القسم الأول
في طبقات شعراء البدو والحجاز
أقول في هذه الطبقة : إنّ أحسن أبيات الأشعار ما طلعَتْ من أبياتٍ الأشعار ورعَتْ مع الظّباء الشيح وتزوّدت مع الضِّباب الريح مستغنيةً بحُسنها عن التصنّع والتعمُّل حلوةً إذا ذاقها الناظر بحسن التأمُّل مصقولة العُرقوب بلا تجشُّمٍ لمؤونة الحَمَّام مجدوة الثغور بلا منّةٍ لفروع البَشام . وكذلك قال المتنبي :
حُسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ ... وفي البداوة حُسنٌ غيرُ مجلوبِ
وقد وقع لي من أشعار هذه الطبقة ما هو أعذب من الزُّلال وأرقّ من الشَّمول صُفِّقتْ بالشَّمال . وأنا مبتدئٌ منها بما أنشدنيه الشيخ الإمام أبو عامر بن الفضل بن إسماعيل التَّميمي الجُرجاني للأمير أبي الفتوح زعيم مكّة حرسها الله تعالى :
وصلتنْني الهمومُ وصْلَ هواكِ ... وجَفاني الرُّقاد مثلَ جفاكِ
وحكي لي الرسول أنكِ غَضْبى ... يا كفى الله شرَّ ما هو حاكِ
فهذا كلامٌ عليه أمارة الإمارة وله ملاحة البداوة ورشاقة الحضارة . ولا أشكّ أن لهذين الزوجين أخواتٍ تجري مجراهما غير أن الرواة لم تتداولها فتسري مسراهما . وأنا بعون الله وحُسن تيسيره من وراء طلبها حتّى أُهديَ إلى الكتاب الذي نُصب لها ضَرباً من ضربها إن شاء الله تعالى
الأمير أبو المنيع قرْواش بن المقلَّد
أمير العرب المقدَّم وفحلها المقرّم . أنشدني أبو الفضل يحيى بن نصرٍ السعدي البغدادي قال : أنشدني لنفسه :
لله درُّ النائبات فإنها ... صدأً اللِّئام وصَقيل الأحرار
ما كنت إلاّ زُبْرةً فطبعنني ... سيفاً وأطلقَ صَرفُهُنّ غِراري
وأنشدني أبو محمد عبد الله بن محمد الحمدانيّ الخرافي قال : أنشدني أبو المكارم الفضل بن عبد الله الهاشمي قال : أنشدني لنفسه :
من كان يُحمدُ أو يُذمُّ مورَّثاً ... للمال من آبائه وجُدوده
إني امرؤٌ لله أشكرُ وحدهُ ... شُكراً كبيراً جالباً لمزيده
لي أشقرٌ سمحُ العنان مغاورٌ ... يُعطيك ما يُرضيكَ من مجهوده
ومُهندٌ عضبٌ إذا جَرَّدتُهُ ... خِلتُ البروقَ تموجُ في تجريده
ومثقَّفٌ لدْنُ السَّنامِ كأنّما ... أمُّ المنايا رُكِّبت في عوده
وبذا حَويتُ المالَ إلاّ أنني ... سلّطتُ جود يدي على تبديده
الأمير عليُّ بن محمد الصُّليحيُّ
الناجمُ بالحجاز
أنشدني أبو الفضل جعفرُ بن يحيى بن الحكّاك المكيُّ له من قصيدة أوّلها :
أقول إذا باهَوا بجَرِّ الذلاذل ... لباسيَ دِرعي لا لباسُ الغَلائلِ
ومناه :
وسَرجي فِراشي والحُسامُ مُضاجعي ... وعُدّةُ حَربي لا ذواتُ الخَلاخل
ورُمحي يُعاطيني البعيدَ لأنني ... تناولتُ ما أعيا على المتناول
ولي همةٌ تَسمو على كل همَّةٍ ... ولي أملٌ أعيا على كلّ آمِلِ
ولي من بني قَحطانَ أنصار دولةٍ ... بطاريقُ من أنجادِ كلِّ القبائل
وحكى لي أبو الفضل جعفر بن يحيى الحكّاك هذا أن أخاه الحُسين بن يحيى الحكّاك المكيّ أجاب الأمير الصًّليحيَّ عن هذه اللامية بقوله :
رُويدك ليس الحقُّ يُنفى بباطلِ ... وليس مُجدٌّ في الأُمور كهازل
كزعمك أن الدرع لُبسُكَ في الوغى ... وذاك لجِبنٍ فيك غير مُزايل
وهل ينفعنّ السيفُ يوماً ضجيعه ... إذا لم يُضاجعه بيقظةِ باسِلِ
فهلاّ اتّخذتَ الصبر دِرعاً وجُنّةٍ ... كما الصبر دِرعي في الخطوب النوازل
وتفخر أن أصبحت مأمول عُصبةٍ ... فأحسِنْ بمأمولٍ وأخسِسْ بآمِل
وهل هي إلاّ في تُرابٍ جمعتَهُ ... فهلاّ غدتْ في بَذلِ عُرفٍ ونائل
كما هَمَّنا فاعلمْ إغاثةُ سائلٍ ... وإسعافُ ملهوفٍ وإغناءُ عائل
وختم القصيدة بقوله فيها :
ولا تَغتَرْ بالليثِ عندَ خُدورهِ ... فكَمْ خادِرٍ فاجا بوثْبةِ صائلِ
المُجاشعيّ شاعرُ الحرمين (1/1)
قصد الحضرة النظامية من مكة وحرسها الله تعالى والسعد يقوم أمامه والنُّجْحُ يقود زمامه . ولقيها بهذه القصيدة على باب مَنار جُرْد سنة ثلاث وستّين وأربعمائة :
جوى ما جوى بين الحشا والجوانحِ ... وفَرطُ اشتياقٍ بين غادٍ ورائحِ
عذيري من العُذّالِ لم ينصفوا فنىً ... فتينَ الغَواني والحِسانِ الملائحِ
وعانٍ بأرض الشام غانٍ يَشوقُهُ ... إذا شامَ علويُّ البُروقِ اللوامحِ
إلى الله أشكو في فُؤادي غُلّةً ... شَفاها بَرودَ الرُّودِ لا ماءُ ماتِح
لقد نَزَحتْ للبَيْن دارُ أحِبَّتي ... فمَن لي بهاتيكَ الديار النَّوازِحِ
وأنضاءُ أسفارٍ سَرَيْنَ بمثلها ... يجُبْنَ بِهِم جَوباً بُطونَ الصحاصِحِ
وركْبٍ نَشاوي قد سَقَتْهُمُ يدُ الكرى ... بكأس عُقارٍ فوقَ قودٍ طلائِحِ
وميلٍ على الأكوار صيدٍ كأنَّهم ... سُرىً صبَّحوا الصَّهباءَ من كفِّ صابِحِ
فنبّهتُهم والنوم كُحلُ عُيونهم ... بمدْحِ نظامِ المُلك أهلِ المَدائح
ومنهل في المدح :
يجود بمَضنونِ الثراء تكرُّماً ... إذا قامَ عِلاّتُ النفوسِ الشَّحائحِ
ويَفتضُّ أبكارَ المَكارمِ سُؤْدَداً ... فيُرضي بها كفؤاً كريمَ المناكحِ
أخو الغارة الشَّعواءِ في حَومةِ الوَغى ... وقاري ذُرا الهاماتِ بيضَ الصَّفائح
لقد ملكَ الشامَ المقدَّسَ حامياً ... حِماهُ بمَجْرٍ فوقَ جُرْدٍ سَوابِحِ
رَضيُّ أميرِ المؤمنين رضىً بها ... لما دارَ من رأيِ بمحْضِ النصائح
منَ الحرمِ الميمونِ أمّتْ ركائبي ... حِمى حلبٍ تَبغي جَزيل المنائح
وردْنَ بنا ماءَ الفُراتِ وطالما ... وردْنَ الرَّكايا بين عذبٍ ومالح
تيمَّمْنَ بي كافي الكُفاةِ وعنده ... مواردُ بحرٍ في المكارمِ طامح
تزاحمتِ الوُرّادُ فيهِ كأنّه ... زِحامُ حَجيجِ البيت بين الأباطِحِ
جَلتْ سُخطَ دهري نظرةٌ رَضَويَّةُ ... نظاميةُ الأسبابِ سَبْطَ المَنادحِ
أبو دُلْفٍ الخَزرجيّ
قال في أبي عبد الله العَلَوي رضي الله عنه :
لولا النبيُّ وصَفوُهُ ... وابْناهُما ثمَّ البَتولْ
لعلمتُ أني شاعرٌ ... أسِمُ الرِّجالَ بما أقولْ
لكنّني أعرضْتُ عن ... ذاكَ الحديثِ وفيه طولْ
وتركتُ للخمرِ الخُما ... رَ وحَبّذا تلكَ الشَّمولْ
محمد بن جَرّاحٍ البَكريُّ
له :
إنا لنبني على ما شيَّدَتْهُ لنا ... آباؤنا الغُرُّ في مَجدٍ ومن كَرمِ
لا يرفع الضيفُ عنا في منازلنا ... إلا إلى ضاحكٍ منّا ومبتسِمِ
إني وإنْ كان قومي في الورى عَلَماً ... فإنني عَلَمٌ في ذلك العَلَمِ
أنشدنيها له الأستاذ أبو محمد العبد لْكاني الزوزني رحمه الله بزوزن سنة ثمانٍ وعشرين
قال : أنشدني إبراهيم بن محمد بن شُعيب البَكري قال : أنشدني عمي محمد بن الجرّاح هذا لنفسه
أبو كامل
تميم بن المفرح الطائي
كامل وبالكمال قد كني وإذا وصف تمام الفضل فتميم عني وناهيك بذاك الألمعي مفرِّجاً كاسم أبيه لغماء العِي
ذكر لي الشيخ أبو عامر الجرجاني أنه اجتاز به قاصداً غزتة ولم يقف له على جلية خبر بعد ذلك . والغالب على الظن أنه استوفى رزقه هنالك . أنشدني الشيخ أبو عامر له قال : أنشدينها لنفسه في الوزير أبي القاسم علي بن عبد الله الجويني رحمه الله :
ودِّعينا إنْ كنت أزمعتِ جاره ... قبل أن يمنع الفِراقُ الزيارهْ
زودِّي وامِقاً أجدَّ ارتحالاً ... ما قضى في مقامه أوْطارَه
مُغرماً ما علمت يا أمَّ عمروٍ ... أين صار الهوى به يوم صارَهْ (1/2)
لم يزلْ يًحذَرُ التَّفرُّقَ حتى ... حقَّقوا يوم رامَتينِ حِذارهْ
كان يكفيه والمُحبُّ قنوعٌ ... وقفةُ أو تحيةٌ أو إشاره
قوله : والمحب قنوع من حشوات اللوزينج
منظرٌ ما رأيته قطُّ إلا ... قلتُ : بدرٌ لِتِمِّهِ وسطَ دارَه
كاعِبٌ في الحجابِ يمنَعُها الزّو ... رَ حياءٌ يصونها وغَراره
ذاتُ ثغرٍ كأنه حين يبدو ... عِقدُ دُرٍّ أو أقحوانُ قَراره
ومنها في المدح :
كان للهِ في البريَّةِ لُطفٌ ... يومَ أفضى إليهِ أمرُ الوِزاره
إنَّ فيه لكلِّ وهي سداداً ... ولديه لكلِّ وهنٍ جباره
وأنشدني القاضي أبو جعفر محمد بن إسحاق البحاثي قال : أنشدينها لنفسه من خمرية :
قُمْ سَقني قبل الصَّباح المُسفِر ... يوم الخميس على طلوع المشتري
وإذا لَقيتَ الجمعةَ الزَّهراء فل ... يكُن الغَبوقُ على جبينٍ أزْهرِ
واستقبِلِ اليوم السَّعيدَ بمقبلٍ ... طَلْقٍ وأدبِرْ عن عَذولٍ مُدْبِر
إن قال : إنَّ الراحَ حُرِّمَ شُربُها ... عن أهل دينِ محمدٍ فَتَنصَّرِ
عن ههنا بمعنى على وهما يتعاقبان . قال الله عز و جل : ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه أي على نفسه :
قُلْ للغزالةِ وهي غيرُ غزالةٍ ... والجؤذَرِ النَّعسانِ غيرِ الجُؤذَرِ
لِمذكَّرِ الخُطواتِ غير مُؤنَّثٍ ... ومؤنثِ الخَلوات غير مذكَّرِ
قلت : هذا بيت شعري يساوي بيت تبر وفيه قلب يقبله كل قلب . ثم الموازنة بين الخطوات والخلوات في نهاية الملاحة وهو ينظر إلى قول البحتري : قَدٌّ يُؤنَّث تارةً ويُذَكَّرُ إلا أن هذا أعجب إليَّ من ذاك :
قومي إلى الشيءِ الذي مُتنا به ... بالأمس فانشُرني بذاكَ الجوهرِ
وتَسربلي قبل القيام وأَسبلي ... ذاكَ العِذارَ الجونَ ثم تزنري
فتنبهتْ هيفاء غير بطيَّةٍ ... عما التمستُ ولا سحوبِ المئزر
يعني أنها تشمَّرت للخدمة فقلَّصت ذيلها لا كالكسلان الذي يزود الأرض فضل ردائه إما لكسله وإما لخيلائه :
تفترُّ عن بردٍ وتنظم مثلها ... عِقداً وتنظر من جفونٍ فُتَّرِ
وتيممت دنين في مطمورةٍ ... كانا معاً فيما أظنُّ لقيصرِ
فتحتهما وكأنما فتحتما ... عن لون ياقوتٍ ونكهة عنبر
وله أيضاً رحمه الله تعالى :
قد أفرط الأمر عن الشكوى ... وعاد مكتوم الهوى نجوى
لا أدَّعي الحب وفي حالتي ... للناس ما يغني عن الدَّعوى
ولي دواءٌ من سقام الهوى ... لو كنت أروى من لمى أروى
مّن لقتيل بسهام هي النج ... لُ السَّواجي واللَّمى الأحوى
يا قمراً غادرَ عيني معاً ... سُهداً ودهري كلَّه سهوا
حمَّلتني أكثر من طاقتي ... يُغنيك عن تصريحي الفحوى
حُبُّ وصدٌّ واشتياق إلى ... من رشق القلب فما أشوى
وله أيضاً عُفي عنه :
أبصروا حالتي ودقَّةَ جسمي ... كُلُّ هذا من حبِّ من لا أسمي
ولعمري إن الوفاة لأحلى ... من حياة بين اشتياق وسُقمِ
غير أني أخشى العقاب على من ... أنا أهواه أن يبوء بإثمي
وله أيضاً :
وليلةٍ لي جمعت كلَّ طيبْ ... زار بها الألف وغاب الرقيب
فبتُّ للبدرِ سميراً وما ... ذلك بدرٌ لا ولكن حبيب
مذكرُ الذكرِ سوى أنه ... حوريةٌ ذات بنات خضيب
يجرحها اللَّحظ على أنها ... تجرح باللحظ سواد القلوب
قلت : أنصفتْ هذه الحورية حيث جرت على قضيّة قول الله تعالى : " والجروح قصاصٌ " ولهذه الآية بتلك الحالة اختصاص ومنها :
ثمّ افترقنا سَحَراً لم يكن ... حالٌ وما ذاك لخوف الذُّنوبْ
وإنّما خِفتُ على زائري ... لو أنّني جَمَشتُه أنْ يَذوبْ (1/3)
قلت : اجتمع في هذا البيت عاشِقٌ من الريبةِ تائبٌ ومَعشوقٌ من الرَّقةِ ذائِب . وله من حَمَرية :
قُمْ إلى الراحِ معَ الصُّبْحِ ... إذا قام المُؤذِّنْ
وإذا أعلنْ باللّهِ ... قَفُلْ للعُودِ أعلِنْ
إنْ تُسِئْ يا أيُّها العَبدُ ... فإنَّ اللّه مُحسنْ
وأنشدني القاضي أبو جعفرٍ البَحّائيُّ الزَّوزَنيُّ رضي الله عنه قال : أنشدني من قصيدةٍ أوَّلهُا :
سلا عن بانةَ الطَّلَلَ البَبابا ... بحيث يقابلُ البرقُ الهضابا
وعيشِ غَضارةٍ لو دام لكن ... تكدَّر ذاك حينَ صَفا وطابا
ومنها
لياليَ في الخُدورِ مُحجَّباتٌ ... يدعنَ القلبَ مُختبلاً مُصابا
كَعِينِ سٌويقَةِ حَدقاً ولكن ... رأيناها هُنا شُنُبا عِذابا
وأعطافاً إذا رمنَ انعِطافاً ... أبَتْ أردافُها إلاّ جِذابا
وأطرافاً يَحارُ الحَليُ فيها ... فليسَ يَكادُ يَضطربُ اضطرابا
قد قيل في الأطرافِ المنعمِة : إنها تعضُّ لحلي وتُخرسُ وساوسَها . وأما قوله : بَحارُ الحليُ فيها فلم أسمع به إلاّ في شعره وقد أتى ببدعِ المُستعارِ وبكره وهو في غاية الفصاحة ونهايةِ المّلاحة :
يَطُفنَ بملءِ عَينِ الصبِّ حُسناً ... وإن كانت بمُهجتهِ عَذابا
وحدَّثني الأديبُ يعقوب بن أحمد النيسابوريُّ رحمه الله قال : أنشدت بحضرةِ أبي كاملٍ :
صَهلَ الكُميتُ ... فقلتُ : مالك تَصهلُ
فغيّرهُ بعضُ الحاضرينَ وقال :
نَعبَ الغرابُ فقلتُ : مالكَ تَنعبُ
فأجازهُ أبو كاملٍ بديهةً وقال :
نَعبَ الغُرابُ فقلتُ : مالكَ تَنعبُ ... أنأَى أليفُكَ أم لِحالٍ تُرهبُ
أم أنت تُخبرنا بفُرقةِ جيرةٍ ... قد آن في شعبان أن يتشعَّبوا
عزموا على تركِ النُّفوسِ وراءَهم ... ماء يسيلُ على لظىّ يتلَّهبُ
عالي بن جبلة الغسّانيُّ
سمعت الشيخ أبا عامر الجرجانيَّ يقول : سمعت العميد أبا بكر القُهِستانيّ يقول : كتب إليَّ عالي بن جبلة هذا في أول ما قدم عليَّ :
من بني جفنةَ بنِ عَمرٍو فتىً ... بالبابِ يَبغي إلي العَميدِ الوصُولا
أغبرٌ قبّحته غبراءُ للريحِ دَويّ فيها وكان جميلاً
قال : فأذنت له وأكرمن مثواه واغتنمت قراه . والعجيب أنه أحال قبحه على غبراء يسمع فيها دوي الريح واعتذر عنه بما قاساه من أنواع التباريح وإنما أتي من جانب الخلقة حين لفته القابلة في الخرقة
أبو الحسين علي بن أحمد
العبشمي العثماني
حدثني القاضي أبو جعفر محمد بن إسحاق البحاثي الزوزني قال : كتبَ إليَّ العبشمي هذا أبياتاً أعتوبةٍ سابقة بيني وبينه وهي :
يا أبا جَعفرٍ محمدُ يا مَن ... جازَ فينا الفخارَ عَن إسحاقِ
ذا الخِلالِ المُهذَّباتِ وذا الطَّبعِ ... المصفَّى وذا السَّجايا العِتاقِ
والأديبَ الذي بأشعاره الآ ... دابُ مثلُ الغُصونِ في الأوراق
مُحدقاتٌ بكلِّ كإحدا ... قِ جُفونٍ العُيونِ بالأحداق
لك في النظم والبراعةِ في الآ ... دابِ ذكرٌ قد سار في الآفاقِ
والذي قد حَكى تَفوَّه بالإف ... كِ وحقِّ المُهيمِنِ الخَلاّق
فاقبل العُذرَ من أخٍ ذي اعتدادٍ ... بك وافي الذِّمامِ والميثاقِ
واستمعها يا أنفسَ طُرّاً ... كعقودِ الحِسانِ فَوقَ التَّراقي
قد أتت وهي كالهديُّ تهادى ... في بُرودٍ من المعاني الدِّقاق
وابق للفضلِ والتفضُّلِ بدراً ... عاجزاً عن سناهُ حكمُ المحاق
أبو جوثة
أحد بني أعمام الأمير قرواش بن المقلد أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني قال : أنشدني العميد أبو بكر القهستاني رحمه الله قال : أنشدني أبو جوثة لنفسه :
قَومٌ إذا اقتحموا العَجاجَ رأيتهُمْ ... شُمساً وخِلتَ وجوهَهُم أقمارا (1/4)
لا يعدِلون برفدهم عن سائل ... عَدلَ الزمانُ عليهمُ أوْجَارا
فإذا الصَّريخُ دعاهُمُ لمُلمَّةٍ ... بَذلوا النفوسَ وفارقوا الأعمارا
وإذا زنادُ الحَربِ أخمِد نارُها ... قَدَحوا بأطرافِ الأسِنَّةِ ناراً
الحَجّافُ
أنشدني أبو الفضل يحيى بن نصرٍ البغداديُّ قال : أنشدني هذا البدويُّ لنفسه من قصيدةٍ :
سَرى طيفُها والصُّبحُ قَد طَرَّز الدُّجى ... كما طُرزت غُبرُ المهامةِ بالآلِ
الأمير نورُ الدَّولةِ
أبو الأعزِّ دُبيسُ بنُ عليِّ بنِ مزيدٍ
خدمته ببغداد وعبرتُ إليه أخت بده الجواد أعني دجلة وهي زاخرة الأمداد وأنشدته أرجوزةً قلتها فيه فإذا باحه للطارقين مباحة وراحه في كدها للعفاة راحة وقباب التفت بها غابُ القنا واشترك مع أسودها الناس في فرائس الغنى . وذاكرتُ وزيره الملقب بالمهذب فأنشدني لذي أمره نتفة من شعره وهي :
حلمي يُخيَّلُ للعدوِّ ... م إذا اعتدى أني أجزتُ
يا دولة الملك المُحجّب ... لستُ نوركِ إن عَجِزتُ
المنيع الهمذاني
أنشدني له بعض الأشراف الطارئين علينا من مدينة الرسول صلى الله عليه و سلم قال : ورد علينا هذا الغُليمُ وهو مشغوفٌ بابنة عمّ له تُسمى ذؤابة فأنشدنا لنفسه أبياتاً فيها وهي :
خَليليَّ مالي وكيفَ احْتيالي ... وبي من ذؤابةَ شِبهُ الخَبالِ
غَزالٌ يُراعى رِمالَ الفَلا ... بجيدِ الغزالِ ورِدفِ الرِّمالِ
كأن ذُؤابَةَ في القَزِّ تَمشي ... رَبيبُ مَهاً يَرتدي بِالظِّلال
أبو الفضل جعفر بن الحسين
الشَّبيبيُّ المكيُّ
شابٌّ حسنُ الدواء الرُّواية رأيتهُ بين يدي الشيخ عميد الحضرة مُدلياً إليه بحرمة العربية مدلاً عليه الدالية السنية يطرب الحاضرين ينشدها يرقص ذوائبهم بأغاريدها فمها التقطته منها أبيات في المديح معسولة إن كانت من الصنعة مغسولة وهي :
تَولاّكَ بالإحسانِ عَن حُسنِ خِبرةٍ ... وأعطاكَ ما لم يُعطَه أحدٌ بَعدُ
وحُمِّلتَ ما حُمِّلتَ لا ناهِضاً بِهِ ... سِواكَ وللأثْقالِ بازِلُها النَّهدُ
فأنتَ بحمدِ اللهِ أثبتُ وطْأةً ... وأصدقُ بأساً حينَ تُستنطَقُ الهِندُ
وما قَدرُ مُلكٍ فاتَهُ منكَ حَظُّهُ ... إذا ما عَدِمتَ السيفَ لم يَنفعِ الغِمدُ
فَأبشرْ بتصريفِ الأمورِ ودولةٍ ... نَظمتَ معانِيها كما نُظمَ العِقد
كأنِّي بِكَ استوليتَ من كلِّ وُجْهةٍ ... عَليها كما اسْتولى على الجَسَدِ الجِلد
ما أحسن ما جعل إحاطته بالبلاد كإحاطة الجلود بالأجساد
فدُونَكَها من رُتبةِ عَضُدِيَّةٍ ... بِها أمرُ الملكِ واستَحكمَ العقْد
تُجِلُّكَ ساداتُ البريَّةِ كلُّها ... ويأتي إليكَ الوفدُ يَتبعُهُ الوَفد
وتَبلغُ أَقصى ما تُريد مُيسَّراً ... وما لكَ عن شيءٍ تُحاولُه رَدُّ
وعِشْ وابقَ في عزِّ وفي ظِلِّ نِِعمةٍ ... وقَدرٍ رفيعٍ ما يحيطُ بهِ حَدّ
وجَرِّز ذُيولاً من بُرودٍ أحوكُها ... من الشِّعرِ ما يَحكي مَحاسنها بُرْد
يَروحُ بِها مثنٍ عليكَ ويَغْتدي ... ويَرتاحُ مَن يَشدو إليها ومَن يَحدو
وأنشدني لنفسِه من قصيدةِ قالها في الشيخ العميد أبي الفضل الخشاب :
تَولَّى الصبرُ تَتْعُبه الدموعُ ... لِتُرجِعَه وقد عَزَّ الرُّجوعُ
وطارَ بمهجتي لِلبينِ حادٍ ... يُقصِّرُ دونَه الوَهم السَّريعُ
وأوَحشني الخَيالُ وكانَ أُنسي ... لَوَ أنَّ العينَ كان لها هُجوع
أرى أُدمَ الظباِْ لها امتناعُ ... وأطيبُ ما يُفازُ بهِ المَنوع
هذا كما يقال : الممنوع متبوع والمبذول مملول :
وفي العُشّاقِ مَفتونُ بِمعنىّ ... ومَوضعُ فِتنتي منك الجميعْ (1/5)
ومِنهم من يُشيرُ ولا يُسَمِّي ... ومِنهم في المحَّبةِ مضن يُذيع
بِنَفسي مَن يَخونُ الصبرُ فيهِ ... ولا تُغني المذلَّلةُ والخُضوعُ
حَبينٌ لا أوالُ وبي نزاعٌ ... إليهِ وليسَ لي عنهُ نُزوعُ
يَطيرُ القلبُ من شَوقٍ إليهِ ... فَتُمسكُهُ لِشِقوتِيَ الضُّلوعُ
محمد بن عصام بن الأعمى الربعيُّ
أرسل وهو موثق في الجامعة إلى صاحبين له يشكو حاله ويصف قلادته وخلخاله . والقافية موقوفة :
ألا يا ابن عمِّي هَل يُؤدِّي رسالةً ... إذا كنت تغدو من غدٍ أو تُروَّحْ
فسلَّمْ على فتيانِ أثبجَ كلِّهم ... وخُصَّ لطيفاً بالسَّلامِ المُطوّحُ
وقُلْ لابنِ كَسلانٍ وقُلْ لابنٍ مُطرفٍ ... خليلُكما بين الحَنايا مُشبَّح
لقد صيغ خلخالانِ لي وقِلادةٌ ... فها أنا فيها مُوثَقاً لستُ أبرح
أنشدنيها له بعض أشراف المدينة . وسألته عن الحنايا فقال : أعواد تمدُّ عليها أذرع المأسورين وتشدُّ . ويقال : فلان مشبوح الذراعين أي طويلهما
قيس العامريُّ
أنشدني له بعض أشراف الحجاز قال : سمعته يُنشد لنفسه :
قِفا صاحِبيَّ قليلاً عَلَيّا ... ولا تُعجِلاني يا صاحِبَيّا
وعُوجا على طَللٍ دائرٍ ... لِريَّا وأينَ من العَينِ ريّا
مَعاهدُ لم يُبقِ صرفُ الزما ... نِ منها ومِنِّيَ إلاّ شُوَيّا
أبو الفضل جعفرابن يحيى
الحكاك المكيُّ
قد سبق ذكر أخيه وربطت ما دار بينه وبين الصُّليحي على أواخيه وهذه أبيات أنشدنيها أبو الفضل هذا لنفسه في مثل ما مضى من المعنى السابق :
توقَّر من جِماحِكَ في الزِّمامِ ... وأَسفِرْ عن قِناعِكَ واللِّثامِ
وَزَعْ مِن غَربِ لفظكَ في مقالٍ ... تُعرَّف غِبَّهُ عندَ المُقامِ
ولا تَبذخْ بُهودٍ فهْوَ مِنّا ... تَحَدَّرنا جَميعاً مِن غمامِ
ولا تَفْخرْ بقومٍ أنتَ منُهمُ ... مكانَ المَنسِمينِ منَ السَّنامِ
ولا تَحسبْ جَوابي ذا ولكنْ ... جوابي صدرُ رمْحي أو حُسامي
هذابُ بن دَهثَمٍ الشَّيبانيُّ
ورد على المعسكر الميمون وألقى به تفنات العرمس الأمون ولقي صدر الوزارة النظامية بهذه اللامية وارتشف دُرر الأماني معسولة الحلب على باب حلب . ومطلع القصيدة قوله :
ما خَلَقَ اللهُ تعالى وجَلّ ... مثلَ وزيرِ الوزراءِ الأجلُّ
أروعُ كالنَّصلِ ولكَّنهُ ... أمضى من النَّصلِ إذا ما بَسلْ
قوله : بسل أي اشتدَّ . ومنه يقالُ للشجاعِ باسِل :
يَهدي إذا سارَ أمامَ القَضا ... ويَنزلُ الموتُ إذا ما نَزلْ
على العِدا والحربُ تَنّورها ... يُسعَرُ بالبيضِ وسُمرِ الأسل
ومنها :
يا عَلمَ الخالقِ في خَلقِهِ ... حَسبُكَ أن تَعقِدَ ما لا يُحلّ
لا أَيتَم اللهُ العُلا والوَرى ... منكَ ووفّاكَ المُنى والأمل
عبدُ الواحِد بنُ الفضل
بن أبي دُلَفِ العِجليُّ
قرأتُ له في كتاب قلائد الشَّرف من تأليف الشيخ أبي عامر الجُرجاني أبياتاً خدم بها المجلس العالي النظامي القوامي شام بها منه أيام مقُامِه بالشّام بوارق الأنعام وهي :
إشربْ على سعدِ السُّعو ... دِ ورَغم شانيكَ الحَسودْ
من قهوةٍ في كأسِها ... كالشَّمسِ أو كَسَنا الوَقود
لا زالَ نَجمُ عِداكَ في ... نَحسٍ ونجمك في سُعود
مُستمتعاً بالطَّيَّبا ... تِ ومُحرزاً شكرَ العبيد
ولا تَحرِمَنْ هذا المؤمِّ ... لَ نَوءَ بارقكَ الحَميد
فَوراءَهُ مُستنجِزا ... تٌ من قِيامٍ أو قُعود
من كلِّ راكعةٍ تَنو ... ءُ ومستعدَّ للسُّجود
يرفعنَ أيديهنَّ خا ... شِعةً بتَعفيرِ الخُدود
يسألنَ مُلكَكَ أنْ يُبَلَّغ مَن مَشى فَوقَ الصَّعيد (1/6)
قلت : هذا كلام في القلة دون القلة وإنما أثبت لقدر الممدوح لا المادح . ولمثل ذلك القدر جر الرماح على السَّماك الرامح
كامل المُنتفقيُّ
لما وطئت البصرة في جملة عميد الحضرة أبي سعد حمزة بن منصور أدام الله أيامه ماجت إلينا البادية وانثالت وفودها على تلك الرِّياع كما تنثالُ أعراف الضِّباع . فوجَّهَ بعضهم سُفراءَ إلى الخفراء يستودعبم الشُّعث الغبر من الحُجاج السالكين لذلك المنهاج المترادفين فريقاً بعد فريق الآتين من كل فج عميق . وارتبط البعض في غمار المرتزقةِ من الجنود أو المرتفعة من الوفود فبينا أنا يوماً بين يديه إذا دخل هذا المنتفقي عليه وشكا إليه سنة أرست عليه الكلاكل وأثكلتهُ الكُوم البوازل وأركبت إليه النوازل . ثم وصف له الأمل الذي ركب إليه مطاه والسَّهر في السفر الذي نغص بسراه النوم على قطاهُ . فأوسعه تأهيلاً وترحيباً وأوطأهُ من ذراه كنفاً رحيباً . فكان من جملة مفاوضات عميد الحضرة إيّاه أن قال له : قد عم علينا هذا الهراءُ الذي اصطلينا منه ناراً حامية لم تبق للعيس منسماً ولا للخيل حاميةَ فهل لكم في آن نطنِّبَ الخيامَ بجواركم ونقرط الآذان بحواركم ونواردكم على نطف الأداوى ونرنِّحَ معكم على أغاريد حفيف الرياح نشاوى . . فقال : كرامةً لمولانا . ولو استطعنا لنثرنا عليه الأرواح على مرادك وفرشنا الخدود تحت نعال جيادك ولي في خدمة أمثالك من الكُبراء عادة ولك عندي على الحُسنى زيادة فقال عميدُ الحضرة : وما هي قال شقيقة لي كأنها فلقة قمرٍ أجيبك إليها لتبني عليها فصدقت رغبتهُ والتهبت شهوته وركب من الغد إلى حلِّتَه بعسفان وهي رملةٌ ميثاءُ خالية الجنبات بزرابيَّ مبثوثةٍ من النّباتِ وتتنَّفس أبرادها عن نسيم يطير بجناح الهوى ويُجاذب بحسن المس أهداب الرّداء . فإذا فيه من بين سائر قباب الحيِّ تُنسبُ أرآنا في قصدها إلى الغيِّ وتشهدُ أنا قد تركنا الرأي بالريِّ لما نسجتها من دبور الأدبار وركبتها من غواشي الغُبار وما بها إلا كلابٌ تلغ في أسار القِعاب أو تتمضمضُ من الطُّرّاق بالعراقيب والكعاب وما من قعبٍ إلا وهو أشدُّ عيمة منا إلى الألبان وما من جفنةٍ إلا ولها جراحة على اللَّبان فحاجتها إلى الزّائب كحاجتنا إلى الرائب . وفي أحد جوانب البيت عجوز في الغابرين تقدي بطلعتها الشوهاء عيون الحاضرين قد تركها الانحناء محطوطة المناكب وكأن بنواصيها غزول العناكب فأنشدت عميد الحضرة مُاعباً :
يا ليتني حين خرجت خاطبا
لَقّانِيَ الله طريقاً شاطبا
لا أَمَماً منِّي ولا مُقاربا
حتى إذا ما سرتُ شهراً دائبا
ضَلَّ بَعيري ورَجَعتُ خائِبا
ثم قلت له : أبصر فلقة القمر التي وعدتها فبهت أولاً حتى كلت نوافده واستغرب ثانياً حتى استهلت نواجذه وحلف عليه كامل لينزلنَّ فأبي وجاءه من ناحبة الذُّلِّ فنبا واعتلَّ عليه بمعاذير رخصت له في سرعة الانصراف وحببت إليه الرضا من الغنمة بالإباب . ولكامل هذا شعر بدوي وصيت له بين الشُّعراء دوي . فما علق بحفظي من مترنماته قوله من قصيدةٍ أولها :
إنسانَةُ الحَيِّ أم أُدمانةُ السُّمرِِ ... بالنَّهي رقَّصَها لحَنٌ من الوَتَرِ
يا ما أمَيلحَ غِزلاناً شَدَنَّ لنا ... من هؤَليّائِكُنَّ الضالِ والسَّمُر
بالله يا ظَبَيات القاع قُلن لنا : ... ليلايَ مِنكنَّ أم ليلى من البشر
قلت : الإبهام في الشَّعرِ صنعة لا يتوصل إليها الحضريون إلا بتعريق جبين الخاطر وبعثرة دفين الضَّمائر . وقد أخذ هذا البدويُّ من عفوِ خاطرهِ نوعاً من الإيهام تنبو عنه صوارم الأفهام وذلك قوله :
بالنَّهيِ رقَّصَها لحنٌ من الوتر
فإن لحن الوتر الذي يضربه اللاهي للإنس مرقص ولحن الوتر الذي ينزعه الرامي للوحش مقمِّص . وما أشبهَ ذلك التَّرقيصَ بهذا التقميص !
الواثلِيُّ (1/7)
واسمه أحمد حدثني الأديب أبو جعفر محمد بن أحمد المختار الزوزني قال : ورد الوائلي على الشيخ الفقيه أبي يحيي زكريا بن الحسن الخوافي بقربه جُرد فباهت به قريته على كل بلد وخلد حب فضله في كل خلد قال : وكان من الفصاحة بحيث يسحب الذَّيل على سحبان وائل إذا نضنض ببيانه اللسان . وأنشدني له قال : أنشديه لنفسه من قصيدة صاغت نسختها ومن رأى من السيف أثره فقد رأى أكثرهُ :
أصلي النواعِجَ نار كلِّ تنوفَةٍ ... وأُخيضُها في بَحرِ كلِّ ظَلامٍ
قال : ورآني هذا الوائلي يوماً وأنا أهزُّ الرأس إلى هذا البيت إعجاباً به وتعجباً منه فقال : كأني بك وقد زججته أثناء قصيدةِ لك ولعله لم يأمنه عليه فاتهمه باحتجانه ونقله عن مكانه . وأنشدني له أيضاً من أبيات كتبها إليه أولها :
ألبستَني حُللاً منَ الحَمدِ ... وحَللتَ بي في قلَّةِ المَجدِ
وبَدَأتني بالمدحِ مُلتمِساً ... ردّي وقَد قَصرتُ في رَدّي
ونظمتُ شِعراً قد شَأوتُ بهِ ... من كانَ مِن قَبلي ومِن بَعدي
أعداك مَهديُّ بقربكَ مِن ... آدابه والفضلُ قد يُغدي
فعلقت من ودُّي بأوثَقِهِ ... إني شَديدُ قُوى عُرى الوُدّ
فَليأتينَّكَ حيثُ كنتَ ثَناً ... يُرضيكَ عَن قُربي وعَن بُعْدي
ولتعلمَنْ أنِّي وإنْ شَحطتْ ... عنكمُ دِياري ثابتُ العَهد
فاسُلَمْ مُحمدُ للمَحامِدِ وال ... آدابِ مُنفرداً بِلا نِدِّ
قال وكتب إلى الشيخ الفقيه أبي يحيى رحمه الله تعالى
ما يُميلُّ الحَبيبُ هَجراً ووصلاً ... وانتِجازاً منهُ العِدات ومَطْلا
وهوَ إن كانَ يَسمعُ العَذلَ فِينا ... مِن أُناسٍ لم نَستمع فيهٍ عَذلا
أمِن العَدلِ أن تَرى العدلَ ظلماً ... في هَواهُ وأن تَرى الظُّلمَ عَدلاً
كم قطعتْ البلادَ شَرقاً وغرباً ... وسَلكت الخطوبَ حَزناً وسَهلا !
قاصداً مُحييَ السَّحابِ أبا يَح ... يى الفقيه الحبر الإمام الأجلاَّ
فلقد دَلَّني على زكرّيا ... ءَ ثَناءٌ يدلُّ من عنه ضلاّ
هو عالمٌ بحرُ العُلومِ يغترفُ العا ... لَمُ منه إذا احتبى ثُمّ أملى
مِصقعٌ بذَّ في الخطابِ بني الدّم هرِ كما بذَّهم شَخاءً وبَذْلا
وسَحابٌ على العُفاةِ فما يَنفكُّ ... يهمي جُوداً وهَطلاً ووَبلا
فَضَلَ الناسَ فِطنةً واجتهاداً ... في رضى رِّبهِ ورأُياً وعَقْلا
أكثرَ الفضلُ حاسِديه وقد يَكثُر ... حُسادُ أكثرِ الناسِ فضلا
قٌلْ : فَموتوا بغيظكم كلُّ هذا ... أن رآهُ الإلهُ للفَضل أهْلا
عَمَّ يا ابن الحُسينِ إحسانُكَ ... الغَمْرُ فَلا زِلتَ للأفاضلِ ظِلا
قبلَ اللهُ صومَكَ يا أكرمَ مَن صامَ للإلهِ وصَلّى
اللَّبَّانِيُّ
أنشدني الشيخ أبو القاسم بكر بن المستعين كاتبُ الحضرة الطُّغرلية رحمه الله عليه . قال : أنشدني اللباني لنفسه :
إذا المَرءُ شَدَّ نطاقَ العَنا ... وبَيَّتَ عزمَ الرِّجالِ الكِرامُ
تَرقّى سَماوَةَ هذا الزَّمانِ ... وسخَّرَ عَفواً رِقابَ الأنامُ
أبو سليمان رحمة بن غانم الأسدي
أنشدني الأديب أبو يوسف يعقوب بن أحمد النيسابوري قال : أنشدني الشيخ أبو صالح المستوفي قال : أنشدني أبو سليمان رحمة بن غانم لنفسه :
أقولُ لصاحبي والكأسُ صِرفٌ ... ولم يَعرفْ غِنائي مِن أنيني
أرى خَمراً تُشاكِلُها دُموعي ... كأنَّ ظُروفها كانَت شُؤؤني
وأنشدني أيضاً قال : أنشدني أبو صالح قال : أنشدني أبو سليمان لنفسه :
وعُودٍ تُغنّي به طِفْلةٌ ... شديدُ الغِناء بأنساقِها
فشبَّهتُ في حُجْرها عودَها ... بفخذِ الجرادة مَعْ ساقِها
سلمان بن خضر الطائفي (1/8)
حدثني الأديب يعقوب قال : أنشدني سلمان بن خضر الطائفي لنفسه وكنيته أبو الفتح قد مر مجتازاً بنيسابور إلى مرو وقال : كان شاباً كثير البهجة فصيح اللهجة :
كأنَّ الغَمامَ لها عاشقٌ ... يُسايرُ هَودَجَها أينَ سارا
وبالأرضِ مِن حُبِّها صُفْرةٌ ... فما تنبِتُ الأرضُ إلا بَهارا
وأنشدني أيضاً له قال : أنشدنيه لنفسه :
بَرزتُ في غِلالةٍ زَرقاءِ ... لا زَوَردَّيةٍ كَلونِ السماءِ
فَتبيّنتُ في الغِلالةِ مِنها ... قمرَ الصيفِ في ليالي الشتاءِ
وأنشدني له أيضاً :
لي حَبيبٌ منَ الوَرى شَبَّهوه ... بِهِلالِ الدُّجى وقَدْ ظَلموهُ
ليسَ لي عَنهُ في سُلوِّيَ وَجهٌ ... ولهُ في السُّلوِّ عنِّي وُجوهُ
قَمرٌ كلَّما كتمتُ هَواهُ ... قالَ دَمعي : هذا المُريبُ خُذوه
أبو محمد علي بن الأزهر
ابن عمرو بن حسان حياني الأديب يعقوب بن أحمد أيده الله بريحانة شعره وأرخى طولي منه في روضة مستأسدة الأعشاب مترنمِّةِ الذُّبابِ . فمما سحر لُبِّي من لُبِّ كلامِهِ قوله :
دِيارَهُمُ بالرَّقمتينِ سُقيتِ ... سحاباً منَ الوشميِّ ثم وُليتِ
وما لَكِ في ريِّ السحائِبِ حاجةٌ ... وقد طالما من مُقلتي رُويتِ
وإن كانَ ماءُ العَينِ ليسَ بنافعٍ ... فحسبُكِ قد أبلَيتِ ثم بَلِيتِ
وكم قد سبتني فيك من ذاتِ بُرفْعٍ ... بأحسنِ عَينٍ للمهاةِ وَليتِ
وألمى عليهِ لُعسَةٌ زِينَ حُسنُها ... بأبيضَ معسولِ الرُّضابِ شَتيت
أيا بأبي الغورانِ طَنَّبتِ فيهما ... وأرضٌ من الغَورَين كنتِ وَطيتِ
وماء حَللتهِ وإنْ كانَ آجِناً ... وروضٌ رعَيتِ العُشبَ فيهِ رُعيتِ
قلت : ما أحسن ما جمع بين قوله رعيت العشب على الإخبار ورعيت . . على الدُّعاء !
!
فهما إذا سبرهما تقدير روضة وغدير :
ورَكبٍ عِجالٍ مُدلِجينَ تَرَوَّحوا ... على كلِّ مَوّارِ اليَدينِ هَربتِ
فقلتُ لهم : سِيروا ولا تَتروَّحوا ... فليس لنا وادي الغَضا بِمَبيت
فقالتْ : ولِمْ أمسيتَ تطوي بِلادَنا ... فَقُلتُ : أمرتيني غَداةَ نَهِيتِ
أراد أمرتني إلا أنه أشبع الكسرة فصارت باءً
وقد كُنتِ لا تَرضينَ منهم بِما أرى ... منَ الضيمِ لي فاليومَ كيفَ رَضيتِ
وأَقْسمتِ ألاّ تقبلي قول كاشِحٍ ... كَذوبٍ فلِمْ أقسمتِ ثُمّ نَسيتِ
قلت كنايتهُ عن الحنث بالنسيان عندي أقصى غاية من الإحسان وقد قيل : لم يكن أحد كنى عن تكذيب الحبيبةِ بأحسن من قول المتنبي :
تَشْتكي ما اشْتكيتُ من ألمِ الشْوْ ... قِ إِليْها والشوقُ حيثُ النُّحولُ
وله ضاية حمل بها كل ناطق بالضاد طاه في قدور الصّاد وهي :
سَقَتِ السحائب قبل أنْ تَتقوَّضا ... خِيَماً على الخابورِ أمسَتْ رُفَّضا
فيهنَّ من أبناءِ جَوثَة فِتيةٌ ... غُضُبٌ فما يَرضَوْنَ إلاّ بالرّضا
من كلِّ أروعَ . ما يقرُّ فُؤادُهُ ... كالحَّةِ النَّضناض لمّا نضنضا
ما يَقتَني إلا طِمِرّا مُلجَماً ... ومُفاضةً زعفاً وسَيفاً مُنتضى
يا راِكباً إمّا عَرضتَ فبلِّغَنْ ... مَنْ بالعِراقِ مصرِّحاَ ومعرّضا
إني غَرضتُ عن المُقام بأرضِكم ... صِفرَ اليدينِ وحُقَّ لي أن أغرضا
بُعداً لمنْ يَرضى بدار مَذَلةٍ ... يُمسي بِها حَرِضاً ويُصبحُ مُحرَضا
وإذا الكريمُ رأى الهَوانَ ببلدةٍ ... رفضَ الهَوانَ بها وراحَ مُركِّضا
وأنادمُ الجبارَ لا أرضى بهِ ... إلا إذا كانَ اللبابَ المُرتَضى
وأفُضُّ أوعيةَ المُدامِ وأجتلي ... ألوانَهنَّ مذَّهباً ومفضَّضا
إنْ ضاقَ مَسرُح ناقَتي في بلدةِ ... فزِمامُها بيدي وما ضَاقَ الفَضا (1/9)
وعليَّ أنْ أسعى وأطلبَ مَكسباً ... والرزقُ ما قَسَم الإلهُ وما قَضى
وله أيضاً من قصيدة أولها :
البيدَ يا أيدي المِهارِ البِيدا ... حتى يَصيرَ لك الكلال قُيودا
لا ماءَ إلا باللغُويَرِ ودونَنا ... عشرُ يعودُ بِها الدَّليلُ بليدا
واستَبعَدتُ أرضَ السماوَةِ والذي ... في الرَّحلِ ليس يَرى السماءَ بَعيدا
قواه : والذي في الرحل يعني نفسه وقريب منه قول المتنبي :
ومَن خُلقتْ عيناكَ بينَ جُفونِهِ ... أصابَ الخدورَ السَّهل في المُرتقى الصَّعبِ
وقوله المتنبي :
ما الخِلُّ إلا من أودُّ بقلبِهِ ... ويَرى بطرفٍ لا يَرى بسوائِهِ
عود إلى السعر :
يا سعدُ سعدَ بني سُليمٍ لا تُنِخْ ... حتى تَرى أعلامَهُنَّ السُّودا
وتنوفَةٍ مجهولةٍ جَونُ القَطا ... فيها يحارُ إذا أرادَ ورُودا
قطعتْ مناكبُها مناكب جَسرةٍ ... جَسَرتْ فصيّرتِ الجِبالَ صَعيدا
ولطالما رفَّهتُها بمؤدَّبٍ ... في الجَريِ أن يُرى مَكْدودا
متمرِّدٍ في الركضِ لا يَسطيعُه ... فَخِذاكَ إلاّ أن تكونَ مَريدا
يُغنيكَ عن حَملِ الزِّنادِ بأربعٍ ... تَطِسُ الصّفا فَترى لهنَّ وقودا
ومُسايرٍ حُلوِ الحديثِ إذا انتشى ... فيه ظَننتَ حديثَه تَغُريدا
يَمتارُني ما يَشتهي ويُمِيرني ... منه حَديثاً تارةً ونَشيدا
هذا وباديةٍ حَللنا فيهمُ ... لا طالبينَ قِرىً ولا تَزويدا
نحروا لنا الخيلَ الإناثَ وأَصبحوا ... رَجلى وكانت عدةَ وعَديدا
وكريمةٍ مِن قَومِها استنقذتُها ... والطعنُ يَخرقُ لَبّةً ووَريدا
أصحَبتُها كلتا يَدَيَّ وما رأتْ ... عَينايَ منها مِعْصماً ونُهودا
وضممتُ هودَجَها وقلتُ لصاحبي : ... سِرْ بَينَنا حتى تكونَ شَهيدا
ما كنتُ في هَذي العَشيرةِ كُلَّها ... مُذ كنتُ إلاّ واحداً ووَحيدا
علي بن علي بن حسان
قال : وهو مما عملته ببغداد أيام الصِّبا . قال السيد الأجل شرف السادة : وأشعار الصبا هي التمر باللبا
سَقياً لأيامِ التَّصابي ... مَعَ كلِّ خَرعَبةِ كَعابِ
إذْ نحنُ نرتعُ في الهَوى ... ونَدرُّ أرديةَ الشبابِ
والدهرُ عنّا غافِلٌ ... كالسيفِ يُؤْمَنُ في القِراب
فاسْتَنهِزوا فُرصَ المُنى ... فالعُمرُ يركُض كالسَّحابِ
وتَناقَلوا الكاساتِ مُتْر ... عةَ تَرامى بالحَباب
ما ذاقها مُتعِّبدٌ ... إلاّ وزَلَّ عنِ الصَّواب
وترى البخيلَ إذا احتسا ... ها عن طَريقِ البُخلِ نابِ
وله أيضاً :
يا حَبَّذا الخَدُّ المورَّدْ ... والعِطفُ في الصُّدغِ المُجعَّدْ
والمَبسِمْ العذبُ الرُّضا ... ب وحسنُ لؤلئه المُنَضَّد
قمرٌ أقامَ قِيامَتي ... بقَوامِهِ لمّا تَأوَّد
قَد سلَّ من أَجْفاِنهِ ... سَيفاَ على ضَعفي مُجرَّد
لما تَطاولَ هَجرُه ... وخَشيتُ أنَّ العُمرَ ينفدْ
خَلّيتُ عنهُ يدَ الهَوى ... وتركتُهُ والهَجرُ في يَدْ
وحَلَفتُ حِلفةَ صادِقٍ ... باللهِ والبَيتِ المُشَيَّد
لا عُدتُ أولعُ بالهَوى ... عُمري ولو قلبي تَقدَّدْ
وله أيضاُ :
وكيفَ أرجو راحةً في هوىَ ... كلَّفني بَلواهُ ما لا أطيق
بينَ ضلوعي زَفرةٌ كلَّما ... أخفيتُها نَمَّ عليَّ الشَّهيقْ
وَيْلي على قَلبي وما نالَهُ ... من حُبِّ ظبيٍ لم يَكُنْ بي رَقيق
رَمى فُؤادي بِسامِ القِلى ... ولم أكُنْ منهُ بِهذا حَقيق (1/10)
واقْتادَني بالرِّفقِ حتّى إذا ... ملَّكتُهُ مِنِّيَ ذُلَّ الرَّفيق
عزَّ على بَختي حتى اغتَدى ... بحيثُ ألقى وَكْرُهُ الشَّوْذَنيق
وحقَّ لي وَجْدي على شادنٍ ... أدَقَّ جِسمي منهُ خَضرٌ دَقيق
ومَبسِمٌ عذبٌ حكى لُؤلؤاً ... مركَّباً في سَفَطٍ من عَقيق
وشاهدٍ يَشهدُ في خَدِّهِ ... أنْ ليسَ في الحسنِ لهذا رَفيق
فكلَّما عذَّبني هَجْرُهُ ... صِحتُ منَ الوَجدِ : الحَريقَ الحريقْ
يا أيُّها الناسُ ارحَموا مُدْنَفاً ... قَيَّدَهُ العِشقُ بقيدٍ وثَيق
أسكَرَهُ العِشقُ بكاساتِهِ ... فليسَ يَرْجو أبداً أنْ يُفيق
وله وذلك مما قاله بفيروز آباد يصف الدَّرَّة :
أُنظُرْ إلى صنعةِ الإلهِ ففي ... صَنعتِهِ طُرفَةٌ من الطُرفِ
صَوالِجٌ من زَبَرجدٍ نْحُف ... تَحمِلُ دُرّاً ما فُضَّ عن صَدَفِ
الشاعر الأوسي كدي
كذا حكى لي القاضي أبو جعفر البحائي عن الحاكم أبي سعد ابن دوست أنه قال : سمعت الشاعر الأوسى يقول : مدحت الصاحب إسماعيل بن عباد بقصيدة وكنت أنشدها بين يديه . فلما بلغت إلى قولي :
لمّا ركبتُ إليكَ مُهري أُنعِلتْ ... بدرَ السّماءِ وسُمِّرتْ بكواكبِ
قال : قال لي الصاحب : لم أنَّثتَ المهر وهو مذكر ولم شبهت النَّعل بالبدر وهو لا يشبهه ولو شبهته بالهلال لكان أحسن فإنه على هيئته وصورته . قال : قلت له : أما تأتيني المهر فلأني عنيت المهرة وأما تشبيهي النَّعل ببدر السماء فلأنِّي أردت النعل المطبقة والله تعالى أعلم
أبو الرَّبيع سليمان بن أحمد بن غانم
ابن المغيرة الأسديُّ
أحد بني معين أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي قال : أنشدني الأستاذ أبو محمد العبدُ لكانيُّ قال : أنشدني أبو الربيع هذا لنفسه :
يَهُنيكَ أنّا قاصِدوكَ بِمِدحةٍ ... يا ليتَ أنّ جلودنَا قِرطاسُها
تَبري أناملُنا لها أقلامَها ... وتُري سوادَ عيوننا أنقاسُها
وكأنَّما كُسيتْ رؤوسَ ديوكِها ... ما احمرَّ من أوراقِها مَيّاسُها
الرِّيباس أم كلثوم
المغنِّية
هذه امرأة مغنية إذا وصفت النساء الشواعر فهي بأحسن صفاتهن معنيِّة . حدثني الشريف أبو طالب محمد بن عبد الله الأنصاري قال : جمعني وإيّاها الطريق وهي وافدة على دغفل . فاستنشدتها فأنشدت قصيدة منها :
كأنَّ الرِّياح الهُوجَ غادَرْنَ فوقَها ... من البارِحِ الصَّيفيِّ بُرداً مُسَهَّما
قال : فورد في هذه القصيدة بيت مرفوع وهو :
وقلتُ : اسلَمي من دارِ حيَّ تميَّزتْ ... بِهم شُعَبُ النِّيّاتِ فالقَلْبُ مُغرَما
قال : فقلت لها : لحنت قالت : أو لحن هو قلت : نعم فقالت : أصلحه بيّض الله وجهك . ثم أعملت الفكر وأشارت إلي صهٍ صهٍ . وأنشدت بيتاً مقسماً . قال : فتجَّبت من توقُّد ذهنها وسرعة إجابة خاطرها
والله تبارك وتعالى أعلم
القسم الثاني
في طبقات شعراء الشام وديار بكر وآذربايجان
والجزيرة وسائر بلاد العرب
تميم بن معد صاحب مصر
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني الأديب أبو شُجاع السُّهرورديُّ بمدينة السَّلام له :
يا ليلةً باتَ فيها البدرُ مُعتَنقي ... وأمْستِ الشمسُ لي من بَعضِ جلاّسي
وبِثُّ مُستغنياَ بالثُّغرِ عن بَرَدٍ ... وبالخدودِ عن التفاحِ والآسِ
ناولتُها شِبهَ خدَّيْها مُشعْشِعة ... في الكأسِ تَحسَبُها ضوءاً لمقباس
فَقَبَّلَتْها وقالتْ وهيَ باكيةٌ : ... وكيفَ تَسقي خُدودَ الناسِ للنّاسِ
قلتُ : اشربي إنَّها دمعي ومازِحُها ... دَمي وطابخُها في الكأسِ أَنفاسي
قالت : إذا كنتَ مِنْ حُبّي بكيتَ دَماً ... فَسَقِّيها على العَينينِ والراسِ
قال : وأنشدني له أيضاً :
أسِربُ مَهاً عنَّ أم سِبُ جِنَّهْ ... حَكَيتُنَّهُنَّ ولستُنَّ مُنَّه (1/11)
أَأَنتنَ أنْجُمُ ذا الجَوِّ أمً ... بُروجُ النُّجومِ جَلا بيبُكُنَّه
ولم أَرَ غِيداً سِواكنَّ مِسنَ ... فأَشْبهنَ في لِينهِنَّ الأعِنَّه
فَضَحنُنَّ بالكُحلِ أدْمَ الظِّباءِ ... وعِبتُنَّهُنَّ بأجيادِ كُنَّه
أَلَستُنَّ كنتنَّ قُلتُنَّ لي ... بأن لا تَحوُلنَّ عن عَهدِكُنَّه
فَيا ما أعيذِبَ ألفاظَهُنَّ ... ويا ما أُميلِحَ ألحاظَهنّه !
إذا رُمنَ ظُلماً فَسُلطانُهُنَّ ... عَلَينا مَلاحَةُ أحداقِهِنّه
بَرَزنَ لنا عَطِراتِ الجيوبِ ... بِسَفْحِ العِراقِ ووادي بُوَنَّه
فَعطَّرنَ من ريحهِنَّ النَّسيمَ ... وأبدَيْنَ مِن لَوعَتي المُستْكِنّه
فلِلّه هاتا غَداةَ انقضتْ ... بِطاعِتنا وبعصيانهنه
وصهباء تغدو لشرابها ... إذا ابتكروها من الهَمِّ جُنّه
تَروحُ عَلَينا بأقداحِها ... حِسانٌ حَكَتُهنَّ مِن نَشرِهِنّه
نَواعِمُ لا يَستطِعنَ النُّوضَ ... إذا قُمنَ من ثِقل أردافِهنّه
حَسُنَّ كحُسنِ ليالي العَزيزِ ... وجِئْن بِبَهجَةِ أيّامهنَّه
إمامٌ يضنُّ على عِرضه ... ولا يَعتَريهِ على المالِ ضِنَّه
فسلْ هَلْ غَدَتْ قَطُّ أموالُهُ ... وأمسَينَ في جُودِه مُطمئَة
وسَلْ هل وَأَتْ قَطُّ أَرماحهُ ... عُيونَ العِدا غَيرُ زُرقِ الأسنه
سَحائبُ كفَّيْهِ مُنهَلَّةٌ ... عَلَينا بمَعروفِه مُرجَحِنَّه
مَنعتَ الخلافةَ منعَ الأسودِ ... إذا ما غَضِبنَ لأشبالِهنَّه
وأمضيتَ عَزمكَ حتّى أخفتَ ... بهِ في بطونِ النَّساءِ الأجِنَّه
كلا راحَتَيكَ نَدىّ أو رَدىً ... كأنَكَ للناسِ نَارٌ وجَنّه
يليقُ بكَ المُلكُ حُسناً كما ... تَليقُ المَعالي بأربابِهِنَّه
وإنّي وإن كُنتُ نَجلَ المُعِزِّ ... لَعَبدُكَ والحقُّ ما لَم أُجِنَّه
رأى الخيرَ مَن أضمَرَ الخَيرَ فيكَ ... وكُوفِئ بالشَّرِّ مَنْ قَد أكَنَّه
ورأيت له هذه الأبيات في بعض التعاليق وهي مستوفية لجمل الجمال وإن كانت من عداد التَّفاريق :
ما بانَ عُذري فيهِ حتّى عُذِّرا ... ومَشى الدُّجى في خَدِّهِ فَتَبَخترا
همَّتْ تُقَبِّلهُ عقاربُ صُدغِه ... فاستلَّ ناظِرُه عليها خَنجَرا
قوله : همت تقبله عقارب صدغه كناية حسنة عن عطفة الصُّدغ يدل على من انعطافها بحيث دنت من الشفة وكادت تقبله وكأن انعطافها إلى جانب المقبل منه طمأ منها إلى التقبيل . وقلما تتفق مثل هذه الاستعارة من هذا القبيل . عاد الشعرُ
والله لولا أن يقالَ : تَغيّرا ... وصَبا وإنْ كانَ الثَّصابي أجدرا
لأعدتُ تفاحَ الخُدودِ بنفسَجاً ... لَثماً وكافورَ التَّرائِبِ عَنبَرا
أبو القاسم الوزير المغربي
قرأت من رسائل أبي العلاء المعري إليه ما نبهني عليه وعرفني درجته في البلاغة واختصاصه من صناعة النظم والنثر بحسن الصياغة وكان يلقب بالكامل ذي الجلالتين . ولم يقع إلي من شعره إلا ما أنشدنيه الأديب مسعود بن أحمد النيسابوريُّ
قال : أنشدني أبو الحسن عليُّ بن محمد البغداديُّ له في غلام يسبح ليعبر :
عُلِّمتُ منطق حاجبيهِ ... والبينُ يَنْشُرُ رايَتيهِ
ولقد أراهُ في الخَليجِ يَشقُّه مِن جانِبَيهِ
والنهرُ مثلُ السيفِ وه ... و فرِندُهُ في صَفحَتيهِ
قلت : هذا لعمري أفضل تشبيهٍ مالهُ شبيه وتمثيل هو لمخترعه مجد أثيل :
لا تشربوا من مائِهِ ... أبداً ولا تردوا عليه
قد دبَّ فيهِ السحرُ مِنْ ... أجْفانه أو مُقلتيهِ
ها قَد رَضِيتُ من الحَيا ... ةِ بنظرةٍ منِّي إليهِ (1/12)
قلتُ : وعندي أن الملح الأجاج لو مزج بمجاج هذه الألفاظ لعاد عذباً والسيف الكهام لوسنَّ على هذا الكلام لصار عضباً . وأنشدني الأمام أبو عامر الجرجانيُّ له :
كساني الهَجرُ ثوباً من ... نُحولٍ مُسبَلِ الذَّيلِ
وما يَعلمُ ما أُخفي ... من الدمعِ سِوى لَيلي
وقد أرجفَ بالبَينِ ... فإن صَحَّ فوا وَيلي
وأنشدني له أيضاً الأستاذ أبو العلاء وشتاسف بن اسفنديار الرازي بالرّي :
يا صاحبيَّ إذا أعياكُما سَقَمي ... فَلَقِّياني نَسيمَ الريحِ في حَلَبِ
مِنَ الديارِ التي كانَ الصِّبا وَطَري ... فيها وكانَ الهوى العذريُّ مِن أرَبي
وأنشدني له أيضاً :
قارعتِ الأيامُ مني امرأً ... قد عُلَقَ المَجدُ بأَمراسِهِ
يَستنزلُ الروقَ بأقدامِهِ ... ويَستدِرُّ العزَّ من باسِهِ
أروعُ لا يَنحطُّ عن تيههِ ... والسيفُ مسلولٌ على راسِهِ
وأنشدني له أيضاً :
ألا حُيِّيتَ يا يومَ التلاقي ... ولا حُييتَ يا يومَ الفراقِ
قَطعتُ الأرضَ في شهرَي ربيعٍ ... إلى مصرٍ وعدتُ إلى العراقِِ
فقالَ ليَ الحبيبُ وقد رآني : ... سَبوقاَ بالمضمَّرةِ العِتاقِ
رَكبتَ على البُراقِ فقلتُ : كلاّ ... ولكني ركبتُ على اشتِياقي
وأنشدني له أيضاً :
أيا أمَّنا إن غالني غائِلُ الرَّدى ... فلا تَجزعي بل أحسِني بَعديَ الصَّبرا
فما مُتُّ حتى شَيَّدَ المجدَ والعُلا ... فَعاليَ واستوفَتْ مَناقِبيَ الفَجرا
وحتى شَفَيتُ النفسَ من كلِّ حاسدٍ ... وأبقيتُ في أعقابِ أولادكِ الذِّكرى
وقال يرثي الشريف الرَّضي رضي الله عنه من قصيدة أولها :
رزءُ أغار به النَّعيُّ وأَنجَدا ... ومآتمٌ راشَت أقاديحَ الرَّدى
ومنها
أذكَرتَنا يا ابنَ النبيَّ محمدٍ ... يوماً طَوى عنّا أباكَ مُحَّمدا
ولقد عرفتُ الدَّهرَ قبلكَ سالِياً ... إلاّ عليكَ فما أطاقَ تَجلُّدا
ما زلتَ نصلً الدَّهرِ يأكلُ غِمدَه ... حتى رأيتُكَ في حَشاهُ مُغْمَدا
الكافي العمانيُّ
هو أبو علي أبزون المجوسي من أهل عمان وكنت أسمع له بالفقرة بعد الفقرة فأفتقر إلى أخواتها ويلتهب حرصي على إثباتها
ثم ظفرت بديوان شعره في خزانة الكتب النظامية بنيسابور . وكنت على جناح الانصراف إلى الناحية فلم أتمكن من احتلاب درَرها
ولم أتوصل إلى اجتلاب دُررَها . قال محمد بن أحمد المعروف بأبي الحاجب : كتب قبل حصولي بعمان أسمع بأشعار الكافي أبي علي وتمرّ بي القصيدة بعد القصيدة . وكنت أعجب لفرط أعجابي أودُّ لو ظفرت بمن يرويها لي عن مؤلفها فتكون النفس لحفظها أنشط والفكر بجبل من جبال عمان فقصدته
ولما اجتمعت معه لم أتمكن من مجالسته إلا لمعاً ولا من مفاوضته لاشتغاله بالأعمال السلطانية إلا خُلساً . ثم إني استنبطته فوجدته غير معجب بشعر نفسه على عادة أبناء جنسه . وإذا ديباجة شعره مع بهائها ورونقها متناسبة الألفاظ متناصرةُ المعاني . وإذا هو يتجنب إيراد ما يمجه السمعُ وتأباه النفس ؛ فلم أزل أنتسخ من حافظيها وألتقط من منشديها إلى أن حصل لي منها ما قيدتها ورويتها عنه . وهذه القصيدة من أفراد قصائده وأوساط قلائده . وهي :
هَل في مودَّةِ ناكثٍ من راغبِ ... أم هَل على فِقْدانِها من نادِبِ
أم هل يُفيدك أن تُعاتب مولَعاً ... بتتبُّعِ العَثَراتِ غيرَ مُراقَب
جَعلَ اعتراضَكَ للسَّفاهِة دَيدَناً ... والذئبُ دُيدَنُهُ اعتراضُ الراكِبِ
ومنها :
إنَّ الفُتوّةَ عَلَّمتني شِيمةً ... تُهدي الضِّياءَ إلى الشِّهابِ الثاقِبِ
ما زال يسلب كل من حمل الظبي ... قلمي وأحداق الظباء سوالبي
فهوى التّصرفِ والتصرّفُ في الهوى ... دَفَنا شَبابي في عِذاري الشائِب
فَتَظَلُّمي من ناظرٍ أو ناظرِ ... وتألُّمي من حاجِبٍ أو حاجبِ
ومنها : (1/13)
وقَبِلتُ عُذرَ بَني الزَّمانِ لأنَّهم ... سَلكوا طريقَ بني الزَّمانِ الذَّاهبِ
جُبِلوا على رَفضِ الوفاءِ كَغَيرِهم ... وتَمسَّكوا بالغَدرِ ضَربةَ لا زِبِ
وله من قصيدة رحمة الله أيضاً :
إلذمْ جَفاءَكَ لي ولو فيهِ الضَّنى ... وارفَعْ حَديثَ البَينِ عمَّا بَيننا
فَسُمومُ هَجرِكَ في هَواجِرِه الأذى ... ونَسيمُ وصلِكَ في أصاِئِلِهِ المُنى
ليسَ التلوُّنُ مِن أماراتِ الرِّضى ... لكنْ إذا مَلَّ الحَبيبُ تَلَوَّنا
تُبدي الإساءةَ في التيقُّظِ عامِداً ... وأراكَ تُحسِنُ في الكرَرى أنْ تُحسِنا
مالي إذا استَهْطفتُ رأيَكَ رُمتَ لي ... عَتْبا جَديداً مِن هُناك ومن هُنا
وله أيضاً من قصيدة أخرى :
كم تُرسِلونَ أعِنَّةَ الهِجرانِ ... فَقدُ الحَياةِ وهَجْرُكم سِيّانِ
إني أغارُ عليكُمُ أن تَسلُكوا ... في الودِّ غيرَ طَرائقِ الفِتيانِ
وأخافُ مُرَّ عِتابكُم ما لم أخفْ ... تحتَ العَجاجِ عَواليَ المُرَّان
لم أَجْنِ فاستَعطَفتكمْ لكنَّ بي شَوقاَ إلى استعطافِكُمْ أَلجْاني
وهَبونيَ الجاني ألَستُ شَقيقَكُم ... هَلاّ غفرتُمُ للشَّقيقِ الجاني
غَطُّوا بأذيالِ التجاوزِ منكُمُ ... هفَواتِ جانِ للنَّدامةِ جانِ
ولربَّما كرِهَ العُقوبةَ حازمٌ ... كَيما يفوزَ بلذَّةِ الغُفران
بِبِعادِكم أبغضتُ دارَ كَرامتي ... وبِقُربكم أحببتُ دارَ هَواني
وله أيضاً رحمه الله قال : وهو منقول من الفارسية :
وصَحراءَ ردَّتها الظِّباءُ حَفائِراً ... بأظْلافِها أحسِنْ بها من حَفائِرِ
فهبّتْ رياحٌ للصَّبا فطمَمْنهُ ... بِمسكٍ فعادَتْ نُزهةً للنَّوظِرِ
وله أيضاً :
قد كنتُ أرجوكَ للبَلْوى إذا عَرضت ... فصرتُ أخشاكَ والأيام للغَيرِ
أخشى وحُكميَ أنْ أرجُو ولا عجبُ ... ورَّبما يتأذى الروضُ بالمطرِ
قلت : هذا معنى ماله نهاية وغاية في الاختراع ليس وراءها غاية وله أيضاً :
أراكَ على العِلاَّتِ غيرَ موفَّقٍ ... وما أحسنَ التوفيقَ حيث تكونُ !
تريدُ تَلافي الأمر من بعدِ فَوتِهِ ... ولو شئتَ كان العصبُ مِنه يَهونُ
كلبلهاءِ قومٍ حينَ بَلّتْ طَحينَها ... بدتْ تَنخُلُ المَبلولَ وهوَ عَجيبنُ
وأنشدني أيضاً له أبو الفضل يحيى بن نصر البغدادي :
سكنٌ ساِكنٌ سوادَ الفُؤادِ ... مَلَّ قُربي ومالَ نحوَ بِعادي
قالَ : لِمْ لا تَنامُ قلتُ لإعرا ... ضِكَ وهو الخِلافُ للمُعتادِ
إنَّما أشتهي الكرى لأرى ... طيفَكَ فيهِ وأنتَ سَهلُ القِيادِ
فإذا لم يَزُرْ خيالُكَ إلاّ ... مُغضَباً فالكَرى فِداءُ السُّهادِ
وله أيضاً :
بِأبي حَبيبٌ كلمَّا عانقتُهُ ... عادتْ إليَّ شَبيبتي بعِناقِه
كالراحِ يجمعُ بينَ طيبِ نَسيمِهِ ... وبهاءِ منظرِه وطِيبِ مَذاقِهِ
أخلافُه نُزهُ القلوبِ وبالحَرِي ... أن يستعيرَ الروضُ مِن أخلاقِه
أيقنتُ أن لا عيشَ غيرَ لقائِه ... أبداً وأن لا موتَ غيرَ فراقه
وله أيضاً :
أيُّها العاذِلُ مَهْلاً ... ليسَ هذا العَذلُ شَيّاً
لا تُكلِّفني سُلُوّاً ... إنَّ ذا لا يَتَهيّا
وأنشدني الشيخُ أبو عامر الفضل بن إسماعيل التميمي أيده الله قال : أنشدني أبو الحرث الأصفهاني كاتب الحضرة قال : أنشدني أبزون هذا لنفسه :
لهنِكَ أنَّ مُلكَكَ في ازديادِ ... وأنَّ عُلاكَ وارية الزِّنادِ
وأنَّكَ مَن إذا وَصفَ الموالي ... مَناقبَه أقرَّبها المُعادي
حَديثُ قِاكَ مَتَّعَ كلَّ سَمعِ ... وذِكرُ نَداك عطَّرَ كلَّ نادِ (1/14)
وتَنقادُ الملوكُ لكَ اعتقاداً ... وما انقادوا لغيرِك باعتقادِ
ملكتَ رِقابَهم بأساً وجُوداً ... فهُمْ مُلكُ السيوفِ أو الأيادي
إذا استعرضتَ جَيشَ الرأي لَيلاً ... جَعلتَ عطاءَهُ طولَ السُّهادِ
إذا أدَّرعوا الدُّجى والهَولُ بادٍ ... سَروَا ونُجومهمْ غُرَرُ الجِيادِ
فبالسُّمرِ اللَّدانِ إذا تَمادَوا ... ألنتَهُمُ وبالبيضِ الحِدادِ
وأنشدني القاضي أبو جعفر محمد بن إسحاق البحائي قال : أنشدني حمد ابن محمد الثوريُّ قال : أنشدني الكافي أبو علي أبزون بن مهفرد المجوسي لنفسه :
تأبى قَبوليَ أيُّ أرضٍ زُرتها ... قَدَمي رَجائيَ وافتقاريَ سائِقي
فكأنَّما الدُّنيا بَدا مُتَحرِّز ... وكأنَّني فيها ودَيعةُ سارِقِ
وانصرف يوما من الصيد ونضد ما حصل منها بين يديه . وقال والكأس نهزُّ عطفيه
فَهجَرنا القَنا وزُرنا القَناني ... وشتغَلنا عنِ الظُّبى بالظِّباءِ
وله من قصيدة غير قصيرة :
فلا ملّتْ مُعاتَبتي فإنّي ... أعدُّ عتابَها إحدى الهَدايا
وله قصيدة أخرى :
فَخُذي إلى ديوانِ عَطفِك وَقِّعى ... يُكتب لنا من مُقلتيكِ أمانُ
ثابت بن هارون الرِّقيُّ النَّصرانيُّ
هذا ممن شذَّ عن الثعالبيِّ ذكره وذهب عنه شعره . وإذا كان المتنبي في طبقات يتيمته من العصريِّين فالذي بعده ممّن يُهدي المرثية إليه وينوح ورق الحمائم عليه أولى بأن يعد من الطبقة
وقد عرض على أبي للشيخ أبي الحسن علي بن يحيى الكاتب في ديوان الحضرة ديوان المتنبي محلى الظهّر بتوقيعين له خطهما بيمينه وأثبت بهما سماع هذا الفاضل أشعاره منه مرتين وعرضه مجموعها على سمعه كرَّتين وجرى بعد حصوله تحت كلاكلِ الأجل المُتاح وتصديقه قوله في ترك مهجته سائلة على الأرماح على فضية كرم العهد واستئثار الأمير عضد الدولة والدين على فاتك وبني أسد بقوله :
الدَّهرُ أغدرُ والليالي أنكَدُ ... مِن أنْ تَعيشَ لأهلِها يا أحَمدُ
قَصدتكَ لمّا أنْ رأتكَ نَفيسَها ... بُخلاً بِمثلكَ والنفائسُ تُقصَدُ
ومنها :
دقتَ الكريهةَ بَغيةً وفَقدتَها ... وكريه فقدِك في الورى لا يُفقَدُ
ما كانَ تارككَ الزمانُ لأهِله ... إنَّ الزمانَ على الغريبةِ يُحسدُ
قُل لي إنِ اسطَعتَ الخِطابَ فإنني ... صَبُّ الفؤاد إلى خِطابِك مُكمَد :
أتركتَ بعدكَ شاعراً واللهِ لا ... لم يبقَ بعدكَ في الزمانِ مقصِّد
إنَّ العلومَ فإنَّها يا ربَّها ... تَبكي عليك بأدمعٍِ ما تَجمُد
غَدرَ الزمانُّ به فخانَ ولم تزلْ ... أيدي الزمانِ بِبأسِهِ تَستنجِدُ
لقيَّ الخطوبَ فبذَّها حتّى جرى ... غَلطُ القضاءِ عليهِ وهو تَعمد
ومنها :
صَه يا بَني أسَدٍ فلستِ بنجدةٍ ... أثَّرتِ فيهِ بلِ القضاءُ يقيِّدُ
يا أيُّها الملكُ المؤيَّد دعوةً ... ممَّن حَشاهُ بالأسى يتوقَّد
هَذي بن أسَدٍ بِضيفكَ أوقعت ... وحَوت عطاءَك إذ حَواهُ الفَرقَدُ
وله عليكَ بقصده يا ذا العُلا ... حَقُّ التحرم والذِّمامُ الأوكَد
فازعَ الذِّمامَ وكن لضيفِكَ طالباً ... إنَّ الذمامَ على الكريمِ مُؤيَّد
اِرعَ الحقوق لقصده وقصيدهِ ... عَضُدَ الملوك فليسَ غيرُكَ يُقصَد
وإذا المكارمُ والمحامدُ أسنِدت ... فإلى الأميرِ أبي شجاعٍ تُسنَدُ
محمد بن عبيد الله بن محمد
الكاتب النصيبي
القول فيه كالقول في الرقِّيِّ الذي سبقت قوافيه . قال يرثي المتنبي ويستجيش عضد الدولة على مد حضي قدمه مريقي دمه :
قَرَّتْ عيونُ الأعادي يومَ مَصرَعهِ ... وطالما سجِنتْ فيهِ مِنَ الحسَدِ
يا يومَ صافيةِ الكّدراءِ قد كَدرتْ ... مَشاربي بعدَ مقتولٍ بلا قَوَد (1/15)
قد كانَ يومَ الوغى ماضي السِّنانِ وإنْ ... حادَ المُنازلُ للأقرانِ لن يَحِدِ
أمضى وأجرأُ صدراً من غَضَنفرةٍ ... عَبلِ الذراعِ شَديدِ البطشِ ذي لِبَد
كم من كميِّ غَدا في رِبقِ أحبُلِهِ ... فأحسنَ العَفوَ عنه غيرَ مُضطهِد
أولاهُ منهُ نوالاً ثم أعتقَهُ ... رَطبَ اللسانِ بشُكرِ العَتيقِ والرَغَد
ومنها :
أبا شُجاعٍ فتى الهَيجا وفارسَها ... ومُشتري الشُّكرِ بالإنفاقِ والصَّفَدِ
هذي بَنو أسَدٍ جاءت بِمؤيِدَةٍ ... صَمّاءَ بائحةٍ هَدّت ذُرا أُحد
سّطت على المتنبِّي من فوارسِها ... سَبعونَ جاءَته في مَوجٍ من الزَرَد
حتى أتت وهوَ في أمنٍ وفي دَعَةٍ ... يسيرُ في سِتَّةٍ إن تُحصَ لم تَزِدِ
كَرَّت عليهِ سِراعاً غيرَ واِنِيَةٍ ... فغادَرَته رَهينَ التُّربِ والثَّأد
من بعد ما أعلمت فيهم أسِنَّته ... طعناً يُفرقُ بينَ الرّوحِ والجَسَدِ
فاطلب بثأرِ فَتىً ما زِلتَ تَعضدُه ... للهِ دَرُّكَ من كهفٍ ومن عَضُدِ
أذكِ العُيونَ عليهم أيَّةً سَلَكوا ... وضيِّقِ الأرضَ والأقطارَ بالرَّصَدِ
شَرِّدهُمُ بجيوشٍ لا قِوامَ لها ... تَأتي على سَيدِ الأقوام واللّبَد
أبو الحسن عليُّ بن محمد التِّهاميُّ
هو وإن توج هامة تهامة بالانتساب إليها وطرَّزكمَّ الصناعة بالاشتمال عليها فإن مكانه لم يزل بالشام حتى انتقل من جوار بنيها الأجلة الكرام إلى جوار الله ذي الجلال والإكرام . وله شعر أدق من دين الفاسق وأرق من دمع العاشق كأنما روح بالشمال أو علل بالشمول فجاء كنيل البغية ودرك المأمول
حدثني القاضي أبو جعفر بن إسحاق البحائي رحمه الله قال : حدثني أبو كامل نعيم بن المفرج الطائي أن التهامي هذا كان في ابتداء أمره من السوقة :
وقد كانَ يَرمي عن مَريرةِ قَوسِهِ ... بِكالثلجِ تُذريهِ خروقُ الغَمائمِ
ويَعلو كثيراً بالكَهامِ مُنَشنِشاً ... فِقارَ قَطوفٍ ذي ثلاث قوائم
ثم انتقطع إلى بني الجراح يمتدحهم ويستضيء بهم ويقتدحهم . وكانت له همة في معالي الأمور تسول له رئاسة الجمهور . فقصد مصر واستولى على أموالها وملك أزمة أعمالها وعُمالها . ثم إنه غدر به بعض أصحابه فصار ذلك سبباً للظفر به وأودع السجن في موضع يعرف بالمنسي حتى مضى لسبيله رحمه الله . فمن محاسنه التي تعلق في كعبة الفصاحة قوله :
كن من لواِحظِ عينيها على حذرٍ ... فإنَّ ألحاظها أمضى من البُتُرِ
أهتزُّ عندَ تمني وصلها طَرباً ... ورُبَ أمنيَّةٍ أحْلى من الظَّفَر
َجني عليَّ وأجثي من مَراشفِها ... ففي الجَنى والجناياتِ انقضى عُمُري
أَهدي لنا طيفُها نَجداً وساكنَهُ ... حتى اقتنصنا ظِباءَ البدوِ في الحَضَرِ
فباتَ يخلو لنا من وجهِها قَمراً ... من البراقعِ لولا كُلفةُ القَمر
وراعَها حرُّ أنفاسي فقلتُ لها : ... هواي نارٌ وأنفاسي من الشَّرَر
فزادَ دُرَّ الثَّنايا دَرُّ أدمُعِها ... فالتفَّ منتظمٌ منه بمنتَثِرِ
فما نَكَرنا من الطَّيفِ الملمِّ بنا ... مِمَّن هَويناه إلا قلةَ الخَفَر
ومن بدائعه في هذه الراثية قوله :
لولاهُ لم يَقضِ في أعدائه قَلمٌ ... ومجِلبُ الليثِ لولا الليثُ كالظُفرِ
ما صَرَّ إلاّ وصَلت بيضُ أنصُلهِ ... في الهامِ أو أطَّتِ الأرماحُ في الثُّغَر
وغادرت في العِدا طَعناً يحفُّ بهِ ... ضربٌ كما حَفَّتِ الأعكانُ بالسُّرَر
قلت : هذا والله هو المعنى البيع والربيع المريع والتشبيه للائق والغرض الموافق وقد كان يملكني الإعجاب بقول ابن المعتز :
وتحتَ زنابيرٍ شَدَدْنَ عقودَها ... زنابيرُ أعكانٍ معاقدُها السُّرر (1/16)
فزاد التهامي عليه وفي المثل : من زاد ركب . ولعمري إن كليهما أعكان وسرر كلها غرر وله أيضاً من قصيدة :
حازكِ البَينُ حين أصبحتِ بدرا ... إن للبدرِ في التَّنقُّلِ عُذرا
فارحلي إن أرتِ أو فأقيمي ... أعظمَ اللهُ للهوى فيَّ أجرا
لا تقولي : لقاؤنا بعدَ عشرٍ ... لستُ ممَّن يعيشُ بعدكِ عَشراً
إنَّ خُلفَ الميعادِ منكِ طباعٌ ... فَعِدِينا إذا تفضلتِ هَجرا
ومنها :
قلمٌ دبَّر الأقاليمَ حتى ... قال فيه أهل التناسخِ أمرا
يَتبع الرمحُ أمرَه إنَّ عشرينَ ذِراعاً بالرأي تَخُدِمُ شِبرا
لا تُقيمُ الأموالُ عندك يوماً ... فإلى كم يكونُ مالُك سَفرا
أنصفِ المال مِن نوالكَ يا مَن ... بيديهِ المظالِم طُرّا
جُرتَ في بذلِه وأحكامكَ العَد ... لُ فإن كانَ قَد أساءَ فغُفرا
وله وهو مما ينساب في العروق مع الصهباء الممزوجة بماء السماء :
حُطِّي النقابَ لعلَّ سَرحَ لحاظِنا ... في روضِ وَجهكِ يَرتعينَ قليلا
ِكلفَ الفراقُ بِمن هَويتُ فكلُّما ... دانيتُه شِبراً تأخَّرَ مِيلا
قتلتنيَ الأيامً حينَ قتلتُها ... عِلماً فأبصِر قاتِلاً مقتولا
وكنت نقلت في صباي قصيدة له يرثي بها ابنه أبا الفضل من خط الحاكم أبي حفص عمر بن علي المطوعي رحمهم الله . وحفظتها وراء ظهري وعددتها من ذخائر دهري وهي :
حُكمُ المنيّة في البريّة جارِ ... ما هذه الدُّنيا بدارِ قَرارِ
بينا يُرى الإنسانُ فيها مُخبِراً ... حتى يُرى خَبراً من الأخبار
طُبعتُ على كدرٍ وأنت تريدُها ... صَفواً من الأقذاء والأكدار
ومكلِّفُ الأيامِ ضِدَّ طِباعها ... مُتطلِّبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ
وإذا رجوتَ المستحيل فإنَّما ... تَبني الرجاءَ على شَفيرٍ هارِ
فالعيشُ نومُ والمنيّةُ يقظةٌ ... والمرءُ بينَهما خَيالٌ سار
والنفسُ إنْ رضيتُ بذلكَ أو أبتْ ... مُنقادةٌ بأزِمَّةِ الأقدارِ
فاقضوا مآرِبكم عِجالاً إنّما ... أعمارُكم سَفَرٌ من الأسفار
وتراكَضُوا خيلَ الشباب وبادِروا ... أن تُستردَّ فإنّهنَّ عَوار
فالدهرُ يخدعُ بالمُنى ويَغضُّ إن ... هنّى ويهدمُ ما بَنى بِبَوار
ليسَ الزمانُ ولو حَرِصتَ مُسالماً ... خُلقُ الزمانِ عداوةُ الأحرار
إني وُتِرتُ بصارمٍ ذي رَونَقٍ ... أعددته لِطلابهِ الأوتار
أثني عليه بأثرِهِ ولو إنَّه ... لم يعتبط أثنيتُ بالآثار
يا كوكباً ما كانَ أقصرَ عمرَهُ !
... وكذاكَ عمرُ كَواكبِ الأسحار
وهلالَ أيامٍ مَضى لم يستدِر ... بَدراً ولم يُمهل لوقتِ سِرار
عَجِلَ الخُسوف عليهِ قبلَ أواِنه ... فَغَطاهُ قبلَ مَظَّنة الإبدار
واستُل مِن أترابِه ولِداتِه ... كالمُقلَةِ استُلّتْ من الأشفار
فكأنَّ قَلبي قَبرُهُ وكأنَّهُ ... في طَيِّه سِرٌّ منَ الأسرار
إن تحتقِر صِفراً فربَّ مفخَّمٍ ... يبدو ضئيل الشخصِ للنُظّار
إنَّ الكواكبَ في علوِّ مَحَلها ... لتُرى صِغاراً وهي غيرُ صِغار
وَلدُ المُعزَّى بعضُه فإذا انقضى ... بعضُ الفتى فالكلُّ في الآثار
أبكيهِ ثم أقولُ معتَذِراً لهُ ... وُفّقتَ حينَ تركتَ ألأم دار
جاورتُ أعدائي وجاورَ ربَّه ... شَتّانَ بَينَ جِواره وجواري
منها :
أشكو بِعادَكَ لي وأنتَ بمَوضِعٍ ... لولا الرَّدى لَسَمعتَ فيه سِراري
والشَّرقُ نحوَ الغَربِ أربُ شُقَّةً ... مِن بُعدِ تِلكَ الخَمسةِ الأشبار (1/17)
هَيهاتَ قد عَلقَتكَ أشراكُ الرَّدى ... وإعتاقَ عمرَكَ قاطِعُ الأعمار
ولقد جَريتَ كما جَريتُ لِغايَةِ ... فبلغتَها وأبوكَ في المِضمار
وإذا نَطقتُ فأنتَ أوّلُ مَنطقي ... وإذا سَكتُّ فأنتَ في إضّماري
أخفي من الرُّقباءِ ناراً مِثلَما ... يُخفي مِنَ النارِ الزِّنادُ الواري
وأخفِّضُ الزفَراتِ وهيَ صَواعِدٌ ... وأكَفكِفُ العَبَراتِ وهيَ جَوارِ
وشِهابُ زنَدِ الحُزنِ إن طاوعتَه ... وارٍ وإن عاصَيتَه مُتوارِ
وأكفُّ نِيرانَ الأسى ولربَّما ... غُلِبَ التَّصبُّرُ فارتَمَتْ بِشَرار
ثَوبُ الرِّياءِ يَشِفُّ عمّا تَحتَهُ ... وإذا التحفتَ بهِ فإنَّكَ عارِ
قَصُرت جُفوني أم تَباعَدَ بينَها ... أم مُقلتي خُلِقت بِلا أشفار
جَفَت الكَرى حتّى كأنَّ غِرارَهُ ... عِندَ إغماضِ العَينِ حَدُّ غِرار
أحيي ليالي التِّمِّ وهيَ تُمينُني ... ويُميتُهُنَّ تَبَلُّجُ الأنوار
حتَّى رأيتُ الفَجرَ يَرفَعُ كَفُّهُ ... بالضوءِ رَفرفَ خيمةٍ كالقار
والصُّبحُ قد غَمرَ النجومَ كأنهُ ... سَيلٌ طَغى وطَفا على النُّوِّار
لو كنتَ تُمنَعُ خاضَ دونَك فِتيةٌ ... مِنّا بِحارَ عَواملٍ وشِفار
ودَحَوا فُوَيقَ الأرضِ أرضاً من دَمٍ ... ثم انثَنَوا فبنَوا سَماءَ غُبار
قومٌ إذا لبِسوا الدروعَ حسبتَها ... سُحُباً مُزرَّرَةً على أقمار
وترى سيوفَ الدّارعينَ كأنها ... خلُجٌ تُمدُّ بِها أكفُّ بحار
لو أشرعوا أيمانَهم من طولِها ... طَعنوا بها عِوضَ القَنا الخَطّار
شُوس إذا عَدِموا الوَغى انتَجَعوا لها ... في كلِّ أوبٍ نُجعةَ الأمطار
جَنَبوا الجبادَ على المّطيِّ وزاوَجوا ... بينَ السُّروجِ هُناكَ والأكوارِ
وكأنَّما مَلأوا عِيابَ دُروعِهم ... وغُمودَ أنصلِهم سَرابَ قِفار
وكأنّ من صنعَ السوابغَ عزّهُ ... ماءُ الحديدِ فصاغَ ماءَ قَرار
زَرداً وأحكمَ كلَّ موصِلِ حَلقةٍ ... بجَبابةٍ في مَوضِعِ المِسمار
فتدَرَّعوا بمتونِ ماءَ راكدٍ ... وتَقَنَّعوا بحّبابِ ماءِ جار
أسدٌ ولكن يؤثِرونَ بزادِهم ... والأسدُ لبس تَدينُ بالإيثارِ
يَتعطَّفونَ على المُجاوِرِ فيهِمُ ... بالمُنفِساتِ تعطَّفَ الأظآرِ
يتزَّينُ النادي بحُسنِ وُجوههِم ... كتَزيُّنِ الهالاتِ بالأقمار
من كلِّ مَن جعلَ الظُّبى أنصارَهُ ... وكَرمنَ فاستغنى عنِ الأنصار
واللَّيثُ إن بارزتَه لم يعتمِدُ ... إلاّ على الأنيابِ والأظفار
وإذا هو اعتقلَ القناةَ حَسبتَها ... صِلاًّ تأبَّطَهُ هِزَبرٌ ضار
زَردُ الدِّلاصِ منَ الطِّعان بِرُمحهِ ... مِثلُ الأساوِرِ في يدِ الإسوار
ويَجُرُّ ثمَّ يجرُّ صَعدةَ رُمحه ... في الجَحفلِ المُتَضايِقِ الجَرّار
ما بينَ تُربٍ بالدِّماءِ مُلبَّدِ ... لَزِقٍ ونَقعٍ بالطِّرادِ مُثار
والهونُ في ظلِّ الهوينى كامِنٌ ... وجَلالُةُ الأخطارِ في الإخطار
تَندى أسِرّةُ وَجهه ويَمينهِ ... في حالةِ الإعسارِ والإيسارِ
ويَمدُّ نحوَ المكرُماتِ أنامِلاً ... لِلرِّزقِ في أثنائِهنَّ مَجار (1/18)
يَحوي المَعالي غالياً أو خالياً ... أبداً يُداري دونَها ويُماري
قد لاحَ في ليلِ الشبابِ كواكبٌ ... إن أمهِلَتْ آلت إلى الإسفار
وتلهُّبُ الأحشاءِ شيَّبَ مَفرِقي ... هذا الضياءُ شُعاعُ تلكَ النّارِ
شابَ القَذالُ وكلُّ غُصنٍ صائرٌ ... فَينانُهُ الأحوى إلى الإزهار
والشِّبهُ منجذبٌ فِلم بيضُ الدُّمى ... عن بيضِ مَفرِقه ذَواتُ نِفار
وتودُّ لو جَعلتْ سوادَ قُلوبها ... وسوادَ أعيُنِها خِضابَ عِذاري
لا تَنِفرُ الظَّبَياتُ منهُ فقد رأت ... كيفَ اختلافُ النَّبتِ في الأطوار
شَيئانِ يَنقَشعانِ أولَ وهَلةٍ ؛ ... ظِلُّ الشَّبابِ وخُلَّةُ الأشرار
لا حبَّذا الشَّببُ الوفيُّ وحَبذا ... شَرخُ الشَّبابِ الخائِنِ الغَدّار
وَطَري منَ الدنيا الشّبابُ ورَوقُهُ ... فإذا انقضى فقد انقَضَتْ أو طاري
قَصُرتْ مَسافَتُهُ وما حَسَناتُهُ ... عِندي ولا آلاؤُه بِقِصار
نَزادادُ هَمّاً كُلَّما ازدَدنا غِنىً ... فالفَقرُ كُلُّ الفَقرِ في الإكثار
ما زادَ فوقَ الزّادِ خُلفَ ضائِعاً ... في حادثٍ أو وارِثٍ أو عارِ
إنِّي لأرحَمُ حاسِديَّ لِحَرِّما ... ضَمِنت صُدورهُمُ من الأوغار
نَظروا صَنيعَ اللهِ بي فَعيونُهم ... في جَنّةٍ وقلوبُهم في نار
لا ذَنبَ لي قد رُمتُ فَضائلي ... فكأنَّما بَرقَعتُ وجهَ نَهار
وسَترتُها بتواضعي فتطلَّعت ... أعناقُها تعلو على الأستار
ومنَ الرجالِ مَجاملٌ ومَعالم ... ومنَ النُّجومِ غوامِضٌ ودَرارِ
والناسُ مُشتبهونَ في إيرادِهم ... وتَفاضُلُ الأقوام في الإصدار
عُمري لقد أوطأتُهُم طرق العُلا ... فعَمُوا ولم يَطَأوا على آثاري
لو ابصَروا بعُيونهم لاستَبصَروا ... وعمى البَصائِرِ من عَمى الأبصار
هلاَّ سَعَوا سَعيَ الكرامِ فأدركوا ... أو سَلَّموا لمواقِعِ الأقدار
ذهبَ التكرُّمُ والوفاءُ منَ الورى ... وتَصرَّما إلا منَ الأشعار
وفشت خياناتُ الثِّقاتِ وغيرهم ... حتى اتَّهّمنا رؤيةَ الأبصار
ولربِّما اعتضَدَ الحَليمُ بجاهِلٍ ... لا خَيرَ في يُمنى بغيرِ يَسار
وله أيضا وهو مما أفادينةِ الشيخ أبو محمد الحمداني :
تَهيمُ بِبَدرٍ والتنقُّلُ والنُّوى ... على البَدرِ مَحتومٌ فهل أنتَ صَابرُ
له مِن سَنا الفَجرِ المُورَّدِ غُرَّةٌ ... ومِن حُلل الليلِ البَهيمِ غَدائِرُ
وله أيضاً من نشبيب قصيدة أخرى :
بَكَيتُ فحنّتْ ناقَتي فأجابَها ... صَهيلُ جَوادي حينَ لاَحتْ ديارُها
خططْنا بأطرافِ المّحاصِر أرضها ... فأهدتْ إلينا مسكَ دارِينَ دارُها
ولاحتْ تَنايا الأقحوانِ ولو رأت ... عوارِضَ من أهواهُ طالَ استِتارُها
تَوقَّ عيونَ الغانِياتِ فإنَّها ... سُيوفٌ وأشفارُ الجُفونِ شِفارها
وله أيضاً :
خَليليَّ هل من رقدةٍ أستعيرُها ... لعلِّي بِأحلامِ الكرى أستزيرُها
ولو عَلمتْ بالطَّيفِ عاقَتهُ دُونَنا ... لقد أفرطتْ بُخلاً بِما لا يضيرُها
ومن أملح ما سمعت في هذا المعنى قوله :
أبرزنَ من تِلكَ العُيونِ أسِنّةً ... وهَززْنَ من تلكَ القُدودِ رِماحا
يا حَبَّذا ذاكَ السِّلاحُ وحَبّذا ... وقَتٌ يكونُ الحُسنُ فيهِ سِلاحا
ومنها :
أهوى الفَتى يُعْلي جَناحاً لِلعُلا ... أبَداً ويَخفضُ لِلجَليسِ جَناحا (1/19)
وأحبُّ ذا الوجهين ؛ وَجهاً في النَّدى ... نَدباً ووَجهاً في اللقاءِ وَقِاحا
وله من أخرى أولها :
لو جادَهُنَّ غَداةَ رُمنَ رَواحا ... غَيثٌ كَدَمعي ما أردنَ بَراحا
حانَتْ لفقدِ الظَّاعِنينَ دِيارُهُمْ ... فكأنَّهم كانوا لَها أرواحاً
وأرى العُيونَ ولا كأعيُنِ عامِرٍ ... قَدَراً معَ القدَرِ المُتاحِ مُتاحا
ومنها :
مُتوارِثي مَرضِ الجُفونِ وإنَّما ... مَرضُ الجُفونِ أن يَكنَّ صِحاحا
يرمي الكتيبةَ بالكتابِ إليهِمُ ... فيَرونَ أحرفَه الخَميسَ كِفاحا
مِن نفسِه دُرهماَ ومن مِيماِته ... زَرَداً ومن ألِفاتِه أرماحا
ولهُ أيضاً :
وأُقِسمُ أنِّي ما هَمَتُ برِيبَةٍ ... لِغانيةٍ إلاّ إذا كُنتُ راقِدا
ولكنَّني لمَّا رأيتُ جُفونَها ... مُمَرَّضةً أرسَلتُ طَرفيَ عائِدا
ولو لم تكُنْ أجفانُها صَدَفاً لما ... نَثرنَ غداة البَينِ دُرّاً فَرائدا
تُوسِّدُني العِيسُ الطَّليحُ ذِراعَها ... إذا لم تُوسِّدني الجَريدةُ ساعِدا
ويُسعدني سَيفي على كُلِّ بُغيةٍ ... إذا لم أجِدْ في العاَلمِينَ مُساعدا
وكنتُ إذا ما رُمتُ رعيَ قَرارةٍ ... منَ المَجدِ أرسَلتُ الرُّدَينيَّ رائدا
وكم رجُلٍ أثوابُهُ فوقَ قدرِه ... وقد يَلبسُ السلكُ الجُمانَ الفَرائدا
فلا يُعجِبنْ ذا البخلِ كثرةُ مالِهِ ... فإنَّ الشَّغا نقصٌ وإن كان زائِدا
أبو البركات الشاميُّ
قال حمد التَّوَّزيُّ : ورد من أهل الشام رجل يكنى أبا البركات ومدح الوزير بقصيدةٍ لا أحفظ إلا مطلعها وهو :
سماءُ العلا من نورِ وجهِكَ تُشرقُ ... وغُصنُ النَّدى من جُودِ كفِّكَ يورقُ
الطاهر الجزري
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجانيّ أبقاه الله أبياتاً له لم تطب نفسي بالتجافي عن لبس حلاها وتخطي رقبتها إلى سواها وهي :
أنظر إلى خَظِّ ابنِ شِبلٍ في الهوى ... إذا لا يزالُ لكلِّ قلبٍ سابقا
شَغلَ النساءَ عن الرجالِ وطالمَا ... شَغلَ الرجالَ عنِ النساءِ مُراهِقا
عَشِقوهُ أمردَ والتَحى فَعَشِقنهُ ... اللهُ أكبرُ ليسَ يَعدمُ عاشِقا
قوله : الله أكبر آدانٌ ترتاح منه الآذان وحشو رقيق الحاشية وكنت أتعجب من أبي تمام كيف جاد طبعه بالاستطراد من صفة الخيل إلى هجاء عثمان حيث قال من أبيات :
ولو تَراهُ مُشيحاً والحصى فِلَقٌ ... تحتَ السَّنابك من مَثنى ووُحْدانٍ
حَلفتَ إن لم تَثَبتْ أنَّ حافِرَهُ ... من صَخرِ تَدمرَ أو مِن وجهِ عُثمان
وكذلك من البحتري حيث استطرد في اللامية من صفة الفرس إلى هجاء حمدويه فقال :
ما إن يعافُ قذىً ولو أورَدتَهُ ... يَوماً خلائقَ حَمدويهِ الأحوَلِ
حتى أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجانيُّ قال : أنشدني أبو الكتائب البصرُّي لهذا الجزري ثلاثة أبيات استطرد من كل واحد منها إلى هجاء آخر وهي قوله :
وليٍ كوجهِ البَرقَعيديِّ ظُلمةً ... وبَردِ أغانيهِ وطُولِ قُرونِهِ
قَطعتُ دَياجيهِ بنَومٍ مُشَرَّدٍ ... كَعقلِ سُلَيمانَ بنِ فَهدٍ ودينِهِ
على أولقٍ فيهِ التفاتُ كأنَّهُ ... أبو جابرٍ في خَبطهِ وجُنونِهِ
أبو العلاء بن عبد الله بن سلمان
المعرِّيُّ التنوخيُّ
ضرير ماله في أنواع الأدب ضريب ومكفوف في قميص ملفوف ومحجوب خصمه الألد محجوج . قد طال في ظلال الإسلام أناؤه ولكن ربَّما رسح بالإلحاد إناؤه وعندنا خبر بصره والله العالم ببصيرته والمطلع على سريريه . وإذا تحدثت الألسن بإساءته لكتابه الذي زعموا أنه عارض به القرآن وعنونه بالفصول والغايات محاذاة للسور والآيات . وأظهر من نفسه تلك الخيانة وجذَّ تلك الهوسات كما تُجذّ العير الصِّليّانة . حتى قال فيه القاضي أبو جعفر محمد بن إسحاق البحاثي الزوزني في قصيدة أولها : (1/20)
كلبٌ عوى بمعرةِ النّعمان ... لمّا خلا عن ربقةِ الإيمان
أمعرةَ النّعمانِ ما أنجبتِ إذ ... خَرَّجتِ منكِ معرَّةَ العُميان
ورأيت ديوان شعره الذي سماه سقط الزائد وهتف فيه كالحمام على فنن غض النبات من الرَّند . ولم يتفق أن ألتقط منه ما يصلح لكتابي هذا فرجعت إلى تعليقاتي وعثرت بما أنشدنيه الأستاذ شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني رضي الله عنه قال : أنشدني لنفسه بمعرة النعمان وهو مما ينخرط في كتابه الذي سماه لزوم مالا يلزم :
محمودٌ اللهُ والمسعودُ خائفُه ... فعدِّ عن ذكرِ محمودٍ ومَسعودٍ
مَلكانِ لو أنني خُيّرتُ ملكَهُما ... وعودَ صَلبٍ أشارَ العقلُ بالعود
عُودي يخافُ من الإحراقِ صاحبُه ... إن قالَ ربِّي لأجسامِ البِلى : عُودي
وأنشدني له أيضاً :
وما ازدحمتْ عيرٌ على ورِدِ مَنهلٍ ... دنا خِمُسها يرعى نجيلَ الحَمضِ
تَزاحُمَ دَمعي في الجفونِ وقد غدتْ ... ركاِئبُهم بينَ العريقينِ والعُرْض
ولا أمَّ خِشقفٍ أقبلت بعدِ فِيقَةٍ ... لِتَمنحَهُ من دَرِّها صفوةَ المحضِ
ولا أمَّ بكرٍ ساقَ عنها حُوارها ... ظلومُ سُعاةٍ في الزكاة من الفَرُض
تصادفتِ السِّيدانُ حولَ إهابِه ... يَهُزُ من التَّسغابِ بعضٌ على بَعض
بأوجعَ مني يومَ قالَ رسوُلهم : ... أمستوطِنٌ بعدَ على الظَّعائنِ أم تَمضي
وأنشدني له الشيخ أبو محمد الحمداني :
حيِّ من أجلِ أهلِهِنَّ الدِّيارا ... وابكِ هِنداً لا النُّؤيَ والأحجارا
هيَ قالتْ وقد رأتْ شيبَ رأسي ... وأرادتْ تَنُكُّراً وازوِرارا :
أنا بدرٌ وقد بَدا الصُّبحُ في رأسِكَ والصبحُ يطردُ الأقمارا
لستِ بدراَ وإنما أنتِ شمسٌ ... لا تُرى في الدُّجى وتَبدو نَهارا
وله في وصف الشمعة :
وصفراءَ مثلي في هواها جَليدةٌ ... على نُوَبِ الأيام والعيشَةِ الضَّنكِ
تُريكَ ابتساماً دائماً وتهلُّلاً ... وصَبراً على ما نابَها وهيَ في الهُلك
فلو نَطقتْ يَوماً لقالتْ : أظنُّكُم ... تَخالونَ أنِّي من حِذارِ الرَّدى أبكي
فلا تَحسبوا دَمعي لوجدٍ وجدتُه ... وقد تدمعُ الأجفانُ من كَثرةِ الضِّحك
وله من قصيدة أولها :
يا ساهِرَ البَرقِ أيقِظ راقدَ السَمَرِ ... لعلَّ بالجِزعِ أعواناً على السَّهرِ
وإن بخِلتَ على الأحياءِ كلِّهِمُ ... فاسقِ المَواطِرَ حَيّاً من بني مَطَر
ويا أسيرةَ حِجلَيْها أرى سَفَهاً ... حَملَ الحُليِّ بمن أعيا عَنِ النَّظر
ما سِرتُ إلا وطيفٌ منكِ يَتْبعُني ... سُرى أمامي وتأويباً على أثَري
لو حَطَّ رْحلي فوقَ النَّجمِ رافِعُهُ ... ألفَيتُ ثمَّ خيالاً منكِ مُنتَظِري
يودُّ أن ظلامَ الليلِ دامَ لهُ ... وزيدَ فيه سوادُ الشَّعرِ والبصرِ
ومنها :
لو اختَصرتُمْ من الإحسانِ زًرتُكمُ ... والعَذبُ يُهجَرُ للإفراطِ في الخصَرِ
والحُسنُ يَظهرُ في شَيئينِ رَونقُهُ ؛ بيتٍ من الشِّعرِ أو بيتٍ منَ الشَّعَرِ
والخِلُّ كالماءِ يُبدي لي ضَمائِرَهُ ... معَ الصَّفاءِ ويُخفيها مع الكَدَر
فلا يغُرَّمكَ بِشرٌ مِن سِواهُ بَدا ... ولو أنارَ فكَمْ نَورٍ بلا ثَمَرِ
ومنها :
ماجتْ نُميرٌ فهاجت منكَ ذا لِبدٍ ... والليثُ أفتَكُ أفعالاً من النَّمِر
هَمَّوا وأمُّوا فلما شارَفوا وَقَفوا ... كوِقْفةِ العِيرِ بَينَ الوِردِ والصَّدَرِ
وأضعَفَ الرُّعبُ أيديهم فَطعنُهُم ... بالسَّمهريةِ دونَ الوخزِ بالإبَرِ
تُلقي الغَواني حَفيظَ الدرِّ من جَزعٍ ... عنها وتُلقي الرجالُ السَّردَ من خَوَر (1/21)
فكم دِلاصِ على البَطحاءِ ساقِطةٍ ... وكم جُمانٍ مع الحَصباءِ مُنتَشِر
رأَوكَ بالعَينِ فاستَغْوتْهمُ ظِنَنٌ ... ولم يَروك بفكرٍ صادِقِ الخَبر
والنَّجمُ تستصغِرُ الأبصارُ صُورتَه ... والذَّنبُ للطَّرفِ لا للنَّجمِ في الصِّفر
والكِبرُ والحَمدُ ضدّانِ اتِّفاقُهما ... مثلُ اتّفاقِ فَتاءِ السِّنِّ والكِبَر
يَجني تَزايُدُ هذا من تَناقُصِ ذا والليلُ إن طالَ غالَ اليومَ بالقِصَر
وله أيضاً :
أسالتْ أتِيِّ الدمع فوقَ أسِيلِ ... ومالتْ لِظلٍّ بالعِراقِ ظَليلِ
فيا جارةَ البَيتِ المُمنَّعِ جارُهُ ... غَدَوتُ ومَن لي عِندكُمْ بِمَقيل
لِغيري زكاةٌ من جِمالٍ فإن تكن ... زكاةَ جَمالٍ فالذكُري ابنَ سبيلِ
وأرسلتِ طيفاَ خانَ لما بَعَثتِهِ ... فلا تَثقي من بَعدِه بِرسول
خَيالٌ أرانا نفسهُ مُتَجنِّباً ... وقد زارَ مِن صافي الوِدادِ وَصولِ
نَسيتِ مَكانَ العِقدِ من دَهشِ النّوى ... فعلَّقتِهِ من وَجنةٍ ومَسيلِ
عليُّ بن محمد الجزري
وقع من بعض الجزائر إلى باخرز فارتبط فيها للتأديب وبقي بين كبرائها موفور النصيب . وبلغ من الغلو في التشيع مبلغا حقره حتى ادرع الليل وسمر الذيل وسد الأقتاد وطوى البلاد وأقام في مجاورة قبر معاوية بالشام سنة جرداء ببنيانه ويتبرك باستلام أركانه . ووراء املقه ذلك دفين أمر وخلل رماده وميض جمر . ولم يزل ينتهز الفرصة حتى خلا وجهه يوماً من الأيام وانفض عنه بعض من أولئك الأقوام فنفض على القبر عيابه وأسال فوقه مرزابه وألقى به جنينه وخلط بذي بطنه طنه وخرج منها خائفة يترقب قال : رب نجني من القوم الظالمين . وغي هذا المعنى يقول :
رأيتُ بني الطَّوامثِ والزَّواني ... بمقتٍ ينظرونَ إليّ شَزرا
لأنِّي بالشآمِ أقَمتُ حَولاً ... على قبرِ ابن هندٍ كنتُ أخرى
ابن كيغلغ
لما كان المتنبي في يتيمة الثعالبي مصدراً في العصريين وابن كيغلغ مهجوُّه في الطبقة من أبناء عصره وفي الدرجة من أفراد دهره وعثرت له بهذه الأبيات المليحة علمت أن الثعالبي غفل عنه أو أخل به أو قصر فيه أو لم يهتد له وكأنها ضالة مفقودة وجدتها . فكان فوزي به عظيما وحظي منه جسيماً وهيه الأبيات :
لَسُكرُ الهوى أروى لعَظمي ومَفصلي ... إذا سكرَ النُّدمانُ من مُسكرِ الخَمر
وأحسنُ من رَجعِ المَثاني وصوتِها ... تراجعُ صوتِ الثَّغرِ يُقرعُ بالثّغرِ
قلت : ما أحسن ما كنى عن حكاية صوت القبلة بقرع الثّغر بالثغر
وللشيخ والدي رحمة الله عليه في معناه ما لا يقصر عنه بل يربي عليه وذلك قوله :
وذات قمٍ ضِيقاً كَشِفّةِ فُستُقٍ ... تَزقُّ فمي لثُماً كشقِّكَ فُستُقا
ولي في بعض غزلياتي ما أحسبني لم أسبق إليه :
واللثمُ أنشأ بالتقاءِ شِفاهِنا ... صَوتاً كما دَحرجتَ في الماء الحَصى
والغرض من هذه المعاني الثلاثة حكاية صوت التقبيل وإن كانت الجهات متباينة أو الأنحاء متفاوتة والخواطر طرائق قدداً تتناثر من أسلاكها الجواهر بدداً . ولأشجارها أغصان ولثمارها ألوان
عبد الله بن محمد بن سنان الحلبيُّ
أنشدني الوزير أبو العلاء محمد بن علي بن حسول بالريِّ في دار الكتب سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة له :
ألا ناشدٌ فلباَ مُعتى أضعتهُ ... بشرقيِّ نجدٍ لهفَ نَفسي على نجدِ
إذا ما لَثمنا تُربَهُ قالَ صاحبي : ... أنستافُ ذكرَ الحيِّ أم أرَجَ النَّدَّ
صاعد بن عيسى بن سمان
الكاتب الحلبي
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني له :
أيا جَبلَ الريَّانِ باللهِ هَل لَنا ... على عَجلٍ في ساحَتَيْكَ مَقيلُ
وهَلْ لعَرانينِ الرِّجالِ إذا انتَشَوا ... إلى نَفَحاتِ الرَّندِ منكَ سَبيل
وهلْ نَغْبهُ من مائكَ العَذبِ يَرْتوي ... بهِ غُصْنُ عيشٍ قد عَراهُ ذُبولُ (1/22)
وهل لي إلى تلكَ المَنازلِ نَظْرةٌ ... وأهلُ الحمى بالرَّقمتينِ نُزول
لقد غالَها صَرفُ الزَّمانِ وجُرِّرتْ على ساحَتَيها للخُطوبِ ذُيول
وعَفَّى على ليلٍ قصيرٍ قَطَعتُه ... بنَعمانَ ليلٌ بالشآمِ طَويلُ
الواساني
أنشدني الشيخ الشريف أبو طالب محمد بن عبد الله الأنصاري له
فلو كانَ لي بيتٌ يَحِلُّ دُخولُه ... لأمتعتُكُمْ بالعَرفِ والقَصفِ والسكرِ
ولكنَّما لي بيتُ سَوءِ كأنَّهُ ... بقيةُ ناؤوسٍ على ساحلِ البحرِ
الفطريُّ
شاعر الأمير ناصر الدولة . أنشدني الإمام أبو عامر الجرجاني قال : أنشدني علي بن الخضر الواسطي قال : أنشدني الفطيريُّ هذا لنفسه بَميِّا فارقين في غلام رومي جليب :
وبمهجتي يا عاذِليَّ مُقَرطَقُ ... جَمعَ النُّحولَ بأسرِه في خَصرِه
أسَروهُ من أرضِ العدوِّ فأصبحَتْ ... نَفسي أسيرةَ ناظِرَيه وثَغْرِه
وحَياتِه لولا ملاحةُ خَدِّهِ ... ما ذَلَّ إيماني لِعزَّةِ كُفْره
قلت : هذا الشاعر منسوب إلى الفطير إلا أن شعره مخمر كل التخمير ومخاطب بين ولاة الفضل بالتأمير
أبو الحسن محمد بن حمدون القنوع
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني له في سبل الدولة بن صالحٍ لما هُزم ملك الروم من قصيدة :
لِبسوا دُروعاً من ضُباكَ تَقيهِمُ ... كانت عليهمْ للحُتوفِ شِباكا
نالتْ بكَ العُربُ الغني من مالهم ... وتقاسمتْ أتراككَ الأتراكا
لو لَمْ يَفرَّ جعلتَ صفحةَ خدِّه ... نَعلاً وقوسَيْ حاجِبيهِ شِراكا
قلت : أبصر كيف تناسب هذين البيتين و التشبيهين من غير افتقار منهما إلى أداة التشبيه ودلالةُ المعنى عليه من غير احتياج إلى التنبيه . والغرض منه أنه لو لم ينج برأسه لأتعست جده وأوطأت سنابك الخيل خده
وأنشدني أيضاً له قال : أنشدني أبو سعدِ جبرئيل بن محمد الاسفرايينيُّ قال : أنشدني القنوع هذا لنفسه :
ويَخترمُ الأرواحَ والمَوتُ أحمرٌ ... بأبيضَ يَتلوهُ لدى الطّعنِ أزرقُ
وتَجْري عِتاقُ الخيلِ قُبّاً شَوازياً ... تُباري هُبوبَ الرِّيحِ بلْ هيَ أسبقُ
إذا حَفرتْ منها الحوافِرُ في الصَّفا ... محَاريبَ ظلتْ بالنَّجيعِ تَخَلَّقُ
لما كان المحراب بالتخليق خليقاً صمَّ بينهما هذا الفاضل ثلفيقا ورَّفق عن صبوح الإحسان ترقيقاً
تميم بن المعزِّ
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني قال : أنشدني أبو محمد المخزومي قال : أنشدني الأمير تميم بن المعز يخاطب أخاهُ العزيزَ نزاراً
اِشربُ بكأسك حانَ وقتُ الكاسِ ... صحَّ الزمانُ فما بِه مِن باسِ
اللهُ ولأكَ الخلافةَ فانتقم ... لبني عليٍّ من بني العبّاسِ
الشريف ألو الفهم العثماني
كم وكم من خيرةٍ تَصْحبُ مكروهاً يُعارفُ
ربّما جاءكَ ما تَر ... جوهُ من حيثُ تَخافُ
عمران الطَّولقيُّ
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني قال : أنشدني أبو الكتائب عبد الواحد ابن أحمد البصري وقد ورد علينا مع رسول الأمير الدزيري وكان متوجهاً إلى ما وراء النهر ليحمل أقاربه من الترك سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة قال : أنشدني أبو الحسن عليُّ بن الحسن بن أبي العُلا الرَّحبيُّ قال : أنشدني عمران الطولقيُّ في غلامٍ غرق :
ألا أيُّها الخلُّ الغيَّبُ شخصه ... بمثلكَ هذا الدهرُ يَبخلُ عن مثلي
ولو كانَ حُكمي في حَياتي وميتَتي ... إليّ لَما جُرِّعتَ كأس الردى قبلي
كأنَّ صفاءَ الماءِ شاَكل جسمَمهُ ... فجاذَبهُ فانقادَ شَكلٌ إلى شِكلِ
ونافى تُرابَ الأرضِ نورُ بهائِه ... فَلو كانَ من تُربٍ لعاد إلى الأصل
ولم أسمع بالمدح بالغرق أحسن من قول القاضي أبي جعفر محمد بن إسحاق البحاثي الزوزني يرثي الأمير أحمد بن نيالتكين وقد غرق في بعض بحارِ الهند :
ولمّا لم يسعْهُ البرُّ قَبرا ... غَدا البحرُ المحيطُ له ضَريحا (1/23)
أبو المذكورنبا بن أرسلان الحلبي
قلتُ : لأني المذكور نبا نبأ بالشام مذكور وحديث بين فضلائها مأثور . أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني قال : أنشدني أبو الكتائب البصريُّ قال : أنشدني أبو المذكور لنفسه :
عتَبتُ في بعضِ أيامي على رجلٍ ... أستغفرُ الله ربي من وَقيعتِهِ
وقلتُ : عِرسُك فيما قيلَ واصِلةٌ ... خِلاًّ أبتْ أن تَناهى في قطيعتهِ
فهزَّ عطفيةِ هزًّا ثم قالَ : أفِقُ ... فغَيُرةُ المرءِ شُحٌّ في طبيعته
وله أيضاً :
صديقٌ لنا عِرسُه سَمحةٌ ... بمعروفِها ليسَ فيها خِلافُ
لها كلَّ يومٍ هَوىً في امرئٍ ... ومَيلٌ إلى غَبرِه وانعطافُ
كما البدرُ في كلِّ يومٍ لهُ ... مَسيرٌ إلى كوكبٍ وانصراف
وله :
ربيبُ مُللكٍ لم يَبِت ليلةً ... إلا وفي دِهليزِه شَمعَه
يكنِّي بذلك عن العاهة . وله أيضاً :
وذي مَحلِّ له عِرسٌ محاسنُها ... خُصّتْ بأفضلِ إطراءِ وأزيدِهِ
تَبايَنا وهما حِلفا مُلاءَمةٍ ... فالبَسطُ في رِجلِها والقَبضُ في يدِه
الرَّسِّيُّ
نقيب الطالبيينَ بمصر
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني الأديب أبو شجاعٍ فارس بن الحسين الشهر زوري بمدينة السلام للرسِّيِّ :
أقولُ لهُ حينَ عانقتُهُ ... وأَحشايَ من خيفةٍ تُرعَدُ
أنا الليثُ يا سيدي في الوغى ... ولكنَّني في الهوى صِفرِد
وله أيضاً :
ما زلتُ أشربُها والحبُّ ثالثُنا ... والبدرُ رابعُنا صفراءَ كالشَّررِ
حتى بدا الصبحُ من لألاءِ غرَّتهِ ... وعرَّجَ الليلُ في الأصداغِ والطّرَرِ
ابن الدُّويدة المعرِّيُّ
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني قال : أنشدني أبو الكتائب البصريُّ له :
إن ابنَ مسعَرَ والقاضي على عَجبٍ ... والدَّهرُ يُظهرُ كُلاًّ من عجائبِهِ
تَوافَقا عن رضىً لا فرقَ بينهُما ... كلٌّ يَنيكُ بعلمٍ عِرسَ صاحبِهِ
وأنشدني له أبو الفضل يحيى بن نصر السعدي البغداديُّ :
أفاتِكُ لا سلمتَ منَ الليالي ... ولا من فتكِها حالاً فَحالا
تُحيلُ المادِحينَ على مُحالٍ ... لأنهمُ يَقولونَ المُحالا
وأنشدني له أيضاً :
لبني المُهذَّبِ من فُروجِ نسائِهم ... نسبٌ يقودُهُمُ إلى الفَحشاءِ
تحتَ الحضيضِ جِباهُهُمْ وقرونُهُمْ ... مقرونةٌ بكواكبِ الجوزاء
قومٌ رجالُهمُ شَناعةُ آدَمٍ ... ونساؤهُمْ عارٌ على حوّاءِ
أبو الفضل المُشتهى الدمشقي
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني قال : أنشدني أبو الكتائب له في الجَرَب :
رآني الدهرُ في فضلي سماءً ... فأطلعَ ذي الكواكبَ فيَّ حَبّا
وكفَّ بها يدي عن كل وغدٍ ... يُقبّل ظهرَها وكساه رُعبا
وأوقع بين أظفاري وبَيني ... ليأخذَ ثارهُنّ لديَّ غَصْبا
لأني كنتُ أنهبهُنّ قَصّاً ... فصيَّر لي لهنَّ الدهرُ نَهْبا
ولم أسمع في عدوى الجرب بين المتحابّين والأعذار عنه أحسن من قول الشيخ والدي رحمه الله :
لنا جربٌ بين البَنان نَحكُّه ... رضَينا به والحاسدون غِضابُ
وكنّا معاً كالماء والراج صُحبةً ... عَلانا لطول الامتزاج حَبابُ
والبغداديون سمون الجرب حَبّ الطَّرب وهي كناية مليحة وإن كانت فيها كناية قبيحة والله تعالى أعلم
أبو الحسين إبراهيم بن خلف الأندلسيّ
أنشدني له الشيخ أبو عامر الجرجانيّ يشكو الدِّهْخُدا أبا البدر المظفر بن عليّ بن معروف القصريّ :
لَهْفي وليس بشافٍ قولُ ملهوفِ ... لذي رجاءٍ على الأنذال موقوفِ
أمّلتُ نُصرةَ منصورٍ فأسلمَني ... منهُ لِما شاءَ لا وافٍ ولا مُوفِ
قرّظتُه قلت : على أنْ أصادفَه ... عنِ ابتناء المعالي غيرَ مصدوفِ (1/24)
فجاءَ فِسْكِلَ مَن لاقيتُ متّئداً ... أخا عِنانٍ عنِ الأحرار مصروف
أعرضتُ عنهُ فدلاّني كُوَيْتِبُهُ ... منَ الغُرور بحبلٍ جِدِّ مَضعوفِ
وطاحَ بي قَولُهم : إنّ الفتى ابنُ أبٍ ... جَمِّ المحاسن بالعَلياء مكتوف
يا قومُ لا تُنكروا من غير مَعرفةٍ ... لهبَّةِ الريح مَجهولاً بمعروف
قلت : ما أحسن ما أوهم بالتلفيق بين المجهول والمعروف ومعروف هو اسم المهجوّ
أبو الفرج الموفَّقيُّ
هو أحد كتاب المصر . أنشدني الحسين بن يحيى الحكّاك المكّي قال : أنشدني الموفّقيّ لنفسه يصف ناعوراً :
ناعورةٌ تَحسبُ في صوبتها ... متيَّماً يشكو إلى زائدِ
كأنّما كِيزانُها عُصبةٌ ... صِيبوا برَيْبِ الزَّمنِ الواتِرِ
قد مُنعوا أن يلتقوا فاغتذى ... أوّلُهم يَبكي على الآخِرِ
ابنُ ماني
أنشدني الشيخ أبو عامر قال : أنشدني أبو الكتائب البصريّ قال : أنشدني ابنُ ماني لنفسه :
سُبحانَ ربِّ العرشِ سبحانه ... قد صار هارونُ ببّواب
سِدرتُكمْ آفتُها أنّها ... جمعُ أحباباً لأحباب
من صاعدٍ فيها ومن هابطٍ ... كأنّهمْ كيزانُ دولاب
وأنشدني الشيخ أبو عامر الجرجانيّ قال : أنشدني الشيخ العميد أبو بكر القُهِستانيّ قال : أنشدني ابن ماني لتقسه :
تَواضعَ النِّقْرِسُ حتى لقدْ ... صار إلى رجلِ ابنِ زَيدانِ
عِلةُ الإنسان ولكنّها ... في رِجلِ مَن ليس بإنسان
الماهر الدمشقيّ
أنشدني أبو عامر الجرجانيّ قال : أنشدني أبو الكتائب قال : أنشدني الماهر الدمشقيّ لنفسه في المَرثية :
برُغْمي أنْ أعنِّفَ فيكَ دهراً ... قليلاً همُّه بمُعنِّفيه
وأنْ أرعى النجومَ ولستَ فيها ... وأنْ أطأ التراب وأنتَ فيهِ
هذا أرقّ ما يكون من المراثي يكاء بفجّر عيون الأحجار فتَسيلُ بمُدود النهار بل بأمواج البحار
الأمير أبو المطاع بن ناصر الدولة
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني قال : أنشدني الإمام أبو بكر الشَّرمقانيّ قال : أنشدني أبو عبد الله الجوهريّ قال : أنشدني أبو المطاع لنفسه :
لمّا التقَينا معاً والليلُ يَستُرنا ... من جُنحِهِ نِقَمٌ في طِّيها نِعَمُ
بِتْنا أعفَّ مَبيتٍ باَتهُ بَشَرٌ ... ولا مُراقبَ إلاّ الظَّرفُ والكرمُ
فلا مشى مَن وَشى عند العدوِّ بنا ... ولا سعى بالذي يَسعى بِنا قَدَمُ
قلت : هذه والله ألفاظ ما عليها غبار ومعان ليس للخيل بها خبار
أبو الحسين عليُّ بنُ حمزةَ
الضَّريرُ الأندلسيُّ
أنشدني الشيخ أبو عامر له قال : قدم علينا في رجب سنة خمسين وأربعمائة وأنشدنا هذه الأبيات لنفسه :
لو أنَّ الريحَ تَحمِلُني إليكُمْ ... عَلقتُ ببعض أذيالِ الرياحِ
وكِدتُ أطيرُ من شوقي إليكم ... وكيف يَطير مقصوصُ الجناح
فوا أسَفي على زَمَنٍ تَقضَّى ... نَعِمنا فيه بالعيشِ المُتاح
وقصد الحضرة النظامية بباب رُها ... شهرَ ربيعٍ الآخرِ سنةَ ثلاثٍ
وستين وأربعمائة وخدمها بهذه الميمية :
أهلاً بطيفٍ زارَني في المنامْ ... من عادةٍ تَفتنُ كلَّ الأنامْ
بِجيدِ جيداءَ وعَينَي مَهاً ... أقصدُ من لحظهما في السهامْ
ووجهِها الأقمر إذ تَزدهي ... به على الشمس وبدر التَّمام
وشعرها الجَثلِ الأثيثِ الذي ... يحكي إذا امتدَّ التفافَ الظلام
ووردِ خدِّ فوقَه عقربٌ ... من صُدغِها تَمنعُه أنْ يُرام
قامتُها كالغُصنِ ممشوقةٌ ... والخصرُ في إرهافِه كالزِّمام
والرِّدْفُ ككَثيبٍ نَدِ ... يُعقدُها عندَ ابتداءِ القيامْ
ثَنيتُ عَزمي عن هواها ولم ... أحفِل بما لا قَيتُه مِلْغرام (1/25)
وجُبتُ يَهماءَ لِجِنّانِها ... فيها عَزيفٌ دائمٌ كالبُغام
على أمونٍ جَسرةٍ عِرمِسٍ ... أدماءَ كالفَحُلِ الشَّديدِ العُرام
ومنها :
للِعِلم في أيامِه أبحُرٌ ... عَجّاجةُ الأمواج زُرقُ الجِمام
وأهلة قد شِيدَ منهُ لَهمْ ... عِزٌّ نَزَيهُ الذّكرِ عن أن يُذامّ
شادَ لهم داراً فأضحَوا بها ... في عزَّةٍ ترفعُهم واحتشامْ
في أرضِ بَغدادَ التي أُسستْ ... مدينةً معروفةً بالسلام
أضحى على الجهلِ لهم مُذ نَبتْ ... تَحكُّمٌ يدمغُه وانتقام
نالَ العُلا من سادةٍ قادةٍ ... لِمعظم المجدِ عَليهم دَوام
وللمعالي مذ تَسَدَّوا لها ... مُتَّسعٌ ما بينَهم والتئامْ
يا مَن له بالمُعْتفينَ الأُلى ... لاذُوا بأكنافِ نَداهُ اهتمامْ
ها بِنتُ آدابيَ بِكراً فقد ... هذّبتُها مثلَ عروسِ الخِيام
كأنَّها في نظمِ أبياتِها ... عِقدٌ تَوالى فيه دُرٌّ تُوام
إليكَ فاقبَلهْا فإنّ الذي تُعطيهِ يَفنى ويَليهِ انصِرام
وكَمِّلِ المَهرَ لها إنَّها ... تُبقي جديدَ الذكرِ ما امتدَّ عام
أبو محمد القاسم بن بدر شامي يسكن آذربيجان . كتب إلى أبي طاهر الشيرازي وكانا متجاورين في بعض الأماكن . فخرج أبو طاهر في بعض الوجوه فكتب إليه أبو محمد :
أذاقتنيَ الدُّنيا مَذاقَ اغتِمامِها ... بِتَجريعِ كأسٍ من فراقِ إمامها
فَمِن وصلهِ يَسمْو بياضُ نهارِها ... ومن بُعدِه يَبْدو سَوادُ ظلامها
تَصرَّفُ بي أيدي النَّوى بعدَ بُعدِه ... تَصرُّفَ كفِّ بالَغَتْ في اهتضامِها
فحتّى متى فيهِ الفراقُ مُخاصمي ... ونفسِيَ في أسرِ النَّوى وخِصامِها
تَقاذفُ أنواعُ الأسى بيَ بَعدَه ... كمفْطومةٍ عانَتْ عناءَ فِطامِها
فليتَ صِيامي ضُوعِفَتْ دُهورُه ... وعَينيَ منه لم تكنْ في صِيامِها
ويا ليتَ عيني لم تُفارقْ وصاَلهُ ... وقد فارقت عنه وصال منامها
صفقت دموعي فوق خدي كأنها ... للآلىءُ منها أرسلتْ في نظامها
تَمكَّنَ في نفسي هَواهُ وإنَّهُ ... لأوثقُ في أعضائها من عظامها
فإنْ عُدَّ في دَنياهُ من جِنسِ أهلِها ... فجَوهَرةُ الياقوتِ بعضُ رُخامها
وأرفَعُ ما في أرضها التِّبرُ قيمةً ... ولكنَّه المدفونُ تحتَ رَغامها
وله أيضا إلى أبي طاهر الشيرازي :
إنَّ أُنسي بقُربِ دارِ الإمامِ ... أُنس نَبتِ الرُّبى بقَطرِ الغمام
خافضٌ للجناحِ سامٍ كبدرٍ ... حُطَّ منهُ ضياؤُه وهوَ سام
حَسَدتْ أنجُمُ السماءِ جميعاً ... حُسنَ أخلاقِهِ الحِسانِ الوِسام
الضَّحَّاكُ بنُ ناجِمٍ الأنصاريُّ
من أولاد جابر بن عبد الله مولده الرملة أنشدني شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني رضي الله عنه قال : قصدني هذا الأنصاريُّ بقصيد قالها فيّ وهي :
يُغْري المحَّ بمن يَهوى مُفَندُهُ ... ويَحملُ العبَْ عنهُ فيهِ مُسعدُه
والحُبُّ كالسَّمنِ في شَهدٍ يلذُّ بهِ ... مُشتارُهُ وهوَ مُضنيهِ ومُكمِده
قَلَّ الصديقُ وإنْ أصبحتَ تَعرِفُ لي ... مَكانَه فأبِنْ لي أين أقصدُه
كم قد عرفتُ صديقاً بعدَ مَعرفتي ... إيّاهُ صِرتُ فِراراً منه أجحَدُه
كفرتُ بالوُدِّ منهُ حينَ أو حَشني ... وكنتُ وجْداً بهِ في النّاسِ أعبُدُه
وكُلَّما زادَ قلبي في تلهُّبه ... غَيضاً عليهِ أتاهُ الوُدُّ يُبرِدُهُ
كم قدْ رددْتُ لساني عن مَثالِبِه ... وفي الفؤادِ لهُ هَجْوٌ أردِّدُه
لولا الحِفاظُ وأني لا أضيِّعُهُ ... أصبحتَ تَرحم بي مَن أنتَ تَحسُدُه (1/26)
دَعِ العَدُوَّ وكنْ ما عشتَ ذا حَذَرٍ ... من الصَّديقِ الذي زُورٌ تَوَدُّدُه
وليسَ فتكةُ مَن بالذمِّ تقصِده ... كفَتكةٍ من حَميمٍ أنتَ تحمَدُه
ولا يَغرَّنكَ ثَغْرٌ لاحَ من ضَحِكٍ ... بياضُه فبياضُ المكُرِ أسودُه
يا آمري بجميلٍ كيفَ يُثمرُ ما ... زَرعتُ من حَسَنٍ والقُبح يحصُده
زِدني نِفاقاً فإني زائدٌ مَلَقاً ... ومُطفيٌّ جَمرَ ما بالمَكرِ تُوقِدُه
لولا الإمامُ أبو عثمانَ أوحدُنا ... إذ عمَّ في سائرِ العافينَ مرفَده
ما كنتَ تعرفُ للقُصّادِ كلِّهِمِ ... مُستنجَاً أنتَ عندَ المحْلِ تَقصِده
إذا اعتمدتَ عليهِ في مُعاونةٍ ... لدفعِ دَهرِك أصْماهُ تأيُّدُه
أفديهِ من واعظٍ كافٍ أخي وَرَعٍ ... قد بانَ للخلقِ في الدُّنيا تزهُّده
وكلُّ ما هُوَ يَروي فيهِ من خَبرٍ ... إلى النَّبيِّ رَسولِ اللهِ يُسنِده
ابن أبي زرعة
وجدت في بعض التعاليق هذه الفائية منسوبة إليه فنقلتها وهي :
إذا عُدَّ عيشٌ ناعمٌ أو تُذُكِّرتْ ... غرائِبُ أيامِ السُّرور الطَّرائفُ
فمن خيرٍ أيّامِ الحياةِ التي خَلَتْ ... وأطيبها يومٌ من العيشِ سالِفُ
أصَبنا بهِ من غُرّةِ الدَّهرِ خُلسةً ... كما اعتَر من حَسناءَ غَيرانُ خائفُ
خرجْنا وسترُ اللهِ يجمعُ بَينَنا ... وكلٌّ لكلِّ مُسعِدٌ ومُساعِف
وقد أخذتْ زَهرُ الرياضِ حُليَّها ... وألبستِ الأرضَ الفضاءَ الزخارفُ
لُجَينٌ وعِقيانٌ ودُرٌّ وجَوهرٌ ... تؤلِّفُه أيدي الربيعِ اللطائف
تُهادي التِّلاعُ الجوَّ مسكاً وعَنبراً ... تُؤدِّيهِ أنفاسُ الرِّياحِ الضِّعائف
فأهدت إلينا الأرضُ عذراءَ لم يطف ... سِوانا بِها من قبل ذلكَ طائف
نَمَتْ في ثرىّ كالزَّعفرانِ وضَمَّها ... وَليّانِ عُلوِيّانِ ؛ ساقِ ولا حِف
فباكرَها وجهٌ من الشمسِ طالعٌ ... وروَّقَها دمعٌ من المُزن واكف
فتمّتْ جَمالاً واعتدالاً ونَضرةً ... ودافَ لها الكافورَ والمسكَ دائف
ومالتْ به فيها فُروعٌ نواعمٌ ... كما هَزَّ قُضِبانَ المتونِ الروادف
لبسنا به ظِلَّ السُّرورِ فكلُّنا ... شَروبٌ لِما تَنهاهُ عنه المصاحف
كأنَّ أباريقَ المُدامةِ بينَنا ... من المنظرِ الأعلى ظِباءٌ رواعِفُ
يُديرُ علينا الراحَ رطبٌ بَنانُهُ ... وصَيفٌ جفَتْ في الشكلِ عنهُ الوصائف
فعاودَنا من راحتَيهِ وطَرفِه ... كؤوسٌ لأسبابِ القُلوبِ كواشِفُ
ورُحنا وما ماءُ اللَّذاذةِ غائضٌ ... لديهِ ولا وجهُ المُروءَةِ كاسِفُ
وماَلتْ فُروعُ البانِ بينَ ثِيابنا ... وجُرّتْ على وَجهِ الرِّياضِ المّطارف
كنى في المصراع الأول عن السُّكر بكناية لم يسبق إليها
فما مِثلُ هذا اليومِ لولا انقِضاؤهُ ... وما مِثلُنا لو أخطأتنا المَتالف
حبيبُ بن أحمد الأندلسيُّ الأموي
أنشدنا الأستاذ أبو محمد العبدلكاني قال : أنشدني أبو العباس الأندلسي لهذا الأموي يصف قوماً :
فَهُم من الجِدِّ في حَضيضٍ ... وهُم من الجَدِّ في الرَّوابي
مخلع البسيط
وهُم إذا فُتِّشوا وعُدّوا ... أعزُّ من رَجعةِ الشبابِ
وبهذا الإسناد أيضاً قال : أنشدني لنفسه :
وأحمدُ ما يزوَّدُه أريبٌ ... وخُلِّد بعده الذِّكرُ الحميدُ
وما أسدي إلى حرِّ جميلاً ... سِوى حُرِّ لهُ رأيٌ سَديدُ
ومنها :
وقد جَرّبتُ من أبناء دَهري ... عَجائبَ ما لغايتها حُدودُ
تساوى الناسُ واعتدلوا جميعاً ... سواءٌ ذو السيادة والمَسود
ابنُ حبيبٍ الأمِدي (1/27)
أنشدني الشيخ أبو عامر قال : أنشدني أبو الحسين حُذيفة بن هارون الأنصاري قال : أنشدني ابن حبيب هذا لنفسه :
شَكا إلى الله نجمٌ ... وقال : واشؤمَ بَختي !
