بدل عقبة بن عامر، معاذ بن عفراء، وعند موسى بن عقبة عن الزهري عن عروة أنهم ثمانية.
وهم: معاذ بن عفراء، وذكوان - بفتح الذال المعجمة وسكون الكاف - ابن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق، وعبادة - بضم العين المهملة فباء موحدة - ابن الصامت بن قيس بن الاصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن الخزرج بن حارثة، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة من بني غصينة ثم من بلي حليف لهم.
وأبو الهيثم بن التيهان (1) بن جشم بن الحارث، وعويم - بضم العين المهملة وفتح الواو وسكون المثناة التحتية - ابن ساعدة من بني عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس بن حارثة.
بيان ما سبق
(العقبة الاولى): قال المحب الطبري: (الظاهر أنها العقبة التي تضاف إليها الجمرة إذ ليس أظهر منها وعن يسار الطريق لقاصد منى من مكة شعب قريب منها، فيه مسجد مشهور عند أهل مكة أنه مسجد البيعة، وهو على نشز من الارض، ويجوز أن يكون المراد من العقبة ذلك النشز، وعلى الأول يكون قد نسب إليها لقربه منها) قال في النور: (وجزم غيره بأن البيعة التي وقعت عندها البيعة هي العقبة التي تضاف إليها الجمرة).
__________
(1) أبو الهيثم بن التيهان بن مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الاعلم بن عامر بن زعور الانصاري الاوسي.
انظر الاصابة 7 / 209.
(*)(3/195)
(موالي يهود): أي حلفاؤهم، وهم سموا حلفاء لانهم تحالفوا على التناصر والتعاضد.
(الرهط): بسكون الهاء وتفتح دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة أو منها إلى أربعين.
(يهود): لا ينصرف للعلمية والتأنيث.
(أظل زمانه): بفتح الظاء المعجمة وتشديد اللام أي قرب ودنا.
(قتل عاد وإرم): أي نستأصلكم.
(تعلموا): بفتح اللام المشددة ومعناه اعلموا.(3/196)
الباب السادس في بيعة العقبة الثانية
قال ابن إسحاق: فلما كان العام المقبل وافى الموسم من الانصار اثنا عشر رجلا، فبايعوا رسول الله صلى الهل عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، وهم: أسعد بن زرارة، وذكوان بن عبد قيس الزرقي، وعبادة بن الصامت، والعباس بن عبادة بن نضلة - بالنون والضاد المعجمة - وقطبة بن عامر بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وعوف بن
الحارث - بالفاء - ابن رفاعة، وعويم بن ساعدة، ومالك بن التيهان - بمثناة تحتية مخففة عند أهل الحجاز وعند غيرهم بتشديدها - ومعوذ - بميم مضمومة فعين مهملة مفتوحة فواو مكسورة مشددة فذال معجمة - ابن الحارث، أخو عوف السابق، ويزيد بن ثعلبة أبو عبد الرحمن البلوي حليف لهم.
فبايع هؤلاء على بيعة النساء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الشيخان والبيهقي، واللفظ له عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض علينا الحرب، على ألا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف.
قال: (فمن وفى ذلك منكم فأجره على الله).
وفي لفظ: (فله الجنة)، (ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة وطهور، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فأمره إلى الله إن شاء ع ذب وإن شاء غفر).
فبايعناه على ذلك.
قال ابن إسحاق: (فلما انصرف القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي).
وذكر ابن إسحاق في رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مصعبا حين كتبوا إليه ببعثه إليهم، وهو الذي ذكره [ موسى ] بن عقبة إلا أنه جعل المرة الثانية هي الاولى.
قال البيهقي: (وسياق ابن إسحق أتم).
قال ابن إسحاق: (وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الاسلام ويفقههم في الدين، فكان يسمى في المدينة المقرئ والقارئ، وكان منزله على أسعد بن زرارة [ بن عدس أبي أمامة ]، وذلك أن الاوس كره بعضهم أن يؤمه بعض.
وقوله (على بيعة النساء) يعني على وفق ما نزلت عليه بيعة النساء بعد ذلك عام الحديبية، وكان هذا مما نزل على وفق ما بايع عليه أصحابه ليلة العقبة، وليس هذا بعجيب فإن القرآن نزل بموافقات عمر بن الخطاب.
(تنبيه): ذكروا هنا أن أسعد بن زرارة أول من جمع بالصحابة قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي الكلام على ذلك في الخصائص إن شاء الله تعالى.(3/197)
الباب السابع في إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير رضي الله تعالى عنهما
روى ابن أبي الدنيا والخرائطي والبيهقي عن عبد المجيد بن أبي عيسى عن أبيه عن جده، وابن عساكر عن البخاري في تاريخه الاوسط عن شيخه أبي محمد الكوفي قالا: سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس: فإن يسلم السعدان يصبح محمد * بمكة لا يخشى خلاف المخالف فلما أصبحوا قال أبو سفيان - وفي لفظ قريش - من السعدان ؟) (أسعد بن بكر أم سعد بن هذيم ؟) فلما كانت الليلة الثانية سمعوا قائلا يقول: فيا سعد سعد الاوس كن أنت ناصرا * ويا سعد سعد الخزرجيين الغطارف أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا * على الله في الفردوس زلفة عارف فإن ثواب الله للطالب الهدى * جنان من الفردوس ذات زخارف فقالت قريش: هذا سعد بن معاذ وسعد بن عبادة: قال ابن إسحاق: وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير، يريد به دار بني عبد الاسهل ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الاشهل ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر فجلسا فيه، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الاشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به قال سعد بن معاذ لاسيد بن حضير: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما عن أن يأتيا دارنا، فإنه لولا أن أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، فهو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما.
قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته، ثم أقبل إليهما.
فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه فاصدق الله فيه.
قال مصعب: إن يجلس أكلمه.
قال: فوقف عليهما متشتما، قال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره ؟ فقال: أنصفت.
ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالاسلام وقرأ عليه القرآن.
فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الاسلام قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله ! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي.
فقام فاغتسل(3/198)
وطهر ثوبيه وتشهد بشهادة الحق، ثم قام فصلى ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الان: سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت ؟ قال: كلمت الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك.
قال، فقام سعد مغضبا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من أمر بني حارثة.
فأخذ الحربة من يده، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا.
ثم خرج إليهما، فلما رآهما مطمئنين عرف سعد أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما.
فوقف عليهما متشتما، ثم قال لاسعد بن زرارة: يا أبا أمامة أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره ؟ وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب: جاءك والله سيد من وراءه من قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان.
قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع ؟ فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره.
قال سعد: أنصفت.
ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الاسلام وقرأ عليه القرآن.
قالا: فعرفنا والله في وجهه الاسلام قبل أن يتكلم لاشراقه وتسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا ا لدين ؟ قالا: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين.
ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الاشهل كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة.
قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله.
قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الاشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة، حاشا الاصيرم وهو عمرو بن ثابت بن وقش فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم واستشهد ولم يسجد لله سجدة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة.
قال ابن إسحاق: ورجع سعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الاسلام حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ومسلمات إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقف، وتلك أوس الله وهم من الاوس بن حارثة، وذلك أنه كان فيهم أبو(3/199)
قيس بن الاسلت واسمه صيفي.
وكان شاعرا لهم قائدا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الاسلام، فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق.
قال سعيد بن يحيى بن سعيد الاموي (1): كان أبو قيس هذا قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الاوثان واغتسل من الجنابة، وتطهر من الحائض من النساء، وهم بالنصرانية ثم أمسك عنها ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه فيه حائض ولا جنب، وقال: أعبد إله إبراهيم حين فارق الاوثان وكرهها حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير، وكان قوالا بالحق معظما لله في الجاهلية وله في ذلك أشعار حسان.
بيان غريب ما سبق (الحائط): البستان.
(لا أبالك): هذا أكثر ما يستعمل في المدح أي، لا كافي لك غير نفسك، وقد يذكر في معرض الذم كما يقال: لا أم لك، وقد يذكر في معرض التعجب ودفعا للعين كقولهم: لله درك، وقد تكون بمعنى (جد في أمرك وشمر)، لان من له أب اتكل عليه في بعض شأنه، وقد تحذف اللام فيقال: (لا أباك).
(دارينا): هو تثنية دار، والدار هي القبيلة والعشيرة ا لمجتمعة في المحلة فتسمى المحلة دارا.
(النادي): متحدث القوم.
(ليخفروك) (2): بضم أوله وكسر الفاء رباعيا أي لينقضوا عهدك، يقال: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وذمامه.
(الغطارف) (3): جمع غطريف بكسر الغين المعجمة: السيد.
(متشتما): من الشتم وهو السب.
__________
(1) سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص، أبو عثمان الاموي.
سمع أباه، وعمه عبد الله بن سعيد، وعبد الله بن المبارك، وعيسى بن يونس، وأبا القاسم بن أبي الزناد، وأبا بكر بن عياش، وعبد الرحيم بن سليمان، ومروان بن معاوية، وشجاع بن الوليد مات في سنة تسع وأربعين ومائتين.
انظر تاريخ بغدا 9 / 90.
(2) انظر لسان العرب 2 / 1209.
(3) انظر لسان العرب 5 / 3270.
(*)(3/200)
الباب الثامن في بيعة العقبة الثالثة
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم مجنة وعكاظ وفي المواسم بمنى يقول: (من يؤويني ؟ ومن ينصرني ؟ حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة)، فلا يجد أبدا أحدا يؤويه ولا ينصره، حتى أن الرجل ليرحل من مضر أو اليمن، فيأتيه قومه وذوو رحمه فيقولون: احذر فتى قريش لا يفتنك يمضي بين رحالهم، وهم يشيرون إليه بأصابعهم، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم تبق دار من دور يثرب إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الاسلام.
ثم بعثنا الله تعالى فأتمرنا واجتمعنا فقلنا: متى نذر رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف في جبال مكة ويخاف ؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين حتى توافينا عنده، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك ؟ قال: (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العشر واليسر، وعلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله، لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة).
(فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة، وهو أصغر السبعين رجلا إلا أنا فقال: رويدا يا أهل يثرب.
فإنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم وعلى قتل خياركم وعلى مفارقة العرب كافة، فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة، فذروه فهو أعذر لكم عند الله.
فقلنا: ابسط يدك يا أسعد بن زرارة، فو الله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها.
فقمنا إليه نبايعه رجلا رجلا، يأخذ علينا شرطه ويعطينا على ذلك الجنة)، رواه الامام أحمد والبيهقي.
وروى ابن إسحاق عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا - زاد الحاكم - وكنا خمسمائة، حتى إذا كنا بظاهر البيداء قال: يا هؤلاء إني قد رأيت رأيا، ووالله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا.
فقلنا: وما ذاك ؟ قال: قد رأيت ألا أدع هذه البنية مني بظهر - يعني
الكعبة - وأن أصلي إليها.
قال: فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلي إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه، فقال: إني لمصل إليها.
فقلنا له: لكنا لا نفعل.
قال فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا(3/201)
إلى الشام وصلى هو إلى الكعبة حتى قدمنا مكة وقد كنا عبنا عليه ما صنع وأبى إلا الاقامة على ذلك فلما قدمنا مكة قال لي: يا ابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أسأله عما صنعت.
في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شئ لما رأيت من خلافكم إياي فيه.
قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا لا نعرفه لم نره قبل ذلك فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تعرفانه ؟ فقلنا: لا.
قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه ؟ قلنا: نعم.
وقد كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا.
قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس.
قال: فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس معه.
فسلمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: (هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل ؟) قال: نعم، هذا ا لبراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك.
قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشاعر ؟) قال: نعم.
فقال البراء بن معرور: يا نبي الله، إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله تعالى للاسلام فرأيت ألا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي من ذلك شئ، فماذا ترى يا رسول الله ؟ قال: (قد كنت على قبلة لو صبرت عليها).
قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى معنا إلى الشام.
قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس ذلك كما قالوا، نحن أعلم به منهم.
قال ابن هشام: وقال عون بن أيوب الانصاري: ومنا المصلي أول الناس مقبلا * على كعبة الرحمن بين المشاعر (1) يعني البراء بن معرور (2).
قال كعب: ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق - زاد ابن سعد - (ليلة النفر الأول [ إذا هدأت الرجل ] أن يوافوه في
الشعب الايمن إذا انحدروا من منى بأسفل العقبة حيث المسجد الحرام اليوم، وأمرهم ألا ينبهوا نائما ولا ينتظروا غائبا).
[ قال ]: فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا أخذناه معنا، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا فكلماه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من سادتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا، ثم
__________
(1) البيت في الروض الانف 2 / 189.
(2) البراء بن معرور بن صخر بن سابق بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج الانصاري الخزرجي السلمي..أبو بشر قال موسى بن عقبة عن الزهري: كان من النفر الذين بايعوا البيعة الاولى بالعقبة وهو أول من بايع في قول ابن اسحاق وأول من استقبل القبلة وأول من أوصلى بثلث ماله وهو أحد النقباء.
الاصابة 1 / 149.
(*)(3/202)
دعوناه إلى الاسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة.
قال: فأسلم وشهد معنا العقبة [ وكان نقيبا ].
[ قال ]: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة (1) بنت كعب، أم عمارة، إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو (2) بن عدي [ بن نابي، إحدى نساء بني سلمة وهي أم منيع ].
فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم - وذكر ابن سعد وأبو معشر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقهم وانتظرهم - حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له.
فلما جلس كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب فقال: (يا معشر الخزرج، - قال: وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الانصار الخزرج خزرجها وأوسها - إن محمدا منا
حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الان فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده.
وروى الامام أحمد عن الشعبي عن أبي مسعود البدري (3) رضي الله عنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس إلى السبعين من الانصار عند العقبة تحت الشجرة فقال: (ليتكلم متكلمكم ولا يطل الخطبة فإن عليكم من المشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم).
فقلنا (قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك ولربك ما أحببت).
قال: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الاسلام، ثم قال: (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم).
قال: فأخذ البراء بن معرور
__________
(1) نسيبة بفتح النون أيضا بنت كعب بن عمرو بن عوف بن عمرو بن مبدول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار الانصارية أم عمارة مشهورة بكنيتها واسمها معا.
الاصابة 8 / 198.
(2) أسماء بنت عمرو بن عدي بن ياسر بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الانصارية السلمية أم معاذ بن جبل وكنيتها أم منيع..ذكر ابن إسحاق بسند صحيح عن كعب بن مالك أنها كانت مع من شهد العقبة مع السبعين هي نسيبة بنت كعب وقال في التجريد وقيل: هي أسماء بنت عدي بن عمرو.
الاصابة 8 / 8.
(3) عقبة بن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة: - بفتح الهمزة وكسر المهملة - ابن عطية بن جدارة بجيم - ابن عوف بن الخزرج الانصاري البدري أبو مسعود.
عده فيمن شهد بدرا البخاري تبعا لابن شهاب والحكم بن عتيبة وابن إسحاق.
وقال سعيد بن إبراهيم: لم يشهدها.
له مائة وحديثان، اتفقا على تسعة، وانفرد (خ) بحديث، و (م) بسبعة.
وعنه ابن بشير وأبو وائل وقيس بن أبي حازم.
قال الهيثم: مات سنة أربعين.
وقيل: بعد سنة ثلاثين بسنة أو سنتين.
(*)(3/203)
بيده، ثم قال: (نعم فوالله الذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر).
قال: فاعترض القول، والبراء
يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو الهيثم بن التيهان، فقال: (يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حيالا وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟) قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (بل الدم الدم والهدم الهدم) أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم - (أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم).
قال كعب: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم).
فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس: فمن الخزرج: أبو أمامة أسعد بن زرارة نقيب بني النجار.
ورافع بن مالك بن العجلان نقيب بني زريق، وسعد بن الربيع، بفتح الراء، وعبد الله بن رواحة نقيب بني الحارث بن الخزرج وسعد بن عبادة والمنذر بن عمرو نقيب بني ساعدة والبراء بن معرور - بالعين المهملة وعبد الله بن عمرو بن حرام وعبادة بن الصامت.
ومن الاوس: أسيد بن حضير - بالحاء المهملة والضاد المعجمة - نقيب بني عبد الاشهل ورفاعة بن عبد المنذر وسعد بن خيثمة نقيبا بني عمرو بن عوف.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء: (أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي) - يعني المسلمين.
قالوا: نعم.
قال ابن هشام: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولا يعدون رفاعة.
وروى البيهقي عن الامام مالك رضي الله عنه قال: حدثني شيخ من الانصار أن جبريل عليه السلام كان يشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من يجعله نقيبا ليلة العقبة.
قال مالك: وكنت أعجب كيف جاء هذا ؟ رجلان من قبيلة ورجل من أخرى، حتى حدثت بهذا الحديث: أن جبريل هو الذي ولاهم وأنه أشار إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو نعيم عن ابن عمر قال: (لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم النقباء قال: لا يجد امرؤ في نفسه شيئا إنما أخذ من أشار إليه جبريل) وروى أنه صلى الله عليه وسلم نقب على النقباء أسعد بن زرارة فلما توفي أسعد والمسجد يبنى اجتمع بنو النجار
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يجعل منهم شخصا نقيبا عليهم، فقال لهم: (أنتم أخوالي وأنا نقيبكم) (1) وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخص بها بعضهم دون بعض قال السهيلي: (وإنما
__________
(1) ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 3 / 229.
(*)(3/204)
جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر نقيبا اقتداء بقول الله تعالى في قوم موسى (وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) (المائدة: 12).
وقال كعب بن مالك يذكرهم فيما رواه ابن هشام عن أبي زيد (الانصاري): فأبلغ أبيا أنه فال (1) رأيه * وحان غداة الشعب والحين واقع أبى الله ما منتك نفسك إنه * بمرصاد أمر الناس راء وسامع وأبلغ أبا سفيان أن قد بدا لنا * بأحمد نور من هدى الله ساطع فلا ترعين في حشد أمر تريده * وألب وجمع كل ما أنت جامع ودونك فاعلم أن نقض عهودنا * أباه عليك الرهط حين تبايعوا أباه البراء وابن عمرو كلاهما * وأسعد يأباه عليك ورافع وسعد أباه الساعدي ومنذر * لانفك إن حاولت ذلك جادع (2) وما ابن ربيع إن تناولت عهده * بمسلمه لا يطمعن ثم طامع وأيضا فلا يعطيكه ابن وراحة * وإخفاره من دونه السم ناقع وفاء به والقوقلي ابن صامت * بمندوحة فما تحاول يافع أبو هيثم أيضا وفي بمثلها * وفاء بما أعطى من العهد خانع وما ابن حضير إن أردت بمطمع * فهل أنت عن أحموقة الغي نازع وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه * ضروح لما حاولت ملامر مانع أولاك نجوم لا يغبك منهم * عليك بنحس في دجى الليل طالع فذكر كعب فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولم يذكر رفاعة.
قال ابن إسحاق: وحدثني
عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الانصاري أخو بني سالم بن عوف: (يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟) قالوا: نعم.
قال: (إنكم تبايعونه على حرب الاحمر والاسود من الناس فإن كنتم تريدون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل أسلمتموه فمن الان فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والاخرة وإن كنتم تريدون أنكم وافون له بما عاهدتموه على نهكة الاموال وقتل الاشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والاخرة).
قالوا: (فإنا نأخذه على مصيبة الاموال وقتل الاشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله) ؟ قال: (الجنة).
قالوا: ابسط يدك.
فبسط يده، فبايعوه.
فأما عاصم بن عمر بن قتادة فقال: (والله ما قال ذلك العباس إلا ليشد العقد لرسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) فال رأيه: فيلا، وفيولا: أخطأ وضعف.
انظر المعجم الوسيط 2 / 715.
(2) أنظر الروض الانف 2 / 190، 191.
(*)(3/205)
في أعناقهم).
وأما عبد الله بن أبي بكر فقال: (ما قال ذلك العباس إلا ليؤخر القوم تلك الليلة رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول فيكون أقوى لامر القوم)، فالله أعلم أي ذلك كان، قال ابن إسحاق: (وبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنو عبد الاشهل يقولون: (بل أبو الهيثم بن التيهان).
وفي حديث كعب بن مالك قال: (كان أول من ضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، البراء بن معرور، ثم بايع بعد القوم، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب: هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا أزب العقبة، هذا ابن أزيب، استمع أي عدو الله، أما والله لافرغن لك).
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفضوا إلى رحالكم).
فقال له العباس بن عبادة ابن نضلة، (والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم).
فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا
عليها (حتى أصبحنا).
وذكر سليمان بن طرخان التيمي في كتاب السير له أن إبليس لعنه الله، لما أسلم من أسلم من الانصار صاح ببنيه بين الحجاج: (إن كان لكم بمحمد حاجة فأتوه بمكان كذا وكذا فقد حالفه الذين يسكنون يثرب).
قال: (ونزل جبريل فلم يبصره من القوم أحد، واجتمع الملا من قريش عند صرخة إبليس، فعظم الامر بين المشركين والانصار حتى كاد أن يكون بينهم قتال: ثم إن أبا جهل كره القتال في تلك الايام فقال: يا معشر الاوس والخزرج أنتم إخواننا وقد أتيتم أمرا عظيما، تريدون أن تغلبونا على صاحبنا، فقال له حارثة بن النعمان: نعم وأنفك راغم، والله لو نعلم أنه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجك أيضا لاخرجناك.
فقال أبو جهل: نعرض عليكم أن نلحق بكم من أصحاب محمد من شاء بعد ثلاثة أشهر، ونعطيكم ميثاقا ترضون به أنتم ومحمد لا نحبسه بعد ذلك.
فقالت الانصار: (نعم إذا رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فذكر الحديث.
وقال كعب في حديثه: فقالوا: (يا معشر الخزرج، نه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا لتخرجوه من بين أظهرنا وتبايعوه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم).
قال: فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شئ وما علمنا ه.
وقد صدقوا لم يعلموه.
قال: وبعضنا ينظر إلى بعض.
قال: ثم قام القوم وفيهم الحرث بن هشام بن المغيرة المخزومي - وأسلم بعد ذلك - وعليه نعلان جديدان.
قال: فقلت له كلمة كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا: يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ؟ قال: فسمعها(3/206)
الحرث فخلعهما من رجليه، ثم رمى بهما إلي، فقال: والله لتنتعلنهما.
قال: يقول أبو جابر: [ مه ] أحفظت والله الفتى فاردد عليه نعليه.
قال: قلت: لا والله لا أردهما، فأل والله صالح، لئن صدق الفأل لا سلبنه).
قال ابن إسحاق: (وحدثني عبد الله بن أبي بكر: أنهم أتوا عبد الله بن أبي بن سلول فقالوا له مثل ما ذكر كعب من القول، فقال لهم: والله إن هذا لامر جسيم ما كان
قومي ليتفوقوا علي بمثل هذا وما علمته.
قال: فانصرفوا عنه.
قال: ونفر الناس من منى، فتنطس القوم الخبر، فوجدوه قد كان.
وخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة بأذاخر، والمنذر بن عمرو، وكلاهما كان نقيبا.
فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته وكان ذا جمة وشعر كثير.
قال سعد: فوالله إني لفي أيديهم إذا طلع علي نفر من قريش فيهم رجل وضئ أبيض شعشاع حلو من الرجال.
قال: قلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا.
قال: فلما دنا مني رفع يده فلطمني لطمة شديدة - قال ابن هشام: هو سهيل بن عمرو، قلت: وأسلم بعد ذلك - قال: فقلت في نفسي: لا والله ما عندهم بعد هذا خير.
قال: فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذا أوى إلى رجل ممن كان معهم - قال ابن هشام: هو أبو البختري بن هشام، قلت: ومات كافرا - فقال: ويحك: أما بينك وبين أح د من قريش جوار ولا عهد ؟ قال: قلت: بلى والله ولقد كنت أجير لجبير بن مطعم بن عدي تجارة، وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي، وللحرث بن حرب بن أمية.
قال: ويحك، فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما.
قال: ففعلت وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد عند الكعبة فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الان يضرب بالابطح ليهتف بكما ويذكر أن بينه وبينكما جوارا.
قالا: ومن هو ؟ قال: سعد بن عبادة.
قالا: صدق والله إن كان ليجير لنا تجارنا ويمنعهم أن يظلموا ببلده.
قال: فجاء فخلصا سعدا من أيديهم، فانطلق.
قال ابن إسحاق: وكان أول شعر قيل في الهجرة بيتين قالهما ضرار بن الخطاب بن مرداس أخو بني محارب بن فهر - قلت: وأسلم بعد ذلك.
تداركت سعدا عنوة فأخذته * وكان شفاء لو تداركت منذرا ولو نلته طلت هناك جراحه * وكان حريا أن يهان ويهدرا (1) قال ابن هشام: ويروى: (وكان حقيقا أن يهان ويهدرا) قال ابن إسحاق: فأجابه
حسان بن ثابت فيهما فقال:
__________
(1) انظر ديوان حسان 116.
(*)(3/207)
فلست إلى عمرو ولا المرء منذر * إذا ما مطايا القوم أصبحن ضمرا أتفخر بالكتان لما لبسته * وقد يلبس الانباط ريطا مقصرا فلولا أبو وهب لمرت قصائد * على شرف البرقاء يهوين حسرا فلاتك كالوسنان يحلم أنه * بقرية كسرى أو بقرية قيصرا ولاتك كالثكلى وكانت بمعزل * عن الثكل لو كان الفؤاد تفكرا ولاتك كالشاة التي كان حتفها * بحفر ذراعيها فلم ترض محفرا ولاتك كالغاوي فأقبل نحره * ولم يخشه سهما من النبل مضمرا فإنا ومن يهدي القصائد نحونا * كمستبضع تمرا إلى أهل خيبرا (1) تنبيهات الأول: لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور بإعادة الصلاة التي صلاها إلى الكعبة حيث كان الفرض عليهم إلى بيت المقدس لان البراء أسلم لما شاهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يأمره بإعادة تلك الصلاة من أجل ذلك كذا قيل، والذي يقتضيه سياق القصة أن البراء كان مسلما قبل هجرته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن تكون صلاة البراء إلى الكعبة اتباعا لما علم به من علماء اليهود أن هذا ا لنبي المبعوث في عصرهم هو على دين إبراهيم ودينهم وقبلته الكعبة مستصحبا لاصل الحكم في ذلك، ورجحه على ما وجد فيه من التردد وضده في ثبوته والاختلاف في صحته، وهو وجه من وجوه الترجيح.
وقال السهيلي: إنما لم يأمره صلى الله عليه وسلم بإعادة ما قد صلى لانه كان متأولا.
الثاني: في بيان غريب ما سبق: (مجنة): بميم فجيم مفتوحتين، وكسر بعضهم الميم، سويق بأسفل مكة على بريد منها.
(عكاظ) بالضم: سوق بقرب مكة وراء قرن المنازل.
(مضر) بضم الميم وفتح الضاد المعجمة.
(يؤويني): يضمني إليه ويحوطني.
(فقهنا) بكسر القاف: فهمنا.
(واعدنا) رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجوز بسكون الدال، فيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم منصوبا على أنه مفعول، ويجوز فتح الدال، فرسول مرفوع فاعل.
(ائتمرنا): شاور بعضنا بعضا في ذلك وعزم عليه.
__________
(1) القصيدة في ديوان حسان 117.
(*)(3/208)
(نذر): نترك.
(الشعب) بكسر الشين المعجمة: انفرج بين جبلين.
(القطا) (1): بالقصر وفتح القاف: نوع من الحمام (واحدتها قطاة).
(توافينا): من توافي القوم: تتاموا.
(النشاط): طيب النفس.
(الكسل) كالتعب: الفتور، فيتخلف العبد عن أسباب الخير والصلاح، وإن كان لعدم قدرته فهو العجز، وإن كان لعدم إرادته فهو الكسل.
(نضرب أكباد الابل): أي نركب ونسير.
(اللوم): عذل الانسان بنسبته إلى ما فيه لوم.
(المطي) جمع مطية فعلية بمعنى مفعولة: البعير سمي بذلك لانه يركب مطاه أي ظهره.
(مستكم): أي أصابتكم.
(تعضكم السيوف): أي تجرحكم.
(فذروه): فاتركوه.
(أمط) (2) نح وأبعد.
(البيداء): المفازة.
(أدع): أترك.
(البنية): بفتح الموحدة وكسر النون وتشديد المثناة التحتية المفتوحة ثم تاء تأنيث، وهي الكعبة.
(الرحال) بالحاء المهملة: جمع رحل وهو في الاصل مأوى الشخص في الحضر ثم أطلق على أمتعة المسافر لانها هناك مأواه.
(منعة) (3) بفتح النون باختلاف المعنى وتقدم بيان ذلك.
(الانحياز إليكم): الاختلاط بكم.
(أزرنا) (جمع إزار) قال أبو ذر: يعني نساءنا والمرأة قد يكنى عنها بالازار.
__________
(1) انظر المصباح المنير 510.
(2) أنظر اللسان 8 / 4308، 4309.
(3) انظر اللسان 6 / 4276.
(*)(3/209)
(الحلقة) بسكون [ اللام ]: السلاح.
(كابرا عن كابر): أي كبيرا عن كبير في العز والشرف.
(حبالا): بكسر الحاء ا لمهملة وبالموحدة جمع حبل وهو العهد والميثاق.
(عسيت): بكسر السين وفتحها لغتان.
(الدم الدم الهدم الهدم): قال في النهاية: يروى الهدم بسكون الدال وفتحها فالهدم بالتحريك القبر يعني: أني أقبر حيث تقبرون، وقيل: هو المنزل أي منزلكم منزلي، كحديثه الاخر: المحيا محياكم والممات مماتكم أي لا أفارقكم، والهدم بالسكون وبالفتح أيضا هو
إهدار دم القتيل، يقال: دماؤهم بينهم هدم أي مهدرة والمعنى أن من طلب دمكم فقد طلب دمي وأن من أهدر دمكم فقد أهدر دمي، لاستحكام الالفة بيننا، وهو قول معروف للعرب يقولونه عند المعاهدة والنصرة وفي تهذيب الازهري أن ابن الاعرابي رواه بالفتح: دمي دمك وهدمي هدمك.
(النقيب) (1): قال في التقريب: يقال: نقب الرجل ونقب بالتخفيف والتشديد استخراج الاسرار والنقيب الامين والكفيل والعريف أو هو فوق العريف، وشاهد ا لقوم نقب عليهم كقتل نقابة بالكسر فعل ذلك.
ونقب بالضم نقابة بالفتح إذا لم يكن فصار نقيبا، ونقباء الانصار الذين تقدموا لاخذ البيعة لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم سموا بذلك لضمانهم إسلام قومهم شرح أبيان كعب بن مالك [ الانصاري ] (فال رأيه) بفاء ولام: أي بطل.
(فلا ترعين): بضم المثناة الفوقية وسكون الراء وكسر العين ا لمهملة وفتح المثناة التحتية ونون التوكيد: أي لا تبقين.
يقال: ما أرعى عليه أي ما أبقى عليه.
(ألب) وجمع بمعنى (جادع) (2) بالجيم أي قاطع.
(إخفاره) بالخاء المعجمة: نقض عهده.
(ناقع) بالقاف: ثابت.
(القوقلي) بقاف مفتوحة فواو ساكنة فقاف مفتوحة ولام.
(نسبة لابي بطن) من الخزرج: قوقل، وهو غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، كذا لابن الكلبي، وقال ابن
__________
(1) انظر المصباح المنير 620.
(2) أنظر المعجم الوسيط 1 / 110.
(*)(3/210)
إسحاق: قيل لهم القوافل لانهم كانوا إذا أجاروا أحدا أعطوه سهما وقالوا له: قوقل به حيث شئت، أي سر به حيث أردت.
(بمندوحة) (1) أي بمتسع.
(يافع) بالمثناة التحتية والفاء المكسورة: أي موضع مرتفع فاليفاع ما ارتفع من الارض ومن رواه باقع بالباء الموحدة والقاف فمعناه بعيد وهو مأخوذ من بقع الارض.
(خانع) (2) بالخاء المعجمة والنون: أي مقر متذلل.
(الاحموقة) أفعولة من الحمق وحقيقته وضع الشئ في غير موضعه مع العلم بقبحه.
(نازع) بالزاي والعين المهملة: أي ذاهب.
(ضروح) (3) بفتح الضاد المعجمة وضم الراء وبالحاة ء المهملة أي مانع ودافع عن نفسه من قولهم: ضرحت الدابة برجلها ضربت بها.
(أولاك) بترك الهمزة أي أولئك.
(يغبك) بضم المثناة التحتية وكسر الغين المعجمة وتشديد الباء الموحدة من أغب القوم إذا جاءهم يوما وتركهم يوما.
(دجى الليل) بضم الدال المهملة: أي ظلمة الليل.
شرح ما جاء في بيعة العقبة (كفلاء) جمع كفيل: وهو الضمين.
(علام): ما استفهامية اتصلت بعلى.
(الاحمر): العجم (والاسود): العرب.
(نهكت) بضم النون وكسر الهاء وفتح الكاف فتاء تأنيث: نقصت.
(أنفذ صوت) بالذال المعجمة: أبعد.
(الجباجب) بجيمين الاولى مفتوحة والثانية مكسورة وبعد كل جيم موحدة، قال في القاموس: جبال بمكة أو أسواقها أو منحر منى كان يلقى به الكروش.
(المذمم) بذال معجمة: ا لمذموم جدا، وأرادت قريش عكس اسم النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا
__________
(1) انظر لسان العرب 6 / 4381.
(2) اللسان 3 / 1279.
(3) انظر اللسان 4 / 2572.
(*)(3/211)
يقولون عوض محمد: مذمم بوزنه وعكس معناه، وكذبوا بل محمد من كثرة خصاله المحمودة وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو اسم صادق على مسماه.
(الصباء) (1) بضم الصاد المهملة والباء المشددة جمع صابئ: وهو الخارج من دين إلى دين.
(إزب) بهمزة مكسورة فزاي ساكنة فباء موحدة.
وفيما ذكر ابن هشام بفتح الهمزة وسكون الزاي وفتح الياء (أزيب).
(ارفضوا) (2): تفرقوا.
(أحفطت) الفتى بالحاء ا لمهملة والفاء والظاء المعجمة: أي أغضبته والحفيظة الغضب.
(أمر جسيم): عظيم.
(ليتفوتوا علي)، من الفوت، يقال: تفوت فلان على فلان في كذا وافتات عليه إذا انفرد برأيه دونه في التصرف ولما ضمن معنى التغلب عدي بعلى.
(تنطس) بمثناة فوقية فنون فطاء فسين مهملتين، قال ابن هشام: المبالغة في التفتيش.
(أذاخر) بذال وخاء مكسورة معجمتين: اسم موضع.
(بنسع رحله) (3): بنون مكسورة فسين فعين مهملتين: السير المضفور من الاديم على هيئة أعنة البغال..(الجمة): بالضم: الشعر إلى شحمة الاذن.
(وضئ): جميل.
(لكمه): ضربه بجمع كفه.
(أوى): أي أشفق ورحم.
(شعشاع) (4): طويل.
(جوار): بضم الجيم وكسرها: العهد والامان.
(تجار): بكسر التاء يخفف ويشدد: جمع تاجر.
(فاهتف): صح وادع.
__________
(1) انظر اللسان 4 / 2385، (2) يرفض: تفرق وتبدد وزال وسال وترش وارفض بمعنى ترفض.
الوسيط 1 / 360.
(3) النسع: سير يضفر على هيئة أعنة النعال تشد به الرحال: والجمع أنساع ونسوع ونسع والقطعة فيه نسعة قال عبد يغوث: أقول وقد شدوا لساني بنسعة اللسان 6 / 4410.
(4) أنظر لسان العرب 3 / 2279.
(*)(3/212)
شرح أبيات ضرار بن الخطاب وحسان بن ثابت (عنوة) (1): بفتح العين: أي قهرا.
(طلت) بضم الطاء المهملة وتشديد اللام المفتوحة ثم تاء التأنيث: أي أهدرت.
(حريا): بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وتشديد المثناة التحتية: أي حقيقا وجديرا.
(ضمرا): بضم الضاد المعجمة: جمع ضامر.
(شرف): المكان العالي يشرف على ما حوله.
(تداركت وأخذت): كلاهما بتاء الخطاب.
(البرقاء) (2): كل موضع فيه حجارة مختلفة الالوان.
(الكتان): بفتح الكاف.
(الانباط): قوم من العجم.
(الريط) (3): الملاحف البيض واحدتها ريطة.
(مقصرا): بميم مضمومة فقاف مفتوحة فصاد مهملة مشددة: أي قصرت بالمقصرة كمكنسة خشبة القصار.
(حسرا): مغيية.
(الوسنان) (4): النائم.
(الثكلى: المرأة الفاقدة ولدها.
(حتفها): هلاكها.
(محفر) بفتح الفاء: مصدر (ومحفر) بكسر الفاء: مكان.
الثالث: في معرفة أسماء الذين بايعوا ليلة العقبة الثالثة: وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين.
قال في العيون: هذا هو العدد المعروف، وإن زاد في التفصيل فليس ذلك بزيادة في الجملة وإنما هو لمحل الخلاف فيمن شهد.
فبعض الرواة يثبته وبعضهم يثبت غ يره بدله.
قلت: ورتب ابن إسحاق أسماءهم على القبائل والبطون ورتبهم على حروف المعجم ليسهل الكشف عنهم.
واعلم أن كل اسم يأتي فيهم بلفظ: (عبد
__________
(1) انظر المصباح المنير 434.
(2) البرقاء: أرض غليظة فيها حجارة ورمل وطين مختلطة وجمعها (براقي) الوسيط 1 / 51.
(3) الريطة: الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ولم تكن لفقين وقيل: الريطة كل ملاءة غير ذات لفقين كلها نسيج واحد وقيل: هو كل ثوب لين رقيق، والجمع ريط ورياط.
اللسان 3 / 1792.
(4) الوسن الناس قال ابن القطاع: والاستيقاظ.
ورجل وسنان وامرأة وسنى.
المصباح المنير ص 660.
(*)(3/213)
الاشهل) فإنه بشين معجمة، أو بلفظ (بهثه) فإنه بضم الباء الموحدة وسكون الهاء وبالثاء المثلثة، أو بلفظ (يزيد) فإنه بالمثناة التحتية إلا (تزيد بن جشم) فإنه بالمثناة الفوقية والزاي بعدها تحتية.
أو بلفظ (جشم) فإنه بجيم مضمومة فشين معجمة مفتوحة، وهو غير منصرف
للعلمية والعدل من جاشم، أو بلفظ (حارثة) فإنه بالحاء المهملة والمثلثة، أو بلفظ (حرام) فإنه بالحاء والراء المهملتين، أو بلفظ (خنساء) فإنه بخاء معجمة فنون فسين فألف تأنيث.
أو بلفظ (زريق) فإنه بزاي مضمومة فراء مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فقاف.
أو بلفط (زعوراء) فإنه بزاي مفتوحة فعين مهملة مضمومة فواو ساكنة فراء فهمزة ممدودة، أو بلفظ (ساردة) بكسر الراء فإنه بمهملات، أو بلفظ (سرح) بسكون الراء فإنه بمهملات، أو بلفظ (سلمة) بكسر اللام، أؤ بلفظ (السلم) فإنه بفتحتين.
أو بلفظ (سنان) فإنه بسين مكسورة ونونين بينهما ألف أو بلفظ (سواد) فإنه بفتح السين المهملة وتخفيف الواو وآخره دال مهملة.
أو بلفظ (غنم) فإنه بغين معجمة فنون ساكنة أو بلفظ (لوذان) فإنه بفتح اللام والذال المعجمة.
أو بلفظ (مبذول) فإنه بالموحدة والمعجمة بلفظ اسم المفعول.
أو بلفظ (نابي) فإنه بالنون والباء الموحدة.
أو بلفظ (النجار) أو (النجاري) فإنه بالنون والجيم.
باب الهمزة: أبي - بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد التحتية - ابن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، وهو تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن عمرو بن حبيب - بفتح المهملة وكسر الموحدة - ابن حارثة بن غضب بفتح الغين وسكون الضاد المعجمتين.
أسعد بن زرارة - بضم الزاي - ابن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار الخزرجي النجاري أبو أمامة.
أسيد - بضم أوله وسكون التحتية - ابن حضير - بحاء مهملة مضمومة فضاد معجمة مفتوحة فراء - ابن سماك - بكسر السين المهملة وآخره كاف - ابن عتيك - ككريم - ابن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الاشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الاوس الاشهلي يكنى أبا يحيى وقيل كنيته أبو عتيك.
أوس بن ثابت - بالمثلثة - ابن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة - بفتح الميم - ابن عدي بن مالك بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج أخو حسان بن ثابت رضي الله عنه.
أوس بن زيد بن أصرم، ذكره ابن عقبة فيهم.
الباء الموحدة: البراء - بفتح الموحدة فالراء ممدودا مخففا - ابن معرور - بميم مفتوحة
فعين مهملة ساكنة فراء مضمومة فواو فراء أخرى - ا بن صخر - بصاد مهملة مفتوحة فخاء معجمة - ابن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، وهو أول من بايع ليلتئذ في قول ابن(3/214)
إسحاق، وأول من أوصى بثلث ماله.
بشر بن البراء بن معرور.
بشير - بفتح أوله وكسر المعجمة بعدها مثناة - ابن سعد بن ثعلبة بن جلاس - بضم الجيم مخففا وضبطه الدار قطني بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام - ابن زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج.
بهيز - بضم أوله وفتح الهاء وسكون التحتية، قال في النور: وآخره زاي، وضبطه الحافظ في الاصابة بالراء: وقيل: أوله نون بدل الموحدة - ابن الهيثم بن عامر، وقيل ابن نابي بن مجدعة - بفتح الميم وسكون الجيم، وبالعين المهملة - ابن حارثة بن الحارث ابن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الاوس الاوسي الحارثي.
الثاء المثلثة: ثابت بن الجذع - واسم الجذع ثعلبة، والجذع بكسر الجيم وبالذال المعجمة كذا قال في النور، وفي نسخة صحيحة من العيون بضم الجيم وفتح الذال وفي نسخة صحيحة من سيرة ابن هشام بفتحها - ابن زيد بن الحارث بن حرام بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج الخزرجي السلمي.
ثعلبة بن عبيد بن عدي: قال الذهبي في التجريد: (ذكره ابن الجوزي في التلقيح).
قال الحافظ: (أخشى أن يكون وقع في اسم أبيه تصحيف وهو ثعلبة بن عنمة - بعين مهملة ونون فميم مفتوحات - ابن عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي الخزرجي).
الجيم: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب ابن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج الخزرجي السلمي.
جبار - بجيم مفتوحة فباء موحدة مشددة فراء - ابن صخر بن أمية بن خنساء - ويقال خنيس
- ابن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة الحزرجي ثم السلمي أبو عبد الله.
الحاء المهملة: الحارث بن قيس بن خلدة - بفتح الخاء المعجمة واللام ويقال خالد - ابن مخلد - بضم الميم فخاء معجمة فلام مشددة مفتوحتين - ابن عامر بن زريق (بن عامر بن زريق) بن عبد حارثة بن مالك بن غضب - بغين مفتوحة فضاد ساكنة معجمتين - ابن جشم ابن الخزرج الخزرجي ثم الزرقي، أبو خالد.
الخاء المعجمة: خارجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك الاغر ابن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث الخزرجي.
خالد بن زيد بن كليب - بضم الكاف - ابن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار (واسمه) تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج (الاكبر) أبو أيوب الخزرجي النجاري.
خالد بن عمرو بن عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة (الخزرجي) اسلمي.
خالد بن قيس بن مالك بن(3/215)
العجلان بن مالك بن عامر بن بياضة (ابن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج الاكبر الخزرجي البياضي.
خديج بن سلامة - وقيل بن سالم بن أوس بن عمرو بن القراقر - بقافين وراءين مهملتين - ابن الضحيان البلوي نسبا الانصاري حلفا، حليف لبني حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة من الانصار.
خلاد - بفتح أوله وتشديد اللام وآخره دال مهملة - ابن سويد بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس بن مالك الاغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الاكبر الانصاري الخزرجي الحارثي (من بلحارث بن الخزرج).
الذال المعجمة: ذكوان بن عبد قيس بن خلدة - أخو الحارث السابق - ابن مخلد بن عامر بن زريق أبو السبع - بسين مهملة فباء موحدة، كان خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فهو مهاجري أنصاري.
الراء: رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق بن عامر بن عبد
حارثة بن مالك بن بن غضب بن جشم بن الخزرج الخزرجي الزرقي.
رفاعة - بكسر الراء وتخفيف الفاء وفتح العين المهملة - ابن رافع بن مالك بن العجلان الخزرجي الزرقي.
رفاعة بن عبد المنذر بن زنبر - بزاي مفتوحة فنون ساكنة فموحدة مفتوحد - ابن زيد بن أمية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس أبو لبابة الاوسي.
رفاعة بن عمرو بن زيد - وقيل ابن نوفل وقيل ابن عمرو وقيل ابن قيس - ابن ثعلبة بن جشم بن مالك بن سالم بن غ نم بن عوف بن الخزرج الخزرجي أبو الوليد.
الزاي: زياد بن لبيد - بفتح اللام وكسر الموحدة وسكون التحتية وآخره دال مهملة - ابن ثعلبة بن سنان بن عامر بن عدي بن أمية بن بياضة - بالمعجمة - ابن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج الخزرجي البياضي.
زيد بن سهل بن الاسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار الخزرجي النجاري أبو طلحة (وهو مشهور بكنيته وهو زوج أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك.
السين المهملة: سعد بن خيثمة - بخاء مفتوحة فمثناة تحتية فمثلثة فميم فهاء تأنيث - ابن الحارث بن مالك بن كعب بن النحاط - بنون فحاء وطاء مهملتين بينهما ألف - ابن كعب بن حارثة بن غنم بن السلم - بسين مهملة مشددة فلام ساكنة - ابن امرئ القيس بن مالك بن الاوس الاوسي أبو خيثمة.
سعد بن الربيع - بفتح الراء - ابن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك الاغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج.
سعد بن زيد بن مالك بن عبد بن كعب بن عبد الاشهل الاوسي الاشهلي.
سعد بن عبادة - بعين مهملة(3/216)
مضمومة فباء موحدة مخففة - ابن دليم - بدال مهملة مضمومة فلام مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة - ابن حارثة بن أبي حزيمة - بحاء مهملة مفتوحة فزاي مكسورة فمثناة تحتية، قال في الاملاء: هذا هو الصواب وكذا قيده الدار قطني ويروى بخاء مضمومة وزاي مفتوحة - ابن ثعلبة بن طريق - بالطاء المهملة المفتوحة وبالفاء - ابن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن
الخزرج، يكنى أبا ثابت (وقيل) أبا قيس، سيد الخزرج.
سلمة - بفتح أوله وثانيه - ابن سلامة بن وقش - بفتح الواو وإسكان القاف وتفتح - ابن زغبة - بزاي مضمومة فغين معجمة ساكنة، فموحدة مفتوحة فتاء تأنيث - ابن زعوراء بن عبد الاشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن مالك بن الاوس الاوسي الاشهلي، سليم بن عمرو - أو عامر - ابن حديدة - بفتح الحاء المهملة - ابن عمرو بن غنم بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة، السلمي.
سنان بن صيفي بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة الخزرجي السلمي.
سهل بن عتيك - ككريم - ابن النعمان بن عمرو بن عتيك بن عمرو بن مبذول - بالذال المعجمة اسم مفعول - وهو عامر بن مالك بن النجار الخزرجي.
الشين المعجمة: شمر بن سعد بن ثعلبة، كذا في التلقيح ولم أره في غيره.
الصاد المهملة: صيفي بن سواد بن عباد بن عمرو بن غنم بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي.
الضاد المعجمة: الضحاك بن زيد بن الطفيل، كذا في التلقيح ولم أره في غيره.
الضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة الخزرجي ثم السلمي.
الطاء المهملة: الطفيل بن مالك بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب السلمي.
الظاء المعجمة: ظهير - بالتصغير - ابن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو - وهو النبيت - ابن مالك بن الاوس الاوسي.
العين المهملة: عامر بن نابي - بالنون وبالموحدة - ابن زيد بن حرام.
عبادة - بضم أوله وتخفيف الموحدة - ابن الصامت - بكسر الميم - ابن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الخزرجي أبو الوليد.
عباد - بفتح أوله وتشديد الموحدة - ابن قيس - بالمثناة التحتية - ابن عامر بن خالد بن مخلد - كمحمد - ابن عامر بن
زريق الزرقي.
العباس بن عبادة بن نضلة - بنون مفتوحة فضاد معجمة ساكنة - ابن مالك بن العجلان الخزرجي - عبد الله بن أنيس - بضم أوله مصغرا - ابن أسعد بن حرام بن حبيب بن(3/217)
مالك بن غنم بن كعب بن ناشز - بالنون والشين المعجمة والزاي - ابن يربوع - بمثناة مفتوحة فراء ساكنة فموحدة مضمومة فعين مهملة - ابن البرك - بموحدة مضمومة فراء ساكنة فكاف - ابن وبرة - بفتح الواو فالموحدة والراء، وعند ابن عمر: تيم بن نفاثة - بنون مضمومة ففاء ومثلثة - ابن إياس بن يربوع، دخل البرك في جهينة حليفا لهم.
عبد الله بن جبير - بضم الجيم وفتح الموحدة - ابن النعمان بن أمية بن امرئ القيس - وهو البرك - بضم الموحدة وفتح الراء وبالكاف - ابن ثعلبة بن عمرو (بن عوف بن مالك بن الاوس الاوسي (ثم من بني ثعلبة بن عمرو.
عبد الله بن الربيع بن قيس بن عمرو بن عباد بن الابجر - بفتح الهمزة فموحدة ساكنة فجيم مفتوحة فراء، والابحر هو خدرة - بضم الخاء المعجمة وإسكان الدال المهملة - ابن عوف بن الحارث بن الخزرج الخزرجي.
عبد الله بن رواحة - بالفتح ومهملة مخففا - ابن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الاكبر بن مالك الاغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الخزرجي.
عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه بن زيد من بني جشم بن الحارث بن الخزرج، الخزرجي الحارثي ويكنى أبا محمد وهو الذي أري الاذان في النوم.
عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج الخزرجي السلمي، يكنى أبا جابر والد جابر بن عبد الله.
عبس - بفتح أوله وسكون الباء وبالسين المهملة - ابن عامر بن عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن تميم بن كعب بن سلمة السلمي.
عبيد - بضم أوله بغير إضافة - ابن التيهان، أخو أبي الهيثم.
عقبة - بضم أوله - ابن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة - بضم الهمزة وفتح المهملة - ابن عسيرة، واختلفوا في تقييد عسيرة فمنهم من يفتح العين ويكسر السين المهملتين ومنهم من يضم العين ويفتح السين - ابن
عطية بن خدارة - بالخاء المعجمة المضمومة، وبعضهم يقول بجيم مضمومة ومكسورة - ابن عوف بن الحارث بن الخزرج أبو مسعود البدري.
عقبة بن وهب بن كلدة - بفتح الكاف واللام والدال المهملة - ابن الجعد - بفتح الجيم وسكون العين وبالدال المهملتين - ابن هلال بن الحارث بن عمرو بن عدي بن جشم بن عوف - بالفاء - ابن بهثة بن عبد الله بن غطفان - بفتح الغين المعجمة والطاء المهملة والفاء - ابن قيس بن عيلان الغطفاني، حليف لبني سالم بن غنم بن عوف بن الخزرج.
قال إبن اسحاق: (كان أول من أسلم من الانصار ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فلم يزل معه حتى هاجر فكان يقال له مهاجري أنصاري).
عمارة - بضم أوله والتخفيف - ابن حزم بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار، الخزرجي النجاري.
عمرو بن الجموح - بفتح الجيم وضم الميم وبالحاء المهملة - ابن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة السلمي من بني جشم بن الخزرج.(3/218)
عمرو بن الحارث بن كندة بن عمرو بن ثعلبة من القواقل شهد العقبة الثانية قاله ابن إسحاق.
عمرو بن عنمة - بمهملة فنون فميم مفتوحات - ابن عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي.
عمرو بن غزية - بغين معجمة مفتوحة فزاي مكسورة فمثناة تحتية مشددة - ابن عمرو بن ثعلبة بن خنساء بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن - بالزاي - ابن النجار الخزرجي ثم المازني، يقال إنه شهد العقبة، وقال ابن هشام: عمرو بن غزية بن عمرو بن ثعلبة وهو عطية بن خنساء.
عمير - وقيل عمرو - ابن الحارث بن ثعلبة بن الحارث بن حرام بن كعب ابن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد ا لخزرجي كذا نسبه ابن إسحاق وزاد موسى بن عقبة بين الحارث وثعلبة: لبدة - بكسر اللام وإسكان الموحدة وبالمهملة.
عمير بن عامر بن نابي بن يزيد بن حرام الخزرجي، قال ابن الكلبي: شهد المشاهد كلها، وأقره الشاطي والحافظ، وقال الحافظ الدمياطي: لم أمر من ذكره في الصحابة غيره.
عوف بن الحارث بن رفاعة - بكسر الراء - ابن الحارث بن سواد (بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار الخزرجي) النجاري
يعرف بأمه عفراء، ويقال بحذف الحارث الثاني.
عويم - بضم أوله وفتح الواو وسكون التحتية بعدها ميم وليس بعدها راء - ابن ساعدة بن عايش - بمثناة تحتية فشين معجمة - ابن قيس بن النعمان بن زيد بن أمية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس الاوسي.
الفاء: فروة - بفتح الفاء وسكون الراء - ابن عمرو بن ودفة - بفتح الواو وإسكان الدال، قال ابن إسحاق: وهي معجمة وقال ابن هشام: مهملة ورجحه السهيلي وفسره بالروضة - ابن عبيد بن عامر بن بياضة البياضي.
القاف: قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر بن سواد بن ظفر بن الخزرج (بن عمرو بن مالك بن الاوس) الاوسي ثم الظفري، ذكروه فيهم إلا ابن اسحاق.
قطبة - بضم أوله وسكون الطاء المهملة - ابن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الخزرجي السلمي يكنى أبا زيد.
قيس بن أبي صعصعة - واسم أبي صعصعة عمرو - ابن زيد بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار الخزرجي المازني.
الكاف: كعب بن عمرو بن عباد - بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة - ابن عمرو بن سواد بن غنم (بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج) الخزرجي السلمي أبو اليسر - بفتح المثناة التحتية والمهملة - كعب بن مالك بن أبي كعب عمرو بن القين - بفتح القاف وسكون المثناة التحتية - ابن كعب بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي - بضم العين المهملة وفتح اللام - ابن أسد بن ساردة أبو عبد الله الخزرجي السلمي - بفتحتين ويقال أبو بشير، ويقال أبو عبد الرحمن.(3/219)
الميم: مالك بن التيهان - بمثناة فوقية مفتوحة فمثناة تحتية مكسورة مشددة ويجوز تخفيفها فألف فنون - ابن مالك بن عبيد بن عمرو بن عبد الاعلم بن عامر بن زعوراء بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو وهو النبيت - بفتح النون وكسر الباء الموحدة فمثناة تحتية ساكنة فمثناة فوقية - ابن مالك بن الاوس، أبو الهيثم الاوسي.
مالك بن الدخشم - بدال
مهملة مضمومة فخاء ساكنة فشين مضمومة معجمتين فميم ويقال بالنون بدل الميم ويقال كذلك بالتصغير.
- ابن مالك بن غ نم بن عوف بن عمرو بن عوف، وقيل في نسبه غير هذا.
قال أبو عمر: لا يصح منه النفاق فقد ظهر من حسن إسلامه ما يمنع من اتهامه بذلك.
مالك بن رفاعة بن عمرو بن زيد، ذكره الاموي، كذا في العيون ولم أره في التلقيح لابن الجوزي ولا في العجالة للبرهان النووي ولا في الاصابة للحافظ.
مسعود بن يزيد بن سبيع بن خنساء - ويقال سنان - ابن عبيد بن عدي بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي..معاذ - بضم أوله وبالذال المعجمة - ابن جبل - بفتح الجيم والموحدة - ابن عمرو بن أوس بن عايذ - بالمثناة التحتية والذال المعجمة - ابن عدي بن كعب بن عمرو بن أدي - بضم الهمزة وفتح الدال المهملة وتشديد المثناة التحتية - ابن سعد بن علي - بضم العين المهملة وفتح اللام - ابن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، أبو عبد الرحمن الخزرجي الجشمي، الامام المقدم في علم الحلال والحرام رضي الله تعالى عنه.
معاذ بن الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار الخزرجي، يعرف بأمه عفراء معاذ بن عمرو بن الجموح - بجيم مفتوحة فميم فواو - ابن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة الخزرجي السلمي.
معقل - بميم مفتوحة فعين ساكنة مهملة فقاف مكسورة فلام - ابن المنذر بن سرح - بسين فراء فحاء مهملات - ابن خناس بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم السلمي، معن بن عدي بن الجد - بفتح الجيم وتشديد الدال المهملة - ابن العجلان بن ضبيعة - بضم الضاد وفتح الموحدة وسكون التحتية وبالعين - ابن حارثة بن ضبيعة بن حرام بن جعل - بضم الجيم وسكون العين المهملة - ابن عمرو بن جشم بن درم بن ذبيان بن هميم - بضم الهاء مصغرا - ابن ذهل - بضم الذال المعجمة - ابن هني بن بلي البلوي، حليف بني عمرو بن عوف.
معوذ - بالذال المعجمة بلفظ اسم الفاعل - اسم الحارث بن رفاعة، ويعرف بأمه عفراء.
المنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الخزرجي الساعدي.
النون: النعمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار.
نهير بن بهير - بالموحدة، وهو نهير بن الهيثم - من بني نابي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الاوس الاوسي.(3/220)
الهاء: هانئ - بهمزة آخره - ابن نيار - بكسر النون وتخفيف المثناة التحتية وآخره راء - ابن عمرو بن عبيد بن كلاب بن دهمان - بدال مهملة مضمومة فهاء ساكنة - بن غنم بن ذبيان - بذال معجمة مكسورة ويجوز ضمها فموحدة ساكنة فمثناة تحتية وآخره نون - ابن هميم - بهاء مضمومة فميم مفتوحة فمثناة تحتية فميم أخرى - ابن كاهل - بكسر الهاء - ابن ذهل - بضم الذال المعجمة وسكون الهاء - ابن هني - بفتح الهاء وكسر النون وتشديد التحتية - ابن بلي - بالموحدة واللام وزان علي - ابن عمرو بن الحاف - بالحاء ا لمهملة والفاء ومنهم من يكسر همزته ويقطعها ومنهم من يجعل الالف واللام فيه للتعريف منزلة اسم الفاعل من حفي يحفى - ابن قضاعة - بضم القاف وبالضاد المعجمة حليف لبني حارثة من الانصار.
المثناة التحتية: يزيد بن ثعلبة بن خزمة - بفتح المعجمتين قاله الدار قطني، وقال ابن إسحاق وابن الكلبي بسكون الزاي - ابن أصرم بن عمرو بن عمارة - بفتح أوله والتشديد - ابن مالك البلوي أبو عبد الرحمن حليف بني سالم بن عوف بن الخزرج.
يزيد بن خذام - بخاء مكسورة وذال معجمتين، ويقال حرام بالحاء والراء المهملتين - ابن سبيع - بموحدة مصغرا - ابن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة الخزرجي السلمي.
يزيد بن عامر بن حديدة - بالحاء المهملة - ابن غنم بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة أبو المنذر الخزرجي السلمي.
يزيد بن المنذر بن سرح - بمهملات - ابن خنان بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة الخزرجي السلمي.
الكنى: أبو سنان بن صيفي بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة.
النساء: أسماء بنت عمرو بن عدي بن نابي بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة، أم منيع السلمية.
نسيبة بفتح النون وكسر السين المهملة - بنت كعب بن عمرو بن عوف بن عمرو بن مبذول بن عمرو بن مازن، أم عمارة.(3/221)
الباب التاسع في إسلام عمرو بن الجموح
بفتح الجيم وبالحاء المهملة رضي الله تعالى عنه قال ابن إسحاق وغيره: لما قدم النفر الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أظهروا الاسلام بالمدينة، وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك، منهم عمرو بن الجموح (بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي من بني جشم بن الخزرج)، وكان ابنه معاذ بن عمرو شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها.
وكان عمرو (بن الجموح) سيدا من سادات بني سلمة (وشريفا من أشرافهم)، وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب يعظمه يقال له: مناة (كما كانت الاشراف يصنعون تتخذ إلها تعظمه وتظهره).
فلما أسلم فتيان بني سلمة: معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو في فتيان منهم ممن أسلم وشهد العقبة، وكانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك فيحملونه ويطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس، منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويحكم ! من عدا على آلهتنا هذه الليلة ؟ قال: ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطهره وطيبه، ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لاخزينه.
فإذا أمسى ونام عدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك، (فيغدوا فيجده في مثل ما كان فيه من الاذى فيغسله ويطهره ويطيبه ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك) فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يوما فغسله وطهره وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال له: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك.
فلما أمسى ونام عمرو عدوا عليه فأخ ذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ثم ألقوه في بئر من آبار بني
سلمة فيها عذر من عذر الناس.
وغدا عمرو بن الجموح يلتمسه فلم يجده في مكانه، فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت.
فلما رآه أبصر شأنه، وكلمه من أسلم من قومه، فأسلم رحمه الله وحسن إسلامه.
فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف (وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره ويشكر الله تعالى الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة): والله لو كنت إلها لم تكن * أنت وكلب وسط بئر في قرن ألف لملقاك إلها مستدن * الان فتشناك عن سوء الغبن الحمد لله العلي ذي المنن * الواهب الرزاق ديان الدين هو الذي أنقذني من قبل أن * أكون في ظلمة قبر مرتهن بأحمد المهدي النبي المؤتمن (1)
__________
(1) انظر الروض الانف 2 / 205.
(*)(3/222)
تنبيهان الأول: في الزهر قول عمرو: (لو كنت إلها لم تكن) فيه عيب يسمى: سناد الاشباع وهو تغيير حركة الدخيل فالضمة مع الكسرة غير معيب والفتحة مع واحد منهما معيب والمذكور في الرجز معيب بغير شك لانه جمع بين الفتح والضم في قوله: في قرن.
الثاني: في بيان غريب ما سبق: (مناة) (1) وزنه فعلة من منيت الدم وغيره إذا صببته لان الدماء كانت تمنى عنده أي تصب تقربا إليه.
(العذر) بفتح العين المهملة وكسر الذال المعجمة: جمع عذرة الخروء.
(القرن) (2) بفتحتين: الحبل.
(مستدن) بفتح المثناة الفوقية والدال المهملة معناه: ذليل مستعبد ذكره في الاملاء قال في الروض: هو من السدانة وهي خدمة البيت وتعظيمه.
(الغبن) (3) بفتح الغين المعجمة والباء الموحدة يقال: غبن رأيه كما يقال سفه نفسه، فنصبوا لان المعنى خسر نفسه وأوبقها وأفسد رأيه ونحو هذا.
(الدين).
بكسر الدال المهملة: جمع دينة وهي العادة ويقال لها دين أيضا، ويجوز أن يكون أراد بالدين الاديان أي هو ديان أهل الاديان، ولكن جمعها على الدين لانها ملل ونحل والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمنآب وإلى الله ترجع الامور.
__________
(1) اللسان 6 / 4285.
(2) انظر المصباح المنير 501.
(3) انظر المعجم الوسيط 2 / 644.
(*)(3/223)
جماع أبواب الهجرة إلى المدينة الشريفة
الباب الأول في إذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين في الهجرة إلى المدينة
روى ابن سعد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف وعن عروة عن عائشة رضي الله عنهما قال: لما صدر السبعون من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طابت نفسه وقد جعل الله له منعة وقوما أهل الخروج فضيقوا على أصحابه وتعبثوا بهم، ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالون من الشتم والاذى، فشكا ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأذنوه في الهجرة، فقال: (قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين) - وهما الحرتان - (ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي).
ثم مكث أياما ثم خرج إلى أصحابه مسرورا فقال: (قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها).
فجعل القوم يتجهزون ويترافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك.
فكان أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سلمة بن عبد الاسد - بسين ودال مهملتين (1) - قال ابن اسحاق: (هاجر إلى المدينة قبل بيعة العقبة بسنة.
وحبست عنه امرأته أم سلمة هند بنت أبي أمية بن المغيرة بمكة نحو سنة ثم أذن
لها بنو المغيرة الذين حبسوها في اللحاق بزوجها فانطلقت وحدها مهاجرة حتى إذا كانت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة (بن أبي طلحة) أخا بني عبد الدار وكان يومئذ مشركا وأسلم بعد ذلك، فشيعها حتى إذا أوفى على قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال لها: هذا زوجك في هذه القرية.
ثم انصرف راجعا إلى مكة، فكانت تقول: ما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي ثم استأخر عني حتى إذا نزلت عنه استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجرة، ثم أتى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني وقال: اركبي.
فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني، (فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة).
__________
(1) أخرجه البخاري 3 / 128 وابن سعد في الطبقات 1 / 1 / 152 وابن خزيمة في صحيحه (265) والبيهقي في الدلائل 2 / 459.
(*)(3/224)
وقيل: أول المهاجرين مصعب بن عمير.
روى البخاري في صحيحه، والحاكم في الاكليل عن البراء بن عازب قال: (أول من قدم علينا المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير).
وروى ابن اسحاق وابن سعد: (ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة: عامر بن ربيعة (حليف بني عدي بن كعب)، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة (1) - بالحاء المهملة المفتوحة وسكون الثاء المثلثة - قالا: (وهي أول ظعينة قدمت المدينة).
قال ابن إسحاق: (ثم عبد الله بن جحش احتمل بأهله وبأخيه أبي أحمد عبد بن جحش - بإضافة عبد إلى ابن جحش - وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر، وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكان شاعرا، وكانت عنده الفارعة ابنة أبي سفيان بن حرب، وهاجر جميع بني جحش بنسائهم فعدا أبو سفيان على دارهم فتملكها، قال بعضهم: إنه باعها من عمرو بن علقمة أخي بني عامر بن لؤي، فذكر ذلك عبد الله بن جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا في الجنة خيرا منها ؟) قال: بلى.
قال:
(فذلك لك).
ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كلمه أبو أحمد في دارهم، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال الناس لابي أحمد: يا أبا أحمد إن رسول الله يكره أن ترجعوا في شئ أصيب منكم في الله.
فأمسك الكلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وكان بنو غنم بن دودان أهل إسلام، قد أوعبوا إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرة رجالهم ونساؤهم: (عبد الله بن جحش وأخو أبو أحمد بن جحش، وعكاشة بن محصن وشجاع وعقبة ا بنا وهب وأربد بن حمير).
وروى ابن السمان في (الموافقة) عن علي رضي الله عنه قال: ما علمت أن أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه وتنكب قوسه وانتضى في يده أسهما واختصر عنزته، ومضى قبل الكعبة، والملا من قريش بفنائها فطاف بالبيت سبعا (متمكنا)، ثم أتى المقام فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة وقال لهم: شاهت ا لوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن يثكل أمه أو يؤتم ولده أو يرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي.
قال علي رضي الله عنه: فلم يتبعه أحد إلا قوم من المستضعفين علمهم ما أرشدهم إليه ثم مضى لوجهه.
وروى ابن إسحاق: حدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
__________
(1) ليلى بنت أبي حثمة بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد بن عويج بن كعب بن لؤي القرشية العدوية أخت سليمان وكانت زوج عامر بن ربيعة العنبري فولدت له عبيد الله...وقال ابن سعد: أسلمت قديما وبايعت كانت من المهاجرات الأول هاجرت الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة يقال: إنها أول ظعينة دخلت المدينة في الهجرة ويقال أم سلمة.
انظر الاصابة 8 / 180.
(*)(3/225)
اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص (بن وائل) السهمي التناضب من أضاة بني غفار فوق سرف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه.
قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب وفطن لهشام قومه
فحبسوه عن الهجرة وفتن فافتتن.
ثم إن أبا جهل والحارث بن هشام - وأسلم بعد ذلك - خرجا حتى قدما المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقالا لعياش بن أبي ربيعة وكان ابن عمهما وأخاهما لامهما: إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرق لها.
فقلت له: يا عياش إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت.
فقال: أبر قسم أمي ولي هنالك مال فاخذه.
فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريشا مالا فلك نصف مالي ولا تذهب معهما.
فأبى علي إلا أن يخرج معهما.
فلما أبى إلا ذلك قلت: أما إذا قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها، فخرج عليهما معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: والله يا أخي لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه ؟ قال: بلى.
قال: فأناخ وأناخ ليتحول عليها، فلما استووا بالارض عدوا عليه فأوثقاه رباطا وفتناه فافتتن ودخلا به مكة نهارا موثقا، ثم قالا: يا أهل مكة هكذا فافعوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا.
قال عمر: فكنا نقول: ما الله تعالى بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم.
قال: وكانوا يقولون ذلك لانفسهم.
فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لانفسهم (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) (الزمر: 53، 54، 55).
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاصي.
قال: فقال هشام: فلما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوب ولا أفهمها حتى قلت: اللهم فهمنيها قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت
فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا.
قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا ما ذكره ابن إسحاق في شأن هشام.
قال ابن هشام: فحدثني من أثق به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالمدينة: (من لي بعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاصي ؟) فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما.(3/226)
فخرج إلى مكة فقدمها مستخفيا، فلقي امرأة تحمل طعاما فقال لها: أين تريدين يا أمة الله ؟ قالت: أريد هذين المحبوسين.
تعنيهما، فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين في بيت لا سقف له، فلما أمسى تسور عليهما ثم أخذ مروة فوضعها تحت قيديهما ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه: ذو المروة، لذلك ثم حملهما على بعيره وساق بهما فعثر فدميت إصبعه فقال: هل أنت إلا إصبع دميت ؟ * وفي سبيل الله ما لقيت ثم قدم بهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تتابع المهاجرون أرسالا فنزل طلحة بن عبيد الله وصهيب بن سنان على خبيب - بضم الخاء المعجمة وفتح الوحدة - ابن إساف - بكسر الهمزة - بالسنح ويقال: بل نزل طلحة بن عبيد الله على أسعد بن زرارة.
وروى ابن سعد عن سعيد بن المسيب أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت ا لذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك والله لا يكون ذلك.
فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي ؟ قالوا: نعم.
قال: فإني جعلت لكم مالي.
قال: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ربح صهيب ربح صهيب) (1).
قال ابن سعد: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا فنزلوا في الانصار في دورهم وآووهم ونصروهم وآسوهم، وكان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين بقباء قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن
يؤذن له في الهجرة، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلا من حبس أو فتن، إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهما.
وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيقول له: (لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا).
فيطمع أبو بكر أن يكونه.
قال ابن سعد: وكان نفر من الانصار بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة الاخرة، ثم رجعوا إلى المدينة، فلما قدم أول من هاجر إلى قباء خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، حتى قدموا مع أصحابه في الهجرة، فهم مهاجرون أنصاريون وهم: ذكوان بن عبد قيس (بن خلدة الزرقي)، وعقبة بن وهب بن كلدة والعباس (ابن عبادة) بن نضلة وزياد بن لبيد (بن ثعلبة الخزرجي البياضي).
__________
(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات 3 / 1 / 62 وذكره ابن حجر في المطالب (4063).
(*)(3/227)
تنبيهات الأول: ذكر ابن إسحاق وابن سعد أن أول من هاجر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو سلمة عبد الله بن عبد الاسد.
وروى ابن أبي شيبة والبخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: أول من قدم علينا المدينة من المهاجرين مصعب بن عمير.
قال الحافظ: (فيجمع بينهما بحمل الاولية في أحدها على صفة خاصة.
فقد جزم ابن عقبة بأن أول من قدم من المهاجرين مطلقا أبو سلمة بن عبد الاسد، وكان رجع من الحبشة إلى مكة، فأوذي بمكة، فبلغ ما وقع للاثني عشر من الانصار في العقبة الاولى، فتوجه إلى المدينة في أثناء السنة، فيجمع بين ذلك وبين ما وقع في حديث البراء بأن أبا سلمة خرج لا لقصد الاقامة بالمدينة بل فرارا من المشركين، بخلاف مصعب بن عمير فكان على نية الاقامة بالمدينة).
الثاني: جزم أبو عمر بأن ليلى بنت أبي حثمة بن غانم أول ظعينة دخلت المدينة من المهاجرات، وقال موسى بن عقبة: بل أم سلمة فالله أعلم.
الثالث: ذكر ابن اسحاق في مهاجرات بني (غنم بن) دودان بن أسد: بنات جحش وذكر فيهن أم حبيبة - بالهاء - وقال السهيلي: أم حبيب - بغير هاء - وقال أبو عمر: هو قول الاكثر، قال الحافظ: كذا قال.
قلت لان قصتها في الاستحاضة رواها الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها.
وقال عمرو بن الحارث، ومحمد بن إسحاق وابن أبي ذئب كلهم عن الزهري: أم حبيبة بالهاء وقال معمر عنه: أم حبيب بغير هاء، وقال يحيى بن أبي كثير عن أم سلمة عن أم حبيبة بالهاء.
وقال ابن عيينة عن الزهري: أم حبيبة أو حبيب على الشك.
فظهر من هذا أن أكثر الرواة قالوا: أم حبيبة بالهاء خلافا لما قاله أبو عمر.
قال في العيون: (وأما ا بن عساكر فعنده أم حبيبة واسمها حمنة فهما أي بنات جحش ثنتان على هذا).
انتهى.
قلت: كان مستند الحافظ ابن عساكر في ذلك ما رواه أبو داود والترمذي عن عمران بن طلحة عن عبيد الله عن أمه حمنة بنت جحش قالت: كنت أستحاض فذكر الحديث.
فلما رأى الحافظ ابن عساكر حديث الاستحاضة تارة يروى عن ح منة بنت جحش وتارة يروى عن أم حبيبة ظن أن اسم أم حبيبة حمنة، وليس كذلك فإن حمنة غير أم حبيبة وكل منهما استحيض.
وقد ذكر ابن إسحاق وابن سعد وغيرهما بنات جحش وسموهن وذكروا أزواجهن، ولهذا مزيد بيان في كتابي: (عين الاصابة في معرفة الصحابة)، أعان الله على إكماله.
الرابع: ذكر ابن إسحاق من نساء بني جحش: جذامة بنت جندل.
قال السهيلي: (وأحسبها جذامة بنت وهب وأما جذامة بنت جندل فلا تعرف في آل جحش الاسديين ولا في غيرهم ولعله وهم وقع في الكتاب وأنها بنت وهب بن محصن بنت أخي عكاشة بن محصن.(3/228)
قال في الزهر: وهذا غير لان محمد بن جرير ذكر جذامة في المهاجرات، قال: والمحدثون قالوا فيها: جذامة بنت وهب، والمختار أنها بنت جندل الاسدية أخت عكاشة بن محصن المشهور، وتكون أخته من أمه.
وفي كتاب الصحابة لابن حبان: جذامة بنت جندل من بني غنم من المهاجرات،
وجذامة بنت وهب من بني هلال.
وفي الطبقات لابن سعد: جذامة بنت جندل الاسدية أسلمت قديما وبايعت وهاجرت إلى المدينة.
ويزيد ذلك وضوحا ما ذكره أبو الحسن الخزرجي في كتاب تقريب المدارك في الكلام على موطأ مالك: أن جذامة بنت وهب أسلمت عام الفتح، ودال جدامة روى إعجامها وإهمالها وصحح.
الخامس: في بيان غريب ما سبق: (اللحاق) (1): بفتح اللام مصدر لحقه ولحق به.
(أرسالا) (2): بفتح الهمزة أي: أفواجا وفرقا.
(التنعيم): على لفظ المصدر محل بين مكة وسرف على مرحلتين من مكة.
(منعة): بفتحتين أي في قوم يمنعونه ويحمونه جمع مانع ككاتب وكتبة وتقدم مبسوطا غير مرة.
(السبخة): بكسر الموحدة وتسكن: الارض المالحة.
(بين لابتين): تثنية لابة بالموحدة وهي الحرة وتأتي.
(الحرتان): تثنية حرة وهي أرض ذات أحجار سود نخرة كأنها أحرقت بالنار.
(السراة): بفتح السين المهملة: أعظم جبال بلاد العرب.
(الظعينة): بفتح الظاء المعجمة الشالة: المرأة وأصله الهودج الذي تكون فيه المرأة.
(عدا): بالعين المهملة: من العدوان.
(فأبطأ): بهمزة مفتوحة في أوله وأخرى في آخره.
(أصيب منكم) بالبناء للمفعول.
(أوعبوا): قال ابن السكيت: أوعب بنو فلان جلاء: لم يبق بدارهم منهم أحد.
(تنكب قوسه): ألقاها على منكبه.
__________
(1) انظر المعجم الوسيط 2 / 819.
(2) انظر اللسان 3 / 1643.
(*)(3/229)
(انتضى (1) في يده أسهما): أي سلها من كنانته وتركها معدة في يده وكذلك انتضى سيفه ونضاه سله.
(اختصر العنزه) (2) العنزة بالتحريك: أطول من العصا وأقصر من الرمح وفيه زج كزج الرمح، واختصرها: حملها مضمومة إلى خاصرته.
(المعاطس) (3) جمع معطس بزنة مجلس وهو الانف.
(وإرغامها): إلصاقها بالرغام وهو التراب كنى بذلك عن الاهانة والذل.
(التناضب): بمثناة فوقية مفتوحة فنون فألف فضاد معجمة مضمومة: هو اسم موضع ويروى بكسر الضاد جمع تنضب وهو شجر واحدته تنضبة.
(ا لاضاة): بفتح الهمزة والضاد المعجمة بوزن حصاة ومناة الغدير يجتمع من ماء المطر يمد ويقصر.
(غفار) بكسر الغين المعجمة وبالفاء وبالراء.
(سرف) بفتح السين والراء المهملتين وبالفاء: موضع بين مكة والمدينة.
(تسور الحائط): تسلقه.
(المروة) (4): الحجر الصلب.
(فعثر) بفتح المثلثة صدم رجله شئ.
(ذو طوى) (5) بتثليث الطاء: بمكة قال النووي: يصرف ولا يصرف.
__________
(1) انظر المعجم الوسيط 2 / 929.
(2) انظر اللسان 4 / 3128.
(3) المعطس: بزنة المجلس والمعطش بفتح الطاء.
الانف لان العطاس منه يخرج، قال الازهري: المعطس بكسر الطاء لا غير وهذا يدل على أن اللغة الجيدة يعطس بالكسر.
اللسان 4 / 2995.
(4) انظر اللسان 6 / 4188.
(5) انظر اللسان 4 / 2730.
(*)(3/230)
الباب الثاني في سبب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة وكفاية الله تعالى رسوله مكر المشركين حين أرادوا ما أرادوا
روى ابن إسحاق وعبد الرزاق والامام أحمد وابن جرير وابن المنذر والطبراني عن ابن عباس، وعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة، والبيهقي عن ابن إسحاق أن قريشا لما رأت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا جوارا ومنعة، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة - وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها - يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين خافوه.
فاجتمعوا لذلك واتعدوا، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة فاعترضهم إبليس لعنة الله في هيئة شيخ جليل عليه بت له، فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من الشيخ ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى ألا تعدموا منه رأيا ولا نصحا.
قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشراف قريش: من بني عبد شمس: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب - وأسلم بعد ذلك - (ومن بني نوفل بن عبد مناف): طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم - وأسلم بعد ذلك - (والحرث بن عامر بن نوفل.
ومن بني عبد الدار بن قصى): النضر بن الحرث بن كلدة (ومن بني أسد بن عبد العزى): أبو البختري بن هشام، وزمعة بن الاسود - وأسلم بعد ذلك - وحكيم بن حزام - وأسلم بعد ذلك، (ومن بني مخزوم): أبو جهل بن هشام، (ومن بني سهم): نبيه ومنبه ابنا الحجاج، ومن بني جمح: أمية بن خلف، ومن كان معهم، وغيرهم ممن لا يعد من قريش.
فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإنا والله ما نأمنه على
الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا.
قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم - نقل السهيلي عن ابن سلام أنه أبو البختري بن هشام - احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله: زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا ا لموت حتى يصيبه ما أصابهم.
فقال الشيخ النجدي - لعنه الله -: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لو حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء ا لباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلاوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركن، ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره.
فتشاوروا ثم قال قائل منهم - ذكر السهيلي أنه أبو الاسود ربيعة بن عمرو أحد (1) بني
__________
(1) في أ: أخو.
(*)(3/231)
عامر بن لؤي - نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا (كما كانت) فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته قلوب الرجال بما يأتي به ؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم، فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيا غير هذا.
فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد.
قالوا: وما هو يا أبا الحكم ؟ قال: أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا نسيبا وسيطا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه بأجمعهم فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إن فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم.
فقال الشيخ النجدي أخزاه الله، القول ما قال الرجل، هذا الرأي لا أرى غيره.
وذكر ابن الكلبي أن إبليس لما حمد رأي أبي جهل لعنه الله قال:
الرأي رأيان: رأي ليس يعرفه * هاد ورأي كنصل السيف معروف يكون أوله عز ومكرمة * يوما وآخره جد وتشريف وتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.
فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، وأخبره بمكر القوم وإذن الله تعالى له بالخروج.
فلما كانت العتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: (نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الا حضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام.
فلما اجتمعوا قال أبو جهل بن هشام: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الاردن وإن أنتم لم تفعلوا كان فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون فيها.
فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال: (نعم أنا أقول ذلك وأنت أحدهم).
وأخذ الله عزوجل على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل يذري ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الايات: (يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم) إلى قوله تعالى: (فأغشيناهم فهم لا يبصرون) (يس: 1 - 9) فلم يبق منهم رجل الا وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب.(3/232)
فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: (ما تنتظرون ههنا) ؟ قالوا: (محمدا).
قال: (خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم) ؟ قال: (فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب)، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما عليه بردة.
فلم يزالوا كذلك حتى أصبحوا.
فقام علي رضي الله عنه من الفراش.
فقالوا: (والله لقد صدقنا الذي كان حدثناه).
وذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غار ثور.
وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (شرى علي نفسه ولبس ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه).
وكان المشركون يرجون رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يرمون عليا ويرونه النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل علي يتوضأ فإذا هو علي، فقالوا: إنك للئيم، إنك لتتضور (1) وكان صاحبك لا يتضور وقد استنكرناه منك.
وروى الحاكم عن علي بن الحسين رضي الله عنهما قال: إن أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله علي، وقال في ذلك شعرا: وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى * ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر رسول إله خاف أن يمكروا به * فنجاه ذو الطول الاله من المكر وبات رسول الله في الغار آمنا * موقى وفي حفظ الاله وفي ستر وبت أراعيهم وما يتهمونني * وقد وطنت نفسي على القتل والاسر قال ابن اسحاق: وكان مما أنزل الله عز وجل من القرآن في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك) بالوثاق والحبس والاثخان با لجرح (أو يقتلوك) بسيوفهم (أو يخرجوك) - من مكة - (ويمكرون) - يحتالون في أمرك - (ويمكر الله) - يجازيهم جزاء مكرهم فسمى الجزاء مكرا لانه في مقابلته، والمعنى أنهم احتالوا في إبطال أمر محمد صلى الله عليه وسلم والله تعالى منعه منهم وأظهره وقواه ونصره فضاع فعلهم وظهر فعل الله عز وجل - (والله خير الماكرين) (الانفال: 30) - لان مكره حق، وإتيان هذا مما يحسن للمزاوجة ولا يجوز إطلاقه ابتداء لما فيه من إيهام الذم، وهذه السورة مدنية، وهذه الواقعة كانت بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة.
وقد ذكر الله تعالى النبيه محمدا صلى الله عليه وسلم نعمته عليه.
قال ابن إسحاق: وأنزل الله تعالى في ذلك (فذكر) - أي دم على تذكير المشركين ولا ترجع عنهم لقومهم لك كاهن مجنون (فما أنت بنعمة ربك كاهن) - جزما - (ولا مجنون) معطوف عليه - (أم) - بل - (يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) - أي حوادث
__________
(1) قال ابن الاثير: أي تتلوى وتضيع وتتقلب ظهرا لبطن.
انظر النهاية 3 / 105.
(*)(3/233)
الدهر فيهلك كغيره من الشعراء - (قل) - لهم - (تربصوا) - هلاكي - (فإني معكم من المتربصين) (الطور: 29، 31) - لهلاككم، فعذبوا بالسيف يوم بدر، والتربص الانتظار.
تنبيهات الأول: روى ابن جرير وابن المنذر عن عبيد بن عمير، وابن جرير من طريق آخر عن المطلب بن أبي وداعة قال: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه قال عمه أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال: يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني.
قال: من حدثك بهذا ؟ قال: ربي.
قال: نعم الرب ربك إلى آخره.
قال في البداية: ذكر أبي طالب فيه غريب بل منكر لان القصة قبل الهجرة وذلك بعد موت أبي طالب بثلاث سنين.
الثاني: قال السهيلي: إنما قال لهم إبليس إنه من أهل نجد لانهم قالوا: لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة لان هواهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك تمثل لهم في صورة شيخ نجدي وقد تقدم في بنيان قريش الكعبة أنه تمثل في صورة شيخ نجدي حين حكموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الركن من يرفعه، فصاح الشيخ النجدي: يا معشر قريش، أقد رضيتم أن يليه هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أسنانكم، فإن صح هذا الخبر فلمعنى آخر تمثل نجديا وذلك أن نجدا يطلع منها قرن الشيطان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قيل له: وفي نجدنا يا رسول الله ؟ قال: هنا لك الزلازل والفتن ومنها يطلع قرن الشيطان.
الثالث: المانع لهم من التقحم تلك الليلة على علي وهم يظنونه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم لم يزالوا قياما حتى أصبحوا أن بعض أهل السير ذكروا السبب المانع من ذلك مع قصر الجدار وأنهم إنما جاؤوا لقتله، فذكر في الخبر أنهم هموا بالولوج عليه فصاحت امرأة من الدار، فقال بعضهم لبعض: والله إنها للسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا ستر حرمتنا (فهذا هو الذي أقامهم بالباب حتى أصبحوا ينتظرون خروجه ثم طمست أبصارهم عنه حين
خرج) وقال بعضهم: (الحكمة في كون الموضوع على رأسهم ترابا دون غيره الاشارة لهم بأنهم الارذلون الاصغرون الذين أرغموا وألصقوا بالرغام وهو التراب، وأنه سيلصقهم بالتراب بعد هذا).
الرابع: روى ابن منده وغيره عن مارية خادم النبي صلى الله عليه وسلم أنها طأطأت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد حائطا ليلة فر من المشركين، وما سبق في القصة من أنه طلع على المشركين من الباب أقوى سندا منه، وحديث مارية فيه مجاهيل.
الخامس: في قراءته صلى الله عليه وسلم الايات من سورة يس من الفقه التذكرة بقراءة الخائفين لها اقتداء به صلى الله عليه وسلم، وورد في بعض الاثار: ما قرأها خائف إلا أمن.
السادس: في بيان غريب ما سبق: (منعة): سبق بيانها.(3/234)
(شيخ جليل): يقال جل الرجل وجلت المرأة إذا أسنا.
(عليه بت): البت بفتح الموحدة وتشديد المثناة الفوقية: الكساء الغليظ المربع وقيل الطيلسان من خز.
(أجل): بفتح الهمزة والجيم وإسكان اللام مخففة بمعنى نعم.
(أجمعوا فيه رأيا) بفتح الهمزة وكسر الميم: يقال أجمعت الامر وعلى الامر إذا عزمت عليه.
(أوشكوا) (1): بفتح الهمزة والشين المعجمة: أي أسرعوا.
(أظهرنا): بينا.
(ألفتنا): بضم الهمزة.
(أن يحل): بفتح أوله وضم الحاء المهملة أي ينزل.
(جلدا): بفتح الجيم وكسر اللام: أي قويا.
(وسطا): بفتح الواو وكسر السين والطاء المهملتين: أي حسيبا في قومه.
(صارما): قاطعا.
(نعمد) بكسر الميم في المستقبل وفتحها في الماضي.
(العقل) كعقل الانسان: الدية.
(عتمة الليل): بفتح العين والمثناة الفوقية وقت صلاة العشاء، وقيل ثلث الليل الأول من الليل بعد غيبوبة الشفق، وعتمة الليل ظلامه.
(الحضرمي): منسوب إلى حضرموت.
(تابعتموه): بمثناة فوقية وموحدة من المتابعة.
(بعثتم) بالبناء للمفعول.
(الجنان) جمع جنة: البستان.
(الاردن): بهمزة مضمومة فراء ساكنة فدال مهملة فنون مشددة: الكورة المعروفة من أرض الشام بقرب بيت المقدس.
(حفنة) (2): بفتح الحاء المهملة وسكون الفاء هي مل ء الكف والشئ المحصول حفنة بالضم ويجوز الفتح، والمرة بالفتح ليس غير.
(صدقنا): بفتح الدال المخففة: أي حدثنا حديث صدق.
__________
(1) وشك بضم الشين يوشك وشكا ووشاكة ووشكانا أسرع وأوشك هو بمعنى وشك ويستعمل فعل مقاربة ويكون بمعنى: يقرب ويدنو أيضا.
الوسيط 2 / 1035.
(2) الحفن بفتح الحاء: أجزلوا الشئ براحة كفك والاصابع مضمومة وفي حديث الشفاعة: إنما نجد حفنة من حفنات الله.
اللسان 2 / 934.
(*)(3/235)
الباب الثالث في قدر إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة بعد البعثة ورؤياه الارض التي يهاجر إليها
روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاث عشرة سنة، والرواية عن ابن عباس في ذلك مختلفة، وسيأتي تحريرها في الوفاة النبوية إن شاء الله تعالى وعن أبي موسى الاشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب)، رواه الشيخان (1) وعن صهيب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين فإما أن تكون هجرا أو يثرب)، رواه الترمذي والحاكم والطبراني (2).
وروى الامام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عبد الله بن عدي بن الحمراء (3) رضي الله عنه، والامام أحمد والنسائي عن أبي هريرة، قال الحافظ: وذكره وهم وإنما هو عبد الله بن عدي، والحاكم وابن جميع عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على الحزورة فقال: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك) (4).
تنبيهات الأول: قال ابن التين: أري النبي صلى الله عليه وسلم أولا دار هجرته بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم أري الصفة المختصة بالمدينة فتعينت.
الثاني: حديث أبي هريرة مرفوعا: (اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك) (5)، رواه الحاكم، وقال الذهبي: إنه موضوع، وقال ابن عبد البر: لا
__________
(1) أخرجه البخاري 4 / 247 ومسلم في كتاب الرؤيا (20) وابن ماجه (3921).
(2) أخرجه الحاكم 3 / 400 والطبراني في الكبير 8 / 37 والبيهقي في الدلائل 2 / 522.
(3) عبد الله بن عدي بن الحمراء القرشي الزهري ويقال إنه عقبي حالف بني زهرة.
قال البخاري: له صحبة يكنى أبا عمر وأبا ع مرو وكان ينزل قديدا وهو من مسلمة الفتح روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في مكة روى عنه أبو سلمة ومحمد بن جبير بن مطعم وقال البغوي: سكن المدينة.
الاصابة 4 / 105.
(4) أخرجه الترمذي (3925) وابن ماجه (3108) والحاكم 3 / 7 وأحمد في المسند 4 / 305 والدارمي 2 / 239 وابن
عبد البر في التمهيد 2 / 288.
(5) ذكره العجلوني في كشف الخفا 1 / 213 وعزاه للحاكم في المستدرك وابن سعد في شرف المصطفى عن أبي هريرة مرفوعا، قال: قال الحاكم: ومسنده مدنيوه في بيت أبي سعيد المقبري انتهى، وفي سنده عبد الله بن أبي سعيد المقبري ضعيف جدا، قال ابن عبد البر: لا يختلف أهل العلم في نكارته ووضعه، وقال ابن حزم: هو حديث لا يسند، وإنما هو مرسل من جهة محمد بن الحسن بن زبالة وهو هالك.
(*)(3/236)
يختلف أهل العلم أنه منكر موضوع.
الثالث: في بيان غريب ما سبق: (وهلي): بفتح أوله وثانيه: أي ظني، يقال: وهل يهل وهلا بالسكون إذا ظن شيئا فتبين الامر خلافه.
(اليمامة): مدينة على يومين من الطائف وأربعة من مكة.
(هجر): بفتح أوله وثانيه وهي هنا مدينة باليمن، وهي قاعدة البحرين وهي من مساكن عبد القيس، وقد سبقوا غيرهم من القرى إلى الاسلام، يذكر ويؤنث، قال الجوهري: مذكر مصروف.
(أرض سبخة): بفتح السين المهملة وكسر الموحدة وتسكن وتفتح، أي مالحة.
(ظهراني حرتين): أي بينهما والحرتان: تثنية حرة وهي أرض ذات حجارة سود.
(الحزورة): بحاء مفتوحة فزاي ساكنة فواو فراء، سوق كانت بمكة أدخلت في المسجد.(3/237)
الباب الرابع في هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة وما وقع في ذلك من الايات
قال الله تعالى: (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) (الاسراء 80).
روى الامام أحمد والترمذي والحاكم والضياء وصححوه عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأمر بالهجرة من مكة وأنزل عليه (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) (الاسراء 80) الهجرة إلى المدينة (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا): كتاب الله عز وجل، وفرائضه وحدوده.
وروى الحاكم وصححه عن قتادة في الاية قال: (أدخلني مدخل صدق) يعني المدينة (وأخرجني مخرج صدق) يعني مكة.
وروى الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم في الاية قال: جعل الله تعالى مدخل صدق المدينة ومخرج صدق مكة، وسلطانا نصيرا الانصار.
قال ابن سعد: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من بيته أتى بيت أبي بكر بمكة فكان فيه إلى الليل، ثم خرج هو وأبو بكر فمضيا إلى غار ثور فدخلاه).
وروى موسى بن عقبة وابن إسحاق والامام أحمد والبخاري وابن حبان عن عائشة رضي الله عنها، وابن إسحاق والطبراني عن أختها أسماء رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي).
فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي وأمي أنت ؟ قال: (نعم).
فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عند ورق السمر (1)، وهو الخبط (2) أربعة أشهر.
(قال ابن شهاب: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت:) (لم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية).
قالت: (فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة (3) قال قائل لابي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها).
فقال أبو بكر: (فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر).
قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن فه فدخل، فتأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فقال أبو بكر: (يا رسول الله ما جاء بك إلا أمر حدث).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) السمر: هو ضرب من شجر الطلح الواحدة سمرة، انتظر النهاية لابن الاثير 2 / 399.
(2) الخبط، ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها، واسم الورق الساقط خبط بالتحريك، فعل بمعنى مفعول، وهو من علف الابل.
انظر النهاية لابن الاثير 2 / 7.
(*)(3/238)
لابي بكر: (أخرج من عندك).
فقال أبو بكر: لا عين عليك إنما هي ابنتاي، وفي لفظ: أهلك.
قال: (إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة).
فقال أبو بكر: (الصحبة يا رسول الله).
قال: (نعم).
قالت عائشة: (فوالله ما أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ).
قال أبو بكر: (يا رسول الله خذ إحدى راحلتي هاتين).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بالثمن، لا أركب بعيرا ليس هو لي).
قال: فهو لك.
قال: (لا ولكن بالثمن الذي ابتعتها به).
قال (أخذتها بكذا وكذا).
قال (أخذتها بذلك).
قال: هي لك.
وعند البخاري في غزوة الرجيع أنها الجدعاء، وأفاد الواقدي أن الثمن ثمانمائة.
واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش - وأسلم بعد ذلك - فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث.
قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب.
وأفاد الواقدي أنه كان في السفرة شاة مطبوخة.
قالت عائشة: فشقت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها - وفي لفظ قطعت نطاقها قطعتين فأوكت بقطعة منه الجراب وشدت فم القربة بالباقي فسميت ذات النطاق وفي لفظ النطاقين.
وعند البلاذري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن لها نطاقين في الجنة) (1) فسميت ذات النطاقين.
قال ابن إسحاق: وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بخروجه وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته).
قالت عائشة: (ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بغار في جبل ثور).
وفي حديث عمر عند البيهقي أنهما خرجا ليلا.
وذكر ابن
إسحاق والواقدي أنهما خرجا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر.
وروى أبو نعيم عن عائشة بنت قدامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد خرجت من الخوخة متنكرا فكان أول من لقيني أبو جهل فأعمى الله عز وجل بصره عني وعن أبي بكر حتى مضينا).
قالت أسماء: (وخرج أبو بكر بماله خمسة آلاف درهم).
قال البلاذري: (وكان مال أبي بكر يوم أسلم أربعين ألف درهم، فخرج إلى المدينة للهجرة وماله خمسة آلاف أو أربعة، فبعث ابنه عبد الله فحملها إلى الغار).
قالت: (فدخل علينا جدي أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال: (والله إني لاراه قد فجعكم بماله مع نفسه).
قالت: (ققلت: كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا).
قالت: (فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت، كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده
__________
(1) أخرجه البخاري 6 / 150 (2979).
(*)(3/239)
فقلت: يا أبت ضع يدك على هذا المال.
قالت: فوضع يده عليه.
فقال: لا بأس إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم.
ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك).
وفي حديث عند البيهقي أن أبا بكر رضي الله عنه لما خرج هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، جعل أبو بكر يمشي مرة أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: (يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك لامن عليك، فلما انتهينا إلى فم الغار قال أبو بكر: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شئ نزل بي قبلك).
فدخله فجعل يلتمس بيده، فجعل كلما دخل جحرا قام إلى ثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع: فبقي جحر) فوضع عقبيه عليه، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت الحيات يلسعن أبا بكر رضي الله عنه وجعلت دموعه تنحدر.
وروى ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي بكر أنهما لما انتهيا إلى الغار إذا جحر فألقمه
أبو بكر رجليه.
قال: (يا رسول الله إن كان لدغة أو لسعة كانت بي).
وروى ابن مردويه عن جندب بن سفيان قال: (لما انطلق أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار قال أبو بكر: يا رسول الله لا تدخل الغار حتى استبرئه.
فدخل أبو بكر الغار فأصاب يده شئ فجعل يمسح الدم عن إصبعه ويقول هل أنت ألا إصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت وفي حديث أنس عند أبي نعيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح قال لابي بكر (أين ثوبك) ؟ فأخبره بالذي صنع فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: (اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة).
فأوحى الله إليه: (قد استجاب الله تعالى لك) (1).
وروى ابن سعد وأبو نعيم والبيهقي وابن عساكر عن أ بي مصعب المكي قال: (أدركت أنس بن مالك، وزيد بن أرقم، والمغيرة بن شعبة يتحدثون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر شجرة - وفي رواية عند قاسم بن ثابت: أنبت الله شجرة الراءة، فنبتت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسترته، وبعث الله العنكبوت فنسجت ما بينهما فسترت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا في فم الغار، وأقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وهراويهم وسيوفهم، حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وسلم على أربعين ذراعا، جعل بعضهم ينظر في الغار فلم ير إلا حمامتين وحشيتين بفم الغار، فرجع إلى أصحابه، فقالوا له: ما لك ؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين فعرفت أنه ليس فيه
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية 1 / 33 وذكره السيوطي في الجامع الكبير (9338).
(*)(3/240)
أحد، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قال، فعرف أن الله قد درأ عنه بهما فبارك عليهما النبي صلى الله عليه وسلم وفرض جزاءهن وانحدرتا في الحرم فأفرخ ذلك الزوج كل شئ في الحرم.
وروى الامام أحمد بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن المشركين قصوا أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، فمكث فيه ثلاثة أيام.
وروى الحافظ أبو بكر أحمد بن سعيد (1) القاضي شيخ النسائي في مسند الصديق عن الحسن البصري قال: (جاءت قريش يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوا على باب الغار نسج العنكبوت قالوا: لم يدخله أحد.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلي وأبو بكر يرتقب.
فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء قومك يطلبونك، أما والله ما على نفسي أبكي ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تخف إن الله معنا) وروى الامام أحمد والشيخان عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدمه لابصرنا تحت قدميه) فقال: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) (2).
وروى أبو نعيم في الحلية عن عطاء بن ميسرة قال: (نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود حين كان طالوت يطلبه ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم في الغار).
وذكر البلاذري في تاريخه وأبو سعيد في الشرف أن المشركين استأجروا رجلا يقال له علقمة بن كرز بن هلال الخزاعي - وأسلم عام الفتح - فقفا لهم الاثر حتى انتهى إلى غار ثور (3) وهو بأسفل مكة فقال: ههنا انقطع أثره ولا أدري أخذ يمينا أم شمالا أم صعد الجبل.
فلما انتهوا إلى فم الغار قال أمية بن خلف: ما أربكم في الغار ظ إن عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمد.
ثم جاء فبال.
وروى البيهقي عن عروة أن المشركين لما فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبوا في كل وجه يطلبونه وبعثوا إلى أهل المياه يأمرونهم به ويجعلون لهم الجعل العظيم وأتوا على ثور الجبل الذي فيه الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى طلعوا فوقه، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أصواتهم، فأشفق أبو بكر وبكى وأقبل عليه الهم والحزن والخوف، فعند ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تحزن إن الله معنا) (التوبة - 40) ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت السكينة من الله
__________
(1) أحمد بن سعد بن الحكم بن محمد بن سالم الجمحي أبو جعفر بن أبي مريم المصري الحافظ عن أبيه وأبي اليمان وحبيب كاتب مالك وسأل ابن معين عن الرجال.
وعنه وقال: لا بأس به.
قال ابن يونس: توفي يوم عرفة سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
الخلاصة 1 / 14.
(2) أخرجه البخاري 5 / 4 ومسلم في فضائل الصحابة (1) وأحمد في المسند 1 / 4.
(3) انظر.
مراصد الاطلاع 1 / 302.
(*)(3/241)
تعالى.
وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس في قوله تعالى: (فأنزل الله سكينته عليه) قال: على أبي بكر لان النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل السكينة معه) (1) (التوبة - 40).
وروى أبو نعيم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن أبا بكر رأى رجلا مواجها الغار فقال: (يا رسول الله إنه يرانا).
قال: كلا إن الملائكة تستره الان بأجنحتها).
فلم ينشب أن قعد يبول مستقبلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر لو كان يراك ما فعل هذا).
ويرحم الله الشرف البوصيري حيث قال: ويح قوم جفوا نبيا بأرض * ألفته ضبابها والظباء وسلوه وحن جذع إليه * وقلوه ورده الغرباء أخرجوه منها وآواه غار * وحمته حمامه ورقاء وكفته بنسجها عنكبوت * ما كفته الحمامة الحصداء وحيث قال: أقسمت بالقمر المنشق أن له * من قلبه نسبة مبرورة القسم وما حوى الغار من خير ومن كرم * وكل طرف من الكفار عنه عم فالصدق في الغار والصديق لم يردا * وهم يقولون ما بالغار من أرم ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على * خير البرية لم تنسج ولم تحم وقاية الله أغنت عن مضاعفة * من الدروع وعن عال من الاطم لطيفة: سئل بعضهم عن الحكمة في اختفائه صلى الله عليه وسلم في غار ثور دون غيره فأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الفأل الحسن، وقد قيل إن الارض مستقرة على قرن الثور فناسب استقراره
صلى الله عليه وسلم في غار ثور تفاؤلا بالطمأنينة والاستقرار فيما يقصده هو ورفيقه.
وروى ابن عدي وابن عساكر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: (هل قلت في أبي بكر شيئا) ؟ قال: نعم.
قال: (قل وأنا أسمع)، فقال: والثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العدو به إذ صعد الجبلا وكان حب رسول الله قد علموا * من البرية لم يعدل به رجلا فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: (صدقت يا حسان هو كما قلت (2).
__________
(1) ذكره المتقي الهندي في الكنز (46281).
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 77 وابن سعد في الطبقات 3 / 1 / 123 والطبراني 8 / 156.
(*)(3/242)
قالت عائشة رضي الله عنها: (فكمنا في الغار ثلاث ليال وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما، وهو غلام ثقف (1) لقن، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش (بمكة كبائت)، فلا يسمع بأمر يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام.
وعند ابن إسحاق أن أسماء بنت أبي بكر كانت تأتيهما إذا أمست بما يصلحهما من الطعام.
وكان عامر بن فهيرة يرعى غنما لابي بكر في رعيان أهل مكة فإذا أمسى يريحهما عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما (2) (حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس)، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.
فلما مضت الثلاث وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجراه فركبا وانطلق معهما عارم بن فهيرة والدليل الديلي.
وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه ليخدمهما في الطريق - وعند البخاري في غزوة الرجيع كان عامر بن فهيرة غلاما لعبد الله بن الطفيل بن سخبرة أخو عائشة لامها - وأخذ بهما الدليل طريق الساحل أسفل من عسفان (3) ثم أجاز بهما حتى عادا من الطريق على أمج.
وروى أبو نعيم من طريق إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق قال: (بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج مهاجرا قال: (الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا، اللهم أعني على هول الدنيا وبوائق الدهر ومصائب الليالي والايام، اللهم اصحبني في سفري واخلفني في أهلي وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذللني، وعلى صالح خلقي فقومني، وإلى ربي فحببني، وإلى الناس فلا تكلني، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والارض فكشفت به الظلمات وصلح عليه أمر الاولين والاخرين، أن يحل بي غضبك أو ينزل على سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك وفجاءة نقمتك وتحول عاقبتك وجميع سخطك، لك العتبى خير ما استطعت، ولا حول ولا قوة إلا بك) (4).
وروى الامام أحمد والشيخان ويعقوب بن سفيان عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن أباه قال لابي بكر رضي الله عنه: كيف صنعتما ليلة سريت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: خرجنا
__________
(1) ثقف: أي ذو فطنة وذكاء.
ورجل ثقف، وثقف، وثقف والمراد أنه ثابت المعرفة بمتا يحتاج إليه.
انظر النهاية 1 / 216.
(2) الرضيف: اللبن المرضوف، وهو الذي طرح فيه الحجارة المحماة ليذهب وخمه.
انظر النهاية 2 / 231.
(3) عسفان بضم أوله، وسكون ثانيه، ثم فاء، وآخره نون.
قيل: منهلة من مناهل الطريق.
بين الجحفة ومكة.
وقيل: عسفان بين المسجدين، وهي من مكة على مرحلتين.
وقيل: هو قرية جامعة على ستة وثلاثين ميلا من مكة، وهي حد تهامة وبين عسفان إلى ملل موضع يقال له الساحل.
مراصد الاطلاع 2 / 940.
(4) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9234) وذكره المتقي الهندي في الكنز (17615) وابن كثير في البداية والنهاية 3 / 178.
(*)(3/243)
فأدلجنا فأحيينا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة فضربت ببصري هل أرى ظلا نأوي إليه فإذا أنا بصخرة فأهويت إليها فإذا بقية ظلها فسويته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرشت له فروة ثم قلت: اضطجع يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك، ثم خرجت هل أرى أحدا من الطلب فإذا براع مقبل بغنمه يريد من الصخرة ما أردنا: فلقيته فقلت له: لمن أنت يا غلام ؟ فقال:
لرجل من أهل مكة، فسماه فعرفته فقلت: هل في غنمك من لبن ؟ قال: نعم.
قلت: هل أنت حالب لي ؟ قال: نعم.
فأمرته فاعتقل شاة منها.
فقلت: انفض الضرع من التراب والقذى، فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن ومعه إداوة أرتوى فيها للنبي صلى الله عليه وسلم يشرب منها ويتوضأ، على فمها خرقة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وكرهت أن أوقظه من نومه، فوقفت حتى استيقظ، فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله، فقلت: يا رسول الله اشرب من هذا اللبن.
فشرب حتى رضيت.
ثم قال: (ألم يأن الرحيل ؟) قلت: بلى.
قال: فارتحلنا بعد ما زالت الشمس (1).
قصة أم معبد رضي الله عنها روى الطبراني والحاكم وصححه، وأبو نعيم وأبو بكر الشافعي عن حبيش بن خالد الاشعر الخزاعي القديدي (2)، أخي أم معبد رضي الله عنهما، وأبو بكر الشافعي عن أبي سليط - بفتح السين المهملة وكسر اللام فمثناة تحتية فطاء مهملة - واسمه أسيرة - بضم أوله وفتح ثانيه وسكون المثناة ا لتحتية - ابن عمرو الانصاري رضي الله عنه، وابن سعد والبيهقي عن أبي معبد، وابن السكن عن أم معبد رضي الله عنها، والبزار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة هو وأبو بكر، ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة ودليلهم الليثي عبد الله بن الاريقط، مروا على خيمة أم معبد الخزاعية، وهي لا تعرفه، وكانت برزة جلدة تحتبي بفناء القبة ثم تسقي وتطعم فسألوها لحما وتمروا ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وإذا القوم مرملون مسنتون.
فقالت: والله لو كان عندنا شئ ما أعوزناكم.
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة - وفي لفظ في كفاء البيت - فقال: " ما هذه الشاة يا أم معبد " ؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم.
قال: " هل بها من لبن " ؟ قالت: هي أجهد من ذلك.
قال: " أتأذنين لي أن أحلبها " ؟ قالت: بأبي أنت وأمي نعم إن رأيت به حلبا فحلبها فوالله ما ضربها فحل قط
__________
(1) أخرجه البخاري 4 / 245 ومسلم في كتاب الزهد (75).
(2) حبيش بن خالد بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن حبيش بن حزام بن حبشية بن كعب بن عمرو: وقيل: حبيش بن خالبد بن حليف بن منقذ بن ربيعة.
وقيل: حبيش بن خالد بن ربيعة لا يذكرون منقذا، الخزاعي الكعبي، أبو صخر،
وأبوه خالد يقال له: الأشعر.
وقال ابن الكلبي: حبيش هو الأشعر، وزاد في نسبه، فقال: حبيش بن خالد بن حليف بن منقذ بن أصرم، وواقفه ابن ماكولا إلا أنه جعل الأشعر خالدا.
وقال إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق: خنيس، بالخاء المعجمة والنون، والأول أصح، يكنى أبا صخر، وهو أخو أم معبد، وصاحب حديثها.
أسد الغابة 1 / 451.
(*)(3/244)
فشأنك بها.
فدعا بها رسول الله فمسح بيده ضرعها وظهرها وسمى الله عز وجل ودعا لها في شاتها فتفاجت عليه ودرت واجترت، ودعا بإناء يربض الرهط (1) فحلب فيه ثجا حتى علاه البهاء - وفي لفظ الثمال - ثم سقاها حتى رويت ثم سقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب صلى الله عليه وسلم آخرهم، وقال: " ساقي القوم آخرهم شربا " (2).
ثم حلب فيه ثانية بعد بدء حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها.
فبايعها وارتحلوا عنها.
وروى ابن سعد وأبو نعيم عن أم معبد قالت: " بقيت الشاة التي لمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرعها عندنا حتى كان زمان الرمادة وهي سنة ثماني عشرة من الهجرة زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا، وما في الأرض قليل ولا كثير ".
وقال هشام بن حبيش: " أنا رأيت الشاة وإنها لتأدم أم معبد وجميع صرمتها "، أي أهل ذلك الماء.
فقل ما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا حيالا (3) عجافا يتساوكن هزالا مخهن قليل.
فلما رأى اللبن عجب فقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد والشاة عازب ولا حلوب في البيت ؟ قالت: " لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا ".
قال: " صفيه لي يا أم معبد ".
قالت: " رأيت رجلا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق، لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج وفي أشفاره وطف وفي صوته صحل - أو قالت صهل - وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزج أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر،
غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله وإذا أمر تبادروا إلى أمره، محفود (4) محشود لا عابس ولا مفند ".
فقال أبو معبد: " هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره بمكة ما ذكر ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا ".
قالت أسماء رضي الله عنها: " لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أتانا نفر من قريش
__________
(1) يربض الرهط: أي يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الأرض.
من ربض في المكان يربض إذا لصق به وأقام ملازما له.
انظر النهاية 2 / 184.
(2) أخرجه أبو داود (3725) والترمذي (1894) وابن ماجه (3434) وأحمد في المسند 4 / 354 والدارمي 2 / 122 والبيهقي في السنن 7 / 28.
(3) قال ابن الأثير: أي غير حوامل، حالت تحول حيالا وهي شاء حيال، وإبل حيال.
والواحدة حائل، وجمعها حول أيضا بالضم، انظر النهاية 1 / 643.
(4) المحفود: الذي يخدمه أصحابه ويعظمونه ويسرعون في طاعته.
انظر النهاية 1 / 406.
(*)(3/245)
فيهم أبو جهل بن هشام فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر ؟ " فقلت " والله لا أدري أين أبي ".
فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشا خبيثا، فلطم خدي لطمة خرج منها قرطي، ثم انصرفوا، فمكثنا ثلاثة أيام ما ندري أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى رجل من الجن من أسفل مكة يتعنى بأبيات من شعر غناء العرب وتبعه الناس يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلا مكة وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين قالا خيمتي أم معبد هما نزلا بالبر وارتحلا به * فأفلح من أمسى رفيق محمد فيالقصي ما زوى الله عنكم * به من فعال لا تجارى وسودد ليهن بني كعب مقام فتاتهم * ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها * فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد دعاها بشاة حائل فتحلبت * له بصريح ضرة الشاة مزبد فغادرها رهنا لديها لحالب * يرددها في مصدر ثم مورد (1) فلما سمع ذلك حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه قال يجاوب الهاتف: لقد خاب قوم غاب عنهم نبيهم وقدس من يشري إليه ويغتدي ترحل عن قوم فضلت عقولهم * وحل على قوم بنور مجدد هداهم به بعد الضلالة ربهم * وأرشدهم من يتبع الحق يرشد وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا * عمى وهداة يهتدون بمهتد لقد نزلت منه على أهل يثرب * ركاب هدى حلت عليهم بأسعد نبي يرى ما لا يرى الناس حوله * ويتلو كتاب الله في كل مسجد وإن قال في يوم مقالة غائب * فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد ليهن أبا بكر سعادة جده * بصحبته من يسعد الله يسعد (2) وروى البيهقي بسند حسنه والحافظ ابن كثير عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فانتهينا إلى حي من أحياء العرب فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت منتحيا فقصد إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت: يا عبدي الله إنما أنا امرأة وليس معي أحد فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى.
قال: فلم نجبها، وذلك عند المساء، فجاء ابن لها بأعنز له يسوقها.
فقالت له: يا بني انطلق بهذه العنزة والشفرة إلى هذين الرجلين
__________
(1) الأبيات في الروض الأنف 2 / 234 وديوان حسان ص 59.
(2) القصيدة في الروض 2 / 235 وانظر ديوان حسان ص 59، 60.
(*)(3/246)
فقل لهما: تقول لكم أمي: اذبحا هذه وأطعمانا.
فلما جاء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " انطلق بالشفرة وجئني بالقدح ".
قال: إنها عازب وليس لها لبن.
قال: " انطلق ".
فانطلق فجاء بقدح فمسح
النبي صلى الله عليه وسلم صرعها ثم حلب مل ء القدح ثم قال: انطلق به إلى أمك.
فشربت ثم رويت ثم جاء به.
فقال: انطلق بهذه وجئني بأخرى ففعل بها كذلك.
ثم سقى أبا بكر، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك ثم شرب النبي صلى الله عليه وسلم ".
" فلبثنا ليلتين ثم انطلقنا، وكانت تسميه المبارك، وكثرت غنمها حتى جلبت حلبا إلى المدينة فمر أبو بكر رضي الله عنه فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أمه إن هذا الرجل الذي كان مع المبارك، فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك ؟ قال: وما تدرين ؟ قالت: لا.
قال: هو نبي الله صلى الله عليه وسلم قالت: فأدخلني عليه.
قال: فأدخلها فأطعهما وأعطاها.
وفي رواية: فأهدت إليه شيئا من أقط ومتاع الأعراب، فكساها وأعطاها "، قال - ولا أعلمه إلا قال: " أسلمت " (1).
قال البيهقي في الدلائل: " وهذه القصة وإن كانت تنقص عما روينا في قصة أم معبد وتزيد في بعضها، فهي قريبة منها ويشبه أن تكونا واحدة، وقد ذكر ابن إسحاق في قصة أم معبد شيئا يدل على أنها وهذه القصة واحدة.
ثم روى البيهقي من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: " فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيمة أم معبد وهي التي تمرد بها الجن بأعلا مكة.
واسم أم معبد عاتكة بنت خالد بن خليف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم (الخزاعية)، فأراد القرى فقالت: والله ما عندنا طعام ولا لنا منحة ولا لنا شاة إلا حائل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده فدعا الله تعالى فحلب في العس حتى رغى، وقال: " اشربي يا أم معبد ".
قالت: اشرب أنت به أحق.
فرده عليها فشربت.
ثم دعا بحائل أخرى ففعل به مثل ذلك، فسقى دليله ثم دعا بحائل ففعل بها مثل ذلك فسقى عامر بن فهيرة، ثم استراح.
وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد فسألوها عنه فقالوا: (أرأيت محمدا من حليته كذا وكذا) ؟ فوصفوه لها، فقالت: (ما أدري ما تقولون فقد ضافني حالب الحائل) ؟ قالت قريش: (فذلك الذي أردنا).
قاله البيهقي: فيحتمل أولا أنه رأى التي في كسر الخيمة، كما روينا في حديث أم معبد، ثم رجع ابنها بأعنز كما روينا ثم لما أتى زوجها وصفته له، والله
أعلم.
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل 2 / 222 وذكره المتقي الهندي في الكنز (46287) وابن كثير في البداية والنهاية 3 / 191.
(*)(3/247)
قصة سراقة رضي الله عنه روى الامام أحمد ويعقوب بن سفيان والشيخان عن سراقة بن مالك رضي الله عنه، والامام أحمد والشيخان ويعقوب عن أبي بكر رضي الله عنه قال سراقة بن جعشم: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دية كل واحد منهما مائة ناقة من الابل لمن قتله أو أسره، فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا (ونحن جلوس) فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل - وفي لفظ: ركبة ثلاثة - أراها محمدا وأصحابه.
قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فأومأت إليه بعيني أن أسكت، فسكت، ثم قلت له: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا يبتغون ضالة لهم.
ثم لبثت في المجلس ثم قمت فدخلت بيتي فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فحططت بزجه الارض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي حتى رأيت أسودتهما، فلما دنوت منهم عثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الازلام فاستقسمت بها أضرهم، أم لا أضرهم، فخرج الذي أكره: أني لا أضرهم، وكنت أرجو أن أرده فآخذ المائة ناقة، فركبت فرسي وعصيت الازلام فرفعتها تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الارض حتى بلغت الركبتين فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لاثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالازلام فخرج الذي أكره - ألا أضرهم - قال: فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني وأنه ظاهر، فناديتهم بالامان وقلت:
أنظروني فوالله لا آذيتكم ولا يأتيكم مني شئ تكروهونه.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابي بكر: (قل له وما تبتغي منا) ؟ فقلت: إن قومك قد جعلوا فيكما الدية وأخبرتهما أخبار ماى ريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني شيئا ولم يسألاني إلا أن قال: (أخف عنا) فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة آمن به، قال: (اكتب له يا أبا بكر) - وفي رواية: فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ثم رجعت) فسكت فلم أذكر شيئا مما كان حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرغ من حنين والطائف خرجت لالقاه ومعي الكتاب الذي كتب لي (لقيته بالجعرانة) قال: (فبينا أنا عامد له دخلت بين ظهري كتيبة من كتائب الانصار، فطفقوا يقرعونني بالرماح ويقولون: إليك إليك حتى إذا دنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته،(3/248)
والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه (1) كأنها جمارة (2).
قال: فرفعت يدي بالكتاب.
ثم قلت: يا رسول الله هذا كتابك لي وأنا سراقة بن مالك قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوم وفاء وبر أدنه)، فدنوت منه فأسلمت، ثم تذكرت شيئا أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فما أذكره، إلا أني قلت: يا رسول الله الضالة من الابل تغشى حياضي وقد ملاتها لابلي هل لي من أجر (في أن أسقيها) ؟ قال: (نعم في كل ذات كبد حرى أجر) قال: ثم رجعت إلى قومي فشقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقتي (3).
وقال أبو بكر رضي الله عنه: (وتبعنا سراقة بن مالك ونحن في جلد من الارض فقلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا.
قال: (لا تحزن إن الله معنا).
فلما دنا منا وكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة قلت: هذا الطلب قد لحقنا وبكيت.
(قال صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك ؟)) قلت: (أما والله ما على نفسي أبكي ولكني أبكي عليك).
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم اكفناه بما شئت).
قال: فساخت به فرشه في الارض إلى بطنها فوثب عنها، ثم قال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لاعمين على من ورائي
من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر على إبلي وغنمي بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حاجة لنا في إبلك وغنمك)، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فانطلق راجعا إلى أصحابه لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتم ما ههنا، ولا يلقى أحدا إلا رده، ووفى لنا.
وعند ابن سعد أن سراقة لما رجع قال لقريش: قد عرفتم بصري بالطريق وقد استبرأت لكم فلم أر شيئا، فرجعوا.
وقال ابن سعد والبلاذري: عارضهم سراقة بقديد يوم الثلاثاء.
وروى ابن عساكر عن ابن إسحاق قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه - فيما يذكرون والله أعلم في دخوله الغار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي مسيرهم وفي طلب سراقة إياهم: قال النبي ولم يجزع يوقرني * ونحن في شدة من ظلمة الغار لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا * وقد توكل لي منه بإظهار وإنما كيد من تخشى بوادره * كيد الشياطين كادته لكفار والله مهلكهم طرا بما كسبوا * وجاعل المنتهى منها إلى النار
__________
(1) الغرز: ركاب كور الجمل إذا كان من جلد أو خشب وقيل: هو الكور مطلقا، مثل الركاب للسرج.
انظر النهاية 3 / 359.
(2) الجمارة: قلب النخلة وشحمتها، شبه ساقه ببياضها.
انظر النهاية 1 / 294 (جمر).
(3) أخرجه الطبراني في الكبير 7 / 158 وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 3 / 185.
(*)(3/249)
وأنت مرتحل عنهم وتاركهم * إما غدوا وإما مدلج ساري وهاجر رضمهم حتى يكون لنا * قوم عليهم ذوو عز وأنصار حتى إذا ا لليل وارتنا جوانبه * وسد من دون من تخشى بأستار سار الاريقط يهدينا وأينقه (1) * ينعبن بالقوم نعبا تحت أكوار يعسفن عرض الثنايا بعد أطولها * وكل سهب رقاق الترب موار (2)
حتى إذا قلت قد أنجدن عارضها * من مدلج فارس في منصب واري يردي به مشرف الاقطار معتزم * كالسيد ذي اللبدة المستأسد الضاري فقال: كروا فقلنا: إن كرتنا * من دونها لك نصر الخالق الباري أن يخسف الارض بالاحوى وفارسه * فانظر إلى أربع في الارض غوار فهيل لما رأى أرساغ مهرته * قد سخن في الارض لم تحفر بمحفار فقال: هل لكم أن تطلقوا فرسي * وتأخذوا موثقا في نصح أشرار وأصرف الحي عنكم أن لقيتهم * وأن أعور منهم عين عوار فادع الذي هو عنكم كف عورتنا * يطلق جوادي وأنتم خير أبرار فقال قولا رسول الله مبتهلا * يا رب إن كان منه غير إخفار فنجه سالما من شر دعوتنا * ومهره مطلقا من كلم آثار فأظهر الله إذ يدعو حوافره * وفاز فارسه من هول أخطار (3) وروى البخاري عن عروة والحاكم عنه عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم ثيابا بيضا.
وروى البيهقي عن موسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دنا من المدينة هو وأبو بكر وقدم طلحة بن عبيد الله من الشام خرج عامدا إلى مكة لما ذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، خرج إما متلقيا لهما وإما عامدا عمرة بمكة ومعه ثياب أهداها لابي بكر من ثياب الشام، فلما لقيه أعطاه الثياب، فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأبو بكر.
وروى أبو نعيم عن أنس بن مالك عن...الاوسي الاسلمي عن أبيه قال: (لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مروا بإبل لنا بالجحفة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لمن هذه الابل) ؟
__________
(1) الاينق: جمع قلة لناقة، وأصله أنوق، فقلب وأبدل واوه ياء.
وقيل: هو على حذف العين وزيادة الياء عوضا عنها، فوزنه على الأول: أعفل لانه قدم العين، وعلى الثاني: أيفل، لانه حذف العين.
أنظر النهاية 5 / 129.
(2) يقال: مار التراب إذا ثار..ورياح موارة: مثيرة للتراب.
انظر المعجم الوسيط 2 / 898.
(3) انظر الروض الانف 2 / 234.
(*)(3/250)
فقالوا: لرجل من أسلم فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقال: (سلمنا إن شاء الله).
فأتاه أبي وحمله على فحل من إبله وبعث معه غلامه مسعود).
وروى أبو يعلى والطبراني والحاكم والبيهقي وأبو نعيم عن قيس بن النعمان قال: (لما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر مستخفين مروا بعبد يرعى غنما فاستسقياه اللبن فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا عناقا حملت أول الشتاء وقد أخدجت وما بقي لها من لبن فقال: (ادع بها)، فدعا بها، فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها حتى أنزلت.
ودعا أبو بكر بمجن، فحلب وسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال الراعي: من أنت ؟ فوالله ما رأيت مثلك قط.
قال: (أوتراك تكتم علي حتى أخبرك ؟ قال: نعم.
قال: (فإني محمد رسول الله).
قال: أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ ؟ قال: (إنهم ليقولون ذلك).
قال: فأشهد أنك نبي الله وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي).
وروى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابي بكر مدخله المدينة: (أله عني الناس فإنه لا ينبغي لنبي أن يكذب).
فكان أبو بكر إذا سئل: من أنت ؟ قال: باغ، وإذا قيل: من الذي معك ؟ قال: هاد يهديني).
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (أقبل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ، والنبي صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا بين يديك ؟ فيقول: هذا الذي يهديني السبيل فيحسب الحاسب إنما يعني الطريق وإنما يعني سبيل الخير).
وروى الزبير بن بكار في الموفقيات، وأبو نعيم عن طريق شهر بن حوشب عن ابن عباس عن سعد بن عبادة قال: (لما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة، خرجت إلى حضرموت لبعض الحاجة فقضيت حاجتي ثم رجعت حتى إذا كنت ببعض الارض نمت ففزعت من الليل فإذا بصائح يقول:
أبا عمرو تأوبني السهود * وراح النوم وانقطع الهجود ثم صاح آخر: (يا خرعب، ذهب بك اللعب، إن أعجب العجب بين مكة ويثرب).
قال: وما ذاك يا شاهب ؟ قال: (نبي السلام، بعث خير الكلام، إلى جميع الانام، فأخرج من البلد الحرام، إلى نخيل وآطام) ثم طلع الفجر فذهبت أتفكر فإذا عظاية (1) وثعبان ميتان، فما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إلا بهذا الحديث).
ولما شارف رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لقيه أبو عبد الله بريدة بن الحصيب الاسلمي في
__________
(1) العظاية السام الابرص.
انظر النهاية 3 / 260.
(*)(3/251)
سبعين من قومه من بني سهم، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (من أنت) ؟ قال: بريدة، فقال لابي بكر: (برد أمرنا وصلح).
ثم قال: (ممن) ؟ قال: من أسلم.
فقال لابي بكر: (سلمنا).
ثم قال: (من بني من) ؟ قال: من بني سهم.
قال: (خرج سهمك (يا أبا بكر)).
فقال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم: من أنت ؟ قال: (أنا محمد بن عبد الله رسول الله).
فقال بريدة: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.
فأسلم بريدة وأسلم من كان معه جميعا.
قال بريدة: الحمد لله الذي أسلم بنو سهم طائعين غير مكرهين، فلما أصبح قال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء).
فحل عمامته ثم شدها في رمح ثم مشى بين يديه حتى دخلوا المدينة) (1).
تنبيهات الأول: قال الحافظ: كان بين ابتداء هجرة الصحابة وبين العقبة الاولى والثانية وبين هجرته صلى الله عليه وسلم شهران وبعض شهر على التحرير.
الثاني: قول عائشة رضي الله عنها: (ما كنت أرى أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي من الفرح).
قال في الروض: (قالت ذلك لصغر سنها وأنها لم تكن علمت بذلك) وقد تطرقت الشعراء لهذا المعنى فأخذته استحسانا له فقال الطائي يصحف السحاب: دهم إذا وكفت في روضة طففت * عيون أزهارها تبكي من الفرح
وذكر لابي الطيب وزاد على هذا المعنى: فلا تنكرن لها صرعة * فمن فرح النفس ما يقتل وقال بعض المحدثين: ورد ا لكتاب من الحبيب بأنه * سيزورني فاستعبرت أجفاني غلب السرور علي حتى أنه * من فرط ما قد سرني أبكاني يا عين صار الدمع عندك عادة * تبكين في فرح وفي أحزان قال في الزهر: (وفيه من عدم التثبت ما ترى، أيجوز أن يحتج على عائشة بقول محدث ؟ إنما كان يحتج عليها لو كانت العرب قالته، أما إذا لم تقله العرب فلا حجة عليها والله أعلم.
قلت: السهيلي لم يحتج بذلك على عائشة رضي الله عنها، وإنما ذكره استطرادا للفائدة.
الثالث: نقل في الروض عن بعض شيوخ أهل المغرب أنه سئل عن امتناعه من أخذ الراحلة مع أن أبا بكر أنفق عليه ماله، فقال: أحب ألا تكون هجرته إلا من مال نفسه.
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل 2 / 221.
(*)(3/252)
الرابع: كانت هجرته صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من النبوة وذلك يوم الاثنين.
روى الامام أحمد عن ابن عباس أنه قال: (ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وخرج من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين).
قال الحاكم: (تواترت الاخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين، إلا أن محمد بن موسى الخوارزمي قال: إنه خرج من مكة يوم الخميس).
قال الحافظ (يجمع بينهما بان خروجه من مكة كان يوم الخميس وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين لانه أقام فيه ثلاث ليال: هي ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الاحد وخرج في أثناء ليلة الاثنين).
الخامس: ذكر بعض أهل السير أن أبا بكر لما رأى المشركين وهو في الغار، ذكر ذلك
للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لو جاؤونا من ههنا خرجنا من ههنا).
فنظر أبو بكر إلى الغار وقد انفرج من الجانب الاخر، وإذا البحر قد اتصل به وسفينة مشدودة إلى جانبه).
قال الحافظ ابن كثير: وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوي ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا ولكن ما صح أو حسن قلنا به والله أعلم.
السادس: السر في اتخاذ رافضة العجم اللبد المقصصة على رؤوسهم التعظيم للحيات للدغهن أبا بكر ليلة الغار.
السابع: روى الامام أحمد والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقد لبثت مع صاحبي - يعني أبا بكر - ليلة الغار بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا البرير) قال الحاكم (معناه: مكثنا مختفين من المشركين في الغار وفي الطريق بضعة عشر يوما).
قال الحافظ: (لم يقع في رواية أحمد ذكر الغار، وهي زيادة في الخبر من بعض رواته، ولا يصح حمله على حالة الهجرة لما في الصحيح من أن عامر بن فهيرة كان يروح عليهما في الغار باللبن، ولما وقع لهما في الطريق من لقاء الراعي ومن النزول بخيمة أم معبد وغير ذلك، ويظهر أنها قصة أخرى).
الثامن: قال السهيلي: (انتبه أيها العبد المأمور بتدبر كتاب الله تعالى لقوله: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (التوبة 40) الاية، كيف كان معهما بالمعنى وباللفظ ؟ أما المعنى: فكان معهما بالنصر والارفاد، والهداية والارشاد.
وأما اللفظ: فإن اسم الله تبارك وتعالى كان يذكر إذا ذكر رسوله وإذا دعي فقيل يا رسول الله أو فعل رسول الله.
ثم كان لصاحبه كذلك، يقال: يا خليفة رسول الله، وفعل خليفة رسول الله، فكان يذكر معهما بالرسالة والخلافة ثم ارتفع ذلك فلم يكن لاحد من الخلفاء ولا يكون).(3/253)
التاسع: قال المهلب بن أبي صفرة (1) رحمه الله: (أنما شرب النبي صلى الله عليه وسلم من لبن الغنم لانه حينئذ كان في زمن المكارمة ولا يعارضه: (لا يحلبن أحد شاة إلا بإذنه) (2) لان ذلك وقع
في زمن التشاح، أو الثاني محمول على التسور، والأول لم يقع فيه ذلك، بل قدم أبو بكر سؤال الراعي: هل أنت حالب ؟ فقال: نعم، كأنه سأله: هل أذن صاحب الغنم في حلبها لمن يرد عليه ؟ فقال: نعم، أو جرى على العادة المألوفة للعرب في إباحة ذلك والاذن في الحلب للمار وابن السبيل، فكان كل راع مأذونا له في ذلك).
وقال الداودي: (إنما شرب من ذلك على أنه ابن سبيل، وله شرب ذلك إذا احتاج ولا سيما النبي صلى الله عليه وسلم، وأبعد من قال: (إنما استجازه لانه مال حربي لان القتال لم يكن فرض بعد ولا أبيحت الغنائم) وقال الحافظ: (قول أبي بكر: أفي غنمك لبن ؟ الظاهر أن مراده بهذا الاستفهام: أمعك إذن في الحلب لمن يمر بك على سبيل الضيافة ؟ ويحتمل أن أبا بكر لما عرف مالك الغنم عرف رضاءه بذلك لصداقته له أو إذنه العام بذلك).
العاشر: ذكر أبو نعيم هنا قصة إسلام ابن مسعود، لما وقع في بعض طرقه، قال: (كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط بمكة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وقد فرا من المشركين، فقالا: (يا غلام هل معك من لبن) ؟ فذكر الحديث، ويأتي بتمامه في المعجزات.
قال في البداية والفتح: (قوله في هذا السياق: (وقد فرا من المشركين)، ليس المراد به وقت الهجرة، وإنما ذلك في بعض الاحوال قبل الهجرة، لان ابن مسعود كان ممن أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة كما تقدم ذلك، وقصته ثابتة في الصحاح.
الحادي عشر: ذكر في (العيون) قصة سراقة قبل قصة أم معبد والتزم في أولها أنه يرتب الوقائع.
وذكر في (الاشارة) قصتها قبل قصة سراقة، وتبعته في ذلك وهو الصحيح الذي صرح جماعة.
الثاني عشر: ذكر رزين أن قريشا أقامت أياما لا يدرون أين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعوا صوتا على أبي قبيس وهو يقول:
__________
(1) المهلب بن أبي صفرة ظالم بن سراق الازدي العتكي، أبو سعيد أمير بطاش، جواد، قال فيه عبد الله بن الزبير: هذا سيد أهل العراق، وقدم المدينة مع أبيه في أيام عمر.
وولي إمارة البصرة لمصعب بن الزبير.
وفقئت عينه بسمرقند
وانتدب لقتال الازارقة، وكانوا قد غلبوا على البلاد، وشرط له أن كل بلد يجليهم عنه يكون له التصرف في خراجه تلك السنة فأقام يحاربهم تسعة عشر عاما لقي فيها منهم الاهوال.
وأخيرا تم له الظفر بهم، فقتل كثيرين وشرد بقيتهم في البلاد.
ثم ولاه عبد الملك بن مروان ولاية خراسان، فقدمها سنة 79 ه ومات فيها سنة 83 ه.
كان شعاره في الحرب: (حم لا ينصرون) وهو أول من اتخذ الركب من الحديد، وكانت قبل ذلك تعمل من الخشب.
الاعلام 7 / 315.
(2) أخرجه البخاري 3 / 165 ومسلم في كتاب اللقطة (13).
(*)(3/254)
فإن يسلم السعدان يصبح محمد * بمكة لا يخشى خلاف المخالف كما سمعوا أيضا البيتين السابقين في إسلام سعد بن معاذ وسعد بن عبادة: فيا سعد سعد الاوس كن أنت ناصرا * ويا سعد سعد الخزرجيين الغطارف أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا * على الله في الفردوس منية عارف قال السيد: والاقرب ما تقدم من إنشاد هذه الابيات قبل ذلك لان السعدين كانا قد أسلما قبل ذلك.
الثالث عشر: في بيان غريب ما سبق: (قبل المدينة)، بكسر القاف وفتح الموحدة: أي جهتها.
(على رسلك) (1) بكسر أوله: أي على مهلك والرسل السير الرقيق.
(بأبي أنت): أنت متبدأ وخبره: بأبي أي: مفيدا بأبي، ويحتمل أن يكون أنت تأكيدا للفاعل يرجو وبأبي قسم.
(حبس نفسه): منعها من الهجرة.
(السمر): بسين مهملة مفتوحة وضم الميم: وهو الخبط بفتح المعجمة والموحدة وبالطاء المهملة، هذا المدرج في تفسير الزهري.
ويقال: السمرة اسم شجرة أم غيلان، وقيل ورق الطلح، والخبط ما يخبط بالعصا فيسقط من ورق الشجر.
(نحر الظهيرة): أي أول الزوال وهو أشد ما يكون من حرارة النهار، والغالب في الحر القيلولة.
(متقنعا) (2): أي متطيلسا وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في أبواب لباسه صلى الله عليه وسلم.
(فدى): بكسر الفاء والقصر وفي رواية فداء بالمد.
__________
(1) والرسل الرسلة: الرفق والتؤدة قال صخر: ويئس من أصحابه أن يلحقوا به وأحدق به أعداؤه.
وأيقن بالقتل فقال: لو أن حولي من قريم رجلا * لمنعوني نجدة أو رسلا اللسان 3 / 1643.
(2) القناع والمقنعة: ما تتقنع به المرأة من ثوب تغطي رأسها ومحاسنها وقال الليث: المقنعة ما تقنع به المرأة رأسها.
وفي الحديث: أتاه رجل مقنع بالحديد هو المتغطي بالسلاح وقيل: هو الذي على رأسه بيضة وهي الخوذة لان الرأس موضع القناع.
انظر اللسان 5 / 3755.
(*)(3/255)
(الصحابة): بالنصب أي أريد أو أسألك المصاحبة ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف.
(أمناه): بكسر الميم.
(أحث): بحاء مهملة فمثلثة افعل تفضيل من الحث وهو الاسراع وفي رواية: أحب بالموحدة والأول أصح.
(الجهاز) (1): بفتح الجيم أفصح من كسرها، وهو ما يحتاج إليه المسافر.
(ذات النطاق): وفي رواية: ذات النطاقين - بكسر النون - وهو ما يشد به الوسط، وقيل هو ثوب تلبسه المرأة، ثم تشد وسطها بحبل، ثم ترسل الاعلى على الاسفل.
والمحفوظ في هذا الحديث أن أسماء شقت نطاقها نصفين فشدت بأحدهما الزاد واقتصرت على الاخر، ثم
قيل لها: ذات النطاق وذات النطاقين، فالتثنية والافراد بهذين الاعتبارين.
وعند ابن سعد أنها شقت نطاقها فأوكت بقطعة منه الجراب وشدت فم القربة بالباقي فسميت ذات النطاقين.
(الخوخة) (2): بخاءين معجمتين مفتوحتين بينهما واو ساكنة: باب صغير.
(ثور): بالمثلثة.
(الرصد): بفتحتين جمع راصد كخادم وخدم.
(استبرأه): يقال: استبرأت الشئ طلبت آخره لقطع الشبهة عني.
(ألقمه الجحر): الجحر بجيم فحاء مهملة: أي أدخله فيه.
(العقب) (3): بعين مهملة مفتوحة فقاف مكسورة فموحدة: مؤخر الرجل.
(لدغه): بالدال المهملة والغين المعجمة: عضه.
(الراءة): وهي شجرة معروفة قال أبو حنيفة الدينوري: هي من أعلاث الشجر - بفتح الهمزة وسكون العين المهملة وتعجم - وتكون مثل قامة الانسان ولها خيطان وزهر أبيض تحشى به المخاد فيكون كالريش.
لخفته ولينه لانه كالقطن.
قال في النور: وغالب ظني أن هذه الشجرة التي وصف أبو حنيفة أنها العشر كذا رأيتها بأرض بركة الحاج خارج القاهرة وهي تنفتق عن مثل قطن يشبه الريش في الخفة ورأيت من يجعله في اللحف في القاهرة.
__________
(1) يفتح ويكسر قال الليث: وسمعت أهل الحجار يخطئون الجهاز بالكسر.
قال الازهري: والقراء كلهم على فتح الجيم في قوله تعالى (ولما جهزهم بجهازهم) قال: وجهاز بالكسر لغة رديئة.
انظر اللسان 1 / 712.
(2) انظر المعجم الوسيط 1 / 260.
(3) انظر المصباح المنير 419.
(*)(3/256)
(فتيان): جمع كثرة لفتى وهو الشباب الحدث.
(الهراوى) بفتح الهاء: جمع هراوة بكسرها.
(ذرأ) (1): بمعجمة فمهملة فهمزة: أي دفع.
(أثر): محركة والاثر بقية الشئ أو الخبر، وخرج في أثره بعده.
(الارب) بالفتح: الحاجة.
(ينشب): يلبث.
(حو) بالحاء المهملة والواو: جمع.
(الغار): نقب في الجبل.
(الطرف): بفتح الطاء (المهملة) وسكون الراء.
(فالصدق): أي ذو الصدق وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
(لم يرما) بفتح أوله وكسر ثانيه: أي لم يبرحا.
(من أرم): أي أحد.
(ظنوا): حسبوا.
(الحمام): اسم جنس جمعى واحده حمامة يقع على الذكر والانثى.
(البرية): بتخفيف الراء: الخلق.
(النسج) بالجيم الحياكة).
(الحوم) (2): الطواف.
(الوقاية): بكسر الواو: الحفظ.
(أغنت): أجزأت.
(الدروع المضاعفة): المنسوجة حلقتين حلقتين تلبس للحفظ من العدو.
(الاطم) بضمتين: الحصون.
(المنيف): العالي.
__________
(1) انظر المعجم الوسيط 1 / 309، 310.
(2) من حام حول الشئ وعليه حوما وحومانا: أي دار وفي الحديث (من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) المعجم الوسيط 1 / 210.
(*)(3/257)
(حب) (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي محبوبه.
(نواجذه) (2): بفتح النون وكسر الجيم وضم الذال المعجمة: جمع ناجذ وهو السن من الاضراس ويأتي الكلام على ذلك في باب ضحكه وتبسمه.
(كمنا): بفتح الكاف والميم ويجوز كسرها أي اختفيا فيه.
(ثقف): بثاء مثلثة مفتوحة فقاف مكسورة ويجوز إسكانها وضمها ففاء: أي فطن يدرك حاجته بسرعة.
(لقف) (3): بفتح اللام وكسر القاف ويجوز سكونها: أي سريع الفهم.
(يدلج) بتشديد الدال المهملة بعدها جيم: أي يخرج بسحر.
(يكادان): وفي رواية يكتادان: أي يطلب لهما فيه المكروه وهو الكيد.
(منحة): بكسر الميم وسكون النون فحاء مهملة.
(رسل) بكسر الراء بعدها مهملة ساكنة: اللبن.
(الرضيف): براء فضاد معجمة ففاء وزن رغيف: اللبن ا لمرضوف الذي رضفت فيه الحجارة المحماة بالشمس أو النار لينعقد وتزول رخاوته، وهو بالرفع ويجوز الجر.
(ينعق): بكسر العين المهملة أي يصيح بغنمه، والنعق هو صوت الراعي إذا زجر الغنم، وفي رواية: ينعق بهما بالتثنية أي يسمعهما صوته إذا زجر غنمه.
(الديل): بكسر الدال المهملة وسكون التحتية.
(الخريت): بكسر الخاء المعجمة وتشديد الراء فمثناة تحتية ساكنة فمثناة فوقية، وهو الماهر بهداية الطريق.
(العتبى): بضم العين المهملة الرضا.
(بوائق الدهر) (4): غوائله وشروره واحدها بائقة وهي الداهية.
__________
(1) الحب: هو الحبيب مثل حزن وحزين.
قال ابن بري رحمه الله: الحبيب يجئ تارة بمعنى المحب كقول المخيل: أتهجر ليلى بالفراق حبيبها * وما كان نفسا بالفراق تطيب
أي محبها، ويجئ تارة بمعنى المحبوب كقول ابن الرهينة: وإن الكثيب الفرد من جانب الحمى * إلي وإن لم أره لحبيب اللسان 2 / 743.
(2) وقيل: الناجذ: آخر الاضراس وهو ضرس الحلم لانه ينبت بعد البلوغ وكمال الفعل وقيل: الاضراس كلها (نواجذ) قال في البارع: وتكون النواجذ للانسان والحافر وهي من ذوات الخف الانياب.
المصباح المنير ص 593.
(3) لقف الشئ لقفا ولقفانا: تناوله بسرعة، وأخذه بفمه فابتلعه.
واللقف: يقال: رجل ثقف لقف سريع الاخذ لما يرمي إليه باليد وسريع ا لفهم لما يرجى إليه من كلام باللسان.
الوسيط 2 / 835.
(4) المفرد بائقة: أي داهية، ويقال: داهية بؤوق أي شديدة، قال الكسائي: باقتهم الباقة تبوقهم بوقا أصابتهم.
اللسان 1 / 388.
(*)(3/258)
(قائم الظهيرة) (1): أي نصف النهار، سمي قائما لان الظل لا يظهر حينئذ فكأنه واقف.
(رفعت لنا صخرة): أي ظهرت.
(الفروة) معروفة ويقال فيها فرو بحذف الهاء وهو الاشهر في اللغة ولا يتجه أن يكون المراد بها الفروة من الحشيش لقوله: كانت معي.
(وأنا أنفض لك ما حولك) أنفض بفتح الهمزة وسكون النون وضم الفاء بعدها ضاد معجمة، أي أتحسسه وأتعرف ما فيه ممن تخافه - قاله في التقريب وفي النهاية - أي أحرسك وأطوف هل أرى طلبا.
(لرجل من المدينة أو مكة): شك في ذلك أحمد بن يزيد، ورواه مسلم من طريق الحسن بن محمد بن أعين عن زهير فقال فيه: (لرجل من أهل المدينة) ولم يشك.
ووقع في رواية ابن جريج: (فسمى رجلا من أهل مكة)، ولم يشك.
قال الحافظ: (والمراد بالمدينة مكة، ولم يرد المدينة النبوية لانها حينئذ لم تكن تسمى المدينة، وإنما كان يقال لها يثرب.
وأيضا لم تجر العادة للرعاة أن يبعدوا في الرعي هذه المسافة البعيدة.
ووقع في رواية إسرائيل
فقال: (لرجل من قريش سماه فعرفته)، وهذا يؤيد ما قررته لان قريشا لم يكونوا يسكنون المدينة النبوية).
(أفي غنمك لبن) ؟ بفتح اللام والموحدة، وحكى القاضي أن في رواية لبن، بضم اللام وتشديد الموحدة جمع (لابن) (2) أي ذات لبن.
(العناق) (3): بفتح العين المهملة: الانثى من المعز: (فأخذت قدحا فحلبت): وفي رواية: (أمرت الراعي فحلب)، ويجمع بأنه يجوز في قوله (فحلبت): مراده أمرت بالحلب.
(كثبة) (4): بضم الكاف وسكون المثلثة وفتح الموحدة: أي قدر قدح، وقيل: حلبة خفيفة...(برد أسفله): بفتح الراء على المشهور وقال الجوهري بضمها.
__________
(1) الوسيط 2 / 578.
(2) يقال: شاة لبون ولبنة وملبنة وملبن: صارت ذات لبن وإذا كانت ذات لبن في كل أحايينها فهي لبون وولدها في تلك الحال ابن لبون واللبن جمع اللبون لسان العرب 5 / 3990.
(3) الانثى من أولاد المعيز والغنم من حين الولادة إلى تمام حول جمعها أعنق وعنق وعنوق.
الوسيط 2 / 632.
(4) كل قليل مجتمع من طعام أو لبن أو غير ذلك جمعها كثب.
الوسيط 2 / 777.
(*)(3/259)
شرح قصة أم معبد رضي الله عنها (الخزاعية): بضم الخاء المعجمة فزاي فعين مهملة.
(برزة): يقال امرأة برزة إذا كانت كهلة لا تحتجب احتجاب الشواب وهي مع ذلك عفيفة عاقلة تجلس للناس وتحدثهم، من البروز وهو الظهور.
(جلدة): إما قوية وإما عاسية.
(الفناء) سعة أمام البيت، وقيل: ما امتد من جوانبه.
(تسقي): تناولهم السقي ليشربوا منه.
(مرملون): بضم الميم وسكون الراء، نفد زادهم وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل كما قيل للفقير الترب بفتح التاء وكسر الراء.
(مسنتون): بكسر النون والمثناة الفوقية، أي أجدبوا أي أصابتهم سنة وهي القحط يقال: أسنت فهو مسنت إذا أجدب.
(أعوزناكم): أحوجناكم.
(كسر الخيمة) (1): بفتح الكاف وكسرها وسكون المهملة، أي جانبها، ولكل بيت كسران عن يمين وشمال.
(كفاء البيت): قال في القاموس: الكفاء ككتاب سترة من أعلى البيت إلى أسفله من مؤخره أو الشقة في مؤخر الخباء أو كساء يلقى على الخباء حتى يبلغ الارض وقد أكفأت البيت.
(الجهد): بالفتح ويضم: الطاقة، وقيل: بالفتح المشقة وبالضم الطاقة والمراد هنا الهزال.
(ضربها فحل): ألقحها.
(شأنك): منصوب، أي أصلح شأنك، أو نحو هذا، فهو مفعول بفعل مقدر.
(ففاجت): بالمد وتشديد الجيم: فتحت ما بين رجليها للحلب.
(يربض): بضم المثناة التحتية فراء ساكنة فموحدة مكسورة فضاد معجمة.
قال في النهاية: أي يرويهم ويثقلهم حتى يناموا ويمتدوا على الارض، من ربض في المكان يربض إذا لصق به وأقام ملازما له، يقال: أربضت الشمس إذا اشتد حرها حتى تريض الوحش في كناسها، أي تجعلها تربض فيه ويروى بمثناة تحتية بعد الراء: يربض (2) الرهط أو يرويهم من
__________
(1) الكسر بفتح الكاف وكسرها: الشقة السفلى من الخباء، والكسر أسفل الشقة التي تلي الارض من الخباء، وكسر أكل كل شئ ناحيتاه حتى يقال لناحيتي الصحراء كسرها لسان العرب 5 / 3873.
(2) من أرض الوادي واستراض أي استنقع فيه الماء، وكذلك أراض الحوض.
ومنه قولهم: شربوا حتى أراضوا أي رووا
فنقعوا بالري اللسان 3 / 1775.
(*)(3/260)
أراض الحوض إذا صب فيه من الماء ما يواري أرضه.
والروض نحو من نصف قربة.
(الرهط): بسكون الهاء وفتحها: ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة أو منها إلى الاربعين.
(ثجا): اي لبنا سائلا كثيرا.
(علاه البهاء): أي علا الاناء بهاء ا للبن وهو بريق رغوته، وفي رواية: الثمال بضم المثلثة الرغوة.
(العلل): بفتح العين المهملة ولامين الاولى مفتوحة: الشرب الثاني.
(النهل) (1) بفتح النون والهاء وتسكن وباللام: الشرب الاول.
(غادره): بالغين المعجمة: تركه.
(الصبوح).
بفتح المهملة وبالموحدة: ما يشرب بالغداة فما دون القائلة.
(والغبوق): بفتح الغين المعجمة: الشرب بالعشي.
(الحيال) (2): جمع حائل وهي التي لم تحمل.
(عجافا): بكسر العين المهملة: جمع عجفاء وهي المهزولة من الغنم وغيرها.
(الشاء) جمع شاة.
(عازب) (3): بعين مهملة فزاي فموحدة: أي بعيدة المرعى لا تأوي إلى المنزل في الليل.
(لا حلوب في البيت): أي لا شاة تحلب.
(الوضاءة): بفتح الواو وبالضاد المعجمة والهمزة: الحسن والبهجة.
(أبلج الوجه): بالموحدة وبجيم: أي مشرقة مسفره، ومنه تبلج الصبح وانبلج.
فأما الابلج فهو الذي قد وضح ما بين حاجبيه فلم يقترنا، والاسم البلج بفتح اللام، ولم ترد هذا أم
معبد لانها قد وصفته في حديثها بالقرن.
(الاشفار): جمع شفر بضم الشين المعجمة وقد تفتح: وهو طرف جفن العين الذي ينبت عليه الشعر، والمراد هنا الشعر النابت.
__________
(1) الوسيط 2 / 959.
(2) من حالت ا لناقة تحيل حيالا: لم تحمل والواو في ذلك أعرق قال الشاعر: من سراة الهجان صلبها العض * ض ورعي الحمى وطول الحيال اللسان 2 / 1073.
(3) العازب: البعيد المطلب وأنشد * وعازب نور في خلائه اللسان 4 / 2923.
(*)(3/261)
(الوطف) (1): بفتح الواو والطاء المهملة وبالفاء: الطول، فمعنى الكلام أن في شعر أجفانه طولا، قال في الاملاء: يروي الغطف والعطف بالغين المعجمة والعين المهملة، فمعناه بالمعجمة مثل معنى الوطف، وأما بالمهملة فلا معنى لها، وقد فسره بعضهم فقال: هو أن تطول أشفار العين حتى تنعطف.
(الدعج): بفتح الدال والعين المهملتين وبالجيم والدعجة بإسكان العين: السواد في العين يريد - والله أعلم - أن سواد عينه شديد السواد.
(الصحل) (2): بفتح الصاد والحاء المهملتين وباللام: وهو كالبحة وألا يكون حاد الصوت، يقال منه صحل الرجل بالكسر يصحل بالفتح صحلا بفتحتين إذا صار أبح فهو صحل وأصحل.
(ولا يشنؤه): بالشين المعجمة والنون وقبل هاء الضمير همزة مضمومة: أي لا يبغضه لفرط طوله - ويروى لا يتشنى من طول، أبدل الهمزة ياء، يقال شنئته أشنؤه شنا وشنآنا.
(ولا تقتحمه عين من قصر): أي لا تتجاوزه إلى غيره احتقارا له، وكل شئ ازدريته فقد
اقتحمته.
(لم تعبه ثجلبة) (3): الثجلة: بضم الثاء المثلثة ثم جيم ساكنة ثم لام مفتوحة: هي عظم البطن وسعته، ويروى بالحاء المهملة والنون أي نحول ودقة.
(لم تزر به): أي لم تقصر.
(صعلة): بفتح الصاد وإسكان العين المهملتين، والصعلة (4) صغر الرأس وهي أيضا الدقة والنحول في البدن.
وفي رواية: لم تزر صقلة بالقاف أي دقة ونحول وقيل: أرادت أنه لم يكن منتفخ الخاصرة جدا ولا ناحلا جدا، ويروى بالسين على الابدال من الصاد.
قال أبو ذر الخشني: الصقلة جلدة الخاصرة تريد أنه ناعم الجسم ضامر الخاصرة وهو من الاوصاف الحسنة.
(الهاتف): الصالح.
(أبو قبيس): بضم القاف وفتح الموحدة فمثناة تحتية ساكنة: جبل بمكة معروف سمي
__________
(1) كثرة شعر الحاجبين والعينين والاشفار مع استرخاء وطول، وقد يكون ذلك في الاذن، رجل أوطف بين الوطف وامرأة وطفاء إذا كانا كثيري شعر أهداب العين.
لسان العرب 6 / 4868.
(2) انظر اللسان 4 / 2405.
(3) من ثجل ثجلا عظم بطنه واسترخى فهو أثجل وهي ثجلاء جمعها ثجل.
انظر المعجم الوسيط 1 / 94.
(4) الصعل والاصعل: الدقيق الرأس، والعنق، والانثى صعلة وصعلاء.
انظر اللسان 4 / 2451.
(*)(3/262)
باسم رجل من مذحج حداد لانه أول من بنى فيه.
وكان أبو قبيس الجبل هذا يسمى الامين لان الركن أي الحجر الاسود كان مستودعا فيه.
(قالا): من القيلولة وهي نصف النهار.
(الهدي): بفتح الهاء وإسكان الدال المهملة: والهدى الطريق، ولا يصح ضمها للوزن، ويعني بالطريق الطريق الموصلة إلى الجنة.
(قصي): بضم القاف وفتح الصاد المهملة وتشديد التحتية: تقدم الكلام عليه في النسب.
(مازوى) (1): بفتح الزاي والواو: أي جمع وقبض.
(من فعال): الظاهر أنه بفتح الفاء وتخفيف العين وهو الكرم، ويجوز أن يكون بكسر الفاء جميعا.
(لا يجارى): بالراء وفي رواية: يجازى بالزاي.
(السودد): بضم السين وإسكان الواو، يقال ساد قومه سيادة وسوددا وهو مصدر.
(الصريح): بالصاد والحاء المهملتين: وهو اللبن الخالص الذي لم يمذق.
(الضرة) (2): بفتح الضاد المعجمة وتشديد الراء والمثناة الفوقية: أصل الضرع.
(مزبد): بضم الميم وإسكان الزاي فموحدة مكسورة فدال مهملة: أي علاه الزبد.
(غادرها): بالغين المعجمة والدال المهملة: تركها..(في مصدر ثم مورد): أي يحلبها مرة ثم أخرى.
شرح شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه (قدس): بضم القاف وكسر الدال المهملة المشددة وبالسين المهملة مبني للمفعول أي طهر.
(يرشد): بضم الشين المعجمة وبفتحها كنصر ينصر وفرح يفرح، والمصدر رشدا ورشدا ورشادا: أي يهتدي.
(بأسعد): بضم العين، جمع سعد جمع قلة.
__________
(1) زواه: قبضه قال الاعشى: يزيد بغض الطرف عندي كأنما * زوى بين عينيه على المحاجم اللسان 3 / 1894.
(2) انظر المعجم الوسيط 1 / 538.
(*)(3/263)
(سعادة): بالرفع: فاعل يهنأ، وأبو بكر مفعوله.
(جده) (1): بفتح الجيم وهو حظه.
(من يسعد الله يسعد): يجوز أن يكون مبنيا للفاعل وللمفعول أيضا.
(عظم الحي): بضم أوله وسكون ثانيه أي أكثره.
(القرى): بكسر القاف.
(متنحيا): منفردا.
(الشفرة): بفتح الشين المعجمة وسكون الفاء وفتح الراء: المدية وهي السكين العريض والجمع شفار مثل كلبة وكلاب وشفرات مثل سجدة وسجدات.
(الجلب) (2): بفتح الجيم واللام: ما يجلب من بلد إلى بلد.
(الاقط): ككتف ويسكن مثلث الهمزة: شئ يتخذ من اللبن المخيض، قال ابن الاعرابي: من ألبان الغنم خاصة.
شرح قصة سراقة بن مالك رضي الله عنه (مدلج): بضم الميم.
(أسودة): جمع سواد وهو الشخص.
(ركبة): بفتح الراء والكاف: أقل من الركب وهو عشرة فما فوقها وهم أصحاب الابل، والاركوب أكثر من الركب والركبان الجماعة منهم.
(أراها): بضم الهمزة: أي أظنها.
الاكمة: بفتح الهمزة والكاف والميم: الرابية.
(فخططت به) بالخاء المعجمة وفي رواية: بالحاء المهملة أي أمسكت بأعلاه وجعلت أسفله في (الارض).
الزج (3): بضم الزاي بعدها جيم: الحديدة التي في أسفل الرمح.
(خفضت عاليه): أي أمسكه بيده وجر رمحه لئلا يظهر بريقه لمن بعد منه، لانه كره أن يتبعه منهم أحد فيشركه في الجعالة.
__________
(1) الجد: البخت والحظوة، والحظ والرزق.
اللسان 1 / 560.
(2) من جلب الشئ جلبا أي اجتمع، وجلب الشئ ساقه من موضع إلى آخر فهو جالب وجلاب وفي المثل: رب أمنية جلبت منية.
الوسيط 1 / 128.
(3) زججت ا لرمح زجا من باب قتل جعلت له زجا وزججت الرجل زجا طعنته بالزج.
المصباح المنير ص 251.
(*)(3/264)
(دفعتها): بتخفيف الفاء يقال: دفع الفرس في السير إذا بالغ ودفعه يتعدى ولا يتعدى.
(تقرب بي): التقريب السير دون العدو وفوق العادة وقيل أن ترفع الفرس يديها معا وتضعهما معا.
(أهويت) بيدي: بسطتها للاخذ.
(الكنانة): بكسر الكاف: الخريطة المستطيلة التي يجعل فيها السهام.
(الازلام): واحدها زلم بفتحتين وبفتحة فضمة وهو القدم واحد القداح بكسر القاف وهو عيدان السهام قبل أن تراش ويركب فيها النصال، فإذا فعل ذلك فهي سهام.
وكان أهل الجاهلية يستقسمون بها مكتوب عليها الامر والنهي أي: إفعل: لا تفعل، فما خرج منها عملوا به.
والاستقسام بها هو الضرب بها لاخراج ما قسم الله لهم من أمر وغيره بزعمهم.
قال الحافظ أبو العباس تقي الدين الحراني: (إن القرعة التي مع الطرقية التي فيها اب ج د من الازلام، ونقل ذلك عن أبي جعفر النحاس.
(ساخت) (1): بسين مهملة فألف فخاء معجمة: أي غاصت.
(ارتطمت به): اي ساخت قوائمها في الارض.
(عثان): بضم العين المهملة والثاء المثلثة المخففة: شبه الدخان.
(أن سيظهر): مرفوع، و (أن) قبله مخففة من الثقيلة وتقديره: سيظهر.
(فلم يرزاني): براء فزاي: لم ينقصاني مما معي شيئا.
(أخف عنا) (2): بفتح الهمزة.
(قديد): بضم القاف وفتح الدال المهملة ثم مثناة تحتية ساكنة فدال مهملة أخرى، موضع بين مكة والمدينة.
(بمجن) (3): بكسر الميم وفتح الجيم وتشديد النون: الترس سمي مجنا لانه يواري حامله أي يستره.
__________
(1) انظر المصباح المنير 294.
(2) أخف عنا: أي استر الخبر لمن سألك عنا.
انظر النهاية 2 / 57.
(3) أنظر المعجم الوسيط 1 / 137، 141.
(*)(3/265)
الباب الخامس في تلقي أهل المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزوله بقباء وتأسيس مسجد قباء
روى البخاري عن عائشة، وابن سعد عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة عن جماعة من الصحابة أن المسلمين بالمدينة لما سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وتوكفوا قدومه كانوا يخرجون إذا صلوا الصبح إلى ظاهر الحرة ينتظرونه حتى تغلبهم الشمس على الظلال، ويؤذيهم حر الظهيرة، فإذا لم يجدوا ظلا دخلوا، وذلك في أيام حارة حتى كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلوا البيوت فأوفى رجل من اليهود على أطم من آطامهم لامر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين، يلوح بهم السراب، فلم يملك اليهودي نفسه فصرخ بأعلى صوته: (يا بني قيلة)، وفي لفظ: يا معشر العرب، (هذا جدكم)، وفي لفظ: (هذا صاحبكم الذي تنتظرون، (قد جاء).
فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة وذلك يوم الاثنين لشهر ربيع الاول، فخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في ظل نخلة
ومعه أبو بكر في مثل سنه.
وقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، فطفق من جاء من الانصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرف الناس رسول الله عند ذلك.
وفي رواية: (فلما رأوا أبا بكر ينحاز له عن الظل عرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعدل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين حتى نزل بهم علو المدينة بقباء في بني عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم بكسر الهاء وسكون الدال المهملة، قيل: (وكان يومئذ مشركا، وبه جزم محمد بن الحسن بن زبالة)، وقيل: (إنما نزل على سعد بن خيثمة).
قال رزين: (والأول أصح) وقال الحاكم إنه الارجح، (قال): (وقد قاله ابن شهاب وهو أعرف بذلك من غيره) وقال الدمياطي: (إنه أثبت).
وقال بعضهم (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل على كلثوم بن الهدم وكان يخرج للناس من منزله فيجلس للناس في بيت سعد بن خيثمة لانه كان عزبا لا أهل له هناك وكان منزل العزاب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين فمن هنالك يقال: نزل على سعد بن خيثمة.
ونزل أبو بكر على خبيب بن إساف (1) أحد بني الحارث بالسنح - بسين مهملة مضمومة فنون ساكنة فحاء مهملة.
ويقال: على خارجة بن زيد بن أبي زهير أخي بني الحارث بن الخزرج).
__________
(1) خبيب بن إساف، وقيل: يساف، ابن عتبة بن عمرو بن خديج بن عامر بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن ثعلبة، الانصاري الخزرجي، شهد بدرا وأحد والخندق، وكان نازلا بالمدينة وتأخر إسلامه حتى سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر فلحق النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق فأسلم أسد الغابة 2 / 118.
(*)(3/266)
وروى الزبير بن بكار عن عبد الله بن حارثة قال: (نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلثوم بن الهدم، فصاح كلثوم بغلام له فقال: يا نجيح.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنجحت يا أبا بكر) وأقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة بعد مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما - قال بعضهم: ثلاثة - حتى أدى للناس ودائعهم التي كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفه ليردها، ثم خرج فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء فنزل على كلثوم بن الهدم.
وقال علي فيما رواه ابن إسحاق ورزين: (كنت نزلت بقباء وكانت امرأة مسلمة لا زوج لها، فرأيت إنسانا يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها، فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه فاستربت شأنه، فقلت لها: يا أمه الله، من هذا الرجل الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدري ما هو، وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك ؟ قالت: هذا سهل بن حنيف، قد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءني بها.
فقال: احتطبي بها، فكان علي يأثر ذلك من أمر سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق.
وكان لكلثوم بن الهدم مربد، والمربد الموضع الذي يبسط فيه التمر ليجف، فأخذه منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسسه وبناه مسجدا.
وفي الصحيح عن عروة: (فلبث في بني عمرو بن عوف وأسس المسجد الذي أسس على التقوى).
وفي رواية عبد الرزاق عنه قال: (الذين بنى فيهم المسجد الذي أسس على التقوى) هم بنو عمرو بن عوف وكذا عند ابن عائذ ولفظه: (ومكث في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال واتخذ مكانه مسجدا فكان يصلي فيه ثم بناه بنو عمرو بن عوف فهو الذي أسس على التقوى).
وروى يونس بن بكير في زيادات المغازي عن المسعودي عن الحكم بن عتيبة - بضم العين المهملة وفتح الفوقية وسكون التحتية وبالموحدة - قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم فنزل بقباء قال عمار بن ياسر: (ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلي فيه).
فجمع حجارة فبنى مسجد قباء فهو أول من بنى مسجدا - روى الحافظ والسيد - يعني لعامة المسلمين أو للنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو في التحقيق أول مسجد صلى فيه بأصحابه جماعة ظاهرا، وإن كان قد بني غيره من المساجد، فقد روى ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله عنه قال: لقد لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم علينا النبي صلى الله عليه وسلم سنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة، ولذا قيل: كان المتقدمون في الهجرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والانصار بقباء قد بنوا مسجدا يصلون فيه، يعني هذا المسجد، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وورد قباء صلى بهم فيه
إلى بيت المقدس، ولم يحدث فيه شيئا أي في أول الامر لان ابن شبة - بالشين المعجمة(3/267)
والموحدة المشددة المفتوحتين - روى ذلك، ثم روى أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى مسجد قباء، وقدم القبلة إلى موضعها اليوم وقال: (جبريل يوم بي البيت) (1).
وروى الطبراني عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: لما سأل أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم أن يبني لهم مسجدا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليقم بعضكم فيركب الناقة، فقام أبو بكر رضي الله عنه فركبها فحركها فلم تنبعث فرجع فقعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: (ليقم بعضكم فيركب الناقة)، فقام علي رضي الله عنه، فلما وضع رجله في غرز الركاب وثبت به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرخ زمامها وابنوا على مدارها فإنها مأمورة).
وروى الطبراني بسند رجاله ثقات عن الشموس - بفتح الشين المعجمة - بنت النعمان رضي الله عنها قالت: (نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم ونزل وأسس هذا المسجد: مسجد قباء، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره الحجر، وأنظر إلى بياض التراب على بطنه أو سرته فيأتي الرجل من أصحابه ويقول: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اعطني أكفك، فيقول: (لا خذ مثله)، حتى أسسه، ويقول: (إن جبريل عليه السلام هو يؤم الكعبة) قالت: فكان يقال: إنه أقوم مسجد قبلة.
قال السيد: (قد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يستقبل بيت المقدس حتى نسخ ذلك وجاء نقباؤهم في صلاة الصبح فأخبرهم وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة، فيحتمل أن جبريل عليه السلام كان يؤم (به) البيت ليستدل به على جهة بيت المقدس لتقابل الجهتين ويعلمه بما يؤول إليه الامر من استقبال الكعبة.
أو أنه صلى الله عليه وسلم كان مخيرا في ابتداء الهجرة في التوجه إلى بيت المقدس أو إلى الكعبة، كما قاله الربيع، فأم به جبريل البيت لذلك، واختياره الصلاة لبيت المقدس أولا لاستمالة اليهود أو أن استقبال الكعبة كان مشروعا في ذلك الوقت ثم نسخ ببيت المقدس ثم نسخ بالكعبة كما قاله القاضي أبو بكر بن العربي وغيره من أن القبلة
نسخت مرتين، أو أن ذلك تأسيس آخر غير التأسيس الاول.
ويدل على هذا ما قدمناه من رواية ابن شبة).
وروى ابن شبة أيضا أن عبد الله بن رواحة كان يقول وهو يبنون في مسجد قباء: (أفلح من يعمر المساجدا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المساجدا)، فقال عبد الله: (ويقرأ القرآن قائما وقاعدا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وقاعدا) فقال عبد الله: (ولا يبيت ا لليل عنه راقدا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (راقدا).
__________
(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات 1 / 2 / 5.
(*)(3/268)
تنبيهات الأول: اختلف في قدر إقامته في بني عمرو بن عوف، ففي الصحيح عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أنه صلى الله عليه وسلم لبث فيهم بضع عشرة ليلة.
وفيه عن أنس أنه أقام فيهم أربع عشرة ليلة، وقدمه في الاشارة، وقيل: خمس ليال قاله ابن إسحاق.
وقال ابن حبان: أقام بها الثلاثاء والاربعاء والخميس، يعني وخرج يوم الجمعة فلم يعتد بيوم الخروج.
وقال ابن عباس وابن عقبة: ثلاث ليل، فكأنهما لم يعتدا بيومي الخروج ولا الدخول.
وعن قوم من بني عمرو بن عوف أنه أقام فيهم اثنين وعشرين يوما.
الثاني: المعتمد أنه صلى الله عليه وسلم دخل قباء يوم الاثنين كما في الصحيح، قال ابن عقبة: لهلال ربيع الأول أي أول يوم منه، وفي رواية جرير بن حازم عن ابن إسحاق قدمها لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول، وفي رواية إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق: قدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الاول، وعند أبي سعيد في شرف المصطفى من طريق أبي بكر بن حزم قال: قدم المدينة لثلاث عشرة من ربيع الاول، وهذا يجمع بينه وبين الذي قبله بالحمل على الاختلاف في رؤية الهلال.
الثالث: قال الحافظ: الاكثر أنه قدم نهارا، ووقع في رواية مسلم ليلا ويجمع بأن
القدوم كان آخر الليل فدخل نهارا.
الرابع: في بيان غريب ما سبق: (توكفوا): انتظروا.
(الظهيرة): بفتح الظاء المعجمة وكسر الهاء بعدها مثناة تحتية: وهي نصف النهار.
(أوفى): طلع إلى مكان عال.
(الاطم) (1): بضم أوله وثانيه وهو الحصن، ويقال: بناء من حجارة كالقصر.
(مبيضين): أي عليهم الثياب البيض التي كساهم إياها الزبير أو طلحة.
(يزول بهم): أي يرفعهم ويظهرهم.
(السراب): الذي يكون نصف النهار لاطئا بالارض كأنه ماء.
(قيلة): بفتح القاف وسكون التحتية: الجدة الكبرى للانصار.
__________
(1) الاطم: حصن مبني بحجارة، وقيل: هو كل بيت مربع مسطح والجمع القليل آطام قال الاعشى: فإما أتت آطام جو وأهله * أنيخت فألقت رحلها بفنائكا والكثير أطوم: وهي حصون لاهل المدينة.
اللسان 1 / 93.
(*)(3/269)
(جدكم): بفتح الجيم: أي حظكم وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه.
(طفق): بكسر الفاء وفتحها: أي جعل.
(انحاز)، بالحاء المهملة والزاي: مال.
(جوف الليل): وسطه.
(اشتربت شأنه): أي شككت فيه.
(يأثر ذلك): أي يحدث به.
(يهصره) (1): يميله.
(يؤم): بفتح المثناة التحتية بعدها همزة مضمومة: أي يقصد.
(الغرز): بغين معجمة مفتوحة فراء ساكنة فزاي: أي ركاب الابل.
__________
(1) اللسان 6 / 4670.
(*)(3/270)
الباب السادس في قدومه صلى الله عليه وسلم باطن المدينة وما آلت إليه وفرح أهل المدينة برسول الله صلى الله عليه وسلم
روى الامام أحمد والشيخان عن أبي بكر، وسعيد بن منصور عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم والبيهقي عن موسى بن عقبة، وابن إسحاق عن عويم بن ساعدة، ويحيى بن الحسن عن عمارة بن خزيمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يدخل المدينة أرسل إلى بني النجار، وكانوا أخواله لان أم عبد المطلب منهم كما تقدم في باب النسب.
فجاؤوا متقلدين السيوف، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولاصحابه: (اركبوا آمنين مطاعين).
وكان اليوم يوم الجمعة فلما ارتفع النهار دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم براحلته وحشد المسلمون ولبسوا السلاح، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته القصواء والناس معه عن يمينه وعن شماله وخلفه منهم الماشي والراكب فاجتمعت بنو عمرو بن عوف فقالوا: يا رسول الله أخرجت ملالا لنا أم تريد دارا خيرا من دارنا ؟ قال: (إني أمرت بقرية تأكل القرى فخلوها - أي ناقته - فإنها مأمورة)، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء يريد المدينة فتلقاه الناس فخرجوا في الطرق وعلى الاباعر وصار الخدم والصبيان يقولون: (الله أكبر، جاءنا رسول الله جاء محمد) قال أنس فيما رواه البيهقي: (إني لا سعى مع الغلمان إذ قالوا: محمد جاء فننطلق فلا نرى شيئا، حتى أقبل وصاحبه أبو بكر فكمنا في بعض جدر المدينة وبعثا رجلا من أهل البادية ليؤذن بهما الانصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الانصار، حتى انتهوا إليهما فقالت الانصار: انطلقا آمنين مطاعين.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة حتى أن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو ؟ أيهم هو ؟ فما رأينا منظرا شبيها به يومئذ.
روى الامام أحمد وأبو داود عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم المدينة لعبت الحبشة بحرابها فرحا بقدومه).
وروى البيهقي ورزين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن: طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع (1) زاد رزين: أيها المبعوث فينا * جئت بالامر المطاع
__________
(1) انظر البداية والنهاية 3 / 197.
(*)(3/271)
وروى البخاري عن البراء رضي الله عنه أنه قال: (ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشئ فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم).
وروى ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شئ).
وروى ابن أبي خيثمة رضي الله عنه قال: (شهدت يوم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم أر يوما أحسن منه ولا أضوأ).
فلم يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدار من دور الانصار إلا قالوا: (هلم يا رسول الله إلى العز والمنعة والثروة).
فيقول لهم خيرا ويدعوا أو يقول: (إنها مأمورة خلوا سبيلها)، فمر ببني سالم فقام إليه عتبان - بكسر العين المهملة - ابن مالك، ونوفل بن عبد الله بن مالك بن العجلان، وهو آخذ بزمام راحلته، فقال: (يا رسول الله انزل فينا فإن فينا العدد والعشيرة والحلقة، ونحن أصحاب الفضاء والحدائق والدرك، يا رسول الله قد كان الرجل من العرب يدخل هذه البحرة خائفا فليجأ إلينا فنقول له: (قوقل حيث شئت).
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ويقول: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) (1)، فقام إليه عبادة بن الصامت، وعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان، فجعلا يقولان: (يا رسول الله انزل فينا)، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بارك الله عليكم إنها مأمورة).
فلما أتى مسجد بني سالم وهو المسجد الذي في الوادي: وادي رانوناء، أدركته الجمعة هناك فصلاها فيه وكانت أول جمعة صلاها في المدينة، وقيل إنه كان يصلي الجمعة بمسجد قباء، وعند ابن سعد أنه صلى معه الجمعة مائة نفس، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمين الطريق (حتى جاء بنو الحبلى)، فأراد أن ينزل على عبد الله بن أبي (بن سلول)، وهو يومئذ سيد الخزرج في أنفسها فقال: اذهب إلى الذين دعوك فانزل عليهم.
فقال سعد بن عبادة: (لا تجد يا رسول الله في نفسك من قوله، فقد قدمت علينا والخزرج تريد أن تملكه عليها، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك ولكن هذا داري، ذكره موسى بن عقبة ورزين.
قال السيد: (الذي في الصحيح ذكر سعد بن عبادة لذلك في قصة عيادته صلى الله عليه وسلم له من مرض بعد سكناه بالمدينة).
قلت: ويحتمل أن سعدا قال ذلك مرتين، والله أعلم.
فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني ساعدة فقال له سعد بن عبادة، والمنذر بن عمرو، وأبو دجانة: (هلم يا رسول الله إلى العز والثروة والقوة والجلد)، وسعد يقول: (يا رسول الله ليس من قومي رجل أكثر عذقا ولا فم بئر مني مع الثروة والجلد والعدد فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ثابت خل سبيلها فإنها مأمورة).
فمضى واعترضه سعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، وبشير بن سعد، فقالوا: (يا رسول الله لا تجاوزنا فإنا أهل عدد وثروة وحلقة)، قال: (بارك الله
__________
(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات 1 / 1 / 160.
(*)(3/272)
فيكم، خلوا سبيلها فإنها مأمورة)، واعترضه زياد بن لبيد، وفروة بن عمرو، من بني بياضة، فقالا: (يا رسول الله هلم إلى المواساة والعز والثروة والعدد والقوة، نحن أهل الدرك يا رسول الله)، فقال رسول الله: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة).
وفي حديث البراء فقال: (إني أنزل على أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك).
ثم مر ببني عدي بن النجار وهم أخواله فقام أبو سليط وصرمة بن أبي أنس في قومهما فقالا: (يا رسول الله نحن أخوالك هلم إلى العدد والمنعة والقوة مع القرابة، لا تجاوزنا إلى غيرنا يا رسول الله، ليس أحد من قومنا أولى بك منا لقرابتنا
بك).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة).
فسار حتى إذا أتت دار بني عدي بن النجار قامت إليه وجوههم، ثم مضى حتى انتهى إلى باب المسجد، فبركت راحلته على باب مسجده صلى الله عليه وسلم وذكر الاقشهري في روضته عن ابن نافع صاحب مالك في أثناء كلام نقله عن مالك أن (ناقته صلى الله عليه وسلم لما أتت موضع مسجده بركت وهو عليها وأخذه الذي كان يأخذه عند الوحي).
ثم وثبت فسارت غير بعيد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة، فبركت فيه ثم تلحلحت وأرزمت، ووضعت جرانها.
وجعل جبار بن صخر ينخسها رجاء أن تقوم فتنزل في دار بني سلمة فلم تفعل.
فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وقال: (هنا المنزل إن شاء الله) (وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) (المؤمنون 29) وجاء أبو أيوب فكلموه في النزول عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي بيوت أهلنا أقرب) ؟ فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري وهذا بابي وقد حططنا رحلك فيها.
قال: (فانطلق فهيئ لنا مقيلا) (1)، فذهب فهيأ لهما مقيلا.
وروى الطبراني عن عبد الله بن الزبير أنه كان هناك عريش يرشونه ويعمرونه ويبتردون فيه حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته فأوى إلى الظل فنزل فيه فأتاه أبو أيوب الانصاري فقال: يا رسول الله منزلي أقرب المنازل إليه فانقل رحلك.
قال: (نعم)، فذهب برحله إلى المنزل، فأتاه آخر فقال: يا رسول الله انزل علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المرء مع رحله حيث كان)، فمضت مثلا فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل أبي أيوب وقر قراره واطمأنت داره ونزل معه زيد بن حارثة (2).
وذكر ابن سعد أن أسعد بن زرارة أخذ بزمام الناقة فكانت عنده.
وعند عائذ وسعيد بن منصور أن ناقته استناخت به أولا فجاءه ناس فقالوا: المنزل يا رسول الله، فقال: (دعوها)، فانبعثت حتى استناخت عند موضع المنبر من المسجد ثم تلحلحت فنزل عنها فأتاه أبو أيوب
__________
(1) أخرجه البخاري 5 / 80 والبيهقي في الدلائل 2 / 249 وأبو نعيم في الدلائل (114).
(2) أخرجه ابن سعد في الطبقات 1 / 1 / 160.
(*)(3/273)
فقال: منزلي أقرب المنازل فائذن لي أن أنقل رحلك.
قال: (نعم)، فنقل رحله وأناخ الناقة في منزله.
وروى الحاكم وأبو سعيد النيسابوري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل على أبي أيوب خرج جوار من بني النجار يضربن بالدفوف ويقلن: نحن جوار من بني النجار * يا حبذا محمد من جار (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتحببنني) ؟ قلن: نعم يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأنا والله أحبكن)، قالها ثلاثا.
وذكر ابن إسحاق في المبدأ وابن هشام في التيجان أن بيت أبي أيوب الذي نزل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة المدينة بناه تبع الأول واسمه تبان - بضم المثناة الفوقية وتخفيف الموحدة - أسعد، وكان معه أربعمائة حبر، فتعاقدوا على ألا يخرجوا منها.
فسألهم تبع عن سر ذلك، فقالوا: إنا نجد في كتبنا أن نبيا اسمه محمد هذه دار هجرته، فنحن نقيم لعلنا نلقاه.
فأراد تبع الاقامة معهم، ثم بنى لكل واحد من أولئك دارا واشترى له جارية وزوجها منه وأعطاه مالا جزيلا وكتب كتابا فيه إسلامه ومنه: شهدت على أحمد أنه * رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره * لكنت وزيرا له وابن عم (وجاهدت بالسيف أعداءه * وفرجت عن صدره كل هم) وختمه بالذهب ودفعه إلى كبيرهم وسأله أن يدفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن أدركه وإلا فمن أدركه من ولده أو ولد ولده، وبنى للنبي صلى الله عليه وسلم دارا ينزلها إذا قدم المدينة، فتداول الدار الملاك إلى أن صارت لابي أيوب، وهو من ولد ذلك العالم، وأهل المدينة الذين نصروه كلهم من أولاد أولئك العلماء.
ويقال إن الكتاب الذي فيه الشعر كان عبد أبي أيوب حتى دفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو غريب.
فما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في بيته.
وروى الترمذي وصححه، ويحيى بن الحسن العلوي عن عبد الله بن سلام رضي الله
عنه قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه فجئت لانظر إليه، فلما تببينت وجهه علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شئ سمعته يتكلم به أن قال: (أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الارحام، وصلوا والناس نيام تدخلون الجنة بسلام (2).
وروى ابن إسحاق ومسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: (لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو: فقلت له: يا نبي الله، بأبي أنت
__________
(1) انظر البداية والنهاية 3 / 200.
(2) أخرجه أحمد في المسند 5 / 451 والدارمي 1 / 340 والترمذي 4 / 652 (2485) وابن ماجه 1 / 423 (1334).
(*)(3/274)
وأمي، إني لاكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي، فاظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل، فقال: (إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت).
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله وكنا فوقه في المسكن، فلقد انكسر حسب لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء (تخوفا أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شئ فيؤذيه.
وذكر أن أبا أيوب لم يزل يتضرع إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم في العلو وأبو أيوب في السفل.
قال أبو أيوب: وكنا نصنع له العشاء ثم نبعث به إليه، فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه وقد جعلنا له فيه بصلا أو ثوما، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر ليده فيه أثرا.
قال: فجئته فزعا فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي رددت عشاءك، ولم أر فيه موضع يدك وكنت إذا رددته علينا تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك نبتغي بذلك البركة.
قال: (إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة وأنا رجل أناجي، فأما أنتم فكلوه).
قال: فأكلناه ولم نضع له تلك الشجرة بعد.
وفي كتاب أخبار المدينة ليحيى بن الحسن، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب لم يدخل منزل رسول الله هدية وأول هدية دخلت بها
عليه قصعة مثرودة خبز بر وسمنا ولبنا، فأضعها بين يديه، فقلت: (يا رسول الله أرسلت بهذه القصعة أمي)، فقال: (بارك الله فيها)، ودعا أصحابه فأكلوا فلم أرم الباب حتى جاءته قصعة سعد بن عبادة، على رأس غلام مغطاة فأقف على باب أبي أيوب فأكشف غطاءها لانظر فرأيت ثريدا عليه عراق (1)، فدخل بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قال زيد: (فلقد كنا في بني مالك بن النجار ما من ليلة إلا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم منا الثلاثة والاربعة يحملون الطعام ويتناوبون بينهم حتى تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت أبي أيوب وكان مقامه فيه سبعة أشهر وما كانت تخطئه جفنة سعد بن عبادة وجفنة أسعد بن زرارة كل ليلة).
وفيه أنه قيل لام أيوب: (أي الطعام كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكم عرفتم ذلك لمقامه عندكم ؟ فقالت: ما رأيته أمر بطعام فصنع له بعينه، ولا رأيناه أتي بطعام فعابه.
وقد أخبرني أبو أيوب أنه تعشى عنده ليلة من قصعة أرسل بها سعد بن عبادة طفيشل.
قال أبو أيوب.
فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهل تلك القدر ما لم أره ينهل غيرها، فكنا نعملها له، وكنا نعمل له الهريس وكانت تعجبه.
وكان يحضر عشاءه خمسة إلى ستة عشر كما يكون الطعام في الكثرة والقلة).
__________
(1) العرق: بالسكون: العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم، وجمعه: عراق، وهو جمع نادر، يقال: عرقت العظم، واعترقته، وتعرقته إذا أخذت عنه اللحم بأسنانك.
انظر النهاية 3 / 220.
(*)(3/275)
قال ابن إسحاق: (وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه وسودة بنت زمعة زوجته وحمل زيد بن حارثة امرأته أم أيمن مع ابنها أسامة بن زيد، وخرج عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر فيهم عائشة وأختها أسماء زوج الزبير وأم رومان (أم عائشة) فلما قدموا المدينة أنزلوا في بيت حارثة بن النعمان.
وذكر رزين أن أبا بكر أرسل عبد الله بن أريقط مع زيد ليأتيه بأهله.
قال ابن إسحاق: (وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس.
ولما اطمأنت برسول الله صلى الله عليه وسلم داره، وأظهر الله بها دينه، وسره بما جمع
إليه من المهاجرين والانصار من أهل ولايته، قال أبو قيس صرمة بن أي أنس، أخو بني عدي بن النجار، يذكر ما أكرمهم الله به من الاسلام وما خصهم به من نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم: ثوى في قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا ويعرض في أهل المواسم نفسه * فلم ير من يؤوي ولم ير داعيا فلما أتانا أظهر الله دينه * فأصبح مسرورا بطيبة راضيا وألفى صديقا واطمأنت به النوى * وكان لنا عونا من الله باديا يقص لنا ما قال نوح لقومه * وما قال موسى إذا أجاب المناديا فأصبح لا يخشى من الناس واحدا * قريبا ولا يخشى من الناس نائيا بذلنا له الاموال من جل مالنا * وأنفسنا عند الوغى والتآسيا ونعلم أن الله لا شئ غيره * ونعلم أن الله أفضل هاديا نعادي الذي عادى من الناس كلهم * جميعا وإن كان الحبيب المصافيا أقول إذا أدعوك في كل بيعة * تباركت قد أكثرت لاسمك داعيا أقول إذا جاوزت أرضا مخوفة * حنانيك لا تظهر علي الاعاديا فطأ معرضا إن الحتوف كثيرة * وإنك لا تبقي لنفسك باقيا فوالله ما يدري الفتى كيف يتقي * إذا هو لم يجعل له الله واقيا ولا تحفل النخل المعيمة ربها * إذا أصبحت ريا وأصبح ثاويا (1) تنبيه: في بيان غريب ما سبق (حشد) المسلمون بالدال المهملة: اجتمعوا.
__________
(1) انظر البداية والنهاية 3 / 204.
(*)(3/276)
(متقلدين) السيوف: جعلوا سيورها في أعناقهم إلى جنبهم الايسر، عادة العرب الان لا
كفعل الاتراك وغيرهم بجعلها في أوساطهم.
(ملالا): سآمة.
(الدار): هنا القبيلة وكل قبيلة اجتمعت في محلة سميت تلك المحلة دارا، وسمي ساكنوها بها مجازا، أي أهل الدار.
(تأكل القرى): يأتي بيانه في بيان أسماء المدينة.
(كمنا) (1): بفتح الكاف وكسر الميم بعدها نون مشددة، أي استترنا.
(زهاء): بضم الزاي وبالمد: أي قدر.
(العواتق): جمع عاتق وهي الشابة أول ما ت درك، وقيل: هي التي لم تبن من والدتها ولم تزوج وقد أدركت وشبت.
(الولائد): جمع وليدة وهي الانثى، والوليد الطفل جمعه ولدان.
(الثنيات): جمع ثنية وثنية الوداع بفتح الواو.
قال المجد اللغوي: (هي ثنية مشرفة على المدينة يطؤها من يريد مكة، وقيل: من يريد الشام واختلف في تسميتها بذلك فقيل لانها موضع وداع المسافرين من المدينة إلى مكة، وقيل لان النبي صلى الله عليه وسلم ودع بعض ما خلفه بالمدينة في آخره خرجاته، وقيل: في بعض سراياه المبعوثة عنه، وقيل: الوداع اسم واد بمكة، والصحيح أنه اسم جاهلي قديم سمي به لتوديع المسافرين، هكذا قال أهل السير والتاريخ وأصحاب المسالك إنها من جهة مكة، وأهل المدينة (اليوم) يظنونها من جهة الشام، وكأنهم اعتمدوا قول ابن قيم الجوزية في هدية (فإنه قال): (من جهة الشام ثنيات الوداع ولا يطؤها القادم من مكة البتة).
ووجه الجمع أن كلتا الثنيتين تسمى بثنية الوداع).
انتهى كلام المجد.
قلت: وقال ياقوت (2) في المشترك: (ثنية الوداع مشهورة قرب المدينة وسميت بذلك لان الناس كانوا يدعون المسافرين إلى مكة عندها).
فاقتضى كلامه أن يطؤها قاصد مكة، وتبعه على ذلك في التقريب وسبقهما إليه القاضي، وأيد السيد كلام صاحب الهدي فقال: الروايات متظاهرة على أن هذه الثنية هي المعروفة بذلك، اليوم: شامي المدينة بين مسجد
الراية الذي على ذباب ومشهد النفس الزكية، يمر فيها المار بين صدين مرتفعين قرب سلع،
__________
(1) كمن كمونا: اختفى، وكمن له يكمن كمونا وكمن: استخفى اللسان 5 / 3933.
(2) ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي، أبو عبد الله، شهاب الدين: مؤرخ ثقة، من أئمة الجغرافيين، ومن العلماء باللغة والادب.
أصله من الروم.
أسر من بلاده صغيرا.
من كتبه (معجم البلدان) و (إرشاد الاريب) ويعرف بمعجم الادباء.
توفي سنة 626 ه.
الاعلام 8 / 131.
(*)(3/277)
ومن تأمل كلام ابن شبة في المنازل وغيرها لم يرتب في ذلك، ويوضحه ما رواه ابن إسحاق في غزوة الغابة قلت: وسيأتي سياقه فيها.
ثم قال السيد: (وكونها شامي المدينة لا يمنع كون هذه الابيات أنشدت عند الهجرة لانه صلى الله عليه وسلم ركب ناقته وأرخى لها زمامها وقال: (دعوها فإنها مأمورة)، ومر بدور الانصار كما سبق حتى مر ببني ساعدة، ودارهم شامي المدينة قرب ثنية الوداع، فلم يدخل باطن المدينة إلا من تلك الناحية حتى أتى منزله بها.
وقد عرج النبي صلى الله عليه وسلم في رجوعه من بدر إلى ثنية الوداع، كما ذكره ابن عقبة: (أنه صلى الله عليه وسلم سلك حين خرج إلى بدر حتى ثقب بني دينار، ورجع حين رجع من ثنية الوداع) قلت: فتحصل من كلامه أن ثنية الوداع ليست من جهة مكة وإنما هي شامي المدينة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهتها في دخوله باطن المدينة، ولا حجة لمن قال إنها من جهة مكة إلا ما سبق من قول الولائد: (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع)، وقد علمت ما فيه.
وروى البخاري عن السائب بن يزيد قال: (أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع مقدمه من تبوك).
قال الحافظ في فتح الباري: (أنكر الداودي هذا، وتبعه ابن القيم وقال: ثنية الوداع من جهة مكة لا من جهة تبوك بل هي في مقابلها كالمشرق من المغرب إلا أن يكون هناك ثنية أخرى في تلك الجهة).
قال ابن حجر: (ولا يمنع كونها من جهة مكة أن يكون الخروج إلى الشام من جهتها.
وهذا أوضح كما في دخول مكة من ثنية
والخروج منها من أخرى، وينتهين كلهن إلى طريق واحدة).
قلت: وقد راجعت الهدي في غزوة ت بوك فرأيته ذكر أن ثنية الوداع شامي المدينة كما نقله عنه صاحب القاموس والسيد لا كما نقله عنه الحافظ ولم يذكر في الهدي في الكلام على الهجرة شيئا من ذلك.
(أضوأ): أنور.
(المنعة): بفتح النون يقال: فلان في منعة أي في عز من قومه فلا يقدر عليه من يريده.
(الثروة): بفتح الثاء المثلثة: كثرة المال.
(البحيرة): يأتي الكلام عليها في باب أسماء المدينة.
(قوقل): بقاف مفتوحة فواو ساكنة فقاف مكسورة: أي سر حيث شئت فإنك آمن.
(رانوناء): (وهو واد في المدينة صلى فيه النبي الجمعة).
(على فترة من الرسل): أي على انقطاع بعثهم ودروس أعلام دينهم.(3/278)
(ولو بشق تمرة): بكسر الشين المعجمة: أي نصف تمرة، يريد: لا يستقلون (1) من الصدقة شيئا.
(مزاحم): بضم الميم فزاي وكسر الحاء المهملة: أظم كان بين ظهراني بني الحبلى.
(بنو الحبلى).
الحبلى لقب سالم بن غنم بن عوف لقب به لعظم بطنه ومن ولده بنو الحبلى بطن من الانصار.
(محتبيا): أي جمع ظهره وسابقيه بثوب أو غيره، وقد يحتبي بيده والاسم الحبوة بالكسر.
(شرق لذلك): بشين معجمة مفتوحة فراء فقاف، أي ضاق صدره كمن غص.
(تجلجلت) بجيمين: تحركت.
(الاقشهري): هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أمين الاقشهري عمل كتابا سماه الروضة فيه أسماء من دفن بالبقيع.
(أرزمت): براء فزاي: صوتت.
(الجران) (2): بكسر الجيم: مقدم عنق البعير من مذبحه إلى منحره، فإذا برك البعير ومد عنقه على الارض قيل ألقى جرانه بالارض.
(انجفل الناس): أسرعوا.
(الحب): بضم الحاء ا لمهملة: الخابية ويقال لها الزير.
(تيممت): قصدت.
(القطيفة): دثار له خمل.
طفيشل: بفتح الطاء المهملة وفتح الفاء وسكون المثناة التحتية وفتح الشين المعجمة وباللام: نوع من المرق.
ثوى: أقام.
(البضع): بالكسر ويفتح: من الثلاث إلى التسع.
__________
(1) قال ابن الاثير: تقلل الشئ، واستقله، وتقاله: إذا رآه قليلا.
انظر النهاية 4 / 103.
(2) الجران: باطن العنق، وقيل: مقدم العنق من مذبح البعير إلى منحره وقيل: الجران هي جلدة تضطرب على باطن العنق من ثغرة النحر إلى منتهى العنق في الرأس قال الشاعر: فقد سراتها والبرك منها * فخرت لليدين وللجران اللسان 1 / 608.
(*)(3/279)
(الحجة) (1): بالكسر هنا: السنة.
(مواتيا): موافقا.
(ألفى): وجد.
(النوى): بلفظ نوى التمر: البعد.
(باديا): ظاهرا.
(نائيا): بعيدا.
(من جل مالنا): معظمه.
(الوغى): بفتح الواو والغين المعجمة: الحرب.
(التأسي): التعاون.
(البيعة): المسجد.
(حنانيك) (2): أي تحننا بعد تحنن والتحنن الرأفة والرحمة.
(فطأ معرضا): بضم الميم وسكون العين المهملة وكسر الراء والضاد المعجمة: أي متسعا.
(الحتوف) جمع حتف وهو الموت، والحتوف هنا أسباب الموت وأنواعه.
(ولا تحفل): بحاء مهملة ففاء: أي لا تبالي، يقال حفلت بكذا: باليت به.
(النخل) بالخاء المعجمة: اسم جنس جمعى واحده نخلة.
(المعيمة) (3) بضم الميم وكسر العين المهملة: أي العاطشة من العيمة بفتح العين المهملة وهو العطش، وأكثر ما يقال في اللبن.
(ربها): صاحبها.
(ريا): أي مرتوية من الماء.
(ثاويا) (4): بالمثلثة وآخره مثناة تحتية، ويروى (تاويا) بالمثناة الفوقية من التوى وهو الهلاك.
__________
(1) والجمع حجج مثل سورة وسور ص 121.
(2) انظر اللسان 2 / 1030.
(3) انظر اللسان 4 / 3195.
(4) ثوي ثواء، وثويا: أقام واستقر.
انظر المعجم الوسيط 1 / 103.
(*)(3/280)
جماع أبواب بعض فضائل المدينة الشريفة
الباب الأول في بدء شأنها
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مكة بلد عظمه الله، وعظم حرمته، خلق مكة وحفها بالملائكة قبل أن يخلق شيئا من الارض بألف عام، ووصلها بالمدينة، ووصل المدينة ببيت المقدس، ثم خلق الارض كلها بعد ألف عام خلقا واحدا).
وعن علي رضي الله عنه قال: (كانت الارض ماء فبعث الله ريحا فمسحت الارض مسحا فظهرت على الارض زبدة فقسمها أربع قطع، خلق من قطعة مكة والثانية المدينة والثالثة بيت المقدس والرابعة الكوفة).
رواهما الحافظ أبو بكر بن أحمد بن محمد الواسطي الخطيب في كتابه فضائل بيت المقدس بسند لا بأس به خلافا لقول السيد إنهما واهيان، فإني لم أجد في سندهما من تكلم فيه سوى ابن لهيعة وهو صدوق اختلط بأخرة والترمذي يحسن له.
وروى الطبراني عن ذي مخبر، وهو بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الموحدة وقيل بدلها ميم، وهو ابن أخي النجاشي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل اطلع إلى أهل المدينة وهي بطحاء قبل أن تعمر، ليس فيها مدرة ولا وبرة، فقال: (يا أهل يثرب إني مشترط عليكم ثلاثا، وسائق إليكم من كل الثمرات: لا تعصي ولا تعلي ولا تكبري، فإن فعلت شيئا من ذلك تركتك كالجزور لا يمنع من أكله) (1).
وقيل: أول من عمر بها الدور والاطام، وزرع وغرس، العماليق بنو عملاق بن أرفخشد بن سام بن نوح، وأخذوا ما بين البحرين وعمان والحجاز إلى الشام ومصر، ومنهم الجبابرة والفراعنة.
وقال أبو المنذر الشرقي بن القطامي: سمعت حديث تأسيس المدينة من سليمان بن عبد الله بن حنظلة الغسيل، وسمعت أيضا بعض ذلك من رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عبد الله بن عمار بن ياسر، فجمعت حديثهما لكثرة اتفاقه وقلة اختلافه، قالا: (بلغنا أنه لما حج موسى صلوات الله عليه حج معه أناس من بني إسرائيل، فلما كان في انصرافهم أتوا عن
__________
(1) ذكر الهيثمي في المجمع 3 / 302 وعزاه للطبراني في الكبير وقال: وفيه سعيد بن سنان والشامي وهو ضعيف وذكره
المتقي الهندي في الكنز (34901).
(*)(3/281)
المدينة فرأوا موضعها صفة بلد نبي يجدون وصفه في التوراة بأنه خاتم النبيين، فاشتورت طائفة منهم على أن يتخلفوا به، فنزلوا في موضع سوق بني قينقاع، ثم تألفت إليهم أناس من العرب فرجعوا إلى دينهم، فكانوا أول من سكن موضع المدينة.
ويذكر أن قوما من العمالقة سكنوه قبلهم.
وروى أبو نعيم وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بلغني أن بني إسرائيل لما أصابهم ما أصابهم من ظهور بختنصر عليهم وفرقتهم وذلتهم تفرقوا، وكانوا يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم منعوتا في كتابهم، وأنه يظهر في بعض هذه القرى العربية في قرية ذات نخل، ولما خرجوا من أرض الشام كانوا يعبرون كل قرية من تلك القرى العربية بين الشام واليمن يجدون نعتها نعت يثرب فينزل بها طائفة منهم يرجون أن يلقوا محمدا فيتبعونه حتى نزل طائفة من بني هارون ممن حمل التوراة إلى يثرب، فمات أولئك الاباء وهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ويحثون أبناءهم على اتباعه، فأدركه من أدركه من أبنائهم، فكفروا به وهم يعرفونه لحسدهم الانصار حيث سبقوهم إليه.
وروى الزبير بن بكار عن عثمان بن عبد الرحمن التيمي وغيره من أهل المدينة قالوا: (كان بالمدينة في سالف الزمان قوم يقال لهم: صعل وفالج، فغزاهم داود النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ منهم مائة ألف عذراء، قالوا: وسلط الله عليهم الدود في أعناقهم فهلكوا.
ولم تزل اليهود ظاهرين على المدينة حتى كان سيل العرم.
قال المفسرون: كانت أرض سبأ المعنية بقوله تعالى: (بلدة طيبة ورب غفور) (سبأ 15) أخصب بلاد الله لم تكن سبخة وقيل: لم يكن فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب.
ولا حية، ويمر الغريب بواديهم وفي ثيابه القمل فيموت، وتخرج المرأة وعلى رأسها مكتلها فتعمل بمغزلها وتسير بين ذلك الشجر فيمتلئ مما يتساقط من الثمر، وكان طول بلدهم أكثر من شهرين للراكب المجد
وكذلك عرضها، وأهلها في غاية الكثرة مع اجتماع الكلمة والقوة.
وكانوا كما قص الله تعالى من خبرهم بقوله: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة) (سبأ 18) أي يرى بعضها من بعض لتقاربها فكانوا آمنين في بلادهم، تخرج المرأة لا تتزود شيئا تبيت في قرية وتقيل في أخرى حتى تأتي الشام.
فبطروا النعمة (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) (سبأ: 19)، أي بمفاوز بينهم وبين الشام يركبون فيها الرواحل، فعجل الله لهم الاجابة كما قال تعالى (فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق) (سبأ 19).
(وكانوا يقتتلون على ماء واديهم فأمرت بلقيس بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير، فسدت ما بين الجبلين بالصخر والقار، وجعلت له أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض، وبنت من(3/282)
دونه بركة ضخمة، وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنها يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا استغنوا سدوها، فإذا جاء ماء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد، فأمرت بالباب الاعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة، فكانوا يستقون من الباب الاعلى ثم من الثاني ثم من الثالث فلا ينفد الماء حتى يرجع الماء من السنة المقبلة، فكان السيل يأتيهم من مسيرة عشرة أيام حتى يستقر في واديهم فيجتمع الماء من تلك السيول والجبال في ذلك الوادي.
وكان السد فرسخا في فرسخ بناه لقمان الاكبر العادي وقيل سبأ بن يشجب، ومات قبل إكماله فأكمله ملوك حمير.
(وكان أولاد حمير بن سبأ وأولاد كهلان بن سبأ سادة اليمن في ذلك الزمان وكان كبيرهم عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء، وكانت زوجة عمرو يقال لها طريفة، من حمير وكانت كاهنة، فولدت له ثلاثة عشر ولدا: ثعلبة أبو الاوس والخزرج، وحارثة والد خزاعة، وجفنة والدغسان - وقيل فيهم غير ذلك - وولدت له وداعة وأبا حارثة والحارث وعوفا وكعبا ومالكا وعمرانا هؤلاء أعقبوا كلهم والثلاثة الباقون لم يعقبوا.
وكان لعمرو مزيقياء من القصور والاموال ما لم يكن لاحد فرأى أخوه عمران وكان كاهنا أن قومه سيمزقون وتخرب بلادهم
فذكره لعمرو.
ثم أن طريفة الكاهنة سجعت له بما يدل على ذلك فقال: وما علامته ؟ قالت: إذا رأيت جرذا يكثر في السد الحفر، يقلب منه بيديه الصخر (فاعلم أن قد وقع الامر).
(فلما غضب الله تعالى عليهم وأذن في هلاكهم دخل عمرو بن عامر فرأى جرذا تنقل أولادها من بطن الوادي إلى أعلى الجبل فقال: ما نقلت هذه أولادها من ههنا إلا وقد حضر أهل هذه البلاد عذاب فخرقت ذلك العرم فنقبت نقبا، فسال الماء من ذلك النقب إلى جنبه فأمر بذلك النقب فسد، فأصبح وقد انفجر بأعظم مما كان، فأمر به أيضا فسد، ثم انفجر بأعظم مما كان فلم يترك فرجة بين حجرين إلا أمر بربط هرة عندها فما زاد الامر إلا شدة، وكان الجرذ يقلب بيديه ورجليه الصخرة ما يقلبها خمسون رجلا.
فلما رأى ذلك دعا ابن أخيه فقال: إذا جلست العشية في نادي قومي فائتني فقل: علام تجلس على مالي ؟ فإني سأقول لك: ليس لك عندي مال ولا ترك أبوك شيئا وإنك كاذب.
فإن كذبتك فكذبني وارد علي مثل ما قلت لك، فإذا فعلت ذلك فإني سأشتم إذا أنت شتمتني وإن أنا لطمتك فالطمني.
قال: ما كنت لاستقبلك بذلك يا عم.
قال: بلى فافعل فإني أريد بذلك صلاحك وصلاح أهل بيتك.
فقال الفتى: نعم، حيث عرف رأي عمرو.
فجاء، فقال ما أمره به حتى لطمه فتناول الفتى عمه فلطمه.
فقال الشيخ: (يا معسر بني فلان أألطم فيكم ؟ لا سكنت في بلد لطمني فيه فلان أبدا، من يبتاع مني ؟) فلما عرف القوم منه الجد أعطوه، فنظر إلى أفضلهم عطية فأوجب له البيع،(3/283)
فدعا بالمال، فنقده.