مجتث
أبليتُ بُردَ شَبابي ... فيكُمْ وضَيّعتُ وقتي
إذْ لا أزالُ مُعنّىً ... ما بينَ مَولىً وسِتِّ
فتلك تحلب أيْري ... وذاك يحلب في اسْتي
قال الشيخ أبو عامر : قال حذيفة بن هارون الأنصاري : وأنشدني ابن حبيب لنفسه بأمِدَ :
مذ غِبتَ عن عينيَّ غِبتُ ... لم أدرِ بعدكَ كيف كنتُ
وجَرتْ دموعيَ بالذي ... أضمرْتُ فيكَ وما علمتُ
أبو العباس الأندلسيّ
أنشدنا له الأستاذ أبو محمد العبدُلْكانيّ بِزَوْزَنَ سنة ثمانٍ وعشرين وأربعمائة قال : أنشدنا لنفسه من قصيدته الزائية :
وتنافستْ فيه العيونُ لأنهُ ... شمسٌ توارى شطرُها بالأمْعَز
كَتبَ العِذارُ على مَحاسنِ خدّه ... بدرٌ عليه علامَتا مُستوفِزِ
قلت : ومن أظرف ما سمعت في هذا المعنى قول القاضي أبي علي الحسن بن عبد العزيز الجُرجانيّ : هو صاحب الموازنة
قد برّح الحبُّ بمشتاقِكْ ... فأوْلِهِ أحسنَ أخلاقِكْ
لا تجفُه وارعَ لهُ حقَّهُ ... فإنّه آخرُ عشّاقِك
وفي قريب منه قول بعض أهل العصر يعني أبا عامر الجُرجانيّ :
أنا والصبرُ فقد بشّرَني ... نابِتُ المِسك بصَفحاتِ العَقيق
سَنةً أخرى وقد أخرجني ... شعرُ خَدّيكَ من العَقدِ الوثيقِ
ابنُ هانئ المغربيّ
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرحانيّ رحمه الله قال : أنشدني الأديب محمد بن محمد بن صِقلابَ له :
وتحتَ حَصى الياقوتِ لَبّاتُ خائفٍ ... حبيبٍ إليه لو توسَّدَ مِعصمي
وله أيضاً :
علا نفرٌ ضربَ المئينَ ولم نزلْ ... بحَمدكَ مثلَ الكَسرِ يُضربُ في الكسر
الماهر المحجوب المصريّ
أنشدني الأديب يعقوب بن أحمد النيسابوري قال : أنشدني أبو عامر السَّنَوي قال : أنشدني هذا المحجوب لنفسه :
طيفٌ لعَلوةَ حَيّاني فأحياني ... حَدَتْهُ رِيحانِ من وردٍ ورَيْحان
أَلَمَّ يخرُقُ جِلبابَ الظلام وقد ... خاطتْ يدُ النوم أجفاناً بأجفان
يلفنا بيدِ الشوق العناقُ كما ... لفّتْ يدُ الريحِ أغصاناً بأغصان
الشريف أبو طالب محمد بن عبد الله
الدمشقيّ الأنصاري
ما طرأ على نيسابور من الشام في عصرنا هذا أعذب منه عَذَبَةَ لسان ولا أفصحُ منه براعةَ بيانٍ ولا أنقشُ منه يَراعةَ بَنانٍ . وقد نشر بخُراسان من نسائج خواطره ونتائج ضمائره ما يُزري بالوَشيَيْن ؛ وشْي الرُّبا ووَشيِ البُرود ويَتيهُ على الوردين ؛ وردِ الجَنى وورد الخُدود . واتّفق أني وافيتُ نيسابور مُنصرفي من البصرة وهو عليها للمُقام معرِّجٌ وفيها لأوتاد الخيام مُشجِّج . وكنتُ في عقابيل أسقامٍ استصحبتها من تلك الأهوية الوبيّة وحُميّاتٍ ألقيتْ عليها أزمّة نفسي الأبيّة وتنفستُ فيها يَهذي به المحموم أو يتعلل به المهموم بأبيات تُترجم عن أوصاف أحوالي وتشهد بصدق مقالي إذ قلت : إني كنتُ من حرارة المِزاج على المقالي وها هي :
قُربُ السَّقامِ وبُعدُ الأهل والوطن ... هُما هُما أورثاني السقمَ في بَدَني
حنّت هوىً لجبال الثلج راحلتي ... وما لَها ببِراقِ الشِّيحِ من عَطَنِ
ما لي أُذيعُ فُنونَ الوجدِ مُشتكياً ... إذا اشتكتْ شَجوَها الورقاءُ في فَننِ
بقيتُ بالبصرة الرَّعناءِ ممترياً ... دمعاً غسلتُ به عن مُقلتي وسَني
طَوراً تَرانيَ فيها زَهَري ... من النُّحول وطوراً ذابلاً غُصُني
لرقص بُرغوثها القَفّاز في سَلَبي ... بَدءاً وعَوْداً وزَمْرِ البقِّ في أُذُني
ومائها المِلحِ والشمسِ التي صَهَرتْ ... رَملَ الفلا وأذابت صَخرةَ القُنَنِ
ونَفْضِ زائرةٍ تَنْفكُّ تُنزِلني ... عن ظَهري صَبري وليسَ يَحمِلُني (1/28)
إذا عَرَت مَضجعي ظمياء جائعةً ... تشرّبتْ رَوْنقي واستأكلتْ سِمَني
ومنها :
كالمشرفيِّ إذا أُغمدتُ في فُرُشي ... وإن نُفضتُ من الحُمّى فَكاليَزَنِي
ولو فشا خبرٌ مما مُنيتُ به ... بأرض خَيبرَ ظلّتْ منهُ في مِحَنِ
بِمَ التعلُّل لا أهلي لَدَيَّ ولا ... عندي نَديمي ولا كأسي ولا سَكني
الشُّكرُ دأْبيَ لستُ والكُفرانُ لستُ لهُ ... سِيّانَ في جَذَلٍ أصبحتُ أُم حَزَنِ
قلت : فزارني هذا الشريف عائداً وكان التقائي به سلامة سائغة الأذيال أهديت إليّ وعافيةً سائغة الزُّلال مُنَّ بها عليَّ . وبقيَ في قيد الأنعام النظامي مدة بنيسابور رافِلاً في سرابيل مِنحه ناطقاً بأغاريد مِدَحِه . يتدرّع في رياض الأماني ظلالة وينتجع لصَيدحه بِلاله . فما تماكس أن تماسكت أحواله وتلاقحت فتلاحقتْ أمواله وخرج في خدمة ركابه العالي إلى أصفهان فاستوفى بها أُكله واستغرق الرزق كله واقتطعتْه المنيّة دون الأمنية ولحق باللطيف الخبير : " وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً وما تدري نفسٌ بأيّ أرضٍ تموت " . فمما مدح به الصاحب نظام الملك حرس الله نظامه وأدام أيامه قوله من قصيدة أولها :
نوالُكَ من قَطر السحائبِ أنفعُ ... وقَدركَ من مَجرى المجرة أرفعُ
وهمُّكَ تفريق الثراء وإنّما ... تضمُّ به شَملَ الثناء وتجمع
يُنيلُكَ ما تَبغي من المجد نائلٌ ... عَميمٌ وقلبٌ قُلَّبُ الرأيِ أصمعُ
لقد ضلَّ من يرجو سِواك من الورى ... كما ضلَّ بالبدر الغويُّ المقنّع
وأسعدُ خلق الله ساعٍ مُشمّرٌ ... ركائبُه تُحْدى إليكَ وتُسرعُ
إليكَ حثثْنا كل وَجْناءَ جَسرةٍ ... من الشام تجْتابُ الفَلاةَ وتَذْرعُ
سَفائنُ آلِ تَكِلُّ كأنها ... إذا ألَّها الحادي النَّعامُ المفزَّع
وكتبت إليه رحمة الله عليه قصيدة أولها :
فرعتُ ذُؤابةَ المجدِ المنيفِ ... بما استطرفتُ من وُدّ الشريفِ
وكان معجباً بهذا المخلى ينسبني فيه إلى الإبداع في الاختراع :
وقلتُ وقد سمعتُ به لصَحْبي ... صِلُوا بعُرى الذَّميلِ عُرى الوَجيفِ
فسرْنا نَنشَقُ القَيْصومَ ورداً ... ونَحْسو أكؤُسَ السير الذفيف
وليس لنا النديمُ سوى السَّعالي ... وليس لنا الغِناء سوى العَزيفِ
فلمّا أنْ أنختُ به رِكابي غَفرتُ جَرائر الزمن العنيف
ولفَّ القرب بيتَيْنا جميعاً ... فنحنُ الآن من باب اللَّفيف
ومنها :
أقول له ولم أنفسْ بنفسي ... عليه ولا التليدِ ولا الطريفِ
فِدىً لك ما تُزَرُّ عليه قُمْصي ... وقُمْصي لا تُزرُّ على سَخيف
فإني منكَ في روضٍ أريضٍ ... دّللتُ به على خِصبٍ ورَيفٍ
ومن زَهَراتِ حظّكَ في ربيعٍ ... ومن ثمرات لفظك في خَريف
وكم عاشرتُ من عُصَبٍ ولكنْ ... تَخِذْتكَ من ألوفهُمُ أليفي
وما أنا من رجالك في القوافي ... وأصلُ اللعْبِ عِرفانُ الحريف
وأنتَ إذا ركبتَ الصعْبَ منها ... سبقْتَ إلى مَداكَ بلا رَديف
ولي حَشفٌ وبي تطفيف كَيْلٍ ... وها حَشَفي معَ الكَيلِ الطفيف
فإن تَرْدُدْ عليَّ فَرَهْبتي من ... وإنْ تُحسنُ إليَّ فرغبتي في
فأجاب عنها بقصيدة على عدد القوافي من غير تكرار قافية أورَدتُها أنا وهي :
رعاكَ اللهُ من يَقِظٍ أريبٍ ... يُسامقُ كلَّ مَنْقبةٍ مُطيفِ
ومن يُنبوع علمٍ مُستَماحٍ ... غزيرِ الفَهْمِ عن يَمٍّ خسيف
قَرنتَ الفضلَ إذ برَّزتَ فيهِ ... إلى أصْلٍ بلا وَصْمٍ شريفِ
ومثلُكَ يا عليُّ إلى المَعالي ... تَجوزُ مُبرِّزاً أمَدَ السَّليفِ (1/29)
بَهرتَ بلاغةً سَحْبانَ قسٍّ ... وقُسَّ إيادها وأخا ثقيف
قريضُكَ صادرٌ عن لُجِّ بحرٍ ... وما نَظَمَ الورى ضَحضاح سِيفِ
أتتْني من نظامِكَ ذاتُ دَلٍّ ... تُميطُ وساوسَ الوَصَبِ الأسيف
مُحبّرةً ظفرتُ بها فحلّتْ ... محلَّ اليُسرِ من نَصِبٍ مُسيف
يقومُ لها زهيرٌ لو ألمّتْ ... بمسمعِهِ على قَدَم النَّصيف
تَنوبُ عن المُدام إذا حَداها ... ثقيلُ الشَّدْو يُقرنُ بالخفيف
هي الروضُ الأريضُ وكلُّ نظْمٍ ... تَعَدّاها بمنزلة العسيف
فيا لله من نظمٍ رَصينٍ ... شريفِ اللفظِ مَطبوعٍ رصيف
لكَ البَهِجُ القَشيبُ من المعاني ... إذا ظفِرَ الأفاضلُ بالحَشيف
مَديحُكَ هِمَّتي لا وَصْفُ راحٍ ... تطوفُ بكأسها يُمْنى وَصيف
ولا أرضى نظيفَ الوجه إلاّ ... بحُسنِ الفِعل والحسَبِ النظيف
كأني في جواب سِواكَ مُضْنىً ... يُعّلُّ صَرايَةَ الشَّرْيِ النَّقيف
أأمنحُ العقلُ ذَوبَ أفكاري جَهولاً ... بما بَيْن الصُّهالِ إلى الصَّريف
ولولا العقلُ يشفعُه انتقادٌ ... لما عُرفَ الغناءُ من السخيف
لقد ظفرتْ يَدايَ بخلِّ صِدقٍ ... كريمٍ منك ذي وُدٍّ ورَيف
وأصبح مَربعي في روضِ فَضلٍ ... سَقاها نَوءُ فكركَ بل مَصيفي
حباني إذ علقتُ به عليٌّ ... وِداداً غيرَ مُمْتَهنٍ معيفِ
فتىً يأوي مُضافُ الخَطْبِ منه ... إلى دمِثِ النَّدى رَحْبِ المَضيف
ويُودِعُ جَوهَرَ الآداب طِرساً ... بأرقَشَ طوعِ أُنمُلِهِ قَصيف
يَذلُّ إذا جرى خَذِمٌ ورُمحٌ ... له ونَفاذُ مَسنونٍ نحيف
لمِثلِ لقائه تُنضى المطايا ... وتُضْحي كالقِسيِّ منَ الزَّفيف
ويسقُطُ من جَوانبها لُغامٌ ... لدى الإرْقالِ كالبُرْسِ النَّديف
ويُمسي القارحُ اليَعْبوبُ نِضْواً ... لكون لحافه قَلِقَ الوظيف
شكرتُ فعالَه ابنِ جُحرٍ ... لسلمى حين حلَّ ذُرا طريف
فلو حالَ التباعُدُ عن دُنُوّي ... إليه وشاطِنُ المَرمى القذيف
لجاوزتِ التنائفَ بي إليه ... نجاةُ الشَّدِّ جائلةُ السَّفيفِ
وسرتُ إليه أقتسِرُ المَعامي ... وأركبُ كاهل السَّنَن الظليف
أحاولُ وصلَه بسُرىً ونَصٍّ ... وأهجُر مَوقَع السَّعيِ الدَّليف
لأنّ إخاءَه وَزَرُ المُوالي ... وفيضَ نَواله كنزُ الظليف
فخذْها تسلُبُ الألبابَ حُسناً ... ويُسْلِمُها النَّشيدُ إلى الرَّشيف
يَشِفُّ جمالُها سَبكاً ومعْنىً ... لِحَوزِ الحُسنِ من خَلَل النَّصيف
يحوزُ بحفْظها جَذلاً وأمْناً ... فؤادُ الغُمْر في اللَّقَم المخيف
أمِنتُ من الرَّدى وجُعلت ذُخري ... فَرُعتُ ذؤابةَ المجد المُنيف
قلت عند انقضاء هذا الكلام وقد خجلتُ من مواقع هذه الأقلام : مدوّن مدح نفسه يُقريني السلام
أخوه
أبو الفضائل هبة الله بن عبد الله الأنصاري
الفضائل هبة الله لأبي الفضائل هبة الله . وإذا قلت : إنه كأخيه فقد ربطتُ جمَلَ الثناء على أواخيه . أنشدني له أخوه الشريف أبو طالبٍ :
يا إخوتي أوصيكُمُ كُلَّكمْ ... وصيّةَ الوالدِ والوالدَه
لا تنفلوا الأقدامَ إلاّ إلى ... من لكُمُ في قَصده فائده
إما لعِلمٍ تستفيدونَهُ ... أو لنَوالٍ أو إلى مائده
فإنْ عدِمتُم هذه كلَّها ... فانقطِعوا عن ذاك بالواحده (1/30)
وفي قريب من هذا المعنى ما أنشدني العميد القُهِستاني قال : أنشدني الشيخ أبو الفتح المظفر بن الحسن الدامغانيّ لنفه في الوزير الشيخ أبي القاسم أحمد بن حسن الِميمَنْديِّ :
ولقد يَئستُ منَ الوزي ... ر ومن بَنيه زائده
وغسلتُ من معروفهمْ ... كِلتا يَدَيَّ بواحده
ورَمَيتُهم عُرضَ الِجدا ... رِ فليسَ فيهم فائده
أبو العباس العباس الخوزانيّ
أنشدني أبو عامر الجرجانيّ قال : أنشدني أبو جعفر محمد بن أحمد القصاصُ قال : أنشدني الخوزانيّ لنفسه في وداع شهر رمضان عمّت بركته :
أقولُ لشهرِ الصَّوم لما قضيتُهُ : ... عليكَ سلامُ الله بوركتَ راحلا
وقد كنتُ من سَحبانَ أفصحَ لهجةً ... فصيَّرَ طَبْعي باقلاؤك باقِلا
الحسن بنُ مالكٍ
وجدتُ له في كتاب " قلائد الشرف " من تأليف الشيخ أبي عامر الجرجانيّ قصيدة نظامية ضممتُ أذيال شَتاتها واخترتُ هذا القدْر من أبياتها وهي :
وقد يَتصابى والمشيبُ يذمُّه ... فُوادٌ به سُكرٌ وليسَ به ذِكرُ
عَمَرتُ خرابَ الشَّعر عُمراً بخَضبه ... وعندَ الغواني أرضُ عُمرانه قَفرُ
أليسَ شبابُ المَرءِ أحلى حياته ... إذا جاوز الأحلى فما بعده مُرُّ
ومنها :
وزيرٌ وزيرُ الناس لم يحظَ عنده ... ولا بات محمولاً على ظهره وِزرُ
أبوهُ عليٌّ جازَ في المجد رُتبةً ... عوى تحتها العَوّاءُ واستغفرَ الغَفْرُ
وإسحاقُ لم يَخمُلْ ولا خمل ابنُهُ ... ولا ابنُ ابنه يوماً ولا خَملَ الذِّكْرُ
أولئكَ سادوا ثمّ شادوا فأكملوا ... فأبخلُهم بحرٌ وأجنبُهم بحر
ابنُ العَواذليّ
قصد الحضرة النظامية على باب رُها وفتح بهذه الميمية لهاه قَرَماً إلى اللُّهى واغترف اعتقاده في الخدمة من نِهْيِ النُّهى :
لو كانَ للدهر حِسٌّ أوله كَلِمُ ... أثنى عليكَ بما يُثني به الخَدَمُ
سُدْتَ الزمانَ فأعلى قدرَ سيِّده ... عن أنْ يُلِمَّ به من صَرفه ألَمُ
قد تابعَتْك على الإسعاف أقضيةٌ ... مُطيعةٌ بالذي تَهوى وتحتكم
فالأرضُ مخضرّةٌ تحكي زُمرّدةً ... والنَّورُ دُرٌّ على الأغصان مُنتظمُ
وللأزاهير ضِحكٌ في حدائقها ... كأنّهنّ ثغور البيضِ تبتسم
كأنّ تغريدَ وُرقِ الصادِحات بها ... أرجازُ رؤبةَ لولا أنها عَجَم
دُكْنٌ مطوَّقةٌ أعناقُها حُمماً ... وما سمعنا بجيدٍ طَوقُه حُمَم
وكُلُّ طَودٍ أشابَ جُمَّته ... قد كاد يصلعُ من فازارته القِمم
لولا اختلافُ فُصول العام ما عَمَرتْ ... أرضٌ ولا نشأتْ من رَبعها نَسمُ
ومنها في المدح :
إمامُ علمٍ يُجيرُ الائْتِمامُ به ... وقدوةٌ تُقتفى آثارُها علمُ
يُمتارُ من رأيه نصرٌ ومن يده ... رِفدٌ ومن فمه الآدابُ والحكم
فَزِدْ على ثِقةٍ مَغْناهُ تحْظَ بما ... وجوده عنده سِيّانِ والعَدمُ
ولا تسِمْ بالندى كعْباً ولا هَرِماً ... فكلُّ ذي نعمةٍ في قَومه هَرِمُ
علتْ مساعيه عن شَرح فلا انشرحتْ ... عن صدر حاسده بلْوى ولا غَمَمُ
وله أيضاً :
تلقَّ سُعوداً شارفَتْك ومَهْرجِ ... وأيمِنْ بعيدٍ سنَّه الفرسُ مُبهِجِ
وفصلٍ جَلا منهُ الخريفُ من الثرى ... فَردايسَ تجلو ناظرَ المتفرِّجِ
ففيها لحسِّ الذوق من ثَمراتها ... ووللشَّمِّ خَظّا لذةٍ وتأرُّجِ
ولما استوى ساعُ الجديديْنِ عُدّةً ... أنفْنا على فصلٍ من العام سَجْسَج
وأقبلَ آلاءُ الوزيرِ تَؤمُّنا ... على منهجٍ من عَدْله غيرِ مُنهَجِ
عوائدُ مَجبولٍ على الخير دأبُهُ ... إغاثةُ مَنجودٍ وإيواءُ مُلتَجِ (1/31)
سَبَرْنا على العلاّت يُمناهُ في الندى ... فلم يُخْلِنا من مَطلبٍ عنده رُجِي
علي بن أبا منصور الدَّيلميّ الحلبيّ
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني له هذين البيتين :
أيها الدَّيْلميّ أصلحكَ الل ... ه ترفّقْ فلستَ من دَيْلَمان
كُفَّ زُرْفينَ مقلتيكَ عن النا ... س وإلاّ استعَنْتُ بالسلطان
محمد بن أحمد بن الحسن
الشطرنجيّ الحلبيّ
ألِفَ ظلالَ السُّرادق النظامية وخَدمها بهذه الألفية على باب حلبَ سنة ثلاث وستين وأربعمائة :
أما عُلاكَ فدونَها الجَوزاء ... قَدْراً فماذا ينظمُ الشُّعراءُ
يَرتدُّ عنها الفكْرُ وهْوَ مُهَنَّدٌ ... ويضيقُ فيها القولُ وهْوَ فضاء
شرفٌ أناف على السِّماكِ وهمةٌ ... ضاقتْ بمَسرحِ عَومها الدَّهْناءُ
وفضائلٌ جاءت أخيرَ زمانها ... فحثت على ما سَطَّر القُدَماءُ
إنْ كنتَ من شرفٍ بنيتَ على السُّهى ... بيتاً فوجهكَ للعُفاة ذُكاءُ
يا خَيرَ من خَفقتْ عليه رائةٌ ... وأجلّ معقودٍ عليه لواءُ
لكَ كلَّ يومٍ مِنّةٌ سَيّارةٌ ... في الخافقينَ وغارةٌ شَعْواء
وكتيبةٌ منصورةٌ وفضيلةٌ ... مَشهورةٌ وعَجاجةٌ شهباء
وغَدَتْ جِيادك تستلذّ كَلالها ... حتى كأن الراحةَ الإعياء
إن الشآم وإن تَمرض شاكرٌ ... ولَرُبّ داءٍ عادَ وهوَ دواء
أعزَزْتَه في عاجلٍ وتركتُه ... بالعَدْل يَرتَعُ طُلْسُه والشاء
ما زادك الألقابُ معنىً ثانياً ... وكأنّها من صدقها أسماءُ
قلت : هذا والله في فنه غريبٌ ونمطٌ عجيبٌ . ومنها :
قومٌ إذا خَطَر الغَمامُ بدارهم ... ظهرتْ عليه خَجْلةٌ وحَياءُ
وكأنما في غِمْدِ كلِّ مهنَّدٍ ... سَلّوه من فَلَق الصباح ضياء
أما السماء فما أظلّت مِثلهمْ ... أبداً ولم تتحمّل الغَبْراء
سعيد بن علي
من مدّاح الصاحب نظام الملك أدام الله عُلاه . أنشده هذه الخدمة الآخر سنة ثلاث وستين وأربعمائة :
أبى الضيمَ قلبٌ بين جنبيَّ ... وعزم من الشهب الثواقب أثقب
وكلّفني خوضَ الدُّجى طلبُ العُلا ... ولولا المعالي ما اطَّباني مركب
فما لي وللاّحي يُطيل ملامتي ... كأني لغير أسعى وأذأب
ويومٍ كأنفاس المَشوق قطعته ... وأنفاسُهُ من حُرّه تتلهَّب
فلما دجا جُنح الظلام هتكتُهُ ... كأني في قلب الحنادس كوكب
فوا أسفي حَتّامَ لا النأي ينقصني ... ولا الصبر يقضي لي ولا الدار تقربُ
أكلَّ زماني من زماني شِكاسةُ ... أطول حياتي من حياتي تعتُّب
خُلقْتُ حَمولاً للخُطوب فلو جَرى ... لها مِقولٌ قامت بصبري تحطب
خَليليَّ مهلاً لا تلوما أخاكما ... فما يعرف الأيام من لا يُجرّب
لقيت من الأيام ما لو قرنْتُهُ ... بثَهلانَ أضحى وهوَ في التُّرب يُحسَب
وجربتُ أبناء الزمان فكلّهم ... عدوٌّ مُداجٍ بين طِمْرَيه عقرب
وما أنا بالمُطري ضَنيناً وإنما ... بجود نظام المُلك أُطْري وأُطْنِب
هُمامٌ له عند النوائب همّةٌ ... بأمثالها الأمثال في الناس تُضرَب
ومستنقِذُ الأقوام بالعدل بعدما ... فرى الناس نابٌ للخُطوب ومخلب
يرى عاجلاً في آجلٍ فكأنّما ... أبى الله أن يَخفى عليه المغيب
ومنها :
وأبلجَ بَسّامٍ يكاد جَبينه ... يقوم مقامَ الشمس أيّان تغربُ
ومبتهجٍ بالزائرين كأنه ... لأجمعهم من دون آبائهم أبُ (1/32)
إذا حلَّ فالجوزاء دستٌ وإن سرى ... فموكبه الأقدارُ والسعد مركب
فمن مبلغٌ أقلامَه أنّ ريقَها ... سِمامٌ ودرياقٌ معاً حين تكتب
وأنّ المنايا الحُمر منهنّ تُستقى ... وأن العطايا البيض منهنّ تُكسب
إليك نظام الملك قادنيَ الهوى ... وجِدٌّ له بين الجوانح ملعب
أغِثني وغِثني واصطنعني من الردى ... فكلُّ امرئٍ يولي الجميلَ محبَّب
إبراهيم بن عبد الرحمن المعرّي
هو في الفضلاء من أوساط الجمهور والوسط خير الأمور . ولو لم يكن باع الفضل للأوساط منبسطاً لما قال الله تعالى عز و جل : " وكذلك جعلناكم أمةً وسَطا " . وهو من مدّاح الصاحب نظام الملك قصده بهذه القصيدة :
يا عالماً غودِرَ في رَقدةٍ ... هُبّوا فكم يُدعى بكُم هثبّوا
قد ظهر الحقُّ وبان الهدى ... لمن له عينانِ أو قلبُ
مثل ظهور الشمس من حُجْبها ... إذ رفعت من نورها الحُجْبُ
بالمَلِك الأعظم مستبشرٌ ... شرقُ بلادِ الله والغربُ
أقطارها ترتجّ من ذكره ... وجيشُهُ ضاق به الرَّحْب
فإنْ تدُر للحرب يوماً رحىً ... فهو لها من دونهم قُطب
كالأسَدِ الوَردِ يُرى خادراً ... وكلُّ من عتنده كلب
وصَحبُه الأشبال من حوله ... مُلبِدةً يُخشى لها وثْب
أنيابها نُشّابها والظُّبى ... أظفارها إنْ سُئِمَ النشْبُ
عودهُمُ لَينٌ لسلطانهم ... وهو لمن عاداهُمُ صُلْب
يا ملك الأملاك بل لبّها ... شهادةٌ صدّقها اللُّبّ
نصرتَ حزبَ الله يا منْ له ... ربُّ البرايا أبداً حزب
يا ملكَ الإسلام يا من له ... ذكرٌ بأفواههم عذب
ما نُدب المُلكُ إلى ماجدٍ ... إلاّ وأنت الماجدُ النَّدب
ذاد خُطوبَ الدهر عن ساحتي ... فلا عَراه أبداً خَطْب
قلتُ وقد أمطر أرضي الغِنى ... وشرّد الجَدْبَ بها الخِصب :
من لم يُعد رِفده مُتْرباً ... فإنه أوْلى به التُّرب
الحسين بن عبد الله العبادوسي
خدم الحضرة النظامية حرسها الله متيمّماً بشفته صعيد تُرابها مستلذاً لما يقطعه من جنى جَنابها . وقد مرّت بي حكمةٌ له ميمية اخترتُ منها هذه الأبيات الثلاثة :
قد مرَّ نقدُ أياديه بكلّ يدٍ ... ولذَّ نشر مَعاليه بكلّ فم
تمضي أوامره في كل محتشمٍ ... ويتبع الحقَّ فيهمْ غير محتشِم
يذِلّ كلّ عزيزٍ عند سَطوته ... ويَكتفي منه قبلَ الكَلْم بالكَلِم
علي بن عبد العزيز بن عمرو المعريّ
خدم الصاحب نظام الملك على باب ميّافارقين في صفر سنة ثلاث وستين وأربعمائة بهذه القصيدة :
حَيِّ الديار برامةِ الجَرعاء ... فهُناك أهل مودّتي وصَفائي
أيام كنتُ بها مقيماً ناعماً ... أختال بين ضراغمٍ وظباء
حورٍ نواعمَ ما وسُمْنَ بريبةٍ ... ما بين كاملةٍ إلى عذراء
يُخجلن بدرَ التّمّ في غَلَسِ الدجى ... ويذرنَ نور الشمس كالظلماء
ومنها في المديح :
لمّا وفدْتَ على الشآم تباشرتْ ... أقطارها بمفرِّجِ الغَمّاء
وأنار عدلكَ في دياجي أرضها ... وجرى إليهم مثل جريِ الماء
وتسامعتْ صيدُ الملوك بنعمةٍ ... مُلِّيتَها من مسبِغ النَّعماء
أنصبتُ قصداً نحو جودك أيْنُقي ... متحقِّقاً أني أنال رَجائي
خُذها إليكَ قصيدةً من ناطمٍ ... زهراء مثل الروضة الزهراء
غرّاءَ تُزهر كالربيع نضارةً ... جمعتْ صفات خليقةٍ غَرّاءِ
السيد أبو الحسين الطَّوْلَقي
هو من المغاربة ضرير مقرئ حسن التصرف في الشعر والنحو . سمع قول الشيخ أبي بكر القهستاني في الأتراك : (1/33)
لأجل الترك ما يُدعون تُركاً ... فهم تُركٌ وواحدهمْ تروك
كذاك الفُعلُ واحدها فعولٌ ... أليس الضحك واحدها ضَحوك
فأجاب عنه بقوله :
ألا يا عائب الأتراك مهلاً ... فليس إلى معائبهم سُلوك
تَلوك القول إفحاشاً وهُجراً ... أتدري لا أبالك ما تَلوك
فحُرُّّهُمُ على الأحرار مَلْكٌ ... وعبدهُمُ لمالكه مَلوك
كفى الأتراك أن الناس طُرّاً ... رعاياهُمْ وأنهُمُ ملوك
قلت : وزاد على القُستهاني بإعناته والتزام اللام والواو في أبياته وقد ملّح العميد القُهستاني في قياسه الترك والتروك على الضحك والضحوك . وللسيد شرف السادة البلخيّ أبيات في الأتراك لم أسمع أحسن منها في معناها وهي :
عليكَ الترك من هذا الأنامِ ... فهمْ زَينُ المحاضر والمَوامي
وهمْ مُرُّ الزمان وهم حلاه ... وقد حُمدَ المرارة في المُدام
بأوساط الفَلاء لهم بيوتٌ ... تحصّنها بأطراف السهام
وما أحسن ما لفّق بين الأوساط وبين الأطراف . ومثلُ هذه الصنعة في شعر المتنبي :
تولِّيه أوساط البلاد رماحه ... وتمنعه أطرافهنّ من العزل
الشريف ابو الحسن المغربي
الشريف أبو الحسن علي بن أبي طالب بن الحسن المغربي
أنشدني له وُسْتاسْفُ الأصفهاني حافد الأستاذ أبي عبد الله البنداري الديلمي قال : أنشدني هذا الشريف لنفسه بنصيبين :
قمرٌ يُسيء إلى القلوب بحُسنه ... وبسُقم ناظره يُصِحُّ ويُسقِم
الريمُ والغصن الرطيب ونوره ... ألحاظه وقَوامه والمَبسم
لا فزتُ يوماً من رضامك بمبهجٍ ... إن كنتُ من تعذيب حبكَ أسأم
أبو الوفا المافَرُّوخيُّ
أنشدني وُسْتاسْف الأصبهاني الذي سبق ذكره قال : أنشدني أبو الوفا لنفسه في بهرام الطباخ سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة :
أقِلَّ من صَلَفٍ لم تُؤتِ عن سَلَفٍ ... والقَ الأنامَ على قدر ومعرفةٍ
فإنّ والدكَ الطَّباخَ أعرفه ... فانشر حديثك عن قِدرٍ ومغْرفةٍ
الحسين بن الحسن الخَطيبي الأرمَوي
مدح الصاحب نظام الملك على باب أُشْنَة في ذي الحجة سنة اثنتين وستين وأربعمائة بهذه القصيدة التي مطلعها :
خليليَّ جودا بالدموع وأنجدا
ومنها :
إذا غامَ خضراء الوغى لطريدةٍ ... تقاطَرَ منها النصلُ والحَينُ والردى
وإن ظمئت لله خيلُ أخاضَها ... ليَشفي ظماها في نجيعٍ من العِدا
تُباهي بها تلك الديارُ تفاخُراً ... ويُبدي الثرى منها لُجيناً وعَسجدا
بَراه إله الخلق رزّاقُ كلّهم ... فقلَّدها النُّعمى تُؤاماً ومفردا
هو البحر جوداً زُرهُ ما دام ساجياً ... ولا تَلْقَه إن كان يَزْخَر مُزءبِدا
أعزُّ المعالي سافراتٍ كأنها ... تُنادي بأعلى الصوت هُبّوا إلى الجَدا
ولولا نظامُ الملك ما نجم العُلا ... وعاد ضياءُ الشرع أغبرَ أرمدا
ولا رُتِّل القرآن في حِندِسِ الدجى ... ولا شاعَ دين الله غضاً مجدّدا
عبد الله بن محمد بن بكر الجعفري الوزيري
ورد على مولانا نظام الملك أدام الله أيامه وحرس على الملك نظامه وهو بالشام في صفر سنة ثلاثٍ وستين وأربعمائة ومدحه بهذه النونية التي أولها :
الشوقُ فرّق بين الجفْن والوسَنِ ... والسًُّقْمُ أثّر في روحي وفي بَدَني
ومنها في المدح :
هو الوزيرُ الذي قد راض مملكةً ... ما راضها قبلَهُ كِسرى وذو يَزَنِ
دارتْ على فَلَك الإقبال دولته ... شمساً فخرّتْ له الدنيا على ذَقَن
فالدين من عدله المنشور في خِلَعٍ ... والشِّركُ من بأسه المحذورِ في كفَنِ
والعبدُ في مُلْكه كالحُرِّ مقتدرٌ ... والحُرُّ من منّه عبدٌ بلا ثمن
المهذَّب (1/34)
أنشدني القاضي أبو جعفرٍ البحائي رحمة الله عليه قال : أنشدني القاضي حَمْدُ بن محمد التوَّزيُّ لوزير عزيز مصر الملقَّب بالمهذَّب في مدح المرتضى الموسَوي البغدادي من قصيدةٍ يقول فيها :
تختالُ بينَ السُّمر وهْيَ شواجِرٌ ... هل يُفزعن أسدَ العرين عَرين
أبو الطالب الوحيد المِصري
أنشدني الشيخُ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني غرس النعمة له :
ضَنَّ الزمان بنيّة الإخلاص ... عني وجاءَ بوُدِّه المعتاضِ
ما سرَّ يومٌ منه إلاّ ساءَني ... غَدُه فأيامي جُروحُ قصاصِ
ومن العجائب أن كلَّ بلاغةٍ ... جمحتْ تُطاوعني وحظّي عاصِ
والطيرُ أجناسٌ تطير وإنما ... للُغاتهنّ حُبسن في الأقفاص
ابنُ بابا
باب الأدب عليه مفتوح ودَسْت الفضل له مطروح وزَنْد الشعر به مقدوح . قال يمدح الصاحب نظام الملك حرس الله أيامه على باب قِنَّسرين من الشام سنة ثلاث وستين وأربعمائة
يمينُك أندى العارضَين سَحاباً ... وعزمُك أمضى الصارمين ذُبابا
وأنت أعمُّ الناس طَوْلاً وسُؤدَداً ... واطيبهم جُرثومةً ونِصابا
وأسرعهم في النائبات إغاثةً ... وأمرعُهم يومَ العطاء جَنابا
شهادةُ بَرٍّ لا تُحابى بمثلها ... ألا ربما كان السحابُ يُحابى
يقولون : إن المُزن يحكيك صوبُهُ ... مجاملةً ها قد شهدْتَ وغابا
وكم أزمةٍ عمَّ البريّة برسُها ... فهل ناب فيها عن نداك منابا
هَمَتْ ذهباً فيها يداك عليهم ... وضَنَّتْ يَداه أن تَرُشَّ ذِهابا
ولو كان للأسياف عزمك ما نَبَتْ ... ولا ناطَ بالخصرِ النِّجادُ قِرابا
وما زلتَ تُرضي اللهَ في نصرِ دينه ... بمألُكَةٍ نُزجي الأُسود غِضابا
إذا طُويتْ كانت وغىً وقساطِلاً ... وإنْ نُشرتْ كانت ظُبىً وحِرابا
وما حملتْ غير السيوف رسالةً ... ولا طلبت غيرَ الرؤوسِ جَوابا
قد اخترطتْ أيدي الخِلافة منكُمُ ... سيوفاً على هام العداة غضابا
ومن بات عن قوس السعادة رامياً ... نُحورَ أعاديه رمى فأصابا
دعاكَ على شَحْط المَزار ابنُ صالحٍ ... فلم ترضَ إلاّ أن تكون جَوابا
غدا طالباً في ظلّ مُلككَ عيشةً ... فوافاه أحظى الوافدين طِلابا
وكان إلى نيلِ السلامة سُلّماً ... لنا وإلى باب السعادة بابا
هو الجَدُّ فليُمْسِ الفتى في ظِلاله ... فلو أخطأ المجدود قيل : أصابا
سقى حلباً من جود كفِّكَ ماطرٌ ... إذا لم تَصُبْ فيها المواطِرُ صابا
سَموتَ بها نحوَ السماء كأنّما ... ضربتَ عليها بالنجوم قِبابا
فإنْ ناسبت منها الصقور فطالما ... رفعتَ عليها باللواء عُقابا
قلت : لله دره في الجمع بين الصقر والعُقاب بهذا المعنى المقرطيس لهدف الصواب :
بحقّ تولّيتَ الخلافة معتقاً ... برأيكَ من رقِّ الخلاف رقابا
نظمتَ نظام الملك منثور مجدها ... عُقوداً على لَبّاتها وسِخابا
وجلّيتَ يا شمسَ الكُفاةِ غَياهباً ... برأيٍ غدا في النائبات شِهابا
غَصبتَ على المجد الرجالَ فسُدتَهم ... غِلاباً ومنهم من يسود خِلابا
وأطلعتَ سُحباً من بنانك ثرةً ... تُفيضُ عليهمْ نائلاً وعِقابا
وسَهَلْتَ من بؤس الليالي شَدائداً ... وذلّلْتَ من شوس الخُطوب صعابا
أعدتَ إلى الدُّنيا نضارةَ حُسنها ... وأبدلتَها بعدَ المَشيبِ شَبابا
عبد الله بن جابر
من مُدّاح الصاحب نظام الملك حرس الله دولته وقد صقلَ صفائح ثنائه بالشام كما تُصقَل ثغور الغواني بالبشام . فممّا بلغني من مدائحه النظامية قوله :
أَرَيّاكِ وافى أم صَباً وشَمال ... تأرَّجُ منها يَمنةٌ وشِمال (1/35)
أَلمَّ وفيما بيننا من بلاده ... رمالٌ بأيدي اليَعْمَلات تُهال
بنفسي خَيالٌ ما يزالُ يشوقُني ... إلى جَوِّها ممّن هَويتُ خيامٌ
ولولا وفاءُ قد فُطرتُ بدينه ... لما شاقَ قلبي جَنْدلٌ ورمال
فلله عزمٌ كالأسنّة في الحَشا ... له بين أحشاء الخُطوب صيالُ
يعافُ لحاظَ الماء ما هانَ وِردُه ... وإن شاقه ممّا يُريغُ بِلال
وما للفتى في الوَفرِ إنْ صينَ مفخرٌ ... إذا عاد ماءُ الوجه وهو مُذال
أَثِرْها ولا تنظُرْ عواقبَ مُشْفقٍ ... وفي كل أرضٍ مسرَحٌ ومَجالُ
ولا تخشَ أن تَظما إذا عَنَّ مَوْرِدٌ ... فما كل ماءٍ بالبسيطة آلُ
وحُلَّ حُبا العزمِ المصمِّم في العُلا ... فسعيُك في طُرْق الخمول ضَلال
وخُضْ غَمَرات البيدِ فالركبُ أسهم ... نضَتْها الحَنايا والذميلُ نِضال
وكلُّ دمٍ أجرى لها السيرُ ... بحكم العُلا يا ابن الكرام حلال
ولا تبغِ أوشال القناعة إنها ... لباغي المعالي غُصّةٌ وعِقال
ولُذْ بنظام المُلك والمجد إنه ... لكلّ البرايا ملجأٌ ومآل
حُسامٌ ولكنْ ليس تنبو شِفارُهُ ... وبحرٌ ولكنّ المعين زُلال
له صَهَواتُ الجُرد من كل سابقٍ ... محلٌّ ومن سمرِ الرماح ظِلال
إذا همَّ لم يَصحبْ عزيمةَ همِّهِ ... إلى مقصدٍ إلا قناً ونِصال
مَساعٍ على الأفلاك منهُنَّ رونَقٌ ... وللدهرِ منها مفخرٌ وجلال
أبو نصر منصور بن مِمْكان التَّبريزي
اختصّ من بين أهل تِبريز بالتِّبريز وسَبكِ المعاني سبكَ الذهب الإبريز وفيما أوردتُه باسمه من هذه الكافيّة كفاية إذ ليس وراءها في الإحسان غايةٌ ولا لها في حسنها نهايةٌ وهذه أولُ قصيدة رقيتْ إلى السمع العالي بديار الشام لا يزال مقرّطاً بجواهر الكلام :
أللعينِ بين البيض والسمر مسلك ... إلى هودجِ واراهُ ريْطٌ ممسَّكُ
يخفّ به شَوكُ الأسنة والظُّبى ... كما خفّ بالشمس الشعاع المشوَّك
معناه أن الشمس إذا صُوّرت نُقشت مشوّكة الأطراف :
يَزينُ سنامَ الأرحَبيِّ جمالُهُ ... كما زان صدرَ الخَوْد ثَديٌ مُفلَّك
متى اكتنَّ بيضة الخدْر رفرفتْ ... حواليه طيرٌ للقلوب فتُشبَك
قوله : تُشبك أي تقع في الشبكة . وما أحسن ما لفّق بين البيضة والطير والشبكة بألفاظٍ نظمتْها ومعانٍ جمعتْها !
:
ومما يُعنّي أنّه متستِّرٌ ... وكل الورى من عشقه متهتِّكُ
تمثَّل لي منه من الحُسن هيكلٌ ... وضَلَّ به منّي من العشق مُشرك
فمن مُبلغٌ عنّي العواذلَ أنني ... بتعظيمه ما عشتُ أغرى وأُسدَك
أُقِرُّ بأنّ الخلدَ فيه مصوَّرٌ ... وأشهد أن الحسنَ فيه مُفَذْلك
يسير ويَسْري للأصادق والعِدا ... وعند الرِّضى يُنجي وفي السخط يُهلك
ويزداد بأساً بالنُّحول كأنّما ... يُعدّ نَهيكاً كلُّ من بات يُنهك
تملّكتُ رقيّ وهْو رقُّ ابنِ همَّةٍ ... أبى جِسمُهُ وشْياً بذُلٍ يُحَوَّك
ومما دهاني أنّ شِعري منقَّحٌ ... وأنّ الذي يُبتاع شِعرٌ مُركَّك
يجول غريباً باسميَ الشعرُ دائباً ... وفي كل قلبٍ بنفسُه تَتَبنَّك
وكافيَّتي كافيةٌ لا أبيعها ... بكافيةٍ فيها الوِراك وتَرْوَكَ
ولو أبصرتْني عينُ راكبٍ تَرْوَكٍ ... إذاً لرأت بي سابقاً ليس يُدرك
بنو اللطف أبناءُ الهوى سادةُ التَّجْرِ ... قلوبهُمُ تَغلي وأعينُهم تَجري
أنا الشيخُ منهمْ كم تَجَرْتُ فلم يكنْ ... بلا دمعةِ جَفني ولا لَوعةٍ صَبري (1/36)
رضيتُ بحُكم الحُبّ في القرب والنَّوى ... ودِنتُ لأمرِ الحِبِّ في الوصْلِ والهجْر
وما ابتعتُ فيه غيرَ خَصمٍ من الأسى ... ولا بِعتُ فيه غيرَ عونٍ من الصبر
ولو لن أمرَ العين والقلب في يدي ... لكنتُ أخذتُ العُذرَ من حُبّي العُذري
ولكنّ لي عيناً وقلباً تحالفا ... مع الحُب في نفسي فلم يُغنيني حِذري
تُخبِّرُ عَيني عين قلبي بما ترى ... ويقبلُ قلبي ما تراه بلا خُبْر
هو الحبُّ قبلي كان إذ أنا لم أكنْ ... وكان مُطاعَ الأمر ممتثلَ الزَّجْر
ومن أجله داودُ أسخطَ ربّه ... وباءَ بثِقْلِ اللوم والإثم والغَدر
فإنْ أنا من أَسْراه أصبحتُ واحداً ... فقلْ في سبيل الله كَوني في الأسْر
الأستاذ أبو المحاسن الحُسين بن علي بن نصرٍ
لما نزل الصاحب نظام الملك بباب تِبريز خدمه هذا الأستاذ بهذه اللاميْة :
لو ساعفتْني سَلوةٌ بتعلُّلِ ... لفككْتُ نفسي من وِثاقِ العُذَّلِ
ولرحتُ عن ثِقَلِ الغرام مُرفَّهاً ... ولكنتُ من حَمل المَرام بمعزِلِ
تحبو الثُّريا في السماء كعُصبةٍ ... تَرِدُ ازدِحاماً في اقْتحام المَنْهل
والفَرقدان تخطّيا وتمطَّيا ... وكِلاهما يَرنو بطَرْف الأنْجَل
والبدرُ يسبحُ ساحباً أذيالَهُ ... والصبحُ يُنذر بانتضاء المُنْصُل
وذلاذلُ الأغصان تُقلقُها الصَّبا ... فكأنّها انتقضت لعارضِ أَفْكَلِ
والطيرُ تتلو من عواشِرِ لجنها ... والريحُ تلعبُ فوق دِرع الجَدول
والكأسُ قارعَها المزاجُ فأنشأ ... تقطعَ اللُّجين من الضِّرام المشعَلُ
والشَّربُ غالَهُمُ المُدامُ فأصبحوا ... يتخافتون عن اللسان المثقَل
والعودُ قارضَني بشكوى معبدٍ ... زَجَلاً وخاطَبني بنجوى زَلزَل
شوقٌ يغادرُنا بدارةِ جُلجُلٍ ... وبدِمنةٍ بين الدَّخول فحَوْمَل
سمْحٌ إذا ما جادَ أنشأ جودَه ... من عارضٍ هَزِجٍ الهَديرُ مجلجِل
حَدِثٌ إذا افتتح الكلامَ حسبْتَه ... يتلو عليكَ من الكتاب المنْزَل
تَفديه أنفسُنا إذا ما راقَنا ... إيماضُهُ من منظَرٍ مُتَهلِّلِ
فالهمُّ يُقلعُ والضَّلالةُ تمَّحي ... والظُّلمُ يُنجم والعَمايةُ تنْجلي
متعرِّضٌ طَوْراً بخُلْقٍ مُصْلَتٍ ... ومعرِّضٌ طوراً بآخرَ أمثَل
فشراسةٌ موصولةٌ بسجاجةٍ ... كالراح تكسرها بعذبٍ سَلْسل
لم تَزْهُ أشرافُ الكواكب من عَلٍ ... مُذْ حازَ أشراف المناقب من علي
ما زال يثقُب كلَّ صعبٍ رأيُهُ ... حتى تفكَّك منه جِرم الجَنْدل
قال الذي من قبلِ هذا لم يُقَلْ ... فَعلَ الذي من قبله لم يُفعَل
فالشرقُ يشكرُهُ بأعذبِ منطِقِ ... والغربُ يذكرُهُ بأفصحِ مِقوَل
ومنها :
أوطأت أرضَ الروم جيشاً مقبلاً ... لا يسألون عن السَّواد المُقْبلِ
من كلِّ ملتهبِ العُرام مُجادِلٍ ... رَكِبَ الحصانَ كأجدَلٍ في مجدل
قلت : انظرْ كيف جمع بين المجادل والأجدل والمِجدل :
شرس التخطُّف كالعُقاب المعتدي ... عجل التوصُّل كالظليم المرْقِلِ
دوَّختَ منها كلَّ صَرحٍ مانعٍ ... وفتحتَ فيها كلَّ بابٍ مقفل
عادَ الخليجُ بها شُعاعاً شائعاً ... وشعاعُ قَرنِ الشمس لمعُ المنْصُل
فالجُردُ تحطُمُ والفَوارسُ تدَّعي ... والسُّمر تخرُقُ والصوارمُ تختلي
غزوٌ كسا الإسلام وشْيَ نضارةٍ ... ناهيك من غزوٍ أغرَّ مُحجَّل
يثْني ويُثني المسلمون كأنهم ... يُثنون منكَ علي نبيٍّ مُرسَل (1/37)
فكما أردتَ سَلِ البَرايا واحتكمْ ... وكما اشتهيتَ سُقِ القضايا وافعل
علي بن هبة الله بن محمد بن خالد التبريزي
له من قصيدة :
أسفي على زمنٍ تولّى وانقضى ... وقدِ انقضتْ فيه لنا أوطارُ
أيام تُسْعِفُنا الليالي بالمُنى ... وتُطيع سُعدى أمرَنا ونوار
أيامَ عودُ العيش أخضرُ مثمرٌ ... فيها وكاساتُ العُقار تُدار
أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب
الأديب التبريزي
له في فتح خَرْشنة وما يسّر الله تعالى على يد الصاحب نظام الملك من استنزال " فَضلون " عنها وبثّه الطلبَ على أثره وهو في الهرب بجدّ حتى رُدَّ وقد أحاط بقدِّه القِدُّ قصائد :
هنيئاً لملانا العُلا وسُعودُه ... وأُرغِمَ شانيهِ وكُبَّ حسودُهُ
هو الماجدُ المرجوُّ فيضُ نوالِهِ ... وكعبُ الندى والمُنذران عَبيده
وما زلتُ أشكو من زماني صرفه ... إلى أن بدتْ لي من ذَراه سُعوده
فآمنني منهُ ذِمامٌ عقدْتُهُ ... لدى خَيرِ جارٍ لا تُحلُّ عقودُه
فتىً ليس يبقى في يديه طريفه ... إذا ما انتدى يومَ الندى وتليدُه
إذا جادَ في شَهباءَ ضَنَّت بِدَرِّها ... وجفَّ الثرى أغنى عنِ القطرِ جودُه
يُجيرُ من الدهرِ الخؤون عُهوده ... ويحيي الورى تَهْتانُه وعُهوده
عصى أمره راعي الرُّعاة لجَهْله ... فأمسى يُغني بالنذير قُيودُه
قلت : لستُ أرضى لمثل هذا الفتح بمثل هذا الشرح . وقد اتّفقتْ لي منه نونيّةٌ شغلتُ بأوصاف هذه الحالة مطلعها ومشرعها ومقطعها . ولم أستطردْ من معناها إلى معنىً سِواها وهي :
وفَتِ السعودُ بوعدها المضمونِ ... وترادفت بالطائِرِ المَيْمون
وعَلا لواءُ المسلمينَ وشافَهوا ... تحقيق آمالٍ لهم وظُنونِ
وأضاءتِ الدنيا وسُلَّ صباحها ... من بين جانحتي دُجىً ودُجون
واخضرّ مغْبرُّ الثرى فَنَسيمُه ... يُثني على سُقيا أجشَّ هَتونِ
بالفتح فتَّح بابه ذو عِزّةٍ ... وعدَ الإجابة حين قال : ادعوني
إن الحديثَ لذو شجونٍ فاستمعْ ... أحلى حديثٍ بل ألذَّ شُجون
أما الممالكُ فالسُّرورُ مطنِّبٌ ... في مستقرِّ سريرها المَوْضون
شَقّتْ عقيق شفاهها مُفترّةً ... عن مَبسَمٍ كاللؤلؤ المكنون
بعد اعتراضِ اليأس نال مُحاقَه ... قمرُ الرجاءِ فعاد كالعُرجون
فضْلٌ من الله العزيزِ ونعمةٌ ... كفَّت فضول البَغي من " فَضْلون "
لمّا اغتدى جارَ الغمام وغرَّه ... بالومْض بارقُ رأيه المأفون
في شامخٍ أَيِسَتْ وفودُ الريح من ... جَرِّ الذيول بصحنه المسْكون
لم تفترعه الحادثات ولم تطُفْ ... إلا بمحروس الجهات مَصون
يَلقى بِرَوقَيه النجومَ مُناطحاً ... ويحكُّ بالأظلاف ظهرَ النون
أنستْه بِطنتُه أيادي منعِمٍ ... سَدِكٍ بعادةِ لطفه مَفتون
في ضمن بُرديْه مَهيبٌ مُتّقىً ... وعليه بِشرُ مؤمَّلِ مأمون
كالمَرْخ يُبدي الاخضرار غصونُه ... والنارُ في جَنبيه ذاتُ كُمون
فبغى وألسنة القَنا يُنذرنه ... برحىً لحبّاتِ القلوب طحون
وطغى ومن يستغنِ يطغَ كما الثرى ... إنْ يُرْوَ يُوصَفْ نبتُهُ بجُنون
وافْتنّ في آرائه متلوِّناً ... كأبي بَراقشَ أو أبي قَلمون
طَوراً يَجُرّ فؤاده رَسنٌ المُنى ... أي كيفَ أُلحقُ والمجرّةُ دوني
ويقيس طَوراً حِصنه بالسجن من ... فشلٍ وراء إهابه مسجون (1/38)
والحربُ تنكِح والنفوس مُهورها ... ما بين أبكارٍ تُزَفُّ وعون
والبيضُ تقمَر والغبار كأنه ... خِرَقٌ شُققْنَ من الدآدي الجُون
والنَّبلُ يُمطر وبْلَه من منحنى ... نَبعٍ كمرْتجِزِ الغَمام حَنون
رَشقاً كألحاظ الحسانِ رمى بها ال ... عشاق قوسُ الحاجب المقرون
وتطيرُ أفلاذُ الجبال كأنها ... من كل ناحيةٍ تقول : خُذوني
صُمٌّ رواجعُ إنْ تضزِن رَضوى بها ... تُخبرك عن كمِّية الكمّون
وترى الدماء على الجِراح طَوافياً ... فكأنها رَمدٌ بنُجلِ عيون
حتى إذا نَضِبتْ بحارُ عُبابه ... عنه سوى حَمأٍ بها مَسنون
ركب البحار سُحيرةً وتحايلتْ ... صورُ النجاةِ لوهْمه المظنون
وتدبّرت عُصمُ الوُعول مكانه ... وغَدا كضبِّ بالعَراء مَكون
فإذا الطلائع كالدَّبى مبثوثةٌ ... لفّوا سهولاً خلفه بِحُزون
يَطَؤون أعقابَ العُتاةِ كما هوى ... نجمٌ لرجمِ المارد الملعون
كانوا التيوسَ ولا قُرونَ فكلّلت ... سُمرُ الرماح رؤوسهم بقُرون
وأتَوا بفَضلونَ الشقيِّ كأنهم ... نَبَشوا به الغبراء عن مدفون
في قدِّ رابي الأحدبين أبانه ... عن سَرْجِ راسي الوطْأتين حَرون
أعطى المقاد بأرض فارسَ راجلاً ... يَفدي الدماء بماله المخزون
متدحرجاً من طَودِ نَخوته إلى ... سفحٍ من القَدر الدَّنيِّ الدون
لولا عواطفُ رايةٍ رَضَويّةٍ ... عقدتْ حُباه على دَمٍ مَحقون
وقضيةٌ من سيرةٍ عُمَريةٍ ... حكمتْ بفكِّ لسانه المَرْهون
لتضلَّعت طَيرُ الفلا وسباغُها ... من شِلوه الملقى بدار الهون
نَسَبوا إلى الشيخ الأجلِّ إباقه ... عَنَتاً وعوني فيه ما قد عوني
فالذنب ذنبُ السامري وعِجله ... والعتب من موسى على هارون
ولذاك أرسى كلكلاً خشعتْ لهُ ... شُمُّ الحُصون فسوِّيتْ بصُحون
ليثٌ تواضع في الفَريسة فاجْترى ... بالتَّيس ذي القَرنين والعُثْنون
أهلاً بأخلاق الوزير فإنها ... دَمَثُ الحُزون وفَرحة المحزون
قد شال عبء الملك منه بازلٌ ... لا يستطيع صِياله ابن لبون
لم يرعَ أكنافَ الهوينى مُمْرِجاً ... نعمَ الرفاهة في رياض هُدون
ولد وحُقّ له لدى السلطان إحْ ... مادٌ وأجرٌ ليس بالمَمْنون
خِلَعٌ كما ارتدت الفرند صفيحةُ ... أهدى الصِّقال لها أكفُّ قُيونِ
واسمٌ طوتْ ذكراه كلَّ مسافةٍ ... في الأرض نائيةِ المزارِ شَطون
يُفشي ثناه كاتبٌ أو راكبٌ ... من بطن قِرطاسٍ وظَهر أَمون
ولعلَّ كِرمان المَروعة ترتدي ... منه بأمنٍ شاملٍ وسُكون
فقدِ اغتدى كالزِّير نِضواً بَمُّها ... وأحسَّ أهلوها برَيبِ مَنون
نكبتْهمُ الأيام حتى إنهم ... مَرِنوا على النكبات أيَّ مُرون
أهْون بحرِّ وطيسها لو أنّه ... نادى بها : يا نارُ برداً كوني
فلينتظرْ غدَهُ لأنّ نصيبه ... من يَومه كعُجالةِ العُربون
وليسْترحْ من طَعنِ لَبّات العِدا ... بمُجاج لبّه دَنِّه المطعون
من كفِّ أغيدَ ما لِكفّي ربّه ... إذ يشتريه صفقة المغْبون
وليسمحنّ بصبرة من عسجدٍ ... مُكْتالةٍ لكلامي الموزون
فقدِ استذلّني الزمانُ وقبلَ ذا ... ما كان يسمحُ للزمان قُروني (1/39)
ليملكنّ كنوزَ قارونٍ كما ... ورثتْ عِداه الخَسفَ من قارون
ولتبقَ دَوحةُ عزّه ملتفّةً ... في خُضر أوراق ومُلْدِ غُصون
أبو القاسم عُزيزان بن محمد الخطّاط
النظاميّ التبريزي
استكرمه الصاحب نظام الملك أدام الله علوّه وحرس على الملك نِظامه فارتبطه وقبضَ منه الزمان فبسطه وأسكنه المدرسة المعمورة بنيسابور وهو يغرس بخطّه الدرّ في أرض القراطيس وينشرُ عليها أجنحة الطواويس . أنشدني لنفسه في خدمةٍ نظامية :
إنّ مَن أيقنَ أنْ لم يُجْدِهِ ... زخرفُ الدنيا سوى الذكر الحسَنْ
كان بسطَ الكفّ طلقاً وجهه ... كالأجلِّ الصاحب القَرْم الحَسَنْ
وأنشدني أيضاً لنفسه :
أحنُّ إلى أرضي وغيرُ عَجيبِ ... فكم حنّ للأوطانِ قلبُ غريب
دَجَت لي تباشيرُ الصباح كأنها ... لقد أخذت من غُربتي بنصيب
الموفَّق بن الخليل بن أحمد الشيباني
قال يمدح الصاحب نظام الملك أطال الله بقاه وحرس لقاه وكبتَ أعداه هذه القصيدة لأبي عامر الجرجاني سرق هذا المعنى :
دعيني وعِلْمي والتُّقى ومناسكي ... فما أنا في دهري أنيسُ العواتك
فإنْ تشتهي عَزفاً وقَصْفاً ولذةً ... فسيري إلى غيري فلستُ هنالكِ
ولست أرومُ الرومَ والريمَ والدمى ... ولو رامها غيري فلستُ كذلك
أحب الله لي إلاّ التمسك بالتُّقى ... ومدح قِوامِ الدين صدر الممالك
أحمد بن محمد الموَرِّيُّ الأديبي
هذا المسمّى من جملة طبقات فارس من مُدّاح الصاحب أدام الله علاه رأيت له فيه رائية لا بأس بها وهي :
أطلع للناس وجهُهُ قَمراً ... بطرفِهِ قلبٌ ذي التقى قُمِرا
بستانُ حُسنٍ إنْ بستَ مبسِمه ... بَسَّم في صحنِ خدِّه الزَّهَرا
ما خلق الله مثله بَشَراً ... ببِشْره ظَلّ يفتن البَشَرا
حاجبه في السواد حاجبه ... يحجُبُ عنه بنوره البَصَرا
عارضُهُ مثلُ عارضٍ برزتُ ... من تحته الشمسُ كلّما ظهرا
كالنور نوراً والغصن منعطفاً ... والروض رذيّاً والماء حين جَرى
ومنها في المدح :
كافي الكفاة الأجلُّ سيدُنا ... بواكفِ الكفّ قد كفى الفُقَرا
وخَطُّه فوقَ خَدّ مُهْرقه ... خَطُّ مليحٍ في خدّه زُبِرا
أو بُردُ وشْيٍ منشوره نُشِراً ... أو روض حُزنٍ منثوره نُثرا
نعمة الله بن أحمد الخطيب
يقول في تشبيب قصيدة له :
مِلْ بالركابِ فقد لاحتْ لنا الحِلَل ... لنسأل الحيَّ من عُسفان ما فعلوا
دامت بها دِيمٌ تَروي معاهدها ... وكم بها عُهِد اللذاتُ والجذلُ !
!
أيام تُسعدني سُعدى وتُجملُ بي ... جُمْلٌ وتُنعم لي نُعْمٌ بما أسل
أجرُّ في اللهوِ أذيالي وأسحبُ في ... طُرق المَجانة رَيْطي والصِّبا خَضِل
ناصر بن سَلَمة
اخترتُ له من قصيدة نظاميةٍ هذه الأبيات :
فلأقطعنَّ إليه كلّ تَنوفةٍ ... زَوراءَ ذاتِ سهولةٍ وحُزون
تشكو النعامُ بها حَفى أظلافها ... والعِينُ جَدبَ مسارحٍ وعيون
بوجيف مأمونِ الكَلابل شِملَّةٍ ... مَوسومةٍ بلظى الهَجير أمون
ومنها في المدح :
مَلكٌ أظلُّ ببأسه وبعطفه ... والأرض بين تزلزلٍ وسُكون
كالبدر مؤتَلقاً بغيرِ تنقُّصِ ... والغيم مُندفِقاً بغير دُجون
أسد بن المُهلَّب بن شاذي
التقطتُ له من خدمة نظامية هذه الأبيات الحسنة :
أراجعةٌ أيامُ خَولةَ بعدما ... تَصرَّم من عهد الحمى ما تَصَرَّما
سقى الله أيام الحِمى كلّ سُحرةٍ ... سَحاباً إذا ما قيل : أنجَم أثجما
ومنها :
وفي بُردتي لولا الهوى نفسُ ضَيغمٍ ... أهنتُ لها جَوبَ القِفار لتكرُما (1/40)
وبحرِ ظَلامٍ خُضتُ لُجَّ غِماره ... وخَوّضتُ فيها الأعواجيَّ المطهّما
سَبوحاً كساهُ الليل فضلَ ردائه ... وسَّمّه الإصباح حتى توسّما
يُباري الصَّبا إمّا بسطتُ عِنانه ... وهَضْبَ شَرَوْرى إنْ أردتُ تَلَوُّما
وله من نظامية أخرى :
وركبٍ كأمثال الحنايا بَرتْهُمُ ... على ما بهم أيدي السُّرى والسباسب
تُجشُّمُهم أغراضهم كلّ مهمهٍ ... وليسَ لها إلاّ المَعالي مآربُ
إذا وردتْ بحر الوزير ضوامراً ... فقد ودّعتْ كوارهُنّ الغوارب
وقد يُطلب المجد الممنَّع بالمُنى ... ولكنّ سُمّار الأماني كواذب
وكتب على ظهر هذه القصيدة :
هجرتُ على رغمِ الزمان مَواطني ... كما هَجرَ الليثَ الهصور عرينَهُ
ويمّمتُ من شمس الكفاة مَشارعاً ... لأشربَ من ماء المَعالي مَعينَه
ولمّا ثنى فرطُ المهابة مِقْولي ... لينثرَ من دُرّ القريض ثمينه
جَلوتُ على القِرطاس وجهَ قصيدتي ... لتخدُم في التقبيل عنّي يمينَهْ
قلت : تلك البائية لبَطانةُ سُندسٍ والأبيات على ظهرها لَظهارة استبرق وهما من ثياب الجنة
حَمدُ بن الحسن بن عبد الرحمن الدُّويني المتصوّف
مرّت بي قصيدة له صاحبية أثبتُّ منها هذه الأبيات :
طيفٌ ألمَّ بمضجعي فتستّرا ... زاوزرَّ عني مُعرضاً متنكّرا
أنكرتُ عادته فخُيّل هاجِسي ... أنّ المشيبَ عَداه لما أبصرا
ما كنت أعرف قبلُ طَيفاً يَحتذي ... أخلاقَ عَلوةَ في الصُّدود ليهجُرا
ومنها :
لو كان ظلمُ الشيب ظلماً يُتَّقى ... لرجَوتُ للعَدْوى الوزيرَ الأكبرا
إني اكتفيتُ من الورى بلقائه ... إذْ كان كلّ الصيد في جَوف الفَرا
ولطالما قد كان عودي ذاوياً ... فاهتزّ من سُقياه غَضّاً أخضرا
يهبُ الجياد بلُجْمها وسُروجِها ... ويُرى المؤمِّل في الهِباتِ مخيَّرا
ويُهينُ عزّ المال في طُرقِ الندى ... من غير ما عِوَضٍ سِوى أن يُشكرا
ومنها :
لمّا رأتْ شمسُ السماء ركابنا ... ودّت لعزِّ مسيرنا أن تُكْترى
أبو نصر عبد الرحمن بن علي
المهلبي الصوفي
يقول في الحثّ على إبصار الغاوي وإقصار الغالي بعد طلوع النذير وإيماض القَتير :
ضَلالٌ إنْ جَنحتَ إلى التصابي ... وقد جاوزتَ خامسةَ العُشور
فأقصِر إن عقلتَ فكل آتٍ ... قريبٌ بعد إيماضِ القَتير
القسم الثالث
في فضلاء العراق
الملك العزيز أبو منصور خُسرو بن فيروز
بن جلال الدولة
كتب إلى أبي محمد عليّ بن الأزهر بن عمرو بن حسان وقد بعُد من واسطٍ ونزل بالموصل وفارقه أبو محمد هذا :
قُلْ لابن حسّان عنّي قولَ ذي ظمأٍ ... إلى اللقاء : لقد فارقْتَني سَفهاً
إنْ كان شيبُك ينهى عن مُواصلتي ... فبئس والله ذاك الشيبُ حين نَهى
لئن فقدْتُك في قومٍ أُصاحبهُمْ ... فقد فقدْتُ منَ اللَّذاتِ أطيبَها
فأجابه أبو محمد رحمهما الله :
وما كان بُعدي عنكَ إلا تألُّفاً ... لقلبك أنْ يَحنو عليّ قَليلا
وإنْ يُقصُرَ الواشون عن ذات بيننا ... فقدْ أكثروا قالاً عليَّ وقيلا
فشرّدتُ نفسي في البلاد تَغرُّباً ... أجوبُ حُزوناً تارةً وسُهولا
وأُفحِمتُ حتى لا أُبينُ تكلُّماً ... وأُسقمتُ حتى لا أَبينُ نُحولا
ولم يجدِ الأعداء فيَّ غَميزةً ... لرأيك لمّا كان فيَّ جَميلا
فلا قلتُ شعراً في سواك وإن أكُن ... كذبتُ فلا صادفتُ منك قَبولا
وأنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن فضلان له :
يُذكّرني بردُ النسيم وطيبُهُ ... منازلَ من بغداد همتُ بها وَجْدا (1/41)
منازلَ ما إن زِلتُ فيها مُنعَّماً ... أجَرِّرُ من سُكرِ التصابي بها بُردا
سقى الله أرضاً حَلَّها وجهُ شادنٍ ... كبدْر الدُّجى بُدِلتُ من قُربه بُعدا
قال : وأنشدني له أيضاً :
وقالوا : التحى من قد بَراك بحبّه ... وعمّا قليلٍ سوفَ عنكَ يُفرَّجُ
فقلتُ لهم : إني تعشّقتُ روضةً ... بها نرجسٌ غَضٌّ وورْدٌ مضرَّجُ
وقد زاد فيها بعد ذاك بنفسجٌ ... أأتركه أنْ زاد فيه البنفسجُ
وله أيضاً :
لئن ملكَ الدنيا على الجَور قبلَنا ... ملوكٌ فما في العالمين لما مثلُ
وإنّ سُقاةَ الشَّرب لا عن كرامة ... إذا دارَتِ الصهباء تشرب من قبل
عز الدولة أبو منصور بختيار بن معزّ الدولة
يقول في صفة دولاب :
اشربْ على قَطْر السماء القاطر ... في صحن دِجلة واعْصِ زَجرَ الزاجر
مَشمولةً أبدى المِزاجُ بكأسها ... دُرّاً نَثيراً بين نَظْم جواهر
والماء ما بين الغُروب مُصفِّقٌ ... مثلَ القِبان رقصْن حول الزامِرِ
تاج الدولة أبو الحسن أحمد بن عضد الدولة
سلامٌ على طيفٍ ألمَّ فسلَّما ... فأبدى شُعاع الشمس لمّا تكلّما
بدا فبدا من وجهه البدرُ طالعاً ... لدى الروض يَستعلي قَضيباً مَنعَّما
وأحسَبُ هاروتاً أطاف بطرفه ... فعلَّمَه من سحره ما تعلَّما
ألمَّ بنا في دامِسِ الليل فانجلى ... فلمّا انثنى عنا وودَّع أظلما
وله أيضاً :
سَقاني سَحَراً خَمْره ... وقد لاحت لِيَ النَّثْرهء
غزالٌ فاتنُ الطَّرف ... مليحُ الوجه والطُّرَّه
أنا الملكُ وقد ملَّكْ ... تُ قلبي صاحب الوَفْره
وقد زَرْفَنَ صُدغَيه ... على أبهى من الزَّهْره
فمن أسْودَ في أبيضَ ... في أحمرَ في صُفْرهْ
إذا حاول أن يهج ... رَ أو تبدو له نفْره
أعان الشيخُ إبليسٌ ... عليه فأتى مُكْرَهْ
فَنَّا خُسرو بن أبي ظاهر بن بهاء الدولة
أنشدني أبو الفضل يحيى بن نصر السعدي البغدادي أنه قال : وهو اليوم في الأحياء متصلاً بسيف الدولة إبراهيم بن نبال . وكانت هذه الرواية سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة :
ما عِلّتي والشبابُ يُسعدني ... أنْ لا أكون الممنَّعَ البطلا
أحْيِ بقتل الأعراب سُنَّتنا ... وكنْ كشابور في الذي فَعَلا
ولا تخَفْ فالسماءُ لو علمنْ ... أنّا غِضابٌ لأُمطرتْ نُصُلا
فخلِّها والفِجاج خابِطةٌ ... براكبيها الوِهاد والقُللا
حتى تَنال العُلا فتخبطَها ... بوخْدِها أو تصادفَ الأجلا
وكلُّ من بات دون بُغيتِهِ ... مُشمِّراً نحوها فقدْ وَصَلا
هذا مثل قولهم :
ومُبلَغُ نفْسٍ عذرَها مثلُ منجَحِ
ذكر الشيخ أن هذا شعر قديم
الحاجب أبو الحسين بن نعمان
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمدانيُّ قال : أنشدني عزُّ المعالي له :
قضيتُ الغَواني غيرَ أنّ غَوايةً ... لِذَلْفاءَ ما قضَّيْتُ آخرها بعدُ
فإن تَدَعي نَجْداً أدعْه ومن به ... وإن تَسكُني نجداً فيا حبّذا نَجدُ
فيا ربْوةَ الرَّبعيْنِ حُيِّيتِ منزلاً ... على النأي منّي واستهلَّ بكِ الرَّعدُ
ذو السعادات أبو السعادات
الوزير ابن فَسانْجِس المخزومي
قاد إليه الفصاحة بخوامه وسُدَّ حيازيمه في الفضل على تثبت وحَزامه . وكنت عثرتُ بنبذٍ من أشعاره في تتمة اليتيمة فصرفتُ وجه الهمّة إلى تحصيل أخوات لما في التتمة
أنشدني الأديب أبو يعقوب بن أحمد النيسابوري قال : أنشدني أبو طاهر القصاري قال : أنشدني علي بن إبراهيم المبدع له وكان في حبس العالي العادل صاحب الملك أبي كاليجار :
أنا كالسُّماني المقتنصُ ... أرجو الخلاصَ من القَفَصْ (1/42)
ما هاجتِ الذكرى بَلا ... بِلَ قلبه إلاّ رقَص
ما مدّتِ الأيامُ حَبْ ... لَ إساءةِ إلاّ قلَص
ما مسَّ بالإنسان ضرْ ... رٌ مسُّه إلا نقَصْ
قد كنتَ تقتنصُ الملو ... كَ فصِرتَ أنتَ المُقتنصْ
لا تيأسَنْ من رضوْح مَن ... يُدني الخَلاصَ من القَفَص
ما دام جَدُّك صاعداً ... وجَناحُ مَجْدكَ لم يُقَصّ
سيعود مُلكُكَ خاتماً ... وتعودُ نفسُك فيه فَصّ
السيد الرضيّ الموسوي
رضي الله عنه له صدر الوسادة بين الأئمة والسادة . وأنا إذا مدحته كنت كمن قال لذُكاء : ما أنوركِ !
ولخُضارة : ما أغزرك !
وله شعر إذا افتخر به أدرك من المجد أقاصيه وعقدَ بالنجم نواصيه . وإذا نسب انتسب رقَّة الهواء إلى نسيبه وفاز بالقِدحِ المُعلَّى في نصيبه حتى إذا أنشدني الراوي غَزلياته بين يدي العِزْهاة لقال له : من العزِّ هاتِ . وإذا وصف فكلامه في الأوصاف أحسنُ من الوصائف والوصّاف . وإنْ مدحَ تحيّرتْ فيه الأوهام من مادحٍ وممدوح له بين المُتراهنين في الحلبتين سبقُ سابحٍ مَروحٍ . وإن نثَرَ حمدتَ منه الأثر ورأيتَ هناك خَرَزاتٍ من العقْد تنفضّ وقطرات من المزن ترفضّ
ولَعَمري إنْ بغداد قد أنجبتْ به فبوّأتْهُ ظِلالها وأرضعتْه زُلالها . وأنشقتْه شمالها . وورد شعره دجلتها فشرب منها حتى شرق وانغمس فيها حتى كاد أن يقال : غرق . فكلما أُنشدتْ محاسن كلامه تنزّهت بغداد في نَضرة نَعيمها وانشقت من أنفاس الهجير بمُراوح نسيمها . فمن عُقَد سِحره وعقود دُرّه قوله في مطلع قصيدةٍ له :
وظَبيةٍ من ظباء الإنس عاطلةٍ ... تستوقف العينَ بين الخمْص والهَضَمِ
لو أنها بفناء البيتِ سانحةٌ ... لصِدتُها وابتدعتُ الصيدَ في الحرَم
قدرتُ منها بلا رُقبى ولا حذَر ... على الذي نام عن ليلي ولم أنم
بِتنا ضَجيعين في ثوبَي هوىً وتُقىً ... يلفُّنا الشوقُ من فَرقٍ إلى قَدَم
وأمستِ الريحُ كالغَيرى تُجاذبنا ... على الكثيب فُضولَ الرَّيْط واللمَم
يَشي بنا الريحُ أحياناً وآونةً ... يُضنينا البرقُ مُجتازاً على إضَم
وبات بارقُ ذاك الثغرِ يوضح لي ... مواضع اللثم في داجٍ من الظُّلم
قلت : أخذه من سيدوك الواسطي :
ألثمه في الدُّجى وبرقُ ثنا ... ياه يُريني مواقع اللثم
وله أيضاً عُفي عنه :
ليس الفناء بمأمونٍ على أحدٍ ... ولا البقاء بمقصورٍ على رجُلِ
تعزَّ ما اسْطَعتَ فالدنيا مفارقةٌ ... والعمر يُعنِق والمغرور في شُغُل
والعقلُ أبلغُ من عزّاكَ عن جَزَعٍ ... والصبر أذهبُ بالبَلوى من الوجَل
وله أيضاً :
صحِبتُ الرجالَ الخابطين إلى العُلا ... فثبّطي لؤمُ الزمان وأسرعوا
تَردُّ سهامي الحادثاتُ طوائشاً ... وفي قوس عَزْمي لو تنوّعُ مَنزعُ
أصرُف فهمي والمقاوِلُ سُرَّعٌ ... وأملك حِلمي والعوامل شُرَّعُ
وله أيضاً :
رأت شَعَراتٍ في عذاري طفلةٌ ... كما افترَّ طفلُ الروض عن لؤلؤ الوَسْم
فقلتُ لها : ما الشَّعر سالَ بعارضي ... ولكنّها نَبتُ السيادة والحِلمِ
يَزيدُ به وَجْهي ضِياءً وبهجةً ... وما تُنقِصُ الظلماء من بهجة النَّجم
وله أيضاً :
جنى وتجنّى والفؤادُ يُطيعه ... فيأمنُ أنْ يُجنى عليه كما يَجني
إلى كم تُسيء الظَّنَّ بي متجرِّماً ... وأنسُبُ سوءَ القول فيكَ إلى الظنِّ
ووالله لا أحببت غيركَ واحداً ... ألِيَّةَ بَرٍّ لا يخاف فيستنثي
فإنْ لم تكُنْ عِندي كسمعي وناظري ... فلا نَظَرَتْ عَيني ولا سَمِعتْ أُذْني
وإنّكَ أحظى في جفوني من الكرى ... وأعذبُ طَمعاً في فؤادي من المن
وله أيضاً :
عَطَونَ بأعناق الظِّباء وأشرقتْ ... وجوهٌ عليها نَضرةٌ ونَعيمُ (1/43)
أمطْنَ سُجوفاً من خُدودٍ نقيّةٍ ... صَفا بَشَرٌ منها ورقّ أديمُ
شُفوفٌ على أجسادهن رقيقةٌ ... ودُرٌّ على َلبّاتِهنَّ نَظيم
غَرامي جديد بالديار وأهلها ... وعَهدي بهاتِيكَ الطُّلولِ قديمُ
وله أيضاً :
يا ظبيةَ القاع تَرعى في خمائِله ... ليَهْنِكِ اليومَ أنّ القلبَ مَرعاكِ
الماءُ عندكِ مبذولٌ لشاربه ... وليس يُرويك إلاّ مَدمعُ الباكي
حكى لحاظُك ما في الريم من مُلَحٍ ... يوم اللقاء وكان الفضلُ للحاكي
أنتِ السُّلُوُّ لقلبي والغرامُ له ... فما أمَرَّكِ في قلبي وأحلاك !
!
أخوه المرتضى أبو القاسم
علي بن الحُسين بن موسى الموسويُّ
الملقب ب " علم الهُدى ذي المَجدين " رضي الله عنهما . هو وأخوه في دَوح السيادة ثمران وفي فَلك الرياسة قمران . وأدبُ الرضي إذا قُرن بعِلم المُرتضى كان كالفِرنِد في متن الصارم المُستنضى . فمن محاسن أشعاره ومحامد آثاره قوله :
ألا يا نسيمُ الريحَ من أرض بابلٍ ... تحمَّلْ إلى أهل الخيام سلامي
وقلْ للحبيب : فيكَ نسيمه ... أما آنَ أنْ تستطيعَ رجْعَ كَلامي
رضيتُ ولولا ما علمتُمْ منَ الجَوى ... لما كنتُ أرضى منكُمُ بِلِمامِ
وإنّي لأهوى أنْ أكون بأرضكُمْ ... على أنني مِنها استفدتُ سقامي
وقد كنتُ كالعِقد المنظّم منكُمُ فها أنا ذا سلكٌ بغير نظام
فلا برقَ إلاّ خُلَّبُ بعدَ بينكم ... ولا عارضٌ إلاّ بياضُ جَهام
وأنشدني الشريفُ أبو طالب الأنصاري قال : أنشدني المرتضى لنفسه :
بجانب الكَرْخ من بغدادَ عنَّ لنا ... ظَبيٌ يُنفرُه هم وصْلنا نضفَرُ
ذُؤابتاه نِجادا سَيف مُقلتِهِ ... وجَفنه جفنُهُ والشفرةُ الشفُرُ
ضّفيرتاهُ على قتلي تَضافرتا ... فمن رأى شاعراً أوْدى به الشَّعر
وكتب العميد أبو بكر القُهستاني إلى المرتضى قصيدة أولها :
لكَ الخيرُ أبشِرْ كلّ شيءٍ له مَدى ... هو الدهرُ ليس الدهرُ خُلِّدتَ سَرْمدا
وتقاضاه الجوابَ في آخرها بقوله :
وما نأيُ ناءٍ عنكَ إلاّ كموته ... وهل أنا ناءٍ عنكَ مرتحلٌ غَدا
فرأيكَ إما راثياً لي منَ النوى ... وإما لما أحْيا به متزوِّدا
بخمسة أبيات يُرى كلُّ واحدٍ ... من الكُلّ عندي بيتَ فخرٍ مُشيّدا
فأجاب عنه بقصيدة أولها :
أبتْ زفَراتُ الحبّ إلاّ تصعُّداً ... ويأبى لهيبُ الوجْدِ إلاّ توقُّدا
ولم أرَ من بعد الذين تَشرّدوا ... لأعيننا إلا رُقاداً مُشرَّدا
تذكَّرتُ بالعورين نَجْداً ضلالةً ... ومن أين ذِكرى غائر مُنجِدا
وقلتُ لمن يحدو المطايا يحثُّها ... على البُعد : دَعْنا في المطايا من الحِدا
مضى البينُ عنّا بالحياة وطيبها ... فلم يبقَ بعد البينِ شيءٌ سوى الرَّدى
فقُل للذي يَنوي الفِراقَ وعنده ... بأني مُطيقٌ للفِراق التجلُّدا :
وَعَدتَ ببينٍ يسلُبُ العيش طيبُه ... فما كان ذاك الوعدُ إلاّ توعُّدا
وما كان عِندي أنْ يفرَّق شملُنا ... ويبعُدَ عن داري العَميدُ تعمُّدا
وكان الذي بيني وبينكَ كلُّه ... وداداً وفي كلّ الرجالِ تَودُّدا
هَزَزتُكَ سيفاً ما انثنى عن ضَريبةٍ ... مَضاءً كما أنّي نقدتُكَ عَسجدا
ومنها :
فإن لم يكُن سِنخٌ يؤلِّف بيننا ... فقدْ ألّفتْ فينا المودّةُ مَحْتِدا
ومن قرّبتْه دار وُدٍّ مُصحَّحٍ ... إليّ فلا كان المُقَرِّبُ مولدا
ومنها :
إذا ما مشى دهرٌ ليصدَعَ شَملنا ... فلا زال مَقبوضاً خُطاه مُقيَّدا (1/44)
وقالوا : غداً يومُ الفراق فلا قضى ... إلهي يوماً كنتُ في كفِّه غَدا
ومنها :
وقد زارني منكَ الكلامُ كأنّه ... رياضٌ بأعلى الحَزنِ جادَ لها النَّدى
وقلَّدني مَنّاً وما كنتُ قَبلَه ... وجدِّكِ مِنْ مَنِّ الرجال مُقلَّدا
ولو أنني أنشدتُهُ نغماً به ... مع الصُّبح أطربْتُ الحَمامَ المُغرِّدا
كأنّي لمّا أنْ كرعتُ زُلاله ... كرعْتُ زُلالاً من سحابٍ على صدى
فخذْهُ كما شاءَ الوِدادُ وشِئتَهُ ... كلاماً على مرِّ الليالي مُخلَّدا
ولما دَعوتَ القول مِني سَمعتَهُ ... وكان لمنْ يَبغيهَِ سراً زفَرْقَدا
أبو الحسين مِهيار بن مَرزويه الكاتبُ
شاعرٌ له في مناسك الفضل مشاعر وكاتب تجلّى تحت كل كلمة من كلماته كاعب وما في قصيدة من قصائده بيتٌ يتحكم عليه لو وليتُ فهي مصبوبة في قوالب القلوب وبمثلها يتذر الزمان المذنب عن الذنوب . أنشدني الشيخ أبو محمد الحمدانيّ قال : أنشدني عزُّ المعالي قال : أنشدني مهيار لنفسه :
أَستنجدُ الصبر فيكُمْ وهْوَ مغلوبُ ... وأسأل النومَ عنكُمْ وهْوَ مَسلوبُبسيط
وأبتغي عندكم قلباً سمحتُ به ... وكيف يُرجعُ شيءٌ وهوَ مَوْهوبُ
رضاه أسخط أو أرضى تلوُّنه ... وكل ما يفعل المحبوبُ محبوب
أستودع الله في أبياتكم قَمراً ... تراه بالغَيب عيني وهْوَ مَحجوبُ
ما كنتُ أعلم ما مقدارُ وصلكُمُ ... حتى هجرْتُم وبعضُ الهجْر تأديب
وأنشدني القاضي أبو جعفر البحّائيّ قال : أنشدني أبو محمد عبد الله بن أحمد الواسِطيّ قال : أنشدني مهيار لنفسه :
بالكرْخِ مُترفَةُ الخُطا ... تَهبُ الغُصونُ لها القُدودا
أخذَ الغزال نِفارُها ... واعاضها كَفَلاً وجِيدا
قد كان رثَّ هوايَ واب ... تسمتْ فردّته جَديدا
من بسلعٍ مُطلعٍ لي ... قمراً طالَ مغيبُهُ
وأصيلاً بالحِمى نُغْ ... غِص بالعاذل طيبُهْ
كلُّ شيءٍ حَسنٍ في ال ... عَينِ فالعينُ تُصيبه
عنَّفوا القلبَ على قا ... تله وهْو حبيبه
وأقلُّ الناسِ ذنباً ... قادرٌ عُدَّتْ ذُنوبه
وله في الجُلّنار :
وجلَّنارٍ مشرفٍ ... على أعالي شَجَرهْ
كأنّ في رؤوسه ... أحمرهُ وأصفره
قُراضةٌ من ذهبٍ ... في خِرقةٍ مُعَصْفَرَهْ
قلت : ووجدتُ في ديوان شعره بائيّة في نهاية الإبداع وهي :
هل عند عينيكَ على غُرَّبِ ... غَرامةٌ للعارض الخُلَّب
نِعمَ دموعٌ يَكتسي تُربُهُ ... منها قميصَ البلدِ المُعشبِ
ساريةٌ تركبُ أردافَها ... مُعلَّقاتٌ بعدُ لم تَسرُبِ
علامةً أنّيَ لن أنتكثْ ... مرائرَ العهدِ ولم أَقْضِبِ
يا سائق الأظعان لا صاغراً ... عُجْ عَوجةً ثم استقِمْ فاذهب
دعِ المطايا تلتفتْ إنها ... تَلوب من جَفني على مَشْرب
لا والذي لو شاء لم أعتذِرْ ... في حُبّه من حيثُ لم أُذنبِ
ومنها :
ما حَدرتْ ريحُ الصَّبا بعدَهُ ... لِثامها عن نَفَسٍ طيّبِ
يا ماطِلي بالدَّين ما ساءني ... إليكَ ترديدُ المواعيدُ بي
إنْ كنتَ تَقضي ثم لا نلتقي ... فدُم على المَطلِ وقُلْ واكذب
ومنها :
سالَ دمي يومَ الحِمى من يَدٍ ... لولا دمُ العُشَّاقِ لم تُخْضَب
قد سدَّ شَيبي ثُغري في الهوى ... فكيف قَصِّي أَثرَ المَهْرب
أفلحَ إلا قانصٌ غادةٌ ... مدَّ بحبل الشَّعَرِ الأشيبِ
شِياتُ أفراس الهوى كلُّها ... تُحمدُ فيهنَّ سِوى الأشهبِ
وله من قصيدة أولها : (1/45)
سافرْ بطرفكَ واشْترفْ هل تَعرفُ ... أنّى سرى برقٌ بوَجْرةَ يخطِفُ
هُبَّ اختلاساً ثم غمّضْ موهِناً ... وعلى الرجال نواظرٌ ما تَطرِف
واشتاقَ صُبحي أنْ يُضيءَ ودونه ... من شَملةِ الظَّلماء سِترٌ مُسدِفُ
وكأنّما ضَحِكتْ لهم بوميضه ... خنساءُ فهو بكلّ خطٍّ يُرشَف
بعثَ الغرامَ لمُدلِجين جَرَت لهم ... طَيرُ الفِراقِ بَوارحاً فتعيَّقوا
حَملوا الخدود على أكفٍّ مُوطِلت ... بالنوم فهْي عنِ المخاضةِ تَضعُف
يا سائقَ بعارفةٍ تسوقُ منَ الحِمى ... أرَجاً بَرِيّاً أهله يُتَعرَّف
فبردْتُ بين عُنيزتَين وصارةٍ ... كبداً إلى أهل الحِمى تَتَلهَّف
قلت : هذا لعَمري كلامٌ أنيق غضٌّ كما نشر أزهاراً عَصْبُهُ على الرباع ربيع ونظام مليح عذب والملحُ مع العذوبة بديع
ابنه الحسن بن مهيار
أنشدني له الأديب سلمان النهرواني :
يا نسيمَ الريح من كاطمةٍ ... شَدَّ ما هِجتَ البُكا والبُرَجا
الصَّبا إنْ كان لا بُدَّ الصَّبا ... إنّها كانتْ لقلبي أرْوَحا
يا نَدامايَ بسَلعٍ هلْ أرى ... ذلك المَغْبقَ والمُصطَبَحا
أُذكُرونا ذِكرنا عهدَكم ... رُبَّ ذِكرى قَرَّبتْ من نَزَحا
أُذْكروا صَبّاً إذا غَنّى بكُمْ ... شَربَ الدمعَ وردَّ القَدَحا
أبو الحسن القَنّاد
أنشدني القاضي أبو جعفرٍ البَّحاثيُّ قال : أنشدني الحاكم أبو المظفّر الفضلُ ين محمد الراوندي له :
من كان أضحى منكُمُ مُعْدَماً ... فرَحْبَةُ المسجدِ مِيعادُهُ
ينصرف الناسُ لحاجاتهِمْ ... ونحنُ في المسجد أوتادُهُ
الوزير أبو القاسم المُهلَّبيُّ
وجدتُ في بعض التعاليق منسوبةً إليه :
الراحُ ترياقٌ لسمِّ الهمِّ في ... حُكمٍ من المعقول والمسموعِ
والهمُّ يَلسعُني فهلْ من مُسكرٍ ... يَسخو بترياقٍ على الملسوع
والغالب على هذه المهلبي الكتابة . وسوف أتخلّص من نِشدان شعره إلى إنشائه فألحقَ ما أجده بمكانه من هذا الكتاب . وقد رأيت فصلاً له إلى الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد فاستملحته ولكتابي هذا استصلحته وهو : " ذهبتَ عن مودّتي ذهاباً أساء ظنّي فلِمَ واستحللتَ محرّماً من الهجران فبِمَ وزدتَ في شدّة الشوقِ والقطيعة فإلامَ وأعطيتَ الجفاء أوفى حظوظِه فهل تُقلعُ وإن خرجتُ عليكَ فيما أتيتَ فما تَصنعُ . إن رأيتَ أنْ تواصَلني بعدها فعلتَ إن شاء الله عز و جل "
سعيد بن عبد الرحمنِ
أنشدني الشيخ أبو محمد الحَمداني قال : أنشدني عز المعالي له هذين البيتين قد رواهما قبل لغيره :
فإنْ تدعي نجداً أدعْهُ ومن به ... وإن تسكُني نجداً فيا حبّذا نجدُ
فيا ربوةَ الرَّبعين حُييتِ منزلاً ... على النأي منّي واستهلَّ بكِ الرعد
القاضي أبو نصرٍ عبد الوهاب
بن علي نصرٍ المالكي
أنشدني الشيخ أبو عامرٍ الجرجانيّ قال : أنشدني الشيخ حذيفة بن الحسين العقيقي قال : أنشدني المالكي لنفسه :
كلُّ النامِ كِلابُ ... هَرُّوا بكلّ طريق
مجتثّ
فإنْ ظَفِرتَ بحُرٍّ ... فاحفظْهُ فهْوَ سَلوقي
وأنشدني أيضاً قال : أنشدني أبو محمد الواسطي الشافعي قال : أنشدني هذا المالكي لنفسه :
أيا من قولُهُ نَعَمُ ... ويا مَن فِعلُهُ نِعَمُ
تقول : لقد سعى الواشو ... ن بالتحريش لا سَلموا
وقد راموا قطيعتنا ... فقُلت : بَلى أنا لهُمُ
قوله : أنا لهم كلمة تهديد . وأنشدني الشيخ أو عامر الجرجانيّ لنفسه في مثل لفظه :
عَذيري من شاطرٍ أغضَبوه ... فجرَّدَ لي مُرهَفاً باتِكا
وقال أنا لك يا ابنَ الوكيل ... وهلْ لي رجاءٌ سِوى ذلكا
قلت : وقد ملُح حيث حمل لفظة التهديد على معنى التمليك . وأنشدني أيضاً له : (1/46)
أتذكر إذْ نهاية ما تمنّى ... ملاحظةٌ بها منهُ تَفوز
فحين نسجتُ بينكما التصافي ... دخلتَ وصرتُ من برّا أجوزُ
يقول : قال : فذكر لي أبو محمد بن الطيب الباقلاني أنه أخذه من قول الآخر حيث يقول :
قد كنتُ أقرا هذه السورهُ ... فانكشفتْ لي هذه الصوره
شبَّشتْني حتى إذا صدتَ من ... تهواه بي فزَّوتْني حِيره
قلت : الشباشُ الطائر الذي يقيِّد في الشِّرَك ليُصطاد به غيره نظيره . ورأيتُ له في بعض التعاليق هذه الأبيات :
سلامٌ على بغداد في كل منزلٍ ... وحُقَّ لها منّي السلام المضاعَفُ
لَعَمرُكَ ما فارقتُها عن قِلىً لها ... وإني بحسني جانبيها لَعارفُ
ولكنّها ضاقتْ عليَّ بِرَحْبِها ... ولم تكُنِ الأرزاق فيها تُساعف
وكانت كخِلٍّ كنتُ أهوى دُنُوَّهُ ... وأخلاقُهُ تَنأى به وتُخالِف
وله أيضاً :
عُزِلْتَ ولكنْ ما عُزِلْتَ عن العُلا ... وجودُكَ في جيد العُلا لكَ شاهدُ
فلا يفرحِ الأعداء بالعَزْل مَورِداً ... إذا راح عنه صادِرٌ جاءَ واردُ
أبو سعيد الكَرابيسي
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني الشريف أبو يَعلى محمد بن الحسين الجعفري الكرابيسي هذا له :
كأنّني حين أَهديتُ الثناء له ... مُهدٍ إلى البحر سِمطاً من لآليه
أو مُتحَفُ الفَلكِ الجاري كواكبُهُ ... والنَّيِّرينِ بنجمٍ من دَراريهِ
عبد الله بن عبد الرزاق
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني ابن بَرهان البغدادي النَّحْويُّ له :
دَعوا مقلتي تَبكي لفقْدِ حَبيبها ... ليُطفئَ بَرْدُ الدمع حَرَّ لهيبها
ففي حَلِّ خيط الدمع للقلب راحةٌ ... وطوبى لنفسٍ مُتِّعتْ بحبيبها
بمَنْ لو رأته القاطعات أكفَّها ... لما رضيتْ إلا بقطع قُلوبها
أبو غالب محمد بن أحمد
بن سهلٍ الواسطي
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني الشريف أبو المكارم المطهَّر بن علي له :
يا أهل واسِطَ إنَّ صاحبكم صَبا ... من بعد طول تَنسُّط وصلاح
تبعَ الهوى في حب ظَبْيٍ شادنٍ ... ذي مُقلةٍ سَكرى ولفظٍ صاحِ
في وجهه لذوي البصائر والنهى ... نُزَهُ العيون وراحةُ الأرواح
ذي غُرَّةٍ زِينتْ بأحسن طُرَّةٍ ... كَسَواد ليلٍ قس ضياء صَباحِ
كم ليلةٍ قصَّرتُها بمُدامةٍ ... وقطعتُها بفُكاهةٍ ومُزاح
تَقبيله نُقْلي وعَذْبُ رُضابه ... خَمري وضوءُ جبينه مِصباحي
ثم انثنيتُ وساعِدايَ قِلادةٌ ... في النحر منهُ وساعِداه وِشاحي
نفسي الفداء لمن أطعتُ له الهوى ... وعصيتُ فيه مَلامة النُّصّاح
وأنشدني أيضاً قال : أنشدني له الرئيس ابن فَضْلان من قصيدةٍ أخرى :
لولا تعرُّض ذكر من سكن الغضى ... ما كان جِسمي للضَّنا مُتعرِّضا
لكنْ جَفا جَفْني الكرى بجَفائهم ... وحَشا حَشايَ فراقُهم جَمرَ الغَضا
فلو أنّ ما بي بالرياح لما جَرَتْ ... والبرق لم يُمنى به ما أومضا
ولو أنني أفضي بأسرار الهوى ... يوماً إلى أحدٍ لضاقَ بها الفَضا
وأنشدني أيضاً قال : أنشدني أيضاً الرئيس أبو علي الشرواني له :
إذا ما تذكرتُ الذي كان بيننا ... من الوصْل جاد الدمعُ سَكْباً على سكبِ
وبِتُّ ونارُ الوَجد بين جَوانحي ... تُقلِّبني الأشواقُ جَنباً على جنب
شربتُ بكأسٍ من يد البَين مُرّةٍ ... وقد كنت قبل البَينِ ذا مَشربٍ عَذْبِ
فيا غائباً عن ناظري وهو حاضِرٌ ... بقلبي رعاك الله في البُعد والقُرب
وأنشدني أيضاً له :
بما بِعينيكَ من غُنجٍ ومن حَوَرِ ... وما بِخَدَّيكَ من وردٍ ومن زَهَرِ (1/47)
وما بثعركَ من دُرٍّ ومن بَرَدٍ ... وما به من رُضابٍ فائِحٍ عطِرِ
وطُرَّةٍ طارَ لُبَّي عند رؤيتها ... وغُرَّةٍ تركتْ قلبي على غَرَرِ
وحاجبٍ حجَب السلوان عن فكري ... وعارضٍ عرَّض الأجفان للسهر
وقامةٍ قد أقامتني على قَدَمٍ ... في مَعركِ الوجْد والأطماع والحذر
هَبْ لي أماناً من الهجران إنّ له ... كأساً تجرَّعتُ منها علقَمَ الصبر
إنْ كنتُ أذنبتُ ذنباً غير مُعْتمدٍ ... يا مالكي فاعْفُ عنّي عفْوَ مقتدِرِ
الحسين بن أحمد السنجاري
أنشدني له الشيخ أبو محمد قال : أنشدني عزّ المعالي بجزيرة عمر هذه الأبيات :
ولما بسطْنا للوداع أكفَّنا ... وكلّ لِما يَلقاه قد ودَّع الصَّبرا
وقفتُ على الأطلال ساعةَ ودّعوا ... أسائلها طوراً وأندبُها أخرى
وقلتُ ولم أملكْ سوابقَ عبرةٍ ... على الخدِّ تَحْكي بعد سيرهُمُ القَطْرا :
كفى حَزناً للهائمِ الصَّبِّ أنْ يرى ... منازل من يهوى معطَّلةً قَفْرا
علي بن محمد اللؤلئي
أترى الزمان يسُرُّنا بتلاقِ ... ويضُمُّ مُشتاقاً إلى مُشتاقِ
نُوَبُ الزمان كثيرةٌ وأشدُّها ... شَمْلٌ تحكَّم فيه قومٌ فِراقِ
يا عينُ لِمْ عرّضْتِ نفسكِ للهوى ... أو ما رأيْتِ مَصارعَ العُشّاق
أبو بكرٍ العَنْبري
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني أبو المحاسن عبد المنعم بن الحسين الصوري له :
أيا نَفَحاتِ الريحِ من أرضِ بابل ... بحَقِّ الهوى إلاّ حَمَلْتِ رسائلي
إلى خيرِ إلفٍ هام قلبي بحبِّه ... به تمّ وَسْواسي وهاجَتْ بَلابلي
وقلت له : يا نورَ قلبي وناظري ... رحلتَ بقلبي والهوى غيرُ راحِلِ
وفرَّقتَ ما بينَ الجُفون ونومها ... وواصلتَ ما بيني وبين عواذلي
وإنّ بصحراءِ المُرَيْطِ منازلاً ... لأحبابنا أكرِمْ بها من منازل !