وتحمل هو وبنوه من ليلته، وفي رواية: أن الثمن لما صار في يده قال: أي قوم إن العذاب قد أظلكم، وزوال أمركم قد دنا فمن أراد منكم منزلا جديدا وجملا شديدا وسفرا بعيدا فليلحق بعمان، ومن أراد منكم الخمر والخمير والديباج والحرير، والامر والتأمير فليلحق ببصرى وسدير ومن أراد منكم الراسخات في الوحل المطعمات في المحل، المقيمات في الضحل فليلحق بيثرب ذات النخل، فخرج أهل عمان إلى عمان، وخرجت غسان إلى بصرى، وخرجت الاوس والخزرج وبنو كعب بن عمرو إلى يثرب، فلما كانوا ببطن
مر قال بنو كعب: هذا مكان صالح لا نبغي به بدلا، فلذلك سموا خزاعة لانهم انخزعوا عن أصحابهم، وأقبلت الاوس والخزرج حتى نزلوا بيثرب).
(ولما أراد الله ما أراد من تفريق من بقي وخراب بلادهم أقبلت فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت الفأرة في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت بالسد فحفرت فيه حتى وهنته للسيل وهم لا يدرون، فلما جاء السيل وجد خلاء فدخل فيه حتى قلع السد وفاض من الماء على الاموال فاحتملها، فلم يبق منها إلا ما ذكر الله تعالى).
(ولما قدمت الاوس والخزرج المدينة تفرقوا في عاليتها وسافلتها ومنهم من نزل مع بني إسرائيل في قراهم ومنهم من نزل وحده لا مع بني إسرائيل ولا مع العرب الذين تألفوا إلى بني إسرائيل، وكانت الثروة في بني إسرائيل، ولهم قرى عمروا بها الاطام.
فمكثت الاوس والخزرج ما شاء الله، ثم سألوا اليهود في أن يعقدوا بينهم جوارا وحلفا يأمن به بعضهم من بعض، ويمتنعون به ممن سواهم، فتحالفوا وتعاقدوا واشتركوا وتعاملوا فلم يزالوا على ذلك زمانا طويلا، وأمرت الاوس والخزرج، وصار لهم مال وعدد، فخافت قريظة والنضير أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم، فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي كان بينهم فأقامت الاوس والخزرج في منازلهم خائفين أن يجليهم يهود، حتى نجم منهم مالك بن العجلان، أخو بني سالم بن عوف بن الخزرج وسوده الحيان الاوس والخزرج).
(وكان ملك اليهود الفطيون شرط ألا تهدى عروس إلى زوجها حتى تدخل عليه، فلما سكن الاوس والخزرج المدينة أراد أن يسير فيهم بتلك السيرة.
فتزوجت أخت مالك بن العجلان رجلا من بني سالم، فأرسل الفطيون رسولا في ذلك، وكان مالك غائبا، فخرجت أخته في طلبه، فمرت به في قوم، فنادته، فقال: لقد جئت بسبة، تناديني ولا تستحي.
فقالت: إن الذي يراد بي أكبر، فأخبرته.
فقال لها: أكفيك ذلك.
فقالت: وكيف ؟ فقال: أتزيي بزي النساء وأدخل معك عليه بالسيف، فأقتله.
ففعل.
ثم خرج حتى قدم الشام على أبي جبيلة،(3/284)
وكان نزلها حين نزلوا هم بالمدينة فجيش جيشا عظيما وأقبل كأنه يريد اليمن، واختفى معهم مالك بن العجلان، فجاء فنزل بذي حرض، وأرسل إلى أهل المدينة من الاوس والخزرج فأتوا إليه فوصلهم ثم أرسل إلى بني إسرائيل وقال: من أراد الحباء من الملك فليخرج إليه مخافة أن يتحصنوا في الحصون فلا يقدر عليهم فخرج إليه أشرافهم، فأمر لهم بطعام حتى اجتمعوا فقتلهم فصار الاوس والخزرج أعز أهل المدينة).
تنبيه: في بيان غريب ما سبق (حفها): أحدق بها.
(الزبدة) (1): بفتحتين: الرغوة.
(البطحاء): الارض المتسعة.
(مدرة): جمعها مدر، مثل قصبة وقصب قال الازهري: المدر قطع الطين.
(المكتل) (2): بكسر الميم وسكون القاف وفتح المثناة الفوقية: الزنببل.
(صعل): بصاد فعين مهملتين فلام.
(فالج): بالجيم.
(المسناة): حائط يبنى في وجه الماء ويسمى السد.
(العرم): جمع عرمة.
(السكر): بفتح السين المهملة وسكون الكاف: أي السد الذي يحبس الماء، قال ابن الاعرابي: السيل الذي لا يطاق وقيل العرم الوادي وأصله من العرامة وهي الشدة والقوة.
(الضحل) (3): بالضاد المعجمة والحاء المهملة الساكنة: القليل من الماء وقيل الماء القريب: (الفطيون): (بكسر الفاء وإسكان الطاء المهملة ثم مثناة تحتية مفتوحة وواو ساكنة فنون.
والفطيون هو الذي تملك بيثرب).
__________
(1) انظر المفردات في غريب القرآن 211.
(2) انظر اللسان 5 / 3822.
(3) انظر اللسان 4 / 2559.
(*)(3/285)
الباب الثاني في أسماء المدينة مرتبة على حروف المعجم
الأول فالأول مستقصاة لان كثرة الاسماء تدل على شرف المسمى، فما ذكره، الزركشي في الاعلام، وصاحب القاموس في غيره، والسيد في تاريخه بلغ بها خمسة وتسعين اسما وهي: - (أثرب): بالفتح وإسكان المثلثة وكسر الراء فموحدة، لغة في يثرب، اسم من سكنها أولا، سميت به أرض المدينة كلها عند أبي عبيدة أو هي فقط عند ابن عباس أو ناحية منها.
وعلى الثالث فإطلاقه على المدينة مع ذلك صحيح ثابت إما وضعا لها أو من إطلاق اسم البعض على الكل أو المشتهر من باب عكسه، وورد النهي عن تسميتها بذلك كما سيأتي.
- (أرض الله): لقوله تعالى: (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) (النساء 97) قال جماعة: المراد المدينة، وفي هذه الاضافة من مزيد التعظيم ما لا يخفى.
(أرض الهجرة): لحديث فيه (المدينة قبة الاسلام).
(أكالة البلدان): لتسلطها على جميع الامصار وارتفاعها على سائر بلدان الاقطار وافتتاحها منها على أيدي أهلها فغنموها وأكلوها.
(أكالة القرى): لحديث (أمرت بقرية تأكل القرى) (1).
(الايمان): لقوله تعالى في الانصار.
(والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم) (الحشر 9) قال عثمان بن عبد الرحمن وعبد الله بن جعفر: (سمى الله تعالى المدينة الدار والايمان)، رواه محمد بن الحسن المخزومي عنهما.
وابن شبة عن الثاني.
وقال البيضاوي:
(سمى الله المدينة بالايمان لانها مظهره ومصيره).
وعن أنس بن مالك (أن ملك) الايمان قال: (أنا أسكن المدينة)، فقال (ملك) الحياء: (وأنا معك)، رواه الدينوري في كتابه المجالسة.
- (البارة): بتشديد الراء.
- (البرة): بالتشديد أيضا لكثرة برها لاهلها خصوصا ولجميع العالم عموما، لانها منبع الفيض والبركات.
- (البحرة): بالفتح وسكون المهملة.
- (البحيرة): تصغير ما قبله.
__________
(1) أخرجه البخاري (1871) ومسلم في كتاب الحج (488) وأحمد في المسند 2 / 237 ومالك في الموطأ (887).
(*)(3/286)
- (البحيرة): بالفتح والكسر: نقل الزركشي الثلاثة في الاعلام عن منتخب كراع، ونقل غيره الاولين عن معجم ياقوت، والاستبحار السعة لانها بمتسع من الارض ولقول سعد بن عبادة: ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة - بالتصغير - على أن يعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، ويقال (البحر) أيضا بغير تاء، ساكن الحاء وأصله القرى وكل قرية بحرة.
- (البلاط): بفتح الموحدة، نقل عن (كتاب: ليس) لابن خالويه وهو لغة الحجارة المفروشة (التي تفرش على الارض، والارض المفروش بها، والمستوية الملساء فكأنها) سميت به لكثرته فيها أو لاشتمالها على موضع تعرف به.
- (البلد): قال تعالى: (لا أقسم بهذا البلد) (البلد 1): قيل: المدينة وقيل: مكة ورجحه القاضي، لكن السورة مكية والبلد لغة صدر القرى.
قال الواسطي فيما نقله عن القاضي: (أي يحلف لك ربك بهذا البلد الذي شرفته بمكانك فيه حيا وببركتك ميتا)، يعني المدينة.
- (بلد رسول الله) صلى الله عليه وسلم: روى البزار عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشياطين قد يئست، أن تعبد ببلدي)، هذا يعني المدينة وجزيرة العرب، (ولكن في التحريش بينهم) (1).
- (بيت رسول الله) صلى الله عليه وسلم: قال تعالى (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق): أي من المدينة لاختصاصها به اختصاص البيت بساكنه، أو المراد: بيته بها.
- (تندد): بمثناة فوقية فنون وإهمال الدالين، كجعفر.
- (تندر): براء بدل الدال الاخيرة مما قبله كما سيأتي في (يندر) بالتحتية.
- (الجابرة): ذكر في حديث للمدينة عشرة أسماء، سميت بها لانها تجبر الكسير وتغني الفقير وتجبر على الاذعان لمطالعة بركاتها وشهود آياتها ولانها جبرت البلاد على الاسلام.
- (جبار) كحذام رواه ابن شبة بدل الجابرة في حديثه المذكور.
- (الجبارة): نقل عن التوراة.
- (جزيرة العرب): لقول بعضهم إنها المرادة من الحديث: (أخرجوا المشركين من
__________
(1) ذكره الهيثمي في المجمع 3 / 302 وعزاه للبزار وقال: فيه السكن بن هارون الباهلي ولم أجد من ترجمه.
(*)(3/287)
جزيرة العرب)، وفي حديث ابن عباس: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة فالتفت إليها وقال: (إن الله برأ هذه الجزيرة من الشرك)، رواه أبو يعلى والبزار والطبراني.
- (الجنة الحصينة): بضم الجيم وهي الوقاية، أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد: (أنا في جنة حصينة) (1) - يعني المدينة - ((دعوهم يدخلون نقاتلهم)).
- (الحبيبة): لحبه صلى الله عليه وسلم لها ودعائه لها.
- (الحرم): بالفتح (بمعنى الحرام لتحريمها، وفي الحديث: (المدينة حرم) (2)، وفي رواية أنها: (حرم آمن).
- (حرم رسول الله): صلى الله عليه وسلم لانه الذي حرمها، وفي الحديث: (من أخاف أهل حرمي
أخافه الله)، وفي حديث آخر: حرم إبراهيم مكة وحرمي المدينة)، رواه الطبراني.
- (حسنة): بلفظ مقابل السيئة، وقال تعالى: (لنبوأنهم في الدنيا حسنة) (النحل 41) أي مباءة حسنة وهي المدينة، وقيل: هو اسمها لاشتمالها على الحسن الحسي والمعنوي، نقله الامام فخر الدين الرازي.
- (الخيرة): بالتشديد.
- (الخيرة) بالتخفيف تقول: امرأة خيرة وخيرة بمعنى كثيرة الخير، وإذا أردت التفضيل قلت: فلان خير الناس، وفي الحديث: (والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون).
- (الدار): لقوله تعالى: (والذين تبوأوا الدار والايمان) على ما سبق في الايمان سميت به لامنها والاستقرار بها وجمعها البناء والعرصة.
- (دار الابرار).
- (دار المختار): لانها دار المصطفى المختار والمهاجرين والانصار، ولانها تنفي شرارها، ومن أقام بها منهم فليست في الحقيقة له بدار، وربما نقل منها بعد الاقبار.
(دار الايمان): روى الطبراني بسند لا بأس به عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المدينة قبة الاسلام ودار الايمان وأرض الهجرة ومبوأ الحلال والحرام)، وروى الشيخان عن أبي هريرة، والبزار عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الايمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)، تأرز بفتح أوله وسكون الهمزة وكسر الراء - وقد تضم
__________
(1) ذكره السيوطي في الدر 2 / 94 وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير.
(2) أخرجه البخاري 3 / 49 (1867).
(*)(3/288)
بعدها زاي، أي أنها كما تخرج في طلب ما تعيش به فإذا راعها شئ رجعت إلى جحرها كذلك الايمان انتشر في المدينة، فكل مؤمن، له من نفسه شائق إلى المدينة لمحبته في النبي صلى الله عليه وسلم.
- (دار السنة).
- (دار السلامة).
- (دار الفتح): ففي الصحيح قول عبد الرحمن بن عوف لعمر رضي الله عنهما: (حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة) - وفي رواية الكشميهني أحد رواة البخاري - (والسلامة، وقد فتحت منها مكة وسائر الامصار وإليها هجرة المختار ومنها انتشرت السنة في الاقطار.
- (ا لدرع الحصينة): لحديث أحمد برجال الصحيح: (رأيت كأني في درع حصينة، فأولت الدرع الحصينة المدينة).
- (ذات الحجر): بضم الحاء المهملة وفتح الجيم لاشتمالها عليها.
- (ذات الحرار): بكسر الحاء وراءين مهملات، جمع حرة بفتح الحاء وهي الحجارة السود لكثرتها بها.
- (ذات النخل): لوصفها بذلك / ولما قبله في خبر خنافر مع رئيه، وفي سجع عمران بن عامر: فليلحق بيثرب ذات النخل، وفي الحديث: (أريت دار هجرتي ذات نخل وحرة).
- (السلقة) (1): ذكره أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أمين الاقشهري في أسمائها المنقولة عن التوراة، وهو محتمل، والسلقة بفتح اللام وكسرها إذا السلق بالتحريك القاع الصفصف والسلاق البليغ، وربما قيل للمرأة السليطة سلقة بالكسر، وسلقت البيض سلقا أغليته بالنار.
فسميت المدينة به لاتساعها وتباعد جيالها أو لتسلطها على البلاد فتحا أو للاوائها وشدة حرها وما كان بها من الحمى.
- (الشافية): لحديث، (ترابها شفاء من كل داء)، ولما صح في غبارها.
وذكر ابن مسدي: الاستشفاء من الحمي بكتابة أسمائها وتعليقها على المحموم، وسيأتي أنها تنفي الذنوب فتشفي من دائها.
__________
(1) الشلق: الواسع من الطرق والقاع المطمئن من الارض المستوي لا نبات فيه والجمع أسلاق وسلقان.
انظر المعجم
الوسيط 1 / 447.
(*)(3/289)
- (طابة): كشامة، روى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تعالى سمى المدينة طابة) (1).
- (طيبة): بسكون المثناة التحتية كهيبة وعيبة.
- (طيبة): بتشديد المثناة التحتية.
- (طائب): ككاتب، وهذه الاربعة مع اسمها المطيبة أخوات لفظا ومعنى، مختلفات صيغة ومبنى.
وفي الحديث: (للمدينة عشرة أسماء هي المدينة وطيبة وطابة)، وعن وهب بن منبه: (إن اسمها في كتاب الله - يعني التوراة - طيبة وطابة).
ونقل عن التوراة أيضا تسميتها بالطيبة وكذلك المطيبة.
وتسميتها بهذه الاسماء إما من الطيب بتشديد المثناة وهو الطاهر لطهارتها من أدناس الشرك، أو لحلول الطيب بها صلى الله عليه وسلم، أو لكونها كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها.
قال الاشبيلي: (لتربة المدينة نفحة ليس طيبها كما عهد من الطيب بل هو أعجب من الاعاجيب).
قال بعض أهل العلم: (وفي طيب ترابها وهوائها دليل شاهد على صحة هذه التسمية، لان من أقام بها يجد من تربتها وحيطانها رائحة طيبة لا تكاد توجد في غيرها).
- (طبابا): ذكره ياقوت وهو بكسر المهملة يعني القطعة المستطيلة من الارض أو بفتح المعجمة ظبابا من ظب، وظبظب إذا حم لما كان بها من الحمى.
(ا لعاصمة): لعصمتها للمهاجرين من المشركين ولانها الدرع الحصينة، أو هي بمعنى المعصومة فلا يدخلها الدجال ولا الطاعون ومن أرادها بسوء أذابه الله.
- (العذراء): بالمهملة فالمعجمة، نقل عن التوراة لصعوبتها وامتناعها على الاعداء حتى تسلمها مالكها الحقيقي سيد الانام صلى الله عليه وسلم.
- (العراء): بإهمال أوله وثانيه، قال أئمة اللغة: العراء الجارية العذراء كأنها شبهت بالناقة العراء التي لا سنام لها أو صغر سنامها كصغر نهد العذراء فيجوز أن تكون تسمية المدينة
بذلك لعدم ارتفاع أبنيتها في السماء.
- (العروض): بعين مهملة فراء فواو فضاد معجمة كصبور وقيل: هو اسم لها ولما حولها لانخفاض مواضع منها ومسايل أودية فيها، أو لانها من نجد على خط مستقيم طولا، والمدينة معترضة عنها ناحية.
- (الغراء): بالغين المعجمة تأنيث الاغر ذي الغرة والبياض في مقدم الوجه والغرة أيضا خيار كل شئ وغرة الانسان وجهه والاغر الابيض من كل شئ، والذي أخذت اللحية جميع
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الحج (491) وأحمد في المسند 5 / 94 وابن أبي شيبة في المصنف 12 / 179.
(*)(3/290)
وجهه إلا القليل، والرجل الكريم، واليوم الشديد الحر.
والغراء نبت طيب الرائحة، والسيدة الكبيرة.
فسميت المدينة بذلك لانها سادت على القرى، وطاب ريحها في الورى، وأكرم أهلها وكثر غرسها وابيض نورها وسطع ضياؤها.
- (غلبة): محركة بمعنى الغلب لظهورها على البلاد، وكانت في الجاهلية تدعى (غلبة): نزلت يهود بها على العماليق فغلبتهم عليها، ونزلت الاوس والخزرج على يهود فغلبوهم عليها، ونزل المهاجرون على الاوس والخزرج فغلبوهم عليها، ونزل الاعاجم على المهاجرين فغلبوهم عليها.
- (الفاضحة): بالفاء وضاد معجمة وحاء مهملة، نقل عن كراع: إذ لا يضمر بها أحد عقيدة فاسدة أو يبطن أمرا إلا ظهر عليه وافتضح به، وهو معنى كونها تنفي خبثها.
- (القاصمة): بقاف وصاد مهملة.
نقل عن التوراة لقصمها كل جبار عناها وكسر كل متمرد أتاها، ومن أرادها بسوء أذابه الله.
- (قبة الاسلام): لحديث (المدينة قبة الاسلام).
- (قرية الانصار): وتقدم الكلام على الانصار.
- (قرية رسول الله) صلى الله عليه وسلم، لحديث الطبراني برجال ثقات: (ثم يسير - يعني الدجال -
حتى يأتي المدينة ولا يؤذن له فيها فيقول: هذه قرية ذاك الرجل)، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
- (قلب الايمان): أورده ابن الجوزي في حديث: (المدينة قبة الاسلام).
- (المؤمنة): لتصديقها بالله تعالى حقيقة لخلقه قابلية ذلك فيها كما في تسبيح الحصى، أو مجازا لاتصاف أهلها بالايمان وانتشاره منها واشتمالها على أوصاف المؤمن أو لادخالها أهلها في الامن من الاعداء والطاعون والدجال.
وقد روي في حديث: (والذي نفسي بيده إن تربتها لمؤمنة)، وروي في آخر: (إنها لمكتوبة في التوراة مؤمنة).
- (المباركة): لان الله تعالى بارك فيها بدعائه صلى الله عليه وسلم وحلوله بها.
- (مبوأ الحلال والحرام): رواه الطبراني في حديث: (المدينة قبة الاسلام) (1)، والتبوء التمكن والاستقرار، سميت به لانها محل تمكن هذين الحكمين واستقرارهما.
- (مبين الحلال والحرام): رواه ابن الجوزي وغيره بدل الذي قبله في الحديث المتقدم لانها محل بيانهما.
__________
(1) ذكره الهيثمي في الجمع 3 / 301 وعزاه للطبراني في الاوسط وقال: فيه عيسى بن مينا قالون وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات وذكره المتقي الهندي في الكنز (2.
348).
(*)(3/291)
- (المجبورة): ذكر في الحديث: (للمدينة عشرة أسماء)، ونقل عن الكتب المتقدمة، سميت به لجبرها بخلاصة الوجود حيا وميتا لحثه على سكناها، بعد نقل حماها وتكرر دعائه لها.
- (المحبة): بضم الميم وبالحاء المهملة وتشديد الموحدة، نقل عن الكتب المتقدمة.
- (المحببة): بزيادة موحدة على ما قبله.
- (المحبوبة): نقل عن الكتب المتقدمة أيضا، وهذه ثلاثة مع ما تقدم من اسمها الحبيبة من مادة واحدة، وحبه صلى الله عليه وسلم لها ودعاؤه به معلوم، وحبه تابع لحب ربه.
- (المحبورة): من الحبر وهو السرور أو من الحبرة بمعنى النعمة أو المبالغة فيما وصف بجميل، والمحبار من الارض السريعة النبات الكثيرة الخيرات.
- (المحرمة): لتحريمها.
- (المحروسة): لحديث: (المدينة مشتبكة بالملائكة على كل نقب منها ملك يحرسها)، رواه الجندي.
- (المحفوفة): لانها حفت بالبركات وملائكة السموات، وفي خبر: (تأتي مكة والمدينة محفوفتان بالملائكة) (1).
- (المحفوظة): لحفظها من الطاعون والدجال وغيرهما، وفي خبر: (القرى المحفوظة أربع)، وذكر المدينة منها.
- (المختارة): لان الله تعالى اختارها للمختار من خلقه في حياته ومماته.
- (مدخل صدق): قال الله تعالى: (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) (الاسراء 80) فمدخل صدق المدينة كما تقدم.
- (المدينة): لتكرره في القرآن ونقل عن التوراة، والمدينة من مدن بالمكان أقام به، أو من دان إذا أطاع، إذ يطاع السلطان بالمدينة لسكناه بها، وهي أبيات كثيرة تجاوز حد القرى ولم تبلغ حد الامصار، وقيل: يقال لكل مصر، وتطلق على أماكن كثيرة، ومع ذلك فهو علم للمدينة النبوية، بحيث إذا أطلق لا يتبادر الفهم إلى غيرها، ولا يستعمل فيها إلا المعرفة، أما
__________
(1) ذكره الهيثمي في المجمع 3 / 312 بلفظ (المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة وعزاه لاحمد وقال: رجاله ثقات.
والحديث أخرجه أحمد 2 / 483 والبخاري في التاريخ 6 / 180.
(*)(3/292)
النكرة فاسم لكل مدينة، ونسبوا للكل مديني، وللمدينة النبوية مدني للفرق.
- (مدينة رسول الله): صلى الله عليه وسلم، لقوله في حديث الطبراني: (من أحدث في مدينتي هذه
حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا) (1)، فأضافها إليه لسكناه بها، وله ولخلفائه دانت الامم.
- (المرحومة): نقل عن التوراة، سميت به لانها دار المبعوث رحمة للعالمين وبها تنزل الرحمات.
- (المرزوقة): لان الله تعالى رزقها أفضل الخلق فسكنها أو المرزوق أهلها، ففي الحديث: (لا يخرج أحد منها إلا أبدلها الله خيرا منه).
- (مسجد الاقصى): نقله ابن الملقن في الاشارات عن صاحب المطالع.
- (المسكينة): نقل عن التوراة، وذكر في حديث: (للمدينة عشرة أسماء)، وروى الزبير بن بكار عن كعب الاحبار قال: (نجد في كتاب الله تعالى الذي أنزل على موسى أن الله قال للمدينة: (يا طيبة يا طابة يا مسكينة لا تقبلي الكنوز أرفع أجاجيرك على أجاجير القرى)، والاجاجير السطوح، والمسكنة الخضوع، والخشوع خلقه الله فيها، أو هي مسكن الخاشعين والخاضعين.
- (المسلمة): كالمؤمنة لخلق الله تعالى فيها الانقياد والانقطاع له أو لانقياد أهلها وفتح بلدهم بالقرآن.
- (مضجع رسول الله): صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: (المدينة مهاجري ومضجعي في الارض).
- (المطيبة): بضم أوله وفتح ثانيه تقدم في طيبة.
- (المقدسة): لتنزهها عن الشرك وكونها تنفي الذنوب.
- (المقر): بالقاف كالممر من القرار، نقله السيد من بعض كتب اللغة، وفي دعائه صلى الله عليه وسلم لها قوله: (اللهم اجعل لنا بها قرارا ورزقا حسنا).
- (المكتان): قال سعد بن أبي السرح في حصار عثمان رضي الله عنه: (وأنصارنا بالمكتين قليل).
وقال نصر بن حجاج بعد نفيه من المدينة:
فأصبحت منفيا على غير ريبة * وقد كان لي بالمكتين مقام
__________
(1) ذكره الهيثمي في المجمع 3 / 310 عن أبي أمامة بن ثعلبة وقال: له في الصحيح حديث في اليمين غير هذا رواه الطبراني في الاوسط.
(*)(3/293)
قال السيد: (والظاهر أن المراد المدينة لان قصة عثمان ونصر بن حجاج كانتا بها وأطلق ذلك عليها لانتقال أهل مكة أو غالبهم إليها وانضمامهم إلى أهلها).
أو أنه من قبيل التغليب والمراد مكة والمدينة.
- (المكينة): لتمكنها في المكانة والمنزلة عند الله تعالى.
- (مهاجر رسول الله): صلى الله عليه وسلم لقوله (المدينة مهاجري).
- (الموفية): بتشديد الفاء وتخفيفها لتوفيتها الوافدين حسا ومعنى وأهلها الموفون بما عاهدوا الله عليه.
- (الناجية): بالجيم لنجاتها من العتاة والطاعون والدجال أو لاسراعها في الخيرات فحازت أشرف المخلوقات ولارتفاع شأنها.
- (نبلاء): نقل من كراع، قال السيد: وأظنه بفتح النون وسكون الموحدة مأخوذ من النبل بالضم والسكون وهو الفضل والنجابة.
- (النحر): بفتح النون وسكون الحاء المهملة، سميت به إما لشدة حرها كما يقال نحر الظهيرة وإما لاطلاق النحر على الاصل وهما أساس بلاد الاسلام.
- (الهذراء): ذكره ابن النجار بدل العذراء نقلا عن التوراة، روي بالذال المعجمة وذلك لشدة حرها، يقال: يوم هاذر شديد الحر، أو لكثرة مياهها وأصوات سوانيها، ويقال هذر في كلامه إذا أكثر، ويحتمل أن يكون بالمهملة من هدر الحمام إذا صوت، والماء ا نصب وانهمر والعشب طال، وأرض هادرة: كثيرة النبات.
- (يثرب): لغة في أثرب وقد تقدم الكلام عليه فيه، وستأتي أحاديث النهي عن
تسميتها بذلك.
- (يندد): بدالين مهملتين ذكره كراع وهو إما من الند وهو الطيب المعروف أو الند التل المرتفع أو من الناد وهو الرزق.
- (يندر): كحيدر براء بدل الدال الثانية مما قبله، كذا في حديث: (للمدينة عشرة أسماء) في بعض الكتب، وفي بعضها الاخر بمثناة فوقية ودالين تندد، وفي بعضها كذلك بفوقية ودال وراء تندر، وصوب المجد اللغوي (يندد) فقط بالتحتية ودالين، وفيه نظر.
والحديث رواه ابن زبالة إلا أنه سردها تسعة، ورواه ابن شبة وسردها ثمانية فحذف منه الدار، ثم روي من طريقه أيضا عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب تسميتها بالدار والايمان ثم قال: ((وجاء في الحديث الأول ثمانية أسماء وجاء في هذا الحديث اسمان) فالله أعلم أهما تمام(3/294)
العشرة أم لا).
ورواه ابن زبالة كذلك إلا أنه سرد تسعة فزاد اسم (الدار) وأسقط العاشر، ونقل ابن زبالة أن عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال: بلغني أن للمدينة في التوراة أربعين اسما، انتهى ما ذكره السيد رحمه الله مع زيادات فيه.
وروى الزبير بن بكار عن القاسم بن محمد قال: بلغني أن للمدينة أربعين اسما.
وروى أيضا عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للمدينة عشرة أسماء هي: المدينة وطيبة وطابة ومسكينة وجابرة ومجبورة ويندد ويثرب والدار).
وروي أيضا عن إبراهيم بن الحسن قال، (للمدينة في التوراة أحد عشر اسما: المدينة وطيبة وطابة والمسكينة والجابرة والمجبورة والمرحومة والعذراء والمحبوبة والقاصمة.(3/295)
الباب الثالث في النهي عن تسميتها يثرب
روى الامام أحمد ومالك والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبيث الحديد) (1).
وروى الامام أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه بسند جيد عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمى المدينة بيثرب فليستغفر الله: هي طابة من طابة هي طابة) (2).
وروى ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدعوها يثرب فإنها طيبة) (3)، يعني المدينة، (ومن قال يثرب فليستغفر الله ثلاث مرات، هي طيبة هي طيبة هي طيبة).
وقال الامام عيسى بن دينار (4) أحد أئمة المالكية: (من سمى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة، وبذلك جزم الامام العلامة الشيخ كمال الدميري (5) في منظومته في كتاب الحج حيث قال: ومن دعاها يثربا يستغفر * فقوله خطيئة لتنظر وسبب الكراهة إما لكون ذلك مأخوذا من الثرب بالتحريك وهو الفساد، أو من التثريب وهو المؤاخذة بالذنب.
وكان صلى الله عليه وسلم يحب الاسم الحسن، ولهذا أسماها طابة وطيبة كما تقدم.
وأما تسميتها في القرآن يثرب فذلك حكاية عن قول المنافقين، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فذهب وهلي إلى اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب)، وقوله في حديث آخر: (لا أراها إلا يثرب)، فذلك قبل النهي عن تسميتها بذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري 3 / 50 (1871) ومسلم في كتاب الحج (488) وأحمد في المسند 2 / 237.
(2) أخرجه أحمد في المسند 4 / 285 وذكره الهيثمي في المجمع 3 / 303 وعزاه لاحمد وأبي يعلى وقال: ورجاله ثقات وذكره السيوطي في الدر 5 / 188 وعزاه لاحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3) ذكره السيوطي في الدر 5 / 188 وعزاه لابن مردويه.
(4) عيسى بن دينار بن واقد الغافقي، أبو عبد الله: فقيه الاندلس في عصره، وأحد علمائها المشهورين.
أصله من طليطلة.
سكن قرطبة، وقام برحلد في طلب الحديث.
وعاد، فكانت الفتيا تدور عليه بالاندلس لا يتقدمه أحد.
وكان ورعا عابدا.
توفي 212 ه الاعلام 5 / 102.
(5) 3 / 94 محمد بن موسى بن عيسى بن علي الدميري، أبو البقاء، كمال الدين: باحث، أديب، من فقهاء الشافعية.
من
أهل دميرة (بمصر) ولد ونشأ وتوفي سنة 808 ه بالقاهرة.
وكانت له في الازهر حلقة خاصة، وأقام مدة بمكة والمدينة.
من كتبه (حياة الحيوان، و (حاوي الحسان من حياة ا لحيوان) و (الديباجة) في شرح كتاب ابن ماجة، في الحديث، و (النجم الوهاج) الاعلام 7 / 118.
(*)(3/296)
الباب الرابع في محبته صلى الله عليه وسلم لها ودعائه لها ولاهلها ورفع الوباء عنها بدعائه صلى الله عليه وسلم
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدر المدينة، وفي لفظ: دوحاتها، وفي لفظ: درجاتها رح رداءه عن منكبيه وقال: (هذه أرواح طيبة)، وأوضع راحلته، وإن كان على دابة حركها من حبه، وفي لفظ: (تباشرا بالمدينة) وقال: (اللهم اجعل لنا بها قرارا ورزقا حسنا) (1).
رواه الشيخان والمحاملي ومحمد بن الحسن المخزومي.
وروى الامام أحمد والشيخان وابن إسحاق واللفظ له عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، وكان واديها يجري نجلا - يعني ماء آجنا - فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه).
قالت: (فكان أبو بكر وعارم بن فهيرة وبلال موليا أبي بكر في بيت واحد، فأصابتهم الحمى، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم، فأذن، فدخلت إليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك، فدنوت من أبي بكر فقلت: يا أبت كيف تجدك ؟ فقال: كل امرئ مصبح في أهله * والموت أدنى من شراك نعله (2) قالت: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر ؟ فقال: لقد وجدت الموت قبل ذوقه * إن الجبان حتفه من فوقه كل امرئ مجاهد بطوقه * كالثور يحمي جلده بروقه (3)
قالت: فقلت: والله ما يدري عامر ما يقول.
قالت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء ا لبيت ثم يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة * بواد وحولي اذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة * وهل يبدون لي شامة وطفيل (4) قالت: فذكرت ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سمعته منهم.
قلت.
إنهم ليهذون وما
__________
(1) ذكره المتقي الهندي في الكنز (38157).
(2) انظر البداية والنهاية 3 / 221.
(3) انظر البداية والنهاية 3 / 222.
(4) انظر البداية والنهاية 3 / 221.
(*)(3/297)
يعقلون من شدة الحمى، فنظر إلى السماء وقال: (اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة) - وفي لفظ للجندي ورزين (وأشد)، بالواو بدلا من (أو) - (وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، ثم انقل وباءها إلى مهيعة (1) - وهي الجحفة)، وإنه ليتقي شرب الماء من عينها التي يقال لها عين خم.
وروى البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه ومحمد بن الحسن المخزومي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة، فأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة.
وروى الزبير بن بكار عن عروة بن الزبير مرسلا قال: (أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فجاء إنسان قدم من ناحية طريق مكة، فقال له: (هل لقيت أحدا) ؟ قال: لا يا رسول الله إلا امرأة سوداء عريانة ثائرة الشعر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تلك الحمى ولن تعود بعد اليوم أبدا).
وروي أيضا عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أصحابه، وقدم رجل فتزوج امرأة كانت مهاجرة، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: يا أيها الناس (إنما
الاعمال بالنيات) - ثلاثا - (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يطلبها أو امرأة يخطبها فإنما هجرته إلى ما هاجر إليه) (2)، ثم رفع يديه وقال: (اللهم انقل عنا الوباء) - ثلاثا - فلما أصبح قال: أتيت الليلة بالحمى فإذا عجوز سوداء ملببة في يدي الذي جاء بها فقال: هذه الحمى فما ترى فيها ؟ فقلت: (اجعلوها بخم).
وروى البيهقي عن هشام بن عروة قال: كان وباء المدينة معروفا في الجاهلية، وكان إذا كان الوادي وبيئا فأشرف عليه إنسان فقيل له: انهق نهيق الحمار، فإذا فعل ذلك لم يضره، قال الشاعر: لعمري لئن عشرت من خشية الردى * نهيق الحمار إنني لجزوع قال هشام: وكان المولود إذا ولد بالجحفة لم يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى.
وقال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم حمى المدينة حتى جهدوا مرضا، وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم حتى ما كانوا يصلون إلا وهم قعود، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصلون كذلك فقال لهم: (اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم) (3)، فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم التماسا للفضل.
__________
(1) أخرجه البخاري 7 / 308 (3926).
(2) أخرجه البخاري 1 / 9 (1) ومسلم 3 / 1515 (155 - 1907).
(3) أخرجه البخاري بنحوه 2 / 680 (1115) وانظر البداية والنهاية 3 / 224.
(*)(3/298)
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة) (1)، رواه الشيخان.
وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة)، - حديث متفق عليه - وعن عبد الله بن الفضل بن العباس رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أدعوك لاهل المدينة بمثل مكة)، قال عبد الله: إنا لنتعرف ذلك، إنا
يجزئ المد عندنا والصاع بمثلي ما يجزئ بمكة، رواه البخاري في تاريخه.
وروى الزبير بن بكار عن إسماعيل بن النعمان قال: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لغنم كانت ترعى بالمدينة فقال: (اللهم اجعل نصف أكراشها مثل ميلها بغيرها من البلاد).
وعن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك دعا لاهل مكة بالبركة وأنا محمد عبدك ورسولك وأنا أدعو لاهل المدينة أن تبارك لهم في صاعهم ومدهم مثلما باركت لاهل مكة واجعل مع البركة بركتين) (2)، رواه الترمذي وصححه والطبراني برجال الصحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاؤوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله - زاد الطبراني: وضعه على عينيه - قال: (اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه).
قال ثم يدعو أصغر وليد فيعطيه ذلك الثمر (3).
رواه مسلم والترمذي والطبراني.
تنبيهات الأول: اقتضى هذا الحديث تكرير الدعاء بتكرير ظهور الثمرة والاتيان بأولها.
الثاني: تكرير دعائه صلى الله عليه وسلم بتحبيبه المدينة، والظاهر أن الاجابة حصلت بالأول والتكرير لطلب المزيد.
الثالث: الوباء عموم الامراض، وهو أعم من الطاعون، ولا يعارض قدومهم المدينة - وهي وبيئة - نهيه صلى الله عليه وسلم عن القدوم على الطاعون، لان ذلك كان قبل النهي، أو أن النهي يختص بالطاعون ونحوه من الموت الذريع، لا المرض ولو عم.
الرابع: هذه البركة المذكورة في الحديث في أمر الدين والدنيا، لانها النماء والزيادة،
__________
(1) أخرجه البخاري 3 / 29 (دار الفكر) ومسلم (994).
(2) ذكره الهيثمي في المجمع 3 / 308 وعزاه للطبراني في الاوسط وقال: ورجاله رجال الصحيح.
(3) أخرجه مسلم 2 / 1000 (473 - 1373) وأخرجه الترمذي 5 / 472 (3454).
(*)(3/299)
فالبركة حاصلة لها في نفس الكيل، بحيث يكفي المد بها من لا يكفيه بغيرها، وهذا أمر محسوس لمن سكنها.
الخامس: تحويل الوباء عن المدينة من أعظم المعجزات إذ لا يقدر عليه جميع الاطباء، قال النووي: وهذا علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، فإن الجحفة من يومئذ وبيئة ولا يشرب أحد من مائها إلا حم، وقال الخطابي: كان أهل الجحفة إذ ذاك يهودا.
السادس: في بيان غريب ما سبق: (الجدر): جمع جدار ككتاب وكتب، والجدار الحائط.
(الدوحات) (1): بالدال والحاء المهملتين: جمع دوحة مثل تمرة وتمرات، والدوحة الشجرة العظيمة.
(الدرجات): جمع درجة وهي هنا الطرق.
(الارواح): جمع ريح بمعنى رائحة وهي عرض يدرك بحاسة الشم.
(أوضح راحلته) (2): أوضع بالضاد المعجمة والعين المهملة، أي حثها على السرعة.
(القرار): بالقاف: المستقر من الارض.
(بطحان): بضم الموحدة فسكون الطاء المهملة وقيل بفتح أوله وكسر ثانيه: واد من أودية المدينة.
روى ابن شبة والبزار عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا أن بطحان على ترعة من ترع الجنة.
(نجلا) (3): بفتح النون وسكون الجيم أي أن واديها كان نزا.
قال: النجل: الماء حين يسيل، وفسره البخاري ماء آجنا.
قال القاضي: (وهو خطأ)، وقال الحافظ: (وليس كما قال فإن عائشة قالت ذلك في مقام التعليل لكون المدينة كانت وبيئة، ولا شك أن النجل إذا فسر بكونه الماء الحاصل من النز، فهو بصدد أن يتغير، وإذا تغير كان استعماله مما يحدث الوباء
في العادة).
(وعك): الوعك بفتح الواو وسكون العين المهملة الحمى.
__________
(1) الدوح: البيت ا لضخم الكبير من الشجر، والدوحة: الشجرة العظيمة المتشعبة ذات الفروع الممتدة من شجرها الوسيط 1 / 302.
(2) أوضع بين القوم: أمسد، وأوضع في الشرأ سرع فيه، وأوضع الراكب الدابة: حملها على السير السريع.
الوسيط 2 / 1039.
(3) النجل: الماء السائل، والنجل: الماء استنقع والولد والنز والجمع الكثير من الناس والمحجة الواضحة، ويقال: استنجل الموضع: أي كثر به النجل وهو الماء يظهر من الارض.
انظر اللسان 6 / 4356.
(*)(3/300)
(كيف تجدك): أي تجد نفسك أو جسدك (مصبح): بميم مضمومة وصاد مهملة فموحدة، وزن محمد، أي مصاب بالموت صباحا، وقيل: المراد يقال صبحك الله بالخير، وقد يفجأه الموت في بقية النهار وهو مقيم بأهله، ويروى بالخاء المعجمة وهو أيضا مكان بمكة.
(شراك النعل): بكسر الشين المعجمة وتخفيف الراء: السير الذي يكون في وجه النعل، والمعنى أن الموت أقرب إلى الشخص من شراك نعله برجله.
(بطوقه) (1): الطوق هنا الطاقة والعدة.
(الروق) بالراء والقاف: القرن.
(عقيرته): أي صوته، قال الاصمعي: إن رجلا عقرت رجله فرفعها على الاخرى وجعل يصيح فصار كل من رفع صوته يقال رفع عقيرته وإن لم يرفع رجله، قال ثعلب: وهذا من الاسماء التي استعملت على غير أصلها.
(بواد): أي بوادي مكة.
(الاذخر) (2): بكسر الهمزة والخاء المعجمة بينهما ذال معجمة: نبت طيب الرائحة.
(جليل): بالجيم واللام: والثمام بضم الثاء المثلثة: نبت ضعيف له خوص أو ما يشبهه.
(مجنة): بكسر الميم وفتحها: سوق بأسفل مكة.
(يبدون): أئ يظهرن.
(شامة): بالشين المعجمة (وطفيل) بطاء مهملة مفتوحة وفاء مكسورة فمثناة تحتية: جبلان.
قال البكري: جبلان مشرفان على مجنة على بريد من مكة.
(يهذون): بالذال المعجمة: يخلطون ويتكلمون بما لا ينبغي.
(مهيعة) (3): بفتح الميم وسكون الهاء وفتح المثناة التحتية والعين المهملة.
(الجحفة): بجيم مضمومة فحاء مهملة ساكنة ففاء مفتوحة: قرية جامعة لان السيول اجتحفتها.
__________
(1) يقال: هو في طوقي أي في وسعي قال الليث: الطوق مصدر من الطاقة وأنشد كل امرئ مجاهد بطوقه والثور يحمي أنفه بروقه اللسان 4 / 2725.
(2) انظر اللسان 2 / 1490.
(3) انظر الوسيط 2 / 1003.
(*)(3/301)
(ثائرة الرأس): بالمثلثة: منتشرة شعر الرأس.
(ملببة) (1): بضم الميم وفتح اللام والموحدة الاولى المشددة وتخفيف الثانية، يقال: لببته بالتشديد إذا جمعت ثيابه عند نحره ثم جررته.
(خم): بخاء معجمة مضمومة فميم مشددة: غدير على ثلاثة أميال من الجحفة يسرة عن الطريق.
(جهدوا): بالضم مبني للمفعول: أي حصل لهم الجهد وهو بالفتح المشقة فتجسم
المسلمون القيام أي تكلفوه.
(التماس الفضل): أي طلبه.
(الاكراش) (2): جمع كرش بكسر الكاف يذكر ويؤنث وهو لذي الخف والظلف كالمعدة للانسان.
__________
(1) انظر اللسان 5 / 3982.
(2) انظر المصباح المنير 530، 531.
(*)(3/302)
الباب الخامس في عصمتها من الدجال والطاعون ببركته صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على أنقاب المدينة ملائكة يحرسونها، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال) (1) رواه الشيخان.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس من نقب من أنقابها إلا عليه ملائكة صافين يحرسونها فينزل السبخة، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فيخرج إليه كل كافر ومنافق) (2)، حديث متفق عليه.
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان) (3)، رواه البخاري.
وعن تميم الداري رضي الله عنه في حديثه الطويل في رؤية الدجال في اليقظة أن الدجال قال: يوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الارض، فلا أدع قرية إلا هبطتها.
في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، هما محرمتان علي، كلما أردت أن أدخل واحدة منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا، يصدني عنها، وأن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعن بمخصرته في المنبر: (هذه طيبة، هذه طيبة) (4)، رواه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة) يأتيها الدجال فيجد الملائكة يحرسونها
فلا يقربها الدجال ولا الطاعون إن شاء الله تعالى)، قوله: إن شاء الله تعالى للتبرك وللجزم به في بقية الاحاديث.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل أنقاب المدينة، فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته هل تشكون في الامر ؟ فيقولون: لا، فيقتله ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه) (5)، رواه البخاري.
تنبيهات الأول: صح في أحاديث كثيرة أن الطاعون شهادة.
قيل: وإذا كان كذلك فكيف قرن
__________
(1) أخرجه البخاري 3 / 53 (1880 - 7133) ومسلم في كتاب الحج (485).
(2) أخرجه البخاري 3 / 28 في كتاب الفتن (123).
(3) أخرجه البخاري 3 / 53 (1879).
(4) تقدم.
(5) أخرجه البخاري 13 / 109 (7132).
(*)(3/303)
بالدجال، وكيف مدحت المدينة الشريفة بأنه لا يدخلها ؟ والجواب أنه كونه شهادة ورحمة ليس المراد بوصف ذلك ذاته، وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه وينشأ عنه، وأنه سببه، فإذا تقرر ذلك واستحضر ما ورد في الاحاديث من أن طعن الجن (2) ظهر به مدح المدينة بأنه لا يدخلها إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة الشريفة، ومن اتفق دخوله إليها منهم لا يتمكن من آحاد أهلها بالطعن حماية من الله تعالى لهم منهم.
فإن قيل: طعن الجن لا يختص بوقوعه من كفارهم في مؤمني الانس، بل يقع من مؤمني الجن في كفار الانس، فإذا سلم منع الجن الكفار من المدينة لم يمنع من آمن منهم من دخولها فالجواب: إن
دخول كفار الانس المدينة غير مباح، فإنه إذا لم يسكن المدينة إلا من أظهر الاسلام، جرت عليه أحكام المسلمين، وصار من لم يكن خالص الاسلام تبعا للخالص، فحصل الامن من دخول الجنة إليهم، فلذلك لا يدخلها الطاعون أصلا.
قال الحافظ في بدل الطاعون في أخبار المدينة: وهذا الجواب أحسن من جواب القرطبي في المفهم حيث قال: (المعنى لا يدخلها من الطاعون مثل الذي في غيرها كطاعون عمواس (1) والجارف).
وهو جواب صالح على تقدير التنزل أن لو وقع شئ من ذلك بها.
وقال غيره: سبب الرحمة لم ينحصر في الطاعون وقد قال صلى الله عليه وسلم: (غير أن عافيتك أوسع لي)، فإن ذلك من خصائص المدينة الشريفة، ولوازم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها بالصحة.
وأجاب المنبجي بأجوبة منها أنها صغيرة، فلو وقع بها الطاعون أفنى أهلها، ومنها أنه عوضهم عن الطاعون بالحمى لان الطاعون يأتي بعد مدة والحمى تتكرر في كل مدة فتعادلا.
قال الحافظ: (ويظهر لي جواب أخص من هذه الاجوبة بعد استحضار حديث أبي عسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام)، الحديث، وهو أن لاحكمة في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددا ومددا من زاد وغيره، وكانت المدينة وبيئة كما سبق، فناسب الحال الدعاء بتصحيح المدينة لتصح أجساد المقيمين لها ليقووا على جهاد الكفار، وخير النبي صلى الله عليه وسلم في أمرين، يحصل لمن أصاب كلا منهما عظيم الثواب، وهما الحمى والطاعون، فاختار الحمى بالمدينة لان أمرها أخف من أمر الطاعون لسرعة الموت به غالبا.
فلما أذن له في القتال كانت قضية استمرار الحمى ضعف الاجساد التي تحتاج إلى القوة في الجهاد، فدعا حينئذ بنقل الحمى إلى الجحفة فأجيب دعاؤه، وصارت المدينة من أصح بلاد الله، فإذا شاء الله موت أحد منهم، حصل له التي كانت من الطاعون بالقتل في
__________
(1) عمواس رواه الزمخشري بكسر أوله، وكسر ثانيه.
وغيره بفتح أوله وثانيه وسين مهملة آخره: كورة من فلسطين قرب بيت المقدس وكانت عمواس قصبتها قديما، وهي ضيعة جليلة على ستة أميال من بيت المقدس منها كان ابتداء الطاعون المنسوب إليها في زمن عمر، قيل مات فيه خمسة وعشرون ألفا.
من مراصد الاطلاع 2 / 962، 963.
(*)(3/304)
سبيل الله الذي هو إعلى درجة، ومن فاته ذلك منهم مات بالحمى التي هي حظ المؤمن من النار، كل يوم منها يكفر سنة.
واستمر ذلك بالمدينة بعده صلى الله عليه وسلم تحقيقا لإجابة دعائه صلى الله عليه وسلم.
نعم شاركتها في ذلك مكة المشرفة فلم يدخها الطاعون فيما مضى من الزمان كما يرويه ابن قتيبية في المعارف، ونقله جماعة من العلماء عنه وأقروه إلى زمان الإمام النووي رحمه الله.
ذكر ذلك في كتاب الأذكار وغيره، لكن قد قيل أنه دخلها بعد ذلك في الطاعون العام الذي وقع في سنة تسع وسبعين وسبعمائة، صرح بذلك غير واحد من أهل ذلك الزمان.
الثاني: منع الطاعون عن المدينة معجزة عظيمة لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد من البلاد بل عن قرية من القرى وقد امتنع الطاعون، عن المدينة بدعائه صلى الله عليه وسلم هذه المدة الطويلة.
الثالث: ظاهر الأحاديث أن الدجال يدخل جميع البلاد، وبذلك قال الجمهور، وشذ ابن حزم فقال: " المراد أن يدخله بغتة هو وجنوده.
وكأنه استبعد إمكان دخول الدجال جميع البلاد لقصر مدته، وغفل عما ثبت في صحيح مسلم أن بعض أيامه يكون قدر السنة.
الرابع: في بيان غريب ما سبق: " الأنقاب ": بالقاف جمع نقب بفتح النون والقاف بعدها موحدة، والنقاب بالكسر جمع نقب بالسكون وهما بمعنى والمراد الطريق في الجبل وغيره.
" السبخة ": بفتح السين المهملة والباء الموحدة والخاء المعجمة: موضع بالمدينة بين موضع الخندق وبين جبل سلع.
" ترجف المدينة ": أي يحصل بها زلزلة بعد أخرى ثم ثالثة حتى يخرج منها من ليس مخلصا في إيمانه، ويبقى بها الدين الخالص فلا يسلط عليها الدجال، ولا يعارض هذا ما في حديث أبي بكر: " لا يدخل المدينة رعب الدجال " لأن المراد بالرعب ما يحدث من الفزع من
ذكره، والخوف من عتوة، لا الرجفة التي تقع بالزلزلة لإخراج من ليس بمخلص.
" صلتا ": أي مجردا من غمده.
" المخصرة ": بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة، وهي العصا أو نحوها، يأخذها الرجل بيده.
" يوشك ": أي يقرب.(3/305)
الباب السادس في الحث على الاقامة والموت بها والصبر على لاوائها ونفيها الخبث والذنوب واتخاذ الاصول بها والنهي عن هدم بنيانها
عن الصميتة - بصاد مهملة فميم مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فمثناة فوقية مفتوحة فهاء تأنيث - الليثية رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من استطاع منكم ألا يموت إلا بالمدينة فليمت بها، فإن من يمت بها يشفع أو يشهد له) (1).
رواه ابن حبان والبيهقي.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن يموت بها) (2).
رواه الامام أحمد والترمذي وصححه ابن حبان.
وعن سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يفتح اليمن فيخرج قوم من المدينة بأهليهم ومن أطاعهم يبسون، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ويفتح العراق، فيخرج قوم بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون) (3).
رواه الشيخان.
وروى الامام أحمد والبزار برجال الصحيح عن جابر بن عبد الله، ومسلم عن أبي هريرة، والطبراني برجال ثقات عن أبي أيوب وزيد بن ثابت، والطبراني برجال ثقات عن أبي أسيد الساعدي (4) رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سيأتي على الناس زمان يفتح فيه فتحات الارض فيخرج إليها دجال - وفي لفظ: فيخرج الناس إلى الارياف يلتمسون الرخاء،
فيجدون رخاء، وفي لفظ: مطعما وملبسا ومركبا، فيقال لهم: هلم إلينا فإنكم بأرض حجاز جدوبة والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وفي لفظ: فيكتبون إلى أهليهم هلموا إلينا، فإنكم بأرض حجاز جدوبة، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وفي لفظ: فميرون على إخوان لهم حجاجا أو عمارا، فيقولون: ما يقيمكم في لاواء العيش وشدة الجوع ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذاهب وقاعد، حتى قالها مرارا والمدينة يخر لهم، لا يثبت فيها أحد فيثبت للاوائها وشدتها حتى يموت إلا كنت له يوم القيامة شهيدا أو شفيعا، والذي نفسي بيده لا يخرج أحد رغبة
__________
(1) أخرجه الترمذي (3917) وابن حبان (1031) وابن حجر في المطالب (1247).
(2) ذكره العراقي في تخريجه على الإحياء 1 / 244 وعزاه للترمذي وابن ماجه حديث ابن عمر وقال الترمذي: حسن صحيح.
(3) أخرجه البخاري 4 / 107 (1875) ومسلم 2 / 1009 (497 - 1388).
(4) مالك بن ربيعة بن البدن، بفتح الموحدة والمهملة بعدها نون، أبو أسيد الساعدي، مشهور بكنية، شهد بدرا، وغيرها، ومات سنة ثلاثين، وقيل: بعد ذلك، حتى قال المدائني: مات سنة ستين، قال: هو آخر من مات من البدريين.
التقريب 2 / 225.
(*)(3/306)
عنها إلا أخلف الله فيها خيرا منه، ألا إن المدينة كالكبر تخرج الخبيث، لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكبر خبث الحديد " (1).
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت له شفيعا يوم القيامة "، رواه مسلم (2).
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: " اللهم ارزقني قتالا في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك "، رواه البخاري (3).
عن يحيى بن سعيد مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما على الأرض بقعة أحب إلي أن يكون قبري بها منها "، ثلاث مرات، يعني المدينة، رواه الإمام مالك في الموطأ.
وعن أبي
سعيد مولى المهري - بالراء - أنه جاء إلى أبي سعيد الخدري ليالي الحرة فاستشاره في الجلاء عن المدينة وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره ألا صبر له على جهد المدينة ولأوائها.
فقال له: ويحك لا آمرك بذلك، الزم المدينة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يصبر أحد على لأوائها فيموت إلا مت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة إذا كان مسلما " (4).
وفي حديث أخرجه مسلم: " لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح لي الماء " (5).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة " (6).
رواه مسلم.
وعن أبي هريرة بنحوه، رواه الترمذي.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من كان له بالمدينة أصل فليتمسك به، ومن لم يكن له بها أصل فليجعل له بها أصلا، فليأتين على الناس زمان يكون الذي ليس بها أصل كالخارج منها المجتاز إلى غيرها " (7)، وفي رواية: " فليجعل له بها أصلا ولو قصرة "، رواه الطبراني وابن شبة بسند لا بأس به.
وروى ابن شبة عن الزهري مرسلا: " لا تتخذوا الأموال بمكة واتخذوها بدار هجرتكم، فإن المرء مع ماله ".
وعن أبي هريرة رضي الله
__________
(1) أخرجه مسلم 2 / 1005 (487 - 1381).
(2) أخرجه مسلم 2 / 1004 (481 - 1377).
(3) أخرجه البخاري 3 / 57 (1890).
(4) انظر تخريجه بأسانيد مختلفة في صحيح مسلم 2 / 1004 كتاب الحج باب الترغيب في سكن المدينة.
(5) أخرجه مسلم 2 / 992 (460 - 1363).
(6) تقدم انظر مسلم الموضع السابق.
(7) ذكره البيهقي في المجمع 3 / 304 وعزاه للطبراني في الكبير وقال: ورجاله ذكرهم ابن أبي حاتم ولم يذكر فيهم.
(*)(3/307)
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة تنفي الناس
كما ينفي الكير خبث الحديد ".
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن أعرابيا بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصاب الأعرابي وعك فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أقلني بيعتي.
فأبى.
ثم جاءه فقال: أقلني بيعتي.
فأبى.
فخرج الأعرابي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها " (1) رواه الشيخان.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنه طيبة - يعني المدينة - وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكبر خبث الفضة " (2)، رواه مسلم.
والمراد هنا الإقالة من الإسلام وقيل من الهجرة (كأنه كان قد بايع على هجرته الإقامة).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن آطام المدينة أن تهدم.
وروى البزار بسند حسن عن عمر رضي الله عنه قال: غلا السعر بالمدينة فاشتد الجهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اصبروا وأبشروا فإني قد باركت على صاعكم ومدكم، وكلوا ولا تتفرقوا فإن طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الخمسة والستة، وإن البركة في الجماعة، فمن صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة، ومن خرج رغبة عنها أبدل الله به من هو خير منه فيها، ومن أرادها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء " (3).
وروى البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها أي المدينة طيبة تنفي الذنوب كما ينفي الكير خبث الفضة " (4).
تنبيهات الأول: قال القاضي رحمه الله ".
" سئلت قديما عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " كنت شهيدا أو شفيعا " ولم خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته وادخاره إياها لأمته ؟ وأجيب بأن " أو " ليست هنا للشك، خلافا لمن ذهب إليه، إذ قد رواه جابر، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وصفية بنت أبي عبيد، وأسماء بنت عميس رضي الله عنهم بهذا اللفظ، ويبعد اتفاق الكل واتفاق رواياتهم على الشك، ووقوعه بصيغة واحدة، بل الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم قال كذلك هكذا، فكما أن يكون هو أعلم بهذه الجملة هكذا، وإما أن تكون " أو "
للتقسيم، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم شفيعا لبعض أهل المدينة وشهيدا لبعضهم الآخر، إما شهيدا
__________
(1) أخرجه البخاري 9 / 98 ومسلم في كتاب الحج (489) والترمذي (3920) والنسائي 7 / 151.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الحج (490).
(3) ذكره الهيثمي في المجمع 3 / 308 وعزاه للبزار، وقال: ورجاله رجال الصحيح وذكره المتقي الهندي في الكنز (38123).
(4) أخرجه البخاري 6 / 93 (4589).
(*)(3/308)
للطائعين وشفيعا للعاصين، أو شهيدا لمن مات في حياته، شفيعا لمن مات بعده، أو غير ذلك مما الله أعلم به، وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة لكافة المذنبين، وعلى الشهادة لكافة الأمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد: " أنا شهيد على هؤلاء "، فيكون في تخصيصهم زيادة منزلة، وقد تكون " أو " بمعنى الواو، فيكون لأهل المدينة شهيدا وشفيعا بالشفاعة العامة.
وإن جعلنا " أو " للشك كما ذهب إليه بعضهم، فإن كان اللفظة الصحيحة فلا إشكال، إذ هي زائدة على الشفاعة المدخرة، وإن كانت الصحيحة شفيعا فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء في عمومها وادخاره لجميع الأمة أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي لإخراج أمته من النار إخراج بعضهم منها بشفاعته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة زيادة في الدرجات أو تخفيف الحساب بما شاء الله من إكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة.
الثاني: قوله صلى الله " تنفي الناس "، وفي لفظ " الرجال "، قال القاضي: " كان هذا يختص بزمنه لأنه لم يكن يصبر على الهجرة والمقام معه بها إلا من ثبت إيمانه ".
وقال النووي: " ليس هذا بظاهر لأن عند مسلم لا تقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكير خبث الحديد، وهذا والله أعلم زمن الدجال ".
قال الحافظ: " ويحتمل أن يكون المراد كلا من الزمانين، وكان الأمر في حياته صلى الله عليه وسلم السبب المذكور، ويؤيده قصة الأعرابي الذي استقاله فإنه
صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحديث معللا به خروج الأعرابي وسؤاله الإقالة من البيعة، ثم يكون ذلك أيضا آخر الزمان، عندما ينزل الدجال فترجف الأرض بأهلها فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه ".
وقال السيد (2): " وقد أبعد الله عنها أرباب الخبث الكامل وهم الكفار، وأما غيرهم فقد يكون إبعاده إن مات بها بنقل الملائكة له كما أشار إليه الأقشهري أو المراد إبعاد أهل الخبث الكامل فقط وهم أهل الشقاء والكفر لا أهل السعادة والإسلام لأن القسم الأول ليس قابلا للشفاعة ولا للمغفرة، أو المراد، فيما عدا قصة الأعرابي والدجال أنها تخلص النفوس من شرها وظلمات ذوبها، بما فيها من اللأوا والمشقات ومضاعفة المثوبات وتوالي الرحمات، وقد قال تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات) (هود 114)، ويحتمل أن يكون بمعنى أنه لا يخفى حال من انطوى فيها على خبث بل تظهر طويته كما هو مشاهد بها، ولم أر إلى الآن من نص على هذا الاحتمال وهو في حفظي قديما ويؤيده ما في غزوة أحد في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد رجع ناس من أصحابه أي وهم المنافقون فقال صلى الله عليه وسلم: " المدينة كالكير " (الحديث)، والذي ظهر لي من مجموع الأحاديث واستقراء أحوال هذه البلدة الشريفة أنها تنفي خبثها بالمعاني الأربعة ".(3/309)
وقوله صلى الله عليه وسلم: " لو كانوا يعلمون " أي بفضلها من الصلاة في المسجد النبوي أو ثواب الإقامة فيها وغير ذلك.
ويحتمل أن " لو " بمعنى " ليث " ولا يحتاج إلى تقدير، وعلى الوجهين ففيه تجهيل لمن فارقها وآثر غيرها.
قالوا: والمراد به الخارجون من المدينة رغبة عنها كارهين لها.
وأما من خرج لحاجة أو تجارة أو جهاد أو نحو ذلك فليس بداخل في معنى الحديث.
قال الطيب: " الذي يقتضيه هذا المقام أن ينزل أولئك الذين " لا يعلمون " منزلة اللازم لتنتفي عنهم المعرفة بالكلية، ولو ذهبوا مع ذلك التمني لكان أبلغ لأن التمني طلب ما لا يمكن حصوله، أي ليئتهم كانوا من أهل العلم تغليظا وتشديدا ".
قال البيضاوي: " المعنى أنه يفتح اليمن، فيعجب قوما بلادها، وعيش أهلها، فيحملهم ذلك على المهاجرة إليها بأنفسهم
وأهليهم حتى يخرجوا من المدينة، والحال أن الإقامة في المدينة خير لهم لأنها حرم النبي صلى الله عليه وسلم وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات لو كانوا يعلمون ما في الإقامة بها من الفوائد الأخروية التي يستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها ".
وقواه الطيبي لتنكير قومه ووصفهم بكونهم يبسون، ثم توكيده بقوله: لو كانوا يعلمون، لأنه يشعر بأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمة والحطام الفاني، وأعرض عن الإقامة في جوار النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك كرر قوما " ووصفهم في كل مرتبة بقوله يبسون بسبب اتخاذهم لتلك الهيئة القبيحة.
الثالث: في بيان غريب ما سبق: " يبسون " (1): بمثناة تحتية فموحدة مضمومة وتكسر، قال أبو عبيدة: معناه يسوقون دوابهم والبس سوق الإبل بقول بس بس عند السوق وإرادة السرعة.
" الأرياف ": جمع ريف بكسر الراء، موضع الخصب - بكسر الخاء المعجمة - والسعة في المعطم.
" اللأواء ": بالفتح والمد: الشدة وضيق المعيشة.
" تنفي الخبث ": أي بإظهاره وإخراجه.
" الكير: بكسر الكاف وسكون التحتية وهو المعروف بين الناس أن الزق الذي ينفخ فيه، لكن أكثر أهل اللغة على أن المراد بالكير كانون الحداد والصائغ، وقيل: الكير هو الزق والكانون هو الكور.
__________
(1) انظر اللسان 1 / 281.
(*)(3/310)
" خبث الحديد ": بضم الخاء المعجمة والموحدة فمثلثة: وسخه الذي تخرجه النار، والمراد هنا: لا يترك فيها من في قلبه دغل وغش ونفاق يميزه عن القلوب الصادقة ويخرجه منها كما يميز الحداد ردئ الحديد من جيده، وينسب التمييز للكير لكونه السبب الأكيد في
اشتعال النار التي يقع التييز بها.
" تنصع ": بمثناة فوقية فنون ساكنة فصاد فعين مهملمتين: من النصوص وهو الخلوص، والمعنى أنها إذا نفت الخبث تميز الطيب، واستقر بها طيبها.
رواه الأكثر بالنصب على المفعولية أي تنصع طيبها وذكر بعض رواة الصحيح ينصع طيبها على الفاعلية.
" الآطام ": بالمد جمع أطم بضمتين وهي الحصون التي تبنى بالحجارة، وقيل: هو كل بيت مربع مسطح.(3/311)
الباب السابع في وعيد من أحدث بها حدثا أو آوى محدثا أو أرداها وأهلها بسوء أو أخافهم والوصية بهم
روى الطبراني برجال الصحيح عن أبي أمامة، وعن علي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أحدث في مدينتي هذه حدثا أو أوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ".
وعن السائب بن خلاد أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله عز وجل، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا " (1)، رواه الإمام أحمد.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أرادها - يعني المدينة - بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء " (2)، رواه الإمام أحمد والشيخان.
وعن معقل بن يسار (3) رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المدينة مهاجري وفيها مضجعي ومنها مبعثي، حقيق على أمتي حفظ جيراني ما اجتنبوا الكبائر، ومن حفظهم كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة، ومن لم يحفظهم سقي من طينة الخبال "، قيل لمعقل: وما طينة الخبال ؟ قال: عصارة أهل النار (4)، رواه أبو عمرو بن السماك، وابن الجوزي في " مثير الغرام الساكن ".
وروي الجندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما جبار أراد المدينة بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء " (5).
وروى البزار بسند حسن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم اكفهم من دهمهم ببأس - يعني المدينة - ولا يريدها أحد بسوء إلا أذابه الله كما يذوب الملح في الماء " (6).
وروى محمد بن الحسن المخزومي عن سعيد بن المسيب مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم من أرادني وأهل بلدي بسوء فعجل بهلاكه ".
وروى الإمام أحمد برجال الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أخاف أهل المدينة أخافه الله " (7)، رواه ابن حبان.
وعن عبادة بن الصامت
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 4 / 55.
(2) أخرجه أحمد في المسند 1 / 184 - 2 / 331.
والبخاري 4 / 112 (1877) ومسلم 2 / 993 (460 - 1363).
(3) معقل بن يسار المزني أبي علي بايع تحت الشجرة.
له أربعة وثلاثون حديثا، اتفقا على حديث وانفرد (خ) بآخر، و (م) بحديثين.
وعنه عمران بن حصين، مات في خلافة معاوية.
الخلاصة 3 / 45.
(4) ذكره الهيثمي في المجمع 3 / 313 وعزاه للطبراني في الكبير وقال: وفيه عبد السلام بن أبي الحبوب وهو متروك.
(5) أخرجه الحميدي في المسند (1167).
(6) ذكره الهيثمي في المجمع 3 / 310 وعزاه للبزار بإسناد حسن وقال: وفي الصحيح طرف من آخره.
(7) أخرجه أحمد في المسند 3 / 393 والطبراني في الكبير 7 / 169 وابن حبان (1039) والبخاري في التاريخ 1 / 117 وأبو نعيم في الحية 1 / 372.
(*)(3/312)
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله من صرفا ولا عدلا (1)، ورواه الطبراني بإسناد حسن.
وفي المدارك للقاضي قال محمد بن مسلمة: سمعت مالكا يقول: دخلت على المهدي فقال: أوصني، فقلت: أوصيك بتقوى الله وحده والعطف على أهل بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجيرانه، فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " المدينة مهاجري ومنها مبعثي وبها قبري
وأهلها جيراني، وحقيق على أمتي حفظ جيراني، فمن حفظهم في كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة، ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني سقاه الله من طينة الخبال ".
وقال مصعب: " لما قدم المهدي المدينة استقبله مالك وغيره من أشرافها على أميال، فلما بصر بمالك انحرف المهدي إليه فعانقه وسلم عليه وسايره فالتفقت إليه مالك فقال: يا أمير المؤمنين إنك تدخل الآن المدينة، فتمر بقوم عن يمينك ويسارك، وهم أولاد المهاجرين والأنصار، فسلم عليهم، فإن ما على وجه الأرض قوم خير من أهل المدينة، ولا خير من المدينة قال: ومن أين قلت ذلك يا أبا عبد الله ؟ فقال: لأنه لا يعرف قبر نبي اليوم على وجه الأرض غير قبر محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كان قبر محمد صلى الله عليه وسلم عندهم فينبغي أن يعرف فضلهم على غيرهم.
ففعل المهدي ما أمره به، وفيه إشارة إلى التفضيل بمجاورة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما زال جبريل يوصي بالجار حتى ظننت أنه سسورثه "، ولم يخص جارا دون جار.
ومن تأمل هذا الفضل لم يرتب في تفضيل سكنى المدينة على مكة، مع التسليم بمزيد المضاعفة لمكة، (إذ جهة الفضل غير منحصرة في ذلك) فتلك لها مزيد العدد، وهذه تضاعف البركة والمدد ولتلك جوار بيت الله، ولهذه جوار حبيب الله وأكرم الخلق على الله.
تنبيهات الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه ".
قال القاضي: اختلفوا فيه فقيل: هو مختص بمدة حياته صلى الله عليه وسلم، وقال آخرون: هو عام أبدا، وهذا أصح.
وقال المحب الطبري: إنه الأظهر لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: " سيأتي على الناس زمان يفتح فيه فتحات الأرض فيخرج الناس إلى الأرياف يلتمسون الرخاء "...إلى آخر ما تقدم.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث: " ولا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله في النار..." إلى آخر الحديث، قال القاضي عياض: قوله: " في النار " يدفع إشكال الأحاديث التي
__________
(1) ذكره الهيثمي في المجمع 3 / 209 وعزاه للطبراني في الأوسط والكبير وقال: ورجاله رجال الصحيح.
(*)(3/313)
لم تذكر فيها هذه الزيادة، ويبين أن هذا حكمه في الآخرة، وقال: قد يكون المراد به أن من أرادها في حياته صلى الله عليه وسلم، كفي السملمون شره واضمحل كيده كما يضمحل الرصاص في النار، قال: " ويحتمل أن يكون المراد من كادها اغتيالا وطلبا لغرتها فلا يتم له أمر بخلاف من أتى ذلك جهارا ".
قال: " وقد يكون في اللفظ تقديم وتأخير أي أذابه الله كذوب الرصاص في النار ويكون ذلك لم أرادها في الدنيا فلا يمهله الله ولا يمكن له سلطانا، بل يهلكه عن قرب، كما انقضى شأن من حاربها أيام بني أمية مثل مسلم بن عقبة فأهلك في منصرفه عنها، ثم هلك يزيد بن معاوية الذي أرسله على أثر ذلك وغيرهما ممن صنع صنيعهما.
الثالث: في بيان غريب ما سبق: " الحدث " بالتحريك: الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعروف في السنة.
" المحدث ": بكسر الدال اسم فاعل: أي من نصر جانيا وأواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه، وبفتحها الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء الرضا، فإنه إذا رضي به وأقر فاعله من غير إنكار فقد آواه.
والمراد بلعنة الملائكة والناس المبالغة في الإبعاد من رحمة الله تعالى، والمراد باللعن هنا العذاب الذي يستحقه على ذنبه في أول الأمر، وليس هو كلعن الكافر.
" الصرف والعدل ": بفتح أولهما: اختلف في تفسيرهما فيعد الجمهور الصرف الفريضة، والعدل النافلة.
وعن الأصمعي الصرف: التوبة، والعدل: الفدية، وقيل غير ذلك.
" انماع " (1): ذاب وسال.
__________
(1) انظر اللسان 6 / 4309.
(*)(3/314)
الباب الثامن في تفضيلها على البلاد لحلوله صلى الله عليه وسلم فيها
نقل أبو الوليد الباجي والقاضي عياض وغيرهما الإجماع على تفضيل ما ضم الأعضاء الشريفة حتى على الكعبة كما قاله أبو اليمن بن عساكر في تحفته، وجزم بذلك أبو محمد عبد الله بن أبي عمر البسكري (1) - بموحدة مسكورة وقيل بفتحها وسين مهملة ساكنة فكاف مفتوحة وكسرها فراء، - رحمه الله.
جزم الجميع بأن خير الأرض ما * قد حاط ذات المصطفى وحواها ونعم لقد صدقوا بساكنها علت * كالنفس حين زكت زكا مأواها بل نقل القاضي تاج الدين السبكي (2) عن ابن عقيل (3) الحنبلي أنها أفضل من العرش، وجزم بذلك أبو عبد الله محمد بن رزين البحيري الشافعي أحد السادة العلماء الأولياء فقال في قصيدته في الوفاة النبوية: ولا شك أن القبر أشرف موضع * من الأرض والسبع السموات طرة وأشرف من عرض المليك وليس في * مقالي خلاف عند أهل الحقيقة وصرح التاج الفاكهي بتفضيلها على السموات، قال: بل الظاهر المتعين تفضيل جميع الأرض على السماء لحلوله صلى الله عليه وسلم بها، وحكاه الشيخ تاج الدين إمام الفاضلية عن الأكثرين
__________
(1) البسكري: بكسر الباء المنقوطة بواحدة وسكون السين المهملة وفي آخرها الراء، هذه النسبة إلى بسكرة، وهي بلدة من بلاد المغرب، وقدم علينا فقيه فاضل سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة من هذه البلدة مرو عندنا وتوفي في هذه السنة وكان يذكر نسبته البسكري.
الأنساب 1 / 354.
(2) عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام، العلامة قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي الحسن، الأنصاري، الخزرجي، السبكي، مولده بالقاهرة سنة سبع - بتقديم السين، وعشرين وسبعمائة، وقيل: سنة ثمان، وقرأ على الحافظ المزي، ولازم الذهبي وتخرج به، وطلب بنفسه، ودأب، قال الحافظ شهاب الدين بن حجي: أخبرني أن الشيخ شمس الدين بن النقيب أجازه بالإفتاء والتدريس، ولما مات ابن النقيب كان عمر القاضي تاج الدين ثماني عشرة سنة، وأفتى، ودرس وحدث وصنف، وأشغل وناب، عن أبيه بعد وفاة أخيه القاضي الحسين، ثم استقل بالقضاء بسؤال والده في شهر ربيع الأول سنة ست
وخمسين، ثم عزل مدة لطيفة، ثم أعيد، ثم عزل بأخيه بهاء الدين، ومن تصانيفه " شرح مختصر ابن الحاجب " " رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب ".
توفي شهيدا بالطاعون في ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، انظر الطبقات لابن قاضي شهبة 3 / 105، 106، والبداية والنهاية 14 / 316، والدرر الكامنة 2 / 425 والنجوم الزاهرة 11 / 108، والبدر الطالع 1 / 410 وشذرات الذهب 6 / 221، والأعلام 4 / 335.
(3) علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الظفري، أبو الوفاء، ويعرف بابن عقيل: عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد في وقته، كان قوي الحجة، اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته.
وكان يعظم الحلاج، فأراد الحنابلة قتله، فاستجار بباب المراتب عدة سنين، ثم أظهر التوبة حتى تمكن من الظهور، له تصانيف أعظمها " كتاب الفنون " قال الذهبي في تاريخه: كتاب الفنون لم يصنف في الدنيا أكبر منه.
وله " الواضح في الأصول " و " الفرق " و " الفصول " في فقه الحنابلة.
عشرة مجلدات، الأعلام 4 / 313.
(*)(3/315)
لخلق الأنبياء منها ودفنهم بها.
وقال النووي: " المختار الذي عليه الجمهور أن السموات أفضل من الأرض، أي ما عدا ما ضم الأعضاء الشريفة.
وأجمعوا بعد على تفضيل مكة والمدينة على سائر البلاد، واختلفوا فيهما، فذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعض الصحابة وأكثر المدنيين، كما قال القاضي إلى تفضيل المدينة، وهو مذهب الإمام مالك، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، والخلاف في غير الكعبة الشريفة فهي أفضل من بقية المدينة اتفاقا.
وإيراد حجج الفريقين مما بطول به الكتاب.
ويدل لما ذكر من أن النفس تخلق من تربة الدفن ما رواه الحاكم وصححه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبر، فقال: " قبر من هذا " ؟ فقالوا: قبر فلان الحبشي يا رسول الله.
فقال: " لا إله إلا الله سيق من أرضه وسمائه إلى التربة التي منها خلق ".
وتقدم في أول باب من هذا الكتاب أثر كعب: " أن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من القبضة التي أخذت من قبره الشريف ".
وروى (يزيد الجريري قال: سمعت ابن سيرين يقول: " لو حلفت
لحلفت صادقا بارا غير شاك ولا مستثن أن الله تعالى ما خلق نبيه صلى الله عليه وسلم ولا أبا بكر ولا عمر إلا من طينة واحدة، ثم ردهم إلى تلك الطينة ".
وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه، والطبراني والحاكم عن مطر بن عكامس - بضم العين المهملة وتخفيف الكاف وكسر الميم فسين مهملة - والترمذي وصححه عن أبي عزة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة " (1).
قال الحكيم الترمذي: " إنما صار أجله هناك لأنه خلق من تلك البقعة وقد قال الله تعالى: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) (طه 55) قال: فإنما يعاد المرء من حيث بدئ منه ".
وروى ابن الجوزي في الوفا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم وسلم اختلفوا في دفنه " فقال علي رضي الله عنه: " إنه ليس في الأرض بقعة أكرم على الله من بقعة قبض فيها نفس نبيه صلى الله عليه وسلم ".
وروى أبو يعلي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يقبض النبي إلا في أحب الأمكنة إليه " (2).
قال السيد: " وأحبها إليه أحبها إلى ربه لأن حبه تابع لحب ربه.
وما كان أحب إلى الله ورسوله كيف لا يكون أفضل ؟ قال: ولهذا سلكت هذا المسلك في تفضيل المدينة فقد صح
__________
(1) أخرجه الترمذي (2146) وذكره العجلوني في كشف الخفا 1 / 97 وزاد نسبته لعبد الله بن الإمام أحمد.
(2) انظر البداية والنهاية 5 / 266.
(*)(3/316)
قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، أي " بل أشد " أو " وأشد "، كما روى به.
وأجيبت دعوته حتى كان يحرك دابته إذا رآها من حبها ".
تنبيه: قال سلطان العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام: " معنى التفضيل بين مكة والمدينة أن ثواب العمل في إحداهما أكثر من ثواب العمل في الأخرى، فيشكل قول القاضي: " أجمعت الأمة على أن موضع القبر الشريف أفضل "، إذ لا يمكن لأحد أن يعبد الله فيه.
وأجاب
غيره بأن التفضيل في ذلك للمجاورة ولذا حرم على المحدث مس جلد المصحف لا لكثرة الثواب وإلا فلا يكون جلد المصحف بل ولا المصحف أفضل من غيره لتعذر العمل فيه.
وقال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي: قد يكون التفضيل بكثرة الثواب وقد يكون لأمر آخر، وان لم يكن عملا، فان القبر الشريف ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة وله عند الله من المحبة ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه وليس ذلك لمكان غيره فكيف لا يكون أفضل الاماكن ؟ وليس محل عمل لنا فهذا معنى غير تضعيف الأعمال فيه، وأيضا فباعتبار ما قيل: إن كل أحد يدفن في الموضع الذي خلق منه، (وأيضا فقد تكون الأعمال مضاعفة فيها باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم حي وأن أعماله مضاعفة) أكثر من كل أحد فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن.
قال السيد: " (وهذا من النفاسة بمكان على أني أقول) الرحمات والبركات النازلة بذلك المحل يعم فيضها الأمة وهي غير متناهية لدوام ترقياته صلى الله عليه وسلم (وما تناله الأمة بسبب نبيها هو الغاية في الفضل ولذا كانت خير أمة بسبب كون نبيها خير الأنبياء، فكيف لا يكون القبر الشريف أفضل البقاع مع كونه) منبع فيض الخيرات، (ألا ترى أن الكعبة على رأي من) منع الصلاة فيها ليست محل عملنا أفيقول عاقل بتفضيل المسجد حولها عليها، لأنه محل العمل مع أن الكعبة هي السبب في إنالة تلك الخيرات ؟...وسيأتي أن المجئ المذكور في قوله تعالى (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك) (النساء 64) الآية، حاصل بالمجئ إلى قبره الشريف، وعنده تجاب الدعوات أيضا، فكيف لا تكون أفضل وهو السبب في هذه الخيرات ؟ وأيضا فهو روضة من رياض الجنة بل أفضل رياضها، وفي الحديث: " لقاب قوس أحدكم (في الجنة) خير من الدنيا وما فيها ".(3/317)
الباب التاسع في تحريمها
عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها ولا يقتل صيدها " (1)، رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إني حرمت ما بين لابتي المدينة، وفي رواية: ما بين مأزميها، ألا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف " (2) وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المدينة: " لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمن أشادها ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال ولا يصلح أن يقطع منها شجر إلا أن يعلف رجل بعيره " (3) رواه الإمام أحمد وأبو داود.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المدينة حرام ما بين عير إلى ثور " (4)، رواه الخمسة.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال: " هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها " (5) يعني المدينة، رواه الشيخان.
تنبيهات الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: " إني حرمت المدينة "، حجة في أنها حرم، وبه قال الجمهور، ونقله عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرة من الصحابة خلافا لمن قال بخلاف ذلك.
وذكر دليل وروده مما يطول به الباب.
الثاني: في بيان غريب ما سبق: " لابتي المدينة " (6) تثنية لابة وهي الحرة: أرض ذات حجارة سود، وللمدينة لابتان شرقية وغريبة وهي بينهما، ويقال: لابة ولوبة ونوبة بالنون ثلاث لغات، وجمع اللابة في القلة لابات وفي الكثرة لاب ولوب.
__________
(1) أخرجه مسلم 2 / 1001 (475 - 1374) وقد تقدم.
(2) انظر مسلم الموضع السابق.
(3) أخرجه أبو داود (2035) وأحمد في المسند 1 / 253 وعبد الرزاق في المصنف (9193).
(4) أخرجه البخاري 4 / 97 (1870) والترمذي (2127) وأبو داود (2034) والبيهقي في السنن 5 / 196.
(5) أخرجه البخاري 5 / 229، (4083) ومسلم 2 / 1011 (504، 1393).
(6) اللابة واللوبة: الحرة، والجمع لاب ولوب، ولابات، وهو الحرار، فأما سيبويه فجعل اللوب جمع لابة، كفارة وقور وقد فسر ابن منظور اللابية في الحديث بأنها حرتان تكتفانها قال الأصمعي: هي الأرض التي قد ألبستها حجارة سود، وجمعها لابات ما بين الثلاث إلى العشر فإذا كثر فهي اللاب واللوب اللسان 5 / 4092.
(*)(3/318)
" العضاه ": بالقصر وكسر العين المهملة وتخفيف الضاد المعجمة: كل شجر فيه شوك، واحدتها عضاهة وغضيهة.
" المأزمان ": بهمزة بعد الميم وبكسر الزاي تنثية مأزم: الطريق بين جبلين، أي حرم ما بين جبلي المدينة.
" يهراق ": يصب.
" يخبط ": يضرب.
" العلف " بسكون اللام مصدر علفت وأما العلف بالفتح فهو اسم للحشيش والتبن ونحوهما.
" يختلى ": يجز ويقطع.
" الخلا: " بالقصر: الرطب من الحشيش الواحدة خلاة.
" لا ينفر ": بمثناة تحتية فنون ففاء: أي لا يزجر ويمنع من الرعي.
" أشاد ": بشين معجمة ودال مهملة: أي أشاعها والإشادة رفع الصوت والمراد به تعريف اللقطة: وإنشادها.
" عير " (1): بفتح العين المهلمة وسكون المثناة التحتية وبالراء: الحمار، ويقال عير جبل يسمى باسمه، ويمين الأول بالوارد والثاني بالصادر.
" ثور ": بالمثلثة: مرادف فحل البقر، جبل صغير خلف أحد، قال المطري بعد أن رد على من أنكر كون ثور بالمدينة وقال إنه خلف أحد من شماليه، مدور صغير يعرفه أهل المدينة خلف عن سلف.
وقال القطب الحلبي: " حكى لنا شيخنا الامام أبو محمد عبد السلام بن
مزروع البصري أنه خرج رسولا إلى العراق فلما رجع إلى المدينة كان معه دليل أي من عرب المدينة، فكان يذكر له الأماكن والجبال "، قال: " فلما وصلنا إلى أحد إذا بقربه جبل صغير، فسألته عنه فقال: هذا يسمى ثورا، فعلمت صحة الرواية ".
وقال المحب الطبري: " أخبرني الثقة العالم أبو محمد عبد السلام البصري أن حذاء أحد، عن يساره، جانحا إلى ورائه جبلا صغيرا يقال له ثور، وأخبرني أنه تكرر عنه سؤاله لطوائف من الأعراب العارفين بتلك الأرض وما فيها من الجبال، فكل أخبر أن ذلك الجبل اسمه ثور، وتواردوا على ذلك "،: " فعلمنا أن ذكر ثور في الحديث صحيح وأن عدم علم أكابر العلماء به (هو) لعدم شهرته وعدم بحثهم عنه "، قال: " وهذه فائدة جليلة ".
__________
(1) انظر اللسان 4 / 3189.
(*)(3/319)
الباب العاشر في ذكر بعض خصائصها
وهي تزيد على المائة فقد امتازت بتحريمها على لسان أشرف الأنبياء بدعوته صلى الله عليه وسلم.
وكون المتعرض لصيدها وشجرها يسلب كقتيل الكفار، وهو أبلغ في الزجر مما في مكة، وعلى القول بعدمه هو أدل على عظيم حرمتها حيث لم يشرع له جزاء، ويجوز نقل ترابها للتداوي، واشتمالها على أشرف البقاع وهو محل القبر الشريف، ودفن أفضل الخلق بها وأفضل هذه الأمة وكذا أكثر الصحابة والسلف الذين هم خير القرون، وخلقهم من تربتها، وبعث أشراف هذه الأمة يوم القيامة منها على ما نقله (عياض) في المدارك عن الإمام مالك، قال: " وهو لا يقول من عند نفسه ".
وكونها محفوفة بالشهداء كما قاله الإمام مالك أيضا، وبها أفضل الشهداء الذين بذلوا أنفسهم في ذات الله بين يدي نبيهم صلى الله عليه وسلم فكان شهيدا عليهم، واختيار الله تعالى إياها لأفضل خلقه وأحبهم إليه، واختيار أهلها للنضرة والإيواء، وافتتاحها بالقرآن وسائر البلاد بالسيف
والسنان، وافتتاح سائر بلاد الإسلام منها، وجعلها مظهر الدين، ووجوب الهجرة إلهيا قبل فتح مكة والسكنى بها لنصرته صلى الله عليه وسلم ومواساته بالأنفس على ما قاله القاضي عياض أنه متفق عليه، قال: " ومن هاجر قبل الفتح فالجمهور على منعه من الإقامة (بمكة) بعد الفتح، ورخص له ثلاثة أيام بعد قضاء نسكه، والحث على سكنى المدينة وعلى اتخاذ الأصل بها وعلى الموت بها، والوعد على ذلك بالشفاعة أو الشهادة أو هما، واستحباب الدعاء بالموت بها، وتحريضه صلى الله عليه وسلم على الموت بها وشفاعته أو شهادته لمن صبر على لأوائها وشدتها، وطلبه لزيادة البركة بها على مكة ودعاؤه بحبها وأن يجعل الله لديها قرارا ورزقا حسنا، وطرح الرداء عن منكبيه إذا قاربها، وتسميته لها طيبة " وغيرها مما سبق.
" وطيب ريحها، وللعطر بها رائحة لا توجد في غيرها " قاله ياقوت.
وطيب العيش بها وكثرة أسمائها، وكتابتا في التوراة مؤمنة وتسميتها فيها بالمحبوبة والمرحومة وإضافتها إلى الله تعالى في قوله تعالى (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) (النساء 97)، وإلى النبي بلفظ البيت في قوله تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) (الأنفال 5) وإقسام الله تعالى في قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد) (البلد 1) والبداءة بها في قوله تعالى: (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) (الإسراء 80)، مع أن المخرج مقدم على المدخل، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لها خصوصا بالبركة، ولثمارها وميكالها وأسواقها وأهلها.
ولقوله إنها تنفي الذنوب وتنفي خبثها، وأنه لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها خيرا منه ومن أرادها وأهلها بسوء أذابه الله، الحديث، فرتب الوعيد فيها على الإرادة، كما قال(3/320)
تعالى في حرم مكة: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب إليم) (الحج: 25) والوعيد الشديد لمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا، والحدث يشمل الصغيرة في بها كبيرة، أي يعظم جزاؤها لدلالتها على جرأة مرتكبها بحرم سيد المرسلين وحضرته الشريفة.
والوعيد الشديد لمن ظلم أهلها أو أخافهم، ووعيد من لم يكرم أهلها وأن إكرامهم وتعظيمهم
حق على الأمة، وأنه صلى الله عليه وسلم شفيع أو شهيد لمن حفظهم فيه، وقوله: " من أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي ".
واختصاصها بملك الإيمان والحياء، ويكون الإيمان يأرز إليها، واشتباكها بالملائكة وحراستهم لها، وإنها دار الإسلام أبدا لحديث: " إن الشياطين قد أيست أن تعبد ببلدي هذا " (1)، وأنها " آخر قرى الإسلام خرابا "، رواه الترمذي، وحسنه، ويأتي بسطه في المعجزات إن شاء الله تعالى، وعصمتها، من الدجال وخروج الرجل الذي هو خير الناس أو من خير الناس منها للدجال ليكذبه، ونقل وبائها وحماها والاستسقاء بترابها وبتمرها كما سيأتي في الخصائص.
وقوله في حديث للطبراني: " وحق على كل مسلم أن يأتيها "، وسماعة صلى الله عليه وسلم لمن صلى عليه بها عند قبره الشريف، ووجوب شفاعته لمن زاره بها، وغير ذلك مما سيأتي في باب فضل زيارته.
وكونها أول مسجد اتخذه بها لعامة المسلمين في هذه الامة، وتأسيس مسجدها على يده صلى الله عليه وسلم، وعمل فيه بنفسه، ومعه خير الأمة، وأن الله سبحانه وتعالى أنزل في شأنه (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه) (التوبة 108) وكونه آخر مساحد الأنبياء، والمساجد التي تشد إليها الرحال، وكونه أحق المساجد أن يزار وما يذخر لزائره من الثواب المضاعف كما سيأتي وأن من صلى فيه أربعين صلاة كتب له براءة من النار وبراءة من العذاب، وأنه برئ من النفاق، وأن من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة فيه كان بمنزلة حجة، وما ثبت من أن إتيان مسجد قباء والصلاة فيه تعدل عمرة وغير ذلك مما ثبت في فضلها.
وأن بين بيته وقبره روضة من رياض الجنة، مع ذهاب بعضهم إلى أن ذلك يعم مسجده صلى الله عليه وسلم، وأنه المسجد الذي لا يعرف بقعة في الأرض من الجنة غيره، وأنه على حوضه صلى الله عليه وسلم وما جاء في أن " ما بين منبره الشريف والمصلى روضة من رياض الجنة " (2) وسيأتي ما يقتضي أن المراد مصلى العيد وهو جانب كبير من هذه البلدة.
وقوله في أحد (هذ جبل) يحبنا ونحبنا، وأنه على ترعة من ترع الجنة.
وفي وادي
__________
(1) ذكره الهيثمي في المجمع 3 / 302 وعزاه للبزار وقال: فيه السكن بن هارون الباهلي ولم أجد من ترجمه.
(2) أخرجه مسلم 2 / 1010 (500، 1390).
(*)(3/321)
بطحان أنه على ترعة من ترع الجنة.
ووصفه لواديها العقيق بالوادي المبارك، وأنه يحبنا ونحبه.
وقوله في ثمارها: " أن العجوة من الجنة ".
وسيأتي في بئر غرس أنه صلى الله عليه وسلم رأى أنه أصبح على بئر من آبار الجنة فأصبح عليها.
ورؤيا الأنبياء حق.
واختصاص مسجدها بمزيد الأدب، ويكتب لمن صلى بمسجدها صلاة براءة من النار وبراءة من العذاب وأنه برئ من النفاق، رواه الإمام أحمد والطبراني برجال ثقات.
وخفض الصوب في تأكيد التعلم والتعليم به.
والحديث: أنه " لا يسمع النداء في مسجدي، ثم يخرج منه إلا لحاجة ثم لا يرجع إليه إلا منافق " (1) واختصاصه عند بعضهم بمنع آكل الثوم من دخوله لاختصاصه بملائكة الوحي والوعيد الشديد لمن حلف يمينا فاجرة عند منبرها ومضاعفة سائر الأعمال بها مكا صرح به الإمام الغزالي.
وأن صلاة الجمعة بها كصيام ألف شهر في غيرها، كما رواه البيهقي عن جابر بن عبد الله، والطبراني في الكبير عن بلال بن الحارث، وابن الجوزي عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وكون أهلها أول من يشفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم واختصاصهم بمزيد الشفاعة والاكرام.
وجاء بعث الميت من الآمنين، وأنه يبعث من بقيعها سبعون ألفا على صورة القمر يدخلون الجنة بغير حساب، وتوكل الملائكة بمقبرة بقيعها كلما امتلأت أخذوا بأطرافها فكفئوها بالجنة وبعثه صلى الله عليه وسلم منها وبعث أهلها من قبورهم قبل سائر الناس واستحباب الدعاء بها في الأماكن التي دعا بها صلى الله عليه وسلم وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى ويقال إنه يستجاب بها عند الأسطوانة المخلقة، وعند المنبر وفي زاوية دار عقيل بالبقيع وبمسجد الفتح.
(واختصاصها) بكثرة المساجد والمشهاد بها، واستخباث من عاب تربتها، وأفتى الإمام مالك أنه من قال: تربتها رديئة أن يضرب ثلاثون درة، وأمر بحبسه وكان له قدر، وقال: ما
أحوجه إلى ضرب عنقه، تربة دفن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعم أنها غير طيبة.
واستحباب الدخول لها من طريق والرجوع من أخرى، والاغتسال لدخولها، واختصاص أهلها بأبعد المواقيت، وذهب بعض السلف إلى تفضيل البداءة بها قبل مكة، وأن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يبدأون بالمدينة إذا حجوا ويقولون، نبدأ من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن علقمة، والأسود، وعمرو بن ميمون أنهم بدأوا بالمدينة وعن العبدي من المالكية أن المشي لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الكعبة.
وسيأتي أن من نذر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لزمه الوفاء قولا واحدا.
وفي وجوب الوفاء في زيارة قبر غيره وجهان (قاله ابن كج
__________
(1) ذكره المنذري والترهيب 1 / 189.
(*)(3/322)
وأقره عليه الرافعي والنووي وغيرهما) والاكتفاء بزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن نذر إتيان مسجد المدينة كما قال الشيخ أبو علي تفريعا على القول بلزوم إتيانه كما قاله الشافعي والبويطي، على أنه لا بد من (ضم) قربة إلى الإتيان كما هو الأصح (تفريعا على اللزوم وعلله الشيخ أبو علي بأن زيارته صلى الله عليه وسلم من أعظم القربات، وتوقف في ذلك الإمام من جهة أنها لا تتعلق بالمسجد وتعظيمه، قال: وقياسه أنه لو تصدق في المسجد أو صام يوما كفاه، وفيه نظر، على أن الصحيح ما نص عليه في المختصر من) عدم لزوم الإتيان.
وجاء في سوقها أن الحاجب إليه كالمجاهد في سبيل الله، وأن المحتكر كالملحد في كتاب الله تعالى.
واختصت بظهورنا الحجاز المنذر بها من أرضها ومن انطفائها عند حرمها كما سيأتي في المعجزات، لما تضمنه حديث الحاكم وغيره.
(وفي حديث النسائي والبزار والحاكم واللفظ له:) " يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة ".
وكان سفيان بن عيينة يقول: نرى هذا العالم مالك بن أنس.
وقيل غير ذلك.
وما نقل عن مالك من أن إجماع أهلها يقدم على خبر الواحد، لسكناهم مهبط الوحي ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ.
واختصاص أهلها في قيام رمضان بست وثلاثين ركعة على المشهور عند الشافعية.
قال الإمام الشافعي: رأيت أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين ركعة منها ثلاث للوتر، ونقل الروياني وغيره عن الشافعي أن سببه إرادة أهل المدينة مساواة أهل مكة فيما كانوا يأتون به من الطواف وركعتين بين الترويحات فجعلوا مكان كل أسبوع (1) ترويحة.
قال الإمام الشافعي: " لا يجوز لغير أهل المدينة أن يباروا أهل مكة ولا ينافسوهم لأن الله فضلهم على سائر العباد ".
وشاركتها مكة في تحريم قطع الرطب من شجرها وحشيشها وصيدها واصطيادها وتنفيره، وحمل السلاح للقتال بها، ولا تحل لقطتها إلا لمن أشاد بها، ونقل ترابها ونحوه منها أو إليها، ونبش الكافر إذا دفن بها.
وأن كلا من مسجد الرسول والمسجد الحرام يقوم مقام المسجد الأقصى لمن نذر الصلاة أو الاعتكاف فيه، ولو نذرهما بمسجد المدينة لم يجزه الأقصى وأجزاه المسجد الحرام بناء على زيادة المضاعفة، وإذا نذر المشي إلى بيت المقدس يخير بين المشي إليه أو إلى أحدهما، والذي رجحوه ما اقتضاه كلام البغوي من عدم لزوم المشي في غير المسجد الحرام.
وإذا نذر تطييب مسجد المدينة والأقصى ففيه تردد لإمام الحرمين، واقتضى كلام الغزالي اختصاصه بالمسجدين لأنا إن نظرنا إلى التعظيم ألحقناهما بالكعبة أو إلى امتياز الكعبة
__________
(1) التنطع: هو كل تعمق قولا وفعلا.
انظر النهاية 5 / 74.
(*)(3/323)
بالفضل فلا.
قال السيد: فينبغي الجزم في نذر تطييب القبر الشريف على ساكنه أفضل الصلاة والسلام.
ورحم الله الإمام مالك أبي عبد الله محمد بن أحمد بن علي بن جابر الأندلسي المالكي الأعمى حيث قال: هنا وكم يا أهل طيبة قد خفى * فبالقرب من خير الورى خرتم السبقا فلا يتحرك ساكن ثوى بربوعها * إلى سواها وإن جار الزمان ولو شقا فكم ملك رام الوصول لمثل ما * وصلتم فلم يقدر ولو ملك الخلقا
فبشراكم نلتم عناية ربكم * فها أنتم في بحر عنايته غرقى ترون رسول الله في كل ساعة * ومن يره فهو السعيد به حقا متى جئتم لا يغلق الباب دونكم * وباب ذوي الإحسان لا يقبل الغلقا فيسمع شكواكم ويكشف ضركم * ولا يمنع الإحسان ضرا ولا رقا بطيبة مثواكم وأكرم مرسل * يلاحظكم فالدهر يحري لكم وفقا وكم نعمة لله فيها عليكم * فشكرا ونعم الله بالشكر تستبقي أمنتم من الدجال فيها فحولها * ملائكة يحمون من دونها الطرقا كذاك من الطاعون أنتم بمأمن * فوجه التلالي لا يزال لكم طلقا فلا تنظروا إلا لوجه حبيبكم * وإن حادت الدنيا ومرت فلا فرقا حياة وموتا تحت رحماه أنتم * وحشرا فستر الجاه فوقكم ملقى فيا راحلا عنها لدنيا تريدها * أتطلب ما يفنى وتترك ما يبقى ؟ أتخرج عن حوز النبي وحرزه * إلى غيره تشفيه غيرك قد حقا لئن سرت من فيض المكارم عنده * فأكرم من خير البرية ما تلقى هو الرزاق مقسوم فليس بزائد * ولو سرت حتى كدت تخترق الأفقا فكم قاعد قد وسع الله رزقه * ومرتحل قد ضاق بين الورى رزقا فعش في حمى خير الأنام ومت به * إذا كنت في الدارين تطلب أن ترقى إذا قمت فيما بين قبر ومنبر * بطيبة فاعرف أن خير لك الأرقى لقد أسعد الرحمن حار محمد * ومن حال في ترحاله فهو الأشقى ومن أعظم ما نظم في ذلك وأعجبه قصيدة الإمام الولي العارف بالله أبي محمد عبد الله بن أبي عمر البسكري.
قال العلامة بدر الدين فرحون أحد أصحاب ناظمها: إن بعض الصالحين رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، قال البدر: " وأشك هل كان اليخ أو غيره ؟ وأنشد هذه القصيدة، فلما بلغ آخرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رضيناها رضيناها ".
وخمسها الإمام أبو عبد الله
التونسي رحمه الله.
وقد رأيت إيراد ذلك هنا:(3/324)
أعلام طيبة لا تهم بسواها * فحبيت رب العالمين ثواها واعمر فؤادك دائما بهواها * دار الحبيب أحق أن تهواها * وتحن من طرب إلى ذكراها لا تحل خذ ترابها من قبلة * وبكل عام قم إليه برحلة لا تقنعن من المزار بمرة * وعلى الجفون متى هممت بزورة * يابن الكرام عليك أن تغشاها اقطع زمانك إن سعدت ببلدة * حوت الرسول فتلك أطيب تربة جاوره تأمن أن تصاب بشدة * فلأنت أنت إذا حللت بطيبة * وظللت ترتع في ظلال رباها هي جنتي مما أخاف وجنتي * وبجاه من فيها تخلص مهجتي وإذا نظرت لها فذلك بغيتي * معنى الجمال منى الخواطر والتي * سلبت عقول العاشقيين حلاها تلك المنازل لا نعيم كتربها * تلك المياه لنا الشفاء بشربها يا طيب نفحتها * وحسن مهبها * لا تحسب المشك الذكي كتربها هيهات أين المسك من رياها لم لا تطيب ثنا ونكرم منبتا * والمصطفى حيا حوته وميتا فنسيمها يحكي العبير إذا أتى * طابت فإن تبع التطيب يا فتى * فأدم على الساعات لثم ثراها لو لم تكن أزكى البلاد وأطهرا * ما اختارها لرسوله لما سرى فبطيبها أيقن وخل من افترى * وابشر ففي الخبر الصحيح مقررا
* أن الإله بطابة سماها دار الحبيب لنا فلذ برحيبها * فالنفس مولعة بدرا حبيبها الله شرفها به لنصيبها * واختصها بالطيبين لطيبها * واختارها ودعا إلى سكناها مدت بها رحمى الإله ظلالها * من أجل من منع النفوس ضلالها جل في البلاد فلن تصيب مثالها * لا كالمدينة منزل وكفى لها * شرفا حلول محمد بفناها(3/325)
من لي بأن ألفى الحبيب وأظفرا * وأشم من مثواه مسكا أذفرا وأرى التي شغفت بها مهج الورى * خصت بهجرة خير من وطئ الثرى * وأجلهم قدرا فكيف تراها ؟ كلفي بها طبع بغير تكلف * صفت القلوب لها لأحل من اصطفى وجلال تلك الأرض ما هو بالخفي * كل البلاد إذا ذكرت كأحرف * في اسم المدينة لا خلا معناها هي للقلوب الصافيات حبيبة * ولأهلها والنازلين رحيبة فاقت جميع الأرض فهي غريبة * حاشا مسمى القدس فهي قريبة * منها ومكة إنها إياها فاجعل مزارك للثلاث وظيفة * وأمن بمكة والمدينة خيفة فكلاهما تدع القلوب نظيفة * لا فرق إلا أن ثم لطيفة * مهما بدت يجلو الظلام سناها فافهم وأرجو أن تفيق وتفهما * أمر الذي هو قد سما فوق السما إن الفضيلة حيث أصبح منهما * جزم الجميع بأن خير الأرض ما
* قد حاط ذا المصطفى وحواها فمن العجائب مهجتي عنها سلت * وهي التي بضريح أحمد فضلت مثل العقود بقدر جوهرها غلت * ونعم لقد صدقوا بساكنها علت * كالنفس حين زكت زكا مأواها إني أقول فلا تكن ذا غيبة * قف عند حجرته بموقف هيبة فاسأل فإنك لن ترى ذا خيبة * وبهذه ظهرت مزية طيبة * فغدت وكل الفضل في معناها منها بدا للخلق واضح سنة * فعلى البلاد لها عظيمة منة ولها خصائص فضلها ذو مكنة * حتى لقد خصت بروضة جنة * الله شرفها بها وحباها هي غير خافية لقلب مبصر * فاغسل من الأهواء قلبك وانظر وابسط هناك الخد منك وعفر * ما بين قبر للنبي ومنبر * حيا الإله رسوله وسقاها(3/326)
محروسة من كل رجز طارق * ودخول دجال وطعن لاحق فالمرء فيها ذو فؤاد واثق * هذي محاسنها فهل من عاشق * كلف شحيح باخل بنواها ربي أدمني في حماية صونها * ومتى هممت بغيبة عن عينها فاجعل مماتي قبل ساعة كونها * إني لأرهب من توقع بينها * فيظل قلبي موجعا أواها يا خير مسئول وأكر من دعي * لا تقص عنها رحلتي وتودعي فمن الخسار فراق ذلك الموضع * ولقلما أبصرت حال مودع
* إلا رثت نفسي له وشجاها لا تجعلوا عنها الرحيل صناعة * إني أرى ذاك الرحيل إضاعة وإذا أقمتم كان ذلك طاعة * فلكم أراكم قافلين جماعة * في إثر أخرى طالبين ثواها فيم الترحل في المدينة صونكم * وبجاه خير الخلق يحصل عونكم فالخير مكثكم هناك وكونكم * قسما لقد أذكى فؤادي بينكم * جزعا وفجر مقلتي مياها ضيعتم والله كل جميلة * عودوا فما خيراتها بقليلة مالي إذا لم يقبلوا من حيلة * إن كان يزعجكم طلاب فضيلة * فالخير أجمعه لدى مثواها أو كان يدعوكم إلى أن ترحلوا * جاه ينال فجاه أحمد أكمل أو نالكم ظما فهذا المنهل * أو خفتم ضرا بها فتأملوا * بركات بلغتها فما أزكاها فإذا امرؤ لم يرتحل من شدة * فيها وعاش بها بأيسر بلغة فاقنع هناك ولو بأذني لقمة * أف لمن يبغي الكثير لشهوة * لزفاهة لم يدر ما عقباها لا ترحلن لشهوة وتلذذ * وانظر إلى ذاك الحمى وتلذذ وبما يقيم النفس فاقنع واغتد * فالعيش ما يكفي وليس هو الذي * يطغي النفوس ولا خسيس مناها(3/327)
لله من لم يكترث بمجاعة * فيها وعاش بها ملازم طاعة ورأى المقام بها سنين كساعة * يا رب أسأل منك فضل قناعة
* بيسيرها وتحصنا بحماها هي نعمة فأفض علي نعيمها * وتول زائرها وأرض مقيمها وأنا السعيد إذا رزقت قدومها * ورضاك عني دائما ولزومها * حتى توافي مهجتي أخراها سهلت يا ربي علي وصولها * وحثثت نفسي أن تنال دخولها والنفس تسأل يا كريم قبولها * فأنا الذي أعطيت نفسي سؤلها * وقبلت دعوتها فيا بشراها إن كنت ذا صدق وصاحب همة * فاخدم حماة فليس ضائع خدمة وأقم فإنك لا تزال بنعمة * بجوار أوفى العالمين بذمة * وأعز من بالقرب منه يباهى مع كل ركب أم طيبة فانفذ * وبمل ء كف إن تيسر فاغتذ وبكل عام في زيارته خذ * من جاء بالآيات والنور الذي * داوى القلوب من العمى فشفاها وله من الإسراء أشرف رتبة * وهو الشفيع لنا الكريم المنية وهو المكرم باختصاص الرؤية * أولى الأنام بخطة الشرف التي * تدعى الوسيلة خير من يعطاها * كل المكارم هن طي بروده * ولقد أضاء الكون عند وروده والبحر يقصر عن مواهب جوده * إنسان عين الكون سر وجوده * ياسين إكسير الحياة طاها كانت حمام الغار بعض حماته * والذئب في البيداء بعض دعاته ماذا أعدد من جلالة ذاته * حسبي فلست أفي ببعض صفاته * ولو أن لي عدد الحصى أفواها
حكم الشفاعة في يديه وأمرها * وغزالة نادته أذهب ضرها والروح حين أتته شرف قدرها * كثرت محاسنه فأعجز حصرها * فغدت وما نلقى لها أشباها(3/328)
الله أرسله بكل هداية * وحباه في الدارين كل عناية فلقد حوى في المجد أبعد غاية * إني اهتديت من الكتاب بآية * فعلمت أن علاه ليس يضاهى فشهدت أن الله خص محمدا * فغدا بأملاك السماء مؤيدا وعلى لسان الأنبياء ممجدا * ورأيت فضل العالمين محددا * وفضائل المختار لا تتناهى أمداحه تبقى على مر الزمن * كمن آية فينا له مدح حسن أعيت مدائحه الحسان ذوى اللسن * كيف السبيل إلى تقصي مدح من * قال الإله له وحسبك جاها ما ضل صاحبكم فخص وكرما * وبقول ما كذب الفؤاد لقد سما وكفاه ما قد قاله رب السما * إن الذين يبايعونك إنما * فيما يقول يبايعون الله شهدت جميع الأنبياء بفضله * فلأجل ختمهم أتوا من قبله وله لواء الحمد خص بحمله * هذا الفخا فهل سمعت بمثله * واها لنشأته * الكريمة واها يا أمه الهادي ومن كمثالكم * فجلال أحمد شاهد بكمالكم هو ستركم هو ذخركم لمآلكم * صلوا عليه وسلموا فبذلكم * تهدى النفوس لرشدها وغناها
ما في عباد الله مثل محمد * فمقامه المحمود يعرف في غد ولحوضه المورود أكرم مورد * صلى عليه الله غير مقيد * وعليه من بركاته أنماها إن الصلاة عليه تنجينا غدا * فإذا همو ذكروا لديك محمدا غظ بالصلاة عليه أكباد العدا * وعلى الأكابر آله سرج الهدى * أكرم بعترته ومن والاها أعزز بآل محمد فلديهم * يعطى المنى فالجود ملك يديهم وإليه صرف ثنائنا وإليهم * وكذا السلام عليه ثم عليهم وعلى عصابته التي زكاها(3/329)
كانوا إذا التمس السماح سحابه * ولقد أتو عند الحوائح بابه ملكوا من المجد الأثيل لبابه * أعني الكرام أولي النهى أصحابه * فئة التقى ومن اهتدى بهداها مدحي لأحمد لا حمى كملاذه * فإن ارتضاه وجاد لي بنفاذه فلنعم ما أنا عائذ بمعاذه * والحمد لله الكريم وهذه * نجزت وظني أنه يرضاها زاد مخمسها الشيخ أبو عبد الله محمد، عفا الله تعالى عنه بمنه ولطفه وكرمه آمين: منحت قصيد البسكري قبولا * وسئلت في تخميسها لتطولا فأردت في باب الثواتب دخولا * وأطلت في نسج الكلام ذيولا * قيل الرياض نمت فزاد شذاها غفر الإله له ولي ولمن قرا * وأعد في دار النعيم لنا القرى وحباه أجر المخصلين لنا القرى * فعلى قصيدته سنا صدق يرى
* وكفته رؤيا في المنام رآها قال الرسول له رضيت فيالها * بشرى بنيته الجميلة نالها فإن ارتضيت بأن أنال مثالها * فهي السعادة قد منحت نوالها * وهناك تظفر مهجتي بمناها يا رب بالمختار يسر أمرنا * واغفر خطايانا وأذهب ضرنا واجزل عطايانا وأجمل سترنا * واجعل بطيبة في حماه مقرنا * وأجب سؤال نفوسنا ودعاها يا رب صل على النبي محمد * والآل والصحب الكرام المحتد القائمين الراكعين السجد * بحماة دينك باللسان وباليد * والمال حبا للرسول وجاها تنبيه: سيأتي في المعجزات وفي الخصائص أشياء تتعلق بالمدينة الشريفة الكريمة إن شاء الله تعالى.(3/330)
جماع أبواب بعض حوادث من السنة الأولى والثانية من الهجرة
الباب الأول في صلاته صلى الله عليه وسلم الجمعة ببني سالم بن عوف
وهي أول جمعة صلاها وأول خطبة في الإسلام كما جزم به (أبو سلمة بن عبد الرحمن) في العيون (نقلا عن) ابن إسحاق، والبيهقي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: " كان أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أنه قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: " (أما بعد): أيها الناس فقدموا لأنفسكم تعلمن والله (ليصعقن) أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم
يأتك رسولي فبلغك وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك ؟ فلينتظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام (عليكم) وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته ".
ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال: " إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحبه الله، أحبوا الله من كل قلوبكم ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفى قد سماه الله خيرته من الأعمال ومصطفاه من العباد والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ".
وروى ابن جرير عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي أنه بلغه عن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عوف: " الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له،(3/331)
وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، (وانقطاع من الزمان)، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا.
أوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله
عز وجل، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه ولا أفضل من ذلك ذكرا، وإن تقوى الله من عمل به على وجل ومخافة من ربه عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة، ومن يصلح (الذي) بينه وبين الله تعالى من (أمره في) السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره (وذخرا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم.
وما كان مما سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا (ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد) (آل عمران: 30) هو الذي صدق قوله، وأنجز وعده، لا خلف لذلك، فإنه يقول عز وجل (ما يبد القول لدي وما أنا بظلام للعبيد) (ق 29) فاتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية فإنه (ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا) (الطلاق 5) ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما.
وإن تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه وإن تقوى الله تبيض الوجوه، وترضي الرب، وترفع الدرجة.
فخذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله، فقد علمكم كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة (الأنفال 42) ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله تعالى واعلموا لما بعد الموت، فإنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه.
الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " (1).
تنبيهات الأول: قال في الروض قوله صلى الله عليه وسلم: " أحبوا الله من كل قلوبكم " يريد أن تستغرق محبة الله تعالى جميع أجزاء القلب، فيكون ذكره وعمله خارجا من قلبه خالصا لله.
وتقدم الكلام على محبيته لعبده، ومحبة العبد لربه في اسمه صلى الله عليه وسلم: " حبيب الله ".
وقوله صلى الله عليه وسلم: " ولا تملوا كلام الله وذكره.
فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي " قال السهيلي: الهاء في قوله: (فإنه) لا يجوز أن تكون عائدة على كلام الله تعالى، ولكنها
__________
(1) أخرجه ابن جرير في التاريخ 2 / 255.
(*)(3/332)
ضمير الأمر والحديث، فكأنه قال: إن الحديث من كل ما يخلق الله يختار، فالأعمال إذا كلها من خلق الله، قد اختار منها ما شاء قال سبحانه: (وربك يخلق ما يشاء ويختار).
وقوله: " قد سماه الله خيرته من الأعمال "، يعني الذكر وتلاوة القرآن (لقوله سبحانه: " ويختار " فقد اختاره من الأعمال).
وقوله: " والمصطفى من عباده ": أي سمى المصطفى من عباده بقوله تعالى: (الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس) (الحج 75) ويجوز أن يكون معناه المصطفى من عباده أي العمل الذي اصطفاه منهم واختاره من أعمالهم، فلا تكون " من " على هذا للتبعيض، إنما تكون لابتداء الغاية، لأنه عمل استخرجه منهم لتوفيقه إياهم، والتأويل الأول أقرب مأخذا.
والله أعلم بما أراد رسوله ".
وقوله في أول الخطبة: " إن الحمد لله أحمده "، هكذا برفع الدال (من قوله: الحمد لله) (4) وجدته مقيدا مصححا عليه، وإعرابه ليس على الحكاية، ولكن على إضمار الأمر، كأنه قال: " إن الأمر الذي أذكره "، حذف الهاء العائدة على الأمر كي لا يقدم شيئا في اللفظ من الأسماء على قوله: " الحمد لله ".
وليس تقديم " أن " في اللفظ من باب تقديم الأسماء لأنها حرف مؤكد لما بعده مع ما في اللفظ من التحري للفظ القرآن والتيمن به والله أعلم.
الثاني: اختلف في تسمية اليوم بذلك، مع أنه كان اتفاقا يسمى في الجاهلية: " العروبة " - بفتح المهملة وضم الراء وبالموحدة - قلت: قال أبو جعفر النحاس في كتابه: " صناعة الكتابة ": لا يعرفه أهل اللغة إلا بالألف واللام إلا شاذا، ومعناه اليوم المبين المعظم من أعرب إذا بين.
فقيل: سمي بذلك لأن الخلائق جمعت فيه، ذكره أبو حذيفة البخاري في المبتدا عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، وقيل: لأن خلق آدم جمع فيه.
وروى الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن أبي حاتم عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتدري ما يوم الجمعة ؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قالها ثلاث مرات.
قال
في الثالثة: " هو اليوم الذي جمع فيه أبوكم آدم ".
الحديث، وله شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه، رواه ابن أبي حاتم بإسناد قوى، والإمام أحمد مرفوعا بإسناد ضعيف، قال الحافظ: " وهذا أصح.
ويليه ما رواه عبد الرزاق عن ابن سيرين بسند صحيح إليه، في قصة تجميع الأنصار، مع أسعد بن زرارة.
وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة، صلى بهم فيه وذكرهم فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه ".
وقيل: " سمي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه ".
وبهذا جزم ابن حزم فقال: إنه اسم إسلامي لم يكن في الجاهلية وإنما كان يسمى العروبة.
وفيه نظر، فقد قال أهل اللغة: إن العروبة اسم قديم كان للجاهلية، وقالوا: الجمعة هو يوم العروبة.
والظاهر أنهم غيروا الأيام السبعة بعد أن كانت: أول وأهون وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشيار.(3/333)
وقال الجوهري: وكانت العرب تسمي يوم الاثنين " أهون " في أسمائهم القديمة.
فهذا يعشر بأن لها أسماء وهي هذه المتعارفة إلى آخرها الآن.
وقيل: إن أول من سمى العروبة " الجمعة " كعب بن لؤي، فيحتاج من قال إنهم غيروها إلى الجمعة، فأبقوها على تسمية العروبة إلى نقل خاص.
الثالث: تقدم أن صلاة الجمعة صلتها الصحابة بالمدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فقيل ذلك بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم لما رواه الدارقطني عن ابن عباس، قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجمعة قبل أن يهاجر، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بمكة ولا (يبدي) لهم، فكتب إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه: " أما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله تعالى بركعتين ".
قال: فأول من جمع مصعب بن عمير حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فجمع عند الزوال من الظهر، وأظهر ذلك.
وفي سنده أحمد بن حمد بن غالب الباهلي، وهو متهم بالوضع.
قال في الزهر: " والمعروف في هذا المتن الإرسال، رويناه في كتاب الأوائل لأبي عروبة الحراني " قال: " حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا ابن وهب حدثنا ابن جريج عن
سليمان بن موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب به ".
وقيل باجتهاد الصحابة، روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن محمد بن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تنزل الجمعة، فقالت الأنصار: إن لليهود يوما يجمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك فهلموا فلنجعل يوما تجمع فيه فنذكر الله ونصلي ونشكر.
فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ وأنزل الله تعالى بعد ذلك: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) (الجمعة 9) قال الحافظ: وهذا وإن كان مرسلا فله شاهد بإسناد حسن، رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة وغير واحد من حديث كعب بن مالك قال: " كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسعد بن زرارة "، الحديث وقد تقدم، فمرسل ابن سيرين يدل على أن أولئك الصحابة اختاروا يوم الجمعة باجتهاد، ولا يمنع ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علمه بالوحي وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها كما في حديث ابن عباس والمرسل بعده، ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة كما حكاه ابن إسحاق وغيره، وعلى هذا فقد حصلت الهداية للجمعة بخبر نبي البيان والتوفيق.
وقيل: الحكمة في اختيارهم الجمعة وقوع خلق آدم فيه، والإنسان إنما خلق للعبادة، فناسب أن يشغل بالعبادة فيه، وكان الله تعالى أكمل فيه الموجودات وأوجد فيه الإنسان الذي ينتفع بها، فناسب أن يشكر الله على ذلك بالعبادة فيه، ولهذا تتمة تأتي في الخصائص إن شاء الله تعالى.(3/334)
الباب الثاني في بناء مسجده الأعظم وبعض ما وقع في ذلك من الآيات
تقدم أن ناقته صلى الله عليه وسلم بركت عند باب مسجده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا المنزل إن شاء الله "، ثم أخذ في النزول: فقال: (رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) (المؤمنون 29).
وكان مربدا ليتيمين هما: سهل وسهيل، قال يحيى بن الحسن، والبلاذري
وغيرهما: " ابنا رافع بن أبي عمرو بن عائذ بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، وبذلك صرح ابن حزم، وأبو عمرو ورجحه، وكانا في حجر أسعد بن زرارة كما في صحيح البخاري عند أكثر رواته.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى بني النجار بسبب موضع المسجد، فقال: " يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا " (1)، فقالوا: " والله لا نطلب ثمنه إلا من الله " وفي رواية: فدعا بالغلامين وساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا.
فقالا.
بل نهبه لك يا رسول الله.
فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجدا.
وكان أسعد بنى المربد مسجدا قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى يحيى بن الحسن بن عن النوار بنت مالك أم زيد بن ثابت أنها رأت أسعد بن زراة قل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم، يصلي بالناس الصلوات الخمس، ويجمع بهم في مسجده بناه في مربد سهل وسهيل، ابني رافع بن أبي عمرو بن عائذ قالت: " كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم صلى بهم في ذلك السمجد، وبناه فهو مسجده "، وذكر البلاذري نحوه.
وروى الشيخان والبيهقي عن أنس رضي الله عنه قال: كان المسجد جدارا ليس له سقف، وقبلته إلى القدس، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنخل بالغرقد أن يقطع، وكان فيه قبور جاهلية، فأمر بها فنبشت وأمر بالعظام أن تغيب، وكان في المربد ماء فسيره حتى ذهب، وكان فيه خرب فأمر بها فسويت، فصفوا النخل قبلة له، أي جعلت سواري له في جهة القبلة فسقف عليها وجعلوا عضادتيه حجارة.
وروى ابن عائذ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه وهو عريش اثنى عشر يوما ثم سقف، وروى محمد بن الحسن المخزومي، ويحيى بن الحسن عن شهر بن حوشب قال: " لما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبني المسجد قال: " ابنوا لي عريشا كعريش موسى ثمامات وخشبات وظلة كظلة موسى والأمر أعجل من ذلك ".
قيل: وما ظله موسى ؟ قال: " كان إذا قام أصاب رأسه
__________
(1) أخرجه البخاري 1 / 117 ومسلم في كتاب المساجد (9) وأبو داود (453) وابن ماجه (86).
(*)(3/335)
اسقف.
وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في بناء المسجد، بنفسه الكريمة، كما في الصحيح أنه طفق ينقل معهم اللبن ترغيبا لهم في العمل " ويقول: اللهم إن الأجر أجر الآخرة * فارعم الأنصار والمهاجرة (1) ويذكر أن هذا البيت لعبد الله بن رواحة، وعن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم لا خير إلا خير الآخرة فارحمن المهاجرين والأنصار.
وكان لا يقيم الشعر.
وروى محمد بن الحسن المخزومي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: " بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده فقرب اللبن وما يحتاجون إليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع رداءه، فلما رأى ذلك المهاجرون الأولون والأنصار ألقوا أرديتهم وأكسيتهم وجعلوا يرتجزون ويعملون ويقولون: لئن قعدنا والنبي يعمل * ذاك إذا للعمل المضلل (2) وروى البيهقي عن الحسن قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد أعانه أصحابه وهو معهم يتناول اللبن حتى اغبر صدره.
وكان عثمان بن مظعون رجلا متنطعا وكان يحمل اللبنة فيجافي بها ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه ونظر إلى ثوبه، فإن أصابه شئ من التراب نفضه، فنظر إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأنشد يقول: لا يستوي من يعمر المساجدا * يدأب فيها قائما وقاعدا * ومن يرى عن الغبار حائدا فسمعها عمار بن ياسر، فجعل يرتجز بها وهو لا يدري من يعني بها.
فمر بعثمان فقال: يابن سمية، ما أعرفني بمن تعرض، ومعه جريدة، فقال: لتكفن أو لأعترضن بها وجهك.
فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب ثم قال: " إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني وأنفي فإذا بلغ ذلك من المرء فقد أبلغ ".
ووضع يده بين عينيه.
فكف الناس عن عمار، ثم قالوا لعمار: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غضب فيك، ونخاف أن ينزل فينا قرآن.
فقال: أنا أرضيه كما غضب.
فقال: يا رسول الله ما لي ولأصحابك ؟ قال: " مالك ولهم " ؟ قال: يريدون قتلي، يحملون لبنة لبنة
ويحملون علي لبنتين لبنتين.
فأخذ بيده وطاف به في المسجد، وجعل يمسح وفرته بيديه من التراب ويقول: " يابن سمية، ليسوا بالذين يقتلونك، تقتلك الفئة الباغية، تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار "، ويقول عمار: أعوذ بالله من الفتن.
__________
(1) انظر البداية والنهاية 3 / 215.
(2) انظر البداية والنهاية 3 / 216.
(*)(3/336)
وروى عبد الرزاق بسند على شرط الشيخين عن أم سلمة، والبخاري والبيهقي (1) عن أبي سعد الخدري رضي الله عنه قال: " لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد، جعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل كل رجل منهم لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين: لبنة عنه ولبنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره وقال: " يابن سميه للناس أجر ولك أجران، وآخر زادك شربة من لبن، وتقتلك الفئة الباغية، تدعوهم إلى الجنة ويدعونك إلى النار "، وعمار يقول: " أعوذ بالله من الفتن ".
وروى أبو يعلى برجال الصحيح إلا أن التابعي لم يسمع عن عائشة رضي الله عنها قالت: " لما أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة جاء بحجر فوضعه، وجاء أبو بكر بحجر فوضعه، وجاء عمر بحجر فوضعه، وجاء عثمان بحجر فوضعه، قالت: فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: " هذا أمر الخلافة من بعدي " (2).
وروى البيهقي بسند قوى جيد عن سفينة (3) رضي الله عنه نحوه، وفيه قال: " هؤلاء ولاة الأمر من بعدي ".
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنهم كانوا يحملون اللبن إلى بناء المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " فاستقبلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عارض لبنة على بطنه فظننت أنها شقت عليه، فقلت: " يا رسول الله ناولنيها ".
فقال: " خذ غيرها، لا عيش إلا غيش الآخرة ".
وهذا كان في بنائه المرة الثانية، لأن أبا هريرة لم يسلم في الأولى، وروى يحيى بن الحسن عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن أبيه، قال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ومعه حجر، فلقيه أسيد بن حضير، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطينه.
فقال: " اذهب فاحتمل غيره فإنك لست بأفقر إلى الله مني " (4).
وروى الإمام أحمد ويحيى بن الحسن عن طلق بن علي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو ينبي المسجد، والمسلمون يعملون فيه معه، وكنت صاحب علاج وخلط طين، فأخذت المسحاة أخلط الطين والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلي ويقول: " إن هذا الحنفي لصاحب طين ".
وكان يقول: " قربوا اليمامي من الطين فإنه أحسنكم له مسكا وأشدكم منكبا " (5).
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل 2 / 269.
(2) أخرجه أبو نعيم في المسند 8 / 295 (4884) وذكره الهيثمي في المجمع 5 / 176 وعزاه لأبي يعلى وقال: ورجاله رجال الصحيح، غير التابعي فإنه لم يسم، وذكره ابن حجر في المطالب (3841).
(3) سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم..قيل: كان اسمه مهران وقيل: طهمان وقيل: مروان وقيل: نجران وقيل: رومان وقيل: ذكوان وقيل: كيسان وقيل: سليمان وقيل غير ذلك الإصابة 3 / 109.
(4) أخرجه أحمد في المسند 2 / 381.
(5) أخرجه ابن سعد في الطبقات 5 / 402.
(*)(3/337)
وروى يحيى بن الحسن من طريق عبد العزيز بن عمر، عن يزيد بن السائب، عن خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: " بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسجده سبعين في ستين ذراعا أو يزيد، ولبن لبنة من بقيع الخبخبة وجعله جدارا وجعل سواريه خشبا شقة شقة، وجعل وسطه رحبة، وبنى بيتين لزوجتيه ".
وروى يحى أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كنا بناء مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسميط لبنة على لبنة، ثم بالسعيد لبنة ونصف أخرى، ثم كثر الناس فقالوا: " يا رسول الله لو زيد فيه " ففعل، فبنى بالذكر والأنثى وهي لبنتان مختلفتان، وكانوا رفعوا أساسه
قريبا من ثلاثة أذرع بالحجارة، وجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخرة مائة ذراع، وكذا في العرض، وكان مربعا.
وفي رواية جعفر: ولم يسطح فشكوا الحر، فجعلوا خشبه وسواريه جذوعا وظللوه بالجريد ثم بالخصف، فلما وكف عليهم طينوه بالطين، وجعلوا وسطه رحبة، وكان جداره قبل أن يسقف قامة وشيئا.
وروى يحيى عن (أسامة بن) زيد بن حارثة عن أبيه رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل قبلته إلى بيت المقدس وجعل له ثلاثة أبواب في مؤخرة: باب أبي بكر وهو في جهة القبلة اليوم، وباب عاتكة الذي يدعى باب عاتكة ويقال له باب الرحمة، والباب الذي كان يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو باب آل عثمان اليوم، وهذان البابان لم يغيرا بعد أن صرفت القبلة، ولما صرفت القبلة سد النبي صلى الله عليه وسلم الباب الذي كان خلفه، وفتح هذا الباب، وحذاه هذا الباب أي ومحاذيه هذا الباب الذي سد.
وروى ان زبالة عن جعفر بن محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى مسجده مرتين: بناه حين قدم أقل من مائة في مائة، فلما فتح الله عليه خيبر بناه وزاد عليه مثله في الدور.
وروى الزبير بن بكار عن أنس رضي الله عنه أنه قال: بنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجده أول ما بناه بالجريد، وإنما بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين.
وروى الطبراني عن أبي المليح أنه قال: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحب البقعة التي زيدت في مسجد المدينة، وكان صاحبها من الأنصار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لك بها بيت في الجنة ".
قال: فجاء عثمان، فقال له: لك بها عشرة آلاف درهم، فاشتراها منه، ثم جاء عثمان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله اشتر مني البقعة التي اشتريتها من الأنصاري، فاشتراها منه ببيت في الجنة.
فقال عثمان: إني اشتريتها بعشرة آلاف درهم، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبنة: ثم دعا أبا بكر فوضع لبنة، ثم دعا عمر فوضع لبنة، ثم دعا(3/338)
عثمان فوضع لبنة، ثم قال للنا: " ضعوا "، فوضعوا (1).
وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه في حديث قصة إشراف عثمان يوم الدار، عن ثمامة بن حزن القشيري، والإمام أحمد والدارقطني عن الأحنف بن قيس، أن عثمان رضي الله عنه، أشرف على الناس فقال: " أههنا علي " ؟ قالوا: نعم.
قال: " أههنا طلحة " ؟ قالوا: نعم.
قال: " أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، أتعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من يبتاع بقعة بني فلان فليزيدها في المسجد بخير منها في الجنة ؟ " وفي رواية: " غفر الله له ".
فاشتريتها من صلب مالي بعشرين ألفا فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: قد ابتعتها.
فقال: " اجعلها في مسجدنا ولك أجرها ".
قالوا: " اللهم نعم " (2).
وروى الزبير بن بكار عن نافع بن جبير، وداود بن قيس، وابن شهاب وإسماعيل بن عبد الله الأزدي عن رجل من الأنصار، والطبراني بسند رجاله ثقات، عن الشموس بنت النعمان رضي الله عنها، ويحيى بن الحسن عن الخليل بن عبد الله الأسدي عن رجل من الأنصار، عن ابن عجلان والغرافي - بالغين المعجمة والفاء في ذيله - عن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام رهطا على زوايا المسجد ليعدل القبلة، فأتاه جبريل، فقال: يا رسول الله ضع القبلة وأنت تنظر إلى الكعبة "، ثم قال بيده هكذا فانماط كل جبل بينه وبينها فوضع تربيع المسجد، وهو ينظر الى الكعبة لا يحول دون نظره شئ.
فلما فرغ قال جبريل بيده فأعاد الجبال والشجر والأشياء على حالها وصارت قبلته إلى الميزاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما وضعت قبلة مسجدي هذا حتى رفعت لي الكعبة فوضعتها أمامها " (3).
وقال الإمام مالك رحمه الله كما في العتبة: " سمعت أن جبريل هو الذي أقام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلة مسجد المدينة ".
وروى البخاري وأبو داود عن نافع، وأبو داود عن طريق ابن عطية، كلاهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت سواريه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جذوع النخل وأعلاه مظلل بجريد النخل، ثم أنها نخرت في خلافة أبي بكر فبناه بجذوع النخل وبجريد النخل، ولم يزد فيه، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه
في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عمده خشبا، ثم أنها نخرت في خلافة عثمان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عماده من حجارة
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير 1 / 163 وذكره الهيثمي في المجمع 9 / 76.
(2) أخرجه النسائي 6 / 234.
(3) ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (34834).
(*)(3/339)
منقوشة وسقفه بالساج.
زاد في العيون: ونقل إليه الحصباء من العقيق.
وأول من اتخذ فيه المقصورة مروان بن الحكم بناها بحجارة منقوشة (وجعل لها كوى)، ثم لم يحدث فيه شيئا إلى أن ولي الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد أبيه، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة يأمره بهدم المسجد وبنائه، وبعث إليه بمال وفسيفساء ورخام وثمانين صانعا من الروم والقبط من أهل الشام ومصر، فبناه وزاد فيه، وولى القيام بأمره والنفقة عليه صالح بن كيسان وذلك في سنة سبع وثمانين ويقال: من سنة ثمان وثمانين.
ولم يحدث فيه أحد من الخلفاء شيئا حتى استخلف المهدي.
قال محمد بن عمر: بعث المهدي عبد الملك بن شبيب الغساني ورجلا من ولد عمر بن عبد العزيز إلى المدينة لبناء مسجدها والزيادة فيه، وعليها يومئذ جعفر بن سليمان بن علي، فمكثا في عمله سنة، وزاد في مؤخرة مائة ذراع فصار طوله ثلاثمائة ذراع وعرضه مائتي ذراع.
وقال علي بن محمد المدائني: " ولى المهدي جعفر بن سليمان مكة والمدينة واليمامة فزاد في مكة ومسجد المدينة، وتم بناء مسجد المدينة في سنة اثنتين وستين مائة.
وكان المهدي أتى إلى المدينة في سنة ستين ومائة قبل الحج فأمر بقلع المقصورة وتسويتها مع المسجد، ويقال إن المأمون عمره أيضاه وزاد فيه.
والله أعلم.
ثم لم يزد فيه شيئا أحمد من الخلفاء بعد المأمون، ولم يعمروا إلا مواضع يسيرة، إلى أن
حصل الحريق (في المسجد النبوي) في أول شهر رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة أول الليل لدخول أبي بكر بن أوحد الفراش الحاصل الذي في الزواية الغربية لاستخراج قناديل لمنائر المسجد.
وترك الضوء الذي كان في يده على قفص من أقفاص القناديل وفيه مشاق فاشتعلت النار فيه وأعجزه إطفاؤها وعلقت ببسط وغيرها مما في الحاصل وتزايد الالتهاب حتى اتصلت بالسقف بسرعة (ثم دبت في السقوف) آخذه قبلة فأعجلت الناس عن إطفائها بعد أن نزل أمير المدينة واجتمع معه غالب أهلها، فلم يقدروا على قطعها، وما كان إلا أقل من القليل حتى استولى الحريق على جميع سقف المسجد الشريف وما احتوى من المنبر النبوي والأبواب والخزائن والمقاصير والصناديق ولم تبق خشبة واحدة، وكذا الكتب، وكسوة الحجرة الشريفة.
قال القطب القسطلاني: وكان عليها حينئذ إحدى عشرة ستارة، وأزالت النار تلك الزخارف التي لا ترضي، وشوهد من هذه النار صفة القهر والعظمة الإلهية مستولية على الشريف والمشروف.
وكان هذا الحريق عقب ظهور نار الحجاز المنذر بها من أرض المدينة، وحماية أهلها منها لما التجأوا إلى مسجدها، فانطفأت عند وصولها لحرمها.
قلت: وسيأتي بيان ذلك في المعجزات إن شاء الله تعالى.(3/340)
وربما خطر ببال العوام أن حبسها عنهم ببركة الجوار موجب لحبسها عنهم في الآخرة، مع اقتراف الأوزار، فاقتضى الحال البيان بلسان الحال الذي هو أفصح من لسان المقال.
والنار مطهرة لأدناس الذنوب وقد كان (ذلك) لاستيلاء الروافض حينئذ (على المسجد النبوي والمدينة) وكان القاضي والخطيب منهم، وأساؤوا الأدب كما بسط ذلك ابن حبير في رحلته، ولذ وجد عقب الحريق على جدران المسجد: لم يحترق حرم النبي صلى لريبة * يخشى عليه وما به من عار لكنها أيدي الروافض لامست * تلك الرسوم فطهرت بالنار ووجد أيضا:
قل للروافض بالمدينة ما بكم * لقيادكم للذم كل سفيه ما أصبح الحرم الشريف محرقا * إلا لسبكم الصحابة فيه ولم يسلم من الحريق سوى القبة التي أحدثها الناصر لدين الله لحفظ ذخائر الحرم، قال المؤرخون: وبقيت سواري المجسد قائمة كأنها جذوع النخل إذا هبت الرياح تتمايل، وذاب الرصاص من بعض الأساطين فسقطت ووقع السقف الذي كان على أعلى الحجرة الشريفة على سقف بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقعا جميعا في الحجرة الشريفة وعلى القبور المقدسة.
وفي صبيحة الجمعة عزلوا موضعا للصلاة وكتبوا بذلك للخليفة المستعصم بالله (أبي أحمد عبد الله) بن المستنصر بالله (في شهر رمضان)، فوصلت الآلات صحبة الصناع مع ركب العراق في الموسم وابتدئ بالعمارة أول سنة خمس وخمسين وستمائة، وقصدوا إزالة ما وقع من السقوف على القبور الشريفة، فلم يجسروا على ذلك.
واتفق رأي (صاحب المدينة يومئذ وهو) الأمير منيف بن شيحه (بن هاشم بن قاسم بن مهنئ الحسيني) مع رأي أكابر الحرم الشريف أن يطالع الإمام المستعصم بالله بذلك فيفعل ما يصل إليه أمره.
فأرسلوا بذلك فلم يصل جوابه لاشتغاله وأهل دولته بإزعاج التتار لهم واستيلائهم على أعمال بغداد في تلك السنة.
فتركوا الردم على حاله ولم ينزل أحد هناك.
زاد المجد اللغوي: ولم يجسر أحد على التعرض لهذه العظيمة التي دون مرامها تزل الأقدم ولا يتأنى من كل أحد بادئ بدئه الدخول فيه والإقدام.
ووصلت الآلات من صاحب اليمن (يومئذ وهو الملك) المظفر شمس الدين يوسف بن المنصور عمر بن رسول الله.
ثم عزل صاحب مصر، وتولى مكانه مملوك أبيه المظفر سيف الدين قطز المعزي واسمه الحقيقي محمود بن ممدود، وأمه أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، وأبوه ابن عمه، أسر عند غعلبة التتار، فبيع بدمشق، ثم (انتقل بالبيع إلى) مصر،(3/341)
وتملك في ثامن عشر ذي القعدة من سنة سبع (وخمسين وستمائة).
وفي شهر رمضان من
سنة ثمان أعز الله تعالى إلاسلام على يده بوقعه عين جالوت.
ثم قتل بعد الموقعة بهشر وهو داخل إلى القاهرة.
وكان العجل بالمسجد الشريف في تلك السنة من باب السلام إلى باب الرحمة (المعروف قديما بباب عاتكة) ومن باب جبريل إلى باب النساء، وتولى مصر آخر تلك السنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي البندقداري، فحصل منه اهتمام بأمر المسجد فجهز الأخشاب والحديد والرصاص، ومن الصناع ثلاثة وخمسين صانعا، وما يمونهم، وأنفق عليهم قبل سفرهم وأسل معهم الأمير جمال الدين محسن الصالحي وغيره، ثم صار يمدهم بما يحتاجون إليه من الآلات والنفقات.
فعمل في أيامه باقي سقف المسجد كما كان قبل الحريق سقفا فوق سقف إلا السقف الشمالي فإنه جعل سقفا واحدا.
ولم يزل المسجد على ذلك حتى جدد السقف الشرقي والسقف الغربي اللذان عن يمين صحن المسجد وشماله وذلك في سنتي خمس وست وسبعمائة في أوائل دولة الملك الناصر محمد بن قلاون الصالحي، فجعلا سقفا واحدا شبه السقف الشمالي (أي سقف الدكاك).
ثم في سنة تسع وعشرين وسبعمائة أمر الملك الناصر محمد المذكور بزيادة رواقين (في المسقف القبلي) متصلين بمؤخرة فاتسع مسقفة بهما وعم نفعهما.
ثم حصل في هذين الرواقين خلل فجددهما الملك الأشرف برسباي سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة من مال جوالي قبرص.
وجدد الأشرف أيضا شيئا من السقف الشامي (مما يلي المنارة السنجارية).
ثم حصل خلل في سقف الروضة الشريفة وغيرها من سقف المسجد في دولة الظاهر جقمق، فجدد ذلك في سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة، ثم جدد السلطان الملك الأشرف قايتباي كثيرا من سقف المسجد، ثم احترق المسجد النبوي ثانيا في الثلت الأخير من ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان، سنة ست وثمانين وثمانمائة، وذلك أن رئيس المؤذنين وصدر المدرسين شمس الدين محمد بن الخطيب قام يهلل حينئذ بالمنارة الشرقية اليمانية المعروفة بالرئيسية، وصعد المؤذنون بقية المنائر وقد تراكم الغيم وحصل رعد قاصف،
فسقط صاعقة أصاب بعضها هلال المنارة المذكورة فسقط شرقي المسجد لهب كالنار وانشق رأس المئذنة، وتوفي الريس لحينه صعفا.
وأصاب ما نزل من الصاعقة سقف المسجد الأعلى بين المنارة الرئسية وقبة الحجرة النبوية فثقبه ثقبا كالترس فعقلت النار فيه وفي السقف الأشفل، ففتحت أبواب المسجد ونودي بأن الحريق في المسجد.
فاجتمع أمير المدينة قسطل بن زهير الجمازي وأهلها بالمسجد الشريف، وصعد أهل(3/342)
النجدة منهم بالمياه لإطفاء النار وقد التهبت في الشقفين، وأخذت في جهة الشمال والغرب، فعجزوا عن إطفائها وكادت أن تدركهم فهربوا، وسقط بعضهم فهلك، ونجا بعضهم مع من حالت النار بينه وبين الأبواب إلى صحن المسجد.
وجملة من مات بسبب ذلك بضع عشرة نفسا.
وعظمت النار جدا حتى صارت كبحر لجي من نار، ولها زفير وشهيق، وألسن تصعد في الجو، وصارت ترمي بشرر كالقصر ويسقط بالبيوت المجاورة ومع ذلك فلا تؤثر فيها وحمل بعض خزائن الكتب والربعات والمصاحف غير ما بادروا بإخراجه وذلك كله في نحو عشرة أدراج فأصابها الشرر فأحرقها، وأخبر أمير المدينة قسطل الجمازي أن شخصا من العرب الصادقين رأى في المنام قبل ذلك أن السماء فيها جراد منتشر ثم أعقبته نار عظيمة، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم - النار وقال: " أمسكها عن أمتي ".
قال السيد: وأخبرني جماعة أنهم شاهدوا أشكال طيور بيعض تحوم حول النار كالذي يكفها عن بيوت الجيران، مع هرب كثير منهم لما رأوا تساقط الشرر، وخرج بعضهم من باب المدينة لعظم ما شاهدوه من الهول وظنوا أنهم قد أحيط بهم، ثم خمدت النار ثاني يوم وأرسلوا للسلطان قايتباي يعلمونه بذلك فاهتم بذلك رحمه الله تعالى الذي أهله لهذا الأمر وعمر المسجد الشريف والحجرة الشريفة العمارة المحكمة الموجودة في زماننا.
تنبيهات الأول: اختلف في اسم أبي اليتيمين اللذين كان المسجد لهما فقال (موسى بن عقبة:
هما ابنا رافع بن عمرو بن أبي عمرو)، وقال الزهري وابن إسحاق هما ابنا عمرو.
قال في العيون: إنه الأشهر.
وحاول السهيلي التوفيق بين القولين فقال: " هما ابنا رافع بن عمرو "، فعلى هذا نسبا إلى جدهما.
قال الحافظ: " والأرجح هو قول الزهري وابن إسحاق ".
الثاني: ذكر ابن إسحاق أنهما كانا في حجر معاذ بن عفراء، وقال أبو ذر الهروي أحد رواة الصحيح: أسعد بن زراة بإثبات الألف في أسعد.
قال الحافظ والسيد: " وهو الوجه ".
وقال ابن زبالة ويحيى إنهما كانا في حجر أبي أيوب وقد يجمع باشتراك من ذكر في كونهما في حجورهم، وبانتقال ذلك بعد أسعد بن زرارة إلى من ذكر واحدا بعد واحد، سيما وقد روى محمد بن الحسن المخزومي عن ابن أبي فديك قال: " سمعت بعض أهل العلم يقولون إن أسعد توفي قبل أن يبني رسول الله المسجد، فباعه رسول الله من سهل وسهيل ".
الثالث: في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى ملأ بني النجار بسبب موضع المسجد: فقال: " يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا "، فقالوا: " والله لا نطلب ثمنه إلا من الله ".
وفي رواية: " فدعا بالغلامين فساومهما بالمربد يتخذه مسجدا ".
ووقع في رواية ابن(3/343)
عيينة: " فكلم عمهما، أي الذي كانا في حجره، أن يبتاعه منهما "، فقال: " ما تصنع به " ؟ فلم يجد بدا من أن يصدقهما، فأخبرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراده، فقالا: " نحن نعطيه "، فأعطياه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبناه.
أخرجه الجندي.
وذكر ابن زبالة، ويحيى، أن أبا أيوب قال: يا رسول الله أنا أرضيهما، وذكر ابن عقبة أن أسعد عوضهما عنه نخلا، قال: وقيل: ابتاعه منهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وطريق الجمع بين ذلك كما أشار إليه الحافظ أنهم لما قالوا: " لا نطلب ثمنه إلا من الله " سأل عمن يختص بملكه منهم، فعينوا الغلامين، فابتاعه منهما أو من وليهما إن كانا غير بالغين، وحنيئذ فيحتمل أن الذين قالوا: " لا نطلب ثمنه إلا من الله تحملوا عنه للغلامين بالثمن، فقد نقل ابن عقبة أن أسعد بن زرارة عوض الغلامين عنه نخلا له في بياضة.
وتقدم أن أبا أيوب قال: أنا أرضيهما، فأرضاهما،
وكذلك معاذ بن عفراء، فيكون بعد الشراء.
ويحتمل أن كلا من أسعد، وأبي أيوب وابن عفراء أرضى اليتيمين بشئ فنسب ذلك لكل منهم.
وقد روى أن اليتيمين امتنعا من قبول عوض، فيحتمل ذلك على بدء الأمر، ولكن قال الواقدي: إنه صلى الله عليه وسلم اشتراه من بني عفراء بعشرة دنانير ذهبا دفعها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فلعله رغب في الخير، فدفع العشرة مع أولئك، أو أنه صلى الله عليه وسلم أخذ أولا بعض المربد في بنائه الأول سنة قدومه، ثم أخذ بعضا آخر لما سبق أنه بناه مرتين وزاد فيه فكان الثمن من مال أبي بكر في إحداهما ومن الآخرين في الأخرى.
الرابع: ذكر السيد أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: " تقتلك الفئة الباغية ".
كان في البناء الثاني، لأن البيهقي روى في الدلائل عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقال لأبيه عمرو: " قد قتلنا هذا الرجل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما قال ".
قال: " أي رجل " ؟ قال: " عمار بن ياسر، أما تذكر يوم بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وكنا نحمل لبنة لبنة، وعمار يحمل لبنتين لبنتين " ؟ فمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم (فقال " تحمل لبنيتن لبنيتن وأنت ترحض ؟ أما إنك ستقتلك الفئة الباغية، وأنت من أهل الجنة ".
فدخل عمرو بن العاص على معاوية: فقال: " قتلنا هذا الرجل، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال " فقال معاوية: " اسكت فوالله ما تزال تدحض (1) في بولك، أنحن قتلناه ؟ إنما قتله علي وأصحابه جاؤوا به حتى ألقوه بيننا.
قال السمهودي): " وهو يقتضي أن هذا القول لعمار كان في البناء الثاني للمسجد، لأن إسلام عمرو بن العاص كان في السنة الخامسة للهجرة.
".
__________
(1) تدحض: أي تزلق.
ويروى بالصاد: أي تبحث فيها برجلك، انظر النهاية 2 / 105.
(*)(3/344)
الخامس: في بيان غريب ما سبق: " المربد " (1) - بكسر الميم -: الموضع الذي يجعل فيه التمر.
" الملأ " - بفتح الميم واللام - أشراف الناس ورؤساؤهم ومقدموهم الذين يرجع إلى
قولهم.
" النجار ": بالنون والجيم.
" ثامنوني ": أي بايعوني وقاولوني.
" الحائط " هنا: البستان: وتقدم أنه كان مربدا فلعله كان أولا حائطا ثم خرب فصار مربدا، ويؤيده قوله: ليتخذ مسجدا.
" النوار ": بفتح النون وتشديد الواو بعد الألف راء.
" عايذ ": بالمثناة التحتية والذال المعجمة.
" الجدار " ككتاب: الحائط.
" الغرقد " (2) بالغين المعجمة والراء والقاف والدال المهملة: ضرب من شجر العضاه، واحده غرقدة.
" خرب " بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء وبالموحدة (جمع خربة وهي الموضع الخراب)، وفي لفظ بالحاء المهملة وسكون الراء والمثلثة: (حرث).
" العريش ": السقف وما يستظل به، وهو المراد هنا.
" ثمامات " (3): جمع ثمام بضم المثلثة: نبت ضعيف له خوص أو شبيه بالخوص، وربما حشي به أو سد به خصاص (4) البيوت الواحدة ثمامة.
" العضادتان ": تثنية عضادة - بكسر العين المهملة والضاد المعجمة وبعد الألف دال مهملة -: جانب الباب.
" طفق ": جعل.
" الحمال ": بكسر الحاء المهملة من الحمل، والذي يحمل من خيبر: التمر.
أي أن هذا
__________
(1) انظر اللسان 3 / 1556.
(2) انظر اللسان 5 / 3246.
(3) انظر الوسيط 1 / 101.
(4) الخص: بيت يعمل من الخشب والقصب، وجمعه خصاص، وأخصاص، سمي به لما فيه من الخصاص وهي الفرج والأنقاب.
انظر النهاية 2 / 37.
(*)(3/345)
في الآخرة أفضل من ذاك وأحمد عاقبة، كأنه جمع حمل أو حمل ويجوز أن يكون مصدر حمل أو حامل.
" خيبر ": يأتي الكلام عليها في غزوتها.
" أرديتهم ": جمع رداء.
" متنطعا " (1) - بميم مضمومة فمثناه فوقية فنون مفتوحتين فطاء مهملة مكسورة فعين مهملة: من تنطع إذا تعمق وتغالى وتأنق.
" الوفزة ": بواو مفتوحة ففاء فراء: الشعر المجتمع على الرأس، أو ما مال على الأذنين منه أو ما جاوز شحمة الأذنين ثم الجمة ثم اللمة.
" ويح ": كلمة ترحم وتوجع: يقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، وقد يقال: بمعنى المدح والتعجب، وهي منصوبة على المصدر.
" الحبحبة " (2): بحاءين مهملتين بعد كل موحدة وهي في الأصل جري الماء قليلا قليلا كالحبحب والحبحبة الضعف وسوق الإبل ومن النار اتقادها والبطيخ الشامي الذي يسميه أهل العراق الرقي والفرس تسميه الهندي.
" بالسميط ": أي على لبنة واحدة، والسميط من النعل: الطاق الواحد لا رقعة فيها.
" السواري ": جمع سارية وهي الاسطوانة.
" السعد ": ثلث اللبنة والسعيد كزبير ربعها.
" وكف ": سال ماؤه.
" الخصف ": بخاء معجمة فصاد مهملة مفتوحتين: المنسوج من الخوص.
" الشموس " - بفتح الشين المعجمة وضم الميم وبالواو والسين: (بنت النعمان بن
عامر بن مجمع) من الأنصار.
" الرحبة " - بالراء والحاء المهملة والموحدة المفتوحات، قال في الصحاح: رحبة المسجد بالتحريك ساحته والجمع رحب ورحبات ورحاب.
" الزوايا " جمع زاوية: الناحية.
__________
(1) التنطع في الكلام: التعمق فيه مأخوذ منه وفي الحديث " هلك المتنطعون " وتنطع في الكلام وتنطس إذا تأتق فيه وتعمق وتنطح في شهواته: تأتق.
اللسان 6 / 4461.
(2) الحجبة: الضعف، والحجاب: الصغير الجسم المتداخل العظام.
اللسان 2 / 747.
(*)(3/346)
" انماط " (1): بالنون والميم والطاء المهملة بعد الألف: أي تنحى.
" نخرت " (2) - بالنون المفتوحة والخاء المعجمة المسكورة والراء: يبست وتفتتت.
" المنقوشة " - بميم مفتوحة فنون فقاف فواو فشين معجمة: الملونة بلونين أو ألوان.
" الساج " - بسين مهملة وجيم مخففة: نوع من الشجر.
" القصة " - بفتح القاف وتشديد الصاد المهملة المفتوحة فتاء تأنيث: (الحجارة من الجص).
" الفسيفساء " (3) قال في النور: بضم الفاء الأولى وفتح السين المهملة فتحتية ساكنة ففاء مكسورة ثم سين مهملة أخرى ممدودة، هكذا سمع الناس ينطقون به وكذا رأيته محررا بخط كمال الدين بن العديم في تاريخه في غير موضع، وكذا رأيته مضبوطا بالقلم في مطالع ابن فرفود، وهو فصوص صغار من ألوان الزجاج تلصق بالحائط وتطلى بماء الذهب، وهي كثيرة بجامع دمشق وبيت المقدس (وهي غاية) في الحسن والبهجة.
__________
(1) من ماط ميطا: من باب تباعد ويتعدي بالهمزة والحرف فيقال أماطه غيره إماطة ومنه: إماطة الأذي عن الطريق وهي التنحية لأنها إبعاد.
المصباح المنير ص 587.
(2) انظر المفردات للراغب 486.
(3) انظر اللسان 5 / 3413.
(*)(3/347)
الباب الثالث في بنائه صلى الله عليه وسلم حجر نسائه رضي الله عنهن
قال في الروض: " كانت بيوته صلى الله عليه وسلم تسعة: بعضها من جريد مطين بالطين وسقفها من جريد، وبعضها من حجارة مرضومة بعضها فوق بعض، وسقفها من جريد أيضا ".
قال الحافظ الذهبي في " بلبل الروض ": " لم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم بني له تسعة أبيات حتى بنى المسجد ولا أحسبه فعل ذلك، إنما كان يريد بيتا واحدا لسودة أم المؤمنين رضي الله عنها، ولم يحتج إلى بيت آخر حتى بنى لعائشة رضي الله عنه في شوال سنة اثنتين، وكان صلى الله عليه وسلم بناها في أوقاف مختلفة ".
انتهى.
وتقدم في الباب الثاني أنه صلى الله عليه وسلم بني لزوجيه: سودة وعائشة رضي الله عنهما، على نعت بناء المسجد، لأن عائشة كانت زوجة حينئذ، وإن تأخر الدخول بها، ثم بنى بقية الحجر عند الحاجة إليها.
قال محمد بن عمر الأسلمي: " كانت لحارثة بن النعمان رضي الله عنه منازل قرب المسجد وحوله، وكلما أحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلا نزل له حارثة عن منزل، أي محل حجرة حتى صارت منازله كلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه ".
" قال محمد بن عمر: " حدثنا عبد الله بن يزيد الهذلي قال: رأيت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبد العزيز بأمر الوليد بن عبد الملك، كانت بيوتا من اللبن، ولها حجر من جريد مطرورة بالطين، عددت تسعة أبيات بحجرها، وهي ما بين بيت عائشة إلى الباب الذي يلي باب النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزل أسماء بنت حسن اليوم، قال: ورأيت بيت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وحجرتها من اللبن، فسألت ابن ابنها فقال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دومة الجندل بنت أم سلمة حجرتها بلبن.
فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى اللبن ودخل عليها أول نسائه فقال: " ما هذا البناء " ؟ فقالت: " أردت يا رسول الله أن
أكف أبصار الناس ".
فقال: يا أم سلمة إن شر ما ذهب فيه مال المسلم البنيان " (1).
قال محمد بن عمر: فحدثت بهذ الحديث معاذ بن محمد الأنصاري فقال: " سمعت عطاء الخراساني في مجلس فيه عمران بن أبي أنس يقول وهو فيما بين القبر الشريف والمنبر المنيف: أدركت حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (من جريد على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ، يأمرنا بهدم حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم)، فما رأيت يوما كان أكثر باكيا من ذلك اليوم.
قال عطاء: " فسمعت سعيد بن المسيب يقول يومئذ:
__________
(1) ذكره المتقي الهندي في الكنز (41521).
(*)(3/348)
" والله لوددت أنهم تركوها على حالها، ينشأ ناشئ من أهل المدينة ويقدم القادم من الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التفاخر والتكاثر " قال معاذ: " فلما فرغ عطاء الخراساني من حديثه قال عمران بن أبي أنس: كان فيها أربعة أبيات بلبن، لها حجر من جريد، وكانت خمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر لها، على أبوابها مسوح الشعر، ذرعت الساتر فوجدته ثلاثة أذرع في ذراع وعظم الذراع أو أدنى من العظم.
فأما ما ذكر من البكاء يومئذ فلقد رأيتني في المسجد وفيه نفر من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو أمامة بن سهل بن حنيف، وخارجة بن زيد بن ثابت (1)، وإنهم ليبكون حتى أخضلوا لحاهم من الدمع، وقال يومئذ أبو أمامة: " ليتها تركت فلم تهدم حتى يفصل الناس عن البناء ويروا ما رضي الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومفاتيح خزائن الدنيا بيده " وروى ابن سعد، والبخاري في الأدب، وابن أبي الدنيا، والبيهقي في الشعب عن الحسن البصري قال: " كنت وأنا مراهق أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان فأتناول سقفها بيدي " وروى البخاري في الأدب، وابن أبي الدنيا، والبيهقي عن داود بن قيس قال: " رأيت الحجر من جريد النخل تغشى من خارج بمسوح من الشعر، وأظن عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحوا من ست أو سبع أذرع، وأحرز البيت من الداخل عشر
أذرع، وأظن سمكه بين الثمان والسبع ".
وروى محمد بن الحسن المخزومي عن محمد بن هلال قال: " أدركت بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت من جريد مستورة بمسوح الشعر، مستطيرة في القبلة وفي المشرق وفي الشام، ليس في غربي المسجد منها شئ، وكان باب عائشة يواجه الشام وكان بمصراع واحد من عرعر أو ساج ".
وروى ابن منده عن بشر بن صحار العبدي قال: " كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأنال سقفها ".
وروى ابن سعد عن عمرو بن دينا، وعبيد الله بن أبي مرثد قالا: " لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على بيته من حائط، فكان أول من بنى عليه جدارا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ".
قال عبيد الله: " كان جداره قصيرا ثم بناه عبد الله بن الزبير ".
تنبيهان الأول: روى البخارفي في تاريخه وفي الأدب عن أنس رضي الله عنه، والبيهقي في المدخل عن المغيرة بن شعبة قال: " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعون بابه بالأظافير تأدبا
__________
(1) خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري أبو زيد أحد الفقهاء السبعة بالمدينة ثقة.
عن أبيه وأسامة بن زيد وأم العلاء.
وعنه الزهري وأبو الزناد.
قال ابن المديني: مات سنة مائة، وقيل: قبلها بسنة، قاله الفلاس، ولما بلغ عمر بن عبد العزيز موته ثال: ثلمة والله في الإسلام.
الخلاصة 1 / 273.
(*)(3/349)
وإجلالا، وقيل إن بابه لم يكن له حلق يطرق بها.
قال السهيلي: الأول أولى.
الثاني: في غريب ما سبق: " الرضم " (1) - بفتح الراء والضاد المعجمة وتسكن -: حجارة مجتمعة بعضها فوق بعض، الواحدة رضمة.
" بنى " بفلانة: دخل عليها وقال ابن السكيت زفت إليه، وأصله أن الرجل إذا تزوج بنى للعروس بيتا وجهزه بما يجتاج إليه، أو بني له تكريما ثم كثر حتى كفي به عن الجماع.
" الحجر ": غرف البيوت.
المسوح ": جمع مسح وهو البلاس.
" مستطيرة " في القبلة: أي منتشرة.
" المصراع " من الباب: الشطر، وهما مصراعان.
" العرعر " بفتح العينين وبالرائين المهملتين - قال في الصحاح شجر السرو.
" الساج " بالسين المهملة والجيم: ضرب من الخسب، عظيم من الشجر، يجلب من الهند، وجمعها ساجات.
قال الزمخشري: الساج خشب أسود رزين يجلب من الهند ولا تكاد الأرض تبليه، والجمع سيجان مثل نار ونيران.
" مطرورة " (2) بالطين - بالطاء المهملة المشالة -: أي مطينة به.
" دومة الجندل " دومة - بضم الدال المهملة، والجندل بالجيم والنون والدال المهملة (حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبلي طيئ على سبع مراحل من دمشق).
" الأفق " بضمتين: الناحية.
" ينشأ ": يحدث ويتجدد.
" أخضل " لحيته، بخاء فضاد معجمتين: بلها.
" مراهق ": مقارب الاحتلام.
" أنال ": أدرك وأبلغ.
" المغشى ": المغطى المستور.
__________
(1) انظر اللسان 3 / 1663.
(2) انظر اللسان 4 / 2654.
(*)(3/350)
الباب الرابع في بدء الأذان وبعض ما وقع فيه من الآيات
روى الشيخان والترمذي والنسائي عن ابن عمر، وابن إسحاق، وإسحاق بن راهويه، وأبو داود بسند صحيح صححه النووي عن محمد بن عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه، عن أبيه، وأبو داود بسند صحيح عن ابن عمر عن أنس بن مالك عن عمومة له من الأنصار رضي الله عنهم، وإسحاق بن راهويه عن الشعبي مرسلا بسند حسن، وعبد الرزاق وأبو داود عن عبيد ابن عمير أحد كبار التابعين، وابن أبي شيبة، وأبو داود، وابن خزيمة، وأبو الشيخ، والدارقطني، والبيهقي، والطحاوي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: " حدثنا أصحابنا - ولفظ ابن أبي شيبة وابن خزيمة والطحاوي والبيهقي: حدثنا، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة إنما كان يجمع للصلاة حين مواقيتها بغير دعوة، فلما كثر الناس اهتم النبي صلى الله عليه وسلم كيف يجمع الناس للصلاة ؟ فاستشار الناس، فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة إذا رأوها أعلم بعضهم بعضا، وذكره له القنع (1) يعني شبور (2) اليهود، وفي لفظ: البوق، وفي لفظ: القرن الذي يدعون به لصلاتهم، فلم يعجبه ذلك وقال: " هو من أمر اليهود "، فذكر له الناقوس فقال: " هو من أمر النصارى "، فقالوا: لو رفعنا نارا، فقال: " ذلك للمجوس " (3).
وفي حديث عمر عند الشيخين وغيرها: فقال عمر: " أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة " ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بلال قم فناد بالصلاة ".
فانصرف عبد الله بن زيد، وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأري الأذان في منامه.
قال: طاف بي وأنا نائم رجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده فقلت له: يا عبد الله أتبيع هذا الناقوس ؟ قال: وما تصنع به ؟ قال: قلت: ندعو به إلى الصلاة.
قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك ؟ قلت: بلى.
فقال:
__________
(1) قال ابن الأثير في النهاية في حديث الأذان " أنه اهتم للصلاة " كيف يجمع لها الناس، فذكر اله القنع فلم يعجبه ذلك " فسر في الحديث أنه الشبور، وهو البوق هذه اللفظة قد اختلف في ضبطها، فرويت بالباء والتاء، والثاء والنون، وأشهرها وأكثرها النون، قال الخطابي: سألت عنه غير واحد من أهل اللغة فلم يثبتوه لي على شئ واحد، فإن كانت الرواية بالنون صحيحة فلا أراه سمي إلا لإقناع الصوت به،، وهو رفعه.
يقال: أقنع الرجل صوته ورأسه إذا رفعه.
ومن يريد أن ينفخ في البوق يرفع رأسه وصوته...قال الزمخشري: " أو لأن أطرافه أقنعت إلى داخله: أي عطفت " وقال الخطابي: وأما " القبع " بالباء المفتوحة فلا أحسبه سمي به إلا لأنه يقبع فم صاحبه: أي يستره، أو من قبعت الجوالق والجراب: إذا
ثنيت أطرافه إلى داخل.
قال الهروي: وحكاه بعض أهل العلم عن أبي عمر الزاهد: " الفتح " بالثاء قال: وهو البوق فعرضته على الأزهري فقال: هذا باطل، وقال الخطابي: سمعت أبا عمر الزاهد يقوله بالثاء المثلثة، ولم أسمعه من غيره.
ويجوز أن يكون من: فتح في الأرض فتوحا إذا ذهب، فسمي به لذهاب الصوت منه، قال الخطابي: وقد روى " القتع " بتاء بنقطتين من فوق، وهو دود يكون في الخشب الواحدة: قتعة.
قال: مداد هذا الحرف على هيثم، وكان كثير اللحن والتحريف، على جلاله محلة في الحديث، النهاية 4 / 115 - 116.
(2) الشبور: هو البوق، وقال ابن الأثير: اللفظة عبدانية.
انظر النهاية 2 / 440.
(3) ذكره المتقي الهندي في الكنز (23153).
(*)(3/351)
تقول: " الله أكبر، الله أكبر - وفي لفظ الشعبي: إيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فمره أن يقول: - الله أكبر، الله أكبر - أشهد ألا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمد رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله " - وفي رواية إسحاق بن راهوية: فقام على جذم حائط (1)، وفي رواية: فقام على المسجد فأذن - قال: ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: تقول إذا أقيمت الصلاة: الله اكبر، الله أكبر، أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله ".
وفي رواية: " فأذن ثم قعد قعده، ثم قام فقال مثلها إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة، فلما أصبحت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت، ولولا أن يقول الناس، لقلت إني كنت يقظانا غير نائم ".
وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه عند ابن ماجه أن عبد الله بن زيد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا.
وفي حديثه أيضا عند ابن سعد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يجعل شيئا يجمع به الناس للصلاة فذكر عنده البوق وأهله فكرهه، وذكر الناقوس، وأهله فكرهه، حتى أري رجل من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد الأذان، وأريه عمر بن الخطاب تلك الليلة فأما عمر رضي الله عنه فقال: إذا أصبحت أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الأنصاري فطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا
فأخبره.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى " (2).
وفي رواية: " لقد أراك الله خيرا، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت ".
وفي رواية " فمر بلالا فليؤذن فإنه أندى منك صوتا " فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به.
فسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فخرج يجر رداءه وهو يقول: " والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل الذي رأى ".
وفي حديث أبي عمير بن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان رآه فكتمه عشرين يوما.
وفي حديث عبيد بن عمير: " فبينما عمر بن الخطاب يريد أن يشتري خشبتين للناقوس إذ رأى في المنام: " لا تجعلوا الناقوس بل أذنوا "، فذهب عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالذي رأى، وقد جاء الوحي فما راع عمر إلا بلال يؤذن.
قال عبد الله بن زيد: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: " ما منعك أن تخبرني " ؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلله الحمد فذلك ثبت " (3).
قال الزهري، ونافع بن جبير، وابن المسيب: وبقي
__________
(1) جذم حائط: أي بقية حائط أو قطعة من حائط.
انظر النهاية 1 / 252.
(2) أخرجه أبو داود (499) وأحمد في المسند 4 / 34 والبيهقي في السنن 1 / 399 وابن حبان (287) والدارمي 1 / 269 وابن ماجه (706).
(3) أخرجه أبو داود (498) وذكره المتقي الهندي في الكنز (23145).
(*)(3/352)
ينادي في الناس: " الصلاة جامعة ".
للأمر يحدث فيحضرون له يخبرون به وإن كان في غير وقت صلاة.
وروى ابن ماجه عن شيخه أبي عبيد محمد بن عبيد، بن ميمون المدني قال: أخبرني أبو بكر الحكمي أن عبد الله بن زيد قال في ذلك شعرا أحمد الله ذا الجلال والإ * كرام حمدا على الأذان كثيرا إذ أتاني به البشير من الل * - ه فأكرم به لدي بشيرا في ليال والى بهن ثلاث * كلما جاء زادني توقيرا قال الحافظ ابن كثير: " وهذا الشعر غريب، وهو يقتضي أنه رأى ذلك ثلاث ليال حتى
أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: سنده مقطع وأبو بكر الحكمي مجهول.
وروى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان رجل من اليهود تاجرا إذا سمع المنادي ينادي بالأذان قال: " أحرق الله الكاذب ".
فبينما هو كذلك إذ دخلت جارية بشعلة من نار فطارت شرارة منها في البيت فأحرقته.
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي قال: " كان رجل من النصارى إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمدا رسول الله قال: أحرق الله الكاذب، فدخلت خادمة ذات ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام فأحرقت البيت واحتراق هو وأهله ".
وروى مسلم عن سهيل بن أبي صالح قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة ومعي غلام لنا (أو صاحب لنا) فناداه مناد من حائط باسمه، فأشرف (الذي معي) على الحائط، فلم ير شيئا، فذكرت ذلك لأبي، فقال: " لو شعرت أنك تلقى هذا لم أرسلك ولكن) إذا سمعت صوتا فناد بالصلاة فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الشيطان إذا نودي بالصلاة ولى وله حصاص " (1).
وروى البيهقي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: " أذا تغولت لأحدكم الغيلان فليؤذن فإن ذلك لا يضره ".
وروى البيهقي عن الحسن أن عمر بعث رجلا إلى سعد بن أبي وقاص، فلما كان ببعض الطريق عرضت له الغول، فأخبر سعدا فقال: " أنا كنا نؤمر إذا تغولت لنا الغول أن ننادي بالأذان ".
فلما رجع إلى عمر عرض له أن يسير معه، فنادى بالأذان، فذهب عنه، فإذا سكت عرض له، فإذا أذن ذهب عنه.
تنبيهات الأول: الأذان لغة: الإعلام: قال الله تعالى: (وأذان من الله ورسوله) (التوبة: 3)
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (16) وأحمد في المسند 2 / 483 والبيهقي في الدلائل 7 / 103 والحاكم 4 / 119 وابن خزيمة (393).
(*)(3/353)
واشتقاقه من الأذن بفتحتين وهو الاستماع، وشرعا: الإعلام بوقت الصلاة المفروضة بألفاظ
مخصوصة.
الثاني: في بعض أسرار الأذان وبدائعه، قال القاضي: " الأذان كلمة جامعة لعقيدة الإيمان مشتملة على نوعيه من العقليات والسمعيات، فأوله إثبات الذات، وما يستحقه من الكمال والتنزيه عن أضدادها، وذلك بقوله: " الله أكبر "، وهذه اللفظة مع اختصارها دالة على ما ذكرناه، ثم صرح بإثبات الوحدانية ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه سبحانه وتعالى، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد المقدمة على كل وظائف الدين ثم صرح بإثبات النبوة والشهادة بالرسالة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية، وموضعها بعد التوحيد لانها من باب الأفعال الجائزة الوقوع، وتلك المقدمات من باب الواجبات، وبعد هذه القواعد كملت العقائد فيما يجب ويستحيل ويجوز في حقه سبحانه وتعالى.
ثم دعاهم إلى ما دعاهم الله إليه من العبادات، فدعاهم إلى الصلاة، وعقبها بعد إثبات النبوة لأن معرفة وجوبها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لا من جهة العقل.
ثم دعا إلى الفلاح، وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء، وهي آخر تراجم عقائد الإسلام.
ثم كرر ذلك بإقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها، وهو متضمن لتأكيد الإيمان، وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان، وليدخل المصلي فيا على بينة من أمره وبصيرة بإيمانه، ويستشعر عظيم ما دخل فيه وعظمه حق من يعبده وجزيل ثوابه ".
انتهى كلام القاضي.
قال النووي: " وهو من النفائس الجليلة " وبالله التوفيق.
قلت: قد ألف الإمام الحافظ برهان الدين البقاعي (1) رحمه الله جزءا لطيفا في أسرار الأذان سماه " الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان ".
وأنا مورد هنا ما ذكره في الأذن ليستفاد فإنه نفيس جدا.
قال رحمه الله بعد أن أورد أحاديث بعض الأذان والتشهد: " مقصوده - أي الأذان - الإعلام بأوقات الصلاة تنبيها على أن الدين قد ظهر، وانتشر علم لوائه في الخافقين واشتهر، وسار في الآفاق على الرؤوس فبهر، وأذل الجبابرة وقهر وأعلم أنه لما كان الدين المحمدي
دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا غيره، قد علا كل دين، فظهره كل مخالف
__________
(1) إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي، أبو الحسن برهان الدين: مؤرخ أديب، أصله من البقاع في سورية، وسكن دمشق ورحل إلى بيت المقدس والقاهرة، وتوفي بدمشق، له " عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران "، و " عنوان العنوان " مختصر عنوان الزمان، و " أسواق الأشواق " اختصر به مصارع العشاق، و " الباحة في علمي الحساب والمساحة " و " أخبار الجلاد في فتح البلاد " و " نظم الدرر في تناسب الآيات والسور " و " بذل النصح والشفقة للتعريف بصحبة ورقة " وله ديوان شعر سماه " إشعار الواعي بأشعار البقاعي ".
توفي 885 ه.
الأعلام 1 / 56.
(*)(3/354)
وخففت راياته بعد أن كانت ملوية، وبعتاة أهل الأباطيل مطوية.
وقد كان الشرك منذ أزمان في غاية الظهور، والباطل هو المعمول به والمشهور، فناسب أن يصرح بأذانه، ويشدى به على غاية إعلانه، ولما كانوا يشركون به سبحانه، ويتعبدونه بسواه، كان نسب الأمور البدائة بالتنبيه على تفرده بالكبرياء، وتوحده بالعلاء، فقال بادئا بالاسم الأعظم، الدال على الذات، المستجمع لجميع الكمالات: " الله " أي الملك الذي لا كف ء له ولا سمي، ولا ضد ولا نظير، وأتى بالخبر نكرة ليدل على إسناده إليه على الإطلاق، وأنه لا خفاء في انفراده بذلك، فقال: " أكبر " ولم يذكر متعلقا، ذهابا بالتعميم إلى أعلى الغايات وأنهى النهايات ولما كان قد طال ما قرر الشرك في الأذهان، وصال به أهل الطغيان، اقتضى الحال تأكيد ذلك، ولأجل هذا ثنى التكبير في الإقامة مع أنها فرادى.
" ولما كان المراد من جميع كلمات الأذان مجرد الإعلام بالوقت وبهذه المقاصد المراد بها نسخ ما عداه، قال مؤكدا من غير عطف لشئ من الجمل: " الله أكبر ".
ولما كان الحال من جميع الأكوان شديد الاقتضاء، لم يذكر التأكيد لتطاول أزمان الشرك قال ملذذا لأسماع الموجودات، ومرويا لعطاش أكباد الكائنات: " الله أكبر "، ولما تم تقرير ذلك في الأذهان، وعلم علما تاما أن التوحيد قد علا، وقهر جميع الأديان، ارتقب كل سامع ما يقال بعده، فقال مبتدئا دورا جديدا من هذا الإعلام لمزيد التقرير عند جميع الأنام: " الله أكبر ".
" فلما علم أن ذلك إلى غير نهاية، ولا حد تقف عنده كل غاية، قال مترجما لما أنتجه، ملقنا لكل سامع ما وجب عليه من الجواب، مسرا بذلك بعض الأسرار، إعلاما بما كان من حال هذا الدين في أول الأمر، برهانا على حسن هذا التأكيد: " أشهد " أي أعلم علما قطعيا أني في مريد بصري كالناظر إلي محسوس هو في غاية الجلاء: " ألا إله إلا الله ".
ولما كان المقام كما مضى شديد الاقتضاء للتأكيد قال ثانيا: " أشهد ألا إله إلا الله ".
" فلما أخذ المقام حظه من التأكيد، ولم يحتج إلى مزيد، فتلقى ذلك بالقبول العبيد، فثبتت رسالة الذي أتى بهذا الدين، وجاهد به الجاحدين، حتى قهرهم وحده صاغرين أجمعين، قال على طريق النتائج المسلمة: " أشهد أن محمدا " - ذاكرا أشهر أسمائه وأطيبها وأظهرها - " رسول الله "، مخصصا وصف الرسالة الذي هو بين الحق والخلق، لأن المقام داع إليه، ومقصور عليه، ثم أتبع ذلك ما اقتضاه الحال من تأكيده في تعظيمه وتمجيده فقال: " أشهد أن محمدا رسول الله ".
فلما أخذا المقام حظه من التأكيد للإعلام، بما كان فيه للإسلام من الشدائد والآلام، أتبعه ما اقتضاه الحال، من رفع الصوت بهذا المقال مشيرا مع ذلك إلى أن باطن الدين وظاهره سواء.
ليس فيه حقيقة تخالف شريعة، وخاصة أن المتشرع به يجب(3/355)
عليه أن يكون مثل الشرع، ظاهره وباطنه سواء، لا نفاق فيه بوجه أصلا، فقال: " أشهد ألا إله إلا الله ".
" فلما استقر في الأذهان سر هذا الإعلان، أتبعه ما اقتضى الحال من الشهادة للآتي بهذا الدين من صدق المقال، في دعوى الإرسال، فقال: " أشهد أن محمد رسول الله "، ثم أكده كما مضى فقال: " أشهد أن محمدا رسول الله ".
ولما ثبت ذلك، وانجلت دياجير تلك الأمور الحوالك، فتيسر السلوك لكل سالك، في أشرف المسالك، قال ذاكرا لما آثرته الرسالة من الخلاص من أشراك الضلالة، والرد على طرقها الميالة، وأوديتها المغتالة: " حي على " - أي هلموا أقبلوا جهارا غير خائفين من أحد - إلى " الصلاة "، بادئا بما هو نهاية الدين، الجامع
لشمله، المميز لأهله.
" ولما كان الناظر لذلك الحال، يستدعي عجبا من الوصول إلى هذا المآل، قال مؤكدا: " حي على الصلاة ".
فلما تقرر ذلك كان كأنه قيل: هل من عمل غيرها ؟ فقال: " حي على الفلاح "، فكان ذلك، مع أنه دعاء إلى كل عمل يوجب الفوز والظفر بكل مراد مؤكدا للدعاء إلى الصلاة على أبلغ وجه.
" ولا شك أنه أحسن مما ورد في بعض الآثار الموقوفة في الموطأ، رواية محمد بن الحسن، وجاء مع عبد الرزاق عن ابن عمر رضي الله عنهما، وصرح الحفاظ بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " حي على خير العمل "، لأنه مع كونه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد صار شعار الروافض لا يشمل جميع الأعمال الصالحة، وكان الوارد في الصحيح أبلغ من وجهين: من جهة أنه شامل لكل خير، ومن جهة التعبير عنذلك باللازم الذي هو الغاية المترتبة على العمل تحبيبا فيه، وتشويقا إليه، مع أنه كان يقوله بعد: حي على الفلاح ".
" ولما كان تطاول الصولة بالإذلال والقهر، موجبا لاستبعاد الإقبال على كل عمل من أعمال الشرع على سبيل القهر، أكد هذا الكلام الداعي إلى كل خير لهذا وللإشارة إلى أنه لحسنه جدير " بالتأكيد، وأهل لأن يعرف بمقدار لجلالة آثاره، فقال: " حي على الفلاح "، وفيه إشارة إلى أن الأمر خطير، والطريق صعب، فلا بد من التأهب له بأعظم الزاد، لتحصل الراحة في المآل والمعاد.
" ولما كان المدعو قد يكون نائما، وكان النوم قد يكون خيرا، إما بأن يكون القصد به راحة البدن للتقوي على الطاعة، أو أن يكون للتخلي عن المعصية، وكان أكثر ما يكون ذلك في آخر الليل، كان التثويب خاصا بأذن الصبح، فقال فيه: " الصلاة " - التي هي أعظم الفلاح، ومن أعظم مقاصد هذا الأذان الإعلام بوقتها والدعاء إليها - " خير من النوم ".
ولما كان من يغلبه(3/356)
النوم محتاجا إلى الإزعاج، أكد ذلك بالتكرير، فقال: " الصلاة خير من النوم ".
ولما كان للصبح
أذانان كان التثويب ربما كان في الأول، فكان دعاء إلى قيام الليل الذي شرع له ذلك الأذان، كما بين سره في بعض الروايات في قوله: " ليرجع قائمكم وينبه نائمكم ".
وربما كان في الثاني، فكان دعاء إلى فرض الصبح، وهو بالأول أنسب، لأن الفرض له حاث يحث عليه، وداع ملح يدعو إليه، وهو الوجوب الذي من أخل به عوقب، ومن جاوز حده ليم وعذب.
" ولما تم الدين بجملته، وكمل أصلا وفرعا، قوله ونية وعملا، برمته، علل الدعاء إليه مرغبا مرهبا، بقوله، مذكرا بما بدأ الأمر به، لاستحضار عظمته التي أظهر بها الدين، وأذل بها المعتدين، بعد أن كانوا على ثقة من أنه لا غالب لهم، " الله أكبر "، ثم أكد بمسيس الحاجة إلى ذلك في الترغيب والترهيب، فقال: " الله أكبر ".
فلما تم الأمر، وجلا التشويق والزجر، لم تدع حاجة إلى تربيع التكبير هنا كما كان في الأول، فختم بما بدأ به من التوحيد إعلاما بأنه لا يقبل شئ من الدين إلا به مقارنا له من ابتدائه إلى انتهائه، فقال: " لا إله إلا الله ".
" ولما كان قد وصل إلى حد لا مزيد عليه، لم يحتج إلى تأكيد، حتى ولا بلفظ الشهادة إعلاما بأنه ليس وراء هذا إلا السيف لو توقف عنه، أو ما عاند فيه.
ولما كان من أجل ما يراد بالأذان - كما مضى - الإعلام بظهور الإسلام على جميع الأديان، وأنه قد أورق عوده، وزكا وجوده، وثبت عموده، وعز أنصاره وجنوده، جاء على سبيل التعديد، والتقرير والتأكيد، من غير عاطف ولا لافت عن هذا المراد ولا صارف تنبيها على أن كل جملة منه ركن برأسه، متسقل بذلك بنفسه، معرب عما هو المراد من الإظهار بالتعداد.
" هذا ما شرحه الله تعالى لعباده من الأذان في حال النوم واليقظة، في الليل والنهار، على وفاء لا مزيد عليه، كما صرح به في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم رب هذه الدعوة التامة، فمن زاد حرفا فما فقد أساء وتعدى وظلم ".
ومن الواضح البين أن المعنى في إجابة السامع لألفاظه بها الإيذان باعتقاده، والإذعان لمراده، وأنه تخصيص الجواب في الدعاء إلى الصلاة والفلاح، بالحوقلة، والمراد بها سؤال المعونة على تلك الأفعال الكرام بالتبرؤ من القدرة على شئ بغير تقدير الله، ردا للأمر إلى أهله، وأخذا له من معدنه وأصله، والإقامة
فرادى، لأنه لما ثبت بالأذان أمر الوحدانية والرسالة، وعلم المدعو ما نسب إليه، صار الأمر غنيا عن التأكيد، فلم يحتج إلى غير الإعلام بالقيام إلى ما قد دعي إليه، وأعلم بوقته، وأكد التكبير بما ذكر في الأذان نوع تأكيد لما تقدم من مزيد الاهتمام والإقامة لإسراع من عنده بعض عقلة أو توان ".
انتهى الثالث: اختلف في السنة التي فيها شرع (الأذان).
قال الحافظ: " والراجح أنه كان في السنة الأولى، وقيل: بل في الثانية ".
الرابع قول ابن عمر: فقال عمر: " أو لا تبعثون رجلا منكم ينادي بالصلاة ".
فقال(3/357)
رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا بلال قم فناد بالصلاة ".
قال النووي: هذا الدعاء دعاء إلى الصلاة غير الأذان وكان قد شرع قبل الأذان.
قال الحافظ: والظاهر أن إشارة عمر بإرسال رجل ينادي بالصلاة كان عقب المشاورة فيما يفعلونه، وأن رؤيا عبد الله بن زيد كانت بعد ذلك.
وكان اللفظ الذي ينادي به بلال هو " الصلاة جامعة "، كما رواه ابن سعد، وسعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب مرسلا.
وقد وقع للقاضي أبي بكر العربي هنا كلام غير محرر طعن فيه في صحة حديث ابن عمر الثابت في الصحيح " وقد بسط الحافظ الكلام على رده.
الخامس: روى الطبراني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه رأى الأذان، وسنده واه، ووقع في الوسيط للغزالي أنه رآه بضعة عشر رجلا.
وعبارة الجيلي في شرح التنبية: أربعة عشر رجلا وأنكره ابن الصلاح (1) (فقال: لم أجد هذا بعد إمعان البحث) ثم النووي (في تنقيحه فقال: هذا ليس بثابت ولا معروف وإنما الثابت خروج عمر يجر رداءه)، ونقل مغلطاي عن بعض كتب الفقهاء أنه رآه سبعة عشر رجلا من الأنصار، قال الحافظ: " الحق أنه لا يثبت شئ من ذلك إلا لعبد الله بن زيد، وقصة عمر جاءت في بعض الطرق ".
وروى الحافظ ابن أبي أسامة عن كثير بن مرة (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أول من أذن بالصلاة جبريل في السماء فسمعه عمر وبلال، فسبق عمر بلالا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء
بلال، فقال: " سبقك بها عمر " (3).
وسنده / واه جدا، في سنده سعيد بن سنان (4)، قال الذهبي في المغني: " متروك متهم ".
السادس: وردت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة، منها للطبراني عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: " لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم أوحى الله تعالى إليه:
__________
(1) عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر، الإمام العلامة مفتي الإسلام، تقي الدين، أبو عمرو بن الإمام البارع صلاح الدين أبي القاسم، النصري - نسبة إلى جده أبي نصر - الكردي - الشهرزوري الأصل، الموصلي المربا، الدمشقي الدار والوفاة.
ولد سنة سبع وسبعين وخمسمائة بشهرزور، وتفقه على والده، قال ابن خلكان: كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه، وقال ابن الحاجب: إمام ورع، وافر العقل، حسن السمت، متبحر في الاصول والفروع، ويحكى عنه أنه قال: ما فعلت صغيرة في عمري.
ومن تصانيفه: مشكل الوسيط في مجلد كبير وكتاب الفتاوى كثير الفائدة، وعلوم الحديث، وكتاب أدب المفتي والمستفتي، توفي بدمشق في حصار الخوارزمية في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
الطبقات لابن قاضي شهبة 2 / 113، 114، 115، وطبقات الشافعية للسبكي 5 / 137، ووفيات الأعيان 2 / 408 والطبقات لابن هداية الله ص 84 والبداية والنهاية 13 / 168.
(2) كثير بن مرة الحضرمي أبو القاسم الرهاوي ثم الحمصي تابعي.
عن عمر ومعاذ وعنه خالد بن معدان ويزيد بن أبي حبيب.
وثقه العجلي.
قال أبو مسهر: مات في خلافة عبد الملك.
(3) انظر فتح الباري 2 / 78.
(4) سعيد بن سنان البرجي الشيباني أبو سنان الكوفي الأصغر نزيل قزوين.
عن طاووس والضحاك.
وعنه الثوري.
وثقه ابن معين وأبو حاتم.
قيل: مات قبل الستين ومائة، الخلاصة 1 / 318.
(*)(3/358)
بالأذان، فنزل به، فعلمه بلالا، وفي سنده، طلحة بن زيد الرقي هالك.
قال الحافظ أبو الفرج بن رجب: هذا حديث موضوع بهذا الإسناد بغير شك، قلت: وبغيره أيضا.
ولابن شاهين عن علي بن أبي طالب: " علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأذان ليلة أسري به وفرضت عليه الصلاة "، وفي سنده حصين بن مخارق، وهو وضاع.
وللدارقطني في الأفراد، وعن أنس رضي الله عنه
" أن جبريل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأذان حين فرضت الصلاة "، وسنده ضعيف.
ولابن مردويه من حديث عائشة رضي الله عنها، مرفوعا: " لما أسري بي أذن جبريل، فظنت الملائكة أنه يصلي بهم، فقدمني فصليت "، وفي سنده من لا يعرف.
وقال الذهبي في مختصر الإمام، أصل الإلمام لابن دقيق العيد (1): " هذا حديث منكر بل موضوع ".
وللبزار وغيره من حديث قال: " لما أراد الله عز وجل أن يعلم رسوله الأذان أتاه جبريل بدابة يقال لها البراق فركبها (حتى أتى الحجاب الذي يلي الرحمن، فبينما هو كذلك إذ خرج ملك من الحجاب، فقال: جبريل من هذا ؟ قال: والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا وأن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتي هذه فقال الملك: الله أكبر، الله أكبر، فقيل من وراء الحجاب: صدق عبدي، أنا أكبر، أنا أكبر)، فذكر بقية الأذان، وفي آخره: " ثم أخذ الملك بيده فأم أهل السماء.." وفي إسناده زياد بن المنذر (2) وهو متروك أيضا.
وقال ابن معين (3): عدو الله كذاب.
وقال الذهبي: " هذا من وضعه ".
وقال ابن كثير: " هذا الحديث الذي زعم السهيلي أنه صحيح هو منكر، تفرد به زياد بن المنذر الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية من الرافضة وهو
__________
(1) محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري، الشيخ الإمام، شيخ الإسلام تقي الدين أبو الفتح بن الشيخ القدوة العالم مجد الدين المنفلوطي المصري ابن دقيق العيد.
ولد في شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة، وكان والده مالكى المذهب ثم تفقه على الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فحقق المذهبين وقال ابن كثير في طبقاته: أحد علماء وقته، بل أجلهم، وأكثرهم علما ودينا، وورعا وتقشقا، ومداومة على العلم في ليله ونهاره، مع كبر السن والشغل بالحكم، وله التصانيف المشهورة والعلوم المذكورة، برع في علوم كثيرة لا سيما في علم الحديث، فاق فيه على أقرانه وبرز على أهل زمانه، رحلت إليه الطلبة من الآفاق ووقع على عمله وورعه وزهده الاتفاق، ومن تصانيفه الإلمام في الحديث، وتوفي ولم يبيضه، وكتاب الإمام - بهمزة مكسورة بعدها ميم - شرح الإلمام، الكتاب الكبير العظيم الشأن.
توفي في صفر سنة اثنتين وسبعمائة، ودقيق العيد لقبد لجده وهب.
الطبقات لابن قاضي شهبة 2 / 229، 230، 231، والطبقات للإسنوي ص 336، والطبقات للسبكي 6 / 2، وفوات الوفيات 2 / 244.
(2) زياد بن المنذر الهمداني.
وقيل: الثقفي، ويقال: النهدي، أبو الجارود الكوفي الأعمى.
عن أبي بردة، والحسن، وعنه
مروان بن معاوية، ومحمد بن سنان العوقي، وعدة.
قال ابن معين: كذاب.
وقال النسائي وغيره: متروك، وقال ابن حبان: كان رافضيا يضع الحديث في الفضائل والمثالب.
وقال الدارقطني: إنما هو منذر بن زياد.
متروك.
وقال غيره: إليه ينسب الجارودية ويقولون: إن عليا أفضل الصحابة وتبرؤوا من أبي بكر وعمر، وزعموا أن الإمامة مقصورة على ولد فاطمة.
وبعضهم يرى الرجعة ويبيح المتعة.
ميزان الاعتدال 2 / 93.
(3) يحيى بن معين بن عون الغطفاني أبو زكريا البغدادي الحافظ الإمام العلم.
قال أحمد: كل حديث لا يعرفه يحيى فليس بحديث.
قال ابن أبي خيثمة: مات بالمدينة سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وحمل على أعواد النبي صلى الله عليه وسلم ونودي بين يديه هذا الذي يذب الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الخلاصة 3 / 161.
(*)(3/359)
من المتهمين، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم سمعه ليلة الإسراء لأمر به بعد الهجرة ".
ولابن شاهين من طريق زياد المذكور، قال: لابن الحنفية: كنا نتحدث أن الأذان كان رؤيا، فقال: هذا والله الباطل، لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عرج به بعث إليه ملك علمه الأذان ".
قال (الحافظ ابن حجر): " هذا باطل ويمكن على تقدير صحته أن يحمل على تعدد الإسراء، فيكون ذلك وقع بالمدينة، وأما قول القرطبي لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعا في حقه، ففيه نظر لقوله في أوله: " لما أراد الله أن يعلم رسوله الأذان "، وكذا قول المحب الطبري، يحمل الأذان ليلة الإسراء على المعنى اللغوي وهو الإعلام، (وهذا) فيه نظر أيضا لتصريحه بكيفية المشروعة فيه ".
ولابن شاهين من طريق زياد أيضا عن الباقر عن أبيه عن أبي رافع عن علي رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: " يا علي إن الله علمني الصلاة والأذان، أتاني جبريل بالبراق "، وزياد (راويه) كذاب.
ولأبي الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " نزل الأذان على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع فرض الصلاة "، وفي سنده عبد العزيز بن مروان (1)، وهو تالف.
قال الحافظ: " والحق أنه لا يصح شئ من هذه الأحاديث، وقد جزم ابن المنذر " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بغير أذان، منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة وإلى أن وقع التشاور في
ذلك على ما جاء في حديث عبد الله بن عمر ثم في حديث عبد الله بن زيد " - انتهى كلام ابن المنذر.
وقد حاول السهيلي الجمع بينهما فتكلف وتعسف والأخذ بما صح أولى، فقال بانيا على صحته الحكم في مجئ الأذان على لسان الصحابي في المنام فقصه فوافق ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه فقال: " إنها لرؤيا حق "، وعلم حينئذ أن مراد الله بما أريه في السماء أن يكون سنة في الأرض، وقوى ذلك عنده موافقته رؤيا عمر للأنصاري لأن السكينة تنطق على لسان عمر "..انتهى.
ويؤخذ منه عدم الاكتفاء برؤيا عبد الله بن زيد حتى أضيف إليه عمر للتقوية التي ذكرها.
ولكن قد يقال: فلم اقتصر على عمر ؟ فيمكن أن يجاب ليصير في معنى الشهادة.
وقد جاء في رواية ضعيفة سبقت ما ظاهره أن بلالا أيضا رأى، لكنها مؤولة، فإن لفظها " سبقك بها عمر "، يحمل المراد بالسبق على مباشرة التأذين برؤيا عبد الله بن زيد.
السابع: قال السهيلي: " اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون الأذان على لسان غير النبي
__________
(1) عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبو الأصبغ: أمير مصر.
ولد في المدينة، وولي مصر لأبيه استقلالا، سنة 65 ه، فسكن حلوان.
وأعجتبه، فبنى فيها الدور والمساجد.
وغرس بها كرما ونخيلا.
وتوفي فيها.
وهو والد الخليفة عمر بن عبد العزيز، توفي سنة 85 ه.
الأعلام 4 / 28.
(*)(3/360)
- صلى الله عليه وسلم - من المؤمنين لما فيه من التنويه من الله تعالى بعبده والرفع لذكره، فلأن يكون ذلك على لسان غيره أنوه به وأقخم لشأنه، وهذا معنى بين، فإن الله تعالى يقول: (ورفعنا لك ذكرك) (سورة الشرح، الآية: 4)، فمن رفع ذكره أن أشار به على لسان غيره ".
انتهى كلام السهيلي - وهذا حسن بديع.
الثامن: من أغرب ما وقع في بدء الأذان ما رواه أبو الشيخ من طريق عبد العزيز بن مروان - وهو تالف - عن عبد الله بن الزبير قال: " أخذ الأذان من أذان إبراهيم عليه السلام (وأذن في الناس بالحج) (سورة الحج، الآية: 27) الآيد، قال: " فأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - "، وما رواه أبو نعيم
بسند فيه مجاهيل عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: " أن جبريل نادى بالأذان لآدم عليه السلام حين أهبط من الجنة ".
التاسع: ذكر بعضهم مناسبة اختصاص بلال بالأذان دون غيره، كونه لما عذب ليرجع عن الإسلام كان يقول: أحد أحد، فجوزي بولاية الأذان المشتمل على التوحيد من ابتدائه إلى انتهائه.
العاشر: استشكل إثبات حكم الأذان برؤيا عبد الله بن زيد، ورؤيا غير الأنبياء لا ينبني عليها حكم شرعي.
وأجيب باحتمال مقارنة الوحي لذلك بأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بمقتضاها لينظر أيقر على ذلك أم لا.
ولا سيما لما رأى نظمها يبعد دخول الوسواس فيه، ويؤيد الأول حديث عبيد بن عمير، أحد كبار التابعين: " أن عمر لما رأى الأذان جاء ليخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: فوجد الوحي قد ورد بذلك فما راعه إلا أذان بلال.
" فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " سبقك بذلك الوحي " (1).
وهذا أصح كما حكاه الداودي عن ابن إسحاق " أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأذان قبل أن يخبره عبد الله بن زيد بثمانية أيام ".
الحادي عشر: قيل إن الحكمة في تثنية الأذان وإفراد الإقامة أن الأذان إعلام للغائبين متكرر ليكون أوصل إليهم، بخلاف الإقامة فإنها للحاضرين، ومن ثم استحب أن يكون الأذان في مكان عال بخلاف الإقامة، وأن يكون الصوت في الأذان أرفع منه في الإقامة.
الثاني عشر: في بيان غريب ما سبق: " بدء " الأذان، بفتح الموحدة وسكون الدال (المهملة) وبالهمزة، أي ابتداؤه.
" الحين ": الزمان قل أو كثر.
__________
(1) أخرجه أبو داود في المراسيل (81) حديث (20) وذكره السيوطي في الجامع الكبير من حديث الشعبي مرسلا وعزاه للضياء في المختارة.
(*)(3/361)
" يتحينون " الصلاة: أي يطلبون حينها.
" المواقيت " جمع ميقات: وهو الوقت المضروب للعفل.
" الدعوة ": بالفتح: الأذان.
" القنع " (1): بضم القاف وسكون النون هو البوق - بضم الموحدة - شئ مجوف ينفخ فيه.
" الشبور " (2): بشين معجمة مفتوحة فموحدة مضمومة مشددة وهو البوق.
" الناقوس ": آلة من النحاس يضرب فيصوت.
" حي " على الصلاة: أقبلوا.
" الفلاح ": أي الفوز، أي هلموا إلى طريق النجاة والفوز.
" أندي (3) " صوتا منك، أي أمد وأبعد وأرفع غاية، وقيل: أحسن وأعذب.
" ألقه " عليه: أي علمه إياه.
فما " راع " عمر: أي ما شعر عمر أي ما أعلمه.
" لدي ": بفتح اللام وتشديد التحتية: أي عندي، وإلي بذلك تابع.
" التوفير ": التعظيم.
" الحصاص " (4) بحاء مضمومة فصادين مهملتين: الضراط، وقيل شدة العدو، ويفعل ذلك الشيطان لئلا يسمع الأذان فيضطر إلى الشهادة يوم القيامة.
" الغيلان ": واحدها غول، والغيلان جنس من الجن كانت العرب تزعم أنها تتراءى للناس في الفلاة فتتمثل في صور شتى فتغولهم أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا غول (ولا صفر) " (وقيل قوله: لا غول)، ليس نفيا (لعين الغول) ووجوده وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلونه بالصور المختلفة واغتياله، فيكون المعنى بقوله: لا غول أنها لا تستطيع أن تضل أحدا.
ومنه الحديث: " إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان "، أي ادفعوا شرها بذكر الله، وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها عدمها.
__________
(1) وهو بالكسر: الطبق من عسب النخل يوضع فيه الطعام وقال ابن الأثير: يقال له: القع والقنع بالكسر والضم اللسان 5 /
3756.
(2) انظر اللسان 4 / 2184، 2185.
(3) المصباح المنير ص 599.
(4) انظر اللسان 2 / 898.
(*)(3/362)
الباب الخامس في مؤاخاته صلى الله عليه وسلم بين أصحابه رضي الله عنهم
قال أبو عمر، وأقره في العيون، والفتح، ونقله في كتاب الصيام عن أصحاب المغازي: " كانت المؤاخاة مرتين: الأولى: بين المهاجرين بعضهم بعضا قبل الهجرة عل الحق والمواساة فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، وبين حمزة وزيد بن حارثة.
وروى أبو يعلى برجال الصحيح عن عبد الرحمن بن صالح الأسدي وهو ثقة عن زيد بن حارثة أنه قال: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخي بيني وبين حمزة بن عبد المطلب، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير بن العوام وابن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة وبين سعد بن أبي زيد (بن عمرو بن نفيل) وطلحة بن عبيد الله، وبين علي بن أبي طالب ونفسه صلى الله عليه وسلم.
وروى الحاكم والخلعي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه، فآخى بين أبي بكر وعمر، وفلانا، حتى بقي علي رضي الله عنه تدمع عيناه، فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " أما ترضى أن أكون أخاك " ؟ قال: بلى يا رسول الله رضيت.
قال: " فأنت أخي في الدنيا والآخرة ".
الثانية: قال أنس بن مالك رضي الله عنه: " حالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دارنا " رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود.
وروى الإمام أحمد، وأبو داود
الطيالسي، والبخاري، وأبو داود (السجستاني) وأبو الشيخ، والطبراني عن ابن عباس مختصرا، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق عنه مطولا، وابن سعد والحاكم وصححه عن الزبير بن العوام، وابن سعد عن الزهري، وإبراهيم التيمي، وضمرة بن سعيد، قالوا: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على الحق والمواساة، ويتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: " فآخى بينهم على الحق والمواساة، ويتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: " فآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة، وبين أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد بن الحارث، وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، وبين الزبير بن العوام وسلمة بن سلامة بن وقش - ويقال: بينه وبين عبد الله بن مسعود، وبين طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وقال لسائر أصحابه: " تواخوا وهذا أخي " - يعني علي بن أبي طالب.(3/363)
قام المسلمون على ذلك حتى نزلت سورة الأنفال، وكان مما شد الله عقد نبيه قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير " " والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " " والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم " (الأنفال 72: 74).
فأحكم الله بهذه الآيات العقد الذي عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه من المهاجرين والأنصار - يتوارث الذين آخوا دون من كان مقيما بمكة من ذوي الأرحام والقرابات.
فمكث الناس على ذلك العقد ما شاء الله.
فلما كان بعد بدر أنزل الله تعالى الآية
الأخرى فنسخت ما كان قبلها، فقال تعالى: (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شئ عليم) (الأنفال 75) وانقطعت المؤخاة في الميراث ورجع كل إنسان إلى نسبه وورثه ذوو رحمه.
وروى الخرائطي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " قال المهاجرون " يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلا من كثير، لقد كفونا المؤونة، وأشركونا في المهنأ حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ".
قال: " لا ما أثنيتم عليهم وعوتم (الله) لهم " (1).
وروى مسلم والنسائي والخرائطي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " لقد رأيتنا وما الرجل المسلم بأحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم ".
قال الزهري، وإبراهيم التيمي، وحمزة بن سعيد، كما رواه ابن سعد عنهم: " كانوا تسعين رجلا: خمسة وأربعون رجلا من المهاجرين وخمسة وأربعون من الأنصار ".
ويقال: " كانوا مائة: خمسون من المهاجرين وخمسون من الأنصار ".
قال ابن إسحاق، وسنيد بن داود، وأبو عمر، وأبو الفرج: " آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين نفسه - صلى الله عليه وسلم - "، قال أبو عمر: " وقال له: " أنت أخي في الدنيا والآخرة ".
وروى أبو بكر الشافعي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: " لما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس آخى بينه وبين علي، وبين حمزة بن عبد المطلب وأسيد - بضم الهمزة وفتح السين - ابن
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3 / 200 وابن أبي شيبة 9 / 68 وانظر البداية والنهاية 3 / 228.
(*)(3/364)
حضير - بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة - وبين جعفر بن أبي طالب وهو بأرض الحبشة ومعاذ بن جبل ".
واستشكل ذلك ويأتي جوابه في ثالث التنبيهات إن شاء الله، " وبين أبي بكر وخارجة - بالخاء والجيم المعجمة - ابن زيد، وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك - بعين مهملة مكسورة ففوقية ساكنة فموحدة وقد تضم العين - وبين عثمان بن عفان وأوس بن
ثابت بن المنذر أخي حسان بن ثابت، وبين طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك "، وذكر أبو الفرج بدل كعب بن مالك، أبي بن كعب، وقيل أبي بن كعب وسعيد بن زيد، وبين الزبير بن العوام وسلمة بن وقش - بفتح الواو وسكون القاف وبالشين المعجمة - كما ذكروا في حديث الزبير السابق أنه واخى بين سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وبين سعيد بن زيد وأبي بن كعب، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع ".
وروى البخاري في أوائل كتاب البيوع بسند وعلقه في باب: كيف آخى برسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، والإمام أحمد والشيخان عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واخى بين عبد الرحنم بن عوف وسعد بن الربيع، فعرض سعد على عبد الرحمن أن يناصفه أهله وماله.
قال سعد: أنا أكثر أهل المدينة مالا فأقسم لك نصف مالي وانظر أي زوجتي هويت، نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها.
فقال عبد الرحمن: بارك الله عز وجل لك في أهلك ومالك دلوني على السوق، فاشترى وباع (1)، وسيأتي الحديث في المعجزات إن شاء الله تعالى وواخى بين أبي عبيدة بن الجراح وأبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري النجاري، فهذا أصح مما ذكره ابن إسحاق وأبو عمر إلا أن يكون آخى بين أبي عبيدة وسعد بن معاذ.
وذكر سنيد أنه واخى بين سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة بن خالد بن عدي الأوسي وبين سعد بن زيد وأبي بن كعب، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب، وبين عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، وقيل: بين عمار وثابت بن قيس بن الشماس لأن حذيفة إنما أسلم زمان أحد، وبين أبي حذيفة بن عتية بن ربيعة وعباد - بموحدة ودال مهملة - ابن بشر - بكسر الموحدة وبالشين المعجمة - ابن وقش، وبين أبي ذر الغفاري والمنذر بن عمر المعنق ليموت.
وأنكر ذلك محمد بن عمر الأسلمي لأن أبا ذر إنما قدم المدينة بعد بدر وأحد، وعنده طليب - بالتصغير - ابن عمير والمنذر بن عمرو، وسيأتي الجواب عن ذلك في ثالث التنبيهات إن شاء الله تعالى - وواخى بين عبد الله بن مسعود وسهل بن حنيف، وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء عويمر بن ثعلبة كما في صحيح البخاري عن أبي جحيفة (وهب بن عبد الله)
__________
(1) أخرجه البخاري 4 / 337 (2049).