وفيها التي هام الفؤادُ بحبِّها ... وكم سائلٍ لم يحظَ منها بطائلِ
تعلَّقها بالأمسِ خِلْواً من الهوى ... فقدْ شغلتْهُ اليومَ عن كلّ شاغِلِ
أبو الحسن بن محمد
حفيد أبي حامد أحمد بن محمد بن نَجْدة
ذكر لي الأستاذ أبو محمد العبد لْكاني الزوزنيُّ أنه كتب إليه كتاباً من بغداد فيه قصيدة له قالها في الشيخ أبي حامد الإسفرائيني قال : وعزب عني الكتاب والشعر إلاّ قوله فيها :
تَشمُّ الأنوفُ الشُّمُّ تُربةَ أرضه ... واعجبْ بأنفٍ راغمٍ فازَ بالفَخر
غريب الخادم
أنشدني القاضي أبو جعفر قال : أنشدني الحاكم أبو سعد عبد الرحمن محمد بن دوسْت قال : أنشدني هذا الخادم وكان شيخاً كبيراً خدم خلفاء بغداد لنفسه فمن مقطّعاته قوله :
قلبي يقول لعَيني : هِجتِ لي سَقَماً ... والعينُ تزعُم أنّ القلب أَذْكاها
والقلبُ يشهدُ أنّ العينَ كاذبةٌ ... هي التي صَيَّحَتْ للنفسِ بَلْواها
لولا العيونُ وما يجنبن من سَقَمٍ ... ما كنتُ مرتَهناً في سُرَّ مَنْ راها
قال الحاكم أبو سعد بن دوست رحمه الله : حدثني هذا الخادم قال : كنت أنشد ببغداد من أشعار أبي الفتح البُستي وأضرابه فلم يَرْتضوا منها بيتاً واحداً وقالوا : إنما يريد مثل قول صاحبنا :
أجمِلي يا أمَّ عَمرٍو ... زادك لله جمالا
لا تبيعنِّي برُخْصِ ... إنّ في مِثلي يُغالى
قال الحاكم رحمه الله : كان هذا الخادم يبيتُ في كَرْمٍ لنا فانصرف ولم يعُد بعده فقيل له في ذلك فقال : إنّ هناك جواميس تقلع العين يعني بها البعوض
منصور بنُ جُلَّهنار
بعض عمّال الأجلّ الأوحد أبي محمد الحسن بن مَكْرمٍ فقال فيه مدحةً :
نَم أيها الساعي لتلْ ... حق آل مَكرم أم لأيشْ
عُدَدُ العُلا منهم كما ... أنّ الأئمةَ من قُريش
النَّضيري (1/48)
حدثني القاضي أبو جعفرٍ البحاثي قال : حدثني حَمْد بن محمد الثوري قال : دخل جماعة من الشعراء على فخر الدولة يوم نَيروز وكان فيهم أحدٌ يقال له النضيري فأقبل عليهم وقال : أمهِلوني أن أقول أولاً بيتاً واحداً فقال له فخر الدولة : هاتِ . فأنشأ يقول :
أمُّ الوزارة أمُّ جَمّةُ الولد ... لكنْ بمِثلكَ لم تَحبلْ ولم تَلدِ
قال : فأجزل صلته وقضى حاجته . وعلى ذكر فخر الدولة فقد حكى القاضي حمدٌ أنّ بعض السعادة رفع إليه قصة وكان يومئذ والي بغداد أنّ فلاناً دَواتيكَ يملك ألف دينارٍ قال : فقط ولو ملك ألفَ ألف دينار لكان قليلاً لمثله . ثم قلب القصّة وكتب على ظهرها : السِّعاية قبيحةٌ وإن كانت صحيحة . فإن كنتَ أقمتَها مُقام النُّصح فخسْرانُكَ فيها أعظم من الرِّبح ولولا أنك في جَعارة شيبك لعاملتك بما تستحقّه فعالُك ويرتدع به أمثالك
أبو علي إسماعيل بن علي الخطيب البغدادي
أنشدني القاضي أبو جعفر قال : أنشدني الأستاذ أبو محمد العبدُلْكاني قال : أنشدني الخطيب البغدادي لنفسه :
قضاءٌ من القادر الصانع ... مَقامي بذا البلدِ الشاسعِ
أروحُ وأغدو بلا جاحةٍ ... وآوي إلى المسجد الجامع
وأنشدني له أيضاً :
وأهيفَ في عينيه زُرقةٌ ... تدبُّ على خدِّه عقرب
سأفرشُ خدِّي طريقاً له ... مخافةَ سوءِ لهُ يَقرُبُ
الشَّعْباني
أنشدني الشيخ أبو الفرج حمد بن محمد حُسَينك الهمذاني رحمة الله علي لهذا اللقب بالشعباني ولم يُسمّه ولم يكَنِّه قال : وقد خاطب الشعباني بهذا البيت معشوقاً له التحى :
أظلمتَ في العين فاقْتدنا إلى قمر ... إنّ الدجى سببٌ هادٍ إلى القَمر
يقول : الآن لما أظلمت في العين فعليك بالقيادة لكل حسن الوجه كالقمر
أبو غانم الكاتبُ
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني الشريف أبو علي محمد بن الحسين الجعفري قال : حدثني أبي قال : كنتُ واقفاً على باب عبد الله بن يحيى أنظر الإذن عليه فأقبل أبو غانم هذا وكان مختصاً به يُريده فحجب فخجل لمّا رآني . وأقبل وينشدني الأبيات المقولة في الحسن بن سهل التي فيها :
فوالله لو خوَّلتني الصلح لم أقم ... فكيف وحظي جَفوةٌ وبعاد
ثم أخذ دواة وكتب على ظهر دابته رقعة ترجمها باسمه وأتبعها هذه الأبيات :
حُجبت وقد كنتُ لا أُحجَبُ ... وأُبعدتُ عنك فما أقْربُ
وما ليَ ذنبٌ سوى أنني ... إذا أنا أُغضبتُ لا أغضبُ
وأنْ ليس دونك لي مطلب ... ولا دون بابك لي مَرغَبُ
فلينك تَبقى سليمَ المكان ... وتأذن إن شئتَ أو تُحجب
أبو نصر بن هارون الكاتب النصراني
على ربع يحفّ به الحجابُ ... ويغلق منه دون الحرّ بابُ
سلامُ مودّعٍ خشنٍ جناباً ... إذا ما ازورّ أو خشُن الجناب
سأهجر كل باب رُدَّ دوني ... ولو قد رُدّ لي منه الشباب
أبو القاسم يوسف بن أحمد بن فَنَوِيهِ
قال يرثي المتنبّي ويحرّض الأمير عضد الدولة على فاتك بن أبي الجهل ومن كان معه من بني أسد . أوردتُ أختين لهذه المرثية فيما سبق من أشعار الشاميين وهذه ثالثهما والثالث خير :
من للطِّعان وللطِّراد مباشراً ... بالنفس قُدْماً فوقَ كلّ جَواد
ما زلتَ تُعنى بالأسنّة والقَنا ... وتُقلُّ مُكْثَ السيف في الأغماد
ما زِلتَ ترتبط الجياد وتتَّقي ... صَرفَ الزمانِ بحكمةٍ وسَداد
حتّى أتي الأمرُ المطاعُ فلمْ تُطِقْ ... ردّاً بالأهل والأولاد
وجعلتَ تنظُرُ هل لنفسكَ مُسعدٌ ... عند الممات وهل لها من قادِ
وإذا العبيدُ عبيدُ سوءٍ كلهُم ... إلاّ غلاماً مخلِصاً بوداد
لم يألُ جُهداً في الجلاد بسيفه ... والضرب للهامات والأعضاد
طَلَباً لنُصحكَ في الحياة بنفسه ... والجود عند الموت بالإسعاد
فَثَوى خَضيباً بالدماء وسيفهُ ... مُلقىً بغير حمائلٍ ونِجاد (1/49)
وله من أخرى في معناه أيضاً :
فلئنْ حَييتُ ولم أمُتْ من بعده ... فلقد ألِفتُ الحُزن حتّى أُحشَرا
لِمَ لا وقد قصَدَ الزمانُ بصَرفِهِ ... جَبلَ العلوم وكهفها والمَخْبرا
فإليه مِنّي بالسلام تحيةٌ ... يَغدو إليه نَسيمُها متعطِّرا
لَهْفي عليك أبن المُحسَّد والقَنا ... تأبى طِعانَك خِفةً أنْ تقصُرا
لَهْفي عليك وقد سقطْتَ مكسَّراً ... من بعد رَدِّك للوشيج مُكسَّرا
أبو القاسم عبد الواحد بن محمد بن المُطَرِّز
عريق نسب الفضل بالعراق ومُنتهٍ من نوعٍ قِسِيِّه إلى حدّ الإغراق
وكتاب تتمة اليتيمة مطرز بشعر ابن المطرز هذا غير أني أسندتُ إليه مُلَحاً لم يسعني التقصير في حقّها والتفريط في جَنبها . أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني الشريف أبو حربٍ بن الدَّينوري النسّابة قال : أنشدني ابن المطرِّز لنفسه :
سقى الله من جَرعاء مالك منزلاً ... وجدنا به سهلَ به سهلَ العَزاء مَنيعا
ويومَ حَملنا للوِداع صُبابةً ... من الدمع حالتُ في الخُدود نَجيعا
وقد واعدتني أمُّ عمرٍو عِناقَها ... فلمّا رأتني في يديه صَريعا
بكتْ بين أترابٍ لها وعوادلٍ ... فما بَرِحتْ حتّى بكَين جميعا
وله أيضاً :
بسعيكَ في ظلمي وخوضِكَ في دمي ... وبُعدكَ من وَصلي وقُربك من قلبي
هبِ العفوَ لي إنْ كان جُرماً عملتُهُ ... وإنْ كنتُ مظلوماً وذنبُ الهوى ذَنبي
ولم أعترفْ أنّي جَنيتُ وإنما ... يُصانَعُ بالإقرار من ألَم الضَّربِ
وعندي شِكاياتٌ إذا شئتَ أقبلتْ ... إليكَ تَضامينَ الرسائل والكُتْبِ
تَباريحُ شوقٍ يحبسُ الركبَ بثُّهُ ... وشَكوى تذود الخامسات عن الشرب
رضيتُ بعفوٍ منكَ لا عن جريرةٍ ... فسُخطكَ شيءٌ لا يلينُ له جَنْبي
فحسبكَ ما استوليتَ منّي ففُزْ به ... فإنّ الذي بي منك من لوعةٍ حَسبي
وأنشدني الشيخ أبو محمد أيضاً قال : أنشدني الأديب أبو شجاع فارس بن الحسين له :
عسى طيف الملمّة بالنعيم ... يُلِمُّ بنا على العهد القديم
أرقْتُ له أماطل فيه هماً ... يُلازمني ملازمةَ الغريم
لعلّ خيالَ ذاتِ الخالِ يَسري ... فينْقَعَ غلَّةَ النِّضْوِ السقيم
وكيف ينام عشقٌ تغلبيٌّ ... تُؤرِّقُهُ ظباء بني تَميم
قلت : هذا لعَمري هو الشعر الذي ورد دجلةٍ فارتوى من زُلالها وروَّح بشمال بغداد فرفَل في سِربالها واستعاد الصحّة من اعتلالها
أبو الحسن أحمد بن علي البتِّيُّ
أمره بهاء الدولة أن يعمل أبياتاً تكتبها بعض الجواري على تِكّة أَبريشم وهي قفل باب اللذة فقال مرتجلاً :
لِمَ لا أتيهُ ومضجعي ... بين الرَّوادف والحُضور
وإذا نُسجتُ فإنني ... بين الترائب والنُّحور
ولقد نشأتُ صغيرةً ... بأكفِّ ربّات الخُدور
وهذا من أحسن ما قيل في هذا المعنى . وأنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي قال : كتب بعض الفضلاء بيتين على تِكّةٍ أهداها إلى معشوق له ولم أسمع بأملحَ منهما وهما :
هيَ والله بين قطعٍ وحَلِّ ... وإليكَ الخيارُ إما وإمّا
ثم لا بد أنْ يَدمّى غزال ... وبنفسي ذاك الغزال المُدمّى
صَدَقَة بن أحمد الضَّريرُ
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني الرئيس أبو المعالي محمد بن عبد الله له يرثي بعض الأمراء :
يا أميراً عليه يح ... سنُ ضربُ الدبادب
حَمَلوا نعشَك المكَرْ ... زَمَ فوقَ المَناكب
كان من حقِّ نعشكَ ال ... حملُ فوقَ الحواجب
أبو القاسم عمر بن أحمد الخلاّل
أنشدني الشيخ أبو محمد قال : أنشدني الرئيس أبو المكارم هبة الله بن الحسين له : (1/50)
ولكَمْ قطعتُ إليكَ من ديمومةٍ ... نُطَفُ المياه بها سَواد الناظر
في ليلةٍ فيها السماءُ مُضِلَّةٌ ... سوداءُ مظلمةٌ كقلب الكافر
والبرقُ يخفق من خلال سَحابها ... خَفقَ الفؤاد لموعدٍ من زائر
والقطرُ منهلٌّ كأنّ مَسيله ... دمعُ المَشوق وراءَ إلفٍ سائر
أبو الفرج محمد بن الحسين التَّمّار الواسطي
أنشدني الشيخ أبو محمد قال : أنشدني ابن بَرهان النحوي البغدادي له :
مَشيبُكَ سُقمٌ غيرُ بادٍ مَكانه ... له ألمٌ يُعْنى به الرجلُ الطَّبُّ
وربَّ سَقامٍ مؤلِمٍ غير ظاهرٍ ... إذا الجسمُ لم يألَمْ به ألِمَ القلبُ
أبو محمد المخزومي البصري
كان هذا المخزومي قاد إليه الفصاحة بخزامة وشدّ حيازيمه في الفضل على تثبت وحزامة . وكنت عثرت بنُبذٍ من أشعاره في تتمة اليتيمة فصرفتُ وجه الهمة إلى تحصيل أخوات لِما في اليتيمة حتى أنشدني له الشيخ أبو عامر الجراني قال : وهو مما أنشدنيه لنفسه بجُرجان أيام وُردوه على القاضي أبي غانم القصريّ :
وَلابَةٍ تَنهلُّ فيها ضُحى ... كاليَزَنيّات الدوامي الحدادْ
تُلقي الأخيرات ظلالاً لها ... على رؤوس الأوليات امتدادْ
يعني : ما امتدّ من ظلال الجرة :
كأنها آذان خيلِ الوغى ... مُدّتْ لطعنٍ بينهنّ الصعاد
حتى إذا قلّصَ ظلُّ الضُّحى ... عادت ثُدَيّاً وقُروناً جِعاد
يريد تقلُّص الظلّ . قال : وأنشدني من قصيدة له في أبي غانمٍ القَصْري :
لا تأْمُلي نقلَ الطِّباع فلنْ تَرَيْ ... ناراً مُغوَّرةً وماءً منجدا
وانتسختُ من ديوان شعره هذه القصيدة :
قَناعةُ المرءِ راحةٌ وغِنى ... لولا خُمولٌ بِعزِّها قُرِنا
فما شُحوبي في السير عن طَبَعٍ ... ما كَلَفُ البدر في السُّرى دَرَنا
كفى القَطا فحصُها الصَّعيدَ إذا ... ألقت قِلاصي على النَّقا ثَفَنا
بعد حصىً طار عن مناسمها ... رَمْيَ الحَجيجِ الجِمار يوم مِنى
وطالما حَلّتِ اللجاجة من ... عَزمي سُراها بالسير مُرْتَهنا
إذا استدارت كما تُدارُ رحىً ... بنتْ على الموت نَقعَها فدَنا
ثم تمطّتْ في الأُفق صومعةً ... ثم تفشّتْ كالغيث لو هَتَنا
وقد تُكنِّيني المُحولُ أبا ال ... أضياف والحالُ تستجدّ كُنى
ألسنُ نارٍ تدعو لنا الجفَلى ... وليس إلاّ زَفيرُها لُسُنا
تلحسُ فرعَ الدُّخان راقصةً ... كألسُنِ البرقِ تلحس المُزُنا
لو قلت : إن هذا سحرٌ وليس بشعرٍ لما تخطّيتُ الحق ولا تعدّيتُ الصدق :
رقْصَ الدَّوامي من السيوف بأي ... دينا إذا خَيلُنا رقَصْنَ بنا
وشَملَ طيرٍ فَرَّقتُ عن ثَمَدٍ ... وشَتْ إليه بأنملٍ سنَنا
عَصفَره الصبحُ وازدَهَتْهُ صَبا ... فهْوَ كما أدْمتِ الظُّبى جننا
وانكدرَتْ بي ضُحىً مُطهَّمةٌ ... إذا تلا العيرَ جَرْيُها ضَمنا
حنَى محلٌّ اللِّجام هاديها ... كالطَّلِّ في النور أثقلا غُصُنا
ترشُفُ أقصى قَعرِ الإناء وما ... ردّتْ على الأرض حافراً صَفِنا
مُلّكْتُها مُهرةً مُحَرَّمةً ... لم تشكُ لسْعي شَكيمةٍ وجنا
كأنّها حين تتّقي رَسَني ... تحسب صِلاًّ بكفّي الرَّسَنا
أبو سعيد الحسين بن سعيد الحزيني
أنشدوني له :
صَبٌّ كئيبٌ مُغَنّى ... بعيشه ما تهنَّى
مجتثّ
له حَبيبٌ إذا نا ... ل ما يريد تجنّى
يقول : لا تذكرَ ... دعْنا فحسبُك منا
ماذا يضرُّكَ قلْ لي ... بالله أن أتمنّى
أبو عبد الله الزَّنْجَفْريُّ
أنشدني أبو الفضل يحيى بن نصر البغدادي قال : أنشدني الزنجفريُّ لنفسه : (1/51)
عَيَّرتْ بالمشيبِ وهْو وَقارُ ... ليتها عيَّرتْ بما هو عارُ
إنْ تكُنْ شابتِ الذوائبُ مني ... فالليالي تُشيبُها الأقمارُ
عبد الله بنُ العبّاس الطالبيُّ
حدثني الشيخ أبو محمد الحمدانيُّ قال : أنشدني الشريف أبو حرب بن الدَّينوريّ النسّابة : قال : حضر هذا الطالبي وهو شيخ أهله باب بعض السادة فعرف الحاجب مكانه وخرج فلمّا رآه أطرق . فقال عبد الله : لو أُذن لنا في الدخول لدخلنا ولو أُمرنا بالانصراف لانصرفنا ولو اعتُذر إلينا لقبلنا فأما الفترة بعد النظْرة والتوقُّف بعد التعرُّف فلا أعرفهما . ثم لوى رأس حماره وهو يقول :
وما كنتُ أرجو أن تكون مطيَّتي ... مُجدَّعةَ الأُذنين مَبتورةَ الذنب
ولا عن رضىً كان الحمار مطيَّتي ... ولكنَّ من يمشي سيرضى بما ركب
أبو الحسن البصْرَوي
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني أبو المكارم الفضل بن عبد الله الهاشمي له :
ولما تعرّضَ لي زائراً ... وما كان عندي لهُ مَوعدُ
سَهرتُ اغتناماً لليلِ الوصال ... لعِلمي به أنه يَنفدُ
فقال وقد رقَّ لي قلبه ... وأيقنَ أنّي به مُكمَدُ :
إذا كنتَ تسهرُ ليلَ الوِصالِ ... وليلَ النّوى فمتى ترقُدُ
قال : وأنشدني أيضاً له :
أيا دهرُ ويحك ماذا جميلُ ... فؤادٌ عليلٌ وإلفٌ بَخيلُ
إذا رمتُ منه بلوغَ المُنى ... فمن دون ذلك خَطبٌ جَليل
كأنّي أرى شخصه في المِراةِ ... يلوح وما لي إليه سَبيلُ
وأنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني له قال : وله شعر كثير ورأيت ديوان شعره في خزانة عمِيد الملك في مُجلّدتين :
يا ليلُ إلاّ انجليتَ عن فَلَقٍ ... ظِلتُ ولا صبر لي على الأرَقِ
بِتُّ بقلبٍ من الهوى خَرقٍ ... وناظرٍ من مَدامعي شَرقِ
كأنني صورةٌ مُمثَّلةٌ ... ناظرُها الدهر غير منطبِقِ
قلت : هذا أحسن ما قيل في معناه وما أراه سُبقَ إليه . وله :
ومَن طوى هذه الأيامَ مقتنِعاً ... بما رضيتُ به منها فقد فَطنا
وأنشدني الشيخ أبو الفضل يحيى بنُ نصرٍ السعدي البغدادي له قال : وهو بعد من الأحياء يتماجن بلغة البغداديين وخُرافاتهم بشعر . وإنما قال هذه الأبيات في زامر كان يدبّ إلى أهل المجلس إذا خيطت جُفونُهم بالصهباء ويَسمو إليهم سموَّ حَباب الماء
قال : وأنشدنيها لنفسه :
لعنَ الله ليلةَ الساباطِ ... كَسرتْ همّتي وأفنتْ نشاطي
بطَّ فيها نَصيرةُ الزامر المل ... عون كيسي لا كان من بطّاطِ
وتعدّى إلى سواه ولكنْ ... ساعدتْهُ نُعومةُ المِشراط
فاسألوه أليس قد نال ما شا ... ء فلِم خِرقتي بِلا قِيراط
حَلَّها واستجاب ما كان فيها ... إنّ هذا معْ ما مضى لَتَعاطِ
لغة الطرّاري ببغداد : استجاب اللصُّ الشيءَ أي إذا أخذه :
يا ذوي الأهلِ والأقاربِ حاذِ ... روا فقد زارَكم أبو الصَّبّاط
عينه لا تنام لمن تُراعي ... كيفَ تُرمى العيونُ بالخيّاط
جاءَ بالناي منه ليلاً فركَّب ... ه على نَفْش باب بيت الضِّراط
فلو أنّي ممّن يردُّ لقد كا ... ن غريقَ الخَرا إلى الآباط
إنّ من يدعُهُ فهْوَ غيرُ غَيرا ... نَ على أهله ولا مُحتاط
البيت مختل الوزن
ابن الكَنْبَك البغدادي
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني الشريف أبو الجوائز الهاشمي له :
ألا انظُر إلى دَرِّ السَّحاب كأنه ... نِثارٌ وأحداقُ القَرارات تلتقطهْ
إذا كتبتْ أيدي الرِّياض على الثرى ... بنَوْر فأيدي الغيمِ بالقَطر تنقطُهْ
أبو غالب بن بِشران الواسطي
نحوي تشدّ نحوه الرحال ويجثو للاستفادة بين يديه الرجال . أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني الفقيه أبو طالب بن حَمْدٍ خازنُ دار العلم بمدينة السلام ببغداد رحمه الله له : (1/52)
لما رأيتُ سُلُوِّي غير مُتَّجهٍ ... وأنّ غربَ اصطباري عاد مَفْلولا
دخلتُ بالرغم مني تحت طاعتكمْ ... ليقضي الله أمراً كان مَفْعولا
قال : وأنشدني أيضاً له في مثل هذا الاقتباس :
ما زلتُ أزجُرُ قلبي عنكمُ ثقةً ... بأنّ عقدكمُ ما كان محلولا
فحلّ بي منكم ما كنتُ أحذره ... ليقضيَ الله أمراً كان مفعولا
قلت : والدي رحمة الله عليه أسبق من هذا الواسطي إلى الغاية في افتتاح هذه الآية فقد رثى غلاماً في السياق بما أوجب له حيازة خَصْل السباق . وهو :
وشاغلٍ بالنوى قلبي ليجرحه ... أمسى جريحاً بنوع الروح مشغولا
مشى برجليه عَمداً نحو مصرعه ... ليَقضيَ الله أمراً كان مفعولا
قال : وأنشدني الأجلُّ أبو عبد الله المردوسي له :
وصافيةٍ صهباء من نسلِ كرْمَةٍ ... مناسبها قد أعرقتْ في المكارمِ
يطوفُ بها ساقٍ أغرُّ كأنّه ... هلالٌ تبدّى من خلال الغَمائم
لواحظه وقعُ الأسنّة دونها ... وألفاظه سَلُّ السيوف الصوارم
له حركاتٌ في اعتدال قَوامه ... يُريكَ التثّني في الغصون النواعم
وفي عارضَيه للمُحبِّ مُعاذرٌُ ... بخطِّ عذارِ كفَّ غَربَ اللوائم
وأنشدني الشيخ أبو الفضل جعفر بن يحيى المكيُّ الحكّاك قال : أنشدني ابن بشران لنفسه من قصيدة :
تبسَّم عن بَرَدٍ ناصع ... ولاحظَ عن مُرهَفٍ قاطِعِ
وحَطَّ اللثامَ فقلنا : الغمامُ ... تجلّى عن القمر الطالع
أبو يَعلى محمد بن الحسن البصري
حدثني الشيخ أبو عامر الفضل بن إسماعيل الجُرجاني قال : لقيتُ هذا الفاضل وكان فتىً لطيفَ الشمائل وروحاً كلّه . وأنشدني له :
يا عليّ بنَ عبيد ال ... له بالله العظيم
رُضِّعتْ في الكوانِ أخلا ... قُكَ من دَرِّ النسيم
أم تكوَّنتَ أبا الطَّيْ ... يب من ماء النعيم
فلهذا أنت كالأر ... واح تجري في الجسوم
وأنشدني أيضاً له :
يا واحداً في الفَهَم ... من عرب أو عجم
ويا فتىً باهتْ به ... شِيراز بين الأمم
يا بنَ أُسودٍ مالَها ... غيرُ القَنا من أجَم
يا مَن إليه العِلمُ من ... بين البَرايا ينتمي
أَبغيكَ حِبراً جيّداً ... مثلَ مُذابِ الفَحمَ
أو كدُجىً قد طُمِسَت ... فيه عيونُ الأنجم
أو كليالٍ بِتُّها ... أُسقى كؤوسَ العَدم
في أرض نيسابورَ ما ... بين طعامِ العجَم
فقد أكلتُ بينهم ... لحم يدي من كرم
وأنشدني أيضاً قال : أنشدني لنفسه :
إنّ الغريبَ بحيثُ ما ... حَطّتْ ركائبُهُ ذليلُ
ويدُ الغريب قصيرةٌ ... ولسانُه أبداً كَليلُ
والناسُ ينصُرُ بعضُهمْ ... بعضاً وناصِرُهُ قليلُ
هذه الأبيات لأبي حيّان التوحيدي ذكرها في الإشارات الإلهية
أبو الجوائز الحسن بن علي الواسطي
رأيتُ هذا الفاضل بين يدي عميد الملك رحمه الله بمدينة السلام ينشده قصيدة جيمية في نهاية الحُسن يجلو مِدْوس حسنها القلب عن الحزن . وهو يومئذ شيخٌ كبير الأكل الدهر عليه وشرب . ولكنّ الجماد لو غُنِّي بشعره لطَرب وفضلُه واسطةُ قِلادة واسطَ . وكان قد تجشَّم تحرير جُزءٍ لي بخطّ يمينه حسبَ ما اعتقده في شريعة الكرم ودينه مشتملٍ على فوائد من مَقولةٍ ومنقولة . ففجعني به الزمان واقتطعني عنه الحدثان وصرفُ الرزايا بالذخائر مولَع
فمما أنشدنيه لنفسه وأثبته لي بخطّ يده وهْو أحسنُ ما سمعتُه في فنّه قوله :
هنيئاً على رغُمي لعُودِ أراكةٍ ... تَسوكُ بها ذَلْفاءُ مبسِمَها العَذْبا
لئن سُقيَتْ منه لقد زار ثَغرُها ... أراكاً يبيساً وانْثَى مَنْدَلاً رطْباً (1/53)
قلت : ولَعَمري إنه لم يقصِّر في هذا المعنى قلماً ولساناً حيث وضع بإزاره إساءته إلى السؤال إحساناً يُعفِّي على ذنبه وجعل بحذاء الجُرم عذراً يُسوِّغ الاحتمال في جنبه . وجرت بيني وبين الشيخ أبي عامرٍ الجُرجاني مناشدة لِما قيل في أوصاف المَساويك ومذاكرة فيما انْشعبت إليه الخواطرُ في اختلاف معانيها . فأنشدني لبعضهم ثم قال وأظنّه لبشار بن برد :
ماذا عليكِ دُفنتُ قبلكِ في الثرى ... من أنْ أكون خليفةَ المِسواكِ
أيجوز ويحكِ أنْ يكونَ متيَّمٌ ... في القَدر عندكِ دون عودِ أراك
واستملحتُ تمنّيه خلافةَ المِسواك عَيمةً منه إلى ارتفاع ريقه وظمأً إلى ارتشاف درّه المغروس في عقيقه . وأنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني أبو الجوائز لنفسه :
واعتنقْنا ضَمّاً يذوبُ حصى اليا ... قوت منهُ وتَطْمئنُّ النُّهودُ
ثم هبّت رُويحةُ الفجر والكا ... شحُ ناءٍ والعاذلاتُ رُقود
كلّما نمَّ للفُضول سوارٌ ... كذّبتْه قَلائدٌ وعقود
قلن : وكنت أسمع قول ابن هِندو :
تعانقْنا لتوديعٍ عَشِيّاً ... وقد شَرِقتْ بأدمُعها الحِداقُ
فما زال العناقُ يضيقُ حتى ... تَشكَكْنا ؛ عِناقٌ أو خناق
فأعجب به وأتعجَّب منه مع استبشاع لفظة الخناق عند ذكر العناق تطيُّراً منه حتى جاء أبو الجوائز في صفَة الضَّمِّ بالأكمل الأتمِّ وهو قوله : وتطمئنّ النهود . فإنّ جميع ما قيل قبله على التقصير عنهما شُهود
وقد اتّفقَ لي في معناه ما لا أحسبُني سُبقتُ إليه من قصدية وهو :
واتفاقٍ حَسَنٍ ألْ ... لَفَ شَملاً قد تَبَدّدْ
واعتناقٍ ضيِّقٍ يُو ... هِمُكَ المزوجُ مُفرد
وأما قوله : يذوب حصى الياقوت فيه فمعنىً حسن لا يكاد يتأخّر عنه قول ابن هِنْدو :
ولَمّا أنْ تعانقْنا سَحَقْنا ... عقودَ الدُّرِّ من ضيقِ العِناقِ
فالأول ذَوبٌ تتذاوب فيه الأماني والثاني سحقٌ تتساحقُ عليه الغَواني . وله أيضاً رحمه الله :
أحببتُها حَبَشيّةً بجَبينها ... شَرطٌ يُضاعف شرط كلّ مُتيَّمِ
تقضي فينقاد القُضاةُ لحُكمها ... طَوعاً وتفتكُ بالكَمِيِّ المقْدَمِ
ومنَ الدليل على الشجاعة للفتى ... أثرُ الجراحِ بوجهه والمقْدَم
وأنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني له :
أمِنْ تِبريزَ شارفَني خَيالٌ ... وأصحابي بكاطمةٍ هُجودُ
ضعيف المتْنِ لا يثنيه واشٍ ... يراصده ولا يعْييه بيد
بَعثتُ إليه خالصتي فدقَّتْ ... به منها مضبَّرةٌ وخُودُ
تَراماهُ الأماعِزُ والفَيافي ... وتلفظُهُ التَّهائمُ والنُّجودُ
ويَنهى البيضَ أنْ يسلبنَ قَرْني ... ذوائبُ تستثيرُ الوجْدَ سودُ
تنظَّرُ زَورتي خَود لَعوبٌ ... وتحذَرُ نَفْرتي هيفاءُ رُودُ
وكم سمحتْ صَدوفُ ولا رقيبٌ ... يُحرِّمُ ضمَّها إلاّ النُّهودُ
قلت : ما زالت الشعراء يعدّون نفحَ الطيب من الوُشاة وجرسَ الحَلْي من الرُّقباء فنهدَ أبو الجوائز إلى النُّهود وعدَّهُ من المحذور وزاد به نغمةً في الطنبور . وفي هذه القصيدة يقول :
وأُطلقُ في رحاب المجدِ عَزْماً ... له من صُنع أخلاقي قيودُ
إذا ما أُخلقتْ أبرادُ حالي ... فبُرْدُ الصبرِ يا بأبي جَديدُ
فويْلُمِّ المَكارم من زمانٍ ... لئيمٍ وعْدَه فينا وَعيد
تَفانتْ أنفُسُ الأحياء حتى ... غَدَوا ولُحومُهُمْ لهمُ لُحود
وأبطالٌ إذا شَرعوا العَوالي ... فليس وُرودَها إلاّ الوريد
هُم البيضُ القَواطعُ حين يُمْسي ... لهمْ من نسجِ خَيلهمُ عَمودُ
بَنو حربٍ لهم عَلَقُ الأعادي ... رضاعٌ والسُّروجُ لهمْ مُهودُ
ولم يبرحْ على الصَّهَوات منهُمْ ... قيامٌ بالعُلا وهُمُ قُعود
وأنشدني أيضاً له : (1/54)
أيّها المالكُ الذي حاز رقِّي ... بهواهُ كُنْ أمِناً من إباقي
لا تخفُ أنْ يُقادَ بي فلقَد طُلْ ... لَ بحُكم الهوى دمُ العشّاقِ
وأنشدني له أيضاً :
أظبيةُ وادٍ أنتِ يا عذْبة اللِّمى ... أبيني لنا أم أنتِ حيّةُ واد
ألستِ التي صَيَّرتِ غَرْزَ مَطيَّتي ... طوافي وأوْجَ المِرزَميْنِ عِمادي
وإني على ما كان منكِ لمُشفِقٌ ... عليكِ ورامٍ نحوكُمْ بقِيادي
أعوِّذُ نونَي حاجِبيكِ من الردى ... بِنونٍ وصادَيْ مُقلتيْكِ بِصادِ
أبو منصور عليّ بن الحسن
ابن الفضل الكاتب البغدادي . أنشدني له الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني لنفسه من قصيدة مدحَ بها رئيسَ الرؤساء أبا القاسم علي بن الحسين رحمه الله تعالى :
نَوَدُّ الُّغور ونَهوى الخُدودَ ... ونعلمُ أنّا نُحبُّ المَنونا
ودون الوَصاوِصِ مَكحولةٌ ... تُعلِّم طَبْعَ السهام العُيونا
ومنها في المدح :
ولن تستطيل المَدى أيْنُقٌ ... بمدح جمال الورى قد حُدينا
وجَدْنَ لديه ربيعَ الثَّنا ... ء غضّاً وماء المَعالي مَعينا
تبوّأ من المجد بُحْبوحةً ... على مِثلها يُكمِدُ الحاسدينا
يُنادي النجاحُ بأبوابه : ... ألا نِعمَ ما قَرَع الطارقونا
بكا محلِّ بها سَجدةٌ ... تُسابقُ فيها الشِّفاه الجَبينا
تركتَ الخلافة في عصرنا ... تُفاخر مأمونها والأمينا
وجاهدْتَ فيها جِهادَ امرئٍ ... له جمعَ الله دُنيا ودِينا
ولا بُدَّ في الشام من غَزوةٍ ... تُحذِّر زَمْزَمُ منها الحَجوبا
وأخرى بمصرٍ تَخُطُ الرُّواةُ ... على الرِّقِّ فيه الحديثَ الشُّجونا
وختم القصيدة بقوله :
دعاءٌ إذا سمعتُهُ العِدا ... ةُ قالت على الرغْم منها : أمينا
وأنشدني له أيضاً قال : أنشدنيه لنفسه من قصيدة عملها في عميد العِراقين أبي نصر أحمد بن علي المُستوفيّ أولها :
أعادَ وأبدى ثم قام فسلَّما ... خَيالٌ سَرى وَهْناً إذا الليلُ أظلما
تأوَّبني بعد العشيّة طارقاً ... وحَيّا فأحيا مستهاماً مُتيَّما
تَطاوَلَ ليلي بالعراق ولم يكن ... يطول مداه في مَغانيك بالحِمى
غَنيتُ بها أيام هندٍ وإنها ... مُنعَّمةُ الأطراف منّاعة اللِّمى
تُريك صباحاً مسفِراً وَجَناتها ... تُجاوب ليلاً من دجى الفَزْع مُظْلما
سئمت لذيذ العيش بعد فِراقهم ... وحقَّ لمثلي أن يَمَلَّ ويَسأما
ويظلمني صَرفُ الزمان بحُكمه ... ونفسي تأبى عِزّةً أن تظلَّما
أرى الليلَ دِرعي والنجومَ أسنّتي ... وصارمي الصُّبح المنير إذا سَما
أبو علي بن شبل البغدادي
رأيته ببغداد سنة خمس وخمسين وأربعمائة فوجدته وقد شدّ على الأدب الجزل أزرار ثيابه وجمع أقسام الفضل مِلءَ إهابه . وذكرته في خُطبة هذا الكتاب عند ذكر السادة الأرباب . وفرغتُ ثم مما يليق بهذا الباب . وقد كان أعارني صدراً صالحاً من فوائده وأهدى إليّ قدْراً كافياً من فرائده . ولم تُمتِّعني الأيام بها وزاحمتني الحوادث فيها حتى عدمت من فضل ربيعها زهراً ووَرْداً وبقيتُ بعدها كالسيف فرْداً
فمما أنشدني لنفسه قوله :
قالوا : المشيبُ فقلت صب ... حٌ قد تنفّس في غياهب
إنْ كان كافور التجا ... رب ذُرَّ في مسْك الذوائب
فالليل أحسن ما يكو ... ن إذا ترصّع بالكواكب
قلت : كنايته عن الشعر الشائب بكافور التجارب من النوادر والغرائب وأختها غبار وقائع الدهر . وأنشدني لنفسه أيضاً :
وحتْمٌ قسمةُ الأرزاق فينا ... وإنْ ضَعُفَ اليقينُ من القلوب
وكم من طالبٍ رِزقاً بعيداً ... أتاه الرزق من أمدٍ قريبِ (1/55)
وأنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني له في صفة دَجلة والزبازب فيها يوم موج :
زَبازبُها على الأمواج تَحكي ... عقارب فوق حَيّاتٍ نطير
تلوح كقطع ليلٍ في صباحٍ ... كما لاحتْ على الطِّرسِ السطور
وأنشدني أيضاً له قال : أنشدنيه لنفسه :
أخطُّ وأقلامي تُسابق عَبْرتي ... لأني عن جسمي كتبتُ إلى قلبي
وأشكو الذي ألقاه من وَحشة النوى ... وشخصُك وُقِّيتَ الردى حاضِرٌ لُبّي
فدتْك أبا يَعلى لعبدك مهجةٌ ... تُقلِّبها الأشواق جنباً على جَنب
تبسّم عن أنباء حَضرتك العُلا ... ويُغْني بجَدوى راحَتيْك عن السُّحْبِ
محمد بن عمران
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني أبو القاسم بن بَرهان النحوي له :
تعجّبتْ لمّا رأت ... شَيباً علاني غُرَرُهْ
هذا غَمامٌ للردى ... ودمعُ عيني مَطَرُهْ
فقلت : كُفّي وارتعي ... يُنبيكِ عنه خَبَره
أبو القاسم الصَّرَوي
أنشدوني له ببغداد :
ضَللْنا عن ندى الأستاذ عَجْزاً ... كما ضَلَّ الظِّباءُ عن الغِياض
فَنَمَّ عليه معسول الأماني ... كما نَمَّ النسيمُ على الرياض
وقد جِئناه أسرعَ من قلوبٍ ... أجابتْ داعي الحَدَق المِراض
فجُدْ ما دام تخدمُك الليالي ... وأمرك نافذٌ في الخَلْق ماض
وحدثني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : حدثني أبو محمد الحسن بن علي الجوهري ببغداد في رمضان سنة إحدى وخمسين وأربعمائة قال : أنشدني أبو القاسم الصِّروي بيتين كان أبو عبد الله عمرو بن يحيى ادّعاها لنفسه في مجلس المهلبي الوزير وأنكر أبو الفرج الأصبهاني ذلك وأخرجهما في أناشيد ثعلب وهما :
أقول لها إذ بِتُّ في أسْر قومها ... وجامعتي عن منكبيَّ تَضيقُ
لَما سرّني أنْ بِتِّ عني بعيدةً ... وأني من هذا الإسار طليقُ
فقلت له : أيهما أحسن أهما أم بيتان عملتهما في هذا المعنى وهما :
أقول لها والحيُّ قد نَذِروا بنا ... وما ليَ من كفِّ المَنون براحُ
لَمَا ساءني أنْ وشَّحَتْني سيوفهمْ ... وأني من دون الوِشاح وِشاح
فأمسك ساعة ولم يُجب ثم عمل في الحال ما أنشدنيه لنفسه :
أيا مرحباً بالأسر يا أمَّ مالكٍ ... وجامعتي والقيدُ فيه قَريني
إذا كنتِ في كسرِ الخِباء قَريبةً ... تَحُسّين مني زَفْرتي وأنيني
قال : وأنشدني أيضاً لنفسه مما عمل في الحال :
أقول وقد هزّ القَنا لِيَ قومُها ... وما ليَ من بين الأسِنّة مَذهب
ألا ليت نَحْري للأسنّة ملعبٌ ... وكفّي في نَحْر ابنة القوم تلعَبُ
الأعزّ أبو الفضل محمد بن إسماعيل
رأيته ببغداد مصروفاً من عمل البصرة وهو في ولاية فضله وكتبت إليه بهذه الزائية :
عَلَيَّ بها مُدَخَّنةً بنَدٍّ ... عليّ بها مُقَدَمةً بقَزِّ
إذا ما قهقهَ الإبريقُ عنها ... ليسكو الكأس منها أحسن الزي
تحيَّر ناظِري في عين ديك ... جَرتْ من مثل مِنقار الإوَزِّ
أدرْها يا أعزَّ الناس عِندي ... على تذْكار سَيِّدنا الأعزِّ
ولم يكد يسمح عليَّ بشيء من ثمرات خواطره غير أني قطفت من أفواه الرواة هذين البيتين له وهما :
إشربُ إذا كان الزمانُ مُساعداً ... وارفُض مَقالةَ لائمٍ أو عاتِبِ
كأساً إذا مُزجَتْ حَسبتَ حَبابَها ... حَلَقَ الدُّروع على عقيقٍ ذائِبِ
ابن بحر بن البغدادي
داهية الدهر وصمّاء الغير وإن عميتُ عليك أنباؤه فساْني عن الخبر ؛ شيخٌ نسر لقمان عنده فُرَيخ . وقد حُجب بصرُهُ وكُفَّ فإذا أُخرجتْ إليه الأيدي لم يكدْ يبصرُ الأكفَّ تقطُر من لسانه البذاءة وتتعجَّن بطينته الإساءة وتعمُّ منه في الناس المَساءة (1/56)
وعهدي به في نادي عميد الملك بمدينة السلام رحمه الله وسقاها صوب الغمام ومَحفله غاصٌّ بالخاص والعام شَرِقٌ بأمراء الإسلام . وقد اجتمعوا لصلة أوراق الجرثومة القائمة بأغصان الأرومة السلجوقية . وهذا الفاضل معتصٍ بيد قائده إلى تُكأة عميد الملك ووسائده . فلمّا انتصب بين يديه كالرمح بيد الشجاع مائلاً وكالحِرباء بحذاء الشمس مائلاً . قال له : أرى قدمك أراق دمك فأنت كالهَدْي بلغ المحلّ ولم يلبث أن يضمحلّ وليس يقيكَ اليوم سهام الملام ولو اتّقيتها بحَلق السلام إلاّ إنشادك قصيدتك المقفّاة باللام أو نقلك الرجل من المحطّ إلى الجذع المنصوب لك على الشطّ . فقال : أيّما لاميةٍ يعني مولانا قال : أعني القصيدة التي عِفتَ في إنشائها شُرب العافية ووضعتَ بإنشادها قفاكَ على القافية فمدحتَ الأعلام البيض بأهواسٍ أبَتْ إلاّ أن تُعشِّش في رأسك وتَبيض . فلما أخذته الصيحة بالحق ورُمي بهذا الجُلمود والمِدقّ استدار صَعِقاً على الأرض وبُدِّل طول قامته بالعرص وأخذ عميد الملك ينشد ما علق بحفظه من اللامية التي خاطب بها البَساسيري شامتاً بعرش الخلافة وقد تثلّم جانبه أشِراً بالشر الذي شالت مذانبه مستسخراً من رئيس الرؤساء وقد نصبَ على الشط عَلماً بعدما كان في كعبة الوزارة رُكناً مستلماً . وهذه هي اللامية :
أجَل لعَمْري صَدقَ القائلُ ... إنّك حقٌّ وهُمُ الباطلُ
قد جاءتِ الراياتُ مُبيضَّةً ... يَقدُمُهُنّ الأسدُ الباسل
وولَّتِ السوداء مَنكوسةً ... ليس لها من ذِلَّةٍ شائلُ
أنظرْ إلى الباغي على جِذعه ... والدمُ من أوداجه سائلُ
قلت : ولعَمري إن هذا الشيطان الرجيم استمطر برأسه نعال الأدَم من أكفّ الخدم غضّ الله فاه وأنبت شقائق النعمان على قَفاه . ثم أمر له عميد الملك فشيل من بين يديه وحُمل إلى داره الخاصّة يَكاد من الغرق في العرق يلفظ آخر الرمق . فلما أفاق قال : قد غامرتَ بوَشْلك البحر ذا التيار والحدَب . غير أنك قد أطلعتَ الرأس من جيب قميص الأدب . ولو كان شِعرك سخيفاً لحُقَّ لقلبك أن يَضمر وَجْداً وحَيفاً ولكنك أحْميتَ فشَويتَ ورميتَ فما أشويْت وقلتَ فأسمعت ورُدّ المسكين إلى أُفحوصه وكأنه هائم رُدّ إليه فؤاده لا بل هالك عُجِّلَ له مَعاده
ولم يحضرني الآن من شعره إلا هذه الأبيات :
خليليَّ ما أحلى صَبوحي بدَجلةٍ ... وأطيب منه بالصَّراة غَبوقي
شربتُ على الماءين من ماء كَرْمةٍ ... فكانا كدُرٍّ ذائبٍ وعَقيق
على قَمَري أُفقٍ وأرضٍ تَقابلا ... فمِنْ شائقٍ حُلْوِ الهوى ومَشوقِ
فما زلتُ أسقيه وأشرب ريقه ... وما زال يسقيني ويشرب ريقي
فقلت لبدر التِّمِّ : تعرف ذا الفتى ... فقال : نعمْ هذا أخي وشَقيقي
الشريف لُطْف الله الهاشمي
أنشدني الشيخ والدي رحمة الله عليه قال : ودر هذا الشريف علينا فجمّل ناحيتنا وأفادنا من أعلاق فضله وزّدنا من ثمار عقله . فكان مما أنشدنا لنفسه قوله :
قالت : سَلا وُدَّنا وحالَ ولمْ ... أسلُ فيُجري به ولم أَحُلِ
عندكِ قلبي فقلّبيه وإنْ ... وجدْتِ فيه سواكِ فانتقلي
أحمد بن عيسى الوَشّاء البغدادي
وردَ على الشيخ أبي الطيب الخَداشي بباخَرز مادحاً له مؤمِّلاً جَداه مستمطراً نداه وقال فيه قصيدة أولها :
صِلي حبل عذلي يا أُمامَ أوِ اقطعي ... فما خِلتُني عند المَلام بمُقلِعِ
أعاذلتي ليس الدواء : بنافعي ... إذا كان دائي ثاوياً بين أضلُعي
أقول وقد ولّى الشباب وعُمِّمَتْ ... مفارقُ رأسي من مَشيبي بمَقنع
لكِ الخيرُ هذا الشيبُ قد قام واعظاً ... وأوجر وعظاً كيفما شئتِ فاصنعي
صِلي خُلَّتي إن شئتِ أُصْفيكِ خِلَّةً ... وإلاّ فجُذِّي حَبلَ وصْلِكِ فاقطعي
سأصدف عن ذكرِ البطالة والصِّبا ... إلى الماجد القِرم الهُمامِ السَّميْذَعِ (1/57)
أبي الطيّب الندْب الجَوادِ الذي له ... من المجد بيتٌ قطُّ لن يتضعضع
علا فوق أفراد النجوم بمجده ... ونال سَماء المجد من كل موضِع
فمَنْ رامَ عند الفضل إدراكَ شأوه ... كمنْ رامَ حَملَ الراسياتِ بإصبع
أبو الفتح الحسن بن إبراهيم الصَّيمريُّ
وقع إلى خراسان فاستذرى بظلال الحضرة الجغرية وتمسّك بعصمة الخدمة العصمية وخُصَّ منها بموادِّ الأنعام الشامل العام والإكرام القريب المَرام . وكان على وَهَن عظمه واشتعال رأسه وتشنُّن جلده واستبداله ركوب المناكب في الأعواد من ركوب صَهَوات الجياد يعانق مهمّات دار الحَرَم العالية بجدٍّ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلاّ أحصاها وجهدٍ لا يُخلي دقيقة ولا جَليلة إلا استقصاءها . وقد مدحتُه بالرائية وهو بأنْدَرابه دار المُلك بمَرْو فما كان عطفه عنّي ثانياً ولا عِطفه منّي نائياً . وكنتُ عَنونْتُ القصيدة بعليٍّ الباخَرزي فوقع من تحته ببيتين من قيله وأضاف إلى سائر ما شرّفني به من ترحيبه وتأهيله . وهما :
كلامك معجزٌ وكذاكَ خِلوٌ ... منَ العَيبِ المُهجِّن للكلام
فَدَعْ باخَرْزَ حقاً عنك واكتُب ... نظامَ المُعجزِ الحَسَن النظام
وكان يخاطبني في كتبه الواردة عليّ بالمُعجز البديع . ومن عجيب الاتفاقات أن الشيخ عيسى بن علي بن محمد بن عيسى أخا شيخ الدولة ثقة الحضرتين علي البَرْكَزْدَري طلب من الورّاقين بمرو نسخة ألفاظ الحَمادي لابن له بمرو فجُلبت إليه وجُلِّيت عليه وفكّ الزرّ عن عُروة الأدم فاطّلع من ظهر الورقة الأولى على ما أقرعه سنَّ الندم ؛ وهو بيتان للشيخ أبي الفتح هذا قالهما فيه يصف قصوره عن شأوِ أخيه فيه وهما :
عليٌّ كاسمِهِ أبداً عليٌّ ... وعيسى خاملٌ نُخٌّ دَنِيُّ
هما ثَمَران من شجرٍ ولكنْ ... عليٌّ مُدْركٌ وأخوهُ نِيُّ
فودّ الشيخ عيسى عندهما أن الدنيا مجّتْه والعُقبى التقمتْه وصار سبباً للوحْشة بينهما وموجِباً لقرع صَفاة صفائهما ومؤدِّياً بقلْع أواخي إخائهما :
وما النفس إلاّ نُطفةٌ في قَرارةٍ ... إذا لم تُكدَّرْ صارَ صَفواً غَديرُها
وأنشدني لنفسه بمرو سنة خمس وأربعين وأربعمائة :
سنّي وسِرّي كلٌّ منهما بَطَلاً ... ودمعُ عيني على الخدّين قد هَملا
ولا أقول بأنّ الشَّيبَ يظلمني ... بعد الثمانين لا والله قد عَدَلا
الشريف أبو جعفر بن البيّاضي
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني قال : أنشدني الطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي قال : أنشدني هذا الشريف لنفسه في إنسان يلقّب أبوه ب " صُرّ بعرا " الكاتب وقد ملح فيه وظرف :
لئن نبزَ الناسُ قِدْماً أباكَ ... فسمّوه من شُحّه صُرَّ بَعْرا
فإنكَ تنثر ما صَرّه ... خِلافاً له وتُسمّيه شِعرا
أبو الحسن بن السُّكري
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني ابن السكري هذا لنفسه من قصيدة يصف فيها الأتراك :
وجَرَّ جيوشَ التُّرك من مُسْتَقَرِّها ... فقّل في جُيوش الأبلج المُتكبِّرِ
بكلّ غُلامٍ ملءُ دِرعيه نجدةٌ ... يسير إلى الأبطال غير مُعَذَّر
يُصرِّف في إحدى يديه حَنيّةً ... تَحنُّ حنين الواله المُتذكِّر
ويُرسلُ سَهماً يقصر اللحظُ دونه ... فيُودعُهُ والجُبنَ في كل مَنْحَر
ومنها في صفة القلم :
وأَرقشَ مشقوقِ اللسان لُعابه ... يُميتُ ويُحيي في حُروفٍ وأسطرا
كأن حروف السطر منه أسنّةٌ ... ترعرعُ في روضٍ من الحُسن مُزهِرِ
ويصمت إلا في بنانك إنه ... يكون خطيباً راكباً ظَهْرَ مِنْبَرِ
تَغلْغَلُ في أرض المشارق كًتْبُهُ فمِن ساجدٍ يَنتابها أو معفَّر
ويَنفذ في أقصى المغارب أمره ... على كل مأمورٍ بها ومؤمَّرِ
أبو علي محمد بن وِشاح الكاتب البغدادي
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني من قصيدة يصف فيها السيف : (1/58)
وذي رونقٍ ما الدرع منه بجُنّةٍ ... ولا الزرَدُ الضافي عليه كفيل
يسيل الفِرِند في حِفافَيْ غِراره ... كما مُهَجُ الشجعان فيه تَسيل
عليه أَسابيُّ الدماء وإنه ... على بُعد عهدٍ بالصِّقال صقيل
صموتٌ لشان الضرب ينطق دونه ... فيُغنيه عن تَقواله ويقول
قال : وأنشدني لنفسه من قصيدة أخرى أيضاً يصف فيها الرمح :
وأسمرَ هَزهازٍ كأن كُعوبَهُ ... عَواصي رضيخٍ من نوى العَسْب صلَّبِ
قويم أخي عشرين لا الطيشُ شأنه ... ولا قِصرٌ أزرى به في المُركَّب
كأنّ الهوى والوجْد حقاً سِنانه ... فما حَلّ إلا في فؤادٍ مُحجَّبِ
يُطيع مجالات الطِّعان تصرُّفاً ... بكفَّيَّ في اليوم الغماس العَصَبْصَبِ
كأني وقد أوردْتُهُ مُهجَ العِدا ... أُشير إليها بالبَنان المخضَّبِ
أبو سعد الحسن بن العُلا البغدادي المَوصِلاني
كاتب الديوان العزيز . عقدت بيني وبينه الأخوّة مناسبة الآداب وإنها لمن أوْكد الأسباب . فمما أنشدني لنفسه قوله :
خليليَّ إني كلما ذرَّ شارقٌ ... يزيدُ إلى أرض العراق حنيني
وإنْ قابَلتْني نفحةٌ بابليةٌ ... تَنمُّ بما تُخفي الضلوع شؤوني
ولستُ بمرتاحٍ إلى قرب من غَدا ... مكاني من نَجْواه غير مَكين
فمن مُخبرٌ أهل العراق بأنني ... أبيتُ ومكنونُ الهموم قَريني
حَظرتَ على جَنبيَّ طيبَ مَضاجعي ... فعزّتْ على مسِّ الغرار جُفوني
وإني مُذ شطّت بيَ الدار عنهُمُ ... أخو قَلَقٍ ما يَنْقضي وأنينِ
أناجي بناتِ الشوق حتى يقال لي : ... به خُلطةٌ من عارضٍ وجُنون
وما بِيَ إلاّ حُبُّ بغداد عارضٌ ... وحَسبيَ من داءٍ بذاكَ دَفينِ
أقول وأسباب الهوى تَستفِزُّني ... وقد شَرِقَت بالدمع ذاتُ مَعين
على ساكني الزًّوراء ما هبّتِ الصَّبا ... تحيَّةَ مَقْروح الفُؤاد حَزينِ
طوى كَشحَهُ طيَّ السجلِّ على الأسى ... وظلَّ يُعانيه بغير مُعين
قلت : نظم هذا الكاتب مسفّ ونثره مُحَلِّق . فليته اقتصر على إحدى الحالتين وعمل بما هو أحدقُ فيه من الآلتين . فإن لكلّ عملٍ رجالاً ولكل مقام مقالاً
القاضي النعماني
أنشدني له أبو الفضل يَحيى بن نصر السَّعديُّ البغدادي :
رُبَّ خَودٍ عرفتُ في عرفات ... سلبتْني بحُسنها حَسَناتي
حَرَّمتْ حين أحرمتْ نومَ عَيني ... واستباحت دمي لدى اللَّحظات
وأفاضتْ مع الحَجيج ففاضتْ ... منْ جُفوني سوابقُ العَبَرات
ورَمتْ بالجِمار جَمْرةَ قلبي ... أيُّ قلبٍ يبقى على الجَمَرات
لم أنلْ من مِنىً مُنى النفس حتى ... خِفتُ بالخَيف أنْ تكونَ وفاتي
عبد الله بن أبي طالب الفتى
أنشدني ابنه الأديب سليمان له قال : وإنما قاله على لسان الأمير حسام الدولة فارس بن عَيّار . وكان ينقشُ في فصِّ خاتَمه :
أعدَّ للبعثِ أبو طالبٍ ... حبَّ عليٍّ بن أبي طالبِ
وله :
بمحمدٍ وبحبِّ ألِ محمدٍ ... علقَتْ وسائلُ فارس بن محمد
يا آل أحمد يا مصابيح الدجى ... ومنارَ مِنهاج السبيل الأقصد
لكُمُ الحَصيمُ وزمزمٌ ولكمْ مِنىً ... وبكم إلى سُبُل الهِداية نهتدي
وعليكُمُ نزلَ الكتابُ مفصَّلاً ... من ذي المعارج بالمُنير المُرشِدِ
إنّي بِكُمْ مُتَوسِّلٌ وبحُبِّكُمْ ... مُتمسِّكٌ لا تنثني عنه يَدي
إن ابن عيّارٍ بكُمْ كَبَتَ العِدا ... وعَلا بحُبِّكمُ رقابَ الحُسَّدِ
ولئن تأخّر جِسمُهُ لضرورةٍ ... فالقلبُ منه مُخيِّمٌ بالمَشْهدِ (1/59)
يا زائراً أرض العراق مَسَدِّداً ... سَلِّمْ سلمتَ على الإمام السَّيِّد
بلِّغْ أمير المؤمنين تحيتي ... واذكُرْ لهُ حُبّي وصدْقَ تَوَدُّدي
وزُرِ الحسينَ بكربلاء وقل له : ... يا بْنَ الوَصِيَّ ويا سُلالة أحمد
ضاموك وانتهكوا حَريمك عنوةً ... ورَموك بالأمر الفظيع الأنكَد
ولو أنني شاهدتُ نصرَك أوّلاً ... روّيتُ منهُمْ ذابِلي ومُهنَّدي
منّي السلامُ عليكَ يا بنَ المُصطفى ... أبداً يروح مع الزمان ويغْتذي
وعلى أبيكَ وجدِّكَ المختارِ والثْ ... ثاوين منهمْ في بَقيعِ الغَرْقَدِ
وبأرض بغدادٍ على موسى وفي ... طوسٍ على ذاك الرَّضي المتفرِّد
وبِسُرَّ من را فالسلامُ على الهُدى ... وعلى التقى وعلى الندى والسؤدد
بالعسكريين اعتصامي من لظىً ... وبقائمٍ بالحقِّ يصْدعُ في غَد
يَجلو الظلامَ بنوره ويُعيدُها ... عَلَويةً فينا بأمرٍ موصَد
إني سُعدتُ بحبكمْ أبداً ومَن ... يُحبِبْكُمُ يا آل أحمدَ يَسعد
مستبصراً والله عونُ بَصيرتي ... ما ذاكَ إلا من طهارة مَوْلدي
وأنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني له :
ما شكَّ في فضلِ آل فاطمةٍ ... إلاّ امرؤٌ ما لأُمِّهِ
نَغْلٌ إذا الحُرُّ طابَ مَولدُه ... وكيفَ يَهوى ذَوي الهُدى نَغْلُ
خَدّي لأقدام آل فاطمةٍ ... إذا تَخَطُّوا على الثرى نَعْلُ
ابنه الأديب
أبو عبد الله سلمان بن عبد الله النَّهرواني
عاشرتُهُ بنيسابور سنة ثلاث وستين وثلاثمائة فوجدتُه لطيف العِشرة رقيق القِشرة . وفتّشتُ عما يتحلّى به من علم الأعراب فمدّ فيه أطناب الأطناب حتى كاد يكون مكانُهُ على المبرّد والزَّجّاج مكان الأسنّة من الزِّجاج . وهو مع هذا أشعرُ أبناء جنسه
فممّا أنشدني لنفسه قوله في قصيدة نظامية :
قد كان إسماعيل قُدِّسَ روحُهُ ... أعني ابن عَبّاد وزيرَ المَشْرق
يَرعى لأهل العِلم حَقَّ رجائهم ... فمضى وخَلّد فيه ذِكراً قد بقي
فاليومَ أنت غَدوْتَ أعلى رُتبةً ... منه وأسبقَ في العِتاق السُّبَّقِ
الله قد أعطاك ما لم يُعطه ... مُلِّيتَهُ ولحقْتَ ما لم يلحَقِ
فأقِمْ لأهل الفضل سوقاً نافِقاً ... حتى يَصبر كأنه لم يُخلَق
وأنشدني أيضاً لنفسه من قصيدة نظامية :
يا ظبيةً حلَّتْ بباب الطاقِ ... بَيني وبينك أوكدُ الميثاقِ
فَوَحَقِّ أيام الحِمى ووصالنا ... قَسماً بها وبنعمةِ الخَلاقِ
ما مرَّ من يومٍ ولا منْ ليلةٍ ... إلاّ إليكَ تجدَّدتْ أشواقي
سَقياً لأيامٍ جنى لي طيبُها ... وردَ الخدود ونَرجسَ الأحداق
وإذا أضرّت بي عقاربُ صدغها ... كانتْ مراشفُ ريقها تِرياقي
أبو الفضل يَحيى بن نصر السعدي البغدادي
رأيته بزوزن سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة شاباً سارياً في الآفاق سُرى الطيف لإيلافه رحلة الشتاء والصيف قصد زعيم زوزن أبا القاسم عبد الحميد بن يَحيى في جملة المنتَجعين وانتقَعَ بنَفَحات جُودِهِ في غمار المنتفِعين . وعهدي به وهو يهذُّ من أشعار العرب أكثر من عشرين ألف بيت ويسردُها وراء ظهره من غير أن يَزيغَ في طريقه أو يشرَقَ بريقه . ومدح الأجلّ نظام الملك حرس الله دولته وهو مخيمٌ على باب آمد بقصيدة أولها :
تَقوى الإله ذخيرةٌ للمُوئِلِ ... والبِرُّ خيرُ مطيّةِ المُتَحمِّلِ
ولقد خلعتُ خَلاعتي ورفضْتُها ... وعِقالُ لَهْوي مطلَقٌ لم يُعقلِ
وهَجرتُ خِلاّنَ الصَّبابة والصِّبا ... وهوى مغازَلة الغزال الأكْحَلِ
ومنها :
والشَّيبُ قد شبّتْ لوامِعُ برقه ... شُعَلاً لها حُرقُ الحريق المُشعَل (1/60)
أأجامل الأهواء في طلب المُنى ... ولطالما جانبْتُ ما لم يجملِ
ومنها :
ولربَّ مَهْلكةٍ طويتُ فِجاجَها ... وحَللتُ منها مَنزلاً لم يُحْلل
ما افتضَّ بِكرَ أكامها ووهادها ... خَبَبُ الجياد ولا وَجيفُ البُزَّل
تحكي عِظام العيس فوق يَفاعها ... شُهُبَ النسورِ المُشرفاتِ المُثَّل
يَهْماء ليسَ لركْبٍ مُؤنسٌ ... غير النواعبِ والرِّئال الجُفَّل
كلّفتُ نفسي قطعها وركبتُها ... عَجِلاً ولم أفْرقْ ولم أتململِ
يرجو أوامي رِيَّ أعذبَ مَوردٍ ... ويَشيمً برق حَيا السحاب المخضل
المحسِنُ الحسَنَ الذي إحسانُهُ ... ونوالُهُ أقصى مُنى المُتَنوِّلِ
أصْلٌ رسا في المَكرُماتِ وفرعُهُ ... متفرِّعٌ فوق السِّماك الأعزل
إسحاقُ يأتي مجده بفَعاله ... وعليٌّ العالي الذُّرا وأبو علي
قومٌ هُمُ أعيانُ أعيانِ العْلا ... قَولاً بغير تَزيُّدٍ وتَعَوُّلِ
كم فيهمُ إنْ طاوَلوا أو ساجَلوا ... يومَ التَّفاخُر من مُعِمٍّ مُخْوِلِ
الواهبُ المنحَ الجِسام تبرُّعاً ... إن سيلَ بذْلَ المالِ أو لم يُسألِ
ملكٌ إذا التَوَت الأمور بدا له ... رأيٌ يُبيِّن كل أمرٍ مُشكِلِ
تشتاق سيرتَهُ البلاد بأسرها ... شوقَ الظِّماء إلى الزُّلال السَّلْسَلِ
تلقى الوفودَ ببابه يومَ الندى ... من صادرٍ أو واردٍ مُستعجِلِ
مِثلَ الحَجيج إذا تزاحَمَ وَفْدُهُم ... بالبيت أو رِجلُ الجَراد المُجفِلِ
ضافي الظلال لمن يلوذ بظلّه ... رَحْبُ الذُّرا للوفْد عَذْبُ المنْهَل
وجهٌ إذا سيلَ النوالَ رأيتَهُ ... متهلَّلاً كالعارض المَتَهلِّلِ
قد طبَّقَ الآفاق عدْلُكَ كلّها ... وكفى الرعيّةَ جَورَ مَن لم يَعدل
ونشرتَ منشورَ الأمانِ لأهلها ... من نازلٍ ثاوٍ ومن مُتَرحِّلِ
بمؤَلِّلاتٍ كالألال إذا جَرَتْ ... لم تَنْبُ عن قهر القضاء المُنْزَلِ
رُقْشٌ لها كُتُبٌ تُخالُ كتائباً ... في كل مُعضِلةٍ وأمرٍ مُهْوِل
تُغني عن البيض الحداد لدى الوَغى ... وأسنّة الأسَلِ الظِّماءِ الذُّبَّل
ومنها :
قد آن الإعسارِ إنْ أدْنَيتني ... ورَفعتَ من قَدْري أو أن تَزَيُّلِ
ووسائلي عند الكرام مدائحي ... والمدحُ خيرُ وسيلةِ المُتوسِّلِ
وأنشدني أيضاً لنفسه :
لو كنتُ ذا مالٍ وذا ثروةٍ ... والشيبُ ما آن ولا قيلَ كادْ
لَجاملتْ جُملٌ بميعادها ... وساعدَتْ بالوَصل منها سُعادْ
أبو طالب أحمد بن محمد الأدميُّ
البغدادي النَّحْويُّ
أقرأني الأديب يعقوب بن أحمد النيسابوري أيّده الله جُزءاً بخطّه مشتملاً على قصائد ومقطِّعات من أشعاره فاخترتُ منها اللائق بكتابي هذا . قال يمدح الأمير أبا طاهرٍ محمد بن الحسن الأردستاني مؤمِّلاً نداه ومستمطراً جَداه ويهنئه بخلاصه من الغُزِّ الترك ويستبطئه وعداً ماطَله فيه :
ضَوِّ الزُّجاجةَ إن ضوءُ الصباحِ أبى ... لا تكذِبنّ فليس العيشُ ما ذهبا
أما ترى كيف جاء الدهر معتتباً ... واليومُ مبتسماً والجوُّ منتقباً
كأنما سَحَرَ الإدلاجُ مُقلتَهُ ... أو جاذَبتْهُ حواشي الليل فانتحَبا
فامزُج بجودكَ إملاقي فإنّ له ... جمراً إذا لمستْهُ راحتاكَ خَبا
كم صاح جودُكَ بي واليأس مُعترضاً ... ولانَ عطفكَ لي والسيفُ مُخْتِضبا
ونالَني منكَ معروفٌ على عدَمٍ ... لولا احتفاؤكَ بي ما جاز لي طَنَبا (1/61)
ولو رُهنتُ وما أحويه من نَشَبٍ ... على غدائكَ يوماً لم تَنَم سَغِبا
وما نأمْتُ بشِعري أستميحُ به ... إلاّ ليعلَمَ فضْلي شرّ ما اكتسبا
ولا مدحتُ الأُلى دوني لحُبِّهِمِ ... إذا ابتغى البازُ صيداً جاءه كَثبا
رفعتُ قوماً بشِعري وانخفضتُ به ... كالغَيم شَمّ الثَّرى يستصعد العُشُبا
لا مرحباً بالأماني إنْ رفعتُ لها ... رأسي وقائمُ سيفي من يَديَّ كَبا
فما يُهابُكَ صدرٌ لستَ مالئه ... ولا يُطيعُكَ قلبٌ لم يَطِرُ رُعُبا
أيَطمعُ الدهرُ في عطفي وقد سفرتْ ... عنّي الثلاثونَ واعتضْتُ الزمان أبا
مهلاً فإنّكَ ما أوليتَ من حَسَنٍ ... باقٍ عليك وخيرُ المالِ ما رَتَبا
لا تأمننَّ صروفَ الدهر إنْ رَقَدتْ ... وسورةَ المُلكِ إنْ شيطانُها رَكبا
إذا رأيتَ أكفَّ الأُسْدِ داميةً ... منَ الفَريس فلا تستبعدِ السغَبا
ومَهْمهٍ سرتُ فيه والبِساطُ دمٌ ... والجوُّ نقْعٌ وهاماتُ الرجالِ رُبا
وللمنايا ضجيجٌ في مَخارقِهِ ... ما صُمَّ عنهُ العوالي أسمعَ القُضُبا
لا ألبسُ العِزّ إلا وهْوَ مستلَبٌ ... ولا أزيغُ قِرىً إلاّ إذا اغتصبا
حتى هتكْتُ رِواقُ المُلكِ عن شَرِسٍ ... يُرضي السيوفَ من الجاني إذا غَضبا
إيهاً أبا طاهرٍ هذا مقامُ ندىً ... لا خيرَ في الجود ما لم يسبق الطلبا
أنهِبْ أكُفَّ المُنى ما كان من ذّهَبٍ ... لا ينهَبُ الحمد من لم يُنهبِ الذَّهبا
أنائمٌ أنتَ عن شِعري وقد ملآنْ ... به الرواةُ صُدورَ الناس والكُتُبا
ما زِلتَ تبسطُ آمالي وتُؤنِسُها ... حتى ظننتكَ منها أو بها وصِبا
ثم انحرفتَ كأنا لم نكُنْ أبداً ... على صفاءٍ كذا الدنيا ولا عَجَبا
إذا بخِلتَ فمنْ نرجو لمكرُمةٍ ... وإنْ غضبتَ فمن نُرضي إذا عَتبا
ليَهنِكَ الظَّفرُ الميمونُ طائرُه ... يا أنصفَ الناسِ سلطاناً إذا غَلبا
لما سمعتَ دُعاءً لم يكن مَلَقاً ... ورَنَّةٍ من زئيرٍ ينفُضُ القَصبا
أعملتَ رأيكَ في أمرينِ أيُّهما ... فيه السَّدادُ وكان الأحزمُ الهَرَبا
أبدى لكَ الله عمّا في نُفوسِهِمُ ... حتى كأنّ على أسرارهمُ رُقْبا
هَزّزكَ غِرّاً ولو هزّوك مُنْصَلِتاً ... تحتَ العَجاجة يوماً أكثروا العَطَبا
إذاً لصَدَّهُمُ عن وِرْدِهِمْ أَسَدٌ ... شاكُ البراثن إن طال المَدى وثبا
يا أكثرَ الناس معروفاً وأخيرَهم ... فِعلاً وأكرمَهُمُ أصلاً إذا نُسبا
أطِلْ إليّ يداً لو كنتَ باسطَها ... حَسبُ الذي تقتضيه طالتِ الشُّهُبا
وله أيضاً :
تأمَّلْ حُمولَ الحَيِّ تسترقُ البَدْرا ... كأنّ عليهم أنْ نفارقَهُمْ نَذْرا
سَرَوا بهلالٍ من هلال بن عامر ... يحلُّ سوادَ القلب من بُرجه خِدرا
وكيفَ ألذُّ العيشَ أو أُطعَم الكَرى ... بأرضٍ أرى اليومَ القصيرَ بها شَهرا
وخُلِّفْتُ مغلوبَ العزاء كأنني ... وراءهُمُ من سرعةٍ أطأُ الجَمرا
فإلا أكُنْ للوصْل أهلاً فسائلٌ ... أتى يطلب المعروف فاغتنموا الأجرا
إذا ما دعتْ فوقَ الأراك حمائمٌ ... بأصواتها جَهراً دعَوتُكُمُ سِرّاً
وله أيضاً :
وشادنٍ من بني الأتراك مرّ بنا ... خوفَ الرقيبِ وطَرْفي عنه مصروف
يُغضي حَياءً إذا قبّلتُ راحته ... كأنما طَرفُهُ بالشوك مطروفُ
كأنَ أصداغَهُ والريحُ تضربها ... عقاربٌ بعضها بالبعض ملفوفُ
وله أيضاً : (1/62)
يا قاتلي بصدودهِ ... رِفقاً فقدْ شَمتَ الحَسودْ
بالأمس جئتُ مسِّلماً ... فلقيتُ دونكَ ما يؤودْ
إن أنتَ عُدتَ لمثلها ... بالله أحلفُ لا أعودْ
لو قلت : إن هذا سحرٌ وليس بشعرٍ لما تخطّيت الحق ولا تعدّيتُ الصدق
أبو طالب حمزة بن غاضِرة
الأسدي البغدادي
ترامت به الأسفار إلى بوشَنجَ فاستوطن بها . وبُنيت فيها مدرسة برسمه وانثالت التلامذة عليه كعُرف الضبُع . واستقرّ فيها استقرارَ الظُّفرِ في بُرثُنِ السبع وحسُنتْ آثاره على المختلفة إليه المقتبسة مما لديه . وله شعر الأدباء والنُّحاة وليس مع ذلك من صخر البلادة بالنحّات . وأنشدني لنفسه ببوشنجَ سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة :
أضعتَ الشبابَ وخُنتَ المشيبَ ... برفض الوَقار وخلعِ الرَّسَنْ
ولم تُرعَ سَمعاً إلى واعظٍ ... فحتى متى ذا أما آن أنْ
ورأيتُ في بعض التعاليق منسوبةً إليه :
يا شَيبةَ الرَّشَأِ الأح ... ور ألحاظاً وجَيدا
هل لعيشٍ فاتَ ردٌّ ... فلقد ولّى حميدا
إنّما يعرف طَعْمَ ال ... وصْل من ذاقَ الصُّدودا
وله أيضاً :
إنْ كنتُ في حُبِّكم كاذباً ... فقد عرفتُم ذاك من أمري
فما لقلبي أبداً ضارباً ... وما لدمعي أبداً يَجزي
ما بُحتُ بالحُبِّ ولكنّني ... وما بجَفْنيكَ منَ السِّحر
أخافُ من قولكُمُ قد سلا ... فأُطلِعُ الناسَ على سِرّي
وله أيضاً :
قد كتمتُ الحبَّ حتى ... لم أجدْ قلباً مُطيعا
والهوى أرفَقُ بالصَّب ... بِ إذا كان مُذيعا
فاغفروا زلَّةَ صَبٍّ ... جعلَ الدمعَ شَفيعا
وله :
أصبحتُ في الحبّ كما قد ترى ... مُعذّباً ما بينَ عُذّالي
أُعِدُّ ما شِئتُ ليوم اللِّقا ... مِلآنَ من قيلٍ ومن قالِ
حتى إذا أبصرتُهُ مقبلاً ... لم يَخطُرِ العَتبُ على بالي
وله :
يا ليلُ هل لمُتيَّمٍ ... عرفَ الإساءة من مَتاب
لا يستطيع لِما جَنا ... هُ عليكمُ ردَّ الجوابِ
أطعمتَه حتى إذا ... وَلجَ الهوى من كلّ باب
أعرضْتَ عنه ملامةً ... وقطعْتَ أسباب العِتابِ
ومنها :
فارقْتُ مضمضةَ الركى ... ثَمِلاً على زَلقِ الهضاب
في فتيةٍ بيض المفا ... رق والخلائق والقِباب
نفسٌ يكادُ لحُبّها ال ... إقدام يَخرجْ من إهابي
كالسيف أذلقَ حَدّه ... من غُمده سأمُ القِرابِ
ولما لقي يومه وافق ذلك وفاة الإمام أبي الحسن علي بن طالوت البلخي وكانا معاً فَردَي دهرهما وأوحدي عصرهما فرثاهما شرف السادة أبو الحسن البلخي رحمة الله عليه ورضوانه بقصيدة فريدة نظمتها في سلكٍ ولزَّتهُما في قَرَنٍ واشتملتْ على كلّ معني بديع ولفظٍ حسن وهي :
لا يسلم العُصم في حَلقاءَ راسيةٍ ... طَودٍ ولا الحُقُبُ في يَهماءَ سُبروت
ولا يَقي الحوتَ في آذيِّ ملتطمٍ ... دغاع دُفّاعه عن مُهجة الحوت
من المنون إذا نابتهما حَنقاً ... حتى يُتبّعَ مكبوتاً بمكبوتِ
فذا صريع نصالٍ قد رُصدن له ... وذا أسيرُ حِبالٍ بَثّها النوتي
وهل سمعتَ بشعبٍ غير منصدِعٍ ... على الزمان وحبلٍ غير مَبتوتِ
نكا ابنُ غاضرةٍ إذ شدّ أرحُلَهُ ... قَرحاً بقلبي من شَدّ ابنِ طالوتِ
ما أنصفَ الدهر إذْ أغرى بواحده ... فجيعتين ؛ بمُغتالٍ ومَبغوتِ
نجمان في أفُق الآداب قد أفَلا ... والدهرُ يُرجِعُ يوماً كلّ ما يُوتي
كانا إذا نطقا في مَشكلٍ فَتَقا ... وأوضحا كلّ منطوقٍ ومسكوتِ
كانا إذا نَظَما عِقداً بلفظهما ... أزرى العُقود بمرجانٍ وياقوتِ (1/63)
كانا إذا ما أفادا أبدعا غُررا ... ولم يُلمّا بمنحولٍ ومنحوتِ
فالغمضُ بعدهما نِسْيٌ ومطَّرحٌ ... والصبرُ يعثر في أذيال مَبْهوت
وأصبحَ العيش ممقوتاً ولستُ أرى ... بعد الأحبّة عيشاً غير ممقوت
يحركُ الدهر منا ساكناً أبداً ... ويوقظ الموتُ منا طرف مسْبوتِ
نُصابُ منه بداءٍ لا دواءَ له ... في طِبِّ أهرِنَ أو في سِحر هاروت
أبو منصور أحمد بن محمد المَوصلي
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني هذا الفاضل لنفسه بالمَوْصل من قصيدة يصف فيها الفرس :
أَطوي الفَلاةَ إذا طويتُ بجَسرةٍ ... وإذا ثويتُ حللتُ في مَثواكِ
وبمُلجَمٍ بفِناء بيتكَ مسرجٍ ... تَدْمي درادرُهُ من التَّعلاكِ
ينفضّ كالنجم انبرى للرجْمِ أو ... كالسهم طاحَ بملعب الأتراك
من نسل أعوجَ والوجيه ولاحقٍ ... قيدِ الأوابد سابقٍ مَعّاكِ
شَنِجُ النَّسا وعْلٌ كأنّ سَراتَهُ ... زحْلوفُ لعبٍ أو سَراةَ مَداكِ
أبو سعد محمد بن حمزة المَوصلي
لفظته الغربة إلى خُراسان فأقام ببلادها ورمتْ به المَوصل وهو من أفلاذ أكبادها . وهو صديقي الصدوق منذ سنين . وقد وجدتُهُ في أنواع العلوم من المحسنين ولم أر من ذوي الفنون مثلهُ على أن الدهر قد بخس حظّه وظلَمَ فضله . وقد أهدى إليّ من نتائج خاطره هذه القصيدة النظامية فألحقتُ منها بهذا الكتاب ما كان من شرطه وذلك قوله فيها :
وهل تركتْ فيَّ الحوادثُ مُنّةً ... بها أستميلُ الخلَّ أو أستزيدُهُ
وأيسرُ خطْبٍ عاقَ عزمي عن الصِّبا ... مَشيبٌ تداعتْ في العِذار وفودُهُ
إذا لم يكنْ عقلُ الفتى وازعاً له ... فكلّ يدٍ من كل خَوْدٍ تَقودُهُ
إذا عدمَ المرءُ الكَمالَ فإنه ... سواءٌ علينا فقدُه ووجوده
إذا المرءُ لم يستأنفِ المجدَ نفسُهُ ... فلا خيرَ فيما أورثتْهُ جُدودُه
إذا رنّق العذبُ الفراتُ فإنه ... عزيزٌ على نفسِ الكريم ورودُه
بنفسي من الفتيان كل مُصمِّمٍ ... إذا صافح المكروه هان شديده
قليلٌ إلى داعي الصِّبا لَفَتانُهُ ... كثيرٌ من المرعى الوَخيمِ صُدوده
فلا تطبيه الغادةُ السهلةُ الحَشا ... ولا صدرُها الموفي عليه نُهودُهُ
ومنها :
مُجدِّدُ ما يُفنّي الردى ومُعيده ... ومُتلِفُ ما يُرضي العِدا ومُبيده
يُعفّي ويُعفي سُخطه وابتسامُهُ ... ويُحيى ويُردي وعدُه ووَعيده
أبرّتْ على وكْفِ الغمائم كفُّهُ ... وأرْبى علة جَودِ السحائب جوده
تسير المعال حيث تَسري ركابُهُ ... وتدجو الليالي حيث تَدجو جنودُهُ
وهَبَّ على أكناف كَرْمانَ هَبّةً ... فأسمعَ أهل الخافقين وئيدُهُ
الوئيد : الصوت . قال : المثقّب :
وجاءوا ففيها كوكبَ الشمس فحمةً ... تقمّصَ بالأرض الفضاء وئيدُها
وألَقَمَ شِدقَيْها الرَّغيبين فيلَقاً ... تحوز على هوجِ الرياح بنوده
فلمّا تجلّتْ رايةُ الحقِّ أيقنوا ... بأنْ ليس يُغني ذا الدِّلاص سَروده
وولَّوا على أعقابهم فمحيَّنٌ ... قتيلٌ وفَلٌّ في البلاد طَريدُهُ
وسَرحٍ من الآمال نامتْ رُعاتُهُ ... وصُبَّت عليه سيدُه وأُسوده
تطرّقْتَهُ بالرأي حتى أرحتَهُ ... فقد آب راعيه وثابَ شَريدُهُ
الحسين بن إبراهيم طَوقٍ المَوصليّ
قال يمدح الصاحب نظام المُلك لما نزل شاطئ الفُرات متَوجّهاً إلى الشام :
تَزايدي شَوقي وأخلقَني الحُبُّ ... وغابَ الكَرى مُذ غاب ناظري الحبُّ
ومن قاده شوقٌ إلى من يُحبُّه ... فليس له قلبٌ يقرُّ ولا لُبُّ
أروحُ على هَمٍّ وأغدو على هوىً ... أجوب الفلا والحُبُ أهونُهُ صَعْبُ (1/64)
أفكّر في حالي وفي الدهر لا أرى ... سِوى ملكٍ يَعنو له الشرقُ والغَرب
القسم الرابع
في شعراء الريّ والجبال وأصفهان وفارس وكَرْمانَ
الوزير الصَّفيُّ
أبو العلاء محمد بن عليّ بن حَسْول
من عِلّية الكُتاب والداخلين على أنواع الفضل من كل باب . فاللفظ أريٌ مَشورٌ والخطُّ وشْيٌّ منشورٌ . ولم يزل منذ حُلّت تمائمه بين البُلغاء منظوراً وكالأغرّ المحَجَّل بين الدُّهم المصمَتة مشهوراً . واتّفق لي أني لقيتُه بالرَّيِّ في داره بدرْب راذْمُهران فصغَّر الخَبر الخُبْرُ وانثالت عليّ من محاضراته الأزهار والزُّهر . وأنشدته قصيدتي فيه وهي :
يا حاديَ العير رِفقاً بالقوارير ... وقِفْ فليسَ بعارٍ وَقفةُ العير
واحلِب مآقي عَينٍ قَصَرتْ ... حُمرَ الدموع على البيض المَقاصير
فأعجب بها وتعجَّب منها وقال : لولا وَهْنُ رُكبتي لرقصتُ على نسيبه . فهذا كلام كله طيبٌ وليس للداء الرُّكبتين طبيب . ثم انتقلتْ بنا الأحوال إلى أن كدّرت منافسة الصنعة ماء الوّد فنضَوْنا أرديته كما يَنضو الفتى شَملَ البُرد . ومما دار بيني وبينه أنه أنشأ رسالةً في فضل الحَرّ على البَرد وناقضتْه برسالةٍ على الضِّدِّ فقال لي : لا يفضِّل البرد إلا بارد فقلت : ولا السِّخنة إلا سخينُ عينٍ . فبقي كالمبهوت ملجماً بالسكوت وأنا مع هذا لايَنْتُهُ على خشونته وواردَته على كُدورته ومُثن على معاليه بلسان الإنصاف غير طاعن فيه بسنان الانتصاف . فمهما أنشدني لنفسه في دار الكتب بالريّ في شوّال سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة قوله يهجو بعض المتكبّرين عليه :
دخلتُ على الشيخ فيمَن دخلْ ... فغربل عُصعُصَهُ وانتخَلْ
وأظهرَ من نَخوةِ الكبريا ... ء ما لَم أقدِّر وما لم أخَلْ
فقلتُ له مُؤْثراً نُصحَهُ ... وقد يُقبَل النُّصحُ ممّنْ بَخل :
إذا كنتَ سيِّدنا سُدْتَنا ... وإنْ كنتَ للخال فاذهبْ فخلْ
فقال : اغتفِرْ زلَّتي مُنْعِماً ... فإنّيَ نَغْلٌ بزيتٍ وخَل
وكم من وزيرٍ كبيرٍ عَرا ... ه عند قضاء الحقوق البَخَل
أخَلَّ بحقِّ دُهاة الرجال ... فما زال يصفع حتى أخلّْ
وأنشدني لنفسه من قصيدة داعب بها ابن الجَبّان ؛ أديبَ العراق وكان مُختضباً :
سِنّي كسِنّ أديبِ ال ... عراق زينِ الظِّراف
مجتث
ستٌّ وستونَ عاماً ... ما بيننا من خِلافِ
ومنها في الشكاية :
لكنَّ شيبيَ بادٍ ... وشيبُهُ في غِلافِ
وأسلمَتْني وذنبُ ال ... مَشيب فيه افتراقي
من الظباء العَواطي ... إلى الضِّباع القَوافي
وأنشدني لنفسه أيضاً :
يا فتى ضَبَّةَ الذي ... هو بَدرُ الدُّجُنًّةِ
بأبي وجهُكَ الذي ... فيه ناري وجَنَّتي
والثُّغورُ التي تُضي ... ء الدُّجى حين جَنّتِ
واللحاظُ التي جَنَتْ ... نظراً أو تَجنَّتِ
رشَقتْني سهامُهُنْ ... نَ فلمْ تُغْنِ جُنّتي
فيكَ أخشى على الحَبا ... لى سُقوطَ الأجِنّة
حقّ للنفسِ أنّها ... بكَ يا بَدرُ جُنّتِ
عُذْتُ بالله مُخلِصاً ... ربِّ ناسٍ وجِنَّة
أبو علي حَمْدُ بن محمد
بن فُورَّجةَ البُروجِرْديُّ
هو في الصنعة من الفحول والتنبيه على فضله طَرَفٌ من الفضول وشِعره فرخُ شِعر الأعمى أعني شاعر نَعَرّةِ النُّعمان . وإن كان هذا الفاضل مُنزِّهاً عن معرّة العُميان
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني قال : أنشدني ابن فورَّجَة لنفسه :
دَعْني أمرَّ لطيَّتي ... لا تعقلَنَّ مطيَّتي
هذا الذي في عارضيْ ... يَ فُضولُ مِسكِ ضَفيرتي
أتُميتُني وَجداً وأن ... تَ سَميُّ مُحْيي الميِّتِ
تَقبيلُ ثغركَ مُنْيتي ... ولو أن فيه مَنِيَّتي
سَهلٌ عليّ مَنالُهُ ... لكنْ بَلائي عِفّتي (1/65)
وتَعجُّبي لألِيَّتي ... بهواكَ وهْوَ بليَّتي
وأنشدني لنفسه بالريّ سنة أربعين وأربعمائة :
جعلتكَ منكَ يا سَكني مَلاذاً ... وجئتُك عائذاً إذ لا مَعاذا
وهَبْكَ قَتَلْتَني فيقالُ : عَبدٌ ... حنى المولى عليه فكان ماذا
وأنشدني له :
منعتْ طيفها الزيارةَ ر َيّاً ... واختلافُ الرياح إهداءُ ريّا
ولو أنّ الأحبابَ أنجُمُ ليلٍ ... لم بجُوْ أن تكون فيه الثُّريّا
ومن أبكار معانيه قوله :
ما شانَني حبسٌ وما ضَرّني ... ما جرَّ من حادث إقْتاري
جَرَّبني الدهرُ بأحداثه ... تجربةَ الياقوتِ بالنار
وأنشدني له أيضاً رحمه الله تعالى :
صنعَ العذارُ بخدِّه عَجَباً ... بَثَّ الدخانَ وأضرمَ اللَّهَبا
بدأ الكتابة ثمّ أدركه ... ضَعفُ اليقين بها فما كتبا
وكأنّما شَقَّ الشقيقُ على ... ذاك العذار قميصه طَرَبا
أدّى مثال الصدغ عارضُهُ ... كحكاية المرآة ما قَرُبا
أبو المحاسن إسماعيل بن حيدرٍ العَلَوي
كان خبر هذا الفتى يَتضرامى إليّ وأسمعُ أنه قد نبغَ وانّ قميص فضله قد سبَغَ وهو في ريعان صباه سبق القاضي حيدراً أباه . فكنتُ أقترح على الأيام أن تكحلَني بطلعته فأقفَ على صِبغته كما وقفتُ على صنعته . حتى اتّفق حُصولي بالريّ في ديوان الرسائل بها . فكنتُ أنتظر أنه إذا سمع بي قصدي إما مفيداً أو مستفيداً . فلما تراخى عني وتنفّستُ على استبطائي إياه مدّة مديدةً قلت في نفسي : لعلّ له عذراً وأنت تلوم . وتعرّفتُ خبره . فزعموا أنه صاحب غُراس منذ أسبوع يكاد تنفجر عليه عين الفضل بينبوع . فكتبت إليه أعوده :
عجَّل الله برءَ إسماعيلاً ... وجَلاه الشفاء عضباً ثقيلا
لا يرو عنّهُ الذُّبول فقِدماً ... قد حَمِدْنا من القَناة الذّبولا
ونسيمُ الرياض لا يكتسي الصحْ ... حةَ إلا بأنْ يَهبَّ عَليلا
وحمل إليه أبوه القاضي حيدر هذه الأبيات وهو لِما به مستعدٌّ لمآبه فكتب إليّ ببِنانٍ يرتعش وقلمٍ لا يكاد ينتعشُ بيتين تمثّل بهما وهما :
رَمَتني وستر اللهِ بيني وبينها ... ونحن بأكناف الحجاز رَميمُ
فلو أنها لمّا رمتنْي رَميتُها ... ولكنّ عَهدي بالنضال قديمُ
وانطفأ بعد ذلك بساعة وفي قلبي منه حَسرةٌ أتجرَّعها ولا أكاد أسيغُها . وفي العين عَبرةٌ أحلبها من الشؤون ثم أُسيلها . فمما أنشدني له أبوه قوله :
طِبْ يا نسيمَ الريح نَشْراً ... وانشُرْ خَبايا الأرض نَشْرا
فعسى تُعيدُ حشاشَةَ ال ... مهجور من ريّاكَ نشرا
سَقياً لمعهدك الذي ... عَهدي به يهتزُّ بِشرا
يا حبّذا ماءُ العُذَيْ ... بِ إذا سقى الأنضاء عَرا
ولجلَّ خَطْباً أنْ تُنا ... زعَنا الوحوشُ إليه حَشرا
وقوله في صفة السيف :
ليعلَمِ العُرْب والعُجَيمُ معاً ... أنّا على الحادثات فِتيانُ
من معشرٍ ما أظلَّ هامَهُمُ ... في المجد إلا ظُبىً وتيجانُ
أولئك السادةُ الأُلى شَرفتْ ... مغارسٌ منهُمُ وأغصانُ
يا ليتَ شِعري متى يُجلِّلُ من هامة ... قِرني أغرُّ عُريان
يُضيء ما أظلمَ البهيمُ كما ... يضحكُ والدمعُ منه هَتّان
كم قلت إذ شامهُ الكفاح لنا : ... إنّكَ يا مشرفيُّ فَتّان
ألا فيُبدي فُتورُ جفنكَ لي ... أنّك بين القِراب يَقظانُ
ومنها :
سَقياً لأيامنا التي سَلَفتْ ... والدهرُ مُغْضي الجُفونِ وَسْنان
حتى إذا قرّتِ العُيونُ بكمْ ... علمتُ أنّ الزمانَ غيرانُ
فلَجَّ حتى تقاذفَت بكُمُ ... على مطايا الفراق غِيظان
فما صَرمتمْ تَصارمت لكُمُ ... منّا بوصل السُّهاد أجفان
وقوله أيضاً : (1/66)
أَفي الصِّبا أشتاق وصْلَ الصِّبا ... كلاّ ولكنَّ مَعاليَّ شيبُ
أو أنّ ما حُمِّلتْهُ هِمّتي ... حُمِّلَ سَلمى لعراها المشيبُ
أبو الفوائد
رأيت دَرْجاً مكتوباً بخطّه وكأنه الديباجُ الخُسرُواني يكفُّ له الوشيُ فُضول الذلاذل ويغُضّ لديه الجفن نور الخمائل . أما شعره ففي القلة دون القُلّة . غير أني أثبته لحسن مَعرضه وبَدْرقَته في خُفارة نَسْجه فهو :
عندَ ابن يحيى أبتغي العَدْوى ... وإليه مني البثُّ والشَّكوى
من عُطلةٍ دامتْ لديَّ فقد ... أنْحَتْ عليَّ ولم تَدَعْ بُقيا
فهوَ المؤمَّل إن سَطا زَمنُ ... والمُستجارُ به منَ البَلْوى
خِرقٌ له كرمٌ يعود على ال ... أحرار بالإحسان والجَدوى
ما مَلَّ الجُودَ فهْوَ إذا ... أوْلى أتتْ آلاؤهُ تَتْرى
يا سيّداً بالجود مُنفرداً ... لا تَنْسَي قد تنفعُ الذكرى
لَكَ رسمُ إحسانٍ تَمُنُّ به ... فامنُنْ على عاداتك الحُسنى
ما الخيرُ غلاّ ما تَجودُ به ... يا مَن غضدتْ يدُكَ اليَدَ العُليا
عِلماً بأنّ الحمد حِلْيتُهُ ... تبقى بجدَّتها ولا تَبْلى
فاسعدْ لشهرٍ أنتَ لابِسُهُ ... بسعادة الأولى مع الأُخرى
محمد بن الحسن بن مَرزوق الأصبهاني
رأيتُ له رائية دالةً على اغترافه من بحر غزير واتِّشاحه بفضل كثير وهي :
لا تُعطِ عينكَ إلاّ غفوةَ الحَذِرِ ... وصِلْ بعَزمكَ حَدَّ الصارِمِ الَّكرِ
ولا تكنْ في طِلابِ العزِّ مُعْتمداً ... إلاّ على مَركبٍ صَعبٍ من الخَطَرِ
فما ينالُ العُلا إلا امرؤٌ قُرنتْ ... آراؤه بركوب الخَوف والغَرَرِ
والندبُ من لم يبِتْ إلاّ وهِمَّتُهُ ... في المجد يُسلمُ عينيه إلى السَّهر
ومنها :
أقسمتُ بالراقصاتِ الهُوجِ يَعسفُها ... ركبُ الحجيج عُقيبَ الأيْنِ والضَّمَرِ
من كلّ مَهْريَّةٍ تَهْوي براكبها كالقَوس ... أُلجِمَ منها السَّهمُ بالوترِ
عوامدُ البيتِ ذي الرُّكنِ المَنوطِ به ... وقْعُ الشِّفاهُ بأعلى صفحةِ الحَجَر
لأنتَ أوفى بني الدُّنيا بأسرهِمِ ... عَهداً وأصفاهُمُ وِرداً منَ الكدَرِ
طاهر بن محمد أحمد بن مرزوق الأصفهاني
يقول من قصيدة :
فقُم وارْمِ أغراضَ الأماني بهمّةٍ ... تُنيرُ بصُبح النُّجْحِ ليلَ المطالب
فلو كانَ عزُّ في القُعود لما سَرَتْ ... مع الفَلَك الدَّوّار زَهْرُ الكواكب
دعا عن تَعاطي الرحِ راحي فراحَتي ... طِلابُ المَعالي وامتطاءُ المصاعبِ
أسوَّيْتُما ما بينَ لينٍ وشدّةٍ ... وضَربُ المثاني غير ضرب القَواضب
أبو القاسم بن أبي العَلاء الأصفهاني
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني القاضي أبو بكر عمرو بن أحمد الشِّيرازيُّ خازنُ دار العلم بأصفهان :
إذا اجتمعتُ بأهل الفضل مَيَّزتي ... سَرْوي وإن كان سقفُ البيت يجمعنا
فلا يرو عَنْكَ أثوابُ لهُمْ وكسىً ... ولا يهولنْكَ ألقابٌ لهمْ وكُنى
لا تحسبِ الصَّدرَ حيث الدَّسْتُ مُطَّرحٌ ... إذا حضرتُ فإنّ الصدرَ حيثُ أنا
وله أيضاً :
المسكُ من عَرفِهِ والراحُ من فمه ... والوردُ من خدّه والدِّعْصُ من أُزُرِهْ
تعجّبتْ بابل من سِحرِ مُقلته ... والرومُ من وجهه والزَّنْجُ من شعَرِهْ
ابنُ البديع الأصفهانيّ
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني ابن البديع الأصفهاني لنفسه :
نسيمَ الصَّبا كيف السبيلُ إلى نَجدِ ... وكيف هُمُ بَعدي تُرى وجَدوا وجْدي
تُرى حَفظوا العَهدَ الذي كان بيننا ... فإنّي إلى يومِ المَعادِ على العَهْد (1/67)
سلامٌ عليكم لا سَلامُ مُودِّعٍ ... ولكنْ سلامٌ لا يَزول على البُعدِ
قال : وأنشدني أيضاً لنفسه :
بأصفهان سَقاها الله لي سَكَنٌ ... لولا الضرورةُ ما فارقتُهُ نَفَسا
وَيلي فقلبي عراقيٌّ يرقُّ لهُ ... وقلبُهُ جَبليٌّ قد جَفا وقَسا
لا برَّدَ الله أحشائي بزَورتِهِ ... إنْ كان سُلونُهُ في خاطري هَجَسا
قال : وأنشدني لنفسه في عميد المُلك :
غريبٌ على شَطِّ الفُراتِ مُناخُهُ ... وفي بَلدٍ نائي المُراد فِراخُهُ
متى لمع البرقُ اعتلى صُعَداؤهُ ... تَرى لمعَهْ من نارِ قلبي انتِساخُهُ
أقامَ بعالي الباب خمسة أشهرٍ ... وسادُسها قد حان منه انسلاخُهُ
بقيتَ لهذا الشاهِ فَرزانَ دولةً ... تخِرُّ لديه ساجدين رخاخه
أبو المطهر الأصفهاني
أنشدني الشيخ أبو الحسن علي بن أحمد الزاوي قال : أنشدني أبو المطهِّر لنفسه من قصيدة في الشيخ الإمام الموفّق :
شُكراً لدهرٍ ما أجّلَّ صَنيعَه ... لمّا حَباني فضله المستغزَرا !
أدنى محلّي من وحيدِ زمانه ... وبنى بعزِّ جِواره لي مَفْخرا
وأعادني بعد الهُبوط مُجرِّراً ... ذيلي على هام النجوم تَجبُّرا
وأجارني مما اتّقيتُ فخِلتُني ... صاحبتُ في قَصَب العرين غَضنفرا
يا أيّها المَولى الأجلّ ومن به ... أصبحتُ آمنَ مَن تحصَّنَ في الذُّرا
بذِمار من قَسَم المكارمَ والعْلا ... وحَباك منهنّ النصيبَ الأوفرا
إنّي وليٌّ ما أبدّل دائماً ... مني مَغيباً في هَواكَ ومَحضرا
قلبي مقيمٌ في هواك مُحَرِّجٌ ... أنْ أرتجي يوماً سِواكَ وأنظرا
أنْبَتَّني ورَعَيْتَني وسَمَوتَ بي ... غُصناً بأبكار البَيان مُنوَّرا
يَبهى عليكَ بَهاءَ صارمِكَ الذي ... يَجلو بروْنقِهِ العَجاجَ الكْدرا
فاستغنِ بي عمّن يُنلك وُدَّهُ ... عِلماً بأنّ الصيدَ في جَوفِ الفَرا
قلبي كما قلّبْتَهُ لكَ مُخلضٌ ... ولسانُ شُكري في الثناء كما ترى
وله من قصيدة أخرى :
المُلكُ أصبح صادعاً بضيائه ... وأنيقِ رَونقه القديم ومائه
مُذ قامَ مولانا بنظْمِ شؤونه ... وبحمْلِ ما قد جَلَّ من أعبائه
مَنْ لم يطأُ دسْتَ الوزارة رافلاً ... حتى تعالى عن مدى أكْفائه
مَن عمَّ بالإحسان أصنافَ الورى ... مُستنطقاً لهُمُ بحُسنِ ثَنائه
حتى استعاروا الزَّهرَ من صَوب الندى ... في مدحه والبُردَ من صَنعائه
مُتناهبين المِسكَ في أوصافه ... مُتخيِّرين الدُّرَّ في إطرائه
منهُمْ شَكورٌ في المحافل معلنٌ ... بثنائه ومُخافتٌ بدُعائه
الأستاذ الرئيس أبو نصر
محمد بن عمر بن محمد الأصبهاني وهو أمين الملوك أبو نصر بن أبي حفص . شابٌّ طري الآداب غضُّ الشباب عالي الشِّعر غالي السِّعر . وردَ في خدمة الرِّكاب العالي النظامي بنيسابور فكان وروده كورود الورد بعد انحسار ورود البرد ونشر علينا من حُللِ فضله ما لا يُبليها الجديدان وبسطَ من عبقري يده ما ليس لكاتبٍ بمثله يَدان . فمهما أنشدنيه لنفسه قوله من أبيات خطب بها المجلس العالي النظامي :
يا نظام المُلك يا ذا طَلعةٍ ... من جَبين الشمس أبهى مُشرقَه
الموالي كُلُّهم في نِعمةٍ ... ما تَني منك عليهِمْ مغدِقه
لا تَذَرْ عبدَكَ من جُملتِهم ... خارجاً كالخمسة المُستَرقَة
وأنشدني لنفسه أيضاً من خمريّة قالها والكأس وردٌ والمَشموم وردٌ :
باكرتُ والنجْمُ هوى هابطاً ... والصبحُ في وجه الدجى ارْفضَّا
مُدامةً أسلبُها عيشَها ... واكتسي عَيشاً بها غَضّا (1/68)
قلت : بئس ما جازاها وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان وليس هذا إلا كجزاء ذي الرُّمّة ناقَتَه التي بلّغَتْه " عَرابة " على ما بها من جَولان النِّسع وقلق الوَضين فدعا لها أن تشرق بدمِ الوَتين وهلاّ عرّى ظهرها وشَغلها بالرَّعْي دهرها
عادَ الشعر :
تركضُ في الهام وأُمسي بها ... أركض في خَضْل الصِّبا رَكْضا
ولي من الوَردِ ندامى غَدَوا ... مُقابلاً بعضُهم بعضا
من راقدِ العينِ ومن ساهرٍ ... مُذْ فتح المُقلةَ ما غضّا
كأنهم بالبين نودوا فهُم ... من خوفه في صور المَرْضى
وأيقنوا قلّةَ أعمارهم ... فاستكرموا تضييعها غَمْضا
تَجاوروا إذ علموا أنه ... عمّا قليلٍ نحبُهم يُقضى
فهُمْ توافَوا في التصافي فلا ... مَلالَ في البين ولا بُغْضا
فملتوٍ بالغمِّ أو فاغرٍ ... يطلبُ ذا لَثْما وذا عَضّا
وله يعاتب بعض أصدقائه :
طويتُ رِداءَ وُدّي لا كطيٍّ ... يُراد به البقاءُ على النَّقاء
وما ظَبِّي بأعدائي إذا ما ... يكون كذاك حالُ الأصدقاء
وأنشدني لنفسه أيضاً :
شَرِّق وغَرِّبْ واغتربْ تلقَ الذي ... تهوى وتُعزِزْ أيَّ وجهٍ تشخصُ
وأرى المهانةَ في اللزوم مُخِلَّةً ... إنّ المتاعَ بأرضه يُسترخَصُ
وأنشدني لنفسه في مملوك له :
بُليتُ بمملوكٍ إذا ما بعثتُهُ ... لأمرٍ رجلُهُ مِشيةَ النماِ
بَليدٍ كأنّ اللهَ خالقنا عنى ... به المثلَ المضروبَ في سورة النحلِ
إشارةً إلى قوله تعالى : " أينما يوجّهه لا يأتِ بخيرٍ " . وله يصفُ أوحال نيسابور :
كيفَ المسيرُ بنيسابور في الطُّرقِ ... وبينها أبحرٌ تَطْمو من اللثَقِ
يا حبّذا البحر ينجو فيه صاحبه ... بالعَومِ أو بركوب الفُلْك من غَرقِ
ترشُّ منه على أثوابنا لُمَعٌ ... حتى يعود جديد الثوب كالخَلقِ
كأنما رطْبُها فيها ويابسُها ... ما اسودّ وابيضَّ فوق الجلد من بَهَقِ
وله من قصيدة أولها ومنها :
أهلاً بزائد لَوْمةِ اللُّوّامِ ... سَمعاً لنصحٍ يُكتنى بمَلامِ
يا أيها الرشأُ الوسيمُ إذا بدا ... خَلْقاً وما أخلاقُهُ بوِسام
ما أنتَ بالشمس التي إنْ أمسكتْ ... عمّتْ بلادَ الله بالإظلامِ
هَبْ أنك الماءُ الذي أحْيا به ... أوَ ليس تكسُدُ سُوقُه بمُدام
ومنها :
بَينا تظنُّ الليلَ ما اكتستِ الدجى ... حتى نعاه صباحُهُ بظَلامِ
ودنا الثُّريّا للمغيب كأنّها ... بَدَدُ اللآلئ نُضِّدتْ لنظام
في إثرها الجوزاء مُعالجٍ ... قد هَمَّ عندَ الضرب بالإقدام
أو سالكٍ عند التصبُّر كفَّهُ ... في الكُمِّ أو عندَ ادِّراع اللام
وكأنها قرطاس رامٍ يَهدفُ ... وكأنما الجوزاء ذاك الرامي
والصُّبحُ قد صدعَ الظلامَ كرايةٍ ... بيضاءَ في سودٍ من الأعلام
أو رأيُ مولانا الوزير إذا احتبى ... يَمحو ظلامَ الشكِّ في الأحكام
ودَّ الهلالُ لو أنه لجوادِهِ ... نعلٌ وحافرُهُ أوانَ تَمام
بالله لو أصفى هواه مُشرِك ... لأُقيمَ عند الله خير مُقام
وأنشدني لنفسه أيضاً :
إنّ الصَّبابةَ والزمانَ تَقاسما ... أنْ يَقْسمانيَ بيم كل مَكارِهِ
فكأنّهُ من حَرِّها وأُوارِها ... وكأنها من ليله ونَهاره
ومنها :
دمعٌ يمجُّ دم الفؤاد كأنه ... يجري بما أجراه من تذكاره
لو لم يكن ينبوعُهُ من قلبه ... لم يصطحب ما فيه من أسراره
ومما أنشدنيه لنفسه قوله :
ما دمتُ أهواها وتهجرني ... قل : كيف يُنظَمُ بيننا الشَّملُ (1/69)
هل كان يُفتلُ مُبرماً سببٌ ... في جانبيه تخالف الفَتْلُ
وقوله :
الناسُ أعداءٌ إذا جرَّبتُهم ... لمقلِّهِم وأضادقُ المتموِّل
كالربح قد تُطفي السِّراجَ لضعفه ... وتُزيدُ في ضوء الحريق المُشعَلِ
وقوله :
مهما أُدِلتَ على عدوِّك فاحبُهُ ... مّنّاً إذا ما شيمَ منه وفاء
فإنِ اعتدى فكَفاه عارٌ خالدٌ ... وكفاك أجرٌ حاصلٌ وثَناءُ
ما إذا عاقبتَه فلينقلبْ ... وبه استقلَّتْ آلةٌ حدباء
لا تتركَنَّ النارَ إنْ أطفأتها ... فحماً ففيها أنْ تعود رجاء
وقوله يستشفع بعض المحتشمين في أمر :
لما رأيتُكَ بالمكارم مولَعاً ... وجميل قولكَ بالفَعال مُشَفَّعا
وعرفتُ منكَ شمائلاً تسْبي بها ال ... أهواءَ مرأىً إنْ أردتَ ومَسْمعا
ترعى ذِمامَ مؤمِّليكَ تَطوُّعاً ... وسِواكَ يَرعى إنْ رعاهُ تصنُّعا
ورأيتَني آبى صنيعةَ ماجِدٍ ... ما لم أجِدْهُ لاصطناعي مَوضعا
إنّ الظِّباءَ المستحيلَ نجيعُها ... مِسكاً أبَينَ بكلّ أرضٍ مَرتَعا
جَشّمتَ مجدكَ نهضةً لشفاعةٍ ... أيقنتُ فيها أن تَعودَ مُشفَّعا
وإذا أطعتَ كريمَ هَمِّكَ ناهضاً ... فيها فتُدركُني بفَضلكَ مسرعا
ألفيتَني بالشكر أملأ من وفى ... وأجدَّ من أثنى وأخلصَ من دعا
قلت : ولهذا الفاضل نثرٌ فوق النثر كما أن له نظماً فوقَ النظم . وكلا الخَطّين منه مليح كما أن كلا اللسانين منه فَصيح
محمد بن أحمد بن الحَسن
الفضّاض الأصفهاني
أديب مولانا نظام الملك أنشدني من قصيده له فيه :
تنام في عدلِهِ الخَلْق أعيُنُهم ... وعينُهُ في حِفاظ الخَلق لم تَنَم
لولا إفاضَتُهُ في الناس أفتضه ... أضحى جميعُهُمُ لحماً على وضَمِ
يا حائزاً في مضامير العُلا قصباً ... تضاءلتْ عنهُ في تقريظه كَلِمي
لم ألقَ غيرَكَ بعدَ الله لي وَزَراً ... يُلقي الجِران لديه باركاً نعَمي
وله أيضاً من قصيدة أخرى :
قَنِصتَ العِدا إذْ ساهموا الموتَ في الوَغى ... لسَهم لإشراك المَنون مشتركِ
وصاروا لرَيعان المَنايا وسيفِهِ ... يُساقون شَتّى كالهِجان الأوراك
أبو طاهر مطيار الأصفهاني
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني قال : وهو بعد في قيد الحياة :
وقائلةٍ بما تحوي ترفَّقْ ... فإنّ الدهرَ ذو غيرٍ عَضوصُ
فقلت لها : ملامَكِ عن جَوادٍ ... يَداهُ الريحُ والمالُ البعوض
الكِيا الأجلّ أبو الفتح الأصفهاني
كتب إلى الشيخ أبي عامر الجرجاني هذين البيتين :
أبا عامرٍ إنّ الرَّتائم إنما ... تُذكِّر بالأمر العَبام المُغمَّرا
ولكنَّ من عَيناه درجُ فؤاده ... فليس بمحتاجٍ إلى أنْ يُذكَّرا
قال الشيخ أبو عامر الجرجاني : هذا الشعر ليس له ولكنه يتمثّل به وإنما هو لأبي الحسين بن فارس
دَيْسَمُ بنُ شاذّكَوِيه الكُرديُّ
أنشدني أبو الحسن علي بن أحمد الكَرَجي الأديب وهو يومئذ يؤدب الشيخ الرئيس أبا المقدَّم الموفَّق بن أحمد بن هبة الله الحُسين . قال : أنشدني هذا الكردي لنفسه :
أنبني أنيسي وكفّي وِسادي ... وعَيني كحيلٌ بشوكِ القَتاد
إذا قيل : دَيسمُ ما تشتكي ... أقول بشجوٍ : فؤادي فُؤادي
الأستاذ أبو عبد الله البنداري الدَّيلميُّ
قرأته من خطِّ حافِدِهِ وُشْتاسْف :
إني امرؤٌ كسْرويٌّ حين تَنْميني ... وفي الذوائبِ منهمْ والعَرانينِ
مجتث
أخوالي التركُ لا أبغي بهمْ بَدَلاً ... وليسَ رأيُ الرِّضى منّي بمغْبون
والدينُ مني إن حاولتَ معرفةً ... دينُ التِّهاميِّ ما أعلاه من دين !