(*)(3/365)
رضي الله عنه، وأنكر ذلك محمد بن عمر لأن سلمان إنما أسلم بعد وقعة أحد، وأول مشاهده الخندق، ويأتي الجواب عن ذلك.
(وواخى) بين بلال (بن رباح مولى أبي بكر) وأبي رويحة - بضم الراء وفتح الواو وبعدها تحتية ساكنة فحاء مهملة - واسمه عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي، وبين حاطب بن أبي بلتعة - بموحدة فلام ساكنة ففوقية فعين مهملة - وعويم - بلفظ تصغير عام - ابن ساعدة، وبين عبد الله بن جحش وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح - بفتح الهمزة وسكون القاف فلام فحاء مهملة، وبين عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف وعمير بن الحمام - بضم الحاء المهملة، وبين الطفيل بن الحارث أخي عبيدة، وسفيان بن نسر - بفتح النون وسكون المهملة - كما ضبطه الأمير، وقيل بالتصغير - ابن زيد بن الحارث الخزرجي، وبين الحصين بن الحارث أخي عبيدة وعبد الله بن جبير - بلفظ تصغير جبر - " (ابن النعمان الأوسي)، وبين عثمان بن مظعون - بالظاء المعجمة المشالة - (ابن حبيب بن وهب القرشي الجمحي) والعباس بن (عبادة بن) نضلة - بالنون والضاد المعجمة، وذكر سنيد بدل العباس أبا الهيثم بن التيهان - بفتح الفوقية وكسر التحتية المشددة، وبين عتبة بن غزوان - بغين مفتوحة فزاي ساكنة معجمتين - ومعاذ بن ماعص - بعين فصاد مهملتين ويقال فيه ناعص - (ابن قيس بن خلدة بن عامر بن زريق)، وبين صفوان (بن وهب بن ربيعة القرشي الفهري وهو المعروف) بابن بيضاء ورافع بن المعلى - بلفظ اسم المفعول من العلو بالعين المهملة - (ابن لوذان بن حارثة)، وبين المقداد بن عمرو وعبد الله بن رواحة، وبين ذي الشمالين (بن عبد عمرو بن نضلة بن غبشان) ويزيد بن الحارث وبين أبي سلمة بن عبد الأسد - بالمهملة - وسعد بن خيثمة - بخاء معجمة فتحتية فثاء مثلثة، وبين عامر بن أبي وقاص وخبيب - بخاء معجمة مضمومة فموحدة مفتوحة - ابن عدي، وبين عبد الله بن مظعون وقطبة - بلفظ تأنيث
قطب - ابن عامر، وبين شماس، بشين معحمة مفتوحة فميم مشددة فألف فسين مهملة - ابن عثمان وحنظلة بن أبي عامر (1) وبين الأرقم بن أبي الأرقم وطلحة بن زيد الأنصاري، وبين زيد بن الخطاب ومعن بن عدي، وبين عمرو بن سراقة وسعد بن زيد الأشهلي، وبين عاقل
__________
(1) حنظلة بن أبي عامر بن صيفي بن مالك بن أمية بن ضبيعة بن زيد بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس بن حارثة الأنصاري الأوسي المعروف بغسيل الملائكة.
وكان أبوه في الجاهلية يعرف بالراهب واسمه عمرو ويقال: عبد عمرو وكان يذكر البعث ودين الحنيفة فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم عاوده وحسده وخرج عن المدينة وشهد مع قريش وقعة أحد ثم رجع مع قريش إلى مكة ثم خرج إلى الروم فمات بها سنة تسع، ويقال: سنة عشر، وأعطى هرقل ميراثه لكنانة بن عبد ياليل الثقفي وأسلم ابنه حنظلة فحسن إسلامه واستشهد بأحد لا يختلف أصحاب المغازي في ذلك.
الإصابة 2 / 44، 45.
(*)(3/366)
- بعين مهملة وبعد الألف قاف - ابن البكير - بموحدة تصغير بكر - ومبشر بن عبد المنذر، وبين عبد الله بن مخرمة وفروة بن عمرو البياضي، وبين خنيس - بخاء معجمة مضمومة ونون مفتوحة فتحتية ساكنة فسين مهملة - ابن حذافة، والمنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة - بمهملتين - تصغير أحة، وبين أبي سبرة - بسين مهملة مفتوحة فموحدة ساكنة - ابن أبي رهم - وهو بضم الراء وسكون الهاء، وعبادة بن الخشخاش، بخاءين الأولى مفتوحة وشينين الأولى ساكنة معجمات، كما ذكره الأمير، وبين مسطح، بميم مكسورة فسين مهملة فطاء مفتوحة وحاء مهملتين - ابن أثاثة - بالضم ومثلثتين مخففة - وزيد بن المزين - ضبطه الدارقطني والأمير بضم الميم وفتح الزاي وآخره نون مصغر، وشدد أبو عمر بخطه التحتية - والله أعلم، وبين أبي مرثد - بفتح الميم وسكون الراء فثاء مثلثة - الغنوي - بالغين المعجمة المفتوحة والنون - وعباة بن الصامت، وبين عكاشة بعين مهملة مضمومة فكاف تشديدها أفصح من تخفيفها - ابن محصن - بكسر الميم - والمجذر - بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الذال المعجمة المفتوحة ثم راء - ابن ذياد - بكسر الذال المعجمة وتخفيف التحتية في آخره دال مهملة،
وقيل إنه بفتح أوله وتشديد ثانيه - وبين عامر بن فهيرة - بالتصغير - والحارث بن الصمة - بكسر الصاد المهملة وتشديد الميم -، وبين مهجع - بكسر الميم وسكون الهاء وفتح الجيم - مولى عمر -، وسراقة بن عمرو بن عطية.
تنبيهات الأول: قال في الروض: " آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه حين نزلوا المدينة لتذهب عنهم وحشة الغربة ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد أزر بعضهم ببعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أنزل الله سبحانه: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) (الأنفال 75) أعني في الميراث، ثم جعل المؤمنين كلهم إخوة يعني في التواد وشمول الدعوة ".
الثاني: اختلف في ابتدائها فقيل بعد الهجرة بخمسة أشهر، وقيل بتسعة، وقيل وهو يبني المسجد، وقيل قبل بنائه، وقيل بسنة، وقيل بثلاثة أشهر وقيل أشهر وقيل بدر، وتقدم عن أنس بن مالك أن ذلك كان في داره، وذكر أبو سعد النيسابوري في الشرف أن ذلك كان في المسجد.
فالله أعلم.
الثالث: أنكر الواقدي مؤاخاة سلمان لأبي الدرداء لأن سلمان إنما أسلم بعد وقعة أحد وأول مشاهده الخندق.
وأجاب الحافظ بأن التاريخ المذكور (هو) للأخوة الثانية وهو ابتداء الأخوة، واستمر صلى الله عليه وسلم يجددها بحسب من يدخل في الإسلام ويحضر إلى المدينة،(3/367)
وليس باللازم أن تكون المؤاخاة وقعت وقعة واحدة حتى يرد هذا التعقيب.
وبما أجاب به الحافظ يجاب به عن مؤاخاة أبي ذر والمنذر بن عمرو، وعن مؤاخاة حذيفة وعمار، وعن مؤاخاة جعفر ومعاذ بن جبل، ويقال بأن معاذ أرصد لمؤاخاة جعفر حتى يقدم.
الرابع: نقل محمد بن عمر، عن الزهري أنه أنكر كل مؤاخاة وقعت بعد بدر، ويقول: قطعت بدر المواريث، قال الحافظ رحمه الله تعالى: وهذا لا يدفع المؤاخاة من أصلها، وإنما
يدفع المؤاخاة المخصوصة التي كانت عقدت بينهم ليتوارثوا بها.
الخامس: أنكر الحافظ أبو العباس بن تيمية المؤاخاة بين المهاجرين وخصوصا مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه.
قال: لأن المؤاخاة شرعت لإرفاق بعضهم بعضا ولتتألف قلوب بعضهم على بعض، فلا معنى لمؤاخاته لأحد ولا لمؤاخاة مهاجري لمهاجري.
قال الحافظ: " وهذا رد للنص بالقياس وإغفال عن حكمة المؤاخاة لأن بعض المهاجرين كان أقوى من بعض المال والعشيرة والقوة، فواخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق الأدنى بالأعلى ويستعين الأعلى بالأدنى، وبهذا تظهر حكمة مؤاخاة صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه، لأنه هو الذي كان يقوم بعلي من عهد الصبا قبل البعثة واستمر، وكذلك مؤاخاة حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة لأن زيدا مولاهم، فقد ثبتت إخوتهما وهما من المهاجرين، وفي الصحيح في عمرة القضاء أن زيدا قال: " إن ابنة حمزة ابنة أخي ".
وأخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن عن أبي الشعثاء (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وهما من المهاجرين، وأخرجه الضياء المقدسي في المختارة، وابن تميمية يصرح بأن أحاديث المختارة أصح وأقوى من أحاديث المستدرك، قلت: يأتي الكلام مبسوطا على أخوة النبي صلى الله عليه وسلم في ترجمة علي رضي الله عنه عند ذكر تراجم العشرة إن شاء الله تعالى.
السادس: روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن حبان عن شعبة بن التوأم - بفتح الفوقية والهمزة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا حلف في الإسلام " (2)، زاد شعبة بن التوأم: " ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية ".
انتهى.
" وأيما - وفي لفظ: كل - حلف كان في
__________
(1) جابر بن زيد الأزدي أبو الشعثاء الجوفي بفتح الجيم البصري الفقيه، أحد الأئمة، عن ابن عباس فأكثر ومعاوية وابن عمر.
وعنه قتادة وعمرو بن دينار وأيوب وخلق.
قال ابن عباس: هو من العلماء.
قال أحمد: مات سنة ثلاث وتسعين.
وقال ابن سعد: سنة ثلاث ومائة.
الخلاصة 1 / 156.
(2) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة 4 / 1961.
(206 - 2530) وأبو داود (2925) وأحمد في المسند 1 /
190 والبيهقي في السنن 6 / 262 وعبد الرزاق (10437) والطبراني 11 / 282 والحاكم 2 / 220 والدارمي 2 / 243.
(*)(3/368)
الجاهلية لم يزده الإسلام إلا حدة وشدة، وما يسرني أن لي حمر النعم وأني نقضت الحلف الذي كان في دار الندوة ".
وروى البخاري في الكفالة وفي الاعتصام، ومسلم في الفضائل، وأبو داود في الفرائض عن عاصم بن سليمان الأحول قال: " قلت لأنس بن مالك: أبلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حلف في الإسلام ؟ قال: قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري " (1).
قال الطبراني: ما استدل به أنس على إثبات الحلف لا ينافي الأحاديث السابقة في نفيه، فإن الإخاء المذكور كان في أول الهجرة، وكانوا يتوارثون به، ثم نسخ من ذلك الميراث، وبقي ما لم يبطله القرآن وهو التعاون على الحق والنصر والأخذ على يد الظالم، كما قال ابن عباس: " إلا النصر والنصيحة "، ويوصي به فقد ذهب الميراث.
وقال الخطابي: قال ابن عيينة: حالف بينهم: أي آخى بينهم، يريد أن معنى الحلف في الجاهلية معنى الحلف في الإسلام جار على أحكام الدين وحدوده، وحلف الجاهلية جار على ما كانوا يتواضعونه بينهم، فبطل منه ما خالف حاكم الإسلام وبقي ما عدا ذلك على حاله.
والحلف - بكسر الحاء المهملة وسكون اللام بعدها فاء قال في النهاية: أصله المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا حلف في الإسلام ".
وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه فذلك الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: " وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزدده الإسلام إلا شدة "، يريد من المعاقدة على الخير ونصرة الحق (وبذلك يجتمع الحديثان وهذا هو الحلف الذي يقتضيه
الإسلام والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام) والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) أخرجه البخري 10 / 517 (6083) ومسلم في الموضع السابق (205 - 2528).
(*)(3/369)
الباب السادس في قصة تحويل القبلة
روى ابن إسحاق وابن سعد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والستة، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدارقطني، والبيهقي عن البراء بن عازب، وابن إسحاق، وابن أبي شيبة، وأبو داود والنحاس في ناسخهما، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأبو داود في ناسخه عن أبي العالية مرسلا، ويحيى بن الحسن العلوي في أخبار المدينة عن رافع بن خديج رضي الله عنه، والإمام مالك، وعبد بن حميد والشيخان، وأبو داود في ناسخه، والنسائي، ويحيى بن الحسن، عن عثمان بن محمد بن الأخنس، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة، والزبير بن بكار عن عثمان بن عبد الرحمن، وابن سعد عن محمد بن عبد الله بن جحش، وابن جرير عن مجاهد، يزيد بعضهم على بعض: " أن أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه ".
وقال ابن جريح، كما عند ابن جرير: " صلى النبي صلى الله عليه وسلم أول من صلى إلى الكعبة ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة فصلى ثلاث حجج ثم هاجر ".
ولما هاجرا إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود أمره الله سبحانه وتعالى أن يستقبل صخرة بيت المقدس، فعرض اليهود بذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، لأن اليهود قالوا: " خالفنا محمد ويتبع قبلتنا ".
وقال صلى الله عليه وسلم لجبريل: " وددت أن الله عز وجل صرفني عن قبلة يهود إلى غيرها "، فقال جبريل عليه السلام: " إنما أنا عبد ملك لا أملك لك شيئا إلا ما أمرت به، فأدع الله تعالى ".
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله تعالى ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله تعالى، وخرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرا أم بشر بن البراء بن معرور، في بني سلمة - بكسر اللام - فصنعت له طعاما، وحانت صلاة الظهر، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه في مسجد هناك الظهر، فلما صلى ركعتين نزل جبريل فأشار إليه أن صل إلى البيت، وصلى جبريل إلى البيت فاستدار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، واستقبل الميزاب.
فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء، فهي القبلة التي قال الله تعالى (فلنولينك قبلة ترضاها) (البقرة 144) فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين.
وكان الظهر يومئذ أربعا: اثنتان إلى بيت المقدس واثنتان إلى الكعبة، فخرج عباد بن بشر رضي الله عنه، وكان صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر على قوم من الأنصار ببني حارثة - بالحاء المهملة والثاء المثلثة - وهم راكعون في صلاة العصر، فقال: " أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البيت ".
فاستداروا.(3/370)
قال رافع بن خديج: " وأتانا آت ونحن نصلي في بني عبد الأشهل فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يوجه إلى الكعبة، فأدارنا إمامنا إلى الكعبة ودرنا معه ".
قال ابن عمر: " وبينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت - قال ابن طاهر المقدسي: هو عباد بن بشر أيضا - فقال: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ".
وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتا فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك.
وقال المنافقون: " خر محمد إلى أرضه ".
وقال المشركون: " أراد محمد أن يجعلنا قبلة له ووسيلة، وعرف أن ديننا أهدى من دينه، ويوشك أن يكون على ديننا ".
وقال اليهود للمؤمنين: ما صرفكم عن قبلة موسى ويعقوب وقبلة الأنبياء ؟ والله إن أنتم إلا قوم تفتنون.
وقال المؤمنون: لقد ذهب منا قوم ماتوا وما ندري أكنا نحن وهم على قبلة أو لا.
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن قيس، وكردم بن عمرو، وكعب بن الأشرف، ورافع بن أبي
رافع، والحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف، والربيع وكنانة ابنان الربيع بن أبي الحقيق - بلفظ تصغير حق - فقالوا: " يا محمد ما ولاك عن قبلتك التى كانت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك ".
وإنما يريدون بذلك فتنته عن دينه، فأنزل الله عز وجل: " سيقول السفهاء من الناس) - الجهال واليهود والمشركون والمنافقون (ما ولاهم) - أي صرفهم - (عن قبلتهم) - التي كانوا على استقبالها في الصلاة وهي بيت المقدس، والإتيان بالسين الدالة على الاستقبال من الإخبار بالغيب - (التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب) - أي الجهات كلها، فيأمر بالتوجه إلى أية جهة شاء لا اعتراض عليه - (يهدي من يشاء) - هدايته - (إلى صراط مستقيم) (البقرة 142) - دين الإسلام أي ومنهم أنتم، دل على هذا (وكذلك) أي كما هديناكم إليه (جعلناكم) يا أمه محمد (أمة وسطا) خيارا عدولا (لتكونوا شهداء على الناس) يوم القيامة أن رسلهم بلغتهم (ويكون الرسول عليكم شهيدا) أنه بلغكم (وما جعلنا) صيرنا (القبلة التي كنت عليها) أولا وهي جهة بيت المقدس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إليها تألفا لليهود فصلى إليها ستة أو سبعة عشر شهرا ثم حول (إلا لنعلم) علم ظهور (من يتبع الرسول) فيصدقه (ممن ينقلب على عقبيه) أي يرجع إلى الكفر شكا في الدين وظنا أن النبي صلى في حيرة من أمره، وقد ارتد لذلك جماعة (وإن) مخففة من الثقيلة واسمها محذوف، أو وأنها (كانت) التولية إليها - (لكبيرة) شاقة على الناس (إلا(3/371)
على الذين هدى الله) منهم (وما كان الله ليضيع إيمانكم) أي صلاتكم إلى بيت المقدس بل يثيبكم عليها لأن سبب نزولها السؤال عمن مات قبل التحويل (إن الله بالناس) المؤمنين (لرؤوف رحيم) (البقرة 143) في عدم إضاعة أعمالهم، والرأفة شدة الرحمة وقدم الأبلغ للفاصلة.
(قد) للتحقيق (نرى تقلب وجهك في السماء) أي تصرف وجهك في جهة
السماء تطلعا إلى الوحي، وتشوقا للأمر باستقبال الكعبة وكان يود ذلك لأنها قبلة إبراهيم ولأنه أدعى إلى الإسلام العرب (فلنولينك) نحولنك (قبلة ترضاها) تحبها (فول وجهك شطر المسجد الحرام) استقبل في الصلاة ناحية المسجد الحرام أي الكعبة (وحيث ما كنتم) خطابا للأمة (فولوا وجوهكم) في الصلاة (شطره) (وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه (أي التولي إلى الكعبة (الحق) الثابت (من ربهم) لما في كتبهم من نعت النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يتحول إليها (وما الله بغافل عما يعملون) (البقرة 144) " قرئت " بالتاء أي أيها المؤمنون من امتثال أمره، وبالياء أي اليهود من إنكار القبلة.
(ولئن) لام قسم (أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية " على صدقك في أمر القبلة (ما تبعوا) أي لم يتبعوا (قبلتك) عنادا (وما أنت بتابع قبلتهم) قطع لطمعه في إسلامهم وطمعهم في عوده إليها (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) أي اليهود قبلة النصارى وبالعكس (ولئن اتبعت أهواءهم) التي يدعونك إليها (من بعد ما جاءك من العلم) الوحي (انك إذا لمن الظالمين) (البقرة 145) أي إن اتبعتهم فرضا.
تنبيهات الأول: تصوير ما ذكر من تحويل الرجال مكان النساء وتحويل النساء مكان الرجال أن الإمام يتحول من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخره، لأن من استقبل الكعبة بالمدينة فقد استدبر بيت المقدس، وهو لو دار كما هو مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف، فلما تحول الإمام تحولت الرجال حتى صاروا خلفه، وتحولت النساء حتى صرن خلف الرجال، وهذا يستدعي عملا كثيرا في الصلاة.
ويحتمل أن ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير، كما كان قبل تحريم الكلام، ويحتمل أن يكون اغتفر العمل المذكور لأجل المصلحة المذكورة أو لم يتوال الخطأ عند التحويل بل وقعت متفرقة.
الثاني: اختلف في تاريخ تحويل القبلة، فقال البراء بن عازب كما عند البخاري: كان على رأس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا.
وقال ابن عباس كما عند ابن اسحاق، وأبي داود في
ناسخه سبعة عشر شهرا.
وكذا قال عمرو بن عوف كما عند البزار والطبراني.
وقال ابن عباس(3/372)
أيضا كما عند ابن أبي شيبة وأبي داود في ناسخه، والطبراني والزهري كما عند البيهقي، وسعيد بن المسيب كما عند الإمام مالك وأبي داود فيه، وابن جرير وقتاد كما عند عبد بن حميد، وابن المنذر " على رأس ستة عشر شهرا ".
وقال أنس بن مالك كما عند البزار، وابن جرير تسعة عشر شهرا.
قال الحافظ: " فطريق الجمع بين رواية ستة عشر وسبعة عشر شهرا، ورواية الشك في ذلك: أن من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم ومن شهر التحويل شهرا وألغى الأيام الزائدة، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا، ومن شك تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف وكان التحويل بعد الزوال في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس، وقول ابن حبان: سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام مبني على أن القدوم كان في ثاني ربيع الأول، وأسانيد رواية ثلاثة عشر وثمانية عشر وتسعة عشر شهرا، وعشرة أشهر، ورواية شهرين، ورواية سنتين في أسانيد ضعيفة، والاعتماد على الثلاثة الأول.
الثالث: اختلف في أي شهر كان تحويل القبلة.
فقال محمد بن حبيب: في نصف شعبان، وهو الذي ذكره النووي في الروضة وأقره، مع كونه رجح في شرحه على صحيح مسلم رواية ستة عشر شهرا لكونها مجزوما بها عند مسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلا بإلغاء شهري القدوم والتحويل.
وجزم موسى بن عقبة بأن التحويل كان في جمادى الآخرة.
الرابع: اختلف في أي الصلاة كان التحويل، ففي الصحيح عن البراء بن عازبن أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي صلاة العصر، والأكثر على أنها صلاة الظهر.
قال الحافظ: والتحقيق أن أول صلاة صلاها في بني سلمة - بكسر اللام - الظهر، وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر، وأما الصبح فهو لأهل قباء.
الخامس: اختلف في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وهو بمكة، فروى ابن ماجه عن طريق أبي بكر بن عياش عن البراء أنه قال: " صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ثمانية عشر شهرا، وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين ".
وظاهره أنه كان يصلي بمكة إلى بيت المقدس محضا.
وحكى الزهري خلافا في أنه جعل الكعبة خلف ظهره أو أنه جعلها بينه وبين بيت المقدس، وعلى الأول فكان يجعل الميزاب خلفه، وعلى الثاني كان يصلي بين الركنين اليمانيين.
وزعم ناس أنه لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس، ثم نسخ.
قال الحافظ: " وهذا ضعيف ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح لأنه يجمع بين القولين.
وقد صححه الحاكم وغيره.
وحمل أبو عمر هذا(3/373)
القول على الثاني ويؤيده في حمله على ظاهره إمامة جبريل، ففي بعض طرقه أن ذلك كان عند البيت.
وروى ابن جرير وغيره بسند جيد قوي عن ابن عباس قال: " لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس " إلى آخره، وظاهره أن استقبال بيت المقدس إنما وقع بعد الهجرة إلى المدينة، لكن روى الإمام أحمد من وجه آخر عن ابن عباس قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه " (1).
ورواه ابن سعد أيضا وسنده جيد قوي والجمع بينهما ممكن بأن يكون أمرا لما هاجر أن يستمر على الصلاة إلى بيت المقدس.
وقوله في حديث ابن عباس الأول: " أمره الله " يرد قول من قال: " إنه صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس باجتهاد "، كما رواه ابن جرير عن عبدالرحن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف.
وعن أبي العالية أنه صلى إلى بيت المقدس يتألف بذلك أهل الكتاب، وهذا لا ينبغي إلا بتوقيف.
السادس: الذين ماتوا قبل فرض الصلاة وقبل تحويل القبلة من المسلمين عشر أنفس: بمكة من قريش 1 عبد الله بن شهاب 2 والمطلب بن أزهر، الزهريان، 3 والسكران بن عمرو
العامري.
وبأرض الحبشة منهم: 4 حطاب بن الحارث الجمحي - حطاب بالحاء المهملة - 5 وعمرو بن أمية الأسدي، 6 وعبد الله بن الحارث السهمي.
7 - وعروة بن عبد العزى، 8 وعدي بن نضلة - بالنون والضاد المعجمة - العدويان - ومن الأنصار بالمدينة: 9 البراء بن معرور - بمهملات، 10 وأسعد بن زرارة.
فهؤلاء العشرة متفق عليهم، ومات في المدة أيضا إياس بن معاد الأشهلي لكنه مختلف في إسلامه.
السابع: وقع في رواية زهير بن معاوية في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه في صحيح البخاري وغيره: أنه مات على القبلة - أي قبلة بيت المقدس من قبل أن تحول (قبل البيت) - رجال قتلوا (فلم ندر ما نقول فيهم).
قال الحافظ: " ذكر القتل لم أره إلا في رواية الزهري وباقي الروايات إنما فيها ذكر الموت فقط، ولم أجد في شئ من الأخبار أن أحدا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة، لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فتحمل على أن بعض المسلمين ممن لم يشتهر قتل في تلك المدة في غير الجهاد ولم يضبط لقلة الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك ".
قال: " ثم وجدت في التاريخ ذكر رجل
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1 / 325 وذكره الهيثمي في المجمع 2 / 15 وزاد نسبته للطبراني في الكبير والبزار وقال: ورجاله رجال الصحيح.
(*)(3/374)
اختلف في إسلامه وهو سويد بن الصامت " (1) فذكر ما تقدم في بدء إسلام الأنصار.
ثم قال الحافظ: " فيحتمل أن يكون هو المراد " قال: وذكر لي بعض الفضلاء أنه يجوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين كأبوي عمار فقلت: يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما بعد الإسراء.
الثامن: في بيان غريب ما سبق: " حجج "، بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم الأولى وكسر الثانية (أي سنين).
" قبل " البيت - بكسر القاف وفتح الموحدة -: أي جهته.
" معرور " (2) بعين مهملة.
" حانت " الصلاة: دنا وقتها.
__________
(1) سويد بن الصامت بن خالد بن عقبة الأوسى.
ذكره ابن شاهين وقال: شك في اسلامه وقال أبو عمر: أنا أشك فيه كما فيه غيري.
الإصابة 3 / 189.
(2) انظر اللسان 4 / 2876.
(*)(3/375)
جماع أبواب بعض أمور دارت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين اليهود والمنافقين ونزول صدر من سورة البقرة وغيره من القرآن في ذلك
الباب الأول في أخذ الله سبحانه وتعالى العهد عليهم في كتبهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، إذا جاءهم، واعترف جماعة منهم بنبوته، ثم كفر كثير منهم بغيا وعنادا
فذكر أحاديث كثيرة في أول الكتاب وأذكر ما لم أذكر هناك.
قال الله سبحانه وتعالى (يا بني إسرائيل اذكروا نعتمي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون) (البقرة 40) روى ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله عنه في الآية، قال الله تعالى للأحبار من يهود: (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) أي من بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم به من فرعون وقومه: (وأوفوا بعهدي) الذي أخذت في أعناقكم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم (أوف بعهدكم) يقول: أرض عنكم وأدخلكم الجنة.
وروى ابن جرير عن أبي العالية قي الآية قال: يقول: يا معشر أهل الكتاب، آمنوا بما أنزلت على محمد مصدقا لما معكم لأنهم يجدونه عندهم مكتوبا في التوراة والإنجيل، ولا تكونوا أول كافر به، وبمحمد صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: " ولا تبلسوا الحق بالباطل) (البقرة 42) أي لا
تخلطوا الصدق بالكذب (وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) (البقرة 42) أي لا تكتموا الحق وأنتم قد علمتم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله.
وروى عبد بن حميد عن قتادة قال: " لا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله إلاسلام، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى: (وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) أنه رسول الله (يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) (الأعراف 157) وروى ابن جرير عن السدي في قوله " وتكتموا الحق " قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وصف الله محمدا في التوراة، أكحل العين، ربعة جعد الشعر، حسن الوجه فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حسده أحبار يهود، فغيروا صفته في كتابهم وقالوا: لا نجد نعته عندنا، وقالوا: نجد النبي صلى الله عليه وسلم الأمي طويلا أزرق سبط الشعر، وقالوا للسفلة: " ليس هذا نعت النبي الذي يحرم كذا(3/376)
وكذا " كما كتبوه، وغيروا نعت هذا كما وصف، فلبسوا بذلك على الناس، وإنما فعلوا ذلك لأن الأحبار كانت لهم مأكلة يطعمهم إياها السفلة لقيامهم على التوراة، فخافوا أن يؤمن السفلة فتقطع تلك المأكلة.
وروى البيهقي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم قالوا: " كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم، وكانوا يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم في التوراة فيسألون الله تعالى أن يبعثه فيقاتلون معه العرب، فلما جاءهم كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل ".
وروى ابن إسحاق وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأبو نعيم عنه من طرق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبو نعيم عن قتادة: أن يهود أهل المدينة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة يستفتحون يدعون الله على الذين كفروا ويقولون: " اللهم إنا نستنصر بحق محمد النبي الأمي إلا نصرتنا عليهم "، فينصرون.
وكانوا يقولون: " اللهم ابعث النبي الأمي الذي
نجده في التوراة الذي وعدتنا أنك باعثه في آخر الزمان ".
فلما جاءهم ما عرفوا، كفروا به حسدا للعرب، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء أخو بني سلمة: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك وتخبرونا أنه مبعوث وتصفونه لنا بصفة.
وروى ابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريح عن بعض من أسلم من أهل الكتاب، قال: " والله لنحن أعرف برسول الله منا بأبنائنا من أجل الصفة والنعت الذي نجده في كتابنا، أما أبناؤنا فلا ندري ما أحدث النساء " وروى ابن إسحاق، والبيهقي، وأبو نعيم عن أم المؤمنين صفية بنت حيي رضي الله عنها أنها قالت: " لم يكن أحد من ولد أبي وعمي أبي ياسر أحب إليهما مني، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه.
فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قباء قرية بني عمرو بن عوف غدا إليه أبي، حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين، فوالله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس، فجاءانا بأمر أبي كبشة (كالين كسلانين) ساقطين يمشيان الهويني فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما نظر إلي واحد منهما، فسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيى بن أخطب: أهو هو ؟ قال: نعم.
قال: أتعرفه بنعته وصفته ؟ قال: نعم والله.
قال: فما في نفسك منه ؟ قال: عدواته والله ما بقيت ".
وذكر ابن عقبة عن الزهري قال: " إن أبا ياسر بن أخطب حين قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ذهب إليه فسمع منه وحادثه ثم رجع إلى قومه فقال: يا قوم اطيعوني فإن الله تعالى قد جاءكم بالذي تنتظرونه فاتبعوه ولا تخالفوه.
فانطلق أخوه حيي بن أخطب، وهو يومئذ سيد(3/377)
يهود، وهما من بني النضير، فجلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمع منه، ثم رجع إلى قومه، وكان فيهم مطاعا.
فقال أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا.
فقال له أخوة أبو ياسر: يا ابن أم أطعني في هذا الأمر واعصني فيما شئت بعد لأمهلك.
فقال: والله لا أطيعك.
فاستحوذ عليه الشيطان، وتبعه قومه على رأيه ".
وروى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند عن جابر بن سمرة رضي الله عنه، أنه قد جاء جرمقاني (1) إلى أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: أين صاحبكم هذا الذي يزعم أنه نبي، لئن سألته لأعلمني نبي هو أو غير نبي.
ثم قال الجرمقاني: " هذا والله الذي جاء به موسى "، الجرمقاني بجيم مفتوحة فراء ساكنة فميم مفتوحة فقاف فألف فنون، منسوب إلى الجرامقة.
قال في الصحاح: قوم بالموصل أصلهم من العجم، وقال غيره: وجرامقة الشام أنباطها.
وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن حبرا من أحبار اليهود دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوافقه يقرأ سورة يوسف فقال: " يا محمد من علمكها " ؟ قال: " الله عز وجل علمنيها "، فعجب الحبر لما سمع منه.
فرجع إلى اليهود فقال: " إن محمدا ليقرأ القرآن، كما أنزل في التوراة "، فانطلق جماعة منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة، ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه، فجعلوا يستمعون إلى قراءته لسورة يوسف، فتعجبوا من ه وأسلموا عند ذلك (2).
وذكر محمد بن عمر الأسلمي أن النعمان السبئي وكان من أحبار يهود اليمن فلما سمعوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم عليه فسأله عن أشياء، ثم قال له: " إن أبي كان يختم على سفر ويقول: " لا تقرأه على يهود حتى تسمع بنبي قد خرج بيثرب، فإذا سمعت به فافتحه ".
قال النعمان: " فلما سمعت به فتحت السفر فإذا فيه صفتك كما أراك الساعة، وإذا فيه ما تحل وما تحرم، وإذا فيه أنك آخر الأنبياء، وأمتك آخر الأمم، واسمك أحمد، وأمتك قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم صدورهم، لا يحضرون قتالا إلا وجبريل معهم، ويتحنن الله تعالى عليهم كتحتن الطير على أفراخه، ثم قال لا يحضرون قتالا إلا وجبريل معهم، ويتحنن الله تعالى عليهم كتحنن الطير على أفراخه، ثم قال لي: إذا سمعت به فاخرج إليه وصدقه ".
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يسمع أصحابه حديثه.
فأتاه يوما فقال: " يا نعمان حدثنا "، فابتدأ الحديث من أوله، فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتسم، ثم قال: " أشهد أني رسول الله ".
ويقال إن النعمان هذا هو الذي قتله الأسود العنسي الكذاب وقطعه عضوا عضوا، والنعمان يقول: " أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وأنك كذاب مفتر على الله عز وجل ".
قم حرقه بالنار، والآثار في
هذا كثيرة لا تحصى.
__________
(1) ذكره هذه الكلمة بضم الجيم والميم وهو على خلاف ضبط المصنف.
انظر اللسان 1 / 607.
(2) ذكره السيوطي في الدر 4 / 2 وعزاه للبيهقي في الدلائل.
(*)(3/378)
الباب الثاني في إسلام عبد الله بن سلام بن الحارث أبي يوسف
وهو من ذرية سيدنا يوسف الصديق عليه السلام حليف القواقل من الخزرج، الإسرائيلي ثم الأنصاري رضي الله عنه.
كان اسمه الحصين فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان عالم أهل الكتاب، وكان إسلامه في اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم دار أبي أيوب أول ما قدم، كما في رواية عبد العزيز بن صهيب عند البيهقي، وروى ابن إسحاق عن رجل من آل عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: " لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه.
" الحديث.
وفيه: " فخرجت رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأسلمت ورجعت إلى أهل بيتي، قال الحافظ عماد الدين بن كثير: " فلعله رآه أول ما رآه بقباء واجتمع به بعد ما صار إلى دار بني النجار والله أعلم ".
وروى البخاري والبيهقي عن أنس، وابن إسحاق عن رجل من آل عبد الله بن سلام، والإمام أحمد، ويعقوب بن سفيان عن عبد الله بن سلام، والبيقهي عن موسى بن عقبة وعن ابن شهاب، قال: لما سمعت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفت صفته واسمه وهيئته وزمانه الذي كنا نتوكف له (1)، فكنت مسرا بذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فلما قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة.
فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبرت.
فقالت عمتي حين سمعت تكبيري: " لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت ".
قلت لها: " أي عمة وهو، الله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بعث بما بعث به ".
فقالت له:
" يا ابن أخي، أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة ؟ " (2) قلت لها: " نعم ".
قالت: " قذاك إذا ".
قال: " فخرجت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما تبينت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فكان أول شئ سمعته يقول: " افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام " (3).
وعند البيهقي عن أنس قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى
__________
(1) توكف الخبر: إذا انتظر.
انظر النهاية 5 / 221.
(2) بعثت في نفس الساعة: أي بعثت وقد حان قيامها وقرب، إلا أن الله أخرها قليلا، فبعثتني في ذلك النفس، فأطلق النفس على القرب.
انظر النهاية 5 / 94.
(3) أخرجه الترمذي 4 / 386 (1854) وقال: حسن صحيح غريب.
(*)(3/379)
النبي فقال: " إني سألك عن خلال لا يعملهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه ؟ وما هذا السواد الذي في القمر ؟ قال: " أخبرني بهن جبريل آنفا.
قال: " جبريل " ؟ قال: " نعم ".
قال " عدو اليهود من الملائكة ".
" ثم قرأ: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين) (البقرة 97) قال: " أما أول أشراط الساعة: فنار تخرج على الناس من المشرق (تسوقهم) إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة: فزيادة كبد حوت، وأما الولد: فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد، وأما السواد الذي في القمر: فإنهما كانا شمسين.
قال الله تعالى: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل) (الإسراء 12) فالسواد الذي رأيت هو المحو ".
فقال: " أشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله ".
ثم رجع إلى أهل بيته فأمرهم فأسلموا وكتم إسلامه.
ثم خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا رسول الله، إن اليهود قد علمت أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، وأنهم قوم بهت،
وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني، وقالوا في ما ليس في، فأحب أن تدخلني بعض بيوتك ".
فأدخله رسول الله بعض بيوته، وأرسل إلى اليهود فدخلوا عليه فقال: " يا معشر يهود يا ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله قد جئتكم بالحق فأسلموا ".
فقالوا: ما نعلمه.
فقال: " أي رجل فيكم الحصين بن سلام ؟ قالوا: " خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا ".
فقال: أرأيتم إن أسلم ".
قالوا: " أعاذه الله من ذلك ".
فقال: " يا ابن سلام اخرج إليهم ".
فخرج عبد الله فقال: " أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله حقا، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة: اسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه.
قالوا: " كذبت أنت شرنا وابن شرنا "، وانتقصوه.
قال: " هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور ؟ " قال: " وأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث وحسن إسلامها ".
بيان غريب ما سبق: " نفس الساعة " بفتح النون والفاء، أي بعثت وقد حان وقت قيامها وقرب، إلا أن الله أخرها قليلا، فبعثني في ذلك النفس، فأطلق النفس على القرب، وقيل معناه: أنه جعل للساعة(3/380)
نفسا كنفس الإنسان أراد: إني بعثت في وقت قريب منها أحس فيه بنفسها كما يحس بنفس الإنسان إذا قرب (المرء) منه.
يعني بعثت في وقت بانت أشراطها فيه وظهرت علاماتها.
" نزع " (1) إلى أبيه في الشبه: أي ذهب.
" بهت ": (2) جمع بهوت من بناء المبالغة في البهت مثل صبور وصبر، ثم سكن تخفيفا، والبهت (3) الكذب (والافتراء).
__________
(1) انظر اللسان 6 / 439.
(2) انظر اللسان 1 / 368.
(3) قال في القاموس: البهت: الباطل الذي يتحير من بطلانه.
انظر الترتيب 1 / 330.
(*)(3/381)
الباب الثالث في موادعتهم صلى الله عليه وسلم اليهود، وكتبه بينه وبينهم كتابا بذلك، ونصبهم العداوة له ولأصحابه حسدا وعدوانا، ونقضهم للعهد
قال ابن إسحاق: " وكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابا بين المهاجرين والأنصار وداع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليهم وشرط لهم ".
أي لما امتنعوا من اتباعه وذلك قبل الإذن بالقتال وأخذ الجزية ممن أبى الإسلام، وذكر ابن إسحاق نسخة الكتاب وهو نحو ورقتين بغير إسناد، ورواه أبو عبيد في كتاب الأموال (1) بسند جيد عن الزهري، ولعلي أذكره في أبواب مكاتباته - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) قال أبو عبيد في الأموال: حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير وعبد الله بن صالح قالا: حدثنا الليث بن سعد قال: حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بهذا الكتاب: " هذا الكتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين قريش وأهل يثرب ومن تبعهم.
فلحق بهم، فحل معهم وجاهد معهم.
أنهم أمة واحدة دون الناس.
والمهاجرون من قريش - قال ابن بكير: ربعاتهم.
قال أبو عبيد: والمحفوظ عندنا رباعتم - يتعاقلون بينهم معاقلهم الأولى وقال عبد الله بن صالح: ربعاتهم، وهو يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين والمسلمين، وبنو عوف على رباعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الحرث بن الخزرج على رباعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو جشم على رباعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بنى المؤمنين وبنو النجار على رباحتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالقسط والمعروف بين المؤمنين وبنو عمرو بن عوف على رباعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها
بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النبيت على رباعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو الأوس على رباعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وان المؤمنين لا يتركون مفرحا منهم أن يعينوه بالمعروف في فداء أو عقل، وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى وابتغى منهم دسيعة ظلم أو اثم، أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعه.
ولو كان ولد أحدهم.
لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر.
ولا ينصر كافرا على مؤمن، والمؤمنون بعضهم موالي بعض دون الناس: وأنه من تبعنا من اليهود فإن له المعروف والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم، وأن سلم المؤمنين واحد، ولا يسلم مؤمن دون مؤمن في قتال سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم وأن كل غازية غزت يعقب بعضهم بعضا، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هذا وأقومه.
وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا يعينها على مؤمن، وأنه من اعتبط مؤمنا قتلا فإنه قود، إلا أن يرضي ولي المقتول بالعقل.
وأن المؤمنين عليها كافة.
وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة أو آمن بالله واليوم الآخر أن ينصرنا محدثا أو يؤويه، فمن نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة، لا يقبل منه صرف ولا عدل وأنكم ما اختلفتم فيه من شئ فإن حكمه إلى الله تبارك وتعالى وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وأن يهود بني عوف ومواليهم وأنفسهم أمة من المؤمنين، لليهود دينهم، وللمؤمنين دينهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يرتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الحرث مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود الأوس مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأنه لا يخرج أحد منهم إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأن بينهم النصيحة والنصر للمظلوم، وأن المدينة جوفها حرم لأهل هذه الصحيفة، وأنه ما كان = (*)(3/382)
وروى ابن عائذ عن عروة بن الزبير: أن أول من أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليهود أبو ياسر بن أخطب أخو حيي بن أخطب، فسمع منه، فلما رجع قال لقومه: " أطيعوني فإن هذا هو النبي الذي كنا ننتظره " فعصاه أخوه، وكان مطاعا فيهم، فاستحوذ عليهم الشيطان فأطاعوه.
وروى أبو سعيد النيسابوري في الشرف عن سعيد بن جبير قال: " جاء ميمون بن يامين،
وكان رأس يهود، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا رسول الله ابعث إليهم واجعلني حكما بينهم فإنهم يرجعون لي " فأدخله داخلا، ثم أرسل إليهم، فأتوه، فخاطبوه، فقال: " اختاروا رجلا يكون حكما بيني وبينكم ".
قالوا: " قد رضينا ميمون بن يامين ".
فلما خرج إليهم قال: " أشهد أنه رسول الله ".
فأبوا أن يصدقوه.
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو آمن بي عشرة من أحبار يهود لآمن بي كل يهودي على وجه الأرض " (1).
وروى ابن أبي حاتم وأبو سعيد النيسابوري وزاد في آخره قال: " وقال كعب: اثني عشر "، وتصديق ذلك في (سورة المائدة): (وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) (المائدة 12) قال الحافظ: فعلى هذا فالمراد عشرة مختصة، وإلا فقد آمن به صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرة وقيل
__________
= بين أهل هذه الصحيفة من حدث يخيف فساده فان أمره إلى الله وإلى محمد النبي، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب وأنهم إذا دعوا اليهود إلى صلح حليف لهم فإنهم يصالحونه، وإن دعونا إلى مثل ذلك فإنه لم على المؤمنين، إلا من حارب الدين، وعلى كل أناس حصتهم من النفقة.
وأن يهود الأوس ومواليهم وأنفسهم مع البر المحسن من أهل هذه الصحيفة، وأن بني الشطبة بطن من جفنة، وأن البر دون الاثم فلا يكسب كاسب إلا على نفسه وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
لا يحول الكتاب دون ظالم ولا آثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن، إلا من ظلم وأثم، ولى أولاهم بهذه الصحيفة البر المحسن.
قال أبو عبيد: قوله " بنو فلان على رباعتهم " الرباعة هي المعاقل، وقد يقال: فلان رباعة قومه، إذا كان المتقلد لأمورهم.
والوافد على الأمراء فيما ينوبهم.
وقوله: " أن المؤمنين لا يتركون مفرحا في فداء " المفرح: المثقل بالدين، يقول: فعليهم أن يعينوه، إن كان أسيرا فك من إساره، وإن كان جنى جناية خطأ عقلوا عنه وقوله: " ولا يجير مشرك مالا لقريش " يعني اليهود الذين كان وادعهم، يقول: فليس من موادعتهم أن يجيروا أموال أعدائه، ولا يعينوهم عليه.
وقوله: " ومن اعتبط مؤمنا قتلا فهو قود " الاعتباط: أن يقتله بريا محرم الدم.
وأصل الاعتباط في الإبل: أن تنحر بلا داء يكون بها، وقوله: " إلا أن يرضي أولياء المقتول بالعقل " فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيار في القود أو الدية إلى أولياء القتيل، وهذا مثل حديثه الآخر: " ومن قتل له قتيل فهو بأحد النظرين إن شاء قتل وإن شاء أخذ الدية " وهذا يرد قول من يقول ليس للولي في
العمد أن يأخذ الدية إلا بطيب نفس من العاقل ومصالحة منه له عليها، وقوله: " ولا يحل لمؤمن أن ينصر محدثا أو يؤويه " المحدث: كل من أتى حدا من حدود الله عز وجل، فليس لأحد منعه من إقامة الحد عليه، وهذا شيبه بقوله الآخر: " من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره " وقوله: " لا يقبل منه صرف ولا عدل ".
حدثنا هشيم عن رجل قد سماه عن مكحول قال: " الصرف التوبة والعدل: الفدية ".
قال أبو عبيدة: وهذا أحب إلى من قول من يقول الفريضة والتطوع لقول الله تبارك وتعالى.
(ولا يؤخذ منها عدل) فكل شئ فدي به شئ فهو عدله وقوله " وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين " فهذه النفقة في الحرب خاصة، شرط عليهم المعاونة له على عدوه.
ونرى أنه أنما كان يسهم لليهود إذا غزوا مع المسلمين بهذا الشرط الذي شرطه عليهم من النفقة.
ولولا هذا لم يكن لهم في غنائم المسلمين سهم.
الأموال 193، 194، 195، 196، 197.
(1) أخرجه أحمد في المسند 2 / 346 وابن عدي في الكامل 6 / 2221 وذكره المتقي الهندي في الكنز (1347).
(*)(3/383)
المعنى: " لو آمن في الزمان الماضي كالزمن الذي قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة أو حال قدومه ".
قال الحافظ: " والذي يظهر أنهم وهم الذين كانوا حيئذ رؤساء في يهود، ومن عداهم كان تبعا لهم، فلم يسلم منهم إلا القليل كعبد الله بن سلام، وكان من المشهورين بالرياسة في يهود بني قينقاع عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن بني النضير: أبو ياسر - بتحيتة وسين فراء مهملتين - ابن أخطب - بخاء معجمة فطاء مهملة فموحدة - وأخوه حيى بن أخطب، وكعب بن الأشرف وأبو رافع سلام بن الربيع بن أبي الحقيق - بقافين مصغر.
ومن بني قينقاع: سعد بن حنيف، وفنحاص - بفاء مكسورة فنون ساكنة فحاء مهملة فألف فصاد مهملة - ورفاعة بن زيد (ابن التابوت).
ومن بني قريظة: الزبير - بفتح الزاي - ابن باطى بن وهب، وكعب بن أسد وهو صاحب عقد بني قريظة الذي نقض عام الأحزاب وشمويل بن زيد، فهؤلاء لم يثبت أحد منهم، وكان كل منهم رئيسا في اليهود، لو أسلم لتبعه جماعة، فيحتمل أن يكونوا المراد.
وروى أبو نعيم في الدلائل من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: " لو آمن بي الزبير بن باطى وذووه من رؤساء لأسلموا كلهم " (1).
وأغرب السهيلي فقال: لم يسلم من
أحبار اليهود إلا اثنان عبد الله بن سلام.
وعبد الله بن صوري، قال الحافظ: كذا قال، ولم أر لعبد الله بن صوري إسلاما من طريق صحيحة، فإنما نسبه السهيلي في موضع آخر لتفسير النقاش.
قال ابن إسحاق: " ونصبت بعد ذلك أحبار يهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم - العداوة بغيا وحسدا وضغنا لما خص الله تعالى به العرب من اصطفاء رسوله منهم.
وكانت أحبار يهود، هم الذين يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعنتون ويأتونه باللبس ليلبسوا الحق بالباطل، وكان القرآن ينزل فيهم وفيما يسألون عنه، إلا قليلا من المسائل في الحلال والحرام كان المسلمون يسألون عنها ".
وذكر ابن إسحاق وغيره أسماء اليهود، ولا حاجة بي هنا إلى ذكرهم، بل من جاء ذكره في كتابي تكلمت عليه، وكانوا ثلاث قبائل: قينقاع - بفتح القاف وتثليث النون وبالعين المهملة، ويجوز صرفه على إرادة الحي وترك صرفه على إرادة القبيلة أو الطائفة - وهم الوسط من يهود المدينة.
وإذا قلت: بنو قينقاع فالوجه الصرف، وقريظة - بقاف مضمومة فظاء معجمة مشالة.
وهو أخو النضير والوسط من يهود المدينة، والنضير - بضاد معجمة ساقطة وزن كريم.
وحاربته الثلاثة، ونقضوا العهد الذي بينه وبينهم، فمن على بني قينقاع، وأجلى بني النضير، وقتل بني قريظة، وسبى ذريتهم، ونزلت سورة الحشر في بني النضير، وسورة الأحزاب في بني قريظة، وسيأتي بيان ذلك مفصلا في المغازي إن شاء الله تعالى.
__________
(1) انظر فتح الباري 7 / 275.
(*)(3/384)
الباب الرابع في سؤال اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح
روى الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حرث المدينة - وفي لفظ: حرث الأنصار وفي لفظ: في نخل - وهو متوكئ على عسيب - وفي لفظ: ومعه
جريدة، إذ مر اليهود - وفي لفظ: إذ مر بنفر من اليهود - فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يسمعكم ما تكرهون - وفي لفظ: لا يستقبلكم بشئ تكرهونه - فقال بعضهم لبعض: لنسألنه، فقام إليه رجل - وفي لفظ: فقاموا إليه فقالوا: " يا محمد " - وفي لفظ: " يا أبا القاسم ما الروح " ؟ - وفي لفظ: " فأخبرنا عن الروح، كيف تعذب الروح الذي في الجسد ؟ وإنما الروح من الله عز وجل " فسكت - وفي لفظ: فما زال متكئا على العسيب، فعلمت أنه يوحى إليه، فتأخرت فلما نزل الوحي قال: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (1).
(الإسراء: 85) وفي رواية عند ابن جرير بسند رجاله ثقات عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه: فقالوا: " هكذا نجده في كتابنا ".
فقال بعضهم لبعض: " وقد قلنا لكم: لا تسألوه ".
تنبيهات الأول: دل حديث ابن مسعود على أن نزول هذه الآية كان بالمدينة وروى الإمام أحمد والترمذي وصححه، والنسائي وابن حبان عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود: اعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل.
فقالوا: سلوه عن الروح.
فنزلت: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
قالوا: " أوتيتم علما كثيرا.
أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا ".
فأنزل الله عز وجل (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) (الكهف 109) سند رجاله رجال صحيح مسلم، ورواه ابن إسحاق من وجه آخر نحوه، وسبق في باب امتحان المشركين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأشياء لا يعرفها إلا نبي.
وروى ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا: يا محمد، بلغنا أنك تقول: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) أفعنيتنا أم عنيت قومك ؟ قال: " لا بل
__________
(1) أخرجه البخاري 8 / 253 (4721).
(*)(3/385)
عنيتكم ".
فقالوا: " إنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شئ ".
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن علمتم به انتفعتم "، وأنزل الله عز وجل: " ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم، ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير) (لقمان 27، 28) ودل حديث ابن مسعود، وأثر عطاء أن الآية نزلت بمكة، وجمع بينهما وبين حديث ابن مسعود رضي الله عنه بتعدد النزول، ويحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك أن ساغ ذلك، وإلا فما في الصحيح أصح.
وقال الشيخ رحمه الله تعالى في الإتقان: " إذا استوى الإسنادان في الصحة فيرجح أحدهما بكون راويه حاضر القصة أو نحو ذلك من وجوه الترجيحات "، ثم ذكر (مثالا له) حديث ابن مسعود وحديث ابن عباس المذكورين.
ثم قال: " فهذا - أي حديث ابن عباس - يقتضي أن الآية نزلت بمكة، والحديث الأول خلافه ".
وقد رجح أن ما رواه البخاري أصح من غيره، وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة.
الثاني: قال أبو نعيم: " قيل من علامات نبوة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المنزلة أنه إذا سئل عن الروح فوض العلم بحقيقتهما إلى منشئها وبارئها، وأمسك عما خاضت فيه الفلاسفة وأهل المنطق القائلون بالحدس والتخمين، فامتحنه اليهود بالسؤال عنها ليقفوا منه على نعته المثبت عندهم في كتابهم، فوافق كتابه ما ثبت في كتبهم ".
الثالث: قال ابن التين: " اختلف في الروح المسؤول عنها في هذا الخبر على أقول: الأول: روح الإنسان، الثاني: روح الحيوان، الثالث: جبريل.
الرابع: عيسى - الخامس: القرآن.
السادس: الوحي.
السابع: ملك يقوم وحده صفا يوم القيامة.
الثامن: ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى (بتلك اللغات كلها) ويخلق الله سبحانه وتعالى من كل تسبيحه ملكا يطير مع الملائكة، وقيل: ملك رجلاه في الأرض السفلى ورأسه عند قائمة العرش، التاسع: خلق كخلق بني آدم يأكلون
ويشربون، لا ينزل ملك من السماء إلا نزل معه ملك منهم.
وقيل: هو صنف من الملائكة يأكلون ويشربون ".
قال الحافظ: " وهذا إنما يجمع من كلام أهل التفسير في معنى لفظ " الروح " الوارد في القرآن لا خصوص هذه الآية، فمن الذي في القرآن: 1 (نزل به الروح الأمين) (الشعراء 193)، 2 (وكذلك أوحينا - إليك روحا من أمرنا) (الشورى 52)، 3 (يلقي الروح من أمره) (غافر: 15)، 4 (وأيديهم بروح منه) (المجادلة 22)، 5 (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) (النبأ 38)، 6 (ينزل الملائكة بالروح من أمره) (النحل 2) ؟ فالأول: جبريل، والثاني: القرآن، والثالث: الوحي، والرابع: القوة، والخامس والسادس: محتمل لجبريل أو غيره، ووقع إطلاق الروح على عيسى.(3/386)
وري إسحاق بن راهويه بسند صحيح عن ابن عباس قال: " الروح من الله، وخلق من خلق الله، وصور كبني آدم، لا ينزل ملك إلا ومعه أخذ من الروح "، وقال الخطابي: " حكوا في المراد بالروح في الآية أقوالا، وقال الأكثرون: سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد.
وقال أهل النظر: " سألوه عن مسلك الروح وامتزاجها بالجسد، وهذا هو الذي استأثر الله بلعمه.
وقال القرطبي: " الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان، لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله، ولا نجهل أن جبريل ملك وأن الملائكة الروح ".
وقال الإمام فخر الدين: " المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه، وبيانه: أن السؤال عن الروح يحتمل أن يكون عن ماهيتها، وهل هي متحيزة أم لا، وهل هي حالة في متحيز أم لا، وهل هي قديمة أو حادثة، وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى، وما حقيقة تعذيبها وتنعيمها وغير ذلك من تعلقاتها " ؟ قال: " وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية وهل الروح قديمة أو حادثة ؟ والجواب يدل على أنها شئ موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها، فهي جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى: " كن فكان ".
قال: هي موجودة محدثة بأمر الله عز وجل، وتكوينه،
ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيها.
الرابع: تنطع قوم " فتباينت أقوالهم في الروح، فقيل: هي النفس الداخل الخارج، وقيل الحياة، وقيل: جسم لطيف يحل في جميع البدن، وقيل: هي الدم، وقيل: هي عرض، حتى قيل: إن الأقوال بلغت المائة، ونقل ابن مندة عن بعض المتكلمين أن لكل نبي خمس أرواح، أن لكل مؤمن ثلاثا، ولكل حي واحدة.
الخامس: قال القضي أبو بكر بن العربي: " اختلفوا في الروح والنفس، فقيل متغايران وهو الحق، وقيل: هما شئ واحد، وقد يعبر بالروح عن النفس وبالعكس، كما يعبر عن الروح وعن النفس بالقلب وبالعكس، وقد يعبر عن الروح بالحياة حتى يتعدى ذلك إلى غير العقلاء بل إلى الجهال مجازا.
قال تلميذه السهيلي: يعني على مغايرة الروح والنفس قوله تعالى: " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي " (الحجر: 29)، وقوله تعالى: (تعلم ما في انفسي ولا أعلم ما في نفسك) (المائدة 116) فإنهلا يصح جعل أحدهما موضع الآخر، ولولا التغاير لساغ ذلك.
السادس: في قوله تعالى: (قل الروح من أمر ربي)، قال الإمام فخر الدين الرازي: " يحتمل أن يكون المراد بالأمر هنا الفعل كقوله تعالى: " وما أمر فرعون برشيد " (هود 97)(3/387)
أي فعله فيكون الجواب: الروح من فعل ربي، إن كان السؤال: هل هي قديمة أو حادثة ؟ فيكون الجواب: أنها حادثة "..إلى أن قال: " ولهذا سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء والتعمق فيها ".
وقال الإسماعيلي: " يحتمل أن يكون جوابا وأن الروح من جملة أمر الله وأن يكون المراد: اختص الله عز وجل بعلمه ولا سؤال لأحد عنه ".
وقال السهيلي بعد أن حكى ما المراد في الآية: " وقالت طائفة: الروح الذي سألت عنه اليهود هو الروح الإنسان، ثم اختلف أصحاب هذا القول، فمنهم من قال: لم يجبهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم على سؤالهم، لأنهم سألوه تعنتا واستهزاء، فقال الله عز وجل: (قل الروح من أمر ربي)، ولم يأمره أن يبينه لهم، وقالت طائفة: بل أخبرهم وأجابهم بما سألوه، لأنه قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل الروح من أمر ربي)، وأمر الرب هو الشرع والكتاب الذي جاء به، فمن دخل في الشرع وتفقه في الكتاب والسنة عرف الروح، فكان معنى الكلام: ادخلوا في الدين تعرفوا ما سألتم عنه، فإنه من أمر ربي أي من الأمر الذي جئت به مبلغا عن الرب، وذلك أن الروح لا سبيل إلى معرفتها من جهة الطبيعة ولا من جهة الفلسفة ولا من جهة الرأي والمعرفة، وإنما تعرف من جهة الشرع، فإذا نظرت إلى ما في الكتاب والسنة من ذكرها نحو قوله تعالى: (ثم سواه ونفخ فيه من روحه) (السجدة: 9) أي من روح الحياة، والحياة من صفات الله سبحانه وتعالى، وإلى ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن " الأرواح جنود مجندة "، وأنها تتعارف وتتشام في الهواء، وأنها تقبض من الأجساد بعد الموت، وأنها تسأل في القبر فتفهم السؤال وتسمع وترى، وتنعم وتعذب، وتلتذ وتتألم، وهذه كلها من صفات الأجسام، فإنك تعرف أنها أجسام بهذه الدلائل، لكنها ليست كالأجسام في كثافتها وثقلها وإظلامها، إذ الأجسام خلقت من طين وحمأ مسنون، فهو أصلها، والأرواح خلقت من ماء كما قال الله سبحانه وتعالى، ويكون النفخ المتقدم المضاف إلى الملك، والملائكة خلقت من النور كما جاء في الصحيح وإن كان قد أضاف النفخ إلى نفسه سبحانه وتعالى وكذلك أضاف قبض الأرواح إلى نفسه فقال: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) (الزمر 42)، وأضاف ذلك إلى الملك أيضا فقال: (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) (السجدة 11)، والفعل مضاف إلى الملك مجازا وإلى الرب حقيقة.
فالروح إذا جسم ولكنه من جنس الريح، ولذلك سمي روحا من لفظ الريح، ونفخة الملك في معنى الريح، غير أنه ضم أوله لأنه نوراني، والريح هواء متحرك.
وإذا كان الشرع قد عرفنا من معاني الروح وصفاتها هذا القدر، فقد عرف من جهة أمرها كما قال سبحانه وتعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (الإسراء 85)، وقوله: " من أمر ربي "، أيضا، ولم يقل من(3/388)
أمر الله، ولا من أمر ربكم، يدل على خصوص، وعلى ما قدمنا من أنه لا يعلمه إلا من أخذ معناه من قوله الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، بعد الإيمان بالله ورسوله واليقين الصادق والفقه في الدين، فإن كان لم يخبر اليهود حين سألوا عنها، فقد أحالهم على موضع العلم بها.
السابع: قال ابن القيم: ليس المراد بالأمر هنا الطلب اتفاقا، وإنما المراد به المأمور، والأمر يطلق على المأمور، كالخلق على المخلوق، ومنه (لما جاء أمر ربك) (هود 101) الآية.
الثامن: قال ابن بطال: " معرفة حقيقة الروح مما استأثر الله عز وجل بعلمه بدليل هذا الخبر "، قال: " والحكمة في إبهامه اختبار الخلق ليعرفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه حتى يضطرهم إلى رد العلم إليه ".
وقال القرطبي: " الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء، لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه مع القطع بوجوده كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق من باب أولى ".
التاسع: ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يفسر الروح أي لا يعين المراد بها في الآية.
وممن رأي الإمساك عن الكلام في الروح أستاذ الطائفة أبو القاسم الجنيد رحمه الله تعالى، كما في عوارف المعارف عنه بعد أن نقل كلام الناس في الروح، وكان الأولى الإمساك عن ذلك، والتأدب بأدب النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم نقل عن الجنيد أنه قال: " الروح شئ استأثر الله عز وجل بعلمه، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه فلا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود ".
وعلى ذلك جرى ابن عطية وجمع من أهل التفسير، وأجاب من خاض في ذلك بأن اليهود سألوا عنها سؤال تعجيز وتغليظ لكونه يطلق على أشياء، فأضمروا بأنه بأي شئ أجاب ؟ قالوا: ليس هذا المراد، فرد الل كيدهم وأجابهم جوابا مجملا مطابقا لسؤالهم المجمل.
وقال في العوارف: " ويجوز أن يكون كلامهم في ذلك بمثابة التأويل لكلام الله تعالى والآيات المنزلة حيث حرم تفسيره وجوز تأويله، إذ لا يسوغ التفسير إلا نقلا، وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل وهو ذكر ما تتحمل الآية (من المعنى من غير القطع بأنه المراد).
وإذا
كان الأمر كذلك فللقول فيه وجه ومحمل.
قال: وظاهر الآية المنع من القول فيها، فختم الآية بقوله: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) أي اجعلوا حكم الروح من الكثير الذي لم تؤتوه فلا تسألوا عنه فإنه من الأسرار.
العاشر: نقل ابن منده في كتاب الروح له عن الإمام الحافظ المطلع على اختلاف الأحكام من عهد الصحابة إلى عهد فقهاء الأمصار محمد بن نصر المروزي أنه نقل الإجماع على أن الروح مخلوقة، وإنما نقل القول بقدمها عن بعض غلاة الرافضة والمتصوفة.(3/389)
الحادي عشر: اختلف هل تفنى عند فناء العالم قبل البعث أو تستمر باقية ؟ على قولين أرجحهما الثاني عند الجمهور.
الثاني عشر: ذكر بعض المفسرين أن الحكمة في سؤال اليهود عن الروح أن عندهم في التوراة أن روح بني آدم لا يعلمها إلا الله عز وجل، فقالوا: نسأله فإن فسرها فهو نبي، وهو معنى قولهم: لا يجئ بشئ تكرهونه.
الثالث عشر: جنح ابن القيم في كتاب الروح إلى ترجيح أن المراد بالروح المسؤول عنها في الآية ما وقع في قوله تعالى (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) (النبا: 38) وأما أرواح بني آدم فلم يقع تسميتها في القرآن إلا نفسا.
قال الحافظ: " كذا قال ولا دلالة في ذلك لما رجحه، بل الراجح الأول: فقد روى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه القصة أنهم قالوا: أخبرنا عن الروح، وكيف يعذب الروح الذي في الجسد ؟ إلى آخره (ما قالوا وقد) تقدم بتمامه.
الرابع عشر: قال بعضهم: ليس في الآية دلالة على أن الله سبحانه وتعالى لم يطلع نبيه على حقيقة الروح، بل يحتمل أن يكون أطلعه، ولم يأمره أن يطلعهم، وقد قال في علم الساعة نحو هذا كما سيأتي مبسوطا في الخصائص إن شاء الله تعالى.
الخامس عشر: وقع في الصحيح في العلم والاعتصام والتوحيد، وكذا عند مسلم: إذ
مر بنفر، عند ابن حجر من وجه آخر: إذ مررنا على يهود، ووقع في التفسير: إذ مر اليهود، بالرفع على الفاعلية، ويحتمل هذا الاختلاف على أن الفريقين تلاقوا فيصدق أن كلا مر بالآخر.
السادس عشر: في بيان غريب ما سبق: " حرث ": بفتح الحاء مهملة وسكون الراء بعدها مثلثة، ووقع عند البخاري في كتاب العلم خرب (1) بخاء معجمة مفتوحة فراء مسكورة.
" يتوكأ ": يعتمد.
" عسيب ": بعين فسين مهملتين وآخره موحدة بوزن عظيم وهو جريدة (النخل) التي لا خوص عليها.
قال ابن فارس: العسبان من النخل كالقضبان من غيرها.
" يهود ": هذا اللفظ معرفة تدخله الألف واللام تارة وتارة يتجرد، وحذفوا منه ياء النسبة تفرقة بينه وبين مفرده، كما قالوا: زنج وزنجي.
__________
(1) انظر اللسان 2 / 1122.
(*)(3/390)
الباب الخامس في تحريهم في مدة مكث هذه الأمة لما سمعوا الحروف المقطعة في أوائل السور
قال ابن اسحاق - فيما ذكر لي عن عبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله بن رئاب - " إن أبا ياسر بن أخطب مر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو فاتحة البقرة (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) (البقرة 1، 2)، فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من يهود، فقال: تعلموا، والله لقد سمعت محمدا يتلوا فيما أنزل عليه: (الم ذلك الكتاب) فقالوا: أنت سمعته ؟ قال: نعم.
فمشى حيى بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: " يا محمد، ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل عليك " الم ذلك الكتاب) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بلى ".
قالوا: " أجاءك بها جبريل من عند الله ؟ قال: " نعم ".
قالوا: " لقد بعث
الله قبلك أنبياء أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمتة غيرك ".
فقام حيي بن أخطب، وأقبل على من معه فقال لهم: " الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخلون في دين (نبي) إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة " ؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا محمد هل مع هذا غيره " ؟ قال: " نعم " قال: ماذا ؟ قال: " المص " (الأعراف 1) قال: هذا أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه إحدى وستون ومائة سنة، هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال: " نعم "، قال وما ذلك ؟ قال: (الر) (يوسف: 1) قال: " هذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة فهل مع هذا غيره يا محمد ؟ " قال: " نعم ".
(المر) (الرعد 1).
قال: " هذه والله أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة ".
ثم قال: " لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ".
ثم قاموا عنه، فقال أبو ياسر لأخيه ولمن معه من الأحبار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد: إحدى وسبعون (وإحدى وستون ومائة)، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون ".
فقالوا: لقد تشابه علينا أمره.
فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) (آل عمران 7).
(وقال ابن إسحاق): " وقد سمعن من لا أتهم من أهل العلم يذكر أن هؤلاء الآيات أنزلت في أهل نجران حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن عيسى بن مريم.
وقد حدثني(3/391)
محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أن هؤلاء الآيات إنما أنزلن في نفر من يهود ولم يفسد ذلك لي، فالله أعلم أي ذلك كان ".
تنبيهات الأول: روى البخاري في تاريخه وابن جرير من طريق ابن إسحاق عن الكلبي عن أبي
صالح عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله فذكر الحديث السابق، فبان سند ابن إسحاق بذلك.
ورواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، عن أبي سعيد.
ورواه ابن المنذر من وجه آخر عن ابن جرير مفصلا.
الثاني: قال السهيلي: " وهذا القول من أخبار يهود، وما تأولوه من معاني هذه الحروف محتمل حتى الآن أن يكون من بعض ما دلت عليه هذه الحروف المقطعة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكذبهم فيما قالوا من ذلك ولا صدقهم.
وقال في حديث آخر: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وبرسوله " (1).
وإذا كان في حد الاحتمال وجب أي يفحص عنه في الشريعة، هل يشير إلى كتاب أو سنة ؟ فوجدنا في التنزيل (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) (الحج 47) ووجدنا في حديث زمل الخزاعي حين قص على رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا قال فيها: " رأيتك يا رسول الله على منبر له سبع درجات، وإلى جنبك ناقة عجفاء كأنك تبعثها ".
ففسر له النبي صلى الله عليه وسلم الناقة بقيام الساعة التي أنذر بها، وقال في المنبر ودرجاته: " الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخرها ألفا " (2) والحديث وإن كان ضعيف الإسناد فقد روي موقوفا عن ابن عباس من طرق صحاح أنه قال: " الدنيا سبعة أيام كل يوم منها ألف سنة " (3)، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم منها، وقد مضت (منه) سنون أو قال مئون: (قال السهيلي): ولكن إذا قلنا: إنه عليه الصلاة والسلام بعث في الألف الأخيرة بعد ما مضت منه سنون، ونظرنا بعد إلى الحروف المقطعة في أوائل السور وجدناها أربعة عشر حرفا يجمعها قولك: " ألم يسطع نص حق كره "، ثم نأخذ العدد على حساب أبي جاد، فنجد حرفا يجمعها قولك: " ألم يسطع نص حق كره ".
ثم نأخذ العدد على حساب أبي جاد، فنجد " ق " مائة و " ر " مائتين و " س " ثلثمائة فهذه ستمائة و " ع " سبعين، و " ص " ستين، فهذه سبعمائة وثلاثون، و " ن " خمسين و " ك " عشرين، فهذه ثمانمائة و " م " أربعين و " ل " ثلاثين، فهذه ثمانمائة وسبعون، و " ي " عشرة و " ط " تسعة و " ا " واحد، فهذه ثمانمائة وتسعون، و " ح " ثمانية و " ه " خمسة، فهذه تسعمائة وثلاثة.
ولم يسم الله عز وجل في أوائل السور إلا هذه
__________
(1) أخرجه البخاري 3 / 237 والبيهقي في السنن 10 / 163.
(2) انظر فتح الباري 11 / 351.
(3) أخرجه الفتني في تذكرة الموضوعات (224).
(*)(3/392)
الحروف، فليس يبعد أن يكون من بعض مقتضياتها وبعض فوائدها الإشارة إلى هذا العدد من السنن لما قدمناه في حديث الألف السابع الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
غير أن الحساب يحتمل أن يكون من مبعثه أو من وفاته أو من هجرته، وكل قريب بعضه من بعض، فقد جاءت أشراط الساعة ولكن لا نأتيكم إلا بغتة.
وقد روى أن المتوكل العباسي سأل جعفر بن عبد الواحد القاضي، وهو عباسي أيضا، عما بقي من الدنيا فحدثه بحديث رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أحسنت أمتي فبقاؤها يوم من الأيام الآخرة وذلك ألف سنة، وإن أساءت فنصف يوم "، ففي هذا الحديث تتميم للحديث المتقدم وبيان له، إذ قد انقضت الخمسمائة والأمة باقية والحمد لله ".
هذا آخر كلام السهيلي، وفيه مناقشات من الزهر والفتح مع زيادتها من غيرها.
الأولى: قوله: وجدنا في حديث زمل الخزاعي إلخ صوابه: ابن زمل، وسماه بعضهم: عبد الله، وبعضهم: الضحاك، وبعضهم: عبد الرحمن، وصوب الحافظ في الإصابة الأول، وقوله الخزاعي صوابه الجهني كما ذكره في الزهر.
الثانية: قوله: وإن كان إسناد هذا الحديث ضعيفا.
إلخ، اقتصر على ضعفه، قال (ابن حجر) في الفتح: إسناده ضعيف جدا، وقال في الإصابة: " تفرد برواية (حديثه سليمان بن عطاء القرشي الحراني عن مسلم بن عبد الله الجهني ".
انتهى.
قلت: وسليمان بن عطاء.
قال الذهبي في المغنى: " هالك اتهم بالوضع ".
وقال الحافظ في التقريب: " منكر الحديث ".
وأورده ابن الجوزي في الأحاديث الواهية، ووصف بعض رجاله بوضع الحديث.
وقال ابن الأثير: " ألفاظه مصنوعه ملفقة ".
وروى ابن عدي عن أنس مرفوعا: " عمر الدنيا سبعة أيام من أيام الآخرة ".
وفي سنده " العلاء بن زيدل " وهو المتهم به.
ورواه ابن عساكر من طريق أبي علي الحسين بن داود البلخي، قال الخطيب: " ليس بثقة، حديثه موضوع ".
وقال الحاكم: " روى عن جماعة لا يحتمل سنة السماع منهم، وله عندهم العجائب يستدل بها على حاله ".
وفي سنده أيضا أبو هاشم الأيلي.
ورواه الحاكم، والترمذي الحكيم في نوادره، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفي سنده صالح ابن محمد، عن يعلى بن هلال، عن ليث بن مجاهد.
الثالثة: قوله: " فقد روى موقوفا عن ابن عباس من طرق صحاح "، قلت: لم أقف له إلا من طريق واحد غير صحيح، رواه ابن جرير في مقدمة تاريخه، ومنه أخذ السهيلي من طريق يحيى بن يعقوب وهو أبو طالب القاص الأنصاري، قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم، محله الصدق، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ.(3/393)
الرابعة: ما ذكره في عدد الحروف مبني على طريقة المغاربة: السين بثلثمائة، والصاد بستين، وعند المشارقة: السين ستون والصاد تسعون.
فيكون المقدار عندهم ستمائة وثلاثة وتسعون، وقد مضت وزيادة عليها فإنه في سنة خمس وثلاثين وتسعمائة فالجملة على ذلك من هذه الحيثية باطلة.
الخامسة: ثبت عن ابن عباس الزجر عن عدد أبي جاد، والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر.
قال الحافظ: " وليس ببعيد فإنه لا أصل له في الشريعة ".
السادسة: قال القاضي أبو بكر بن العربي شيخ السهيلي في قوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت أنا والساعة كهاتين "، وأشار بالسبابة والوسطى.
قيل: الوسطى تزيد على السبابة بنصف سبع إصبع، وكذلك الباقي من البعثة إلى قيام الساعة ".
قال " وهذا بعيد، ولا يعلم مقدار الدنيا، فكيف يتحصل لنا نصف سبع أمد مجهول ؟ فالصواب الإعراض عن ذلك ".
وقال القاضي في الإكمال: " حاول بعضهم في تأويله أن نسبة ما بين الإصبعين كنسبة ما بقي من الدنيا إلى ما
مضى، وأن جملتها سبعة آلاف سنة، واستند إلى أخبار لا تصح، وذكر ما أخرجه أبو داود في تأخر هذه الأمة نصف يوم وفسره بخمسمائة سنة، فيؤخذ من ذلك نصف سبع، وهو قريب مما يلي السبابة، والوسطى في الطول ".
قال: " وقد ظهر عدم صحة ذلك لوقوع خلافه ومجاوزة هذا المقدار ولو كان ذلك ثابتا لم يقع خلافه ".
انتهى.
وقد انضاف إلى ذلك منذ عهد القاضي إلى هذا الحين نحو الأربعمائة سنة.
وقال ابن العربي أيضا في فوائد رحلته: " ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد تحصل لى فيها عشرون قولا وأزيد، ولا أعرف أحد يحكم عليها بعلم ولا يصل فيها إلى فهم " إلى آخر ما ذكره.
وقد ذكرته مع فوائد أخرى في الكلام على هذه الحروف في كتابي.
" القول الجامع الوجيز الخادم للقرآن العزيز ".
لا توجد مجموعة في غيره.
السابعة: قال الحافظ: " وأما عدد الحروف فإنما جاء عن بعض اليهود، وعلى تقدير أن يكون ما ذكر في عدد الحروف فليحمل على جميع الحروف الواردة ولا يحذف المكرر فإنه ما من حرف إلا وله سر يخصه، أو يقتصر على حذف المكرر من أسماء السور ولو تكررت الحروف فيها، فإن السور التي ابتدئت بذلك تسع وعشرون سورة، وعدد حروف الجميع ثمان وستون حرفا وهي: الم ستة، وحم: سبعة، والر: خمسة، وطسم: اثنتان والمص وكهيص وطه وطس ويس وص وق ون.
فإذا حذف ما كرر من السور وهي خمس من الم وست من حم، وأربع من الر وواحدة من طسم، بقي أربع عشرة سورة عدد حروفها ثمان وثلاثون حرفا.(3/394)
فإذا حسبت عددها بالجمل المغربي بلغت ألفين وستمائة وأربعة وعشرين، وأما بالجمل المشرقي فتبلغ ألفا وسبعمائة وأربعة وخمسين.
قال الحافظ: " ولم أذكر ليعتمد عليه وإنما ليتبين أن الذي جنح إليه السهيلي لا ينبغي الاعتماد عليه لشدة التخالف فيه ".
الثامنة: في جامع معمر عن مجاهد وعكرمة في قوله تعالى: (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) (المعارج 4) لا يدري كم مضى ولا كم بقي إلا الله عز وجل.
التاسعة: ما نقله عن جعفر بن عبد الواحد، فهي شئ موضوع لا أصل، له، ولا يعرف إلا من جهته، وهو مشهور بوضع الحديث عند الأئمة، مع أنه لم يسبق له سند بذلك، والعجب من السهيلي كيف سكت عليه مع علمه بحاله.(3/395)
الباب السادس في سبب نزول سورة الإخلاص
روى أبو الشيخ في العظمة عن أنس بن مالك، وابن أبي حاتم، وابن عدي، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس والطبراني في السنة عن الضحاك، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة، أن رهطا من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب، جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: " يا محمد، هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله " ؟ فضغب النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتقع لونه، ثم ساورهم غضبا لربه، فجاء جبريل فسكنه وقال: " خفض عليك يا محمد "، وجاءه من الله عز وجل بجواب ما سألوه (عنه) فأنزل الله تعالى (قل هو الله أحد) (الإخلاص 1) (1)، أصل أحد هنا واحد، لأنه بمعنى الواحد، قلبت الواو همزة، وهو دال على جميع صفات الجلال، كما دل الله على جميع صفات الكمال، إد الواحد القيقي، ما يكون منزه الذات عن اتحاد التركيب والتعدد، وما يستلزمه أحدهما كالجسمية والتحيز (الله الصمد): المقصود في الحوائج على الدوام، أو هو الذي قد انتهى في سؤدده، فيصمد الناس إليه في حوائجهم، والخلائق يفترون إلى رحمته، أو هو من لا جوف له، أو هو الكامل في جميع صفاته، أو الذي لا يطعم ولا يخرج منه شئ أو الباقي بعد فناء خلقه، والله تعالى هو الموصوف بهذا على الإطلاق، فإنه مستغن عن غيره مطلقا، وكل ما عداه يحتاج إليه في جميع جهاته، وتعريفه بصمديته بخلاف أحديته.
وتكرر الاسم الكريم للإشعار بأنه من لم يتصف به
__________
(1) قال الرازي: في سبب نزولها وفيه وجوه: الأول: أنها نزلت بسبب سؤال المشركين، قال الضحاك: إن المشركين أرسلوا عامر بن الطفيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: شققت عصانا وسبب آلهتنا، وخالفت دين آبائك، فإن كنت فقيرا أغنياك، وإن
كنت مجنونا داويناك، وإن هويت امرأة زوجناكها، فقال عليه الصلاة والسلام: " لست بفقير، ولا مجنون، ولا هويت امرأة، أنا رسول الله أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته "، فأرسلوه ثانية وقالوا: قل له بين لنا جنس معبدوك، أمن ذهب أو فضة، فأنزل الله هذه السورة، فقالوا له: ثلثمائة وستون صنما لا تقوم بحوائجنا، فكيف يقوم الواحد بحوائج الخلق ؟ فنزلت: (والصافات) (الصافات: 1) إلى قوله: (إن إلهكم لواحد) (الصافات: 4) فأرسلوه أخرى، وقالوا بين لنا أفعاله فنزل: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض) (يونس: 3).
الثاني: أنها نزلت بسبب سؤال اليهود ؟ روى عكرمة عن ابن عباس أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله ومعهم كعب بن الأشرف، فقالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله ؟ فغضب نبي الله عليه السلام فنزل جبريل فسكنه، وقال: اخفض جناحك يا محمد، فنزل: (قل هو الله أحد) فلما تلاه عليهم قالوا: صف لنا ربك كيف عضده، وكيف ذراعه ؟ فضغب أشد من غضبة الأول، فأتاه جبريل بقوله: (وما قدروا الله حق قدره) (الإنعام: 91).
الثالث أنها نزلت بسبب سؤال النصارى، روى عطاء عن ابن عباس، قال: قدم وفد نجران، فقالوا: صف لنا ربك أمن زبرجد أو ياقوت، أو ذهب، أو فضة ؟ فقال: إن ربي ليس من شئ لأنه خالق الأشياء فنزلت - قل هو الله أحد) قالوا: هو واحد، وأنت واحد، فقال: ليس كمثله شئ، قالوا: زدنا من الصفة، فقال: (الله الصمد) فقالوا: وما الصمد ؟ فقال: الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج، فقالوا: زدنا فنزل: (لم يلد) كما ولدت مريم (ولم يولد) كما ولد عيسى (ولم يكن له كفوا أحد) يريد نظيرا من خلقه).
تفسير الرازي 32 / 161.
(*)(3/396)
لم يستحق الألوهية، وإخلاء الجملة من العاطف، لأنها كالنتيجة للأولى أو الدليل عليها.
(لم يلد): المفعول محذوف أي لم يلد أحدا، والأصل يولد، حذفت الواو لوقوعها بين ياء مفتوحة ولا مكسورة فصار مثل " يعد ".
(ولم يولد): النائب عن الفاعل محذوف أي لم يلده أحد، وثبتت الواو في يولد لأنها لم تقع بين ياء مفتوحة وكسرة.
ولما كان الرب سبحانه وتعالى واجب الوجود لذاته قديما، موجودا قبل وجد الأشياء، وكان كل مولود محدثا انتفت عنه الولدية، ولما كان لا يشبهه أحد من خلقه ولا يجانسه حتى يكون له من جنسه صاحبة فيتوالد، انتفت عنه الوالدية، ومن هذا قوله تعالى: (أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة)
(الأنعام 101)، (ولم يكن له كفوا أحد): أي لم يكن له أحد يكافئه أي يماثله من صاحبة وغيره " وله " متعلق ب " كفوا " وقدم عليه لأنه محط القصد، وأخر " أحد " وهو اسم " يكن " عن خبرها رعاية للفاصلة.
ولاشتمال هذه السورة مع قصرها على جميع المعارف الإلهية والرد على من ألحد فيها، جاء في الحديث أنها تعدل ثلث القرآن فإن مقاصده محصورة في بيان الأحكام والقصص، ومن عدلها اعتبر المقصود بالذات (1).
قال ابن إسحاق: " فلما تلاها عليهم، قالوا: " فصف لنا يا محمد ربك كيف خلقه، كيف ذرعه، كيف عضده " ؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول، وساورهم غضبا لربه.
فأتاه جبريل، فقال له مثل مقالته وجاءه من الله تعالى بجواب ما سألوه عنه.
(وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) (الزمر 67)، أي ما عرفوه حق معرفته وما عظموه حق عظمته حى أشركوا به وشبهه بخلقه.
(والأرض جميعا)، جميعا: حال، أي السبع، (قبضته) أي مقبوضة له أي في ملكه وتصرفه يوم القيامة، (والسموات مطويات) أي مجموعات، " بيمينه " أي بقدرته سبحانه وتعالى عما يشركون معه.
تنبيه كذا ذكر ابن إسحاق سبب نزول هذه الأية، وروى الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه في سبب نزولها غير ذلك والله أعلم.
__________
(1) قال الرازي: اشتهر في الأحاديث أن قراءة هذه السورة تعدل قراءة ثلث القرآن، ولعل الغرض منه أن المقصود الأشرف من جميع الشرائع والعبادات، معرفة ذات الله ومعرفة صفاته ومعرفة أفعاله، وهذه السورة مشتملة على معرفة الذات، فكانت هذه السورة معادلة لثلث القرآن، وأما سورة (قل يا أيها الكافرون) (الكافرون: 1) فهي معادلة لربع القرآن، لأن المقصود من القرآن إما الفعل وإما الترك وكل واحد منهما فهو إما في أفعال القلوب وإما في أفعال الجوارح فالأقسام أربعة، وسورة (قل يا أيها الكافرون) لبيان ما ينبغي تركه من أفعال القلوب، فكانت في الحقيقة مشتملة على ربع القرآن، ومن هذا السبب اشتركت السورتان أعني (قل يا أيها الكافرون)، و (قل هو الله أحد) في بعض الأسامي فهما المقشقشتان والمبرئتان، من حيث إن كل واحدة منهما تقيد براءة القلب عما سوى الله تعالى، إلا أن (قل يا أيها الكافرون) يفيد بلفظه البراءة عما سوى الله وملازمة الاشتغال بالله و (وقل هو الله أحد) يفيد بلفظه الاشتغال بالله
وملازمة الإعراض عن غير الله أو من حيث إن (قل يا أيها الكافرون) تفيد براءة القلب عن سائر المعبودين سوى الله، و (قل هو الله أحد) تفيد براءة المعبود عن كل ما يليق به.
اه تفسير الرازي 32 / 192.
(*)(3/397)
الباب السابع في إرادة شاس بن قيس إيقاع الفتنة بين الأوس والخزرج لما رأى كلمتهم مجتمعة
روى ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن زيد بن أسلم مطولا، والفريابي وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس مختصرا، وابن المنذر عن عكرمة، وابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي كذلك واللفظ للأول، قال: كان شأس بن قيس شيخا قد عسا، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، فمر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية.
فلما أن جاء الإسلام اصطلحوا وألف الله بين قلوبهم.
فقال: " لقد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ".
فأمر فتى شابا من يهود كان معه فقال: " اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار.
ففعل، فأنشدهم بعض ما قاله أحد الحيين في حربهم، فكأنهم دخلهم من ذلك (شئ) فقال الحي الآخرون: وقد قال شاعرنا في يوم كذا: كذا وكذا (فقال الآخرون: وقد قال شاعرنا في يوم كذا: كذا وكذا، فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين: أوس بن قيظي (أحد بني حارثة بن الحارث) من الأوس، وجبار بن صخر (أحد بني سلمة) من الخزرج، فتفاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: " إن شئتم رددناها الآن جذعة ".
فغضب الفريقان جميعا، وقالوا: " قد فعلنا، موعدكم الظاهرة - والظاهرة الحرة - السلاح السلاح ".
فخرجوا إليها.
(فانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في
الجاهلية).
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: " يا معشر المسملين: الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بينكم، فترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا " ؟ (1) فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوهم: عدو الله شاس بن
__________
(1) ذكره السيوطي في الدر 2 / 57 وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(*)(3/398)
قيس، فأنزل الله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون.
قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون) (آل عمران 98، 99).
وأنزل الله في أوس بن قيظي، وجبار بن صخر، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا ما أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين.
وكيف تكفرون وأنتم تتلى على عليكم آيات الله وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) (آل عمران 100، 101).
نتبيه: في بيان غريب ما سبق: " شأس " (1): بشين معجمة فهمزة ساكنة فسين مهملة.
" عسا " بعين فسين مهملتين: أي كبر وأسن.
" الضغن " بكسر الضاد المعجمة: الحقد.
" قيلة " - بفتح القاف وسكون التحتية: أم الأوس والخزرج.
" بعاث ": بعين مهملمة ومثلثة - وتقدم الكلام عليها مبسوطا في أبواب بدء إسلام الأنصار.
" جبار ": بالجيم وتشديد الموحدة.
" جذعة " بفتح الجيم والذال المعجمة: أي أحدثنا الحرب.
" الحرة ": بفتح الحاء المهملة والراء المشددة: (وهي الأرض ذات الحجارة السود).
والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) انظر اللسان 4 / 2176.
(*)(3/399)
الباب الثامن في سبب نزول قوله تعالى: (لقد سمع الله قوله الذين قالوا إن الله فقير ونحن اغنياء) (آل عمران 181) وقوله تعالى: (إذ قوله ما أنزل الله على بشر من شئ) (الأنعام 91)
روى ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وابن جرير عن السدي، وابن جرير عن عكرمة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل بيت المدراس بعد نزول قوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) (البقرة 245) فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص (بن عازوراء) وكان من علمائهم وأحبارهم.
فقال أبو بكر: ويلك يا فنحاص: " إتق الله عز وجل وأسلم، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة ".
فقال فنحاص لعنه الله: " والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء (وما هو عنا بغني) ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا ".
فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال: " والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك أي عدو الله ".
فذهب فنحاض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، انظر ما فعل بي صاحبك.
فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: " ما حملك على ما صنعت ؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله (إن عدو الله) قال قولا عظيما إنه زعم أن الله عز وجل فقير وأنهم عنه أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه.
فجحد ذلك فنحاص، وقال: ما قلت ذلك.
فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص (ردا عليه) وتصديقا لأبي بكر رضي الله عنه: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق) (آل عمران 181) ونزل في أبي بكر الصديق، وما بلغه في ذلك في الغضب: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور) (آل عمران 186) (1).
وروى ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي في قوله تعالى: (إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شي قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى) الأنعام 91).
قال فنحاص اليهودي: ما أنزل الله على محمد من شئ.
قال السدي: والمشهور أنها نزلت في مالك بن
__________
(1) ذكره السيوطي في الدر 2 / 105 وعزاه لابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(*)(3/400)
الضيف.
وروى ابن جرير، وابن المنذر عن عكرمة في الآية قال: نزلت في مالك بن الضيف.
وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الضيف، ومعه جماعة فخاصم النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: فقالوا: يا أبا القاسم، ألا تأتنا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا.
فأنزل الله عز وجل: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا) (النساء 153).
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أنشدك الله بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين " ؟ وكان حبرا سمينا..فغضب وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ.
فقال له أصحابه الذين معه: ويحك ! ولا على موسى ؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شئ فأنزل الله عز وجل (نقصا لقولهم وردا عليهم): (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قل من أنزل الله الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) (الأنعام 91).(3/401)
الباب التاسع سفي سؤالهم عن أشياء لا يعرفها إلا نبي وجوابه لهم وتصديقهم إياه بأنه أصاب وتمردهم عن الايمان به
روى ابن إسحاق والطيالسي والفريابي والإمام أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي، وأبو نعيم عن غيرهم بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما، والبخاري في تاريخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق آخر عنه مختصرا، قال: " حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنها لا يعلمها إلا نبي.
قال: " سلوني عما شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة الله عز وجل، وما أخذ يعقوب على نبيه لئن حدثتكم شيئا لتبايعني ".
قالوا: فذلك لك.
قالوا: أربع خلال نسألك عنها: أخبرنا أي طعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا كيف ماء الرجل من ماء المرأة، وكيف الأنثى منه والذكر ؟ وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم ومن يليه من الملائكة ؟ وأخبرنا ما هذا الرعد ؟ فأخذ عليهم عهد الله وميثاقه: " لئن أخبرتكم لتبايعني ".
فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق.
قال: فأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى: هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا طال سقمه فنذر لئن عافاه الله عز وجل ليحرمن أحب الطعام والشراب، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها " وفي رواية: كان يسكن البادية فاشتكى عرق النسا، فلم يجد شيئا يداويه إلا لحوم الإبل وألبانها.
فقالوا: اللهم نعم اللهم اشهد.
قال: " فأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة
على موسى، هل تعلمون أن النبي الأمي تنام عينه ولا ينام قبله ؟ قالوا: اللهم نعم اللهم اشهد، قالوا: أنت الآن حدثنا من وليك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك أو نفارقك قال: " وليي جبريل، ولم يبعث الله عز وجل نبيا قط إلا وهو وليه ".
قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليك سواه من الملائكة لا تبعناك وصدقناك.
قال: " فما يمنعكم أن تصدقوني ؟ " قالوا: هذا عدونا من الملائكة.
فأنزل الله عز وجل: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) (البقرة 97).
ونزلت: (فباءوا بغضب على غضب) (1) (البقرة 90).
وفي رواية فقالوا: يا أبا القاسم نسألك عن خمسة أشياء.
وذكر نحو ما تقدم.
وزاد: قالوا: أخبرنا عن هذا الرعد.
قال:
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1 / 278.
(*)(3/402)
" ملك من ملائكة الله عز وجل، موكل بالسحاب، بيده - أو قال: في يده - مخراق (1) من نار يزجر به السحاب فيسوقه حيث أمره الله ".
قالوا: فما هذا الصوت ؟ قال: " صوته ".
قالوا: صدقت.
ورى الإمام أحمد، والبزار، والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه أن يهوديا قال: يا محمد مم يخلق الإنسان ؟ قال: " يا يهودي، يخلق من كل من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، أما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم " (2).
فقال اليهودي: هكذا كان يقول من كان قبلك.
وروى الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم وصححه، والبيهقي، وأبو نعيم عن صفوان بن عسال - بعين فسين مشددة مفتوحتين مهملتين - قال: " قال يهودي لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبي فنسأله.
فقال له صاحبه: لا تقل نبي فإنه لو سمعك تقول النبي كان له أربعة أعين، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قول الله عز وجل: (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) (الإسراء 101) فقال: " لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تسرفوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببرئ إلى ذي سلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا
ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف وعليكم يا معشر اليهود خاصة ألا تعدلوا في السبت ".
فقبلا يديه ورجليه وقالا: " نشهد أنك نبي ".
قال: فما يمنعكما أن تسلما " ؟ فقالا: " إن داود دعا الله ألا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إن أسلمان أن تقنلنا يهود " (3).
وروى مسلم عن ثوبان رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من اليهود فقال: أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " في ظلمة دون الجسر ".
قال: فمن أول الناس إجازة ؟ قال: " فقراء المهاجرين ".
فقال: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة ؟ قال: زيادة كبد نون ".
قال: " فما غذاؤهم على أثره " ؟ قال: " ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها ".
قال: فما شرابهم عليه ؟ قال: " من عين فيها تسمى سلسبيلا ".
قال: صدقت.
قال: وجئت أسأل عن شئ لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان،
__________
(1) انظر النهاية 2 / 26.
(2) ذكره الهيثمي في المجمع 8 / 244 وعزاه لأحمد والطبراني والبزار بإسنادين وقال: وفي أحد إسناديه عامر بن مدرك وثقه ابن حبان وضعفه غيره، وبقية رجاله ثقات.
وفي إسناد الجماعة عطاء بن السائب وقد اختلط.
(3) أخرجه أحمد في المسند 4 / 240 والطبراني في الكبير 7 / 43 والحاكم في المستدرك 4 / 351 وأبو نعيم في الحلية 5 / 98 والبيهقي في الدلائل 6 / 268.
(*)(3/403)
جئت أسأل عن الولد.
قال: " ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة فذكر بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل فأنثى بإذن الله عز وجل ".
قال اليهودي: صدقت وإنك لنبي.
ثم انصرف.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه سألني عن هذا الذي سألني عنه، وما أعلم شيئا منه حتى أنبأني الله عز وجل " (1).
وروى ابن أبي شيبة، وأحمد بن منيع، وعبد بن حميد، والنسائي في الكبرى،
والطبراني بسند صحيح عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: جاء رجل من اليهود يقال له ثعلبة بن الحارث فقال...: يا أبا القاسم أتزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ؟ وقال اليهودي لأصحابه: إن أقر بها خصمته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تؤمن بشجر المسك ؟ " قال: نعم.
قال: " وتجدها في كتابكم ؟ " قال: نعم.
قال: " والذي نفسي بيده إن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل إلى المطعم والمشرب والجماع ".
فقال اليهودي: الذي يأكل ويشرب يكون له الحاجة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حاجتكم عرق يفيض من جلودهم مثل ريح المسك، فتضمر بطونهم ".
وروى سعيد بن منصور وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبزار، والحاكم، والبيهقي، وابن جرير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم يهودي فقال: يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآها يوسف عليه السلام ساجدة له ما أسماؤها ؟ فلم يجبه بشئ.
فنزل عليه جبريل فأخبره (بأسمائها).
فبعث إلى اليهودي وقال له: " أتسلم إن أخبرتك بأسمائها ؟ قال: نعم فقال: " (هي): حرثان وطارق والذيال وذو الكنفات وذو الفرغ ووثاب وعمودان وقابس والضروج والمصبح والفليق والضياء والنور.
رآها يوسف عليه السلام في أفق السماء ساجدة له ".
فقال اليهود: هذه والله أسماؤها.
قال الحكم بن ظهير (2) أحد رواته: الضياء هو الشمس وهو أبوه، والنور هو المقر وهي أمه.
قال الحافظ في حاشية كتبها على مجمع الزوائد: رأيت في نسخة مصححة أنه من ضعفاء العقيلي.
بيان غريب ما سبق: " حرثان " بمهملة مفتوحة ثم مثلثة.
" الذيال ": بمعجمة ثم تحتية ثقيلة.
__________
(1) أخرجه مسلم 1 / 252 (314 - 315) والبيهقي 1 / 169 والطبراني في الكبير 5 / 88 وأبو نعيم 1 / 351.
(2) الحكم بن ظهير الفزاري الكوفي، وكان أبو إسحاق الفزاري إذا روى عنه قال: الحكم بن أبي ليلى، روى عن عاصم بن بهدلة، والسدي.
وعنه جماعة آخرهم عبد بن يعقوب الأسدي، والحسن بن عرفة.
قال ابن معين: ليس بثقة.
وقال - مرة: ليس بشئ.
وقال البخاري: منكر الحديث، وقال - مرة: تركوه.
عاش إلى سنة ثمانين ومائة.
ميزان
الاعتدال 1 / 571.
(*)(3/404)
" الكنفات " بنون ففاء وآخره مثناة.
" الفرغ " (بفاء وراء ثم غين معجمة).
" عمودان " (بلفظ تثنية عمود).
" قابس ": بقاف وموحدة ثم مهملة.
" الضروج ": بفتح الضاد المعجمة وآخره جيم.
" المصبح ": بضم الميم ثم فتح المهملة ثم موحدة مثقلة ثم مهملة.
" الفليق: (بالفاء واللام والمثناة التحتية فقاف) (1).
__________
(1) قال السيوطي في الدر: وأخرج سعيد بن منصور، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والعقيلي في الضعفاء، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي معا، في الدلائل عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: " جاء بستاني اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف - عليه السلام - ساحدة له، ما أسماؤها، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشئ، فنزل جبريل - عليه السلام - فأخبره بأسمائها، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى البستاني اليهودي، فقال: " هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها ؟ قال: نعم، قال: حرثان، والطارق، والذيال، وذو الكفتان، وقابس، ودنان، وهودان، والفيلق، والمصبح، والضروح، والفريخ، والضياء، والنور، رآها في أفق السماء ساجدة له، فلما قص يوسف على يعقوب، قال: هذا أمر مشتت يجمعه الله من بعد "، فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها الاسرئيليات ص 306.
(*)(3/405)
الباب العاشر في رجوعهم إليه صلى الله عليه وسلم في عقوبة الزاني وما ظهر في ذلك من كتمانهم ما أنزل الله عز وجل في التوراة من حكمه وصفة نبيه صلى الله عليه وسلم
روى ابن إسحاق وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، وأبو داود، وابن جرير، والبيهقي في الدلائل من وجه آخر عنه، وأحمد، ومسلم، وأبو داود، والنحاس في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب، والشيخان عن ابن عمر، وابن جرير، والطبراني عن ابن عباس، وعبدبن حميد في مسنده، وأبو داود، وابن ماجه وابن المنذر عن جابر بن عبد الله 8 رضي الله عنهما: أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدارس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد زنى رجل بعد إحصان بامرأة من يهود قد أحصنت.
قال جابر: من أهل فدك، كتب أهلها إلى أناس من يهود المدينة " أن سلوا محمدا عن ذلك، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه ".
انتهى.
قال أبو هريرة: فلما اجتمعوا في بيت المدراس قال: ابعثوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد، وفي لفظ: اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه بعث بتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا فتيا نبي من أنبيائك.
وفي رواية: فقالوا: ولوه الحكم فيهما فإن عمل فيهما بعملكم من التجبية - وهي الجلد بحبل من ليف مطلي بقار ثم تسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين وتجعل وجوههما من قبل أدبار الحمارين - فأتبعوه فإنما هو ملك سيد قوم، وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنه نبي فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه.
فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: " يا أبا القاسم هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت فاحكم فيها فقد وليناك الحكم فيهما ".
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما تجدون في التوراة ؟ " قالوا: تفضحهما ويجدان.
وفي رواية قالوا: دعنا من التوراة وقل ما عندك.
فأفتاهم بالرجم، فأنكروه.
فلم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب فقال: " يا معشر يهود أخرجوا إلي علماءكم ".
فأخرجوا إليه عبد
الله بن صوريا وأبا ياسر بن أحطب، ووهب بن يهوذا، فقالوا: إن هؤلاء علماؤنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنشدكم الله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة(3/406)
على من زنى بعد إحصان ؟ قالوا: يحمم ويجنب.
فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها آية الرجم.
فأتوه بالتوراة فنشروها فوضع (أحدهم) يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها.
فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك.
فرفعها فإذا آية الرجم تلوح.
قال: صدق محمد.
وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقسم عليهم بالله عز وجل سكت شاب منهم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به المسألة، فقال: إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فما أول ما رخصتم أمر الله عز وجل ؟ " قال: زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم.
ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأرادوا رجمه فحال قومه دونه وقالوا: والله لا يرجم صاحبنا حتى تجئ بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم.
وفي رواية أن الزنى كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئا ونقيمه على الشريف والوضيع.
فأجمعنا على التحميم والجلد، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون إنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه قديما بالشهوة " (1).
فجاؤوا بأربعة شهود فشهدوا بأنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما فرجما عند باب مسجده، وفي رواية: بالبلاط، قال ابن عمر: فرأيت الرجل يحنى عليه المرأة ليقيها الحجارة، وفي لفظ: فكنت فيمن رجمهما فلقد رأيته يقيها الحجارة بنفسه.
تنبيه في بيان غريب ما سبق: " بيت المدراس " (2): بكسر الميم وهو البيت الذي يقرأ فيه أهل الكتاب كتبهم.
" التجبيه " (3): بفتح الفوقية وسكون الجيم وكسر الموحدة بعدها تحتية ساكنة ثم هاء، فسر الحديث بالجلد والتحميم والمخالفة في الركوب قال ثابت بن قاسم: وقد يكون معناه
التعبير والإغلاظ من جبهت الرجل أن قابلته بما يكره، وضبطها بعضهم بمثناة في آخره وقبلها حركة، وأصله البروك وهو يعبد هنا.
" صوريا ": بصاد مهملة مضمومة وآخره ياء وألف.
" ياسر ": بتحتية وسين مهملة.
__________
(1) أخرجه مسلم (1327) وأبو داود (4446) وابن ماجه (2555، 2558) وأحمد في المسند 4 / 286 والطبراني في الكبير 6 / 150.
(2) انظر اللسان 2 / 1360.
(3) انظر اللسان 1 / 542.
(*)(3/407)
" أخطب ": بوزن أفعل التفضيل من الخطبة.
" أنشدكم بالله ": أذكركم أو سألتكم به مقسما عليكم.
" تلوح ": تبدو.
" ألظ " به: لازمه.
" النشدة: " بكسر النون من المناشدة.
" الأسرة " (1): القوة.
" البلاط " (2) - بفتح الموحدة: الحجارة المفروشة.
وموضع بالمدينة وهو المراد هنا.
" يجنى عليها ": يكب ويميل عليها.
(*)
__________
(1) انظر اللسان 1 / 78.
(2) انظر اللسان 1 / 344.
(*)(3/408)
الباب الحادى عشر في سؤاله لهم أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين في دعاوى ادعوها
قال الله عز وجل " قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) (سورة البقرة، الآية: 94) روى ابن جرير عن أبي العالية أنه قال: " قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه ".
فأنزل الله تعالى الآية الأولى فلم يفعلوا.
وروى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية الأولى لما نزلت قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن كنتم في مقالتكم صادقين قولوا اللهم أمتنا فوالذي نفسي بيده لا يقولها رجل منكم إلا غص بريقه فمات مكانه "، فأبوا أن يفعلوا وكرهوا ما قال لهم، فنزل: (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) (سورة البقرة، آية 95) يعني عملته أيديهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية: " والله لن يتمنوه أبدا ".
وروى ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق آخر عنه، قال: " لو تمنى اليهود الموت لشرق أحدهم بريقه ".
وروى الإمام أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وابن مردويه، وأبو نعيم، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو أن اليهود تمنوا الموت، لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار ".(3/409)
الباب الثاني عشر في سحرهم إياه صلى الله عليه وسلم
روى الشيخان والإسماعيلي، وابن مردويه، والبيهقي عن عائشة رضي الله عنهما، والإمام أحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، والنسائي عن زيد بن أرقم، وابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وابن سعد، والبيهقي، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وابن سعد عن عمر بن الحكم مرسلا، قال عمر بن الحكم: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة ودخل المحرم سنة سبع جاءت رؤساء يهود (الذي بقوا في المدينة ممن يظهر الإسلام وهو منافق) إلى لبيد بن الأعصم، وكان حليفا في بني زريق وكان ساحرا (قد علمت
ذلك يهود أنه أعلمهم بالسحر وبالسموم) فقالوا له: يا أبا الأعصم أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمد فلم نصنع شيئا وأنت ترى أثره فينا، وخلافه ديننا، ومن قتل منا وأجلى ونحن نجعل لك على ذلك جعلا على أن تسحره لنا سحرا ينكؤه فجعلوا له ثلاثة دنانير على أن يسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت عائشة رضي الله عنها في رواية عبد الله بن عمير: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق.
وفر رواية ابن عيينة: رجل من بني زريق حليف يهود وكان منافقا (1).
وفي حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك عند ابن سعد: إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد وكن أسحر من لبيد وأخبث وكان لبيد هو الذي ذهب به فأدخله تحت راعوفة البئر (2) فلما عقدوا تلك العقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الساعة بصره، ودس بنات أعصم إحداهن فدخلت على عائشة رضي الله عنها (فخبرتها عائشة أو سمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بصره) ثم خرجت إلى أخواتها (وإلى لبيد) فأخبرتهم بذلك.
فقالت إحداهن: " إن يكن نبيا فسيخبر وإن يك غير ذلك فسوف يدلهه هذا السحر حتى يذهب عقله ".
وفي رواية في الصحيح (عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر) حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن (3).
قال سفيان: وهذا شر ما يكون إذا كان كذا.
وفي مرسل يحيى بن يعمر عن عبد الرزاق: حتى أنكر بصره، فدخل عليه أصحابه
__________
(1) أخرجه البخاري 10 / 232 (5763).
(2) راعوفة البئر: هي صخرة تترك في أسفل البئر إذا حفرت تكون نائمة هناك، فإذا أرادوا تنقية البئر جلس المنقي عليها.
وقيل: هي حجر يكون على رأس البئر يقوم المستقي عليه.
ويروى بالثاء المثلثة.
انظر النهاية 2 / 235.
(3) أخرجه البخاري 10 / 243 (5765).
(*)(3/410)
يعودونه فخرجوا من عنده وهم يرون أنه لما به (مطبوب).
وفي رواية عمرة عن عائشة عند
البيهقي: فكان يذوب وما يدرى ما وجعه فاشتكى لذلك أياما.
وفي رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي: مكث أربعين ليلة.
وفي رواية وهيب عند الإمام أحمد: ستة أشهر، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندي دعا الله عز وجل ثم دعا ثم قال: " يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه ؟ " قلت: وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: " أتاني رجلان (1) - وفي حديث ابن عباس: جبريل وميكائيل - فقعد أحدهما عند رأسي - قال الدمياطي: هو جبريل - والآخر عند رجلي.
ثم قال أحدهما لصاحبه - وفي حديث ابن عباس: فقال ميكائيل: يا جبريل إن صاحبك شاك.
قال: أجل.
قال: وما وجع الرجل ؟ فقال: مطبوب.
قال: ومن طبه ؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي.
قال: فبماذا ؟ قال: " في مشط ومشاطة - وفي لفظ: مشط ومشاقة وجف طلع نخلة ذكر ".
وفي حديث عائشة من طريق ابن عيينة، " فقال الذين عند رأسي ".
قال الحافظ: " وكأنها أصوب ".
وفي حديث ابن عباس عند البيهقي قال: وابن هو ؟ قال: في بئر ذي أروان - وفي لفظ: بئر ذروان - وفي حديث ابن عباس عن ابن مردويه: وهو بئر ميمون في كدية (2) تحت صخرة في الماء.
قال: فما دواء ذلك ؟ قال: تنزح البئر ثم تقلب الصخرة فتؤخذ الكدية (2) تحت صخرة في الماء.
قال: فما دواء ذلك ؟ قال: تنزح البئر ثم تقلب الصخرة فتؤخذ الكدية فيها مثال إحدى عشرة عقدة فتحرق فإنه يبرأ بإذن الله تعالى.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وعمارا.
وفي حديث آخر: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر ثم تقلب الصخرة فتؤخذ الكدية فيها مثال إحدى عشرة عقدة فتحرق فإنه يبرأ بإذن الله تعالى.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وعمارا.
وفي حديث آخر: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر، فنظر إليها، وعليها نخل، فدخل رجل فاستخرج جف طلعة (ذكر) من تحت الراعوفة، فإذا فيها مشط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا وتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر، فنزل جبريل عليه السلام بالمعوذتين: سورة الفلق وسورة الناس (وهما إحدى عشرة آية على عدد تلك العقد وأمر أن يتعوذ بهما) فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألما ويجد بعدها راحة.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما أنشط من عقال.
قالت عائشة: فلما رجع قال: " لكأن ماءه نقاعة
الحناء وكأن رؤوس نخلها الذي يشرب ماءها قد التوى سعفه كأنه رؤوس الشياطين ".
قلت: يا رسول الله: أفلا.
قال سفيان: أي نتشرت - فقال: " أما والله " - وفي رواية: " أما أنا فقد عافاني الله وشفاني، وخشيت أن أثور - وفي رواية أثير - على الناس منه شرأ ".
وأمر بها فدفنت.
فقيل: يا رسول الله لو قتلته فقال: " ما وراءه من عذاب أشد ".
وفي رواية: فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترف فعفا عنه ولم يقتله.
__________
(1) أخرجه البخاري 7 / 177 (دار الفكر) وابن ماجه (261).
(2) الكدية: قطعة غليظة صلبة لا تعمل فيها الفاس.
وأكدى الحافر: إذا بلغها.
انظر النهاية 4 / 156.
(*)(3/411)
تنبيهات الأول: السحر يطلق ويراد به الآلة التي يسحر بها، ويطلق بها ويراد به فعل الساحر: وتكون الآلة تارة معنى من المعاني فقط كالرقي والنفث في العقد، وتارة تكون بالمحسوسات.
وتارة تجمع الأمرين الحسي والمعنوي وهو أبلغ.
الثاني: اختلف في السحر، فقيل: هو تخييل فقط ولا حقيقة له، وهو اختيار أبي جعفر الأستراباذي من الشافعية، وأبي بكر الدارمي من الحنفية، وابن حزم الظاهري وطائفة.
قال النووي: " والصحيح أن للسحر حقيقة، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة " انتهى.
ولكن محل النزاع: هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا ؟ فمن قال إنه تخييل فقط، منع.
وقيل إن له حقيقة.
واختلفوا هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعا من الأمراض، وينتهي إلى حالة بحيث يصير الجماد حيوانا مثلا وعكسه ؟ فالذي عليه الجمهور، الأول.
وذهبت طائفة قليلة إلى الثاني.
فإن كان بالنظر الى القدرة الإلهية فمسلم به، وإن كان بالنظر إلى الواقع فهو محل الخلاف، فإن كثيرا ممن يدعي ذلك لا يستطيع إقامة البرهان عليه.
وذكروا قوما أنكروا السحر مطلقا وكأنهم عنوا القائلين بأنه تخييل وإلا فهذه مكابرة.
قال المازري: جمهور العلماء على
إثبات السحر وأن له حقيقة، ونفى بعضهم حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة، وهو مردود لورود النقل بإثبات السحر، ولأن العقل لا ينكر أن الله تعالى قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو بمزج بين قوى على ترتيب مخصوص، ونظير ذلك ما يقع من حذاق الأطباء من مزج بعض العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفردة فيصير بالتركيب نافعا.
وقيل: لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر الله تعالى في قوله: (يفرقون به بين المرء وزوجه) (1) سورة البقرة، آية 102) لكون المقام مقام تهويل، فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره.
قال المازري: " والصحيح من جهة العقل أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، والآية ليست نصا في منع الزيادة ولو قلنا إنها ظاهرة في ذلك ".
ثم ذكر الفرق بين السحر والمعجزة والكرامة، وقد ذكرته في أبواب المعجزات.
الثالث: قال النووي: " عمل السحر حرام وهو من الكبائر بإجماع، وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات، ومنه ما يكون كفرا، ومنه ما لا يكون كفرا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو بفعل يقتضي الكفر فهو كفر كالتعبد للشياطين أو الكواكب.
وأما تعليمه وتعلمه فحرام، فإن كان فيه ما يقتضي الكفر استتيب منهم (متعاطيه) ولا يقتل.
فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يكن فيه ما يقتضى الكفر عزر.
وعن الإمام مالك: الساحر كافر يقتل ولا يستتاب.
بل يتحتم(3/412)
قتله كالزنديق، قال القاضي: " وبقول مالك قال أحمد، وجماعة من الصحابة والتابعين ".
انتهى.
وإلى ذلك جنح البخاري.
الرابع: قال الحافظ: " أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأحد أمرين: إما لتميز ما فيه من كفر من غيره، وإما لإزالته عمن وقع / فيه.
فأما الأول فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد، فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشئ معرفة مجردة لا تستلزم منعا، كمن يعرف عبادة أهل الأوثان، لأن كيفية ما يعرفه الساحر إنما هي حكاية قوله وفعل، بخلاف تعاطيه والعمل به، وأما الثاني فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا، وإلا جاز
للمعنى المذكور، ولهذا مزيد بسطا يأتي إن شاء الله في أبواب عصمته صلى الله عليه وسلم.
الخامس: لبيد - بفتح اللام وكسر الموحدة بعدها تحتية ساكنة ثم مهملة - ابن الأعصم بوزن أحمر بمهملتين - وصف في رواية بأنه من يهود بني زريق.
وفي رواية (أخرى) بأنه رجل من بني زريق حليف يهود، وكان منافقا.
ويجمع بينهما بأن من أطلق أنه يهودي نظر إلى ما في نفس الأمر، ومن أطلق عليه منافقا نظر إلى ظاهر أمره.
قال أبو الفرج: وهذا يدل على أنه أسلم نفاقا وهو واضح.
السادس: في مدة مكثه صلى الله عليه وسلم مسحورا: وقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم مكث أربعين ليلة.
وفي رواية وهيب عن عشام عند الإمام أحمد ستة أشهر.
ويمكن الجمع بينهما بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه والأربعين يوما من استحكامه.
قال السهيلي: لم أقف على شئ من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث صلى الله عليه وسلم فيها من السحر، حتى ظفرت به في جامع معمر (بن راشد) عن الزهري قال: " سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة (يخيل إليه أنه يفعل الفعل ولا يفعله) وقد وجدناه موصولا بإسناد صحيح فهوا المعتمد.
السابع: قوله: " فدعا الله عز وجل ثم دعا الله عز وجل ": قال الإمام النووي: " فيه استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات وتكريره وحسن الالتجاء إلى الله تعالى في رفع ذلك ".
قال الحافظ: " سلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القضية مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب، ففي أول الأمر فوض وسلم لأمر ربه، واحتسب الأجر في صبره على بلائه.
ثم لما تمادى ذلك وخشى من تماديه أن يضعف عن عبادته جنح إلى التداوي ثم إلى الدعاء.
وكل من المقامين غاية " في الكمال ".
الثامن: وقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل عليا وعمارا لاستخراج السحر.
وفي رواية عائشة في الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم توجه إلى البئر مع جماعة.
وعند(3/413)
ابن سعد عن عمر بن الحكم مرسلا: " فدعا جبير بن إياس الزرقي فدله على موضعه في بئر ذروان تحت أرعوفة البئر فخرج جبير حتى استخرجه.
قال ابن سعد: ويقال: إن الذي استخرج السحر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن محصن الزرقي.
ويجمع بأنه أعان جبيرا على ذلك وباشره بنفسه فنسب إليه.
التاسع: في بيان غريب ما سبق: " الحديبية ": يأتي الكلام عليها في غزوتها.
" الحليف " (1): المعاهد.
" بنو زريق " بتقديم الزاي تصغير أزرق.
" أشعرت " ؟ أعلمت ؟.
" مطبوب ": مسحور.
يقال: طب الرجل - بالضم - إذا سحر وكنوا بالطب عن السحر تفاؤلا بالبرء كما كنوا بالسليم عن اللذيغ وقال القرطبي في المفهم: " إنما قالوا للسحر طب، لأن أصل الطب الحذق بالشئ والتفطن له، فلما كان كل من عالج المرض والسحر إنما يأتي عن فطنة وحذق، أطلق على كل منهما هذا الاسم.
" مشط ": معروف وتقدم الكلام عليه في شرح غريب قصة المعراج.
" مشاطة ".
ما مشط من الرأس.
" مشاقة " قيل: مشاقة الكتان.
وقيل المشاقة هي المشاطة بعينها، والقاف تبدل من الطاء لقرب المخرج وهما بمعنى واحد.
" جف ": بالجيم والفاء: وهو الغشاء الذي يكون على الطلع.
" الظلع " (2): يطلق على الذكر والأنثى، فلهذا قيده بالذكر، وفي رواية في الصحيح بتنوين طلعة ذكر فهو صفة ألحقت إلى ذكر.
" بئر ذروان ": بالذال المعجمة وزن مروان.
وفي رواية " ذي أروان " وهي الأصل فسهلت الهمزة لكثرة الاستعمال فصارت ذروان.
وفي رواية السهيلي: ذي روان بإسقاط همزته (وهو)
غلط.
" الراعوفة ": كذا لأكثر رواة الصحيح بزيادة ألف خلافا لابن التين حيث زعم أن رعوفة
__________
(1) انظر اللسان 2 / 964.
(2) انظر اللسان 4 / 2691.
(*)(3/414)
للأصيلي فقط وهو المشهور في اللغة.
وفي لغة أرعوفة.
وفي رواية عند أحمد " رعوثة "، بثاء مثلثة بدل الفاء وهي لغة أخرى معروفة.
وفيها لغة أخرى " زعوبة " بالزاي والموحدة، وهما بمعنى واحد.
والراعوفة (1) حجر يوضع عند رأس البئر لا يستطاع قلعه، يقوم عليه المستقي، وقد يكون في أسفل البئر إذا احتفرت، يجلس عليها الذي ينظف البئر، وهو حجر يوجد صلبا لا يستطاع قلعه.
" أفتاني فيما استفتيته فيه ": أجابني فيما دعوته، فأطلق على الدعاء استفتاء لأن الداعي طالب، والمجيب مستفتى، والمعنى: أجابني عما سألته عنه، لأن دعاءه كان الله أطلعه على حقيقة ما هو فيه لما اشتد عليه الأمر.
" أنشط من عقال " (2): بضم الهمزة.
وفي رواية إسقاط الألف، أي حل كما قال في النهاية، وكثيرا ما يجئ في الرواية " كأنما نشط من عقال " وليس بصحيح، يقال: نشطت العقدة إذا عقدتها، وأنشطتها إذا حللتها.
انتهى.
قال في البارع تقول العرب: " كأنما أنشط من عقال "، بضم الهمزة، ويقال في المثل للمريض: يسرع برؤه، والمغشي عليه تسرع إفاقته في أمر شرع فيه عزيمته: " كأنما أنشط من عقال "، ويقال نشط، انتهى.
فأثبت ما في الرواية لغة، وهو أعرف باللغة من صاحب النهاية.
" نتشرت ": ظاهر صحيح الخباري أنه من النشرة، ويحتمل أنه من النشر بمعنى الإخراج فيوافق رواية من رواه بلفظ " أفأخرجته ؟ " وروايته " أفلا " وحذف المفعول للعلم به ويكون المراد بالمخرج ما حواه الجف لا الجف نفسه، ليتأكد الجمع المتقدم ذكره.
والنشره ضرب من
العلاج يعالج به من يظن أن به سحرا أو مسا.
قبل للنشرة ذلك لأنه يكشف بها عنه ما خالطه من الداء.
والله أعلم.
__________
(1) انظر اللسان 3 / 1673.
(2) انظر اللسان 6 / 4428.
(*)(3/415)
الباب الثالث عشر في معرفة بعض طغاة المنافقين الذين انضافوا إلى اليهود وبعض أمور دارت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم
سرد ابن إسحاق وجماعة أسماء المنافقين، وأنا ذاكر هنا بعض من نزل القرآن الكريم بكشف حاله، وأقدم قبل ذلك معنى النفاق.
النفاق: اسم إسلامي لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو فعل المنافق الذي يستر كفره ويظهره إيمانه كما يتستر الرجل بالنفق الذي هو السرب (1)، فقيل هو اشتقاقه من هذا.
وقيل من قولهم نافق اليربوع إذا دخل في قاصعائه وخرج من نافقائه وبالعكس.
وذلك أن اليربوع له جحرة أربعة: النافقاء والقاصعاء والراهطاء والداماء، فهو يرفق أقصى النافقاء ويكتمها ويظهر غيرها.
فإذا قصد من غيرها من الجحر ضرب النافقاء برأسه فانتفق منها أي خرج.
وقيل: إنها نافذة بعضها إلى بعض، فمن أيها قصد خرج من الأخرى.
فكذلك المنافق يدخل في الإيمان من جهة ويخرج من جهة أخرى فاشقاقه من فعل اليربوع، وقيل: اشتقاقه من صورة النافقاء لا من فعل اليربوع، وذلك أن النافقاء ظاهره مدخل وباطنه مخرج ومهرب، فكذا المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر، ومحل النفاق القلب.
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بشر كثير ممن أراد الله عز وجل هدايته.
وانضاف إلى اليهود أناس من الأوس والخزرج ممن كان عسا في الجاهلية، فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره، واجتماع قومهم عليه، فتظاهروا بالإسلام واتخذوه جنة من القتل ونافقوا في السر، وكان هواهم مع يهود
لتكذيبهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وجحودهم الإسلام.
وقد ذكر الله أخبارهم في سورة براءة وغيرها.
فمن المنافقين: الجلاس - بجيم مضمومة.
فلام مخففة فألف فسين مهملة - ابن سويد بن الصامت.
قال ابن إسحاق: وكان ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.
وروى ابن إسحاق، وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وعبد الرزاق، وابن سعد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عروة قالوا: لما نزل القرآن فيه ذكر المنافقين قال الجلاس: " والله لئن كان هذا الرجل صادقا (على) إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا) لنحن شر من الحمير ".
فسمعها عمير بن سعد رضي الله عنه، وكان في حجر جلاس خلف على أمه بعد أبيه.
فقال له عمير: " والله يا جلاس إنك لا حب الناس إلي وأحسنه عندي يدا وأعزه علي أن يصيبه شئ يكرهه، ولقد قلت مقالة
__________
(1) السرب: المسلك في خفية.
انظر النهاية 2 / 356.
(*)(3/416)
لئن رفعتها عليك - لأفضحنك ولئن صمت ليهلكن ديني ولإحداهما أيسر علي من الأخرى ".
فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ما قال له جلاس.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فحلف جلاس بالله لرسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد كذب علي عمير وما قلت ما قال عمير.
فقال عمير: " بل والله قلته فتب إلى الله تعالى، ولولا أن ينزل قرآن فيجعلني معك ما قلته ".
فجاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكتوا لا يتحرك أحد.
وكذلك كانوا يفعلون لا يتحركون إذا نزل الوحي، فرفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أعناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير) (التوبة 74) فقال (جلاس): " قد قلته وقد عرض الله علي التوبة فأنا أتوب ".
فقبل دلك منه، وكان هم أن يلحق بالمشركين.
(وقال ابن سيرين لما نزلت هذه الآية: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذن عمير وقال): " يا غلام وفت أذنك وصدقك - ربك ".
تنبيهات الأول: ذكر في سبب نزول هذه الآية شئ آخر: وهو قول عبد الله بن أبي في غزوة المريسيع: " والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك.
والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ".
فسعى بها زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأرسل خلف ابن أبي فحلف بالله ما قاله، فأنزل الله تعالى الآية.
رواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة.
وسيأتي بيان ذلك في غزوة المريسيع إن شاء الله تعالى.
الثاني: روى محمد بن عمر عن عبد الحميد بن جعفر، أن الجلاس تاب وحسنت توبته، ولم ينزع عن خير كان يصنعه إلى عمير، وكان ذلك مما عرفت به توبته.
ومن المنافقين: نبتل - بنون مفتوحة فموحدة ساكنة ففوقية مفتوحة فلام - ابن الحارث، وكان رجلا جسيما، أدلم، ثائر شعر الرأس أحمر العينين، أسفع الخدين، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث ".
وروى ابن إسحاق عن بعض بني العجلان أنه حدث أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: " إنه يجلس إليك رجل أدلم ثائر شعر الرأس أشفع الخدين أحمر العينين كأنهما قدران من صفر، كبده أغلظ من كبد الحمار، ينقل حديثك إلى المنافقين فاحذره ".
وكانت تلك صفة نبتل بن الحارث يأتي رسول الله فيجلس إليه فيسمع منه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين.
وهو الذي قال لهم: " إنما محمد أذن، من حدثه بشئ صدقه ".
فأنز الله تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين(3/417)
ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) (التوبة 61).
تنبيه: في بيان غريب ما سبق: " الأدلم " (1): بدال مهملة: الأسود الطويل.
" ثائر شعر الرأس ": منتشر الشعر.
" أسفع الخدين " (2): السفعة - بالضم: سواد مشرب بحمرة أو زرقة.
" الصفر ": بضم الصاد المهملة وبالفاء: النحاس.
ومنهم: مربع - بميم مكسورة فراء ساكنة فموحدة مفتوحة فعين مهملة - ابن قيظي - بقاف فتحتية فظاء معجمة مشالة - وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجاز في حائطه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عامد إلى أحد: " لا أحل لك يا محمد إن كنت نبيا أن تمر في حائطي ".
وأخذ في يده حفنة من تراب ثم قال: " والله لو أعلم أني لا أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به ".
فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر " (3).
ومنهم عبد الله بن أبي سلول، وسلول هي أم أبي وهو أبي بن مالك العوفي أحد بني الحبلى.
وكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون، وهو الذي قال: " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل " في غزوة بني المصطلق.
وفي قوله ذلك نزلت سورة ا لمنافقين بأسرها.
وقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وعبد الله بن أبي سيد أهلها لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان، لم يجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين غيره حتى جاء الإسلام.
وكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم، فجاءهم الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك فما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا.
فلما أن رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن.
وروى ابن إسحاق، وإلامام أحمد، والشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
قال ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا عليه إكاف فوقه قطيفة فدكية مختطمة بحبل من ليف.
قال: وأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه بعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر،
__________
(1) انظر اللسان 2 / 1415.
(2) انظر اللسان 3 / 2027.
(3) انظر البداية والنهاية 3 / 239.
(*)(3/418)
فمر بعبد الله بن أبي وذلك قبل أن يسلم وهو في ظل أطم وفي مجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود في مجلس عبد الله بن رواحة.
فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا.
فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف فنزل فدعاهم إلى الله فقرأ عليهم القرآن وحذر وبشر وأنذر فقال له عبد الله بن أبي: " يا أيها المرء إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا فلا تؤذونا به في مجلسنا، وارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه ".
قال: فقال ابن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فهو والله مما نحب ".
فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون.
فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا.
فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته حتى دخل إلى سعد بن عبادة، فقال له: " أي سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب " ؟ يريد عبد الله بن أبي.
فقال سعد: " يا رسول الله اعف واصفح فلقد أعطاك الله ما أعطاك، ولقد اجتمع أهل البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه، فلما رد ذلك بالحق الذي أعطاك شرق، فذلك الذي فعل به ما رأيت " (1).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قلت: يا نبي الله لو أتيت عبد الله بن أبي ؟ فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فركب حمارا، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة.
فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إليك عني فوالله لقد أذاني نتن حمارك.
فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك.
فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم ضرب بالجريد - وفي لفظ بالحديد - والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزل فيهم (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) (الحجرات 9).
رواه الشيخان.
قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن أبي حين رأى من خلاف قومه ما رأى:
رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك.
فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم ضرب بالجريد - وفي لفظ بالحديد - والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزل فيهم (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) (الحجرات 9).
رواه الشيخان.
قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن أبي حين رأى من خلاف قومه ما رأى: متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل * تذل ويصرعك الذين تصارع وهل ينهض البازي بغير جناحه * وإن جذ يوما ريشه فهو واقع ومنهم أبو عامر الفاسق واسمه: عبد عمرو بن صيفي بن النعمان الأوسي أحد بني ضبيعة بن زيد، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة.
وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، فكان يقال له الراهب.
وكان شريفا مطاعا في قومه فشقي بشرفه وضره.
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه أبو عامر قبل أن يخرج إلى مكة فقال: يا محمد ما
__________
(1) أخرجه البخاري 7 / 154 ومسلم في كتاب الجهاد (116) وأحمد في المسند 5 / 203 وعبد الرزاق (9784) والطبراني في الكبير 6 / 67.
(*)(3/419)
هذا الدين الذي جئت به ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جئت بالحنفية دين إبراهيم ".
قال: فإني عليها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لست عليها (لأنك أدخلت فيها ما ليس منها).
قال: بل أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس مها.
قال: " ما فعلت بل جئت به بيضاء نقية ".
فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب (منا) طريدا وحيدا.
وإنما قال ذلك يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث خرج من مكة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم أمات الله الكاذب منا كذلك ".
فكان ذلك هو عدو الله فخرج إلى مكة.
فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مكة، خرج إلى الطائف فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام فمات بها طريدا غريبا وحيدا (1).
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في الدلائل 1 / 19 وذكره القرطبي في التفسير 7 / 320.
(*)(3/420)
سبل الهدى والرشاد
الصالحي الشامي
ج 4(4/)
سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد
للإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي
المتوفي سنة 942 هـ
تحقيق وتعليق
الشيخ عادل أحمد عبد الموجود
الشيخ علي محمد معوض
الجزء الرابع
دار الكتب العلمية بيروت - لبنان(4/1)
جميع الحقوق محفوظة لدار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
الطبعة الأولى 1414 هـ - 1993 م
دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
ص.ب: 9424 / 11 - تلكس: - 4125 LE NASHER
هاتف: 366135 - 602133 - 868051 - 815573
فاكس: 478373 / 1212 / 00 - 602133 / 9611 / 00(4/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
جماع أبواب المغازي التي غزا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة
الباب الأول في الاذن بالقتال ونسخ العفو عن المشركين وأهل الكتاب
قال العلماء رضي الله عنهم: أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه: * (يا أيها المدثر قم فأنذر) * [ المدثر 1، 2 ] فبدأه بقوله: " اقرأ ".
وأرسله بيا أيها المدثر، ثم أمره أن ينذر عشيرته الاقربين، ثم إنذار قومه، ثم إنذار من حولهم من العرب قاطبة، ثم إنذار من بلغته الدعوة من الجن والانس إلى آخر الدهر، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح، ثم أذن له في الهجرة، فلما استقر صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيده الله تعالى بنصره وبعباده المؤمنين، وألف بين قلوبهم بعد العداوة والاحن التي كانت بينهم، فمنعته أنصار الله وكتيبة الاسلام: الاوس والخزرج، من الاسود، والاحمر، وبذلوا أنفسهم دونه، وقدموا محبته على محبة الآباء والابناء والازواج، وكان أولى بهم من أنفسهم.
عادتهم العرب واليهود.
روى البيهقي وغيره عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الانصار، رمتهم العرب واليهود عن قوس واحدة وشمروا لهم عن ساق العداوة والمحاربة، وصاحوا بهم من كل جانب حتى كان المسلمون لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترى نعيش حتى نبيت مطمئنين لا نخاف إلا الله عز وجل، فأنزل الله تبارك وتعالى: * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) * [ النور 55 ].(4/3)
قال البيهقي: وفي مثل هذا المعنى قوله تعالى: * (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون، الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) * [ النحل 41، 42 ] ذكر بعض أهل التفسير أنها نزلت في المعذبين بمكة حين هاجروا إلى المدينة بعدما ظلموا، فوعدهم الله تعالى في الدنيا حسنة، يعني بها الرزق الواسع، فأعطاهم ذلك.
فيروى، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه كان إذا أعطى الرجل عطاءه من المهاجرين يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله تبارك وتعالى في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أفضل.
انتهى.
وكانت اليهود والمشركون من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأمرهم الله تبارك وتعالى بالصبر والعفو والصفح، فقال تبارك وتعالى: * (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وان تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور) * [ آل عمران 186 ] أي قطعه قطع إيجاب وإلزام، وهو من التسمية بالمصدر، أي من معزومات الامور.
وقال عزوجل: * (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) * [ البقرة 109 ] أي أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبه عندهم في التوراة والانجيل، * (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) *، أي الاذن بقتالهم وضرب الجزية عليهم.
وروى أبو داود وابن المنذر والبيهقي عن كعب بن مالك رضي الله عنه، قال: " كان المشركون واليهود من أهل المدينة حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الاذى، فأمرهم الله تعالى بالصبر على ذلك والعفو عنهم.
وروى الشيخان وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب " (1)، يتأول في العفو ما أمره الله تعالى به حتى أذن الله تعالى فيهم، فقتل من قتل من صناديد قريش.
قال العلماء: فلما قويت الشوكة واشتد الجناح أذن لهم حينئذ في القتال ولم يفرضه عليهم، فقال تبارك وتعالى: * (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير.
الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ألا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا.
ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) * [ الحج 39، 40 ].
__________
(1) أخرجه البخاري 8 / 84 (6207).
(*)(4/4)
أذن: رخص وفي قراءة بالبناء للفاعل وهو الله.
للذين يقاتلون المشركين وهم المؤمنون، والمأذون فيه محذوف، لدلالته عليه.
وفي قراءة بفتح التاء، أي للذين يقاتلهم المشركون.
بأنهم ظلموا: بسبب أنهم ظلموا أي بظلم الكافرين إياهم.
وإن الله على نصرهم لقدير: وعدهم بالنصر كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم.
الذين أخرجوا من ديارهم - يعني مكة - بغير حق في الاخراج، ما أخرجوا إلا أن يقولوا ربنا الله وحده.
وهذا القول حق في الاخراج بغير حق.
ولولا دفع - وفي قراءة: دفاع - الله الناس بعضهم - بدل بعض من الناس - ببعض، تسليط المؤمنين، على الكافرين.
لهدمت - بالتشديد للتكثير، وبالتخفيف - صوامع للرهبان وبيع للنصارى وصلوات كنائس لليهود، وهي بالعبرانية " صلواتا " وقيل فيه حذف مضاف تقديره: مواضع صلوات، وقيل: المراد بتهديم الصلوات تعطيلها.
ومساجد للمسلمين يذكر فيها، أي في المواضع، اسم الله كثيرا وتنقطع العبادات بخرابها * (ولينصرن الله من ينصره) * [ الحج: 4 ] أي دينه.
إن الله لقوي على خلقه، عزيز: منيع في سلطانه وقدرته.
قال العلماء: ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم.
قال تعالى: * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا) * [ البقرة 190 ] يعني في قتالهم فتقاتلوا غير الذين يقاتلونكم * (إن الله لا يحب المعتدين) *.
ثم فرض عليهم قتال المشرين كافة حتى يكون الدين كله لله.
وقال الله عزوجل: * (وقاتلوا المشركين كافة) * [ التوبة 36 ]
أي جميعا * (كما يقاتلونكم كافة) *.
وقال تعالى: * (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) * [ البقرة 216 ] وكان محرما، ثم صار مأذونا فيه، ثم مأمورا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورا به لجميع المشركين، إما فرض عين على أحد القولين، أو فرض كفاية على المشهور.
روى الامام أحمد والترمذي، وحسنه، والنسائي وابن ماجه وابن حبان، عن ابن عباس وابن أبي شيبة: وعبد بن حميد، والبيهقي، عن مجاهد وابن عائذ وعبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري، والبيهقي عن السدي أن أول آية نزلت في القتال قوله تعالى: * (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) * [ الحج 39 ].
وروى الامام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن حبان والدارقطني وتمام عن أنس والائمة عن أبي هريرة، وأبو داود الطيالسي والنسائي، وابن ماجه، والضياء عن أوس بن أوس الثقفي، عن أبيه - قال الحافظ في الاصابة: والصواب أنه غير الذي قبله - والطبراني عن جابر والنسائي والبزار والطبراني عن النعمان بن بشير، وعن ابن عباس، وعن ابن مالك الاشجعي، عن أبيه، وعن أبي بكرة وعن سمرة، والامام أحمد والخمسة عن عمر، والشيخان عن ابن(4/5)
عمر، ومسلم والنسائي وابن حبان عن أبي هريرة، وابن ماجه عن معاذ، رضي الله عنهم أجمعين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويؤتوا الزكاة، ويأكلوا ذبيحتنا، ويصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وحسابهم على الله، قيل: وما حقها ؟ قال: زنا بعد إحصان، أو كفر بعد إسلام، أو قتل نفس فيقتل بها " (1).
ثم كان الكفار معه صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة ثلاثة أقسام: قسم صالحهم، ووادعهم على ألا يحاربوه ولا يظاهروا عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم، وقسم حاربوه
ونصبوا له العداوة، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه.
ثم من هولاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن، ومنه من كان يحب ظهور عدوه عليه وانتصارهم، ومنهم من دخل معه في الظاهر وهو مع عدوه في الباطن، ليأمن على نفسه من الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون، فعامل صلى الله عليه وسلم كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره ربه تبارك وتعالى، فصالح يهود المدينة وكتب بينه وبينهم كتاب أمن، وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، فنقض العهد الجميع، وكان من أمرهم ما سيأتي في الغزوات، وأمره الله سبحانه وتعالى أن يقيم لاهل العقد والصلح بعهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنبذ العهد، وأمره أن يقاتل من نقض عهده.
ولما نزلت سورة " براءة " نزلت ببيان هذه الاقسام كلها، فأمره الله تعالى أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في دين الاسلام، وأمره بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ونبذ عهودهم، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاث أقسام: قسم أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم، وقسم لهم عهد مؤقت لم ينقضوه ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم، وقسم لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، وكان لهم عهد مطلق، فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت الاربعة قاتلهم، وهي الاشهر الاربعة المذكورة في قوله تعالى: * (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا
__________
(1) أخرجه البخاري 1 / 75 (25) ومسلم 1 / 53 (36 - 22) والترمذي (260 - 2606) وابن ماجه (71) والنسائي 7 / 75 وأحمد في المسند 2 / 345 والدارمي 2 / 218 والبيهقي في السنن 1 / 84 والحاكم 1 / 386 والطبراني في التفسير 15 / 58 وعبد الرزاق (6916) والطبراني في الكبير 2 / 347 والدارقطني 2 / 89.
(*)(4/6)
المشركين) * [ التوبة 5 ] فالحرم هنا هي أشهر التسيير، أولها يوم الاذان وهو العاشر من ذي
الحجة، وهو يوم الحج الاكبر الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الاخر وليست هي الاربعة المذكورة في قوله تعالى: * (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والارض منها أربعة حرم) * [ التوبة 36 ] فإن تلك واحد فرد وثلاثة سرد: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
ولم يسير المشركين في هذه الاربعة، فإن هذا لا يمكن، لانها غير متوالية وإنما هو أجلهم أربعة أشهر.
ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم، فقاتل الناقض لعهده، وأجل من لاعهد له - أو له عهد مطلق - أربعة أشهر، وأمره أن يتم للموفي بعهده عهده إلى مدته، فأسلم هؤلاء كلهم ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم.
وضرب على أهل الذمة الجزية، فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة، ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الاسلام، فصار الكفار قسمين: أهل ذمة آمنون وأهل حرب وهم خائفون منه، وصار.
هل الارض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب.
وأمر في المنافقين أن يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله تبارك وتعالى، وأن يجاهدوهم بالعلم والحجة، وأمره أن يعرض عنهم، ويغلظ عليهم، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهي أن يصلي عليهم وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم فلن يغفر الله لهم.
تنبيه: قال بعض الملحدين: إنما بعث صلى الله عليه وسلم بالسيف والقتل، والجواب: أنه صلى الله عليه وسلم بعث أولا بالبراهين والمعجزات، فأقام يدعو الناس أكثر من عشر سنين فلم يقبلوا ذلك، وأصروا على الكفر والتكذيب، فأمر بالقتال وهو عوض العذاب الذي عذب الله تعالى به الامم السابقة لما كذبت رسلهم.(4/7)
الباب الثاني اختلاف الناس في عدد المغازي الذي غزا فيها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة، وفي كم قاتل فيها
روى ابن سعد عن ابن إسحاق وابن عقبة وأبي معشر وعن شيخه محمد بن عمر الاسلمي عن جماعة سماهم قالوا: كان عدد مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي غزا فيها بنفسه سبعا وعشرين، وقيل: تسع وعشرون، وقيل: ست وعشرون، ومن قال بذلك جعل غزوة خيبر ووادي القرى غزوة واحدة.
وقيل: خمس وعشرون، وزعم الحافظ عبد الغني المقدسي أنه المشهور، وعزاه لابن إسحاق وابن عقبة وأبي معشر، والذي رواه عنهم ابن سعد ما سبق، وهو الصواب الذي جزم به أبو الفرج في " التلقيح " والدمياطي والعراقي وغيرهم.
قال في المورد: وهذا الذي نقله المؤلف، أي الحافظ عبد الغني عن هؤلاء الائمة الثلاثة لم يقع لي من نقله عنهم غير المؤلف، سرد أسماء الغزوات، وهي غزوة الابواء ويقال لها: ودان، ثم غزوة بواط، ثم غزوة سفوان، وهي بدر الاولى لطلب كرز بن جابر، ثم غزوة العشيرة، ثم غزوة بدر الكبرى، ثم غزوة بني سليم بالكدر، ويقال لها: قرقرة الكدر، ثم غزوة السويق، ثم غزوة غطفان، وهي غزوة ذي أمر ثم غزوة الفرع، من بحران بالحجاز، ثم غزوة بني قينقاع، ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الاسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوة بدر الاخيرة وهي غزوة بدر الموعد، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة بني المصطلق وهي المريسيع، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان، ثم غزوة الحديبية، ثم غزوة ذي قرد، ثم غزوة خيبر، ثم غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب وبني ثعلبة ثم غزوة عمرة القضاء، ثم غزوة فتح مكة، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة تبوك، وفي بعض ذلك تقديم وتأخير عند بعض المحدثين، وسيأتي بيان ذلك مفصلا مع ضبطه.
قال ابن إسحاق، وابن سعد وابن حزم، وابن الاثير رحمهم الله: قاتل النبي صلى الله عليه وسلم في تسع غزوات: بدر، وأحد، والخندق، وقريظة، والمصطلق وهي المريسيع وخيبر والفتح وحنين والطائف، ويقال: إنه صلى الله عليه وسلم قاتل أيضا في بني النضير ووادي القرى، والغابة.
وقال ابن عقبة: قاتل في ثماني مواطن وأهمل عد قريظة، لانه ضمها إلى الخندق لكونها كانت في إثرها، وأفردها غيره لوقوعها منفردة بعد هزيمة الاحزاب، وكذا وقع لغيره، عد الطائف وحنينا واحدة
لكونها كانت في إثرها.(4/8)
وروى مسلم عن بريدة بن الحصيب (1) رضي الله تعالى عنه قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمان غزوات قال النووي: لعل بريدة أسقط غزوة الفتح ويكون مذهبه أنها فتحت صلحا - كما قال الشافعي وموافقوه - قلت: والتوجيه السابق أقعد.
قال الحافظ أبو العباس الحراني رحمه الله في الرد على ابن المطهر الرافض: لا يفهم من قولهم أنه صلى الله عليه وسلم قاتل في كذا وكذا أنه قاتل بنفسه كما فهمه بعض الطلبة ممن لااطلاع له على أحواله صلى الله عليه وسلم، ولا يعلم أنه قاتل بنفسه في غزوة إلا في أحد فقط.
قال: ولا يعلم أنه ضرب أحدا بيده إلا أبي بن خلف ؟ ضربه بحربة في يده.
انتهى.
قلت: وعلى ما ذكره يكون المراد بقولهم: قاتل في كذا وكذا أنه صلى الله عليه وسلم وقع بينه وبين عدوه في هذه الغزوات قتال قاتلت فيها جيوشه بحضرته صلى الله عليه وسلم، بخلاف بقية الغزوات، فإنه لم يقع فيها قتال أصلا، لكن نقل الحافظ في الفتح عن ابن عقبة أنه قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه في ثمان غزوات، وراجعت نسخة صحيحة في مغازي ابن عقبة ونصه: ذكر مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قاتل فيها، قاتل في بدر إلى آخر ما ذكره ثم قال: وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة غزوة لم يكن فيها قتال.
انتهى.
ولم يذكر فيها أنه صلى الله عليه وسلم قاتل بنفسه، فكأنها في بعض النسخ.
وسيأتي في غزوة أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بقوسه حتى صارت شظايا، وأنه أعطى ابنته فاطمة رضي الله عنها يوم أحد سيفه فقال: اغسلي دمه عنه، وفي حديث...كنا إذا التقينا، كتبية أو جيشا، أول من يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه...والغزوات الكبار الامهات سبع: بدر، وأحد، والخندق، وخيبر، والفتح، وحنين، وتبوك.
وفي شأن هذه الغزوات نزل القرآن، ففي بدر كثير من سورة الانفال، وفي أحد آخر آل عمران من قوله تعالى: * (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) * [ آل عمران 121 ]
إلى قبيل آخرها بيسير.
وفي قصة الخندق وقريظة صدر سورة الاحزاب، وفي بني النضير سورة الحشر.
وفي قصة الحديبية وخيبر سورة الفتح، وأشير فيها إلى الفتح، وذكر الفتح في سورة النصر، وتبوك في سورة براءة.
وجرح منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد فقط، وقاتلت معه الملائكة منها في بدر وحنين وأحد على خلاف في الثالثة يأتي تحقيقه في غزوتها.
ونزلت الملائكة يوم الخندق فزلزلوا المشركين وهزموهم.
ورمى بالحصباء في وجوه المشركين
__________
(1) بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الاسليمي، له كنى وسكن المدينة ثم البصرة ثم مرو، له مائة وأربعة وستون حديثا.
اتفقا على حديث وانفرد (خ) بحديثين و (م) بأحد عشر، روى عنه ابنه عبد الله وأبو المليح عامر.
مات يمرو سنة اثنتين أو ثلاث وستين.
وهو آخر من مات بخراسان من الصحابة.
[ الخلاصة 1 / 12 ].
(*)(4/9)
فهربوا، فكان الفتح في غزوتين: بدر وحنين.
وقاتل بالمنجنيق في غزوة واحدة وهي الطائف.
وتحصن بالخندق في واحدة وهي الاحزاب، أشار به عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه.
تنبيهات الأول: روى الخطيب البغدادي في الجامع وابن عساكر في تاريخه عن زين العابدين علي بن الحسين بن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، قال: كنا نعلم مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن.
ورويا عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص الزهري المدني قال: كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعدها علينا وسراياه، ويقول: يا بني هذه شرف آبائكم فلاتضيعوا ذكرها.
ورويا أيضا عن الزهري قال: في علم المغازي خير الدنيا والاخرة.
الثاني: روى ابن إسحاق والامام أحمد والشيخان عن عبد الله بن بريدة - بضم الموحدة وسكون التحتية - قال: قلت لزيد بن أرقم: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: تسع عشرة، قلت: كم غزوت أنت معه ؟ قال: سبع عشرة غزاة، قال الحافظ: تسع عشرة، والمراد الغزوات التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة سواء قاتل أو لم يقاتل، لكن روى أبو
يعلى بسند صحيح عن ابن الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن عدد الغزوات إحدى وعشرون.
وأصله في مسلم.
فعلى هذا فات زيد بن أرقم ثنتان منها، ولعلهما الابواء وبواط.
وكان ذلك خفي عليه لصغره، ويؤيد ما قلته ما وقع عند مسلم بلفظ أول غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات العشيرة أو العشيرة ا ه.
والعسيرة: الغزوة الثالثة.
وأما قول ابن كثير: يحمل قول زيد على أن العشيرة أول ما غزاه هو، أي زيد بن أرقم، والتقدير: فقلت: ما أول غزاة غزاها وأنت معه ؟ قال: العشيرة، فهو يحتمل أيضا، ويكون، قد خفي عليه ثنتان مما بعد ذلك، أو عد الغزوتين واحدة كما سبق لموسى بن عقبة، وكذا وقع لغيره، عد الطائف وحنينا واحدة لتقاربهما، فيجتمع على هذا قول زيد بن أرقم وقول جابر: وتوسع ابن سعد فبلغ عدد المغازي التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعا وعشرين، وتبع في ذلك شيخه محمد بن عمر، وهو مطابق لما عده ابن إسحاق إلا أنه لم يفرد وادي القرى من خيبر، أشار إلى ذلك السهيلي.
وكأن الستة الزائدة من هذا القبيل، وعلى هذا يحمل ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح، عن سعيد بن المسيب قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا وعشرين، ورواه يعقوب بن سفيان عن سلمة بن شبيب، عن عبد الرزاق فزاد فيه أن سعيدا قال أولا: ثماني عشرة، ثم قال: أربعا وعشرين.
قال الزهري: فلا أدري أوهم الشيخ أو كان شيئا سمعه.
قال الحافظ رحمه الله: وحمله على ما ذكر يرفع الوهم ويجمع الاقوال.(4/10)
الثالث: أول من صنف في المغازي عروة بن الزبير أحد أئمة التابعين، ثم تلاه تلميذاه: موسى بن عقبة، ومحمد بن شهاب الزهري.
قال الامام مالك رحمه الله: مغازي موسى بن عقبة أصح المغازي.
وقول السهيلي: إن مغازي الزهري أول ما صنف في الاسلام ليس كذلك.
وأجمع الثلاثة، وأشهرها مغازي أبي بكر محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي مولاهم المدني نزل العراق رحمه الله تعالى، وقد
تكلم فيه جماعة وأثنى عليه آخرون.
والمعتمد أنه صدوق يدلس، وإذا صرح بالتحديث فهو حسن الحديث.
قال الامام الشافعي رحمه الله: من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على ابن إسحاق، وقد اعتمد عليه في هذا الباب أئمة لا يحصون، ورواها عن جمع، ويقع عند بعضهم ما ليس عند بعض، وقد اعتمد أبو محمد عبد الملك بن هشام رحمه الله على رواية أبي محمد زياد بن عبد الله بن الطفيل العامري البكائي، بفتح الموحدة وتشديد الكاف - وهو صدوق ثبت في المغازي وفي حديثه عن غير ابن إسحاق لين، فرواها ابن هشام عنه وهذبها ونقحها، وزاد فيها زيادات كثيرة، واعترض أشياء سلم له كثير منها، بحيث نسبت السيرة إليه.
وقد اعتنى بكتاب ابن هشام أئمة من العلماء، فشرح الامام الحافظ أبو ذر الخشني رحمه الله غريب لغاته، وهو على اختصاره مفيد جدا، وشرح الامام أبو القاسم السهيلي كثيرا من مشكلها، واختصره الحافظ الذهبي وسماه بلبل الروض، وأجحف في اختصاره الشمس محمد بن أحمد بن موسى الكفيري الدمشقي والتقي يحيى بن شيخ الاسلام الشمس الكرماني، وسماه كل منهما زهر الروض، والعلامة الشيخ عز الدين بن جماعة، وسماه " نور الروض " والعلامة جمال الدين محمد بن مكرم صاحب " لسان العرب "، ورأيت لبعض المحققين من السادة الحنفية حواشي مفيدة على هوامش نسخة من الروض نكت عليه فيها كثيرا، وعلق الحافظ علاء الدين مغلطاي رحمه الله تعالى على الروض والسيرة كتابا في مجلدين رأيته بخطه تعقب فيه السهيلي كثيرا في النقل، وذكر شرح كثير من غريب السيرة الذي أخل به، وهو شئ كثير، واختصره العلامة المرجاني وسماه روائح الزهر.
ولابي أحمد محمد بن عايذ - بالتحتية، والذال المعجمة - القرشي الدمشقي الكاتب كتاب كبير في ثلاثة مجلدات، فيه فوائد ليست في كتاب ابن هشام.
ولابي عثمان سعيد بن يحيى بن سعيد الاموي البغدادي كتاب جليل جمع فيه غالب الروايات عن ابن إسحاق مع زوائد كثيرة، ولابي عبد الله محمد بن عمر بن واقد الاسلمي الواقدي رحمه الله تعالى كتاب كبير في
المغازي أجاد فيه، وهو وإن وثقه جماعة وتكلم فيه آخرون، فالمعتمد أنه متروك، ولا خلاف(4/11)
أنه كان من بحور العلم ومن سعة الحفظ بمكان، وقد نقل عنه في هذا الباب أئمة من العلماء، منهم الحافظان: أبو نعيم الاصفهاني وأبو بكر البيهقي رحمهما الله تعالى في دلائلهما.
ومن المتأخرين الحافظ ابن كثير رحمه الله في السيرة النبوية من تاريخه، والحافظ رحمه الله في الفتح وغيره، وشيخنا رحمه الله في الخصائص الكبرى، فاقتديت به، ونقلت عنه ما لم أجده عند غيره.
ثم رأيته ذكر في غزوة الحديبية عن المقداد بن الاسود رضي الله عنه شيئا، والمشهور أن المقداد قاله في غزوه بدر، ولم أر أحدا من أصحاب المغازي التي وقفت عليها ذكره في غزوة الحديبية فأعرضت عن النقل عنه، ثم بعد ذلك رأيت أبا بكر بن أبي شيبة رواه في المصنف من غير طريق الواقدي، عن عروة بن الزبير، فاستخرت الله تعالى في النقل عنه، وذكر بعض فوائده فإنه كما قال الحافظ أبو بكر الخطيب: ممن انتهى إليه العلم بالمغازي في زمانه، وليس في ذلك شئ يتعلق بالحلال والحرام، بل أخبار عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسرايا أصحابه ترتاح لها قلوب المحبين، وألف العلماء في هذا الباب كتبا لا يحصيها إلا الله تعالى سأذكر النقل مما وقفت عليه النقل منها.
الرابع: قال الشيخ رحمه الله تعالى في فتاويه: الغالب على سيرة أبي الحسن البكري البطلان والكذب، ولا تجوز قراءتها.
انتهى: قلت: والبكري هذا اسمه أحمد بن عبد الله بن محمد.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في كتابه الميزان، والحافظ ابن حجر في اللسان: إنه كذاب دجال، واضع القصص التي لم تكن قط، فما أجهله وما أقل حياءه، وما روى حرفا من العلم بسند، ويكرى له في سوق الكتبيين كتاب انتقال الانوار، ورأس الغول، وسر الدهر، وكتاب كلندجه، وحصن الدولاب، وكتاب الحصون السبعة وصاحبها هضام بن الحجاف وحروف الامام علي معه.
ومن مشاهير كتبه: الذورة في السيرة النبوية، ما ساق غزوة منها على وجهها، بل كل ما يذكره لا يخلو من بطلان، إما أصلا، وإما زيادة.
انتهى.
وقال الذهبي في " المغنى ": البكري هذا لا يوثق بنقله وهو مجهول الحال، والقلب يشهد بأنه كذاب، لاتيانه بتلك البلايا الواضحة التي لاتروج على صغار الطلبة.
الخامس: المغازي جمع مغزى، والمغزى يصلح أن يكون مصدرا، فقول: غزا يغزو غزوا ومغزى، ومغزاة، ويصلح أن يكون موضع الغزو.
وكونه مصدرا متعين.
هنا.
والغزوة مرة من الغزو وتجمع على غزوات.
وقال ابن سيده رحمه الله تعالى في المحكم: غزا الشئ غزوا إذا أراده وطلبه.
والغزو: السير إلى القتال مع العدو.
عن ثعلب رحمه الله: الغزوة المرة، والغزاة: عمل سنة وقال الجوهري رحمه الله: غزوت العدو غزوا والاسم الغزاة، ورجل غاز والجمع غزاة، مثل قاض(4/12)
وقضاة، وغزى مثل سابق وسبق.
وغزي مثل حاج وحجيج، وقاطن وقطين وغزاء مثل فاسق وفساق، وأغزيت فلانا: جهزته للغزو، وأصل الغزو القصد، ومغزى الكلام: مقصده.
ا ه.
والمراد بالمغازي هنا ما وقع من قصد النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، أو بجيش من قبله، وقصدهم أعم من أن يكن إلى بلادهم، أو إلى الاماكن التي حلوها، حتى دخل، مثل أحد والخندق.(4/13)
الباب الثالث في غزوة الأبواء وهي ودان
قال أبو عمرو: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة باقي ربيع الاول، الشهر الذي قدم فيه، وباقي العام كله إلى صفر، من سنة اثنتين من الهجرة، ثم خرج غازيا في صفر، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان لواء أبيض، واستعمل على المدينة فيما قال أبو سعد وأبو عمر: سعد بن عبادة، وخرج بالمهاجرين ليس منهم أنصاري يعترض عيرا لقريش فلم يلق كيدا، ووادع بني ضمرة بن عبد مناة بن كنانة وعقد ذلك معه سيدهم.
قال ابن إسحاق وابن سعد وأبو عمرو: جمع محشي بن عمرو الضمري، وقال ابن
الكلبي: عمارة بن محشي بن خويلد بن عبد فهم بن يعمر بن عوف بن جدي بن ضمرة، كذا ذكر الامير أبو نصر في جدي - بضم الجيم وفتح الدال - وكذ قال ابن حزم في الجمهرة إنه عمارة بن محشي، فالله أعلم - ووادعهم على ألا يغزوا بني ضمرة ولا يغزوه، ولايكثروا عليه جمعا ولايعينوا عليه عدوا، وكتب بينه وبينهم كتابا نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصرة على من رامهم إلا أن يحاربوا في دين الله ما بل بحر صوفة.
وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم لنصره أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله وذمة رسوله، ولهم النصر على من بر منهم واتقى ".
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة وهي أول غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة.
تنبيه في بيان غريب ما سبق: الابواء - بفتح الهمزة وسكون الموحدة والمد - قرية بين مكة والمدينة، قيل سميت بذلك لما فيها من الوباء ولو كان كما ذكر لكانت الاوباء، أو يكون مقلوبا منه، والصحيح أنها سميت بذلك لتبوئ السيول بها، قاله ثابت بن قاسم.
ودان - بفتح الواو وتشديد الدال المهملة في آخره نون - وهي قرية جامعة من عمل الفرع.
وداعته: صالحته.
مخشي - بفتح الميم وإسكان الحاء وكسر الشين المعجمتين ثم ياء مشددة كياء النسب - لم أر من ذكر له إسلاما.
لم يلق كيدا: أي حربا.
ما بل بحر صوفة، أي ما دام في البحر ما يبل الصوفة.
ذمة الله - بكسر الذال المعجمة - أمانة.(4/14)
الباب الرابع في غزوة بواط
خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجره - قاله ابن سعد وغيره، وقال أبو عمرو وابن حزم: في ربيع الاخر - في مائتين من المهاجرين، وحمل لواءه - وكان أبيض - سعد بن أبي وقاص، واستخلف على المدينة - قال ابن سعد - سعد بن معاذ وقال ابن هشام، وأبو عمرو: السائب بن عثمان بن مظعون، وتابعهما على ذلك في العيون والاشارة والمورد، يعترض عيرا لقريش وكان فيها أمية بن خلف ومائة رجل من قريش وألفان وخمسمائة بعير، فبلغ بواطا، ولم يلق كيدا، فرجع إلى المدينة.
بواط - بضم الموحدة وفتحها وتخفيف الواو وبالطاء المهملة -: جبل من جبال جهينة من ناحية رضوى - بفتح الراء وسكون الصاد المعجمة - جبل بينبع، بينه وبين المدينة أربعة برد.
تنبيه: قال في الروض: ذكر ابن هشام استخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة السائب بن مظعون، وهو أخو عثمان بن مظعون بن حبيب، ثم قال: وأما السائب بن عثمان وهو ابن أخي هذا فشهد بدرا...إلخ.
فاقتضى كلامه أن المستخلف السائب بن مظعون لا السائب بن عثمان بن مظعون، وفيه نظر، لان الموجود في نسخة السيرة: السائب بن عثمان بن مظعون.(4/15)
الباب الخامس في غزوة سفوان...وهي بدر الأولى
قال ابن إسحاق: لم يقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشرة.
وقال ابن حزم: بعدها بعشرة أيام خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا...من مهاجره، في إثر كرز بن جابر الفهري، لاغارته على سرح
المدينة، وكان يرعى بالجماء ونواحيها، وحمل لواءه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان أبيض، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة، فطلب صلى الله عليه وسلم كرزا حتى بلغ سفوان من ناحية بدر، فلم يدركه، فرجع ولم يلق كيدا.
تنبيهان الأول: ذكر ابن سعد وزر بن حبيش وغيرهما هذه الغزوة قبل العشيرة، وذكرها ابن إسحاق بعدها.
الثاني: كرز - بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي - كان من رؤساء المشركين قبل أن يسلم، ثم أسلم بعد ذلك واستشهد في غزوة الفتح.
الفهري بكسر الفاء.
سفوان - بفتح السين المهملة والفاء وفي آخره نون -: واد معروف.
السرح - بفتح السين وسكون الراء وبالحاء المهملات -: الابل والمواشي التي تسرح للرعي بالغداة.
الجماء - بجيم مفتوحة فميم مشددة فألف تأنيث -: موضع بالمدينة.(4/16)
الباب السادس في بيان غزوة العشيرة
خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ابن سعد في جمادى الاخرة على رأس ستة عشر شهرا من مهاجره.
وقال ابن إسحاق وابن حزم وغيرهما: في جمادى الاولى، وحمل لواءه - وكان أبيض - حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الاسد، وخرج في مائة وخمسين، ويقال في مائتين، ممن انتدب، ولم يكره أحدا على الخروج.
وخرجوا في ثلاثين بعيرا يعتقبونها، يعترض عيرا لقريش، وكان قد جاءه الخبر بفصول العير من
مكة تريد الشام، وقد جمعت قريش أموالها في تلك العير فبلغ العشيرة ببطن ينبع، فوجد العير قد مضت قبل ذلك بأيام، وهي العير التي خرج إليها حين رجعت من الشام، وكان سببها وقعة بدر الكبرى.
قال أبو عمرو: أخذ صلى الله عليه وسلم على طريق ملل إلى العشيرة، فأقام هناك بقية جمادى الاولى وليالي من جمادى الاخرة، ووداع فيها بني مدلج وحلفاءهم، من بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا، قالوا: وفيها كنى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا أبا تراب، ويأتي الكلام على ذلك مبسوطا في الحوداث.
العشيرة: بضم العين المهملة وفتح الشين المعجمة وسكون التحتية وبالهاء ويقال العسيرة بإهمال السين، وذات العشيرة والعشير، وهو موضع ببطن ينبع، وهو منزل الحاج المصري.(4/17)
الباب السابع في بيان غزوة بدر الكبرى
ويقال لها: العظمى، وبدر القتال، ويوم الفرقان، كما رواه ابن جرير وابن المنذر، وصححه والحاكم عن ابن عباس، قال: لان الله تعالى فرق فيه بين الحق والباطل.
وهي الوقعة العظيمة التي أعز الله تبارك وتعالى بها الاسلام، ودفع الكفر وأهله، وجمعت الايات الكثيرة والبراهين الشهيرة، وليحقق الله تعالى ما وعدهم من إحدى الطائفتين، وما أخبرهم به من ميلهم إلى العير دون الجيش، ومجئ المطر عند الالتقاء، وكان للمسلمين نعمة وقوة، وعلى الكفار بلاء ونقمة.
وإمداد الله تعالى المؤمنين بجند من السماء حتى سمعوا أصواتهم حين قالوا: أقدم حيزوم، ورأوا الرؤوس تتساقط من الكواهل من غير قطع ولا ضرب، وأثر السياط في أبي جهل وغيره، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين بالحصا والتراب حتى عمت رميته الجميع، وتقليل المشركين في أعين المسلمين، ليزيل عنهم الخوف، ويشجعهم على القتال، وإشارة
المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى مصارع المشركين بقوله: هذا مصرع فلان، هذا مصرع فلان، فرأى المسلمون ذلك على ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم وذكره، وقوله لعقبة بن أبي معيط: إن وجدتك خارج جبال مكة قتلتك صبرا، فحقق الله تعالى ذلك، وإخبار عمه العباس بما استودع أم الفضل من الذهب، فزالت شبهة العباس في صدقه وحقيقة نبوته، فازداد بصيرة ويقينا في أمره، وتحقيق الله تبارك وتعالى وعده للمؤمنين، إذ يقول: (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم) [ الانفال 70 ] فأعطى العباس بدل عشرين أوقية عشرين غلاما يتجرون له بماله.
وإطلاع الله تعالى رسوله على ائتمار عمير بن وهب وصفوان بن أمية بمكة على قتله صلى الله عليه وسلم، فعصمه الله تعالى من ذلك وجعله سببا لاسلام عمير بن وهب، وعاد إلى مكة داعيا إلى الاسلام.
إلى غير ذلك من الايات والمعجزات التي أعطاها الله لرسول صلى الله عليه وسلم، وأراها من معه من المؤمنين فزادتهم بصيرة ويقينا.
ورد عين قتادة بعدما سالت عن خده، والصحيح أن ذلك كان في أحد.
وكانت غزوة بدر الكبرى أكرم المشاهد.
والسبب في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليها أنه سمع أن أبا سفيان بن حرب مقبل من الشام في ألف بعير لقريش، فيها أموال عظام، ولم يبق بمكة قرشي ولا قرشية له مثقال فصاعدا إلا بعث به في العير، فيقال: إن فيها خمسين ألف دينار، ويقال أقل.
وفيها سبعون رجلا كما ذكر ابن عقبة وابن عائذ.
وقال ابن إسحاق: ثلاثون أو أربعون، منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص، وأسلما بعد ذلك، وهي التي خرج لها حتى بلغ العشيرة فوجدها قد مضت.
وندب المسلمين(4/18)
للخروج معه وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا، لعل الله تعالى أن يغنمكموها، فانتدب الناس، فخف بعض، وثقل بعض، وتخلف عنه بشر كثير، وكان من تخلف لم يلم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا، ولم يحتفل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم احتفالا بليغا، فقال: من كان ظهره حاضرا فليركب معنا.
فجعل رجال يستأذنونه في ظهورهم في علو
المدينة، قال: لا، إلا من كان ظهره حاضرا، وحمل سعد بن عبادة رضي الله عنه على عشرين جملا، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل خروجه من المدينة بعشر ليال طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى طريق الشام، يتحسسان خبر العير، فبلغا أرض الحوار - بضم الخاء المعجمة وفتح الواو المخففة وبالراء - فنزلا على كثير بن مالك الجهني رضي الله عنه فأجارهما، وأنزلهما وكتم عليهما حتى مرت العير، ثم خرجا، وخرج معهما كثير خفيرا، حتى أوردهما ذا المروة، فقدما ليخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجداه قد خرج.
ولما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبع أقطعها لكثير، فقال: يارسول الله، إني كبير ولكن اقطعها لابن أخي، فأقطعه إياها، فابتاعها منه عبد الرحمن بن سعد بن زرارة.
رواه عمر بن شبة.
وأدرك أبا سفيان رجل من جذام بالزرقاء من ناحية معان، فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان عرض لعيره في بدايته، وأنه تركه مقيما ينتظر رجوع العير، وقد خالف عليهم أهل الطريق ووادعهم، فخرج أبو سفيان ومن معه خائفين للرصد.
ولما دنا أبو سفيان من الحجاز جعل يتحسس الاخبار، ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أمر الناس، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان: أن محمدا قد استنفر لك ولعيرك، فحذر عند ذلك واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري بعشرين مثقالا، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يجدع بعيره، ويحول رحله، ويشق قميصه من قبله ومن دبره إذا دخل مكة، ويأتي قريشا، ويستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم سريعا إلى مكة، وفعل ما أمره به أبو سفيان.
ذكر منام عاتكة بنت عبد المطلب روى ابن إسحاق والحاكم والبيهقي من طريق عكرمة، عن ابن عباس وموسى بن عقبة، وابن إسحاق عن عروة، والبيهقي، عن ابن شهاب، قالوا: رأت عاتكة بنت عبد المطلب فيما يرى النائم - قبل مقدم ضمضم على قريش بثلاث ليال - رؤيا.
فأصبحت عاتكة فأعظمتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي، لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني، ليدخلن على قومك منها شر وبلاء ! فقال: وما هي ؟ قالت: لن أحدثك حتى تعاهدني أنك لا
تذكرها، فإنهم إن سمعوها آذونا وأسمعونا ما لا نحب، فعاهدها العباس، فقالت: رأيت أن رجلا أقبل على بعير فوق الابطح، فصاح بأعلى صوته: انفروا يا آل غدر، لمصارعكم في ثلاث، وصاح ثلاث صيحات فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم إن بعيره دخل به المسجد،(4/19)
واجتمع إليه الناس، ثم مثل به بعيره فإذا هو على رأس الكعبة، فصاح ثلاث صيحات فقال: انفروا يا آل غدر، لمصارعكم في ثلاث، ثم أرى بعيره مثل به على رأس أبي قبيس فقال: انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ثم أخذ صخرة عظيمة، فنزعها من أصلها فأرسلها من رأس الجبل، فأقبلت الصخرة تهوي لها حس شديد، حتى إذا كانت في أسفل الجبل ارتضت فما بقيت دار من دور قومك ولا بيت إلا دخل فيه فلقة، فقال العباس: والله إن هذه لرؤيا فاكتميها.
قالت: وأنت فاكتمها، لئن بلغت هذه قريشا ليؤذوننا، فخرج العباس من عندها فلقي الوليد بن عتبة فتحدث بها، وفشا الحديث بمكة، حتى تحدثت به قريش في أنديتها.
قال العباس: فغدوت لاطوف بالبيت وأبو جهل في رهط من قريش قعود يتحدثون لرؤيا عاتكة، فلما رآني قال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب: متى حدثت فيكم هذه النبية ؟ قلت: وما ذاك ؟ قال: رؤيا عاتكة.
قلت: وما رأت ؟ قال: ما رضيتم يا بني عبد المطلب أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم.
ولفظ ابن عقبة: أما رضيتم يا بني هاشم بكذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء، إنا كنا وإياكم كفرسي رهان، فاستبقنا المجد منذ حين، فلما تحاكت الركب قلتم: منا نبي، فما بقي إلا أن تقولوا: منا نبية، فما أعلم في قريش أهل بيت أكذب امرأة ولا رجلا منكم - وآذاه أشد الاذى - قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شئ كتبنا عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب.
قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير شئ، إلا أني جحدت ذلك، وأنكرت أن تكون عاتكة رأت شيئا.
وعند ابن عقبة في هذا الخبر أن العباس قال لابي جهل: هل أنت منتة ؟ فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك، فقال من حضرها: ما كنت جهولا يا أبا الفضل ولا خرقا، وكذلك قال ابن عائذ، وزاد: فقال العباس: مهلا يا مصفر استه.
ولقي العباس من عاتكة أذى شديدا حين أفشى حديثها لهذا الفاسق.
قال العباس: فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم، ثم قد تناول نساءكم وأنت تستمع، ثم لم يكن عندك كبير شئ مما سمعت، قلت: قد والله فعلت، ما كان مني إليه كبير شئ، وأيم الله لا تعرضن له، فإن عاد لاكفيكنه قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب، أرى أني قد فاتني من عدو الله أمر أحب أن أدركه منه، قال: فدخلت المسجد فرأيته، فوالله إني لامشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به، وكان رجلا خفيفا، حديد الوجه(4/20)
حديد اللسان حديد النظر، قال: إذ خرج نحو باب المسجد يشتد قال: فقلت في نفسي: ما له لعنه الله أكل هذا فرق من أن أشاتمه: قال: وإذا هو قد سمع ما لم أسمع، صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره، وحول رحله، وشق قميصه، وهو يقول: يا معشر قريش يا آل لؤي بن غالب، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث، والله ما أرى أن تدركوها، ففزعت قريش أشد الفزع، وأشفقوا من رؤيا عاتكة، فشغله ذلك عني، وشغلني عنه ما جاء من الامر.
وقالت عاتكة: ألم تكن الرؤيا بحق وجاءكم * بتصديقها فل من القوم هارب فقلتم - ولم أكذب -: كذبت وإنما * يكذبنا بالصدق من هو كاذب فتجهز الناس سراعا وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي - أي الاتي في السرايا - كلا والله ليعلمن غير ذلك، فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه
رجلا، وكان جهازهم في ثلاثة أيام، ويقال: في يومين، وأعان قويهم ضعيفهم وقال سهيل بن عمرو، وزمعة بن الاسود، وطعيمة بن عدي، وحنظلة بن أبي سفيان يحضون الناس على الخروج.
وقال سهيل: يا آل غالب أتاركون أنتم محمدا والصباة معه من شبانكم، وأهل يثرب يأخذون عيرانكم وأموالكم، من أراد مالا فهذا مالي ومن أراد قوة فهذه قوتي، فمدحه أمية بن أبي الصلت بأبيات، ومشى نوفل بن معاوية إلى أهل القوة من قريش، فكلمهم في بذل النفقة والحملان لمن خرج، فقال عبد الله بن أبي ربيعة: هذه خمسمائة دينار فضعها حيث رأيت، وأخذ من حويطب بن عبد العزى مائتي دينار، ويقال: ثلاثمائة دينار، وقوي بها في السلاح والظهر، وحمل طعيمة بن عدي على عشرين بعيرا، وقواهم وخلفهم في أهلهم بمعونة، ولم يتركوا كارها للخروج يظنون أنه في صف محمد وأصحابه، ولا مسلما يعلمون إسلامه، ولا أحدا من بني هاشم، إلا من لا يتهمون، إلا أشخصوه معهم، وكان ممن أشخصوا العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث وطالب بن أبي طالب وعقيل بن أبي طالب في آخرين.
وكان لا يتخلف أحد من قريش إلا بعث مكانه بعيثا، ومشوا إلى أبي لهب فأبى أن يخرج أو يبعث أحدا.
ويقال: إنه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة - وأسلم بعد ذلك - وكان قد ليط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فأستأجره، على أن يجزى عنه بعثه، فخرج عنه وتخلف أبو لهب، منعه من الخروج رؤيا عاتكة فإنه كان يقول: رؤيا عاتكة كأخذ باليد، واستقسم أمية بن خلف، وعتبة، وشيبة، وزمعة بن الاسود، وعمير بن وهب، وحكيم بن حزام، وغيرهم، عند هبل بالامر والناهي من الازلام فخرج القدح الناهي عن الخروج، فأجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل بن هشام.
ولما أجمع أمية بن خلف القعود وكان شيخا جليلا(4/21)
جسيما ثقليلا - أتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه، بمجمرة فيها نار ومجمر حتى وضعها بين يديه ثم قال: يا أبا علي استجمر: فإنما أنت من النساء، فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به، ثم تجهز وخرج مع الناس، وسبب تثبطه ما سيأتي عند ذكر مقتله.
ذكر تبدى إبليس لقريش في صورة سراقة بن مالك قال ابن إسحاق وغيره: ولما فرغوا من جهازهم، وأجمعوا المسير، وخرجوا على الصعب والذلول، معهم القيان والدفوف، ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الدماء، فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا، وكان ذلك يثنيهم فتبدى لهم عدو الله إبليس لعنه الله في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني، وكان من أشراف بني كنانة فقال: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهرنه.
فخرجوا سراعا في خمسين وتسعمائة مقاتل، وقيل: في ألف، ولم يتخلف عنهم من أشرافهم أحد سوى أبي لهب، وحشدوا فيمن حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي، فلم يخرج معهم منهم أحد، خرجوا من ديارهم كما قال الله تبارك وتعالى: (بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله) [ الانفال 47 ].
قال ابن عقبة وابن عائد: وأقبل المشركون، ومعهم إبليس يعدهم أن بني كنانة وراءه قد أقبلوا لنصرهم، وأنه (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم) [ الانفال 48 ]، فلم يزل حتى أوردهم، ثم سلمهم.
وفي ذلك يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه من أبيات: سرنا وساروا إلى بدر لحينهم * لو يعلمون يقين العلم ما ساروا دلاهم بغرور ثم أسلمهم * إن الخبيث لمن والاه غرار وقال: إني لكم جار فأوردهم * شر الموارد فيه الخزي والعار ثم التقينا فولوا عن سراتهم * من منجدين ومنهم فرقة غاروا قال في الامتاع: فلما نزلوا بمر الظهران نحر أبو جهل جزورا فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها، ورأى ضمضم بن عمرو أن وادي مكة يسيل دما من أسفله وأعلاه، وكان مع المشركين مائتا فرس يقودونها وست مائة درع، ومعهم القيان يضر بن بالدفوف، ونحر لهم أول يوم خرجوا من مكة أبو جهل عشر جزائر، ثم نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعا، ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشرا - وأسلم بعد ذلك - ومالوا من قديد إلى مياه
نحو البحر، فظلوا فيها وأقاموا بها، فنحر لهم يومئذ عتبة بن ربيعة عشرا، ثم أصبحوا بالابواء فنحر لهم منبه ونبيه ابنا الحجاج عشرا، ثم أكلوا من أزوادهم فلما وصلوا إلى الحجفة عشاء نزلوا هناك.(4/22)
ذكر رؤيا جهيم بن الصلت روى البيهقي عن ابن شهاب وابن عقبة وعروة بن الزبير قالوا: لما نزلت قريش بالحجفة (1) كان فيهم رجل من بني المطلب بن عبد مناف يقال: جهيم بن الصلت بن مخرمة - وأسلم بعد ذلك في حنين - فوضع جهيم رأسه فأغفى، ثم فزع فقال لاصحابه: هل رأيتم الفارس الذي وقف علي آنفا ؟ قالوا: لا، إنك مجنون قال: قد وقف علي فارس آنفا، فقال: قتل أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة، وزمعة، وأبو البختري وأمية بن خلف، وعدد رجالا ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لبة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمه، فقال له أصحابه: إنما لعب بك الشيطان، ورفع الحديث إلى أبي جهل فقال: قد جئتم بكذب المطلب مع كذب بني هاشم.
ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة في رمضان.
قال ابن سعد: يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت، وقال ابن هشام: لثمان ليال خلون من شهر رمضان، وضرب عسكره ببئر أبي عنبة - بكسر العين وفتح النون بلفظ اسم المأكول - وهي على ميل من المدينة.
فعرض أصحابه، ورد من استصغر منهم، فرد عبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، ورافع بن خديج، والبراء بن عازب، وأسيد بن حضير، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعمير بن أبي وقاص، فقال: ارجع، فبكى فأجازه، فقتل ببدر هو ابن ست عشرة سنة، وأمر أصحابه أن يستقوا من بئر السقيا، وشرب من مائها، وصلى عند بيوت السقيا، ودعا يومئذ للمدينة فقال: اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك دعاك لاهل مكة، وإني محمد عبدك ونبيك أدعوك لاهل المدينة، أن
تبارك لهم في صاعهم ومدهم وثمارهم، اللهم حبب إلينا المدينة، واجعل ما بها من الوباء بخم، اللهم إني حرمت ما بين لابتيها كما حرم إبراهيم خليلك مكة.
وكان خبيب بن إساف ذا بأس ونجدة ولم يكن أسلم، ولكنه خرج منجدا لقومه من الخزرج طالبا للغنيمة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصحبنا إلا من كان على ديننا فأسلم وأبلى بلاء حسنا، وراح عشية الاحد من بيوت السقيا.
وقال صلى الله عليه وسلم حين فصل منها: اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة فأغنهم من فضلك.
__________
(1) الجحفة بالضم، ثم السكون، والفاء: كانت قرية كبيرة، ذات منبر، على طريق مكة على أربع مراحل، وهي ميقات أهل مصر والشام، إن لم يمروا على المدينة، وكان اسمها مهيعة، وسميت الجحفة لان السيل جحفها [ مراصد الاطلاع 1 / 315 ].
(*)(4/23)
قال ابن إسحاق: ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير، وكان أبيض، وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان: إحداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها: العقاب، وكان سنه إذ ذاك عشرين سنة، وكانت الاخرى مع بعض الانصار.
وقال ابن سعد: كان لواء المهاجرين مع مصعب بن عمير، ولواء الخزرج مع الحباب ابن المنذر، ولواء الاوس مع سعد بن معاذ، وجزم بذلك في الهدى.
قال أبو الفتح: والمعروف أن سعد بن معاذ كان يومئذ على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وأن لواء المهاجرين كان بيد علي.
قلت: العريش كان ببدر، والذي ذكره ابن سعد: كان في الطريق.
واستخلف ابن أم مكتوم على الصلاة، ورد أبا لبابة من الروحاء واستخلفه على المدينة، وكان عليه صلى الله عليه وسلم درعه ذات الفضول، وتوشح بسيف أهداه له سعد بن عبادة يقال له: العضب، وكانت إبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعين بعيرا فاعتقبوها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وزيد بن حارثة - ويقال مرثد بن أبي مرثد - يعتقبون بعيرا، وقيل: وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو كبشة، وأنسة مولى النبي صلى الله عليه وسلم على بعير، وكان
أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا، ورفاعة وخلاد ابنا رافع بن مالك بن العجلان وعبيد بن يزيد بن عامر بن العجلان الانصاريون يعتقبون بعيرا، حتى إذا كانوا بالروحاء برك بعيرهم وأعيا، فهم بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله برك علينا بكرنا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتمضمض وتوضأ في إناء، ثم قال: " افتحا فاه " ففعلا فصبه في فيه، ثم على رأسه وعنقه، ثم على حاركه وسنامه، ثم على عجزه، ثم على ذنبه ثم قال: " اركبا "، ومضى فلحقاه، وإن بكرهم لينفر بهم حتى إذا كانوا بالمصلى في المدينة، وهم راجعون من بدر، برك عليهم فنحره خلاد فقسم لحمه، وتصدق به.
رواه البزار والطبراني.
وروى الامام أحمد وابن سعد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة وعلي زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا كانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: اركب يا رسول الله حتى نمشي عنك، فيقول: " ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الاجر منكما " قال في البداية والعيون: وهذا قبل أن يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة من الروحاء.
ثم كان زميلاه عليا وزيدا.
وقال ابن عقبة وابن إسحاق والذهبي وابن القيم: كان زميلاه مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وعليا وجعلوا زيدا مع حمزة كما تقدم، وكان معهم فرسان: فرس للمقداد بن الاسود يقال له: سبحة - بفتح السين المهملة وإسكان الموحدة وبالحاء المهملة ثم تاء تأنيث - وقيل: يقال له بعرجة - بموحدة مفتوحة عين مهملة ساكنة فراء فجيم مفتوحتين فتاء تأنيث - والبعرجة: شدة(4/24)
جري الفرس، وفرس الزبير بن العوام يسمى: السيل ويقال: اليعسوب - بفتح المثناة التحتية فعين ساكنة مهملة فسين مضمومة مهملة كذلك فواو ساكنة فموحدة - ولابن سعد في رواية عن يزيد بن رومان قال: كان معهم ثلاثة، وزاد فرسا لمرثد بن أبي مرثد الغنوي، يقال له: السيل، واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشاة - وهم في المساقة - قيس بن أبي صعصعة - واسم أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول - وأمره حين فصل بن بيوت السقيا أن
يعد المسلمين فوقف بهم عند بئر أبي عنبة فعدهم، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، ففرح بذلك وقال: عدة أصحاب طالوت.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص وهم بتربان: يا سعد انظر إلى الظبي ففوق له بسهم، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع ذقنه بين منكبي سعد وأذنيه، ثم قال: ارم، اللهم سدد رميته، فما أخطأ سهم سعد عن نحر الظبي، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج سعد يعدو فأخذه وبه رمق، فذكاه وحمله، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسم بين أصحابه، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بعرق الظبية لقوا رجلا من الاعراب فسألوه عن الناس، فلم يجدوا عنده خبرا، فقالوا له: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أوفيكم رسول الله ؟ قالوا: نعم، فسلم عليه، ثم قال: إن كنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه، فقال سلمة بن سلامة بن وقش: لا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك، قد نزوت عليها ففي بطنها منك سخلة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مه، أفحشت على الرجل "، ثم أعرض عن سلمة.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم سجسج وهي بئر الروحاء، ثم ارتحل منها حتى إذا كان بالمنصرف ترك طريق مكة بيسار، وسلك ذات اليمين على النازية، يريد بدرا، فسلك في ناحية فيها حتى إذا جزع واديا يقال له: الرحقان بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم على المضيق، ثم انصب منه حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسبس بن عمرو الجهني حليف بني ساعدة، وعدي بن أبي الزغباء حليف بني النجار، إلى بدر يتحسسان له الاخبار عن أبي سفيان.
ولما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما أو يومين، ثم نادى مناديه: يا معشر العصاة إني مفطر فأفطروا، وذلك أنه قد كان قال لهم قبل ذلك: أفطروا، فلم يفعلوا.
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قدمهم، فلما استقبل الصفراء - وهي قرية بين جبلين - سأل عن جبليها: ما اسماهما ؟ فقالوا: يقال لاحدهما: مشلح، وقالوا للاخر: مخرئ، وسأل عن أهلها فقيل: بنو النار وبنو حراق، بطنان من بني غفار، فكرههما رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرور بينهما، وتفاءل
بأسمائهما وأسماء أهلهما، فتركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والصفراء بيسار، وسلك ذات اليمين على واد يقال له: ذفران، وجزع فيه ثم نزل، وأتاه الخبر بمسير قريش، ليمنعوا عيرهم، فاستشار(4/25)
الناس، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم، وفي رواية: فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن الاسود ققال: يا رسول الله امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله ما نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) [ المائدة 24 ] ولكن اذهب أنت ربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، عن يمينك وشمالك، وبين يديك وخلفك، والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه، فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له خيرا ودعا له.
وذكر موسى بن عقبة وابن عائذ: أن عمر قال: يارسول الله: إنها قريش وعزها، والله ما ذلت منذ عزت ولا أمنت منذ كفرت، والله لتقابلنك، فأهب لذلك أهبته، وأعد لذلك عدته.
انتهى.
ثم استشارهم ثالثا ففهمت الانصار أنه يعنيهم، وذلك أنهم عدد الناس، فقام سعد بن معاذ، رضي الله عنه وجزاه خيرا، فقال: يا رسول الله، كأنك تعرض بنا.
قال: أجل، وكان إنما يعنيهم لانهم بايعوه على أن يمنعوه من الاحمر والاسود في ديارهم، فاستشارهم ليعلم ما عندهم، فقال سعد: يا رسول الله قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض لما أردت، ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الانصار ترى عليها ألا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الانصار وأجيب عنهم، فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لامرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان - وفي رواية: برك الغماد من ذي يمن - لنسيرن معك، والله لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقي عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله
يريك منا ما تقربه عينك، ولعلك خرجت لامر فأحدث الله غيره، فسر بنا على بركة الله، فنحن عن يمينك وشمالك، وبين يديك وخلفك، ولا نكونن كالذين قالوا لموسى: (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسر بقول سعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيروا على بركة الله، وأبشروا، فإن الله تعالى وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الان أنظر إلى مصارع القوم، وكره جماعة لقاء العدو (1).
وروى ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: كان الله تعالى وعدهم إحدى الطائفتين، وكان أن يلقوا العير أحب إليهم وأيسر شوكة.
وأحصى نفرا، فلما سبقت العير وفاتت
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل 3 \ 110 وذكره السيوطي في الدر المنثور 3 \ 166.
(*)(4/26)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، يريد القوم، فكره القوم مسيرهم لشوكتهم.
وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي أيوب قال: لما سرنا يوما أو يومين قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ترون في القوم فإنهم قد أخبروا بمخرجكم " ؟ فقلنا: والله ما لنا طاقة بقتال القوم، ولكن أردنا العير، ثم قال: ما ترون في قتال القوم ؟ فقلنا مثل ذلك، وذكر الحديث فأنزل الله تعالى: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) [ الانفال 5 ] ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذفران فسلك ثنايا يقال لها: الاصافر، ثم انحط منها إلى بلد يقال له: الدبة، وترك الحنان بيمين، وهو كثيب عظيم كالجبل العظيم، ثم نزل قريبا من بدر، فركب هو وأبو بكر الصديق حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني من أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أخبرتنا أخبرناك " قال: أذاك بذاك ؟ قال: " نعم "، قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بكذا وكذا، للمكان الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن
كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي فيه قريش، فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نحن من ماء "، ثم انصرفا عنه، والشيخ يقول: ما من ماء، أمن ماء العراق ؟ قال ابن هشام: ويقال ذلك الشيخ سفيان الضميري.
قال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء ببدر، يلتمسون الخبر له، فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم، غلام بني الحجاج، وعريض - بفتح العين المهملة وكسر الراء ثم مثناة تحتية ساكنة ثم ضاد معجمة - كذا في النور، أبو يسار غلام بني العاص بن سعيد فأتوا بهما، فسألوهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لابي سفيان (وأصحاب العير) فضربوهما.
فلما أذلقوهما قالا: نحن لابي سفيان (ونحن في العير) فتركوهما.
وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه ثم سلم وقال: " إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا، والله إنهما لقريش، أخبراني عن قريش " ؟ قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى - والكثيب: العقنقل - فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كم القوم ؟ " قالا: كثير - قال: ما عدتهم ؟ قالا: لا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم ؟ قالا: يوما تشعا ويوما عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين التسعمائة والالف، ثم قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فمن فيهم من أشراف قريش ؟ " قالا:(4/27)
عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الاسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبدود.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.
قال ابن عائذ: وكان مسيرهم وإقامتهم حتى بلغوا الجحفة عشر ليال.
وكان بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء قد مضيا حتى نزل بدرا، فأناخا إلى [ تل ] قريب من الماء، ثم أخذا شنا لهما يستقيان فيه، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء، فسمع عدي ويسبس جاريتين من جواري الحاضر وهما يتلازمان على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد، فأعمل لهم، ثم أقضيك الذي لك.
قال مجدي: صدقت، ثم خلص بينهما.
وسمع ذلك عدي وبسبس فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه بما سمعا.
ذكر وصول أبي سفيان إلى قرب المدينة وحذره من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق وغيره: وأقبل أبو سفيان بالعير وقد خاف خوفا شديدا، حتى دنوا من المدينة، واستبطأ ضمضم بن عمرو النفير حتى ورد بدرا وهو خائف، فلما كانت الليلة التي يصبحون فيها على ماء بدر جعلت العير تقبل بوجوهها إلى ماء بدر، وكانوا باتوا من وراء بدر، آخر ليلتهم، وهم على أن يصبحوا بدرا، إن لم يعترض لهم، فما انقادت العير لهم حتى ضربوها بالعقل وهي ترجع الحنين، فتواردا إلى ماء بدر وما بها إلى الماء من حاجة، لقد شربت بالامس، وجعل أهل العير يقولون: هذا شئ ما صنعته معنا منذ خرجنا، وعشيتهم ظلمة تلك الليلة حتى ما يبصر أحد منهم شيئا.
وتقدم أبو سفيان أمام العير حذرا حتى ورد الماء فرأى مجدي - بفتح الميم وإسكان الجيم فدال مهملة فياء ممدودة كياء النسب - ابن عمرو الجهني فقال له: هل أحسست أحدا ؟ قال: ما رأيت أحدا أنكره غير أني قد رأيت راكبين - يعني بسبسا وعديا - قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا، فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذ من أبعار بعيريهما، ففتته فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب.
فرجع إلى أصحاب سريعا فضرب وجه عيره عن الطريق، فساحل بها، وترك بدرا بيسار، وانطلق حتى أسرع فسار ليلا ونهارا فرقا من الطلب.
ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش قيس بن امرئ القيس: إنكم إنما(4/28)
خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها الله، فارجعوا، فأتاهم الخبر وهم بالجحفة، فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان بدر موسما من مواسم العرب، يجتمع لهم به سوق كل عام - فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها.
وكره أهل الرأي المسير، ومشي بعضهم إلى بعض، وكان ممن أبطأ بهم عن ذلك الحارث بن عامر، وأمية بن خلف، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وحكيم بن حزام، وأبو البختري، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه، حتى بكتهم أبو جهل بالجبن، وأعانه عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث بن كلدة.
وأجمعوا المسير.
وقال الاخنس بن شريق - وكان حليف بني زهرة -: يا بني زهرة قد نجى الله أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جبنها وارجعوا، فإنه لاحاجه لكم أن تخرجوا في غير ضيعة، لا ما يقول هؤلاء، فرجعوا، وكانوا نحو المائة، ويقال: ثلاثمائة، فما شهدها زهري إلا رجلين هما عما مسلم بن شهاب الزهري، وقتلا كافرين.
قال ابن سعد: ولحق قيس بن امرئ القيس أبا سفيان فأخبره مجئ قريش، فقال: واقوماه ! هذا عمل عمرو بن هاشم، يعني أبا جهل، واغتبطت بنو زهرة بعد برأي الاخنس، فلم يزل فيهم مطاعا معظما، وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل وقال: لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع.
قال ابن سعد: وكانت بنو عدي بن كعب مع النفير، فلما بلغوا ثنية لفت عدلوا في السحر إلى الساحل منصرفين إلى مكة، فصادفهم أبو سفيان بن حرب فقال: يا بني عدي،
كيف رجعتم، لافي العير ولافي النفير ؟ قالوا: أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع ويقال: بل لقيهم بمر الظهران، ومضت قريش حتى نزلت بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل وبطن الوادي، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بينهم وبين الماء رحلة، وغلب المشركون المسلمين في أول أمرهم على الماء، فظمئ المسلمون، وأصابهم ضيق شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس إليهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسول الله وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مخبتين، فأنزل الله تعالى تلك الليلة مطرا كثيرا فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلا طهرهم الله به، وأذهب عنهم رجز الشيطان، ووطأ به الارض، وصلب الرمل، وثبت الاقدام، ومهد به المنزل،(4/29)
وربط به على قلوبهم، ولم يمنعهم من السير، وسال الوادي فشرب المؤمنون، وملاوا الاسقية، وسقوا الركاب، واغتسلوا من الجنابة، كما قال تعالى: * (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان، وليربط على قلوبكم ويثبت به الاقدام) * [ الانفال 11 ].
وأصاب المسلمين تلك الليلة نعاس ألقي عليهم فناموا، حتى أن أحدهم ذقنه بين يديه وما يشعر حتى يقع على جنبه.
وروى أبو يعلى والبيهقي في الدلائل عن علي رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة حتى أصبح.
وروى عبد بن حميد عن قتادة قال: كان النعاس أمنة من الله، وكان النعاس نعاسين: نعاس يوم بدر ونعاس يوم أحد، وكانت ليلة الجمعة، وبين الفريقين قوز من الرمل.
وبعث صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، فأطافا بالقوم، ثم رجعا فأخبراه أن القوم مذعورون، وأن السماء تسح عليهم وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء، يبادرهم الماء فسبقهم إليه،
ومنعهم من السبق إليه المطر، أرسله الله تعالى عليهم حتى جاء أدنى ماء من بدر، فنزل، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح فيما رواه ابن إسحاق: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل [ أمنزلا ] أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال: يا رسول الله، ليس هذا المنزل فانهض بالناس، حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا فنملاه ماء [ ثم نقاتل القوم ] فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد أشرت بالرأي ".
وذكر ابن سعد أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرأي ما أشار به الحباب، فنهض صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس، حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه نصف الليل، ثم أمر بالقلب فغورت، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملاه ماء، ثم قذفوا فيه الآنية.
فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، ألا نبني لك عريشا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله تعالى وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الاخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فلقد تخلف عنك أقوام، يا نبي الله، ما نحن بأشد حبا لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويجاهدون معك.
فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير، ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش على تل مشرف على المعركة، فكان فيه هو وأبو بكر وليس معهما غيرهما، وقام سعد بن معاذ رضي الله عنه على بابه متوشحا بالسيف، ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع المعركة، وجعل(4/30)
يشير بيده: " هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، إن شاء الله، فما تعدى منهم أحد موضع إشارته ".
رواه الامام أحمد ومسلم وغيرهما (1).
وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، وارتحلت قريش حين أصبحت، فأقبلت بحدها وحديدها تحاد الله عزوجل، وتحاد رسوله، وجاءوا على حرد قادرين، وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لما يريدون من أخذ عيرهم وقتل من فيها، وقد أصابوا بالامس
عمرو بن الحضرمي وأصحابه والعير التي كانت معه، فجمعهم الله تعالى على غير ميعاد، كما قال تعالى: * (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا) * [ الانفال 42 ] فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل - وهو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي - فكان أول من طلع زمعة بن الاسود على فرس له يتبعه ابنه، فاستجال بفرس يريد أن يتبوأ للقوم منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة ".
وقال صلى الله عليه وسلم لما رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل أحمر: " إن يك في أحد من القوم خير فعند صاحب هذا الجمل الاحمر، إن يطيعوه يرشدوا، يا علي ناد حمزة - وكان أقربهم من المشركين - من صاحب الجمل الاحمر ؟ " فقال: هو عتبة وهو ينهى عن القتال، ويأمر بالرجوع ويقول: يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا: جبن عتبة، وأبو جهل يأبى.
وبعث خفاف - بضم الخاء المعجمة وفاءين - ابن إيماء - بهمزة مكسورة فمثناة تحتية ساكنة وميم ممدودة - ابن رحضة - بفتح الراء والحاء المهملتين والضاد المعجمة - أو أبوه [ إيماء بن رحضة الغفاري ] - وأسلم الثلاثة بعد ذلك - إلى قريش بجزائر أهداها لهم مع ابنه وقال: إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا، فأرسلوا إليه مع ابنه أن وصلتك رحم، وقد قضيت الذي عليك، فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم، ولئن كنا إنما نقاتل الله - كما يزعم محمد - فما لاحد بالله من طاقة.
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم حكيم بن حزام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوهم، فما شرب منهم أحد إلا قتل، إلا ما كان من حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل "، وأسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، فكان إذا اجتهد في يمينه قال: لا والذي نجاني يوم بدر.
فلما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي - وأسلم بعد ذلك - فقالوا له: احزر لنا أصحاب محمد، فجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم، فقال: ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلا
__________
(1) أخرجه مسلم 4 / 2203 (77 - 2874).
(*)(4/31)
أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر: أللقوم كمين أو مدد ؟ فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئا، ولكن رأيت - يا معشر قريش - البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، أما ترونهم خرسا لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الافاعي، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما في العيش خير بعد ذلك فروا رأيكم.
فبعثوا أبا سلمة الجشمي فأطاف بالمسلمين على فرسه، ثم رجع فقال: والله ما رأيت جلدا ولاعدادا ولا حلقة ولا كراعا، ولكن رأيت قوما لا يريدون أن يؤوبوا إلى أهليهم، قوما مستميتين ليست لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، زرق العيون كأنها الحصا تحت الحجف، فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس، فأتى عتبة بن ربيعة فكلمه ليرجع بالناس، وقال: يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، هل لك إلى أمر لا تزال تذكر فيه بخير إلى آخر الدهر ؟ قال: وما ذاك يا حكيم ؟ قال: ترجع بالناس، وتحتمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي.
قال: قد فعلت، أنت علي بذلك، إنما هو حليفي، فعلي عقله وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره، يعني أبا جهل بن هشام، ثم قام عتبة خطيبا في الناس فقال: يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون، إني أرى أقواما مستميتين لاتصلون إليهم، وفيكم خير، يا قوم اعصبوها اليوم برأسي وقولوا: جبن عتبة، وأنتم تعلمون أني لست بأجبنكم.
قال حكيم: فانطلقت حتى أتيت أبا جهل فوجدته قد نثل درعا له
من جرابها فهو يهيئها - وعند ابن هشام يهنئها - فقلت له: يا أبا الحكم إن عتبة قد أرسلني إليك بكذا وكذا للذي قال، فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه، فقد تخوفكم عليه، ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال: هذا حليفك عتبة يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك فقم فانشد خفرتك ومقتتل أخيك، فقام عامر بن الحضرمي فكشف عن استه، ثم صاح: واعمراه واعمراه ؟ فحميت الحرب، وحقب أمر الناس، واستوسقوا على ما هو عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة.(4/32)
ولما بلغ عتبة قول أبي جهل: " انتفخ والله سحره "، قال: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره: أنا أم هو ؟.
ثم التمس عتبة بضة ليدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة تسعة من عظم هامته، فلما رأى ذلك اعتجر ببرد له على رأسه.
وسل أبو جهل سيفه فضرب به متن فرسه، فقال له إيماء بن رحضة: بئس الفأل هذا ؟.
وذكر محمد بن عمر الاسلمي والبلاذري وصاحب الامتاع: أن قريشا لما نزلت بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إليهم، يقول لهم: ارجعوا فإنه إن يلي هذا الامر مني غيركم أحب إلي من أن تلوه مني، وأن إليه من غيركم أحب إلى من أن إليه منكم فقال حكيم بن حزام: قد عرض نصحا فاقبلوه، فوالله لاتنتصرون عليه بعد ما عرض من النصح، فقال أبو جهل: والله لا نرجع بعد أن مكننا الله منهم.
قال ابن عائذ: وقال رجال من المشركين لما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: غر هؤلاء دينهم، منهم أبو البختري بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام وذكر غيرهم لما تقالوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنوا أن الغلبة إنما هي بالكثرة، فأنزل الله تعالى: * (إذ
يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) * [ الانفال 49 ] لا يغالب، ينصر من يستحق النصر وإن كان ضعيفا، فعزته وحكمته أوجبت نصر الفئة المتوكلة عليه، أخبر تعالى أن النصر بالتوكل عليه لا بالكثرة.
وروى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج أن أبا جهل قال يوم بدر: خذوهم أخذا فاربطوهم في الحبال ولا تقتلوا منهم أحدا فنزل: * (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة) * [ القلم 17 ] يقول في قدرتهم عليهم كما اقتدر أصحاب الجنة على الجنة.
ذكر ابتداء الحرب وتهييج القتال يوم بدر ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم صف أصحابه قبل أن تنزل قريش، وطلعت قريش ورسوله الله صلى الله عليه وسلم يصف أصحابه ويعدلهم، كأنما يقوم بهم القدح ومعه يومئذ قدح، يشير إلى هذا: تقدم، وإلى هذا: تأخر، حتى استووا، ودفع رايته إلى مصعب بن عمير، فتقدم حيث أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضعها، ووقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى الصفوف فاستقبل المغرب، وجعل الشمس خلفه، وأقبل المشركون فاستقبلوا الشمس، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعدوة الشامية، ونزلوا بالعدوة اليمانية، فجاء رجل فقال: يا رسول الله: إني أرى أن نعار الوادي، فإني أرى ريحا قد هاجت من أعلى الوادي، وإني أراها بعثت بنصرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد صففت صفوفي ووضعت رايتي، فلا أغير ذلك "، ولما عدل(4/33)
رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف تقدم سواد بن غزية أمام الصف فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطنه وقال: " استوا يا سواد "، قال: يا رسول الله أوجغتني والذي بعثك بالحق، أقدني.
فكشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: " استقد فاعتنقه وقبله " فقال: ما حملك على ما صنعت، فقال: حضر من أمر الله ما قد ترى، وخشيت أن أقتل فأردت أن أكون آخر عهدي بك، وأن أعتنقك.
وخطب صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد فإني أحثكم على ما حثكم الله عزوجل عليه وأنهاكم عما نهاكم الله عزوجل عنه، فإن الله عزوجل عظيم شأنه، يأمر بالحق،
ويحب الصدق، ويعطي على الخير أهله على منازلهم عنده، به يذكرون، وبه يتفاضلون، وإنكم قد أصبحتم بمنزل من منازل الحق، لا يقبل الله فيه من أحد إلا ما ابتغي به وجهه وإن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله عزوجل به الهم، وينجي به من الغم، وتدركون به النجاة في الاخرة، فيكم نبي الله يحذركم ويأمركم، فاستحيوا اليوم أن يطلع الله عزوجل على شئ من أمركم يمقتكم عليه، فإن الله عزوجل يقول: * (لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم) * [ غافر 10 ] انظروا إلى الذي أمركم به من كتابه، وأراكم من آياته وأعزكم بعد الذلة، فاستمسكوا به يرض به ربكم عنكم، وأبلوا ربكم في هذه المواطن أمرا، تستوجبوا الذي وعدكم به من رحمته ومغفرته، فإن وعده حق، وقوله صدق، وعقابه شديد، وإنما أنا وأنتم بالله الحي القيوم، إليه ألجأنا ظهورنا وبه اعتصمنا، وعليه توكلنا، وإليه المصير، يغفر الله لنا وللمسلمين ".
وتعبت قريش للقتال، والشيطان لا يفارقهم.
قال ابن سعد: ووكان معهم ثلاثة ألوية: لواء مع أبي عزيز بن عمير، ولواء مع النضر بن الحارث، ولواء مع طلحة بن أبي طلحة، وكلهم من عبد الدار، وخرج الاسود بن عبد الاسد المخزومي، وكان رجلا شرسا سيئ الخلق فقال: أعاهد الله لاشربن من حوضكم أو لاهدمنه أو لاموتن دونه، فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض يريد بزعمه أن تبر يمينه - وفي لفظ: في جوف الحوض - فاتبعه حمزة حتى قتله دون الحوض، حتى وقع فيه فهدمه برجله الصحيحة، وشرب منه.
قال ابن سعد: وجاء عمير بن وهب فناوش المسلمين فثبت المسلمون على حقهم، ولم يزولوا، وشد عليهم عامر بن الحضرمي، ونشبت الحرب، فكان أول من خرج من المسلمين مهجع - بكسر الميم وإسكان الهاء فجيم مفتوحة فعين مهملة - ابن عائش بن عريف مولى عمر بن الخطاب، فقتله عامر بن الحضرمي.
وكان أول قتيل قتل من الانصار حارثة بن سراقة، ويقال: قتله حبان بن عرقة - بفتح(4/34)
العين وكسر الراء، ويقال: بفتحها، فقاف مفتوحة - ويقال: عمير بن الحمام - بضم الحاء المهملة - قتله خالد بن الاعلم العقيلي - بضم العين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: " لا تقاتلوا حتى أوذنكم، وإن كثبوكم فارموهم بالنبل، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم واستبقوا نبلكم ".
فقال أبو بكر: يا رسول الله قد دنا القوم وقد نالوا منا، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أراه الله تعالى إياهم في منامه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه، وكان ذلك تثبيتا لهم.