أبو الفتح بن مدبِّر الأصفهاني (1/70)
قرأتُ بخطّ الأستاذ الأديب يعقوب بن أحمد النيسابوري رحمه الله أبياتاً له ذَبَّ بها عن الأستاذ أبي القاسم بن الجُريشِ الضَّبِّيِّ فيما نعاه عليه الشيخ أبو نصر بن مشكان عن مساوئ رسالته التي أنشأها عن الحضرة المسعودية إلى حضرة الخلافة النبوية وهي :
لا حطَّكَ ابنَ الجُريش عن شرفٍ ... جَرحُ غبيٍّ وقَدحُ مُغتابِ
لأنكَ الشمسُ لا يدنِّسُها ... تَمويهُ غاوٍ ونقصُ عَيّابِ
تُعَدُّ في جُملة الأفاضل كالص ... صاحب وابن العميد والصابي
أيا مُناويه في فَضائله ... رِفقاً فإنّ الهِزْبرَ ذو نابِ
جانَبكَ الرشدُ في مناقصةٍ ... جُرِّعتَ منها مرارةَ الصاب
وللأستاذ يعقوب بن أحمد في معناه :
ظننتُك يا بنَ مِشكانٍ بليغاً ... تقومُ بكلِّ مُشكلةٍ عَويصة
فلِم خَيّبتَ ظني فيكَ لمّا ... أردتَ نقيضَةَ فأتَتْ نَقيصة
وللشيخ أبي الفتح المظفّر بن الحسن الدامِغاني في معناه :
يقال : ابنُ مِشكانَ وابنُ الجُريش ... وقد يُشْبهُ الشَّبهُ العَسْجدا
يقاسُ ابن بَجْدةِ كلّ العلوم ... بمن أخذ اليوم في أبجدا
أحمد بن محمد المِهزُخَواستي الدَّيلميّ
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني قال : أنشدني لنفسه :
كم قائلٍ لمّا رآني راكباً ... والطَّرفُ يمرحُ في العِنان المُزْبِدِ
لم يركَبِ الخيل العتاق ولا انتضى ال ... بيض الرِّقاقَ كأحمد بن محمد
الكِيا الأصفَهْدوسْتْ الدَّيلمي
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني قال : أنشدني أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التِّبريزي قال : أنشدني الكِيا أصفَهْدوسْتْ لنفسه :
يا طالبَ التزويج إنك بالذي ... تَبغيه منهُ جاهلٌ مَغرورُ
هل أبصرتْ عيناكَ صاحبَ زوجةٍ ... إلاّ حزيناً ما لديه سُرور
لا تَبغِ في الدنيا نكاحاً لازماً ... وافعلْ بها ما يفعلُ الزّناورُ
إذْ ما تراه حين يُدرك فرصةً ... يدنو ويلسع لسعةً ويطير
أبو الفرج المعروف بفَرّوجة
عامل قٌم . كتب إلى بعض أصدقائه يستزيره :
دجاجةٌ مُكْرْدَنَه ... وقهوةٌ بنتُ سَنَهْ
إنْ نَشِط الشيخ لها ... جَدّد عِندي مِنَنَه
وأحسن ما سمعت في وصف الدجاج المُكَرْدَن قول الشيخ العميد والدي رحمه الله :
ونكتفي غُدوةً بقَتلي ... مصلوبةً عُذِّبتْ بنار
الأستاذ أبو غالب الراوَسْتانيُّ
الحسن بن موسى القُمّي
معين ديوان الاستيفاء كاتبٌ حاسبٌ من ثقات السلطان وكُفاة الديوان :
يُملى الحسابُ عليه وهْو يضبطُهُ ... من التَّفاريق يَحْصيهنّ والجُمَل
عَقْداً كما جسَّ نبضَ العُودِ لامِسُهُ ... ولاعبَ النارَ كفُّ القابس العجِلِ
وإنما استفدت مجالسته ومؤانسته من مجلس السيد العالم شرف السادة رحمة الله ورضوانه عليه وكلّ خيرٍ عندنا من عنده . فمما مرّ بي من شعره من غير أن أهداه إليّ أو أقرّ به عليّ قوله من ألفيةٍ مألوفة خَدم بها الصاحب نظام الملك بناعورة وهي من نواحي حلب :
حَنانيكَ ما هذا الجَفاء جَزائي ... ولا كَدَرُ الإعراض حقُّ صَفائي
منحتُكَ من قلبي خُلاصة حبه ... فما بالُها شِيبت بمَذْقِ جفائي
تُواعدني وَصْلاً ولستَ تَفي به ... ولا خيرَ قي وعدٍ بغير وفاء
وتبخلُ حتى بالسلام وربّما ... تُوافقني في حضرة الرُّقَباء
مخافةَ أنْ يلحوكَ في ويُنْكروا ... فيزدادَ ممّا يُنكرون شَقائي
فيا راحةَ الأرواح علِّلْ أخا الهوى ... بنقْدِ وِصالٍ أو بوعْد لقاء
فإنّ قليلَ الوصْلِ يكثرُ عنده ... ويُقنعه حتى وَداع تَناء
وإنْ كانَ أعياك الوِصال حقيقةً ... فمُرْ طيفَكَ الساري يَطِرْ بفنائي (1/71)
يَقَرُّ بعَيني أن يدومَ ليَ الهوى ... وإنْ كانَ فيه لَوعتي وعَنائي
فإن شئتَ فانفعْني وإن شئتَ ضُرَّني ... فلستُ بسالٍ عنكَ طولَ بَقائي
ولو شُقَّ قلبي من حماطته التي ... تضَمَّنُ أسراري وتُضمِرُ دائي
لَما كانَ في سودائها غيرُ خُلّتي ... لكُمْ ولمَوْلانا الوزير ثَنائي
فتَشبيب أشعاري نَسيبي فيكُمُ ... ومَخْلَصُها مَدحي له ووَلائي
عفُوٌّ عن الجانين من بعد قُدرةٍ ... كذلك دأبُ السادة الكُرَماء
ومحتملٌ إلاّ تطاوُلَ ظالمٍ ... وضي قُدرةٍ يبغي على الضعفاء
ففي مثلها تَنحلُّ عقدةُ حِلمه ... كأنْ لم يكُنْ يوماً من الحُلَماء
ولم يرضَ حتى شارفَ الشامَ ناسخاً ... بجود يديه سُنّةَ البُخلاء
أقام على شطِّ الفرات كأنّما ... يباري طَوافَيْ مائه بعطاء
تسيلُ على أيدي العُفاة قَليبُهُ ... بمالٍ إذا سالَ الفراتُ بماء
قِوامُ الندى والبأس لا الدين وحدَهُ ... وسيّدُ أهل الأرض لا الوزراء
كسوتَ الوَرى طُرّاً صنائعَ جمّةً ... وذيّلتَهمْ في نِعمةٍ وثراء
وخَصَّصْتَني من بينهم بمزيّةٍ ... تُوطِّنُني يا فوخَ كلّ عَلاء
سأشكُرُ ما أوليتَني بمدائحٍ ... تَضوعُ كنشْر الرَّوض غِبَّ سماء
إذا خانَني نظمي نثرتُ قلائدي ... وإن خانَني نثري أشعثُ دُعائي
فلا تحسبَنْ من حولَ ناديك أنّهم ... عبيدُ صفاء بل عبيدُ رِياء
ولا تُؤثِرَنْهُمْ باصطناعٍ فإنهمُ ... ذِئابٌ ضوارٍ في مسالخِ شاء
وهاتيكَ أيام الربيع تبرّجتْ ... بزينتها من أطلسٍ وبَهاء
فللأقْحوانِ الغضِّ نورٌ كأنها ... عقودُ لآل في نُحور نِساء
تَبصُّ وراءَ الأبطحَين كأنّما ... ظُهور رَوابيها بُطونُ مَراء
فأدركْ شبابَ النَّورِ قبل مَشيبهِ ... بما تقتضيه هِمّةُ النُّدماء
وله أيضاً :
صُدودُ الكرى إلا الخيالَ يسيرُ ... ولكنّهُ خطبٌ عليّ عسيرُ
أغضُّ له عينيَّ من غير نَعسةٍ ... عساه حوالَيْ مُقلتيَّ يَطورُ
وكيف يزور الطَّيفُ والنومُ شاردٌ ... وفي الصدر من حَرّ الغَرامِ سَعير
أساهر أيقاظَ النجوم كأنني ... رقيبٌ أُراعيهنَّ كيف تَغور
وأُضحي كما أُمسي وبين جوانحي ... وملءُ فؤادي لوعةٌ وزَفيرُ
ودونهما نارٌ كأنّ أزيزها ... مَراجلُ بالماء الحَميم تَفورُ
فيا راحةَ الأرواح حالي هذه ... وقد حال من دون الوِصال أُمورُ
فتمنعُني عند البعاد مسافةٌ ... ويردعني عند الدنُوِّ غَيورُ
تَقِ الله في باقي ذِمائي وأحيِني ... بموعدِ صدقٍ ليسَ فيه غُرور
فإني راضٍ بالمواعيد قانعٌ ... حَمولٌ لأعباء النِّزاع صَبور
أعيشُ بآمالي ولله دونها ... عليّ إذا ما نِلتهنَّ نُذور
وله أيضاً من نظامية أخرى :
بأيمنِ إقبالٍ وأهنأِ أسعدٍ ... تجدّدَ عيدُ الفطر خيرَ تجدُّدِ
يخصِّص بالعزِّ الذي ليس يَنتهي ... سُرداقَ مولانا الوزير المؤيَّدِ
ويُخبرُ أن الله جلَّ ثناؤه ... تقبَّلَ منه صَومَ والٍ موحِّد
وأحيا لياليه بطول صلاته ... وإنْ كان في خطبٍ من الشُّغل مُؤَيد
ومنها :
وقد سبقَ الأمرُ الشريفُ بموعدٍ ... فحالتْ عوادي الدهر من دون مَوْعدي (1/72)
فوشِّحْ لِما أمّلتُه ظهرَ مِدحتي ... بتوقيعكَ العالي وها هي في يدي
وكم حاسدٍ لمّا رآني أعارني ... صُدوداً فلم أحفل ولم أتبلّد
ولم يَنْهَني أنْ غضَّ عني طرفُه ... كأني قدىً في عينه بعد إثْمِدِ
ابن أخيه أبو الفضل بن أبي منصور القُمَّيُّ
وهو مجد الملك . ريحانة الظراف ولهزِةِ الشباب فيه أثر النسيم في القُضُب اللطاف . وله شعرٌ حسن كوجهه وفضلٌ يضعف الوصف عن بُلوغ كُنْهه . وليس يحضُرُني من شعره إلاّ ما مدح به الصاحبَ نظام الملك حرس الله مُهجته على باب قِنَّسرين رجبَ سنة ثلاث وستين وأربعمائة :
ماذا على طَيفِ الكَرى لو عادا ... دَنَفاً تناهى سُقمُه وتمادى
فنهايةُ المأمول منه لِمامةٌ ... لو كان في إلمامه مُنْقادا
أبداً أضُمُّ جفونَ عَيني عَلَّهْ ... يأْوي إلى إنسانه معتادا
فيقرَّ قلبٌ ليس يهدأ ساعةً ... وينامَ طرفٌ لا يذوقُ رُقادا
هيهاتَ ليس يزور طيفٌ مُقلةً ... ألِفتْ سُكوبَ مدامعٍ وسُهادا
يا راحةَ الأرواح أنصِفْ مرةً ... فلقد بلغتَ بظُلمك الآمادا
أوَ ما ترى فصلَ الربيع وقد غدا ... أشهى الأوان إلى القُلوي مُرادا
والأرضُ من خِلَعِ الغَمام تدرّعتْ ... حُللاً تعمُّ تَهائماً ونِجادا
وتلفّعتْ صُلْعُ الأباطح والرُّبا ... من مونِقِ العُشب الأثيث بِجادا
فتظنُّ أنفاسَ الشمال مريضةً ... والطيرَ حول وسادها عُوّادا
ومنهل في صفة القلم :
وشَباةِ ممشوق القَوام مُهَفْهَفٍ ... فلَّتْ مذرَّبة الشِّفار حِدادا
إنْ سلَّهْ من غِمدِ مَقلمةٍ غَدا ... صِلاَّ يمجُّ من اللَّهاة مِدادا
أَرْيٌ لمن أبدى خُلوصَ ولائه ... ونَقيعَ سُمٍّ للمُريد عِنادا
وإذا مشى بين الثلاث لكِتْبةٍ ... أبصرْتَ منه فضائلاً آحادا
خَطٌّ يروقُ رواؤه فكأنما ... نَشرتْ أنامله بها أبرادا
أبو طاهر زيد بن عبد الوهّاب الأصفهاني
أنشدني الأديب يعقوب بن أحمد النيسابوري له :
فلو مُتُّم بني عَمْرٍو ... فما قومٌ يُوازيكُمْ
أرى أكفانكم تَبلى ... وما تبلى مَخازيكم
وأنشدني أيضاً له :
إنّ الزمان لمظلمٌ ما ليلُهُ ... ليلاً يُضيءُ الصبح فيها مسفِرا
قالوا : خفيتَ فقلت : حاشا بل أنا ... شمسٌ وإنّ الشمس ليلاً لا تُرى
وأنشدني له أيضاً :
أتيتُكَ بالقريض ولم أوفّقْ ... كصادٍ ظلَّ يستسقي الجَهاما
حَلبْتُ فكنتَ ضَرعاً بكيّاً ... هززت فكنتَ لي سيفاً كَهاما
وقد نقلت هذه الأبيات من خطّ يده وقالها في الشيخ الإمام الموفّق :
دَعي العذْلَ لا أبغي سوى العزِّ منزلا ... وحُلّي عِقالَ العيس تمرحُ في الفَلا
تجرُّ على البَيداء والفجرُ صادقٌ ... مُروطَ الأماني حين خبَّ وأرقَلا
إذا ما حدتْ بالركب في كل نَفْنَفٍ ... رأيتُ نَعاماً بالفَلا متجفِّلا
ومناه يصف فرساً :
وتَنقشُ أخفافُ المَطايا إذا خَدَتْ ... بحافر طِرْفٍ ظُنَّ في الركض أجدلا
أغرَّ تلوحُ الشمسُ فوق جبينه ... ترى بين لِبْدَيْه ربيعاً وجَنْدلا
أي مَتْنُه مبتلٌّ كالربيع وقوائمه صُلبةٌ كالحجر :
يمزِّقُ جلباب الظلام بكوكب ... يخال ذُبالاً بين عينيه مُشعلا
طِمِرٍّ أبي أن يرْتَعي العشب في الطوى ... ولم يُغْلِ للأضياف في الحَيّ مرْجلا
حليفُ السُّرى لم يألف الدهرَ مربِطاً ... ولم يُلقِ فوقَ الأرض سَرجاً ومِسْحلا
تعوّدَ ردَّ الطَّعنِ حتى كأنّه ... يُديرُ على قدْر الأسنّة مُنْصُلا (1/73)
هزبرُ إذا ما الروع أجَّجَ ناره ... يخوض من الرُّمحِ الرُّدَينيِّ معقِلا
يُعبِّسُ إنْ لاقى المُدجَّجَ ثائراً ... وإن زاره وفدُ العُفاة تهَلّلا
ولا غَروَ أم سمّوا نتاجَ خواطري ... قَريضاً وإن كانت جُماناً مُفصَّلا
فإني أرى الشيخ الإمام بنانُهُ ... بِحارٌ وسمَّتْهُ الأعاجمُ أُنْمُلا
ومنها :
جَمومٌ إذا ما غيضَ القطرُ والندى ... نَشاصٌ وفَرّاجٌ إذا الخطبُ أشْكَلا
فإنْ أنا شاركتُ العُفاة إذا حَبا ... فقد يرِدُ الضِّرغامُ والكلبُ مَنْهلا
لقد صالَ حتى جاءه الدهرُ خاضعاً ... وقد جاد حتى النجمُ زار مؤمِّلا
له خِدمتي ما دمتُ حيّاً فإنْ أمُتْ ... فخُطّوا على قَبري لمن أعتقَ الوَلا
وله أيضاً :
وليس يُبالي الحرُّ إنْ رقَّ بُردُهُ ... إذا زيَّنَتْه في النوادي المحامد
ألا ليتَ عزَّ الفضل يُقرَنُ بالسُّهى ... ليظهرَ من يَعْيا ومن هو صاعد
أكابد في الإدلاج للراحة الأدى ... فليس يشمُّ الروحَ من لا يُكابد
وإنّ البُزاةَ الشُّهبَ تأنسُ بالطَّوى ... إذا كان بالعُصفور تُحشى المَصائدُ
الوزير أبو سعدٍ منصور بن الحسين الآبيُّ
كأن أنواع الفضل كانت غائبة عن الدنيا فأبتْ به إلى آبةً . وناهيكَ به من ليث سكنَ تلك الغابة وله في رسائله قلائد نثرٍ جَلاها الصَّيْقلون فأخلصوها خِفافاً كلها تبقى بأثر . وفي قصائده شعر يسير بإرخاء السرحان وتقريب التنفل . وكأنها نسيمُ الصِّبا جاءت بريّا القَرنفُل . وهو من جاهه في درجةٍ تهمُّ بالإزْراء على من كان في عصره من الوزراء
أنشدني الأديب سليمان النِّهرواني له رحمه الله :
أَيا رَبْعَ عَلْوةً بالمُنحنى ... أأنتَ بها مغرمٌ أمْ أنا
ويا طَللَ الحَيِّ ما بالُنا ... لبستَ البِلى ولبستُ الضَّنى
أناشدُكَ اللهَ في فَرْتَنى ... وأنّى ومن أينَ لي فَرْتَنى
بشَرقيِّ سلمى لها منزلٌ ... رفيعُ القواعد عالي البِنا
أتتْني فقالت لأترابها : ... لَنِعمَ الفتى إنْ ثَوى عندنا
فقلتُ لها : أينَ مَغناكُمُ ... فقالت ونحن بجُزْوى : هُنا
ولكنَّ من دوننا باسلاً ... يَغارُ علينا إذا زُرتَنا
فساوِرْ إذا جئتَ جنحَ الظلا ... م فإمّا علينا وإمّا لنا
فلمّا امتطينا إليها الدُّجى ... دُفعْتُ إلى تَرْبها مَوْهِنا
وقامتْ يجرُّ فضولَ الرداءِ ... وتُسفرُ للوَصلِ ما بيننا
تبعتُ إلى خدرها تِربَها ... فصدَّتْ وقد رابها أمرُنا
فقالت : أترضى بغير الرِّضى ... بكونكَ يا ضيفَنا ضيفنا
وكتب إلى العميد أبي بكرٍ القهستاني وقد اتفقتْ عليه سقطةٌ في حَمّامٍ انخلعتْ منها يده :
يا دهرُ مالكَ باليد العُليا التي ... كفّتْ أذاكَ عن المكارم من يَدِ
عطَّرني النَّظمُ وريّاكا ... وهَزَّني للفضل مَغْزاكا
وأنتَ فيما نلتَه أوحدٌ ... يحسدُكَ الناسُ وأهواكا
وذلكَ التفاحُ جنسٌ له ... طيبٌ يُحاكي طِيبَ مَغْناكا
أبو النجم إسماعيل بن إبراهيم القَزْويني
ورد على الحضرة النظامية وُروداً كساه من الإقبال بُروواً مدحه بهذه البائية التي وصف فيها الفرس بقوله :
وشقراءَ لاعبةٍ في العَنان ... كلعْبِ الصبيّة أو كالصبي
أُخاطبُها بلسان القَطي ... ع في مَسمعَيْ كفَلٍ أرحبِ
وكمْ نشرتْ فيَّ من مشْيةٍ ... نعمٌ وطَوتْ لي من سَبْسَبِ
إلى أنْ أتتْ بي رَبْعَ الفَخارِ ... ومأوى السماحة والمَرحَبِ
فألقيتُ رَحْلي بأرجائه ... وقد يسّرَ الله لي مطلبي (1/74)
هو الليثُ سَطْواً وأقلامُهُ ... تنوب عن الناب والمِخلبِ
هو البحرُ حقاً وألفاظهُ ... عُقودٌ من الدُّرِّ لم تُثقَبِ
هو الغيثُ يسكبُ طولَ الزمان ... علينا إذا الغيث لم يُسكب
عصيتُ اللوائمَ في قصده ... وقلتُ لمن أنّبتْ : أنِّبي
تؤنِّبُني أنني لم أبِتْ ... أشيمُ حَيا بارقٍ خُلَّبِ
وأصبحَ شيمي من بينهم ... لِداني الرَّبابة ذي هَيْدَبِ
إبراهيم بن عُمرَ الجَرْباذَقانيُّ
من مُدّاح الصاحب نظام الملك حرس الله أيامه . وله نمطٌ في الشعر صالح وحَمام فضله في أَيْك الأدب صادح . وممّا التقطتُ من أشعاره قوله في تشبيب قصدية نظامية :
أفي الحقِّ يا مَن أنكر الحقَّ أنني ... ضَجيعُ الهوى أصبو إليك ولا تَصبو
أما لكَ إشفاقٌ على قلبٍ هائمٍ ... لجيشِ التَّنائي في جَوانحه لهْبُ
بَراهُ الهوى بَرْياً فلم يبقَ بعده ... لفرطِ الضَّنى إلاّ السويداءُ والخِلْب
فإنْ لم يكن عطفٌ عليه فنظْرةٌ ... مُمنِّيةٌ يَحيا بها الرجُلُ الصَّبُّ
فَصِلْ مغرَماً لم يجنِ قطُّ جِنايةً ... وليس له إلاّ محبَّتكم ذَنْبُ
يقولون : عَزِّ القلبَ بعد فِراقِهِ ... فقلتُ لهُمْ : طوبايَ لو ساعد القلبُ
ومَن لي بالصبر الجميل فإنني ... وإن غبتَ عن عيني كأنكَ لي نُصْب
الأستاذ أبو الفضل إسماعيل بن محمد
الكاتب الجَرْباذَقانيُّ
قرأتُ له قصيدة فَريدة في مدح نظام الملك يُهنئه بالقدوم :
أهلاً بيومٍ رائقٍ مُجْتلاهْ ... يُزهي على عِقد الثُّريا حلاهْ
مَقْدمُ مولانا الأجلِّ الذي ... صُيِّرتِ الأعيادُ طُرّاً فِداهْ
فالشمسُ فيه رايةٌ جَلَّلتْ ... مَوكبَهُ العالي دامتْ عُلاه
وفي غِمار الحاجبين اكتسى ... شِعارَهُ بدرٌ سرى في دُجاه
رَبعٌ هوَ الكعبةُ للمُجتدي ... والحَرمُ المسكونُ أمْناً ذُراه
يضمُّ أنباءَ المُنى مثلما ... ضمَّ حَجيجَ البيتِ نُسْكاً مِناه
لبّى به العافون شكراً كما ... حَوى المُلبِّين معاً أخشباه
ودَّتْ نجومُ الأُفْقِ لو أنّها ... مَشاعلٌ تَقْدُمُ ليلاً سُراه
وحاجِبُ الشمس يُرى كحلُهُ ... من موطئِ الحُجّابِ ركضاً تَراه
وله أيضاً فيه :
سلامٌ على شمس الكُفاة المؤمَّلِ ... رَضيِّ أمير المؤمنين أبي علي
سلاماً يُحاكي عَرفُه ونسيمُه ... نَسيمَ الصَّبا جاءت بِرَيّا القَرنْفُل
فيُمناه يُمنٌ شاملٌ لمؤمِّلٍ ... جَداه ويُسْراه يَسارٌ لمُرْمل
إذا اجتمعتْ صيدُ الملوكِ حسبْتُهُمْ ... على بابه المعمور ورّادَ مَنهَلِ
فلو رَدَّتِ الأيام كسرى بن هُرْمُزٍ ... لكان وبوّابَ الوزير بمنزل
ومنها في صفة القلم :
وأسمرَ مَشحوذِ الغِرارِ كأنّما ... شَباهُ إذا ما هزَّهُ غربُ مُنْصُلِ
وما هو إلاّ الأُفعُوان فسمُّهُ ... وتِرْياقُه للمضمر الغِلَّ والوَلي
الإسكافي الزَّنجانيُّ
أنشدني له الشيخ أبو عامر الجرجاني :
سأُطبقُ أجفاني على مضَضِ القَذى ... وإنْ حسب الجُهّال أنّيَ جاهلُ
إلى أنْ يُتيحَ الله للناس دولةً ... تكون سِوى الأستاهِ فيها وسائلُ
وله أيضاً :
لو كنتُ ناراً وكان السِّرُّ من بَرَدٍ ... واستحفظوا فيه لم يُضررْ به لَهَبي
وله أيضاً :
وإني لأستحيي العَمائم أنْ تُرى ... على أرؤُسِ أولى بهنَّ المقانعُ
أبو علي هِلالُ بن المظفَّر الزَّنجاني
المعروف بالدَّيوْداري
سمعتُ الشيخ أبا عامر الجرجاني يقول : هو اليوم في الأحياء . وله شعرٌ متينٌ كقوله :
على بابه الميمونِ في كل ساعةٍ ... لأنباء آمالٍ مَحَطٌّ ومَوْسِمُ (1/75)
يُرَجّون كفّاً كفَّ عنهمْ نَوالَها ... خَصاصةُ أيامٍ تَجورُ وتظلمُ
وتضمَّن خلاّقُ البريّةِ رِزقهُمْ ... ولكنْ على كفَّيه يُعطي ويَحرِم
ففي كلّ أُفقٍ من معاليه أنجُمٌ ... وفي كل جيدٍ من أياديه أنعُمُ
لئن حاز جُوداً لا تفارقُهُ يدٌ ... لقد حاز شُكراً لا يفارقه فَم
وقال أيضاً :
أودعتُه سِرّي مستكتماً ... فبثَّه الأحمقُ في الحال
من يضعِ السِّرَّ لديه فقد ... أودعَ ماءً جوفَ غربال
وقال أيضاً :
تمنّيتُ الشباب فحين أنحى ... على شَعري تمنيتُ الشِّبابا
أصبتُ من الليالي كلّ حظٍّ ... وما للمرءِ إلا ما أصابا
إنّي ليُعجبني العِذارُ ممسَّكاً ... والصُّدغُ مطروحاً عليه مُزَرْفَنا
ويَصيدني القَدُّ القَويمُ كأنه ... غُصُنٌ إذا عثرتْ به الريحُ انثنى
ويشوقُني سحر العيون المجتلى ... ويروقُني وردُ الخدود المجتنى
قلت : قلب فروة قول البحتري حيث يقول :
إنّي وإنْ جانبتُ بعض بَطالتي ... وتوهَّمَ الواشون أنّيَ مُقْصِر
ليشوقُني سحرُ العيون المُجتلى ... ويروقُني وردُ الخدود الأحمر
وقال أيضاً :
تلك الليالي وأيامُ الصِّبا ذهبتْ ... فلا يُحسُّ لها عينٌ ولا أثَرُ
واحسرتا لشبابي قد مضى هَدَراً ... كذاك كل شبابٍ قد مضى هدَر
وكنتُ أشعرَ خَلقِ الله كلهِمِ ... فماتَ شِعري لمّا شاب لي شَعَر
الأستاذ أبو الحسن الشَّيباني
أنشدني أبو عامر الجُرجاني له من قصيدة
أغرُّ حَوى الوزارةَ والمَعالي ... بأيّامٍ تُغيرُ على الشباب
منيعُ العِرض مبذول العطايا ... أليفُ الفيض طلاّعُ الروابي
إذا ما استفحل الخطب اتَّقاهُ ... بعزمٍ في الحوادث غير نابِ
وأرقشَ في مجاجته مَشوبُ ... نَقيعُ السمِّ بالضرب المُذاب
يَمجُّ على مَهارقه لعاباً ... إذا ما ارتاح من فرحِ اللِّعاب
ففي حالَي ندىً تَراهُ ... على العِلاّت يلعبُ بالرِّقاب
وأبيضَ تستقيلُ العَينُ منهُ ... طَريرِ الغَرْب مأمونِ النِّصاب
صَفوحٍ الصفح إنْسيِّ المُحَيّا ... جَهولِ العَزْب جنِّيِّ الذُّباب
وأسمرَ يستدلُّ المنايا ... بأزرقَ لا يرقُّ ولا يُحابي
يدبُّ الرقصُ فيه إذا تَلَوّى ... دَبيبَ الهَزِّ في قَدِّ الكَعاب
أبو منصور سعيد بن محمد المُدَبِّجي
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي الزوزني قال : أنشدني العَبدُلْكاني قال : أنشدني المدبّجي لنفسه :
يرى العارَ أن يُعطي إذا سُئلَ الندى ... وأنْ يتلقّى المعتفي بالمواعد
ولكنّ للعافي بُدوراً مُعدّةً ... لديه ومُلقاةً مكانَ الوسائد
أبو الفضل أحمد بن محمد بن أبي القَصْر
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي الزوزني له :
أهوى الغزالَ إلى صَدْري ليلثمَني ... فقلتُ : كلاّ فللتقبيل أعضاء
قرِّبْ سَوادك منّي والثِّمنَّ فمي ... فلثمُك الفَمَ للأموات إحْياءُ
وله يعمّي اسم ناصر :
اسمُ من أهواه يا مو ... لايَ كقلوبُ رُضابهْ
صَحِّفْ الحَرفين منهُ ... وتأنَّقْ في طِلابهْ
فإذا أنتَ ببَدرٍ ... يَتَلألأ في ثيابه
وصْلُهُ أرْيُ دُبورٍ ... شِيبَ في ماء عِتابه
والنَّوى عنه عذابٌ ... لا ابتُلينا بعذابه
عبد الواحد بن محمد بن صالح الجَرباذَقانيّ
يقول من قصيدة نظامية :
اخترتُ للنفس لزومَ الضَّنى ... مُذ رقَّتِ الحالُ لضَيمِ الوُلاة
فيا نظامَ المُلكِ يا مَن غدا ... مُوفَّقَ الرأيِ لنظْمِ الشَّتات (1/76)
تَداركِ العَبدَ على ضعفه ... وارْحمْ بَناتٍ كفِراخِ القَطاة
قالوا : خُراسانُ بعيدٌ وقد ... جاوزَتِ الراياتُ وادي هَرات
فقلت والإقبالُ لي زائدٌ : ... هِمّةُ مولانا كفيل النَّجاة
الأبهريُّ
هو أبو المكارم عبد الوارث بن محمد متقدم القدم في الأدب لم قُرَمِطْ في ذلك الندب . ومن شعره البارع قوله :
أينحلُّ معقودٌ ويختلُّ مُحكمٌ ... وأنتَ لمُلكِ الخافقين نظامُ
فأَدْنِ مزاري أُرْومِنُكَ منَ المُنى ... فقد شفَّ أنضائي إليكَ أُوامُ
وذَرني منَ الوالينَ أمسِ فإنّما ... وردتَ ينابيعَ الفَخار وحاموا
دُللتَ وحاروا واعترفْتَ وأنكروا ... وجُدتَ وشَحّوا وانتبهتَ وناموا
فما إنْ بكتْ أرضٌ عليهمْ ولا هَمتْ ... سماءٌ ولا قيلَ : الدموعُ سِجامُ
كَذبْنا لهمْ قَولاً وجازوا كِذابنا ... فِعالاً فهِمْنا في الضَّلال وهاموا
وله أيضاً من نظامية أخرى أوّلها :
مُنيةُ النفسِ وإنْ ورّى اللسانُ ... عربياتٌ سَجاياها حِسانُ
أنا في رَبع العُلا مستخدَمٌ ... ولقلبي في البَوادي جَوَلان
عَربيٌّ سام قلبي شططاً ... لا منَ الدهر ولا منه أمانُ
كلّما أبصرَ دمعي بدداً ... في هواه قال لي : هذا جُمانُ
ومنها :
عَدِّ عن هذا وقُل في زمنٍ ... ناشئٍ لم يَتَخوَّنْهُ الكيانُ :
كانتِ الشهوةُ فيه هَرَما ... فنَضا أسمالَهُ ذاكَ الزمانُ
قد ثمِلْنا فجهِلنا أنّنا ... في دِيان الراح أوفينا الدِّنانُ
ولطيبِ النَّور فيه نفحةٌ ... مثلما دِيفَ لنا مسكٌ وبانُ
يا نَديمي لا تُذِلْني إنني ... لك مثلُ السيف والسيفُ يُصان
ربما أغناك يوماً مِقْولٌ ... حيثُ لا يُغْني ضِرابٌ وطِعانُ
وعسى تدعوكَ يوماً حاجةٌ ... فامتحنّي وكفى المرءَ امتحانُ
فأُرَقِّيها إلى مولىً له ... منذ مصَّ الماءَ بالمجد افتنانُ
ملكٌ في جوده للمرتجي ... شرفٌ عالٍ ومالٌ عَكَنان
ما رأينا آمِلاً خيَّبَهُ ... فإنِ ارتبتَ بقَولي فالرِّهانُ
كنتُ في ثَوبِ خُمولي خافياً ... مثلَ معنىً مُشكلٍ لا يُستبانُ
ومنها :
رازحَ الحال به مضطرباً ... كزِحافٍ لا يُوازيه اتِّزانُ
فأنا اليومَ كطَودٍ شامخٍ ... مثلما قيل : شَمام وأبان
بُكرةَ النَّيروز والراح وما ... ينبع الراحَ من العيش لَيانُ
صرفُها بِكرٌ فلا تعدلْ بها ... وإذا شعْشعْتَها فهْيَ عَوان
أبو الحسن على بن الحسن السلمي الحَرّاني
أنشدني له القاضي أبو جعفر :
عبرتُ في سِكةِ ناخالِ ... والليل في سِربالِ إقبالِ
حتى إذا هبّتْ أهاضيبُها ... بنَيءنَ أبوالٍ وأزْبالِ
جعلتُ ذاك النَّتْنَ لي جُنَّةً ... من نَتْنِ أخلاقِ ابنِ ميكالِ
عبد الرحمن بن محمد السَّرزُوريُّ
اخترتُ من قصيدته التي أولها :
خليليَّ إنّ المَكرُماتِ مواهِبٌ ... وللصيد في صَيدِ المَعالي مَراتبُ
وإنّ ثَنيّاتِ الطريق مَضلّةٌ ... وللرُّشْدِ تهيج مَهْيَعُ المَتنِ لاحِبُ
ومنها :
سَما لديارِ الكُفر حتّى أبادَها ... فساحتْ على ساحاتهنَ المَعاطبُ
وأرسلَ طُوفانَ السيوف عليهِمُ ... فلم يَبقَ منهم في المشارب شاربُ
ولا عَنَّ فيها معقلٌ لم يهدَّهُ ... ولا مَوئلٌ لم تَبكِ فيهِ النَّوادبُ
غَدَوا نَقَداً رِيعتْ بأُسدٍ ضَراغِمٍ ... ظماءٍ وأوداجُ الطُّغاة مَشاربُ
وأصبحَ ما قد شيَّدوا وكأنّه ... لوِهْن المَباني ما تُسَدِّي العناكبُ (1/77)
الأستاذ المهذَّب أبو الفضل
إسماعيل بن على العَبْديلي السَّهرزوري
انتظمتْ بيني وبينه صحبةٌ في أيام الصاحب أبي عبد الله الحسين بن علي بن ميكائيل الغزنوي وأنا يومئذٍ أكتبُ في ديوان الرسائل وأمتُّ إلى علوِّ الجاه بتلك الوسائل وهو في وزارة الأمير " قَتَلْمش بن معتزِّ الدولة " وافترقنا بجُرجان . ولم يكن في ظني أنّ سُهيلاً والثريا يلتقيان . وقنعَ كلٌّ منا باستنشاق الرياح وشَيمِ البروق واعتقادي ما لزم الدِّمِّتين من رَعْي سَوالِفِ الحقوق حتى مَنَّ الله تعالى عليّ وأعاد بلقائه رونقَ الشباب إليّ . وجمعتْني وإياه بنيسابور ظلالُ النظامية التي هي سِمطٌ ينتظم فيه الأحرار وشِعبٌ تَسيل إليه الزوار . فتجدّد العهدُ وتأكّد العقد وتذاكرنا أيام الحمى وعهدَ اللِّوى . وما زلتُ به حتى أنشدني من شعره بيتين وشّحتُ بهما الكتاب لا بلْ رصِّعتُ بهما السِّخاب . وهما :
أنا الحُسامُ مَهيباً في القِرابِ كذا ... وفي الرِّقاب غِراري مُختلي القَصَر
لا بُدَّ أنْ أُنتضى فالدهر ذو غِيَرٍ ... يحتاج فيه إلى الصّمْصامةِ الذكَرِ
وكتبتُ إليه بهذين البيتين :
حوىَ أبو الفضل ما كَنوْهُ به ... فالفضلُ في الانتساب عَبديلي
أرى له من لزوم طاعته ... عليَّ ما لا يراه عَبدي لي
السيد الأجلُّ المرتضى ذو المجدين
أبو الحسن المُطهَّر بن عليّ
من أعيان الأشراف والسادة اتفق اكتحالي بغرَّته الزهراء واستضائي بزهرته الغَرّاء سنة أربع وثلاثين وأربعمائة بالريّ إلاّ أنّ الالتقاء كان خُلسةً والاجتماع لحظة . وما زالتْ أخباره وتَتَرامى إليّ بأثنيته الجميلة عليّ فيزداد غرسُ ولائه في قلبي أثماراً وهلال وفائه بين جوانحي أقماراً . ولم أظفر مما ألقاه بحر علمه على لسان فضله إلاّ بهذين البيتين وهما :
جانِبْ جنابَ البغْيِ دهرَكَ كلَّهُ ... واسلُكْ سبيل الرُّشد تسعدْ والزمِ
من وسّختْه غدرةٌ أو فَجرةٌ ... لم يُنقِهِ بالرَّخضِ ماءُ القُلْزُمِ
أبو مسلمٍ عبد العزيز بن محمد الشيرازي
أنشدني الشيخ الإمام أبو محمد الحمداني قال : أنشدني أبو مسلمٍ هذا لنفسه ونحن بكُورة أصفهان سنة خمس وخمسين وأربعمائة
عميدَ الملك زرتُ رفيعَ بابكْ ... وألحقَني السُّرى بِعْلا ركابِك
أجوبُ بجاهك الفَلَوات ليلاً ... وأمشي في الدُّجى بسَنا سَنابك
فأصمتْ مَقْتلي نَكآتُ دهرٍ ... أكفكفُ غربَها بندى سَحابك
فهلْ لي في فِنائك من قَبولٍ ... فيحظى أخمصي بتُراب بابِك
قال : وأنشدني لنفسه أيضاً :
اشربْ على طربٍ يُرقصُها ... درُّ الحباب جلاها فاتنٌ غزِلُ
ولا تُرَ الدهرَ إلاّ شارباً ثَملاً ... فالدهرُ أحقرُ أنْ يُحصى له زللُ
أبو الفرج علي بن الحسن بن علي المُوفَّقي
رأيتُ له ديوان شعرٍ كبيرَ الحجم فاخترتُ منه هذه الأبيات على خدّ عَجَلة مني مستوفرٌ لبعض نَهَضاتي استيفاز البَدَويّ المُصطلي الشاتي وهي :
أمسكٌ أم عِذارٌ قد تَبدّى ... حَوالَيْ بَدرِ غُرَّتك المُفدَّى
أمِ اجتلى الجَمالُ عليك غُفْلاً ... فحكتْ له طِرازاً مُستجَدّا
أبِنْ ذا لامْرئٍ لم تُبقِ قلباً ... له يتحقّقُ الأشياء جدّا
وله أيضاً :
يا نَسيمَ الجنوب بلّغ سلامي ... من بكفّيه صِحّتي وسقامي
وله من خمرية :
تَنَسَّمَ الصبحُ في الآفاق في فَلَقِهْ ... ومات جنح الدجى عجلانَ من فَرَقِهْ
وصفّقَ الديكُ أُنساً بالذي لقيتْ ... عيناهُ في دُهْمةِ الإظلام من شَفَقِه
فهاتِ صَفوَ مُدامٍ صَحْنُ مجلَسِنا ... يَفوحُ مِسكاً إذا ما صُبَّ من عَرَقِهْ
ولم أتفرّغ إلى أن أنعم النظرَ في قصائده فألتقط شَذَراً من قلائده
أبو طاهر علي بن عُبيد الله الشيرازي (1/78)
ارتبطه الصاحب نظام الملك حرس الله دولته لحُسن خطّه وفَوز قِدحه من الأدب ووفور قسطه . فلم تُنفِّسْهُ المُدّة ولا نفعتْه العُدّة حتى انتقل إلى جوار ربّه . ورأيتُ في الخزانة النظامية بنيسابور ديوان شعره بخطّ يده كان المِعْرَض أحسنَ من لابسه . وكانت آثار بَنانه مُغطِّيةً لعَورات بيانه . فممّا نَتَفتُه من قصائده قوله :
دُمىً تركْنَ فُؤادي دائماً وَلِهاً ... لمّا تولّتْ بها أحداجُها عُصُبا
بالله يا ناقُ هل تدرين من سكنتْ ... وراءَ حِدْجِكِ إذ عالوا به القَتَبا
ومنها في المدح :
لما وَردتُ أزال اللوح موردُه ... ونلتُ منهُ الذي قد كنتُ مُرتقِبا
هَبّت عليَّ شَمالٌ من شمائلِهِ ... فأنشأتْ لي غماماً يُمطر الذَّهبا
ورأيت في ديوان شعره هذه التجنيسات وما عليها طَلاوة ولا لها طَراوة ولا فيها حَلاوة :
لَعَمرُكَ ما كَفي بقُفلٍ على الفتى ... ولا عابسٌ وجهي إذا الضيفُ لاقاني
ولم تخْلِجِ الدنيا هَوايَ وحُسنُها ... بأخضر رفّافِ الحواشي ولاقانِ
ولم يستطع أعوادَ عِزّي مُرتقٍ ... ولا شعَّثَ التشذيب نبْعي ولاقان
وُجودي وإبقائي على قبّة العُلا ... هُما دونَ هذا الخلقَ أجمعَ لاقانِ
وله :
سَلَّى بنفسي عنِ الدنيا وبَهجتها ... أني أرى فانياً منه تَلافانِ
والصبرُ أحمدُ ما أُوتيتَ من خُلْقٍ ... ما كنتُ في شِدّةٍ إلاّ تَلافاني
وله :
حَسبِيَ اللهُ في الأمور وكيلاً ... إنه في الخُطوب نِعمَ المعينُ
ثِقَتي والرِّضى بما قد قَضاهُ ... روضةٌ طَلَّةٌ وماءٌ مَعين
ومن أعيان شعره قوله :
أقمتُ بأرضِ جِيلانٍ زماناً ... ولم يكُ ذاكَ منّي غيرَ جهلِ
فلم أحصُلْ على خيرٍ مُتاحٍ ... سوى سحَّ الغُيوثِ وخَوضِ وَحْلِ
أصادفُ كلّما لامسْتُ رَطْباً ... كأني منه في زمنِ الفِطَحْل
وله أيضاً :
أهاجتْكَ وُرقٌ رُحْنَ في الأيكِ وُقَّعا ... يَنُحنَ وما يُذْرين للشَّجْو أدمُعا
فذكّرْنَنا العهدَ القديمَ وهجُنَنا ... وطَرَّيْنَ قلباً كانَ بالغِيِّ موزعا
عَلتْ فَنَناً يَهتزُّ تَنْدبُ إلْفَها ... فأبكتْ وما تَدْري الحَزينَ المُفجَّعا
تُذكّر أياماً مضتْ وليالياً ... وشرخَ شَبابٍ بانَ منهُ فودَّعا
وله يهجو بوّاباً لبعض الكبار :
صارَ ذا البوّابُ مِحنَهْ ... ما نِعي من غيرِ إحْنَهْ
كلّما جئتُ كأنّي ... عنده صاحبُ ظِنَّهْ
صُمَّ عن قَولي فلم يأ ... ذَنْ أصمَّ اللهُ أُذْنَه
وله أيضاً :
أَقْعدني عنك عارضٌ عَرَضاً ... طَوَّقَني في مَبيتي المَضَضا
ما قرَّ جَنْبي على الفراشِ لهُ ... كأنَّ حَشْوَ الفِراشِ جَمرُ غَضا
وشرُّ حالٍ لمَنْ تؤمِّلُهُ ... حالُ غَريبٍ يُكابدُ المرضا
وله أيضاً :
حاشا لعهدكَ أنْ يكون ذَميماً ... ولمن أحبَّك أنْ يكون مُليما
إني أرى سَفَهاً تسرُّع عاذِلي ... وأرى الهوى خَطْباً عليَّ ذَميما
وأنشدني الشيخ أبو عامر الجُرجاني له من قصيدة أولها :
سقى خَدِّي دُموعي يومَ ساروا ... بماءٍ في الضُّلوع له شَرارُ
رأيْنا الجودَ من كفَّيك عَيفاً ... وعند سِواك شاهدُهُ ضِمارُ
وشِمْنا من يديْكَ سَماءَ نَيلٍ ... لبارقها على الأُفُقِ استِعار
تَرودُ حَدائقاً كالليل غُلْباً ... تُنيلُ وما لواعدِها إبار
أسَمنا سَرحَنا فيهنَّ هَزلى ... فجاءتْ وهْيَ مُطَّعَمةٌ شِيار
نَزَعْنا عُذْرَها ضُرّاً فجاءتْ ... عَواصي ليس يَضبطُها عِذار
محمد بن بحر بن حَمْدٍ الخِيري (1/79)
هو من خير فارس وفي الخير فارس . طلعتْ عليه سعادة الاتصال بالخِدمة النظامية وتشرَّفَ قدمُه بالمصير إليها وتعطَّر فمه بالثناء عليها . فممّا وقع إليّ من نتائج خاطره قوله :
تظلّم مكروبٌ أضرَّ به الدهرُ ... وضاقَ بما يلقاهُ من ضَعفه صَدرُ
زَمانٌ يُعادي الحُرَّ حتى كأنّما ... له عند من يأوي إلى حَسَبٍ وَتْرُ
ويَحْنو على الأنذال تَعْساً لجَدّهِ ... كأنهمُ الأبناءُ وهْوَ الأبُ البَرُّ
ومنها في المدح :
سقى اللهُ خِيراً كلّما ذرَّ شارقٌ ... ولا زال في أفنائها يضحك الزَّهرُ
إذا زارهُ العافي تَهلَّلَ وجهُهُ ... وبشَّرَهُ منهُ التَّبسُّم والبِشْرُ
وإنْ صامَ أياماً عنِ الدمِ سَيفُه ... فسفْكُ دماءِ المارقينَ لهُ فِطْرُ
الحسن بن جعفر بن محمد الفارسي
مدح الصاحب نظام الملك بقصيدة اخترتُ منها قولَه فيها :
أحيا البلادَ بعَدْلِهِ وأسامَهم ... مِن ظلِّه في الرَّوح والرَّيحانِ
وبنى القِبابَ بأرض فارسَ مُغرماً ... بحِماية اللاجي وفكِّ العاني
فالناسُ في أمْنٍ بعزِّ ظلاله ... والشاةُ في وِردٍ معَ السَّرْحان
ولحُبِّ دين الله يُكرمُ أهله ... ويخصُّهم بالعَدْلِ والإحسان
الزاهد أبو بكر الفيروز آباديُّ
له شعر كالشُّهد يلوحُ عليه سيماء الزُّهد . اخترتُ له من قصيدة نظامية قوله فيها :
ليتَ البرامكةَ الأُلى ... كانوا الجَحاجِحَ والخُضارمْ
عاشوا إلى أن يُدركوا ... أيامَك الغُرَّ المباسمْ
حتى يَرَوا لكَ مثل جع ... فرهم ويَحيى ألفَ خادمْ
من حاتمُ قل لي ومَن ... كعبٌ ومن قيسُ بنُ عاصم
فيما تفرِّقُه يَمي ... نُكَ كلَّ يومٍ ألفُ حاتم
كم خالعٍ غادَرْتَه ... جَزَرَ الجَوامعَ والقَشاعمْ
ومُؤمِّلٍ أعطيتَهُ ... ما لا يمرُّ بعين حالم
طهَّرتَ فارسَ كلّها ... من عائثٍ فيها وعارمِ
وأرحْتنا من كل عِلْ ... جٍ لا يَخافُ الله ظالمْ
كانوا يضيمونَ العِبا ... دَ ويَستحِلّون المَحارمْ
ومنها :
ويُعطِّلونَ شرائعَ ال ... إسلام أمثالَ البهائم
ولقد طويتُ الأرضَ نح ... وكَ مثلَ ما تُطْوى العَمائم
أرجو نَداكَ وأتَّقي ... سَطواتِ ذي لُبدٍ ضُبارِمْ
علي بن أحمد بن عبد الله
الأنصاري الفارسي
يقول من قصيدة نظامية قِوامية :
له على الخلق إشفاقٌ ومَرْحَمةٌ ... وقاهُمُ بِهِما المَكروهَ والنَّصَبا
قد كان مَقدمُه المَيْمونُ مَوهبةً ... من الإله وأُمّاً بَرّةً وأَبا
قلت : هذا البيت عيالٌ على قول الأوّل :
وقد كان لي عمّاً لطيفاً ووالداً ... رؤوفاً وأُمّاً مَهَّدتْ فأنامَتِ
والشرطُ أن يزيدَ الأخر على الأول إذا أخذ منه ليسوغَ له التطفيل عليه فأما الأخذ مع القصور فالعجز عليه مقصور . وقد أحسن أبو تمام في تمهيد هذا البساط بقوله :
وكنتَ لناشِيهم أباً ولكَهْلهِمْ ... أخاً ولدى التقويس بالكِبرة ابْنَما
فلهذا العرض المشار إليه تَجنيحٌ مليح . ومعنىً صحيح ؛ وأدّاء لفظٌ فَصيح :
أبو بكرٍ عبد الرحمن بن عبد القاهر الفارسيُّ
قال يمدح الصاحب نظام الملك قوله :
لوْ جاودَ الغيثَ غَدا ... بالجود منه أجْدرا
أو قِيسَ عَرفُ عُرْفِه ... بالمِسكِ كانَ أعطرا
ذو شِيَمٍ لو أنّها ... في الماء ما تغيّرا
وهِمّةٍ لو أنّها ... للنَّجم ما تَغَوَّرا
لو مسَّ عوداً يابِساً ... أروقَ ثُمَّ أثْمرا
يَثْني شَبا أقلامه ... سودَ الخُطوب نُفَّرا
إذا امتطتْ أناملاً ... منه خَلقْنَ أبحُرا (1/80)
وإن نظرتَ في التي ... وشَّى بها وحَبَّرا
رأيتَ حُسناً لم تَجِد ... كمثل ذاك مُبصَرا
ومَفْخَراً ومَفْخَراً ... حتى تَكِلَّ أنْ ترى
أبو جعفرٍ الفيروز آباديُّ من فارس
أنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني القاضي ابنُ السمّاك له :
نسيمَ الصَّبا إنْ جئتَ أرضَ أحبَّتي ... فخُصَّهُمُ منّي بكل سلامِ
وبلَّغْهُمُ أنّي رهينُ صبابةٍ ... وأنَّ غَرامي فوقَ كلِّ غرام
وإنّي ليكفيني طروقُ خيالهم ... لو أنَّ جُفوني مُتِّعتْ بمَنام
ولستُ أُبالي بالجِنان وباللظى ... إذا كان في تلك الديار مُقامي
وقد صمتُ عن لذّات نفسي كلّها ... ويومُ لقائي يومُ فِطرِ صيامي
أبو الفرج محمد بن علي بن محمد
الخَضِر الغُنْدِجاني
وردَ نيسابور سنة ثلاث وستين وأربعمائة فاستوطن مدرسة السرّاجين مريضاً ودخلها طويلاً وسكنَها عريضاً . ولم أره ولكنْ سمعت خبره وهجا بعض أصدقائه فلم يَذلَّ لهجوه عزه الأقعس ولا جرب بذمّه عِرضه الأملس . ولم يبلُغْني من شعره غير ذاك الهذَيان فصنتُ عَذْبَتي القلم واللسان . وإذا وجدتُ غيرَهُ قدَدْتُ سَيره إن شاء الله عزّ وجلّ
أبو جعفر ظفر بن إسماعيل الفارسي
مدح شرف السادة أبا الحسن البلخي بقصيدة قال فيها :
من رامَ نَيلَ الأماني شامَ غُرّته ... إذا بَدا عَلماً في مَوكب البَهَمِ
وما قصدتُ بشعرٍ صَوغَ مِدحتِهِ ... لكنّني مادحٌ في مدحِه كَلِمي
أبو مسلم عبد العزيز بن محمد الفارسي
يقول من قصيدة نظامية أولها :
قِيانَ الأيكِ في شَرَقِ الظَّلام ... أعَدْتِ العين رَمداءَ الغَمام
ويا ريحَ الصَّبا عَرَّفتِ رَيْعي ... بأردانٍ تُصافحُها خِيامي
فإنْ تكُ فُرصةٌ وحَللتِ نجداً ... فخُصِّي بالتحيّة والسلام
غزالاً كان يسمح لي بطيفٍ ... يُلمُّ مُسلِّماً في كل عامِ
وقد عَقلَ السُّرى أرساغَ حرفٍ ... يفوت الريحَ في سَعة الزِّحام
تراه يذوبُ من مَرَحٍ وطَيشٍ ... ويحمَدُ أن أُشيرَ إلى الخِطام
طَويتُ به أديمَ الأرض شَوقاً ... إلى مَلِكٍ أبرَّ على الأنام
يَعدُّ النَّجمَ من أُفُقِ المَعالي ... على الأفلاك سارحةَ السَّوام
أدارَ الرأيَ في خَلَدِ العوالي ... فدارَ المُلكُ في فَلَك النِّظام
أبو المُنازِلِ بن محمد بن أحمد
بن معمرٍ الفارسي
له من قصيدة نظامية يقول فيها :
باليُمنِ والإقبال والبَركات ... والطالعِ المسعود في الحركات
وافى فأشرقَ من نواحي فارسٍ ... ما كان منها راكدَ الظُّلُمات
وغَدتْ تَجرُّ على المَجَرَّةِ ذيلَها ... مذ ظَلَّ يقصدها الوزيرُ فيأتي
بحرٌ يلوذُ المُعتفونَ بسَيبه ... أبداً وحينٌ للعَدُوِّ العاتي
جعفر بن دوسْتويه الفارسيّ
أنشدني الشيخ الحسن السمرقندي المحدِّثُ له :
ليَ خمسٌ وثمانونَ سنَهْ ... فإذا قدَّرتُها كانتْ سنَهْ
إنَّ عُمرَ المرءِ ما قد سَرَّهُ ... ليس عمرُ المرءِ الأزْمنهْ
علي بن محمد الدَّقُوري
من مُدّاح الصاحب نظام الملك دام الله أيامه وحرس على المُلك نظامه . يقول فيه من قصيدة :
رِواقُه مُشمخِرٌّ في ذُرا شَرَفٍ ... مُستمسِكٌ بعُرى عزٍّ وتمكينِ
آراؤه كسيوف الهِندِ ما شُهرتْ ... إلاّ لضربٍ ببُشرى الفَتح مَقرونِ
يُبدي البشاشة من قبل النَّوال كما ... يُقدِّمُ الغُصنُ نَوراً في البساتين
كأنّما خُلِقتْ يُمناهُ من كَرَمٍ ... في عنصرٍ بمزاج المَجدِ مَعْجون
نحنُ الحَمامُ وجَدْواهُ التي انفجرت ... أطواقُهُنَّ بمَنٍّ غير ممنون (1/81)
والمجدُ معناهُ منقوشاً جوانبُهُ ... يومَ السلام بأفواه السلاطين
مَهديُّ بن الفضل بن الأشرف العَلَوي
قرأتُ له من قصيدة نظامية صاحبية :
لقاءٌ كسَنا البدْرِ ... وعَزمٌ طبي الهِندِ
حَليفُ العِزِّ والمجدِ ... ومَولى النائل المُجدي
أتاه العلمُ والحِلمُ ... صَبيّاً وهْوَ في المَهْد
أبو هلالٍ العسكري
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي قال : أنشدني العبدُلْكاني قال : أنشدني ملك النحو أبو إسحاق إبراهيم بن عليٍّ قال : أنشدني أبو هلال لنفسه :
ما بالُ نفسِكَ لا تهوى سلامتها ... وأنتَ في عَرَض النيا تُرغِّبُها
دارٌ إذا جاءتِ الآمالُ تعمُرُها ... جاءتْ مقدِّمةُ الآجال تخربُها
أراك تطلبُ دنيا لستَ تُدركُها ... فكيفَ تُدركُ أخرى لستَ تطلبها
وأنشدني الشيخ أبو عامر قال : أنشدني أبو محمد الموحِّد بن محمد التُّستَريّ قال : أنشدني والدي رحمه الله له :
لي ذَكَرٌ لا يزال يَفضحُني ... كأنني منه قوفُ اِزْزَبَّهْ
عادَ قميصي به قَلنْسُوةٌ ... وأصبحتْ جبَّتي به قُبّه
فإنْ تكنْ كربَةُ تُكابدُها ... فلا تخفْ فهْوَ كاشفُ الكُربه
وله أيضاً :
إذا كانَ مالي مالَ من يلقُط العَجَمْ ... وحالي فيكُمْ حالُ من حاكَ أو حَجَمْ
فأينَ انتفاعي بالأصالة والحِجى ... وما ربحتْ كفّي على العلم والحِكم
ومن ذا الذي في الناس يُبصرُ حالتي ... فلا يَلعنُ القِرطاسَ والحِبر والقلمْ
وله أيضاً :
بركوب المُقَبَّحات جِهاراً ... يَفسُدُ الجاهُ والمرّوةُ تَخْربْ
فاجعلِ الجِدَّ بالنهار شِعاراً ... والْهُ بالليل ما بدا لك والعَبْ
كم تسرْبلتُ من رداءِ ظَلامٍ ... ضحكَ اللهوُ فيهِ إذ هُوَ قطَّبْ
ورأيتُ الهمومَ بالليل أدهى ... وكذاك السرور بالليل أعذبْ
وله يهجو :
عليكَ سلامُ الأصبحيّة كلما ... يحنُّ أخو شَوقٍ لبُعد دِيار
فلو كنتَ ريحاً كنتَ فَسوةَ مُتخمٍ ... ولو كنتَ عُضواً كنتَ أيرَ حمارِ
وله من قطعة :
عَلَينا محاذاةُ المرامي سهامَنا ... وليسَ علينا أنْ نُصيبَ ولا نُخطي
وله أيضاً :
جلوسيَ في سوقٍ أبيعُ وأشتري ... دليلٌ على أنّ الأنامَ قُرودُ
ولا خيرَ في قومٍ يَذِلُّ كِرامُهم ... ويعظُمُ فيهم نَذْلُهم ويَسودُ
ويَهجوهُمُ عنّي رثاثهُ كِسوتي ... هِجاءً قبيحاً ما عليه مَزيدُ
قلت : بلغني أنّ هذا الفاضل كان يحضُر السوق ويحمل إليها الوُسوق وبحلُب دَرَّ الرزق ويَمْتري بأن يبيع الأمتعة ويشتري . فانظر كيف يحدو الكلام ويسوق وتأمّل هل غضّ من فضله السوق وكان له في سُوقَةِ الفضلاء أُسوةٌ أو كأنه استعار منهم لأشعاره كُسوة وهم نصرُ بن أحمد الخُبْزرْزِي وأبو الفرج الوأواءُ الدمشقي والفامي والسَّرِي الرفّاء المَوْصلي
أما نصرٌ فكان يدحو الرُّقاقة الأرزيّة ويشكو في أشعاره تلك الرزيّة . وأما أبو الفرج فقد كان يسعى بالفواكه رائحاً وغادياً ويتغنّى عليها منادياً . وأما السري فكان يُطرّي الخلق ويَرْفو الخِرَق ويصف تلك العِبرة ويزعم أنه يسترزق الإبرة . وكيف ما كان فهذه حِرفةٌ لا تخلو من حُرفة وصنعةٌ لا تنجو من ضرعة وبِضاعةٌ لا تسلم من إضاعة ومتاعٌ ليس به لأهله استمتاع . ولأبي هلال هذا قوله :
لا يَغرُّنَّكُم علوُّ لئيم ... فعلوٌّ لا يُستحقُّ سَفال
وارتفاعُ الغريق فيه فُضوحٌ ... وعُلوُّ المصلوب فيه نكالُ
وقوله أيضاً :
شوفي إليكَ وإنْ نأَيتَ شَديدُ ... شَوقي عليَّ به الإلهُ شهيدُ
طُوبى لمن أمسى يَراكَ بعينه ... وتَراهُ عينُكَ إنّه لعيدُ
حمد بن محمد الوَّجِيُّ
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي الزوزني قال : أنشدني حمدٌ هذا لنفسه : (1/82)
كم قد صَبرتُ على الضرّاء مجتهداً ... ألاّ أكون لحُرِّ الوجه بَذّالا
فالآن قد حال بيني والمُنى زَمَني ... فصِرتُ في عَرَصات الأرض جَوّالا
قال : أنشدني أيضاً لنفسه :
أرى الدنيا تميلُ إلى أناسٍ ... لئامٍ ما لنا فيهم صَلاح
بقيتُ كطائرٍ في قَبضِ بازٍ ... جريحِ الجشم هِيضَ له الجَناحُ
قال : وأنشدني أيضاً لنفسه :
أسربُ مَهاً عارضْنَنا أو كواعبُ ... أبرقُ ثُغورٍ ما نرى أم كواكبُ
أحورُ جِنانٍ أم خَرائدُ فارسٍ ... بَرزْنَ شُموساً أم نجومٌ ثواقبُ
قال : وأنشدني أيضاً لنفسه :
خيالُكَ في الكرى وَهْناً أتانا ... ومن سلسال ريقكَ قد سَقانا
وباتَ مُعانقي ليلاً تماماً ... فلمّا بانَ وجهُ الصُّبح بانا
الرئيس أبو بكر اللاسلي
أنشدني الرئيس أبو الحسن محمد بن الحسين بن طلحة له :
دعا لَوْمي فلومُكُما مُعادُ ... وقَتلُ العاشقين له مَعادُ
ولو قتلَ الهوى أهلَ التصابي ... لما تابوا ولو رُدّوا لعادوا
وكتب إلى المخزومي جواباً عن أبيات توسّل بها بعض المتوسّلين :
أنا مُطرٍ ذاك الصديق صدوقاً ... ومُراعٍ له عليَّ حقوقا
خَطَّ لي بابتغاء حَظِّكَ فيما ... تبتغيه إلى رِضاكَ طريقا
فشكرْنا سؤاله وسُراهُ ... وحَمدْنا طريقه والطُّروقا
وبعثنا من البياض بدَسْتَيْ ... نِ أُعِيرا حسناً ولوناً أنيقا
ولا أنّي ملكتُ بين سمرقن ... دٍ لسرّحتُه إليك طليقا
ورَقي مُكبثٌ فإن كسرَ الرا ... عد أبهجها عليَّ سحيقا
وأنشدني الشيخ أبو القاسم بكر بن المستعين الكاتب له :
قِفْ بذاتِ الجرعاءِ يا صاحب البك ... رة وانظرْ تِلْقاءَ جانبِ نَجدِ
فإذا ما بَدَتْ خيامٌ لعيني ... كَ فتلكَ التي بها طالَ وَجْدي
فأتِ تلكَ الخيامَ ثمّ تَيَمَّمْ ... خيمةً سِترُها عصائبُ بُرْدِ
ثم سلِّمْ وقفْ وقُل بعدَ تسلي ... مكَ قول امرئٍ مجدَّدِ عَهدِ
أتُرى أنّكمْ كما قد عهدنا ... كُمّ عليه أم خُنتمُ العهدَ بعدي
الإمام أبو الفضل الجُلودي
كتب إلى الوزير أبي سعد الآبي وهو بقزوين وقد فرّق الحسنُ بن علي بن بابكَ البلخي حنطة يُسلِفُ أهل الريّ بها مالاً ووزَّع ذلك على أصناف الناس ولم يستثنِ الإمام أبا الفضل :
يا ذا المَعالي الرئيسُ ... ومَن حِماهُ خَميسُ
مجتث
ومَن ليوم وِقاه ... مِنَ الحديد شُموسُ
ومَن لنَحر قِراهُ ... عَيرانةٌ عَنْتَريسُ
مُعقَّراتٌ ومنها ... مُعَرقَباتٌ تَكوسُ
قد حكّمتْكَ الليالي ... سُعودُها والنحوسُ
ففي مَواليكَ نُعمى ... وفي أعاديكَ بُوسُ
يَوماكَ دَسْتٌ لسِلمٍ ... ويومُ حَربٍ عَبوسُ
ومنها :
يَراعةٌ أو حُسامٌ ... درّاعةٌ أو لَبوسُ
كنتَ الحَيا انهلَّ صَوباً ... ترقَّبَتْهُ الغُروسُ
فارتْجَّ منها هَشيمُ ... وثَجَّ منها يَبيس
وبعد طول حِران ... جرى الرَّجاءُ الشموسُ
فالأرضُ كالروضِ طِيباً ... إنْ قاسَها مَن يَقيسُ
كانت تَوقَّدُ قَيظاً ... والجَوُّ منه وطيسُ
فالظِّلُّ ضافي الحَواشي ... والغُصنُ غَضٌّ يميسُ
كمٌنْتَشٍ يَتَثنّى ... خافَتْ عليه الكؤوسُ
ومنها :
مُقرَّطٌ بِشُنوفٍ ... من الثمار يَنوسُ
فاسمعْ صراخَ مُعنَّى ... عَضَّتْهُ نارٌ ضَروسُ
جنتْ عليه الليالي ... ما قد حَبتْها بَسوس
من عُصبةٍ هُم ذُنابى ... وليسَ فيهم رُؤوس
ففي المناظر ناسٌ ... وفي العقول تُيوسُ (1/83)
قومٌ جَنَوا ما جَنوهُ ... بالصيف في الصوف سوسُ
ساموا جليسَك ضيماً ... ولم يُضامَ الجليس
فكلّفوه ابتياعاً ... لحِنطةٍ لن يَدوسوا
وهل لمثليَ إلاّ ... دفاترٌ وطُروسُ
من أين لي كيسُ مالٍ ... ما الْتامَ كَيسٌ وكِيسُ
وله أيضاً :
سقى الله قصراً لي بقَصْران مُونِقاً ... سَحبتُ به في اللهوِ أعطافَ مِئزري
كأنّ سقيطَ الثلجِ في جَنباته ... صفائحُ كافورٍ على طَودٍ عنبرِ
أبو محمد عبد الله بن الحسن بن النصر الهَمَداني
يقول من قصيدة نظامية له :
سقى بالحِمى أقطارَ تلك المعاهد ... قطارُ الغَوادي البارقاتِ الرواعدِ
وشَقَّ شقيقُ الرمل فيها كِمامَهُ ... كما رُفعتْ في الروع حُمرُ المطارد
يقول ليَ العُذّالُ : شَيبٌ وصَبوةٌ ... فريقانِ شَتّى ما استقاما لواحد
مُحالٌ لعَمرُ الله ما أنتَ طالبٌ ... وقَصدُ ضَلالٍ لستَ فيه براغد
لَعَمري لئن أودى الشبابُ فطالما ... خلعْتُ به عُذرَ العذارى النواهد
يُخرِّقْنَ سِترَ الخِدرِ ليس يَروعُها ... شَتيمةُ بعلٍ لا ولا زجرُ والدِ
ويمشين عَجْلى الخَطْوِ يَهزُزْنَ صَبوةً ... قُدوداً لها محفوفةً بالوِلائد
وتبدو لآلى الثغر منها كأنّها ... على العهد قد نظّمتَها للقلائدِ
يُحاولنَ إمتاعَ العيونِ بفاحمٍ ... من اشلعر غِربيبِ الخصائل وارِدِ
ويمسحنَ بالأجفان منها غُبارهُ ... ويغسلنَ عنه بالدموع الشواردِ
وإنّي وإنْ حلَّ المشيبُ بعارضي ... وزال شبابي للخُطوب الشدائدِ
فلم أشتغلْ عصرَ الشبابِ عنِ العُلا ... بمخفوض عيشٍ في البطالة بارد
وكم قد خفضتُ الطَّرفَ عن طلب العُلا ... ورفَّعتُهُ نحوَ السُّهى والفَراقِدِ
ودافعتُ أبكارَ الخطوب وعونَها ... بعزمٍ كحدِّ الهِنْدوانيّ واقِدِ
فعذْلكَ قد عرَّيتُ أفراسَ باطلي ... ولستُ لعاداتِ الصِّبا بمعاود
وله من قصيدة أخرى :
سَما بالخيل من جَيحونَ حتى ... سَقاها الريَّ من قلب الفُراتِ
وعادَلها يَرومُ الرومَ قَصْداً ... لإدراك القديم من التِرات
فجاسَ هلالها بالخيل شُعثاً ... تَواصيها تمطَّرُ بالكُماة
فكم بلدٍ أبحْنَ وكم قلاعٍ ... قلعْنَ فصِرنَ مجرى السافيات
وكم من كاعبٍ حسناءَ أمستْ ... تُفدِّيها البطارقُ بالحياة
فأضحتْ وهْيَ مُلقاةٌ لديهم ... تُنادي في الشِّرى : خُذها وهاتِ
حمزة بن أبي سعدٍ المُفتيُّ الهَمَذانيّ
بديع الزمان أبو الفضل محمد عمه . يقول في قصيدة نظامية :
بالرأي تُصبحُ ساحاتُ الحمى حَرَماً ... ويبرز العزُّ في أثوابه القُشُب
وكل أسمرَ هَزْهاز الكُعوب تُرى ... أعطافه أبداً فَرّاجةَ الكُرَب
أبو الفرج حمد بن علي الزعفراني الهَمَذاني
أنشدني الأستاذ المهذب أبو الفضل بن علي العَبديليّ قال : أنشدني حمد لنفسه :
وما أبوايَ ويجكَ أدَّباني ... ولكنْ مُصبَحٌ ومساءُ ليل
دماً بدمٍ غسلتُ وما أراني ... أُرقّعُ جَيبَ أطماري بذَيلي
وأنشدني له أيضاً :
يا مَرزبان نِداءٌ من أخي ثقةٍ : ... من يعمرِ الكيسَ يتركْ عِرَصُ خَرِبا
وله أيضاً :
جانسَ في اللُّوم ولا مثلما ... جانسَ في أشعاره البُسْتي
بُخلٌ وعُجْبٌ وحِجابٌ معاً ... أحسنتَ يا جامع فِهرِسْتِ
السيد أبو الحسن محمد بن علي
بن الحسن العلوي الهَمَذانيّ الوصيُّ
قال : دخلت على عمي الرئيس أبي الحسن وقد دخل عليه غلامٌ أمرد وناوله طاقة نرجسٍ فقال : قل في ذلك شيئاً . فأنشأت : (1/84)
ومكحَّلٍ بالسِّحرِ أحورَ شادنٍ ... حَيّا بنرجِسةٍ غَداة بُكور
فكأنه وكأنها في كفّه ... بدرٌ يُريكَ التِّبرَ في كافور
قد رُكِّبتْ فوق الزَّبَرجَدِ خِلقةً ... تحكي فُتورَ اللفظ من مخمور
وله أيضاً في البنفسج :
هذا البنفسج قد بدا ... يحكي لنا بين الرياض
في خدّ أحورَ شادنٍ ... آثارَ قَرصٍ في البَياض
أبو هاشم العلوي الهمداني
كتب إلى الصاحب إسماعيل بن عبّاد رحمة الله عليه :
سألتُ الإله الخَلقِ حَولاً مُحرَّماً ... ليصرف سُقم الصاحب المُتفضِّل
إلى بدني أو مُهجتي فاستجاب لي ... فها أنا مولانا من السُّقم ممتلي
فشكراً لربّي حين حوَّل سُقمه ... إليّ وعافاه ببرءُ مُعجَّلِ
وأسأل ربي أن يُديم علاءه ... فليس سواه مفزعٌ لبني علي
فأجاب :
أبا هاشم لو أرض هاتيك دعوةً ... وإنْ صدرتْ عن مُخْلصٍ مُتَفضّل
فإنْ نزلت يوماً بجسمكَ علّةٌ ... فحاشاك منها يا عليّ بني علي
فنادِ بها في الوقت غيرَ مُعرِّجٍ ... إلى جسم إسماعيل دوني تَحوَّلي
فلا عيشَ إلاّ أنْ تدومَ مُسلَّماً ... وصَرفُ الرزايا عن ذَراكَ بمَعْزِل
أبو سعد بن خلفٍ الهَمَداني
كان من أعيان الدهر وأفراد العصر محموداً بكلّ لسان مشهوراً بكل مكان مشهوداً لكل إنسان . وله نظم أبهى من العقود ونثرٌ أحلى من المعقود . وكلاهما أطيبُ وأطربُ من ابن الغَمام صاهرَ ابنة العنقود . وليس يحضرني في العاجل من شعره أكثر من هذه الأبيات التي لو صوِّبت لقطرت من كثرة مائها :
جَرتِ النَّوى بهم فما حَنُّوا ... رِفقاً بنا ونأَوْا فما أنُّوا
إنْ كان عندهُمُ وقد رحلوا ... أنّا نُقيم فبئسَ ما ظنّوا
لا بُدَّ منهم أيّةً سَلكوا ... إنْ أسعفوا بالوصل أو ضَنّوا
لي عندهُمُ دَينٌ فوا عجباً ... الدَّينُ لي وفؤادي الرَّهْن
أبو الفرج بن أبي سعد بن خلف
ليست تساعدني عبارة أرضاها إلا أن أقول : هو كوالده في طريف الفضل وتالده . ومن محاسن كلامه قوله :
ولي أُنمُلٌ تُغْني وتُفْني كأنّها ... مَسارُ غَمامٍ أو مُثارُ حِمام
فما انبسطتْ إلاّ لإغناء مُقْتِرٍ ... ولا انقبضتْ إلاّ لهزِّ حسام
وحكى ليَ الشيخ أبو عبد الله سليمان بن عبد الله النِّهرواني النحوي الأديب قال : حدّثني الأستاذ أبو الفرج قال : حدّثني أبو منصور بَهْرام بن ما فِنّه وزير الأمير أبي كاليجار : حبسني لعلّة خَتني بدر بن سما . وخفتُ على نفسي التلَف فكان خلاصي بعد صنع الله تعالى هذه الأبيات . وأنشدني لنفسه :
ما يُخبّر ضيفُ دارك قومَهُ ... إن قيل : كيف مَعادُهُ ومَعاجُهُ
أيقول : جاوزتُ الفراتَ فلم أجدْ ... رِيّاً لديه وقد طغتْ أمواجُهُ
ورقيتُ في طَود العُلا فتضايقتُ ... عمّا أردتُ شِعابه وفجاجه
وسعيتُ أقبِس جَذوةً من ناره ... فدَجا عليّ شهابُهُ وسِراجُه
فلئن شكرتُ تَصنُّعاً وتَملُّقاً ... شكراً يكون منَ النِّفاق مراجُه
لتُخبِّرنَّ خَصاصتي بتخرُّصي ... والماء يُخبرُ عن قَذاه زُجاجُه
عندي يواقيتُ الكلام ودُرُّه ... وعليّ إكليل القريض وتاجُه
يُرْبي على نَورِ الرُّبا أنوارُهُ ... ويرفُّ في وادي النَّدى ديباجُهُ
والشاعر المِنطيقُ أسودُ سالخٌ ... والشعرُ منه لُعابه ومُجاجه
وعداوةُ الشعراءِ داءٌ معضلٌ ... ولقد يَهونُ على الكريم علاجُهُ
وأنشدني الشيخ أبو الفرج الحَسنيلي له وهو من أحسن ما يروي في معناه :
وأنكرَ جاراتي خِضابَ ذُؤابَتي ... وهُنَّ به زيَّنَّ بيضَ الأنامل
فوا عَجَباً منهُنَّ أنكرْنَ باطلاً ... عليّ ولم يَخْلُبنَ إلاّ بباطل (1/85)
أبو الفرج حمد بن محمد
بن حَسَنيل الهمذاني
نكتة الدهور والأيام وزبدة الشهور والأعوام لفظتُه هَمذان فأعاد خراسان من نتائج طبعه لا بل من نسائج وشْيه . وقد اتّخذها وطناً ما تركها من الظلّ البَرود عَدْناً . ومن عصب البرود ولم يزل في قِيدِ إنعام الشيخ الإمام الموفّق رحمه الله حتى لحق ذلك الصدر الكبير بجوار اللطيف الخبير بعد ما فرج أبو الفرج برهةً من الدهر مصطنعاً برسمه وهو في ارتباطه والتجمُّل به موفّقٌ كاسمه . ثم ذكره وهْنُ العظم وكلال الخاطر بعلّة الشيب عن تعاطي النثر والنظم فعاد إلى الوطن الذي فيه درَج والعشّ الذي منه خرج فطار إليه بفِراخه وارتضاه لعَطنِه ومناخه . وأدرّ عليه عميد الملك أبو نصر أنار الله برهانه رسْماً أصلحَ رياسه ورقّح معاشه . ولم تطُل به المُدّة حتى امتلأ مكياله وأهابت به آجاله وزُمّت إلى المنهل المَوْرود جِماله . تعمّده الله بغفرانه وبوّأه بحبوحة جنانه . وكانت بينه وبين والدي - رحمه الله - صداقة صادقة ومودّةٌ معدّة واختصاصٌ يطلع من جيب واحدٍ رأسيهما ويُحيي بروحٍ واحدة نفسيهما . فانضافت إلى ذلك من مجاورتي إياه في المدرسة النظامية بنيسابور سنتين أنفقتُهما على الاستضاءة بزاهر درّه والاغتراف من زاخر بحره . فإذا أنا راتعٌ من مودّته بين موروث ومكتسب ومُدلٌّ منهما بامتزاج سببٍ أوْكَدَ من اتّشاح نسبٍ . وكان قليل المبالاة بشعره نزر الالتفات إليه لسهولة مآخذه عليه . وكنا نطلبه على شُرف الغَمام فنجده على طَرف الثُّمام . وكان في بيته الذي يسكنه حُبٌّ كأنّه جبٌّ يرمي إليه بمسودّاته على جزء من القراطيس بُطوناً وظُهوراً . ولم تكدْ تصلُ إليها الأيدي سنين بلْهَ شهوراً وربما كنتُ أنتهز الفرصة فأستنقع باحتجابها الغُصّة وأدرك منها بُغية الحريص وأفرجُ بها فرح يعقوب بالقميص . وقد فجعني الدهر بفرائدي منها فصارت فوائت إلاّ ما زيّنتُ به هذا الكتاب
وكان - رحمة الله عليه - سمحَ البديهة شديد العارضة يموج بها فمُه ويتسابق إليها لسانه وقلمه . وكان أكثر ما يجود به خاطره الخَطّار مقصوراً على الافتخار وحُقّ لمن خُلق من صَلصالٍ كالفَخّار ثم حُلّي بشعارٍ مثل تلك الأشعار أن يخْرقَ الأرضَ أو يبلغ طولاً ويعدّ فضل الفضلاء بالإضافة إليه فُضولاً
وهذه قصيدة له مدح بها الشيخ الإمام أبا سهلٍ محمد بن هبة الله الموفّق وأودع أثناءها ثناءً للشيخ الإمام أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجُويني رحم الله الماضي وأيّد الباقي :
مجدٌ على مفْرقِ العَيوق كالتاج ... ومنصبٌ كالثريّا جِدُّ وهّاج
وطَودُ عِزٍّ تَطولُ النجمَ قِمّتُهُ ... ويَزحَم الفَلَكَ الأعلى بأثباجِ
وشرقُ شمسٍ عُلاً تَجلو أشعتها ... جُونَ الخُطوب وغيثٌ أخضرُ الراجي
مُقابَلاتُ عُلاً في بيت مَكْرُمةٍ ... كالزَّهْر يُقرنُ أفراداً بأزواج
بيتٌ تردَّدَ فيه سُؤددٌ عَجبٌ ... والخَلقُ بين سُلالاتٍ وأمشاجِ
للدين طينتُهُ والعِلمِ صَخرتُه ... وللعُلا رُكنُه والحِجرُ لّلاجي
هذا الموفَّقُ في علياء سُؤدُدِهِ ... يذْكو كبدرِ الدجى في الغَيهَب الداجي
ساد الأئمةَ والأعيان مُقتبلاً ... من قبل أنْ مسَّ مسكٌ صفحة العاجِ
ثم الرشيدُ ابنُهُ ساد الورى شَرفاً ... لا يُرتَقى جوُّه إلا بمِعراج
وهِمّةٍ عالتِ الجوزاءَ قاهرةٍ ... وأين منطقُهُ من ذِروة التاج
يَحيا به أمل العافي إذا ازْدخرتْ ... يمينُه كبحورٍ ذاتِ أمواج
عِرضٌ طهورٌ بعطر المدح مختمرٌ ... وربَّ عرضٍ تراهُ عُرضةَ الهاجي
ما إنْ رأيتُ سواهُ سائلاً كرماً ... إنْ يسألوه تَلَقَّ الحاجَ بالحاج
مُهرٌ نَماهُ عَتيقٌ فَردُ غائبةٍ ... راضَ الزمان بإلجامٍ وإسراج (1/86)
أيامه عُرفتْ فيها رئاستُهُ ... كجدول التبر يَسقي روضَ ديباجِ
ثَناؤه ومَواضيه ونِعمتُهُ ... حَليٌ لأيدٍ وأعناقٍ وأوْداج
فالبيتُ بيتُ عُلاً والكفُّ كف ندىً ... والنطقُ نطقُ بليغِ الفضل مِحْجاج
وَقْتاهُ وقتُ ندىً تَنْدى غَمامَتُهُ ... ووقتُ بأسٍ يُغشِّيه بإرهاج
يستنفدُ الوصفَ في أدنى مناقبه ... ويملأ الثَّنيَ من صُحفٍ وأدراج
مآثرٌ كاثَرتْ حَصْرَ النَّقا ومحتْ ... آيَ الدُّجى وارتقتْ أعرافَ أبراج
وغُرّةٌ مثل أنفِ الرعنِ شامخة ... في بحر جودٍ صَخوبِ اللُّجّ عَجّاج
مِن معشرٍ كأنابيب القَناة سَمتْ ... بكفِّ قارع حِصنِ السابق الناجي
ومنها :
ألستَ نَجلَ فتىً سَحّابِ أرديةٍ ... دَخّالِ نقْعِ مِصاعٍ منه خَرّاجِ
لا يوصَفُ العبدُ في أحشاء بَدْوتِهِ ... ولا تحمُّل أظعانٍ وأحداجِ
ومنها :
هذا الكلامُ الذي تَذْكو غَزالتُهُ ... يغشى سَنا البدرِ في طَرْف الدُّجى الساجي
فخُذْهُ كالفجر وضّاحاً مُقلَّدُه ... تِربَ التربية من بيضاءَ مِغْناجِ
قال يرثي الشيخ الإمام أبا محمد عبد الله بن يوسف الجُويني رحمة الله عليه :
علومٌ عَلَتْ أعلامها غَبَراتُها ... وأعينُ أعيانٍ طَغَتْ عَبَراتُها
وأفلاذُ أكبادٍ من الفضل فُتِّشَتْ ... فُدلَّ على تفتيتها زَفَراتُها
نبا بليوثِ الغاب عُقرَ غُيولها ... وأُخْليَ من عُفر الفَلا سَمراتُها
أبى اللهُ عزَّ الله إلاّ تَنَقُّصاً ... من الأرض حتى استُقلعِتْ شَجَراتُها
تَداعتْ مَباني الدينِ وانهدَّ رُكنُهُ ... ودُهْدِهَ من أطوادِهِ صَخَراتها
وغارَ ضياءُ الشمس فانكسفتْ لهُ ... شموسٌ وأقمارٌ خَبَتْ شَرَراتها
أرى عُصباً تيجانُها قد تَقَوّضتْ ... وقد عصَبتْها بالثرى غَبَراتُها
وأوجهَ أقوامٍ كرامٍ على العُلا ... وقد رَهَقتْها فجعةً فَتَراتُها
إذا شَقّقَتْ أجفانَها عَبراتُها ... تَشقَّق عن أبدانها حَبَراتُها
عَلا الحَبْر عبد الله صهوة سابقٍ ... قوائمُهُ من معشرِ قَصَراتُها
وإنّ قلوباً قُطِّعتْ لوفاتِهِ ... كَوَتْها على تَقطيعها حَسَراتها
ذَوتْ دَوْحةُ الإسلام والعلم والعُلا ... بمَصْرع مَن جذَّتْ به ثَمَراتُها
هوى نجمُها العالي وأظلمَ جَوُّها ... ومادت رواسيها ومارتْ كراتُها
ألا من لحَفلٍ نَدَّ منهُ لقد خلتْ ... نَوادٍ وعادتْ غَيبةً حَضَراتُها
سلامٌ على المِنطيقِ في شُبُهاتها ... إذا ما رجالٌ عاقَها حَصَراتُها
برغم النَّوادي والمَجالسِ رُنِّقتْ ... موارِدُها وارتدَّ مِلحاً فُراتُها
برغم الفَتاوى والمدارسِ هُوِّرتْ ... خواطرُهُ واستُنزفَتْ خَطراتُها
برغم العلا والدين والعلم والحجى ... ثوى البدرُ والبيضاءُ ضلّتْ سَراتُها
فيا وَيبَ أحداقٍ طُمسْنَ بأدمعٍ ... غِزارٍ تَدَمَّتْ حُرقةً قَطَراتُها
ويا ويحَ أقدامٍ عَثَرْنَ لفَقده ... فلمّا استقالت ثُبِّتتْ عَثَراتُها
فجائعُ سالتْ بالخدود دماؤُها ... كذا وتَهاوتْ في الحَشا جَمراتُها
لَخفَّتْ مثاقيلُ الرجال وأضلَلَتْ ... حُلوماً وطاشَتْ بعده وَقَراتُها
وكان إذا ما حرّرت كلماته ... معانيَ لم تَرقُمْ سطوراً قُراتها
وما ذاكَ فَهمُ المُستفيدِ وإنّما ... سَنا نورِ تفهيمِ المفيد مِراتُها
ومنها : (1/87)
لربّ بدورٍ عُجّرتْ بدياجِرِ ... وربَّ خُدورٍ هُتِّكتْ خَفَراتُها
فمن فَتَياتٍ نُطِّقت بذوائبٍ ... ومن فتيةٍ مسَّ الثَّرى وَفَراتُها
ومن أعيُنٍ غُضّتْ وكانت عَليّةً ... تُشاوسُ ألحاظَ الدُّجى نظراتها
ومنها :
أساغتْ بُطونُ الأرض سودَ أُسودِها ... ولقد لُفظت فوق الثَّرى حَشَراتُها
فكُنْ للمعالي يا أباها بُعيدَهُ ... حُساماً تجدْ عنك العِدا وَتراتُها
وما للمنايا عن عِدىً وأقاربٍ ... مراحٌ إذا عاد الورى سَكراتُها
عزاءً على الدنيا وصبراً على الردى ... إذا ما دَواعيه عَلت نُعَراتُها
تنكّرتِ الأيامُ لا بل تنكّستْ ... فقد شابَهت آصالَها بُكَراتُها
ألا فليرثِ نَجلُ الإمام وصِنوُه ... بقايا عُلاً تُحْوى بها أثَراتُها
وما بعدُ عبدِ الله إلاّ لنَجْله ... وسائدُه فلتحْوهِ فغَراتُها
إذا ما خلا الميدانُ عن قُرح الوَغى ... أُقيمتْ على مضمارها مُهراتُها
ومما أنشدني لنفسه قوله من فخريّة :
يا لَلْوزارةِ ما لي لا أغضُّ بها ... وما لها لا تُعلّى أو تشرَّف بي
وهذه مبالغة حسنة ومن عجيب ما سنح من فخرياته تخلّصه من صفة البُرغوث والبَقّ إلى نوعٍ من فخره المستحقّ في أُرجوزةٍ له يقول فيها :
رقْصُ البراغيثِ وزَمرُ البقِّ ... في مُفحصٍ مُخصَّصٍ بالذَّرْقِ
يَرعَينَ بين أخمصي والفَرقِ ... لحماً جَرتْ فيها دماءُ العِتقِِ
ومن فخرياته الحسنة قوله مما أنشدنيه لنفسه :
لئن كان حظّي منكَ أني مُخوَّلُ ... لحظُّك أُثني إذ تجودُ وأٌقبل
فقد نلتَ منّي رُتبةً لا تُناولها ... ذُكاءُ تُعاطيني السَّنا فأُطلَّل
ومنها :
مشتْ فيَّ أحداثُ الليالي كأنّها ... سُيولُ حَريقٍ في الإباء تغلغَلُ
أجوعُ وأظْما عِفّةً وتَكرُّماً ... وقد ضَجَّ بي وادٍ وغَطْغَطَ مِرجلُ
مَكارمُ خاطتْها العُلا بجلودنا ... فما هيَ عن أبشارنا تتنقَّلُ
وأنشدني لنفسه من غزلية :
ما هيَ إلاّ لطخةُ الغاليهْ ... وهْيَ لَعَمري لطخةُ غاليَهْ
اُنظرْ إليها كدُجى مِسكِهِ ... في ضوء شمس الضَّحوة العاليهْ
وحولَها من صُدعه عَنبرٌ ... كالعُذَر السودِ على الغاليَه
وهْي على مذهبنا قِبلةٌ ... للقُبَل العاطرة الحاليَه
فبوركتْ خِلقةُ تَضميخه ... لم تَمْتَهِنْها أُنملُ الطاليَهْ
قد خَطرَ الشوقُ على باليَه ... إثرَ رُسومِ الصَّبوةِ الباليَه
وشَوقُ قلبي بجُنون الهَوى ... نَشوانُ لا يعرفُ ما حاليَه
وأنشدني أيضاً لنفسه من غزلية :
أميرُ الحُسنِ لا يَلْوي عَزيمَهْ ... ويقسمُ في ضَرائره الغَنيمةْ
وما ذا ضَرَّهُ لو أنّ لامي ... يُغزلُ في خِلال المَشْقِ مِيمَه
وقال وُشاتُه : لم تَحظَ عنهُ ... وقد ثقَّبت درَّتَه اليتيمَهْ
وله أيضاً من حادثة في بعض الغِلمان :
إنّ الكَرنَديَّ رُوشناً خُرَّه ... في غِلْمةٍ وجهُهُ لَهُم غرَّهْ
فخيِّطوا بالعُقار مُقلتهُ ... ومَزَّقوا لا وثَقِّبوا درَّه
قلت : ما أحسن استدراكه اللفظة الفاحشة مع جمعه بين ضدّي التخييط والتمزيق !
وهذا من باب التوفيق للتلفيق . وكتب إلى القاضي أحمد بن منصور بن محمد الآزدي الهَرَوي يعاتبه وبينهما محاوراتٌ ومكاتبات :
الذَّنبُ لي لا لمنصورٍ وللكرمِ ... أنا المضِّيعُ يا ذِيبَ العُلا كَلِمي
ناسَمْتُه فتَلقَّتْني سمائمُهُ ... ليتَ الجَفاء كفاءٌ منه للنِّعَمِ
وله في غلامٍ أورد الماء مُهرا
وظبْيٍ أوردَ الماءَ ... غزالاً حاليَ النَّحر
فأبصرتُ غزالينِ ... مَرُحينِ إلى النهرِ (1/88)
وتاها بعِذارينِ ... من العنبر والتِّبرِ
فلمّا نَزلَ الأقَمّ ... رُ للريِّ إلى النهرِ
نحا الأظمأُ للرِّدفِ ال ... لذي برّح بالخَصْر
فنادى يا فتى عَرِّجْ ... وعوِّجْ طَلَقَ السَّهري
فلبَّيتُ بُغاماً زَلْ ... لَ عن خمرٍ وعنْ دُرِّ
وله من قصيدة فخرية أولها :
بَريقٌ بأنفِ اللِّوى يَعْتلي ... كما دُمِّيَتْ طُرّةُ المُنْصُلِ
قلت : عدَل في هذه الكلمة عن الفخر إلى الطرد واتّفق له معنىً ما سمعتُ بمثله في فنّه وهو قوله :
تَبارى على طائرٍ أجْدَلانِ ... تَناوبُ دَلْوَيْنِ من مَنْهَلِ
أبو المفاخر حمد بن علي النَّيرمانيّ
كنيته أبو الفرج ولقبه ذو المفاخر . أنشدني الشريف أبو محمد ابن عبد الله الأنصاري قال : أنشدني الأستاذ الشريف أبو المفاخر لنفسه وقد عُيّر أنه أعجميّ جَودةِ شعره :
فإنْ لم يكُنْ في العُرْب أصلي ومنصبي ... ولا من جُدودي يَعرُبٌ وإيادُ
فقد تَسجعَ الوَرقاءُ وهْيَ حمامةٌ ... وقد تنطقُ الأوتار وهْيَ جَمادُ
قال الشريف أبو طالب : ونَيرمان صيغةٌ خسيسةٌ بظاهر همذان . قال : وسألتُ الأستاذ أبا المفاخر عنها فانصبغَ وجهه من الخجل حتى عاد كأنه أيْدعُ وأنشدني أيضاً له قال : أنشدني لنفسه :
حِجابٌ وإعجابٌ وفَرْطُ تصلُّفٍ ... ومدُّ يدٍ نحوَ العُلا بالتكلُّفِ
فلو كان هذا من وراء كِفايةٍ ... لَهانَ ولكنْ من طريق التَّخلُّفِ
أبو الحسن عليّ بن الحسن
الحَسَنيّ الهمذاني
أنشدني له الشيخ أبو عامر الجُرجانيّ :
ويومَ تولّتِ الأظعانُ عنّا ... وقوّضَ حاضرٌ وأرنَّ بادِ
مددتُ إلى الوداع يداً وأخرى ... حَبستُ بها الحياة إلى فؤادي
أبو الحسن علي بن الحسن بن علي الوقفي
من كَرَج أبي دُلَف رأيتُ له ديوان شعر كبير الحجم فاخترت منه هذه الأبيات على حد عجلةٍ مني . وأنا مستوفزٌ لبعض نهَضاتي استيفاز البدوي المُصْطَلي الشاتي وهي :
أدهِقِ الكأسَ من سُلافِ مُدامِ ... بقيتْ في الدِّنان من عهد سام
خَنْدَريساً كأنّما أسكنوها ... بالخَوابي حَواصلاً للنَّعام
واسْقِني بالكبير سَقياً وقصِّر ... من ليالٍ في الطول كالأعوام
طوَّلَ الاثنان مداهُنّ كونُ الش ... مس في الشمس واشتدادُ أُوامي
فإذا ما توسَّطَ السُّكرُ قلبي ... والبَّواطي دَبَبْنَ بين عظامي
فأجدْ ضَربَك المَثاني وغَرِّدْ ... لي ببيتٍ يَطيبُ للمُسْتهامِ
يا نسيمَ الجَنوب بلّغْ سلامي ... مَن بكفَّيه صحّتي وسَقامي
وله أيضاً من أخرى :
تمَلَّستُ من دار الهَوانِ تملُّساً ... بأجردَ مبسوطِ الخُطا شَنجِ النَّسا
أغرُّ سرى كالبرق جَذْلان خِيفقاً ... فحيَّر أبصاراً وأعجَبَ أنفُسا
عَلوتُ صباحاً ظهره من قُباقبٍ ... فصِرتُ مع البيضاء في الغرب بالمَسا
ومنها :
ولم أرضَ بالإفلاس إلاّ لأنني ... رأيتُ من الأحرار دَهْريَ مُفْلسا
فأكبرتُ نفسي أنْ أذِلَّ لموسِرٍ ... تمهَّرَ في حِفظ الغِنى وتنطَّسا
وله من خمرية :
تبسّم الصبحُ بالآفاق من فَلَقِهْ ... وباتَ جنحُ الدُّجى عَجلانَ من فَرَقِهْ
وصَفَّقَ الديك أُنساً بالذي لقيَتْ ... عَيناه من دُهمةِ الإظلام من بَلَقِهْ
فهاتِ صَفْوَ مُدامٍ صَحْنُ مجلسِنا ... يَفوحُ مِسكاً إذا ما صُبَّ من عَرَقِهْ
وله أيضاً :
أمسكٌ أم عِذارٌ قد تبدَّى ... حَوالَيْ بَدرِ غُرَّتِك المفدّى
أم اجتُليَ الجمالُ عليك غُفْلاً ... فحُكتَ له طرازاً مُستجدّا
أبِنْ ذا لامرئٍ لم تُبقِ قلباً ... له يتحقَّقُ الأشياءَ جَدّا
ولم أتفرّغ إلى أن أُنعم النظر في قصائده فالتقطتُ شُذوراً من قلائده (1/89)
المُشطَّبُ الهَمَذانيّ
له أشعار سخيفة نسج فيها على منوال ابن الحجّاج وأين الحدقة من الحِجاج فمنها قوله :
رَضيتُ من الزمان بما دهاني ... ومكّنتُ الحوادثَ من عِناني
وطِبتُ بسيرة الأيام قلباً ... وقلبي في يد الأيام عانِ
فقلْ للدهر : لا تعجلْ بأخرى ... كفاني من صُروفكَ ما أُعاني
كفاني غُربتي ورزوح حالي ... وأنّي مُغرمٌ بهوى الغَواني
بُليتُ بخَلَّتيْ شينٍ وحُمقٍ ... وأيرٍ مثل نخلة جيسوان
جَموحٍ لا يُنَهنِهُهُ عِنانٌ ... إذا ما هاجَ كالفحل الهِجان
أهُمُّ بأنْ ألُيِّنّهُ بكفّي ... فتقصُرُ عنه أطرافُ البَنان
فلمّا أنْ عَييتُ وعيلَ صَبري ... دَببتُ إلى ابنةٍ للخانِبانِ
إلى خَودٍ خَدَلَّجةٍ رَداح ... تَحوزُ بحسِنها قَصَبَ الرِّهان
وفوقَ البَظْرِ بُستانٌ صغيرٌ ... يَفوحُ به حشيشُ الزَّعفران
كأنّ القملَ والبُرغوثَ فيه ... خَنازيرٌ بغَيضَة بابلان
فلمّا بتُّ متَّكئاً عليها ... بأيرٍ قد تَهيّأ للطِّعان
تنبَّهتُ القُحيبةُ ثمّ صاحتْ ... أبابا زودَ تاماً بِرَهاني
فهبَّ الشيخُ مذعوراً كئيباً ... وصاح لوقته بأبي فُلان
وقال من التعجّب : وا مِنى زِينْ ... كِه من نَبُرَّدْ اِينْ أيرجَ كماني !
محمد بن منصور بن علي الكَرَجيُّ
يقول من قصيدة نظامية :
أراكَ سيفاً لهذا المُلْكِ منصلِتاً ... يهزُّه لكفايات المُهمّاتِ
ذَكاءُ ذهنِك يُبدي كلّ خافيةٍ ... فهْوَ الطَّليعةُ في كلّ الخَفيّاتِ
أبو الحسن علي بن أحمد الكَرَجيّ
هو مؤدِّبُ الشيخ الرئيس أبي المقدّم الموفّق بن محمد بن هبة الله . أنشدني لنفسه بنيسابور :
ناحتْ مطوَّقةٌ وهْناً على فَنَنِ ... فهاجَ لو نَوحُها شَوقاً إلى سَكَني
فبتُّ أُسعدها والدمع يُسعدني ... مثل اللآلي مع العِقيان في سَنَن
ولستُ أخشى لجِسمي صَرفَ دائرةٍ ... إذ ليس يُدرك جسمي ناظرُ الزمن
ولا أخافُ الرَّدى من بَعدِ مُعتقدي ... أنّ المنيّة رامتْني فلم تَرَني
أبو الحسين علي بن محمد الهَمَذاني
هو منذ خمسين سنة مقيمٌ بخُراسان وعهدي به وأنا في عُنفوان الحَداثة قُطباً لمجلس تدريس الإمام ركن الإسلام أبي محمد الجُويني رضي الله عنه - . وعليه تدور رحى الجماعة ممّن يتقرّبون إليه بالتلمُّذ والتِّباعة . وهو الآن بِنَسا يفيد المختلفة إليه . وهو من بين أئمة الحديث منصوصٌ عليه وربّما يتفكّه بشعرٍ خفيف الروح
كتب إلى القاضي أبي جعفر البحاثي وقد ندب شعراء نيسابور لوصف عنّه وتشبيهه بالمصْل وسبب ذلك أنه أراد انفضاض المُرْد من حوله وقصد تنفير ظباء الأنس عنه فقال أبو الحسن :
راسلني القاضي أبو جعفرٍ ... مُعاتباً بالكَلِم الفَضْل
في صِبيةٍ أنتابهمْ ساعةً ... لغير ما شُغْلٍ سِوى الهزْلِ
وها أنا سلّمتُهم كلَّهُم ... منه بلا مَنَّ ولا مَطل
والشرطُ فيما بيننا أنّهُ ... يَطوي حديثَ الأيرِ والمَصْلِ
وكتب أيضاً إلى القاضي البحاثي يذكر قوماً زاحموه على عِلقٍ كان يُحبّه :
يا لائمي كُفَّ عن مَلامي ... فاللَّومُ من عادة اللئام
مخلّع البسيط
لا ينجَعُ اللومُ في مَشُوقٍ ... مُعذَّبِ القلب مُسْتهام
يا قاضياً ما له عَديلٌ ... في الفضل من جُملة الأنام
أصِخْ مُصيخاً إليّ واسمعْ ... دَعوايَ صِدقاً على غُلام :
أتيتُكَ اليوم مستجيراً ... من جَور آبائه الطَّغامِ
علّقت من راذَكانَ خِشفاً ... وليسَ لي فيه من مَرامِ
سوى حديثٍ إذا التقينا ... ورَدَّ فرضٍ من السلام (1/90)
فازدحموا كلهم عليه ... واقترعوا فيه بالسهام
فظلّ سَهمي لشؤْم بَخْتي ... قد ضلّ من كَثرة الزِّحام
فازَ به بُرهةً خَبيثٌ ... والقلب من ذاكَ في اضطِرام
فلم يَزالا كذاك حتى ... أحاطَ بالأعْور انتقامي
هامَ على وجهه طَريداً ... من مجلس العالم الإمام
فاقْضِ أبا جعفرٍ فإني ... أفديكَ من حاكِمٍ هُمام
سَلْ هاتفَ الجِنِّ عن جَوابي ... يُجبكَ بالوَحْي في المَنام
وعِش كما شئتَ في سرورٍ ... منعَّمَ العيش ألف عام
أبو القاسم الهمذاني
أنشدني الفقيه العالم أبو الحسن علي بن أحمد الراوي قال : أنشدني أبو القاسم لنفسه :
تُعيِّرُني وخْطَ المَشيبِ بعارضي ... ولولا الحُجولُ البيضُ لم تَحسُنِ الدُّهْمُ
حنى الشيبُ ظَهري فاستمرّتْ عَزيمتي ... ولولا انحناء القوس لم يَنفذِ السهمُ
القسم الخامس
في فضلاء جُرجان واستراباذ
وقومَس ودِهِتان وخوارزْمَ وما وراء النهر
قاضي القضاة الرئيس
أبو بشر الفضل بن محمد الجُرجاني
ذكره الثعالبي في اليتيمة ولو يورد بيتاً واحداً من شعره . فكيف لا ينشر فضله وهو سَميُّهُ ولأهل أنشدني الشيخ أبو عامر الجُرجاني له قال : أنشدني لنفسه من قصيد في شمس المعالي :
لمّا تنكَّر معروف عُرفكُمُ ... تنكَّر الناسُ لي حتى ذَوو رَحِمي
وليس إلا انتظاري منكَ عارفةً ... تُغيثُ لهفانَ قد أشفى على العَدَمِ
أشيمُ عَفوكَ والآمالُ تبسُطُه ... ومَوقِفي منكَ مثلُ الأخذ بالكَظَمِ
إذا رقدتُ فإنّ الرَّوعَ في حُلُمي ... وإن أفقتُ فطعمُ الموت ملءُ فَمي
وقد ألمَّ ببيت الآخر حيث يقول :
وعلى عَدوِّك يا بنَ عم محمدٍ ... رَصَدان ضوءِ ؛ الشمس والإظلامُ
فإذا تنبَّه رُعْتَه وإذا هدى ... سلّتْ عليه سيوفَكُ الأحلامُ
وفي هذه القصيدة يقول :
لا يأمنَنْ أحدٌ طالتْ سلامتُهُ ... فالدهرُ مُغرىً بِهِ إنْ نامَ لم يَنَمِ
سَلْني فعندي من أخباره جُمَلٌ ... تُنْسيكَ ما قيلَ في عادٍ وفي إرَمِ
قال الشيخ أبو عامر : وأنشدني لنفسه :
قد يكرهُ المرءُ ما فيه سلامتُهُ ... وربّما عشقَ الإنسانُ ما قَتَلا
ولم تزلْ هذه الدنيا مُحبّبَةً ... إلى نفوسٍ سَقَتْها السُّمَّ والعَسَلا
فهذا كلام كما تراه دالٌّ على ما وراء قائله من كثرة طائله ولفظٌ يَميسُ المعنى في رقاقٍ من غلائله
ابنُه
أبو المَجْد
كريمٌ ينثرُ الدرَّ إذا أخذ القلم ومن أشبه أباه فما ظلم . ولم يبلُغني من شعره إلا ما أنشدنيه الشيخ أبو عامر له . وهو أُحصِرَ ضرورةً فانصرف صَرورةً . فممّا أنشدنيه الشيخ أبو عامر له قوله في شِكاية الزمان وأهله واستيلاء نقصهم على فضله :
أيُّ وقتٍ هذا الذي نحنُ فيه ... مُذ دَجا بالقياس والتشبيهِ
كلّما سارتِ العقولُ لكيْ تق ... طَعَ تِيهاً تَغوَّلتْ في تِيهِ
وله في معناه :
هذا زمانٌ ليس في ... ه سِوى النَّذالةِ والجَهالهْ
لم يَرْقَ فيه صاعدٌ ... إلا وسُلَّمه النَّذالهْ
قلت : لا سَلمَ الواقي في هذا السَّلم ولا ندبتُ يدُ الدهر لنذلٍ ببَذلٍ . وله أيضاً في قريبٍ منه :
لا يوحشَنَّك أنّهم ما ارتاحوا ... مِمّا جلاه عليهِمُ المُدّاحُ
فهُمُ كقومٍ عُلِّقَتْ بإزائهمْ ... بيضُ المَرائي والوجوه قِباحُ
قلت : هذا معنىً لو يُنجب مثله فكرٌ وعندي الضمان على الدلالة أنّه بِكرٌ . وله في اليأس من الناس :
خلعَ الناسُ إهاباً ... وتبدَّوا في إهاب
وأرى نَفسيَ تأبى ... غيرَ ما كان ثيابي
إنّ إتْراباً من الما ... ل بلَثْمٍ للتُّراب
ليسَ من خِيمِ كريم ال ... خِيمِ والمَحْضِ اللُّباب (1/91)
ليس بالإقبال ما نِي ... لَ بتقبيل الكلاب
إنّ باغي الرِّبحِ والخُس ... ران في باب وبابِ
تاجرٌ غيرُ بصيرٍ ... بمقادير الحِسابِ
وله في الحكمة والموعظة الحَسَنة :
وما لكَ مطمعٌ في الأمر إلاّ ... إذا ما أتكرَ الأمرَ القبيحا
فأمّا وهْوَ يجهلُ بين قُبحٍ ... وبينَ الحُسنِ فُرقاناً صَحيحا
فإنّكَ في رجاءِ الخير منهُ ... بأجواز الفَلاةِ تَكيلُ ريحا
وكتب إلى الشيخ أبي عامر :
قد أصبحَ الناس وكلّ بِهِ ... في طَلبِ الآداب زُهدُ القَنوعْ
لستَ ترى في الكلِّ ذا همّةٍ ... يهزُّه الشوقُ وفَرطُ الوُلوعْ
لكنْ تَرى حينَ قارئاً ... كالآكِلِ الشيءَ على غير جُوعْ
يَجيءُ في فضله وقتٍ له ... مجيءَ من شابَ الهوى بالنُّزوعْ
تَراهُ في أحيانه مُفْكِراً ... في سببٍ يُعجلُ أمرَ الرُّجوع
ثمَّ ترى جِلسةَ مُستوفِزٍ ... قد شُدِّدتْ أحمالُه في النُّسوعْ
ما شئتَ من زَهْزَهَةٍ والفتى ... بمَصْقلا بادَ لسَقْي الزُّروعْ
قال الشيخ أبو عامر : مِصَقْلا بادُ " بستانٌ لي كبير . وإياه عَنى الشيخُ عبد القاهر وكتب إلى الشيخ أبي عامر :
قولا لواحِدِ عصرِهِ ... فيما يَدِقُّ عنِ الصفات
ظَرفٌ ولطفُ شَمائلٍ ... وتَبيُّنٌ للمشكلاتِ
هلْ تستطيع إذا ذَهبْ ... تَ بلُطفِ سحركَ في الجهات
ألاّ أكونَ وحقِّ فض ... لك حين تلعب في الكراتِ
الشيخ الإمام أبو عامر
فضل بن إسماعيل التميمي رحمه الله الجرحاني
نادرة العصر وناقدة الدهر ورَيحانُ الروح وظَرفُ الظرف وقُرة الطرف . ولمّا قدمتُ جُرجان سنة أربع وأربعين وأربعمائة زارني زيارةً أفادتني الحُسنى وزيادة وأطلعَ عليّ جيبه رأس افضل وحلّى سَمعي جواره بأقراط الأدب الجزل . واجتنبتُ من عَذَبات أغصانه ثمار الفوائد دوانيَ القطوف واتّسعت نحوي بمكانه خطوات الجدِّ القَطوف
ولم أتوصّلْ إلى الغرض من هذا التأليف إلاّ بمعونته واستظهاره . ولم أحمّر في هذا التصنيف إلاّ بانتسابي إلى ظَفاره . وإذا سرَّحتَ فيه الناظرَ والتقطت منه الجواهر تبينتَ بتكرار ذكره فيه أنّ أكثر دُرره من نثار فيه . فممّا كتبت إليه قَولي المرفرف بجناح الشكر عليه فيما جثّم خَطَواته من الاختيال إليّ وخَطَراتِه من الإقبال عليَّ :
تَميمَتي من كُرَبي فَضلُ الفتى ال ... فضل بنِ إسماعيلَ التَّميمي
لو لم يَزُرْني كان قلبي ضَيِّقاً ... سَوادُه مثلُ بَياضِ المِيمِ
وما أصدق لهجةَ الإمام عبد القاهر في صفة ظَرفه الظاهر للبادي والحاضر :
إذا ما شئتَ أن تظ ... هرَ في بَهجتكَ الجدَّهْ
وأنْ يُعطيكَ الوَصلَ ... سُرورٌ تَشْتكي صدَّهْ
وتَلْقى ظُلَمَ الوَحش ... ةِ ولّتْ عنكَ مُرتدَّهْ
وأنْ تَنْفي عَنْ أجفا ... ن عينَيْ قلبك الرَّقدَهْ
ففاوِضْ مَن إذا فاوضْ ... تَ أورى خاطرُ زَندَه
وصادفْتَ بحُسنِ الفَهْ ... م في نظرته وَقْدَه
وألفَيتَ منَ الإدرا ... كِ ما تطلبه عندهْ
فلمْ تجْفُ عنِ المغْنى ... ولم تَشكُ لهُ ردَّهْ
ولكنْ تجِدُ التوفي ... قَ فيه قاصداً قصدَه
هو الفضلُ بن إسماعي ... لَ لا تَرجُ فتىً بَعدَهْ
وله أيضاً فيه :
ما أبو عامر سِوى اللطف شيءٌ ... إنّه جُملةٌ كما هو رُوحُ
كلُّ ما لا يلوحُ من سِرِّ معنىً ... عندَ تفكيره فليسَ يَلوحُ
فهذا هو المدح اللائق بالممدوح بالفائز منه نسيم الفار المذبوح المستغني عن الاستغفار منشده الموصوف بصدق المقال منشئه . وأنشدني أبو الشرف عماد بن علي بن هِنْدو ابنه أبي الفرج فيه : (1/92)
هذا سُروري بأبي عامر ... مُغرِّقي في لُجّهِ الغامِرِ
فتىً إذا جاراهُ في مَفْخَرٍ ... مُساجلٌ خاطَرَ بالخاطِرِ
النثرُ جسمٌ وهْوَ روحٌ له ... والنَّظمُ عينٌ وهو كالناظر
فممّا أنشدني لنفسه من شعره الذي يغدو ويروح ممتزجاً بالروح قوله في الغزل :
نفسي الفداء لشادنٍ ... بَلْواه عِنْدي تُستحبّْ
فإذا بَلوتُ خِلالَهُ ... فالماءُ يُشربُ وهْوَ عَذْبْ
وإذا نَضوتُ ثيابه ... فاللوز يُقْشَرُ وهْو رَطْبُ
وقُصارُ وَصْفيَ أنهُ ... فيما أحِبُّ كما أُحِبُّ
قلت : هذا والله وصفٌ تتطلّع إليه الأحداق وتتحلّب عليه الأشداق وله أيضاً :
صَبحتُ مَعهدَ أُنسي ... أرومُ تَرويحَ نَفْسي
فحينَ وافيتُ قالوا : ... قد فارقَ الشيخُ أمسِ
فأظلمَ اليومُ عِندي ... وكدتُ في الحال أُمْسي
فيا مَسَرَّةَ قلبي ... ويا هِلالي وشَمسي
أتستجيزُ فِراقي ... من دون تَزويد أُنسِ
وأنتَ أنتَ ووُدِّي ... ما قدْ علمتَ وبَسّي
الشيخ الرئيس
أبو المحاسن سعد بن محمد بن منصور
الإمام المختلف إليه والهُمامُ المُتَّفق عليه . لم تُخرج فتىً مثله الفَتَيان ولم ترَ العيون نظيرَه في الأعيان . واتّفق أنّي خيّمتُ في معسكر السلطان الشهيد طُغْرِلْ بك رضي الله عنه بظاهر جرجان . وكنتُ يومئذ مُرشَّحاً لديوان الرسالة وموشَّحاً بجشمة الكتابة . والوزير رئيس الرؤساء الصاحب أبو عبد الله الحسن بن علي بن ميكائيل يَجذبُ بضَبْعَي من بين نُظَراتي ويَخُصّني بالرعاية والعناية من بين أكفائي
ولعلّ الرئيس أبا المحاسن رحمة الله عليه كان سمع بخَبَري أو وقف على أثري فحَضَرَ ديوانَ الوزارة ودلّتْه الفِراسة عليَّ فقسم طرْفه بين طَرَفيّ وهو متردِّدُ الرأي بين الشكّ واليقين متشعِّبُ المذهب بين التحقيق والتخمين . فابتدأتُهُ بالسلام وقمتُ ماثلاً أمام ذلك الإمام وقلت : " أنا ذاكَ الذي ظننتَ وأنت في صدق الفِراسة أنت . فأقبلَ عليَّ وقبَّل بين عينَيْ " وقال : " مرحباً بقادم له عندنا محلّ الإخاء " فقلت : " قادمٌ ولكنْ بالخاء " . فتعجّب من حُضور جوابي وأُعجبَ بي وبآدابي وأثنى عليّ في ديوان الوزارة بما طرّزَ به كمُِّ جاهي وقَدْري شرح للرأي الصاحبي من أحوالي ما انشرح له قلبي وصَدري . وزُرته في مقرِّ عزِّه بجُرجان من الغد ورتَعْتُ عنده في ظلّ الرَّغَد . وتجاذبنا أهداب المذاكرة بياضَ نهارنا وشِطراً من سوادٍ ليلنا ؛ وجرى بيننا من الفوائد ما تخيّرتْه الغَواني لأوساط القلائد . ومدحته بعد ذلك بقصيدة دالية مطلعها :
عجبتُ لطيفها أنّى تَصدّى ... وأومضَ بالتواصُل ثم صَدّا
نصبتُ لصيده أشراكَ نَوْمي ... وصاحَ الانتباهُ به فَندّا
هو الطاووسُ زِيّاً واخْتيالاً ... ولكنْ كالقَطا ليلاً تَهدّى
فلمّا بلغتُ هذا البيت قال : " ما أحسن ما جمعتَ في المعنى بين هذين الطائرين ؛ قد طيّرتَهما على ألسنة الرُّواة سائرين " وتخلّصتُ إلى المدح فلمّا سمع قولي فيه :
عَلا هِمَماً فليس يَهشُّ إلاّ ... إلى قُرصِ السماء إذا تغدّى
هزَّ إليَّ مَلاثَ العِمامة وشهد لي في الصنعة بالإمامة . حتى انتهيتُ إلى قولي :
مِنَ القوم الذينَ إذا استُمدّوا ... نَدىً فَضَحوا الخِضمَّ المُستمَدّا
فَلا وَدُّوا ارأسِ العِزِّ شَجّاً ... ولا شَجّوا بدار الهُون وُدّا
قال : هذا مقلوبٌ ترتاح إليه أسماعٌ وقلوبٌ . واتّفق أتي أنشدتُ هذه المِدحة في الجامع بجُرجان بعد الانتقال من المكتوبة وانقضاء المجلس المعقود للنظر ومن الحاضرين هناك الشيخُ أبو عامر أدام الله فضلَه وهو المعنيُّ بكلامي ؛ بمْشُط أصداغه ويخلُطُ أصباغه ويُعمّر بلسان التحسين نَواحيه ويخلَّقُ بأنشام التَّزيين أقاحيه (1/93)
وليس بين الساعة وبين عرض بَزّه ونشْر طَرزِه إلاّ كالوقْت بين الوِرْد والقَرَب . وسيردُّ عليكَ من محاسن أشعاره ما تفخر به دواوين العرب . فممّا أنشدني الشيخ الرئيس أبو المحاسن رحمه الله لنفسه قوله من كلمة له :
وليلةٍ نُتجَ البدرُ التّمامُ بها ... من الضِّياء صباحاً ساطع النُّورِ
ساقَيتُ كأساً من التَّسهيد أنجُمَها ... فجرَّرتْ ذيلَ سُكري أيَّ تَجريرِ
كم قلتُ حين جَرَتْ خيلُ الصِّبا خَبباً : ... يا لَلجياد التي تَحكي الصَّبا سيري
عَمْرُ العُلا أنّني أسْمو سَماوتَها ... وإنْ أعذَّرْ فإنّي غيرُ معذورِ
ما عُذرُ مَنْ أمكنتْهُ في العُلا فُرصٌ ... فانصاع يجري إلى عجزٍ وتَقصير
وأنشدني أيضاً لنفسه :
وليلٍ فاخِتيَّ الغَيمِ فيه ... غِناءٌ للفواختِ والقَماري
لبسْنا فيه جِلبابَ التَّصابي ... إلى أنْ رقَّ جِلبابُ النهار
ونثره يربي على نظمه في قُربه من الأفهام وبعده عن المَرام :
كذاكَ الشمسُ تبعُدُ أنْ تُسامى ... ويَدنو الضوءُ منها والشعاعُ
الإمام أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن
اتفقتْ على إمامته الألسنة وتجمّلت بمكانه وزمانه الأمكنة والأزمنة . وأثنى عليه طيبُ العناصر وثُنيتْ به عقود الخناصر . فهي فردٌ في علمه الغزير لا بل هو العلم الفرد في الأئمة المشاهير . وقد أفادني الشيخ أبو عامر مما ألقاه بحرُ الفضل على لسانه ما نطَق لسان الدهر باستحسانه
ولستُ فيما فاتَني من كريم مشاهدته واشتْيار لذيذ الشهد من مذاكراته أيام أسعدتني الأيام منه بدنوِّ الدار ولفّ أطناب الخيمتين قربُ الجوار إلاّ كمنْ ودّع الماء والخُضرة وتدرّع الشُّعْثة والغَبرة وواصل الغُربة وفارق الوطن وبعُد عن مغاني للعين وشَطنَ واستسقى الدَّلْوَ والشطنَ . فلما خلّف هذه الخُطط الصعبة وشارفَ من بين سائر الخِطط الكعبة قلت : والله هذا وصفٌ تتطلّع إليه الأحداق وتتحلّب عليه الأشداق قوله :
وبُمهجتي يا عاذلي قَمرٌ ... قد شَفَّني في حبّه السَّقَمُ
فإذا جرى طَلْقاً أضرّ به ... نَفَسُ الصبا فتشوَّش اللِّمَمُ
وتطايرتْ أهدابُ مُذْهَبِه ... كَسدتْ عليها الطُّرْزُ والعَلَمُ
وقوله في معنى لم يُسبَق إليه :
عُلِّقتُها بيضاءَ طاويةَ الحَشا ... تَسْبي القلوبَ بحُسنها وبطيبها
مثلَ الشَّقائق في احمرار خُدودها ... للناظرين وفي اسْودادِ قلوبها
ومن أبكار معانيه قوله :
ونائمٍ عن سَهَري قالَ لي ... وقد طَواني حُبًّه طَيّا :
أأنتَ حيٌّ قلت : لا انتبهْ ... فالميتُ في النوم يُرى حَيّا
ومن حكمته التي لا يَجْمح السامع في حكمته قوله :
عوِّدْ لسانَك أنْ يلي ... ن على الخَطابة والخِطاب
وتعهّدَ الفِكر الجدي ... دَ بصونه في كلِّ بابِ
فتأكُّلُ السيفِ الصَّقي ... لِ بطولِ لبثٍ في القراب
وقوله :
لا تُنكرنْ حقَّ الأدي ... ب لأنْ تَعرّى من ثيابهْ
فالسيفُ أهيبُ ما يكو ... ن إذا تجرّد من قِرابهْ
وقوله :
ما في زمانكَ ماجدٌ ... لَوْقَد تأمّلتَ الشَّواهِدْ
فاشهدْ بصدقِ مَقالتي ... أو لا فكذِّبْني بواحِد
وقوله أيضاً :
تَختَّمْ في اليسار فلستَ تَلْقى ... طِرازَ الكُمِّ إلاّ في اليسار
وما نَقضوا اليَمينَ به ولكنْ ... لباسُ الزَّين أولى بالصِّغار
لذاكَ تَرى الأباهِمَ عاطلاتٍ ... وهُنَّ على الأكفِّ من الكبارِ
وقوله :
إنّي بُليتُ بحاجبٍ حَجبَ الوَرى ... بمِطالِهِ عن نَيلهِ المطلوبِ
أبَتِ الملاحةُ أنْ تُفتِّحَ جَفْنَه ... إلاّ بقَدْر تبسُّم المكروبِ
وأنشدني لنفسه من أبيات له قالها للشيخ أبي علي الحسن بن أحمد الخَوافيَّ يصف ترجُّحه للنكبة الواقعة برجله . ومن مدحَ رئيساً بالعرج فحدَّثْ عن فضله ولا حرج . ولم أسمع بمثله في فنّه : (1/94)
وقد يستقيمُ المرءُ فيما يَنوبه ... كما يستقيمُ العودُ من عَرْك أُذنه
ويَرجَحُ من فضل الكمال إذا مشى ... كما رجحَ الميزان من فضل وزنه
وأنشدني لنفسه أيضاً :
اِسترزقِ الله فالأرزاقُ في يده ... ولا تمُدَّ إلى غير الإله يَدا
وحاذِرِ الدهرَ أنْ يلقاكَ مُنفرداً ... فمُهرَقُ النَّردِ مأخوذٌ إذا انْفردا
وقوله :
أتشكو أم كذلك فالتصابي ... قَبيحٌ بعدَ شيب العارضينَ
ولا ترجُ الشبابَ يعودُ يوماً ... وإنْ نَعموا بعود القارظَيْن
قوله : " أم كذلك " اختصار تقف مطايا الإحسان هنالك
وقوله في الأوصاف :
يا رُبَّ كوْماءَ خَضبتُ نَحرَها ... بمُديةٍ مثل القضاء السابق
كأنّها والدمُ جاشَ حولها ... سَوسنةٌ زرقاءُ في شقائقِ
وقوله في معنىً عنَّ له :
سُبحان كيفَ محا العِذا ... رُ سَناءَ البَدر المُحَجَّبْ
قد كان كالظَّبيِ الغَري ... ر فصارَ كالقِرد المُذنَّبْ
وجهٌ كجَوز الهند في ... ذقْن كليفِ الجَوزِ أهلبْ
وعِمامةٍ كالدَّنِّ فو ... ق قفاً من الإدبار أجربْ
قد كنتُ أهوى أنْ أرا ... هُ وأن يُغنِّني فأطربْ
فالآنَ لا أختارُ أنْ ... ألقاهُ إلاّ وهْو يُصلب
وله في مجونٍ بالجِد معجون :
ادَّرِعِ الصبر وكنْ آخذاً بالرفق والإشفاق والخوفِ
ولا تكنْ أعجلَ من فيشةٍ ... عِنانُها أُطلقَ في الجوف
ومن أهاجيه التي تنساب أفاعيه قوله فيمنْ أهدى إليه نَزْراً وجعل مدَّ الإحسان جَزْراً :
أوجعْتُ قلبكَ إذْ أهديتَ لي مائةً ... فالله يَجزيك مني يا أبا الفَرْجِ
الضَّرطُ في ذقنكَ المنتوف شاربُه ... والأيرُ في اسْتِ أمّك المَهتوكةِ الشَّرْج
وله أيضاً :
يا ذا الذي ضافَ أبا مجدٍ ... فبات في جوعٍ وفي جُهدِ
تَغدَّ في البيتِ إذا ضِفتَهُ ... فخُبزُه في ريعة النِّدِّ
وقال يذكر غلاماً له زعموا أنه يريد أنْ يهرب على فرسه وهو من أملح ما سمعتُه :
أتهربُ معْ فرسي يا خَبيثُ ... أراحَني الله من شَرِّكا
ولستُ أظنُّكَ تقوى عليه ... وإنْ أنتَ دقَّقتَ في مَكرِكا
فإنَّ مَقيلي على ظهره ... وإنّ مَبيتي على ظَهركا
وله يهجو إنساناً ملقُوَّاً استقبحه مَلقيّاً فاتَّخذَه مَقْليّاً :
لم ترَ خلْقاً رأى الخليلَ فلم ... يَعتبْ عليه لقُبح منظرهِ
كأنه رامَ في سَفاهتِهِ ... عضَّ شَبا أذْنه بمِشْفِرِهِ
وله يهجو خَطيبَ اسْتَرابادَ :
أما تسْتحي وَيْكَ من منظركْ ... ومن سُوءِ ما شاعَ من مَخْبركْ
وتَزعمُ أنّكَ أنتَ الخطيبُ ... فلِمْ يَخْطبونَ على مِنبركْ
وله يتأسّف على مواريث الشيخ الرئيس أبي ربيعة رضي الله عنه ووقوع الوَرثة فيها وقوع السوس في الخَزِّ والسرحان في السرح مصروفةً عن مفترضاتها إلى غير جِهاتها :
برغْميَ أنْ أرى في كلّ يومٍ ... تراثَ أبي ربيعةَ في المعاصي
فشَطرٌ في مُراودة البغايا ... وشطرٌ في أباريق الرُّصاصِ
فلا في الجود مصرفُهُنَّ يوماً ... ولا في شِبعِ أيتام خِماص
ألا فسقى الإلهُ ضريحَ عمرٍو ... بَوارِقَ غيرَ مخلِفَةِ النَّشاصِ
وإنْ خلاهُمُ فينا تُيوساً ... تُناطح كلَّ يومٍ بالصَّياصي
أراذلُ حسنَ تَخْبُرُهم تراهُمْ ... وما هُم باللُّباب ولا المُصاصِ
وكانَ فسادُ مولدهم يقيناً ... من الأمِّ اللَّموحِ من الخَصاص
فقد شَمِطتْ ذَوائبُها وليستْ ... على أمرٍ سِوى فَتلِ العِقاص
إذا وَدقَتْ سمعتَ لها رُغاءً ... كما يَرغو الفقيرُ من القِلاصِ
فجَذَّ اللهُ دابِرهُم فما هُم ... سوى غيظِ الأُداني والأقاصي
وأنشدني لنفسه : (1/95)
قالوا : أبز زيدٍ وكم ... يُسئُ فيكَ المحضَرا
فقلتُ : لو أحسنَ في ال ... قول لكان أجدر
فإنّني عبدٌ لهُ ... من القديم مُشترى
لكنّهُ مُستهزئٌ ... بهَتْكِ أعراض الورى
لذاكَ قد أُولعَ بي ... يَقتاتُ لحمي من وَرا
وليسَ يدري أنّه ... مساورٌ ليثَ الشَّرى
وأنّه في نَدَبٍ ... اعظَمَ فيهِ الخَطَرا
وقد أخذتُ رُخَّهُ ... وشاهَهُ على العَرا
فليحذرِ النارَ التي ... تُسقِط هذا الشَّررا
وسوفَ يَدري أنّه ... إنِ استمرَّ في الكَرى
أيَّ عَجاجِ فتنةٍ ... ساطعةٍ قد نَوَّرا
وأيَّ فَحلِ قَطِمٍ ... أَضْجرَهُ فجَرْجَرا
وكم يُداري عُكَّةً ... مملوءةً من الخَرا
وله يذمُّ أهل نيسابور :
أرى أهلَ نيسابور كالمعدِنِ الذي ... يُنالُ الجَدا منه بحَفْرِ المَعاوِلِ
إذا فَزعوا كانوا بِغاثاً مُسِفَّةً ... وإن أمِنوا طاروا بريشِ الأجادلِ
وله في معنىً لم أعهدْ مثله في فنّه :
أقول لهُ لمّا تلبَّسَ خِلعةً ... تحَشْرجَ فيها من أُولي العلم عالمُ
رأيتُك مثلَ النَّعشِ لم يُرَ لابساً ... لخِلعتهِ إلاّ وفي الحيِّ مأتَمْ
وله أيضاً :
ألم تَرَ أني ذَممتُ الزمانَ ... لخِسّةٍ نابتةٍ ناشيَهْ
وأصبحتُ في جانبٍ منهُمُ ... كما أُخِذَ الرُّخُّ في الحاشِيَهْ
أمَزِّقُ أعراضهمْ دائباً ... كما وقعَ الذئبُ في الماشيهْ
وأدعو إلى ذمِّهم آخرين ... كما دعتِ الأبيَ العاشِيَهْ
فلَومهُمُ وهِجائي لهمْ ... لَدى الناسِ أحدوثَةٌ فاشِيَهْ
فما بهمُ حاجةٌ في البيان ... إلى سعْيِ واشٍ ولا واشِيهْ
عَبيدٌ ترى لهُمُ راكبين ... عبيداً بأيديهِمُ الغاشيه
قلت : وعلى ذكر الغاشية لي أبياتٌ في معناها ختمتُها باقتباسٍ من القرآن العظيم وهي هذه :
كم راكبٍ لم يترجَّلْ ماشياً ... وعقلُه دونَ عُقولِ الماشِيهْ
تُعجبُه غاشيةٌ يحملها ... أمامه في السُّوق بعضُ الحاشِيَه
لم يأتِني حديثُها قبلُ فهلْ ... أتاكَ يا صاحِ حديثُ الغاشيه
وللشيخ أبي عامر في صفة الرُّمّان :
خُذوا صفة الرُّمّان عنِّي فإنّ لي ... لساناً عن الأوصاف غيرَ قصيرِ
حِقاقٌ كأمثال الكُرات تضمَّنتْ ... فصوصَ بَلَخْشٍ في غشاء حريرِ
وله في معناه في النرجِس :
يا نَرجساً لم تعْدُ قامَتُه ... سهمَ الزُّمرُّد حينَ ينتسبُ
فرِصافُهُ عظمٌ وقُذَّتُهُ ... قِطعُ اللُّجينِ وفُوقُهُ الذَّهبُ
وله في معناه :
وسهمٍ من الميناء فُضِّضَ ريشُهُ ... بقُدرةِ خَلاّقٍ وذُهِّبَ فُوقُه
يُغايظُ أحداقَ الغَواني وإنّها ... تراجع إنْ قيستْ به ويفوقُ هُو
وأنشدني لنفسه في الهجاء :
كَسوكَ ثياباً لها رَوعةٌ ... فأصبحتَ تَنشَطُ أو تطربُ
وقد خَزيَ الخَزُّ لمّا علاكَ ... كما السَّكبُ أدْمعُهُ تُسكبُ
فلا تَعجبنَّ بتذهيبه ... إذا كنتَ بالفضل لا تعْجبُ
فإنّ تذاهيبَهُ تذهبُ ... وشيطانَ وجهكَ لا يذهبُ
وله في غرضٍ اقترح عليه وسُئل أن ينظم في معناه هذه القوافي :
أُمُّ عيّاشٍ فتاةٌ خُبأَهْ ... ضِروَةٌ عاديةٌ كاللَّبوهْ
زَوْلَةٌ إنْ وعدَتْنا زَوْرةً ... أنجزتْها فعليها تُكأهْ
كلّما رُمتُ مبيتاً عندها ... طلبتْ مني صعودَ المربأهْ
وإذا حاملتُها في حُجرها ... فضحتْني بصياح الحدأهْ
لو بأير الفيل نِيكتْ لن اكن ... معَ أير الفيل إلا هُزأهْ (1/96)
ما لنا لسنا نرى أولادها ... غير جِبْسٍ أو لَئيمٍ زُكَأَه
وله في المدح :
مَلَكَ المشارقَ والمغاربَ كلَّها ... بصريرِ أرقَمَ ليسَ بالمُنْسابِ
لم يَشْقَ في سَنَنِ التُّراب وإنّما ... يَستنُّ بين أناملٍ أتْرابِ
قلت : فهذه أشعار أهاجيها نوادر حارة ومدائحها غنائم باردة وأوصافها معشِّقة وغزلياتها مفسِّقة . وليس يتّسع نطاق الكتاب لأكثر مما أثبتّ . وقد أمسكتُ العينان وانصرفتُ عن الورد عطشان
البارع الجُرجاني
نصحتُ أخي وهْوَ لا يعلمُ ... وقلتُ له قولَ مَن يفهمُ :
تَعلَّمْ إذا كنتَ ذا ثروةٍ ... فبالمالِ يحسُنُ ما تعلمُ
وفي العلم زَينٌ لي درهمٍ ... وشَينٌ إذا لك يَكُنْ دِرهمُ
وقد قيلَ : علمُ الفتى حاكمٌ ... على المال والمالُ لا يحكُمُ
فقلت : مضى ذاك لمّا مَضَوا ... ونحنُ حُرِمنا ولم يُحرَموا
ترى أعلَمَ الناس في عصرنا ... يقوم لذي المال أو يخدُمُ
فقد أصبح العلمُ مستخدَماً ... على الرُّغم والمالُ يستخدمُ
القاضي أبو الحسن نوحُ بن إسماعيل
أصله من قزوين إلا أنه أقام بجُرجان درس على الشيخ أبي حامد رضي الله عنه ووليَ فضار جُرجان مدة ثم ألقى جنبه بها . أنشدني الشيخ أبو عامر له :
إذا ما بلغتُمْ سالمينَ فبلِّغوا ... تحيةَ مشتاقٍ على كَمدٍ بَرْحِ
تحيَّرَ لا يستطيع يَمضي لشأنه ... وليس يَرى عَوداً يُودِّي إلى نُجحِ
عدي بن عبد الله الجُرجاني
أنشدني الشيخ أبو محمد قال : أنشدني الشيخ أبو نصر المَتَّاح والد العميد أبي الرضا لعَدي بن عبد الله هذا :
أنا حُمرةُ الأيام وَجَناتها ... وسِوايَ في لونِ الزَّمان شُحوبُ
مَلأَتْ شَوارِديَ البلادُ كأنّها ... نَورٌ تفتَّحَ والبلادُ قَضيبُ
أبو الفَرَج المظفَّر بن إسماعيل الجُرجاني
أنشدني له أخوه الشيخ أبو عامر قال : وهو أخي وأحبُّ الخَلْق إليّ وأعزّ الناس لديَّ يعرف الفقه والأدب والحديث ويرجع إلى عفّةٍ بخْسة وسَترٍ عجيب . واللفظُ إلى ها هنا للشيخ أبي عامر . قال : فمِنْ شعره قوله في قصيدة أولها :
إنَّ سلمى لَمُنيةُ الأجفان ... ومُرادُ الهوى ومَرعى الأماني
جِيدُها للمَها وتلكَ الثنايا ... للأقاحي والثديُ للرمّان
وفيها يقول يذكر الرئيس أبا المحاسن :
مُستهينٌ بالجاهلين وأهلُ العل ... م منه بمنزلِ الإخوان
الدِّهْخُدا الرئيس
أبو الحسن كريم بن رافعٍ الحمداني
خَتَنُ الشيخ أبي الفضل العباس بن الرئيس أبي المحاسن على كريمته بجُرجان وبيته أجلُّ بيتٍ بجُرجان . وله ضياعٌ وافرةٌ ومُروَّة لا تُقرع فيها مَرْوَتُه . فمن شعره ما كتب به إلى الشيخ أبي عامر يشكو أبا الفضل بن أبي المحاسن حين لم يرعَ ذمامه ولم يرَ احترامه :
لستُ أدري ولي حديثٌ يطولُ ... ولسانٌ عن الشَّكاةِ كَليل
كيف أشكو إليكَ ما قد دَهاني ... من هُمومٍ تَضِلُّ فيها العُقولُ
لا يَرُعْكَ الذي ألمَّ بقلبي ... إنّ صبي عليه صبرٌ جميل
وحقيقٌ بمن يؤمِّل جَدوى ... باخِلٍ أن يخونَه التَّحصيلُ
قد قَنِعنا باليأس منه وقلنا : ... حسْبُنا ربنا ونِعمَ الوكيلُ
أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل الجُرجاني
قال الشيخ أبو عامر : تُوفّي هذا الفاضل في شبابه أنضرَ ما كان غُصناً وأكمل ما كان حُسناً . وكان لطيف الشمائل صادقَ المخائل قال : وأنشدني لنفسه :
ونَدمانِ صدقٍ قليل الخِلافِ ... سريعِ التَّرضِّي بطيءِ الغَضبْ
يُعاطيكَ كأساً من الأُرجُوانِ ... تُدَنِّي السرورَ وتُقْصي الكُرَبْ
إذا مُزجتْ خِلتَها زُوِّجتْ ... صفاءً اللُّجين بذَوبِ الذهبْ
وإنْ حَملتْ طَرَّقَتْ بالسرور ... فتلك المسَرّة سِبطُ العِنَبْ (1/97)