وروى ابن إسحاق وابن المنذر عن حبان بن واسع عن أشياخ من قومه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر، ورجع إلى العريش ثم انتبه فقال: " أبشر يا أبا بكر، أتاك نصر الله، هذا جبريل أخذ بعنان فرسه يقوده، على ثناياه النقع ".
وخرج عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، حتى إذا فضل من الصف دعوا إلى المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الانصار وهم: عوف ومعاذ ابنا الحارث - وأمهما عفراء - وعبد الله بن رواحة.
قال ابن عقبة وابن سعد وابن عائذ: ولما طلب القوم المبارزة وقام إليهم الثلاثة استحى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، لانه أول قتال التقى فيه المسلمون والمشركون ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد معهم، فأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون الشوكة لبني عمه وقومه فقالوا: من أنتم ؟ قالوا: رهط من الانصار، فقالوا: أكفاء كرام، ما لنا بكم من حاجة، ثم نادوا: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارجعوا إلى مصافكم وليقم إليهم بنو عمهم ".
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي - وكان علي معلما بصوفة بيضاء - فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم إذ جاءوا ببطالهم ليطفئوا نور الله "، فلما قاموا ودنوا معهم قالوا: من أنتم ؟ تكلموا، فقال عبيدة: أنا عبيدة، وقال حمزة: أنا حمزة، وقال علي: أنا علي.
قالوا: نعم، أكفاء كرام، فبارز عبيدة - وكان أسن القوم -
عتبة بن ربيعة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد بن عتبة.
فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة، بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه.
وضرب شيبة رجل عبيدة فقطعها، وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا صاحبهما، فحازاه إلى أصحابه، ولما جاءوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم أضجعوه إلى جانب موقف النبي صلى الله عليه وسلم، فأفرشه رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمه الشريفة، وقال عبيدة: يا رسول الله لو أن أبا طالب حي لعلم أني أحق بقوله: كذبتم وبيت الله نبزى * محمدا ولما نطاعن حوله ونناضل(4/35)
ونسلمه حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أشهد أنك شهيد ".
رواه الامام الشافعي (1) وعن قيس بن عباد - بضم العين وتخفيف الموحدة - فقال: سمعت أبا ذر يقسم قسما: إن هذه الآية * (هذان خصمان اختصموا في ربهم) * [ الحج 19 ] نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، رواه الشيخان.
وعن علي رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية في الذين تبارزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة.
قال علي: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله عزوجل يوم القيامة.
وروى البخاري عن علي رضي الله عنه قال: فينا نزلت هذه الآية * (هذان خصمان اختصموا في ربهم) * (2).
قال أبو العالية: ولما قتل هؤلاء ورجع هؤلاء قال أبو جهل وأصحابه: لنا العزى ولا عزى لكم، نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله مولانا ولا مولى لكم، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ".
رواه ابن أبي حاتم، وقلل الله تعالى المشركين في أعين المسلمين، وقلل المسلمين في أعين المشركين، حتى قال أبو جهل: إن محمدا وأصحابه أكلة جزور.
قال ابن عتبة: وعج المسلمون إلى الله تعالى بالدعاء حين رأوا القتال قد نشب.
ذكر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ونزول الملائكة لنصره قال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العريش، ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليس معه غيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر، يقول فيما يقول: " اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لاتعبد في الارض " (3) وأبو بكر رضي الله عنه يقول: " يا رسول الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك ".
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الانصاري رضي الله عنه أن عبد الله بن رواحة قال: " يا رسول الله إني أريد أن أشير عليك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من أن يشار عليه، وإن الله تبارك وتعالى أجل وأعظم من أن ينشد وعده " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بن
__________
(1) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 3 أ 113.
(2) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (3967).
(3) أخرجه مسلم (1383 - 1384) وأحمد في المسند 1 / 32.
(*)(4/36)
رواحة لانشدن الله وعده، إن الله لا يخلف الميعاد " (1).
وروى ابن سعد وابن جرير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال، ثم جئت مسرعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لانظر ما فعل، فإذا هو ساجد يقول: " يا حي يا قيوم "، لا يزيد عليهما، ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك، ثم ذهبت إلى القتال.
ثم رجعت وهو ساجد يقول ذلك [ ففتح الله عليه ] (2).
وروى البيهقي بسند حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما سمعت مناشدا ينشد مقالة أشد مناشدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه يوم بدر، جعل يقول: " اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه العصابة لاتعبد "، ثم التفت كأن وجهه شقه قمر، فقال: " كأنما أنظر إلى مصارع القوم العشية " (3).
وروى البيهقي، عن ابن عباس وحكيم بن حزام، وإبراهيم التيمي قالوا: لما حضر القتال رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يسأل الله النصر وما وعده، ويقول: " اللهم إن ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك، وما يقوم لك دين ".
وأبو بكر يقول له: " والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك ".
وخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش، ثم انتبه فأنزل الله عزوجل ألفا من الملائكة مردفين عند أكناف العدو وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل متعمم بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء والارض، فلما نزل إلى الارض تغيب عني ساعة، ثم طلع على ثناياه النقع يقول: " أتاك نصر الله إذ دعوته " (4).
وروى ابن أبي شيبة والامام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان في يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف، بربه يقول: " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الاسلام لاتعبد في الارض "، فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه وألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ردائه، فقال: يا نبي الله كفاك تناشد ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك " فأنزل الله تعالى: * (إذ تستغيثون ربكم
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير 4 / 210 وذكره السيوطي في الدار 3 / 263 وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل.
(2) أخرجه الحاكم في الستدرك 1 / 222 وقال: هنا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه وليس في إسناده مذكور بجرح، وأخرجه البيهقي في الدلائل 3 / 49 والذهبي في الميزان (5378).
(3) أخرجه البخاري 6 / 116 (2915).
(4) ذكره السيوطي في الد 3 / 172 وعزاه للبيهقي في الدلائل وأخرجه البيهقي في الدلائل 2 / 336، 3 / 54.
(*)(4/37)
فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) * [ الانفال 9 ] فأمده الله تعالى
بالملائكة (1).
وروى سعيد بن منصور عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم، فركع ركعتين، وقام أبو بكر عن يمينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته: " اللهم لا تودع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم أنشدك ما وعدتني " (2).
وروى البخاري والنسائي وابن المنذر عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة يوم بدر: " اللهم أني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن تشأ لاتعبد بعد اليوم "، فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك يا رسول الله، لقد ألححت على ربك (3).
فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول: * (سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) * [ القمر 45، 46 ] وأنز الله تعالى: * (أذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) * [ الانفال 9 ] أي متتابعين يتبع بعضهم بعضا، وأنزل الله عزوجل: * (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين) * [ آل عمران 124 ] * (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب، فاضربوا فوق الاعناق، واضربوا منهم كل بنان) * [ الانفال 12 ]، قال ابن الانباري: وكانت الملائكة لا تعلم كيف تقتل الآدميين فعلمهم الله تعالى بقوله: * (فاضربوا فوق الاعناق) * أي الرؤوس * (واضربوا منهم كل بنان) * أي مفصل.
وروى أبو يعلى والحاكم والبيهقي عن علي رضي الله قال: بينما أنا أمتح من قليب بدر جاءت ريح شديدة ما رأيت مثلها قط، ثم ذهبت، ثم جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط إلا التي كانت قبلها، ثم جاءت ريح شديدة، قال: فكانت الريح الاولى جبريل صلى الله عليه وسلم، نزل في ألف من الملائكة، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر عن يمينه، وكانت الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في الميسرة، فلما هزم الله تعالى أعداءه حملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على
فرسه، فجمزت بي، فلما جمزت خررت على عنقها فدعوت ربي فأمسكني، فلما استويت عليها طعنت بيدي هذه في القوم حتى خضبت هذا، وأشار إلى إبطه.
__________
(1) أخرجه مسلم (1384) والطبري 9 / 127 وأحمد في المسند 1 / 30 وذكره السيوطي في الدر المثنور 3 / 170.
(2) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2872).
(3) تقدم.
(*)(4/38)
وروى البخاري والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: " هذا جبريل آخذ برأس فرسه وعليه أداة الحرب " (1).
وروى ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس عن رجل من بني غفار قال: حضرت أنا وابن عم لي بدرا ونحن على شركنا فإنا لفي جبل ننظر الوقعة على من تكون الدبرة فننتهب، فأقبلت سحابة، فلما دنت من الجبل سمعنا فيها حمحمة وسمعنا فيها فارسا يقول: أقدم حيزوم، فأما صاحبي فانكشف قناع عليه، فمات، وأما أنا فكدت أهلك، ثم انتعشت بعد ذلك.
وروى محمد بن عمر الاسلمي، عن أبي رهم الغفاري (2)، عن ابن عم له قال: بينا أنا وابن عم على ماء ببدر فلما رأينا قلة من مع محمد وكثرة قريش قلنا: إذا التقت الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد وأصحابه فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحابه، ونحن نقول: هؤلاء ربع قريش، فبينا نحن نمشي في الميسرة إذ جاءت سحابة فغشيتنا فرفعنا أبصارنا إليها، فسمعنا أصوات الرجال والسلاح، وسمعنا رجلا يقول لفرسه: أقدم حيزوم، وسمعناهم يقولون: رويدا تتام أمراكم.
فنزلوا على ميمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت أخرى مثل ذلك، فكانت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا هم على الضعف من قريش، فمات ابن عمي، وأما أنا فتماسكت، وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلمت.
وروى مسلم وابن مردويه، عن ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد
في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه، وشق وجهه، كضربة السوط فاخضر ذلك الموضع أجمع، فجاء الانصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " صدقت، ذلك مدد من السماء الثالثة " (3).
وروى ابن إسحاق وإسحاق بن راهويه، عن ابن أسيد الساعدي أنه قال بعد ما عمي: لو كنت معكم ببد الان ومعي بصري لاخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك فيه ولا أتمارى.
__________
(1) أخرجه البخاري 7 / 363 (3995) والبيهقي في الدلائل 3 / 54 والطبراني في الكبير 11 / 343.
(2) (أبو رهم) الغفاري اسمه كلثوم بن حصين بن خالد بن العسعس بن زيد بن العميس بن الغفار وقيل ابن حصين بن عبيد بن خلف بن حماس بن غفار الغفاري مشهور باسمه وكنيته...كان ممن بايع تحت الشجرة واستخلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة في غزوة الفتح.
[ الاصابة 7 / 68 ].
(3) جزء من حديث أخرجه مسلم 3 / 1384 (58 - 1763) والبيهقي في الدلائل 3 / 52.
(*)(4/39)
وروى الامام أحمد والبزار والحاكم برجال الصحيح، عن علي قال: قيل لي ولابي بكر يوم بدر، قيل لاحدنا: معك جبريل، وقيل للاخر: معك ميكائيل، وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال ولا يقاتل يكون في الصف.
روى إبراهيم الحربي، عن أبي سفيان بن الحارث قال: لقينا يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والارض وروى الحاكم وصححه البيهقي وأبو نعيم، عن سهيل بن حنيف قال: لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى رأس المشرك، فيقع رأسه قبل أن يصل إليه.
وروى البيهقي عن الربيع بن أنس قال: كان الناس يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوه بضرب فوق الاعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد احترق.
وروى البيهقي وابن عساكر عن سهيل بن عمرو رضي الله عنه قال: لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والارض، معلمين، يقتلون ويأسرون.
وروى البيهقى عن خارجة بن إبراهيم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: من القائل يوم بدر من الملائكة: أقدم حيزوم ؟ فقال جبريل: ما كل أهل السماء أعرف.
وروى البيهقي عن حكيم بن حزام قال: لقد رأيتنا يوم بدر وقد وقع بوادي خلص بجاد من السماء قد سد الافق، فإذا الوادي يسيل نملا فوقع في نفسي أن هذا شئ أيد به محمد صلى الله عليه وسلم، فما كانت إلا الهزيمة، وهي الملائكة.
وروى محمد بن عمر الاسلمي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: " هذا جبريل يسوق الريح كأنه دحية الكلبي، إني نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور ".
وروى محمد بن عمر الاسلمي وابن عساكر، عن عبد الرحمن بن عوف قال: رأيت يوم بدر رجلين: عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما، وعن يساره أحدهما، يقاتلان أشد القتال، ثم ثلثهما ثالث من خلفه، ثم ربعهما رابع أمامه.
وروى ابن سعد عن حويطب بن عبد العزى، قال: لقد شهدت بدرا مع المشركين فرأيت عبرا، رأيت الملائكة تقتتل وتأسر بين السماء والارض.
وروى البيهقي عن السائب بن أبي حبيش رضي الله عنه أنه كان يقول: والله ما أسرني أحد من الناس، فيقال: فمن ؟ فيقول: لما انهزمت قريش انهزمت معها فيدركني رجل أبيض طويل على فرس أبلق بين السماء والارض، فأوثقني رباطا، وجاء عبد الرحمن بن عوف فوجدني مربوطا، فنادى في العسكر: من أسر هذا ؟ فليس أحد يزعم أنه أسرني، حتى انتهى بي(4/40)
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا بن أبي حبيش من أسرك ؟ " فقلت: لا أعرفه، وكرهت أن أخبره بالذي رأيت، فقال: " أسرك ملك من الملائكة ".
وروى محمد بن عمر الاسلمي والبيهقي، عن أبي بردة بن نيار رضي الله عنه قال:
جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بثلاثة رؤوس فقلت له: يا رسول الله، أما رأسان فقتلتهما، وأما الثالث فإني رأيت رجلا أبيض طويلا ضربه فأخذت رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذاك فلان من الملائكة " (1).
وروى البيهقي، عن ابن عباس قال: كان الملك يتصور في صورة من يعرفون من الناس يثبتونهم، فيقول: إني قد دنوت منهم وسمعتهم يقولون: لو حملوا علينا ما ثبتنا، ليسوا بشئ، إلى غير ذلك من القول.
وروى ابن راهويه وأبو نعيم والبيهقي بسند حسن عن ابن جبير بن مطعم قال: رأيت قبل هزيمة القوم، والناس يقتتلون، مثل البجاد الاسود مبثوث، حتى امتلا الوادي، فلم أشك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم.
وروى الامام أحمد وابن سعد وابن جرير عن ابن عباس، والبيهقي عن علي رضي الله عنهما، قال: كان الذي أسر العباس أبو اليسر (2) - بالمثناة التحتية والسين المهملة - وكان رجلا مجموعا وكان العباس رجلا جسيما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا اليسر كيف أسرت العباس ؟ " قال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، هيئته كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد أعانك عليه ملك كريم ".
وروى ابن سعد وأبو الشيخ عن عطية بن قيس قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال بدر جاء جبريل على فرس أنثى أحمر، عليه درعه، ومعه رمحه، فقال: يا محمد، إن الله بعثني إليك وأمرني ألا أفارقك حتى ترضى، هل رضيت ؟ قال: " نعم، رضيت، فانصرف " (3).
وروى أبو يعلى عن جابر قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر إذ تبسم في صلاته، فلما قضى صلاته قلنا يا: رسول الله رأيناك تبسمت، قال: " مر بي ميكائيل وعلى جناحه أثر الغبار، وهو راجع من طلب القوم، فضحك إلي فتبسمت إليه " (4).
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل 3 / 58 وانظر البداية والنهاية 3 / 281.
(2) (أبو اليسر) بفتحتين الانصاري اسمه كعب بن عمرو بن عباد بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة وقيل
كعب بن عمرو بن غنم بن كعب بن سلمة وقيل كعب بن عمرو بن غنم بن شداد بن غنم بن كعب بن سلمة الانصاري السلمي بفتحتين مشهور باسمه وكنيته شهد العقبة وبدرا [ الاصابة 7 / 218 ].
(3) أخرجه ابن سعد في الطبقات 2 / 20.
(4) أخرجه أبو يعلى في مسنده 4 / 49 وذكره الهيثمي في المجمع 6 / 283 وعزاه لابي يعلى وقال: وفيه الوازع بن نافع وهو متروك.
(*)(4/41)
وروى البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ " قلنا: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها.
قال جبريل: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة (1).
وروى ابن سعد عن عكرمة قال: كان يومئذ يندر رأس الرجل لا يدرى من ضربه، وتندر يد الرجل لا يدرى من ضربه.
وروى ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله تعالى: (مردفين) وقال: وراء كل ملك ملك.
وروى عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الاية قال: متتابعين، أمدهم الله تعالى بألف ثم بثلاثة، ثم أكملهم خمسة آلاف.
وروى ابن إسحاق والبيهقي عن أبي واقد الليثي قال: إني لاتبع يوم بدر رجلا من المشركين لاضربه فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن غيري قتله.
وروى البيهقي عن حمزة بن صهيب عن أبيه قال: ما أدري كم يد مقطوعة أو ضربة جائفة لم يدم كلمها يوم بدر، وقد رأيتها.
وروى أبو نعيم عن أبي دارة قال: حدثني رجل من قومي من بني سعد بن بكر قال: إني لمنهزم يوم بدر إذ أبصرت رجلا بين يدي منهزما، فقلت: ألحقه.
فأستأنس به، فتدلى من جرف ولحقته، فإذا رأسه قد زايله ساقطا، وما رأيت قربه أحدا.
وروى الطبراني عن رفاعة بن رافع، وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه، عن ابن عباس قال: أمد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف، فكان جبريل في خمسمائة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة، وجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإني جار لكم، وأقبل جبريل إلى إبليس فلم رآه - وكانت يده في يد رجل من المشركين - انتزع إبليس يده.
ثم ولى مدبرا وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة، ألست تزعم أنك جار لنا، فقال: إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب، فذلك حين رأى الملائكة، فتشبث به الحارث بن هشام، وأسلم بعد ذلك، وهو يرى أنه سراقة لما سمع كلامه، فضرب الشيطان في صدر الحارث فسقط الحارث، وانطلق إبليس لا يلوي، حتى سقط في البحر، ورفع يديه وقال: يا رب، موعدك الذي وعدتني، اللهم إني أسألك نظرتك
__________
(1) أخرجه البخاري 7 / 362 (3992).
(*)(4/42)
إياي.
وخاف أن يخلص إليه القتل، فقال أبو جهل: يا معشر الناس لا يهمنكم خذلان سراقة، فإنه كان على ميعاد من محمد، ولا يهمنكم قتل عتبة وشيبة، فإنهم قد عجلوا.
فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه بالحبال، ولا ألفين رجلا منكم قتل رجلا منهم، ولكن خذوهم أخذا حتى نعرفهم سوء صنعيهم.
ويروى أنهم رأوا سراقة بمكة بعد ذلك فقالوا له: يا سراقة أخرمت الصف، وأوقعت فينا الهزيمة، فقال: والله ما علمت بشئ من أمركم حتى كانت هزيمتكم، وما شهدت وما علمت، فما صدقوه حتى أسلموا وسمعوا ما أنزل الله تعالى فيه.
فعلموا أنه كان إبليس تمثل لهم.
وروى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم، فأنزل الله تعالى: (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم
هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) [ آل عمران 124، 125 ] فبلغ كرز الهزيمة فرجع ولم يأتهم فلم يمددهم الله بالخمسة آلاف، وكانوا قد أمدوا بألف من الملائكة.
وروى عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله (مردفين) قال: متتابعين، أمدهم الله تعالى بألف، ثم بثلاثة، ثم أكملهم بخمسة آلاف.
ذكر سيماء الملائكة يوم بدر وروى ابن سعد عن عباد بن حمزة بن الزبير قال: نزلت الملائكة يوم بدر عليهم عمائم صفر، وكان على الزبير يوم بدر ريطة صفراء قد اعتجر بها.
وروى البيهقي عن ابن عباس قال: كان سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها على ظهورهم، ويوم خيبر عمائم حمرا.
وروى الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا في قوله تعالى: (مسوفين) قال: معلمين، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود، ويوم أحد عمائم حمر.
وروى ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير أن الزبير كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجرا بها، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر.
وروى الطبراني بسند صحيح، عن عروة قال: نزل جبريل يوم بدر على سيما الزبير، وهو معتجر بعمامة صفراء.
وروى ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث عن ابن عباس قال: كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرخوها على ظهورهم إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء.(4/43)
وروى أبو نعيم في فضائل الصحابة وابن عساكر، عن عباد بن عبد الله بن الزبير أنه بلغه أن الملائكة نزلت يوم بدر وهم طير بيض عليهم عمائم صفر، وكان على رأس الزبير يومئذ عمامة صفراء من بين الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نزلت الملائكة على سيما أبي عبد الله، وجاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة صفراء (1).
قال ابن سعد: وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضر وصفر وحمر من نور، والصوف من نواصي خيلهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: " إن الملائكة قد سومت فسوموا، فأعلموا بالصوف في مغافرهم وقلانسهم وكانت الملائكة على خيل بلق ".
وروى ابن أبي شيبة وابن جرير عن عمير بن إسحاق قال: إن أول ما كان الصوف ليوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تسوموا فإن الملائكة قد تسومت، فهو أول يوم وضع الصوف " (2).
وروى ابن أبي شيبة وابن المنذر، عن علي رضي الله عنه قال: كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الابيض في نواصي الخيل وأذنا بها (3).
وروى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة في قوله: (مسومين) قال: بالعهن الاحمر.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتوا - أي الملائكة - مسومين فسوم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف.
وروى عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن سيماهم - أي الملائكة - يومئذ الصوف بنواصي خيلهم، وأذنا بها، وأنهم على خيل بلق.
ذكر شعار المسلمين يومئذ روى البيهقي عن عروة قال: كان شعار المهاجرين يومئذ: يا بني عبد الرحمن، وشعار الخزرج، يا بني عبد الله، وشعار الاوس: يا بني عبيدالله.
وسمى خيله خيل الله، وكذا قال ابن سعد، ويقال: كان شعار الجميع يومئذ: يا منصور أمت.
وروى الحارث بن أبي أسامة، عن زيد بن علي، قال: كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم: " يا منصور أمت "، ويقال: أحد أحد، ولما تنزلت الملائكة للنصر، ورآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أغفى إغفاءة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش في الدرع، فجعل يحرض الناس على القتال،
__________
(1) ذكره السيوطي في الدر 2 / 70 وعزاه لابي نعيم وابن عساكر.
(2) ذكره السيوطي في الدر 2 / 70 وعزاه لابن أبي شيبة وابن حزم.
(3) ذكره السيوطي في الدر 2 / 70 وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر.
(*)(4/44)
ويبشر الناس بالجنة، ويشجعهم بنزول الملائكة - والناس بعد على مصافهم لم يحملوا على عدوهم - حصل لهم السكينة والطمأنينة، وقد حصل النعاس الذي هو دليل على الطمأنينة والثبات والايمان، كما قال تعالى: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه) [ الانفال 11 ].
ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: النعاس في المصاف من الايمان، والنعاس في الصلاة من النفاق.
ذكر التحام القتال ومقتل عمير بن الحمام رضي الله عنه قال ابن إسحاق وغيره: ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم فقال: " قوموا إلى جنة عرضها السموات والارض، والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ".
فقال - كما في صحيح مسلم (1) وغيره - عمير بن الحمام أخو بني سلمة وفي يده تمرات يأكلهن: بخ بخ يا رسول الله، عرضها السموات والارض ؟ ! قال: " نعم ".
قال: أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ؟ وفي رواية قال: لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، ثم قذف التمرات من يده، وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.
وذكر ابن جرير أن عميرا قاتل وهو يقول: ركضا إلى الله بغير زاد * إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد * وكل زاد عرضة النفاد غير التقى والبر والرشاد قال ابن عقبة: فكان أول قتيل قتل من المسلمين، وقال ابن سعد: مهجع مولى عمر بن الخطاب.
مقتل عوف بن الحارث قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عوف بن الحارث وهو ابن عفراء قال: يا رسول الله: مم يضحك الرب من عبده ؟ قال: " غمشه يده في العدو حاسرا ؟ " فنزع درعا كانت عليه فألقاها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رضي الله عنه.
وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بنفسه قتالا شديدا، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه، كما كانا في العريض يجاهدان بالدعاء والتضرع، ثم نزلا فحرضا وحثا على القتال، وقاتلا بأبدانهما، جمعا بين المقامين.
روى ابن سعد، والفريابي، عن علي رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر وحضر البأس أمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واتقينا به، وكان أشد الناس بأسا يومئذ.
وما كان أحد أقرب إلى المشركين
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الامارة (145) وأحمد في المسند 3 / 136 والبيهقي في السنن 9 / 43.
(*)(4/45)
منه.
وروى الامام أحمد بلفظ: " لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم ".
والنسائي بلفظ: " كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ".
ذكر دعاء أبي جهل على نفسه روى ابن إسحاق والامام أحمد، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير - بالمهملتين مصغرا - العذري وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قال أبو جهل: " اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فأحن الغداة، اللهم من كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم ".
فكان هو المستفتح على نفسه، فأنزل الله تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) [ الانفال 19 ].
ذكر مقتل عدو الله أمية بن خلف روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه عن سعد بن معاذ أنه كان صديقا لامية بن خلف، وكان أمية إذا نزل بالمدينة مر على سعد، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية، فلما
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انطلق سعد معتمرا، فنزل على أمية بمكة فقال لامية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت، فخرج به قريبا من نصف النهار فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان من هذا معك ؟ فقال: هذا سعد، فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنا، وقد او يتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما، فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لامنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك إلى المدينة، فقال له أمية: لا ترفع صوتك على أبي الحكم سيد أهل الوادي، فقال سعد: دعنا عنك يا أمية: فوالله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنه قاتلك " وفي لفظ: إنهم قاتلوك.
قال: إياي ؟ ! قال: نعم.
قال: بمكة ؟ قال: لا أدري، ففزع لذلك أمية فزعا شديدا وقال: والله ما يكذب محمد إذا حدث.
فلما رجع أمية إلى أهله قال: يا أم صفوان، ألم ترى ما قال لي سعد ؟ قالت: وما قال لك ؟ قال: زعم أن محمدا أخبرهم أنهم قاتلي.
فقلت له: بمكة ؟ قال: لا أدري، فقال أمية: والله لا أخرج من مكة.
فلما كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس فقال: أدركوا عيركم، فكره أمية أن يخرج، فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان إنك متى يراك الناس قد تخلفت - وأنت سيد أهل الوادي - تخلفوا معك، فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذ غلبتني لاشترين أجود بعير بمكة.
وعن ابن إسحاق أن عقبة بن أبي معيط أتى أمية بن خلف لما أجمع القعود، وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها، فيها نار وبخور، حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء، قال: قبحك الله وقبح ما جئت به، ثم(4/46)
قال أمية: يا أم صفوان جهزيني، قالت: يا أبا صفوان، أنسيت ما قال لك أخوك اليثربي ؟ قال: لا، ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا.
فلما خرج أخذ لا يترك منزلا إلا عقل بعيره، فلم يزل كذلك حتى قتله الله ببدر.
وروى البخاري وابن إسحاق واللفظ له عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال:
كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو، فتسميت حين أسلمت عبد الرحمن، فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماك به أبوك ؟ فأقول: نعم، فيقول: إني لا أعرف الرحمن فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به، أما أنت فلا تجيبني باسمك الاول، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف.
قال: وكان إذا دعاني عبد عمرو لم أجبه.
قال: فقلت له: يا أبا علي اجعل بيني وبينك ما شئت، قال: فأنت عبد الاله، قلت: نعم، قال: فكنت إذا مررت به قال: يا عبد الاله فأجيبه، فأتحدث معه، فلما هاجرت إلى المدينة كاتبته ليحفظني في ضائقتي، وأحفظه في ضائقته بالمدينة، فلما كان يوم بدر خرجت لاحرزه من القتل، فوجدته مع ابنه علي بن أمية، أخذ بيده، ومعي أدراع [ قد استلبتها فأنا أحملها ]، فلما رآني قال: يا عبد عمرو فلم أجبه، فقال: يا عبد الاله، فقلت: نعم.
قال: هل لك في، فأنا خير لك من هذه الادراع التي معك ؟ قلت: نعم بالله إذا، فطرحت الادراع من يدي فأخذت بيده ويد ابنه وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن، ثم خرجت أمشي بهما، فقال لي ابنه: يا عبد الاله، من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره، قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال: ذاك الذي فعل بنا الافاعيل، قال عبد الرحمن: فوالله إني لاقودهما إذ رآه بلال معي.
وكان هو الذى يعذب بلالا بمكة حتى يترك الاسلام فلما رآه قال: رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا، ثم نادى: يا معشر الانصار، فخرج معه فريق من الانصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا أطلقت لهم ابنه لاشغلهم به، وكان أمية رجلا ثقيلا، فقلت: ابرك، فبرك، فألقيت نفسي عليه لامنعه، فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل الدشكرة - وفي لفظ المسكة - وأنا أذب عنه، فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فقلت: انج بنفسك ولا نجاء بك، فوالله ما أغني عنك شيئا، قال: فهبرره بأسيافهم وأصاب أحدهم ظهر رجلي بسيفه، فكان عبد الرحمن يقول: يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري.
ذكر رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفار بالحصباء
قال الله سبحانه وتعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) [ الانفال 17 ] قال محمد بن عمر الاسلمي: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ من الحصباء كفا، فرمى به المشركين،(4/47)
وقال: " شاهت الوجوه، اللهم أرعب قلوبهم، وزلزل أقدامهم "، فانهزم أعداء الله لا يلوون على شئ، وألقوا دروعهم، والمسلمون يقتلونهم.
وروى ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ ثلاث حصيات، فرمى بحصاة في ميمنة القوم، وحصاة في ميسرة القوم، وحصاة بين أظهرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شاهت الوجوه "، فانهزم القوم.
وروى الطبراني وابن جرير وابن أبي حاتم بسند حسن، عن حكيم بن حزام، قال: لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء إلى الارض، كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصاة وقال: " شاهت الوجوه " فانهزمنا.
وروى أبو الشيخ وأبو نعيم وابن مردويه، عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت صوت حصيات وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست، فلما اصطف الناس أخذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بهن وجوه المشركين فانهزموا.
وروى الطبراني وأبو الشيخ بالرجال الصحيح، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي: " ناولني قبضة من حصباء "، فرمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه الكفار، فما بقي أحد من القوم إلا امتلات عيناه من الحصباء (1).
وروى ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس والاموي، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الارض أبدا ".
فقال له جبريل: خذ قبضة من تراب فارم بها في وجوههم، فما بقي من المشركين من أحد إلا وأصاب عينيه ومنخريه وفمه، فولوا مدبرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: " احملوا "، فلم تكن إلا الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديدهم وأسر من أسر، وأنزل الله تعالى: (فلم
تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) [ الانفال 17 ] قال ابن عقبة وابن عائذ: فكانت تلك الحصباء عظيما شأنها، لم تترك من المشركين رجلا إلا ملات عينيه، وجعل المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم.
وبادر كل رجل منهم منكبا على وجهه لا يدري أين يتوجه، يعالج التراب ينزعه من عينيه (2).
قال ابن إسحاق: فكانت الهزيمة، فقتل الله من قتل من صناديد قريش، وأسر من أشرافهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العريش متوشحا بالسيف، في نفر من الانصار يحرسونه
__________
(1) انظر الترغيب والترهيب 3 / 175.
(2) تقدم.
(*)(4/48)
يخافون كرة العدو، وسعد بن معاذ رضي الله عنه قائم على باب العريش متوشح بالسيف.
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي عن الزهري: " اللهم اكفني نوفل بن خويلد " (1)، فأسره جبار بن صخر، ولقيه علي فقتله، وقتل علي أيضا العاص بن سعيد، ثم قال: من له علم بنوفل ؟ فقال علي: أنا قتلته، فقال: " الحمد لله الذي أجاب دعوتي منه ".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ - فيما ذكر ابن إسحاق - لبعض أصحابه: " إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا.
فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري فلا يقتله " - وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله لانه كان أكف القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شئ يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة - " ومن لقي منكم العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنما خرج مكرها "، فقال أبو حذيفة رضي الله عنه: " أنقتل آباءنا وإخواننا وعشيرتنا، ونترك العباس، والله لئن لقيته لالجمنه السيف "، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر بن الخطاب: " يا أبا حفص، أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف ؟ ! ".
فقال عمر: " يارسول الله دعني فلاضرب عنقه بالسيف - يعني أبا حذيفة رضي الله عنه - فوالله لقد نافق ".
فكان أبو حذيفة يقول: " ما أنا بآمن
من تلك الكلمة التي قلتها يومئذ ولا أزال خائفا منها، إلا أن تكفرها عني الشهادة ".
فقتل يوم اليمامة شهيدا، قال عمر: " والله إنه لاول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص " (2).
ولقي المجذر بن زياد البلوي أبا البختري.
فقال له: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك "، ومع أبي البختري زميل له خرج معه من مكة وهو جنادة بن مليحة، وقال: وزميلي ؟ فقال له المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك، قال: لا والله إذا لاموتن أنا وهو جميعا، لا تحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة، فقال أبو البختري حين نازله المجذر وأبي إلا القتال: لن يسلم ابن حرة زميله * حتى يموت أو يرى سبيله فاقتتلا فقتله المجذر، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فأتيك به فأبى إلا أن يقاتلني فقتلته.
قال ابن عقبة: ويزعم ناس أن أبا اليسر قتل أبا البختري، ويأتي عظم الناس إلا أن المجذر هو الذي قتله، بل الذي قتله غير شك أبو داود المازني وسلبه سيفه وكان عند بنيه حتى باعه بعضهم من بعض ولد أبي البختري.
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل 2 / 367.
(2) انظر البداية والنهاية 3 / 284 وأخرجه البيهقي في الدلائل بنحوه 3 / 140.
(*)(4/49)
ذكر مقتل فرعون هذه الامة أبي جهل بن هشام وغيره روى الامام أحمد والشيخان وغيرهم عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: إني لواقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بين غلامين من الانصار، حديثة أسنانهما فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما سرا من صاحبه فقال: أي عم، هل تعرف أبا جهل ؟ قلت: نعم، فما حاجتك إليه يابن أخي ؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الاعجل منا،
قال: وغمرني الاخر سرا من صاحبه فقال مثلها، فعجبت لذلك.
قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس وهو يرتجز: ما تنقم الحرب العوان مني بازل عامين حديث سني لمثل هذا ولدتني أمي فقلت: ألا تريان ؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى برد، وانصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: " أيكما قتله ؟ " فقال كل واحد منهما: أنا قتلته.
قال: " مسحتما سيفيكما ؟ " قالا: لا، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال: " كلاكما قتله "، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان: معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء (1).
وروى الامام أحمد، والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه وابن إسحاق عن معاذ بن عمرو، والبيهقي عن ابن عقبة، والبيهقي عن ابن إسحاق.
قال معاذ: سمعت القوم وأبا جهل في مثل الحرجة وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، فلما سمعتها جعلته من شأني فعمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أظنت قدمه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حتى طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى، حين يضرب بها، قال: وضربني ابنه عكرمة - وأسلم بعد ذلك - على عاتقي فطرح يدي بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنه فلقد قاتلت عامة يومي هذا، وإني لاسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت قدمي عليها، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها.
قال ابن إسحاق: وعاش بعد ذلك إلى زمن عثمان.
قال القاضي: زاد ابن وهب في روايته: " فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلصقت ".
كذا نقله عن القاضي في العيون.
__________
(1) أخرجه البخاري 6 / 283 (3141) ومسلم 3 / 1372 (42 - 1752).
(*)(4/50)
والذي في الشفاء: وقطع أبو جهل يوم بدر يد معوذ بن عفراء فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألصقها فلصقت، رواه ابن وهب.
انتهى.
قال ابن إسحاق: ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بن عفراء، فضربه حتى أثبته وبه رمق، وقاتل معوذ حتى قتل، ثم مر عبد الله بن مسعود بأبي جهل فذكر ما سيأتي.
قال ابن إسحاق: وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على القتلى، فالتمس أبا جهل فلم يجده، حتى عرف ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " اللهم لا يعجزني فرعون هذه الامة " (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: " من ينظر لنا ما صنع أبو جهل ؟ وإن خفي عليكم في القتلى فانظروا إلى أثر جرح في ركبته، فإني ازدحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبدالله بن جدعان، ونحن غلامان، وكنت أشف منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش في إحداهما جحشا لم يزل أثره به ".
قال عبد الله بن مسعود: فأتيته فوجدته بآخر رمق فعرفته "، وكان مقنعا بالحديد، واضعا سيفه على فخذيه، ليس به جرح، ولا يستطيع أن يحرك منه عضوا وهو منكب ينظر إلى الارض، فلما آره ابن مسعود طاف حوله ليقتله، فأراد أن يضربه بسيفه، فخشي أن لا يغني سيفه شيئا، فأتاه من ورائه، قال: ومعي سيف رث ومعه سيف جيد، فجعلت أنقف رأسه بسيفي، وأذكر نتفا كان برأسي حتى ضعفت يده، فأخذت سيفه، فرفع رأسه فقال: على من كانت الدبرة وفي رواية: لمن الدائرة ؟ قلت: لله ورسوله، فأخذت بلحيته وقلت: الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله، وفي لفظ: هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال: بماذا أخزاني ؟ قال: هل أعمد، وفي لفظ: هل عدا رجل قتلتموه.
أو غير أكار قتلني، فرفعت سابغة البيضة عن قفاه، فضربته فوقع رأسه بين يديه، ثم سلبته.
قال ابن عقبة: فلما نظر عبد الله إلى أبي جهل إذا هو ليس به جراح، وأبصر في عنقه خدرا وفي يديه وكفيه كهيئة آثار السياط، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال: " ذلك ضرب الملائكة ".
قال ابن مسعود: ثم حززت رأسه، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله هذا
رأس عدو الله أبي جهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لله الذي لا إله إلا هو ؟ " وفي لفظ: الذي لا إله غيره، فاستحلفني ثلاث مرات فألقيت رأسه بين يديه، فقال: " الحمد لله الذي أعز الاسلام وأهله "، ثلاث مرات، وخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدا.
وفي رواية: صلى ركعتين.
قال القاضي: إن ابن مسعود إنما جعل رجله على عنق أبي جهل ليصدق رؤياه، فإن ابن قتيبة ذكر أن أبا جهل قال لابن مسعود: لاقتلنك، فقال: والله لقد رأيت في النوم أني أخذت حدجة حنظل فوضعتها بين كتفيك بنعلي، ولئن صدقت لاطأن رقبتك، ولاذبحنك ذبح الشاة.
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل 2 / 388.
(*)(4/51)
وروى ابن عائذ عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لكل أمة فرعونا وإن فرعون هذه الامة أبو جهل، قتله الله شر قتلة، قتله ابنا عفراء، وقتلته الملائكة، وتدافة ابن مسعود "، يعني أجهز عليه.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب " من عاش بعد الموت ": عن الشعبي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الارض فيضربه رجل بمقمعة معه، حتى يغيب في الارض، ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك.
ففعل ذلك مرارا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذاك أبو جهل بن هشام، يعذب إلى يوم القيامة كذلك " (1).
وروى الطبراني وابن أبي الدنيا في كتاب القبور، واللالكائي في السنة، وابن منده، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بينما أنا سائر بجنبات بدر إذ خرج رجل من حفرة في عنقه سلسلة فناداني: يا عبد الله اسقني فلا أدري عرف اسمي أو دعاني بدعاية العرب، وخرج رجل من تلك الحفرة في يده سوط فناداني: يا عبد الله: لا تسقه فإنه كافر، ثم ضربه بالسوط فعاد إلى حفرته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم مسرعا فأخبرته فقال لي: " قد رأيته ؟ " قلت: نعم، قال: " ذاك عدو الله أبو جهل، وذاك عذابه إلى يوم القيامة " (2).
مقتل أبي ذات الكرش
روى البخاري عن الزبير بن العوام قال: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وكان يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه بالعنزة فطعنته في عينه فمات.
قال هشام بن عروة: فأخبرت الزبير قال: لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطيت، فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفها.
قال عروة: فسأله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياها، فلما قبض أخذها، ثم طلبها أبو بكر فأعطاه إياها، فلما قبض أبو بكر أخذها، ثم سألها عمر فأعطاه إياها، فلما قبض عمر أخذها، ثم طلبها عثمان منه فأعطاه إياها، فلما قتل وقعت عند آل علي، وطلبها عبد الله بن الزبير فكانت عنده حتى قتل (3).
ذكر انقلاب العرجون سيفا روى ابن سعد عن زيد بن أسلم ويزيد بن رومان، وغيرهما، والبيهقي وابن إسحاق: أن عكاشة بن محصن رضي الله عنه قاتل يوم بدر بسيفه حتى انقطع، فأتى
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل 3 / 90 وابن أبي شيبة في المصنف 11 / 59.
(2) ذكره الهيثمي في المجمع 6 / 83 وعزاه للطبراني في الاوسط وقال: فيه من لم أعرفه.
(3) أخرجه البخاري في المغازي (3997).
(*)(4/52)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا من حطب وقال: " قاتل بهذا يا عكاشة ".
فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه فعاد سيفا في يده طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى العون، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل في أيام الردة، قتله طلحة بن خويلد الاسدي.
وروى البيهقي عن داود بن الحصين عن رجال من بني عبد الاسهل عدة، قالوا: انكسر سيف سلمة بن الحريش - بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وبالشين المعجمة - يوم بدر فبقي أعزل لا سلاح معه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيبا كان في يده عن عراجين نخل ابن طاب
فقال: اضرب به، فإذا هو سيف جيد، فلم يزل عنده حتى قتل يوم جسر أبي عبيدة (1).
ذكر بركة اثر ريقه ويده صلى الله عليه وسلم روى البيهقي عن ابن إسحاق قال: حدثني خبيب بن عبد الرحمن قال: ضرب خبيب - يعني بن عدي - يوم بدر، فمال شقه، فتفل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولامه ورده فانطبق.
وروى البيهقي عن قتادة بن النعمان أنه أصيبت عينه يوم بدر، فسالت حدقته على وجنته، فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لا "، فدعا به فغمز حدقته براحته، فكان لا يدري أي عينيه أصيبت.
وروى أيضا عن رفاعة بن رافع بن مالك قال: لما كان يوم بدر رميت بسهم ففقئت عيني، فبصق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لي، فما آذاني منها شئ.
قال ابن إسحاق: ووضع المسلمون أيديهم يأسرون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش، وسعد بن معاذ قائم على باب العريش في نفر من الانصار، يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كرة العدو، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد الكراهة لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله لكأني بك يا سعد تكره ما يصنع القوم ".
قال: أجل يا رسول الله، كانت هذه أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الاثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال.
ذكر انهزام المشركين قال ابن سعد: ورجعت قريش إلى مكة منهزمين، ورئي رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثرهم مصلتا بالسيف، يتلو هذه الاية (سيهزم الجمع ويولون الدبر) [ القمر 45 ].
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل 2 / 370.
(*)(4/53)
وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، عن عكرمة - زاد ابن جرير في رواية عنه: عن ابن عباس، وابن أبي حاتم والطبراني
وابن مردويه، عن أبي هريرة رضي الله عنهم: أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة قبل يوم بدر (سيهزم الجمع ويولون الدبر).
قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله، أي جمع يهزم ؟ فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، مصلتا بالسيف وهو يثب ويقول: " سيهزم الجمع ويولون الدبر " فعرفت تأويلها، وكان انهزام القوم حين زالت الشمس من يوم الجمعة.
وروى الفريابي وابن أبي شيبة والامام أحمد والترمذي وحسنه ابن سعيد عن عكرمة قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من أهل بدر: عليك بالعير ليس دونها شئ، فناداه العباس وهو أسير في وثاقه: إنه لا يصلح ذاك لك، قال: " لمه ؟ " قال: لان الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين، فقد أعطاك ما وعدك، قال: " صدقت ".
وذكر الاموي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف هو وأبو بكر بالقتلى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نفلق هاما...فيقول أبو بكر:...من رجال أعزة * علينا، وهم كانوا أعق وأظلما وروى البخاري عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: " لو كان المطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له "، أي تركتهم أحياء، ولما قتلتهم من غير فداء، إكراما له وقبولا لشفاعته، فإنه كان ممن قام في نقض الصحيفة (1).
ذكر سحب كفار قريش إلى بدر وما وقع في ذلك من الايات روى مسلم والنسائي عن عمر بن الخطاب، والشيخان عن أبي طلحة، وابن إسحاق، والامام أحمد، ومسلم عن أنس، والشيخان من طريق عروة، عن ابن عمر، والطبراني برجال الصحيح، عن ابن مسعود، والامام أحمد برجال ثقات، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريهم مصارع أهل بدر بالامس، يقول: هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله - ووضع يده بالارض - وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله.
قال عمر:
فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلوا يصرعون عليها فجعلوا في طوي من أطواء بدر، خبيث مخبث بعضهم على بعض.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الخمس (3139).
(*)(4/54)
قال أبو طلحة: وكانوا بضعة - وفي رواية أربعة - وعشرين.
قالت عائشة: إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملاها، فذهبوا ليحركوه فتزايل، فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.
وقال أبو طلحة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أظهره الله على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال.
وقال أنس: ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلى بدر ثلاثا، ثم أتاهم.
قال أبو طلحة: فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم براحلته فشد عليها رحلها، ثم مشى وتبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفا البئر، وفي لفظ على شفير الركي.
وفي بعض الروايات عن أنس: أن ذلك كان ليلا، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، وفي رواية: " يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ؟ هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فجزاكم الله عني من عصابة شرا، خونتموني أمينا، وكذبتموني صادقا ".
فقال عمر: يا رسول الله، أتناديهم بعد ثلاث، كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟ وفي لفظ: كيف يسمعون أو أنى يجيبون وقد جيفوا ؟ فقال: " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، إنهم الان يسمعون ما أقول لهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علينا شيئا " (1).
قال قتادة: أحياهم الله تعالى حتى أسمعهم قوله، توبيخا لهم، وتصغيرا ونقمة وحسرة وندامة.
قال عروة: فبلغ عائشة قول ابن عمر، فقالت: ليس هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال: " إنهم ليعلمون الآن الذي كنت أقول لهم حقا، إنهم تبوؤوا مقاعدهم من جهنم " (2) إن الله تعالى يقول: (إنك لا تسمع الموتى) [ النمل 80 ] (وما أنت بمسمع من في القبور، إن أنت إلا نذير) [ فاطر 22، 23 ] وفي رواية عند الامام أحمد من طريقين رجالهما ثقات، عن عائشة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنتم بأفهم لقولي منهم "، أو " لهم أفهم لقولي منكم " (3).
وروى البزار والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما جئ بأبي جهل يجر إلى القليب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو كان أبو طالب حيا لعلم أن أسيافنا قد التبست
__________
(1) الجزء الاخير أخرجه البخاري 2 / 122 ومسلم 4 / 2203 (76 - 2873).
(2) أخرجه البخاري 3 / 274 (1371) ومسلم في كتاب الجنائز (26).
(3) أخرجه أحمد في المسند 6 / 170 وذكره الهيثمي في المجمع 6 / 90.
(*)(4/55)
بالانامل " (1)، ولفظ الطبراني وغيره.
ولذلك يقول أبو طالب: كذبتم وبيت الله نخلي محمدا * ولما نطاعن حوله ونناضل ونسلمه حتى نصرع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل وينهض قوم في الحديد إليكم * نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل وحتى يرى ذا الضغن يركب درعه * من الطعن فعل الانكب المتحامل وإنا لعمر الله إن حد ما أرى * لتلتبسن أسيافنا بالاماثل قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت: عرفت ديار زينب بالكثيب * كخط الوحي في الورق القشيب تداولها الرياح وكل جون * من الوسمي منهمر سكوب فأمسى رسمها خلقا وأمست * يبابا بعد ساكنها الحبيب فدع عنك التذكر كل يوم * ورد حرارة الصدر الكئيب
وخبر بالذي لا عيب فيه * بصدق غير إخبار الكذوب بما صنع المليك غداة بدر * لنا في المشركين من النصيب غداة كأن جمعهم حراء * بدت أركانه جنح الغروب فلا قيناهم منا بجمع * كأشد الغاب مردان وشيب أمام محمد قد وازروه * على الاعداء في لفح الحروب بأيديهم صوارم مرهفات * وكل مجرب خاظي الكعوب بنو الاوس الغطارف وازرتها * بنو النجار في الدين الصليب فغادرنا أبا جهل صريعا * وعتبة قد تركنا بالجبوب وشيبة قد تركنا في رجال * ذوي حسب إذا نسبوا حسيب يناديهم رسول الله لما * قذفناهم كباكب في القليب ألم تجدوا كلامي كان حقا * وأمر الله يأخذ بالقلوب فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا * صدقت وكنت ذا رأي مصيب قال ابن إسحاق: ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم أن يلقوا في القليب أخد عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - في وجه أبي حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير فقال: " يا أبا حذيفة، لعلك قد داخلك من شأن أبيك شئ " - أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا، والله يا رسول الله ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكن كنت
__________
(1) ذكره الهيثمي في المجمع 6 / 83 وعزاه للبزار وقال: فيه حيان بن علي وهو ضعيف.
(*)(4/56)
أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الاسلام، فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير، وقال له خيرا.
ذكر إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم
زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة بشيرين لاهل المدينة بوقعة بدر: الأول لاهل السافلة والثاني لاهل العالية روى الحاكم عن أسامة بن زيد، والبيهقي عن محمد بن عمر الاسلمي، والبيهقي أيضا، عن ابن إسحاق: قال أسامة بن زيد رضي الله عنه: خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان وأسامة بن زيد على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام بدر، وقالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة من الاثيل فجاءا يوم الاحد حين اشتد الضحى، وفارق عبد الله بن رواحة زيد بن حارثة بالعقيق، فجعل عبد الله ينادي على راحلته: يا معشر الانصار أبشروا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل المشركين وأسرهم، قتل ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وزمعة بن الاسود، وأمية بن خلف.
وأسر سهيل بن عمرو.
قال عاصم بن عدي: فقمت إليه فنحوته، فقلت: أحقا ما تقول يا ابن رواحه ؟ فقال: إى والله، وغدا يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاسرى مقرنين، ثم اتبع دور الانصار بالعالية يبشرهم دارا دارا والصبيان يشتدون معه ويقولون: قتل أبو جهل الفاسق، حتى انتهى إلى بني أمية بن زيد.
وقدم زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء - قال الواقدي: وقال أسامة: العضباء - يبشر أهل السافلة، فلما أن جاء المصلى صاح على راحلته: قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وقتل أبو جهل، وأبو البختري، وزمعة بن الاسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو ذو الانياب في أسرى كثير، فجعل [ بعض ] الناس لا يصدقون زيد بن حارثة ويقولون: ما جاء زيد إلا فلا، حتى غاظ ذلك المسلمين وخافوا.
قال أسامة: فسمعت الهيعة، فخرجت فإذا زيد على العضباء جاء بالبشارة، فوالله ما صدقته حتى رأيت الاسارى، وقد زيد حين سووا على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب بالبقيع، فقال رجل من المنافقين لابي لبابة بن عبد المنذر: قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون بعده أبدا، وقد قتل علية أصحابه، وقتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فلا.
قال أبو لبابة: يكذب الله تعالى قولك.
وقالت اليهود: ما
جاء إلا فلا.
قال أسامة بن زيد: فجئت حتى خلوت بأبي، فقلت: يا أبه، أحق ما تقول ؟ قال: إي والله حقا ما أقول يا بني، فقويت في نفسي ورجعت إلى ذلك المنافق فقلت: أنت المرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين، لنقدمنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم فليضربن(4/57)
عنقك، فقال: يا أبا محمد إنما هو شئ سمعته من الناس يقولونه.
قال: فجئ بالاسرى وعليهم شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في الفئ روى سعيد بن منصور والامام أحمد وابن المنذر وابن حبان والحاكم والبيهقي في السنن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: " فالتقى الناس فهزم الله تعالى العدو فانطلقت طائفة في آثارهم يأسرون ويقتلون، وأكبت طائفة على الفئ يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم خوفا من أن يصيب العدو غرة، حتى إذا كان الليل وافى الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لاحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم.
وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: لستم بأحق بها منا، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة، فاشتغلنا به.
فنزلت: (يسألونك) يا محمد (عن الانفال): الغنائم، لمن هي ؟ (قل) لهم: (الانفال لله والرسول) يجعلانها حيث شاءا، (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) أي حقيقة ما بينكم بالمودة وترك النزاع (وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) [ الانفال 1 ] حقا (1).
وروى ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن حبان وعبد الرزاق في المصنف، وعبد بن حميد، وابن عائذ، وابن مردويه، وابن عساكر، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا ".
ولفظ ابن عائذ: " من قتل قتيلا فله سلبه.
ومن أسر أسيرا فله سلبه ".
فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات.
وأما
الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقال المشيخة للشبان: أشركونا معكم، فإنا كنا لكم رداء ولو كان منكم شئ للجأتم إلينا.
فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أبو اليسر بأسيرين فقال: يا رسول الله، إنك قد وعدتنا، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله إنك إن أعطيت هؤلاء لم يبق لاصحابك شئ وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الاخرة، ولا جبن عن العدو، ولا ضن بالحياة، أن نصنع ما صنع إخواننا، وكلنا رأيناك قد أفردت فكرهنا أن تكون بمضيعة، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك أن يأتوك من ورائك.
فتشاجروا فنزلت: (يسألون عن الانفال) الاية، فنزعه الله تعالى من أيديهم، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه صلى الله عليه وسلم بين المسلمين، كما سيأتي على بواء أي سواء، فكان ذلك تقوى لله تعالى وطاعته، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإصلاح ذات البين.
__________
(1) أخرجه أبو داود (2738) والطبراني 12 / 129 وعبد الرزاق في المصنف (9483) وأبو نعيم في الحلية 7 / 102.
(*)(4/58)
وروى ابن أبي شيبة، والامام أحمد، وعبد بن حميد، وابن مردويه، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكنيفة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم به فقلت: يا رسول الله قد شفاني الله تعالى اليوم من المشركين فنفلني هذا السيف، فأنا من قد علمت، قال: " إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه "، فوضعته، ثم رجعت فقلت: عسى أن يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي فرجعت به فقال: " اذهب فاطرحه في القبض "، فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي، حتى إذا أردت أن ألقيه لا متني نفسي فرجعت إليه، فقلت: أعطنيه، فشدني صوته فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الانفال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذهب فخذ سيفك " (1).
وروى النحاس في تاريخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلا من الانصار خرجا يتنفلان فوجدا سيفا ملقى فخرا عليه جميعا، فقال سعد: هو لي، وقال الانصاري: هو لي لا
أسلمه، حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه فقصا عليه القصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس لك يا سعد ولا للانصاري ولكنه لي "، فنزلت: (يسأنوك عن الانفال) الاية، ثم نسخت هذه الاية فقال تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (2) [ الانفال 45 ].
وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال: الانفال: المغانم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لاحد منها شئ، ما أصاب من سرايا المسلمين من شئ أتوه به، فمن حبس منه إبرة وسلكا فهو غلول، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم منها شيئا، فأنزل الله تعالى: (يسألونك عن الانفال) قل: الانفال لي، جعلتها لرسلي، وليس لكم منه شئ، فاتقوا الله، وأصلحوا ذات بينكم، إلى قوله: (إن كنتم مؤمنين) ثم أنزل الله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شئ) الاية، ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والمهاجرين وفي سبيل الله، وجعل أربعة أخماس الناس فيه سواء: للفرس سهمان، ولصاحبه سهم، وللراجل سهم.
واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الغنائم عبد الله بن كعب رضي الله عنه (3).
__________
(1) أخرجه أبو داود نحوه (2740) وأحمد في المسند 1 / 178 والحاكم في المستدرك 2 / 132 وذكره السيوطي في الدر 3 / 158.
(2) ذكره السيوطي في الدر 3 / 160 وعزاه للنحاس في ناسخه.
(3) ذكره السيوطي في الدر 3 / 160 وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه.
(*)(4/59)
ذكر اختلاف الصحابة رضي الله عنهم فيما يفعل بالاسرى روى الامام أحمد عن أنس، وابن مردويه عن أبي هريرة، وابن أبي شيبة، والامام أحمد، والترمذي وحسنه، وابن المنذر، والطبراني، وغيرهم، عن ابن مسعود.
وابن مردويه، عن ابن عباس.
وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم، عن ابن عمر: أنه لما كان يوم بدر
جئ بالاسرى وفيهم العباس، أسره رجل من الانصار: وقد وعدته الانصار أن يقتلوه، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الانصار أنهم قاتلوه "، فقال له عمر: أفآتيهم ؟ قال: " نعم "، فأتى عمر الانصار فقال لهم: أرسلوا العباس، فقالوا: لا والله لا نرسله، فقال لهم عمر: فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي، قالوا: فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي فخذه، فأخذه عمر، فلما صار في يده، قال له: يا عباس أسلم، فوالله لئن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك.
فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس.
فقال: ما ترون في هؤلاء الاسرى ؟ إن الله قد أمكنكم منهم، وإنما هم إخوانكم بالامس.
فقال أبو بكر: يا رسول الله أهلك وقومك، قد أعطاك الله الظفر ونصرك عليهم، هؤلاء بنو العم والعشيرة والاخوان استبقهم، وإني أرى أن تأخذ الفداء منهم، فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم بك، فيكونوا لك عضدا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما تقول يا بن الخطاب ؟ ".
قال: يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان - أخيه - حتى يضرب عنقه، حتى ليعلم الله تعالى أنه ليست في قلوبنا مودة للمشركين، هؤلاء صناديد قريش وأئمتهم وقادتهم فاضرب أعناقهم، ما أرى أن يكون لك أسرى، فإنما نحن راعون مؤلفون.
وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله أنظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا.
فقال العباس وهو يسمع ما يقول: قطعت رحمك.
قال أبو أيوب: فقلنا - يعني الانصار - إنما يحمل عمر على ما قال جسد لنا.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت، فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ
بقول عمر، وقال أناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج فقال: " إن الله تعالى ليلين(4/60)
قلوب أقوام فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله تعالى ليشد قلوب أقوام فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة، ومثلك في الانبياء مثل إبراهيم قال: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) [ إبراهيم 36 ] ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى ابن مريم إذ قال: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) [ المائدة 118 ]، ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل ينزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله تعالى، ومثلك في الانبياء مثل نوح إذ قال: (رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا) [ نوح 36 ] ومثلك في الانبياء مثل موسى، إذ قال: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم) [ يونس 88 ] لو اتفقتما ما خالفتكما، أنتم عالة فلا يفلتن منكم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق "، فقال عبد الله بن مسعود: يا رسول الله إلا سهيل ابن بيضاء فإني سمعته يذكر الاسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله: فما رأيتني في يوم أخاف أن تقع علي الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إلا سهيل ابن بيضاء " فلما كان من الغد غدا عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وهما يبكيان، فقال: يارسول الله ما يبكيكما ؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب، لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة " - لشجرة قريبة منه - وأنزل الله تعالى: (ما كان لنبي أن تكون) بالتاء والياء - (له أسرى حتى يثخن في الارض) يبالغ في قتل الكفار (تريدون) أيها المؤمنون (عرض الدنيا) حطامها بأخذ الفداء (والله يريد) لكم (الاخرة) أي ثوابها بقتلهم (والله عزيز حكيم) [ الانفال 67 ] ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (فإما منا بعد وإما فداء) [ محمد 4 ] (لولا كتاب من الله سبق) بإحلال الغنائم والاسارى
لكم (لمسكم فيما أخذتم) من الفداء (عذاب عظيم، فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم) [ الانفال 68، 69 ].
واستعمل صلى الله عليه وسلم على الاسرى شقران غلامه، فأحذوه من كل أسير ما لو كان حرا ما أصابه في المقسم.
وروى ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن سعد، وابن جرير، وابن حبان، والبيهقي، عن علي رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن الله تعالى قد كره ما صنع قومك في أخذهم فداء الاسرى، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم وإما أن يأخذوا منهم الفداء، على أن يقتل منهم عدتهم، فدعا(4/61)
رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فذكر لهم ذلك، فقالوا: يارسول الله عشائرنا وإخواننا تأخذ منهم الفداء، فتتقوى به على قتال عدونا، ويستشهد منا عدتهم فليس في ذلك ما يكره، وأقام صلى الله عليه وسلم بالعرصة ثلاثا.
ذكر رحيل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقسمة الغنائم وقتل جماعة من الاسرى وارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة وهو مؤيد منصور، قرير العين بنصر الله تعالى، ومعه الاسارى من المشركين، فيهم عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، ومعه النفل الذي أصيب، فلما خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية يقال له: سير - إلى سرحة به، فقسم هناك النفل الذي أفاءه الله على المسلمين من المشركين [ على السواء ]، وقيل: بل استعمل عليها خباب بن الارت، وكان فيها مائة وخمسون من الابل ومتاع وأنطاع وثياب وأدم كثير، حمله المشركون للتجارة، فغنمه المسلمون، وكانت الخيل التي غنمها عشرة أفراس، وأصابوا سلاحا كثيرا، وجمل أبي جهل، فصار للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل عنده يضرب في إبله ويغزو عليه، حتى ساقه في هدي الحديبية.
ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقسم
الغنائم على السواء قال سعد بن معاذ: يا رسول الله أتعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثكلتك أمك، وهل تنصرون إلا بضعفائكم ؟ ! " ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم: " من قتل قتيلا فله سلبه ومن أسر أسيرا فهو له ".
وكان يعطي من قتل قتيلا سلبه، وأمر بما وجد في العسكر وما أخذوا بغير قتال فقسمه بينهم.
وكانت السهما على ثلاثمائة وسبعة عشر سهما، والرجال ثلاثمائة وثلاثة عشر، والخيل فرسان لهما أربعة أسهم.
وثمانية نفر لم يحضروا القتال، ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهامهم وأجورهم، ثلاثة من المهاجرين، وهم عثمان بن عفان - خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته رقية فماتت يوم قدوم زيد بن حارثة، وطلحة بن عبيدالله، وسعيد بن زيد، بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحسسان خبر العير، ومن الانصار أبو لبابة بن عبد المنذر، خلفه على المدينة، وعاصم بن عدي خلفه على أهل قباء وأهل العالية، والحارث بن حاطب أمره بأمر في بني عمرو بن عوف، وخوات بن جبير كسر بالروحاء، والحارث بن الصمة كسر بالروحاء أيضا.
وروي أنه ضرب لسعد بن عبادة وسعد بن مالك الساعدي، ورجلين آخرين من الانصار بسهامهم وأجورهم.
وروى الحارث بن أسامة، والحاكم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ممن ضرب له بسهمه وأجره، وضرب لاربعة عشر رجلا قتلوا ببدر، وأحذى مماليك حضروا بدرا ولم يقسم لهم.(4/62)
روى البزار والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرون رجلا من الموالي، وتنفل صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار، وقال لنبيه بن الحجاج وكان من صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخذ سهمه مع المسلمين، وفيه جمل أبي جهل وكان مهريا.
وبالصفراء توفي عبيدة بن الحارث رضي الله عنه من مصاب رجله، فقالت هند بنت أثاثة بن عباد بن عبد المطلب ترثيه: لقد ضمن الصفراء مجدا وسؤددا * وحلما أصيلا وافر اللب والعقل
عبيدة فابكيه لاضياف غربة * وأرملة تهوي لاشعث كالجذل وبكيه للابرام في كل شنوة * إذا احمر آفاق السماء من المحل وبكيه للايتام والريح زفزف * وتشبيب قدر طالما أزبدت تغلي فإن تصبح النيران قد مات ضوؤها * فقد كان يذكيهن بالحطب الجزل لطارق ليل أو لملتمس القرى * ومستنبح أضحى لديه على رسل وبها قتل النضر بن الحارث بن كلدة، قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه صبرا بالسيف بالاثيل.
وقالت قتيلة بنت الحارث - كذا قيل، والصواب أنها بنت النضر لا أخته - ترثيه.
وأسلمت بعد ذلك.
نقله أبو عمر وأبو الفتح في منهج المدح، ولم يستحضر ذلك الحافظ فقال في الاصابة: لم أر التصريح بإسلامها، لكن إن كانت عاشت إلى الفتح فهي من جملة الصحابيات: يا راكبا إن الاثيل مظنة * من صبح خامسة وأنت موفق أبلغ بها ميتا بأن تحية * ما إن تزال بها الركائب تخفق مني إليك وعبرة مسفوحة * جادت بواكفها وأخرى تخنق هي يسمعني النضر إن ناديته * أم كيف يسمع ميت لا ينطق أمحمد يا خير ضنء كريمة * في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما * من الفتى وهو المغيظ المحنق أو كنت قابل فدية فلينفقن * بأعز ما يغلو به ما ينفق فالنضر أقرب من وصلت قرابة * وأحقهم إن كان عتق يعتق ظلت سيوف بني أبيه تنوشه * لله أرحام هنك تشقق صبرا يقاد إلى المنية متعبا * رسف المقيد وهو عان موثق فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى اخضلت لحيته، وقال: " لو بلغني شعرها قبل أن أقتله ما قتلته ".(4/63)
قال أبو عمر: هذا لفظ عبد الله بن إدريس، وفي رواية الزبير بن بكار: فرق لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دمعت عيناه، وقال لابي بكر: " لو سمعت شعرها لم أقتل أباها ".
قال الزبير بن بكار: سمعت بعض أهل العلم يغمز هذه الابيات ويقول إنها مصنوعة، وذكر الجاحظ في آخر كتاب البيان أن اسمها ليلى، وأنها جذبت رداء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف، وأنشدته الابيات المذكورة.
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عرق الظبية أمر بقتل عقبة بن أبي معيط، فقال: يا محمد من للصبية.
قال: " النار ".
فقال: أأقتل من بين قريش صبرا ؟ ! فقال عمر: حن قدح ليس منها، فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الاقلح الانصاري في قول ابن إسحاق، وقال ابن هشام: قتله علي بن أبي طالب.
فالله أعلم.
والذي أسره عبد الله بن سلمة - بكسر اللام - وصدق الله تعالى ورسوله في قوله لعقبة: إن وجدتك خارج مكة ضربت عنقك صبرا.
وروى الطبراني عن ابن عباس قال: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلاثة صبرا: قتل النضر بن الحارث، وطعيمة بن عدي، وعقبة بن أبي معيط.
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله تعالى عليه ومن معه من المسلمين، فقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش: ما الذي تهنئوننا به ؟ فوالله إن لقينا به إلا عجائز صلعا كالبدن المعقلة فنحرناها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: " أي ابن أخي ؟ أولئك الملا، لو رأيتهم لهبتهم، ولو أمروك لاطعتهم، ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرته، وبئس القوم كانوا لنبيهم ".
قال ابن هشام: الملا: الاشراف والرؤساء.
قال محمد بن عمر الاسلمي: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المدينة قبل الاسارى بيوم مؤيدا منصورا قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد الله بن أبي بن سلول في الاسلام ظاهرا، وقالت اليهود: تيقنا أنه
النبي الذي نجد نعته في التوراة.
ودخل صلى الله عليه وسلم من ثنية الوداع.
قال في الامتاع: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة رجوعه من بدر يوم الاربعاء الثاني والعشرين من رمضان، وتلقاه الولائد بالدفوف وهن يقلن: طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع ويرحم الله الامام العلامة ابن جابر حيث قال: بدا يوم بدر وهو كالبدر حوله * كواكب في أفق المواكب تنجلي(4/64)
وجبريل في جند الملائك دونه * فلم تغن أعداد العدو المخذل رمى بالحصى في أوجه القوم رمية * فشردهم مثل النعام المجفل وجاد لهم بالمشرفي فسلموا * فجاد له بالنفس كل مجندل عبيدة سل عنهم وحمزة واستمع * حديثهم في ذلك اليوم من علي هم غيبوا بالسيف عتبة إذ غدا * فذاق الوليد الموت ليس له ولي وشيبة لما شاب خوفا تبادرت * إليه العوالي بالخضاب المعجل وجار أبو جهل فحقق جهله * غداة تردى بالردى عن تذلل فأضحى قليبا في القليب وقومه * يؤمونه فيها إلى شر منهل وجاءهم خير الانام موبخا * ففتح من أسماعهم كل مقفل وأخبر ما أنتم بأسمع منهم * ولكنهم لا يهتدون لمقول سلا عنهم يوم السلا إذ تضاحكوا * فعاد بكاء عاجلا لعم يؤجل ألم يعلموا علم اليقين بصدقه * ولكنهم لا يرجعون لمعقل فيا خير خلق الله جاهك ملجئي * وحبك ذخري في الحساب وموئلي عليك صلاة يشمل الال عرفها * وأصحابك الاخيار أهل التفضل
ذكر وصول الاسارى إلى المدينة قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة قال: قدم بالاسارى حين قدم بهم، وسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، قال: تقول سودة: والله إني لعندهم إذ أتينا، فقيل: هؤلاء الاسارى قد أتي بهم، قالت: فرجعت إلى بيتي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، قالت: فلا والله ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت: أي أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم، ألا متم كراما، فوالله ما نبهني إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت: يا سودة أعلى الله ورسوله تحرضين ؟ وقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت: فاستغفر لي يا رسول الله، فقال: " يغفر الله لك " (1).
وقال أسامة بن زيد رضي الله عنهما فيما ذكره البلاذري: لما رأي سهيلا فقال: يا رسول الله، هذا الذي كان يطعم الناس السريد ؟ يعني الثريد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا أبو
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن 9 / 89 والحاكم في المستدرك 3 / 22 وانظر البداية والنهاية 3 / 307.
(*)(4/65)
يزيد الذي كان يطعم الطعام، ولكنه سعى في إطفاء نور الله فأمكن الله منه ".
ولما دخل بالاسارى إلى المدينة فرقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وقال: استوصوا بالاسارى خيرا، وكان أبو عزيز بن عمير بن هشام أخو مصعب بن عمير لابيه وأمه في الاسارى، قال أبو عزيز: مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الانصار يأسرني فقال: شد يديك به فإن أمة ذات متاع لعلها تفديه منك، فقلت: يا أخي هذه وصاتك بي ؟ فقال له مصعب: إنه أخي دونك، فسألت أمه عن أعلى ما فدي به أسير، فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثت بأربع آلاف درهم ففدته بها، قال: وكنت في رهط من الانصار حين أقبلوا بي من بدر،
فكانوا إذا قدموا غذاءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، قال: فأستحيي فأردها على أحدهم فيردها علي ما يمسها.
ذكر وصول خبر مصاب أهل بدر إلى أهليهم ومهلك أبي لهب روى قاسم بن ثابت في دلائله، عن سليمان بن عبد العزيز بن أبي ثابت، عن أبيه قال: كانت خوالف قريش تخرج إلى الابطح وذي طوى، حين خرجت قريش تمنع عيرها، يتحسسون الاخبار، فسمعوا هاتفا بأعلى مكة في اليوم الذي أوقع بهم المسلمون، وهو ينشد بأنفذ صوته ولا يرى شخصه: أزار الحنيفيون بدرا وقيعة * شينقض منها ركن كسرى وقيصرا أبادت رجالا من لؤي وأبرزت * خرائد يضربن الترائب حسرا فيا ويح من أمسى عدو محمد * لقد جار عن قصد الهدى وتحيرا وقال قائلهم: من الحنيفيون ؟ فقالوا: هو محمد وأصحابه يزعمون أنهم على دين إبراهيم الحنيف، فحسبوا فوجدوا الليلة التي أوقع فيها المسلمون أهل بدر في صبيحتها.
وكان أول من قدم [ مكة ].
بمصابهم الحيسمان - وهو بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية وضم المهملة - ابن إياس الخزاعي - وأسلم بعد ذلك - فقالوا: ما وراءك ؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الاسود، ونبيه منبه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، فلما جعل يعدد أشراف قريش، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا، لقد طار قلبه، فسلوه عني، فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية ؟ قال: ها هو ذاك قاعدا في الحجر وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
وروى ابن إسحاق عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الاسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل، وكان(4/66)
العباس يهاب قومه ويكره خلافهم، فكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كتبه الله تعالى وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزة، وكنت أعمل الاقداح في حجرة زمزم، فوالله إني جالس فيها أنحت أقداحي وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال أبو لهب: هلم إلي يا بن أخي فعندك لعمري الخبر، فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس، فقال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والارض، والله ما تليق شيئا، ولا يقوم لها شئ.
قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة، قال: فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة، قال: وثاورته فاحتملني وضرب بي الارض، ثم برك علي يضربني، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة فلعت في رأسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام موليا ذليلا.
فوالله ما عاش إلى سبع ليال حتى رماه الله تعالى بالعدسة فقتلته.
قال ابن جرير: والعدسة: قرحة كانت العرب تتشاءم بها، ويرون أنها تعدي أشد العدوى، فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه، وبقي بعد موته ثلاثا لا تقرب جثته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة في تركهم له دفعوه بعصي في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه.
وقال ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير: إنهم لم يحفروا له، ولكن أسندوه إلى حائط، وقذفوا عليه بالحجارة من خلف الحائط حتى واروه.
وروي أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا مرت بموضعه غطت وجهها.
ذكر نوح أهل مكة على قتلاهم ثم منعهم من ذلك روى ابن إسحاق، عن عباد بن عبد الله الزبير قال: ناحت قريش على قتلاها بمكة - زاد ابن عقبة وصاحب الامتاع: شهرا - وجز النساء شعورهن، وكان يؤتى براحلة الرجل منهم أو بفرسه وتوقف بين أظهر النساء، ويسترنها بالستور حولها [ وينحن حولها ] ويخرجن إلى الازقة.
انتهى.
ثم قالوا: لا تفعلوا ذلك فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم، لا يأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء، فكان الاسود بن المطلب قد(4/67)
أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الاسود، وعقيل بن الاسود، والحارث بن زمعة، وكان يحب أن يبكي على بنيه، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقام لغلام له، وقد ذهب بصره: انظر هل أحد انتحب ؟ هل بكت قريش على قتلاها ؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة - بضم الحاء المهملة وفتح الكاف - يعني زمعة فإن جوفي قد احترق، فلما رجع إليه الغلام قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته.
قال عباد: فذاك حين يقول الاسود: تبكي أن يضل لها بعير * ويمنعها من النوم السهود فلا تبكي على بكر ولكن * على بدر تقاصرت الجدود على بدر شراة بني هصيص * ومخزوم ورهط أبي الوليد وبكي إن بكيت على عقيل * وبكي حارثا أسد الاسود وبكيهم ولا تسمي جميعا * وما لابي حكيمة من نديد ألا قد ساد بعدهم رجال * ولولا يوم بدر لم يسودوا قال الزبير بن بكار: يريد أبا سفيان بن حرب، كان رأس قريش في سيرهم إلى أحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على الاسود هذا بأن يعمي الله تعالى بصره، ويثكل ولده، فاستجاب الله تعالى سبق العمى إلى البصر أولا، ثم أصيب يوم بدر بمن نفاه من ولده، فتمت
إجابة الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فيه.
ذكر فرح النجاشي بوقعة بدر روى البيهقي عن عبد الرحمن بن يزيد عن جابر، عن عبد الرحمن - رجل من أهل صنعاء - قال: أرسل النجاشي ذات يوم إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه فدخلوا عليه، وهو في بيت عليه خلقان، جالس على التراب.
قال جعفر بن أبي طالب: أشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحالة، فلما أن رأى ما في وجوهنا.
قال: إني أبشركم بما يسركم، إنه قد جاءني من نحو أرضكم عين لي، فأخبرني أن الله تعالى قد نصر نبيه صلى الله عليه وسلم وأهلك عدوه فلان وفلان التقوا بواد يقال له: بدر، كثير الاراك، كأني أنظر إليه، كنت أرعى به لسيدي - رجل من بني ضمرة - إبله، فقال له جعفر: ما بالك جالس على التراب ليس تحتك بساط، وعليك هذه الاخلاق ؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله تعالى على عيسى صلى الله عليه وسلم أن حقا على عباد الله تعالى أن يحدثوالله عزوجل تواضعا، عندما يحدث لهم نعمة، فلما أحدث الله تعالى نصر نبيه صلى الله عليه وسلم أحدثت له هذا التواضع.
ذكر إرسال قريش في فداء الاسارى روى ابن سعد عن الشعبي قال:(4/68)
كان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن له فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة، يعلمهم فإذا حذقوا فهم فداؤه، وكان زيد بن ثابت ممن علم.
وروى أبو داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة، وادعى العباس أنه لا مال عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل، وقلت لها: إن أصبت في سفري هذا لبني: الفضل، وعبد الله، وقثم ؟ " فقال: والله إني لاعلم أنك رسول الله، إن هذا الشي ما علمه إلا أنا وأم الفضل.
وروى البيهقي، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، قال: كان فداء العباس، وعقيل
ابن أخيه، ونوفل، كل رجل أربعمائة دينار.
قال ابن إسحاق: وكان أكثر الاسارى فداء يوم بدر فداء العباس، فدى نفسه بمائة أوقية من ذهب.
روى ابن سعد من طريق إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن أبيه قال: لماأسر نوفل يوم بدر قال له النبي صلى الله عليه وآله: " افد نفسك برماحك التي بجدة "، فقال: والله ما علم أحد أن لي بجدة بعد الله غيري، أشهد أنك رسول الله، ففدى نفسه بها، وكانت ألف رمح (1).
روى البخاري والبيهقي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجالا من الانصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وآله، فقالوا: يا رسول الله: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه، قال: " لا والله لا تذرون منه درهما "، قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله فداء الرجل أربعة آلاف إلى ألفين إلى ألف ومنهم من من عليه لانه لا مال له (2).
قال ابن إسحاق: وكان في الاسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاءكم في طلب فداء أبيه "، فلما قالت قريش: لا تعجلوا بفداء أسراكم، لايأرب عليكم محمد وأصحابه.
قال المطلب بن أبي وداعة - وأسلم يوم الفتح -: نعم، صدقتم لا تعجلوا، وانسل من الليل فقدم المدينة، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم فانطلق به فكان أول أسير فدي، ثم بعثت قريش في فداء أسراها، فقدم جبير بن مطعم - وأسلم بعد ذلك - في فداء الاسرى، وقدم مكرز - بكسر الميم ويجوز الفتح أيضا وبسكون الكاف وفتح الراء - ابن حفص في فداء سهيل بن عمرو، وكان
__________
(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات 4 / 1 / 31.
(2) أخرجه البخاري 7 / 373 (4018).
(*)(4/69)
الذي أسره مالك بن الدخشم أحد [ بني نبهان ] بن عوف فقال: مالك:
أسرت سهيلا فلم أبتغ * به غيره من جميع الامم وخندف تعلم أن الفتى * سهيلا فتاها إذا يظلم ضربت بذي الشفر حتى انثنى * وأكرهت نفسي على ذي العلم وكان سهيل أعلم من شفته السفلى، فلما قاولهم فيه مكرز وانتهى إلى رضاهم قالوا: هات الذي لنا، قال: اجعلوا رجلي مكان رجله وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائكم، فخلوا سبيل سهيل، وحبسوا مكرزا، وكان سهيل قد قام في قريش خطيبا عندما استنفرهم أبو سفيان للعير كما تقدم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني أنزع ثنيتى سهيل بن عمرو يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا، وإنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه ".
وكان عمرو بن أبي سفيان بن حرب أسيرا في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسرى بدر، أسره علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقيل لابي سفيان: افد عمرا ابنك، قال: أيجمع علي دمي ومالي، قتلوا حنظلة وأفدي عمرا، دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم.
فبينا هو كذلك محبوس بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال أخو بني عمرو بن عوف، ثم أحد بني معاوية معتمرا ومعه مرية له، وكان شيخا مسلما في غنم له بالنقيع، فخرج من هناك معتمرا ولا يخشى الذي صنع به، لم يظن أنه يحبس بمكة، إنما جاء معتمرا، وقد كان عهد أن قريشا لا يعرضون لاحد جاء حاجا أو معتمرا إلا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة، فحبسه بابنه عمرو، ثم قال أبو سفيان: أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه * تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا فإن بني عمرو لئام أذلة * لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا فأجابه حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: لو كان سعد يوم مكة مطلقا * لاكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلا بعضب حسام أو بصفراء نبعة * تحن إذا ما أنبضت تحفز النبلا
ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروا خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان، فيفكوا به صاحبهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد.
وكان في الاسارى أبو العاص بن الربيع ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته زينب، أسره(4/70)
خراش بن الصمة، فلما بعثت قريش فداء الاسرى بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص وأخيه عمرو بن الربيع بمال، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، وقال: " إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا "، فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردوا عليها الذي لها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يخلي سبيل زينب إليه، وكان فيما شرط عليه في إطلاقه، ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلم ما هو، إلا أنه لما خرج بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الانصار، مكانه، فقال: " كونا ببطن يأجح حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتياني بها "، فخرجا مكانهما، وذلك بعد بدر بشهر أو شيعه، فلما قدم أبو العاس مكة أمرها باللحوق بأبيها، فخرجت تجهز، فكان ما سيأتي في الحوادث.
وقال جماعة من الاسارى لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العباس: إنا كنا مسلمين، وإنما خرجنا كرها فعلام يؤخذ منا الفداء ؟ فأنزل الله تعالى فيما قالوا: (يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسارى) وفي قراءة: (الاسرى) (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا)، إيمانا وإخلاصا (يؤتكم خيرا مما أخذ منكم) ومن الفداء بأن يضعفه لكم في الدنيا ويثيبكم في الاخرة (ويغفر لكم) ذنوبكم (والله غفور رحيم وإن يريدوا) أي الاسارى (خيانتك) بما أظهروا من القول (فقد خانوا الله من قبل) قبل بدر بالكفر (فأمكن منهم) ببدر قتلا وأسرا فليوقعوا مثل ذلك إن عادوا (والله عليم) بخلقه (حكيم) [ الانفال 70، 71 ] في صنعه.
وروى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، وأبو نعيم في الدلائل،
وإسحاق بن راهويه في سنده، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني، وأبو الشيخ عن طرق، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وابن إسحاق، وأبو نعيم، عن جابر بن عبد الله بن رئاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر يوم بدر سبعين من قريش، منهم العباس وعقيل، فجعل عليهم الفداء أربعين أوقية من ذهب.
قال سعيد بن جبير: وجعل على العباس مائة أوقية، وقالوا أربعين، وعلى عقيل ثمانين أوقية، فقال العباس: لقد تركتني فقير قريش ما بقيت، فأنزل الله تعالى: (يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى) [ الانفال: 70 ] الاية.
قال العباس حين أنزلت: لوددت أنك كنت أخذت مني أضعافها فأتاني الله خيرا منها أربعين عبدا، كل في يده ماله يضربه به، وإني أرجو من الله المغفرة.
وروى البخاري وابن سعد عن أنس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمال من البحرين فقال: " انثروه في المسجد "، فكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله(4/71)
أعطني، إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا، فقال: " خذ ".
فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: مر بعضهم يرفعه إلي، قال: " لا:، قال: فارفعه أنت علي، قال: " لا "، فنثر منه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: مر بعضهم يرفعه إلي.
قال: " لا "، قال: فارفعه أنت علي، قال: " لا "، فنثر منه، ثم احتمله على كاهله، ثم انطلق وهو يقول: إنما آخذ ما وعد الله، فقد أنجز، فما زال يتبعه بصره حتى خفي علينا، عجبا من حرصه، فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم (1).
ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من الاسارى يوم بدر من قريش بغير فداء.
منهم: أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي، وكان محتاجا ذا عيال، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لقد عرفت مالي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال فامنن علي، فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ عليه ألا يظاهر عليه أحدا، فقال أبو عزة في ذلك يمدح
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر فضله في قومه: من مبلغ عني الرسول محمدا * بأنك حق والمليك حميد وأنت امرؤ تدعو إلى الحق والهدى * عليك من الله العظيم شهيد وأنت امرؤ بوئت فينا مباءة * لها درجات سهلة وصعود فإنك من قاربته لمحارب * شقي ومن سالمته لسعيد ولكن إذا ذكرت بدرا وأهله * تأوب ما بي حسرة وقعود وذكر ابن عقبة أن المسلمين جهدوا على أبي عزة هذا أن يسلم عندما أسر ببدر، فقال: لا حتى أضرب في الخزرجية يوما إلى الليل.
قال أبو الربيع: وما وقع في شعره ومحاورته رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أعلم له مخرجا إن صح، إلا أن يكون ذلك من جملة ما قصد به أبو عزة أن يخدع به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاد على عدو الله ما قصد، ولم يخدع إلا نفسه وما شعر، وسيأتي بيان ذلك في غزوة حمراء الاسد، بعد أحد.
ومنهم: وهب بن عمير بن وهب الجمحي، قدم أبوه عمير في فدائه، وحاول الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، لاتفاقه مع صفوان بن أمية على ذلك فأظهر الله تعالى رسوله عليه فأعلمه به، فكان ذلك سببه إسلامه، كما سيأتي ذلك في المعجزات، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) أخرجه البخاري (421 - 3165).
(*)(4/72)
ذكر إرسال قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشي ليدفع إليهما من عنده من المسلمين قال أبو عمر، وتبعه أبو الخطاب بن دحية: لما أوقع الله تعالى بالمشركين يوم بدر فاستأصل وجوههم، قالوا: إن ثأرنا بأرض الحبشة فلنرسل إلى ملكها يدفع إلينا من عنده من أتباع محمد، فنقتلهم بمن قتل هنا ببدر، فأرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة،
وأرسلوا معهما هدايا وتحفا للنجاشي، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مخرجهما بعث عمرو بن أمية الضمري - ولم يكن أسلم بعد فيما قيل - إلى النجاشي يوصيه بالمسلمين، ولما وصل عمرو وعبد الله إلى النجاشي ردهما خائبين.
وروى أبو داود عن ابن شهاب قال: بلغني أن مخرج عمرو بن العاص وابن أبي ربيعة إلى أرض الحبشة فيمن كان بأرضهم من المسلمين كان بعد وقعة بدر، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مخرجهما بعث عمرو بن أمية من المدينة إلى النجاشي بكتاب.
ذكر عدد المسلمين والمشركين الذين شهدوا بدرا روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث: أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر - ولم يجاوزه معه إلا مؤمن - بضعة عشر وثلاثمائة (1).
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي، والطبراني، عن أبي أيوب الانصاري - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم وهم بالمدينة: " هل لكم أن نخرج فنلقى هذه العير لعل الله تعالى يغنمناها ؟ " قلنا: نعم، فخرجنا، فلما سرنا يوما أو يومين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتعاد، فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر، فأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدتنا فسر بذلك، وحمد الله تعالى وقال: " عدة أصحاب طالوت " (2).
روى ابن أبي شيبة والامام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وأبو عوانة، وابن حبان، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، ولفظ مسلم: تسعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة...الحديث.
وروى البزار بسند حسن، عن أبي موسى الاشعري، رضي الله عنه، قال: كانت عدة أهل بدر عدة أصحاب طالوت يوم جالوت ثلاثمائة وسبعة عشر، كذا في النسخة التي وقفت
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (3958).
(2) أخرجه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 7 / 48.(4/73)
عليها من مجمع الزوائد للهيثمي: سبعة عشر، وأورده في الفتح بلفظ " ثلاثة عشر " فيحرر.
وروى البخاري، وإسحاق بن راهويه، عن البراء، رضي الله عنه، قال: استصغرت أنا وابن عمر يوم بدر فكان المهاجرون يوم بدر نيفا على الستين، والانصار نيفا وأربعين ومائتين.
ووقع عند الحاكم من طريق عبد الملك بن إبراهيم الجدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء أن المهاجرين كانوا نيفا وثمانين، قال الحافظ: وهذا خطأ في هذه الرواية، لاطباق أصحاب شعبة على ما وقع في البخاري.
ووقع عند يعقوب بن سفيان من مرسل عبيدة السلماني أن الانصار كانوا مائتين وسبعين، وليس ذلك بثابت.
وروى سعيد بن منصور من مرسل أبي اليمان عامر الهوزني، والطبراني، والبيهقي من وجه آخر عنه، عن أبي أيوب الانصاري رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فقال لاصحابه: " تعادوا فوجدهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا " ثم قال لهم: " تعادوا " فتعادوا مرتين، فأقبل رجل على بكر له ضعيف وهم يتعادون، فتمت العدة ثلاثمائة وخمسة عشر (1).
وروى أبو داود، والبيهقي، بإسناد حسن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ومعه ثلاثمائة وخمسة عشر، وهذه الرواية لا تنافي رواية ثلاثة عشر، لاحتمال أن تكون الاولى لم يعد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الرجل الذي أتى آخرا.
وأما الرواية التي فيها: " تسعة عشر " فتحمل على أنه ضم إليه من استصغر ولم يؤذن له في القتال يومئذ، كالبراء وابن عمر وكذلك أنس، فقد روى الامام أحمد بسند صحيح عنه أنه سئل: هل شهدت بدرا ؟ فقال: وأين أغيب عن بدر ؟ ! وكأنه كان حينئذ في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه أنه خدمه عشر سنين، وذلك يقتضي أنه ابتدأ خدمته له حين قدم المدينة، فكأنه خرج معه إلى بدر، أو خرج مع عمه زوج أمه أبي طلحة.
وفي الصحيح عن موسى بن عقبة عن الزهري قال: فجميع من شهد بدرا من قريش ممن ضرب له بسهمه أحد وثمانون.
قال الحافظ: والجمع بين هذا وبين قول البراء أن حديث البراء ورد فيمن شهدها حسا.
وقول الزهري فيمن شهدها بالعدد حسا وحكما ممن ضرب له بسهم وأجره، أو المراد بالعدد الأول الاحرار، وبالثاني بانضمام مواليهم وأتباعهم.
قال الحافظ: وإذا تحرر هذا الجمع فيعلم أن الجميع لم يشهدوا القتال، وإنما شهده منهم ثلاثمائة وخمسة أو ستة.
روى ابن جرير، عن ابن عباس قال: إن أهل بدر كانوا ثلاثمائة وستة رجال، وقد بين ذلك ابن سعد فقال: إنهم كانوا ثلاثمائة وخمسة، فكأنه لم يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين وجه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (3955).
(*)(4/74)
الجمع بأنه ثمانية أنفس عدوا في أهل بدر ولم يشهدوها، وإنما ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم بسهامهم ; لكونهم تخلفوا لضرورات لهم، وتقدم بيانهم، وحكى السهيلي أنه حضر مع المسلمين سبعون نفسا من الجن.
وكان المشركون ألفا، وقيل: تسعمائة وخمسين، وقيل: وكان معهم سبعمائة بعير ومائة فرس.
ذكر من استشهد من المسلمين ببدر استشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين يوم بدر: عبيدة بن الحارث وعمير بن أبي وقاص وكانت سنه ستة عشر أو سبعة عشر عاما، وعمير بن الحمام من بني سلمة، وسعد بن خيثمة من بني عمرو بن عوف من الاوس، وذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي حليف بني زهرة، ومبشر بن عبد المنذر من بني عمرو بن عوف، وعاقل بن البكير الليثي، ومهجع مولى عمر حليف بني عدي، وصفوان ابن بيضاء الفهري، ويزيد بن الحارث من بني الحارث بن الخزرج، ورافع بن المعلى، وحارثة بن سراقة وهو ابن عمة أنس بن مالك خرج نظارا، وهو غلام، فأصابه سهم فقتله، وعوف معوذ ابنا عفراء سنهما أربع عشرة سنة من
المهاجرين، وثمانية من الانصار ستة من الخزرج واثنان من الاوس.
روى الطبراني بسند رجاله ثقات، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن الثمانية عشر الذين قتلوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر جعل الله أرواحهم في الجنة في جوف طير خضر تسرح في الجنة، فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربهم اطلاعة فقال: يا عبادي، ماذا تشتهون ؟ فقالوا: يا ربنا هل فوق هذا من شئ ؟ قال: فيقول: يا عبادي، ماذا تشتهون ؟ فيقولون في الرابعة: ترد أرواحنا في أجسادنا فنقتل كما قتلنا.
ذكر عدة من قتل من المشركين يوم بدر ومن أسر منهم ذكر ابن إسحاق أن جميع من أحصي له من قتلى قريش من المشركين يوم بدر خمسون رجلا.
قال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة عن أبي عمرو أن قتلى بدر من المشركين كانوا سبعين رجلا والاسرى كذلك، وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب، وفي كتاب الله تعالى: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها) [ آل عمران 165 ] يقوله لاصحاب أحد، وكان ممن استشهد منهم يوم أحد سبعين قتيلا، وسبعين أسيرا.
وأنشدني أبو زيد الانصاري لكعب بن مالك في قصيدة له يعني قتلى بدر: فأقام بالعطن المطعن منهم * سبعون، عتبة منهم والاسود(4/75)
وقال في البداية: المشهور أن الاسارى يوم بدر كانوا سبعين، والقتلى من المشركين كذلك، كما ورد في غير ما حديث.
وروى البخاري والبيهقي عن البراء قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير - بالجيم تصغير جبر - وكانوا خمسين رجلا، فأصابوا منا سبعين رجلا يعني يوم أحد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة: سبعين أسيرا وسبعين قتيلا.
قال الحافظ: هذا هو الحق في عدد القتلى وقد وافق البراء على ذلك ابن عباس وآخرون، وأخرج ذلك مسلم من حديث ابن عباس.
وقال الله سبحانه وتعالى: (أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها) فاتفق أهل العلم بالسير على أن المخاطبين بذلك أهل أحد وأن المراد بإصابتهم مثليها يوم بدر، وعلى أن عدة من استشهد من المسلمين بأحد سبعون نفسا، وأطبق أهل السير على أن من قتل من الكفار ببدر خمسون، يزيدون قليلا أو ينقصون.
فسرد ابن إسحاق أسماءهم فبلغوا خمسين، وزاد الواقدي ثلاثة أو أربعة، وأطلق كثير من أهل المغازي أنهم بضعة وأربعون، لكن لا يلزم من معرفة أسماء من قتل منهم على التعيين أن يكونوا جميع من قتل.
انتهى.
وروى البيهقي عن الزهري قال: قتل من المشركين يوم بدر زيادة على السبعين، وأسر منهم قتل ذلك، ورواه ابن وهب عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال البيهقي: وهو أصح ما رويناه في عدد من قتل من المشركين ومن أسر منهم، وحديث البراء شاهد له، قلت: وبالغ الواقدي فحكى الاجماع على ما في حديث البراء.
قال أبو عمر: ومن مشاهير القتلى: حنظلة بن أبي سفيان بن حرب، قتله زيد بن حارثة، وعبيدة بن سعيد بن العاص، قتله الزبير بن العوام، وأخوه العاص بن سعيد قتله علي وقيل غيره، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، قتلهم حمزة، وعبيدة وعلي كما تقدم، وعقبة بن أبي معيط، قتله عاصم بن ثابت صبرا [ بالسيف ] وقيل: بل علي بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك، والحارث بن عامر بن نوفل، قتله علي، وطعيمة بن عدي، قتله حمزة، وقيل: بل قتل صبرا، والأول أشهر، وزمعة بن الاسود بن المطلب بن أسد، وابنه الحارث بن زمعة، وأخوه عقيل بن الاسود، وأبو البختري وهو العاص بن هشام، وتقدم الخلاف في قاتله من هو، ونوفل بن خويلد بن أسد، قتله علي، وقيل الزبير، والنضر بن الحارث قتل صبرا بالصغراء، وعمير بن عثمان عم طلحة، قتله علي بن أبي طالب، ومسعود بن أبي أمية المخزومي أخو أم المؤمنين أم سلمة قتله علي بن أبي طالب، وأبو قيس بن الوليد أخو خالد بن الوليد، قتله علي عليه السلام، وأبو
قيس بن الفاكه بن المغيرة، قتله حمزة بن عبد المطلب، والسائب بن أبي السائب(4/76)
المخزومي، قتله الزبير بن العوام.
جزم ابن إسحاق وغيره بأنه قتل ببدر كافرا، وعلى ذلك جرى الزبير بن بكار، وخالفهم ابن هشام وغيره وعدوه من جملة الصحابة، وقال أبو عمر: إنه من المؤلفة قلوبهم، وممن حسن إسلامه منهم، فالله أعلم.
قال الحافظ: فيحتمل أن يكون السائب بن صيفي شريك النبي صلى الله عليه وسلم عند الزبير بن بكار غير السائب بن أبي السائب.
وروى الامام أحمد عن السائب بن صيفي قال: جئ بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، جاء بي عثمان بن عفان وزهير فجعلوا يثنون علي، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تعلموني به فقد كان صاحبي في الجاهلية "، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم الصاحب كنت "، وذكر الحديث في هذا دليل على أنه عاش إلى زمن الفتح وعاش بعد ذلك إلى زمن معاوية، قال ابن الاثير: وكان من المعمرين (1).
قال ابن إسحاق: وكانت الفتية الذين قتلوا ببدر فنزل فيهم القرآن كما ذكر لنا (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا: فيم كنتم ؟ قالوا: كنا مستضعفين في الارض، قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا) [ النساء 97 ] فتية مسمين، وهم الحارث بن زمعة، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن الوليد، وعلي بن أمية، والعاص بن منبه، وذلك أنهم كانوا أسلموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة وفتنوهم فافتتنوا، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا به جميعا.
وكان ممن أسر يومئذ من بني هاشم العباس بن عبد المطلب.
روى أبو نعيم، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قلت لابي: يا أبت، كيف أسرك أبو اليسر ولو شئت لجعلته في كفك ؟ فقال: يا بني لا تقل ذلك، لقيني وهو في عيني أعظم من الخندمة وهي - بفتح الخاء
المعجمة وسكون النون فدال مهملة مفتوحة فميم - اسم جبل بمكة، وعقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب.
ومن بني المطلب بن عبد مناف: السائب بن عبيد (2)، والنعمان بن عمرو.
ومن بني نوفل: عدي بن الخيار (3).
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 3 / 425 وذكره الهيثمي في المجمع 8 / 193 وقال: رواه أبو داود باختصار وأحمد ورجاله رجال الصحيح.
(2) (السائب) بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبي جد الامام الشافعي [ انظر الاصابة 3 / 60 ].
(3) (عدي) بن الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف النوفلي والد عبيدالله وإخوته [ الاصابة 4 / 230 ].
(*)(4/77)
ومن بني عبد الدار: أبو عزيز بن عمير.
ومن بني تيم بن مرة: مالك بن عبيدالله أخو طلحة بن عبيدالله.
ومن بني مخزوم، ومن حلفائهم: أربعة وعشرون.
ومن بني عبد شمس وحلفائهم اثنا عشر رجلا، منهم: عمرو بن أبي سفيان بن حرب، والحارث بن أبي وجزة، وأبو العاص بن الربيع ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن سائر قريش: السائب بن أبي السائب (1)، وتقدم ما في ذلك.
والحارث بن عامر، وخالد بن هشام: أخو أبي جهل بن هشام، وصيفي بن أبي رفاعة، وأخوه المنذر بن أبي رفاعة، والمطلب بن حنطب، وخالد بن الاعلم، وهو القائل: ولسنا على الاعقاب تدمى كلومنا * ولكن على أقدامنا يقطر الدم فما صدق في ذلك، بل هو أول من فر يوم فأدرك وأسر.
وعثمان بن عبد شمس بن جابر المازني حليف لهم، وأمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، وأبو قيس بن الوليد أخو خالد بن الوليد، كذا ذكره في العيون تبعا لابي عمر مع ذكرهما له فيمن قتل من مشركي أهل بدر وأحد
المكانين غلط، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأبو عطاء عبد الله بن السائب بن عائذ المخزومي، وأبو وداعة بن ضبيرة السهمي، وهو أول أسير فدي منهم.
وعبد الله بن أبي بن خلف الجمحي، وأخوه عمرو، وأبو عزة الجمحي، وسهيل بن عمرو العامري، وعبد الله بن زمعة بن قيس العامري، وعبد الله بن حميد بن زهير الاسدي، هذا ما ذكره أبو عمر بن المشاهر من القتلى والاسرى.
ذكر من اسلم من أسرى بدر بعد ذلك العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وأبو العاص بن الربيع، وأبو عزيز - بفتح العين المهملة وكسر الزاي وفي آخر زاي أخرى بينهما مثناة تحتية ساكنة - واسمه زرارة بن عمير العبدري، والسائب بن أبي حبيش - بحاء مهملة مضمومة فموحدة مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فشين معجمة - وخالد بن هشام المخزومي، وعبد الله بن أبي السائب، والمطلب بن حنطب، وأبو وداعة السهمي، وعبد الله بن أبي بن خلف الجمحي، ووهب بن عمير الجمحي، وسهيل بن عمرو العامري، وعبد الله بن زمعة أخو سودة، وقيس بن السائب.
ونسطاس - بالنون - مولى أمية بن خلف.
__________
(1) (السائب) بن أبي السائب واسمه صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم والد عبد الله بن السائب.
[ الاصابة 3 / 60 ].
(*)(4/78)
هذا ما ذكره أبو الفتح وفاته جماعة، منهم: السائب بن عبيد، أسلم يوم بدر بعد أن فدى نفسه كما نقله الائمة، عن القاضي أبي الطيب الطبري، وعدي بن الخيار ; وهو من مسلمة الفتح، والوليد بن المغيرة، افتكه أخواه هشام وخالد، فما افتدي أسلم، وعاتبوه في ذلك فقال: كرهت أن يظن بي أني جزعت من الاسر.
ولما أسلم حبسه أخواله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت، ثم أفلت ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية.
تنبيهات
الأول: بدر: قرية مشهورة على نحو أربع مراحل من المدينة الشريفة، قيل: نسبت إلى بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة، وقيل: إلى بدر بن الحارث، وقيل: إلى بدر بن كلدة.
وقيل: بدر: اسم البئر التي بها سميت بذلك لاستدارتها أو لصفائها فكان البدر يرى فيها، وأنكر ذلك غير واحد من شيوخ بني غفار وقالوا: هي ماؤنا، ومنازلنا وما ملكها أحد قط يقال له بدر، وإنما هو علم عليها كغيرها من البلاد.
قال الامام البغوي: وهذا قول الاكثر.
الثاني: كانت الوقعة في شهر رمضان لسبع عشرع خلت منه، وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من شأن بدر، والاسارى في شوال.
الثالث: ذكر في القصة أنه صلى الله عليه وسلم مر بجبلين فسأل عن اسمهما فقيل له: أحدهما يقال له: مسلح - بضم أوله وسكون ثانيه وكسر اللام بعدها حاء مهملة - والاخر مخرئ - بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وكسر الراء - فعدل صلى الله عليه وسلم عن طريقهما.
قال أبو القاسم الخثعمي رحمه الله تعالى: ليس هذا من باب الطيرة التي نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، ولكنها من باب كراهية الاسم القبيح، فقد كان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى أمرائه: " إذا أبردتم إلي بريدا فأبردوه وابعثوه حسن الوجه حسن الاسم " (1) قلت: رواه البزار من حديث بريدة، ورواه أيضا وكذا العقيلي والطبراني عن أبي هريرة بلفظ: " إذا بعثتم إلي رجلا فابعثوه حسن الوجه حسن الاسم "، وأحدهما يقوي الاخر.
انتهى.
وقد قال صلى الله عليه وسلم في لقحة: " من يحلب هذه ؟ " فقام رجل فقال: أنا، فقال: " ما اسمك ؟ " قال: مرة، قال: " اقعد، فقام آخر قال: " ما اسمك ؟ " قال: جمرة، قال: " اقعد "، ثم قام آخر فقال: " ما اسمك ؟ " قال: يعيش، قال: " احلب ".
__________
(1) ذكره الهيثمي في المجمع 8 / 50 وعزاه للبزار والطبراني في الاوسط وقال: وفي إسناد الطبراني عمر بن راشد وثقه العجلي، وضعفه جمهور الائمة، وبقية رجاله ثقات، وطرق البزار ضعيفة وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 12 / 349.
(*)(4/79)
قلت: رواه ابن سعد وابن قانع.
انتهى.
وفي رواية ابن وهب: فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، كنت نهيتنا عن التطير، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما تطيرت، ولكن آثرت الاسم الحسن "، أو كما قال صلى الله عليه وسلم (1).
الرابع: وقع في صحيح مسلم عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة رضي الله عنهم فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لاخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا، قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدرا، وذكر الحديث.
قال في العيون: وهذا القول إنما يعرف عن سعد بن معاذ، كذلك رواه ابن عقبة وابن إسحاق وابن سعد وابن عائذ وغيرهم، والصحيح أن سعد بن عبادة لم يشهد بدرا، فإن سعدا كان متهيئا للخروج فنهش قبل أن يخرج فأقام.
وذكر الحافظ في الفتح نحوه، ثم قال: ويمكن الجمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم استشارهم في غزوة بدر مرتين: الاولى: وهو بالمدينة أول ما بلغه خبر العير مع أبي سفيان، وذلك بين في رواية مسلم، والثانية: بعد أن خرج كما في حديث ابن مسعود في الصحيح، وحيئذ قال سعد بن معاذ ما قال.
ووقع عند الطبراني أن سعد بن عبادة قال ذلك بالحديبية وهذا أولى بالصواب، ولهذا مزيد بيان يأتي.
الخامس: قال السهيلي: معنى يضحك الرب أي يرضيه غاية الرضا، وحقيقته أنه رضا معه تبشير وإظهار كرامة، وذلك أن الضحك مضاد للغضب، وقد يغضب السيد ولكنه يعفو ويبقى العتب، فإذا رضي فذلك أكثر من العفو، فإذا ضحك فذلك غاية الرضا، إذ قد يرضى ولا يظهر ما في نفسه من الرضا، فعبر عن الرضا وإظهاره بالضحك في حق الرب تبارك وتعالى مجازا وبلاغة وتضمينا في هذه المعاني في لفظ وجيز، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في طلحة بن البراء:
" اللهم الق طلحة يضحك إليك وتضحك إليه ".
فمعنى هذه: القه لقاء متحابين مظهرين لما في أنفسهما من رضا ومحبة، فإذا قيل: ضحك الرب إلى فلان فهي كلمة وجيزة، تتضمن رضا مع محبة وإظهار بشر وكرامة لا مزيد عليها، فهي من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم.
وقال في المطالع: هذا وأمثاله من الاحاديث، طريقها الايمان بها من غير كيف ولا تأويل
__________
(1) ذكره الهيثمي مختصرا 8 / 50 وعزاه للطبراني باسناد حسن.
(*)(4/80)
وتسليمها إلى عالمها وقائلها.
السادس: قال الامام أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى ما حاصله: لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر رضي الله عنه كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم، لانه كان أول مشهد شهده، فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال، لتسكن نفوسهم عند ذلك، لانهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة، فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك، وعلم أنه استجيب له، لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة، فلهذا عقبه بقوله: * (سيهزم الجمع) * [ القمر 45 ].
وقال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: كان النبي صلى الله عليه وسلم في مقام الخوف، وصاحبه في مقام الرجاء، وكلا المقامين سواء في الفضل.
قال تلميذه السهيلي: لا يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم والصديق سواء، ولكن الرجاء والخوف مقامان لابد للايمان منهما، فأبوبكر كان في تلك الساعة في مقام الرجاء لله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مقام الخوف من الله تعالى، لان الله تعالى يفعل ما يشاء فخاف ألا يعبد الله تعالى في الارض بعدها.
وقال قاسم بن ثابت في دلائله: إنما قال الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم ما قال معاونة ورقة عليه، لما رأى من نصبه في الدعاء والتضرع حتى سقط الرداء عن منكبيه، فقال له: بعض هذا يا رسول الله، أي لم تتعب نفسك هذا التعب والله تعالى قد وعدك بالنصر ؟ ! وكان رقيق القلب شديد الاشفاق على النبي صلى الله عليه وسلم، وزل من لاعلم عنده ممن ينسب إلى التصوف في هذا الموضع زللا شديدا، فلا يلتفت إليه،
ولعل الخطابي أشار إليه.
السابع: قال في الروض: سبب شدة اجتهاده ونصبه في الدعاء أنه رأى الملائكة تنصب في القتال وجبريل على ثناياه الغبار، وأنصار الله تعالى يخوضون غمرات الموت.
والجهاد على ضربين: جهاد بالسيف، وجهاد بالدعاء، ومن سنة الامام أن يكون من وراء الجند لا يقاتل معهم، فكأن الكل في جهاد وجد، ولم يكن ليريح نفسه من أحد الجدين والجهادين وأنصار الله وملائكته يجتهدون ولا يؤثر الدعة، وحزب الله تعالى مع أعدائه يجتلدون.
الثامن: لا تعارض بين قوله تعالى: * (وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا) * [ الانفال 44 ] وبين قوله تعالى: * (قد كان لكم آية في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء) * [ آل عمران 13 ] فإن المعنى في ذلك أصح الاقوال أن الفرقة الكافرة ترى الفرقة المؤمنة مثل عدد الكافرة على الصحيح أيضا، وذلك عند التحام الحرب والمسابقة، فأوقع الله تعالى الوهن والرغب في قلوب الذين كفروا، فاستدرجهم أولا بأن أراهم(4/81)
إياهم عند المواجهة قليلا، ثم أيد المؤمنين بنصره، فجعلهم في أعين الكافرين على الضعف منهم، حتى وهنوا وضعفوا، وغلبوا، ولهذا قال: * (والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لاولي الابصار) *.
وروى ابن سعد وإسحاق بن راهويه وابن منيع، والبيهقي، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين ؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلا منهم.
فقلنا: كم أنتم ؟ قال: ألف.
التاسع: قال شيخ الاسلام أبو الحسن السبكي رحمه الله تعالى: سئلت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم ببدر، مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناح، فأجبت: وقع ذلك لارادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فتكون الملائكة مددا،
على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الاسباب وسننها، التي أجزاها الله تعالى في عباده.
والله تعالى فاعل الاشياء.
وقال في الكشاف في تفسير سورة يس في قوله تعالى: * (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين) * [ يس 28 ] فإن قلت: فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر والخندق ؟ فقال: * (فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) * [ الاحزاب 9 ] وقال: * (بألف من الملائكة مردفين) * [ الانفال 9 ] * بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين) * [ أل عمران 124 ] * (بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) * [ أل عمران 125 ] قلت: إنما كان يكفي ملك واحد فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود وقوم صالح بصيحة، ولكن الله تعالى فضل محمدا صلى الله عليه وسلم بكل شئ على كبار الانبياء وأولي العزم من الرسل فضلا على حبيبه النجار.
وأولاه من أسباب الكرامة ما لم يؤته أحدا، فمن ذلك أنه أنزل له جنودا من السماء، وكأنه أشار بقوله: * (وما أنزلنا...وما كنا منزلين) * إلى أن إنزال الجنود من عظائم الامور التي لايؤهل لها إلا مثلك، وما كنا نفعله لغيرك.
العاشر: اختلف المفسرون في قوله تعالى: * (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين.
بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم خمسة آلاف من الملائكة مسومين) * [ آل عمران 124، 125 ] الآيات، هل كان هذا الوعد يوم بدر أو يوم أحد ؟ فقال ابن عباس والحسن، وقتادة، وعامر الشعبي، والربيع بن أنس، وغيرهم، وعليه جرى الامام البخاري في صحيحه واختاره ابن جرير.
وقال الحافظ: إنه قول الاكثر.
وإن قوله تعالى: * (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين، بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم(4/82)
هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) * يتعلق بقوله: * (ولقد نصركم الله ببدر) * [ آل عمران 123 ] لان السياق يدل على ذلك، فإنه سبحانه وتعالى قال: * (ولقد
نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين) * إلى أن قال: * (وما جعله الله) * أي هذا الامداد * (إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به) * [ آل عمران 126 ] قالوا: فلما استغاثوا أمدهم بألف، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف لما صبروا واتقوا، وكان هذا التدريج ومتابعة الامداد أحسن موقعا، وأقوى لنفوسهم وأسر لها من أن تأتي دفعة، وهو بمنزلة متابعة الوحي ونزوله مرة بعد مرة، فإن قيل: فما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في قصة بدر: * (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) * [ الانفال 9 ] إلى آخر الآية ؟ فالجواب: أن التنصيص على الالف هنا لا ينافي الثلاثة آلاف فما فوقها، لقوله: مردفين، يعني بردفهم غيرهم، ويتبعهم ألوف أخر مثلهم، وهذا السياق شبيه بالسياق في سورة آل عمران، فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن قتال الملائكة إنما كان يوم بدر، وقالت شرذمة: هذا الوعد بالامداد بالثلاثة وبالخمسة كان يوم أحد، وكان إمدادا معلقا على شرط، وهو التقوى ومصابرة عدوهم فلم يصبروا، بل فروا، فلما فات شرطه فات الامداد فلم يمدوا بملك واحد، والقصة في سياق أحد، وإنما أدخل ذكر بدر اعتراضا في آيتها فإنه قال: * (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم.
إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * [ آل عمران 121، 122 ] ثم قال: * (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون) * فذكرهم نعمته عليهم لما نصرهم ببدر وهم أذلة، ثم عاد إلى قصة أحد وأخبر عن قول رسوله * (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين) * ثم وعدهم إن صبروا واتقوا أن يمدهم بخمسة آلاف، فهذا من قول رسوله، والامداد الذي ببدر من قوله تعالى هذا: * (بخمسة آلاف) * وإمداد بدر بألف، وهذا معلق على شرط وذاك مطلق، والقصة في سورة آل عمران هي قصة أحد مستوفاة مطولة، وبدر ذكرت فيها اعتراضا، والقصة في سورة الانفال توضح هذا.
قال الحافظ: ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور ما رواه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي
حاتم بسند صحيح عن الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي مد المشركين فشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله تعالى: * (ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف) * الآية، فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد كرز المشركين ولم يمد المسلمون.
وقال في موضع آخر: هذا - أي القول الأول - هو المعتمد.(4/83)
الحادي عشر: في الكلام على قوله تعالى: * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * [ الانفال 1 7 ].
قال في زاد المعاد: اعتقد جماعة أن المراد بالآية سلب فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإضافته إلى الرب تبارك وتعالى حقيقة، وجعلوا ذلك أصلا للجبر وإبطال نسبة الافعال ونسبتها إلى الرب تبارك وتعالى وحده، وهذا غلط منهم في فهم القرآن، فلو صح ذلك لوجب طرده فيقال: ما صليت إذ صليت، ولا صمت إذ صمت، ولا فعلت كل ذلك إذ فعلت، ولكن الله فعل ذلك، فإن طردوا ذلك لزمهم في أفعال العباد وطاعاتهم ومعاصيهم، إذ لا فرق، وإن خصوه برسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله جميعها أو رمية واحدة ناقضوا، فهؤلاء لم يوفقهم الله تعالى لفهم ما أريد بالآية، ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ، فكان منه صلى الله عليه وسلم هذا الرمي، وهو الحذف، ومن الرب سبحانه وتعالى نهايته وهو الايصال، فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه ونفى عنه رمي الايصال الذي هو نهايته، ونظير هذه الآية نفسها قوله تعالى: * (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) * [ الانفال 17 ] ثم قال: * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * فأخبر أنه سبحانه وتعالى وحده هو الذي تفرد بإيصال الحصا إلى أعينهم، ولم يكن برسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن وجه الاشارة بالآية أنه سبحانه وتعالى أقام أسبابا تظهر للناس، فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافا إليه وبه، وهو خير الناصرين.
الثاني عشر: قال السدي الكبير، وعروة، وقتادة، ومجاهد، ومحمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس، وابن زيد، وغيرهم، إن هذه الآية نزلت في بدر وقد فعل ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين.
الثالث عشر: في حديث أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بمصارع القوم قبل الوقعة بيوم أو أكثر.
وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك يوم الوقعة.
قال في البداية: ولا مانع من الجمع بين ذلك بأن يخبر به قبل بيوم أو أكثر، وفي حديث آخر أن يخبر به قبل ذلك بساعة يوم الوقعة.
الرابع عشر: اتفق عمر وأبو طلحة، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال له المسلمون: يا رسول الله كيف تخاطب أمواتا ؟ فقال: " والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم "، والثلاثة الأول شاهدوا القصة، وسمعوا هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله يحتمل أن يكون سمعه من أبيه أو من النبي صلى الله عليه وسلم، ولفظ ابن مسعود قال: " يسمعون كما تسمعون ولكن لا يجيبون "، رواه الطبراني بإسناد صحيح، وأنكرت ذلك عائشة رضي الله عنها لما بلغها ذلك عن ابن عمر، وقالت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حقا، واستدلت على ذلك بقوله تعالى: * (وما أنت(4/84)
بمسمع من في القبور) * [ فاطر 22 ] وهذا مصير منها إلى رد رواية ابن عمر المذكورة، وقد خالفها الجمهور في ذلك وقبلوا حديث ابن عمر لموافقة من رواه غيره عليه.
وأما استدلالها عليه بالآية فقالوا: معناها لاتسمعهم سماعا ينفعهم ولاتسمعهم إلا أن يشاء الله، وقال الاسماعيلي: كان عند عائشة رضي الله عنها من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه، ولكن لاسبيل إلى رد كلام الثقة إلا بنص يدل على نسخه، أو تخصيصه أو استحالته، فكيف والجمع بين الذي أنكرته وأثبته غيرها ممكن ؟ لان قوله تعالى: * (إنك لا تسمع الموتى) * لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: " إنهم الآن يسمعون "، لان الاسماع هو إبلاغ الصوت من المسمع في أذن السامع، فالله تعالى هو الذي أسمعهم بأن أبلغهم صوت نبيه صلى الله عليه وسلم.
وأما جوابه بأنه إنما قال: " إنهم ليعلمون "، فإن كانت سمعت ذلك فلا ينافي رواية يسمعون، بل يؤيدها.
وقال البيهقي: العلم لايمنع من السماع، والجواب عن الآية لايسمعهم
وهم موتى، ولكن الله تعالى أحياهم حتى سمعوا كما قال قتادة.
وقال السهيلي ما محصله: إن في نفس الخبر ما يدل على خرق العادة بذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لقول الصحابة له: أتخاطب أقواما قد جيفوا فأجابهم، وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين جاز أن يكونوا سامعين، وذلك بآذان رؤوسهم على قول الاكثر، أو بآذان قلوبهم، واحتجاج عائشة رضي الله عنها بقوله تعالى: * (وما أنت بمسمع من في القبور) * وهذه الآية لقوله تعالى: * (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي) * [ الزخرف 40 ] أي أن الله تعالى هو الذي يهدي ويوفق ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت، وجعل الكفار أمواتا وصما على جهة التشبيه بالاموات وبالصم، والله تعالى هو الذي يسمعهم على الحقيقة إذا شاء لانبيه ولا أحد، فإذا لاتعلق بالآية من وجهين: أحدهما: أنها نزلت في دعاء الكفار إلى الايمان، الثاني: أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم، وصدق الله تعالى فإنه لايسمعهم إذا شاء إلا هو، ويفعل ما يشاء، وهو على كل شئ قدير.
الخامس عشر: من الغرائب أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد عن عائشة مثل حديث أبي طلحة، وفيه: " ما أنت بأسمع لما أقول منهم "، ورواه الامام أحمد بإسناد حسن، فإن كان محفوظا فكأن عائشة رضي الله عنها رجعت عن الانكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة، لكونها لم تشهد القصة.
السادس عشر: قال في الروض: فإن قيل: ما معنى إلقائهم في القليب وما فيه من الفقه ؟ قلنا: كان من سنته صلى الله عليه وسلم في مغازيه إذا مر بجيفة إنسان أمر بدفنه لا يسأل عنه، مؤمنا كان أو كافرا، هكذا رواه الدارقطني في سننه.
وإلقاؤهم في القليب من هذا الباب غير أنه كره أن(4/85)
يشق على أصحابه بكثرة جيف الكفار أن يأمر بدفنهم فكان جرهم إلى القليب أيسر عليهم، ووافق أن القليب حفره رجل من بني النار اسمه بدر، فكان فألا مقدما لهم كما أفاد ذلك الواقدي.
السابع عشر: قال العلامة ابن مرزوق في شرح البردة: ومن الآيات ببدر الباقية ما كنت أسمعه من غير واحد من الحجاج أنهم إذا اجتازوا بذلك الموضع يسمعون كهيئة طبل ملوك الوقت، ويرون أن ذلك لنصر أهل الايمان، قال: وربما أنكرت ذلك، وربما تأولته بأن الموضع لعله صلب فيستجيب فيه حوافر الدواب، وكان يقال لي إنه وعس رمل غير صلب، وغالب ما يسير هناك الابل، وأخفافها لاتصوت في الارض الصلبة فكيف بالرمال.
قال: ثم لما من الله تعالى بالوصول إلى ذلك الموضع المشرف نزلت عن الراحلة أمشي، وبيدي عود طويل من شجر السعدان المسمى بأم غيلان، وقد نسيت ذلك الخبر الذي كنت أسمعه، فما راعني وأنا أسير في الهاجرة إلا واحد من عبيد الاعراب الجمالين يقول: أتسمعون الطبل ؟ فأخذني لما سمعت كلامه قشعريره بينة، وتذكرت ما كنت أخبرت به، وكان في الجو بعض ريح فسمعت صوت الطبل، وأنا دهش مما أصابني من الفرح أو الهيبة، أو ما الله أعلم به، فشككت وقلت: لعل الريح سكنت في هذا الذي في يدي، وحدث مثل هذا الصوت، وأنا حريص على طلب التحقق بهذه الآية العظيمة، فألقيت العود من يدي، وجلست إلى الارض أو وثبت قائما، أو فعلت جميع ذلك، فسمعت صوت الطبل سماعا محققا أو صوتا لا أشك أنه صوت طبل، وذلك من ناحية ونحن سائرون إلى مكة المشرفة، ثم نزلنا ببدر فظللت أسمع ذلك الصوت يومي أجمع المرة بعد المرة، قال: ولقد أخبرت أن ذلك الصوت لا يسمعه جميع الناس.
انتهى.
وقال الامام المرجاني رحمه الله: وضربت طبلخانة النصر ببدر، فهي تضرب إلى يوم القيامة، ونقله السيد في تاريخه الكبير والصغير وأقره.
الثامن عشر: وقع في صحيح البخاري في كتاب فرض الخمس في حديث عبد الرحمن بن عوف في قتل أبي جهل، وكان اللذان قتلاه: معاذ ابن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ووقع في المغازي، هما ابنا عفراء: معاذ ومعوذ، قال الحافظ: عفراء: والدة معاذ واسم أبيه الحارث.
وأما معاذ بن عمرو بن الجموح ليس اسم أمه عفراء، وإنما إطلق عليه
تغليبا، ويحتمل أن تكون أم معوذ أيضا تسمى عفراء، وأنه كان لمعوذ أخ يسمى معاذا باسم الذي شركه في قتل أبي جهل، ظنه الراوي أخاه.
التاسع عشر: اختلف في قاتل أبي جهل، ففي صحيح البخاري في كتاب الخمس،(4/86)
عن عبد الرحمن بن عوف أن معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ ابن عفراء قتلا أبا جهل، وفيه أيضا عن أنس أن ابن مسعود انطلق لينظر أبا جهل فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد - بفتح الموحدة والراء المهملة - أي مات، أو صار في حال من مات، ولم يبق فيه سوى حركة المذبوح، وابنا عفراء هما معاذ ومعوذ، بتشديد الواو.
وعند ابن إسحاق عن ابن عباس عن عمرو بن الجموح أنه ضرب أبا جهل ضربة أطنت قدمه، ثم مر به معوذ ابن عفراء فضربه حتى أثبته وبه رمق، ثم مر بأبي جهل عبد الله بن مسعود وبه رمق فذكر ما سبق في القصة، واحتز رأسه.
قال في الفتح بعد ذكر حديث ابن عوف: عفراء: والدة معوذ واسم أبيه الحارث وأما معاذ بن عمرو بن الجموح فليس اسم أمه عفراء، وإنما أطلق عليه تغليبا، ويحتمل أن تكون أم معاذ أيضا تسمى عفراء، أو أنه كان لمعوذ أخ يسمى معاذا باسم الذي شركه في قتل أبي جهل ظنه الراوي أخاه، وما رواه ابن إسحاق يجمع بين الاحاديث، لكنه يخالف حديث ابن عوف أنه رأى معاذ ابن عفراء ومعاذ بن عمرو شدا عليه جميعا حتى طرحاه، وابن إسحاق يقول: إن ابن عفراء هو معوذ، والذي في الصحيح معاذ وهما أخوان، فيحتمل أن يكون معاذ ابن عفراء شد عليه فتجتمع الاقوال كلها، وإطلاق كونهما قتلاه يخالف في الظاهر حديث ابن مسعود أنه وجده وبه رمق، وهو محمول على أنهما بلغا به بضربهما إياه بسيفيهما منزلة المقتول، حتى لم يبق إلا مثل حركة المذبوح، وفي تلك الحالة لقيه ابن مسعود فضرب عنقه.
وأما ما ذكره ابن عتبة وأبو الاسود عن عروبة: أن ابن مسعود أنه وجد أبا جهل مصروعا بينه وبين المعركة غير كثير، متقنعا في الحديد واضعا سيفه على فخذه، إلى آخر ما ذكر في
القصة، فيحمل على أن ذلك وقع بعد أن خاطبه كما تقدم.
العشرون: أول رأس حمل في الاسلام رأس عدو الله أبي جهل، وحمل إليه رأس سفيان بن خالد الهذلي، حمله عبد الله بن أنس كما سيأتي، وحمل إليه أيضا رأس كعب بن الاشرف كما سيأتي، ورأس أبي عزة، ومرحب اليهودي كما رواه الامام أحمد، ورأس العنسي الكذاب كما ذكره بعضهم، وعصماء بنت مروان، ورفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة، وأول مسلم حمل رأسله عمرو بن الحمق الخزاعي رضي الله عنه.
وأما ما رواه أبو داود في مراسيله عن الزهري قال: لم يحمل.
الحادي والعشرون: قوله صلى الله عليه وسلم لما سمع شعر قتيلة بنت النضر: لو بلغني شعرها قبل أن أقتله ما قتلته.
قال أبو عمر: ليس معنى هذا الندم، لانه صلى الله عليه وسلم لا يقول ولا يفعل إلا حقا، ولكن معناه لو شفعت عندي بهذا القول لقبلت شفاعتها.(4/87)
الثاني والعشرون: قول أبي الفتح: المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل قتيلا فله سلبه " (1)، إنما كان يوم حنين...إلخ فيه نظر من وجوه: الأول: في صحيح مسلم حديث عوف بن مالك، وفيه: فقلت: يا خالد، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل...الحديث، وفيه أن ذلك كان في غزوة مؤتة، وهي قبل حنين.
الثالث والعشرون: وقع في تفسير البغوي أن سعد بن أبي وقاص قتل يوم بدر سعيد بن العاص بن أمية، والصواب العاص بن سعيد بن العاص، وليس في قتلى بدر من المشركين من يقال له سعيد بن العاص، وسعيد بن العاص صحابي أدرك من حياة النبي صلى الله عليه وسلم تسع سنين، وولد عام الهجرة، وقتل علي أباه يوم بدر، وكان سعيد من أشراف بني أمية وفصائحهم وأجوادهم، وأحد من كتب المصاحف لعثمان، وولاه على الكوفة، وغزا جرجان (2)، وطبرستان (3)، وافتتحهما ولزم بيته في الفتنة.
الرابع والعشرون: في فضل من شهد بدرا من المسلمين.
روى البخاري عن رفاعة بن
رافع الزرقي رضي الله عنه، وكان من أهل بدر، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال: " من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها "، قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة.
وروى الامام أحمد بسند على شرط مسلم، عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل النار رجل شهد بدرا والحديبية " (4).
وروى الامام أحمد وابن مجانة عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن جبريل أو ملكا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون من شهد بدرا فيكم ؟ قال: خيارنا.
قال: كذلك هم عندنا من الملائكة.
قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي في جامع المسانيد: هكذا وقع في مسند أحمد، والظاهر أنه غلط من بعض الرواة، وإنما هو حديث رافع بن رفاعة الزرقي وليس برافع بن خديج، ويحتمل أن يكون ابن خديج سمعه أيضا من رسول الله صلى الله عليه وسلم (5).
__________
(1) أخرجه البخاري 8 / 34 (4321) ومسلم 3 / 1370 (41 - 1751).
(2) (جرجان) بالضم، وآخره نون: مدينة مشهورة عظيمة بين طبرستان وخراسان وهي قطعتان: إحداهما المدينة والاخرى بكر آباد، وبينهما نهر كبير يحتمل جري السفن فيه، وبها الزيتون والنخل والجوز والرمان وقصب السكر والاترج مراصد الاطلاع 1 / 323.
(3) (طبرستان) بفتح أوله، وثانيه، وكسر الراء: بلاد واسعة ومدن كثيرة، يشملها هذا الاسم يغلب عليها الجبال، وهي تسمى بمازندران، وهي مجاورة لجيلان وديلمان، وهي من الري وقومس.
[ مراصد الاطلاع 2 / 878 ].
(4) أخرجه أحمد في المسند 6 / 396 وذكره المتقي الهندي في الكنز (33894) وابن كثير في البداية والنهاية 3 / 329.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 14 / 385.
(*)(4/88)
وروى أبو داود وابن ماجه والطبراني بسند جيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اطلع الله تعالى على أهل بدر فقال: " اعملوا ما شتم فقد غفرت لكم " (1).
وروى الامام أحمد عن حفصة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إني لارجو ألا يدخل النار - إن شاء الله - أحد شهد بدرا والحديبية " قالت: قلت: أليس الله تعالى يقول: * (وإن منكم إلا واردها) * ؟ [ مريم 71 ] قالت: فسمعته يقول: * (ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا) * (2) [ مريم 72 ] وروى مسلم والترمذي، عن جابر رضي الله عنه أن عبدا لحاطب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا إليه، فقال: يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار، فقال: " كذبت، لا يدخلها، فإنه قد شهد بدرا والحديبية " (3) وفي الصحيح عن علي رضي الله عنه في قصة كتاب حاطب: وأن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله، دعني أضرب عنقه، فقال صلى الله عليه وسلم: " أليس من أهل بدر ؟ ولعل الله أطلعه على أهل بدر " فقال: " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " أو قال: " فقد وجبت لكم الجنة "، وسيأتي الحديث في غزوة الفتح (4).
روى الطبراني عن رافع بن خديج رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: " والذي نفسي بيده لو أن مولودا ولد في فقه أربعين سنة من أهل الدين يعمل بطاعة الله تعالى كلها، ويجتنب معاصي الله تعالى كلها، إلى أن يرد إلى أرذل العمر أو يرد إلى ألا يعلم بعد علم شيئا، لم يبلغ أحدكم هذه الليلة " رجاله ثقات إلا جعفر بن مقلاص فإنه غير معروف (5).
وروى البخاري (6) عن أنس رضي الله عنه قال: أصيب حارثة بن زيد ببدر، فجاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب.
وإن تكن الاخرى فترى ما أصنع ؟ فقال: " ويحك، أو هبلت أو جنة واحدة هي ؟ ! إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس "، وجاء في رواية البخاري عن أنس أن حارثة كان في النظارة، وفيه: أن ابنك أصاب الفردوس الاعلى.
وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر، فإن هذا لم يكن في بحبحة القتال ولا في حومة الوغى، بل كان من النظارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب وهو يشرب من الحوض، ومع هذا أصاب بهذا الموقف جنة الفردوس التي هي
__________
(1) أخرجه أبو داود (4655).
(2) أخرجه ابن ماجه 2 / 1431 (4281) وأحمد في المسند 6 / 285 وذكره الهيثمي في المجمع 6 / 107 وابن كثير في البداية والنهاية 3 / 329.
(3) أخرجه مسلم 4 / 1942 (162 - 2195) والترمذي (3864).
(4) أخرجه البخاري 5 / 99 (دار الفكر) والبيهقي في الدلائل 3 / 152.
(5) أخرجه الطبراني في الكبير 4 / 339.
(6) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (3982).
(*)(4/89)
أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنها تفجر أنهار الجنة التي أمر الشارع صلى الله عليه وسلم أمته - إذا سألوا الله تعالى الجنة - أن يسألوه إياها، فإذا كان هذا حال هذا فما ظنك بمن كان في نحر العدو، وهم على ثلاثة أضعافهم عددا وعددا ! ! الخامس والعشرون: استشكل قوله: * (اعملوا ما شئتم) * [ فصلت 40 ] فإن ظاهره أنه للاباحة، وهو خلاف عقد الشرع، وأجيب بأنه إخبار عن الماضي أن كل عمل كان لكم فهو مغفور، ويؤيده أنه لو كان لما يستقبلونه من العمل لم يقع بلفظ الماضي، ولهذا يقال: فسأغفره لكم، وتعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة حاطب، لانه صلى الله عليه وسلم خاطب بذلك عمر منكرا عليه ما قال في أمر حاطب، وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين، فدل على أن المراد ما سيأتي.
وأورده بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه، وقيل: إن صيغة الامر في قوله: * (اعملوا) * للتشريف والتكريم، فالمراد عدم المؤاخذة بما يصدر عنهم، وأنهم خصوا بذلك لما حصل لهم من الحال العظيمة التي اقتضت محو ذنوبهم السالفة، وتأهلوا لان يغفر لهم الذنوب اللاحقة إن وقعت، أي كل ما عملتموه بعد هذه الوقعة من أي عمل كان فهو مغفور، وقيل: إن المراد أن ذنوبهم تقع إذا وقعت مغفورة، وقيل: هي شهادة بعدم وقوع الذنوب منهم، وفيه نظر ظاهر، لما في قصة قدامة بن مظعون حين شرب الخمر في أيام عمر متأولا وحده، فهاجر بسبب ذلك، فرأى عمر في المنام من يأمره بمصالحته، وكان قدامة بدريا والذي يفهم من سياق القصة الاحتمال الثاني، وهو الذي فهمه أبو عبد الرحمن السلمي التابعي الكبير، واتفقوا
على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الاخرة، لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها.
السادس والعشرون: قول الانصار: " ائذن لنا فلنترك لابن أختنا " - بالفوقية - المراد أنهم أخوال أبيه عبد المطلب، فإن أم العباس هي نتيلة - بالنون والتاء المثناة الفوقية مصغرة - بنت جناب - بالجيم والنون - وليست من الانصار، وإنما أرادوا بذلك أن أم عبد المطلب منهم، لانها سلمى بنت عمرو بن أحيحة - بمهملتين مصغرا - وهي من بني النجار، وإنما قالوا: ابن أختنا لتكون المنة عليهم في إطلاقه، بخلاف ما لو قالوا: عمك لكانت المنة عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا من قوة الذكاء وحسن الادب في الخطاب، وإنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من إجابتهم لئلا يكون في الدين نوع محاباة.
السابع والعشرون: في معرفة من شهد بدرا من المسلمين، جملة من ذكر من المهاجرين أربعة وتسعون، وروى البخاري عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: جميع من(4/90)
شهد بدرا من قريش ممن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره واحد وثمانون (1)، وكان عروة بن الزبير يقول: قسمت سهامهم فكانوا مائة.
قال الداودي: كانوا على التحرير أربعة وثمانين، وكان معهم ثلاثة أفراس، فأسهم لها بسهمين، وضرب لرجال كان أرسلهم في بعض أمره بسهامهم، فيصح أنها مائة بهذا الاعتبار.
قال الحافظ: هذا لا بأس به وظهر لي أن إطلاق المائة إنما هو باعتبار الخمس ; وذلك أنه عزل خمس الغنيمة، ثم قسم ما عداه على الغانمين على ثمانين سهما، عدد من شهدها ومن لحق بهم، فلما أضيف إليه الخمس كان ذلك من حساب مائة سهم.
انتهى.
وجملة من ذكر من الخزرج مائة وخمسة وتسعون، ومن الاوس أربعة وتسعون، وإنما كان عدد الاوس أقل من عدد الخزرج، وقد كانوا أشد منهم وأصبر عند اللقاء ; لان منازلهم في علو المدينة وجاء النفير بغتة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يتبعنا إلا من كان ظهره حاضرا "، فاستأذنه
رجال ظهورهم في علو المدينة إلى أن يستأني بهم حتى يذهبوا إلى ظهورهم، فأبى، ولم يكن عزمهم اللقاء ولا أعدوا له عدة، ولكن جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، فجملة من ذكر ثلاثمائة وثلاثة وسبعون، وهذا العدد أكثر من عدد أهل بدر ; وإنما جاء ذلك من جهة الخلاف في بعض من ذكر، وقد تقدم نظير ذلك في أهل العقبة، ورتبت أسماؤهم على حروف المعجم ; لانه أسهل في الكشف.
ونبدأ بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
حرف الالف أبي - بضم أوله مصغرا - ابن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد الانصاري الخزرجي النجاري، أبو المنذر وأبو الطفيل، سيد القراء.
قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ليهنك العلم أبا المنذر "، وقال: إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك، وكان عمر يسميه سيد المسلمين.
وعده مشروق في الستة من أصحاب الفتيان وقال محمد بن عمر الاسلمي: هو أول من كتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأول من كتب في آخر الكتاب: من فلان بن فلان، روى عنه من الصحابة عمر بن الخطاب، وكان يسأله عن النوازل ويتحاكم إليه في المعضلات.
وأبو أيوب، وعبادة بن الصامت، وأبو موسى الاشعري، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وغيرهم.
أبي بن ثابت الانصاري أخو حسان.
قال ابن السكن والواقدي وابن حبان وغيرهم: هو أبو شيخ، وحالفهم ابن إسحاق فقال: إن أبي بن ثابت مات في الجاهلية وإن الذي شهد بدرا
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المغازي (4026).
(*)(4/91)
وأحدا أبو شيخ بن أبي بن ثابت، وكذا قال ابن عقبة فيمن شهد بدرا: أبو الشيخ بن أبي بن ثابت.
فالله أعلم.
أبي بن معاذ بن أنس بن قيس الانصاري والنجاري.
قال الواقدي: شهد بدرا.
الاخنس بن حبيب، وقيل: ابن حباب السلمي، والد يزيد وجد معن، شهد الثلاثة بدرا.
أربد بن جبير - بالجيم - وقيل: ابن حمزة - بالمهملة والزاي - وقيل: ابن حمير - تصغير حمار - وبهذا جزم الامير.
أرقم بن أبي الارقم بن عبد مناف بن أسد بن عبد الله القرشي المخزومي.
أسعد بن يزيد بن الفاكه بن يزيد الانصاري الخزرجي، كذا قال غير ابن إسحاق وقال: هو سعد بن زيد.
أسود بن زيد بن ثعلبة بن عبيد الانصاري الخزرجي، كذا قال ابن عقبة.
وقال الاموي: سواد بن رزام بن ثعلبة.
وقال سلمة بن الفضل، وابن إسحاق: سواد بن زريق.
وقال ابن عائذ: سواد بن زيد.
أسيد - بضم أوله - ابن ثعلبة الانصاري، ذكره أبو عمر.
أسيد بن الحضير - بضم الحاء المهملة وفتح الضاد المعجمة - ابن سماك - بكسر السين المهملة وتخفيف الميم - الانصاري الاوسي، ذكره ابن الكلبي فيهم، وفيه نظر.
أسير - بالراء - ابن عمرو بن قيس أبو سليط الانصاري وقيل اسمه سبرة.
أمية بن لوذان بن سالم الخزرجي، وقيل: اسمه ثابت بن هزال.
أنس بن قتادة الانصاري الاوسي، وقيل اسمه أنيس.
أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حينئذ في سن من يقاتل.
أنس بن أبي أنس، ويقال: ابن عمر وأبو سليط السابق.
أنس بن معاذ بن أنس بن قيس الانصاري النجاري، يقال اسمه أنيس بالتصغير.
أنسة - بفتح الهمزة والنون والسين وتاء تأنيث - مولى النبي صلى الله عليه وسلم، يكنى أبا مسروح، وقيل: مسروح.
أنيس - بالتصغير - ابن قتادة بن ربيعة الانصاري الاوسي.
أنيف - تصغير أنف - ابن جشم بن عوذ الله القضاعي حليف الانصار.
أوس بن ثابت بن المنذر بن حرام أخو حسان.
أوس بن خولي - بخاء معجمة مفتوحة فواو ساكنة فلام مكسورة فياء نسب - ابن(4/92)
عبد الله بن الحارث الخزرجي أبو ليلى، ويقال: أوس بن عبد الله بن الحارث بن خولي.
أوس بن الصامت بن قيس الانصاري الخزرجي.
إياس بن أوس بن عتيك - بالمثناة الفوقية والكاف - الانصاري الاوسي.
إياس بن البكير - بضم الموحدة وفتح الكاف مصغرا - وروى ابن أبي البكير بن عبد ياليل - بمثناتين تحتيتين وكسر اللام الاولى - الليثي حليف بني عدي.
حرف الباء البراء بن معرور - بمهملات - الانصاري الخزرجي.
بجير - بجيم فتحتية فراء مصغرا - ابن أبي بجير العبسي - بموحدة - الجهني، ويقال: البلوي، حليف الخزرج.
بحاث - بفتح الباء وتشديد الحاء المهملة وآخره مثلثة - ابن ثعلبة البلوي حليف الخزرج، وسماه ابن إسحاق نجاب - بنون أوله وموحدة آخره.
بسبسة - بموحدتين مفتوحتين بينهما سين مهملة ساكنة ثم أخرى آخره مفتوحة - قال ابن الاثير: كذا جاء في مسلم، قال: وقال الدار قطني وأبو عمر وابن ماكولا: بسبس - بغير هاء - بفتح الباء في الموحدتين وسكون السين الاولى.
وقال النووي: هو في جميع النسخ بسيسة - بباء موحدة مضمومة، فسين مهملة مفتوحة، فمثناة تحتية ساكنة، فسين أخرى كذلك - ورواه أبو داود، والمعروف في كتب السير بموحدتين بينهما سين ساكنة - ابن عمرو الجني الذبياني، وذبيان: بطن من جهينة.
بشر بن البراء بن معرور الانصاري الخزرجي.
بشير - بوزن عظيم - ابن سعد بن ثعلبة الانصاري الخزرجي.
بشير بن عبد المنذر، أبو لبابة ويقال: اسمه رفاعة، رده النبي صلى الله عليه وسلم من الروحاء،
واستعمله على المدينة، وضرب له بسهمه وأجره.
بلال بن رباح المؤذن، هو بلال ابن حمامة وهي أمه.
حرف التاء تميم بن عبد عمرو بن قيس الانصاري الخزرجي أبو حزن المازني، ذكره أبو عمر وتعقبه.
تميم بن يعار - بمثناة تحتية مضمومة فعين مهملة وآخره راء - ابن قيس بن عدي(4/93)
الانصاري الخزرجي.
تميم مولى بني غنم بن السلم - بكسر السين - ابن مالك بن أوس الانصاري.
قال ابن هشام: كان مولى سعد بن خيثمة.
وكان سعد بن بني غنم.
حرف الثاء المثلثة ثابت بن أقرم - فتح الهمزة فقاف ساكنة فراء - ابن ثعلبة البلوي حليف الاوس.
ثابت بن ثعلبة الجذع بن زيد بن الحارث الانصاري الخزرجي.
ثابت بن الحارث الانصاري.
ثابت بن حسان بن عمرو الانصاري النجاري، ويقال في اسمه خنساء.
ثابت بن خالد بن النعمان الانصاري الخزرجي.
ثابت بن خنساء تقدم.
ثابت بن ربيعة الانصاري.
ثابت بن عامر بن زيد الانصاري، ذكره بن أبي حاتم عن أبيه، وتبعه أبو عمر فقيل: إنه وهم، والصواب: ثابت بن عمرو بن زيد الانصاري الخزرجي.
ثابت بن عبيد الانصاري.
ثابت بن هزال - بفتح الهاء والزاي المشددة - ابن عمرو الانصاري الخزرجي.
ثابت مولى الاخنس بن شريق، ذكر عبدان أنه شهد بدرا.
ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عبيد بن أمية بن زيد بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس، ذكروه في البدريين.
وقال ابن الكلبي: قتل بأحد، وأورد جماعة في ترجمته قصة تمنيه مالا ومنعه الزكاة، وأورد ذلك الحافظ في الاصابة في ترجمة ثعلبة بن حاطب، أو ابن أبي حاطب الانصاري، ذكره ابن إسحاق فيمن بنى مسجد الضرار.
قال الحافظ: وفي كون صاحب القصة إن صح الخبر - ولا أظنه يصح - أنه هو البدري المذكور قتل نظر، وقد تأكدت المغايرة بينهما بقول ابن الكلبي: إن البدري استشهد بأحد، ويقوي ذلك أيضا ابن مردويه روى في تفسيره من طريق عطية عن ابن عباس في الاية المذكورة أي (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن) [ التوبة 75 ] فقال: وذلك رجل يقال له: ثعلبة بن حاطب من الانصار، أتى مجلسا فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله لاصدقن...فذكر القصة مطولة، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية "، وحكى عن(4/94)
ربه تبارك وتعالى أنه قال: " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فمن يكون بهذه المثابة كيف يعقبه الله تعالى نفاقا في قلبه وينزل فيه ما نزل ؟ ! والظاهر أنه غيره.
ثعلبة بن الجذع بن زيد بن الحارث الانصاري الخزرجي.
ثعلبة بن عنمة - بفتح العين المهملة والنون - ابن عدي الانصاري الخزرجي.
ثعلبة بن قيظي - بفتح القاف وسكون التحتية وبالظاء المعجمة المشالة - ابن صخر بن سلمة الانصاري.
ثقف - بثاء مثلثة مفتوحة فقاف مكسورة ففاء - ابن عمرو.
وقال الواقدي: ثقاف.
ثمامة بن عدي القرشي، ذكر الطبري أنه شهد بدرا.
حرف الجيم جابر بن خالد الانصاري الخزرجي.
جابر بن عبد الله بن رئاب - بكسر الراء وبالمثناة التحتية وبالهمزة وبالموحدة - ابن النعمان الانصاري.
جابر بن عبد الله بن حرام بن كعب.
روى البخاري في تاريخه بإسناد صحيح عن أبي سفيان رضي الله عنه قال: " كنت أمنح أصحابي الماء يوم بدرا "، وأنكر الواقدي رواية أبي سفيان عن جابر المذكورة، وروى مسلم عن أبي الزبير - رضي الله عنه - قال: " غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة ولم أشهد بدرا ولا أحدا، منعني أبي، فلما قتل [ عبد الله يوم أحد ] لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة قط، وبهذا جزم جماعة.
جابر - وقيل: جبر - ابن عتيك بن قيس بن الحارث بن هيشة - بهاء مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فشين معجمة - ابن الحارث الانصاري الاوسي.
جابر بن أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف، ذكر ابن القداح أنه شهد بدار.
جارية بن حميل - بمهملة مصغرا - وقيل حميلة بن نشبة - بنون مضمومة فشين معجمة ساكنة فموحدة - الاشجعي، ذكر ابن الكلبي أنه شهد بدرا.
جبار - بالتشديد - ابن صخر بن أمية الانصاري الخزرجي.
جبر - بفتح الجيم وإسكان الموحدة ثم راء - ابن أنس بن سعد الغفاري.
نقل الطبراني أنه شهد بدرا، ولم يذكره أصحاب المغازي في البدريين إنما ذكروا جبير بن إياس.
جبلة بن ثعلبة الانصاري الخزرجي البياضي، ذكره ابن حبان وعبيدالله بن أبي رافع في البدريين، قال ابن الاثير: صوابه رخيلة.(4/95)
جبير - بضم الجيم وفتح الموحدة - ابن إياس بن خلدة بن مخلد - بتشديد اللام - ابن عامر الانصاري الخزرجي.
ويقال اسمه: جبر، وتقدم.
جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب لم يشهد بدرا، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره ; فكان كمن شهدها.
حرف الحاء الحارث بن أنس، وقيل: أنيس، وقيل: أوس بن رافع الانصاري الاوسي، أخو أبي الجسر.
الحارث بن أنس بن مالك بن عبيد الانصاري الاوسي من بني النبيت - بفتح النون وكسر الموحدة بعدها مثناة تحتية ساكنة ثم مثناة فوقية - والصواب أنه غير الذي قبله.
الحارث بن أوس بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الاشهل الانصاري الاوسي الاشهلي.
الحارث بن أوس بن معاذ بن النعمان الانصاري الاوسي ابن أخي سعد بن معاذ.
الحارث بن حاطب بن عمرو بن عبيد الانصاري الاوسي العمري - بفتح العين وسكون الميم - أخو ثعلبة، رده رسول الله صلى الله عليه وسلم من الروحاء، وضرب له بسهمه وأجره.
الحارث بن خزمة - بفتح الخاء المعجمة والزاي - ابن عدي بن أبي - بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد التحتية - الانصاري الخزرجي حليف بني عبد الاشهل بن الاوس.
الحارث بن خزمة.
قال في النبراس - بفتح الخاء وبالزاي الساكنة - ابن أمية بن البرك - بضم الموحدة وفتح الراء - الانصاري الاوسي.
الحارث بن زيد الانصاري الساعدي.
الحارث بن سراقة بن الحارث الانصاري الخزرجي.
ذكره أبو الاسود عن عروة فيمن استشهد ببدر، وقيل الصواب: حارثة بن سراقة الاتي، ويحتمل أن يكون له أخ اسمه الحارث.
الحارث بن سليم بن ثعلبة بن كعب بن حارثة الانصاري، ذكره العدوي.
الحارث بن سواد الانصاري، ذكره أبو الاسود عن عروة.
الحارث بن الصمة - بكسر المهملة وتشديد الميم - ابن عمرو الخزرجي، كسر بالروحاء، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب له بسهمه وأجره.
الحارث بن ظالم أبو الاعور الانصاري.(4/96)
الحارث بن عرفجة بن الحارث الانصاري الاوسي.
الحارث بن قيس بن خلدة أبو خالد الانصاري الخزرجي الزرقي.
الحارث بن قيس بن هيشة، انفرد بذكره ابن عمارة.
الحارث بن معاذ بن النعمان الانصاري الاشهلي، أخو سعد.
الحارث بن النعمان بن إساف - بكسر الهمزة - الانصاري النجاري، ذكره العدوي فيهم.
قال الحافظ: والصحيح أن الذي شهد بدرا الحارث بن النعمان بن أمية بن امرئ القيس الانصاري الاوسي، ذكروه إلا ابن إسحاق.
حارثة بن زيد بن أبي زهير بن امرئ القيس الانصاري الخزرجي.
ذكره المسيبي، عن محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، وخالفه إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن فليح فقال: خارجة، بالمعجمة والجيم.
حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي الانصاري النجاري.
استشهد يوم بدر.
حارثة بن النعمان بن نقع - بنون مفتوحة فقاف ساكنة فعين مهملة، كذا بخط ابن الامين في الاستيعاب، وكتب تجاهه بالفاء قيده طاهر بن العزيز.
انتهى - ابن زيد بن عبيد الانصاري الخزرجي، وسمى ابن إسحاق جده رافعا.
حاطب بن أبي بلتعة - بفتح الموحدة وسكون اللام بعدها مثناة فوقية مفتوحة ثم مهملة - اللخمي حليف بني أسد بن عبد العزى.
حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود القرشي العامري، أخو سهيل.
حاطب بن عمرو بن عتيك بن أمية الانصاري الاوسي، انفرد أبو عمر بذكره فيهم.
الحباب - بضم الحاء وتخفيف الموحدة الاولى - ابن قيظي بن عمرو سهل الانصاري.
قال الامير: ذكره بعضهم عن ابن إسحاق بالجيم المفتوحة ثم النون، والمحفوظ بالمهملة.
الحباب بن المنذر بن الجموح بن زيد بن حرام الانصاري الخزرجي.
حبيب - بفتح الحاء - ابن أسلم الانصاري، قال ابن أبي حاتم: بدوي.
حبيب بن الاسود مولى الخزرج.
حبيب بن خراش - بإعجام أوله وآخره - ابن حرث بن الصامت التميمي الحنظلي، ذكره ابن الكلبي.(4/97)
حبيب بن سعد مولى الانصار، ذكره ابن عقبة فيهم، قال أبو عمر: وقال غيره: ابن أسود، وقيل: حبيب بن أسلم مولى جشم بن الجزرج، فلا أدري أهما واحد أو اثنان.
حرام - بمهملتين - ابن ملحان - بكسر الميم - واسمه مالك بن خالد الانصاري الخزرجي.
قاله أنس بن مالك.
حريث - بضم الحاء ومثلثة - ابن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الانصاري الخزرجي، أخو عبد الله بن زيد، رأى الاذان.
حصين - بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين - ابن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي.
حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي، أبو عمارة، أسد الله، وسيد الشهداء.
حمزة بن الحميرة - بالتصغير والتثقيل والحاء المهملة - الاشجعي حليف الخزرج.
كذا قال الواقدي.
وقال ابن إسحاق: خارجة وقال ابن عقبة: حارثة وعن أبي معشر روايتان: جرية وجزية بالراء والزاي.
حرف الخاء خارجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك الانصاري الخزرجي.
خالد بن البكير - تصغير بكر - ابن عبد ياليل - بتحتيتين وكسر اللام الاولى - الليثي،
حليف بني عدي.
خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة، أبو أيوب الانصاري.
خالد بن عمرو بن عدي بن نابي - بنون وموحدة مكسورة - الانصاري.
قال ابن الكلبي: شهد بدرا.
خالد بن قيس بن مالك الانصاري الخزرجي.
خباب - بفتح الخاء وتشديد الموحدة - ابن الارت - بتشديد المثناة - ابن جندلة بن سعد التميمي ويقال الخزاعي.
خباب مولى عتبة بن غزوان - بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي - يكنى أبا يحيى.
خبيب - بالتصغير - ابن إساف - بهمزة مكسورة وقد تبدل تحتانية - ابن عتبة - بلفظ واحدة المأكول - ابن عمرو الانصاري الخزرجي.
خبيب بن عدي بن مالك بن عامر الانصاري.(4/98)
خداش - بالدال المهملة - ابن قتادة بن ربيعة الانصاري الاوسي.
قال ابن الكلبي وأبو عبيد: شهدها.
خراش - بكسر الخاء وبالراء والشين المعجمة - ابن الصمة - بكسر الصاد المهملة وتشديد الميم - ابن عمرو بن الجموح الانصاري الخزرجي.
خريم - بضم الخاء وفتح الراء - ابن فاتك - بفاء فمثناة فوقية وكاف - ويقال: خريم بن الاخرم - بفتح الهمزة وإسكان الخاء - ابن شداد الاسدي.
خريمة بن أوس بن يزيد الانصاري النجاري.
خزيمة بن ثابت بن الفاكه - بالفاء وكسر الكاف - ابن ثعلبة بن ساعدة الانصاري الاوسي.
وقيل: أول مشاهده أحد.
خلاد - بتشديد اللام - ابن رافع بن مالك الانصاري الخزرجي.
خلاد بن سويد بن ثعلبة الانصاري الخزرجي.
خلاد بن عمرو بن الجموح الانصاري الخزرجي، ووقع في العيون بعد أن ذكر عمرو ابن الجموح ما نصه: " وإخوته معوذ، وخلاد، ومعاذ ".
انتهى، وصوابه: وأولاده.
خلاد بن قيس بن النعمان الانصاري الخزرجي، انفرد بذكره ابن عمارة.
خليد أو خليدة - بالتصغير - ابن قيس بن النعمان الانصاري الخزرجي.
خليفة، ويقال: عليفة - بالعين المهملة بدل الخاء المعجمة - ابن عدي بن مالك الانصاري الخزرجي.
خنيس - بضم الخاء وفتح النون وسكون المثناة التحتية وإهمال السين - ابن حذافة بن قيس بن عدي السهمي.
خوات - بفتح الخاء وتشديد الواو - ابن جبير - بضم الجيم مصغرا - ابن النعمان، أصابه حجر فرد من الصفراء، ضرب له بسهمه وأجره.
خولي بن أبي خولي بن عمرو بن زهير الجعفي، ويقال: العجلي.
حرف الذال ذكوان بن عبد قيس بن خالد الانصاري الخزرجي.
ذكوان بن عبيد بن ربيعة بن خالد بن معاوية، ذكر الاموي عن ابن إسحاق أنه شهد بدرا.
ذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة - بالنون والمعجمة - الغبشاني الخزاعي، حليف(4/99)
بني زهرة يقال اسمه عمير، ويقال عمرو، ويقال عبد عمرو، وهل هو ذو اليدين أو لا، فيه قولان.
حرف الراء راشد بن المعلى بن لوذان الانصاري الخزرجي أخو رافع، انفرد بذكره ابن الكلبي.
رافع بن جعدبة - بجيم مضمومة فعين ساكنة فدال مضمومة مهملتين - الانصاري الخزرجي.
رافع بن الحارث بن سواد الخزرجي.
رافع بن زيد، وقيل ابن يزيد، وقيل ابن سهل الانصاري.
رافع بن سهل بن رافع بن عدي الانصاري، حليف القواقل، وقيل: شهد بدرا.
رافع ابن عنجدة - بضم العين المهملة والجيم بينهما نون ساكنة وآخره دال مهملة - الانصاري الاوسي.
قال ابن هشام: عنجدة أمه، واسم أبيه الحارث، وقيل رافع بن عنجرة - براء بدل الدال - وهو تصحيف، وقيل رافع بن عنيزة، وهو تحريف.
رافع بن مالك بن العجلان الانصاري الخزرجي، ذكره ابن عقبة وابن إسحاق في رواية يونس ولم يوافقاه.
رافع بن المعلى بن لوذان بن حارثة الانصاري الخزرجي حلفا.
رافع بن يزيد بن كرز الانصاري الاوسي.
ربعي بن أبي ربعي بن رافع بن الحارث بن زيد حليف الاوس.
ربعي بن عمر الانصاري.
الربيع بن إياس بن عمرو بن عثمان الانصاري الخزرجي.
ربيعة بن أكثم - بمثلثة - ابن سخبرة - بسين مهملة فخاء معجمة فموحدة - ابن عمرو الاسدي.
رحيلة بن ثعلبة بن خالد الانصاري الخزرجي.
قال ابن هشام: قاله ابن إسحاق بالجيم، والصواب بالحاء، كذا أطلق، وقيده الدار قطني وغيره بالخاء المعجمة.
رفاعة بن الحارث بن رفاعة الانصاري الخزرجي، وهو رفاعة ابن عفراء، ذكره ابن إسحاق فيهم، وأنكر ذلك الواقدي وغيره.
رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان الانصاري الخزرجي، أبو معاذ.(4/100)
رفاعة بن عبد المنذر بن زنبر - بزاي مفتوحة فنون ساكنة فموحدة فراء - الانصاري الاوسي أخو أبي لبابة.
رفاعة بن عبد المنذر، أحد ما قيل في اسم أبي لبابة.
رفاعة بن عمرو بن زيد بن ثعلبة الخزرجي السالمي.
رفاعة بن عمرو الجهني، ذكره أبو معشر في البدريين.
قال أبو عمر: والصواب وديعة بن عمرو بن نوفل بن عبد الله الانصاري، وقيل: ابن عمر وابن يزيد.
رياب بن حنيف بن رياب بن الحارث الانصاري الاوسي.
وذكره العدوي فيهم.
حرف الزاي زاهر بن حرام الاشجعي.
قال أبو عمر: شهد بدرا، ولم يوافق على ذلك، وقيل تصحف عليه لانه وصف بكونه بدويا بالواو.
الزبير بن العوام بن خويلد القرشي الاسدي.
زياد، وقيل: زيادة بن الاحرش - بحاء مهملة وشين معجمة، وقيل بالعكس - واسمه نشر بن عمرو الجهني حليف الخزرج.
زياد بن السكن بن رافع الانصاري الاوسي، ذكره ابن الكلبي.
زياد بن كعب بن عمرو الجهني حليف الخزرج.
زياد بن لبيد بن ثعلبة الانصاري الخزرجي البياضي.
زيد بن أسلم بن ثعلبة بن عدي حليف الاوس.
زيد بن الحارث الانصاري.
كذا قال عروة.
وقال ابن إسحاق: يزيد.
زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
زيد بن الخطاب أخو عمر أمير المؤمنين رضي الله عنهما.
زيد بن سهل أبو طلحة الانصاري الخزرجي.
زيد بن المزين - بضم الميم وزاي وآخره نون مصغرا - ابن قيس الانصاري الخزرجي.
زيد بن المعلى الانصاري، ذكره أبو عبيد.
زيد بن وديعة بن عمرو بن قيس الانصاري الخزرجي.(4/101)
حرف السين سالم بن عمير - ويقال: ابن عمرو.
ويقال: ابن عبد الله - ابن ثابت بن النعمان الانصاري الاوسي.
سالم بن عوف حليف الانصار، ذكره الاموي عن ابن إسحاق.
سالم مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة.
السائب بن خلاد بن سويد بن ثعلبة الانصاري الخزرجي أبو سلمة، ذكره أبو عبيد.
السائب بن عثمان بن مظعون الجمحي.
السائب بن العوام القرشي الاسدي، أخو الزبير، ذكره ابن حبيب.
سبرة بن فاتك أخو خريم.
صحح البخاري شهوده بدرا.
سبيع بن قيس ابن عائشة بن أمية الانصاري الخزرجي، نقل ابن الكلبي أنه شهد بدرا وأحدا.
سراقة بن عمرو بن عطية الانصاري الخزرجي.
سراقة بن كعب بن عمرو بن عبد العزى الانصاري الخزرجي.
سعد بن إياس الانصاري.
سعد بن خولة القرشي العامري.
سعد بن خولي الكلبي، مولى حاطب بن أبي بلتعة.
سعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك الانصاري الاوسي.
سعد بن الربيع بن عمرو الانصاري الخزرجي.
سعد بن زيد بن مالك الانصاري الاوسي، وقيل: سعيد بن سهل، وقيل: سهل بن مالك الانصاري الخزرجي.
سعد بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة الانصاري الخزرجي، تجهز لبدر فمات، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره.
سعد بن عبادة - بضم المهملة - سيد الخزرج، اختلف في شهوده بدرا، فأثبته البخاري وابن الكلبي والواقدي والمدائني، ووقع التصريح في صحيح مسلم.
سعد بن عبيد - ويقال: عمير - ابن النعمان بن قيس الانصاري الاوسي، أبو زيد القاري.
سعد بن عثمان بن خلدة - بإسكان اللام - ابن مخلد الانصاري الخزرجي.
سعد بن عمير، ويقال: عبيد، تقدم.(4/102)
سعد بن الفاكه بن زيد الانصاري.
سعد بن مالك بن أهيب - ويقال وهيب - القرشي الزهري، أبو إسحاق بن أبي وقاص، أحد العشرة.
سعد بن مالك بن خالد الانصاري الساعدي، والد سهل، تجهز ليخرج إلى بدر فمرض فمات، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره.
سعد بن معاذ بن النعمان الانصاري سيد الاوس.
سعد بن النعمان بن قيس الظفري، ذكره عروة.
سعد - ويقال: سعيد - ابن سهل بن مالك بن كعب الانصاري الخزرجي.
سعد بن عتبة بن غزوان، ذكره أبو عمر أنه شهد بدرا.
سعيد - بكسر العين بعدها مثناة تحتية - ابن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي العدوي، قدم من الشام بعدما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه هو وطلحة
يتجسسان الاخبار من جهة الشام، فوقع القتال قبل أن يرجعا، فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمهما وأجرهما.
سعيد بن قيس بن صخر الانصاري.
سفيان بن بشر - بكسر الموحدة وسكون المعجمة - ويقال نسر - بالنون المفتوحة والسين الساكنة والراء المهملتين - وصوبه الامير الانصاري الخزرجي.
سلمة بن أسلم بن حريس - بالحاء والسين المهملتين - الانصاري الاوسي.
سلمة بن ثابت بن وقش - بفتح الواو وسكون القاف وبالشين المعجمة - الانصاري الاوسي.
سلمة بن سلامة بن وقش الانصاري الاوسي.
سليط - بفتح السين المهملة وكسر اللام - ابن قيس بن عمرو بن عبد الله الانصاري الخزرجي.
سليم - بضم أوله وفتح اللام وسكون المثناة التحتية - ابن الحارث بن ثعلبة الانصاري الخزرجي.
سليم بن عقرب، ذكره ابن أبي حاتم.
سليم بن قيس بن قهد - بالقاف - الانصاري الخزرجي.
سليم بن ملحان الانصاري الخزرجي.(4/103)
سليم أبو كبشة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سماك - بكسر أوله وتخفيف الميم - ابن خرشة - بفتح الخاء المعجمة والراء بالشين المعجمة - أبو دجانة - بدال مهملة مضمومة فجيم خفيفة فألف فنون فهاء - الانصاري الخزرجي.
سماك بن سعد بن ثعلبة الانصاري الخزرجي.
سنان بن صيفي بن حجر الانصاري الخزرجي.
ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أنه بدري.
والذي عند ابن إسحاق: أبو سنان بن صيفي، فإن لم يكن أخا هذا فأحد القولين وهم.
سنان بن أبي سنان وهب بن محصن الاسدي ابن أخي عكاشة.
سهل بن حنيف - بضم الحاء المهملة وفتح النون - ابن واهب بن العكيم، بضم العين المهملة وفتح الكاف.
سهل بن رافع الانصاري الخزرجي، أخو سهيل.
سهل بن عتيك - بكاف وزن عتيق - ابن النعمان الانصاري.
سهل بن قيس الانصاري الخزرجي.
سهل بن عدي الانصاري الخزرجي.
سهيل - بالتصغير - ابن بيضاء وهي أمه، واسمها دعد، واسم أبيه وهب بن ربيعة القرشي.
سهيل بن رافع الانصاري الخزرجي.
سهيل بن قيس، ذكره ابن الكلبي.
قال الحافظ: تقدم ذكر سهل، فما أدري أهما وا أم اثنان ؟ سواد بن رزين بن الانصاري الخزرجي، كذا قال الواقدي وابن عمارة.
وقال ابن عقبة: هو سواد بن رزين.
وقال ابن إسحاق، وأبو معشر: سواد بن زريق قال ابن الجوزي في التلقيح: وهو تصحيف من رواتهما.
سواد بن غزية - بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد التحتية - البلوي حليف الخزرج.
سويبط بن حرملة - ويقال: ابن سعد بن حرملة - ابن مالك القرشي العبدري.
سويد بن مخشي - بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وكسر الشين المعجمة فتحتية - الطائي، ذكره أبو معشر، ويقال فيه: أربد.(4/104)
حرف الشين المعجمة شجاع بن وهب - ويقال ابن أبي وهب - ابن ربيعة الاسدي.
شريك بن أنس بن رافع الانصاري الاوسي.
شقران - بضم أوله وبالقاف - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شماس - بشين معجمة فميم مشددة وآخره سين مهملة - ابن عثمان بن الشريد بالشين المعجمة - القرشي المخزومي.
حرف الصاد المهملة صالح بن عدي مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو شقران.
صامت مولى حبيب بن خراش حليف الانصار، زعم ابن الكلبي أنه شهد بدرا هو ومولاه.
صبيح - بفتح الصاد وكسر الموحدة - مولى العاص بن أمية، وقيل: رجع لمرض أصابه.
صخر بن أمية بن خنساء الانصاري، ذكره يحيى بن سعد الاموي، عن ابن إسحاق.
صفوان بن عمرو، ذكر ابن الكلبي أنه شهد بدرا.
صفوان بن وهيب - ويقال: أهيب.
ويقال: سهيل - ابن ربيعة، وهو ابن بيضاء أخو سهل، وسهيل، استشهد ببدر.
صهيب بن سنان بن مالك، ويقال: خالد النمري.
صيفي بن سواد بن عبادة بن عمرو الانصاري الخزرجي.
حرف الضاد المعجمة الضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة الانصاري الخزرجي.
الضحاك بن عبد عمرو [ بن مسعود ] الانصاري الخزرجي.
الضحاك بن قيس بن خالد بن وهب الفهري، وقع في الكنى لمسلم بن الحجاج أنه شهد بدرا، ووهمه في ذلك الحافظ أبو القاسم بن عساكر.
ضمرة بن عمرو بن كعب.
وقيل: ضمرة الجهني، حليف بني طريف بن الخزرج من الانصار.
ضمرة بن كعب بن عمرو بن عدي الجهني، حليف بني ساعدة.(4/105)
حرف الطاء المهملة طارق بن عبيد بن مسعود الانصاري، ذكره ابن منده.
الطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف القرشي المطلبي.
الطفيل بن مالك بن خنساء الانصاري الخزرجي.
طلحة بن عبيدالله بن عثمان القرشي التيمي، أبو محمد أحد العشرة، كان عند وقعة بدر في جهة الشام، أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم يكشف له خبر العير، فأتى بعد الوقعة، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره.
طلحة بن عمرو بن أكبر بن ربيعة الحضرمي، حكى الرشاطي عن الهمداني، أنه شهد بدرا.
طليب - بالتصغير - ابن عمير - أو عمرو - ابن وهب، ذكره الواقدي.
حرف الظاء المعجمة ظهير - بالتصغير - ابن رافع بن عدي بن زيد الانصاري، عم رافع بن خديج، روى البخاري في الصحيح أنه شهدها هو وأخوه مظهر - بضم الميم وفتح الظاء المعجمة وتشديد الهاء المكسورة - وأنكر ذلك الحافظ الدمياطي، ومن أثبت شهودهما أثبت ممن نفاه، ومعه زيادة علم.
حرف العين المهملة
عاصم بن ثابت بن أبي الافلح قيس بن عصمة الانصاري الاوسي، والاقلح، بالقاف واللام والحاء المهملة.
عاصم بن عدي بن الجد بن العجلان البلوي حليف الاوس، خرج إلى بدر فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم من الروحاء، واستخلفه على أهل العالية لشئ بلغه عنه، وضرب له بسهمه وأجره.
عاصم بن العكير - بصيغة الصغير - المزني حليف الخزرج، ذكره ابن عقبة وجماعة منهم الطبري.
والله تعالى أعلم.
عاقل بن قيس بن ثابت الانصاري الاوسي.
عاقل - بالقاف - ابن البكير - بضم الباء وفتح الكاف - الليثي، حليف بني عدي.
عامر بن أمية بن زيد بن الحسحاس - بمهملات - الانصاري الخزرجي.
عامر بن البكير الليثي أخو عاقل.(4/106)
عامر بن ثابت بن أبي الاقلح أخو عاصم.
عامر بن زهير الفهري، وسماه ابن عقبة والبكائي، عن ابن إسحاق: عقبة بن عمرو بن الحارث.
عامر بن ربيعة بن كعب العنزي - بنون مفتوحة فزاي - حليف بني عدي.
عامر بن سعد بن عمرو بن ثقف الانصاري الخزرجي.
عامر بن سلمة بن عامر البلوي حليف الخزرج، ويقال: اسمه عمرو.
عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال القرشي الفهري أبو عبيدة، أحد العشرة رضي الله عنهم.
عامر بن عبد الله البدري.
عامر بن عبد عمرو، وقيل: ابن عمر، ويقال: هو اسم أبي حية البدري.
عامر بن العكير الانصاري.
قال المستغفري: شهد بدرا والمعروف عاصم بن العكير فلعله أخوه.
عامر بن عوف بن حارثة الانصاري.
عامر بن فهيرة - بضم الفاء وفتح الهاء وسكون التحتية - مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
عامر بن مخلد - بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام المفتوحة - ابن الحارث الانصاري الخزرجي.
عامر بن السكن بن رافع الانصاري الاوسي.
عايذ - بالمثناة التحتية والذال المعجمة - ابن ماعص - بعين فصاد مهملتين - ابن قيس الانصاري الخزرجي.
عباد - بتشديد الموحدة - ابن بشر بن وقش - بفتح الواو وسكون القاف وآخره شين معجمة - الانصاري الاوسي.
عباد بن عبيد بن التيهان - بفتح المثناة الفوقية وكسر المثناة التحتية وتفتح وتشديدها - نقل أبو عمر عن الطبري أنه شهد بدرا.
عباد بن قيس بن عامر الانصاري الخزرجي.
عباد بن قيس بن عبسة - بعين مهملة فموحدة مفتوحة - الانصاري الخزرجي.(4/107)
عبادة - بالضم والتخفيف وزيادة هاء - ابن الخشخاش - بمعجمات - ابن عمرو البلوي حليف الخزرج، يقال اسمه عبدة.
عبادة بن الصامت بن قيس الانصاري الخزرجي.
عبادة بن قيس، تقدم في عباد.
عبد الله بن أنيس الجهني حليف الانصار.
عبد الله بن أوس بن وقش، وقيل: عبد الله بن حق - بكسر الحاء المهملة وتشديد القاف - الانصاري الاوسي.
عبد الله بن جحش بن رياب - براء مكسورة فتحتانية وآخره موحدة - الاسدي.
عبد الله بن الجد - بكسر الجيم - ابن قيس الانصاري الخزرجي.
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، لغيبته بالحبشة.
عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي، اختلف في شهوده بدرا.
عبد الله بن الحمير - بالتصغير والحاء المهملة - الاشجعي حليف الخزرج.
عبد الله بن حق - بحاء مهملة فقاف - ابن أوس، قيل: هو عبد الله بن أوس، تقدم.
عبد الله بن أبي خولي.
عبد الله بن أبي خيثمة بن قيس الانصاري الخزرجي.
عبد الله بن الربيع بن قيس الانصاري الخزرجي.
عبد الله بن رواحة بن ثعلبة الانصاري الخزرجي.
عبد الله بن زيد بن عاصم الانصاري أبو محمد، اختلف في شهوده بدرا.
عبد الله بن سراقة بن المعتمر، ذكره ابن إسحاق وابن بكار فيهم.
عبد الله بن سعد بن خيثمة الانصاري الاوسي، اختلف في شهوده بدرا.
عبد الله بن سلمة - بكسر اللام - ابن مالك بن الحارث البلوي حليف الاوس.
عبد الله بن سهل بن رافع الانصاري.
عبد الله بن سهل بن زيد الانصاري الاوسي.
عبد الله بن سهل بن عمرو العامري.
أسلم قبل الهجرة إلى الحبشة وعذب فأظهر أنه ارتد، فلما خرج المشركون إلى بدر فر إلى المسلمين فشهد بدرا معهم مسلما.(4/108)
عبد الله بن شريك بن أنس بن رافع الانصاري الاوسي.
عبد الله بن طارق بن عمرو البلوي حليف بني ظفر.
عبد الله بن عامر البلوي حليف الخزرج، ذكره أبو عمر، وقال الحافظ: لعله عبد الله بن طارق السابق.
عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول الانصاري الخزرجي.
عبد الله بن عبد مناف بن النعمان الانصاري الخزرجي.
عبد الله بن عبس - بسكون الموحدة - الانصاري الخزرجي.
ويقال في اسمه عبيس بالتصغير.
عبد الله عتيك بن قيس.
قال أبو عمر: أظنه شهد بدرا.
عبد الله بن عثمان بن عامر القرشي التيمي أبو بكر الصديق الاكبر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عبد الله بن عرفجة الاوسي.
عبد الله بن عرفطة الانصاري الخزرجي.
عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة الانصاري الخزرجي.
عبد الله بن عمير بن حارثة الانصاري الخزرجي.
عبد الله بن قيس بن خالد الانصاري الخزرجي.
عبد الله بن قيس بن صخر الانصاري.
عبد الله بن كعب بن عمرو الانصاري الخزرجي.
عبد الله بن كعب بن زيد الانصاري.
عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى القرشي العامري.
عبد الله بن المزين أخو زيد، ذكره ابن عقبة.
عبد الله بن مسعود بن غافل - بغين معجمة وفاء - الهذلي.
عبد الله بن مظعون - بالظاء المعجمة المشالة - الجمحي.
عبد الله بن نضلة - بالنون - ابن مالك الانصاري الخزرجي، ذكره ابن الكلبي.
عبد الله بن النعمان بن بلذمة - بفتح الموحدة والذال المعجمة بينهما لام ساكنة، وقيل: بضمتين ومهملة - ابن خناس - بخاء معجمة مضمومة وتخفيف النون آخره سين(4/109)
مهملة - الانصاري الخزرجي، اختلف في شهوده بدرا.
عبد الله بن هيشة - بهاء مفتوحة فتحتية ساكنة فشين معجمة - ابن النعمان الانصاري، ذكره الاموي، عن ابن إسحاق.
عبد الرحمن بن جبر - بجيم مفتوحة فموحدة ساكنة - ابن عمرو بن زيد الانصاري الاوسي.
عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة الانصاري أبو عقيل، بفتح العين.
عبد الرحمن بن عوف الزهري - أحد العشرة - عبد رب، ويقال بزيادة هاء، ابن حق - بكسر الحاء وتشديد القاف، كما في نسخة صحيحة من العيون ونسخة من الاستيعاب بخط ابن الامير - ابن أوس بن عامر الانصاري الخزرجي.
عبد - بغير إضافة - ابن عامر الانصاري.
عبدة، ويقال: عبادة بن الحسحاس - بإهمال السين والحاء وبإعجامهما - البلوي، حليف الخزرج.
عبس - بالموحدة - ابن عامر بن عدي الانصاري الخزرجي.
عبيد - بالتصغير - ابن أوس بن مالك الانصاري الاوسي الظفري.
عبيد - وقيل: عتيك - ابن التيهان.
عبيد بن ثعلبة الانصاري.
عبيد بن زيد بن عامر بن العجلان الانصاري الخزرجي.
عبيد بن أبي عبيد الاوسي.
عبيد بن السكن، ذكره الواقدي فيهم.
عبيدة - بضم أوله وفتح الموحدة - ابن الحارث بن المطلب القرشي.
عبيدة - بفتح أوله - ابن ربيعة بن جبير - بالتصغير البهراني - بفتح الموحدة وسكون الهاء وبالراء والنون - حليف الانصار.
عتبان - بكسر أوله - ابن مالك بن عمرو بن العجلان الانصاري الخزرجي.
عتبة بن ربيعة بن خالد بن معاوية البهراني، حليف الخزرج.
عتبة بن عبد الله بن صخر الانصاري الخزرجي.
عتبة بن غزوان - بفتح المعجمة وسكون الزاي - ابن جابر المازني، حليف قريش.(4/110)
عتيك بن التيهان، سبق في عبيد.
عثمان بن حنيف - بالمهملة والنون مصغرا - الانصاري.
قال الترمذي وحده: شهد بدرا.
عثمان بن عفان أمير المؤمنين، خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة على زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمرضها وضرب له بسهمه وأجره.
عثمان بن عمرو بن رفاعة الانصاري.
عثمان بن عمر الانصاري.
عثمان بن مظعون - بالظاء المعجمة المشالة - ابن حبيب الجمحي.
العجلان بن النعمان بن عامر الانصاري الخزرجي الزرقي.
عدي بن خليفة البياضي، ذكره أبو عبيد بن سلام فيمن شهد بدرا.
عدي بن أبي الزغباء - بفتح الزاي وسكون الغين المعجمة فموحدة فألف ممدودة - واسم أبي الزغباء سنان بن سبيع بن ثعلبة الجهني، حليف الخزرج.
عصمة بن الحصين بن وبرة [ بن خالد بن العجلان ] الانصاري الخزرجي.
عصمة - ويقال عصيمة بالتصغير - الاسدي، حليف بني مازن بن الخزرج.
عصمة - ويقال عصيمة بالتصغير - الاشجعي، حليف بني مالك بن النجار بن الخزرج.
عطية بن نويرة بن عامر الانصاري الخزرجي الزرقي، ذكره ابن الكلبي.
عقبة بن حليس - بمهملتين مصغرا - ابن دهمان الاشجعي، ذكره ابن الكلبي.
عقبة بن ربيعة حليف بني عوف من الخزرج، ذكره ابن عقبة.
عقبة بن عامر بن نابي - بنون وموحدة وزن قاضي - ابن زيد الانصاري الخزرجي.
عقبة بن عثمان بن خلدة - بالخاء المعجمة - ابن مخلد الانصاري الخزرجي.
عقبة بن عمرو بن ثعلبة الانصاري الخزرجي أبو مسعود البدري، قال الاكثر: نزل بدرا فنسب إليها، وجزم البخاري بأنه شهدها، واستدل بأحاديث رواها في صحيحه في بعضها التصريح بأنه شهدها، منها حديث عروة بن الزبير عن بشير بن أبي مسعود قال: أخر المغيرة العصر فدخل عليه أبو مسعود عقبة بن عمرو جد زيد بن حسن، وكان قد شهد بدرا.
وقال أبو عبيد بن سلام ومسلم في الكنى: شهد بدرا.
وقال ابن البرقي: لم يذكره ابن إسحاق فيهم،(4/111)
وورد في عدة أحاديث أنه شهدها.
والقاعدة أن المثبت مقدم على النافي.
عقبة بن وهب - ويقال ابن أبي وهب - ابن ربيعة الاسدي.
عقبة بن وهب بن كلدة بن الجعد ويقال: كلدة بن وهب الغطفاني حليف بني سالم من الانصار.
عكاشة - بضم أوله وتشديد الكاف وتخفف، قال النووي: والأول هو الاكثر - ابن محصن - بكسر الميم وفتح الصاد - ابن حرثان - بضم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة - ابن قيس الاسدي، حليف بني عبد شمس.
علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي أمير المؤمنين أبو الحسن رضي الله عنه.
عمار بن ياسر بن مالك العنسي - بالنون - أبو اليقظان، حليف بني مخزوم.
عمارة بن حزم بن زيد الانصاري الخزرجي.
عمارة بن أبي حسن الانصاري.
قال ابن حبان وابن السكن: شهد بدرا واستدل لذلك بما رواه ابن قانع وابن السكن من طريق حسين بن عبد الله الهاشمي، عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن حسن عن أبيه، عن جده، وكان عقيبا بدريا، ووقع عند البغوي عن أبيه عن جده أبي حسن، فعلى هذا فالضمير في قوله: عن جده يعود على يحيى لاعلى عمرو، فيكون الحديث لابي حسن، ولا خلاف في شهوده بدرا.
عمارة بن زياد بن السكن الانصاري الاوسي، قال ابن الكلبي: قتل يوم بدر وتعقب بأنه استشهد بأحد.
عمر بن الخطاب بن نفيل أمير المؤمنين أبو حفص القرشي العدوي رضوان الله عليه.
عمرو - بفتح العين وسكون الميم - ابن أنس الخزرجي، ذكره البارودي فيهم.
عمرو بن إياس بن تزيد - بالمثناة الفوقية والزاي - حليف الانصار.
عمرو بن ثعلبة بن وهب الانصاري الخزرجي.
عمرو بن الجلاس بن عوف الانصاري الخزرجي.
عمرو بن الجموح الانصاري الخزرجي.
عمرو - وقيل عمير - ابن الحارث الانصاري الخزرجي.
عمرو بن الحارث بن زهير ذكره ابن عقبة.
عمرو بن خارجة بن قيس الانصاري الخزرجي.(4/112)
عمرو بن أبي زهير بن مالك الانصاري، ذكره ابن عقبة.
عمرو بن سراقة - بضم السين المهملة - ابن العنبر بن أنس القرشي العدوي، ذكره ابن عقبة.
عمرو بن أبي سرح - بمهملات والراء ساكنة - ابن ربيعة بن هلال القرشي الفهري.
عمرو بن طلق بن زيد بن أمية الانصاري الخزرجي.
عمرو بن عبد عمرو بن نضلة ذو الشمالين، استشهد يوم بدر.
عمرو - ويقال عمير - ابن عقبة الانصاري، ذكره المستغفري.
عمرو بن عمير بن عدي بن نابي - بالنون - الانصاري.
عمرو بن عمرو بن ضبة، ذكره الواقدي وأبو معشر.
عمرو - ويقال: عمير - مولى سهيل بن عمرو.
عمرو بن عنمة - بمهملة ونون مفتوحتين - ابن عدي الانصاري.
عمرو بن غزية - بغين معجمة مفتوحة فزاي مكسورة فمثناة تحتية مثقلة - ابن عمرو بن ثعلبة الانصاري.
عمرو بن قيس بن حزن بن عدي الانصاري الخزرجي، ذكره يونس عن ابن إسحاق.
عمرو بن قيس بن خارجة الانصاري، ذكره أبو عبيدة معمر بن المثنى.
عمرو بن قيس بن زيد بن سواد بن مالك الانصاري الخزرجي، ذكره الواقدي وأبو معشر.
عمرو بن مازن الانصاري من بني الخنساء بن مبذول، ذكره يونس عن ابن إسحاق.
عمرو - ويقال عمير - ابن معبد بن الازعر بن زيد الانصاري الاوسي.
عمرو بن معاذ بن النعمان الانصاري الاوسي أخو سعد.
عمير - بالتصغير - ابن الحارث بن ثعلبة الانصاري الخزرجي.
عمير بن حرام - براء - ابن عمرو الانصاري الخزرجي، ذكره الواقدي وابن عمارة.
عمير بن الحمام - بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم - ابن الجموح الانصاري
الخزرجي.
عمير بن عامر بن مالك أبو داود - بتقديم الالف على الواو - المازني.
عمير بن عامر بن نابي أخو عقبة، انفرد بذكره ابن الكلبي.
عمير بن عبد عمرو بن نضلة - بالنون والمهملة - الخزاعي، كان يعمل بيديه جميعا فقيل له: ذو اليدين.
استشهد ببدر.(4/113)
عمير بن عوف مولى سهيل بن عمرو.
عمير بن أبي وقاص القرشي الزهري، أخو سعد.
عنترة بن عمرو مولى سليم بن حديدة.
عوف بن أثاثة - بضم الهمزة وثاءين مثلثتين - ابن عباد بن عبد المطلب القرشي لقبه مسطح.
عوف بن الحارث الانصاري الخزرجي وهو ابن عفراء.
عويم - بصيغة التصغير وليس في آخره راء - ابن ساعدة بن عايش - بالتحتية بلاهاء - الانصاري الاوسي.
عويمر - آخره راء - ابن أشقر بن عدي الانصاري، وقع في بعض طرق حديثة أنه بدري.
عياش بن أبي ربيعة عمرو بن المغيرة، ذكر العسكري أنه شهد بدرا وغلطوه.
عياض بن زهير القرشي الفهري.
حرف الغين المعجمة غنام - بتشديد النون - ابن أوس الانصاري الخزرجي.
حرف الفاء الفاكه بن بشر - بكسر الموحدة وإسكان الشين المعجمة، ويقال فيه نشر، بفتح النون وبالسين المهملة، وقيل فيه غير ذلك - ابن الفاكه بن زيد الانصاري.
فروة بن عمرو بن ودقة - قاله ابن إسحاق بإعجام الذال، وابن هشام بإهمالها، ورجحه في الروض وفسر الودقة بالروضة الناعمة - ابن عبيد الانصاري الخزرجي.
حرف القاف قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر بن سواد - بتخفيف الواو وبالدال المهملة - الانصاري الاوسي.
قدامة بن مظعون القرشي الجمحي.
قطبة بن عامر بن حديدة - بالحاء المهملة - الانصاري الخزرجي.
قيس بن البكير - بضم الباء وفتح الكاف - ابن عبد ياليل الليثي، ذكره ابن الكلبي.
قيس بن خالد الفزاري، ذكره في التجريد.
قيس بن الربيع الانصاري، ذكر المبرد في الكامل أنه شهد بدرا.(4/114)
قيس بن السكن بن عوف الانصاري.
قيس بن عباية - بفتح العين وتخفيف الموحدة وبالمثناة التحتية - ابن عبيد بن الحارث الخولاني، ذكره عبد الجبار بن محمد بن مهني فيمن شهد بدرا.
قيس بن عمرو بن قيس بن زيد الانصاري الخزرجي، قال أبو عمر: اختلف في شهوده بدرا.
قيس بن أبي بن كعب بن القين الانصاري عم كعب بن مالك، ذكره ابن الكلبي.
قيس بن محصن - بكسر الميم وإسكال الحاء وفتح الصاد المهملة - ابن خلدة الانصاري الخزرجي.
قيس بن مخلد - بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام - ابن ثعلبة بن صخر الانصاري الخزرجي.
حرف الكاف
كثير بن عمرو السلمي، روى أبو العباس السراج، عن محمد بن الحسن التل - بالمثناة الفوقية وباللام - عن ابن إسحاق أنه ذكره فيمن شهد بدرا.
كعب بن جماز - بجيم فميم مشددة فزاي، ويقال: حمان بحاء مهملة مكسورة ونون ويقال: حمار بلفظ الحيوان - ابن ثعلبة الجهني، ويقال: الغساني.
كعب بن يد بن قيس الانصاري الخزرجي.
كعب بن عامر الساعدي، ذكره الباوردي فيهم.
كعب بن عمرو الانصاري الخزرجي أبو اليسر، بفتح التحتانية والمهملة.
كناز - بفتح الكاف وتشديد النون وبالزاي - ابن الحصين الغنوي - بفتح الغين المعجمة والنون - أبو مرثد، بمثلثة وزن جعفر.
حرف اللام لبدة بن قيس بن النعمان بن حسان الانصاري الخزرجي، ذكره ابن الكلبي.
حرف الميم مالك بن أمية بن عمرو السلمي.
مالك بن التيهان الانصاري الاوسي أبو الهيثم.
مالك بن ثابت المزني، يعرف بابن نملة أو نميلة وهي أمه، حليف بني معاوية.(4/115)
مالك بن الدخشم - بضم الدال المهملة والشين المعجمة بينهما خاء كذلك، ويقال بالنون بدل الميم، ويقال كذلك بالتصغير - الانصاري الخزرجي.
مالك بن رافع الانصاري الزرقي.
مالك بن ربيعة بن البدن - بالدال المهملة والنون - ابن عامر الانصاري الخزرجي أبو أسيد - بضم أوله - الساعدي.
مالك بن رفاعة بن عمر الانصاري الخزرجي.
مالك بن عمرو بن ثابت أبو حبة - بالحاء المهملة المفتوحة والموحدة المشددة - الانصاري.
مالك بن عمرو بن سميط أخو ثقف.
مالك بن عمرو السلمي ويقال: العدوي حليف بني أسد.
مالك بن عميلة بن السياق بن عبدالدار، كذا نقله أبو عمر، عن ابن عقبة، ونازعه في ذلك الحافظ بأنه لم يجد ذلك في مغازيه، ولا ذكر له في مغازي ابن إسحاق والواقدي، وذكره الزبير بن بكار في أنساب بني عبد الدار، ولم يصفه بإسلام فضلا عن شهوده بدرا.
مالك بن قدامة الانصاري الاوسي.
مالك بن مسعود بن البدن الانصاري الساعدي.
مالك بن نميلة، تقدم في مالك بن ثابت.
مالك بن عبد المنذر بن زنبر - بزاي فنون فموحدة وزن جعفر - الانصاري أخو أبي لبابة استشهد ببدر.
مبشر بن عبد المنذر أخو مالك السابق المجذر - بميم مضمومة فجيم مفتوحة فذال معجمة مشددة فراء - ابن دثار - بدال مهملة فمثلثة - ابن عمرو البلوي حليف الخزرج.
محرز - بضم الميم وإسكان الحاء المهملة وكسر الراء بعدها زاي، وقيل بمهملتين، وزن محمد - ابن عامر بن مالك الانصاري الخزرجي.
محرز - براء فزاي - ابن نضلة - بنون فضاد معجمة - ابن عبد الله بن الاسدي يعرف بالاخرم.
محمد بن سلمة بن خالد الانصاري الاوسي.
محمية - بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الميم وفتح المثناة التحتية - ابن(4/116)
جزء - بفتح الجيم وسكون الزاي ثم همزة - ابن عبد يغوث الزبيدي - بضم أوله - حليف بني
سهم، كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاخماس، انفرد ابن الكلبي بذكره فيهم.
مدلاج: ويقال: مدلج بن عمرو الاسلمي أخو ثقف ومالك.
مرارة بن الربيع الانصاري الاوسي، ذكره فيهم الزهري، ونسب إلى الوهم، وربما في الصحيح بن كعب بن مالك في قصة توبته، وذكروا مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي رجلين صالحين شهدا بدرا.
قال الحافظ: وكان البخاري عرف أن بعض الناس ينكر أن يكون مرارة وهلال بن أمية شهدا بدرا، ويثبت الوهم إلى الزهري فرد ذلك لنسبته إلى كعب بن مالك، وهو ظاهر السياق، فإن الحديث عنه قد أخذ وهو أعرف بمن شهد بدرا.
ممن لم يشهدها ممن جاء بعده، والاصل عدم الاخذ عند الاخراج فلا يثبت إلا بدليل.
ويؤيد كون وصفهما بذلك من كلام كعب أن كعبا ساقه في مقام التأسي بهما، فوصفهما بالصلاح، وبشهود بدر التي هي أعظم المشاهد، فلما وقع لهما نظير ما وقع له من القعود عن غزوة تبوك، ومن الامر بهجرهما، كما وقع له تأسى بهما.
وأما قول بعض المتأخرين كالدمياطي: لم يذكر أحد مرارة وهلالا فيمن شهد بدرا فمردود عليه، فقد جزم البخاري هنا وتبعه جماعة، وقد ذكر هشام بن الكلبي أن مرارة وهلالا شهدا بدرا، واحتج ابن القيم بأنهما لو شهدا بدرا ما عوقبا بالهجر الذي وقع لهما، بل كانا يسامحان بذلك كما سومح حاطب بن أبي بلتعة.
قال الحافظ: وهو قياس مع وجود النص، ويمكن الفرق وبالله التوفيق.
وقال في الاصابة: شهدا بدرا على الصحيح.
مرثد - بفتح الميم المثلثة - ابن أبي مرثد بن كناز - بكاف مكسورة فنون مشددة وزاي - ابن الحصين الغنوي البدري.
مرة بن الحباب بن عدى بن الجد بن العجلان البلوي حليف آل عمرو بن عوف، انفرد بذكره ابن الكلبي.
مسطح - بكسر الميم وبالسين وفتح الطاء وبالحاء المهملات - ابن أثاثة - بضم الهمزة وتخفيف المثلثة - ابن عباد بن عبد المطلب القرشي المطلبي، اسمه عوف، وتقدم.
مسعود بن أوس بن أحرم بن زيد الانصاري الخزرجي.
مسعود بن الربيع، ويقال: ابن ربيعة.
مسعود بن زيد بن سبيع الانصاري الخزرجي أبو محمد.
مسعود بن سعد بن قيس بن خلدة بن عامر الانصاري الخزرجي.(4/117)
مسعود بن سعد، ويقال: ابن عبد سعد، ويقال: ابن عبد مسعود بن عامر بن عدي بن جشم الانصاري الاوسي.
مصعب بن عمير بن هاشم القرشي العبدري.
مضطجع بن أثاثة أخو مسطح.
معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الانصاري الخزرجي الامام المقدم في علم الحلال والحرام، رضي الله عنه.
معاذ بن الحارث بن رفاعة بن الحارث الانصاري الخزرجي المعروف بابن عفراء.
معاذ بن عمرو بن الجموح بن زيد الانصاري الخزرجي.
معاذ بن ماعص، ويقال: معاص، ويقال: ناعص - بالنون والعين والصاد المهملتين - الانصاري الزرقي.
معبد بن عباد بن قشعر - بفتح القاف وسكون الشين المعجمة - ويقال: قشير بن الفدم - بالفاء وإسكان الدال المهملة وبالميم - الانصاري الخزرجي، ووقع في العيون: عبادة بالهاء، وتعقب.
معبد بن قيس الانصاري الخزرجي.
معبد بن وهب العصري.
معتب - بضم أوله وبفتح العين المهملة وكسر المثناة الفوقية المشددة بعدها موحدة - ابن عبيد - ويقال عبد - ابن إلياس البلوي حليف بني ظفر من الاوس.
معتب بن عوف السلولي المعروف بابن الحمراء الخزاعي.
معتب بن قشير - بقاف ومعجمة مصغرا - الانصاري الاوسي.
معقل - بعين مهملة وقاف - ابن المنذر الانصاري السلمي.
معمر - بفتح الميمين - ابن الحارث بن معمر القرشي الجمحي أخو حاطب.
معمر بن حبيب.
معمر بن أبي سرح بن ربيعة بن هلال، ذكره الواقدي وأبو معشر.
معن بن عدي بن الجد - بكسر الجيم - ابن العجلان البلوي حليف الاوس.
معن بن يزيد، يقال: إنه شهد بدرا.
معوذ - بضم الميم وتشديد الواو مفتوحة ومكسورة - ابن الحارث الانصاري(4/118)
الخزرجي، وهو ابن عفراء.
معوذ بن عمرو بن الجموح بن زيد الانصاري الخزرجي، ذكره ابن عقبة وأبو معشر والواقدي.
معيقيب - بقاف وآخره موحدة مصغرا - ابن أبي فاطمة الدوسي حليف بني عبد شمس، ذكره ابن حبان فيهم، وتبعه المزني والذهبي وأبو الفتح.
المقداد بن الاسود الكندي هو ابن عمرو بن ثعلبة الانصاري.
مليل - بلامين مصغرا - ابن وبره - بفتح الموحدة - الانصاري الخزرجي.
المنذر بن عمرو بن خنيس الانصاري الخزرجي.
المنذر بن قدامة بن عرفجة الانصاري الاوسي.
المنذر بن محمد بن عقبة الانصاري الاوسي.
مهجع - بكسر الميم وإسكان الهاء فجيم مفتوحة فعين مهملة - ابن صالح الكلبي مولى عمر بن الخطاب.
حرف النون نضر - بالضاد المعجمة ويقال بالمهملة - ابن الحارث بن عبيد بن رزاح - بفتح الراء - الانصاري، ذكروه.
النعمان بن الاعرج بن مالك بن ثعلبة الانصاري الخزرجي.
النعمان بن ثابت بن النعمان أبو الصباح الانصاري الاوسي.
النعمان بن خزيمة - بالخاء المعجمة، ويقال بالمهملة - الانصاري الاوسي.
النعمان بن سنان مولى بني غنم بن عدي بن الخزرج.
النعمان بن عبد عمرو الانصاري الخزرجي.
النعمان - في الاصح، ويقال: لقيط - ابن عصر - بالتحريك، وقيل بكسر العين، وقيل بفتحها وسكون الصاد فيهما وقيل غير ذلك - البلوي حليف الاوس.
النعمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن غنم بن مالك بن النجار الانصاري.
النعمان بن قوقل - بقافين مفتوحتين - ابن أحرم الانصاري.
النعمان بن مالك بن ثعلبة بن عدي بن فهر بن ثعلبة بن غنم الانصاري الخزرجي.(4/119)
نعيمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار الانصاري.
نعيمان بن عمرو، أخر ذكره ابن دريد في الاشتقاق وقال: إنه شهد بدرا واستشهد بأحد قال الحافظ: وهو غير الذي قبله، لان ذلك له قصة مع مخرمة في زمن عثمان، وجزم ابن سعد بأنه بقي إلى زمن معاوية، ولعله النعمان بن عمرو، بغير تصغير، وقد مضى ذكره.
نهيك بن التيهان - بمثناة مفتوحة فتحتية مشددة مكسورة - الانصاري أخو أبي الهيثم، نقل الاموي عن ابن إسحاق أنه شهد بدرا.
نوفل بن ثعلبة بن عبد الله بن ثعلبة بن نضلة بن مالك الانصاري الخزرجي.
نوفل بن عبد الله بن نضلة، ذكره ابن الاثير: قال الحافظ: وأظن ابن الاثير صحف جده، وإنما هو ثعلبة وتقدم، قلت: قد سبق ابن الاثير إلى ذكره ابن الجوزي في التلقيح، فلعله آخر.
حرف الهاء هانئ بن نيار - بكسر النون وتخفيف التحتية وبالراء - ابن عمرو البلوي أبو بردة حليف الانصار.
هبيل - بضم أوله وفتح الموحدة وسكون المثناة التحتية ثم لام - ابن وبرة الانصاري الخزرجي.
هران - بنون بدل اللام - ابن عمرو بن قربوس الانصاري.
هشام بن عتبة بن ربيعة، يقال هو اسم أبي حذيفة.
هلال بن أمية بن عامر الانصاري، تقدم في ترجمه مرارة بن الربيع.
هلال بن أبي خولي بن عمرو الجعفي ذكره ابن عقبة وابن الكلبي.
هلال بن المعلى بن لوذان الانصاري الخزرجي حلفا.
همان بن الحارث بن حمزة، ذكره أبو عمر.
حرف الواو واقد بن عبد الله بن عبد مناف التميمي اليربوعي حليف بني عدي بن كعب.
ودقة بن إياس بن عمرو الانصاري الخزرجي، اختلف في ضبطه فقيل بالفاء.
وقيل: بالقاف، والاكثر أنه بالدال المهملة، وقيل بالمعجمة، وذكره ابن هشام بالراء، وكذا هو في(4/120)
بعض النسخ من كتاب ابن عقبة.
وديعة بن عمرو الجهني حليف الخزرج.
وهب بن أبي سرح بن الحارث بن حبيب القرشي العامري، نقله أبو عمر عن مغازي ابن عقبة وتعقب في ذلك.
وهب بن سعد بن أبي سرح بن ربيعة هلال القرشي الفهري.
وهب بن كلدة بن بني عبد الله بن غطفان.
وهب بن محصن هو ابن عبد الله.
وهب بن محصن، هو أبو سنان أخو عكاشة، وهو غير أبي سنان بن محصن الآتي في الكنى.
حرف الياء يزيد بن الاخنس السلمي.
يزيد بن ثابت بن الضحاك الانصاري، ذكر خليفة أنه شهد بدرا، وأنكر ذلك غيره.
يزيد بن الحارث بن قيس الانصاري الخزرجي.
يزيد بن حرام - بحاء مهملة فراء - بن سبيع - بموحدة مصغرا - الانصاري الخزرجي، واختلفت نسخ مغازي موسى بن عقبة، ففي بعضها كذلك وفي بعضها حزام، وفي بعضها حدارة.
يزيد بن رقيش بن رياب - بكسر الراء فمثناة تحتية - حزام، وفي بعضها حدارة.
يزيد بن رقيش بن رياب - بكسر الراء فمثناة تحتية - الاسدي.
يزيد بن السكن بن رافع الانصاري الاوسي...يزيد بن عامر بن حديدة الانصاري الخزرجي أبو المنذر.
يزيد بن المنذر بن سرح - بمهملات - ابن خناس - بضم الخاء المعجمة وتخفيف النون - الانصاري الخزرجي.
الكنى
حرف الالف أ.
الاعور الحارث بن ظالم بن عيسى بن حرام الانصاري الخزرجي.
سماه ابن اسحاق كعب بن الحارث.
وقال العدوي: اسمه الحارث بن ظالم.
وقال ابن عقبة: أبو الاعور ابن الحارث.(4/121)
أبو أيوب خالد بن زيد.
حرف الباء الموحدة أبو بكر الصديق عبد الله بن أبي قحافة، رضوان الله عليه.
حرف الحاء المهملة أبو الحارث بن قيس بن خالد بن مخلد الانصاري.
أبو حبة - بالباء الموحدة - البدري.
قال أبو حاتم: اسمه عامر بن عبد عمرو.
أبو حبة بن ثابت بن النعمان الانصاري الخزرجي.
أبو حنة - بالنون - ابن مالك بن عمرو بن ثابت بن كلفة بن ثعلبة الانصاري.
أبو حبيب - بفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة - ابن زيد بن الحباب الانصاري الخزرجي.
أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة القرشي، تقدم الكلام على اسمه في السابقين إلى الاسلام.
أبو الحسن الانصاري المازني قيل: اسمه تيم بن عبد عمرو بن قيس بن محرث - بحاء وراء مهملتين ومثلثة - وزن محمد - وقيل: تميم بن عمرو، وقيل: غير ذلك.
أبو الحمراء مولى الحارث بن رفاعة، ويقال: مولى الحارث بن عفراء.
حرف الخاء المعجمة أبو خارجة عمرو بن قيس، تقدم في الاسماء.
أبو خالد بن الحارث بن قيس، تقدم.
أبو خزيمة بن أوس بن زيد بن أصرم أخو معوذ الانصاري الخزرجي.
حرف الدال المهملة أبو داود - بتقديم الالف على الواو على المشهور - الانصاري، قيل: اسمه عمرو، وقيل: عمير بن عامر.
أبو دجانة اسمه سماك بن خرشة.
حرف الزاي أبو زعنة - بفتح الزاي والنون بينهما عين مهملة - الشاعر، مختلف في اسمه، قيل عامر بن كعب بن عمرو، وقيل غير ذلك.
نقل أبو عمر عن الطبري أنه شهد بدرا.(4/122)
حرف السين المهملة أبو سبرة بن أبي رهم القرشي العامري.
أبو السبع بن عبد القيس الانصاري، اسمه ذكوان، تقدم.
أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد الانصاري الاوسي، ذكره ابن الكلبي.
أبو سفيان بن وهب بن ربيعة الاسدي، ذكره ابن حبان فيهم.
أبو سلمة بن عبد الاسد، اسمه عبد الله بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي.
أبو سليط الانصاري، يقال: اسمه أسير - بالراء - وقيل: بزيادة هاء آخره، ويقال: أسيد، ويقال: أنيس مصغرا، ويقال: سبرة الانصاري الخزرجي.
أبو سنان بن وهب اسمه عبد الله، ويقال: وهب بن عبد الله الاسدي.
أبو سنان بن صيفي بن صخر الانصاري.
حرف الشين المعجمة
أبو شراك الفهري، ذكره الواقدي وأبو معشر في أهل بدر، وأن ؟ ؟ ؟ ؟ عمرو بن أبي عمرو، وجوز ابن سعد أنه عمرو بن الحارث السابق.
أبو شيخ اسمه أبي - بضم الهمزة - الانصاري الخزرجي أخو حسان.
حرف الصاد المهملة أبو صرمة، بكسر أوله وسكون الراء.
حرف الضاد المعجمة أبو ضياح - بفتح الضاد المعجمة فمثناة تحتية مشددة وقيل بتخفيفها - اسمه النعمان بن ثابت، تقدم.
حرف الطاء المهملة أبو طلحة، اسمه زيد بن سهل.
حرف العين أبو عبيدة - بضم أوله - ابن الجراح، اسمه عامر بن عبد الله، أحد العشرة، رضي الله عنهم.
أبو عقيل - بفتح العين وكسر القاف - البلوي، حليف الاوس.
قيل: اسمه عبد الله بن(4/123)
عبد الرحمن - وقيل بالعكس - ابن ثعلبة.
أبو عمرو الانصاري.
حرف الفاء أبو فضالة الانصاري.
حرف القاف أبو قيس بن المعلى بن لوذان الانصاري الخزرجي، ذكره ابن الكلبي.
حرف الكاف
أبو كبشة - بفتح الكاف وإسكان الموحدة فشين معجمة - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قيل: اسمه سليم، وقيل: أوس، وقيل: سلمة.
حرف اللام أبو لبابة بن عبد المنذر، قال ابن عقبة: اسمه بشير - بمعجمة على وزن عظيم - وقيل بالمهملة، أوله تحتانية.
وقال ابن إسحاق: اسمه رفاعة، رده رسول الله صلى الله عليه وسلم من الروحاء، واستخلفه على المدينة، وضرب له بسهمه وأجره.
حرف الميم أبو مخشي الطائي، حليف بني أسد.
أبو مرثد - بالثاء المثلثة - الغنوي، اسمه كناز، تقدم.
أبو مسعود البدري رضي الله عنه اسمه عقبة بن عمرو.
أبو مليل - بلامين - ابن الازعر بن يد الانصاري الاوسي.
حرف النون أبو نملة الانصاري.
حرف الهاء أبو الهيثم بن التيهان، قيل: اسمه مالك.
حرف الياء أبو يحيى عبد الله بن كعب الانصاري.
أبو اليسر - بفتحتين - الانصاري اسمه كعب بن عمرو.(4/124)