قلت : لَعَمري معنىً يكاد يُؤكل بالضمير ويُشرب ويُطلب عليه الكأس فيُطرب . وفيها يقول :
أرى الدهرَ غِمداً وأنتَ الحُسامُ ... فلا زِلتَ تَضرب هامَ النُّوَبِ
وأنشدني أيضاً قال : أنشدني لنفسه :
ولو أنَّ المكارم صِرْنَ نَفْساً ... لكنتَ لها الضمائرَ والعيونا
رأى التوفيقُ رأيكَ غيرَ شَكلٍ ... يُشاكله فصار له قَرينا
أبو مسعودٍ المظفَّر بن إبراهيم الجُرجاني
إمام مقدم في فقه أبي حنيفة رضي الله عنه وصدرٌ في الأدب كبير وبحرٌ في سائر العلوم غزير . لقيَ الصاحب واختصَّ بخدمته ثم أقام عند السيد أبي طالب الهَرَوي مدة بجيلانَ يدعو إليه . ثم انكفأ عنه إلى بلده فأدركه القضاء وهو في جَوف البحر . وممّا بلغني من شعره قوله :
أأحبابَنا بالرَّيِّ ما بالُ عهدكم ... تغيَّر حتى قيل : ليسَ لكم عَهدُ
تَبايَنَتِ الأخلاقُ منا ومنكُمُ ... فأخلاقُكم هَزلٌ وأخلاقُنا جِدُّ
وله أيضاً :
رحلَ الأحبّةُ للفراق ... فبكيتُهم بدَمِ المآقي
ما مَتَّعوا إذ ودّعوا ... إلاّ بوَجدٍ واشتياقِ
هذا فِراقٌ قد أجَمْ ... مَ فهل يكون لنا تَلاقِ
يا حَسرةً ما تنْقضي ... وجَوىً على الأيام باقِ
الله يعلمُ ما لقي ... تُ من الفراق وما أُلاقي
وله أيضاً :
أسِحرٌ بأجفانه أم خُمارُ ... ومِسكٌ بعارضه أم عِذارُ
غَزالٌ بخدَّيهِ وَردُ الجَنى ... وطَلُّ الجَمالِ عليه نِثارُ
فمِن ريقه يُتعاطى الرحيقُ ... ومن خدِّه يُجتنى الجُلَّنارُ
وله أيضاً :
دنَوتُ إليها مُستجيراً بعطفةٍ ... وما خِلتُ أنّي شائمٌ برقَ خُلَّبِ
فلم يَبدُ منها غيرُ إيماء إصبعٍ ... وإيماء لحظٍ خيفةَ المُتَرقِّبِ
فأيأسَني من وصلها رجعُ طرفها ... وأطعمني ليُّ البَنان المُخضَّب
وله أيضاً :
قَلاكَ الغواني أنْ علاكَ مشيبُ ... فما لكَ في وُدِّ الحِسان نَصيبُ
أتطمعُ أنْ تلقى حبيباً مُساعداً ... وهل بعد شيبِ العارضين حبيبُ
سقى الجِزعَ جِزعَ الوادِ من جانب الحِمى ... أجشُّ مُسفُّ الطُّرَّتين سَكوب
مَعاهدُ قَضَّيْنا بها وطَرَ الصِّبا ... إذِ العيشُ غضٌّ والشباب قَشيبُ
زمانَ رياضُ اللَّهوِ غضٌّ نَباتُها ... وعودُ التَّصابي بينهنَّ رطيب
أطعْنا الهوى العُذريَّ فيها فلم يَزَلْ ... بنا شَغفٌ عندَ الحسان عَجيبُ
نرى غَفَلاتِ العينِ ضربةً لازبٍ ... ولم نَدرِ أنّ النائباتِ تَنوب
أقولُ لصحبٍ كابَدوا عُقَبَ السُّرى ... ببيداءَ فيها للقُلوب وجَيبُ
تلفُّهمُ وهناً شمالٌ بَليلةٌ ... يعارضُها غِبَّ القطار جَنوبُ
نَشاوى على الأكوار لكنْ عُقارُهم ... ذَميلٌ بأجواز الفَلا ودَبيبُ
ألِمّوا برَبْع المُصعبيِّ فإنه ... فتىً لاقتناء المكرُمات طَروب
كريمٌ فلا دار الإقامة تُجْتوى ... لديه ولا حُسنُ الثناء يَخيب
يعُمُّ الورى فضلاً فكلُّ مَحَلَّةٍ ... بها من نَداه حائرٌ وقليب
ويهتزُّ للمعروف حتى كأنّه ... لكلّ غريبٍ يَجْتديه نَسيبُ
له سَطَواتُ تملأُ الأرضَ هَيبةً ... نكادُ لها صُمُّ الجبالِ تَذوب
ولّما استقلّتْ للإياب رِكابُه ... عَلمْنا بأنَّ المكرُمات تَنوبُ
ونادى بأعلى الصوت في رَونقِ الضُّحى ... مُنادٍ وكلٌّ سامعٌ ومُجيب
أيا جانِبَيْ جُرجان بالله أبشِرا ... فإنّ إيابَ المُصعبيِّ قَريبُ (1/98)
فجاء مجيءَ الغَيثِ الجَدْبِ هاطلاً ... وقرَّتْ عيونٌ واطمأنّ قلوب
فيا حبّذا بُشرى شَفَتنا من الضَّني ... ولله أنسٌ يومَ ذاك وطيب
الأستاذ أبو المعمَّر نعيم بن الحسن
بن المظفَّر
هذا الفاضل كما أظنُّ من فضلاء كَنْجَةَ وأُورده ها هنا سَهواً . قال :
سلامٌ عليكَ سلامٌ إذا ... أتاكَ تحمَّلَ عرفَ الشَّذا
وشَوقي إليكَ يَرضُّ العظامَ ... ويولي الجُفونَ فنونَ القذى
وطيفُك يَطرقُني للسلام ... خِلال الظلام إذا اجْلَوَّذا
فإنْ هزمتْه جيوشُ الصباح ... طِعاناً حكى مثل برقٍ غَذا
ثنى عِطفه ومضى واغتذى ... وتاهَ على الصَّبِّ واستحْوذا
يُراقبُ سمعيَ وقتَ الأذان ... فيحْذرُ نفسيَ وقتَ الأذى
نَجورُ ويَعدلُ عندَ العناق ... ويَمضي ويتركُنا هكذا
فيا حبّذا عدلُه المستلذُّ ... ويا حبَّذا حكمُه المُحتذى
وله أيضاً :
يا شادناً يتحرّى غَدرةَ الذِّيبِ ... قلِّصْ فديتُكَ من أذيال تَعذيبي
صدَقتُكَ الحبِّ من سِرِّ الفؤاد ضَنىً ... ففيم ردّي بظنِّ فيكَ مكذوبِ
فُضَّ الختامَ وذهَّبْ بالكؤوس يَدي ... فالأرضُ ما بين تَفضيضٍ وتذهيب
والجَوُّ ما بينَ أسجالِ الغَمام وتَسْ ... جاع الحَمام وتَسْكابِ الشآبيب
فمن هزارٍ عنِ الألحان مُرتجِزٍ ... ومن رذاذٍ على الرَّيحان مَسْكوب
أبو العلاء المِهْرِقانيُّ
هو من فضلاء أصبهان بالتحقيق . أنشدني الشيخ أبو عامر له قال : أنشدني لنفسه :
أيا مَن رَنا فاستأسَرتْني لحاظُه ... وما ليَ عنهُ في الإسار أمانُ
تملّكتَ فاصنعْ ما بدا لك ريثما ... يُحيطُ بنار العارضين دُخانُ
أبو سعد محمد بن عبد الرحمن
الصيدلاني الجُرجاني
قال الشيخ أبو عامر كان هذا الفاضل يُحسن الأدب لا إلى غاية . مات سنة ثلاث وستين وأربعمائة . قال : وأنشدني لنفسه :
إنَّ البراغيثَ بالليالي ... إذا توثّبنَ في القِتال
مخلع البسيط
لمُشبهاتٌ على فراشي ... بَزْرَقَطونا على المَقالي
قلت : أخذه من قول الآخر :
لو تَراني والبراغي ... ثُ بجسمي يَعبثونا
خِلتَ أنّي نائمٌ في ... بَيدر البَزْرقطونا
قال : وأنشدني الصيدلاني أيضاً لنفسه :
أرَّقَ عيني لدغُ سودٍ لادِغَهْ ... تَبيتُ في فضل دمائي والِغَه
تُصبحَ نفسي من دمائي فارغِهْ ... كأنَّ جِلدي نسغَتْهُ ناسغِه
لا تُصلحُ الفاسد منه الدابغَه
قلت : لو نسبتَ هذا الفاضل إلى الغالب عليه لسميتَه " المستغيث من البراغيث "
الأستاذ أبو الفرج بن هِنْدو القُمِّيُّ
كأنّ الفضلَ لم يُخلقْ إلا لأجله فهو أميرُ النظمِ والنثرِ بخيله ورَجْله . وقد ظفرتُ بديوانه فلم أجنحْ للتجافي عنه والتخطّي وأثبتُّه على ما فيَّ من الملال بخطّي . فكنت فيه كالغوّاص ينفرد بذاته في طلب الفرائد ويخرج من الحمأ حصى القلائد . وناهيكَ بشعره جداً وهزلاً وبنثره حديثاً وغَزَلاً
ولم أُرد أن يكون كتابي هذا من حَلْيه عاطلاً وألاّ يجود رياضه ذلك الغمامُ هاطلاً . فكتبتُ منه ما هو الماء الزلالُ والسحر الحَلال . أنشدني ابنه أبو الشرف عماد قال : أنشدني والدي رحمه الله لنفسه :
يا سَيفُ إنْ تُركْ بحاشية اللِّوى ... ثاراً جعلتُ له غراركَ غارما
أجعلْ قِرابَك فضَّةً مسبوكةً ... وأصُغْ عليكَ من الزَّبَرْجَدِ قائما
كُنْ للرؤوس فَدَتْكَ نفسي ناثراً ... كيما أكون لمدحِ نظمكَ ناظِما
هل أرضعتْك صَياقلي ماءَ الرَّدى ... إلاّ لتُرضعَني الدماءَ سواجِما
وله أيضاً :
أسِحِّي دمي يا أمَّ عمرٍ أوِ احقُنِي ... قليلٌ لدينا أنْ يُباحَ لك الدَّمُ (1/99)
إذا هوَ لم يُسفَكْ بسيفٍ فإنّني ... أُصيِّرهُ دمعاً على الخَدِّ يُسجَمُ
وله أيضاً :
خلعَ الجمالُ على عِذارك خلعةً ... خَلعتْ قلوبَ العاشقين غَراما
قد تمَّ حسنُك بالعِذار فمَن رأى ... قمراً يكونُ له الكسوفُ تِماما
قلت : وقد اتّفق لي معنىً يقربُ من هذا وذلك قولي :
وجهٌ حكى الوصلَ طَيباً زانَه صُدُغٌ ... كأنه الهَجرُ فوقَ الوصلِ عَلَّقّهُ
وقد رأيتُ أعاجيبَ الزمان وما ... رأيتُ وصلاً يكونُ الهَجْرُ رَونقَهُ
وأنشدني الدِّهخُدا أبو سعد بن علي بن سيفٍ بالريّ قال : أنشدني ابنُ هِنْدوُ لنفسه :
وعهدِ شبابٍ قد خَلعتُ جديدهُ ... على خُلَّبيَّ الودِّ غيرِ أمينِ
نَجلتُ له سرَّ الهوى وأبحتُه ... حِمى النُّصح إني ناصحٌ لقريني
إذا قلتُ قد أعطى القيادَ رأيتُني ... ألفٌ على كفَّيَّ حبْلَ حَرون
فلما تأبّى قلبه غيرَ خَفقةٍ ... وُدَّ كبيتِ العنكبوت طَنينِ
أطرتُ غُرابَ البيْن في عَرَصاته ... وقلت : تأمّلْ غيرُ دينك ديني
وودّعتُ أسبابَ الصَّبابة بعدَهُ ... فأخفيتُ دَمعي واختزْنتُ حنيني
ولي مثل قوله في صديقٍ مهلهل الوُدِّ سخيف العهد :
ولي ربُ مولىً غَرَّني من عُهدوه ... يَمينٌ عليها صافحتْني يمينُه
أكابدُ منه ضدَّ ما أستحقُّه ... فأصدُقُ في وُدّي له ويمينُ هُو
عجِبتُ لأخلاق اللِّئام كأنهمْ ... عن الكرم المعجون في شيَمي نُهوا
ولأبي الفرج :
كانت ليالينا قصُرنَ بوصلكُمْ ... حتى رماها هَجْركم فأطالَها
وإذا الدموع جَمُدن عند جفائكم ... أهوى لها حَرُّ الهوى فأسالها
لو شاء مَن شغلَ الفؤادَ بحُبّه ... لأعاد أيامَ الحِمى وأدالَها
وله :
أيا أملي دونَ كُلِّ الورى ... إلامَ تُخيِّبُ منّي الأملْ
وحتى متى أنا في لَم وقد ... وسوفَ وكلاّ ولِم لا وبل
ألستُ الذي يلتوي دونكُمْ ... ببيضِ السُّيوف وسُمر الأسَلْ
ولو جاءَ أمرُكُم لي بأنْ ... أموتَ إذاً مُتُّ قبلَ الأجَلْ
فسَقياً له إنْ دَنا أو نأى ... وحلَّ بعَرصَتنا أو رَحل
إذا زارني خِفتُ أعداءَه ... فأُخفي مواطِئَهُ بالقُبل
وما هِجْرتي بابه عن قِلىً ... ولكنَّها لفَناءِ العِلل
وله :
رياضُ أمانيَّ الرجال أنيقَهْ ... وأغصانُ أطماعِ الرجالِ وريقَهْ
ومَن لَحظَ الدنيا بعينٍ حقيرةٍ ... فقد حفظَ الدنيا بعينٍ حقيقه
وله :
وهِمّةٍ في المعالي كنتُ أكبِتُها ... زِرّي مخافةَ أن تَجني على عُنُقي
أباحَها السُّكرُ مني فامتلأ حَسداً ... خِلِّي وأَرعِد نَدْماني من الفَرَقِ
هل تحفظُ الكأسُ يوماً سرَّ صاحبِها ... وسرُّها غيرُ محفوظٍ من الحَدقِ
وله يهجو
يؤلمه مضغيَ من خُبْزِهِ ... كأنني من جسمه أمضُغُ
وقبلَ أنْ أهوى إلى لقمةٍ ... يصيح : يا ربِّ متى يَفرُغ
بينَ يديه المِيلُ والتخْتُ كي ... يَحسبَ ما يبلَعُ كم يبلُغُ
وله :
ألا مَن لقلبٍ بالفِراقِ مَروعِ ... ودُفّاعِ جمرٍ صُبَّ بين ضُلوعي
وقِرطاسِ خدٍّ في هواك مَشَقْتُهُ ... بأقلام هُدْبي من مِدادِ دُموعي
وله :
وإنَّ لصَرفِ الدهرِ بينَ جَوانحي ... وقائعَ أنفاسي لهُنَّ عيار
تولّى شبابي فارتديْتُ الرِّضى به ... ولا عَجَبٌ أنْ يُستردَّ مُعار
وقالتْ تفاريقُ الشباب بلمَّتي : ... تمتَّعْ فما بعدَ العَشيِّ عَرارُ
وله أيضاً :
كأنَّ الزمانَ فسا على الأحرار ... فالآنَ لطَّخهُمْ بسَلحٍ جارِ (1/100)
وكأنَّ قُولَنْجَ النَّذالةِ مَسَّهُ ... فاستفَّ من إهْليلَجِ الأدبارِ
وله :
إذا ما عقدْنا مِنّةً عندَ جاحدٍ ... فلم نَرهُ إلاّ حَروناً عنِ الشُّكر
رجَعْنا فعقَّبْنا الجميلَ بضِدِّهِ ... وقلنا له : ها فالْقَ عاقبةَ الكُفرِ
وله في صفة المِسْرجة :
ناظِرةٌ من شَفَتَيْها بها ... قد أبصرتْ عيني ولن تُبصرِ
إنْ يسقي الكأسَ نديمي أَنَمْ ... وهذه إن تَسقِها تَسهرِ
وله :
أبى عزمةَ السُّلْوان قلبُ متيَّمٍ ... يمُدُّ التَّسلِّي عِشقَهُ بمُرودِ
جليدٌ إذا حَرُّ الحديد أصابَهُ ... وليس على حَرِّ الهوى بجليد
فلا تّعذِلا قوماً لهمْ عند عِشقهمْ ... عزائمُ صَعْوٍ في قلوب أُسودِ
وله :
لعنَ اللهُ مُبدِعَ التفخيذِ ... قد أتى لا أتى بغير لذيذ
أيُّ طِيبٍ ولذةٍ لخَليعٍ ... شرِبَ الماءَ شهوةً للنبيذِ
وله :
دَعتْني الرُّبا من بُعدٍ فقلتُ لها ... لا شُجَّجتْ في محطِّ الضَّيم أوتادي
كُفِّي فما لكِ عندي غيرُ مُلجَمةٍ ... تختال ما بين إصداري وإيرادي
إن لو أرُعْك بخيلِ الصُّبح موقَرةً ... أُسْداً مُعبّأةً في نسج زَرّاد
فلا لقيتُ أخِلاّءً بأرضكَ لي ... ولا تسمَّى بغير اليُتمِ أولادي
وله :
تالله تَعدُرُني العُلا ... والكأسُ تمرَحُ في يدي
والحربُ لن تضربْ بنا ... خَيشومَ نقعٍ أربَدِ
ورؤوسُ أعدائي جُثُو ... مٌ لم تَطِرْ بمُهنَّدِ
وَيْلُمِّ دهرٍ لا يَسلْ ... لْمِني لطعنٍ أجرد
قَلِقتْ بنا أيامُهُ ... فكأنّنا في مِزْوَد
أرجو غداً وأقول عل ... لَ غداً ومَن لي بالغَدِ
ابنه أبو الشرف عمادٌ
اجتاز بناحيتي فاعتددتُ به واغتبطتُ واستكركتُه فارتبطت ووجدتُه شاباً أورثتْهُ الفضائل آباؤه ودلّ عليهم سيماؤه لولا سوءُ خُلقٍ ربما قمصَتْ به نَزَواته وشيطان سوءٍ ربما استهوته نَزَعاتُه . وقد قرأتُ في رسائل أبي الفضل البديع الهَمذاني : " للشيطان نزغات وللشبان نَزَقاتٌ ولكنْ يَربَعون إذا جاء الأربعون "
وهذا الفاضل اطّلع شرفَ الأربعين وهو كالمُهر الأرِنِ قَمّاص وعلى إيقاع الزِّقِّ رقّاص . ولأدّب أولادي حَولين كاملين ولكنْ لم يتُمّ الإضاعة ألا لمن أراد أن يُتِمَّ الرضاعة . فأصبحتُ يوماً فإذا هو قد عرّى جَنابي من نفسه كدأبه في سياحته ومُغافصة وثْبته من عند كلِّ كريم أناخَ بساحته . وله شعر ليس كشعر أبيه ولكنّ النسب الكريم العريق قد أسْأر أثراً فيه وذلك كقوله :
ألا عَلَّ العُلا تُمسي فَريسي ... أنا الضِّرغامُ والأقلامُ خِيسي
وبالهِنديِّ ما أهدى ابنُ هِنْدو ... وضرْب الهام في يومٍ عبوسٍ
وما في مُنتدى الفِتيانِ مِثْلي ... ولا في مُلتَقى الشُّجعان لي سِيْ
وكَفِّي بالرماح السُّمرِ أولى ... ولكنْ قد عداني اليومَ بُوسي
ولا طِرفٌ لديَّ ولا حُسامُ ... ولا آلاتُ أبناء الخميسِ
فإنْ أُعَنِ اغتربتُ إلى كرامٍ ... حُماةِ حقائقٍ في الروع شُوسِ
وموتي في الوغى بالسيفِ أشهى ... إليَّ منَ المُدام الخَنْدَريسِ
لأنّي لا أرى للمرءِ بُدّاً ... منَ الموتِ الموكَّلِ بالنُّفوسِ
وأنشدني لنفسه :
أرومُ المعالي مرّةَ بعدَ مرةٍ ... وأجعلُ عِرضي عُرضةً للشدائدِ
وأجعلُ عَزْمي فيهِ رائدَ هِمَّتي ... وعَزْمُ الفتى في أمره خيْرُ رائدِ
فإما أصِدْ مجداً وإما يَصيدّني ... مُريحُ حِمامٍ صائدً كلَّ صائد
وأنشدني أيضاً لنفسه :
ألا كلُّ شيءٍ فيه للروح راحةٌ ... تركتُ لكم حتى الرياحين والراحا
وحتى صَباحاً كالمصابيح في الدُّجى ... وحتى صَبوحاً حينَ أُصبحُ مُرتاحا (1/101)
أخالفُكُم في كل شيءٍ لبغضِكُم ... وإنْ كان فيه ما يُوافق إنجاحا
وأنشدني أيضاً لنفسه :
وكنتُ من زمني قبلَ الهوى زَمِناً ... فالآنَ بينهما أصبحتُ مُرتَهنا
لم يُقضَ لي وطرٌ مذ كنتُ في وطني ... فاخترت سرجَ جَوادي والفلا وطَنا
كأنّ قلبي سَفينُ الهمِّ من قلقٍ ... وأنّ صبريَ مُرسىً يَرفأُ السُّفُنا
وكان لأبي الشرف هذا أخٌ من أبيه يُكْنى أبا السماح فحدّثني أنّ أباه هجاه بهذه الأبيات :
دَعاوي الناس في الدنيا فُنونُ ... وعلمُ الناسِ أكثره ظنونُ
وكم من قائلٍ أنا منْ فُلانٍ ... وعندَ فُلانةَ الخبر اليقينُ
ورأيتُ في ديوان أبي الفرج أبياتاً أظنُّ أنه خاطبَ بها أبا السماح ابنه بوصيّة وهي :
صَدِّقْ أباكَ أبا السَّما ... ح فقدْ كَناكَ أبا السَّماح
اسمحْ بمالِكَ للعُفا ... ةِ وحُرِّ وجهِكَ للكِفاحِ
اِفعلْ فإنّكَ حامدٌ ... لسُراكَ في فلقِ الصباح
أبو حنيفة محمد بن محمد الراميني
الأستراباديُّ
إنسان كله إحسان . أنشدني له الشيخ أبو عارم قال : أنشدني لنفسه :
هل عَثرتْ أقلامُ خطِّ العِذارْ ... في مَشْقها فالحالُ نَضْحُ العِثارْ
قلت : تلفيقه بين الخطّ والأقلام واشتقاقه الخالَ من العِذار وتسميته إياه " نَضحَ العثار " سحر وليس بشعر :
أوِ استدارَ الخطُّ لمّا غدتْ ... نُقطتُه مركزَ ذاكَ المَدارْ
قلت : وجمعه بين النقطة والدائرة بكتةٌ في أفواه الرواة سارية سائرة :
وريقُهُ الخمرُ فهل ثغرُهُ ... درُّ حَبابٍ نظمَتْه العُقار
قلت : وهذه هي الصنعة الثالثة والثالثة خير وهذه الأبيات كلها خير ومَيرٌ . قال : الشيخ أبو عامر : ومن شعره الذي أنشدنيه لنفسه وقد رأيتُ له جيمية في نهاية الحُسن وهيَ :
أذكى الخُزامى سَرعانُ الدُّجى ... ألطفَ ما أذكى وما أرَّجا
وافْترَّ ثغرُ النجمِ مستغرباً ... يتلو الصباحَ الأزهرَ الأبلَجا
فأشبها مبسمه والدُّجى ... أشبَهَ أيضاً صُدغَهُ إذْ دَجا
وهوَ وإنْ أبدى مخدَّيه لي ... بَدراً هدى ساريَهُ المُدْلجا
فوَّتّني الشمسَ التي اعتضتُها ... منه فديتَ المُحزِنَ المبهِجا
بَدْري اجتوى الجَوَّ وغَمّاءه ... فاستوطنَ الكِلّة والهَودجا
وشادني عافَ الفَلا عِزّه ... فشيَّدَ القصرَ له تَوْلجا
ي صُدغِه المُرخى على خطّه ... مقيِّداً بالخال حَرفَ الهِجا
كأنّما أرَّجَ حُسبانَهُ ... كاتبه أحسَنَ ما أرَّجا
ما ليَ والدرعُ صًوانُ الورى ... صرتُ بدرع الصُّدغ المستدرَجا
وحفَّني دامي دُموعي فلِمْ ... ضرَّجَ من خَدَّيه ما ضَرَّجا
أخسَرني مالي وعقلي الهوى ... وما بيَ المالُ بُعيدَ الحجى
إذ هوَّنَ المالَ لسُؤّاله ... شمسُ الكُفاة المَلكُ المُرتجى
يُعيرُ بُرجَ المشتري سَرجُهُ ... إذا امتطى مَركوبَه المُسرَجا
جالتْ به الأفراسُ سَيّاحةً ... كالشمس إذ ناوَبَتِ الأبْرجا
ومنها :
يا خَيرَ مَن وُلّيَ مُسْتوزَراً ... مملكةً أشرفَ من تَوَّجا
هُوَ اجتباه واجتوى غيره ... ومَن هوى العودَ نفى العَرْفَجا
فرَّجَ عن أهل التُّقى كَربَهم ... لله ما جَلّى وما فرَّجا
من طبَّقَ المفضِلَ إمّا برى ... وغرَّق المُنصُلَ إما وَجا
أخدمتُ أشعاريَ باباً أبى ... على قَضايا الجودِ أن يُرتجا
في حُللٍ بالمدح موشِيّةٍ ... لم تَعْهدِ المِنوالَ والمِنْسَجا
فلْيحْظَ وليسعَدْ بأيّامه ... عيّدَ أو نَورزَ أو مَهْرجا
قلت : وأنشدني لنفسه من قصيدة في الشيخ العميد أبي بكر القُسِتاني : (1/102)
هلْ لظلامِ الليلِ من حادِ ... أو لضلال الصُّبح من هادِ
أينَ نسيمُ الريحِ مُستحْقِباً ... أعلامَ ضوءِ الفلَقِ البادي
أهلاً به إنْ كان يُهدي الصَّبا ... تحيةً من فلَجِ الوادي
كم ليلةٍ بتُّ لميعاده ... منتصِبُ المسمع والهادي
شائمةٍ منه عيونُ المُنى ... خُلَّبَ ميقاتٍ وميعادِ
ومنها في المديح :
يا أيُّهذا القمرُ المُجتلى ... بين ظلام الزمن الغادي
أخلِقْ بذاكَ الدَّستِ بُرجاً فقد ... حفَّ بضوءِ القمر البادي
وأنشدني الشيخ أبو عامر قال : أنشدني لنفسه قوله :
أنا الرَّميُّ بسهم اللَّحظِ إذْ رَشَقا ... فلم يُدرّعُ من أصداغه الحَلَقا
وكيفَ والقمرُ الوضّاحُ وجنتُهُ ... أصبحتُ محترق الأحشاء مُختنقا
وقوله :
قد كان برَّحَ بيَ العشقُ التليدُ فمن ... يُجيرُني من جديدٍ فيه مُطَّرَفِ
آذتْكَ عَوداً على بَدءِ محبَّتُهُ ... والنُّكْسُ في كل داءٍ واعدُ التَّلفِ
الحاكم أبو الفضل علي بن أحمد الزيزَكيّ الأستراباذي أنشدني القاضي أبو جعفر محمد بن إسحاق البحاثي الزوزني رحمه الله قال : أنشدني الحاكم أبو المظفَّر الفضل بن محمد الراوندي الزيزكي قال : وكتبَ إلى بعض الأشراف في علّة عرضتْ له فلم يَعُدْه ثم بعث إليه ببعض الأحداث رسولاً معتذراً عن التقصير الواقع في زيارته :
هَجرتَ الصديقَ الفقيرَ العَليلا ... وقلت : الذي ناله لن يَزولا
وأعرضتَ إعراضَ مستحقِرٍ ... ومَن ذا يُجِلُّ الفقيرَ المُعيلا
وحدَّثتَ نفسَك أنّي أموتُ ... ولم يتعدّى المنونُ العَليلا
فتُلغى العِيادةُ والاعتذارُ ... إذا سَترَ التُّربُ هذا الخَليلا
ولمّا سمعتَ بأني برِئتُ ... وأَبلى الإلهُ بلاءً جميلا
قلبتَ الأمور لتحتال في ... معاذرَ تُسْلي فؤاداً نَحيلا
وأظهرتَ أنّك ذو عِلةٍ ... بعينيك حاشاك من ذاكَ قِيلا
وأهديتَ أبياتَ مستغفِرٍ ... وظَبياً مَليحاً رشيقاً كحيلا
فأغضيتُ عَمّا تجنَّيتَ إذْ ... بعثْتَ بظَبْيٍ مَليحٍ رسولا
أبو الفرج رشيد بن عبد الله الخطيب
الطبيب الأستراباذي . أنشدني لنفسه بأستراباذ سنة أربع وأربعين وأربعمائة
قد وقعَ الصُّلحُ الذي لم يكُنْ ... عنهُ لكَم في الرأيِ مَنْدوحَهْ
لكنّه صُلحٌ بسينٍ على ... سِبالِكُم والسينُ مفتوحهْ
وله أيضاً :
ما لي أرى الدهرَ كالميزان مُعْتلياً ... بناقضٍ وبأهل الفضل مُستَفِلا
أبو نصر يوسف بن علي الفازِري الأستراباذي
واسمه يوسف . عاشرتُ هذا الفاضل فوجدتُه كما تشتهي الأنفس وتلَذُّ الأعين . وحدّثني الأديب يعقوب النيسابوري قال : جمعني وإياه مجلس فكان متبحّراً في مذهب العدل ففحصه بعض الحاضرين عن ذلك الفن فقال : قد خَرِسنا عنه بخُراسان . قال الأديب فقلت : والسعيد من ملك اللسان . قال الأديب : وجَمعَني وإياه مائدة فخالفتُ الجماعة في نوع المَطعوم لم يمدَّ إليه سِوايَ فقال أبو نصر : لا تُخالف فإنّك مذكور . قال الأديب : فقلت : والشيخ على هذا الثناء مشكور . وإنما عنى بقوله المثل السائر : " خالف تُذْكَرْ " قال : فشكرته عليه إذ وقفتُ على غَرَضه منه من غير مراجعة فكرٍ أو تخير رأي أو إساغة ريقٍ
أنشدني لنفسه أيام مُقامه بنيسابور :
كم نبّهتْكَ أبا الحسين نَصيحتي ... عن غِرّةٍ فأبيتَ غيرَ مَنام
وكأنني بكَ قد قَرعنَ ندامةً ... سِنّاً ضحكتَ بها على الأيامِ
قلت : وهذا البيت الأخير مليح جداً . وقد أبى الله للملاحة أن تكون عليه ضداً وأنشدني له أيضاً :
أبا سَهلٍ حجابُك طالَ حتى ... تَبيَّن منه في العليا قُصورُكْ
كأنّك ميِّتٌ والدارُ قَبرٌ ... فما تبدو لعيني من يزورُكْ
وأنشدني لنفسه أيضاً : (1/103)
وما زِلتَ في عيني فتصرّفتْ ... صروفُ الليالي فانصرفْتَ لها قَذى
وخُنتَ ومأمولي وفاؤكَ ضِلَّةً ... ومن مأمن الإنسان بفجؤه الأذى
وهذه أيضاً بِكرٌ لن تفترغ وبِدعٌ لم يُخترع . وأنشدني لنفسه أيضاً في الشيخ عميد المُلك رحمة الله عليه وقد حجَبَه
قالوا : حُجبتَ عنِ العميد فقلت : ما ... في ذاكمُ عارٌ عليَّ وعابُ
البدرُ محتفٌّ بهالتِهِ الدُّجى ... واللبثُ ملتفٌّ عليه الغابُ
إنْ يُحجبِ العافونَ دون لقائه ... فنواله ما إنْ عليه حجابُ
مثلُ السماء إذا توارتْ شمسُها ... بسحابها فِلَوَبْلِها تَسْكاب
وقد زاد على أبي تمام في ذكر الشمس وإلاّ فكلّ الناس عيالٌ عليه والشرط أنْ يزيدَ الأخرُ على الأول إذا أخذ منه المعنى بتمامه ليسوغَ له التطفُّل عليه فأما الأخذ مع القصور فالعجز عليه مقصور بقوله هذا المعنى . وقد حلّه الشيخ والدي رحمه الله بقوله : " السماء إذا احتجب أرجاؤها وجَبَ ارتجاؤها " . وأنشدني الشيخ أبو عامر قال : أنشدني القارزيّ لنفسه :
وكم دولةٍ قد كنتُ أرجو نُمُوَّها ... فلما تناهَتْ صِرتُ أرجو زَوالها
ظننتُ بها خيراً لنفسي وإنّما ... ذَخرتُ لربّي في المفازة آلَها
وإنَّ امرأً لم يَكفِ قَوماً مهمةً ... سَواءٌ عليه ما عليها ومالَها
أبو محمد معصوم بن أحمد
المعصومي الدِّهِسْتانيّ
قال الشيخ أبو عامر : كان هذا المعصومي فتىً حسن الأخلاق حلوَ المذاق . أقام بأطراف خُراسان مدةً . فمن شعره الذي أنشدنيه لنفسه قوله :
كَتمتُ هواكُمُ يومَ التقَينا ... وهل يخفى ودمعُ العينِ يُنهي
وكان الماءُ في وجهي مَصوناً ... فماءُ العين أذهبَ ماءً وجهي
وله أيضاً :
مالي أراكَ إذا سَلِمتُ مُتاركي ... وتعودُني إنْ مسَّني الإعلالُ
كالبدر لا يرتادُ وهْو مُنوَّرٌ ... وتَرومُه الأبصارُ وهْوَ هِلالُ
القاضي أبو زيدٍ محمد بن القاسم
الجَعْدوي الدِّهِسْتانيّ
ولي قضاء جُرجان في الأيام المسعودية وبقي على عمله إلى آخر الدولة الطغرُليّة . وكان قد تفقّه بالعراق . ورأيته بدِهِسْتان شيخاً خفيف الروح ثقيل الأذُن . فممّا أنشدني لنفسه قوله :
رجوتُكَ لي عوناً على الدهر صاحباً ... يُمهِّد أسبابي ويُدني المطالبا
فلم تَكُ إلاّ حارمي ما رجَوتُهُ ... وإلاّ لما أعطانيَ الدهرُ سالبا
عفا الله عني يومَ آتيكَ أمِلاً ... وأتركُ باب الله ذي الفضل جانبا
وما واردٌ ماءً بفيفاء صادياً ... بأخيبَ مني حين جئتُك طالبا
وقوله أيضاً :
أَصبحَ وخْطُ الشيب لي واعظاً ... أنصِحْ به من واعظٍ أنصِحِ
وكلّما راجعَ قَلبي الصِّبا ... قال لي الشيبُ : أما تستحي
أخوه
أبو عبيد الحسن بن القاسم المَعْدويّ
أنشدني لنفسه في الرئيس أبي المحاسن وهو من أملح ما سمعته في معناه :
دخلتُ على الرئيس وكان خِلواً ... لشوقٍ كان يجلبني إليه
فلمّا أن رأيتُ رأيتَ فرداً ... ولم أرَ من بنيهِ ابناً لديهِ
يريد أنه يُكنّى أبا المحاسن والمحاسن على هذه القضية أبناؤه وهو خِلوٌ منها
غياث بن محمد الدِّهِسْتانيّ
أنشدني الشيخ أبو الحسن الزاويّ قال : أنشدني غياث لنفسه :
ليسَ إلى ما تُريدُ ما لَمْ ... تَلتقِ أسبابُه مَساغُ
مخلع البسيط
والعِلمُ من شَرطه ثلاثٌ ... المالُ والحِرصُ والفَراغُ
وله يشكو الحجاب وضيق الدهليز :
لمّا قصدْنا جعفرَ بن محمدٍ ... أُنسَ الكرام وسَلوةَ الأحرارِ
قالوا : الطريقُ إليه ضَنْكٌ مظلمٌ ... صَعبٌ تَوغُّلُه على الزُّوّار
فأجبتهم أنّ العَلاءَ طريقُه ... صَعبٌ وأنّ النارَ في الأحجار (1/104)
والكوكبُ الوقّادُ أضوأُ ما يُرى ... متوقِّداً في ظُلمة الأسْحار
جعلوه يَحْني ظَهرَ قاصِدِ داره ... عَمْداً ليسجُدَ عند باب الدار
الثائر العَلويُّ
هو الذي تغلّب على جيلان وثائر لقبُ جدّه الأُطْروش وكان قد استهترَ بغلام له وجعلَ مَمالكه تحت تصرُّفه فعصى عليه واستبدَّ بمملكته دونه وكان اسمُ الغلام عُمَيراً فقال :
يا آلَ ياسينَ أمرُكمْ عَجَبٌ ... بين الورى قد جرتْ مقاديرُهْ
لم يكفِكُم في حِجازِكُم عُمَرٌ ... حتى بِجِيلانَ جاءَ تَصغيرُهْ
أبو الحسين نصر بن محمد الكاتب الفَزاريّ
من أعيان الكتّاب وكان من أحفظ الناس لما يستملي من سَعادة ذي أمره حتى لو أُملي عليه ألفُ كتابٍ مختلفات الأغراض لم يُخطئ منها حره ولا أخلَّ بنكتة . وكان في حيالة الشيخ صاحب الديوان أبي الفضل سوي ابن المعتزّ يكتب في ديوانه . أنشدني لنفسه فيه :
قلتُ للنائبات لمّا تبدّتْ : ... لا تدوري بنكبةٍ حولَ دُوري
ليس للدهر مَطمعٌ في اهْتِضامي ... ظلُّ سوري من الحوادث سوري
الشيخ الإمام أبو عامر النَّسويّ
رأيتُ هذا الفاضل فوجدتْه سمح البديهة ألدّ الحجاج حادّ المزاج وفضله أشهر من أن يُنبّه عليه وزمام الفضل طَوعُ يديه . أفادني شعره أبو الفضائل الخيِّر فألحقتُه بمكانه وتمتّعتُ بشَميم وردٍ قطفتُ من أغصانه . أنشدني الأديب يعقوب النيسابوري قال : أنشدني أبو عامر هذا لنفسه :
وما تركتْ ستٌّ وستونَ حِجّةً ... لنا حُجّةً أن نركبَ اللَّهوَ مَركبا
وأنشدني له غيره :
العِلم يأتي كلَّ ذي ... خَفْضٍ ويأبى كلَّ آبي
كالماء ينزل في الوِها ... د وليس يصعد في الروابي
وأنشدني الفقيه إبراهيم الهلالي الباخرزيّ قال : أنشدني لنفسه :
رويتُ قديماً ما رَوَوا وحديثاً ... وقد سِرتُ سَيراً في البلاد حَثيثا
فصِرتُ حديثاً والحديثُ هو الذي ... يُصيِّرُ أصحابَ الحديثِ حَديثا
وأنشدني أيضاً قال : أنشدني لنفسه :
لسانُ الفتى عن عقله تَرجُمانُهُ ... متى زلَّ عقلُ المرء زلَّ لسانُهُ
وما الشِّعرُ إلاّ شُعبةٌ من دُعابةٍ ... دَعَوناهُ كرْهاً إذْ دعانا أوانه
وكنا نصون العرض عن أن نهينه ... فراب أوان صون عرض هوانه
وله أيضاً :
عمى القلبِ يمشي في عَمى العين إنّه ... إذا نامَ قلبُ المرءِ فالعين نائمُ
مُحِلُّ امرئٍ فوقَ الذي حلَّ هازئٌ ... ومادُحه مدحاً بما ليسَ شاتِمُ
وباخِسُ حقِّ العلم بالعِلمِ جاهلٌ ... واضعُ أهل الفضل للفضل ظالمُ
إذا لم يكُنْ لي عند ذا القوم مَوسمٌ ... فلي عندَ قومٍ آخرين مواسِمُ
وإنْ هَجَرتني أرضُ قومٍ هَجرتُهمْ ... فلا الكَرَجُ الدُّنيا ولا الناسُ قاسم
وله :
لكَ تدريسٌ ولكنْ ... راءُ تدريسِكَ لامُ
والذي تُملي على النا ... س كلامٌ لا كَلامُ
خسرتْ بغدادُ إذْ أوتْ ... كَ فيها والسلام
وله :
أهلُ أَبِيوَرْدَ أصابتهُمُ ... عَينٌ فعافَتْهمْ صُروفُ الزمنْ
فاستأصلتهُمْ وأبادْتهمُ ... وامتحنتْهم بأشدِّ المحنْ
فمنهمُ ذو كفنٍ في الثَّرى ... ومنهُمُ ميْتٌ عديمُ الكَفَنْ
كرُّ الليالي وتَصاريفُها ... أخْنتْ فما أبقَتْ على ما ومَن
بذا مضتْ دُنيا دنت لا على ... مُنَعَّمٍ دامتْ ولا ممتَحَنْ
وله أحجيةٌ :
ما نابِتٌ مُستنبَتٌ ... مُسترزِقٌ منْهُ فِئَهْ
خبّأتُهُ في واحِدٍ ... ممّا اسمُه منهُ مئَهْ
يعني له السُّذاب والمسترزقون منه الفُقّاعيّون فإنهم يستعملونه في أبازير
وله أيضاً :
على مجلس الشيخ الجَليلِ سَلامي ... فقد طالَ شوقي نحوَهُ وغَرامي (1/105)
أحِنُّ إليه كلَّ يومٍ وليلةٍ ... وأشْكو فِراقاً قد أذابَ عِظامي
إذا نشأتْ من بحر خَوارزْمَ مُزنةٌ ... تداويتُ من وَجْدي بماء غَمام
أبو علي القُومِسيُّ
كتب إلى الشيخ العميد أبي بكر علي بن الحسن القُهِسْتانيّ :
سَلامٌ كنشْرِ الوردِ في ريِّقِ الفجرِ ... وريح الخُزامى فوقَه دَمعةُ القطْرِ
على الشيخ مولانا الذي أنا عبدُه ... عنيْتُ أبا بكرٍ ومَن كأبي بَكر
فأجاب :
سلامَك يا مَولايَ فهْوَ سلامةٌ ؛ ... أتي فسلِمتُ الدهرَ من نُوَب الدهر
تحيَّتُك الحُسنى حَياةٌ جَديدةٌ ... تُفيدُ بها روحي مَزيداً على عُمْري
الحسن الدِّهْقانيُّ القومِسيُّ
حجبه بوّاب الوزير أبي القاسم أحمد بن الحسن الميمَنْدي فكتب إليه بهذه الأبيات :
يا سَيِّدَ الُوزراءِ والأربابِ ... شَمسَ الكُفاة وغُرَّةَ الكُتّابِ
ما لي حُجبتُ وليسَ مثلُكَ راضياً ... بحِجان أهل العلم والآدابِ
وبقيتُ مخفوضَ الجناح مُكابداً ... مَضَضَ البِعاد وسَطوةَ البَوّاب
فإذا نظمتُ قصيدةً لم يتّفقْ ... إنشادُها كتعاتُب الأحباب
حاشا لصحبكَ أنْ يكونوا مثلَ مَن ... فيهِمْ يقولُ فتىً من الأعراب :
قومٌ إذا حضرَ المُلوكَ وُفودُهُم ... نُتفَتْ شَواربُهم على الأبواب
بُعدٌ خُصِصْتُ به وكنتَ تَخُصُّني ... بزيادة التَّقْريب والإيجاب
قلت : قد سقط الدِّهْخُدا أبو الحسن القَصْريّ وابنه العميد أبو البدر عن مكانهما من هذا الكتاب فاستدركتهما أخِرَ هذا الباب مع العميد طاهر المستوفي
الدِّهْخُدا أبو الحسن
علي بن محمد بن معروفٍ القَصْريّ
كتب إلى الأديب يعقوب النيسابوري لمّا قدِم نيسابور رسولاً عن الأمير أنِوشِرْوانَ بن مَنُوجهْرَ إلى الأمير رُكن الدين طُغْرل بِك رضي الله عنهم جميعاً يستخبره عن حال فتحٍ لبعض الوزراء وهي :
يا مَن أخالُ كلامَه ... ما قضَّ من سحرٍ حَلال
وأعادَ لي أُنسي به ... ما فاتَ من عيشٍ حَلا لي
وبخِيمه المستطرَف ال ... مَرْضيِّ جيدُ الفضل حال
أيعودُ فتحُ وزيرِنا ... فأبثَّه أنا بعض حالي
وعساهُ يوقظُ جَدُّهُ ... ما نام من إقبال فالي
أني قصدتُ فِناءه ... بعداتِ رأيٍ غير فالِ
قلت : وصنعة هذا الشعر أن كل بيت فيه مجنَّس بأخيه الذي يليه وهلمّ جرّا من أول مَطالعه إلى أخر قَوافيه . وكتب إليه يستزيدُه ويستزيره :
مَلَّنا الشيخُ أم أبى أنْ نراهُ ... في ظلال الوِصالِ يَبغي هَوانا
إنّ إعراضه كسانا وكنّا ... نَرتجي الاحتشامَ منه هَوانا
وكتب إليه الأديب يعقوب :
خدمةُ الدِّهْخُدا عليَّ علوٌّ ... حاشَ للحرِّ أنْ يَمَلَّ مكانهْ
غيرَ أن الزمان والله يبلو ... ه رماني بشائباتِ الزَّمانَه
فأجاب بقوله :
ما أرى تأخُّر الشيخ عُذراً ... لا ولا عائقاً فيشكو زَمانَه
بل أرى كلَّ ذي عيالٍ إذا ما ... لازمَ البيتَ في عقالِ زَمانَهْ
وقال فيه أيضاً :
إذا ابنُ أحمدَ جارانا وبادَهَنا ... شَفى الغليلَ بما أروى وأرْوانا
وإنْ أبَيْنا وقلنا : أنت أدَبُ مَن ... نلقى وأوسَعُنا علماً وأرْوانا
فقد ظلمناه أنّا لا نَرى أبداً ... له إذا عُدَّ أهلُ الفضل أقرانا
للجِياد أماراتٌ تُريكَ بها ... عَيبَ البِغال فما تُخفي الذي بانا
ما كلُّ ما لاحظتْ عَيْناك من شَجَرٍ ... يَروقُ ما اخضرَّ منهُ ناسَبَ البانا
وله إليه أيضاً :
ليورِ زِنادَ الأُنس منّا بأحرفٍ ... نشاهُنَّ نثراً كان ذلكَ أو نَظْما
فإنا إذا لم نَرْوِ يوماً قَريضَهُ ... ولم يَروِنا سَلسالُ منطقِه نظْما (1/106)
قلت ففي كل واحد من هذه المقطّعات عِلقٌ يعلَق به القلب نفيسٌ وتجنيس تسكن إليه الروحُ أنيسٌ ولو كان قصدي من هذا الفصل غُنْماً بارداً من غنائم الفضل أعني شعرَ أبي غانم القصري لانْضاف إلى الرَّوض غدير وإلى الخَوَرْنَقِ سَدير لكنّي فقدتُ إحدى العينين وحَورها وارتضيتُ الأخرى وحولها وسألت الله تعالى ألاّ يُذيقني عَورها . وإذا ظفرت بما يصلح للإلحاق بهذا المكان من نثره السلسال ونظمه الطّنّان ألحقتُه به إن شاء الله تعالى
ابنه الدِّهْخُدا أبو البدر المظفَّر
ابن محمد بن معروف القَصْري كاتب عميد الملك وأمينه وعينه الباصرة ويمينه . وهو مع ذلك من بيت الفضل وعُنصر الأدب الجزل . فإنّ أباه أبا الحسن وعمّه أبا غانم كانا من نجوم الفضل وهو جارٍ على مَنهاجهما وراقٍ في مِعراجهما ومرشَّح لمهمّات الدواوين ومقرّب من تُكأة السلاطين . فممّا أنشدني لنفسه من بدائع مَعانيه قوله :
بالسعيِّ واجِهْ نِعمةً ... تأتي ولا تَقْنعْ بشَبعهْ
فالفَذُّ في عقْدِ الحسا ... ب بسعيه سيصيرُ سَبْعَهْ
لا أعارَ أنْ أعرى وغي ... ري ثياب الوَشْي رافِلْ
إنّ الحَمائم ذات أط ... واقٍ وجيدُ البازِ عاطلْ
وقلت أنا في قريب من هذا المعنى بنوع آخر :
لا تُنكري يا عزَّ إنْ ذلَّ الفتى ... ذو الأصل واستعْلى لئيمُ المحْتِدِ
إنّ البُزاةَ رؤوسُهُنّ عواطلٌ ... والتاجُ معقودٌ برأس الهدهدِ
وقد تصرّفتُ في معنى الهدهد بنوه أخر وهو :
لا يَشرُفُ الرَّذْلُ بأنْ يكْتَسي ... منَ الغِنى تاجاً وديباجا
وهل نَجا الهدهدُ من نَتْنه ... بلُبسِه الديباجَ والتاجا
وأنشدني الشيخ أبو عامر قال : أنشدني الدَّهْخُدا أبو البدر لنفسه :
أبدى العميدُ ببغدادٍ تخلُّفَه ... والقَومُ نحوَ قَليبِ المجدِ فُرّاطُ
وقد يغُطّ كثيراً من أسافلِهِ ... كأنّ أسفلَهُ المَشؤومَ خَرّاطُ
وقد سمعنا قديماً كلّ نادرةٍ ... وما رأيْنا عميداً وهُو ضَرّاطُ
قلت : غطيطُ ها هنا كفرقعة الظهر في شعر ابن الحجّاج وكلاهما من باب الكفاية والكناية
العميد طاهرُ المستوفي
أنشدني الأديب يعقوب قال : أنشدني الوزير أبو سعد الآبيُّ له وقد كتب بها إليه :
أنا في المنزل وَحْدي ... وكذاك الشيخُ وحدَهْ
وسَواءٌ كانَ عندي ... وسَواءٌ كنتُ عندهْ
فإذا جاء رسولي ... فليُجِبْ أو يَدْعُ عبدَه
أبو سعد الأثيريّ الخَوارزميّ
أنشدني القاضي أبو جعفر محمد بن إسحاق البحاثي قال : أنشدني الأستاذ أبو محمد العبدُلْكانيّ قال : أنشدني الأثيريّ لنفسه وكتب بها إلى الشيخ أبي الحسن عبد الجليل رحمهم الله جميعاً وكان له غلامٌ طُلب منه بمال ثم أجّره رَسَنه وأخّر عنه ثمنه :
إن كنتَ تطلبُ بَدْري يا أيا الحسن ... فزِنْ له بَدرةً نَقداً من الثمنِ
أو لا فرخِّصْ عليك النَّيكَ مقتصِداً ... واجلِدْ عُميرةَ فاللذاتُ بالمُؤّنِ
وله :
وشاعرٍ أنشدَ شِعراً له ... ينقض في أخره أوّلَهْ
عاتبتُه فيه فلم يكترثْ ... وبالذي استبعدْتُه أوّلهْ
فدلّني ذاكَ على أنّه ... ذو خَبَل في عقله أوْ وَلَهْ
وقال القاضي أبو جعفر البحاثي رحمه الله : عرضَ عليّ محمد العَبدُلْكانيّ رقعة بخطّ الأثيريّ كتب بها إليه وفيها : على الأستاذ الجليل بديع الدُّهور والأزمان وقريعَ القُرون والأقران سلامٌ ثرّة أخلافُه لذةٌ أعطافه :
هلُمَّ إلى ما عُذِّبتْ طولَ ليلها ... بنارٍ فأضحتْ يَطَّبِينا زَفيرُها
ترنَّمُ من تحتِ الخِناقِ تَغيُّظاً ... ترنُّمَ ثكلى شّذَّ عنها فريرُها
هَلُمَّ إليها حِسْبةً لتُعينَها ... فأنت لعَمري عونُها ونصيرُها (1/107)
فليجب دعوة هذه المسكينة من تحت خِناقها . وليمُنّ عليها بفكِّ وَثاقها متصدّقاً علينا مع ذلك بفضَلات خُطواته المَيْمونة الكريمة وموفِّراً على مُعدِمنا الحريّ بعواطف شفقتِه الموفورة العميمة عالياً في ذلك يده على الأيدي وافياً يده في الأيادي لا عدمنا كافّة تلامذته سيداً نقترح على سيادته ولا عدمتُ أنا خصوصاً نعمتي ببقائه وبما منحتُه من بركة صفائه آمين ربّ العالمين . وكتب فيها : ليس في البيت سوى البيت وخُوّيْدِمَهُ أنا والغوّاص الشاعر . وكتب الغواص إليه بهذه الأرجوزة :
خادمُهُ غُلامُه غوّاصُهُ ... مَنْ بتمام وُدِّه إخلاصُهُ
يُهدي سلاماً خالصاً مُصاصُهُ
أبو بشر مأمون بن علي
بن إبراهيم الخوارزميّ
رأيت هذا الفاضل فوجدته سمْح البديهة ألدّ الحجاج حادّ المزاج . فممّا أنشدني لنفسه قوله :
تكلّفتُ كِتماني هَواكَ فلم أُطِقْ ... ولم يَستقِمْ للنفس ما قد تكلّفتْ
شَفانِيَ أنْ أفشيتُ سِرّكَ في الهوى ... كذلكَ أسرار الهوى إنْ فَشَتْ شَفَتْ
وأنشدني لنفسه أيضاً :
يا مُبطِلاً فِعلَ الجميلِ بمِنّةٍ ... أسخطْتَني من بعد ما أرضيْتَني
يل ليتَ كفَّك لم تسامحْني به ... أوْلَيتني جانبنُ ما أوليتني
وأنشدني الشيخ أبو عامر له في تهنئة بعض أصدقائه بالزفاف :
بَدرُ دُجىً أَصْحبوه شمسَ ضُحىً ... باركَ ربُّ السماء فيها لهْ
ضمّهما هالةُ الوِصالِ معاً ... يا مَن رأى النَّيِّريْن في هالَه
وأنشدني الشيخ أبو عامر : حضرني هذا الخوارزميّ فقال مرتجلاً :
ومَجلسٍ عالمٍ عَلَمٍ ... يُقرّ بنوره العَينا
تبرّكْنا بزَوْرتِهِ ... وأدَّيْنا بها الدَّينا
أبو النُّجح مُقالد بن عبد الكريم
الفقيهيّ الخوارزميّ
قال يمدح الإمام اللوكريّ :
أقصرْ فقد أفرطتَ في استغوائِهِ ... ومزْجتَ ماءَ جُفونه بدِمائهِ
وأطلتَ ما بين الطُّلول بُكاءهُ ... حتى بكتْ تلك الرُّبا لبكائهِ
ووقفتَهُ وقفَ الإمام محمد ... خَطَراتِ همّته على عَليائه
فالغيثُ يُهوى أن يكون نَظيره ... عوناً وليس الغيثُ من نُظرائه
والليثُ يُرضى أن يكون كِفاءهُ ... بأساً وليس الليث من أكفائه
ومنها :
عِشْ ألفَ عامٍ للوفاء وقلّما ... سادَ امرؤٌ إلاّ بحفظِ وفائِهِ
لًصَلاحٍ فاسِدِه وشَعْبِ صُدوعهِ ... وبَيانَ مُشكلهِ وكشفِ غطائه
علي بن أحمد الحكيميّ البديهيّ
الملقّب بنقيب الشعراء وخوارَزميّ حافظٌ للغة عالمٌ بها . أفادني شعره الشيخ أبو الفضل الخِيريّ فألحقته بمكانه وتمتّعتُ بشَميم ورد قطفتُه من أغصانه . قال يهنئ بعض أصدقائه بالنيروز :
قولُ النبيّ وحق الله فد صَدَقا ... ووافَقَ العاشقُ المعشوقَ فاعتنقا
فعاطِني قَهوةً صهباء صافيةً ... بها تَطابَر عن قلبي الهوى شِققا
من كفِّ ساقٍ إذا ما جاءنا فسقى ... دعا إلى حُبّه أهواءَ مَن فَسقا
الأديب أبو الفضل شاهُ بن إبراهيم
بن نصر الكاثيّ
المقيم ببُخارا . كتب إلى الفقيه الشامي الخوارزمي
على مجلس الشيخِ الجليل سَلامي ... فقد طالَ شوقي نحوَهُ وغرامي
أحِنُّ إليهِ كلّ يومٍ وليلةٍ ... وأشكو فِراقاً قد أذابَ عظامي
إذا نشأتْ من نَحوِ خوارزم مُزنةٌ ... تَداويتُ من وجدي بماء غَمامي
وله من قصيدة أيضاً :
إذا عَضَّ ناب النائباتِ أجارنا ... بثابتِ رأيِ شاهِدٍ غيرِ غائبِ
فكيف تُجاريه الجِيادُ إذا جرى ... وقد ضاقَ عن مجراهُ كلُّ المذاهبِ
كذا فليكُنْ بالخير من كان طلبا ... يُرغّبه في الحَمد بَذْل الرغائب
وله في الإمام الموفّق رحمه الله لما وصل إلى بخارا رسولاً من السلطان طغْرِل بك رحمهم الله وهي :
رأيتُ بخارا كالعروس جمالُها ... يُشوِّقُ من يلقاهُ حُسناً ويُونِقُ (1/108)
وقد زانها إذ حلَّ عَرْصةَ دارها ... إمامُ الهُدى فخرُ الأنام الموفّقُ
به أرضُ نيسابور تاهت وأشرقت ... وفاضتْ سُيولٌ بالندى تَتَدفّقُ
إمامٌ له في الفَضل دعوى مُسلَّمٌ ... وفي مشكلات العلم قولٌ مُصدَّقُ
إذا هو أفتى في المسائل سائلاً ... تراهُ كأنّ الحقّ من فيه ينطق
يجودُ بمَضنون الرغائبِ كفُّهُ ... فسائله في مَوجِ نُعْماهُ يَعْرقُ
له من أخرى :
هِمةٌ في العُلا تَفوتُ الثُّريّا ... وهْوَ فوق الثَّرى يحثُّ جوادَهْ
ليس يطوي على الضَّغائنِ كَشْحاً ... لا ولا يجعلُ الفَسادَ وِسادَهْ
وكتب إلى القاضي أبي الوزير الكسائيّ يستهديه الفَحمَ : " أشتهي أطال الله بقاء القاضي الإمام زنجيّ اللون فاحمَ الجلباب حَبشيّ الجسم مسودَّ الإهاب . تجلّى في لباس بني العبّاس واختال بين الناس في معرض الأنقاس ؛ تتقلّب في أحواله وتختلف باختلاف أفعاله فتارة يظهر في ثوب سواده ومرةً يروق الناظرين بحُمرة اتّقاده وطوراً يحتجب عن الأبصار برماده . فهو مُروّة الدهّاقين ومُنية المساكين . فإذا نزل بساحتهم مشتِملاً ببُرده صدر الثناء ببرْده وعاد الربيع بورده . طلوعه سعدٌ وهو فاكهة وورد ونار ونور وغَمٌّ وسرور . يؤذي بلمسه ويُدفئ بطلوع شمسه وهو في الشتوة نقل ظريف وفي الوحدة مؤنس لطيف "
علي بن أحمد البخاريّ الخَوارزميّ
رأيت له في الصاحب نظام المُلك قصيدة مطلعها :
زادَ الإلهُ نظامَ الملك مولانا ... في العزّ عِزّاً وفي التمكين إمكانا
وحاطَهُ وتَولاّه برحمته ... وزاد أعداءه خِزياً وخِذلانا
لئنْ طغى الماءُ في أوطاننا وغدتْ ... جُدرانُها بقضاء الله جُذْرانا
فالله عوّضنا من فضل رأفته ... أبا عليٍّ نظامَ المُلك مَولانا
أحييْتَ علم ابنِ إدريسٍ وقد دَرستْ ... أوطانُ أصحابه بُوركْنَ أوطانا
فنحن نرتعُ منه في الرِّياض لدى ... أقضى القُضاة جَزاه الله إحسانا
أبو محمد المَروانيّ النَّسَفيّ
أنشدني الشيخ السمرقنديّ له :
لستُ ما عشتُ بسالِ ... عنكَ يا عَينَ الجَمالِ
فتداركْني بعطفٍ ... قبلَ أن يفسُدَ حالي
ولقد أورثْتَ قلبي ... حُرقةً ذات اشتعالِ
فالنَّوى ألْوتْ بجِسمي ... والهوى أكسفَ بالي
أبو زكريّا يحيى بن الحسن
ابن خلف بن شاهد النسَفيّ . من جيّد شعره قوله :
كأمثالكم كُنّا نُسرُّ بعيشنا ... ونغترُّ في ظلِّ النعيم بدهرنا
ففرَّقَنا دَهرٌ خَؤونٌ وأنتُمُ ... على إثرنا يا قَومُ فاعتبروا بنا
أبو العباس المستغفريّ النَّسفيّ
هو جعفر بن محمد إمام نَسفَ وخطيبُها ومفْتيُّها ومن لا تكاد تجد مثله فيها . أنشدني الشيخ أبو محمد الحسن بن أحمد السمرقندي المحدّث بنيسابور قال : أنشدني المستغفريّ هذا لنفسه :
جُزتُ الثمانينَ من عُمْري وأحوالي ... وفُقْتُ في العُمر أعمامي وأخوالي
ما عاشَ ما عشتُ منهمُ واحدٌ فلقد ... خُصِصتُ من ربّي المُسْدي بأفضال
الشيخ أبو الحسن الخَوارَزْميّ
قال القاضي أبو جعفر محمد بن إسحاق البحاثيّ رحمه الله : كتب إلى أبو الحسن بهذه الأبيات لمّا انصرفتُ من نَسا :
أقرَّ اللهُ ربُّ العالمينا ... بعَودِكَ أيّها القاضي العُيونا
تَغَيَّبَ منذ غِبتَ الأنسُ عنّا ... وأُبْتَ فآبَ كلُّ الأُنس فينا
وكانَ نهارُنا ليلاً بَهيماً ... فأضحى ليلُنا صُبحاً مُبينا
تجلّى وجهُك الوضّاحُ فينا ... فأجلى الهَمَّ عنّا أجْمعينا
وبشَّر بِشرُك الأحرارَ طُرّاً ... فأضحى كلُّهم مستبشِرينا
فيا لكَ أوبةً أوْفتْ بنُعمى ... بها لله ظِلْنا شاكرينا
ومن يَكُ مثلُ فضلكَ فيه يأبى ... عُلاهُ له شَبيهاً أنْ يكونا (1/109)
بقيتَ لنا تَجوزُ مدى المَعالي ... فإنّك ما بقيتَ لنا بقينا
أبو منصور الجعفريّ
وأنشدني الحسن بن أحمد السمرقنديّ المحدِّث قال : أنشدني أبو عليّ الطاهريّ قال : أنشدني الجوهريّ لنفسه :
أذابَني فِكْرتي في أمرِ آخِرتي ... فلم أُبالِ بضيقٍ عشتُ أم رغَدِ
إنْ كنتَ تَطمعُ في نَيلِ النَّجاة غداً ... فخُذْ بجِدِّكَ في ذا اليومِ أمرَغدِ
الإمام أبو الحسن نصر بن الحسن المَرْغِينانيّ
ورد زوزنَ في أيام رئيسها أبي القاسم عبد الحميد بن يحيى رحمة الله عليهما . وصار بوروده مجلسه أقربَ إليه من حبل الوريد ووزن بكفّه فضلاء زوزن فكان أرجح منهم وأوزن . وأقام بها مدة ثم استصحب بها عدة ثم انصرف حميد الحالتين حضراً أو سفراً مثْقل الظهرين شكراً ووَفْراً وهو ذو قلمين نظماً ونثراً . فمن ألفاظه المنثورة قوله : " المجالس أحلاها أخلاها " . وله في صفة مومسةٍ غير مونسة " " ما دامت حيةً تسعى فهي حيةٌ تسعى "
أنشدني الفقيه إبراهيم بن أبي نصر الهلاليّ الباخَرزيّ قال : أنشدنيه بزوزنَ لنفسه يعاتبُ بعض أصدقائه :
مَهلاً أَطلْتَ عُقوقَنا مُتجبِّراً ... ولقد مَطَلتَ حقوقنا متعذِّرا
قلت : ليس هذا الكلام في السلاسة إلاّ نثراً مرصّعاً مُقفّى من غير تعسُّفٍ ولا تكلُّفٍ
وله :
إذا ما العاذِلاتُ ذَممْنَ بَذْلي ... عصَيتُ العاذِلاتِ وصُنتُ نفسي
وخِفتُ النارَ من شُحٍّ مُطاعٍ ... وعِفتُ العارَ من مَنْعٍ وحَبسِ
وله :
نعيمُ البَعضِ عندَ البعض بؤسُ ... وسَعدُ البعْضِ عند البعض نَحسُ
سَقانا الدهرُ أرْياً بَعدَ شَرْيٍ ... فصِرْنا من كلا طَعميْهِ نَحْسو
ألا لا يغلبنْكَ اليومَ يأسُ ... لعلَّ الدهرَ ما قد شَجَّ يأسو
وله :
لا تهنّى مَن تمنّى ... معَ نَفْسٍ جاهِلَهْ
أنْ يساوي مَن تَعَنَّى ... في نفيس الجاه لهْ
وكأنه سمع بما يُحكى عن الإمام أبي الطيّب سهلٍ بن محمد بن سليمان الصعلوكيّ أنه كان يقول :
تَعدَّى من تمنّى ... أنْ يكونَ كمن يَعنّى
فنظمه بهذين البيتين له وزاد عليه بهذا التجنيس الأنيس . وله في مدح بعض الكُبراء :
نسيمُ الشمال وطيبُ الشَّمول ... بجَنب شَمائِلكَ الزاكيَهْ
كَحالِ الشِّمالِ بجَنْب اليَمين ... وحالِ السَّقامِ معَ العافيَهْ
وله في الغزل :
كم ليلةٍ بِتُّها والإلفُ يلْثمُني ... ألْفاً ويلزَمني كاللام والألِفِ
وله من نسيب قصيدة :
ذَوائبُ سُودٌ كالعَناقيد أُسبلَتْ ... فمن أجلها منها النُّفوسُ الذوائبُ
ومن أخرى :
عَجبتُ لنفسي كيفَ تسعى بروحِها ... وليس لروحي مَعلقٌ من حِبالها
ومن أخرى :
صارَمَتني مثلَ قَوسٍ ... نُزعتْ مذ صارَمَتني
وله في الحكمة والموعظة الحسنة :
سأجعلُ هَمّي في عِمارة مَنْهجٍ ... أضاءتْ لنا أعلامُه ومَراسمُهْ
وإنّ كريمَ القوم مَنْ إنْ أتيتَهُ ... لنطلُبَ نَيلاً بشَّرتْك مباسمُهُ
وله يصف الدنيا :
فإنْ تجتنبْها كنتَ سِلماً لأهلها ... وإنْ تجتذبْها نازعتْكَ كلابُها
وله يفتخر بالعِلم :
إذا ما أُناسٌ فاخَرونا بمالهم ... فإنّي بميراثِ النبيين فاخِرُ
ألم ترَ أنّ العلمَ يُذكرُ أهلُهُ ... بكلّ جميلٍ فيه والعظمُ ناخِرُ
سقى اللهُ أجْداثاً أجَنَّتْ مَعاشراً ... لهمْ أبحرٌ من كلّ علم زواخرُ
وله في ذمّ الدنيا وتلوّنها :
إنْ تَرَ الدنيا أغارتْ ... ونجومُ السَّعدِ غارتْ
فصروفُ الدهر شَتّى ... كُلّما جارتْ أجارتْ
وله :
ودِّعْ شبابكَ إذ رَحَلْ ... ودَعِ الغَزالَ مع الغَزَلْ
واستغْنِمِ الشَّيبَ الذي ... أهدى وقارَكَ إذْ نَزَلْ
أقبِحْ بشيخٍ مُحصَدٍ ... ركبَ البَطالةَ أو هَزلْ
وله من قصيدة أجاب بها عن القصيدة الواردة من الروم أوّلها : (1/110)
عجبتُ لنَظْمٍ صاغَهُ شرُّ ناظِمِ ... قضى هاذياً فيه قضيّةَ ظالمِ
يُفضّلُ عُبّادَ الصليب سَفاهةً ... بفيه الثَّرى فيما افْترى من عظائم
مَحَجّةُ دينِ الحقّ لاحت بحُجّةٍ ... فدينوا بها أو فالحقوا بالبهائمِ
ويا صاحب الروم انتبه قبل ركضنا ... ومن قبل أنْ تلقى نَديمَ المَنادم
لَعَمري لئنْ أعرضتَ عرَّضتَ أمّةً ... ونفْسَكَ للخِزْي المقيمِ المُلازم
لقد وضحتْ للروم أنْ رامَتِ الهُدى ... دلائلُ حَقٍّ ثابتاتُ الدعائمِ
تُجرِّعكم قَهراً طُعومَ عَلاقِمٍ ... وتَسْقيكُمُ قَسراً سُمومَ أراقِمِ
فكمْ نائحاتٍ للنُّحورِ ضَواربٍ ... وكم صائحاتٍ للخُدود لواطِمِ
أبو مُضر أحمد بن علي بن شُعيب
بن ما هانَ البخاريّ
أنشدني الحسن بن المحدّث السمرقنديّ قال : أنشدني هذا المذكور لنفسه يَرثي مروان بن محمد رحمه الله تعالى :
مروانُ مَرَّ وآنَ لي من بعده ... أنْ أستعِدَّ لِما إليه المَرجِعُ
مَروانُ أفْردَني فصِرتُ كأنّني ... غِمدٌ بلا نَصلٍ فأنّى أقطَعُ
المفضّل بن محمد الصَّغَانيّ
كتب إلى الحاكم أبي سعد بن دوسْتْ . يستهديه الرَّواصير :
حُبُّ الملاحِ الغَواني ليس يفعلُ بي ... ما كان يفعله حَبُّ الرّواصير
إنْ كان عندكَ ما أصبحتُ أطلُبُهُ ... فامنُنْ عليّ به من غير تقصير
فأجاب :
النَّظمُ والنَّثرُ في حُبّ الرواصير ... أبهى وأحسنُ من دُرِّ التقاصير
والخطُّ في حُسنه يَحكي مُخَدَّرةً ... مَقْصورةَ الحُسن في بعض المَقاصير
أبو إبراهيم إسماعيل بن أحمد
العامريّ الشاشي
قال يمدح فخر الدولة :
زمانُ الوصْل خَلسٌ واختصارُ ... أعاركَهُ الشياي المستعارُ
فرَكضاً في مَيادينِ التَّصابي ... أحَقُّ الخيل بالركض المُعارُ
وأيسَرُنا هوىً من حازَ دَمعاً ... يَفيضُ جَوىً وقلباً يُستطارُ
ديارٌ قد كرُمْنَ على الليالي ... فما يمحو محاسِنها القِطارُ
تمرُّ بها الحوادثُ مُطرقاتٍ ... وفيها عن مَعالمها ازْوِرار
ولو علمتْ بأيسرَ ما لقَينا ... بَكَتْنا فوقَ ما تَبكي الديار
ومنها :
وما بي حُبُّ غانيةٍ ولكنْ ... طِرازُ الشِّعرِ شَوقٌ وادِّكارُ
وهل من همّتي فضلٌ لقلبي ... فتسكنَهُ سعادٌ أو نَوارُ
يَعزُّ على القَنا وعلى يَميني ... إذا شَغلتْ أناملَها العُقارُ
نعمْ لي من كؤوسِ العَزمِ خَمرٌ ... ستُسكرُني وللعيش الخُمار
هي الدُّنيا تخيَّر مَن أرادتْ ... وليس لنا على الدُّنيا الخِيارُ
ولو قُسمتْ بقَدْر السَّعْي فينا ... لكان بزَنْدِ أكدَحِنا السِّوارُ
على هذا مضَوا وعليه نَمْضي ... لآخرنا وأوَّلنا اعتبار
يقولون : اقتصِرْ تستبقِ ذُخراً ... فعَنْ شَرفِ الفتى ينشو افتقارُ
وكيفَ يعيشُ مقتصراً لبيبٌ ... له الدنيا وما فيها اقتصار
فلو نادى بدولته الليالي ... أتتْ وخُطا حوادثها قِصار
وفي مِرطِ الحياء لها تَهادٍ ... وفي قيد الخُضوع لها عِثار
تَغايرُ فيه عيدٌ كسْرويٌّ ... وشَهرٌ حبلُ تَقواهُ مُغار
فعُدِّلَ أُنسُ ذاك بنُسْكِ هذا ... وصَحَّ الوَزنُ واعتدلَ العِيار
الإمام عبد الرزاق بن محمد الأندرابيّ (1/111)
رأيته في المعسكر بطوس مُطنِّباً في جوار الخيام النظامية مُنْطوياً في الخدمة على الإخلاص مشرَّفاً فيها بالاختصاص . وأصغيتُ إلى كلامه في مجلس النظر فإذا هو ألدُّ الخِصام يتمسّك من الجَدل بعُروة آمنةٍ من الانفصام . وقرأت له في كتاب " قلائد الشرف " من تأليف أبي عامر الجُرجانيّ ميمية مَوْسومةً بمدح الصاحب نظام المُلك استدللتُ على أخواتها واخترتُ لكتابي هذا ما يليق به من أبياتها وهي قوله :
تأتي الأمورُ على النِّيَّات والهِمَمِ ... وإنْ تَمشَّتْ على الأقدار والقِسَمِ
والرَّوحُ يصدرُ عن كَدٍّ وعن تَعَبٍ ... والمُلُكُ يُحرَزُ بالصَّمصام والقَلم
ومنها في المدح :
لم يُجْز " لا " قَطُّ في أثناء مَنطقِهِ ... كأنّه ما درى لفظاً سِوى نَعَمِ
أحمد ين علي التِّرمذيُّ
من المُنتظَمين في مُدّاح الصاحب نظام المُلك يقول من قصيدة :
مَدَحتُكَ من بين البريّة واثقاً ... بأنّكَ تَدْري ما أقولُ وتَفْهمُ
وما عَلقتْ إلاّ عليكَ خَواطري ... ولا كِدتُ إلاّ في ثَنائكَ أنظمُ
وكلُّ نَوالٍ دونَ سَيبكَ ناقِصٌ ... وكلُّ مَديحٍ في سِواكَ مُحرَّم
أبو نصر أحمد بن محمد النَّسَفيّ
أنشدني الأديب الورع الحسن السمرقنديّ المحدِّث قال : أنشدني الأديب لنفسه من قصيدة يمدح بها قوماً :
فمنهُمْ هُداةُ الدينِ في كلِّ مَحضَرٍ ... ومنهمْ كُفاةُ المُلكِ في كل عَسكر
ولم يَخلُ من أخبارهم بطنُ دفترٍ ... يَبوحُ بعَلياهُمْ ولا ظَهرُ مِنْبرِ
أبو الحسن علي بن محمد الكسائيّ
المجتهد المقيم بنَسفَ وهو مَروَزيّ الأصل . أنشدني الحسين السمرقنديّ له :
إن شئتَ أن تَلقى عصير الجَلْمَدِ ... أو مُخَّ ساقَيْ بقّةٍ في فَدْفَدِ
فانظرْ إلى مستنزَرٍ مُستكرهٍ ... برّتْ به يدُ حاتم بن محمد
أبو نصر الخالديُّ النَّسفيّ
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي رحمه الله قال : أنشدني الأستاذ أبو محمد العَبدُلْكانيّ الزوزنيّ قال : أنشدني الخالديُّ لنفسه :
اللهُ أكبرُ والمسعودُ من سُعِدا ... بالله قد أنجزَ الرحمنُ وما وَعَدا
حُكمٌ من الله أنّ الأرض يملكُها ... مَسعودُ ثمّ بنوه خُلِّدوا أبَدا
القاضي أبو عليّ النَّخْشَبيّ
وليَ قضاء نيسابور وبها أقام وفي مروٍ نام . كتب إلى الوزير أبي القاسم البوزْجانيّ :
بنى الشيخُ داريْن إحداهُما ... لدُنياه فائقةٌ فاخِرَهْ
وأخرى إلى جَنبها للمَعاد ... وما هيَ عنها بمستاخِرَهْ
فبوركَ للشيخ في مَنزلَيْ ... ه ؛ منزلِ دنياه والآخِرهْ
محمد بن المؤمَّل اليَشْكُريّ
المقيم ببخارا . كان عند أبي علي بن أبي الخير وقد رُدّ إليه غلامٌ كان حُمل إليه أسيراً إلى بَلْخان . فدخل عليه وقد ترنّم المغنّي بين يديه الوأواء الدمشقيّ :
خُذْ يا غُلامُ عِنانَ طَرفكَ فاثْنِهِ ... عنّي فقد حَوتِ الشَّمولُ عِناني
فأجاب بقوله :
خلعَ العِنانَ أبو عليٍّ في النَّدى ... وخلعْتُ عنّي في هَواهُ عِناني
إنّ الهلالَ منَ السماء طُلوعُهُ ... وهلالُهُ وافاهُ من بَلْخانِ
والآنَ موكبُهُ يُطرِّز إذْ بدت ... في العين عِقدُ قِلادِة الغِلمانِ
وله أيضاً في غلام نفخ في كوز ماء وهو سَقّاءٌ :
ساقٍ يمرُّ بجَرَّةٍ في سوقِهِ ... والبَدرُ يطلعُ في مُزَرَّرِ زيقِهِ
نفخَ القَذى عن كوزه والقلبُ من ... شوقٍ إليه مضرَّمٌ بحَريقه
فأخذتُهُ وشربتُ منهُ مُعلِّلاً ... للقلب أنّ النَّفْحَ مَرَّ بريقِهِ
وله في بعض أولاد العَلَويّة :
غُصنٌ يلوحُ على تثنّي قدّه ... من نورِ أهل البيت فاخِرُ بُردِهِ
فكأنّ يوسُفَ في الجمال أقامه ... لينوبَ عنهُ خليفةً من بعدهِ
وكأنّما كتبتْ على وَجَناتِهِ ... بمِدادِ صُدغَيه ولايةُ عهدِهِ (1/112)
لما نظَرتُ إليه قال جَماله : ... بالله صَلِّ على أبيه وجدِّه
القسم السادس
في شعراء خراسان وقهستان وبست
وغزنة وما يضاف اليها
الأمير العالم
أبو الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي
لو قيل لي : من أمير الفضل لقلت : الأمير أبو الفضل . وقد صحبته بعدما أناف على الثمانين وفارقته وهواي مع الركب اليمانين ونادمته فلم أقرع على منادمته سن الندم وقدمت عليه فغمرني إنعامه من الفرق إلى القدم . وجالسته فأحمدته في كل أمر وكأني جليس قعقاع بن عمرو . وأما أدبه فقد كان على ذبول عوده غضاً يكاد يغض من أزهار الربيع غضاً . وأما شعره فقد أعلى أهل الصناعة بشعار الانتماء إليه ورفرفت الشعراء بأجنحة الاستفادة عليه . وأما رسائله فرسل يدر وسلك لا يخونه الدر . ومن تأمل منثورة في المخزون على أنه فرحة المحزون وشفاء القلب السقيم وعقلة المستوفز وأنس المقيم . وسئل الشيخ والدي عنه فقال : إذا قطع الشعر قطع الشعر ولكنه إذا قصد اقتصد . فمن كلامه الذي يوسى به الكلم ويظلم إذا قيس بعذوبته الظلم قوله : وهو من أذناب أماليه الذي أنشدنيها لنفسه إملاء منه علي :
تفرق الناس في أرزاقهم فرقاً ... فلابس من ثراء المال أو عار
كذا المعايش في الدنيا وساكنها ... مقسومة بين أدماث وأوعار
من ظن بالله جواراً في قضيته ... افتر عن مأثم في الدين أوعار
وأنشدني أيضاً لنفسه :
لئن أنت ناصبت بدر الدّجى ... ونازعت شمس الضحى أوجها
لما كنت أفضل في حالة ... من الكلب عندي ولا أوجها
وأنشدني أيضاً لنفسه :
تمت صنائعه فما يزري بها ... مع فضله وسخائه وكماله
إلا قصور وجوده عن جوده ... لا عيب للرجل الكريم كماله
وأنشدني لنفسه في مدح أبيه :
مبدع في شمائل المجد خيماً ... ما اهتدينا لأخذه واقتباسه
فهو فظّ بالمال وقت نداه ... وجواد بالعفو في وقت باسه
وله :
وما المرء في دنياه إلا كهاجعٍ ... تراءت له الأحلام وهي خوادع
ينعّمه طيف من اللهو باطل ... ويوقظه يوم من الدهر فاجع
وأنشدني لنفسه :
أقيك بنفسي صروف الردى ... وحاشاك يا أملي أن تحينا
وقدّمت قبلك نحو الحمام ... وبعد مماتي فعش أنت حينا
وأنشدني أيضاً لنفسه في معمى :
غزال ينثني فيريك غصنا ... ويرنو تارةً فيريك ريما
كريم كله ظرف ولكن ... إذا سميته فاقلب كريما
وأنشدني أيضاً لنفسه :
إذا دها خطب فآراؤه ... تغني عن الجيش وتسريبه
وإن دجا ليل بدا نوره ... للركب نجماً فهي تسري به
وأنشدنا أيضاً لنفسه :
تعزّ عن الحرص تعزز به ... ففي الطمع الذل والمنقصة
ولا تنزلن أبداً حاجةً ... بمن كابد البؤس والمخمصه
ولو نال نجم الدجى ثروة ... وأوطأ شمس الضحى أخمصه
وأنشدنا لنفسه أيضاً :
أوصاك ربك بالتقى ... وأولو النهى أوصوا معه
فاجعل لنسكك طول عم ... رك مسجداً أو صومعه
القاضي أبو أحمد منصور بن محمد
الأزدي الهروي
أفضل من بخراسان على الإطلاق وأطبعهم بالاتفاق ويرجع إلى نظم أحسن من انتظام الأحوال ونثر كما يهي عن الدر سلك اللآل . وديوان شعره يبلغ أربعين ألف بيت وناهيك به من كثير ليس بعدو للطبيعة ولا مستهدف للوقيعة . ولكنه أعذب من جنى النحل شيب بماء الوقيعة . ورسائله ألذ في الأسماع من عهود التصابي وأصيد للقلوب من كلام الصادين ؛ الصاحب والصابي . وللشيخ والدي رحمه الله فيه قصيدة أولها :
قالوا : تفتش عن أولي المجد ... من في الأنام لطالبي الرفد
فأجبت : قاضينا وسيدنا ... منصور ابن محمد الأزدي
واقترح عليه أن يجيب عنها نثراً في فصل من رقعة كتب بها إليه وهو : " لا يعدّ بناحيتنا في الفتاك من الشبان والشطار من الفتيان من يبخل بإنفاق نظم عقد على تحصيل نثار ورد " (1/113)
قلت : وهذا معنى غريب اتفق له في التماس الغرض المشار إليه فلذلك نصصت عليه . وقد أوتي القاضي أبو محمد رحمه الله حظاً وافراً من حياته وبلغ أرذل العمر من وفاته فانطحن تحت رحياته . وأثر فيه الهرم تأثيراً نشّف ريّه وأطر سمهريّه وحجب طرفه وإن لم يحجب ظرفه . وكف ألحاظه وإن لم يكف ألفاظه وقصر من خطواته وإن لم يقصر من خطراته حتى كتب في معناها إلى بعض أصدقائه :
قصة تقصيري فيها قصر ... فأذن لعذرٍ مشبعٍ مختصر
شيئان عذري فيهما واضح ... سواد حالي وبياض البصر
وكان مغرىً بالشراب مغرماً بالإطراب يمناه متوجة بكأس الرحيق ويسراه مقرطة بعروة الإبريق . وخمرياته مما يحكم له فيها بالفضل على الحكمي وغزلياته مما يحصل بها مطاوعة الغزال الأبي
وكتب إليه السيد شرف السادة محمد بن عبيد الله الحسيني البلخي كتاباً صدره بهذه الأبيات :
لك الخير إن الدهر سلم مسلم ... من الذم مذ خبرت أنك سالم
وإن زماناً سالمتك صروفه ... زمان بقدر الدين والفضل عالم
ومهما تحامتك المكاره وأتقت ... ذراك العوادي والخطوب الثوالم
فإن أنا ظلمت الزمان ظلمته ... وغير زمان قد وفى لك ظالم
وبعدها كتابي أطال الله تعالى بقاء القاضي الجليل كتاب من عفا عن قلبي أثره وانطوى عن سمعي خبره ومحا رسوم مواصلته القدم وغيّرها الأرواح والديم وهو مع طول العهد واستمرار النأي والبعد ثابت في وداده دائم على اعتقاده متحزم بزمام الثناء والدعاء متمسك بعرا الولاء والإخاء . والحمد لله كفاء حقه والصلاة على محمد خير خلقه جدنا المصطفى وآله
وقد كنت والدار شاسعة والعوائق متناسقة متتابعة . والمسافة بيننا تكل المطي الخواطر بل تكلّ الأفكار والخواطر والدهر ينقص من زماعي ما أبرم والناس على مرور الأيام تستحكم أتوقع مع ذلك وصاله وأترصد خياله . والشوق يلتهب ضرامه والصبر هيهات مرامه !
وربما أنتجع مساقط كلامه ومواقع أقلامه فأتسلى بها قليلاً وأعلل هذا القلب تعليلاً وكيف ظنه بالشوق وناره والقلب وأواره وقد قرب المزار وتدانت الديار . وبيننا مسيرة غاسق لعاشق قد اتصلت بي ريّاه وتمثلي لي محياه . فأحلم بهرات أضعاف ما احتلم الوليد بمنبج وأتشوقها وزان ما تشوق رسوم منعج . ولولا أني أسير حبائل هذه النعمة وحبيس وظائف هذه الخدمة لنهضت نهضة الكرام بل طفرت طفرة النظام بل امتطيت الريح وطويت المهامه الفيح وما على الله أن يصل الحبل ويجمع الدار والشمل . فيبل غليلاً أوقده البعد ويبل عليلاً أكمده الوجد بعزيز ولا عن فضله ببعيد
الأمير أبو الفتح الحاتمي
وهو الثقة فيما يؤديه والأمين على ما يذره من هذه السفارة ويأتيه يصدر له حالي واختصاصها ونفسي وإخلاصها ويورد وإن أطنب وأجاد وأبدى وأعاد قليلاً من كثير ما أنا به من ولايته وشرف إخائه متكثر وبجماله معتد مفتخر وعليه من حسن الثناء وصالح الدعاء محافظ وله مراع ملاحظ . فليثق بما يورده عليه ويقرره من هذه الجملة لديه . وقد قيل : رسول الرجل رائد عقله وإذا كان مثله الرسول فلا أدري ما أقول ولا أزيد . فإن تأكدت الحال واتسع المجال وسوغ لي الاسترسال :
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
فإن رأى أن يوقع هذه المباسطة الموقع المعهود من فضله ويبوئها المربع المألوف من كرمه وطوله ويؤنسني كل وقت بخطابه وما يسنح له من أوطاره وآرابه فعل إن شاء الله عز و جل : الجواب من القاضي منصور رحمه الله :
فداؤك نفسي قد محتني يد البلى ... على أنني فيما ترى العين سالم
وهيهات ما لي في السلامة مطمع ... ولكنني مستسلم متسالم
أؤمل أن ألقاك يوماً وليتني ... فيلقى هشاماً سالم الملك سالم
سلمت ففي ظل السلامة يكتسي ... ملابسها للمكرمات مسالم (1/114)
كتابي أطال الله بقاء السيد ثم الأجلّ فالأجلّ والأعظم فالأعظم والأكرم فالأكرم والأنفس فالأنفس والأشرف فالأشرف وهلم جرا ما وجد الخالع للحبل مجراً من الثناء والدعاء والتقريظ والاطراء وجميع ما يخرج من هذا الوعاء ويكفيني الاكتفاء باسم جنان . فلم أخرج من عيان إلى بيان . ولولا الأخذ بالسنة في مطاولة الحبيب للحبيب وفرحة الأديب بالأديب وأنس الغريب بالغريب واهتزاز المريض للطبيب لأجللت مجلسه أنسه الله عن التثقيل والتطويل والإبرام بمد الكلام
ولكني عرفت خلقه خلقاً عظيماً وطبعاً كريماً وسجية سرية وهمة علية . فوثقت بالعفو واشتيار ما عندي من الكدر بما عنده من الصفو . فأرسلت نفسي على سجيتها . وقد حدثت نفسي وأجلت فكري وشاورت صحبي وراجعت وسمي وفهمي واستعرضت نثري ونظمي في أن آتي بكلام بديع بعيد ونظام ما يشك امرؤ أنه نظام فريد
فلما رأيته سلك من الدر ما سلك وسبك من التبر ما سبك وفرك من المسك ما فرك وحرك من سلسلة الإعجاز ما حرك نبهت عقلي وقست خلي ببقلي ونظرت في فتري وشبري . وتذكرت ما ذهب من خيري وشري وقلت : يا أبا أحمد أعزك الله اعلم الحال ثم اطلب المحال واعرف ثم اهرف ولا تروج الزيف على الناقد ولا تهد الطيف إلى الراقد ولا تتعرض للمس النجوم الثواقب
ولا تسبح بقصير باعك في البحر ملتطم الغوارب . واسكت فقد حان لك السكوت ونسج عليك العنكبوت وكادت تخلو منك البيوت . وذهب السمع والبصر وبطل العين والأثر وتناثر التمر والكثر وجمع الشمس والقمر واضمحل الليل والسمر . ولم يبق إلا القضاء والقدر
الشيب وكل شين والعمى وكل عيب وأحوال الزمان وما بها خفاء وجفاء أهله ومن أين لهم جفاء وبدون هذا ينفق الحمار ثم إن كان لا بد فمن المضيرة وصل كتاب السيد الجليل وما أعدت السيد تكريراً ولكن تقريراً . فالأول اسم هو لا بد منه متسم حتى يكون سجعاً له والثاني صفة جملته بها متصفة ومعانيها له منتظمة مرتصفة حتى يكون ثانياً واللفظ من هاهنا لشعبة . وقد تضمن من الفضل والأفضال والإحسان والإجمال والتوفر والإيجاب والرعاية والإكرام فيما أولانيه من بره الجزيل ورفعني إليه من قدره الجليل . وذكرني به مما لا ينسب إلا إليه ولا يوقف إلا عليه ولا يوجد إلا لديه ولا يجمع إلا تحت يديه من الجميل . وهذا أيضاً من ذاك القبيل تسجيع كما يراه وترجيع كما يرضاه أو لا يرضاه
ثم وقف الجمل وكثر الوحل وللسجع حركته وأراه يجوز وأن لم يجز أجزته والدليل عليه قول القائل : " ولا وحيرة الحمار في الطين " . ولعل السيد يقول : هذا الشيخ أيده الله قد خرف وهذا أمر قد عرف وأنا به معترف ومن بحره مغترف وغيري للذنب فيه مقترف . إن قال فمقبول وإن عفا فالعفو عند رسول الله مأمول وهو بحمد الله تعالى غصن من تلك النبعة وبعض من تلك الجملة وخليج من ذلك البحر وضياء من ذلك البدر
ولا عجب أن أقتدي ولا بدع أن أهتدي فأما الجواب لفظاً بلفظ وحرفاً بحرف ومعنىً بمعنى وكلمةً بكلمة على الرسم بين الأقران والعادة بين الإخوان والطريقة بين أبناء الزمان فما أقل عقل الإنسان !
وما أعده من الصواب في هذا الجواب أن أعرض عن الهذيان بعدما حيل بين العير والنزوان . وأنشد :
إن ابن جفنة من بقية معشرٍ
أبيات حسان وقد أحسن فيها كل الإحسان إلى آخر الدستان . وقد جمعت بين الملح والأشنان ووفقت لما انتهيت إلى هذا المكان . شكر الله سعيه وحيا وجهه وسقى ربعه وطيب ذكره ورفع قدره وتولى عني شكره :
وإني وإن فارقت نجداً وأهله ... لمحترق الأحشاء شوقاً إلى نجد
أروح على وجد وأغدو على وجد ... وأعشق أخلاقاً خلقن من المجد
وإن تجمع الأيام بيني وبينه ثم لم يسمح خاطري بما أردته بعده والسلام . ولرأيه التوفيق والعلو والسداد والصواب والرشاد وكل ما ذكره في هذا الباب البلغاء والشعراء والخطباء والكتاب . وهذا صحيح على القياس وإن لم يكن متداولاً بين الناس وأعوذ بالله من الوسواس الخناس إن شاء الله وبه الثقة (1/115)
قلت : وقد أوردت الكتابين على الوجه لما فيهما من ألفاظ كأنها غمزات ألحاظ واقتباسات من الأشعار واختلاسات من الأخبار . وعندي أن الأيام لم تجد قط ولا تجود بمثل هذين الإمامين الهمامين وأرجو ألا أنسب في هذا الحكم إلى الميل والمين . فمما حضرني من مقطعاته التي هي قطع الرياض قوله :
إذا ما كنت معتقداً صديقاً ... فجرّبه بأحوال ثلاث
مشاركةٍ إذا ما عنّ خطب ... وإسعاف بعين أو أثاث
وسرّك فأتمنه عليه وانظر ... أيكتم أم يذيع بلا اكتراث
فإن صادفت ما ترضى وإلا ... فإن المرء ذو عقدٍ رثاث
وله :
جرت لك عادة في الخير عندي ... بلغت بها المدى شرفاً وعزا
فلا تقطع بواحدة ولكن ... إذا ما لم تكن إبل فمعزى
وقد حان انتقاص من قواها ... فطار القلب مني واستفزا
وله :
يا رب أذللت قوماً ... يا رب كن لي معزاً
سميتني لك عبداً ... حسبي بذلك عزاً
وله أيضاً :
إذا ما كنت لا تحظى ... ولا تستعمل اللحظا
فأشقى الناس من يستع ... مل اللحظ ولا يحظى
وله :
لا تغبط المتورطين وإن غدوا ... ومحلهم بين الورى ملحوظ
وانظر مصارعهم تكن لك عبرةً ... إن السعيد بغيره موعوظ
وله أيضاً :
ومنتقب بالورد قبلت خده ... وما لفؤادي من هواه خلاص
فأعرض عني مغضباً قلت : لا تجر ... وقبّل فمي إن الجروح قصاص
وله أيضاً :
وصاحبٍ لي ثقيل ... قد طال قداً وقامه
فساعة منه عندي ... في طول يوم القيامه
القرب منه بلاء ... والبعد عنه سلامه
ومن محاسنه قوله :
فصل العصر وشهر الصوم ينسلخ ... فأي عهدٍ وعقدٍ ليس ينفسخ
فما لنا لا نرى شيئاً نسر به ... ونحن شوقاً إلى اللذات نصطرخ
والعود أخرس والساقي على طرف ... والكاس في جانب والزق منتفخ
والروض أخضر نضر والهواء ندٍ ... والقلب باللوم والتعنيف متسخ
وللعصير اغتياظ من تلوننا ... يكاد من حره في الدن ينطبخ
فهاتها مزةً حمراء صافيةً ... تملي السرور على قلبي فينتسخ
وسابق الدهر إن الدهر ذو غيرٍ ... ونحن في غفلة والعمر ينسلخ
وله :
إذا كنت ذا علم وما راك جاهل ... فأعرض ففي ترك الجواب جواب
وإن لم تصب في القول فاسكت فإنما ... سكوتك عن غير الصواب صواب
السيد الرئيس ذو المجدين
أبو القاسم علي بن موسى الموسوي
جمال العترة الموسوية الممعن منها في الطريقة السوية . وإذا علوي لم يكن مثله في كرم المناسب وشرف المناصب فما هو إلا حجة للنواصب . وقد سعدت بضيافته رمضان سنة سبع وأربعين وأربعمئة فرأيت من دسته المطروح وزنده المقدوح نعيماً وملكاً كبيراً وخيراً وخيراً وفضلاً كثيراً . كما قلت في قصيدتي التي أوردت بعضاً منها :
أتاك الصيام فعاشرته ... بقلب تقي وعرض نقي
وأوجبت للقوم هشم الثريد ... على شرط منصبك الهاشمي
فعيّد إذا الأفق في الغرب بث ... سناً من جلي به منجلي
ولو لم تسد مكان النبي ... لأصبح رتماً مكان النبي
ولو ذهبت أصف ما تلقاني به من تشريف وتقريب وأهلني له من تأهيل وترحيب وحكمني فيه من إنزال وأنزال وخلع علي من جاه ومال لخرجت من شرط هذا الكتاب . واستهدفت من ألسنة النقاد لسهام العتاب
أما الأدب فمنه وإليه ومعول أرباب الصنعة عليه . وأما الخلق فكما يقتضيه الإسلام وكأنه منتسخ من أخلاق جده عليه السلام . وأما الجاه فمسلم له غير متنازع فيه . وأما المحل فسلم لا يسلم من الزلل مرتقيه . وأما الرئاسة فقد ألقت إليه الأرسان . وأما النقابة فقد فرشت له رفرفها الخضر وعبقريتها الحسان . وهذا مكان غرر من كلماته ودرر من حصياته يلوح عليها سيماء النبوة ويحيط بحواليها سماء المروءة (1/116)
أنشدني لنفسه بمرور سنة أربع وأربعين وأربعمئة قوله :
رجوتك حيناً والرجاء وسيلة ... وحسبك لوماً أن تخيب راجيا
ووالله لا تبقى على الحرّ نعمة ... فجد واغتنم شكراً على الدهر باقيا
وقوله أيضاً :
إذا أنا لم أهتز للجود والندى ... فمن ذا الذي يهتز يا أم مالك
ذريني وإنفاقي لمالي على العلا ... ورأيك فيما اخترت من حفظ مالك
فجود يميني عادة عرفت بها ... وكل يمين لم تجد كشمالك
وما أنا ممن ينتهي عن سماحة ... بنهيك إذ تنهينني بجمالك
ولا عذل ربات الجمال بمانعي ... مكارمي اللاتي سرت في الممالك
ومهما يضيق حالي وأنكرت عيشتي ... فلي فسحة الأرض ذات المسالك
وقوله :
أليس عجيباً أنّ مثلي خاضع ... لمثلك والأملاك حولي خضع
وأنك تعصيني وتملك طاعتي ... وأملاك هذا الدهر لي منك أطوع
وبي نخوة عند الملوك وعزة ... على أنني أخشى لديك وأخشع
ولولا الهوى ما قادني لك قائد ... ولكنه ما شاء بالحر يصنع
وقوله :
يا أضعف العالمين وصلاً ... وأشغف الناس بالفراق
ومن غرامي به شديد ... ليس يداوى بألف راق
ومن لحاني على هواه ... أهل خراسان والعراق
إن كان لا بد من فراق ... فعن وداع وعن عناق
وزورة ترغم الأعادي ... وخلوة حلوة المذاق
وقوله :
بينا نرجي إياباً من أحبتنا ... ونستعد لأن نلقاهم زمرا
إذ قام ناعيهم فينا فصبحنا ... من نعيهم بدواه تكسف القمرا
يا حسرة إذ رجونا الالتقاء غداً ... والموت مستدرج يمشي لنا الخمرا
وله أيضاً :
ما لي وللعلة لازمتها ... ولازمتني كلزوم الغريم
كأنها عافت لئام الورى ... ثم اصطفت كل صفي كريم
قال الأديب يعقوب بن أحمد النيسابوري واللفظ من هاهنا له : ما أحسن ما اعتذر للعلة عن جناياتها عليه وإساءتها إليه بلفظ يتضمن امتداح أصله وشرف عرفه والمعنى الذي أشار إليه كما قال المتنبي في قصيدة له :
ومنازل الحمى الجسوم فقل لنا : ... ما عذرها في تركها خيراتها
وزائرة المتنبي عافت ما بذل لها من المطارف والحشايا فباتت في عظامه . وهذه عافت لئام الورى واصطفته لإعظامه . وأنشدني له الأديب يعقوب بن أحمد قال أنشدني لنفسه :
لقد حسدت قوم بلوغي من العلا ... مبالغ لا يرجون شقّ غبارها
وهل يلزم السارين وصماً على السرى ... رجال تحب النوم في عقر دارها
وحدثني الأديب يعقوب بن أحمد أيده الله قال : كان بين يدي السيد الرئيس كتاب وكنت أنظر في عنوانه فقال : يعنيني كأنه نسي اسمي فهو يريد إثباته بالنظر فيه . فنظمت بيتين ليعلم أن اسمه السامي مثبت في أول السطر من صحيفة الصدر لا تمحوه يد الزمان ولا يستولي عليه سلطان النسيان وهما :
يقولون لي : هل للمكارم والعلا ... قوام ففيه لو علمت دوامها
فقلت لهم والصدق خلق ألفته ... علي بن موسى الموسوي قوامها
قال : ثم قلت بعد شاهداً بجود يديه بالإمامة ومفضلاً إياه على صاحبيه حاتم وابن مامه :
بذي المجدين سيدنا ... ومولانا أبي القاسم
علي من غدا ركن ال ... علا ثغر الندى باسم
فكعب دون كعبيه ... ومن غلمانه حاتم
فإن الجود موروث ... له من جده هاشم
وله فيه أيضاً :
يقول صديق لي : دلني ... على برمك الجود أو حاتم
فقلت وأقسمت برب العلا ... علي بن موسى أبو قاسم
السيد العالم شرف السادة أبو الحسن
محمد بن عبد الله الحسيني العلوي البلخي (1/117)
سيد السادات وشرفهم وبحر العلماء ومغترفهم وتاج الأشراف العلوية المتفرعين من الجرثومة النبوية الشادخين غرر الآداب في أجبنة الأنساب . وهو ولا ثنويه من الشرفين في الذروة العليا وفي المجدين من أسنمة الدنيا . تنوس على عالم العلم ذوائبه وتقرطس أهداف الآداب صوائبه
ولم يزل أمام سرير الملك قدم صدق يطلع في سماء الفخر بدره ويوطئ أعناق النجوم قدره . وأقل ما يعد من محصوله جمعه بين ثمار الآداب وأصوله ووصفه بأنه ينثر فينفث في عقد السحر ويحلق إلى الشعرى إذا أسف إلى الشعر فأما الذي وراءه من العلوم الإلهية التي أجال فيها الأفكار وافتض منها الأبكار . فمما لا يحصروا لا يحزر ولا يعد ولا يحد . وقد حضرت بغداد سنة خمس وخمسين وانحدرت منها إلى البصرة فإذا ذكره الذي سار ودوخ الأمصار . وطار فنقب الأقطاب والأمصار . وقد سبقني إليهما وترادف على أثري منه ما زاحمني عليهما ورأيت ديوان شعره في دار العلم ببغداد مدوناً يزن وراقته المستفيدون أحمر منقشاً وأبيض مدوراً . وقد صحبته عشرين سنة أرتدي في ظلال نعمه العيش الناعم حتى فراخ وسائلي قشاعم فكم زممت إليه المطية وركزت على مكارمه الحظية مادحاً لما اشتهر على الألسنة من حسبه ونسبه وآخذاً بحظي من نشبه وأدبه . ولم يرتع ناظري في الروض الناضر إلا بتأملي مواقع أقلامه ولا صار سمعي صدف اللآلئ إلا بتقرطي روائع كلامه . وليس استرواحي إلى التنويه باسمه والإشادة بذكره إلا نوع تعليل ومتى احتاج النهار إلى دليل وما أنا في ترنمي بذكراه وتعطري برباه إلا النسيم نمّ على الروض بمسراه والصبح بشر بالشمس محياه . وقد جملت كتابي هذا من مأثور منثوره ونجوم منظومه وكلماته العلوية في افتخاراته العلوية وغزلياته المعشقة وخمرياته المفسقة ما يعلق من كعبة المجد والفخر ويعقد تاجاً على مفرق الدهر . وله في النثر كلمات قصار كل واحدة منها تقصار وهي محذوة على مثال الأمثال كقوله : " من أراد معرفة الله فلينظر في السماء والأرض كيف خلقتا وقد دامتا فما خلقتا وليعلم أن البناء لا بد بان كالكتاب لا بد له من بنان " . وقوله : " من استغنى عن الدنيا فكأنه دعاها إلى الإمتاع " . ومن حرص عليها فكأنه أغراها بالامتناع الإجمال في الطلب والمداراة للنوب يوميان إلى النجاح ويومنان من الافتضاح الجود بالحقيقة بذل الحق والبخل منعه فمن منع الحق كان معذراً ومن بذل فوق الحق كان مبذراً . أهنأ الجود بذل الإمكان على المكان . اللئيم من قصر عن الواجب من غير قصر في يديه أو قصور فيما لديه . أقدم إذا وجدت مقدماً فالجري بالظفر حري والهائب خائب . المجد الاستكثار من المحاسن ومن استكثر منها فقد مجد والنجدة الاستهانة بالموت ومن استهان به فقد نجد . معاداة الأغنياء من عادات الأغبياء ؛ لأن الغني اعتزاؤه إلى الله . واعتزازه بصنع الله . الغني معان ومن عادى معاناً فقد عاد مهانا إياك والإقبال فلا تزاحمه والأشقى فلا تلاطمه من دق نجارك على نجاره فلا تجاره . ومن قصر حسامك عن حسامه فلا تسامه . إذا التهبت الخطوب فعليك بالخمود فكل التهاب إلى انطفاء وكل انقضاض إلى القضاء . التواضع أمان من التقاطع والتملق أمان من التفرق . التغافل عن بعض الأمور تعاقل والتنامس في بعضها تكايس . ليس للفسوق سوق ولا للرياء رواء . ومن نظر في الأقسام أقدم على تجوير القسام ومن نظر في حكمته عدل في حكومته . الحسن درهم ثلثه طينة وثلثاه زينة . الكسلان مرعاه التواني ورعيه الأماني . الصدقة تمنع النفوس من الترقي إلى التراقي "
قلت : وقد مرت بك رسالته التي خاطب بها القاضي المنصور بن محمد الهروي رحمه الله وعرفت هناك درجة كلامه في الإخوانيات . وهاك نموذجاً من بيانه في السلطانيات : كتب - رضي الله عنه - في فتح هرات من السلطان الشهيد ألب أرسلان أنار الله برهانه كتاباً إلى الرعايا بها وبالله العصمة والتوفيق : بسم الله الرحمن الرحيم : (1/118)
" الحمد لله مولي النعم من حمدها ومنزل النقم على من كدها الكافل لشاكريها بالمزيد والثبات الخاذل لمنكريها بالزوال والفوات الموالي بينهما لمن أحسن ولايتها والقاطع رعايته عمن أسار رعايتها الممتع في ظلالها من ربطها بالعرفان المغص بزلالها من غمطها بالكفران يؤتيها من يشاء إذا أكرم جوارها وينزعها ممن يشاء إذا جهل أقدارها . فله الحمد على توفيقه لحمده ثم على سائر نعمه من بعده . والحمد لله الذي بعث محمداً خاتم النبين وأرسله رحمة للعالمين وهدانا به إلى توحيده . وكنا في الجاهلية الجهلاء وأرشدنا إلى تمجيده وكنا في الفترة العمياء وعلمنا على لسانه وفي محكم قرآنه الأعراف بنعمه والاحتراز من نقمه والارتباط بالشكر من مواهبه وقسمه . فصلوات الله على خيرته من خلقه وصفوته من بريته ؛ محمد عبده ورسوله وعلى آله وأصحابه والحمد لله الذي جعل الدولة القاهرة الجغرية محفوفة بالإعزاز أين توجهت راياتها ومكنوفة بالإعجاز أين تليت آياتها ومنصورة بالرعب مسيره شهر بلا عام ومعتادة للظفر بمرام بعد مرام وإرغام للدول بعد إرغام . وقد أعلى الله كلمتها ليحتج بها على الغامطين لحقه القاسطين في خلقه فيأتي بنيانهم من القواعد ويبعدهم بسيوفها البورق الرواعد "
فصل منه : " وعاود المتظلمون مجالسنا مستنفرين وبآرائنا وراياتنا مستنصرين فنفرنا بعون الله وقوته في سائر أوليائنا وموالينا وخواصنا وحواشينا وانقضضنا على الخائن كالنجم الثاقب وأحطنا به من جميع الجوانب وبدأنا مرة بعد أخرى بتذكيره أيام الله فيمن نقض عهده وتعدى حده وخالف أمره وأمن مكره فلم يزده دعاؤنا إلا فراراً واستقالتنا إلا إصراراً ومن غوايته استكثاراً . إدلالاً منه بوثائقة حصاره وتكاثف أنصاره . فحاكمناه إلى الله عز و جل وناصبناه الحرب صباحاً ومساءً وأسقيناه كؤوس الثكل بأعزته ملاءً وولاءً . واتفق لنا عليه أكثر من عشرين وقعة تجلى منهم عن أسرى مكبلين وجرحى مجدلين وقتلى مرملين "
فصل منه : " وأما أرسلان فهو النسر الواقع سناً وكبراً والنحس الطالع عيناً وأثراً فأثخنه بعض غلماننا بطعنة في آخر وقعاتنا احتملت بروحه إلى النار لمجاورة الكفار وبئس عقبى الدار . فسقط الخائن في يديه عند انثلام حديه وانهدام ركنيه وفشا الفشل في رجاله والنهب في أمواله فلم ير بعد للمناجزة مجالاً وللمبارزة مساغاً . وانحجر انحجاراً أشبه فراراً وألبسه خزياً وعاراً . فلم تبد لنا صفحة غواته إلا على السور كالنسور يلحقون بالأسياف والجحف ويحامون بالأحجار والخزف ظناً خائباً منه بأن المصابرة والمطاولة تفضيان إلى العوائق المانعة من إرهاقه والحوادث المنفسة عن خناقه . فلما ألقت الشتوة جرانها ونثرت السحائب جمانها وجرت العواصف أردانها أوجب الرأي معاد الراية العالية إلى مقرها للإجمام ومقامنا للإجهاز على الخائن والإتمام
وأقمنا ببوشنج في خواص غلماننا وجرائد خيولنا وفرساننا . ونصبنا على الخائن المسالح والمراصد وعسرنا عليه المطالب والمقاصد . وأخذنا عليه بأطراف الأرض وأقطار السماء وقطعنا عنه مواد المر والمرافق حتى الماء وهو مع ذلك يجاهد ويصابر ويباهت عقله ويكابر ويقاسم المسلمين في هرات مساك أرماقهم وسدد إعوازهم وإملاقهم وعلمنا نحن أن الخائن لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم "
قلت : أبصر هذه البلاغة كأن البلاغة في كل لفظة منها حساماً يرد على طليته أو سناناً بلغ في كليته . وهناك ما شئت من تناسب وتناسق وتجانس وتطابق واستعارة من أخبار والتفاتة من آثار واختلاسة من أشعار . وإنما اغترف منشئها من بحر غزير إذا اغترف سواه من نهر أو غدير
وهذا حين أنتقل من نثار ورده إلى نظام عقده وابتدئ من تشبيباته بما هو أمتع من برود الشباب وأنقع من برود الشراب فمنها قوله في قصيدة مدح بها الصاحب الوزير أبا نصر بن علي بن محمد بن عبد الصمد الشيرازي رجب سنة خمس وعشرين وأربعمئة وهي :
وقفنا على دار لريا نزورها ... وقد خف أهلوها وغارت بدورها
أزرنا دموع العين دار التي لها ... على البعد طيف لا يزال يزورها
وقد دثرت من بعدها غير أنها ... أجد غرام الزائريها دثورها (1/119)
عذيري من عين يفيض غروبها ... نجيعاً ونفس قد تناهى غرورها
إذا اعتادها الشوق استجارت من الجوى ... بأسراب دمع ضاع من يستجيرها
وما أنس لا أنس العقيق وحسنها ... وقد ناسب الآصال طياً هجيرها
معاهد لا ينوي النزوع خليعها ... بهن ولا يرجو الخلاص أسيرها
بواد تحار العين فيه إذا اجتلت ... وقد عمه عين الظباء وحورها
إذا رام أن يصطاد منها مغرر ... تصيده من بينهن غريرها
ليالي كنا بين لهو نثيره ... وخشف نناغيه وكأس نديرها
فدلت عليها الحادثات وإنها ... سجية دنيا لا يدوم سرورها
وقوله من أخرى مدحه بها أيضاً :
أشبه الغصن إذ تأود قداً ... وحكى الورد إذ تفتح خدا
وثنى للوداع في حومة البي ... ن بناناً يكاد يعقد عقدا
ولقد حاول الكلام فحاشى ... واشييه فأسبل الدمع سردا
وإذا فاجأ المشوق جنود ال ... بين عبى من المدامع جندا
لست أنسى وإن تقادم عهد ... عهد أحبابنا بنجد ونجدا
حين غصن الشباب غض ونجم ال ... وصل سعد بحسن إسعاد سعدى
وغزالاً قد أورث البدر غيظاً ... وجهه الطلق والغزالة حقدا
ألف الصد والتجنب حتى ... علم الطيف في الكرى أن يصدا
فسقى عهده العهاد وإن لم ... يقض حقاً لنا ولم يرع عهدا
بل سقاه ندى الوزير فجدوى ... راحتيه أهنا وأجدى وأندى
ومن أخرى فيه :
بدا بالعتاب وثنى بصد ... وحل فأزرى بعقد عقد
وعلم أصداغه الفاتنا ... ت ما في مودته من أود
فطوراً تعطف كالصولجان ... وطوراً تحلق مثل الزرد
وإن ظمئت من طراد النسيم ... وردن ثنايا له كالبرد
ولما التقينا على غفلة ... وغاب الرقيب وزال الرصد
وقد نظمت في أساريره ... لفرط الجياء عقود النجد
أشار بساحرة للقلوب ... إلي ونافثة في العقد
وما ضر لو جاد لي بالسلام ... وروح من بعض هذا الكمد
وقد كنت أرضى بنيل القليل ... ورب غليل شفاه الثمد
ومن أخرى فيه أيضاً :
أراعك أن تجري الدموع كما تجري ... وقد جد من يجري إلى الوصل والهجر
أتعجب أن أرعى المصابيح في الدجى ... وقد زالت الشمس المنيرة عن حجري
أيجمل تأنيبي وجمل سرت بها ... جمالية تشأى الجمائل إذ تسري
لك الله من قال له لفظ وامق ... يرى أنه يسلي ولكنه يغري
يكلفني الصبر الجميل وإنما ... يجرعني كأساً أمر من الصبر
وساحرة الألحاظ لم أدر قبلها ... بأن تناهى الحسن ينفث في السحر
ترد الغصون المائدات بحسرة ... وتثني البدور الطالعات على وتر
نأت فرمت قلبي من الشوق بالذي ... رمى لذعه سمعي عن العذل بالوقر
ولا أنس يوم البين إذ عاق وصلنا ... تقلب أيام تفل كما تبري
وقد ألصق التوديع خدي بخدها ... كما انضم موشي الرياض إلى الغدر
فلم أر يوماً كان أكثر أدمعاً ... تفيض وأحشاء طوين على جمر
فسرت ولا غيلان يندب مية ... وسارت ولا الخنساء تثني على صخر
وكل يرى أن النوى يورث الهوى ... فتوراً وأن النأي يفضي إلى الغدر
عذيري من قلب تعذر كفه ... كمهر خلا المرعى خالع العذر
إذا أعجبته نظرة أسرعت به ... إلى زفرة تمتد أو عبرة تجري
أزال الشباب الغض في طاعة الهوى ... وأحنى على نواره المشرق النضر (1/120)
فوافته رواد المشيب مغذةً ... وجنح الدجى رهن وإن طال بالفجر
فلم يبق منه غير أطلال ظاعن ... وعما قليل ليس يبقى سوى الذكر
ومن غزلياته الرقيقة المشتملة على المعاني الدقيقة قوله :
لو كنت أعلم أن هجرك دائم ... لمنعت حبك أن يطور فؤادي
أو كنت أعلم أن نوءك مخلف ... لمنعت طيفك أن يزور وسادي
ولكنت أربح فيك غيض مدامعي ... وسلو أحشائي وطيب رقادي
لكن ظننت بأن جدي ربما ... يجدي ويغنم فيك طول جهادي
ويجود لي حيث الجياد وكدها ... بالري من غللي وفرط جوادي
ولربما أكدى وإن بلغ المدى ... حذق الطلوب وحيلة المرتاد
وقوله :
عاد رسم الكلاكلات الطوال ... فانثنت صبوتي وعاد خبالي
ولقد تبت برهة فبدا لي ... حسنها في اطرادها فبدا لي
ما لقينا من مرسلات طوال ... أسلمتنا إلى ليال طوال
حالكات كأنها العذب السو ... د أنافت على قدود العوالي
متعبات من النسيم تراها ... أبداً في بدال لام بذال
وإذا ما ظمئن أوردن ريقاً ... برداً من ضواحك كاللآلي
فهي تسقى من ذوبهن سلافاً ... قد أحلت فلا تفيق بحال
أكسد المسك طيبهن وأزرى ... بالغوالي فهن غير غوال
أيأست ثم أطمعت حين لاحت ... في سواد النوى وعرف الوصال
وقوله :
قد عيل صبرك بعد إسماعيل ... فنظمت واكف عبرة بعويل
بهر العقول كماله وجماله ... فغدا جميل الصبر غير جميل
أفديه من قمر تقر بحسنه ... أقمار هذا العصر بالتفضيل
أفدي غزالاً في كناس غلالة ... وغزالةً في مشرق المنديل
يرنو إلي بساحرين أراهما ... أولى من الشفتين بالتقبيل
ويفيض عين السلسبيل بثغره ... ويفيظ من ظمأ الهوى برسيل
لو كان يعلم ما بنا لرثى لنا ... شفقاً بنقدٍ منه أو تأميل
والنفح ليس يغض من زهر الربا ... والورد ليس بناقص لليل
ولربما سمح البكي بدره ... وشفى الغليل تعلل بقليل
وقوله فيه أيضاً :
قالوا : رأيت كإسماعيل من رشأ ... فقلت : شرواه في دار الخلود يرى
من ذا رأى الحور في الدنيا معاينة ... أم من يشاهد ما بين الورى قمراً
أعجب به بانة فرعاء ناضرة ... تري عناقيد من مسك لها ثمرا
إذا بدا وجهه أو لاح مبسمه ... أو جاد بالقول إما قل أو كثرا
رأيت في عارضيه الدر منسكباً ... والدر منتظماً والدر منتسرا
سبحان خالقه ما كان أقدره ... أن يفضح العقل أو أن يفتن البشرا !
لو شاء أوسع أهل الأرض قاطبةً ... من ثغره سكراً أو طرفه سكرا
وقوله في غيره :
شد النطاق بخصره ... فغدا فريداً في جماله
يجني اللجين من الجبا ... ل فكيف رد إلى جباله
وقوله :
أفدي بروحي من قلبي كوجنته ... في الوصف لا الحكم فالأحكام تفترق
أعجب بحرقة قلب ماله لهب ... ومن تلهب خد ليس يحترق !
وقوله :
بدا للعيون كبدر الدجى ... أحيط بخط من الغاليه
فخط تسنن في زيه ... وخد من الشيع الغاليه
وقوله وهو مما يتغنى به :
أنعم علي بما مثلي به قمن ... ولا تبيعن عبداً ما له ثمن
وليجمل الصنع من دان الجمال له ... وليحسن الخلق ممن خلقه حسن
لا تأثمن بظن في أخي ثقة ... وفي القلوب شهود إذ عرت ظنن
واخبر بقلبك إخلاصاً أمت به ... فخالص التبر بالأحجار يمتحن
وقوله أيضاً :
نهيت الدموع فلم تقصر ... ولمت الفؤاد فلم يبصر (1/121)
وعرست في منزل داثر ... فألفيت وجدي لم يدثر
وذكرني رسمه غدره ... فحنّ الفؤاد ولم يغدر
فظلمة عيشي وتنكيده ... لبعدي عن القمر الأزهر
وشقرة دمعي وتوريده ... لوجدي على الشعر الأشقر
وقد يحلك المسك لكنه ... تورد من خده الأحمر
ومن خمرياته التي ترتاح لها كؤوس الشراب فتبسم عن ثغور الحباب قوله :
دعوت نديمي للغبوق فكبرا ... وقام بنظم الشمل فيه وشمرا
وأنبت من زهر الأحبة روضةً ... وأجرى من الراح السبيئة كوثرا
وأنحى على سود تبطحن بيننا ... فطل دم منها أريق وأهدرا
وأذكى لنفي الليل ناراً وقهوة ... وأغرى بطرد الهم ناياً ومزهرا
وأقعد عن يمناي شمساً منيرةً ... وأوقد من يسراي شمعاً منورا
فأطلع من كفي رطلين أشبها ... شهابين لاحا للعيون فغورا
شراباً ذكا قبل البزال وميضه ... فأطربنا قبل المذاق وأسكرا
وأنشأ يغنيني بشعري وشعره ... ويودع في الأسماع أرياً وجوهرا
فبتنا بليل صاب مزن سروره ... فأورق غصن اللهو فيه فأثمرا
وأشرق من لألائه الجو فاستحى ... سنا الصبح فيه أن ينير ويسفرا
فكم قد لثمنا فيه من وجه غادة ... كسوناه من نسج الفواقع معجرا
وكم قد تنقلنا بثغر مفلج ... أهب لنا مسكاً وأطعم سكرا !
فيا ليلة طالت وطابت وعهدنا ... بأمثالها من رجعة الطرف قصرا
ومن كان مثل الشاركي شريكه ... على اللهو طال الذيل منه فجررا
نعمت بخوارزم فكأنني ... بقطربلٍ في مسرجي أو بعكبرا
وعلى ذكر الشاركي فقد أنشدني السيد العالم رضي الله عنه لنفسه قصيدة له ألفية تنخرط في سلك الخمريات ما رأيت ولا رويت أبدع منها ولا أبرع :
أرى الشاركي شريك الزمان ... شديد الصدود كثير الجفاء
قصير الندام سريع الفطام ... زهيد السلام عزيز اللقاء
يواصلنا ليلةً فردة ... ويهجر عشر الفرط اجتواء
فإلمامه فلتة المبدعين ... وإغبابه فترة الأنبياء
كأن لم ير الفضل ملء الإهاب ... لدينا ولا الأنس ملء الرداء
ولم ير للطارق المستضي ... ف رحب الفناء ورعب الإناء
أتنسى ليالينا الزاهرات ... وأرحلنا المزهرات الفناء
ليالي الشتاء وأوفى الزمان ... بأنس الكرام ليالي الشتاء
وليلة أنس أضاءت لنا ... جلابيبه مثل رأد الضحاء
وردنا بها العيش عذب المذاق ... وزرنا بها اللهو طلق الرواء
صفت عن قذى فوجدنا الزما ... ن أقبل فيها بوجه الصفاء
فبتنا نمزق برد النفاق ... علينا ونلقي رداء الرياء
وندفع عنا عسوف الشتاء ... بنار الصلاء ونار الطلاء
ونجلب فيه نسيم الربيع ... بنشر الشمول ونشر الكباء
ونركز ما بيننا ذبلاً ... تنضض لا للوغى واللقاء
قناً تقتنى لطعان الدجى ... ونفي الصدا عن متون الهواء
وقد أينعت في حبير الحبور ... بروق المدام رعود الغناء
ولجّ السقاة بهات وهاء ... وعجّ الحساة بهوي وهاء
ودار علينا بأكوابها ... مزيل الظلام مديل الضياء
غزال من الترك حشو القباء ... يدير الغزالة حشو الإناء
يرقرق في الكأس أنس الحزين ... وعذر الخليع وغيظ المرائي
وينظم بالمزج در الحباب ... وينظم في المزج در الحياء
كؤوساً تدار على الانتخاب ... بغير اتساق وغير اقتفاء
ملاء ولاء وما ساق بال ... هموم كمثل الملاء الولاء (1/122)
وردن الشفاه بأرواحها ... وأفلتن منها بأدنى ذماء
وقد رقد الدهر عن عصبةٍ ... كسمط الثريا وسام وضاء
بدور الوجوه سنىً في سناء ... بحور الأكف غنى في غناء
فيا لك ليلاً عديم المثال ... عطية دهر عديم السخاء
قصير البقاء ووقت السرور ... قليل الثواء قصير البقاء
وله من أبيات خمرية في قصيدة فخرية . وفيها أنموذج من طرده يدل على حسن تهديه في نظمه وسرده :
ولكم رعيت العيش وهو مفتق ... وهززت غصن الأنس وهو رطيب
وشققت جيب اللهو في صدر المنى ... ولقد تشق من السرور جيوب
وأجبت هاتفه الصباح بنعرة ... أضحى لها بقلوبهن وجيب
ولقيت مائرة النشاط مرحباً ... بلسان زير واللغات ضروب
وشربت كل معتق متعصفر ... لسناه قبل مذاقه تطريب
قد ربه زمناً وساس دنانه ... كسرى أبو سلسان وهو ربيب
وأغر من كمت الكريم يزينه ... من عكسه التحجيل والتحبيب
صاف بها يصفو السرور كأنه ... ذوب النضار به الهموم تذوب
شرباً كما انقض الكواكب لا يرى ... في دوره نسق ولا ترتيب
وأثرت كدر الطير من أوكارها ... والجو أكدر والثرى مهضوب
والصبح يبدو في الظلام كما انجلى ... بعض الحسام وجله مقروب
بمعلم صرم تخال إذا انهوى ... في كل جارحة له ألهوب
قد زين بالإحراق فضة زوره ... ويزين موق وظيفه التذهيب
يفري فري الخاطفات كأنه ... قدر على قمم القطا مصبوب
ورميت غزلان الصريم بأقدح ... مبرية يرمى بها فتصيب
خذم السبوت إذا أرين غروبها ... دمعت لآرام الظباء غروب
فصرعت جاهدها بعفو هناتها ... والدهر أغلب قرنه مغلوب
ومن فخرياته التي يطويها على لسان الآباء وخلد بها مناقب الأبناء وتغلغل خاطره في معانيها تغلغل النار في الأباء قوله من قصيدة فريدة أولها :
أقامت على نأيها زينب ... وساعدها طيفها الخلب
وما فاتني اليوم غر الرجال ... ولا خانني اليد والمقضب
وما ارتبت أن نواصي الجياد ... حبال المآرب إذ تجذب
ولا أتقي مذهباً كان لي أو ... علي إذا ضاق بي المذهب
ولكن عجفاً كزغب القطا ... وولهى إلى جنبها تندب
وشيخاً لنا من حتوف العثار ... يغيث العشيرة إذ تجدب
لقد قصر الدهر من خطوه ... فقصر في دفع ما يحزب
هم ذللوني لريب الخطوب ... وكنت عليهن أستصعب
وهم صفقوني حتى عذبت ... وكنت ممراً لمن يشرب
ولولاهم كنت أحمي الذمار ... وآبى الصغار ولا أصحب
خليلي قولاً ورداً علي ... إذا ارتبتما في الذي أطنب
علام لوى الدهر ديني ولم ... أطال مطال الذي أطلب
وإني عقد على نحره ... وتاج بمفرقه يعصب
أقصرت في غاية عن بني ... ه أم حاد عن نيلها لي أب
تعبر عن منبتي فارس ... وتعرب عن منصبي يعرب
وأضحت خراسان ليلاً دجاً ... فلم يسر غيري بها كوكب
ولي من نبي الهدى رتبتان ... إليه بكلتيهما أنسب
فأصل مناكبه تعتلي ... وفضل مشاربه تعذب
أقر العدو بها والولي ... واعترف الشرق والمغرب
وله من أخرى :
وإني من قوم إذا ما تنمر ال ... ليالي تلقوا صرفها بالتنمر
جديرون أن يستصغروا كل مكبر ... ويزروا بقدر الأبلخ المتكبر (1/123)
بدا في الورى في كل يوم تقدم ... صدورهم في كل يوم تصدر
بقرباهم قد ساد كل خليفة ... وبالأمر منهم ساس كل مؤمر
إذا ما دعوا يال النبي تضعضع الر ... رواسي لأعلام رواسي تستر
بنى الله فوق الساريات بيوتنا ... بأحمده المحمود ثم بحيدر
تقلبنا كف الوصي وحجره ... ويرضعنا در النبي المطهر
ونحن تنقدنا الأنام من العمى ... ووشك الردى والجاحم المتسعر
ونحن كسرنا الوثن والصلب كلها ... ونحن وسمنا أنف كسرى وقيصر
ونحن أمان الناس من كل موبق ... ونحن نجوم الأرض في كل معذر
فيدعو لنا في الفرض كل موحد ... ويدعو بنا في الفضل كل مكبر
ويسمو إلى تفضيلنا كل موقن ... ويفضي إلى تنقيصنا كل ممتر
ويفخر جهلاً عندنا كل أرعن ... يزاحم رعن الأخشب المتوعر
يكاثر غزر القطر عند انهلاله ... ويكثر من نبح الهلال المنور
فما لي لا أستنزل النجم قاعداً ... وأحني لقىً من ذروة المتجبر
وما لي أستسقي ولي كل آلة ... تنزل در الآل في كل مقفر
وقد ذفت من حلو الزمان ومره ... وجربت طوري عرفه والتنكر
فلم أر أزري بالعلا من تسوف ... ولم أر أحوى للمنى من تشمر
قضيت لأقلامي ديوناً كثيرة ... وقد حل دين المشرفي المشهر
وذبيت دهراً عن دسوت حللتها ... وقد حان ذبي عن سريري ومنبري
وقال يرثي والدته رحمة الله عليه :
أيدري الذي ينعاك من ذا الذي ينعى ... وأي لهيب يودع القلب والسمعا
فيا عين جودي وانزفي كل مدمع ... وجودي بإنسانيك إن عدما الدمعا
لقد هدت الأيام ركناً من التقى ... وأقذين عيناً تكلأ المجد والشرعا
وأهدت إلى آل النبي رزيةً ... أطالت مدى الأيام واستوفت النزعا
وأبرزن بيضات الخدور حواسراً ... وأدمعها حمراً وأوجهها سفعا
يروق الدم الجاري من العين بعدها ... كسلك من الياقوت أسلكته جزعا
دهتني بالأصل الذي أنا فرعه ... ألا كل أصل مر يستتبع الفرعا
مقلدة من خوف خالقها حلى ... ولابسة من صون خالقها درعا
رأت دهرها لم يتسع لهمومها ... وأفعالها الحسنى فضاقت بها ذرعا
ولو غالها غير القضاء ولا ترى ... لحتم قضاء الله في خلقه دفعا
لسدت بنوها الأفق بالخيل والقنا ... وردت شعاع الشمس في نسجها النقعا
لحا الله ذي الدنيا مراداً ومنزلاً ... فما أغدر المثوى وما أوبأ المرعى !
تدلل كالحسناء في حسن وجهها ... ولكنها في قبح أفعالها أفعى
نرى أننا نسعى لخير نناله ... وقد وطئت أقدامنا حية تسعى
فوا أسفا لو كان يجدي تأسف ... ويا حسرتا لو أنها نفعت نفعا
ويا نفس لا بدع لظهرك في الأسى ... فليس الذي فاجاك نكراً ولا بدعا
ويا قلب سمعاً للعزاء وطاعةً ... تطع بهما العقل المنبه والسمعا
العميد أبو بكر علي بن الحسن القهستاني (1/124)
هو من الرخج أصلاً ونسباً وإن كان يعرف بالقهستاني لقباً يجل باشتهاره عن تكلف الأوصاف والشروح ولا يمس شعره قرح من القروح . وهو في الشعر كذي القروح . التقيت به وهو على أشراف خراسان سنة خمس وثلاثين وأربعمئة والصبا أرن بنزع الأواخي والرغبة في الاستفادة تعقد بيني وبين الفضلاء التواخي . ومدحته ببعض أشعار الصبا وهي كما قال شرف السادة : التمر باللبا . وأعجبتني في النظم طرائقه وملكني منه شائقه ورائقه . وكأن طبعي أدى صورة طبعه بتطلعه في مرائيه أو كأن خاطره أم موسى إذ قالت لأخته : قصية . فأنا مقتص أثره وعاشق ليله وسمره . ومن رأى ما ينقدح من خاطري علم أنها نتيجة عفاره ومرخه ومن أبصر تصرفي في الكلام تبين أنه صقر عني . بزق فرخه فمن شعره الذي يمتزج بأجزاء النفس قوله في الأمير أبي أحمد محمد بن محمود رضي الله عنه :
يسرك أن أرى دنفاً حزيناً ... لك البشرى بما ترضى رضينا
ولكني إذا ما طبت نفساً ... بما تهوى فكيف أرى حزينا
رضاك رضاي لا آباه شيئاً ... ولو قتلي ولا أزوي الجبينا
ولو زدت العذاب ولست تألو ... لما استروحت بالشكوى أنينا
فدت نفسي ولو ملكت يميني ... سواها ما بخلت به يمينا
وما ملكت يميني غير نفسي ... وها هي عنك لست بها ضنينا
ولم أنفس على نفسي بحين ... ولكن لم يحن لي أن أحينا
أيا مسكين قلبي ذبت قسراً ... وأعطيت المقادة مستكينا
نصحتك لو قبلت نصيحةً لي ... ولكن لا تحب الناصحينا
لقد خلق الهوى يا قلب ناراً ... فما لك والهوى وخلقت طينا
تذوب ولا تتوب رجاء يوم ... يضم حشا المنى منه جنينا
وبين جوانحي نار تلظى ... كما تلقى الأمير يهيج حينا
محمداً ابن محمود أبا أح ... مد مولى أمير المؤمنينا
جلال الدولة الغلباء دنيا ... جمال الملة العلياء دينا
ولي العهد عهد الملك طوبى ... لنا إذ ظل ظلّ الله فينا
ومن أبكار المعاني قوله في هذه القصيدة يعرض بأخيه الأمير مسعود ويذمه بالعبالة ويثني على ممدوحه بالنحافة :
فإلا تلقه جسماً قوياً ... فقد تلقى به الروح الأمينا
براه هوى العلا حتى تراه ... كنصل حسامه حدا ولينا
وليس الطبل في الهيجاء يغني ... غناء السيف فاعلمه يقينا
قلت : وقد أحسن البديع أبو الفضل الهمذاني في الاعتذار عن النحافة بقوله من قصيدة له :
هلم إلى نحيف الجسم مني ... لتنظر كيف آثار النحاف
ولي جسد كواحدة المثاني ... له كبد كثالثة الأثافي
قلت : أبصر كيف نظم الأعداد من الواحد إلى الثلاثة على ترتيبها بمعنى يجمعها ويضم أطرافها ولا يكاد ينقضي إعجابي بهذا البيت . وللقهستاني أيضاً من قصيدة أولها :
أهلاً بطيف قد جلاه لنا الكرى ... وا نعمتا لو كان حقاً ما أرى
يا ماء عيني ليس يروي ظمأها ... نظري إليك وأن أديم وأكثرا
ويزيدني ما ازددت منه غلة ... ملح أرى في ماء وجهك قد جرى
ويشف كبدي برد ريقك إنه ... برد يزيد به الغليل تسعرا
يا من حكى شجر الصنوبر قده ... حقاً لقد علقتك أفئدة الورى
إن القلوب حكت ثمار صنوبر ... علقن من ذاك القوام صنوبرا
ومنها فيما أقدم عليه دهقان ولوالج في تقبيح صورته عند سلطانه :
تعساً أبا إسحق يا دبر القفا ... أنى أنخت لماضغي ليث الشرى
كالتيس أصبح باحثاً عن مدية ... بك لا بظبي بالصريمة أعفرا
هلا تأبطت السلامة غانماً ... متوقياً دئب الغضا يمشي الضرا
إذ يرتعي وسطاً ويربض جحرة ... تيهاً على تيس القرى الغفر القرا
إيهاً وزير الشرق عفوك إنما ... قد سدت كي تهب الذنوب وتغفرا
ولكم يد أوليتنيها طلقة ... لم تولها شمس الضحى النيلوفرا (1/125)
في غمرة من فيض كفك شاكر ... نعماك مذك من ثنائك مجمرا
أهتز حين أراك فرط محبة ... فرحاً بوجهك ضاحكاً مستبشرا
ومتى بعدت غضضت طرفي واجماً ... ونكست رأسي ذابلاً متكسرا
فاسق الصنيعة إن أردت نماءها ... ما غرسك الممنوع ماء مثمرا
إن الزمان زمان سوء فاغتنم ... فيه الجميل مبادراً أن يغدرا
وإذا قدرت على اصطناع فابتدر ... وتوله من قبل أن لن تقدرا
إن الألى ثلموا لديك مودتي ... عمدوا إلى علياء شماء الذرا
نشروا هباء أن رأوك أضاتني ... شمس الكفاة ولفقوا كذباً فرا
وأراك مثل الظل يا شمس العلا ... معهم تميل أليس ذلك منكرا
أنا ما قنصت عبودتي لك عدّ عن ... غيري فكل الصيد في جوف الفرا
أزرى بقدري أن تراك ملكتني ... والشيء تملكه بعينك مزدرى
ولو أنني من غير أرضك لم يكن ... أحد يوازيني لديك كما ترى
لكن سهم القرب خاط طائش ... ولقد تنال العين إلا المحجرا
وكذاك عود الهند في بلدانه ... حطب الوقود به يباع ويشتري
وعساي إن وليت عنك برحلة ... ثم انصرفت حظيت منك موقرا
فالبحر يصعد قطره في مزنه ... ويعود حين يعود فيه جوهرا
قلت : تعالى الله ما أعلى هذا الكلام وأحسن هذا النظام :
ووالله ما أدري أزيدت ملاحةً ... وحسناً على النسوان أم ليس لي عقل
وله من قصيدة إلى المرتضى الموسوي البغدادي يقول في تشبيبها ما لم أسمع بمثله في الاعتذار عن المنام والتورية عنه بمعاريض الكلام :
أراعي نجوماً من دموعي طوالعاً ... ضللت بها صبري وبالنجم يهتدى
ولم أبق بعد الظاعنين فديتهم ... لأبقى ولكني لأشقى وأكمدا
رأى طيف سعدى غضي الطرف أن يرى ... سواها فظنت لي لواحظ هجدا
وما نمت لكن مات إنسان ناظري ... فبوأته من جفن عيني ملحدا
فردت وما ردت جواب تحيتي ... وما ضر سلمى لو أجابت مسلّما
فما ذقت إلا ماء عيني مشرباً ... وما نلت إلا لحم كفي مطعما
وله أيضاً :
إن شباباً وإن خمرا ... وإن لي فيهما لأمرا
ما أنا والنسك والتقري ... وإن زيداً وإن عمرا
معصية اللائمين فيها ... فهي وكلتاهما وتمرا
يا لائمي والملام لغو ... لأشربن ما حييت خمرا
ما أنت مني ولم فقل لي : ... تغمرني بالملام غمرا
يقال : أطعم أخاك تمرا ... فإن نبا أو أبى فجمرا
دعني لشأني وحال بالي ... لا تمطرني الهموم همرا
فالراح راح لكل روح ... لا تسددنه علي سمرا
فإن تساعد بها هنياً ... أو لا فأهنا لها وأمرا
العيش راح فخذه شرباً ... أو لا فريح فخذه زمرا
وأنشدني لنفسه يهجو بعض الفقهاء :
لنا عالم يؤتى فيأتي بحجة ... على ذاك من أخبار علم وآيات
وقلنا له : الإسلام يعلو ولم يكن ... ليعلى فقال : العلم يؤتى ولا ياتي
وأنشدني ايضاً لنفسه :
هذا ابن ماتي تائه في عجبه ... متبذخ متنفخ جبروتا
يأتي إلى الأحرار يقعد فوقهم ... وينام من تحت العبيد فيوتى
وله في معنى وفاه حقه :
وإني ؛ ولا كفران لله مالك ... عناني أهديه القناعة مذهبا
يكلفني قوم تكاليف عيشهم ... لكيما ينالوا خفض عيش وأنصبا
أأشقى بنيران ليسعد صاحبي ... بضوء وطيب كالذبالة والكبا
كما الفلك الأعلى يدور على الورى ... ويهدي لهم شمساً وبدراً وكوكبا (1/126)
وله في عيادة بعض السادة :
هنيئاً لك يا سي ... دنا ما أنت شراب
وأرجو أن جلاب ... ك للصحة جلاب
وله من غزلياته قوله :
بعمي وخالي ذلك الخال إنه ... ختام على ماء الحياة لشاربه
وقد زيد في ياقوتتي شفتيه لي ... ودر ثناياه زبرجد شاربه
أواحد قلب الصب ثاني روحه ... وثالث عينيه رويد الجفاء به
وكتب على رقعة وعلقها فوق المجلس الذي كان يدخل إليه أصحاب الخفاف فيه ليكون مسداً لذلك الباب ومزجرة لأولي الألباب
إلى الله شكواي من عصبة ... يدوسون دستي وكبدي بها
فيا رب سلط عليها يداً ... على مردها وعلى شيبها
تحسن تأديب تلك الرؤوس ... بها لإساءة تأديبها
ومن غزلياته قوله :
بنفسي وجهك ذاك الذي ... يؤثر للطف فيه النظر
كوجه المراة تنفست فيه ... فأبقى التنفس فيه الأثر
وكتب إليه أبو محمد الحسين بن تميم :
قل للعميد ولست معتمداً على ... خلق سواه فلا سبلت عمادي
اطعم هنيئاً إن ضيفك جائع ... واشرب مريئاً إن ضيفك صاد
أغدو إليك كما أروح على جوى ... وطوى فقل في رائح أو غاد
فأجاب أبو بكر :
لبيك يا مولاي بل سعديك من ... لفظين ؛ تلبية ومن إسعاد
لا اشربن ولا أكلت على الصدى ... والجوع غير دمي وغير فؤادي
قلت : وأنا متخلص من ذكر هؤلاء الخمسة إلى ذكر صدرين كانا من أركان الحضرتين وأعيان الدولتين . ولهما عندي أياد أعد منها ولا أعددها
أحدهما :
شيخ الدولة ثقة الحضرتين أبو الحسن
علي بن محمد بن عيسى البركردزي
خدمته وله همة تنطح الجوزاء بالقمم ومحل يعصر عنقود الثريا تحت القدم :
ولي فيه ما لم يقل قائل ... وما لم يسر قمر حيث سارا
وهن إذا سرن من مقولي ... وثبن الجبال وخضن البحارا
وكان رضي الله عنه في السخاء ضرة البحار وفي الاشتهار شمس النهار . جامعاً بين أدبي البنان والبيان على طرفي القلم واللسان . وكان الغالب عليه علم الحساب كما قلت فيه من أبيات :
لولا غنى الجبار عن خلقه ... لكان مستوفي يوم الحساب
وقد ملح الأديب البارع الزوزني حيث قال فيه :
وقالوا : إمام في الحساب مقدم ... فما باله يعطي بغير حساب
وكتبه الفارسية بله العربية مدونة في الأوراق منقشة على الأحداق . وله فيها فن لا يحيط به ظن وأسلوب من كافة أهل الصناعة مسلوب . وكانت لي وراء رأيه مواعيد الإقبال لو أرخي له طول البقاء لطويت يدي منها على النعمة البيضاء وسرحت سوام رجائي في الروضة الخضراء . ولكن الأجل غامض ذاك الأجل . ففارقنتي أمطار بنانه وإن لم تنضب عني أمواه غدرانه وقي بقاء أيام الصاحب نظم الملك تدارك للفوائد والفوائت وأعواض لذواهب الأعراض ولي لأزمة النعم المصرة على الإعراض وقرطسة لغوامض الأغراض . والله تعالى بفضله وكرمه ورحمته يحرس الباقي ويرحم الماضي ويمهل الأيام النظامية من غير أن تسيء التقاضي
وليس يحضرني من شعر شيخ الدولتين إلا أبيات له في الشيخ الفقيه أبي الفتح الصيمري الذي سبق ذكره . وقد عنّ له في بعض الطرق أشعث أغبر مشوش العمامة معشب الهامة قد لفّ بدنه في شمل من الثياب كالصارم أغمد على صداه في القراب بأظفار لم يقطع الحديد من أجرام بدورها هلالاً وأسنان كأنها لم تعرف قط سواكاً ولا خلالاً . حتى تأدت به الحال من عدم التقشف إلى الافتضاح والتكشف . وقال فيه شيخ الدولتين رحمه الله :
بنبي الهدى وحق ذويه ... ساءني ما رأيتك اليوم فيه
من تراخي العظام عند قيام ... وفتور الكلام مع ما يليه
تفث المرء حين يقضي حلال ... وجمال يحق أن يقتنيه
فاقضه لا عدمت وجهك تسلم ... من خلال تزري بكل وجيه
قلت : قد أحسن في الاقتباس من كلام رب الناس حيث يقول جل وعز : " ثم ليقضوا تفثهم "
والآخر :
عميد الملك
أبو نصر منصور بن محمد الكندري (1/127)
تجاوز الله عن سيئاته وثقل ميزانه بحسناته . جمعني وإياه مجلس الإمام الموفق رحمة الله عليه سنة أربع وثلاثين وأربعمئة والحال حويلة والبحر دجيلة والرحل في العنوق ولم يبلغ النوق
فعاشرت منه شاباً مهر حداثته مروح ورأيت هنالك جسماً كله روح . وما زالت الاتفاقات الحسنة تجذبه إلى علو حتى صار من الذين بالنجوم انتعلوا وقلد أولاً إشراف الباب فوفاه شرطه وسام أركان الدولة القتاد وخرطه وكاشفهم في ذلك لحجاب الحشمة مخترقاً وعقد بهم أذنيه للسمع مسترقاً وضم من شمل احتجاناتهم ما كان مفترقاً . يأمر وينهى ويتجسس وحسن موقع غنائه من السلطان طغرلبك أبان الله برهانه فلم يرض له بالإسفاف إلى عمل الإشراف فإن الإنهاء نميمة وليس للنمام قيمة . وانتضاه لولاية خوارزم وفوقه إلى أغراضها بعدما سدد قدحه وركب فيه نصله وعزق فيه قوسه فقرطس الهدف من المرمى القصي وأصاب به شاكلة الرمي . ولم يزل به الشباب ونزقاته والشيطان ونزغاته حتى عصى وشق العصا وهو من بطر الولاية سكران ملتخ يحبو إلى الحب ووراءه فخ فما راعه إلا :
طلائع تبدو من سروج سوافن ... نزائع ينقلن الردى صهواتها
رأوا نقهعا فظنوا غمامة ... فما شعروا حتى بدت جبهاتها
وأنزل من صياصيه وسفع بنواصيه وأذيق وبال معاصيه . أما علوه فقد مسخ وأما سفله فقد نسخ كما قلت فيه من قصيدة :
طاب العميد الكندري شمائلاً ... حتى استعار الروض منه مخائلا
يدعى أبا نصر وصنع الله نا ... صره أخيم أم توجه راحلا
طمحت إلى خوارزم همته كما ... سلك الهزبر إلى العرين مداخلا
لما غدا جيحون طوع مراده ... كيف اقتضاه جامداً أو سائلا
واستحسنت فيها الثعالب لبسه ... لفرائها فاختزن حتفاً عاجلا
شق العصا وعصى غضاضةً ... في أن يبيت مهادنا ومجاملا
قالوا : محا السلطان عنه لا محا ... سمة الفحول وكان قرماً صائلا
قلت : اسكتوا فالآن زيد فحولةً ... لما اغتدي عن أنثييه عاطلا
والفحل يأنف أن يسمى بعضه ... أنثى لذلك جذها مستأصلا
ولربما يخصى الجواد فيكتسي ... سمناً وقد رثت قواه ناحلا
فيغير في الظلماء غير منبهٍ ... جيش العدو بأن يحمحم صاهلا
يهنيه نفي الأنثيين فإنه ... نقص يسوق إليه مجداً كاملا
إن الأشاء إذا أصاب مشذب ... منه اتمهل ذرى وأثّ أسافلا
هذا وقد كان الكسوف لشمسه ... متطرفاً يذكي سناً متضائلا
فجلا عن الشمس الكسوف ليملأ ال ... أقطار والأقطاب ضوءاً شاملا
قلت : لما عري وجهه كني عنه بجلاء الكسوف عن الشمس . ولا أعرف أحداً مدح بمثل هذا المديح وهو نوع من الصنعة يسمى تحسين القبيح . هذا ومن عجيب ما اتفق لي معه أني داعبته في بعض الأوقات بأبيات مفتتحها :
أقبل من كندر مسيخرة ... للنحس في وجهه علامات
فضرب الدهر ضربانه حتى صار العيوق مكانه وألقيت إليه مقاليد الممالك واستنت به مراكب الدولة في تلك المسالك . وتصرفت بي أحوال أدتني إلى ديوان الرسائل بالعراق وفي وزارة الصاحب أبي عبد الله الحسيني بن علي بن ميكائيل . فدخل الديوان يوماً وأنا قريب العهد بالانتظام فيه . فلما وقع بصره علي أثبت صورتي وأقرأه تذكر العهد القديم سورتي . فأقبل علي وقال : " أنت صاحب أقبل " يشير إلى الأبيات التي مازحته بها فقلت : نعم أيد الله سيدنا . فقال : قد تفاءلت بأبياتك هذه إذ كان مفتتحها لفظ الاقبال مؤذنةً بفراغ البال
وأومض لي في وجهه من مخائل الاستبشار ما حملني على التوسل إليه بهجوه في بعض ما مدحته به من الأشعار وقلت فيه من قصيدة :
أمين طغرل الميمون طائره ... في المعضلات إذا ما خانه الأمنا
كالشمس إن طاولوه في السمو نأى ... وإن أرادوا اقتباس النور منه دنا
لا يقرع السن من مال يصاب به ... ولا يعض على إبهامه غبنا (1/128)
عالي المحل ولكن ما مشى مرحاً ... غض الشباب ولكن ما طغى ددنا
أتيح إقباله إذ قلت : أقبل من ... واهاً لإقباله الوافي بما ضمنا
فأشرت في هذه الأبيات إلى ما تفاءل به من لفظ الإقبال الذي اتفق لي في مطلع ذمه . وتعجب الحاضرون من هجو صار وسيلة إلى المهجو . فصار ذلك غرة في جبين كرمه وطرازاً على كمّ فضله . ومن عجيب الاتفاقات أني أنقذت إليه في زمام الأمل من خراسان وهو بمدينة السلام . فوافيت الدار العضدية بها وقد عقد فيها مجلس مزرور على الملوك العرب والعجم والديالم والأكراد وهم يبرمون أسباب زفاف السيدة العباسية إلى السلطان ركن الدين رحمة الله عليه وعميد الملك مستند يذاكر وزراء أولئك الملوك ويجاذبهم أهداب المحداثة كعادته التي كانت في التفكه بثمار الأدب والتفنن في لغات الترك والعجم والعرب كما قلت فيه من قصيدة :
مستظهر بعبارات وألسنة ... تفننت كالرياض الغر ألوانا
هدى إلى لغة الأعراب تبعها ... وزف بالمنطق التركي خاقانا
فطلعت عليه بغتة وهو يروي بيتين كنت عبثت بهما في صباي وهما :
عجبت من دمعتي وعيني ... من قبل بينٍ وبعد بين
قد كان عيني بغير دمعٍ ... فصار دمعي بغير عين
ويروي أيضاً :
وجه حكى الوصل طيباً زانه صدغ ... كأنه الهجر فوق الوصل علقه
وقد رأيت أعاجيب الزمان وما ... رأيت وصلاً يكون الهجر رونقه
فوافقت رؤيته لي روايته لشعري وقال للحاضرين : هاهو ذا وقد كان عندنا أنه بخراسان ساعة أطلقنا بشعره اللسان فإذا بموسى وقد جاء على قدر وبرد غليله بشرب من السعادة محتضر وأتأر النظر وكأنه يتقاضى شعري المنتظر فأبرزت القصيدة من الكم وقرطت بها أسماع أولئك الملوك الشم فرفعت عقيرتي بدالية أولها :
أقوت معاهدهم بشط الوادي ... فبقيت مقتولاً وشط الوادي
وسكرت من خمر الفراق ورقصت ... عيني الدموع على غناء الحادي
فلما انتهيت إلى قولي فيهما :
قالت وقد فتشت عنها كل من ... لاقيته من حاضر أو باد
أنا في فؤادك فارم لحظك نحوه ... ترني فقلت لها : وأين فؤادي
سكر برشف رحيقه وجمع بين برق ابتسامه ورعد تصفيقه وأقبل على الحاضرين فقال : لنا في العجم مثله فأتوا في العرب بمثله وصار ذلك عنواناً لكتاب مفاخري وشرفاً باذخاً تعطس منه مناخري . ثم أرجع إلى الغرض من تزيين هذا الكتاب ببيتين قالهما أيام الفترة وقد باض هوس الأمارة في شغافه وفرخ وسواس الرئاسة في دماغه وتلون له الشيطان بخليط أصباغه :
الموت مر ولكني إذا ظمئت ... نفسي إلى العز مستحل لمشربه
رياسة باض في رأسي وساوسها ... تدور فيه وأخشى أن تدور به
فكأن النفس الناطقة نفثت في روعه أن عاقبة أمره تؤول إلى روح تخطف ورأس يقطف . ودخلت عليه بنيسابور وهو محبوس في دار عميد الحضرة فساق إلي من مجاري أحواله قصصاً وأساق من مناقب أنفاسه غصصاً وأثنى على الصاحب نظام الملك بآلائه وسماه بأحسن أسمائه وقال في أثناء ثنائه : حقق أملي واستلب حياتي من يدي أجلي
ولا تكاد تجد في التواريخ والأخبار شخصاً واحداً تشعب فرقاً وتقسم شققاً وصار في عدة من البلدان طرائق قدداً وجوارح بدداً غيره . واقترح علي أن أنظم هذا المعنى في مرثية له فقلت :
ما بال هذا الفلك الجاني ... نأى ولكن جوره دان
وليست الدنيا سوى قحبة ... تبرز في الزينة للزاني
حتى إذا اغتر بإقبالها ... مالت لإعراض وهجران
هذا عميد الملك وهو الذي ... لم يخل منه صدر ديوان
ولا نضا طاعته مارد ... إلا اكتسى فروة خذلان
ولا اعتراه الفرن إلا رأى ... غضنفرا في زي إنسان
كأن في خاتمه حيث ما ... أومى به فص سليمان
شادت يد الدولة أركانه ... ثم هوى أعظم بنيان
مفرقاً في الأرض أجزاؤه ... رهن قرىً شتى وبلدان (1/129)
جب بخوارزم مذاكيره ... طغرل ذاك الملك الفاني
وجاد مرو الروذمن جيده ... معصفر مخضبه قان
والشخص في كندر مستبطن ... وراء أرماس وأكفان
ورأسه طار فلهفي على ... مجثمه في خير جثمان
خلوا بنيسابور مضمونه ... وقحفه الخالي بكرمان
والحكم للجبار فيما قضى ... وكل يوم هو في شان
فلا تلجج في غمار المنى ... وارض بما يمني لك الماني
قلت : ولعميد الملك طريقة في الترسل محمودة ومواقفه في البلاغة مشهودة قرأت من خطه كتاباً له إلى القاضي أبي محمد الناصحي محمد بن عبد الله بن الحسين رحمة الله عليه . وانتقيت فصوله وانتقدت فصوصه . فمما استحسنته من ذلك قوله : " وصل كتابه مشحوناً ببر كان أغناه تالده عن مطرفه وكفاه سالفه كلفة مؤتنفه . فجدد عندي نعمة سابغة تباهي قرائن لها سابغة وألبسني جلباباً من الفخر لا تنضيه يد الدهر . وحمدت الله على ما منحني من وده المحروس على العلات وعهده المغروز في حيز الثبات وسألته المحاباة في حوبائه والابقاء على الجسد بإطالة بقائه حتى يلم شعث الإسلام بحسن أثره وتدبره ويقوم زيغ الملك بثقاف نظره وتفكره ولولا ما أوثره من التخفيف عن قلبه المكدود بالمكرمات الدائم فكراً في طرق الخيرات لما أغبته كتبي بتحف السلام ومؤتنف الإعلام والاستعلام . لكني أرى إجمام خاطره أجمل وللترفيه عن نفسه النفيسة أفضل
وقد جرى في المجلس العالي أعلاه الله من ذكر محاسنة التي تقصر عن نيلها يد البيان ويكل عن وصفها لسان البرهان ما جدد العزائم والرغبات في انتهاز فرصة الامتداد إلى ذلك الصقع . كل ذلك لما يضمره من التيمن بلقائه والتبرك بدعائه الذي بمثله يستنزل النصر من السماء وتتاح الغلبة في مواقف البلاء . والله المدعو لإتمام ما أطبقت عليه العقول وشهدت بصوابه النفوس حتى انتهى إلى ما فرضه الله تعالى من طاعته وتفيؤ ظلال مشايعته . نعم واقتضى الرأي أن تحبس على المدرسة أوقاف تبتاع بالمال من صفو الحلال أو ينصب لها متول يحتمل كلها ويضبط بيد الاحتياط كلها . فأمرني أن أستطلع صائب رأيه وأستشف عين تدبيره ليرشد إلى الوجه الذي يتخذه رائد العزم دليلاً ويسلك به إلى مقصده سبيلاً . ثم التمس أن يشرفها بحضوره في كل أسبوع يوماً إذا طابت نفسه ونشط لذلك قلبه فإن مال إلى الدعة استناب ابنه الشيخ الجليل العالم أبا بكر فهو النجم ابن البدر طلع من أفق السعادة والشبل ابن الهزبر برز من خدر السيادة . والله تعالى يحرس عليه ظله حتى يخرجه من أنواع الأدب ويدرجه إلى رفاع الرئب
ومما جال به الخاطر العالي فيه إسداء بر إليه يحمد ثناه بعد أن يكون خالصاً من شبه الحرام عارياً من دنس الآثام . فوقع الرضا الكريم على بغلة شهباء استحسنت شيتها وامتحنت مشيتها فوجدت أسير من الأمثال وأسرى من الخيال قيدت في بعض العساكر المنصورة ببلاد الروم بعد أن خرق بها الصفوف والمواكب ورمى من ظهرها الراكب . وذلك أن بطارقة الروم كانوا يقاتلون على ظهور البغال ويقابلون بها وجوه الأهوال . وأمر أعلى الله أمره أن يقرن ذلك بتشريف للشيخ أبي بكر أيده الله إلى أن يوفق الله تعالى لما أؤمله وبقر عيوناً طالما انتظرت للحق أن يدال وتربصت بالباطل أن يذال والسلام "
قلت : وقد ملت في هذا الباب عما هو شرط الكتاب وفتلت عناني عن رواية الأشعار إلى سياقة الأخبار وثنيت زمامي عن المنظوم وأنخت ركابي على المنثور كل ذلك لما أعتقده من قضاء حق ذلك المنعم . فقد والله - طوقني قلائد مننه - وقام معي بفروض الود وسننه . واستمر على منهاج البر وسننه ولم يهمل رسمه في الإسعاف مع تحليق رتبته ولا نسي المألف الخشن عند لين معيشته أفرغ الله عليه في عقباه سجال نائله الغمر وسقى أيامه السالفة حيثما سقطت من الدهر بمنه وسعة طوله إنه جواداً كريم رؤوف رحيم
فصل في شعر إبلخ (1/130)
قلت : قد أنجزت ما وعدت والآن مطية غيرها اقتعدت ولنوع آخر من سياقة أسامي هذا القسم قعدت ونكصت على عقبى إلى بلخ لأفرغ منها ثم هلم جرا إلى أن وجد الخالع للحبل مجرا . واللفظ - من هاهنا - للقاضي منصور بن محمد الأزدي فاسمعه من هذا القروي وأنسبه إلى ذاك الهروي
السيد الأجل أبو الحسن
علي بن أبي طالب البلخي
شرف السادة عمه وله أخص الفضل وأعمه . وهو من أغصان تلك الدوحة العلياء ومن أزهار تلك الروضة الغناء . ورأيت الشيخ أبا عامر يروي بين يدي عمه شعره وأسارير وجهه من السرور تبرق ولسانه بالحمد والشكر ينطق هزة لما يرشح به إناؤه من فضل مختزن في إهابه ونجابة سار ذكره بها وشرف قدرها به ولم يتفق التقائي به على شغفي بأدبه ومكانتي من البيت الذي بنى عليه رواقه . وظلل بسمكه المشرئب إلى السماك أعناقه . ولا أدري متى أدال على الفراق بالتلاق وإنما الدولة حسن الاتفاق فأنفض بحضرته عياب الأشواق وأدرع طيب العيش بحواشيه الرقاق وأسمع شعره من لسانه وأقطف ورده من أغصانه
وقد رأيت في كتاب قلائد الشرف من تأليف الشيخ أبي عامر الجرجاني قافية قافيّة منسوبة إليه . فلم أتمالك أن قلت : عين الله عليه وحواليه وتعجلت بها حظ السعادة إلى أن أتدرج إلى الزيادة وهي :
أرقت وحجري بالمدامع يشرق ... وقلبي إلى شرقي رامة شيق
وما زلت أحمي بالتصبر مهجة ... يكر عليها للصبابة فيلق
خليلي هل لي بالعذيبة رجعة ... وإن لم يعاودني الصبا المتأنق
وهل لي بأطراف الوصال تمسك ... وهل أنا من داء التفرق مفرق
سقى مربع الميثاء ربعي بارق ... يشف دماء المحل حين يرنق
ويلبسه وشياً من الخصب رائعاً ... إذا انهل من أرواقه فيه ريق
بحيث الصبا فينان أخضر مورق ... يغازلني والعيش صاف مروق
وكم قد مضى ليل على أبرق الحمى ... مضيء ويوم بالمشرق مشرق
تسرقت فيه اللهو أملس ناعماً ... وأطيب أنس المرء ما يتسرق
ويا حسن طيف قد تعرض موهناً ... وقلب الدجى من صولة الصبح يخفق
تنسمت رياه قبيل وروده ... وما خلته يحنو عليّ ويشفق
وقد نال أعلاق النباهة من له ... بخدمة مولانا الوزير تعلق
وزير غدا للملك حصناً ممنعاً ... ومن رأيه للحصن سور وخندق
يفوح إلينا من نسيم خصاله ... أريج كريح المسك بل هو أعبق
أغر له في كل حلبة سؤدد ... مساع إلى نيل المحامد سبق
وينفذ من سرّ الغيوب ذكاؤه ... كما السهم من جسم الرمية يمرق
فلو فاخر السيف المصمم رأيه ... لعاد وحد السيف خزيان مطرق
ولو حل بالأرض الجديبة يمنه ... لظلت بأنواع الربيع تفتق
الشيخ أبو جعفر الموفق بن علي
الكاتب البلخي
شابّ شاب بالظرف شمائله وزر على شخص الفضل غلائله . يكتب في ديوان الوزارة بخط منتسخ من خلقه متسرق من خلقه يغض عند الربيع عيون الأزهار ويكور مداده الليل على النهار . ولم يطأ الحضرة النظامية حرسها الله فاضل إلا قام أمامه وعرض عليه خزانته وكبّ بين يديه كنانته . وأحسن أولاً قراه وأثقل ثانياً قراه . وبسطه إلى المجلس العالي فاسترسل وجراه على سلوك ذلك البساط فاستبسل ؛ عادة تعودتها منه كندة وشنشنة عرفوها من أخزم
أما الشعر وما نحن فيه فمعقود بنواصيه فهو على نسج القوافي مطبوع ونسجه للقوافي مصنوع . وقلما يتفق للكتاب مثل نظمه وللشعراء مثل نثره
وهذه القصيدة له عيدية مدح بها الصاحب نظام الملك حرس الله نظامه مطلعها :
وصال مضى ليت الزمان يعيده ... وهجر أتى ليت الوصال يبيده
ولا غرو أني أستعيد وصالكم ... فكل الذي سرّ امرأً يستعيده
وإن أخلق العهد الذي كان بيننا ... فقلبي طري الذكر فيكم جديده
غدوت سعيد الحب يوم لقائكم ... ولم يشق إلا بالفراق سعيده (1/131)
فيا طيب آمال نأت ليتها دنت ... فيدنو من العيش الهني بعيده
عقدت لها عيني بالنجم في الدجى ... ودمعهما انحلت عليه عقوده
وإن يك في هجري من الصبر مكثراً ... فإني قليل الصبر فيه زهيده
ومن أخرى أولها :
ألم تر غصن العيش أصبح مورقاً ... وقابلنا وجد المسرة مشرقا
أساقينا صفف أباريق قهوة ... تريك سناً من لمعة البرق أبرقا
وبادر إلى اللذات قبل فواتها ... وجدد رسوم اللهو واسق المعتقا
أمط كدر الأشجان عنا وهاتها ... على نغم الأوتار صرفاً مروقا
إذا مزجت فاحت فخلت نسيمها ... بأخلاق مولانا الوزير تعبقا
وكتب إلى الشيخ أبي عامر الجرجاني يستزيره ليلة عيد الفطر :
حنانيك استقل الصوم عنا ... وصاح بنا المدام من القلال
فهل يبدو لنا بدر الأماني ... فيكفينا مراقبة الهلال
وله أيضاً :
عرضن لعين فازوررت مفكراً ... أأدخل باب العشق أم أتوقف
تشوفت يوماً نحوهن وها أنا ... يعذب نفسي بعد ذاك التشوف
عذيري من طرف متى رام قتلنا ... يعاونه صدغ كالهلال معقف
ترشفت فاك العذب بالله خبري ... أريقك أم مشمولة الراح أرشف
وخود يراها ذو الجلال ظريفةً ... فكيف ترى حين ازدهاها التظرف
أرى الحلي يكسوها الجمال كأنما ... تقلد من ألفاظها وتشنف
الأديب أبو عبد الرحمن بن أبي بكر
الخوسري البلخي
قال في تشبيب قصيدة مدح بها الصاحب نظام الملك أدام الله علاه وأتم عليه نعماه :
قفا نبك من معسولة الثغر معهدا ... وقلّ له منا البكاء تعهدا
أطل عليه السحب تلطم خده ... شآبيبها حتى غدا متجددا
ترحلن فانحلت عقود المدامع ... تكاثر جود الساريات المدامع
تراءت على خدي حمراً كأنها ... سبت لون ورد صنه في البراقع
وأجرد تحكي الغاديات فعاله ... بتفتيقه في الطرس نور البدائع
إذا اهتز للتحرير خلت لسانه ... سنان كمي في القتال مماصع
ومنها في الشكاية :
وظلت نيوب النائبات ينشنني ... وتنهشني الأحداث نص الخوامع
وذاك لأني لم أغمض على القذى ... ولا ذل للواكي الغشوم أخادعي
وللموت خير للغريق وقل يمت ... ولا يستغث من عاجزات الضفادع
وله من قصيدة :
إذا الضجيع نضاها من غلالتها ... تزاحم الأضعفان الفرع والعكن
ظلت تصيد لبيب القوم لحظتها ... وبعد من شفتيها يرشح اللبن
لما تمنت أسارى الحب رؤيتها ... جاءوا وفي حضن كل منهم كفن
كتمت حبي ومن نمت مدامعه ... فسره أبداً بين الورى علن
عبد الجبار بن عبد الجليل
وكنيته أبو المظفر شاب حسن الوجه ارتبطه الصاحب أبو عبد الله الحسين بن علي بن ميكال لكتابته في ديوان رسالته . وكنا نحن ثلاثتنا هو وأبو منصور الحلاج وأنا فهو منخرط في سلك الكتّاب لنجابته وأبوه إلى أصحاب المراتب على الباب بحكم حجابته وكان مزجى البضاعة في الصناعة . وجدته في الأدب شادياً يخبر بمسحة ملاحته إذ كان في صباه شادناً . أنشدني لنفسه ونحن في مجلس الأنس بين يدي الصاحب بالري سنة أربع وأربعين وأربعمئة :
أشتهي نوماً ونيكاً معه ... إنما النوم مع النيك يطيب
هو دائي ودوائي عندكم ... هل لدائي سادتي فيكم طبيب
قلت : هذا الفاضل صادق الاشتهاء أفضح عند الطبيب بالدواء ولم يسر الحسو في الارتغاء غير أن الطبيب هاهنا كناية عن القواد للبغاء وما أطيب ما اشتهى !
!
والعجب أنه ما بكى فهو ما وصفت به نفسي حيث قلت :
يا قوم إني رجل فاضل ... وليس في فضلي من شك
أهوى كؤوس الراح مملوءة ... وأشتهي الإيلاج في الترك
وأقضم القند ولا أشتكي ... وآكل التمر ولا أبكي (1/132)
أبو حنيفة البنجدهي
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي قال : قال العبشمي : أنشدني أبو حنيفة لنفسه في غلام إسكاف :
فديت قامة إسكاف أمر به ... فيستوي قائماً والطرف ينكسه
كأن ألحاظه أشفاه في يده ... وقلبي الجلد فهو الدهر ينخسه
قلت : وهذا الإسكاف في سلب الفؤاد كاف ومقال هذا الشاعر في أشفاه بيان شاف
الحكيم أبو بكر الخسروي السرخسي
هو في شعراء العجم من الأئمة المذكورين وفي ذلك العلم من الأعلام المشهورين . وكانت له وظائف في كل سنة من الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير والصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد تدر عليه وتتسابق إليه وقرأت في ديوان الأستاذ أبي بكر الخوارزمي قصيدة رثاه بها ومطلعها :
طوت المنون محاسن الدهر ... بيدٍ لها طيّ بلا نشر
صبحت يد الدنيا أبا بكر ... كأس سيغبقها أبو بكر
أبو نصر أحمد بن إبراهيم الطالقاني
المعروف بالدغلابادي من مداح الصاحب نظام الملك حرس الله أيامه . أورد أبياتاً ثلاثة من قصيدة له وهي فيه :
وخوطب بالوزارة من تناهى ... إليه المجد واجتمع الفخار
نظام الملك ملك أبي شجاع ... وزير لا يشق له غبار
لعضد الدولة الملك المفدى ... على ماضي الملوك به افتخار
ولولا تقدم قدمه في الفضل لما كانت هذه التي وصفت حاله أيام حياته وبعد وفاته . وما كان عندي أنه ذو لسانين وأنه يرجع من العربية والفارسية إلى إحسانين حتى أنشدني له بعض من أثق به من أهل بلدته هذه الأبيات :
عجبت من ربي وربي حكيم ... أن يحرم العاقل فضل النعيم !
ما ظلم الباري ولكنه ... أراد أن يظهر عجز الحكيم
تخلل حاجتي واشدد قواها ... فقد أضحت بمنزلة الضياع
إذا أرضعتها بلبان أخرى ... أضر بها مشاركة الرضاع
إشارة إلى قول القائل :
وأرضع حاجة بلبان أخرى...
لا يكن برقك برقاً خلباً ... إن خير البرق ما الغيث معه
لا تهني بعدما أكرمتني ... فشديد عادة منتزعه
وله أيضاً :
اليوم قرّ وعندي من مصالحه ... سبع تقلم ناب البرد إن نهسا
حروف كافاتها فيها مقدمة ... لمن تأملها في السطر أو درسا
كن وكيس وكانون وكاس طلاً ... مع الكتاب وكس ناعم وكسا
فلو عرتني جبال الثلج لم ترني ... أقول : أجحف هذا البرد بي وأسا
عبد الله الرزجاهي
عليكم بغاة الفقه كتب ابن شافع ... وعضوا بأضراس عليها قواطع
رأيت لأهل الفقه كتباً كثيرةً ... فلم أر كتباً مثل كتب ابن شافع
حوت كتبه الفقه المبين فأصبحت ... تضيء كإيماض البروق اللوامع
براهينه في كل شيء يقوله ... زواهر بيض كالنجوم الطوالع
أبو عمرو محمد بن عبد الله الرزجاهي
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي قال : أنشدني الأستاذ أبو محمد العبد لكاني قال : أنشدني الرزجاهي لنفسه :
وقالوا : عزيز أن نراك مع الكبر ... بلا ولد أنثى ولا ولد ذكر
وذكر الفتى يبقى له بعد موته ... فقلت : دعوني إن ذا كله سمر
ونسلي إذا ما مت غرّ قلائد ... بثثت من المنظوم والعلم والخبر
خوالد لا أخشى عليهن موتها ... إذا خيف موت أو عقوق من البشر
فكم نسب من كل عيب مطهر ... ملاه بنو السوأى من العارو العرر
محمد بن علي الغالبي السرخسي
هو في شعر العجم من الأئمة وفي ذلك العلم من الأعلام المشهورين . وكانت له وظائف . مدح الصاحب نظام الملك على باب جزيرة ابن عمر في رمضان سنة ثلاث وستين وأربعمئة بهذه القصيدة :
أمن أجل أحباب ثووا لك في الغرب ... جرى الدمع من عينيك غرباً على غرب
أم الركب هاجت من دموعك ساكباً ... عشية بان الإلف عنك مع الركب (1/133)
أم النظرة الأولى سبتك وكم سبت ... قلوب الرجال الغانيات وكم تسبي !
بلى كل ما قد قيل من ذاك كائن ... سوى نظرات الغانيات التي تصبي
وهل يتصابى من ينادي بقربه ... من العطب الشيب الذي هو كالعطب
بكائي على ما قد مضى من شبيبتي ... بكاء ولكن كي يخف به كربي
كما ليس شرب الراح مني خلاعة ... تذم ولكن كي يفلّ الجوى شربي
فما العيش إلا ساعة أنت مقبل ... على اللهو واللذات فيها مع الصحب
فأعط دواء الهم هماً يغب به ... حجاه فعيش المرء في غيبة اللب
مشعشعة صفراء كالحص مثلما ... يقول ابن كلثوم لنا في ألا هبي
يدور بها ساق مليح كأنما ... سنا وجنتيه قد تناثر في القعب
على ذكر مولى لو تحلى ببعض ما ... به الشمس لم تطلع علينا من العجب
سليل كرام كل مجد مؤثل ... وجود ومعروف أخوهم من الصلب
هم أرشدوا الأقلام للجري سالفاً ... كما أرشدوا السيف المهند للضرب
مناقب لم ترض الأقاليم مسكناً ... لها فارتقت منها إلى الأنجم الشهب
فلو وطئ الصخر الأصم تفجرت ... ينابيع ماء منه فاعتم بالعشب
إذا دعي الأبطال في الحرب باسمه ... تطايرت الأكباد خوفاً من الحجب
فحسبي من دنياي أن يعلم الورى ... بأني بحبل الشيخ مستمسك حسبي
الشيخ أبو علي
الحسين بن عبد الله القلندوشي
وقلندوش من ناحية سرخس . هو من فحول الشعراء ووجوه الكتّاب والبلغاء . إذا نثر رسالة أو نظم شعراً علمت أن من الشعر حكمةً وأن من البيان سحراً رأيته بسرخس وهو يكتب في ديوان الرسالة للرئيس أبي الحسن علي بن محمد العمراني بقلم حده عضب وخط كأنه عصب ولفظ كله عذب . وكتبت إليه :
يا من به تحسد الدنيا قلندوشا ... ويبرز الفضل وجه النقص مخدوشا
ما عض صاحب فضل ناب نائبة ... إلا وقدمت قلباً دونه حوشاً
سلكت نحوك نهجاً ظلت أحسبه ... من الأزاهير والأنوار منقوشاً
أزرى على وشي صنعاء الذي صنعوا ... درج بحظك يوشى نعم ما يوشى
لذاك غادرت طبعي بعد حدته ... كالقطن منتدفاً والعهن منفوشاً
وقرأت في كتاب قلائد الشرف من تأليف الشيخ أبي عامر الجرجاني قصيدة له نظامية ما رأيت أحسن منها في فنها وهي :
سقى عهد سعدى حيث كانت خيامها ... بواكر أبكار العهاد غمامها
وإن عز مرآها وشط مزارها ... وأوحش مغناها وأقوى مقامها
سلا ربعها أنى استقلت حمولها ... وأين استقرت بالعراء خيامها
وماذا عليها لو أشارت فسلمت ... وكان شفاء للسليم سلامها
وما ضرها لو كلمت يوم بينها ... فنفس عن نفس الكليم كلامها
ألا ليت نفسي يوم زم جمالها ... وغرد حادي البين حمّ حمامها
تصرم منها العهد إلا تذكراً ... إذا ساور الأحشاء هاج غرامها
فلا عيش إلا أن يباح وصالها ... ولا وصل إلا أن يتاح لمامها
وإني وإن جرعت كأس فراقها ... وحان لأسباب الوصال انصرامها
فلا مقلتي العبرى تجف شؤونها ... ولا مهجتي الحرى يخف سقامها
وله من قصيدة أخرى :
بنانك سابق والبحر تال ... ووجهك أول والبدر ثان
وأنت الغوث من نوب الليالي ... وأنت الغيث من قحم الزمان
وأنت النار فيك حمىً ونور ... وغيري منك يرضى بالدخان
سترضى شيمتي غبّ اختباري ... وتحمد سيرتي بعد امتحاني
القاضي أبو منصور
محمد بن عبد الجبار السمعاني (1/134)
رحمة الله عليه هو كما قال فيه العميد القهستاني إمام مرو وحبرها الرباني . وقد لقيته بمرو سنة سبع وأربعين وأربعمئة يوم جمعة قضى فيه حق زيارة السيد ذي المجدين أبي القاسم علي بن موسى الموسوي أدام الله جماله والمجلس غاص يشحنه من المراوزة عام وخاص . واتفق حضوري في جملتهم فالتقى سهيل والثريا وتصافح الماء والحميا . وقلت : هذا يوم مجموع له الناس واتفاق حسن يحصل بمثله الاستئناس . وأبرزت القصيدة التي عملتها برسم الخدمة النبوية وهي :
حبالك من تحت ذيل الحبي ... شعاع كحاشية المشرفي
أعاد طراز رداء الهوى ... ولكن تردى وشيك الهويّ
وأطلع في جنح ليل السحاب ... صباحاً مضياً وشيك المضيّ
هي النار تعبد لا للصلاة ... إليها وتعمد لا للصلي
ولكن إشراقها موهم ... بإيماض ثغر لسعدى نقي
ذكرت عرارة نجد وعز ... شميم العرارة بعد العشي
وجدد شوقي وراء الضلوع ... بلى الربع من بعد أخذي بليّ
ومن لي بسعدى ومن دونها ... وقد حجبت خلف مرمى قصي
نعيب الغراب ونبح الذئاب ... وحرش الضباب ووخد المطي
يقشر بالضرب منها اللحى ... ويشغل عن ضربها باللحيّ
وترمي قوائمها كالسهام ... وتبرى هيا كلها كالقسيّ
ببهماء أحشاء أحسائها ... تشكت إلى الركب وقع الدلي
تظل القطا وهي أهدى الطيور ... تضل بها كالغوي الغبي
إلى مثلها طال باعي وطاب ... لجني اجتناب الفراش الوطي
وأسكرني شرب كأس السرى ... على عزف جنيها الجهوري
وسقت الركائب حتى أنخن ... بسبط الأنامل سبط النبي
علي بن موسى مواسي العفاة ... أبي القاسم السيد الموسوي
خصيب الثرى غض نبت المراد ... رحيب الذرى عذب ماء الركي
طمى بالندى واديا راحتيه ... فطم على آجنات القري
وهذه قصيدة طويلة فلما انتهيت إلى قولي فيها :
معاد معاديه مهما طوى ... على بغضه القلب قعر الطوي
وأمثل أحوال أعدائه ... وكلهم نهب داء دوي
عصي مكللة بالرؤوس ... وروس مكللة بالعصي
صفق القاضي أبو منصور السمعاني بيديه وقال : عين الله عليه وأثنى علي في ذلك المجلس الغصان بمثل ما أثنى به حسان على آل غسان وقال في بديهة وتواضع بذلك :
حسن شعر وعلاً قد جمعا ... لك جمعاً يا علي بن الحسن
أنت في عين العلا كحل ومن ... ردّ قولي فهو في عين الوسن
وقلت أنا فيه :
شغلت بسمعاني مرو مسامعي ... فحزت المنى من أوحد العصر فرده
وألبست زياً من نسائج وشيه ... وقلدت سمطاً من جواهر عقده
وسرحت منه الطرف في متواضع ... أتى نحوه الجبار وهو ابن عبده
فبات عزيز العيش في بيت عزه ... وظل قرير العين في ظل مجده
وحضرت يوماً مجلسه على حين غفلة منه وهو يعظ الناس بألفاظ تهدي إلى السامعين هدو الجوانح وسكون الجوارح وتحل العصم سهل الأباطح . فلما فرغ ونزل قمت إليه وسلمت عليه فقال : مثلك إذا عثر صديق له أقال . وحلف عليّ لأنبهنه على سهو ربما جرى على لسانه أو غلط يدفع بمثله عين الكمال عن إحسانه . فقلت : معاذ الله أن أكون منك بهذه المنزلة . ثم قال : لو علمت بحضورك لحبرت المجلس تحبيراً . ومما أنشدني لنفسه بعدما رواه لي غيره عنه قوله :
الحمد لله على أنه ... لم يبلني بالماء والضيعه
فالماء يفني ماء وجه الفتى ... وصاحب الضيعة ذو ضيعه
محمد بن الحسن المروزي
من قدماء المراوزة في أوائل هذا العصر . أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي قال : أنشدني الفقيه أبو نصر محمد بن الحسين الكافي له :
ضيعت فيك إلى ذا اليوم أيامي ... وعفت غيرك حتى عفت إسلامي (1/135)
شغلاً بغيرك إذ أوردتني سقماً ... وقد جعلت سقاماً منك أقسامي
القاضي أبو الفتح نصر بن سيار الهروي
تلو القاضي الأزدي وبلديه في الأخذ بأطراف الفضائل والاشتمال على كرم الشمائل . وله شعر كاسم أبيه بحوافر الإجادة سيار وبقوادم الإصابة طيار . وولي القضاء والزعامة بهرات مدة وكان ذا كفايتيها المستولي على غايتها . ثم تكدرت الحال بينه وبين الأمير يبغو وتصورت له منه مطابقة مخالفيه فساء ظنه فيه وأمر بنقله إلى سجستان معتقلاً مع وزيره مسعود بن محمد بن سهل
فلما بلغوا أسفزار أحس منه المتوكلون باحتيال في التملس من أيديهم فعمد له بعض من مردة أولئك الشياطين وعلقوه في سوق أسفزار ببعض الأساطين فجف ريقه واختصر طريقه وتفرق عنه فريقه وترك بها مخنوقاً ينوح الفضل منه على أسد في جيده حبل من مسد . وقد أحاطت المخنقة منه بملعب الكرم وتدلى كما يتدلى العنقود من عريش الكرم رحمة الله على ذاك الجسد بل على ذاك الأسد . فمما أنشدني لنفسه من بدائعه قوله من قصيدة له في الوزير أبي الفتح مسعود بن محمد بن سهل رحمة الله عليه :
للمحسنين نصيب من مدائحنا ... وللحسان نسيب من قوافينا
نطري أبا الفتح مسعوداً وقد رفعت ... في كل واد وناد نار مطرينا
وله في تفاحة معضوضة :
تفاحة قد عضها قمر ... عمداً ومسك موضع العضه
وكأن عضته ممسكةً ... صدغ أحاط بوجنة غضه
وكأنها نونان قد كتبا ... بالمسك في كرة من الفضه
وقوله :
وبدا لنا بدر الدجي والليل قد ... شمل الأنام بفاضل الجلباب
غطى الكسوف عليه إلا لمعةً ... فكأنه حسناء تحت نقاب
وقوله :
بنفسي أغيد ألحاظه ... تمهد لي في الذنوب الرخص
يشقق كبدي إذا ما شدا ... ويرقص قلبي إذا ما رقص
وقوله :
يا ليلةً ضمنا عناق ... ولفنا تحتها التزام
مالي سوى وجنتيه ورد ... ولا سوى ريقه مدام
تاب إلينا بها الليالي ... فذمها بعدها حرام
وقوله يصف نار السذق :
رب ليل كشعر ليلى سواداً ... شق جلبابه على الأرض نار
وترى الأرض كالسماء فكل ... قد تجلى خلالها أنوار
بشرار كأنهن نجوم ... ونجوم كأنهن شرار
وله أيضاً في معناها :
وليلة سامحتني ... بها نوائب دهري
بتنا نضيع دجاها ... ما بين خمرٍ وجمر
فتلك ذائب جمر ... وذاك جامد خمر
وله في صفة النار أيضاً من قصيدة :
لها شرر مثل النجوم تطايرت ... فمرت دنانيراً وجاءت دراهما
قلت : كنت يوماً من الأيام أطالع ديوان أشعاره وقد تناهى فيها إلى حد الإكثار تفنناً في أوصاف النار . فقلت في نفسي : تعجباً لهذه الأوراق كيف سلمت من الاحتراق !
!
وفي كل بيت منها بيت نار وإن لم يكن صاحبها عاقد زنار . وله في رمانة سوداء :
وشادن ناولني بغنج
ظبي فراش وهزبر سرج
غصن على دعص نقاً مرتجّ
رمانة سوداء قبل النضج
كثدي بكر من بنات الزنج
وله في معنى اقترح عليه :
دخلت يوماً على صديق ... والبرد يفري به الفريا
قال إلى النار قلت : كلا ... فأنت أولى بها صليا
وله من أبيات أيضاً :
وكنت وعدتني عسلاً مصفى ... فها أنا منك أرضى بالمضيض
وله في الهجاء :
شعر عبد الكريم قد يترك الصيف إذا أنشدوه مثل الشتاء
ما رووه في مجلس قط إلا ... أخذ الناس فيه بالعرواء
قد أتاني يوماً لينشد شيئاً ... منه عندي فقلت : هاتوا كسائي
قد غدونا ما بين بردين ويلي ... برد أشعاره وبرد الهواء !
!
هو من آلة المحبين إذ يبردن حرّ الأكباد والأحشاء
وله في صفة النرجس :
ونرجس غادرني ... ما بين عجب وعجب
كطبق من فضة ... عليه كأس من ذهب
الأمير الأمين أبو الفتح الحاتمي (1/136)
صاحب البريد بهرات وقد عاشرته بها فوجدته لذيذ المخبر كريه المنظر . يسيغ مرارة كراهته بحلاوة فكاهته . وفي الجملة لا يشبه العنوان ما في الكتاب . وهو من أعيان بلغاء الكتّاب إذا تعاطى القلم لم يكبح لجامه ولم يثن زمامه أو يؤدي الأغراض بأحسن عبارة ويقرطس الأهداف بألطف إشارة . وكان رحمه الله يكتب في ديوان الأمير أحمد بن محمد بن محمود رحمة الله . فيفيد ديوان رسالته تحصيلاً وجمالاً ويضطلع بأعباء أمانته تفصيلاً وإجمالاً . وله شعر باللسانين وحظ من البيانين أنشدني لنفسه بهرات سنة خمس وأربعين وأربعمئة قوله :
تبارك ربي ماذا الذي ... يرى الحر من كل نذل سفيه
يقولون ما لم يقل قائل ... وهل كان في الله ما قيل فيه
وله :
وحمامنا مثل الشباب مزاجه ... ومن ذا يؤدي للشباب معانيه
حكى العدن طيباً والجحيم حرارةً ... وخدامه حور تليهم زبانيه
وقوله :
أما ترى الخمر مثل الشمس في قدح ... كالبدر فوق يدٍ كالغيث إذ صابت
فالكأس كافورة لكنها انحجرت ... والخمر ياقوتة لكنها ذابت
هما ما هما لم يبق شيء سواهما ... حديث صديق أو عتيق رحيق
وإني من لذات دهري قانع ... بحلو حديث أو بمر عتيق
وشرب في بعض المجالس فسمّ وعاش بعد ذلك ليلةً . ثم وإن للأجل جنوداً منها الشراب ونحن من التراب ومصيرنا إلى التراب . ولا بد من أن ينعب بالبين الغراب ويفرق ذات البين الاغتراب
أبو الغنائم رحمة الله بن إسماعيل
القرشي الهروي
من أشراف هرات ومن أصحاب ذوائبها ودراري كواكبها . وقد جعلت له أرض البلاغة ذلولاً فمشى في مناكبها يحفظ أصول الأدب ومجاري كلام العرب . ويختلف إليه الاستفادة جماعة ولا تخلو له من الإفادة ساعةً . كتب إليه القاضي أبو الفتح رحمهما الله قصيدة يعاتبه فيها وقد علق بحفظي بيت واحد منها فقط وهو :
أيا رحمة الله كيف انقلبت ... عليّ عذاباً شديد الوصب
وله شعر بارع كقوله في قصيدة :
غدا رشأ يرعى اللوى فالمحجرا ... ويا ليته يرعى جفوني محجرا
رأى أن يحل الدهر مكروه هجره ... ويحرك محبوب الوصال ويحجرا
وقد كان حر القلب عطفاً ورقةً ... فيا ليت شعري لم وفيم تحجرا
أتاني وقد جد الرحيل مهجرا ... فقلت : أواصلت الحبيب لتهجرا
بنفسي من وافى إلي مهاجرا ... وفاءً وعانى السير نحوي مهجرا
وصير فضي السوالف مذهباً ... لوصلي ومسكي العذار معنبرا
وله في بعض الكبار يصف بطيخة كان يديرها في كفه :
يغري ببطيخةٍ في كفه عبقت ... كالشهد باطنها كالتبر ظاهرها
يحكي وجوه عداه لون ظاهرها ... لكن قلوب محبيه سرائرها
الشيخ أبو القاسم الفياض بن علي الهروي
طبعه كاسمه والفضائل كلها برسمه . وهو من أفراد خراسان وفور حظ وسلاسة لفظ . وكأن البحتري وصف اشعاره بقوله :
حزن مستعمل الكلام اختياراً ... وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدرك ... ن به غاية المرام البعيد
كالعذارى غدون في الحلل الصف ... ر إذا رحن في الخطوط السود
عرف الصالحون فضلك بالعل ... م وقال الجهال بالتقليد
بلى لفظه قريب ولكنه أمنع من معشوق عليه رقيب وشأوه بعيد ولكن ليس لنفس الفكر وراءه تصعيد . وسمعت السيد الأجل العالم شرف السادة رضوان الله عليه يقول : وهو العالم الذي عرف العالم فضله والرائد الذي لم يكذب قط أهله إنه أشعر أقرانه وآدب أبناء زمانه . وأنا وإن لم أكن عديله فقد أوجبت تعديله . والقول ما قالت حذام . فأصغ من بعد من كلامه إلى الحلو الحلال ممزوجاً بالمر الحرام أعني البائية التي مدح بها الصاحب نظام الملك أدام الله أيامه فأحسن فيها ما شاء وأتبع دلو إحسانه الرشاء . وذكر فيها الفتوح التي اتفقت للدولة القاهرة فاتسقت كأنابيب القنا واطردت كأرسال القطا واخترت منها ما هو من شرط الكتاب وهي : (1/137)
هو الدين فانظر كيف طالت مناكبه ... وكيف تراءت مشرقاتٍ كواكبه
حلفت بمجرى الخيل والنقع ثائر ... ترد عيون الناظرين غياهبه
ومنها :
وكل أصم الكعب ماض سنانه ... وكل صقيل المتن عضب مضاربه
لقد راح دين الله وهو بمائة ... وأصبح ملك الأرض صفواً مشاربه
وعادا على رغم العدا وكلاهما ... رقيق حواشيه فسيح مشاربه
فهذا نمير لا يعاف وروده ... يعود بري كيفما شاء شاربه
وذاك منيع لا يروع جاره ... يروح ويغدو آمن السرب ساربه
ومنها :
وقد شام رب الشام بارق سيفه ... لضلته ظناً بأن سيضاربه
فلما رآه عارضاً يمطر الردى ... وتجنب أسباب المنايا جنائبه
أطاع وأعطى الملك عن ظهر كفه ... وقد كان دهراً لا تذل مصاعبه
وقد طالعت مصراً طلائع خيله ... فأصبح طوعاً للمقادة صاحبه
وخلى سرير الملك غير مدافع ... وأسلمه كتّابه وكتائبه
وذلّ وقدماً كان عزّ جنابه ... ولان وقدماً قد تمنع جانبه
ومنها :
وها فاسألوا عنه سجستان إنه ... يخبر عنه رمله وأخاشبه
غدوا وابن يعقوب بن ليث على النوى ... يكاتبه بالعبد حين يكاتبه
يرى شرفاً أن عده اليوم حاجباً ... وكان يسامي حاجب الشمس حاجبه
ومنها أيضاً :
ولا تسألوا عن قيصر وجموعه ... فقصته ما تنقضي وعجائبه
سرى ورؤوس الروم والروس خلفه ... يجاذبهم ثوب المنى وتجاذبه
بأرعن جرار يزيد على الحصى ... وقطر الحيا فرسانه وجنائبه
يمد على الآفاق ليلاً قتامه ... ويزحم أركان الجبال مناكبه
مئون ألوفاً كالصواعق ترتمي ... لظىً ماتني برقاً ورعداً سحائبه
فوارس يلقون السيوف بأنفس ... شداد إذا ما الموت صرت جنادبه
مساعير فيهم كل أروع باسل ... تحاماه حيات الوغى وعقاربه
سرى وهو يطوي الأرض غير معرج ... يصدق حسن الظن والظن كاذبه
وخلف قسطنطين يأمل أنه ... تناخ بأعلى الرقتين كتائبه
ويزعم أن الري وطأة ساعة ... وظاهر نيسابور حيث مضاربه
وأن بمرو الشاهجان مقامه ... ليفعل فيه كيف ما شاء ناهبه
يحاول دين الله غير مراقب ... ولم يدر أن الله كان يراقبه
وأن عليه هيبة عضدية ... تعاضده كيف اغتدى وتصاحبه
وعين نظام الملك ترعى ثغوره ... تباعده أطرافه وتصاقبه
ومنها في صفة الشجعان :
مغاوير فيهم كل صلت جبينه ... جليل مساعيه كريم مكاسبه
يمج المنايا والمنايا تمجه ... يقاربها مستبسلاً وتجانبه
كليث الشرى إقدامه غير أنه ... رقاق الظبى أنيابه ومخالبه
يلاعب أطراف الرماح كأنه ... يناسبها يوم الوغى وتناسبه
ويقدم يوم الروع لا يتقي الردى ... ولو أصبح المريخ قرناً يواثبه
ففاجاهم بغتاً ولم يشعروا به ... كما انقض نجم يملأ الجو ثاقبه
فما وقفوا للطعن إلا تعلةً ... حيارى وكل ذاهل العقل ذاهبه
وغادرهم أيدي سبا فمجدل ... يحكم في أطرافه السيف ضاربه
ومستأثر ألقى يد الذل صاغراً ... يراقب نقياً جامد الريق عاصبه
وقصر لما أن رأى السيف قيصر ... وقد خذلته خيله ومواكبه
تولى رجاء أن يفوت بنفسه ... وأنى وبرهان الخليفة طالبه
ولا لوم أن ولى على الوجه هارباً ... فذلك يوم لا يعنف هاربه
فلم تغن عنه في الوقوف سيوفه ... ولم تنجه عند النجاء نجائبه
ومنها أيضاً : (1/138)
ومن يركب البحر الخضم طمى به ... عباب وأنى يأمن البحر راكبه
فلما دنا من مجلس الملك خطوةً ... وبين يديه ترجمان يخاطبه
تعفر من مس التراب جبينه ... وقد عاش دهراً ما تعفر حاجبه
وأهوى لوجه الأرض لثماً وقد بدا ... له يوم بؤس كالح الوجه قاطبه
وقام على ساقيه يخدم ساقياً ... وذلك أعلى ما اقتضته مراتبه
فلم يره السلطان أهلاً لعتبه ... وقد كان حقاً في الهدى لو يعاتبه
ومنّ عليه بالحياة تكرماً ... عشية أظفار المنون تناشبه
وقلده ملك الممالك فانثنى ... وقد قضيت من كل شيء مآربه
فإن شكر النعمى فذلك حقه ... وإلا فقد أثنت عليه حقائبه
أحاسده مهلاً فهذي سيوفه ... وهاتيك يوم المكرمات مواهبه
وإن كنت في ريب فدونك فاعتبر ... فها هو نهج الحق يهديك لاحبه
إذا ما ملوك الأرض عدوا فإنما ... لكم كاهل المجد الأشم وغاربه
وأنشدني لنفسه أيضاً :
توق مصارع الغفلات واحذر ... فليست زينة الدنيا بزينة
وقصرك عن هواك فكل نفس ... غداة غدٍ بما كسبت رهينه
هي الدنيا تموج كما تراها ... بمن فيها فشأنك والسفينه
قلت : ولهذا الفاضل شغف ببنات خاطري ولا يزال يخطبها إلي وأنا أعضلها وعز علي إذ ليس ذلك العضل مما يجبره الفضل . ولكني مع ثقتي ببخت القباح أصونه عن أن أزف إليه غير الملاح والملح على فراسخ من كلامي وغرضي فيما أحوكه مكثب للرامي . وكان أدام الله عزه كتب إلي في هذا المعنى نونية اعتقدت لها صبابةً مجنونيةً ومطلعها :
يا سابقاً في كل فن ... نفسي تقيك وقلّ مني
ديوان شعرك منيتي ... إن قيل : أسرف في التمني
فأجب إليه بلا توا ... ن منك فيه ولا تأن
فأجبت عنها بقولي من أبيات :
ما نطفة من حب مزن ... قد بيتوها جوف شنّ
وسلافة من قلب دنّ بخروه بقلب دنّ
وتصافح بعد القلى ... وتصالح غب التجني
إلا كشعر صديقي ال ... فياض فاشد به وغنّ
المصباح
هو أبو منصور نصر بن منصور الشاركي
وقد مرت بك أبيات القصيدة الفريدة التي هي من ديوان شرف السادة صدر الجريدة . ولو لم يك ذلك السيد أهلاً لها لما جلا عليه من بنات خواطره تلك العرائس . ولا أهدى إليه من حصيات جواهره تلك النفائس . وكنت ببغداد سنة خمس وخمسين وأربعمئة فرأيت ذكره بها حاضراً وإن كان عنها غائباً . وفضل المصباح أشهراً من فلق الصباح وإنما شرف بهذا اللقب من حضرة الخلافة . وفيه من الظلف وصيانة النفس وقصر الباع عن الأطماع ما لا يخفى . وقد انتظم في مداح مولانا الصاحب نظام الملك حرس الله أيامه وأدام على الإسلام والمسلمين إنعامه . واختلف في خدمة ركابه العالي إلى خراسان مرة وإلى العراق أخرى . ورأيت له في قلائد الشرف قصيدة نظامية أولها :
أنت فرد العصر ما فيه كلام ... للورى كهف وللدين قوام
ماجد يقصر عن همته ... صخب الموج وتهطال الغمام
لا يني حول ذرا قبته ... صارخ يكفى ومال يستضام
دع مديح الحسن القرم الذي ... أكمل الله به حسن الأنام
لم تكن تبلغ أدنى وصفه ... ولو استقصيت فيه ألف عام
وأنشدني الأديب الموفق التعار الهروي له قال : أنشدنيه لنفسه :
يا عللاني بسليل العنب ... من قبل أن تعلم بنت النوب
وانحدرا عن فلتتي إنه ... من أحسن الشرب أساء الأدب
وأنشدني أيضاً له في غلام نحيف :
قالوا : نحيف قلت : لا تعجبوا ... فإنه سلك لآلي الجمال
تنظم في السلك اللآلي وهل ... رأيتها منظومة في الحبال
أبو عاصم الفضيل بن محمد الفصيلي الهروي
شيخ الأفاضل بهرات تفتح في ربيع فضلها تفتح الزهرات . رأيته بها سنة خمس وخمسين وأربعمئة وفاتحته بهذه الأبيات : (1/139)
أبا عاصم كن عاصماً لابن محنة ... أبت نكبات الدهر ألا تعافه
صبور على عض الثقاف وما القنا ... بمعتدل ما لم تمارس ثقافه
هو القادم الملقي بأرضك رحله ... فإن زرته بدلت بالخاء قافه
أحبك قبل الالتقاء فإن يذق ... أخو صبوة شوقاً إلى الملتقى فهو
وكان رحمة الله عليه ترك الجواب واستعفاني من معارضة هذه الأبيات واستناب فيها قدمه عن قلمه . وحضرت معه يوماً من الأيام مجلس الأنصاري الإمام وهو من لم تر العيون مثله في قصة القصص واستيفائه منها الأنصباء والحصص . فلما طاب فؤاده وعرق جواده وطنت نعرات العارفين في جو السماء ودنت الملائكة فتدلت للأصغاء قال الشيخ أبو عاصم :
عيون الناس لا تلقى ... ولم تلق كعبد الله
فأجزته بقولي :
ولا ينكر هذا غي ... ر من مال عن المله
ومددت يدي إلى كنانتي فرميت منها هذا الغرض بقولي :
مجلس الأستاذ عبد الله روض العارفينا
ألحق الفخر بنا بعد احتكام العار فينا
وجرى بين يديه بهرات حديث ميمون الواسطي المقيم كان بها فقال فيه :
ميمون الواسطي واسطة ... ميمونة في قلادة الفضلا
ولم يحضرني من منظومة إلا هذا القدر فقررت له من الذكر قسطاً وإن كان ذلك من زنده الواري سقطاً
الأديب الأزدي
هو أبو نصر عبد الصمد بن عبد الله الأزدي الهروي
المنتقل من هرات إلى نيسابور حافظ راوية للأشعار مرشح لمنادمة الكبار . يقول من قصيدته :
أبا نصر انهض بالسرور وجدد ... طريقاً معفىً للوزارة واسعد
حملت الهدى كرهاً على كل جاحد ... وسقت الغنى طوعاً إلى كل مجحد
تهجدت عن قوم عن المجد هجد ... وجاهدت عن كسلى عن الحرب هجد
ولما بدا لي أوحد الناس كلهم ... بل الناس لاحوا كلهم في اسم أوحد
ظفرت من الدنيا بحال هي المنى ... وربع هو الدنيا ويوم كسرمد
وأنشدني الشيخ أبو عامر الحمداني قال أنشدني الأديب الأزدي لنفسه يقول في الخزامى :
وناولني غصن الخزامى يقول لي : ... لعمرك إني للفراق مصافح
فصحفت من مقلوبه الخاء فانبرى ... يخبرني أن الحبيب يمازح
الموفق التمار الهروي
رأيته بأشكيذبان بوشنج يؤدب أولاد الرئيس أبي نصر منصور بن إسماعيل الشاذياخي وذاكرته ليلة بها فوجدته يرجع إلى إتقان في الأدب وذكاء في الخاطر وحذق في الصناعة وتوسع في البضاعة . ثم العشرة والتودد فقل ما شئت فيه ولا تخف إنك من الآمنين وأنا من الضامنين . وله شعر حسن أنشدني منه في أثناء المذاكرة ما هو من شرط المحاضرة حدثني أن بعض فضلاء زوزن قال فيه وفي أخيه :
سئلت عن الأفاضل في هرات ... فقلت : القوم ضحضاح وغمره
وذا التمار أفضل أم أخوه ... فقلت : كلاهما عندي وتمره
قال : فأجبته عنه بقولي :
أتى من زوزن زعموا أديب ... فقلت : رأيته ورأيت شعره
فأما عرضه فأخس عرض ... وأما شعره فعديل شعره
وله في الخط :
قل للمليح معاجلاً ... بالخط قبل لداته
ما بال بدرك كاسفاً ... وضياؤه من ذاته
وله في الشيخ أبي منصور بن أبي غزوان :
يا من غدا فرداً فقيد المثل في آدابه
البدر فلق جبينه ... والنحر فلق جنابه
جاريت مني خائباً ... آذاك نور جوابه
أخطأت فيه وقلّ من ... هو يهتدي لصوابه
فالعفو أخلق بالكريم فإنه من دابه
ومن هممت بمثله ... فجحدت من أكنى به
أبو الفضل محمد بن عبد الله
المنذري الهروي (1/140)
ظاهر الشعار في صناعة الأشعار وأحذق من تعاطى الشطرنج بهرات وبوشنج . وهو من المختصين بخدمة الحضرة النظامية حرسها الله موفق الرأي في المصير إليها غال في المدح لها والثناء عليها غلواً أفاده في مراقي المجد علواً . وكنت وأنا بهرات أسمع أشعاره كما كنت في الغيبة عنه أتنسم أخباره . غير أني نسيت من مسموعي أكثره " وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره " . وجدت في الخزانة النظامية بنيسابور قصيدة له فانتخبت منها اللائق بهذا المكان ومطلعها :
رجعت وفود الأنس بعد نفورها ... وأتت تمايل في ثياب حبورها
ومنها :
وألحت الأيام في استغفارها ... لذنوبها حتى التقت بغفورها
فسخت عزيمة بخلها فسخت لنا ... بمنادح ممدودة بوفورها
وثوت شموس الحسن إيناساً لمن ... عذبنه بشماسها ونفورها
ورسول فصل الورد جاء مبشراً ... بزيارة منه صفت من زورها
وكأنني ببكوره تلقاءنا ... ينعى إلى الغربان فضل بكورها
وكأنني بجنانه قد زانها ... زهراتها بجمانها وشذورها
وكأنني ببهائها جزعية ... نضت الذي لبسته من بلورها
وكأنني بمنابر من دوحها ... خطباؤها مترنمات طيورها
تثني بألسنها على ملك الهدى ... حامي رباع بني الهدى وثغورها
لم تدع روم مذ دعا بلقائها ... سلطانه الإسلام غير ثبورها
هبت سمائم سخطه في أرضها ... فتركن بارد ظله كحرورها
يمضي غرار السيف في رئبالها ... ويجيز حكم السيف في يعفورها
وإذا انتأى عنهم فليس بمنتئى ... ذعر ورعب عن حشا مذعورها
فمتى يشم في الجو برقاً خاله ... ظبة يشم الموت من مأثورها
بأبي الجنود جنونهم بدم العدا ... كجنون شطار بشرب خمورها
آبوا بكل خريدة لم يطلع ... بصر عليهم من وراء خدورها
كانت ذرور العين طلعتها التي ... عدلت بعين الشمس عند ذرورها
سبيت ببيض سيوفهم وسبتهم ... بنهار غرتها وليل شعورها
تعتاد ظلم المستهام بها كما ... أردافها تعتاد ظلم خصورها
قد أقطف الرمان والتفاح في ... بستانتي وجناتها ونحورها
فكأن أبواب الجنان غدت لهم ... مفتوحة فأتت بأحسن حورها
أبو بكر عبد الله بن محمد
الحنفي الهروي
خدم المجلس العالي النظامي بقصيدة أولها :
سلام الله ذي العرش العلي ... على الشيخ الأجل أبي علي
سلام مثلما ابتسم الأقاحي ... ضحى وبكا السحائب بالعشي
ومنها :
وأبلج مثل نصل السيف ضرب ... حديد مضارب الرأي الزكي
له القلم الذي يضحي ويمسي ... حمام مكاشح وحمى ولي
إذا ما مشكل أعيا مراماً ... أصاب شباه شاكلة الرمي
خراسان التي تزور عطفاً ... عن الأمراء بالأنف الأبي
أطاعته وأعطته انقياداً ... ولا مثل انقياد الأرحبي
ومد إلى العراق يد اقتسار ... فذلله كتذليل المطي
وألقى كلكل الرأي اشتمالاً ... على الروم القياصرة العتي
فلما أن أبوا إلا جماحاً ... بعزم في الغواية شمري
أراهم حد بأس صاحبي ... ورداهم رداء ردى وحيّ
وله فيه رحمة الله عليه :
ملكت بلاد العرب والعجم ناظماً ... نظام لآلي العقد عن مبرم السلك
وأوسعت أرض الروم سبياً وغارةً ... وأبدلتها الإسلام بالكفر والشرك
فعد لبلاد الترك والهند خاطباً ... وأمهرهما بيضاً تلاعب بالنزك
وجل في ميادين العزائم جولةً ... ترد قراحاً قرحة الثكل والهلك
فللهند عين لا يلم بها الكرى ... حذار السوافي من زعازعك الحلك
وأظلم أياماً ولا الشعر حالكاً ... وقد ضاق أكنافاً ولا مقل الترك (1/141)
وللترك أحشاء يلج اضطرابها ... ولا الذهب الملقى على النار للسبك
أبو الفضل القطان الهروي
رأيته بهرات فيمن زارني من فضلائها وعاشرني من أبنائها وثنائها فوجدت القطان من وجوه قطانها المنيخين في أعطافها المقيمين بأوطانها وكتب إلي قطعة أجبته عنها فزعم أن نسختها ضاعت وسألني إعادة النسخة بأبيات أولها :
أمولاي إني قد أضعت خريدة ... ضميرك جلاها تبختر في الحلي
أعدها فإن العود أحمد طالما ... سمعت فلا تبخل بها وتفضل
فأجبت عنها بقولي :
أمولاي قل لي : لم أضعت خريدة ... عليها حلي من صياغة أنملي
ألم تخش جيشاً يستبد بذاتها ... فيقنصها قسراً ويطمع في الحلي
ترفق بتلك المبتلاة وجد لها ... بعونك يا معوان كل من ابتلي
ولا تستجز تبعيدها منك إنها ... إذا بعدت فرت بتقريب تتفل
الإمام يحيى بن عمار القاص الهروي
مذكر لسانه حسام مذكر . وسمعت أئمة صنعة التذكير يقولون : إنه أفضل من رقي في معاريج المواعظ واستبد بمرعى الأسماع ومرأى اللواحظ . أنشدني الإمام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري القاص بهرات قال : أنشدني الإمام يحيى القاص لنفسه أيام حداثته :
من كثرة الاختلاف يا سكني ... قد صرت في الناس شهرةً آية
حتى إذا ما دخلت سكتكم ... قالوا : أتانا جحا مع الراية
ثم رجع عنها تفادياً من الهزل واستطراداً إلى الجد . ومنذا الذي يستطيع رد الكلام الشارد والسهم النافذ الصارد
الإمام أبو إسماعيل
عبد الله بن محمد الأنصاري
وهو من التذكير في الدرجة العليا وفي علم التفسير أوحد الدنيا . يعظ فيصطاد القلوب بحسن لفظه ويمحص الذنوب بثمين وعظه ولو سمع قس بن ساعدة تلك الألفاظ لما خطب بسوق عكاظ . أنشدني لنفسه في الصاحب نظام الملك رحمه الله :
بجاهك أدرك المظلوم ثاره ... ويمنك شاد باني العدل داره
وقبلك هنيء الوزراء حتى ... نهضت بها فهنئت الوزاره
الإمام أبو عبد الله محمد بن الهيصم
من جبال هرات . وهو من أصحاب المقالات . فلا يتصورن لك في الهواجس والخيالات أنه من الجسمية المرتكبة للمجالات . وقد تقرر عند العلماء الكرام أنه ليس من أشياع أبي عبد الله بن كرام . وقد تأملت كتابه في إعجاز القرآن فإذا عبارات فصيحة وإشارات صحيحة . ولو عاش أبو عبد الله إلى زمانه لتواضع لرتبته وحبا بين يديه على ركبتيه . ومما بلغني من شعره قوله :
رحلت من العراق ولست أسى ... لعمر أبي على أرض العراق
كأن تلاطم الأمواج فيها ... جبال قد جنحن إلى اعتناق
ولا أنسى ليالي ساعفتني ... بها والأنس ممتد الرواق
أغل تشفياً من كل حزن ... بكأس من مآنسها دهاق
وله :
من ذا الذي لم تبكه الأيام ... أو لم تحل عقوده الأعوام
راقب عواقبك التي لو أظهرت ... ما طاب عند الذائقين طعام
وله يرثي ابناً له :
وكنت أربيه لغير الذي أرى ... فإن خاب آمالي فربي به أولى
وله :
ليل الشباب غدا نهاراً مصبحاً ... وطوى نهار اللهو ليل مطبق
من شام برق الشيب أيقن أنما ... وبل المنية عقبه يتدفق
فأعد زاداً للرحيل مبادراً ... أجلاً يغافص ضحوة أو يطرق
وله في شأن الفرش :
ألا إنما الإنسان كاسب نفسه ... فلا الشر منسي ولا الخير ضائع
وما المرء إلا للحوادث نهبة ... وما المال والأهلون إلا ودائع
وما جسد الإنسان إلا كعلةٍ ... موروثة سلاً له الموت تابع
ومن لم يزعه العقل عما يشينه ... فليس له إلا المقارع وازع
ومن يركب الإعجاب يخذل ومن يرد ... حياض الهوى أكدت عليه المشارع
عجبت لهذا السائلي أين أنتوي ... وهل منتوىً إلا إلى الشار شارع
وهل عنده للعين من مطمح وهل ... إليه سواه في الملمات شافع (1/142)
قصدت ذراه اليوم في مرجحنة ... من الأمر أحدوها ويردع رادع
فإن تقبل العذر الذي قد بسطته ... فذاك وإلا فالذي حمّ واقع
قلت : تأمل هذا الكلام وأنصف لتعلم ما بينه وبين الكرامية الفلانية الذين يقولون : قتلت السراج بمعنى أطفأت ورأيت الجماع في النوم أي احتلمت وأكلت الخجل أي خجلت . وحاشا هذا الفاضل من إدبار تلك الأكسية ودبر تلك الأقفية وسخنة تلك العيون وسعة تلك البطون وجنونهم في طريقتهم والجنون فنون !
أبو عمرو يحيى بن صاعد بن سيار
الهروي ابن قاضي هرات
وصاعد هذا هو أخو القاضي أبي الفتح الذي مرّ شعره وسبق ذكره . وهذا الشاب كأبيه وعمه . وإذا شبهته بهما فقد خصصته من المدح بأعمه . وقد جمعتنا الحضرة بنيسابور إلا أن الوحل ألزمني الرحل فلم ألتق به . وأهدى إلي الأديب يعقوب أبياتاً من قيله خدم بها المجلس العالي النظامي وهي :
قل لنظام الملك في صدره ... يا سيد الناس أما فرصه
ينشد فيها عبده بعض ما ... أنشأ من نظم ومن قصه
لم يك لي قصد سوى أنني ... أنال من إكرامه حصه
فكيف يثنيني على حسرة ... أجول فيها وعلى غصه
لست أرى في مجده فسحةً ... لرد آمالي ولا رخصه
أأنثني من عنده خائباً ... لم يسقني من عطفه مصه
والله قد آثره بالعلا ... وخصه الله بما خصه
ما زال كل في العلا يدعيّ ... وهي بك الساعة مختصه
وكتب إلى الأجل شرف السادة البلخي وقد زاره :
قد فاز سهمي وعلت رتبتي ... إذ زار بيتي شرف الساده
وأضحت الأموال مجلوبةً ... لديّ والآمال منقاده
حملني من عبء أفضاله ... ما لو حواه جبل آده
فكيف أقضي شكر ما شاده ... من شرف أقدح أزناده
لم يبتدع شيئاً ولكنه ... جرى على الفضل الذي اعتاده
وليس من يأتي العلا كلفةً ... كمثل من يأتي العلا عاده
لا زال في عز وفي دولة ... ونال من دنياه ما ارتاده
الغانمي الهروي
هو أبو العلاء محمد بن غانم شاب فاضل اختلف إلى نيسابور وحصل ديوان شعري وانتسخه من جمعي وأمره على سمعي . وله شعر حسن ووراءه للزيادة مواعد وله في مناهل الآداب بعد موارد وارتبط لخدمة التأديب في الدار العالية النظامية فانساب رونق الإقبال في متصرفات أحواله ولاحت آثار السعادة على صفحات جاهه وماله . فمما نشدني لنفسه قوله في خدمة نظامية من قصيدة :
ضياء الشمس جزء من جبينك ... وناصية الليالي في يمينك
إذا قيست بك الوزراء يوماً ... فأسدهم ثعالب في عرينك
وقوله فيه :
نظام الملك يا شمس الممالك ... ويا قمر الأسرة والأرائك
لقد رضت الليالي فاستكانت ... حوادثهن لينة العرائك
وأصبحت المشارق كلها في ... يمينك والمغارب في شمالك
وكتب إلي أبياتاً اخترت منها قوله فيها :
تدور في يديها الكأس ريا ... مدار الشمس في يدها الثريا
براح يد ترد الشيخ طفلاً ... وراح فم تعيد الميت حيا
لها صفتان من نار وماء ... يعمان الأسى غرقاً وشيا
غدائر غادرت عيني غديراً ... وحالي مثلها لوناً ولياً
وكتب إلي أيضاً يصف كتابي هذا :
بقيت فأنت من أضحى وأمسى ... على الفضلاء كلهم رئيسا
ودمية قصرك الغراء وافت ... فحاكت في محاسنها عروسا
أتيت بها يداً بيضاء حتى ... كأنك في الذي أبدعت موسى
وقد أحييت موتى الفضل فينا ... كما قد كان يحيي الميت عيسى
الشيخ أبو بكر الأسفزاري (1/143)
انعقدت بيني وبينه المودة بهرات سنة خمس وأربعين وأربعمئة . وطال امتزاجه بي حتى انصبغ بي وتأدب بأدبي وقرأ علي واقتبس مما لدي . وكان رحمة الله مولعاً بالآداب الغضة يهصر أغصانها ويشم ريحانها ويقصد جنانها ويفصد دنانها فاتفقت لي عودة إلى هرات سنة اثنتين وخمسين وهو في جوار الله عز و جل . فوجدت الأفاضل نجوم سماء انقطع عن مددها البدر وليالي صيام استرق من عددها القدر . فكنت في تلك الكرة الخاسرة كمن رأى سراباً بقيعة وهو ظمآن غصان فحسبه زلالاً حتى إذا جاءه آب الظن ضلالاً وآل الماء آلاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه . كتبت إليه أول ما أبرمت حبل وداده ووثقت بحسن اعتقاده :
أبو بكر الصديق في العهد مؤنسي ... إذا غار بي خوف المعادين في الغار
عرضت عليه دين ودي فما نبا ... ولم يتلعثم من جحود وإنكار
ولم تك منه بيعة الود فلتةً ... فيزعم أن الأمر متفق طاري
لذلك لم أمنعه من خالص الهوى ... عقالاً وإخلاص الهوى رسمي الجاري
وبايع يروى قبل هذا مدامناً ... علي أبا بكر وراويه في النار
وقد صنت عن أمثال ذلك بيعتي ... ففي النصح إعلاني موافق إسراري
وصنعة هذه الأبيات أني لم أخرج فيها عن الأحوال التي دارت بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما من المسارعة إلى الإيمان من غير تلعثم وكبوة عما دعته إليه النبوة ومرية فيما حملته عليه المروة . فأجابني أبو بكر الأسفزاري عنها ببيتين له استنبط فيهما معنى من جنس استنباطي وهما :
سما عليّ في سماء العلا ... وغيره ملتصق بالرغام
أنا أبو بكر سوى أنني ... معتقد أن علياً إمام
وله من قصيدة :
أيا عاذلي لما رآني محرقاً ... إذا لم تبردني فلا تتبرد
زعمت بأن الشمس تغرب غدوةً ... ومن بطلوع الشمس في ضحوة الغد !
فعدت هباءً إن أر الشمس أنتعش ... وأوجد وإن أفقده أحرق وأفقد
بدا طالعاً دون الثنيّة فارداً ... يبين ويرنو نائراً مثل فرقد
وأرمد عيني نور شمسي فاشتفت ... إذ اكتحلت من عارضيه بإثمد
وعطّشني ياقوت فيه فلم أقل ... بتروية الياقوت من غلة الصدي
الخطيب أبو يعلى القرشي الهروي
أنشدني الشيخ الرئيس أبو القاسم عبد الحميد بن يحيى الزوزني رحمه الله قال : أنشدني الخطيب أبو يعلى لنفسه :
ليس ينفي الهموم غير الحميا ... فاسقياني من كف طلق المحيا
قهوة تترك السقيم صحيحاً ... وتزيل الهموم محواً وطيا
ذكراني بها نسيماً وورداً ... ودعاني من ذكر سعدى وريا
قد دعوت الغلام ثمت نادي ... ت : أدرها ولا تبق عليا
ومتى عاف واحد منهم الكا ... س فأقبل بها إليّ إليا
لم أزل قرنها هنالك حتى ... بدلتني والله بالرشد غيا
فترت مقلتي وأودت بلبي ... وسرت في العظام شيّاً فشيا
الشيخ أبو نصر أحمد بن محمد
بن أبي عمرو الباذغيسي
ولي البريد بهرات أيام الأمير السعيد أبي سعيد مسعود بن محمود رحمهما الله . وعاش في ظلال تلك الدولة بجاه يحل فرق الفرقد لبعد مرقى المرقد . ثم تراجعت أحواله وأخدجت آماله وأمواله ولفظته هرات إلى زوزن ورئيسها أبو القاسم في الدست ويده تقول للمزنة الكلفاء : أنا ولست . ففرش له حجر إنعامه وألقمه ثدي إكرامه حتى انتعش من سقطته وتخلص من ورطته واعتذر إليه الدهر من غلطته . فألقى بزوزن عصا المقام وشج في جواره أوتاد الخيام . وما زال بها في بال رخي وفلك بما يهواه سخي حتى أسن ورق جلده فاستشن وصار كالكروان صك فأكبأن . وانتقل من ظل العافية التي عثر بها في تلك الزاوية إلى الجنة العالية رحمة الله عليه . فمما أنشدني لنفسه قوله يصف تنقل أحواله :
يا سادتي إن تسمعوا ... في قصتي عجب العجائب
رعت الهزابر برهةً ... ثم انهزمت من الثعالب
كنت امرأ زمن الغنى ... جم المآرب في المناقب (1/144)
أغشى الملوك كما أري ... د ولا أحاشي رد حاجب
وأرد بالرأس السدي ... د السمر في صدر النوائب
ومراكبي بسماتها ... تزهى على كل المراكب
وحسان دراي مثل ... بحذاء وجهي كالكواكب
لما تغيرت الأمو ... ر وعطلت تلك المراكب
بسحاءة قيدت ثم حبست في بيت العناكب
وأنشدني أيضاً لنفسه من أبيات كتبها إلى الأديب البارع الزوزني وهو بماثيرناباذ عند الأمير أبي المظفر :
لولا مكانك من دار يحل بها ... أبو المظفر بانيها وعامرها
لطمت بالعذل وجهاً أنت مطلعه ... ولمت بالسب نفساً أنت عاذرها
وأنشدني لنفسه أيضاً :
لئن كرهت نفسي رضاك فلقيت ... فراق صديق أو فراق حبيب
وإن تهو شيئاً غير ما تستحبه ... فبات همومي في هموم مشيب
وإن لذّ عيني لذة لا تلذها ... فلا لقيت سعدى بغير رقيب
فلا تعجبن مما ذكرت فإنني ... أدل بعهد في هواك عجيب
قال رحمة الله عليه : أنشدوني بيت الحماسة :
بقيت وفرى وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
فاستحسنت إقسامه حتى عارضت بأبياتي هذه أقسامه
الرئيس أبو الحسين عفيف بن محمد البوشنجي
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي قال : أنشدني العبد لكاني قال : أنشدني عفيف هذا لنفسه :
أقمنا بين ريح في ... ذرى خصب من العيش
إذا قابلنا الصيف ... بما عبى من الجيش
هزمناه بجيشين ... بيوت الماء والخيش
أبو سعد يحيى بن يحيى بن منصور
المطوعي البوشنجي
أنشدني القاضي البحاثي قال : أنشدني العبد لكاني قال : أنشدني المطوعي لنفسه :
سفينة قد شحنت ... بالهزل والجد معا
كفلك نوح كان فيه كل شيء جمعا
المظفر بن أحمد الطيب البوشنجي
بدن المرء إذا ما ... لم يساعده بقاؤه
كلما زيد غذاءً ... زاده شراً غذاؤه
الشيخ أبو علي الشبلي
من رؤساء بوشنج . واردته مدة على الخدمة النظامية بهرات واستفدت من محاضراته ما لم أجد عند غيره من ذلك الصنف واقتبست من مذاكراته جملاً ملأت بها الكنف . وكان الغالب عليه النثر ولرسائله عذوبة هي بين الكتّاب أعجوبة . ولم يبلغني من شعره إلا ما أنشدنيه له الأديب عبد الصمد الأزدي وهو قوله :
نزحوا وقربت المكاره بعدهم ... فهلكت في يد نازح وقريب
هبني على المكروه أصبر جاهداً ... من أين لي صبر عن المحبوب
أبو منصور عبد الرزاق بن الحسين البوشنجي
غره جبن ناحيته وطراز كمّ بلدته . من لم أر مثله في فنه وأسلوبه وغزارة سجله وذنوبه وكأن فضله اعتذار الدهر عن ذنوبه . وكان بباخرز في جملة الشيخ أبي نصر أحمد بن الحسين مدة وأقام عنده حيناً من الدهر يزوجه عرائس خواطره ويرتزق من المهر . وأنا يومئذ صبي غر وأيامي بمجالسة الفضلاء محجلة غر . ووالدي رحمة الله عليه في الأحياء وحياة الآباء من أمتع الأشياء سقى الله تلك الأيام ولا أدري ما الذي ألوى بها فما ألوى أطارت بها العنقاء أم سبقت جلوى وانتقل هذا الفاضل من جوارنا بعد الواقعة بالشيخ أبي نصر إلى زوزن واختلط بالفضلاء المرتبطين بحبالة الشيخ أبي القاسم عبد الحميد بن يحيى رحمهم الله لهم عامة وله خاصة ما شاؤوا من معايش خضر ونعم بيض ونعم حمر . ثم انقطع عن زوزن رفقه ورزقه فسار يطوي البلاد طياً ولا يهدأ ليلاً ونهاراً حتى أناخ بعقوة الأمير أبي الأسوار بطنجة . وما زال بها يتصرف على عمل القضاء إلى أن أدركه سوء القضاء . فدفن بها رحمة الله عليه . له شعر غلبت عليه الصنعة حتى خفت رقته وجفت ريقته . فمما أنشدنيه لنفسه قوله من قصيدة يمدح بها الشيخ أبا نصر أحمد بن الحسن ويفضله بها على الشمس وهي :
وما اسم الشمس ليس الشمس إلا ... أبا نصر فصنه عن اشتراك
تود الشمس لو تمسي شراكاً ... لنعليه وطوبى للشراك
أيا شمس الضحى شمس المعالي ... أبو نصر فردي من ضحاك (1/145)
وذلك في التصرف ذو اختيار ... وإنك من بروج في اشتباك
وذلك مشرق في كل وقت ... وإنك من غروب في التباك
وذلك ضاحك أبداً بجود ... وجوك ليس يمطر غير باك
وذلك مستنير في نفوس ... وأنت منيرة بين السكاك
وذلك في الحراك على سكون ... وأنت بلا سكون في الحراك
وذلك في حراه كل فضل ... ولست أنال فضلاً من حراك
وذلك أحمد السادات ليث ... وأنت غزالة فمتى تحاكى
أبا نصر نور الشمس واظهر ... وخلّ الشمس في سمك السماك
وأنت تواضعي يا شمس ذلاً ... لرفعة أحمد فلقد علاك
وله فيه أيضاً من قصيدة أولها :
سقياً لدارك من جفني ومعهدها ... وشادن لم يقصر في تعهدها
وظبية آنستني فانثنت وثنت ... قلبي بأبرح أسقام وأجهدها
تنهدت ثم ولت أي لمعتبة ... نفسي فداء عتاب في تنهدها
وظبي إنس فقل في الظبي وا بأبي ... أصداغه إذ تلوت في تعقدها
تبوأت مرقداً من وردتيه على ... ديباجتيه فيا طوبى لمرقدها
رنا وأجلى وأضحى كالمهاة فمن ... لفهم معنى مهاة أو تفقدها
أضحى كشمس وأجلى بالضواحك عن ... بلورة ورنا عن عين فرقدها
قلت : انظر كيف أثار هذه المعاني من المهاة وهي لغة تتضمن عدة معان وهي الشمس والبلور وبقر الوحش فردها إلى المعشوق بثلاثة أوصاف مع مراعاة الترتيب في التقسيم . ومنها في المدح :
إذا تبسم للعافين ليل ندىً ... فالصفر تعبس ضرباً من مجردها
وإن تعبس للعاصين يوم ردىً ... فالبيض تضحك ضرباً من مجردها
يذيب بالخوف أكباد العداة كما ... تذوب من حرقة أكباد خردها
وليس تلهيه كأس في توردها ... عن نفس قرن لكأس في توردها
أحبابه كعلاه في توردها ... أعداؤه كلهاه في تشردها
ومنها يعدد ذكر الحرب :
قتال أقتلها فراس أفرسها ... غلاب أغلبها صياد أصيدها
فلا تتيمه خود بمطرفها ... إذا رأى الخود في حرب بمطردها
ولم أسمع في العذار أحسن مما أنشدنيه لنفسه وهو :
قد كان في نوره نهارا ... فزيد ليلاً من العذار
فأين منه وهل مفر ... لنا من الليل والنهار
ومن غزلياته الرقيقة قوله :
فوالله ما فارقت عهده عقده ... والله ما حللت عقده عهده
وإني على هجرانه عبد وده ... فمن لي بمولى يرتضي رد عبده
وأنشدني لنفسه أيضاً :
أتاني حبيبي بعد طول ازوراره ... وقال : فمي ذقه فريقته قهوه
فقلت له : مولاي صدغك أشتهي ... فقال : هنيئاً لا خصومة في الشهوه
ومن نتفه المليحة :
حديث له حلو بماذا أقيسه ... فقد جاز حد الفهم والوهم والصفه
وهل ينبغي إلا كذاك مقالة ... تمر بذاك الريق والثغر والشفه
وله في مجلس الأنس بديهةً بين يدي الشيخ أبي نصر أحمد بن الحسين رحمهما الله :
غداً نكون معاً يا طيب شرب غد ... في خير أنس وأهنا عيشة رغد
إذا تبسم نحوى الراح عن درر ... عرفت من ضحكها بشرى بشرب غد
وله في وصف الساقي والخمر وهو من بدائعه :
ساق إذا رأت الصهباء مبسمه ... تعرقت حبباً من شدة الخجل
وأنشدني قول الوأواء الدمشقي :
وأسبلت لؤلؤاً من نرجس وسقت ... ورداً وعضت على العناب بالبرد
فأنشدني لنفسه ما زاد عليه فيه وهو :
جنى بنفسجة من ورده عنم ... وصب دراً على الياقوت من سبج
وقال يهجو :
لمت زيداً على خمود الحميه ... فتلظى من شدة العصبيه
قال : لو كان في الحمية خير ... لم تسم الحمية الجاهلية
وله أيضاً يهجو :
أبو سعيد شكل بطيخةً ... ولو غدا بطيخةً لم يشن (1/146)
فهو ثقيل لزج أشقر ... مشقق السفل غليظ خشن
وله بديهة في مجلس الأنس يشتهي القارص ويقترحه على المضيف :
عجل به من قارص قارس ... بالله ما أشهاه من قارص !
!
كم ماضغ إصبعه بعده ... تمطقاً منه وكم قارص !
وله وقد حياه بعض الملاح بريحانة :
ريحانة حيا بها أجيد ... كصدغه بل صدغه أجود
معنبر تقبيله أصهب ... ممسك تجعيده أسود
وله بديهة في الشيخ أبي نصر أحمد بن الحسن :
أبا نصر اسعد في وفاق من العلا ... فأي فؤاد في خلاقك لم يخب
وأي منى حاولت بالله لم تكن ... وشيء سألت الله في الوقت لم يجب
الشيخ أبو عبد الله
ناصر بن جعفر البوشنجي
كاتب شاعر كامل في صناعتي الشعر والكتابة . وهو في باب المنادمة من البابة . يكاد من رقة قشرة العشرة ينساب في العروق مع الصهباء ومن خفة زنة الروح يروح مع الدر في الهواء . وكان في سالف الأيام يكتب للشيخ العميد أبي سهل الزوزني وهو على مصارفته في النقد لم يزدد بطول حكه إياه على الحجر إلا ربحاً في المتجر
وكفى به مفتخراً وحسبه من نفائس الجاه مدخراً . أما أنا فقد ورثت والدي وده واكتسبت من مطرفه ما لا يفسخ الدهر عقده وراضعته لبان الكاس وذاكرته عليها مواد الأنفاس . فمما تواضع به من الثناء علي قوله :
إني أقول وما أقول عصابة ... لجباه أبناء الأفاضل في الزمن
لا زين في بلد ولا في مجلس ... حتى يكون به علي بن الحسن
واستعار من القاضي أبي جعفر البحاثي دفاتر . فلما تقاضاها ردها وكتب إليه معها :
أبا جعفر أنت من معشر ... حووا في العلا شرف المنصب
قضاة الأنام رعاة الذمام ... أولي الأدب الأوفر الأعذب
وأصبحت أرفعهم رتبةً ... بآلة عنصرك الطيب
وما فيك من جمل المأثرات ... وما لك من مذود مسهب
وهاك الدفاتر قد سقتها ... إليك فكن حسن الظن بي
فإني أيضاً لمن عصبة ... سراة المحافل والمراكب
وفضلي وإن أنا أخفيته ... تأرج كالعنبر الأشهب
فلا تنظرن إلى شملتي ... فلا عار بالعري للكوكب
أبو القاسم المظفر بن علي
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي قال : أنشدني العبد لكاني الزوزني قال : أنشدني هذا المذكور لنفسه :
بلاني الزمان ولا ذنب لي ... بلى كل بلواه للأنبل
وأعظم ما ساء من صرفه ... وفاة أبي بكر الحنبلي
سراج العلوم ولكن خبا ... وثوب الجمال ولكن بلي
أحمد بن الحسين الخطيب
خطيب كراة وكراة من ناحية بوشنج من فضلاء جنبته ودهاقين ناحيته . يرجع إلى خط حسن ورسالة باللسانين مرضية وحرمة بين أصحاب القلمين مرعية . ولم يبلغني من شعره إلا قطع نظمها على وزن الرباعية مثل قوله :
قد هاض فراقه فقاري والله ... واستهلك هجره قراري والله
أذري الدم ليلي ونهاري والله ... لم يغن عن الهوى حذاري والله
وقوله :
أبلى جسدي هوى ظلوم جان ... قد هجن قده قضيب البان
يا من أضحى وما له من ثان ... ما ضرك لو فككت هذا العاني
ولم أكن سمعت بهذه الطريقة حتى أنشدني الشيخ والدي رحمه الله لأبي العباس محمد بن إبراهيم الكاتب الباخرزي رباعيات على هذا النمط منها قوله :
قد صيرني الهوى أسير الذله ... واستنهكني وما بجسمي عله
واستأصل واستباح هجري كله ... لا حول ولا قوة إلا بالله
إلى أخوات لها من مقاله ثم نسج والدي رحمه الله على منواله فنظم منها أعداداً كثيرة على وزنه مثل قوله :
أعطيتك يا بدر عنان القلب ... لا زلت أرى هواك شأن القلب
لو لم يكن الصدر صوان القلب ... أنزلتك والله مكان القلب
وقلت أنا :
قد مل هواي فافترشت المله ... خل بوصاله تسد الخله
أدمى كبدي بسيف هجر سله ... ما أجوره علي سبحان الله !
!
الأمير أبو أحمد خلف بن أحمد السجزي (1/147)
صاحب قرانه والصاحب المبر على أقرانه والمشار إليه من اشراف أطراف العالم والمخاطب على أعواد المنابر بالعادل العالم . ولم تزل حضرته مورد الآمال ومصدر الأموال . وله تفسير يقع في حمل بعير . وهو كما قال أبو الفتح البستي فيه :
خلف بن أحمد أحمد الأخلاف ... أرنى بسؤدده على الأسلاف
وقصده أبو الفضل الهمذاني مادحاً فوصله بألف دينار . أنشدني له الشيخ أبو محمد الحمداني هذه الأبيات وعليها أمارة الإمارة :
يقولون : لا تشرب ولست بصخرة ... من الصم في واد على نشز وعر
ولكنني من عصبة آدمية ... كثير هموم القلب ممتلئ الصدر
فلولا دفاع الكأس عني وذبها ... لذبت كما ذاب اللجين على الجمر
أبو حفص عمر بن الحسن الرخجي
أنشدني الأديب أبو سعيد الحسن بن أحمد الطبسي قال : أنشدني ميمون الواسطي قال : أنشدني لنفسه هذا الرخجي :
يا قوم إن غبت عنكم ... فإن قلبي لديكم
وإن قصدت سواكم ... فوجه ودي إليكم
وأنشدني الأديب أبو سعيد أيضاً قال : أنشدني العبد لكاني الزوزني هذه الأبيات للرخجي فيه :
أديب يضيء به المجلس ... علينا من أنفسنا أنفس
إذا زارنا بعد طول المطال ... وكادت رسوم الهوى تدرس
تطيب بلقياه أرواحنا ... فداء لأنفاسه الأنفس
ورأيت في بعض التعليقات منسوبة إليه :
أبا الفضل يا من زانه الفضل والنجر ... أبي الفضل إلا أن يكون لك الفخر
تبجح بأولاد كرام كأنهم ... نجوم إذا لاحت وطلعتك البدر
فلا سلب الأولاد ظلك سرمداً ... فإنهم نبت وأنت لهم قطر
يمد بقاء المكرمات وعهدها ... إذا مد في ظل البقاء لك العمر
فعش وابق مسروراً بهم في سلامة ... وشانيك تحت الأرض يهدمه القبر
أبو عمرو الصابوني السجزي
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي الزوزني قال : أنشدني العبد لكاني الزوزني قال : أنشدني الصابوني لنفسه من قصيدة :
مديحي فيك أنسابي ... مديحي كل إنسان
وقدماً كان لي في المد ... ح والتشبيب أنسان
وله أيضاً قصيدة في فاخر السجزي القاص :
من عهده عهد قري ... ب بالتكفف والسغب
وسعيت تطلب خيره ... لم تستفد غير التعب
أبو بكر أحمد بن محمد العنبري السجزي
نقلت من جزء للشيخ أبي القاسم عبد الصمد الطبري رحمه الله أبياتاً له يهنئ بها بعض الرؤساء بالنيروز :
أقبل النيروز إقبا ... ل عروس تتكسر
واكتسى الروض ثياباً ... بين ورد ومعصفر
وصفا الجو صفاء ال ... هنداوني المذكر
قلت : عندي أن وصف الجو بالصفاء في النيارز مما يرد في نحر الوصاف العاجز . عاد الشعر :
وبدت رائحة الأن ... وار كالند المعنبر
فعيون المزن من غي ... ر بكاء تتقطر
قلت : وهذا البيت يدل على المناقضة فإن صفو الهواء مع تكدر المزنة الوطفاء وإضحاكها الروض لفرط البكاء أخت بيض الأنوق والأبلق العقوق عاد الشعر :
فترى في كل روض ... عندليباً يتحنكر
وترى كل مكان ... مثل ديباج مشجر
يا أبا منصور اشرب ... من يدي أغيد أحور
من شراب خسرواني ... ي كلون الدم أحمر
ها هو الإقبال قد أقبل والإدباد أدبر
لا تزل في ظل عيش ... ناعم لا يتغير
أبو الحسن أحمد بن محمد العنبري السجزي
كاتب الأمير خلف بن أحمد . اتفق اجتيازه بباخرز فمدح زعيمها بها الشيخ أبا الطيب الخداشي بهذه القصيدة :
دنا البين فانهل الدموع السواكب ... وعاد إلى قلبي الهموم الذواهب
وقد جزعت نفسي غداة بدا لها ... غراب بتفريق الأحبة ناعب
ومنها :
وقائلة والدمع يستر خدها ... غداة استقلت بالرحال الركائب (1/148)
رويدك أخبرني بأية طية ... رحلت وبين لي متى أنت آيب
فقلت لها : عما قليل وربما ... يقول الفتى في أمره وهو كاذب
ومنها :
وهاجرة مسمومة قد تطايرت ... لوقدتها تحت السماء جنادب
ترقرق فيها الآل حتى كأنه ... إذا ما التقى تلك البلاد مشارب
رجعت إلى صبري وأحكمت عقده ... وللنفس فورات بها ونحائب
ومنها :
وشفان ليل قد صبرت لبرده ... فأصبحت مقرورا ولوني شاحب
تقعقعت الأسنان في الفم وانزوت ... مفاصلنا من برده والرواجب
صلى القوم أكباد لهم ينفثونها ... على أنمل باتت تجيها الضوارب
إلى أن تعرى الليل عن قرن ساطع ... مشت نحونا منه سراعاً ذوائب
وما كل من قد رام أمراً بمدرك ... ولا كل سهم قد رمى القلب صائب
فإن ساعد الجد السعيد فمسعد ... وإن عمل الحرمان منه فخائب
عليك بمن أمسى وفي الفضل والعلا ... له شيم محمودة وضرائب
أبا الطيب الشيخ الأصيل الذي له ... من المجد من فوق الثريا مراقب
فإن زرته نلت المراد وفوقه ... وعاد كليل الحد منه النوائب
أبو الحسين بن أبي علي بن جعفر
بن أبي نوح
نديم الأمير أبي الحسن محمد بن إبراهيم السيمجوري صاحب الجيش . أنشدني القاضي أبو جعفر محمد بن إسحاق البحاثي قال : أنشدني العبد لكاني قال : أنشدني ابن أبي نوح لنفسه :
كم قديم لأولين كرام ... هجنته نقيصة الأعقاب
ولكم فاتت المناسب قوماً ... نعشتهم فضيلة الآداب
وقال : وأنشدني أيضاً لنفسه :
سعدنا بماء الورد إذ فات أصله ... وكم بدل لم يجد من وصمة العور
وله :
وجزية رأس المسلمين شنيعة ... ولكنه من صاحب العلم أشنع
أبو حفص البستي الفقيه
أنشدني الشيخ أبو عامر الجرجاني قال : أنشدني الشيخ أبو بكر العميد القهستاني له من قصيدة :
كأن لسيفك في الناكثين ... كما ليمينك في المال ثارا
فأصبح ذاك ينادي العفاة : ... إلي إلي البدار البدارا
وأصبح هذا ينادي العداة : ... إليك إليك الحذار الحذارا
أبو النجم أسعد بن إسماعيل البستي الفقيه
له من قصيدة :
وما لي أنيس سوى شمعة ... تساعدني في البكا والسهر
فأدمعها ذهب ذائب ... ودمعي عقيق إذا ما انحدر
الفقيه أبو المظفر
ناصر بن منصور بن إبراهيم البستي
المعروف بالغزال له :
قف بالديار فنادها بسلام : ... حييت من دمن ورسم خيام
كانت ربوعك للظباء أوانساً ... ما بالها لنوافر الآرام
يا دار جيرتنا عهدتك جنة ... بنعيمها لو دمت دار مقام
أيامنا اللاتي لبسنا ظلها ... بالأبرقين سقيت من أيام
فإذا الهموم تطاولت فاطلب لها ... عيشاً مداماً باتراع مدام
صهباء تسطع في الكؤوس كأنها ... شمس تقلبها بدور تمام
وتكاد تخفي رقة ولطافةً ... لو لم يخيلها خيال الجام
وإذا تسرب في العروق ذكاؤها ... أضحى تشعب نورها في الهام
من كف ساق لو سقاك بكفه ... سماً لكان شفاء كل سقام
وكأنها معصورة من خده ... إذ ظلت ترمقه بلحظ سام
ومنها في صفة الساقي :
ومشى بكتان فخلت عناكباً ... نسجت على الياقوت ثوب قتام
أعجب ببدر سالم كتانه ... وبه تحرق أنفس الأقوام
وله :
قم فاسقني ودع الرشاد لأهله ... إن الشباب مطية الآثام
واشرب بذكرى دولة الشيخ الجليل ... أخي العلا والجود والإنعام
ضرم الجوانح للمعالي لم يزل ... يسعى لها بصبابة وغرام (1/149)
قد تيمته المكرمات فما له ... في إثرها من مطعم ومنام
يحوي المغانم بالمغارم دهره ... والعز بالأسياف والأقلام
قلم إذا ركب البنان تنشرت ... حلل البيان وما اهتدى لكلام
وله أيضاً من تشبيب قصيدة في الشيخ عبد الرزاق بن أحمد بن الحسن الميمندي :
أنكرت لمة رأتها خضيباً ... ثم قالت : رأيت زوراً غريبا
وتصدت للوصل ثمت صدت : ... لا تصدي فما رأيت عجيبا
يا مشيباً جنى عليّ صدوداً ... وصدوداً جنى علي مشيبا
ما عجبنا من حادثات الليالي ... أن يكون الولدان فيهن شيبا
أبو الحسن المومي الغزنوي
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي قال : أنشدني ميمون الواسطي قال : أنشدني المومي لنفسه :
فهم من الجد في حضيض ... وهم من الجد في الروابي
وهم إذا فتشوا وعدوا ... أعز من رجعة الشباب
أبو نصر تميم بن أحمد التميمي الغزنوي
عزيز الفضل كثير التحصيل ظريف الجملة والتفصيل . يسوغ على وجهه الشراب ويتصل بمنادمه الأطراب . والغالب عليه لسان العجم . ورباعياته تبذرق الراح في العروق وتؤلف بين العاشق والمعشوق فمما أنشدني لنفسه قوله :
خراسان اعتلى فيها الجفاء ... وأكثر أمر مرسادتهم جفاء
نبت بي أرضها فرحلت عنها ... وقلت : على خراسان العفاء
أبو العلاء عطاء بن يعقوب
الغزنوي الكاتب
كتب العميد أبو سهل الجنيدي إلى العميد أبي بكر بن بندار قصيدةً سنوردها عند ذكره فأنشد أبو العلاء عطاء بن يعقوب هذا جواباً عنها وهو :
نظمك المعجز المبارك فالا ... قد سقانا من عينه سلسالا
فروينا وما روينا ولكن ... قد سقينا بها القلوب النهالا
واجتنينا لآلئ العقد منه ... واجتلينا السعود والإقبالا
رق لفظاً فقيل : خمر حرام ... راق معنىً فخيل سحراً حلالا
كم معان كأنها فك عان ... قد تجشمت نظمها لي فالا
لم يقل مثلها بديعاً بعيداً ... كل من خط فوق سفر قالا
ولقال العتاق : جاءت قوافيها على قد لابسيها مثالا
ما رأينا مثالها قط لكن ... قد رأينا جميعها أمثالا
إن توسمن كن راحاً شمولاً ... أو تنسمن صرن ريحاً شمالا
وتصورت كل بيت شرود ... حسن عين ولطف جيد غزالا
مسكه عرف كل معنى بديع ... روقه فوقه الروي على لا
قلت : هذا روق رائق وفوق فائق وغزال مغازل
الأديب أبو القاسم أحمد بن إبراهيم
أصله من بغشور وهو مقيم بلوهور . كتب إلى العارض بها
يا بارعاً كأبيه يا ... نصر بن منصور بن أحمد
أقررت عين أبيك فاطلب شأوه والحقه وازدد
فأبوك أوحد في السرا ... ة وفي بنيه أنت أوحد
أبني بالله اعتصم ... فالفضل عند الله يوجد
وصل القريب وإن جفا ... واخش البعيد وإن تودد
من كان يعمل صالحاً ... فلنفسه يسعى ويجهد
قد ينقضي ما نحن فيه ... وذكرنا باق مجدد
فأجابه العارض بهذه الأبيات وهو أبو المظفر نصر بن منصور :
الفضل مركوم منضد ... عند ابن إبراهيم أحمد
شيخ الكتابة والخطابة والندى في كل مشهد
وقد اعتصمت كما أشار بمن لديه الفضل يوجد
الله نرجو أن يقوم من شؤوني ما تأود
والوالدان كلاهما ... لهما حقوق ليس تجحد
قد ربياني بالجميل وبلغاني كل مقصد
وبلغت هذه الأبيات عمر بن المظفر الطبيب وهو سكران فأنشأ يقول :
تالله إني لست أعهد ... كأبي المظفر وابن أحمد
تهدي خلائقه لنا ... أرجاً من الورد المورد
جمع العلوم على حدا ... ثة سنه مثنى وموحد
إن يبد منشد شعره ... تر للأنامل نحوه مد
فكأنه في حسنه ... نور الربيع يداً إلى يد (1/150)
خذها بديهة منتش ... من سكره قد جاوز الحد
قلت : وجدت في سفينة فوائدي اسمين لم اعرف لصاحبيهما منبتاً فأعين مكانهما ولا عنهما خبراً فأؤرخ زمانهما . أحدهما :
الأستاذ أبو الشريف
أحمد بن محمد بن حمى بن علويه
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي قال : أنشدني العبد لكاني قال : أنشدني أبو الشريف لنفسه :
شيب الفتى آخر عمر الفتى ... وإن تناهى بالفتى عمره
شبابه غايته شيبه ... وشيبه غايته قبره
والآخر :
أبو علي عيسى بن حماد
كذا وجدت في السفينة أنه كاتب بكر . وأنا من اشتباه حالة في بلية إذ لم أقف منها على جلية . غير أني أعلم أنه في طبقة الأوائل من العصريين يكاد يخرج من هذه القضية ويمرق من بيننا مروق السهم من الرمية . أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي قال : أنشدني أبو سهل عبد الله بن لكش العميد بغزنة له في الأهاجي :
ومن بعض مرفقها أنها ... تذري بضرطتها بيدرا
تناك كما يشتهي النائكو ... ن فطوراً أماماً وطوراً ورا
وله أيضاً من قطعة :
يقول له شاذان : قم غير صاغر ... فقدم إلي الأم حتى أينكها
وله أيضاً :
أيا قاضي القضاة جزيت شراً ... فإنك لست تدري ما طحاها
تردد حين تبصر اير نصر : ... أتتك العيس تنفخ في براها
وإن فارقته يوماً تغني ... ونفسك قد أضر بها شجاها
وما فارقت لبنى عن تقال ... ولكن شقوة بلغت مداها
وله أيضاً :
وإذا التقى عند الخلا ... ج محمد وأبو الفرج
وتلاطما وتعانقا ... لم يدر أيهما عفج
من كان يعلم أير من ... في دبر صاحبه ولج
ثم استبد بعلم مط ... واه عيي في حرج
قلت : قد شد على طبقة فضلاء بوشنج
ذكر القاضي اليعقوبي وابنه أبي سعيد
والقاضي منتسبه يعقوب إلا أنه بين أهل الفضل يعسوب وهو في أشواط البلاغة يعبوب
وأما ابنه المتشعب من أصله اللائح كمدب نمل الفرند في متن نصله فقد جمعتني وإياه هرات سقاها الله ما يسرها وأماط عنها ما يضرها . فرأيت فيه فاضلاً عن هذه الصنعة مناضلاً عامر الحجر بصنوف الدفاتر مقرط الأنامل بسؤر المحابر موشح العلم بقرع أعواد المنابر
ثم الشعر فلا غبار عليه ولا جبار به . وما كاد يرويه بين يدي على طول اختلافه إلي . حتى خلا من هذا الكتاب مكانه وطوت عنا الأزهار والأنوار جنانه . وبقيت أنا كما تراني أسأل عنهما وفد نجران وأقترح تخلية طريق صباهما على جبلي نعمان . ولعلي أطأ أثراً أو أجد خبراً فأنتجع تلك الرياض وأغلف بذكرهما وشعرهما البياض والسواد إن شاء الله تعالى وبه الثقة
في طبقات نيسابور
وهذه طبقات نيسابور ونواحيها وما انعقد من بدائع الأشعار وروائع الأخبار بنواصيها . فخذها بارك الله لك فيها
الأمير أبو محمد عبد الله بن إسماعيل الميكالي
أنشدني الأديب يعقوب له قال : أنشدني الحاكم أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد بن دوست قال : أنشدني الأمير أبو محمد الميكالي لنفسه :
ألف السهاد وطار عنه رقاده ... وجفا الكرى لما أقض مهاده
وتداولته من الزمان حوادث ... فرثى له من ضره حساده
هل يستنيم إلى السلو مذلةً ... لا يرتجيه أهله وبلاده
لعبت به أيدي الخطوب وعافه ... إخوانه الأدنون بل أولاده
وتبددت أمواله وتفرقت ... في النائبات طريفه وتلاده
تبع الهوى فأضله عن رشده ... واقتاده زمناً فذل قياده
يا ليت إذ قد فات أمر معاشه ... هجر الذنوب فلم يفته معاده
قد شارف السبعين من أعوامه ... ودنت منيته وحان حصاده
واسود مشرق لونه وتضعضعت ... أركانه وابيض منه سواده
يرميه قوس الموت وهو مغفل ... لا يستفيق من الغرام فؤاده
من لم يرعه الشيب عن هفواته ... فمتى يرجى خيره ورشاده (1/151)
يا من تخبط في البطالة والصبا ... أزف الرحيل فهل لديك عتاده
قدم لنفسك زادها تسعد به ... إن الموفق من تقدم زاده
لا يهلك الإنسان غير مراده ... إن كان في ضد الصلاح مراده
الأمير أبو نصر
أحمد بن علي بن إسماعيل الميكالي
قال الحاكم أبو سعد بن دوست : قرأت هذه الأبيات من خط أبي بكر النحوي للأمير أحمد هذا فكتبها عني ابنه الأمير أبو الفضل :
باني العلا والفضل والإحسان ... والمجد والمعروف أكرم بان
ليس البناء مشيداً آجره ... إن البناء مشيد الإحسان
الجود رأي مسدد وموفق ... والبذل فعل مؤيد ومعان
والبر أكرم ما وعته حقيبة ... والجود أفضل ما حوته يدان
وإذا الكريم مضى وولى عمره ... كفل الثناء له بعمر ثان
الأمير أبو إبراهيم نصر بن أحمد الميكالي
ولا أعرف صفة للفضائل التي اجتمعت فيه أوجز من أن أشبهه بأبيه أو أخيه . وكان رحمة الله عليه أعلم بأصول الأدب الجزل من أخيه أبي الفضل . وأبو الفضل أجمع منه لثمار الفضل . أنشدني له الأديب يعقوب قال : وهو مما أملاه علي وأهداه إلي :
يا لبرد قد أفقد الماء حتى ... بلة الوحل في طريق السوق
يعهد الماء باثقاً لسكور ... وهو الآن ساكر لبثوق
جمد الدمع في الشؤون كما قد ... جمد الماء في مساغ الحلوق
وأنشدني أيضاً له قال : أنشدنيه لنفسه :
قالوا : تمهل في الذي ترتجي ... بلوغه من نافع الأمر
قلت : التأني مظفر بالمنى ... لكنه يجحف بالعمر
وله أيضاً :
يا قومنا لا تضيعوا ... ذمام كل حميم
ولا تحلوا جحوداً ... بكل حق قديم
وذكروا النفس وعظاً ... بقول رب رحيم
إني أخاف عليكم ... عذاب يوم عظيم
وله أيضاً :
عليك أرى القصيدة تستطيل ... وعما ترتضيه تستحيل
إذا ما كنت منها مستغيثاً ... فأنت حليلة وهي الحليل
قلت : الحيلة الحيلة في المخلص من هذه الحيلة . واختر لنفسك أن تكون بعيدة عن العقود مع هذه القصيدة ولا يعجز عن عرسه إلا الذي يلؤم في غرسه ومن وضعت طلته من قدره فلا أفلحت مطلته على صدره
وله أيضاً :
بلينا بقوم إذا ما عددت ... آباءهم لم تجد غير أب
حسيباً ولا بقديم الغنى ... فكلهم قاعد في النسب
وله أيضاً يهجو :
عصيت على المناصح والمشير ... كأنك لست تؤمن بالنشور
حويت لبوب أوقاف اليتامى ... وآثرت اليتامى بالقشور
لذذت السحت حتى صار أشهى ... بحلقك من جنى أري مشور
خوانك كالمصاحف للنصارى ... عليه الخبز أمثال العشور
الأستاذ أبو عبد الرحمن
محمد بن عبد العزيز النيلي
رحمه الله رأيته شيخاً قد أخذت منه الأعصر . يمشي فيقعس أو يكب فيعثر . وكتبت منه الحديث ورويت عنه الشعر . لا بل استمليت منه السحر جامعاً منهجاً بين التحجيل والغرة وقارناً بهما الحج إلى العمرة . فما ذنب به إملاؤه ما أنشدنيه لنفسه وهو :
أشفقت لما حل أصداغه ... ساحة خد جمره محرق
فانقلبت أصداغه كلها ... سالمة واحترق المشفق
البيت الأخير ينظر إلى قول المتنبي :
وبسمن عن برد خشيت أذيبه ... من حر أنفاسي فكنت الذائبا
وأنشدت بيتيه أبا نصر الجرسوري فكان من محسني شعراء العجم مختلطاً بأسود ذلك الأجم . فترجمهما على نفس لم يقطعه وريق لم يبلعه بقوله :
سخت بترسيدم آز زلف ترا ... زاتش رخسار تو جون بر فروخت
زلف تو بركشت بى آزار ازو ... وانكه همى ترسيد ازوى بسوخت
فجاء وكأن الأول والثاني مصبوبان في قالب واحد . وأنشدني أيضاً لنفسه في مجلس إملائه بنيسابور يوم الجمعة بعد الصلاة سنة أربع وثلاثين وأربعمائة :
إذا اتخذت أخا فاجتزه في غضبه ... فإن يكن منصفاً فاركن إلى سببه (1/152)
وإن تعدى فكن منه على حذر ... وإن تكامل قبل السخط في أدبه
لا يخدعنك منه لين جانبه ... فحين يغضب يشكو سوء منقلبه
وأنشدني لنفسه أيضاً :
إني إذا أمكنتني ساعة سعة ... زينت بالبذل أو صافي وأحوالي
ولم أرد وإن أصبحت ذا ضجر ... من الخصاصة بي آمال سؤالي
أما الشكور فزين لي إعانته ... أو الكفور فعرضي صنت بالمال
وله أيضاً من قطعة :
لا كان في عيني مجال للسنة ... وجعلت عرضي عرضة للألسنة
إن ذقت طعم العيش بعدك ساعةً ... ورأيت يوم البين إلا كالسنة
وأنشدني أيضاً لنفسه :
عركتني الأيام عرك الأديم ... وتجاوزن بي مدى التقويم
وغضضن اللحاظ مني إلا ... عن هلال يرنو بمقلة ريم
لحظه سقم كل قلب صحيح ... ثغره برء كل جسم سقيم
ومن غزلياته الرقيقة قوله :
سقطت لحيني في فراشي لزمته ... أضم إلى قلبي جناح مهيض
وما مرض بي غير حبي وإنما ... أدلس فيكم عاشقاً بمريض
وأنشدني أيضاً والدي رحمه الله له :
طالع يومي غير منحوس ... فسقني يا طارد البوس
كأساً كعين الديك في روضة ... كأنها حلة طاووس
وله أيضاً فيما يتصل بالخمريات :
هذه ليلة لها بهجة الطا ... ووس حسناً واللون لون الغداف
رقد الدهر فانتبهنا وسارق ... ناه حظاً من السرور الشافي
بمدام صاف وخلّ مصاف ... وحبيب واف وسعد مواف
وفي قريب منه :
ويوم سعد حسن البشر ... عذب السجايا يا طيب النشر
لم تقذ عيني بأذاه ولم ... يطر فؤادي بيد الذعر
فلم يرعني لا ولا ساءني ... كعادة الأيام في الشر
شبهته منتزعاً من يد ال ... أحداث ذات الشر والضر
باللبن السائغ ذاك الذي ... من بين فرث ودم يجري
وكتب إلى أبي نصر سهل بن الورزبان وقد لسعته عقرب على قدمه . فلما وجدت وقتلت زال الوجع وحصل الشفاء المرتجع :
يا عمدة الأمراء والوزراء ... يا عدة الأدباء والشعراء
يا غرة الزمن البهيم وناظر ال ... كرم الصميم وأوحد الفضلاء
أرأيت همة عقرب دبت إلى ... قدم بها تحظو إلى العلياء
لما ارتقت باللسع أعظم مرتقى ... أخنت عليها رتبة العظماء
إن ذقت ضراء العقارب فابقين ... بعقارب الأصداغ في سراء
يا طيب لسعة عقرب ترياقها ... ريق الحبيب بقهوة عذراء
وله يصف فرساً أهداه إليه ممدوحه :
يا واهب الطرف الجواد كأنما ... قد أنعلوه بالرياح الأربع
كالجاحم المشبوب أو كالهاطل ال ... مصبوب أو كالباشق المتفرع
لا شيء أسرع منه إلا خاطري ... في شكر نائلك اللطيف الموقع
وأنشدني أيضاً لنفسه :
ألا يا أخا الدنيا تشمر لرحلة ... وإن أبطأت لا ريبة في اقترابها
وكم من حريص يستلذ بحبها ... شدائد ما يعتاده في طلابها
وكم قانع لم يختدعه نعيمها ... لإيقانه علماً بوشك دهابها
فأغنته عن كد الطلاب قناعةً ... وكان الغنى عنها يفوق الغنى بها
وأنشدني أيضاً لنفسه :
مكرم الدنيا توقف ... فهي ليست بكريمه
لا ترم فيها مقاماً ... فهي ليست بمقيمه
وأنشدني أيضاً لنفسه :
كم فقير بحرصه ... وهو في ماله سعه
وغنى بلا يسا ... ر ولكن بمقنعه
من كفاه من الغنى ... ما كفاه وأشبعه
وهو راض بما كفا ... ه فكل الغنى معه
الشيخ أبو منصور
عبد الملك بن محمد بن إسماعيل
الثعالبي النيسابوري (1/153)
جاحظ نيسابور وزبدة الأحقاب والدهور . لم تر العيون مثله ولا أنكرت الأعيان فضله . وكيف ينكر وهو المزن يحمد بكل لسان أو كيف يستر وهو الشمس لا تخفى بكل مكان وكنت أنا بعد فرخاً أزغب في الاستضاءة بنوره أرغب . وكان هو ووالدي رحمة الله عليهما بنيسابور لصيقي دار وقريبي جوار . فكم حملت كتباً تدور بينهما في الإخوانيات وقصائد يتقارضان بها في المجاوبات . وما زال بي رؤفاً علي حانياً حتى ظننته أباً ثانياً رحمة الله عليه كل صباح تخفق رايات أنواره ومساء تتلاطم أمواج قاره . ووجدت بعد وفاته مجلدة من محاسن أشعاره وفيها ثمار بيانه وعليها آثار بنانه . فالتقطت منها ما يصلح لكتابي هذا من أوساط عقودها وأناسي عيونها . فمن ذلك ما كتب به إلى الأمير أبي الفضل الميكالي يعاتبه :
يا سيداً بالمكرمات ارتدى ... وانتعل العيوق والفرقدا
مالك لا تجري على مقتضى ... مودة طال عليها المدى
إن غبت لم أطلب وهذا سلي ... مان بن داود نبي الهدى
تفقد الطير على شغله ... فقال : ما لي لا أرى الهدهدا
ومن ذلك قوله :
وسائل عن دمعي السائل ... وحال لوني الكاسف الحائل
قلت له الأرض في ناظري ... أوسع منها كفة الحابل
بليت والله بمملوكة ... في مقلتيها ملكا بابل
فإن لحاني عاذل في الهوى ... يوماً فما العاذل بالعادل
وأنشدني الشيخ والدي رحمة الله عليه قال : أنشدني لنفسه :
ولو أنني أنصفت في إكرامه ... لجلال مهديه الكريم الألمع
لقضمته حب الفؤاد لحبه ... وجعلت مربطه سواد المدمع
وخلعت ثم قطعت غير مضيق ... برد الشباب لجله والبراقع
وله :
سقياً لعهد سروري ... والعيش بين السراري
إذ طير سعدي جوار ... مع امتلاك الجواري
وغيم لهوي مطير ... وزند أنسي وار
أيام عيشي كعودي ... وقد ملكت اختياري
أجري بغير عذار ... أجني بغير اعتذار
وله في الشكوى :
ثلاث قد منيت بهن أضحت ... لنار القلب مني كالأثافي
ديون أنقضت ظهري وجور ... من الأيام شاب له غدافي
وفقدان الكفاف وأي عيش ... لمن يمنى بفقدان الكفاف
وله في معناه أيضاً :
الليل أسهره فهمي راتب ... والصبح أكرهه ففيه نوائب
فكأن ذاك قذىً لطرفي مسهد ... وكأن هذا فيه سيف قاضب
الحاكم أبو سعد
عبد الرحمن بن محمد بن دوست
ليس اليوم بخراسان أدب مسموع إلا وهو منسوب إليه متفق بالإجماع عليه وكان أصم أصلخ يضع الكتاب في حجره ويؤديه بلفظه . فيسمع ولا يسمع كالمسن يشحذ ولا يقطع . وكان والدي رحمه الله من المختلفين إليه والمغترفين مما لديه والمخترفين لثمار أغصان بنان يديه . ورأيته أنا وقد طوى العمر ومراحله وبلغ من الكبر ساحله . ولم أتزود منه إلا الإكتحال بطلعته وكأن فضة ناظري بعد منقوشة بصورته . فمما أنشدني له الأديب يعقوب بن أحمد أيده الله وهو من أعيان تلامذته الرماة من جعبته النحاة إلى كعبته قوله :
لما رأيت شبابي ... يهيم في كل واد
عجبت من شيب فودي ... ومن شباب فؤادي
ولم أسمع في الكناية عن مقيل المتوفى بدهليز الآخرة أملح من قوله في الأمير أحمد الميكالي لما بنى المشهد بباب معمر سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة :
حسدوه إذ لم يدركوا مسعاته ... لما ابتنى دهليز باب الآخره
وتيقنوا علماً بأن وراءه ... من جنة الفردوس داراً فاخره
قلت : والحاكم أبو سعد كما أثنى على نفسه فقال :
ولقد شربت من العلوم بأنقع ... وسقيت غيري من علومي أنقعا
وحويت آداباً لبست جمالها ... وبهاءها وحلفت ألا أنزعا
وله يرثي الشيخ أبا منصور الثعالبي رحمة الله عليهما :
كان أبو منصور الثعلبي ... أبرع في الآداب من ثعلب
ليت الردى قدمني قبله ... لكنه أروغ من ثعلب (1/154)
يطعن من شاء من الناس بال ... موت كطعن الرمح بالثعلب
الحاكم أبو حفص عمر بن علي المطوعي
هو وإن كان في الشعر من المقلين فليس من المخلين لا بل أشعاره كلها نكت وأنفاسه ملح . وفيها للفتاك نخب وللنساك سبح . وكان رحمة الله عليه من أصدقاء والدي رحمه الله ومن الذين تدور بينهما المقارضات وتتقارب المعارضات . وقد أدركت عصره وحملتني جرأة الحديث على التحكك بجداره واستبضاع الشعر إليه تعرضاً لجوابه . فكتب إليه قافية أولها :
حل النقاب فراقه ... ثم استحل فراقه
فمال في جوابها من النظم إلى النثر وعوضني من الثريا ببنات نعش وكان فيما كتب إلي فصلاً ملكني الإعجاب به والتعجب منه وهو : " وصلت القصيدة الفريدة وصدرت بها الجريدة وعجبت من براعة حسها على قصر وزنها ؛ فإن الوزن القصير على الهاجس كالمجال الضيق على الفارس "
فما أنشدني لنفسه قوله من قصيدة يمدح بها الشيخ الإمام الموفق أبا محمد هبة الله بن محمد :
لله فينا الأمر والتدبير ... وصلاحنا فيما اقتضى التقدير
لم يجعل الشيخ الموفق صدرنا ... إلا وحق لمثله التصدير
سبق الأئمة والشباب بمائة ... ريان لم يسبق إليه قتير
ولقد نظرنا في الصدور فماله ... فيمن رأينا مشبه ونظير
هو نكتة الدنيا وكل كلامه ... نكت تعيدهن وهي تسير
وكتب إلى الشيخ الفقيه أبي الحسن الزاوي الخطيب :
حمدت إلهي إذ سمعت بفاضل ... جميع خصال الخير فيه محصله
خطيب إذا شاهدت آثار فضله ... شهدت بأن الباء بالراء مبدله
يعني أنه خطيب خطير . وله في الأمير مسعود بن محمود :
أرى حضرة السلطان تقضي عفاتها ... إلى روض مجد بالسماح مجود
فكم لجباه الراغبين لديه من ... مجال سجود في مجالس جود
وله فيه أيضاً :
يا ملكاً ما كان مثل له ... مذ كانت الدنيا بموجود
عليك عين الله من فاتح ... للأرض بالتوفيق معضود
طوبى لخدامك في مجلس ... مطنب بالعز معقود
في مجلس تشرق أرجاؤه ... عن فلك المشرق مسعود
من راحتاه للندى والردى ... ودهره للبأس والجود
لا زال منبث شعاع العلا ... ما عاد جري الماء في العود
وله في الأمير نصر بن ناصر الدين :
يا ملكاً حبه من الدين ... صيغ من المجد لا من الطين
يا كلفاً بالثغور يؤثرها ... على ثغور الكواعب العين
إنك من معشر إذا وصفوا ... عنت لهم أوجه السلاطين
بمنبت النبل هم وهيبتهم ... بمنبع النيل بل إلى الصين
إن الورى ما رأوا ولا سمعوا ... كمجد نصر بن ناصر الدين
وله في الشيخ أبي نصر بن مشكان :
إذا زرنا عميد المل ... ك منصور بن مشكان
رأينا سيد الكتا ... ب من باق ومن فان
وشاهدنا سعود الده ... ر في صورة إنسان
أمين الملك الطال ... ع شمساً في خراسان
وثانيه إذا شاو ... ر في ملك وسلطان
له في الخلق والخلق ... من الرضوان روضان
وفي النظم وفي النثر ... من المرجان مرجان
وله أيضاً : في غيره :
ألا يا سيداً خلقت يداه ... لثروة معدم وليسر عان
مضى العسر الذي قاسيت فاعدل ... إلى يسرين نحوك يسرعان
وله أيضاً في الأمير أبي الفضل الميكالي :
كلام ابن ميكال الأمير بلفظه ... ينوب عن الماء الزلال لمن يظما
فنروى متى نروي بدائع نظمه ... ونظما إذا لم نرو يوماً له نظما
ولما أنشده هذين البيتين أخذ القلم فكتب مرتجلاً :
يا من يعد لسانه ... أهل القريض لهم مسنا
لك خاطر لبدائع الألفاظ والمعنى مسنى
حاشا لدهرك أن يعو ... د فتيه أبداً مسنا (1/155)
وله أيضاً في القاضي أبي القاسم الداودي الهروي :
حططنا على بعد المسير رحالنا ... إلى روض مجد لامع الزهرات
لدى سيد أضحى مبيناً بفضله ... على كوز الإسلام عز هرات
وله أيضاً من خمرية :
وطاف علينا بالمدام مهفهف ... إذا ماس مال الغصن تحت ثيابه
تود كؤوس الراح حين يديرها ... لو استبدلت من راحها برضا به
وله يصف ليلة أسهره فيها البعوض :
يا ليلة حط فيه ... رحلي بشر محل
فأزعج الحر بردي ... وأتلف البعض كلي
قلت : وهذا من باب الإبهام في الصنعة وذلك أنه جمع بين الحر والبرد فهما ضدان وكذلك البعض والكل . ومراده من البرد النوم ومن البعض لسع البعوض . فمقصوده فيها خلاف مفهوم الناس منها والله عز و جل أعلم
الأديب أبو يوسف يعقوب بن أحمد
وقد أشرت إلى طرف من ذكره أول هذا الكتاب وسأشير إلى طرف من شعره في هذا الكتاب في هذا الباب . وهو متنفسي من بين أهل الفضل وموضع نجواي ومستودع شكواي . ثم لا أعرف اليوم من ينوب منابه في أصول الأدب محفوظاً ومسموعاً حتى كأنه قرانه أوحي إليه مفصلاً ومجموعاً . فتأليفاته للقلوب مآلف وتصنيفاته في محاسن أوصافها وصاف ووصائف . والكتب المنقشة بآثار أقلامه تزري بالروض الضاحك غب بكاء رهامه وتعجز الوصاف الحاذق على بعد مطارح أوهامه فكم منفسات من تلك الدرر جعلتها لقلائدي هذه أوساطاً وكم مرويات من تلك الدرر وردت منهلها العذب التقاطاً فلم أر بها حماماً ورقاً يردن جماماً زرقاً ولا غطاطاً يلغطن كالنيط إلغاطاً . اللهم إلا فراطاً من الظمأ إلى زلال الفضل يصدعون إليه أردية الليل البهيم ويشربون منه شرب العطاش اليهم وكان من أوكد الأسباب الدواعي إلى تأليف هذا الكتاب بعثه إياي عليه وإهابته بي إليه
فللزجر ألهوب وللساق درة ... وللسوط مني وقع أخرج مهذب
ومحله مني داخل تحت قولي فيه :
يعقوب عمي وغير بدع ... وعم قلبي ولاء عمي
ودي له كالصباح عار ... ولا أوري ولا أعمي
فمما أنشدني لنفسه من معانيه الأبكار التي لا تقرع إلا بدقائق الأفكار قوله :
تظن علو المرء بالمال حازه ... وليس بعال معدماً وهو ماهر
لقد ملت عن نهج الصواب معانداً ... أمالك عن مسخوط رأيك زاجر
فمم علو البدر والمال غائب ... وفيم سفال الكنز والمال حاضر
وكتب إلى العميد أبي بكر القهستاني عند منصرفه عن ديار الغربة :
كلامك روح أجسام الكلام ... ولفظك فاعل فعل المدام
ودونك كل ممدوح كلاماً ... وعبدك كل حر في الأنام
لعمر علاك هل أبصرت مثلاً ... لنفسك في شمائلك الكرام
بمصر وغيرها من كل مصر ... وفيما طفت من يمن وشام
وفي أرض العراق بلاد يمن ... وحيث حللت بالبلد الحرام
فكيف وأنت فذ في المعالي ... فريد في مكارمك التؤام
وكتب إليه أيضاً :
يا أبا بكر علياً ... ما رأى مثلك أنس
أنت في الحزن سرور ... أنت في الوحشة أنس
أنت غيث أنت بدر ... أنت ليث أنت شمس
أنت للسؤدد قطب ... أنت للعلياء أس
إن تحملت فقدس ... أو تكلمت فقس
وأنشدني لنفسه في الأمير أبي الفضل الميكالي :
رأيت عبيد الله يضحك معطياً ... ويبكي أخوه الغيث عند عطائه
وكم بين ضحاك يجود بماله ... وآخر بكاء يجود بمائه
وكتب القاضي أبي جعفر البحاثي :
أبا جعفر كم جعفر من مدامع ... ترقرقه ذكرى ليال تسلفت
طلعت بها شمساً وقد غاب بدرها ... فما زلت طلق الوجه حتى تكشفت
وشعشعت راحاً من حديثك دونها ... معتقة صهباء في دنها صفت
ودبجت روضاً من بنانك أعجبت ... وهيجت رقشاً من هجائك أتلفت
وشردت ألاف الحيا فتشردت ... وألفت شراد النهى فتألفت
وقرطست مرمى القول حين رميته ... إذا كف رام من مراميه أخطفت (1/156)
فهزل ولا كالبابلية صفيت ... وجد ولا كالمشرفية أرهفت
وبسط يضاهي غرة النجح أشرقت ... وبشر يحاكي طرة الصبح أشرفت
ولا سيما ليلاً كليلة يوسف ... رأيت بها طير السعادة رفرفت
تجمع فيها ما اشتهيت من المنى ... بأخوان صدق كالكواكب أردفت
وكتب إلى الشيخ أبي طالب البغدادي الآدمي في هذا المعنى ونقل القافية من الفاء إلى القاف :
أبا طالب نفسي تنازع ليلة ... طلعت بها بدراً منيراً فأشرقت
وحولك إخوان أجد لقاؤهم ... من الأنس أثواباً أمحت وأخلقت
وكان المنى أسرى النوائب والنوى ... ففاديتها بالنفس منك فأطلقت
ونديت روض المكرمات فنورت ... وسقيت دوح المأثرات فأورقت
وهزهزت أسياف الهجاء فصممت ... وحثحثت أفراس المديح فأعنقت
فجد كما شمت الصحيفة جردت ... وهزل كما شئت المدامة عتقت
فيا ليت شعري هل أراها معادةً ... علينا فعيني من هواها ترقرقت
وله أيضاً من غزلياته :
حلاوة أيام الوصال شهية ... ولكن ليالي الهجر أمررن طعمها
ولي كبد حرى ونفس عليلة ... كليم تولى كلمها البيض كالمها
وله أيضاً :
هل عاجب أنت مثلي ... فإنني جد عاجب
من حاجب مثل قوس ... يزري بقوس لحاجب
وأنشدني لنفسه وأنا أدعي فيها الإبداع :
لا تحسب الخال الذي راعكم ... إلا سويداء فؤادي الكلف
أراد لثم الخط في خده ال ... موصوف بالحسن فلم ينصرف
وله أيضاً في ذم الدهر :
الدهر أخبث صاحب ... واللؤم من أوصافه
إن شئت أن تحظى به ... كن مثله أو صافه
وله أيضاً في قريب منه :
الجد أبلى جدتي ... والسعي أوهن ساعدي
ما كان تغني حيلتي ... والجد غير مساعدي
وله يفتخر وقد بلغه أن بعض حسدته عيره فرط عنايته بمؤلفات الثعالبي وهو من فروع الأدب وثماره والاشتغال بالأصل أولى ؛ إذ هو ربض في مضماره . واللفظ إلى هاهنا للأديب يعقوب :
وناقص قد غاظه فضلي ... ينسبني جهلاً إلى الجهل
يغض مني أنني خائض ... غمار بحر الأدب الجزل
ونائل أقصى المنى جامعاً ... محاسن الفرع إلى الأصل
ولو جرينا لدرى أينا ... يحوز سبقاً قصب الخصل
إليك عني إن في فيّ ما ... يزري مضاءً بظبي النصل
واخس كما يخسا أبو خالد ... عن صولة الليث أبي الشبل
وله أيضاً في الهجاء :
لنا صديق أيره ميت ... لكنما فقحته حيه
أبغى من الإبرة لكنه ... بزعمه ألوط من حيه
وله أيضاً في شكاية الإخوان من قطعة :
وزنت إخواني لا مريةً ... بكفتي خبري وتجريبي
فكلهم أروغ من ثعلب ... وكلهم أغدر من ذيب
حدثني الأديب يعقوب رحمه الله قال : دخل القاضي أبو جعفر البحاثي على الحاكم أبي سعد بن دوست قال : عن لي بيتان في معنى وهما :
ليت شعري إذا خرجت من الدنيا وأصبحت ساكن الأجداث
هل يقولن إخوتي بعد موتي ... رحم الله ذلك البحاثي
قال : فاقتدى به فيهما به فيهما الشيخ أبو مسعود أحمد بن عثمان الخشنامي وقال :
ليت شعري إذا تصرم عمري ... ودنا الموت وانقضت أيامي
هل يقولن إخوتي بعد موتي ... رحم الله ذلك الخشنامي
قال : فلما لحقا باللطيف الخبير قلت محققا ظنونهما ومصدقاً تخمينها :
يا بن عثمان كنت خلاً ودوداً ... ناصح الجيب ذا سجايا كرام
فطوتك المنون دوني طياً ... وكذاك المنون قصر الأنام
فأنا اليوم قائل كل وقت ... رحم الله ذلك الخشنامي
قال : وقلت للقاضي :
يا أبا جعفر بن إسحاق إني ... خانني فيك نازل الأحداث
وهوى عن مصاعد النجم قسراً ... بك تحت الرجام في الأجداث (1/157)
فلك اليوم من قواف حسان ... سرن في المدح سيرها في المراثي
مع كتب جمعن في كل فن ... حين يروين ألف باك وراث
قائل كلها بغير لسان : ... رحم الله ذلك البحاثي
وأنشدني لنفسه في الشيب :
أرى زمن الشبيبة قد تقضى ... وأخلق برده الغض القشيب
ووافاني المشيب كما تراه ... فما عيشي وقد وافى المشيب
الأستاذ الإمام زين الإسلام
أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري
جامع لأنواع المحاسن تنقاد له صعابها ذلل المراسن . فلو قرع الصخر بسوط تحذيره لذاب ولو ارتبط إبليس في مجلس تذكيره لتاب . وله فصل الخطاب في فضل النطق المستطاب . ماهر في التكلم على مذهب الأشعري خارج في إحاطته بالعلوم عن الحد البشري . كلماته كلها رضي الله عنه للمستفدين فوائد وفرائد وعتبات منبره للعارفين وسائد . ثم إذا عقد بين مشايخ الصوفية حبوته ورأوا قربته من الحق وخطوته تضاءلوا بين يديه وتلاشوا بالإضافة إليه . وطواهم بساطه في حواشيه وانقسموا بين النظر إليه والتفكير فيه . وله شعر تتوج به رؤوس معاليه إذا ختمت به أذناب أماليه . فمما أنشدنيه لنفسه قوله في عميد الملك أبي النصر منصور بن محمد غفر الله له
عميد الملك ساعدك الليالي ... على ما شئت من درك المعالي
فلم يك منك شيء غير أمر ... بلعن المسلمين على التوالي
فقابلك البلاء بما تلاقي ... فذق ما تستحق من الوبال
وأنشدني لنفسه في رمد الحبيب :
يا من تشكى رمداً مسه ... لا ترفع الشكوى إلى خالقك
موجب ما مسك من عارض ... أنك لم تنظر إلى وامقك
وله أيضاً :
الأرض أوسع رقعةً ... من أن يضيق بك المكان
وإذا نبا بك منزل ... ويظل يلحقك الهوان
فاجعل سواه معرساً ... ومن الزمان لك الأمان
ومن غزلياته الرقيقة التي هي الماء الزلال على الحقيقة ما أنشدنيه لنفسه :
قالوا : بثينة لا تفي بعداتها ... روحي فداء عداتها ومطالها
إن كان نجز عداتها مستأخراً ... فلقد تشرفنا بنقد مقالها
وله وهو معنى متداول بين شعراء العرب والعجم :
ما خضابي بياض شعري إلا ... حذراً أن يقال : شيخ خليع
وقد أحسن أبو أحمد اليمامي البوشنجي في العبارة عن هذا المعنى بقوله :
أقول ونوار المشيب بعارضي ... قد افتر لي عن ناب أسود سالخ
أشيباً وحاجات الشباب كأنها ... يجيش بها في الصدر مرجل طابخ
ولم أر جاراً كالشباب تحذمت ... قواه ولم يسمع له صوت صارخ
وما كل حزني للشباب الذي هوى ... به الشيب عن طود من الأنس شامخ
ولكن لقول الناس : شيخ . وليس لي ... على نائبات الدهر صبر المشايخ
وأقرب إلى مساغ الطبع منها قول أبي الحسن المروزي في قصيدة له :
أز خضاب من واز موى سيه كردن من ... كر همى خشم خورى نيش خور و رنج مبر
غرضم زونه جوانيست كه زين رنكك بمن ... حالت يسير بجويند ونيابند مكر
قريب من قوله :
لعمرك ما كرهت الشيب يوماً ... وعندي أنه شيء يعاب
ولكني خشيت يراد مني ... عقول ذوي المشيب فلا يصاب
الشيخ الإمام ركن الإسلام
أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني
رحمة الله عليه علمه في العالم علم والألسنة والأقلام كلها في ذكر فضائله ونقش بدائعه لسان وقلم . وكانت أوقاته على الخيرات مقصورة وراياته على العصاة منصورة مقضي الأرب من الأدب مملوء العكم من العلم . اشتق كنية شبله من معاليه وخلى المساوئ لمناويه ومساويه . وقد اختلفت إليه فصارت دهم أيامي بمجالسة غراً وملأت جيبي وحجري وسمعي من حسن عبارته دراً . ولم يسمح لي ولغيري من تلامذته بشيء من منظومه ولا بمقدار ما يتعلل به غيضاً من فيض علومه غير أني عثرت في بعض تعليقاتي على بيتين له رثى بهما واحداً من أصدقائه وجلب بحسن صنعته وشي الأدب من صنعائه وهما : (1/158)
رأيت العلم بكاء حزينا ... ونادى الفضل وا حزنا وبوسا
سألتهما بذاك فقيل : أودى ... أبو سهل محمد بن موسى
ابنه
ركن الدين إمام الحرمين
أبو المعالي عبد الملك
فتى الفتيان ومن أنجب به الفتيان ولم يخرج مثله المفتيان عنيت محمد بن إدريس والنعمان بن ثابت . فالفقه فقه الشافعي والأدب أدب الأصمعي وحسن بصره بالوعظ كالحسن البصري . وكيفما كان فهو إمام كل إمام والمستعلي بهمته على كل همام والفائز بالظفر على إرغام كل ضرغام . إذا تفقه فالمزني من مزنته قطرة وإذا تكلم فالأشعري من وفرته شعرة . وإذا خطب ألجم الفصحاء بالعي شقاشقه الهادرة ولثم البلغاء بالصمت حقائقه النادرة . ولولا سده مكان أبيه بسده الذي أفرغ على قطره قطر بانيه لأصبح مذهب الحديث حديثاً ولن يجد المستغيث منهم مغيثاً . وله شعر لا يكاد يبديه وأرجو أن يضيفه قبلي إلى سوالف أياديه . وهو وإن غطاه فكيف تصبر عن التبرج في حلاه الآداب العواطل وإن أخفاه فهل يخفى على الناس الرباب الهاطل ولا بأس من أن يحصل المغرى ويكثب المرمى فتكون فوائده لأنسي الحائل نتاجاً وفوائده لراسي العاطل تاجاً . وقد بيضت هذه الصفحة انتظاراً مني لتلك اليد البيضاء وانتجاعاً لتلك الروضة الخضراء وحق لمن استجلس مجلس إفادته أن يظفر بإرادته ويجد روضاً وغديراً ويرد عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا
الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله الدلشادي
كاتب ديوان الحضرة الغزنوبة وكان طويل الباع بها عريض الجاه فيها . كتب إلى ابنه أبي الفتح جواباً عن كتاب تقدم منه إلى أستاذه في الاعتذار عن سابق جفوة وبادر هفوة تبدو أمثالها من الأغمار الأغرار :
أبا الفتح إني قد تأملت رقعةً ... كتبت إلى الشيخ الأديب أبي الفتح
شكوت إليه أن أمرك مظلم ... وأنك مطوي على كمد برح
تماديت في غي وما كان ثانياً ... عنانك عنه كثرة الوعظ والنصح
ومن يك في شوط البطالة مجرياً ... يكن ليله ليل الضرير بلا صبح
أما تخطئ الأيام فيك بأن ترى ... وقد فزت يوماً في قداحك بالنجح
فإن صح منك الإرعواء إلى الهدى ... من الغي قابلت الخطيئة بالصفح
عسى الله بعد العسر يعطيك يسره ... وينعم بعد الجدب بالديمة السح
قلت : كان أبو الفتح هذا معنا بالبصرة ولم يكن عارياً من الفضل ولا عاطلاً عنه . فمرض بها مدة فإذا أنا به يوماً من الأيام وقد توسد ظل نخلة بالأبلة وقضى نحبه فدفناه بها وذلك في شوال سنة خمسين وأربعمائة
الفقيه أبو محمد عبد الرحمن
بن محمد الدوغي
من عباد الله الصالحين رأيته بنيسابور يختلف إلى دار الشيخ المؤيد القاضي أبي عمرو البسطامي ويكرر وظائف الفقه على أولاده ويقدم أورادهم على جميع أوراده . وفيه من لين العشرة ولين الجانب وسلامة الناحية ولزوم العافية في الزاوية مما يستميل إليه الأهواء ويؤلف عليه الآراء . فمما أنشدني لنفسه من شعره قوله في صفة الشمع :
وباكيات قصر الأعمار ... بأدمع صفر لها جوار
إذا امتطت مراكب النضار ... وبرزت لأعين النظار
عاد ظلام الليل كالنهار
وقوله :
يا خاضب الشيب كي تخفى بواديه ... وقد نهاك عن اللذات ناهيه
هب أنك اليوم قد غلطت مبصره ... فكيف تغلط فيما أنت تدريه
وقوله :
لا تعجبوا من غلوي في مودتكم ... فأنتم بمحل السمع والبصر
إن تحسنوا فلكم شكري ومحمدتي ... وإن تسيئوا فمحمول على القدر
قد يشرب الصفو أحياناً أخو ظمأ ... وقد يكون له شرب على الكدر
وله أيضاً في العزلة :
وقد لازمت قعر البيت حتى ... كأني بعض أحلاس البيوت
إذا ما البحر فليس فيه ... لمن رزق السعادة من ثبوت
وله أيضاً في غرض عرض له :
تسيء إلي ثم تريد شكري ... لعمري لست فيه بالمصيب
ربحت علي إذ لم أبد شكوي ... فدع ما قد يريب من الأريب
وله أيضاً في غير معناه : (1/159)
متى ترجو خلوص الود مني ... ولم يك في اصطناع منك همه
فلا تطلب لدي لسان صدق ... وجاوزني عساك تنال ثمه
وقرأت له فصلاً كتبه تحت أبيات شعر له كتبها على ما سمح به الخاطر لا للحكم لأنه نادر ورجوت أن يذكرني بها ذاكر . وهذا كما حكي عن بعض أهل الأبلة أنه غرس ودية واحدة في موضع منها مع كثرة نخيلها وأشجارها وخضرها وأنهارها وكتب عليها : " هذا ما أمكننا " فصار ذلك الموضع من أعجب منتزهاتها وأطيب جنانها
القاضي أبو سعد علي بن عبد الله الناصحي
جرت بينه وبين الحاكم أبي سعد بن دوست رحمهما الله مبادهة . فقال القاضي :
وما وصل الكتاب إلي حتى ... أجبت إلى الذي استدعاه مني
فقال أبو سعد :
جزاه الله عن مولاه خيراً ... وخفف ثقل هذا الشكر عني
فقال القاضي :
وأولى الشيخ عزاً مستفاداً ... وحقق فيه مأمولي وظني
فكم لي نعمة من غير ذكر ... وكم لك منة من غير منّ
الشيخ أبو علي الحسن بن عبد الله العثماني
واسطة عقد نيسابور وأول دستها ووجه تختها وعين إنسانها . لا بل إنسان عينها والمخصوص بزينها والمنصوص من بينها . وكلماته كلها حكم وأمثال وإن عزت لها أشباه وأمثال وبيني وبينه ودان موروث ومكتسب وسبب من آصرة الأدب كأنه في الآمتزاج والاتشاج نسب وكان والدي رحمه الله مفتوناً به مشغوفاً بأدبه . وكتب إليه جواباً عن رقعة طواها على خطبة مودته . فنشرها والدي عن صدق رغبته . أما رغبته في خطبة مودتي سراً وجهراً ورهبته عن الوقوع دون واجبها براً ومهراً :
فقد خاطبته فيها ... ليكفي المهر ترفيها
فنفس الشاطر الجنة ... لا الزوجة تسفيها
وإن سفه رأي جا ... هل بالطرف تسفيها
وكتب هو إلى والدي رحمها الله :
إن كلام أبي أحمد الحسن ... أسا كلام الهموم والحزن
سحر ولكن يحكي الصبا سحراً ... عن نشره غب عارض هتن
أنشدني بعض من يصاحبه ... شعراً له ارتحت حين أنشدني
ما أنشد الشعر بل ضللت من ال ... بهجة أسنى علق فأنشدني
وكتب إليه :
الله يعلم أنني متبجح ... بمحاسن الحسن بن عبد الله
كم للظريف أبي علي نكتة ... غريب فلم تدر الخلائق ما هي
كجواهر الأصداف بل كزواهر ال ... أسداف بل عظمت عن الأشباه
شاهت وجوه الطالبين لشأوه ... فهم البياذق وهو مثل الشاه
فأجاب عنها بأبيات قال في أثنائها :
يا هدهداً هو للفيوج بحمله ... في هامة الرأس الكتاب مضاه
اذهب إليه بالكتاب فألقه ... بالقرب منه وإن نهاك الناهي
وتول عنه فانظرن في خفية ... ثم اذكر الحسن بن عبد الله
فأجبت عنها بأبيات على غير رويها وهي :
تلك الجنان قطوفهن دوان ... تشدو حمائمها على الأغصان
أم صدغ معشوق تصولج مسكه ... من ورد وجنته على ميدان
أم روضة بيد السحاب مروضة ... لنسيمها لعب بغصن البان
أم شعر أظرف من مشى فوق الثرى ... الحسن بن عبد الله ذي الإحسان
فأجاب عنها بأبيات وهو بقرية يان من ناحية أرغيان :
عثمان يوم الدار لم يك جازعاً ... جزعى لحرقة فرقة العثماني
ريح الصبا خلي قضيب البان ... هبي على قلبي بقرية يان
هبي عليه سحرةً قولي له : ... كم ذا المقام كذا بدار هوان
قد كنت تولع بالبديع وشعره ... فارجع فقد وافى بديع زماني
أين البديع من الظريف الفاضل اب ... ن الفاضل الفرد البديع الثاني
ومنها وقد ختم بهذه الأبيات :
سلسل خطوطك ما غدا متسلسلاً ... شاطئ الجمام الزرق بالأغصان
واسجع بشعرك ما شدا متصلصلاً ... شادي الحمام الورق في الغيطان (1/160)
قلت : التيرصيع صنعة يتعاطاها كفاة البلغاء في النثر . فأما في النظم فهو أبعد مرماً من أن يسمو إليه ناظر ويرفرف عليه خاطر . وكثيراً ما يتفق لي أمثالها في أثناء قصائدي ومقطعاتي مثل قولي في مدحة نظامية :
وافرح فما يلقى لسدك هادم ... وامرح فما يلفى لحدك ثالم
فإذا سخوت فإن سيبك عارض ... وإذا سطوت فإن سيفك عارم
فلذاك تخشى من قناك مطاعن ... وكذاك تغشى من قراك مطاعم
وأنشدني لنفسه في معنى لم يسبق إليه :
لا تعلون على السلطان طائفة ... وبعد ذاك لتفعل كل ما فعلت
لا تحرق النار إلا كل نابتة ... لأنها نازعتها في العلا فعلت
ومن غزلياته التي يتغنى بها قوله :
هواك على مر الجديدين لا ببلى ... وأنت على مر التعتب مستحلى
ومثلك يا من ليس يوجد مثله ... وإن كان يقلي حبة القلب لا يقلى
وفاؤك فيها سورة أبداً تتلى ... وحبك فيها صورة أبداً تجلى
فما ساحت الأنهار ودك لا يسلى ... وما فاحت الأزهار عهدك لا يبلى
قلت : قد وفق طبعه في نقل الفارسية إلى العربية توفيقاً زوى عن غيره من الفضلاء وحيل بينه وبين سواه من الشعراء مثل قوله في ترجمة قول الفرخي الشاعر :
خط آوردى رواست بر روى جوماه ... خوشتر كشتي از آنجه بودى صد راه
در آرزوى خط تو خوبان سياه ... بر روى همى كشند خطهاى سياه
وقال في ترجمة قول الشاعر :
تابير بدى دو زلف بر عارض بست ... صد برده دريده كشت وصد توبه شكست
خوبيت بمستى وبهشيارى هست ... هشيار نكو ترى ندانم يا مست
منذ قرصت الصدغ ... فوق عارض كالبدر
نقضت ألف توبة ... هتكت ألف ستر
حسنك باق حالة الصحو وحال السكر
في الصحو أبهى أنت أم ... في السكر لست أدري
وترجم قول القائل :
آنجا كه نيابد نابد برى كويي ... وآنجا كه نيابد از زمين بر روى
عاشق كشى ومراد عاشق جوى ... اينت خوشى وظريفي وخوش خوى
فقال :
تحجب في وقت الحجاب فلا ترى ... وتنبت في وقت اللقاء من الأرض
وتصمي الموالي ثن تبغي مرادهم ... وذا غاية في الظرف والخلق المرضي
وله :
عذرت يا من وجهه ... قد عذر المعهودا
يحسدك الصباح مذ ... أريتها الخدودا
تخط في خدودها البيض خطوطاً سودا
الشيخ أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي
مشتغل بما يعنيه وإن كان استهدافه للمختلفة إليه يعنيه . وقد خبط ما عند أئمة الأدب من أصول كلام العرب خبط عصا الراعي فروع الغرب . وألقى الدلاء في بحارهم حتى نزفها ومد البنان إلى ثمارهم إلى أن قطفها . وله في علم القرآن وشرح غوامض الأشعار تصنيفات بيديه لأعنتها تصاريف تصريفات . وقلما يعرض على الرواة ما يصوغه من نسمات الأشعار ويبدي ما يفتح كمامها عن النوار . فمما أنشدني لنفسه قوله وقد دخل على الشيخ الإمام أبي عمر سعيد بن هبة الله الموفق وهو في كتابه يتعلم الخط ويكتب :
إن الربيع بحسنه وبهائه ... يحكيهما خط الرئيس أبي عمر
فكأنه في الدرج يرقم كاتباً ... ولي لطاف بنانه فتق الزهر
خط غدا ملء العيون ملاحةً ... متنزهاً للحظ قيداً للبصر
أخذت نقوش العين بدعة صنعه ... فتعطلت ورقوم موشي الحبر
وسأله عبد الكريم الجبلي أبياتاً يصف فيه خطه فقال :
لعبد الكريم خطوط انيقه ... يحبرهن بحذق ونيقه
يطرز بالخط قرطاسه ... كما طرز السحب لمع العقيقة
سطور إذا ما تأملتها ... تخيلت منها غصوناً وريقه
وغارسها مرهف ناحل ... يمج عليها بسنيه ريقه
وبنيسابور خوخ يقال له مزوره أهدى منه شيئاً إلى بعض اصدقائه وكتب معه :
الخوخ أرسل رائداً متقدماً ... ما مثله في طيبه باكوره (1/161)
هو زائر في كل عام مرةً ... عند المصيف فلم يقال مزوره
الأستاذ أبو منصور عبد الرحيم بن محمد
أنشدني الأديب يعقوب له قال : أنشدني لنفسه :
أشكو إلى الله ما أقاسي ... من جور قلبي وشر نفسي
سلبت أنسي لطول جرمي ... لطول جرمي سلبت أنسي
أمسي يبكي علي يومي ... يومي يبكي علي أمسي
إلى متى عثرتي وتعسي ... قد كربت للأفول شمسي
يا رب غفراً فإن وزري ... أنقض ظهري وشج رأسي
الشيخ أبو نصر سعيد بن الشاه
نظمتني وإياه صحبة الكتاب ونشأنا معاً في حجور الآداب . وكان رحمة الله عليه صورة الظرف مجلوة وسورة الفضل متلوة . واحتضر وعود شبابه ناضر واختضر والدهر بطرف ظرفه ناظر . فيا لهفي على شمله وقد اخترق وأصابه إعصار فيه نار فاحترق
ومما سمعته ينشد لنفسه في صباه قوله :
قالت : اسود عارضاك بشعر ... وبه تقبيح الوجوه الحسان
قلت : أشعلت في فؤادي ناراً ... فعلى وجنتي منها دخان
وهذا أملح ما قيل في مثله ؛ ومدح الشيخ الإمام الموفق رضي الله عنه ونحن في الكتّاب بهذه القصيدة :
يا من به يعرف المعروف من جحده ... ومن به يجد الإنسان من فقده
وقد عنيت به الشيخ الإمام أبا ... محمد سيد السادات والمجده
ذاك الذي لم يزل للخير مصطنعاً ... عند الورى مطلقاً للمكرمات يده
لا عيب فيه سوى عيب وذلك أن ... لا عيب فيه يقيه عين من حسده
ما مات آباؤه إذ كان يخلفهم ... لكن آباؤه صاروا به خلده
يا مرحباً بكريم صار والده ... إذ نال فخر الورى زين الهدى ولده
أجد للعلم عزاً كان غاب له ... وراح للعلم روحاً سالكاً جسده
وقد تعجبت إذ حق التعجب من ... قوم يعادونه لم يصبحوا قرده
إني قصدت بآمالي ذرا رجل ... طلق اليدين جواد فاز من قصده
ومنها :
قصدت من ظن أن الجود مفترض ... وأن في تركه العصيان واعتقده
وقد نشأت بما قد كان يرفدني ... فخلت عيني وروحي بعض ما رفده
وله من قصيدة أخرى نظامية يقول فيها :
أظاعن أم مقيم أنت يا خلدي ... فإنني أول الغادين بعد غد
غداً أودع قوماً أودعوا كبدي ... ناراً وعهدي بهم برداً على الكبد
أبدي التجلد أحيناناً فينهرني ... ريق يجف وخد بالدموع ندي
لا أنس يوماً تنازعنا حديث نوى ... وقولها وهي تبكي خانني جلدي
فدمعها برد فوق العقيق بدا ... ولفظها ضرب قد شيب بالبرد
كنا إلى الوصل أخلدنا فنغصه ... هذا الرحيل الذي ما دار في خلدي
ومنها أيضاً في المدح :
البدر نام فلم أستن في ظلم ... والبحر طام فلم أمتص من ثمد
أبو علي نظام الملك أكرم من ... ساس البرية فاستولى على الأمد
قامت له في قلوب الناس قاطبةً ... مهابة فأقامتهم على الجدد
لما انتضي ملك الإسلام عزمته ... في الغزو وافاه نصر الله بالمدد
أسرى إلى الروم في ملمومة عصبت ... فيها العجاجة عين الشمس بالرمد
وجاء كالريح يسفي الرمل عاصفها ... فاجتاح جيشاً يوازي النمل في العدد
أتراكه بسيوف الهند ما تركت ... للروم إذ رامها رأساً على جسد
ريب الزمان على العاصي له رصد ... فمن نجا منه لم يفلت من الرصد
يا سيد الوزراء القرم أصغ إلى ... عبد أتاك لمحض الود معتقد
وختمها بقوله :
أحسن كما أحسن الباري إليك وقد ... فعلت لكن كما زاد الإله زد (1/162)
قلت : كان والد أبي نصر هذا نديم العميد أبي نصر بن مشكان وعندليب مجلسه ينازعه الكؤوس على السعادة وينظم له طرفي الأنس بين القضيب والوسادة . وكان كلامه يميل إلى الاقتباس ولا يفارق شفاهه إلا بعد طول المكاس كمحابس ماء الورد لا يكاد يجود به لضيق الحلوق فيتردد فيها تردد أنفاس المخنوق . ثم إذا اندفع في صياغة الألحان أنشط بنانه عقال اللسان . فأدى على أحسن هيئاتها الأغاني وملأ من طيب سماعه الأسماع لما يحقق الأماني . ويشبه البشائر والتهاني وبيد الله الإنشاء وهو الذي يزيد في الخلق ما يشاء . وزعم بعض المفسرين أنه أراد بزيادة الخلق طيب الخلق . وزعم آخرون أنه عنى بها الحسن في الوجه وهذا أيضاً مستنبط على الوجه . والله عز و جل أعلم بالصواب وعنده العلم بما في أم الكتاب
الشيخ الإمام أبو بكر العبداني
كاتب ملك أعنة الكلام الرزين وباهي برقوم أقلامه نقوش الصين متصون في نفسه متميز عن أبناء جنسه . وكتب في ديوان الرسالة والوزارة للشيخ أبي القاسم الجويني بخط كأنه خط الغالية على خذ الغانية . وعاش بين الوجاه طويل الباع عريض الجاه . حتى أثرت أفاويف المشيب في ذؤابته ودعاه الداعي الذي لا بد من إجابته ونقله الله عز و جل إلى دار كرامته . فمما أنشدني لنفسه قوله من قصيدة نظامية :
عندي إذا برق العقيق تلسنا ... وأنساب في حضن الدجى أرق السنا
شوق إلى العوجاء يخلع أضلعي ... خلجاً ويترك مهجتي نهب الضنى
معنى خلعت عليه ريعان الصبا ... وهصرت في أفنانه غصن المنى
تثني الشمول معاطفي فكأنني ... فنن عرته الريح وهناً فانثنى
فالآن فوفت الخطوب ذوائبي ... وجنى المشيب من الشبيبة ما جنى
وبنفسي الطيف الذي اكتست الفلا ... عبقاً بمسراه وسلم موهنا
ماذا على الرشأ الغرير لو أنه ... لما أساء إلي دهري أحسنا
الفقيه أبو عبد الرحمن عمر بن الحاكم
الزاهد أبو سعد محمد بن محمد المعروف بالأشقر . مقطعاته حلوة كالشهد وإن كانت مقصورة على مر الزهد . فمنها ما أنشدنيه الأديب يعقوب قال : أنشدني لنفسه قوله :
عجباً يعجبون برأيهم ... وأرى بعقلهم الضعيف قصورا
هدموا قصورهم بدار بقائهم ... وبنوا لعمرهم القصير قصورا
ومنها أيضاً قوله :
عمري قصير وما قدمت من عمل ... لله زاك وما قضيت من وطري
وأتعبتني دنيا ما لها خطر ... يظل من حرصها ديني على خطر
وقوله :
المرء يسعى لدنياه ويزجره ... سوط الزمان ويدنيه من الأجل
وليس يسعى لما فيه النجاة له ... كأنه آمن فيها من الوجل
وقوله :
إلهي حاجاتي إليك كثيرة ... وأنت بحالي عالم وخبير
وأنت رحيم بالبرية فاقضها ... جميعاً وذا سهل عليك يسير
ذنوبي ذنوبي حط عني ثقلها ... فقد أنقضت ظهري وأنت غفور
وقوله :
إلهي إن لم تشفني فمن الذي ... شفاني وعافاني سواك من السقم
ومن يكشف الضر الملم بساحتي ... ويقضي ديوني حين يبهظني غرمي
سواك إله العالمين فإنهم ... جميعاً أبوا إلا التواطي على الظلم
متى ما بدت لي حاجة وذكرتها ... لغيرك يا مولاي خبت على رغمي
فها أنا عبد مذنب جئت تائباً ... لتصلح لي أمري وتغفر لي جرمي
وأنشدني له في صفة الأوحال بنيسابور :
حال بيني وبين كل حبيب ... وأخ لي موانس أو حال
فارقوني فليت شعري عنهم ... أعلى عهدنا هم أو حالوا
وله في الحكمة :
رب منهوم حريص ... كشف الحرص قناعه
وفقير قانع بال ... قوت تغنيه القناعة
وله أيضاً في ذم أبناء الزمان :
ظهر الكذب في الورى والنفاق ... فلسوق النفاق فيهم نفاق
وأرى البله كالحمير صدوراً ... وبدنياهم أولي الفضل فاقوا
هم نيام وهم سكارى جميعاً ... فإذا عاينوا اليقين أفاقوا (1/163)
وله :
المرء يعرف بلسانه ... وبصدق لهجته وحسن بيانه
فإذا تكلم يستبين كماله ... لذوي النهى والفضل من نقصانه
وله أيضاً :
علمي إذا ما نشطت ألهاني ... وهو متى ما اغتممت أسلاني
ودفتري والجليس يخذلني ... خير جليس وخير ندمان
الشيخ أبو الحسن علي بن يحيى الكاتب
النائب في ديوان الرسالة عن كمال الدولة أبي الرضا والكاتب عن الحضرة الملكية بيراع كالحسام المنتضى . وهكذا كانت أحواله من قبل إذ لم تنقشع الغمائم الطغرلية والعضدية ولم ينقطع ذلك الوبل ولا أدري : خطه أحسن أم لفظه أزين وفكرته أدق أم عشرته أرق ونهجه في فغمض عينك وضع اليد عليه . وقد نطقت تتمة اليتيمة بذكر أخيه أبي الوفا ذلك الذي قصده زمان السوء بالجفا ونبه عليه لصوصاً نزعوا من خواتيم حياته فصوصاً . فوجدوه بمعزل عن الطريق مقتولاً " ليقضي الله أمراً كان مفعولاً " . أنشدني سميي ووليي سقاه الله الوسمي والولي لنفسه من قصيدة نظامية :
لقد أحسن العذر عما جنى ... زمان وفى بعد ما قد جفا
وأثمر أشجار روض السرور ... وأسفر بالنجح ليل المنى
وعاد إليه العود ماء الشباب ... فجدد عندي عهد الصبا
وكنت قصير الخطا في السباق ... فصرت أسابق ريح الصبا
وكنت نزلت بدار الهوى ... فطنبت عزي فوق الربا
ومنها في المدح :
رضي الإمام وغوث الأنام ... وأقوى قوام لدين الهدى
وأحكم من ساس أمر العباد ... وأكرم من سار فوق الثرى
أخوه الشيخ أميرك الكاتب
أبو عبد الرحمن أحمد بن يحيى
هو أبو عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن يحيى بن سلمة وله بيت في الفضل قديم ومنح في الكتابة صميم ؛ فأما أبوه يحيى بن سلمة فمورق السلمة مونق الكلمة وأخوه الذي تقدم ذكره أعني أبا الوفا وافي الفضل وافر العقل . والشيخ أميرك ثالثهم والثالث خير وابنه أبو الحسن من أديمه سير وأقرانهم بالإضافة إليهم غرير أو كسير . وقد عاشرت أبا الوفا وهو كاتب الأمير أبي الفضل بل الكاتب الأمير على الفضل وصاحب الفضل والأدب الجزل والقول الفصل . غير أنه كما وصفت لك اختصر في الفتنة أكمل ما كان في الفطنة . وأما لشيخ أميرك هذا فمنخرط في ديوان رسالة عميد الحضرة مؤيد الملك ذي السعادات أطال الله بقاءه مدرع لرداء الصيانة مضطلع بأعباء الأمانة . وابنه الحسن أيده الله تعالى در انتزع من تلك الأصداف وخلف أحيا رمائم الأسلاف
أنشدني الشيخ أميرك لنفسه جواباً عن أبيات لبعض القضاة خاطبه بها :
ألا يا أيها القاضي المرجى ... لقاؤك كالسلامة للسليم
لك الآداب محكمة عراها ... وعز البيت في النسب القديم
وجدتك في المودة مستقيماً ... وغيرك فيه ليس بمستقيم
وقد أوردت ذكري في قريض ... نفيس القدر كالدر اليتيم
خلعت به علي لباس عز ... كذا دأب الكريم بن الكريم
وكتب إلي متفضلاً :
أبا قاسم يا كريم الخصال ... سمي الوصي عديم المثال
رزقت العلو وفوق العلو ... ونلت الكمال وفوق الكمال
فلا زلت تعلو علو السماء ... ولا زلت تبقى بقاء الجبال
وأبقاك ربي بقاء الزمان ... ووقى كمالك عين الكمال
ابنه
أبو أحمد الحسن
أنشدني لنفسه من قصيدة نظامية :
ولما رأيت الدهر أشرق وجهه ... وأنجز وعداً لم ير الخلف واعده
صرفت عنان القصد عن كل وجهة ... إلى من قلوب الآملين قواصده
أقر له أهل الزمان بأنه ... بلا مرية فرد الزمان وواحده
هزبر هياج ما تكل نبوبه ... وبحر نوال ما تجف موارده
وله في تهنئة الصاحب نظام الملك بالقدوم من قصيدة أولها :
عاد الزمان منوراً بإيابه ... وتلألأت غرر السعود لنابه
عالي المحل مشيد بنيانه ... نزلت نجوم الأفق تحت قبابه (1/164)
لا زال محروس الجناب مؤيداً ... في حالتيه ؛ إيابه وذهابه
الحسن بن الأديب يعقوب
خلف أبيه اللائحة مخايل الخير فيه . وقد حصل صدراً صالحاً من فوائده ونظم في سلك الأدب كثيراً من فرائده . وللأيام فيه مواعد وسينجزها . وله في تنجز تلك المواعد فرص وسينتهزها . فمما كتب إلي قوله :
نظامك مسكر لا الراح صرفاً ... ونثرك لؤلؤ لا ما ينظم
فإن تنظم فسحر بابلي ... وإن تنثر فمنثور وأنعم
علي بقيت للعلياء تكسى ... لباس الأمن في عيش منعم
وله يهجو عفي عنه :
قل للغراب : اغرب فحد صوارمي ... لم ينب يا ابن القحبة البظراء
إن كان ذنباً مدحتيك فتوبتي ... خلصت فقد قفيتها بهجائي
وأنشدني لنفسه في الغزل قوله :
أيها المعرض عني ... أرني أنظر إليكا
وترفق بفؤادي ... إنه وقف عليكا
وله في أوحال نيسابور :
قل لمن يعذلني في انجحاري ... بعد أن شاد الشتاء رواقه
لا تلمني في لزومي لبيتي ... إن عومي في الخرا لحماقه
قلت : وهذا الشعر بعد حصرم فإذا نضج عاد عنباً هنياً وبسر فإذا أينع صار رطباً جنباً . وقد أودعت هذين البيتن في رسالتي التي سميتها " غالية السكارى " اقرح علي انشاؤها بنيسابور في صفة أحوال أوحالها . فقلت في بعض فصولها : ولم يزل يقرع سمعي ما بنيت عليه نيسابور من رهل التربة وابتلاع طينها رجل الماشي من الأخمص إلى الركبة خسفاً وحاشا الوجوه بذكر قارون وبليته والعياذ بالله منها نعني القرون ووحلاً بلغ منكب خائضهظن فالتحفه وأودع القلب مصحفه ودجناً يزم في الهواء كل سارية كلفاء إذا حلقت ألصقت بأشراف الكواكب سنامها وإذا أسقت علقت من آناف المثاعب زمامها
الشيخ أبو إبراهيم أسعد بن مسعود
جلاء بصري وإن تغيم أحياناً سماؤه وشفاء ظمأي وإن تكدر في بعض الأوقات ماؤه . وهو لأبي النضر العتبي حافد وبغضه النضر لدوحته العلياء مرافد . وزعمت تلك التي أودعته لبانها ورضعته لبانها أن شيخي الحسن رحمه الله من أشبه الناس بأبيها أبي النضر وللشبيه تناسب وإن لم يكن بين المتشابهين تناسل وللشيخ أبي إبراهيم هذا شعر كتابي كقوله من قصيدة في الصاحب نظام الملك :
يا سيد الوزراء والأركان ... أيام دهرك مفخر الأزمان
ورفيع قدرك بالنجوم متوج ... وسناء مجدك باهر البرهان
نسخت مناقبك المناقب كلها ... نسخ الشريعة سائر الأديان
ولقد كسيت من المحاسن حلةً ... مرقومة بصنائع الرحمان
بهشاشة تدعو الوفود إلى الغنى ... وتبشر العافين بالإحسان
وعزائم مثل الشهاب توقدت ... برزانة تحكي ذرا ثهلان
وسماحة صوب الغمام قريبها ... ينشال وابلها بكل مكان
يا نقطة الفلك المدار ونكتةً ... من صحف كل مآثر ومعان
يا قرة عين كل مسرة ... يا غرة في وجه كل زمان
للقائم النبوي أرضى ناصح ... للدولة العلياء أكرم بان
ومنها :
وقوام دين الهاشمي محمد ... ونظام كل ممالك السلطان
اسكندر الرومي أصبح فاخراً ... إذ سد يأجوجاً بقطر آن
سد الوزير أبي علي سيفه ... والسيف أحصن ما بناه بان
تشتاق نيسابور غرتك التي ... هي كالزلال العذب للعطشان
وقفت في العود الجميل برجعة ... من سفرة ممدودة الأرسان
فاجعل جمامك حجة في عيشة ... بين الشراب الصفو والندمان
كم مقتر أغنيته وأنلته ... ونعشته من ذلة وهوان
جدي يخاصمني ويزعم ما الذي ... ألقاك طي جريدة النسيان
هبني وزير المشرقين ضعيفةً ... تأتي خديجة زينة النسوان
كان الرسول إذا أتته يعزها ... ويقول : حسن العهد في الإيمان
عزم الزمان وجار فاحسم جوره ... عن عبدك المظلوم بالريحان (1/165)
واسعد بجد صاعد متنغماً ... في دولة مخضرة الأغصان
وأنشدني لنفسه من أبيات له في عيادة الوزير أحمد عبد الصمد :
يا أيها الشيخ الأجل ومن به ... يرجى الندى وتحقق الآمال
لا تجزعن إذا مرضت فإنما ... للبدر بعد سراره استهلال
وكذاك يعترض الجبال عوارض ... فتزول عنها والجبال جبال
وله أيضاً يهجو أبا سعيد الفاريابي :
عتبت على الصبابة للنشيد ... وملت على قريضي بالوعيد
فقال : تجاف عن ذنبي وإلا ... فنحسني بمدح أبي سعيد
وله في بعض النابغين :
قد قيل لي : إن فلاناً غدا ... يجر أذيال العلا مسبله
وما يرى في قومه غير من ... قد عجنت طينته من بله
فقلت : هل تعجبكم وردة ... قد نبتت فينا على مزبله
وله في بعض السادات :
جمع الإله فضائلاً ومكارماً ... في السيد المفضال فضل الله
فإذا تباهت بالمعالي عصبة ... فيه المعالي الباذخات تباهي
أضحت أمور الملك رائقه به ... وتروق إن بقيت عليه كما هي
وله ايضاً في مرثية ولده أبي البركات :
يا ذا ظل يلحاني على جزعي ... أقصر فلا غرو أن أبكي على ولدي
قد كان لي كبداً يمشي على حدقي ... فكيف يهنأ لي عيشي بلا كبد
السيد أبو الحسن علي بن مانكديم الحسيني
رأيته وهو عاري الوجه من الشعر متناصف حسن الوجه والشعر غض الأدب والسن . يضرب جماله وهو من الإنس بعرق في الجن واستكتبته نبذاً من أشعاره فكتبها لي بخطه الديباجي وضمنها ما لم يضمن صدور الغانيات من الحلي
فمنها قوله :
لعمرك ما نجدية الدار أتهمت ... وحنت إلى نجد وأنت من الوجد
بأجزع مني لا وأسكب عبرةً ... وأدنى الذي أخفي كأقصى الذي تبدي
أقول إذا ما الليل أرخى سدوله ... وطال مطال الصبح والقول لا يجدي
ألا ليت شعري هل أرى الصبح طالعاً ... بوجهك لي أفديه من طالع سعد
وإن جل ذاك الوجه عن قدر مهجتي ... فليس على العبد الضعيف سوى الجهد
ولو كنت أعطى ما أشاء من المنى ... لما كنت تمشي قط إلا على خدي
قلت : ليت شعري من المنتعل لذلك الخد فاشهد له بعلو الجد . وما مر بسمعي غزل نغم به غزال غير هذا
وقوله :
وما زهرات الروض باكرها الندى ... ولا البدر فيما أنجمه الزهر
بأحسن من سعدى إذا ما تبسمت ... بياقوتتها عن نظام من الدر
وقوله أيضاً :
بنفسي معسول الرضاب مهفهف ... حثيث الخطا في المشي سود غدائره
أراق دمي وجداً وأرق ناظري ... إذا ما دجا جنح الحنادس ناظره
وكنت شحيح النفس أخشى فراقه ... فكان الذي كنا قديماً نحاذره
وبت كما شاء الفراق ولم أزل ... أكفكف دمعاً تستهل بوادره
بكى عند توديعي أسى فتهتكت ... على ملأ من حاسديه ستائره
وأدمعه أفشت إلى الرقباء ما ... أجنته من برح الغرام ضمائره
وقوله في الشيخ ناصح الدولة ابي محمد الفندورجي :
يا ناصح الدولة يا سيداً ... شيمته الأنعام والبدل
حزت المعالي بحذافيرها ... وإنما أنت لها أهل
برأيك الجزل استتب الهدى ... وقام من صرعته الفضل
أصبحت والله نظاماً له ... وعقده قد كان ينحل
ونلت شأو الشمس في أوجها ... ولم ينلها طالب قبل
ولم يكدر منذ سست الورى ... نذاك تسويف ولا مطل
وما نبا سيفك في شدة ... إلا كفاها قولك الفصل
قلت : وما عسى أن أقول في هذا السيد والوجه وضي والشعر مرضي واللسان عربي والجد نبي والحلية شرف وهو من أسلافه الأشراف خلف
أبو محمد عبد الله بن الفقيه
أبي صالح السراجي (1/166)
هلال يعد الأقمار وغصن يضمن الأثمار . فمن بواكير طبعه قوله في الشيخ الفقيه الأجل أبي القاسم علي بن عبد الله بن إسحاق :
يا من له في مجده والعلا ... والكرم المحصن يد سابقه
هنئت بل هنئ كل الورى ... تأسيسك المدرسة الرائقه
وعشت في أمن وفي غبطة ... وعيشة راضية شائقه
ونعمة تسبغ أذيالها ... ما طلعت شمس الضحى شارقه
وله من قصيدة نظامية :
إذا اخترط السيف يوم الوغى ... تنادى الأعادي تدانى الأجل
فأين حيا المزن من خلقه ... ومز المدام وحلو العسل
ومن غزلياته قوله :
قالت وقد جد الرحيل بحسرة وتنهد
الحزن بعدي والبكاء على الوصال تعود
واصبر على بعدي ولا ... تهلك أسى وتجلد
فجرى على خدي نهر مثل بحر مزبد
وله من أخرى :
فما هدأت ضلوعي منذ غبتم ... ولا اكتحلت جفوني بالرقاد
جزى الله المطي جزاء سوء ... فهن غدون أسباب البعاد
أبو الحسن المؤملي
أنشدني له الأديب يعقوب بيتاً واحداً في هجاء إنسان بالبخل وقد لسملحته فكتبته وهو :
وطول لشارب كي لا ترى ... إذا تغدى حركات الشفه
الحمد لله هذا بيت لفظه مطرب ومعناه عن لطف ناظمه معرب . لم أسمع في بخيل مثله ولا أظن شاعراً ظفر به قبله . نشقت به من روض البلاغة ورداً ورأيته في هذا المجموع فرداً . فأنسته بيتين لطيفين وجعلتهما له أليفين قلتهما في بخيل لا أرضى صفته وشحيح لا يزال شاربه يغطي شفته . يبخل على لهاته بريقه ويسلك مسالك مادر في طريقه . صيرته معهما كالتضمين وجعلته لفاتحة الهجو كالتأمين وهو :
قد قفل الباب بقفل له ... من بخله خوفاً على الأرغفه
وقال : إن أطعمت منها امرأ ... لبابةً إني كثير السفه
وطول الشارب كي لا ترى ... إذا تغدى حركات الشفه
الشيخ الفقيه أبو بكر المعيد
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي الزوزني رحمه الله قال : أنشدني المعيد لنفسه :
زرتك مولاي وأنت الذي ... في العلم والمال له بسطه
ومنطقي يقصر عن فضله ... ومن يصفه لم يطق ضبطه
سماء مجد لا أرى سمكها ... وبحر جود لا أرى شطه
وحق مثلي واجب عنده ... فأعط ذا الحق إذاً قسطه
ولا تدع برك عن قلة ... فبقة في وقتنا بطه
كفيت ما تحذره سالماً ... وعشت في خير وفي غبطه
أبو نصر محمد بن أحمد الخواري
أبوه خواري وهو نيسابوري وكل منهما في العلم علم . وأبو نصر هذا من أظرف خلق الله . وقد عاشرته فاستحسنت أخلاقه واستحليت مذاقه . وله شعر بارع لم يحضرني منه إلا ما أنشدنيه محمد بن أبي نصر بن عبد الله الباخرزي له وهو :
دب الدماميل وحوشيها ... في جسدي مثل دبيب المدام
لكنها الراح تريح الفتى ... وهذه تطرد مني المنام
وجملة الأمر وتفصيله ... أني كما تكرهه والسلام
أبو القاسم علي بن عطاء الثعالبي
المعروف بالجنيدي
شاب مليء ظرفاً حتى أنه لم يخطئ من الظرف حرفاً . وبيني وبينه صداقة صادقة . ولم تتقرط أذني بمحاسن كلامه إلا أن عيني قرت بمواقع أقلامه . وقرأت من خطه قصيدة له نظامية وهي :
أصبح الملك مطمئن الوهاد ... عالي الطود راسي الأوتاد
وغدت دونه عوائد صنع الله يدفعن في نحور الأعادي
فجميع الأيام حسناً وأنساً ... لجميع الأنام كالأعياد
ومنها في المديح :
وحدت باسمه الوزارة قدماً ... كاتحاد النفوس بالأجساد
وله الأولياء إخوة صدق ... والرعايا في حيز الأولاد
سيد في ذراه سود الليالي ... مشرقات لنا ببيض الأيادي
نير الرأي في الخطوب الدواجي ... ذائب الكف في الزمان الجماد
وله من أخرى أولها :
ألا يا صاح قلبي غير صاح ... من الأيام من حب الملاح (1/167)
وشرب الراح أشربها اغتباقاً ... إلى افصباح من أيدي الصباح
ومنها في المديح :
له كف ككف الدجن ساق ... ووجه مثل وجه الصبح صاح
كفانا بشر غرته بشيراً ... بأخلاق له غر سجاح
شبيهات الرياض إذا كستها ... يد الأنواء أنوار الأقاحي
فلا تغررك غرته فإن ال ... حسام العضب مجلو الصفاح
الفقيه أبو سعيد منصور بن سهل الجويني
شاب لم يخطئ له في هدف الفضل نشاب . من تلامذة الشيخ الإمام ركن الإسلام أبي المعالي حرس الله معاليه ونظم على جيد الإمامة لآليه وشغل بإفادة الأنام أيامه ولياليه . ولما اتفقت لي ركضتي إلى نيسابور في شعبان سنة ست وستين وأربعمائة حضرني مستفيداً لا بل مفيداً إياي أنساً جديداً . وعرض علي توقيعات الأئمة الذين ألقت الإمامة إليهم فضلات الأزمة بارتضائهم لبنات خواطره فدونت بعضها في قانون مفاخره . فمنها فصل شرفه به الإمام أبو المعالي وهو : " هذه قطعة مطبوعة مصنوعة صادرة عن قريحة غير قريحة وطبع ما به طبع "
وهذا خط ابن الجويني وفصل للشيخ الإمام أبي نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري وهو : " هذه قلائد حسن تسلب القلب صنعتها وولائد فكر يخلب الخلب واللب جودتها صدرت عمن هو المرموق في بابه من بين أضرابه وكل بيت منها أدل شيء على فضل قائله وإن كانت أقل فضائله : وفصل كتبه الشيخ الإمام أبو عامر الجرجاني وهو : هذه الأبيات بلغت في حسنها الغاية نسجها من له في عين الأدب تبين وبيان وحسن وإحسان وحقيق بأن يكتب ذلك بالنؤور على وجوه الحور
وكتبه أبو الفضل بن إسماعيل الجرجاني وهو الشيخ الإمام قلت : وروى لي أبو عامر من نتفه طرفه ما لهبت شواظ رغبتي ولسن نار حرصي على تدوين شعره وتخليد ذكره ففعلت وأورت له ما اتسع نطاق الوقت . فمما أنشدني لنفسه قوله :
أأيامنا اللاتي وصلنا بها المنى ... وطيب لياليها سلام عليكم
وإني وإن شطت بي الدار بعدما ... ألفتكم دهراً فقلبي لديكم
ولولا رجائي أن يعود وصالنا ... من الدهر يوماً مت شوقاً إليكم
ومنها :
سلام مثلما فاحت رياض ... وقد مرت بها ريح الشمال
على دهر مضى ما فيه عيب ... يعاب به سوى قصر الليالي
وقوله أيضاً :
تعجب الناس من توريد وجنته ... وفترة ظهرت في جفن مقلته
فقلت : لا تعجبوا منه فما عجب ... تكسير عينيه في توريد وجنتيه
لأن ريقته خمر معتقة ... ففيهما نشوة من خمر ريقته
وقوله في مجدر بالوصف جدير :
بدت بثرأته فوق المحيا ... كما نثرت على البدر الثريا
كأن الخد والبثرات فيه ... حباب فوق كأس من حميا
وقوله من قصيدة :
أبدى على الخد أصداغاً مزرفنة ... رأيت منها قلوب الناس في شعل
تم الجمال بخديه فقيده ... من صدغه الرائق المسكي في شكل
ما كان أحسنه والقوس في يده ... يميل من دله كالشارب الثمل !
!
كأنه قمر قد مد عن عرض ... إلى الهلال يداً فيما تخيل لي
ترميك ألحاظه عن قوس حاجبه ... بمثل ما قد رمت كفاه عن عتل
إذا بدا راشقاً في مرتمى غرض ... أهدى إليه الورى رشقاً من المقل
أبو القاسم عبد الصمد بن علي الطبري (1/168)
هو لناصح الدولة أبي محمد الفندورجي من حيث النسب خال ولخد الظرف من حيث الزينة خال ولشائم برق الفضل من حيث النجعة خال . وقد لقيته بنيسابور سنة خمس وعشرين وأربعمائة شاباً طرياً . يفري في النظم والنثر فرياً سرياً وينشر من حلل الخط وشياً عبقرياً . واتفقت له في خدمة العميد طاهر المستوفي إلى الري حركة فأفلحت نهضته وأنجحت ركضته وعاد شاكراً من لديه ومواهبه أملاء يديه . ولو سكت عنه لأنثنت حقائبه عليه . ولم تطل به الأيام حتى اصطفاه العميد أبو نصر بن مشكان لمنافثته وارتضاه لمناقشته . وجمل به ديوان رسائله لما تفرس من النجابة في شمائله وحمله في بعض أسفار الهند معه فحكى لي القاضي أبو جعفر محمد بن إسحق البحاثي قال : " نزلنا ليلة من الليالي على شط حية طامية بعيدة العمق تزل بالأقدام فرض مشارعها وينعي من لا يحسن السباحة نقيق ضفادعها . قال : فشربنا ذات ليلة مع العميد أبي نصر بن مشكان فخلع أبو القاسم عذاره على العقار واستدار لتناوب القدح المدار . وجرت له مع العميد مناظرة في تفسير بيت للمتنبي فكانت تلك المناظرة داعية حتفه إي وربي فاشتد لجاجه واحتد مزاجه وقام من المجلس وقد غلبته السوداء والصفراء وحضرته المنية الحمراء . فرجع إلى مضربه يهز العطف من غلوائه ويرود الأرض فضل ردائه . قال القاضي : وكان عندي أن يد المدام خاطت أجفانه بالمنام . فما راعني في تباشير الصباح إلا غلامه وقد حركني للتنبيه وثكل مولاه باد فيه . وأخذ بيدي فخاصرته إلى الشط . وإذا أنا به ورب السماء طافياً على وجه الماء طفو القذى . وهل تكون المحنة إلا كذا ورمى الغلام بنفسه إلى الحية سابحاً إليه وأعلقه أنامل يديه واجتذبه إلى الساحل نائحاً عليه فرق القلب لذلك الصديق ثم لذلك الرقيق وقد شق القميص على لبته وشوى مآقيهما بالمطر وتختنق تراقيهما بالوتر . أما أنا فقد عجبت إذ سمعت أن نهراً أغرق بحراً فاستنبطت معنىً غريباً إذ حكوا لي من أمره حالاً عجيباً ؛ زعموا أن سفينة فوائده كانت معه في الماء الذي ابتلعه فقلت : يا عجباً كيف غرقت نفسه المسكينة وفي كم قميصه السفينة وله شعر حسن ضاع أكثره ويكفيك منه أثره . فمنها ما أنشدنيه لنفسه وهو معنى لم يسبق إليه :
دعني أسر في البلاد مبتغياً ... فضل شراء إذ لم يفر زانا
فبيذق النطع وهو أحقر ما ... فيه إذا سار صار فرزانا
وكان في بيت كتبي قصيدة له بخطه علق بحفظي منها بيت لا يكاد ينقضي إعجابي به وتعجبني منه وهو :
حمر يدي بالكاس فالروض مخضر الربا قبل اصفرار البنان
قلت : أبصر كيف لون زهرات هذا الباغ وكيف تأنى بخلط هذه الأصباغ وبينه وبين الشيخ والدي معارضات ومقارضات منها قصيدة نونية كتب بها إليه ومطلعها :
بيض الدمى وقفت على الدمن ... ومعهد الحزن أغرى القلب بالحزن
بانوا بهيفاء يغزو سهم مقلتها ... قلب المتيم في جيش من الفتن
شمس على غصن هام الفؤاد بها ... يا ويح قلبي من شمس على غصن
الشيخ الفقيه أبو الحسن علي
بن أحمد الزواهي
علم العلم وذو فنونه حتى كأنه أبو قلمونه إذا حاضر بسطنا الحجور لالتقاط الدرر واللآلئ وإذا أملى ترك القراطيس أملاء الفوائد بتلك الأمالي . وإذا وعظ استمال القلوب الشاردة وعظه واودى الأكباد وداواها وعيده ورعده . وإذا نثر فالبلغاء في سكك خدمته متصلون منتظمون . وإذا نظم فالشعراء من حوله منفضون منتثرون . وقد فرع بنيسابور مدة أعواد المنابر الفضلاء في انتساخ خطبه مداد المحابر . واتفق أن الدهر ضرب على صماخه بصمام الصمم فكأن ثقل تلك الحاسة منه زاده خفة أو كأنه أغنمه تفادياً عن استماع الفواحش وعفة ومن عجيب أمره أنه من الصمم بحيث أقول في غيره :
وأصلخ في منفذي سمعه ... صمام من الصمم المطبق
فلو نفخ الصور في عصره ... لأفلت حياً ولم يصعق (1/169)
ثم إذا خط صاحب غرض ببنانه على ظهر كفه وقف على المراد وجعل ينوب البنان عن الأنبوب المغموس في المداد حتى كأن تحت كل شعرة من شعرات بدنه واعياً مصغياً بأذنه وذاك لعمري كالرقم على بسط الماء أو كالنقش على الهواء بالهباء . وقد افتن الفضلاء في مدحه بالطرش وقد قالوا فيه ما ينوب مناب الماء عند ذوي العطش . وأبرع وأبدع وأجمع ما قالوا في معناه قول والدي رحمه الله :
قالوا : علي بدا في سمعه خلل ... فقلت : عند استماع الفحش والخطل
بل كان طود الحجى صل الدهاء قنا الط ... طراد في الرأي والإنذار والجدل
وكتبت إليه رقعة أستهديه ما يليق بكتابي هذا من غرره ودرره فأجابني بفصل قال فيه : " لولا أن أمر فلان سميي وكنيتي ووليي لاأزال كاسمه علياً لا يقابل إلا بالأمتثال ولو بقلم الاستعجال والارتجال لصنت كتابه العزيز عن مقولاتي ومنقولاتي ولكن :
قلت لما كتبته غير راض ... ربما كان للقبيحة بخت
قال : فمما قلته في ابتداء مطلع مديح مولانا الصاحب الأجل نظام الملك رحمه الله وكان ذلك في يوم مطير قولي فيه :
طلع الوزير فزاره الغيث ... عجلان ما في صوبه ريث
لم لا يزور الغيث ذا كرم ... عبداً يداه الغيث والليث
وأنشدني لنفسه في خدمة نظامية له :
يا من به نظم الممالك كلها ... وبرأيه راياتها منصوره
حقق رجاء الزواهي بنظرة ... فعليك آمال الورى مقصوره
ولما مني بالوقر الذي نسبته إليه في ابتداء ذكره قال :
إلى كم أشتكي وقري كأني ... وحيد في الأذى من غير ثان
ولم لا أكتسي صبراً جميلاً ... وحسن الصبر للحدثان ثان
ولكن كيف أحتمل الرزايا ... بجسم مثل واحدة المثاني
أزل فقري ووقري يا إلهي ... بحق الرسل والسبع المثاني
وله في بعض ما ناجى به ربه :
دعواتي ناجيات ... بك عن ذل الحجابه
لأنادي في بلادي ... دعواتي مستجابه
وردت بابك ظمأى ... فاسقها ماء الإجابه
وأنشدني لنفسه :
لا أنسى يوم العيد يحجب وجهه ... عني وعمداً كنت قد قابلته
نلت الأماني كلها لو أنني ... مثل الذي قابلته قبلته
وله يخوف بعض الجبابرة مجانيق الأشعار :
أدعو عليك ولا أرا ... ك تخاف عادية الدعاء
ولدعوة المظلوم مضطرب فسيح في السماء
وقال يرثي ولداً له اسمه صاعد توفي وهو ابن أربع سنين :
يا صاعداً قلل المنا ... يا قبل وقت صعوده
ومفارقاً دار النحو ... س إلى مقيل سعوده
لو كان موت مخلفاً ... للحي في موعوده
أبقى عليه ولو بجدته ونضرة عوده
لكن ذلك منهل ... لا مكث دون وروده
وقد كانت له والدة من القانيات العابدات منهل البقاء سنين حتى ناطح في ظلال بركاتها الستين . ولم يزل معناه بها مصعد الدعوات المقبولة ومهبط البركات المأمولة . وكنت أنا شديد الاستظهار بدعائها فقد أنزلتني منها بمنزلة بعض أبنائها . وفجع الفقيه أبو الحسن بها وسلب برد الحياة بسببها . فلم أر شيئاً أشبه بطفل مفطوم منه حنيناً إليها وعضاً للأنامل عليها . فمما أنشدني لنفسه من مراثيه فيه قوله :
بمقبرة الحسين أزور أمي ... ونار القلب تستعر استعارا
أروي قبرها دمعاً وأروي ... دع العبرات تنهمر انهمارا
وقوله :
وإني لآتي قبر أمي فأشتفي ... برؤيته والوجد في شديد
كما نظرت حنانة نحو بوها ... تسلت به والسقب منه بعيد
وما أحسن ما قال ابن الرومي في ميمته الفائقة التي لم يرث ولد والدة ولا والداً بأحسن منها :
وما الأم إلا أمة في حياتها ... وأم إذا ماتت وما الأم بالأمم
وعارضته أنا بقولي في مرثية والدي رحمة الله عليه بقصيدة غير قصيرة :
وما الأب إلا الأب ما عاش لابنه ... وآب له طيب الحياة إذا بلي (1/170)
ولست أقول : إني أربيت عليه أو زدت وقاربت درجته أو كدت . ولكن المصدور ربما نفث فاستراح والنسيم ربما نشر سر الروض فباح
الفقيه أبو الحسن علي بن محمد
بن عبدونه
كتب إليه عثمان بن محمد الخشنامي من بعض القرى وذلك بعد طول مقامه بها :
عزاء فلدغ الهم للقلب محرق ... ودفع الهوى للصب بالصبر أوفق
شكوت وما تجدي الشكاية بعدما ... نوى لي النوى من كنت أهوى وأعشق
بكيت وهل يشفي البكاء إذا أنى ... من الأمر مقضي وحم التفرق
مقيماً بأرض ما بها غير أحمق ... يكدر عيشي قربه ويرنق
نهاري فيها بالذباب منغص ... وإن رحت فالبرغوث جلدي يمزق
يغرمني العمال مالاً قضيته ... وعندي خط بالبراءة ينطق
وما ذاك إلا من شريك يكيدني ... بما يتقيه المسلم المتحقق
ويظهر ودي شائباً بنصيحتي ... وإن عن لي مال يخون ويسرق
أراحني الرحمن منه بفضله ... فما هو إلا قرطبان ممخرق
وصير بغضي للتفرق خيرة ... فطول مقام المرء في الحي مخلق
فأجابه عنها ابن عبدونة هذا بقوله :
دموع بما ألقى من الوجد تنطق ... وقلب بنيران الصبابة يحرق
ولو كنت ذا طرف يحل به الكرى ... رأيت خيالاً للحبيبة يطرق
أنوح إذا ما لاح برق تأسفاً ... وأندب إن ناح الحمام المطوق
ولي عبرات كلما رمت كفها ... بكفي همت في صحن خدي تدفق
بنفسي من لا تهد دلاً سلامها ... وليس لها في ذاك إلا التفتق
وكم ليلة مدت علينا رداءها ... وفيها سهام الكاشحين تفوق
أغازلها والنجم يرنو بمقلة ... مسهدة تحكي فؤادي فيخفق
منعمة شقت عن الليل برده ... ففي وجهها للشمس والبدر مشرق
سأصبر حتى تنقضي دولة النوى ... ويهتز لي عود اللقاء فيورق
وكنا زماناً نجتني ثمر المنى ... إذا ذكرت كادت لها النفس تزهق
كأن الدجى بحر جمان نجومه ... كأن الهلال حين يغرب زورق
فبادر وخل القوم بالنار واغتنم ... خلاصك منهم فهو بالحال أليق
حكيت وحق الود مني عجيبة ... متى عدلوا أو أنصفوا أو تحلقوا
وعلى ذكر :
أحمد بن عثمان الخشنامي
فإنه كان فتى من ظرفاء نيسابور شريراً بين الندام شريباً للمدام . وكان من أقران القاضي أبي جعفر الزوزني وقرنائه وخله الذي يود بقلبه ويرى بعين لا ترى بسوائه . وكان يقول الناس : إذا اجتمعا اجتماع السعدين هذا يوم قران للحبيبن . أنشدني لنفسه في الصابونية وقد كان يكتب لإمامهم وشيخ إسلامهم أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن رضي الله عنه ولعله نقم منهم شيئاً طوى لذلك كرم العهد طياً وتناول منهم بقوله فيهم :
يا عصبة الصابون صاحبتكم ... منتظراً للخير ألقى بكم
فكان عقبى ما تجشمته ... غسل يدي منكم بألقابكم
وقد أحسن من حيث الصناعة لكنه أساء إذ هجا تلك العلوم مظلومة وتناول تلك اللحوم مسمومة . ولم أسمع في ألم ضرس المعشوق أملح وأحسن من قوله :
شكت أقاحيك فاشتكيت لها ... يا نكتة الدهر فتنة البلد
وجهك شمس الضحى إذا طلعت ... تضر بالأقحوان والبرد
وأعتذرت أنا للشيخ الإمام أبي محمد الجويبي عن ألم ضرسه فقلت :
جل الإمام الحبر عن علة ... في ضرسه لم تك معتاده
لسانه أوجع أسنانه ... والسيف قد يأكل أغماده
أبو سعيد الكاتب
المعروف بجل دزه . كتب إلى والدي رحمه الله ونحن بنيسابور أبياتاً جلب بها إليه بضاعة يستهديه فيها دراعة وهي :
لي دراعة أمحت فصارت ... ثقباً كلها كغربال ناسف
أنا شمس تضيء أفلاك فضلي ... غير أني من ثوبي الرث كاسف (1/171)
الأستاذ الأوحد إبراهيم بن عبد الله
الطائي الكاتب
سقط ذكره عن مكانه فاستدركته في غير أوانه . أنشدني له الأديب يعقوب بن أحمد في الوزير ابن مصعب وقد دخل طبرستان طالباً تصرفاً فجره فيه على شوك المطال أحوجه إلى مثل هذا المقال :
إن ابن مصعب صعب في شكيمته ... من حيث يولي فلا يرجوه راجيه
والمصعبيات في أحراحهن ندى ... ما رامه نايك إلا راعى فيه
لو كان للشيخ يوماً جود طلته ... لعاد ملكاً إلى مغناه عافيه
وله أيضاً :
بنيمان له دعوى عريضه ... كفايته لدعواه نقيضه
فنتف سباله حتم علينا ... ونيك عياله عندي فريضه
أبو الحسن الأرباعي
رأيته شاباً آخذ بمجامع القلوب ظرفاً وممتزجاً بأجزاء النفوس لطفاً . جمع بين قلمي النظم والنثر ونظمهما معاً في سلك السحر . أنشدني أبو محمد الحمداني قال : أنشدني لنفسه :
وزير الشرق زنت الأرض عدلاً ... وفضلاً وازدهى بك مشرقاها
بقدح سخاوة ما إن يضاهى ... وقسط شجاعة ما إن يباهي
وفضل علاً تعالى من براه ... وجود يد تبارك من براها
الشيخ أبو القاسم بكر بن المستعين الكاتب
كان محرراً في ديوان الرسالة للأمير محمد بن محمود بن سبكتكين وصاحب الديوان يومئذ العميد أبو بكر القهستاني وهناك ما شئت من همة تنطح عنان السماء وحشمة تنتطق بمعالق الجوزاء وبلاغة تغبر في وجه عبد الحميد وتفتل في ذروة ابن العميد . أما أبو القاسم فقد كان الملجأ والسند والمؤتمن والمعتمد . وما زال كذلك حتى آل الأمر إلى ركن الدين طغرل بك . فانتضي لكتابته وارتضي بكفايته . ونظمني وإياه الديوان في أيام الصاحب أبي عبد الله الحسين بن علي بن ميكائيل . فكنا فرسي رهان وشريكي عنان . وكان يفيدني في السلطانيات ويستفيد مني في الإخوانيات . ومما دار بيني وبينه قولي منه :
شرفت ببكر ثم إني بجاهه ... أنوه لا لا تنكروا شرف البكري
إذا صغت مدحاً فيه حمحم صاهلاً ... جوادي إعجاباً به ورغى بكري
أظن مداداً سائلاً من يراعه ... دم العذرة المسفوح من لفظه البكر
ومما استحسنت من الفاظه المنثورة قوله وقد استهداه الشيخ أبو منصور الثعالبي وهو بأسفرايين غاشية . فكنت أحملها إليه وبين يديه . وأبطأ عليه كتاب استعاره منه عميد الملك أبو نصر رحمه الله فقال :
يا مخلف الوعد في كتاب ... حاشاك يا أوحد الكتائب
الخلف عيب وليس يخفى ... أنك عار من المعايب
ومما أنشدني من شعره قوله :
تمتعت بالإقبال عصر شبيبتي ... ولذة عمر المرء عصر شبابه
فلما تولى وانثنت دولتي به ... فككت فؤادي من إسار اكتئابه
وعدت إلى بيتي وعذت بعقوتي ... وودعت باب الملك بعد انتيابه
فيا طيب عيش المرء في صحن داره ... على كفه عن كرمه من شرابه
وله أيضاً كتب بها إلى بعض صنائعه :
نسيت عمري أو تناسيته ... كلاهما منك لعمري قبيح
أحين هبت ريح إقبالكم ... صرت كقصر الريح فحواك ريح
غيري المعلى سهمه في المنى ... فكم يرى سهمي منها المنيح
أمط همومي بصراحية ... إمساكها دوني تخل صريح
وكان له في ديوان الرسالة تلميذ يقال له : أبو الفتح الصباحي وكنت كتبت إليه والحضرة بأستراباذ في عنفوان نزولنا بها أبحث عن محط رحاله ومطرح أثقاله ومناخ جماله :
لو كان يدري بأي برج ... قد حلت الشمس لارتقبنا
إلى سنا نورها ولكن ... حال التنائي فما التقينا
فأشار على تلميذه الصباحي بإجازة هذين البيتين فأجازهما بقوله :
لا زال في عز وفي نعمة ... وفي رضاه يقر عينا
فخير مسعاتنا مرداً ... نيل رضاه إذا سعينا
أبو نصر الجميلي الكاتب (1/172)
شاعر باللسانين وسابق في الميدانين . عهد به وهو يكتب للعميد أبي منصور الورقاني بخط كأنه الدر تتجمل بوشيه ألفاظه الغر . وله رباعيات بلسان العجم تنطق بها الأوتار فيشقى بها الخمار وتصوغ لها القيان ألحانها فتنفض إليها الأطراب أردانها وتقريط بها الأرباب آذانها وتشتغل بها العشاق قلوبها وتشق عليها الفساق جيوبها فمما أنشدنيه لنفسه قوله :
أفاض الليالي من جفوني اللآليا ... وأنت بتعذيبي تعين اللياليا
ولولاك ما فاضت جفوني بعبرة ... ولا كنت للأعداء سلماً مواليا
فطوراً لأحكام اللئام متابعاً ... وطوراً لأنذال العشائر تاليا
الحاكم أبو القاسم الحذاء الخشكاني
يقول ما في رأيك أبا حازم الحديث اتفاق من الرأي والحديث . وباعه في سائر العلوم غير قصير والمثنى عليه وإن بالغ موسوم بسمة التقصير . أنشدني الأديب يعقوب له قال : أنشدني لنفسه :
إذا قدمت خدمة أعليت ... فمالي أحط إلى أسفل
فإن لم تزدني على رتبتي ... فقف بي على رسمي الأول
وكتب على بعض نصنيفاته يخاطب بها السيد أبا البركات :
أيا سيد السادات لا زلت أوحدا ... وكفهاً منيعاً للعلوم مشيدا
أتاك من التأليف ما رمت جمعه ... فقر به عيناً وقر به يدا
فذا الجمع في معناه مثلك في الورى ... كما كنت فيهم أوحداً جاء أوحدا
أبو نصر محمد بن الحسين الكاتب
المعروف بالقصاب الملقب بصريع الكاس . نيسابوري تقاذفت به الغربة إلى خوارزم فأقام بها حتى انتقل من ظهرها إلى بطنها . ولم تخل أيام حياته مجالس أمرائها ومحافل كرمائها منه . وله كتابة حسنة ونظم بارع كقوله من قصيدة نظامية أولها :
حياك من ذا الربيع الطلق قادمه ... وأي عيش هني أنت عادمه
أما ترى البرد قد ولى بعسكره ... حلت عزائمه منه هزائمه
والغيم أقبل يبكي ملء مقلته ... والروض أقبل مفتراً مباسمه
والأرض تجلى عروساً في معارضها ... والجو قد كثرت فيه مآتمه
حتى كأن يد الشيخ الأجل سقت ... خضر الرياض فروتها غمائمه
لا شيء أعجب من خلق الربيع وقد ... غدا على خلق مولانا يكارمه
فليس تحكي معانيه هيهات لن يحكي المخدوم خادمه
الشيخ الإمام أبو الفضل عبد الله
بن محمد الخيري
من خيرة نيسابور . هو في الفقه إمام وفي الأدب همام وفي الحضر عتاد الإخوان وفي السفر زاد الركبان . ورد غزته فكان لناظرها نوراً مبصراً ولناضرها نوراً مثمراً . ورجع وهو بما أهدى إلي من بدائعها سمسار بضائعها . فمما أنشدني الأديب يعقوب بن أحمد له قوله :
نعم المعين على المروءة للفتى ... مال يصون عن التبذل نفسه
لا شيء أنفع للفتى من ماله ... يقضي حوائجه ويجلب أنسه
وإذا رمته يد الزمان بسهمه ... غدت الدراهم دون ذلك ترسه
وله أيضاً :
أشكو الأقارب لا يغب جفاؤهم ... يبغي أذاي صغيرهم وكبيرهم
هم يعلنون لدى اللقاء مودتي ... والله يعلم ما تجن صدورهم
ومن ملحه قوله وقد نقلته بخط يده :
أقول لوجه كان كالبدر مدة ... تغير لما جاءه الشعر زائرا
سلام على وجه طوى الشعر ذكره ... وقد كان حيناً مثل شعري سائرا
وقوله أيضاً :
يا من تعرض بالخنا متوهماً ... جهلي به مهلاً فإنك جاهل
كم مرة أغضيت منك على قذى ... لولا النهى لرأيت ما أنا فاعل
الحسين بن المظفر النيسابوري
مدح الصاحب نظام الملك وهو بخوارزم بقوله :
الآن صح من الزمان ضمان ... وأتى من القدر المخوف أمان
قالوا : خوارزم انوى إقبالها ... وأصابها الإدبار والخذلان
كذبوا وحق الله فهو بدولة ال ... ملك المظفر للسعود قران
جذب الملوك من النواصي نحوها ... ملك الورى تاج العلا السلطان (1/173)
خفق اللواء بها النظامي الذي ... منه لأحشاء العدا خفقان
فتأرجت ريح السعادة سجسجاً ... وأقام فيها الروح والريحان
راعى رضاء خليفة الرحمن ما ... أوصاه فينا ربنا الرحمن
ولذاك ما أصفاه بالرتب العلا ... شاهانشاه فجل منه الشان
ملك رأى بوزيره أضعاف ما ... ببزر جمهر رأى أنوشروان
أمن الورى أن يسفل الإيمان مذ ... بأبي علي أعلي الإيمان
وحوت يد الحسن المحاسن فاغتدى ... وخليفه وأليفه الإحسان
ما أثبتت للمكرمات صحيفة ... إلا وفيها ذكره عنوان
شرف على السماء محله ... فله على سمك السماك مكان
وجلالة لو أن كسرى حازها ... لم ينكسر كسرى ولا الإيوان
تتحير الأذهان من عجب إذا ... فتقت بسحر بيانه الآذان
ما المجد إلا كعبة مبنية ... أخلاق مولانا لها أركان
قلت : قد فرغت من نيسابور ومن فيها وطرت في أقطارها بقوادم الرغبة وخوافيها . وأخذت الآن بعيون الله في نواحيها لتعلم أن ليس لنواحي خراسان طين مسحيها
القاضي أبو بكر البستي
كتب إلى الشيخ أبي منصور الثعالبي في علة عرضت له أبياتاً منها هذا :
صديقك عادة الأوصاب حتى ... كأن مجاجه علق وصاب
ترى الأحجار والخرزات شتى ... عليه كأنه رجل مصاب
فأجابه :
كلام الله كله فصل صواب ... ونفسك كلها مجد لباب
وسقمك سقم أرواح المعالي ... وصحتك السعادة والشباب
بقلبي ما بجسمك من سقام ... لي استغراقه ولك الثواب
أبو الحسين علي بن العلاء البستي الفقيه
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي الزوزني قال : أنشدني الفقيه أبو القاسم العالمي الكرماني قال : أنشدني أبو العلاء هذا لنفسه :
ودعني من كان أنسي به ... فطارت الروح عقيب الفراق
وحملت نفسي ما لم تطق ... فاعتقدت تكليف ما لا يطاق
العميد أبو سهل الحسين بن علي الجنيدي
ولي صحابة ديوان الرسائل بغزنة على عهد الأمير أبي شجاع فرخ زاد ابن مسعود . فأجراها أحسن مجاريها وقل في القوس أعطيت يد باريها . وما زال في عيش ناعم أغن حتى أنبض إليه الدهر وتر نبعه فأرن وأزل من العرعرة إلى الحضيض وطأطأ بعد الطوح أشفار الجفن الغضيض . وأوهن رجله ثقل الأداهم وأدرد سنه عض الأباهم وغيب بعد مرمياً بقاصمة الظهر . ولم يدر ما فعلت به حوادث الدهر . وكان رحمة الله عليه يحب الفضل حباً جماً ويأكل ماله الأفاضل أكلاً لماً . وقلما تواضع لصياغة النظم . فمما أهدى إلي الشيخ أبو الفضل الخيري النيسابوري من شعره أبيات ضم بها كتاباً له إلى العميد أبي بكر محمد بن بندار وهي :
قل لمن طاول الكرام فطالا ... وشآهم تكرماً وكمالا
فغدا أشرف البرية أصلاً ... وأعز الرجال نفساً وآلا
وأتم الأنام جواداً وإقدا ... ما وأوفاهم جداً ونوالا
بطل يسبق الكمي نزولاً ... حيث ما تكره الكماة نزالا
ومنها :
لا تعف خدمة المليك على البعد ... فتلك التي تزيد الجلالا
يكمل البدر حين ينأى عن الشمس ... ويدنو منها فيسمي هلالا
وكذا الدار ضائع الحسن في البح ... ر فإن بان راق جمالا
ومياه البحار ملح فلما ... حملتها السحاب عدن زلالا
هل مع القوس نال سهم رمياً ... فإذا ما رمت به القوس نالا
لا يطول الفسيل وهو نجيب الأصل لكن إذا تحول طالا
إن تقع نقطة على الطرس من خطك غدت في وجنة الفضل خالا
وله من أخرى أيضاً :
فما من علاً إليه مآبها ... وما من فتى إلا إليه مآبه
ولا دأب إلا إليه نفاقه ... ولا كرم إلا إليه انتسابه
له قلم حكم الورى في لعابه ... يميت ويحيي جده ولعابه (1/174)
فلا تأمنن الدهر طيب لعابه ... إليك فسم الأفعوان لعابه
وخف نقطة منه تحاكي ونيمة الذ ... ذباب فحد المشرفي ذبابه
وللأمر تدبير يراعي نظامه ... فمن رأيه إبرامه وصوابه
إذا كان يوم الفخر فهو لسانه ... وإن حان يوم الفضل فهو كتابه
وإن كان يوم الجود فهو غمامه ... وإن آن وقت البأس فهو شهابه
أبو محمد الدوغا بازي
ودوغاباز قرية من ناحية بست . من كتاب الحضرة الغزنوية متقارب الطرفين متباعد الذكر بين الخافقين . رأيته بنيسابور سنة سبع وعشرين في الجامع فروى لي من أشعاره ما ينشر وشي الصين في المجامع ويأخذ بالجوامع . وأنشدني لنفسه قوله في أبي نصر بن مشكان وهو في غاية الإحسان :
تنقل مولانا... . يجلني ... وذلك لي فضل مدى الدهر خالد
هو الشمس إشراقاً ونوراً وإنما ... تعود منها الاحتراق عطارد
قلت : واحربا على شمل الفضل كم يفترق !
ولله نجم عطارد كم يحترق !
ولأبي محمد هذا أخ فاضل وهو الآن في الأحياء مذكور في القبائل والأحياء وقد سار مسير الحضر كلامه حتى نسب إلى الخضر وقيل غلامه . وليس يحضرني من شعره ما هو شرط كتابي هذا فأما ابن عمهما عبد الحميد بن إبراهيم فقد أنشدني له أخوة عبد الملك في الصاحب نظام الملك رحمهم الله :
يا من غدت أخلاقه مثل اسمه ... إني لروض علاك نعم البلبل
صادفت بابك إذ قصدتك جنة ... للزائرين تقول : طبتم فادخلوا
فإذا غضبت فأنت ليث مبسل ... وإذا رضيت فأنت غيث مسبل
حرم يقول لزائريه منشداً ... عرج بذي سلم فثم المنزل
الشيخ أبو القاسم منصور بن طاهر الزورابذي
من بيت الرئاسة الوروثة كابراً عن كابر المسندة من غابر إلى غابر . جامع بين الفقه والأدب ناظم بين طرفي الحسب والنسب . وكان من حقه أن ينتظم في سلك أعيان ناحيته والأمراء المنسوبين إلى خطته كأبي محمد عبد الله بن إسماعيل وأبي نصر أحمد بن علي وابنه أبي الفضل وأبي إبراهيم الميكاليين وعميد الملك أبي نصر ورثه الله أعمارهم وأطلع في جنات الخلد شموسهم وأقمارهم . غير أني وهبت جماله لجلته لترفل جلته في حلته . وله شعر بارع لم يقرع سمع فاضل إلا جثا بين يديه على ركبتيه تضاؤلا لرتبته كقوله فيما كتب به إلي وأنا بنيسابور وذلك للنصف من شعبان سنة إحدى وستين وأربعمائة :
أعلي جزت مدى الجواري الكنس ... وفرعت ذروة كل عز أقعس
قد رضت ريض كل فضل جامح ... وألنت أخدع كل مجد أشوس
وقد افترعت من العلا أبكارها ... لما خطبت عوانساً لم تمسس
أحييت ميتاً للقوافي ملحداً ... ونفضت عن فوديه رمس المرامس
هذا الكتاب وفي سواد مداده ... مني سواد القلب خير معرس
فيه القريض وما سواه باطل ... أين الزعاق من الرحيق الأسلس
لما فضضت ختمه عن روضة ... رقت أعالي نبتها المتورس
أعدى النسيم وقد ترنح جوه ... فيها اعتلال من عيون النرجس
أهدى إلي عرائساً مياسة ... قد توجهت قاماتهن بأشمس
وصوصن أنقبة فقلت : أهلة ... طلعت بحلي في التريب موسوس
نطقت مناطقها وقد خرست خلاخلها فقل في ناطق أو أخرس
لله درك من أديب مفلق ... لم يرض أخمصه انتعال الخنس
لا زال يصعد جده في رفعة ... لا زال يعطس عن أشم المعطس
فأجبت عنها بقولي :
لبيك يا مولاي نفثه ممحض ... لهواك مرتاح به مستأنس
حسيتني من دن طبعك مسكراً ... تهفو روائحه بلب المحتسي
وظلمت حين سقيتني في النصف من ... شعبان صرف الراح ملء الأكؤس
لو عن محتسب لكلل بالعصا ... رأسي ورأسي كالثغام المخلس
لبيك ثانية وثالثة فقد ... أحسنت بي وكفيتني الدهر المسي (1/175)
وشدخت في استبهام حالي غرة ... كالصبح هز لواؤه في الحندس
وأزرتني كلماً وساعاً خطوها ... في الفضل فلتقطف قوافي سنبس
إشارة إلى بيت الحماسة قولا لسنبس فلتقطف قوافيها :
وأفدتني ثمر المنى من باسق ... ريان سبط الظل جعد المغرس
وإذا ركبت فتلك زانة موكبي ... وإذا نزلت فتلك زينة مجلسي
حلل كما نشرت تحيات الحيا ... خلع الربيع على الفضاء الأملس
أهدى الثناء لها كما أثنى على ... سبل العهاد نسيم روض مكتس
ولقد تمنيت الجواب فقيل : مه ... إن التمني رأس مال المفلس
وإذا دنانير امرئ رقصت على ... أظفاره خجلت فلوس المفلس
وكتب إلي الأديب يعقوب بن أحمد :
هجران يعقوب وساع الخطا ... وهو قطوف الوصل مهما خطا
يشب في شوط المنى سوطه ... على جواد الهجر مهما امتطى
يمتد لو خلي ميدانه ... وهل يخاى لينام القطا
فأجابه :
عتاب منصور إذا ما خطا ... جواده فيه وساع الخطا
أظنني أهجر أمثاله ... كلا فبعض الظن عين الخطا
أموقظ يقظان في وده ... حاشاه من نوم كنوم القطا
أبو علي الحسن بن علي البستي الفقيه
محارف نابي الحظ شاك قسوة الزمان الفظ وقد كان أبوه بين أصحاب الحديث من الأئمة ومتى يرم رثاثة حاله افتخاره بتلك الرمة وله طبع وإن لم يكن وراءه ريع . فمما رأيته يلوك من هوساته قوله :
أنيسي نرجس أسلى همومي ... وذاك لسيدي شبهان فيه
فشبه لحاظه أحداق إلفي ... وطيب نسيمه من راح فيه
طبقة بهيق
وهذه طبقات بيهق وقد حان لي أن أعبى ذلك الفليق . فإن تلك الناحية من أمهات النواحي وسأرمي بإماظات فرائدها إلى الأفواه السواحي
أبو المظفر عبد الجبار بن الحسين الجمحي
نزل بنا اجتياز الأمير مسعود بن محمود أنار الله برهانه بناحيتنا . وهو على البريد بخراسان وقد أجرته كفايته تلك الأرسان فانعقدت المودة بينه وبين والدي رحمه الله . وكنت في ريعان الصبا أنغم بالشعر مخافتاً به غير مجاهر وأنطوي منه على باطن يبشر بظاهر . ومدحه والدي بقصيدة رويتها بين يديه تقرباً بها إليه فاهتز للراوي والمادح اهتزاز الغصن الرطب تحت البارح . وأثنى علي بما شحذ على الأدب حرصي وأوسع فيه رغبتي . وطلع القصيدة قوله :
أبا المظفر عبد الجبار يا ابن الحسين
يا أفضل الناس طراً ... بلا خلاف ومين
بلاغة لك تجلو القلوب عن كل زين
وحسن خط يزين القرطاس أحسن زين
نظم كنظم اللآلي ... نثر كنثر اللجين
قد كان بيني وبين ال ... زمان حرب حنين
فالآن أوقعت صلحاً ... بين الزمان وبيني
وهي طويلة غير أني اقتصرت من وابلها على الطل واكتفيت من أكثرها بالأقل . ولأبي المظفر هذا أهاج عربية وفارسية هتك بها عرض صاحب الديوان سوري بن المعتز ونسبه فيها إلى اللؤم ورسمه بها على الخرطوم . فمنها قوله :
كأن الله من سخط عليهم ... يقول لأهل نيسابور بوري
فقحط والجدوبة والبلايا ... وكل هين في جنب سوري
وأنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني الجمحي لنفسه :
عبق بكفي من خيال طارق ... عند الكرى متصافح متعانق
فأبيت أضحك من وصال كاذب ... وأظل أبكي من فراق صادق
إني أصافحه بكفي صائن ... لكن ألاحظه بعيني فاسق
ما للهموم ألفن كل متيم ... أعشقن مهجة كل صب عاشق
قال : وأنشدني لنفسه في أبي العباس المشطبي :
وجه أبي العباس ما أصلده ... نعم ويوم البعث ما أسوده !
!
يخيب من يرجوه في يومه ... ثم مع الخيبة يخشى غده
قل لمليك الشرق هذا الذي ... يكتب في الديوان ما أبرده !
!
إن شئت أن تبسط بين الورى ... عدل أنوشروان فاقبض يده
أخوه
أبو القاسم مختار بن الحسين الجمحي (1/176)
هملاج في ميادين الفضل وإن كان برجله عرج فحدث عنه وما عليك حرج . وأنا وإن لم أره فقد سمعت خبره . وأنشدني له السيد أبو الحسن الظفري
أيا سيداً قد نال في المجد والعلا ... ذرا شامخات لن ينال بعيدها
له في سماء المكرمات مآثر ... يفاوق فوق الفرقدين قعيدها
أعز ابن أنثى في البحار إذا اعترى ... وحيد الورى في مجدها وفريدها
إذا وطئت أقدامه الأرض أو مشى ... عليها ربت واهتز منها صعيدها
الحاكم علي بن إبراهيم الزيادي النيسابوري
أنشدني له السيد الظفري أبو الحسن رحمه الله :
ألمت بعيد الأربعين مفاصلي ... وعدا يعاديني الطباع الأربع
عجل المشيب إلي قبل أوانه ... إن المشيب إلى المعنى أسرع
وعندي أن أول من اشتكى الأربعين أبو عبادة البحتري حيث يقول :
ومن يطلع شرف الأربعين ... يحيي من الشيب زوراً غريبا
وجرى بين يدي والدي رحمه الله ذكر الأربعين فقيل : ذلك بلوغ الأشد فقال : بل بلوغ الأشد . وأنشد لنفسه أيضاً :
ودعاني فقد بلغت الأشدا ... ودعاني والرحل حتى أشدا
ما يرجي من أرذل العمر شيخ ... من بلوغ الأشد يلقى الأشدا
أبو العباس أحمد بن علي بن مخلد البيادي
أنشدني الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي بن مسلم الخواري . قال : أنشدني أبو العباس لنفسه من قصيدة غير قصيرة :
لعبت به نجل المحاجز ... لعب الخناجر بالخناجر
بأبي روافل في سويداء القلوب وفي النواظر
هن البدور ولا محا ... ق لهن إلا في الخواصر
أخذه من الحاكم أبي حفص عمر بن علي المطوعي حيث يقول من مقطعة :
قضيب ولكن مبسم الثغر نوره ... وبدر ولكن المحاق بخصره
وحدثني الأديب أبو العباس محمد بن علي الباذغوسي قال : كتب إلي أبو العباس هذا بيتين يستزيرني فيهما وهما :
داري إلى وجهك الميمون تائقة ... فليطف حر لظاها برد إتيانك
حتى أقول لداري حين تدخلها ... هنيت يا جنتي إقبال رضوانك
قلت : البرد وإن كان مقتضاه في مجاري كلام العرب الراحة فإن السابق منه إلى الأوهام قريب من الذم بعيد من رعي الذمام . وما أدق أسلاك الكلام وأغمض سالك الألسنة والأقلام
الشيخ أبو علي أحمد بن أحمد
البازوي الخواري
له خاطر عاطر وطبع غير طبع . أنشدوني له بيتين في شيخ الدولة أبي الحسن علي بن محمد بن عيسى البركندري رحمه الله . وقد احتقن الدواء في أنامله وهي مفاتيح السماح فاستحجر بعقد ككعوب الرماح وهما :
يلوم الناس بالبخل ابن عيسى ... وفيه لهم لو اعتبروا صفات
أنامله بخيط البخل شدت ... وكيف تجود وهي معقدات
وأهدى إلي نبذاً من شعره كتبه لي بخطه وحمله إلي وأنا نبيسابور . فذقت منه الأري المشور وكسوت كتابي به الوشي المنشور وهو :
من لي بعينك يا سعاد سقيمة ... يوم العقيق ودمع عيني سائح
يجري على خديك غير مدافع ... وشؤون عينك بالدماء سوافح
يقضي به حق الهوى ويد النوى ... تمري فتلك سوافح وسوامح
ولثمت فاك وقد منحت ثغوره ... صفو الوداد وصفو ودي صالح
وأعرت قلبي ما بطرفك بعده ... سقماً يدوم وسقم طرفك جارح
فسقام طرفك في فؤادي بين ... وصفاء ودي في ثغورك واضح
ليت الزمان يعيد يوماً مثله ... إن الزمان به حرون جامح
وله من قصيدة في فتح أتى من بلاد الروم :
فكم عاتق للورد في وجناتها ... وذبول ودمع الحزن ينهل ساكبه
تريق على القتلى البطاريق عبرة ... دماً شيب بالمسك الذي هو خاضبه
مضرجة من فوق ورد كأنها ... حبت حقباً من لونه ما يناسبه
يراودها الغازي فيصفر وجهها ... ويلطمها طوراً فيحمر شاحبه
وفي قلب ملك الروم ما لو رمى به ... مناكب ليل أسلمته كواكبه (1/177)
رأى بارقاً م جانب الري ظنه ... حسامك مسلولاً فظل يراقبه
ولما ير المسكين رأيك إنه ... سيخطفه والليل مرخى ذوائبه
تركت ديار الكفر يمطر فوقها ... سحاب دم يستنبت الموت شاخبه
ولا يكتم الليل المسر لبغضه ... وإن فاته نمت عليه مذاهبه
الشيخ الحسين البيهقي الأديب
شيخ عزيز الفضل عزيز النفس . ورأيته في دار عميد الحضرة يؤدب ولده الرئيس أبا الفتح مسعوداً ويستطلع من أفلاك نجابته سعوداً . وحدثني الأديب أبو القاسم مهدي بن أحمد الخوافي قال : دخلت عليهما فأملى الأديب الحسين على تلميذه الرئيس مسعود بيتين في الثناء علي : وهما :
بمهدي بن أحمد تم أنسي ... وكنت إليه كاللهج الحريص
ولما زرته شاهدت منه ال ... خليل مع المبرد في قميص
قال الأديب أبو القاسم الخوافي : فعرضت الدرج المحلى بالبيتين الموشى بالخط الذي يزيد في نور العين على والده عميد الحضرة وقلت : إن البيتين لولدك والخط خط من هو فلذة من كبدك . فسر بذلك سروراً برقت له أساريره وخرجت من عنده وقد حظيت منه بما شئت
أبو القاسم حمزة بن علي
بن الحسن البرزهي
من بهق . أنشدني له السيد أبو الحسن الظفري :
لنا صديق تاه في ريبه ... منغمس والله في عيبه
إن لم يجد من يفتري عنده ... يفتر للذيل على جيبه
الأديب أبو جعفر القاسم بن أحمد
بن علي السابزواري
حدثني الأستاذ يعقوب بن أحمد رحمه الله قال : كان هذا الأديب جميل العشرة غزير المحفوظ مستوفياً من أصول الأدب وفروعه أتم الحظوظ . تختلف إليه أبناء المياسير فتقر به عيونها ويجلو بمدوس تأديبه صدأهم حتى كأنهم صفائح بصرى أخلصتها قيونها قال : وكتب إلي :
قولا ليعقوب شمس الفضل والكرم ... ومنبع المجد والآداب والحكم
ما لي كتبت إلى مأنوس مجلسه ... فلم يجبني بما يجلو صدى غممي
ما ضره لو سما بي رقم أنمله ... أو أنه وشم الحساد بالرغم
أنبوة عن جلالي بعد ما ظهرت ... له خلالي ودلته على شيمي
ألم تكن نسبة الآداب تجمعنا ... والفضل يوجب رعي العهد والذمم
أصبحت والبين يذويني ويكلمني ... فداو كلمي فدتك النفس بالكلم
ولو أجاب عن المكتوب محتسباً ... لانجاب عني ظلام الريب والتهم
يا حبذا معشر أضحوا وقد جمعوا ... بنور وجهك بين الروض والديم
هم بقربك في روح وفي دعة ... يا ليتنا معهم أو ليتنا بهم
وقد فزعت إليك اليوم معتصماً ... بحبل فضلك يا كهفي ومعتصمي
بليت بالحرفة المموق صاحبها ... شوهاء طلعته كالغول في الظلم
إذا نسبت إليها ذبت من خجل ... كأنني سارق الحجاج في الحرم
وهذه نفثة المصدور أرسلها ... إليك صاحبها فاعذر ولا تلم
لا زلت في عزة قعساء راسية ... قد زينت بطراز الفضل والنعم
قال فأجبت عنها بقولي :
الروض روض الربا فاحت روائحه ... وقد سقاها أصيلاً واكف الديم
أم ذات دل شموس كاعب فنق ... حسانة البرد والبردي والعنم
لا بل قواف أتتني جد رائعة ... تحوي عتاباً كحد الصارم الخذم
كيمنة حبرتها كف مبدعة ... سحارة الرقم بالكفين لا القلم
يا همة حازت الجوزاء عاليةً ... من قاسم خير من يمشي على قدم
أيستجيز امرؤ إغفال واجبكم ... كلا فلذلك ورد عافه شيمي
ما كنت مذ كنت بالتقصير متسماً ... وعن حقوق صديقي قط لم أنم
أما الشكاة التي فصلت جملتها ... من حكم دهر غشوم جار في القسم
وحرفة قرنت بالحرف واضعة ... عوارها غير مستور ومنكتم
فلا وربك ما أخطأت موضعها ... من المذمة لكن زدت في غممي (1/178)
أنا الشريك فطب نفساً بما رزقت ... تطب حياتك واذكر سالف الأمم
قلت : وأنا أستطرد من هذه الأبيات إلى ذكر مؤدب لي لم يحمد والدي رحمه الله يده على تلامذته فقال يشكو ما نقم عليه من غفلته ويهجوه على سوء معاملته :
ألا قل للمؤدب حين يخلو ... عرتني من تغافلك السآمة
فإن لم تدر للتخريج نهجاً ... ألم تدر الخروج على السلامة
وكتب الأديب أبو جعفر إلى الأديب يعقوب أيضاً :
أقول لمن يتوق إلى المعالي ... ويتعب دائماً فيها ويجهد
تؤمل أن تفوز بكل فضل ... كأنك صرت يعقوب بن أحمد
كريم طاب عنصره فأضحت ... أحاديث العلاء إليه تسند
وبي ظمأ إلى لقياه برح ... فهل لي أن أفوز به وأسعد
وقد أحببت أن أصف اشتياقي ... بنظم رائق حسن مسدد
فلج الطبع وانسد المعاني ... لما في الصدر من غصص تردد
عذيري من زمان ليس يجدي ... على حر بعيش غير أنكد
وله :
قد كنت أحسب أن هجوك منكر ... وجفاء مثلك في الكرام عقوق
حتى بلوت ذميم فعلك مرة ... فعلمت أنك بالهجاء خليق
أبو الفضل البديل البيهقي
مدح شرف السادة بقصيدة منها :
سبط الذي شرع الشرائع للورى ... وأقام للدين القويم منارا
شبل النبي محمد وسليله ... لولاه لانقلب الأنام حيارى
فهو الكريم إذا اعتفاه سائل ... أجرت يداه على البلاد نضارا
وهو الهمام إذا تبسم ضاحكاً ... عاد الظلام المدلهم نهارا
السيد العالم أبو الحسن محمد
بن علي السويري الظفري
كريم طرفاه تنوس على العلم والشرف ذؤابتاه . جمعني وإياه مجلس الأجل العالم شرف السادة رحمه الله فعانيت شخص الفضل وصورة الظرف وحصلت لي بمشاهدته قوة الطرف . فمما اجتنبت من ثمرات خواطره قوله :
لا تأمن النفثة من شاعر ... ما دام حياً عاقلاً ناطقا
فإن من يمدحكم كاذباً ... يحسن أن يهجوكم صادقا
وقوله في الافتخار وحق له :
لا خير إلا في قريش أولها ... أو معها أو يعتزي إليها
وخيرهم جدي خير من مشى ... فوق البسيط أو سعى عليها
نحن البدور إن تجلت والسهى ... يقصر عن أن يجتلي لديها
أحمد بن محمد بن عميرة الجشمي
أوحد ناحيته وباقعة بقعته لطيف نفث السحر خفيف روح الشعر . أنشدني له السيد أبو السويري الظفري أبياتاً عملها في ذم الوزير أبي القاسم الجويني :
بخل الوزير بزيته وبخله ... فهو البخيل بخله وبزيته
من لا يجود بمائة في نهره ... أنى يجود بخبزه من بيته
يا لعنة الرحمن جل جلاله ... حلي به وبحيه وبميته
ورأيت في ديوان العميد القهستاني كتاباً من إنشاء أحمد بن محمد بن عميرة هذا إليه مختوماً بقصيدة دالية . وقد كتب العميد أبو بكر تحت كل فصل منه فصلاً وتحت كل بيت بيتاً . ومن أبياته فيها قوله :
يا أحمد بن محمد بن عميرة ال ... جشمي ما جشمتني اسناده
الحسين بن أحمد بن الحسين الداريج
من ثناء بيهق ودهاقينها ومن شماماتها ورياحينها . وهو على الحقيقة طراز كمها وغرة جبينها . ينطق بلساني العرب والعجم وتتطاير عن قلمه النوادر كما تطاير عن مرضاخه العجم . وله من الرباعيات الفارسية الغزلية ما ينتقل به على المشروب وتستمال أهواء القلوب . أنشدني له بعض أهل ناحيته :
لحاكم الديوند دهقانكم ... خفة برغوث وطيش للفراش
ما لعلي فيه من نسبة ... تؤويه إلا أنه للفراش
يناطح الأير بوجعائه ... إذا رأى المختط صعب الهراش
والأير إذ يخرج من دبره ... كأنه آكل قرع بماش
الشيخ محمد بن سعيد بن أبي عبد الله (1/179)
زعيم بيهق . شاب غض الآداب طري الشباب يهب على رياض الفضل هبوب النسيم وتعرف في وجهه نضرة النعيم . وله شعر كنور الآقاح كاد ولم يتفتح أو كنوز الإصباح وهم ولم يتفتق . وللدهر فيه مواعيد سينجزها الجد الصاعد والقدر المساعد . أنشدني بعض حواشيه :
يا أيها السيد الإمام ... ومن به للعلا قوام
ومن يفل العدى وحيداً ... كأنه عسكر لهام
وله :
سادات هذا الزمان طراً ... جميع ما قد حويت راموا
أدركته قاعداً ولكن ... لم يدركوا عشره وقاموا
أبو محمد الحسين بن أحمد الزيادي
قال في الشيخ أبي علي بن محمد بن عميرة الجشمي :
إن الدراية والنباهة خاتم ... حقاً أقول ولست فيه بزاعم
وأبو علي أحمد بن محمد ب ... ن عميرة الجشمي فص الخاتم
فأجابه :
قد قلت عن علم فعوا ما قلت إذ ... ليس المقلد في الورى كالعالم
إن الزيادي الحسين أبا محم ... مد بن أحمد شمس هذا العالم
قلت : هذا ما وجدته من أشعار فضلاء بيهق وفيها للعين مقنع ولليد مصنع وكلهم فضلاء يهتدي بمصابيح علوم الأجلاء ويعتد بحسن رسومهم الأجلاء وتتحلى بعقود نظمهم الأخلاء
وهذا فصل مسجع وسجع مربع ولو كان مخمساً أو مسدساً وهلم جرتا . إلى أن يصير عقداً وينتظم على جيد مناقبهم عقداً يكاد يتميز عليه سمط الثريا غيظاً وحقداً لكانوا لذلك أهلاً . ولم أحذر أن يقال : جهل فلان أقدارهم جهلاً
طبقة أسفراين
وهذه طبقة أسفراين وقد سقت إلى بحارهم السفائن فعاين من محاسنها ما شئت أن تعاين تجدها أملاء الأفكار والسرائر طلاع الأبصار والطلائع إن شاء الله عز و جل وحده
يعقوب بن سلمان الأسفراييني
شاعر مفلق طال بالشام مقامه وأنجبت بها أيامه وانطبع بطباعهم كلامه . قرأت له في كتاب قلائد الشرف من تأليف الشيخ أبي عامر الجرجاني قصيدة نظامية استحسنتها والتقطت بعض دررها مطلعها :
ألمّ بنا وهناً فقال : سلام ... خيال لسلمى والرفاق نيام
ألم وفي أجفان عيني وصارمي ... غراران ؛ نوم غالب وحسام
أجيراننا بالخيف سقاكم الحيا ... مراضع درما لهن فطام
ظعنتم فسلمتم إلى الوجد مهجتي ... كأن قلوب الظاعنين سلام
ومن أخرى :
لئن فارقت تلك الطلول شموسها ... فقد واصل القلب العليل أوامها
فهل لي إلى ليلى بيبرين موعد ... فتقضى لأسباب العهود ذمامها
سواء عليها أن تشحط باكياً ... بدمع له أو في دم مستهامها
ومنها :
ويهماء يستاف التراب دليلها ... يجاوب في غيطانها البوم هامها
تسديتها والليل في ريطة الدجى ... بهوجاء لا يثني الخطام ارتسامها
وشعث لفضلات الجرير رواكع ... تقطع بعد البين منها جذامها
مرقن من الزوراء في سورة الدجى ... كما انصاع من بيض القسي سهامها
ومن أخرى :
يا صاح عرج بالمطي ولا تقل ... أعزز علي بفرقة القرناء
فالأرض قد زينت بكل بديعة ... وتبرجت في حلة خضراء
والجو حل سباق كل دجنة ... فسرت إليك بديمة وطفاء
والشمس في حبك السماء كأنها ... مرآة تبر في قرارة ماء
والسحب تسمح بالقطار كأنها ... تحكي نظام الملك في الإعطاء
أبو نصر القائد المهلبي
خدم الأمير قرواش بن محمد مدة مديدة يتزود مع البوادي مكن الضباب ويلزم خيامهم لزوم الأطناب . ولهذا خوطب بخطاب الأعراب وكان فصيح اللهجة هدار الشقشة طنان النغمة . يلوك العربية بلحن شديد وينطلق منها بلسن سديد . أنشدني لنفسه ونحن بأسفراين يهجو بعض المحتشمين :
إن المقابح والفضائح كلها ... مستجمعات في ابن عبد الله
كلب تصدر للوزارة وهو عن ... أم العزيز وخالتيه ساهي
أضحت أمور الملك واهية به ... وكذاك إن بقيت عليه كما هي
وله يشكو الزمان وأبناءه : (1/180)
لله در عصابة نادمتهم ... كانوا عصارة هذه الأعصار
فبليت بعدهم بكل مؤاجر ... ما بين قصار إلى عصار
يعني بالقصار عمرك الرباطي المستوزر في أيام ركن الدين طغرل بك وبالعصار أبا محمد الدهستاني الذي ملأ الأرض جوراً بخراسان مرة وبالعراق طوراً
السلار أبو المعالي محمد بن علي
العقيلي الكاتب
الذي تتقصد لأنبوب قلمه أنابيب الرماح ويتلثم لغرب لسانه غروب الصفاح . فقد قرأت له كتاباً أنشأه في الفتوح التي سهلها الله تعالى للراية الطغرلية بالعراق ؛ ديار بكر وربيعة ومضر من لدن شعبان سنة سبع وأربعين وأربعمائة إلى أواخر سنة تسع وأربعين فمن فصوله قوله : " فلما تبسم ثغر الصباح وتجلى السحر في غرر منه وأوضاح ؛ أمرنا بعض الغلمان الدارية بالعبور فعبروا دجلة وهي طاغية العباب مصندلة الماء مفضضة الحباب . ورسمناه للرماة رشق من يرفع من السور رأسه وللرجالة أن ينقبوا أساسه وشرف المدينة بالأسنة والنصول متبلجة وفي جنن الحديد متبرجة . والسهام تقع فتطير حيث لا يتوقع من سويداء قلب وسواد عين وثغر نحر ومحل فكر "
فصل : " ووقع الفراغ من عقد الجسر في مدة قصيرة وأيام يسيرة . وعبر عليه الرجل والخيل وحل بالأعداء الثبور والويل وقامت الحرب مع المخاذيل على ساق واستتب أسباب الظفر أحسن اتساق . والسهام تقع عليهم وقوع المطر من الغيم والزانات تنساب إليهم في الهواء أنسياب الأيم . والجارة تجرحوتكسر والمنايا في وجوههم تكلح وتكشر والرجالة ينقبون والزراقة يحرقون والطير فوق رؤوسهم تنتظر هلاك نفوسهم ودماؤهم تغلي في أوداجهم وأرواحهم تتبرأ من أجسادهم وألسنتهم تتكلف نشاطاً ليس له من القلوب مادة وأعينهم خائرة من قتال ليس لهم بمثله عادة . وهم في أثناء ذلك يهولون على الأولياء باجتماع أمداد للعرب لا يحاط بهم بحد وحزر ولا يعبر عن جموعها بعد وحصر ولم يعلموا أن الطود لا يزعزع بالرياح والسيل لا يمنع بالصياح والأسد لا تفزع بالنباح . والرجالة ينقبون ويرقبون والرماة يرمون فيصمون ويتعلقون بفضلات أحجار السور فيتسلقون . ووقعت فردة في قتل زعيم الحفظة فانتقل إلى النار ووقع القتل منهم في الصغار والكبار . " فصل : " وكان ظنهم أن نستعمل فيهم من سوء الملكة ولؤم القدرة ما استعمل أصحابهم بسنجار فيبلسون بجرائرهم ويقتلون عن آخرهم . وكانوا عندنا أذل من أن يدرك بهم ثار ويكون للسيف فيهم آثار وأمرنا بتخليتهم وإعتاقهم ونزهنا السيوف عن تدنيسها بأعناقها "
فصل : " وإنما اختاروا هذه المواضع لحاجز بيننا وبينهم من مفازة لا يظفر فيها بماء ولا مضطرب فيها لسائر حر متحير ولفح هواء والزمان قلب الصيف والحر أشد وقعاً من حد السيف . متحصنين بذلك القاع الأجرد معولين على جمر الحديد المتوقد ظانين أن ذلك مما يمنع أوليلءنا من قتالهم وإطلالهم على أطلالهم ولا يعلمون أن عساكرنا سيما التركمان يرتاحون إلى البرد ارتياح الذئاب ويصبرون على الحر والعطش صبر الضباب . ويثبتون للفح السموم ثبات ذوات السموم . لا يمنعهم من مغزاهم حر وبرد ولا يردهم عن منجاهم غور ونجد . قد غذوا بلبان الحروب ونشأوا على الكد والدؤوب . صبيانهم من رجال غيرهم أفرس وشيوخهم من شبان سواهم أحمس . متنزهاتهم شن الغارات على العدو وأنسهم الركض بالآصال والغدو ؛ فهم أمضى في الظلام من الخيال وأسرع إلى العداة من الآجال إلى الآمال . ونحن منتظرون ما يحدث لهم من رأي في التقدم إلينا والقرب منا فنشفي منهم غلة الأسل الظماء ونروي السيوف من هاماتهم بالدماء . فكلما قدمهم التدبير ذراعاً أخرهم الفرار باعاً إلى أن وقع اليأس من إقدامهم . واشتد حنين الصوارم إلى هامهم
قلت : وإنما أوردت له هذه الفصول لأن الغالب على هذا الفاضل الترسل يحطب في حبله ويناضل بنبله . فإذا مال إلى الشعر أسفت درجته وخفت كفته . فمما أنشدني لنفسه ونحن بالعراق قوله :
خط الجمال على لألاء عارضه ... دقيق خط بنقط الخال موسوم
كما يقرمط عنوان بغالية ... على كتاب بطين المسك مختوم
وأنشدني له الشيخ أبو الحسن الطلحي قال : أنشدنيه لنفسه :
هجرت النساء أوان الشباب ... وثبت إليهن والشيب زارا (1/181)
وعنست عنهن نفسي فحين ... خضبت العذار خطبت العذارى
القاضي أبو القاسم هبة الله
بن محمد الرافعي
فاضل بحقه خازن لدر الشعر في حقه . مذكور بين الفضلاء مشهور بين الشعراء حافظ للأشعار البدوية والحضرية جامع كالسفينة النوحية . وليس يحضرني من شعره إلا بيتان كتب بهما إلى الأديب يعقوب يستعيره كتاب " جونة الند " من تصنيفه وهما :
قد ند عني " جونة الند " ... وما لها في الكتب من ند
فجد في إسعاد جدي بها ... فإن نيل الجد بالجد
محمد بن عبد الملك الشالنجي
هو بلدي القاضي أبي القاسم هبة الله . كتب إليه حين ورد الخبر عليه بقدوم عميد الحضرة :
وقالوا تدانى العميد الجديد ... فهلا وقفت لتلقى العميدا
فقلت : كفاني الإله العميد ال ... قديم ويكفي العميد الجديدا
وعلى ذكر العميد فقد كان بناحية باخرز عميد يمدحه والدي رحمة الله عليه . فلا يتقدم إليه بإنعام ومع ذلك يصادره كل عام . فلما شفاه الله من ألمه بأن سقى الأرض من دمه قال فيه :
يقال : عميدكم قد ذاق حتفاً ... فقلت : مصيبة لم تبك طرفا
أيعوزني عميد كل عام ... يصادرني على عشرين ألفا
أبو القاسم بن أبي العباس الأسفرايني
أنشدني الشيخ أبو سعيد الطبسي الحماسي قال : أنشدني أبو القاسم لنفسه في أبيه :
لقد أربى أبو العباس جوداً ... على جود الربيع لمجتديه
ففي إحدى يديه ممات قوم ... وفي أخرى الحياة لمعتفيه
لقد خضعت له الدنيا ودانت ... فهل مرقى سواه فنرتقيه
وأقبل نحوك الإقبال حتى ... غدا بصراً وأنت النور فيه
فنورز ألف نيروز سعيداً ... رفيع الجد في عيش رفيه
الشيخ أبو الحسن محمد بن أبي الحسين
بن طلحة
أوحد خراسان يصرف كيف شاء قلمه واللسان ويحفظ من الأشعار ما لا يحد ويروي من الأخبار ما لا يعد . فهو صدر لا يتسع لمثل محفوظاته صدر . فكأن نحره بما استودع فيه بحر . وله بيت في السيادة قديم ومخ في الرئاسة صميم . وقد طالما جاذبته أهداب الآداب فبلت يداي منه بالمحض اللباب الذي يعشو إلى ضوء ناره أولو الألباب . وكتبت إليه قصيدة موسومة باسمه منسوبة في طرازه معمولة برسمه وهي :
نسيم الصبا زادك الله نفحه ... ورشت عليك يد العمر رشحه
ففي حركاتك للمستهام ... سكون وسقمك للجو صحه
وأنت تؤدي سلام الحبيب ... بلفظ يفهمنا الحب شرحه
وأنت تجر زمام السفين ... فتنقاد في لجة البحر سمحه
ومنك تعلم قدّ القضي ... ب أن يتمايل في كل لمحه
كأن هبوبك وقت الصباح ... على الروض من ريش جبريل مسحه
لذكرتني نشوات الصبا ... بذي الطلح لا عضد الفاس طلحه
ليالي مرعى الهوى مونق ... خصيب يسيم به اللهو سرحه
ومنها في التخلص إلى المديح :
ألا إن لي في ضمان الزما ... ن وعداً سيرزقني الله نجحه
وما ذاك إلا لقاء الذي ... لقيت مناي من الشعر مدحه
أبي الحسن السيد الأريحي ... محمد بن الحسين بن طلحه
والقصيدة طويلة تلتفت إلى الخمسين غير أني اقتصرت منها على هذه الأبيات . فمما أنشدني لنفسه وله :
وذي نخوة قد عاب فضلي لنقصه ... وألقى على مجدي المؤثل بأسه
تجافيت عنه إذ بلوت جفاءه ... وخففت رجلي حين ثقل رأسه
وقوله :
رجوت أبا سهل لدفع ملمة ... فحل رجائي في أذل مكان
وكنت كحاضي الكلب جوزي فعله ... بتمزيق أثواب وعض بنان
وقوله :
إذا لم يجد جون السحاب بقطرة ... فسوف يندي الروض برد ظلاله
كذلك جاه الحر يحيا به الفتى ... وإن لم يفده الوفر من عرض ماله
ومما لم يسبق إلي في الاقتباس من كلام رب الناس قوله :
بنفسي من سمحت له بروحي ... فلم يسمح بطيف من خياله (1/182)
وقد طبع الخيال على مثالي ... كما طبع الجمال على مثاله
ولما أن رأى تدليه عقلي ... وشدة حرقتي ورخاء باله
تبسم ضاحكاً عن برق ثغر ... يكاد الودق يخرج من خلاله
وقوله :
إن كنت ترغب في الخلاص من الأذى ... والكون في صف السلامة فارفق
واطلب لنفسك منزلاً متوسطاً ... بين الخصاصة والغنى واستوثق
فالحر لولا ماله لم يهتضم ... والعود لولا طيبه لم يحرق
وله في خاله الشيخ الإمام الموفق :
قل للإمام أبي محمد الذي ... من نوره غرر المعالي تقبس
جددت للتدريس رسماً دارساً ... لا زلت تدرس والأعادي تدرس
القاضي أبو بكر أحمد بن منصور الشرمقاني
أنشدني الأديب يعقوب قال : أنشدني أبو القاسم هبة الله له فيما كتب إليه :
أترى يذكرني القا ... ضي كما أذكره
أم تراه ناسياً لي ... وكذا أحزره
قال هبة الله : فأجبت عنه بقولي :
حشو قلبي سر شوق ... وأنا استره
إن عندي للإمام الفرد ما أشكره
لست أنساه حياتي ... فمتى أذكره
ساعة ما غبت عنه ... فمتى أحضره
هكذا قال وهو أبو العباس وأخوه أبو سعيد محمد الشرمقاني
الدهخدا أبو سعد الفضل بن سعد
بن محمد الأشقاني
شاب كثر الله فضائله وجمع أسباب السعادات له . ربي في حجر الرئاسة وغذي بدر الفضل وحمل على كاهل المجد . وله أدب غض ولشعره من الملاحة حظ . وأبوه الدهخدا أبو الوفا زفت إليه عرائس الكرم بالبنين والرفاء . وهذا الفاضل متحل بخلاله ومتزين بخصاله وحق على ابن الصقر أن يشبه الصقر . أنشدني لنفسه من خدمة نظامية :
أشاقيك ظيان الشفير ورنده ... وكيف وقد حل الحمى من توده
خوى منهم سفح المحجر فاللوى ... وغص بهم غور العراق ونجده
ومنها :
فلما أذيلت للجناب ذيوله ... وليل موج لا يرى الجزر مده
يراقبنا جرس الحلي وقرعه ... ويغري بنا نشر الكباء ووقده
ومنها :
وفتية حرب لا يرام حماهم ... يظلهم طول الوشيج وقصده
تراضع در الموت قبل فطامها ... ويشغلها عن هازل الطعن جده
فما برقت في عارض الموت ضربة ... تأجج إلا وهي في الضيق رعده
وله من أخرى :
يجل قدرك عن سعيي وذات يدي ... أدعو لك الله بالنعمى إلى الأبد
شمس الكفاة نظام الملك قول فتى ... لسانه عن طريق النصح لم يحد
إن الوزارة كانت في الألى سلفوا ... أمّاً تعيش وتبقى جمة الولد
لكن بمثلك في بدو وفي حضر ... مذ سارت الدهر لم تحبل ولم تلد
يا من يقصر في تاريخ سيرته ... دع الهوى عنك واقلع ناظر الجسد
وارم التواريخ من عرب ومن عجم ... واكتب عليهن : ما بالربع من أحد
قلت : قد فرغت من أسفرائين واستفرغت طبقتها وجئت جوين فنشرت ورقتها وكان من حقها أن يكون صدر موكبها الإمام أبو محمد عبد الله بن يوسف . فإنه الشمس الذي يضيء به الزمن البهيم والبحر الذي يرتوي به العطاش الهيم . غير أني جملت بذكره الكورة وسوغتها فضائله المذكورة ومحاسنه المشهورة . وادخرت لها الوزير أبا القاسم علي بن عبد الله وأسندت إليه من شعره ما دلتني الرواة عليه . والله عز و جل أعلم
الوزير أبو القاسم علي بن عبد الله (1/183)
وزر للسلطان طغرل بك أنار الله برهانه مدة ثم لذ بفيه طعم العافية واحلولى ورأى الوقوف في صف السلامة أولى ونفض من الوزارة ذيله كل النفض ومال عن كدها ونصبها إلى الدعة والخفض . وقال فيها بمذهب الاعتزال والرفض بحيث ارتضاه انتقاده لا من حيث اقتضاه اعتقاده . ولولا آثار توقيعات نظام الملك مولانا الصاحب التي استمرت أقلامه منها على الجدد اللاحب وكلما وشت البياض رقماً أغارت الرياض رغماً فلو مر ببابها ابن البواب لخشع خشوع الأواب وخضع خضوع التواب وكأنها لم تخلق إلا لتغذي مقلة ابن مقلة وتغشي الاختلال في مكتوبات ابن الخلال لقلت : إن خط الوزير أبي القاسم أمثل خطوط الوزراء وهو وإن لم يكن من الفضل في قبة السماء ففي القنة الشماء . ولكن إذا جاء نهر الله بطل نهر عيسى وما خطر حبال السحرة إذا ألقى عصاه موسى ومن ذا الذي يخطر بباله أن يبدع مثل تلك التحاسين وقل : هو الله أحد وليست من رجال ياسين . فقد كان حتى قبل الوزارة يتولى رئاسة نيسابور سنين وهو فيها والي أهلها من المحسنين حتى دلت على كفايته الأمارة وقربته إلى سريرها الإمارة . ثم ناوله الصرف طرف حبله فسار في الدهقنة مسير آبائه من قبله وجعل منها يحلب أرزاقه ويجلب أرفاقه مستريحاً إلى ظل التناية مخصوصاً من ملوك زمانه بحسن العناية وملحوظاً من وزرائهم بعين الرعاية . إلى أن طوي قرطاسه وانقطعت أنفاسه . تغمده الله بغفرانه . ورث مولانا عمره وأعمار سائر الناس . ولا زال في الدستوت ما دام أولئك في الأرماس آمين سائر رب العالمين
وكتب إليه الأديب يعقوب بن أحمد :
فديناكم كيف الوصول إلى المنى ... بخدمة كل الناس في شخص واحد
أبي القاسم الشيخ الأجل أخي العلا ... علي بن عبد الله زين الأماجد
فأجاب عنه من ساعته بقوله :
تقلدت للأستاذ أعظم منة ... بإظهاره وداً شديد المعاقد
وغير بديع منه حفظ مودة ... عهدناه قدماً من حبيب مساعد
وهذا من الكلام الذي يكتب لشرف قائله لا لكثرة طائلة واللفظ لسواي . وقد تبرأت فيه من دعواي . وناحية جوين وإن لم تخرج غير الإمام أبي محمد والوزير أبي القاسم فإن أعداد الكبار الشم الأنوف ربما عدلا عشراتها بالمئين ومئوها بالألوف . وكم من قميص واحد شدت أزراره على خلق كثير ورب خلق كثير لا يملكون من قطمير :
تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها : إن الكرام قليل
فلم أجد في أرغيان ولا بطوس إلا الشيخ أبا الأبين مكتوماً وحاشا أن ينكتم فضله الأبين وقد تفتح في روض البلاغة نرجسه الأعين وزانها وشيه الأحسن ونسجه الأزين والشيخ أبا الفتوح المحسن المطفي بذكائه البرق المتلسن
أما :
أبو الأبين مكتوم بن حي بن قتيبة
فالغالب عليه النثر مثل قوله في بعض ما اتفقت له من الكلمات القصار المحذورة على مثال الأمثال : رحم الله امرأ أمسك ما بين فكيه وأطلق ما بين كفيه
وقوله : من جعل وفره مخزوناً حصل دهره محزوناً
ولم اسمع من شعره إلا هذين البيتين وأنا أشك فيه وهما :
لله من ظبي كأن جبينه ... والشعر أمن يرتدي التهديدا
وفؤاده في جسمه يحكي لنا ... صدفاً رقيقاً أودعوه حديدا
وأما الشيخ :
أبو الفتوح المحسن بن أحمد الكاتب
فإنه كاتب الحضرة النظامية المنظور إليه من بين يدي كتاب الأنام المتمكن من ديوان الرسالة في الذروة والسنام . ومن خصائص يراعه الوشاء أن خطه أشبه بخط الصاحب من الماء بالماء فكأنه مصبوب في قالبه . ولم يكتحل به ناظر إلا قال به وغاية منية المتمني أن يقتبس من تلك الطرف طرفاً وكفاه بذلك في الشرف شرفاً . فمن ملحه في الشكاية قوله :
ضعف الفؤاد وملت النفس ... واختل مني الوهم والحس
كم فاضل سلس الضراط ونى ... فغدا بألفي حيلة يفسو
قد كان يقدر مد ضرطته ... فاليوم صار بحيلة يفسو
وله في بعض ما كتب إلى أصدقائه بالشام :
كتابي من الشام يا سيدي ... وحسبي من القدس والمشهد
وقد كنت أطلب خيراً بها ... فقد صرت أنفض منهم يدي
وله يصف ما عاناه في الأسفار من غلاء الأسعار : (1/184)
دق عظمي عن الدقيق وشعري ... صار كالقطن من غلاء الشعير
هذه سفرة أعيذك منها ... أسفرت لي عن معضلات الأمور
سفر كاسمه المصحف إلا ... أنه جنة بقرب الوزير
وقال في السفر على لسان فرسه وأنشد بين يدي الصاحب :
مراكب مولانا وأنتم أعزة ... سمان وما عز الشعير لديكم
ونحن عجاف هدنا السير والخوى ... ولا يستوي منا القياس إليكم
فإن كنتم منا فسيروا بسيرنا ... وإلا وقفنا والسلام عليكم
قلت وأنا بعد أرجع إلى ناحية خواف أصل قوادمها وخوافيها وأبدي خافيها وأقفو قوافيها وأرد صوافيها واسحب ضوافيها وأبتدي من طبقتها بالأديب :
علي بن محمد الباسفري
وباسفر من قرى خواف . هو في العصريين من السابقين الأولين إلا أن المصنفين أغفلوا ذكره وخلوا أدراج الرياح شعره . فاستدركت عليهم في كتابي هذا ما فاتهم من تلك المحاسن وأحرزتها في ذخائر هذه الخزائن . وقد رأيت ديوان شعره على حروف المعجم وفي خزانة كتب الشيخ الفقيه ناصح الدولة أبي محمد الفندورجي بتفسير الخارزنجي . فالتقطت منه هذه الملح وهي :
سماعك يا در أحلى سماع ... ووجهك كالبدر تحت القناع
أعرت المسامع أغنية ... كسجع الحمام وصوت اليراع
كأن أصابعك القابضات ... على قبضة العود فوق الشراع
أساريع لما بدت في النقاء ... تدلت عليهن سود الأفاعي
وله :
شهر المحرم أيما شهر ... أيامه فتقت عرا الدهر
يا نعمة فيه وموهبة ... مربوطتين بواجب الشكر
وعطيةً عمت مواهبها ... خص الأمير بها أبو نصر
وهب الإله له بقدرته ... ولداً كريم الأصل والنجر
ابناً كماء المزن ممتزجاً ... بالمسك والماذي والخمر
في الليلة الظلماء غرته ... وفي غير وقت الفجر كالفجر
كقضيب آس أو كنرجسة ... زهراء بين رياضها الخضر
أو غصن بان حركته صباً ... فاهتز في ورق له نضر
مثل الهلال إذا بصرت به ... أيقنت أن سناه للبدر
أو كالحسام إذا اعتصبت به ... أرضاك من صقل ومن أثر
أو كالغمامة في تصرفها ... تحيي نبات الأرض بالقطر
يا ليلة أزفت لمولده ... ما كنت إلا ليلة القدر
وله من قصيدة فريدة أولها :
أجارتنا بخواف عمي صباحاً ... وحيي زائريك على رذايا
فقد لغبوا ولا قوا في سراهم ... ليالي دعبل في جرجرايا
ومنها في صفة الأقلام وقد أحسن فيها كل الإحسان :
وهيف من بنات الماء ملس ... رقيقات حواشيها سبايا
كسين وهن أنضاء دقاق ... جلود الأرقمية والعظايا
إذا ذبحت أرنت ثم عاشت ... ولما تدر ما غصص المنايا
يرقن دموعهن بلا عيون ... وهن الضاحكات بلا ثنايا
حكت أطرافها آذان خيل ... وآذان الرجال لها مطايا
تزف إلى بيوت الساج ليلاً ... وتكثر عندها طرف الهدايا
وتسمع ما تقول لها فتمضي ... وتكسبك المواهب والعطايا
تقلدت الحكومة في صباها ... وتسريب الكتائب والسرايا
فتعذل مرة وتجور أخرى ... ويؤخذ حاملوها بالخطايا
فلم أر مثلها صمتاً وخرساً ... تبين عن المسائل والقضايا
أبو الحسن بن أبي سهل
بن أبي الحسن اللاذي
ولاذ : قرية من قرى خواف . أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي ما اختار من قصيدة له :
تشم الأنوف الشم عرضة داره ... وأعجب بأنف راغم فاز بالفخر
الحاكم أبو سعيد الحكم بن محمد السراوندي
وسراوند من خواف يقول من أبيات له :
صغت القصيدة باسم من صاغ الكرم ... بين المعالي وهي في حال العدم
وعلا بهمته الفراقد والسهى ... ومعاقد الأفلاك طفلاً ما احتلم (1/185)
ما حل أرضاً وهي تشكو جدبها ... إلا ترحل وهي أخصب من إرم
وسما بخالص ما صفا من سره ... حيث انتهى مختار أسرار الأمم
كالبدر بل كالشمس بل كلتيهما ... كالليث بل كالغيث هطال الديم
لما سمع هذه الأبيات أبو الهيجاء علي بن أحمد الخوافي قال فيه :
جميع من لهم نظم من الكلم ... أشعارهم دون شعر الحاكم الحكم
قصيدة صاغها حذاء معجزة ... لكن صياغتها من جوهر الكلم
رأيتها عذبة الألفاظ سائرة ... كأنها خلقت من صفوة الحكم
ما أنشأت مثلها الأوهام مذ نشأت ... ولا جرى مثلها من مرعف القلم
سقياً لقائله سقياً لمنشدها ... سقياً لسامعها في العرب والعجم
الشيخ أبو نصر أحمد بن ينفع
هو في المنصب خوافي وفي المنسب قشيري . ولست أروي وصفاً أجمع لفضائله وفضائل قبائله من قول الأديب أبي بكر اليوسفي فيهم :
سقى آل ينفع صوب الحيا ... فهم في حساب العلا الحاصل
هم الزائدون هم الفاضلون ... وغيرهم الزائد الفاضل
لساني عن حالهم سائل ... ودمعي على غثرهم سائل
إذا كنت في ظلهم قائلاً ... فإني بفضلهم قائل
ثم الشيخ أبو نصر من بينهم رأس الرؤساء ووارث العزة القعساء وصاحب البيان الذي ينسي القرم جراجره والليث زماجره . ويتضاءل سحبان ويتضعضع لفصاحة بين لحييه فيتقعقع . ثم له من الترسل الحظ الأولى وقدحه فيه القدح المعلى . وكتب مدة في ديوان الرسالة للشيخ أبي نصر أحمد بن أحمد بن عبد الصمد الوزير والجاه بمائة والمال بنمائه والأمر نافد والقلب بأطراف الأماني آخذ . فلما حانت أيام الفترة وأصبت سماء الفتنة اجتمع إليه نفر من الغاغة واستولوا على النواحي المجاورة لناحيته بشن الغارة . ونظروا إلى العواقب بعين الحقارة ولم ينصفوا في مراعاة القارة حتى طلعت الرايات الطغرلية فانقضوا من حوله لخوف السلطان وهوله " كمثل الشيطان إذا قال للإنسان : اكفر فلما كفر قال : إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين " . ولولا سوء القضاء المضيق عليه لرحب الفضاء لأكب على العلم وهو فيه من الأعلام ولم يتعاط السيوف بدلاً من الأقلام غير أنه اغتر ببأسه الشديد وانتقل من القصب إلى الحديد . فأخذه السلطان أخذ عزيز مقتدر وأورده الأجل حتفه شرب محتضر . فصلب ذلك الكبير بالمربع الصغير على بعض الخشاب . وأنشد : علو في الحياة وفي الممات ورثاه الشيخ والدي رحمه الله بقصيدة أولها :
لأبي نصر بن ينفع حزن ... في فؤادي تضيق عنه الضلوع
جذع هالنا على الجذع منه ... منظر رائع وقلب مروع
طاله الجذع فاستطال ولولا ... جهلها لم تطل كذاك الجذوع
فمما بلغني من شعره ما أنشدنيه الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني لنفسه مرثية ابنه أبي الحسن بن ينفع رحمهما الله :
شف المكارم والعلا تعطيل ... إذ قيل ينفع ذو الندى مقتول
سمح القضاء به فقلت مصدقاً ... إن الزمان بمثله لبخيل
تبكي عليه بدمعها عين العلا ... والمجد مشقوق الصدار عليل
لو كان مثلك من أصابك سيداً ... نفع العزاء ونفس التعليل
قال : وأنشدني لنفسه وقد كتب منها إلى بعض أصدقائه من الحبس :
دعوت فلاناً راجياً فكأنما ... دعوت به غيثاً من الجود هاميا
وأوردني شرباً من الفضل صافياً ... وألبسته ثوباً من الحمد ضافيا
على أن ذا يفنى ويبقى ثناؤنا ... وخير جزاء المرء ما كان باقيا
قال : وأنشدني لنفسه أيضاً وكتب بها إلى شمس الكفاة ساعة وروده الحضرة :
وشاعر جاء شعره ذهب ... ينثر من لفظه ومن كيسه
له نثاران يبتغي بهما ... في عدله موضعاً لتعريسه
إن ابن ليث أصابه سبع ... فصار من جحره إلى خيسه
وأنشدني الأديب أبو القاسم مهدي بن أحمد الخوافي قال : أنشدني الشيخ أبو نصر لنفسه : قال : وكتب به إلى شمس الكفاة : (1/186)
ألا أبلغا الشيخ الأجل رسالةً ... تنبئه أن الديار منازل
وأن الغني فوق الكفاية فاقة ... وكل حطام ناله المرء زائل
وأنشدني في مرثية أبيه أيضاً :
مضى الجود حين مضى ينفع ... فعين العلا بهما ساهده
حليفان ما اختلفا في الحياة ... ووارتهما تربة واحده
الشيخ أبو محمد عبد الله بن محمد الحمداني
صديقي الصدوق ومن جمعتني وإياه السفر والحضر وتواردنا سنين على الصفو والكدر وبيننا للأدب مناسبة تتفق عليها الطباع وللكؤوس رضاع حقوقها لا تضاع . وقد أقام حيناً من الدهر بالعراق ولا غرض إلا أن يشرب ماء دجلة طبعه ويروح بشمال بغداد شعره . ويرجع إلينا مشحون الحقائب بما يستصحبه من فوائد فضلائها محلى الترائب بما ينظمه من فوائد شعرائها . لا جرم عاد كما أراد وأفادا على سبيل العراضة ما استفاد . وإذا رأيت ما رويت عنه استدللت به على صدق مقالي وعلمت أني من نار فضله ونور علمه أشعلت ذبالتي . فمما أنشدني لنفسه قوله :
لله ساحر ناظريه إذا انتضى ... من جفنه حد الحسام الباتر
يغتال وامقه بطرف فاتن ... ويصيد رامقه بطرف فاتر
وكتب إلى عميد الحضرتين أبي الفتح المستوفي :
يا أيها السيد العميد ومن ... لم يؤت إذراك شأوه أحد
مجد بهام الجوزاء أخمصه ... وسؤدد لا يشينه فند
وحق نعماك إنه قسم ... مالي على ما لقيته جلد
صوم وعين رمداء موجعة ... وفوت رؤياك فوق ما أجد
وبسط عذري لديك متضح ... إذ صدني عن لقائك الرمد
فالعين لا تستطيع هائجةً ... تقابل الشمس وهي تتقد
وله أيضاً :
أقول لسائل بالغيب عني ... أنا زين المجالس حيث كنت
وما قصرت في طلب ولكن ... تعالوا أبصروني كيف هنت
وله أيضاً :
لو كان يحوي الروض ناضر خلقه ... ما كان يذبل نوره بشبابه
أو قابل الأفلاك طالع سعده ... ما سار نحس في نجوم سمائه
أبو منصور عبد الله بن سعيد
بن مهدي الخوافي
صحبني بخراسان نهلاً وبالعراق عللاً وخدم عميد الحضرة بالبصرة وكان بها يصل جناحي في الكتابة له . ثم خلانا وفر وتركنا نقاسي ذلك الحر . فمما أنشدني لنفسه قوله من قصيد أوله :
خدود جلا التوديع منها خدودها ... كما فتقت أكمام ورد مضرج
ولم أدر بدراً قبلها عض في الدجى ... على عنم بالأقحوان المفلج
لها جيد آرام وأعجاز مسحل ... وأعطاف ثعبان وألحاظ تذرج
تضاهي الدجى فرعا وعيناً وحاجباً ... سوى أنها كالصبح عند التبلج
دخلنا على اللذات من جانب الصبا ... وقلت لأحداث الزمان ألا اخرجي
وبتنا على رغم الهوى ننشر الهوى ... ونطوي رداء الليل طياً وننتجي
فلما تجلى الصبح ثارت كأنها ... غزال صريم لا غزالة منبج
ومن مقتطعاته قوله :
مخدرة من الخيرات أضحت ... تصان الدهر عن نفس الرياح
تطل عراصها أسد حراص ... تراب نعالها كحل الملاح
لهوت بقربها والليل طفل ... إلى أن شاب ناصية الصباح
فبت ضجيع نرجسة وآس ... وظلت نديم ريحان وراح
وقوله في صفة قينة :
غيداء ناعمة لو عقدت ... يد المصافح منها أنملاً قدراً
مجاذب في التهادي خصرها كفل ... يؤود متناً فلولا اللين لا نبترا
عطف ترف قلوب العاشقين له ... عطفاً عليه إذا ما اهتز أو خطرا
يصرح الوهم خديها فلو قطرت ... بالقلب في خطرات الشوق لانقطرا
قامت على طرب الندمان راقصة ... بالعود ترمح فضل الذيل والخمرا
فحركت كل قلب ساكن طرباً ... وقيدت كل طرف يرجع البصرا
لم تلق عين امرئ من قبل رؤيتها ... شمس النهار أقلت في الدجى قمرا (1/187)
غنت على مقتضى الإيقاع يشفعه ... صوت كنغمة برصوما إذا زمرا
يا سكراً قبل أن ذقناه أسكرنا ... ودرة نثرت في نطقها دررا
وأنشدني لنفسه أيضاً :
سأحدث في متون الأرض ضرباً ... وأركب في العلا غبر الليالي
فإما والثرى وبسطت عذراً ... وإما والثريا والمعالي
وله وهو من المعاني المنقولة من الفارسية إلى العربية :
لولا امتساكي بصدغيها على خجل ... حملت يوم النوى في عبرتي غرقا
تعلقاً كاشتعال النار في شمع ... فلا أفك يداً أو تضرب العنقا
قلت : قد أخطأ حيث قال : أو تضرب العنق ليس بعلة لانفكاك علقة النار من الشمع بل يزيد ذلك في العلاقة . والصواب ما قاله والدي رحمة الله عليه :
علقت بها كالنار في الشمع فهي لا ... تكف يداً عنه وإن حز رأسها
ولوالدي فيما يقرب من هذا المعنى :
علقت بها كاللظى بالشموع ... تميز عنها بإطفائها
وكلهم قصدوا نقل المعنى على سبيل ترجمة بعضهم :
در آوبزم از وي جو آتش ز شمع ... جدا كردن از وي بكشتن توان
وأنشدني لنفسه :
مرت بنا وعيون الخلق ترمقها ... كالظبي أفلته الصياد من شركه
كأنها وسراة الطرف تحملها ... بدر السماء يزور الأرض في فلكه
وقرأت من خطه أبياتاً له في غلام اسمه نجم :
لقد فقت في الحسن كل الورى ... فمن دونك اليوم يا نجم دون
وقد صرت في الحسن حيث انتحوا ... وحيث انتهوا من به يقتدون
إذا الليل ألوى بهم فابتسم ... قليلاً فبالنجم هم يهتدون
وله في العتاب :
لبستك درعاً والخطوب سواهم ... تسدد نحوي حيث يممت أسهما
توقيت أطراف الخطوب بمثلها ... فهذي جراحي تقطر الدما
وما أنا إلا الأرقم الصل ساكناً ... دببت إلى نابيه عمداً فصمما
وليس يهاب الصارم العضب مصلتاً ... رئيساً مفدى أو شجاعاً معمما
وله في الحكمة :
ولا تجزع إذا ما سد باب ... فأرض الله واسعة المسالك
ولا تفرغ إذا ما اعتاص أمر ... لعل الله يحدث بعد ذلك
وله في الشيخ أحمد بن الحسين الخوافي :
لما رأيت الدهر صارت صروفه ... على كل حر ذابلاً ومهندا
سموت إلى طود من العز شامخ ... لأكسب مجداً يملأ العين واليدا
فأعددت للدنيا علي بن أحمد ... وأعددت للعقبى علياً وأحمدا
وله أيضاً :
أسادتنا إني حسام مصمم ... جلت حادثات الدهر عن متنه الصدا
فإن تعلموني كنت كفاً وساعداً ... وإن تهملوني ضائعاً تشمتوا العدا
فليتك إذ ريفت لم تك ناقداً ... ويا ليتني إن رقت لم أك عسجدا
وله في الشكوى :
ألا يا للعجائب ما لقومي ... أضاعوني وأي فتى أضاعوا
شروا من ليس ذا جد وجد ... وباعوا من له عضد وباع
وله من غزلياته الرقيقة :
أبدر تميم أنت في كل محفل ... وقى الله عين السوء بدر تمام
أجدك ما تنفك تسبي متيماً ... بفترة ألحاظ ولين قوام
فحاجبك المقرون قوس موتر ... وهذبك نشاب وطرفك رام
أمالك رقي هل بقلبك رقة ... تأمل نحولي في الهوى وغرامي
لأصبح عنك الصب بالسب راضياً ... تكلم بما تهوى وأمرك سام
إذا طلعت شمس النهار فإنه ... رسول الذي يقريك ألف سلام
وإني على ما قد ترى من كهولتي ... غلامك لو ترضى وأي غلام
وله :
لم لا أصر على الملاهي سادراً ... ولدي من في وجهه أغراضي
من خده وردي وبرد رضا به ... خمري وفوه البرء من أمراضي
ولم النكول من العداة وشكتي ... مشهورة وغرار سيفي ماض
من قده رمحي ومن ألحاظه ... سيفي ومن وفراته فضفاضي (1/188)
إني على شغفي به وبقومه ... وبرسله بالشتم منه راض
إن كان يمعنه الرقيب زيارتي ... فالخصم قد يرضى ويأبى القاضي
وله في غلام متصوف :
أأخلفت ميعادي وخلفت مهجتي ... على قلق ذاك وفرط تشوف
نهبت فؤادي واعتقدت تصوفاً ... فلا تنهبن قلبي ولا تتصوف
وهذا ينظر إلى قول بعض الأئمة :
تحج احتساباً ثم تقتل مسلماً ... فديتك لا تحجج ولا تقتل الورى
وبدر له باب المراتب مطلع ... ولكن له في حبة القلب مغرب
أصاب صميم القلب فالصدر ملهب ... وأغرى الهوى بالصب فالصبر منهب
وما ذات طوق يبعث الوجد نوحها ... برجع كما حن اليراع المثقب
بأبرح مني لوعة غير أننا ... تجد بنا أسبابها وهي تلعب
وقلت : وقد بالغت في تسويد البياض بشعره أكثر مما هو شرط الكتاب في مثله ولكني رأيت ذلك الفاضل يمت إلي بالود الراسخ وبيننا مئون من أعداد الفراسخ . ولا أدري ما يفعل بي ولا به والدهر ذو دول ينقل في الورى أيامه كتنقل الأفياء ولا آمن حلول دواعي الفناء بذلك الفناء . وليس منه بخراسان أثر ولا يحمل منه إلا على ألسنة الرياح خبر ولا عندنا من أهل الفضل من يعنى بإحياء فاضل ينشره بجميل الثناء إذا طواه الردى طي الرداء . فدونت من أشعاره ما وجدت وغرت في أقطار ذكره وأنجدت . وما أحسبني أسأت إن لم أكن أجدت إن شاء الله تعالى وحده
وقد انحرفت من خواف إلى ناحيتي باخرز ولم لا وفي ديارات الخارز لأهل الفضل مغارس ومغارز وسد لفتق أدب ثآه الحارز . وكنت في حداثة الصبا أفردت لشعرائها كتاباً ولا بد الآن من أن أفرز إليهم من هذه الطبقات باباً وأبرم لإثبات أساميهم في هذه الورقات أسباباً عناية بأرض خرجتني وإلى هذه الرتب العالية درجتني فإذا تخطيت إلى غيرهم رقابهم وطويت طي السجل للكتاب كتابهم كنت مقترفاً إثماً ومرتكباً جناحاً :
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
فصل جعلته مفتاح هذه الطبقة وقلت : كنت أحدث نفسي زمن الحداثة وغالية الشباب لطخ المفارق قبل أن تعود سود المسائح كبيض المهارق بسلك أنظم فيه فضلاء باخرز وأدون به أسماؤهم وأبني على أرض الخلود سماءهم . فحكى لي والدي رحمه الله عن لسان الحاكم عمر المطوعي أنه قال : " قرأت في كتاب معجم الشعراء تأليف المرزباني شعر محدث ملقب بالباخرزي " . فكاد الحرص يريشني في طلبه لعلي أعثر باسمه ولقبه وأقف على مقدار أدبه وما زالت الأيام تعدني فيه مواعيد عرقوب أخاه وأنا أتحراه من خزائن الكتب وأتوخاه حتى اتفق أن ورثة الأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي عرضوا خزانة كتبه على البيع ومعجم الشعراء في أثنائها ورغبات الفضلاء صادقة في اقتنائها والقاضي البحاثي من بينهم يعتام خيارها غالباً فيها أظفار البنان وتعلق بها تعلق الأعمى بذاك المكان . ووزن فيها عشراً من حمر الدنانير الرواقص على الأظافير وحمل الكتاب إلي " ولمن جاء به حمل بعير " وإن كانت يدي عليه يد مستعير وما زالت أقشره ورقاً فورقاً وأمسح من الجبين في تتبع هذا الفاضل عرقاً حتى انتهيت إليه وأنخت المطية عليه . وفيه ذكر أبي منصور رشيد بن منصور الباخرزي وأبيات له قضى فيها بالعدل والتوحيد ورد على العامة والحشوية وهي :
أحمد الله حمد غير شؤوم ... عدد القطر والحصى والنجوم
وعليه توكلي وإليه ... رغبتي لا إلى الحقير اللئيم
أنعم المفضل الوهوب على النا ... س جميعاً حديثها والقديم
وهدى الشيب والشباب صراطاً ... مستقيماً والخير في المستقيم
كلف الخلق دون ما يستطيعو ... ن ولم يرض غير دين قويم
جل رب السماء عما يضيفو ... ن إليه من القبيح الذميم (1/189)
فأثبت هذه القصيدة كما هي في طبقات فضلاء باخرز سنة أربعين وأربعمئة وضرب الدهر ضربانه حتى بنى الشيخ ناصح الدولة أبو محمد الفندورجي خزانة كتبه في مسجد عقيل بنيسابور فحضرتها وأعدت نظري في فهرستها فإذا فيها كتاب المعجم فنشرته فإذا فيه ذكر الباخرزي إلا أنه خالف في اسمه ونسبه وزعم في النسخة الأولى أنه " أبو منصور رشيد بن منصور " وفي الثانية " أبو منصور محمد بن إبراهيم " . وذكر أنه من أهل خراسان ونسبه إلى الاستيطان ببغداد والتدين بمذهب الشيعة والعمى في آخر العمر وحكى أنه كان يهاجي مثقالاً الشاعر الواثقي . وأورد من أهاجيه فيه قوله في بيت مثقال :
في بيت مثقال يكو ... ن أولو الزنا وذوو اللواط
يعلونه وعجوزه ... ويرى بذاك أخا اغتباط
وفيه بيت آخر من قبله :
إن دهر السرور أقصر من يو ... م ويوم الفراق دهر طويل
قلت : ولست أدري أكلا المذكورين واحد أم لا قود عثرت بديوان شعر أبي منصور محمد بن إبراهيم الباخرزي في الخوانة النظامية عمرها الله بنيسابور والتقطت منه أبياتاً أحيي بها مواته وأنشر بها رفاقه وألم فتاته . وإن لم يكن في حداثة العصر من شرط الكتاب ولكن العواطف رقعت عليه كبدي لما كان من فضلاء بلدي . والغالب على ديوانه المراثي إما للعلوية وإما لابنه إبراهيم . وقرأت فيه قصيدة له يهجو فيها هيصم بن العلاء بن جهور العجلي وبني عجل جميعاً ويذكر فرارهم عن يحيى بن عمرو ويمدح أسداً وطياً والكوفيين وهي :
لو كان في عجل رجال عراك ... في الحرب ما هربت من الأتراك
ولصممت منها حفائظ معشر ... صبر على التوقاف والتبراك
تثني الخدود إذا الحروب تناحرت ... أبطالها وتجود بالأوراك
صلى الإله على جسوم عفرت ... منها الخدود على مدى الدكداك
وتقسموا جرح المنايا بينهم ... بتصابر عذب على الأحناك
ومن مراثيه قوله في قصيدة :
أأبكيك في القوم الذين أصيبوا ... من الناس أم أرجوك أن ستؤوب
ولولا رجاء الناس طارت مع الأسى ... عليك عيون منهم وقلوب
بك الدين والدنيا التي قد تنكرت ... على الناس تحلولي لهم وتطيب
وقوله من أخرى :
قد استصغرت نفسي عظام المصائب ... بقتل مهيب للردى غير هائب
وقد هد ركن المكرمات وهدمت ... ديار الندى والناس من كل جانب
لقد كان مرهوباً مرجى ولم تكن ... كرهبته لله رهبة راهب
وكان قريباً من غريب له تقى ... ولب بعيداً من جهول الأقارب
كأن الحسينيين عند اخترامه ... وجوه خلت من أعين وحواجب
له همة لم يلف بعد كبعدها ... وما أرضها إلا سماء الكواكب
فكل من الأقوام حران جازع ... على أسد أمسى قتيل الثعالب
وبدر منير أذهبته غياهب ... متى كان بدر مذهباً للغياهب
لقد كان يحيي الجود للضيف قارياً ... فأمسى قرى طير ذوات مخالب
وقد كان ذاء للسباع يثيرها ... فصار دواء للسباع السواغب
وقال يرثي ابنه إبراهيم :
أنا حي وروح روحي إبرا ... هيم ميت إني لفظ غليظ
يا رهين التراب لو صدقتك ال ... ود نفسي إذن لكانت تفيظ
كان لابني وجه يعوذه اللا ... حظ أين المعوذ الملحوظ
أين زين الوجوه واريته في ال ... قبر والقبر مكرم محفوظ
حظ عيني من الرقاد فقيد ... ولعيني من السهاد حظوظ
أنا راض من النوائح لكن فؤادي بالمسمعات مغيظ
وله أيضاً يرثيه :
قبض ابني معواذاً ولقد أي ... قنت أن لا انتفاع بالتعويذ
بذ مني إلى المقابر والأج ... داث يا طول حسرة المبذوذ
إن قولي لكل من لام في الحز ... ن عليه : أقصر فإنك موذي
أخذته المنون قبل ارتواء الن ... نفس منه لهفي على المأخوذ (1/190)
كل باك رقاده سهر اللي ... ل مقر بأنه تلميذي
إن سكري من الهموم لضعف ... السكر من قبل قرقف ونبيذ
إن قوماً أتاهم ابني إبرا ... هيم لما نحوا بعجل حنيذ
قلت : هذا الفاضل وإن كان بالإضافة إلى هؤلاء العصريين قديماً فقد قيل :
أبى الله إلا أم عمرو وحبها ... عجوزاً ومن يحبب عجوزاً يفند
كسحق اليماني قد تقادم عهده ... ورقعته ما شئت في العين واليد
ومن فضلاء ناحيتي الذين تقدموا في موكب طبقتها ولم يطبلوا على ساقتها :
أبو خداش محمد بن سعيد بن خداش
بن إبراهيم بن ميسرة
قمر من باخرز طلع وكأنه من البدو نزع وبين ظهراني العرب ترعرع فطوراً يتشبه بمدني رقيق غذي بماء العقييق وتارة يتجلى في عجرفة الشدو بعنجهية البدو . ولم أظفر بشعره في خزانة كتب قديمة توارثها العلماء من أهل بيت علي بن زناد جد هذا المذكور . وأبدعها وأبرعها قافية له بائية قالها في استبطاء عشيرته واستزادة أعيان قبيلته . مطلعها :
أطاع النهى قلبه المختلب ... وعاصى دواعي الهوى والطرب
وشمر ذيل الصبا نازعاً ... عن الواسمات له بالريب
يراعي النجوم بعين الهموم ... كئيباً ومن يغترب يكتئب
ثوى بالمدينة عاماً بها ... دراكاً إلى رجب من رجب
وراح وساوس تلهو به ... وقد كان يلهو بها في الحقب
إذا هو حن تغنت له ... عجبت من الهر كيف انقلب
وبيضاء كالشمس رود الشباب ... ربيبة بيت عزيز الطنب
كأن بفيها بعيد الرقاد ... وقد صعد النجم أو قد كرب
عتيق العقار بمسك البحار ... بأري يشاب ولم يؤتشب
تمتعت منها بطيب السماع ... وجانبت في الله ما لم يطب
وصفراء كالمسك إن ذقتها ... بشم وفي لونها كالذهب
إذا هي ريضت بقرع المزاج ... ترامى لها شرر كالشهب
فمنها مصابيح شرابها ... وطيب الندامى إذا ما نضب
شهدت مجالسها للحديث ... وعاصيت في شربها من شرب
بكل يعلل هذا الشجى ... ودرت مناه له لو حلب
فما زاد إلا شجى ناشئاً ... وهل يشعل النار مزن سرب
أجاره بيتي بعض الملام ... فلومك نار وقلبي حطب
كأنك لم تكبري ما ألم ... ومن قدر الله ما قد جلب
فراق أخي يوم فارقته ... صريعاً بحال رد محتسب
يورق عينيه صرف الزمان ... وينهش جنبيه نار الوصب
وما أنس لا أنس يوم الفراق ... ودمعي على خده منسكب
أولي وطرفي إلى شخصه ... ونار الأسى في الحشى تلتهب
فلو أن ما بي غداة الفراق ... بثهلان لا نهد إن لم يذب
كريم أصيب بريب الزمان ... وأي كريم به لم يصب
تقاوى عليه لدى سقمه ... رعاع الموالي وقزم العرب
وناصبه معشر عن قلى ... بظلم وعن حسد قد غلب
ألم يك سيفاً لهم صارماً ... على كل ذي إحنة يرتهب
وركناً شديداً وفوق الشديد يأوي إليه شديد الرعب
يلاقي الزمان بأمر يقوم ... مقام الخميس اللهام اللجب
إذا حلة الخطب لم ينتظر ... مشورة أهل النهى والأرب
ولكن مضاءة غرب السنان ... وسورة ليث العرين الأشب
فإن يكن الدهر قد خانه ... وأزعق من شربه ما عذب
فقد يكسف البدر عند التمام ... ويعلو الحسام الصدا ذا الشطب
ويعدو على الضيغم الثعلبان ... إذا ما القضاء أتى بالغلب
رويداً سيكشف هذا الضباب ... ويطلع من شمسه ما غرب
ولما بدا لي اعتياص الشؤون ... وسد السبيل عن المطلب (1/191)
دعوت إلى نصرتي أسرتي ... على نأي داري لا من كثب
فلم أر لي منهم إذ دعوت ... مجيباً وفي نصرتي منتدب
فإذ لم يروا نصرنا في الملم ... ببذل اللهى واحتمال النصب
فأين السؤال بظهر المغيب ... وأين السلام وأين الكتب
وأين مداجاة أهل الحيا ... إذا لم تكن حرمات المحب
وله أيضاً يشكو بعض إخوانه :
وكيف خلوصي من أخ ذي تدابر ... إلى وصله والصرم بالوصل محذق
وكم دونه للزهو باب بقفله ... وللبغي أحراس وللتيه خندق
وإن امرأ يزهى على أهل وده ... ويطمع منه في الإخاء لأخرق
ومما أختاره من مراثيه لابنه قوله :
برزء سعيد قص دهري قوادمي ... وأطفأ نوري واجتنى ثمر الصدر
أبان يدي يوم التصاول من يدي ... وهد به ركني وأوهى به أزري
وما كان إلا روح جسمي فانقضى ... وكيف بقاء الجسم والروح في القبر
أبعد سعيد والهامين بعده ... خداش وعبد الله كالأنجم الزهر
أؤمل صفو العيش لاذقت صفوه ... وأهوى امتداد العمر لأمد في عمري
وله في يرثيه :
يا واحدي أصبحت بعدك واحداً ... لولا الإله المستعان الواحد
ماذا أردت إلى أبيك بتركه ... يبكي العدو له ويرثي الحاسد
ألف المقابر بعد فقدك وحشةً ... لو كان يأنس بالمقابر فاقد
يدعوك من يأس ولست تجيبه ... وهو القريب وسمعك المتباعد
أعققته فتركت رجع جوابه ... ما اعتاد منك أذى العقوق الوالد
وأقل منا المكث حتى نلتقي ... كالحي يسبقهم بيوم رائد
أبو جعفر محمد بن يعقوب
كتب إلى بعض شركائه يهنئه بحفر كرم استجده واجراء نهر استمده :
على الطائر الميمون حفرك للكرم ... أبا قاسم يا معدن العقل والفهم
وغرسك للأشجار فيه ومدك ال ... سواقي في أطرافه ثابت العزم
أبو نصر العمري
حدثني القاضي أبو جعفر البحاثي قال : ولي هذا العمري عمالة زوزن فتخاصم بقال فيها مع آخر من أهلها حتى انتهت الحال بينهما من التخاصم والتنازع إلى التناتف والتصافع . وتقرر عند العمري ظلم هذا السوقي بابتدائه اللجاج والبادي أظلم فأمر حتى أنحى عليه في التشديد . وصب رجله في حلق الحديد . فقال البقال وكتب به إليه :
جلست بطيئاً والجلوس يضرني ... وفي السوق حانوتي فديتك ضائع
وكيف جلوسي عند شيخ أحبه ... تغدى وإني مذ جلست لجائع
ثم إنه تقدم إلى السجان فقال : اذكرني عند ربك . وحمله البيتين ففعل وأوصلهما إليه . فاستدعى البقال وقال : من هذا الشيخ الذي زعمت أنك تحبه فقال : هو السجان وإياه عنيت . وإن كنت في تشديده علي تعنيت فعجل إطلاقه وفك وثاقه . وتعجب من سوقي يرجع من الفضل وحسن التهدي لأسباب الخلاص إلى ما رأى منه . وللعمري هذا شعر المقلين . قال يرثي بعض أصدقائه :
ماذا أصاب البدر زال ضياؤه ... عنا وأظلم أرضه وسماؤه
أما السخاء فقد مضى بمضيه ... وبكى له العافي وحق بكاؤه
إن تطوه أيدي الفناء برغمنا ... فلطالما نشر الكريم ثناؤه
عبد الملك بن محمد بن محمود
هو جد الحاكم أبي يعلى محمود بن عون البيرقي وما كان عندي أن له شيئاً من الشعر يروى وسورة من الفضل تتلى وصورة من النظم تجلى . حتى ظفرت في بيت كتب الحاكم أحمد بن الحسن بن الأمير الباخرزي . رحمة الله عليه بجزء مشتمل على أشعاره فاخترت منها قوله :
يلومونني أني من البين أجزع ... وأني لما قد حل بي أتوجع
يقولون جهلاً : ما لجسمك ناحلاً ... ولونك مصفراً وعينك تدمع
فقلت مجيباً ليس في اللوم منفع ... فإن شئتم لوموا وإن شئتم دعوا
وأقسمت أن لو حل ما بي من الضنى ... بأيوب أضحى والهاً يتضرع (1/192)
ومن أين لا أبكي وروحي مفارقي ... ومالي سوى حوض المنية مشرع
وما أنس مِ الأشياء لا أنس قولها ... وفي صحن خديها وخدي أدمع
تعانقني طوراً وتمسح عبرتي ... وتلثم خدي تارة وتودع
عزمت على هجري فأصبحت راحلاً ... رجوعك يا سؤلي متى أتوقع
فقلت لها : لا تسألي لست عارفاً ... بما في غد أو بعده الله يصنع
ولا تكثري لومي بأني صابر ... وأن لست من خوف النوى أتضرع
فإن نحولي واصفراري وحيرتي ... دليل على أني لفقدك أجزع
تحملت ثقل الحب في الصدر مخفياً ... وإن كان قلبي في الهوى يتقطع
ومنها :
أرى العيش بعد الإلف موتاً ومن يغب ... عن الإلف لا يسلم إلى يوم يرجع
فيا ليتني لم ألق يوماً فراقها ... وفي غده ما كانت الشمس تطلع
وإني لأرجو أن ربي يردها ... علي ويدني الدار والشمل يجمع
قلت : وهذا لعمري كلام حلو المساغ حسن المساق يدل بكثرة طائلة على فضل قائله
أبو منصور الكاتب
هو من أشعر الكتاب وأكتب الشعراء . وقد لفظته باخرز إلى دار الملك ببخارا وارتبط في ديوان الرسالة بها . وهذا نثر له موشح بنظم يصف فيه حاله ويذكر حله وارتحاله . وكفاك به مخبراً عن قصته وناطقاً بحذقه في صنعته . صدر الرسالة قوله :
كتبت ولي نفس تذلل للهوى ... فأنفاسها حرى وأجفانها عبرى
تحيرت من أمر الهوى فتسلطت ... علي النوى واستمطرت أدمعي تترى
وكيف لا وقد تبدلت بمظنون الأحبة والأوطان شجون الامتحان في دار الغربة أبكي شجناً لأوطاني وأرثي حزناً لخلاني . نهاري ليل أسود وقد وكل بالفكر وليلي نهار أربد مقصور على السهر . أرخي أيامي بين تعلل بالأماني وتجمل في تحمل ما أعاني . أتمنى سوالف الأيام والأماني مضلة الأفهام . فإذا يئست من عتبى دهري أنست ببكائي ومهما نكست من لوعات صدري تنفست ببرحائي . ومتى تجسمت لي روائع ربوعي انسجمت متتابعة دموعي وتعضني للنوى أنياب عاضة وترضني من الهوى أسباب راضة :
أضحي وأمسي في فنون بلابل ... من دونها تتقطع الأكباد
ولا غرو فقد تبدلت بالأنس وحشة وبالمتنزهات مساكن وحشة
في ضيق الأرجاء ضنك المخترق ... كأنني في مطبق أو مختنق
فنزلت وجار الضباب واجماً واحتللت أوكار الغراب نادماً . لا أتنسم بها نسيماً ولا أتوسم فيها حميماً :
نزلت بخارا وهي لولا قطينها ... لحق علينا أن نلقبها البحرا
إذا هم حر في بخارا لحاجة ... ففي كوز ماء أو إناء له يخرى
متنزهاتها سهكة تتداول في أرجائها العذرة ومخترقاتها مزالق تتابع في حافاتها العثرة :
مؤونة الغسل بها جمة ... وأعظم الرزء كرا المحفشه
لا قدست من بلدة إنها ... مزبلة ضيقة موحشه
وهذه حالتي بعد متنزهاتي الطيبة الرائعة ومساكني المؤنقة الفائقة . وبعدها ساعدني الزمان في منادمة الأخوان ومقارنة الخلان :
والدهر عنا نائم لم ندر ما ... صرف الزمان وفرقة الإخوان
فتنبهت أحداقه فتركننا ... أيدي سبا شتى بكل مكان
تناغيني بواعث الأسف وتناجيني طوارق التلف . يا عجبي !
أشتاق إلى الجفاة وأحن إلى السعاة :
أرض يسود بها القرود أسودها ... فيطيعهن من الشقاء أسود
كبيرها متورط بالجهالة وصغيرها متمخط في الضلالة . أفضلهم عيي وأغفلهم غبي وأعفهم سارق وأسدهم مارق . وما خير موطن تصيدك فيه حبائل الحقود ولا تأمن به غوائل الحسود . أتذكر باخرز ونحن إلى أقطارها أم تشتاقها وتبحث عن أخبارها أمالك نفس متعظ وحدس متيقظ (1/193)
وختم الكتاب بهذا الفضل : " ولما أسعدني الله بالوقوع إلى حضرته وقبلت قبلة الآمال من عتبته وشرفت بالأذن عليه في خلوته ساءلني عن أخباري وأخبار غيبتي ثم أكرهني على نقص توبتي وأمرني بالاختلاف إلى الديوان على رسمي وأثبت العشرينية باسمي فأنا بحمد الله أرفل في أثواب المسرة وأرد على أبواب المبرة وأرجع من ظل خدمته إلى ما ينسيني ذكر الأهل والوطن ويشغلني عن حب الولد والسكن "
ومن ذا الذي لم يرمه الدهر بالنوى ... ومن ذا الذي لم يشجه بفراق
رويدك إن الدهر لا عزم عنده ... سيرمي النوى يوماً بوشك تلاق
قلت : وكان سبب انقطاعه من الناحية أن الشيخ أبا الطيب الخداشي لم يزل يرهقه صعوداً فأنف من الصبر على الخسف والانقياد للذل . وامتد إلى بخارا مفوقاً بسهام الهجاء إليه ومستعدياً للسطان عليه . فمما قاله في هذا المعنى بيتان أنشدنيهما له القاضي أبو جعفر البحاثي وهما :
أبا طيب لا تكن ظالماً ... ولا تلق نفسك في المهلك
كأنك هارون في غدره ... وأني بقايا بني برمك
ابنه
أبو نصر الكاتب
ما عسى أن أقول في غض تفرع من تلك الأرومة وفسيلة تشعبت من تلك الجرثومة وقد عاشرته فوجدته لا يرجع من الأدب إلى رأس مال إلا أن له طبعاً نقاداً وخاطراً وقاداً . ومن خبره أنه لقي الوزير شمس الكفاة أحمد بن الحسن الميندي مستعدياً به على أبي سعيد الخداشي ومدحه بهذه القصيدة التي أملاها علي من لفظه وهي :
يقول ويجري كالجمان المبدد ... دموعاً على خد أسيل مورد
أترحل عني في الربيع أما ترى ... تعممت الدنيا بنبت مجعد
وقد شق عن نبت الرياض شقائقاً ... كسابغة شقت بنصل مجرد
وعلق من فرع الغصون جواهراً ... ورصع ديباجاً بدر منضد
وما إن يريم الريم من فرش حلة ... متى يغشه نوم بها يتوسد
ألست ترى وسط الحدائق نرجساً ... له حدقات من لجين وعسجد
كأن من العقيان قد صيغ إثمد ... وقد كحل الكافور عمداً بأثمد
تيقظ عن نوم وما تم نومه ... فيرنو بعين مثل عين المسهد
فسبحان من أبدى وأبدع زهرةً ... من الدر والعقيان فوق زمرد
ونفحتها راح وروح فنشرها ... دليل على صنع الإله الموحد
ونور الأقاحي قد تبسم ضاحكاً ... كبدر حواشيه تزان بفرقد
يطير الصبا بالورد من كل جانب ... فكم متهم مما يطير ومنجد
فبعض كخد بالحياء مضرج ... وبعض كخد العاشق الصب مجسد
ترى خطباء الطير يدعون في الدجى ... أناساً بهم وجد إلى اللهو والدد
وينشدن بالإنشاد إلفاً فقدنه ... فيا عجباً من ناشد الإلف منشد
ومنها :
وما أنس إذ ودعتها يوم أقبلت ... كبلقيس حيرى وسط صرح ممرد
وأدمعها تحكي دموعي وأدمعي ... دموع لبيد عند فقدان أربد
وما أنس مِ الأشياء لا أنس قولها ... فيا حسرتا يومي ويا حسرتا غدي
ألست الذي قد قلت في أول الصبا ... متى تبعدي عني مدى الدهر أبعد
لأية حال حالت الحال بيننا ... وأنت بأي العذر تغدو وتغتدي
فقلت لها ما اخترت والله فرقة ... على طيب عيش بالوصال مرغد
أدلت بكرهي وصلنا بافتراقنا ... فلا تعذليني واعذلي الدهر وارددي
فردت جوابي كيف أعذل دهرنا ... وقد شرفته دولة الصاحب الندي
فلما فرغ من الإنشاد قال له الوزير : أمستميح أنت أم مستنجح فقال : كلاهما وتمرا . فقضى حاجته وأجزل صلته وأشكى مظلمته . وأنشدني لنفسه في هجاء المشطبي المستوفي :
شطب بطيخك وقت الصبا ... طوعاً كما أخبرت تشطيبا
لما فشا ذكرك بين الورى ... بذاك قد لقبت تلقيبا
وأنشدني لنفسه أيضاً يهجو عامل باخرز :
عامل باخرز أخو همةً ... ورتبة سامية عاليه (1/194)
مهذب العرض سوى أنه ... أبخر في فيه بدت داهيه
فجيفة الكلب لدى نطقه ... غالية قيمتها غاليه
إذا رأى في داره خاطياً ... ينيك تلك الحرة الخاطيه
لم يدخل الحجرة من غيظه ... ثم يرى العفو من العافيه
قلت : وأقام هذا الفضل في ضيافة الرئيس أبي القاسم عبد الحميد بن يحيى الزوزني رحمة الله عليه حيناً من الدهر . والناس كالسباع الجياع نهشاً وعضاً يأكل بعضهم بعضاً . وهو بحضرته كالنازل على آل المهلب شاتياً يستقبل سعداً آتياً ويعتنق جداً مواتياً . وتخيل له أن ظله قد ثقل فانتقل ولم يحلل من عنده عقال مطية لو عقل لأن ذاك الذي قد تصور له كان ظناً بني على غير الحقيقة والضن لم يكن معهوداً من تلك الطريقة غير أن الأجل ساقه إلى الطبسين فخر بها صريع الحين ورثاه والدي فقال :
يا غريباً قد مات بالطبسين ... بل غريباً قد عاش في الثقلين
يا أبا نصر بن منصور الكاتب أفسدت بين دهري وبيني
لست أعفو تعجيل حينك عن ده ... ري وإن غرني بتأخير حيني
أبو منصور سعيد بن محمد السعيدي
كان هذا المذكور من المترفهين المتهمين برقة الدين المنسوبين إلى مطابقة الملحدين ومفارقة الموحدين . ولم يزل طلب الأمير أبي بكر بن إسحق من ورائه يقتفون أثره ويركبون في اقتناصه قوس الطريق ووتره وهو آخذ سمت ما وراء النهر . وقد قذف الرعب في قلبه من صدق الرغبات في صلبه :
والأمر لله رب مجتهد ... ما خاب إلا لأنه جاهد
ومتق والسهام مرسلة ... يحيص من حابض إلى صادر
فلما ألقى عصا المقام ببوزكند من بلاد الترك وشاع بها فضله وعرف في موارد الأمور ومصادرها عقله استوزره الخان ولم يعلم أنه من جانبه يخان . فأخذ يستميل طائفة من الحشم إلى دين الباطنية وينقش في ضمائرهم ما كان في عقيدته من قدم الدنيا الدنية ويهون في عيونهم أمور عواقبهم ويلقي حبال الخلاعة على غواربهم حتى رقى إلى سمع الخان ما هو بصدده من الدعوة إلى دين القرامطة وغرس تلك الأهواء الخاطئة في نفوسهم وتقسيم تلك الآراء الكاذبة بين أفئدتهم ورؤوسهم فنصبه على الجذع بمرمى الأحجار وقاد إليه ذلك المركب من مربط النجار وتضلعت سباع الطيور من أشلائه ولا مهرب من بلاء الله إلا إلى بلائه . ولم أجد من شعره إلا ما أفادنيه القاضي أبو جعفر البحاثي قال : وكتب به من الحبس إلى أخيه أبي الحسن لما أودع القلعة بغزنة :
وارحمتا لفتى أديب نابه ... أخنت حداثته على آدابه
لمغفل غر أسير واله ... قد خيمت محن الزمان ببابه
لأخي أبي الحسن السعيدي الذي ... ما للسعادة جانب بعتابه
ينشق صدري وحشة لفراقه ... ويذوب قلبي رحمةً لشبابه
زالت دواعي الأنس غب زواله ... عنا وغاب نعيمنا بغيابه
ما زال يعجبه المنى حين اجتنى ... بيد الشقاء الحين من إعجابه
الله جار فتى أديب بارع ... ورع فقيه حافظ لكتابه
أولعت فيه لسوء بخت مشفقاً ... من خصمه العادي أليم عذابه
أخشى عليه الدهر صولة أرقم ... صل يمج السم من أنيابه
وأخاف أن يعدو عليه بجهله ... فيذيقه ظلماً فنون عقابه
لا بل أؤمل أن يؤوب مسلماً ... فيقر عيني عاجلاً بإيابه
ويؤوب أنس راحل برحيله ... ويؤول عيش ذاهب بذهابه
وأما أخوه :
أبو الحسن علي بن محمد السعيدي (1/195)
فقد حبس بغزنة مدة مديدة يعذب ويعنى والقيود على رجليه تترنم وتتغنى . ولم ينج برأسه إلا لتوبته عن حوبته ورجوعه عن سوء عقيدته . وقد كان حافظاً لكتاب الله العزيز ومستوثقاً من ذلك الحصن الحريز حاذقاً في القراءات عالماً بالروايات يسردها وراء ظهره ويكاثر بها أبناء دهره . ولحق في أيام وزارة أخيه فنصره وآواه وأكرم بحضرته مثواه . غير أنه لم يتلبس بالأعمال السلطانية وتصرف فيها على الأوقاف في تلك الولايات يكتسي من أسلابها ويحتسي من أحلابها حتى وقعت الحادثة بأخيه وبقي هو على حالته الأولى مشدوداً أواخيه والغالب على ظني أنه لقي إلى هذه الغاية يومه فقد طالما عفت آثاره وانطوت أخباره . فمما بلغني من شعره ما أنشدني له الفقيه أبو الحسن البحاثي قال : صدر أبو الحسن السعيدي إلي كتابه من بوشنج قبل نكبته بهذه الأبيات :
ما أقاسيه من طويل الليالي ... من فنون المنى ومسرى الخيال
لو على الراسيات عشر عشير ... من هموم لآذنت بالزوال
ومنها :
لك خد كأنه جلنار ... وثغور كأنهن لآل
إن عينيك ترميان بسهم ... مؤلم موجع قلوب الرجال
ومنها :
طاهر طهر الإله ذراه ... فهو ينجي من الهموم الثقال
موئل المعتفين يوم النوال ... معقل الخائفين يوم النزال
ذو كلام كأنه سلك در ... ظهرت فيه قدرة المتعال
سيفه كلما نضاه قراب ... يتمنى جماجم الأبطال
أبو المظفر ناصر بن محمد بن غانم
شريف الأصل كالمشرفي من النصل . نبا به وطنه فاجتوى المقام وقوض الخيام . وتقاذفت به ديار الغربة حتى كأنه وحش مطرود أو خبر شرود ومحا البعد آثاره وطوى النأي أخباره . ولا أدري أي الحراد عاره . وقد عثرت بديوان شعره في الخزانة النظامية والتقطت منه أبياتاً أحيي بها مواته وأنشر رفاته . وإن لم يكن في حداثة العصر من شرط الكتاب ولكن العواطف رققت كبدي لما كان من فضلاء بلدي . فمنها قوله :
لا تغرنك الحياة غروراً ... فإلى الموت كل خلق يصير
وأعبد الله حسبةً واجتهاداً ... فهو نعم المولى ونعم النصير
الشيخ أبو علي الحسن
بن أبي الطيب والدي
قد قيل : إن الرجل بابنه وبشعره مفتون أما أنا فمفتون بكلام والدي رحمة الله عليه فقد كان كما قال فيه الشيخ أبو منصور الثعالبي نظماً :
يا من تجمعت المحاسن كلها ... فيه وصيرت القلوب برسمه
فالوجه منه كخلقه والخلق منه كشعره والشعر منه كاسمه
لا زال جدك مثل ما تكنى به ... وسلمت من سيف الزمان وسهمه
وأثنى عليه في كتابه " تتمة اليتيمة " نثراً فقال : الوجه جميل تصونه نعمة صالحة والخلق عظيم تزينه آداب راجحة . قلت : وإنما مدحه بذلك لأنه قد كان من أبناء الهمم وأغذياء النعم ولم يكن ممن يكتسب بالصناعة أو يتجر في هذه البضاعة . وأشعاره على الأغلب مقطعات تشتمل على أغراضه السانحة له وقلما يعثر فيها بمديح . اللهم إلا في الفلتة والسقطة والندرة والغلطة . وكان إذا قصد بعض الكبار يودع كمه علقين يصرفهما إلى وجه الخدمة أو خدمة الوجه أحدهما كيس ملؤه أوراق أو عيون والثاني جزء كل أوراقه عيون . وفيها خدمتان إحداهما منظومة من الأشعار والأخرى منثورة من الدرهم والدينار كالحلة خلعت على اللابس بطرازها والعروس زفت إلى الخاطب بجهازها . فمما أزين به كتابي من نثره فصل له إلى بعض السادة يعاتبه على ما أقدم عليه حاجبه : " الشيخ وإن طال دوني حجابه وقصر عني إيجابه فلست من فضله الجزيل آيساً ولا عن صبري الجميل يائساً . فالكريم مرتجى وإن يلف بابه مرتجا . والنفس موقنة بأن ستسر بهلال طلعته وإن استسر فالسماء إذا احتجبت أرجاؤها وجب ارتجاؤها . وسألازم حاجبه حتى يقضي من أمري واجبه وأرتضي سدة بابه مقاماً حتى تنقضي عني مدة حجابه تماماً ولا أفارق حضرته حتى يفارق الآس خضرته . إن شاء فلينجز الوعد وإن أحب فليحجز العد والسلام " (1/196)
فصل آخر : " أما تهديد فلان وإبعاده وإبراقه وإرعاده فما أولاه بأن ينساني ويترك في الغمد لساني إذ لست بالرجل الذي يتضعضع ركنه من سنانه ويقعقع له بشنانه فوالله لو أنه كان ناراً وكنت حطباً لما خشيت منه عطباً وإن كان ذئباً وكنت خروفاً لما خلته مخوفاً . أو كان سيفاً مسلولاً وكنت لصاً مغلولاً لما تقاعست عنه نكولاً . فسيان عندي وعده ووعيده وتقريبه وتبعيده إن مناني لم أرجه وإن عناني لم أهجه . ولو كان إنساناً لكفيته إساءة وإحساناً أو كان أحداً لما وجد دون عتبي أو عتابي ملتحداً لكنه كلب والكلب عضه صعب والعذرة والوقيعة في العذرة متعذرة . وذباب والذباب لا يؤلمه سباب وتيس والتيس ليس له كيس . إنا لله من الكلب كيف انتقم ومن السلح كيف التقم وكيف أجرب ذباب السيف على ذباب الصيف وكيف أعاقب التيس والعقل هنالك ليس فلم يبق إلا تقصير الكلام والسلام "
ومن ترصيعه مع التجنيس : " لا زالت معادن المعادين بصولته مروعة ومساكن المساكين بصلته مريعة "
وله في هذه الصنعة ما هو أبلغ من هذا الفصل وهو مرصع في ثمانية عشر موضعاً قوله : " فلان ما سال بالنوال عفواً على الأخوان وقت الشراب والقيام إلا نضب النيل المائج خفراً من إسراف صلته ونواله ولا اختال في النزال خطواً إلى الأقران تحت الضراب والطعان إلا هرب الفيل الهائج حذراً من إجحاف صولته ونكاله "
ومما أختار من شعره في المديح قوله في الأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي رحمة الله عليهما :
حوى دست مولانا الأمير أخي العلا ... أبي الفضل طلقاً بالعشيات بساما
قد امتلأ الدنيا قناً وقرى به ... فتخشاه مطعاناً وتغشاه مطعاما
وأبدع بالرمحين طعناً وكتبةً ... فصار لحب القلب والدر نظاما
ووطفت عرض الأرض لم أر مثله ... حكيماً شجاعاً يقطع الحكم والهاما
فقولا لصرف الدهر عني فإنني ... علقت بكاف صدره ألف اللاما
يقوم له السادات في السلم قاعداً ... ويقعد عنه القرن في الحرب إذ قاما
وله من قصيدة غير قصيرة :
حركات الوزير قد بشرتنا ... بدوام السرور والبركات
وكأنا أهل الجنان نزلنا ... عنده آمنين في الغرفات
هو في الصدر ذو حجى وثبات ... وهو في القلب طائش الوثبات
ضارب في العلا بأوفر سهم ... طاعن في العدا بأمضى قناة
وهو بحر للعلم بر بأهل ال ... فضل طود للحلم جم الحصاة
ذكر المرهفات أنثى العطايا ... حدث النادرات كهل الأناة
ضاحك السن في النعيم وفي البؤ ... س مع النازلين والنازلات
خافض الجأش والجناح لإهلا ... ك معاداً لامتلاك موات
من بلاه لدى البلاء رآه ... أفضل النائبين في النائبات
وبنفسي دواته إن فيها ... للمعالي جوامع الأدوات
يا لسوداء حامل الظهر والبط ... ن بحمر الحلى وبيض البنات
تتماشى خطاً وترجع نقطاً ... من أعاجيب صنعها راقصات
أهو الحظ أم نقوش الغوالي ... في خدود الأوانس الخفرات
بل هو الروض غب غيم مطير ... غازل الشمس نوره بالغداة
وهو اللفظ أم رحيق عتيق ... شج سلسالها بماء فرات
وله أيضاً من قصيدة :
إذا ما الأريحية حركته ... تروقك هزة الغصن الوريق
وإن تكن الحفيظة أغضبته ... تهولك بطشة الفحل الفنيق
فعند الصحو يبذل كالسكارى ... وعند السكر يحكم كالمفيق
ويضحكه الوعيد من المعادي ... ويبكيه العتاب من الصديق
شجاعته إذا التف العوالي ... تذكره معانقة العشيق
ويأبى للمروءة حين يخلو ... مطايبةً مع الرشأ الرشيق
ومن غزلياته قوله في غلام مطرب :
ومطرب صوته وفوه ... قد جمع الطيبات طرا (1/197)
لو لم يكن صوته بديعاً ... ما ملأ الله فاه درا
وقوله :
من عذيري من مترف يتهادى ... في شباب ونعمة وجمال
ليس فيه عيب ويا ليت فيه ... كان عيب يقيه عين الكمال
قلت : هبني خلال عود وهب لي ... فضل ريق توليه عود الخلال
فانثنى معرضاً وقال بسخط : ... ما لهذا يا مسلمين ومالي
وقوله :
بنفسي ملول إن أردت اعتناقه ... بكى ضجراً حتى ضجرت بكاء
ويعرق إن مازحته ورد خده ... فأخشى عليه أن يذوب حياء
وقوله :
إنسان عيني قط لا يرتوي ... من ماء وجه ملحت عينه
كذلك الإنسان لا يرتوي ... من شرب ماء ملحت عينه
وقوله وهو من باب الأوصاف :
وذي زجل والى سهام رهامه ... وولى فألقى قوسه في انهزامه
ألم تر خد الورد يدمى لوقعها ... وأنصلها مخضوبة في كمامه
قلت : وهذا والله معجزات البيان الذي سماه النبي صلى الله عليه و سلم سحراً . ومن أهاجيه القوارص اللواذع في قينة :
ومسمعة صوتها شاقني ... إلى نومها بل إلى موتها
لها توبة يستفيد الندام ... جميع المسرات من فوتها
فهم يطربون وهم يضحكون ... لدى صمتها وعلى صوتها
وفي مثلها :
وقينة ثديها كبربطها ... وجسمها في النحول كالوتر
لو لم يكن إبطها وعانتها ... ما ملكت طاقة من الشعر
عتابها والسماع في العين والسمع كشوك السيال والحجر
يا شعلة في العذار يا لمعةً ... في الجلد يا نكتةً على البصر
عوفيت لكن عن المضيف وأب ... قيت ولكن في أرذل العمر
وله في هجاء ثقيل يؤم بالناس :
وأثقل روحاً من حقاف عقنقل ... أخف دماغاً من جنوب وشمأل
يؤم بنا في الخمس قطع خمسه ... وأم بصخر حطه السيل من عل
يطيل المقام في القيام كأنه ... منارة ممسى راهب متبتل
ويبطئ لبثاً في السجود كما هوى ... مكباً على الأذقان دوح الكنهبل
ويفحش في القرآن لحناً كأنما ... تعاطى كؤوساً من رحيق مسلسل
ويمكث بين السجدتين كأنما ... يشد بأمراس إلى صم جندل
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل
وزاد برغمي ركعة في صلاته ... وقد فاض حتى بل دمعي محملي
ألا أيها الشيخ الطويل صلاته ... ألم يكن التسليم منك بأمثل
وله في الشيب مشوباً بالفخر والشجاعة :
ألا إن شيباً ضافني فنفيته ... فبادرني فانشق من خوفه صدري
لأول ضيف قد كرهت جواره ... وأول قرن خفت منه على عمري
وله أيضاً يفتخر :
وديمة حرب وبلها النبل والقنا ... تصب على قيعان درع ومغفر
مطرت بنوء القوس صوب سهامها ... فقابلتها من صحن خدي بممطر
وله في المجون :
يا ملكاً قال : حملناكم ... لما طغى الماء على الجارية
عبدك هذا قد طغى ماؤه ... في الصلب فاحمله على جارية
وله يهجو أيضاً :
لنا صاحب إن يركب الفحل ظهره ... يفر قريباً كي يكر ويرجعا
فأفره به من مركب أي مركب ... مكر مفر مقبل مدبر معا
وقال يهجو أيضاً :
عشا الشيخ من حسن منهاجه ... فكاشفه إن شئت أو داجه
فقد كاد شوقاً ذباب الحسام ... يطير إلى دم أوداجه
وله في صفة ليلة صيفية :
رب ليل كالفحم شب سهيل ... فيه ناراً لها البعوض شرار
كم على الأرض للبراغيث رقا ... ص وللبق في الهوا زمار
حرها في الجسوم نم عليها ... فأرتنا أشخاصها الآثار
كلفتنا صك الجبين ولطم ال ... خد حتى تناوح الأطيار
سهرت مقلتاي فيه إلى أن ... نام أنواره وهب النهار
طمعاً في زيارة من مليح ... قل معروفه وعز المزار (1/198)
طال في هجره الليالي جميعاً ... فنسينا كيف الليالي القصار
وله أيضاً :
وشادن لقب بالبدر ... يسقيك ما يزداد في العمر
تنويشه يعجل إطرابنا ... ومزجه يمهل في السكر
قد زاد ليل الحظ في قدره ... فهل لكم في ليلة القدر
نرشف من فيه ومن كفه ... راحين حتى مطلع الفجر
وله في الشيب :
عجبت من دهري ومن ظهري ... وليس يفنى عجب الدهر
فقد حنى ظهري ولم يكسر العظم وأبقى وجع الظهر
وله وهو من الغزليات :
بليت بطفل قل طائل نفعه ... سوى قبلة يزرى بها طول منعه
ويمسحها عن عارضيه بكمه ... ويغسلها عن وجنتيه بدمعه
يكاشحني إن لاح شخصي لعينه ... ويغتابني إن مر ذكري بسمعه
ولا يستحي من وجه رفقي جفاؤه ... ومن يبتغي في عفوه ضيق ذرعه
وله أيضاً يهجو :
أما إن بيت الشعر لو صانه امرؤ ... كما أن بيت المال صان أمينه
لما زاد ديوان القويضي بأسره ... على نصف بيت غثه وسمينه
وأغرقه إن شاء إنشاء لفظة ... بكاء ورشحاً جفنه وجبينه
ولو سارق الأشعار حز لسانه ... كما سارق الأموال حز يمينه
لكان القويضي منذ خمسين حجة ... يولون لفظاً لم يكن يستبينه
وله في الحكمة :
إذ أبى السلطان أن يعدلا ... فارحمه واستغفر له في الملا
فإنما النار لهم موعد ... لم يجدوا من دونه موئلا
وله من خمرية يستزير بها بعض أصدقائه :
شراب عتيق ونقل حديث ... ومثل أغاني الغواني حديث
فسوقا إلي الشراب القديم ... فغيري يساق إليه الحديث
هواء كوشي قريضي رقيق ... وريح كمشي عشيقي خنيث
وساق إذا قال تنويشه ... أغذوا فتجميشه قال ريثوا
شمائله إن أبى الناس خشن ... ولكنها إن سقى الكأس ميث
وللمترعات مرور وشيك ... وللمسمعات حداء مكيث
فزرنا حثيثاً فللطيبات ... كما لمع البرق سير حثيث
لنغتنم اللهو إن الزمان ... كما الذئب في السرح فينا يعيث
فإن رثت عنا فإن المدام ... بألباب أصحابنا لا تريث
وقالوا : المدام حرام خبيث ... فقلت : بنفسي الحرام الخبيث
فمالي إذا ما دعوت الغياث ... من النائبات سواه مغيث
وله يهجو :
وكافر قبحت في العين خلقته ... وذكره بين أهل الفضل ما جملا
أراد يأكل لحمي زور غيبته ... ويجمل المخ في عظمي فما انجملا
تركت مفساه درباً للقمد فمن ... دنا إليه رأى أسنانه جملا
فانصاع معتقداً خوفي ومقتعداً ... ظهر الغياهب في بطن الفلا جملا
وله يهجو :
قالوا : القويضي شبيه والده ... فقلت : والجرو يشبه الكلبا
والكلب منه لم يرض غابطه ... لحماً ولا فروة ولا حلبا
رب طول يديه واعل بكعبيه ... وشرف مقامه صلبا
ولا تر الحاسدين فيه مدى الدهر ... سوى ما يرقق القلبا
الشيخ أبو نصر أحمد بن الحسن
هو من مفاخر باخرز ولو قلت إني لم أر مثله كثرة إحسان ومضاء قلم ولسان وتناسب خَلق وخلق وتناصر بنان سمح وعنان طلق وسعة رباع وطول باع ورزانة لا يخف ميزانها إلى ظرافة يرق ريحانها لما كنت إلى التزيد منسوباً ولا في المتزيدين محسوباً (1/199)
وقد وزر للأمير يبغو الحسن بن موسى والجاه عريض وناظر الدهر عنه غضيض . وتولاها سنين متمماً به زينها مقوماً زيفها مضموماً نشرها ملموماً شعثها . وشبابه بعد طري لم ينقشع غمامه والشعر مسكي لم يخلس ثغامه وما أكثر ما أتلهف على ما فاتني من جمال أيامه فأستقيم وأنحني وأذكر أيام الحمى ثم أنثني . وقد كان ارتبط لمنادمته نفراً من الفضلاء لو بعثرت خراسان لم تجد لواحد منهم نظيراً . وما زال في ربيع زمانه غض الفضل نضيراً حتى انتبه له الدهر الوسنان وتعاون في إراقة دمه السيف والسنان . واتفق أني كنت معه في قرية سداسير يوم تمحص ذنبه واضطجع جنبه وذلك في رجب سنة خمس وثلاثين وأربعمائة فرأيت هنالك أفواهاً إلى التقامه غراثاً وشاهدت ما لو احتملت به لحسبته أضغاثاً . فمما أنشدني لنفسه من شعره قوله في محنته :
قالت سليمى وقد قيدت باكية ... أراك في القيد تمشي كيف أغتبط
فقلت : لا تحزني مما ابتليت به ... فالقيد والحبس للأحرار مشترط
العجل يطلق في المرعى ليأكله ... والطرف يلجم أحياناً ويرتبط
وتحبس الخمر حولاً قبل مشربها ... ويغمد السيف حيناً ثم يخترط
وعقد له مجلس أنس في دار غيره وفي المجلس ثقيل يتزود كبد النعيم فمنعه من إحضار معشوقته على الرسم القديم . وتلطف هو في الكناية عن إماطته بقوله :
مجلسنا طاب كما يشتهي ... حضوره الزاهد والزاهده
فلو نقصتم منكم واحداً ... لزدت في مجلسكم واحده
وأنشدني أيضاً لنفسه في معنى لم يسبق إليه :
من عاذري من عاذل قال لي ... ويحك كم تعشق يا مغرم
وآلم القلب ولا غرو إذ ... كل ملوم قلبه مولم
وصنعة البيت الثاني أن الملوم مؤلم القلب بما يعانيه . فإذا قلبت صورته كان قلبه أيضاً مؤلماً يعني مقلوبه . ونعم ما أخرج اللفظ ذا وجهين يمكن حمل المعنى عليه من نوعين . وأنشدني أيضاً لنفسه في دنان خمر مسخت خلاً :
أخيل للأحباب لما غدت ... أحبابنا ممسوخة خلا
مجالس اللهو وشرب الطلا ... عز على اللهو إذا اختلا
وكسرت بعض العجائز بين يديه جوزة بثغر مثقل فقال مرتجلاً :
وعجوز لها ثغور شتات ... وهي قبر فيه عظام رفات
وبأسنانها الشتات البوالي ... تكسر الجوز أي بأني فتاة
وأتي يوماً بغصن من الصفصاف فقال فيه مرتجلاً :
وخلاف أصوله ... صغن من جرم بسد
ركبت في فروعها ... قطع من زمرد
الشيخ أبو الحسن يوسف بن صاعد العقيلي رئيس قدره نفيس يتحلى بشرف الأصل كما يتحلى بالفرند متن النصل ويجمع بين أدبي النفس والدرس وطهارتي النشئ والغرس . وبارع في الآداب الملوكية إذا ركب إلى الصيد لم ينج الوحوش من صيده . وإذا امتطى الباز دستبانه انتفض شرفاً بيده . وإذا لعب بالشطرنج لم يخل لعبه من قطعة من الخشبات مغصوبةً ولم يأل في اختراع شهمات أو ابتداع منصوبة . ثم إذا تخلص منه إلى النرد قدر في دقائقه تقدير داود في السرد حتى كأن الكعاب تتصرف على طاعته وتضع نفوسها بحسب إرادته . وإذا حاضر بالأدب فلا يشتغل إلا بالتقاط الدر من ألفاظه الغر . ومن لطائف ما شاهدت من ذكاء خاطره أني كنت عنده بجوذقان أطالع كل صبحة من غرته قمراً زاهر اللألاء وأهز إلي من نخلته شجراً يجني أزاهر اللآلاء . فلما طال مكثي لديه وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه استأذنته في الانصراف واليوم يوم الأحد . فتمثل بقول القائل :
وفي الأحد البناء لأن فيه ... تبدى الله في خلق السماء
فقلت : وأي مناسبة بين استئذاني للصدر عن هذا الغناء وبين يوم الأحد وذكر البناء فقال : نبني على كسرى سماء المدام يشير إلى قول أبي نواس :
بنينا على كسرى سماء مدامة ... مكللة حافاتها بنجوم
فتعجبت من جمعه بين معنيين متنافرين بهذا الاستنباط اللطيف واحتياله في ارتباطي ذلك اليوم بالعذر الظريف . ومما جاد به طبعه وجاش به بحره قوله وكتب به إلى والدي رحمهما الله ثم اتفق له إيصاله إليه من يده :
إن كنت أسكن جوذقان ومنشأي ... تلك البقاع وكلها جنات (1/200)
فالقلب في مالين يسكن وادعاً ... تلقاء من هو للعلوم أداة
سأطير شوقاً نحوه فلقد بدت ... للشوق في أحشائي الحركات
فأجاب عنه بقوله :
وجنات حور تلك أم جنات ... أم من مقال رئيسنا أبيات
وصلت إلي على يد من جودها ... وصلت إلى كل الأنام صلات
كانت هبات الله إذ سكنت بها ... لرياح شوقي نحوه هبات
فسررت منه سرور من بشرته ... بابن وقد كثرت عليه بنات
حركات شوقي أقلقته فكان في ... حركات شوقي للورى بركات
إن جاء مثل حيا الربيع مبشراً ... تحيا الموات به بل الأموات
وكتب إلى ولدي أيضاً :
يا من أرى كل يوم ... هواه يومي ويوحي
إلى فؤادي بشوق ... مبرح بالروح
متى كتمت هواه ... في قلبي المجروح
يقل هواه لعيني ... لا تكتميه وبوحي
فأجاب عنه بقوله :
قل للرئيس المرجى ... عمرت لي عمر نوح
متى سقيت صباحاً ... ذكراك طاب صبوحي
ارحم فؤاداً ذلولاً ... أسير شوق جموح
شوق يقول لعيني ... فيضي وللنفس بوحي
كفى شهيداً عليه ... بدمعي المسفوح
هذا قريضك أبرا ... قلباً مخوف القروح
وصار قرة عين ... بين الدموع سنوح
فارجع ليرجع نحوي ... عقلي وصبري وروحي
فيستفيق فؤادي ... ويستريح نصوحي
وكتب إليه أيضاً يستزيره :
الشوق برح بالحشا ... والليل مسترخ سجوفه
إن لم يكن للشيخ عذر ... في الحضور فما وقوفه
فأجاب :
وصل القريض فجم طا ... ئلة وإن قلت حروفه
وأليف قلبي شوقه ... قد فات إحصائي ألوفه
لكن عداني عنه غيم ... جاء لامعةً سيوفه
ومن استزار ذوي اللحى ... والليل مسترخ سجوفه
وكتب إلى والدي أيضاً وأنا حاضر عنده :
إن ناب عن شخصه علي ... في الفضل والظرف والكمال
فعاشق الورد ليس يرضى ... بشم ماء له زلال
فأجاب عنه :
الشيخ في الفضل والكمال ... جل عن الشبه والمثال
أراه في جملة البرايا ... كالبدر في ظلمة الليالي
شبهني فضله بورد ... وابني بماء له زلال
يا طالب الورد في أوان الش ... شتاء هذا من المحال
من نال منها بماء ورد ... إن عدم الورد لا يبالي
وأنشدني لنفسه في غلام هندي للشيخ أبي سعد الخداشي :
ألا أبلغا الشيخ الرئيس رسالةً ... مقالة منسوب إلى الود والنصح
بأني أشري عبده عند عسرتي ... بعشرين آلافاً من الوضح الفتح
وعلق بحفظي ببيت من قصيدة له وهو :
والشياطين إذ بغوا وتعدوا ... أتبعوا منك بالشهاب الثاقب
أبو المظفر محمد بن تمام
فاضل متدين والتبرك بذكره فرض متعين . وله علي حق التأديب وقد كان من المؤدبين الذين لم يبدر من طباعهم شعر يروى وليس بأيديهم إلا لغة تكنز وأدب يحوى . وما زال التأديب حرفته حتى طوى من مسافة العمر أكثر المراحل وانتهى من لجة بحر الحياة إلى الساحل . ثم كف بصره بعدما كان ينسب زرقاء اليمامة إلى العمى ويعير فحل بني قيس بالعشى . ولست أروي له إلا بيتين كتب بهما إلى والدي وهو في السوق :
يا فاضلاً سابقاً في كل مكرمة ... مستغنياً بالنهى عن كل مخلوق
السوق يخلق وجهاً جد رونقه ... لا تخلقن جديد الوجه بالسوق
فأجابه :
ما كنت من قبل هذا غير مسبوق ... لكن عين رضاه نفقت سوقي
لو كانت السوق بالأحرار مزريةً ... ما كان يمشي رسول الله في السوق
وقوله لأبي سعد الكنجروزي وقد خدع من كتابه تلميذاً له :
مؤدب يشبه طولاً مئذنا ... قد جاءنا يسلينا تلميذنا (1/201)
أخوه أبو سعد محمد بن تمام
نسيج وحده في الترسل وكان في عنفوان شبابه يؤدب فلما اشتعل رأسه ترفع عن تلك الحرفة الموصوفة بالحرفة . وتقبله كل من سادات زمانه بكلتا اليدين ونزل منهم منزلة السواد من العين حتى كتب إليه الشيخ أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي :
أبا سعد فديتك من صديق ... بكل محاسن الدنيا خليق
أهم ببسط حجري لالتقاط ... إذا حاضرت بالدر النسيق
وليس يحضرني من شعره إلا قصيدة رثى بها أبا الحسن أحمد بن محمود بن عون وعزى أباه عنه وهي :
عزاك أيها الصدر الخطير ... فأنت بدهرنا طب بصير
وأنت سماؤنا والركن فينا ... وأنت شهابنا النجم المنير
وطلاع المراقب والثنايا ... بثاقب رأيه أبداً يشير
لقد حلت بساحتنا الرزايا ... وحول ديارنا كانت تدور
وكانت في الكمين لقبض روح ... يموت بموتها بشر كثير
شمائل خلقه روض أريض ... عقائل لفظه أري مشور
فقدنا فخرنا زين الليالي ... وعمر خيارنا أبداً قصير
ليالي القوم ليس لها صباح ... صباح القوم ليس لديه نور
فكيف عزاؤنا والأمر هذا ... وغاية شأونا قبر نزور
فيا لله من خطب عظيم ... ويا لله ما تخفي الصدور
على قدر القوائم جسم فيل ... على قدر المصاب لنا أجور
وأنشدني والدي رحمة الله عليه له قال : علق بحفظي مطلع قصيدة له رثى بها عمي رحمهم الله جميعاً :
كذاك الموت يقرع كل باب ... فلا تغررك خافية الغراب
أبو الفضل محمد بن علي
الكاتب الميزاني
كاتب بارع وله طرف من النظم رائع . فمن فصوله المنثورة قوله في أيام الفتنة : " درست الملاحب وتناقضت المذاهب وتشعبت المسالك كأخاديد الرمل وطرائق النمل " وفي صدره رجع الحق إلى أهله وذاق الغوي وبال أمره وتجددت الدعوة الميمونة وتطرأت الأجسام المدفونة وأورقت المنابر بعد ذبولها وأشرقت المفاخر بعد أفولها وشاهد الأقاليم من الولاة من يقيم مختلها ويداوي معتلها . فولي أخياف الرعايا وساسها وبنى قواعد الدولة وأساسها ونادى الزمان فواتى مساعداً
ولم أجد من نظمه غير هذه الأبيات :
صفت خراسان عن شوب وعن رنق ... وعن كدورة عصيان وعن مذق
بيمن تدبير قرم في وزارته ... مشاهد الصبر للأحوال معتنق
مؤزر بجميل الصنع متئد ... إلى المكارم والخيرات مستبق
فالملك في سعة عن جد مجتهد ... ما بين منتظم حالاً ومتسق
والناس في راحة والروح في دعة ... بعون ممتدح في الخَلق والخلق
يظل بين عباد الله كلهم ... لنومة الخلق مجبولاً على الأرق
أبو علي الحسن بن أحمد المؤدب
المعروف بالمكي
مؤدب لغوي يطرح اللام عنيت أنه غوي في مسالك الكلام . لا تكاد تجد في شعره حلاوة ولا عليه طلاوة ولا له طراوة . غير أني لم أنس نصيبه من تجديد الذكر إذ كان من أهل ناحيتي وعقدت مصلحته مناسبة الأدب بناصيتي . فمما وجدت من شعره :
كبا زمني فخر على اليدين ... وأفسد بينه حالاً وبيني
وكيف تنعمي فيه وإني ... لحلال بين مخافتين
فيوماً يعتريني خوف فقر ... وآخر يعتريني خوف حين
كذا عيشي كذا شيبي وحالي ... ومن لي بالتنعم بين ذين
سوى أن أستعد له فأشكو ... إلى الليث الهصور أبي الحسين
يروم المجد من أقصى مداه ... ويقبضه ولو في الشعريين
فما للهم عندي من قرار ... وقد وقعت على سيماه عيني
كذاك وبعد ذلك لست أخشى ... مطالبة بغرم أو بدين
وله من قصيدة مدح بها الشيخ أبا الطيب الخداشي :
تضمن بحر العلم والجود والندى ... وطود الحجى والرأي منه غلائله
مديد ذراعاه كثير نواله ... جميل محياه طوال أنامله (1/202)
سيثري زماناً أو سيرمل تارةً ... ولم تنقطع في حالتيه نوافله
وله :
إذا المرء لم يبرح يماري صديقه ... ولم يحتمل منه فكيف يعايشه
وأنى يدوم العهد والود بينه ... وبين أخ في كل ذنب يناقشه
محمد بن علي المعروف بخميس
مؤدب الشيخ أبي سعيد الخداشي وهو في الشعر من المقلين ولولا المحاباة لقلت من المخلين . ولم أجد له إلا هذه الأبيات :
يا كاتباً قد عد واحد عصره ... ببيانه وبنظمه وبنثره
فاق الأنام فصاحةً وحصافةً ... وعلا النجوم بجاهه وبقدره
فجميل نقش الصين أقبح خطه ... وثمين در السمط أحقر دره
صنعت له كرماً رياض محاسن ... تحكي محاسنها الربيع بزهره
من يكتني بالنصر أصدق كنية ... لنضارة موجودة في بشره
يا كاتب الشيخ العميد وعونه ... ولسانه حقاً وصاحب سره
لا زلتما للملك من بين الورى ... ركنين معمورين مدة دهره
قد جاء خادمك المطيع بخدمة ... بدوية نطقت بطاقة يسره
إن كنت ترضاها له وتشيدها ... تجد السبيل إلى تمهد عذره
كيما تجد يداً بذلك عنده ... غراء يشكرها ليالي عمره
الله صانك سائراً ومخيماً ... أبداً وزادك من عوائد بره
الحاكم الخطيب أحمد بن الحسن بن الأمير
حاكم باخرز وخطيبها ومن به حسنها وطيبها . جامع بين وقار الشيب وظرف الشباب ضارب بالسهم الأوفر في فنون الآداب
فتى لم ينكبه الشباب عن الحجى ... ولم ينس عهد اللهو والشيب شامله
وفتيانيه الظرفاء بغير تيه وأبهة الكبير بغير كبر . وهنالك ما شئت من حبر وسبر . وهذه ملح له رائقة من كل فن فمنها في الغزل قوله :
غزال هواه مبدئ ومعيد ... وحب جناه سطوة ووعيد
وكنيته بؤس وعيد كلاهما ... ويوماي بؤس في هواه وعيد
وإني لذو طورين طوراً بهجره ... شقي وطوراً بالوصال سعيد
وله في فقيه له ابن شاطر :
لست أرضى من الفقيه بهذا ... كنت أرجوه قيماً وملاذا
فهو يهدي الأنام علماً رضياً ... وابنه يسلب القلوب لماذا
وله في المجون :
أحب النيك إن النيك حلو ... لذيذ ليس فيه من حموضة
يهش إليه من في الأرض طراً ... إذا ما ذاقه حتى البعوضة
وله من الطوالات قصيدة قالها في حسام الدولة وذم فيها فناخسرو . وفيها :
سيعلم أولاد البغايا وحزبهم ... وشيعتهم أي الفريقين أبصر
إذا اسودت الرايات واحمرت القنا ... وضاق من الخيل الحضيض وعرعر
شرابهم زرق النصال وخمرهم ... دماء الأعادي غير أن ليس يسكر
وأسيافهم فوق المناكب جردت ... وشيمتهم عند البراز التبختر
يرون قتال الديلمية مفخراً ... ويرجون رب العرش يعفو ويقدر
وددت وما تغني الودادة أنني ... ملكت عنان الخيل ساعة عبروا
وكانوا رأوا بأسي وصبري ونجدتي ... وإن كان موتي فيه والموت أعذر
وإن كنت فيما قلت لست بصادق ... فلا نال يوماً قط رجلي منبر
ولا كان في عنقي الحمائل والظبى ... ولا كبر المحراب خلفي مكبر
قلت : هذه والله يمين لائقة بالحال منه مثبتة عليه بصدق المقال والشيخ أبو منصور الثعالبي أورد ذكره في كتاب تتمة اليتيمة والحسن بن الأمير الذي تقدم ذكره جد هذا الحاكم . فكأن أهل بيته تنازعوا الفضل بينهم قسماً طول حياتهم وتوارثتها أعقابهم حصصاً بعد وفاتهم
أبو نصر منصور بن عبد الله البكسارغي (1/203)
هو من تلامذة أبي القاسم الحسن بن أسد العامري اقتبس العلم من أنواره واغترف من بحاره وغاص في النظم والنثر على المخ في العظم وعاش في قريته جند فرشاذ من ناحية باخرز . منفقاً نهاره على الأدب وليله على الطرب . مستميلاً للقلوب بفنونه مسترقاً للأحرار بمروءته إلى أن اتهم برقة الدين والله أعلم بحق اليقين . فاتخذ الليل جملاً واستصحب من تجمله جملاً وهرب إلى مصر ملتجئاً بعزيزها وقضى نحبه بها تغمده الله برحمته . اقترح عليه أن يترجم بيتين بالفارسية قول القائل :
من بر كه عاشقت كه جنين زردست ... كوئي كه جو من أز صنمش بر درداست
كيرم كه مشك بوى بوى داد ست ... اين رنك زعفراني زكجا آوردست
فقال وقابلها حرفاً بحرف :
بمن شغف الراح مصفرةً ... تراها عراها الذي قد عراني
هب المسك سوغها عرفه ... فأنى لها صبغة الزعفران
أبو نصر أحمد بن إبراهيم الكاتب
برق الأفهام براق الأقلام يلقب بالأعرابي لتشبهه في فصل الخطاب بالأعراب . أدب والدي رحمه الله فكان أثره عليه أثر الصيقل المعني بشأن الحسام المشرفي وناهيك به من مفلق حسن البيان هزج اللسان . سمعت والدي رحمه الله يقول وقد سئل عنه : " كانت البلاغة ترنو عن احداقه والعربية تطن بين أشداقه وهو في الشعر من المكثرين المثرين إلا أنه انضم إلى خدمة سمية الأمير أحمد الأعرابي حيناً من الدهر . وتوفي في جملته ببلخ وضاع ديوانه وهنالك لم يبق بأيدينا إلا شوارد تتهاداها الشفاه وتتلمظ بها الأفواه . فمن محاسنة لاميته التي مدح بها شمس الكفاة الميمندي ومطلعها :
نهى الشيب عما كان ينهى العواذل ... وعارضه شغل من الشيب شاغل
إذ الدهر عن وصل الحبيبة نائم ... وإذ هو عن حال الشبيبة غافل
ومنها :
وبيضاء من سر العقائل طفلة ... تعلم من أجفانها السحر بابل
يغني عن اللبات منها وشاحها ... وتخرس في الساقين منها الخلاخل
ومنها :
وخمر كعين الديك صرف دنانها ... مرازبة من آل كسرى مواثل
عليهن من طين الختام عمائم ... ومن نسج غزال العنكبوت غلائل
ومنها في المدح :
لدى كل حي من لدنه نوافل ... وفي كل حين من يديه فواضل
تدارك أمراً بعدما اعتاص والتوت ... دوابره والتاث منه القوابل
وقام بعبء لا يقوم بمثله ... من الناس إلا كامل الرأي بازل
فأصلح منه كل ما هو فاسد ... وقوم منه كل ما هو مائل
إذا زاغت الأحكام ثقف درأها ... قضاء له بين الرعية عادل
تساعده الأقدار فيما ينوبه ... وينصره التوفيق فيما يحاول
له قلم يغني ويكفي عن التي ... تعد لها سمر القنا والقنابل
ضعيف قوي الشأن أخرس ناطق ... أصم سميع ناقص الخلق كامل
عجبت له يجري ويرجع بعده ... فيرقص إعجاباً بما هو فاعل
ويحمله الواني فيظهر عجزه ... إذا لم يكن طباً بما هو حامل
بل بعض قراء الدفاتر جاهل ... كما بعض ركاب السوابح راجل
كذلكم الأقلام في كف بعضهم ... رماح وفي بعض الأكف مغازل
ومنها :
ألا أيها الشيخ الأجل ومن له ... سماء على أرض المكارم هاطل
يؤخرني عن عرصة الفضل أن أرى ... وبابك عن نظمي ونثري عاطل
فدونك نظمي واصطنعني خادماً ... بين عاجل مني كما هو آجل
فلا برحت أفناء سدتك العلا ... ولا أخليت منها ومنك المنازل
فأنت لوجه الجود والمجد غاسل ... وأنت لسيف الدين والملك صاقل
وأنشدني والدي رحمه الله قال : أنشدني لنفسه :
الا لا تبال بصرف الزمان ... ولا تخضعن لدور الفلك
وساخف زمانك واسخر به ... فما العيش إلا الذي طاب لك
وأنشدني أيضاً له : (1/204)
إني إذا أصبحت في بلد العدا ... فالنبل مشطي والظبى مرآتي
إني إذ ركب الرجال رأيتني ... أغشى الحتوف وكل آت آتي
أخوه أبو العباس محمد بن إبراهيم الكاتب
شبيه أخيه في تحري الفضل وتوخيه وكتب إلى الشيخ أبي الحسن العقيلي بخط كما تشتهيه العيون ونصح كما تقتضيه الظنون وفنون من الآداب تقمر بها الدآدي الجون وله ظرف ناصع وشعر بارع وترسل رائع فمما أختار من شعره قوله في دار بناها الشيخ أبو القاسم بن كثير ببلخ مطلعها :
أهلاً بدار أبان بانيها ... دلائل المجد في مغانيها
فأصبحت خطبة مصنفةً ... تزين ألفاظها معانيها
دار حكت صدر ربها سعة ... تسافر العين في نواحيها
فيحاء ذات العماد ضرتها ... حسناء كرخ العراق ثانيها
فصرح هامان لا يعارضها ... وقصر غمدان لا يساويها
ومنها :
وبيت ماء كأن قبته ... تسامر النجم أو تساميها
ومنها :
يفيض في نهره اللجين وإن ... خر خرير المياه تمويها
تسمع فيه حفيف أجنحة الط ... طير إذا رفرفت خوافيها
لا بل قصيف الرياح في حلل السحاب منحلةً عزاليها
ومنها :
وأم نار جحيمها أبداً ... مجاور للجحيم يصليها
ومنها :
لها صفات اللظى وداخلها ... في جنة جمة ملاهيها
بحارها كالبخور ممتزجاً ... بماء ورد لمن يوافيها
كأنها غادة مفتقة ... معتادة نعمةً وترفيها
ميزابها بالغناء مطربها ... دولابها بالأناء ساقيها
وروضة تستعير بهجتها ... من حسن أخلاقه فتبديها
كأن اشجارها مكارمه ... تؤتي ثمار النهى وتجنيها
وبركة وسطها مباركة ... ينتظم الموج في حواشيها
كأن أفواهها إذا انفجرت ... أراقم الرمل تلتوي فيها
كأنما فضضت جداولها ... أو ملئت زئبقاً سواقيها
كأنها تقتدي بصاحبها ... إذا جرى الماء في مجاريها
ملقى عصي العفاة عرصتها ... موسم سوق الكفاة ناديها
فاشرب إذا شئت متى ... شئت وما شئت في مغانيها
واغن طويلاً بها وعش أبداً ... لها وكن ربها ودم فيها
وله في الشيخ أبي القاسم بن كثير يهنئه بالابلال من علة عرضت له :
كشف الإله ظلام ذاك العارض ... عن مهجة الشيخ العميد العارض
وأماط عن حوبائه برحاءه ... فانجاب عارضه انجياب العارض
حرس الإله بهاء شيبته فما ... أبهى وأنور شيب ذاك العارض
ومن ملح أهاجيه قوله :
أيهذا الأدب المجفو ما أقفر دارك !
ليت لي عوناً على الأيام كي أدرك ثارك
لم تزل زوزن مأوى الفضل والمغنى المبارك
خري الدهر عليها ... بالحسين بن عيارك
الحاكم أبو يعلى محمود بن عون
كاتب الناحية وأوحدها في زمانه متكفل بمصالحها الداخلة تحت ضمانه . وقد رأيته فرأيت شيخاً موقراً يرتدي من قضاة عصره جاهاً موقراً . فأما الأدب والشعر فإنه متطرف له متظرف به . أنشدني أبو سعد بن تمام له قال أنشدنيه لنفسه :
يا نفس عودي إلى باب التقى عودي ... فإن أيدي شيبي قد حنت عودي
ما ينفع اسمي محمود إذا احتوشت ... بي الذنوب وفعلي غير محمود
ابنه
أبو الحسن بن عون
ارتحل في عنفوان أمره إلى نيسابور وأنفق بها على التفقه ريعان عمره واختلف إلى أئمتها حتى مكنته العلوم من أزمتها ولا يخفى طول باعه في فنون العلم وأنواعه . وعاد إلى الناحية وهو في كل فن من فنون الفضل نجيب لا بل عجيب إلا أنه احتضر فاختصر . وقد علق بحفظي من قيله بيتان وهما :
لي غزال وداده ... مع قلبي مغازل
نزلت أهله اللوى ... لا دهتها النوازل
عوان بن محمد بن عبد الملك (1/205)
من أقارب الحاكم أبي يعلى محمد بن عون وأبو الحاكم أبو علي الفضل كان خطيب جامع بيرق . وهو من لا يخفى طول باعه في فنون الفضل وأنواعه . أنشدني لنفسه :
لم أدر ما سبق القضا ... ء به لنفسي قبل كوني
والذنب أضعف منتي ... يا رب كن عوناً لعوني
الفقيه محمد بن يحيى التيرشاذي
أنشدني له الفقيه ابنه أحمد قوله في شكاية الدهر :
تغيرت لي يا دهر لكن وجدتني ... فتى لم تغيره بفقر ولا غنى
ولا يتلقى من عطائك مقبلاً ... كما لم يشيع من نوالك ظاعنا
وأنشدني له أيضاً :
وشعرة سرقت من طرته ... تدورت فوق بناني حلقا
كعاشقين اصطلحا من بعدما ... ضر التجني بهما فاعتنقا
ابنه الحاكم أحمد
متنوع في العلوم متصرف في الفقه والوعظ والطب والنجوم . إذا أفتى حل عقد المشكلات وإذا وعظ شرح قلوب العصاة وإذا عالج سد طريق الممات وإذا نجم نم على أسرار السموات . كتب للشيخ العقيلي بخط كما تشتهيه العيون ونصح كما تقتضيه الظنون وشعر بارع وترسل رائع أنشدني لنفسه :
ألا إنما الدنيا متاع فخلها ... فإن المنايا للآماني بمرصد
فحتى متى ترجو المنى وهي ضلة ... وحتى متى تخشى الردى وكأن قد
لك الخير فاسمع إنني لك ناصح ... مضى أمس فاسع اليوم ينفعك في غد
وله في نزول الآجال قبل حصول الآمال :
أليس عجيباً أن ترى كل عاقل ... له أمل والموت قبل حصوله
فهل تارك دنياه قبل زوالها ... وهل عامر للقبر قبل نزوله
وله في بستان للقاضي أبي القاسم الداودي رحمة الله عليه بهراة وفيه بركة جارية :
يا بركة كادت تفاخر أهلها ... بسيولها وبمدها وبجزرها
كفي فإنك لو رأيت مكانه ... ما كنت إلا قطرة من بحرها
وله أيضاً :
أأحبابنا قد فرق البين بيننا ... فما منكم بد ولا عنكم صبر
ويوم وقفنا للوداع كأننا ... وقوف على جمر وإن لم يكن جمر
أضاءت لنا من جانب الخدر غادة ... تمنيت لو أن الفؤاد لها خدر
ومنها :
ووردية الخدين غصنية الحشا ... إذا ما تجلى وجهها أظلم الشعر
فلو كان ذا صبحاً لما طلع الدجى ... ولو كان ذا ليلاً لما سطع الفجر
اشارت إلينا بالسلام فودعت ... ولا سر إلا وهو عند النوى جهر
وصدت وصكت نحرها بسوارها ... فكان لها في كل جارحة نحر
عزيز علينا أن نرى كل ليلة ... لصرف خطوب الدهر بي وبكم غدر
وقد طالما عشنا بخير وغبطة ... يؤلفنا جحر وينظمنا وكر
أبو عبد الله محمد بن سعيد البردسيري
قارع باب العفاف قانع من دنياه بالكفاف خالص النحيلة إذا وعظ ماطر المخيلة إذا أومض وله شعر الزهاد المتقين في بلاغة الأدباء المتقنين . فمما أنشدني لنفسه قوله :
قلت للشيب حين لاح ألا ابعد ... قال : بعدي لحين نفسك حين
قلت : عاجلتني لماذا أجبني ... قال : إني أنا النذير المبين
وقوله :
إن قدموا الجاهلين بالنسب ... وأخروا العالمين بالأدب
فقل هو الله وصف خالقنا ... من بعد تبت يدا أبي لهب
وقوله :
لم ينفع الجاهلين موعظتي ... ما ضرني جهلهم فيعديني
لما أضاعوا نصيحتي وأبوا ... قلت : لكم دينكم ولي ديني
أخوه الفقيه
أبو إسحق إبراهيم بن سعيد
له حظ من الوعظ سني وشعر فائز القدح سري . أنشدني لنفسه :
خالل إذا خاللت خلاً خيراً ... وبه تمسك تقتبس من خيره
واهجر أناساً مهجرين أولي الخنا ... فالهجر سامعه درية ضيره
وإذا رأيتهم فأغرض عنهم ... حتى يخوضوا في حديث غيره
وأنشدني أيضاً لنفسه :
سماع العلم من غير الطبيعة ... سراب غر راجه بقيعه
وهل تجدي السيوف على بنيها ... إذا ما خانها الأيدي المطيعه (1/206)
محمد بن أبي نصر بن عبد الله
قريبي في الأنساب وقريني على الشراب وأميني من حيث الاعتماد ويميني من حيث الاعتضاد ونازل مني محل الأغر من الأولاد الذين هم أفلاذ الأكباد وناطق باللسانين وحائز خصل الرهانين فمما اتفق لي في وصف منادمته وحسن مواضعته قولي :
فدتك النفس يا قمري وشمسي ... ويومي في ودادك مثل أمسي
طلعت فكدت أصبح من تلالي ... جبينك لي فقال الصدغ : أمس
تعالي واملأي سني صباحاً ... بضرة وجهك الوردي بخمس
على وجه الذي أجنى بناني ... ثماراً للمكارم وهو غرسي
فإن ساءلتني من ذاك أنشد ... وذاك محمد تفديه نفسي
ودارت في المجلس كأس متلاطمة الأمواج مائية الجوهر نارية المزاج . فتبادرتها جماعة الشراب وجعلوا نعالهم أقراط الأنامل بداراً إلى الباب . ومد هو إليها راحته وقرع بها جبهته وعمر بطول مقامه في المجلس جنته . فقلت :
يا حبذا الكأس لا يسطيع حاملها ... يمشي ولا أشجع الشراب يقربها
كأنها الشمس إلا مطلعها ... أيدي السقاة ولكن عز مغربها
يفر منها الندامى مرحباً بهم ... وليس يعرف ذا أم ذاك يضربها
لا تهربوا والزموا يا قوم مجلسكم ... محمد بن أبي نصر سيشربها
كأساً كقلبي من حبيه مترعة ... واملأ الكأس إن أنصفت أطربها
وله رباعيات بالفارسية رقيقة واختراعات فيها دقيقة أما العربية فقلما يظهرها علي وينشدها بين يدي . إلا أني رأيت في بعض مسوداته قوله :
وفتاة ألبستها من شبابي ... ملبساً فيه نزهة ونعيم
فإذا شبت وانحنى ظهر أيري ... وانحناء الأيور خطب عظيم
غدرت بي وغادرتني وحيداً ... إن ربي بكيدهن عليم
وقوله :
تقطع قلبي خشية من فراقكم ... وعاد سروري من رحيلكم وجدا
وسال دموع العين قبل سراكم ... فكيف إذا سار المطي بكم وخدا
وله يهجو :
حوى الفضل يعقوب بن أحمد جاهدا ... وقد زاد حتى عاد بالعكس جاهلا
ألا فاعجبوا من فاضل صار فضله ... فضولاً وسحبان تحول باقلا
وله أيضاً :
ثلاثة ليس لها رابع ... عندي إذا رمت تباشيري
راح كما أرضى وروح كما ... أهوى وريح في المزامير
وله :
هواي في صهباء يسعى بها ... ساق بما أهوى ملي مليح
وإن تقل منهن أو منهم ... أقل وأغنيك صبي صبيح
شعراء جام (1/207)
قلت : وقد فرغت من طبقات باخرز وعلقت على فرسي اللجام أنحو جام فإن قال معترض : جيم جام زاي قلت : عقدت عليه الحزام أقصد ناحية زام والكلام لدي والزمام بيدي . وإذا أخذ المهرقات من شعوذ استسهل المأخذ . فطوراً يضاعف بها أسنانه ومرة يطوي عليها بنانه وتارة ينشز عنها أجفانه وكرة يخفيها في الغيب وأخرى يطلعها من الجيب وسمعت المشعوذين ببغداد يقولون : ريح لكنه مليح . ثم أرجع إلى حديث السدى فأقول : قد فحصت عن رجال زام فلم أجد فيهم غير أبي العباس البوزجاني وأبي جعفر الأندادي وعبد الملك بن محمد الذريسكي . وجاوزتها إلى اسفند فلم تبلل يدي ولم تند كما كنت قبل انفتالي إلى ناحية خواف وضعت بالرخ الرخ وأردت أن أستف عن عظمها المخ . فلم يمخ العظم ولم ينق ولم يذربها الدهر سؤراً ولم يبق . وتأملت قري المحول وأجلت النظر في الآخر والأول فلم أنتفع منها بمقيم ولا طار . وإذا مكان الهلال من ذلك الأفق عار وأما زاوة فقد ظلمتها حين سلبتها جماله كسبية الأعشى وقد سلبها جريالها أعني نقل محاسن الشيخ أبي الحسين علي بن أحمد الزاوي إلى نيسابور من زاوة وذلك ذنب ليتني كنت منه فالح بن حلاوة فإن لنيسابور تسعاً وتسعين نعجاً ومن أشد الظلم أن أسلك إلى النعجة الفردة بزاوة نهجاً وأنا وإن رتبته في معانه فقد نسبته إلى مكانه . وإذا وصلت إلى زوزن ووردتها كما ورد موسى ماء مدين ووجدت في حلبات آدابها جماعة الفضلاء يتراهنون ويستبقون كما وجد موسى على ماء مدين أمة من الناس يستقون تداركت ثم بكثرة تلك الأمداد قلة هذه الأعداد إن شاء الله عز و جل وأخر الأجل
أبو العباس البوزجاني
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي قال : أنشدني الأستاذ أبو محمد العبد لكاني قال أنشدني البوزجاني لنفسه :
إن كنت تزعم أن ذلك باق ... فلقد غويت غواية العشاق
تباً لنا إن قيل أنت فقيهنا ... وزعيمنا ومكاتب الرستاق
أبو جعفر الأنداذي
أنداذ قرية من زام وقد نطق كتاب " يتيمة الدهر " بذكر هذا الفاضل وشعره وهو أمثل أهل ناحيته في صفته . وكانت له طريقة في الشعر تفرد بها ولم يلحق غيره فيها شوطه وإن قنع الفرس سوطه في طلبها . وهي قصائده . التي صاغها بالعربية وترجمها بالفارسية مصبوبةً في قالبها محذوةً على مثالها منسوجة على منوالها موزونةً بكفتها منعلةً بقافيتها . مثل قوله :
عذيري من قدك الخيزران ... ومن وردتي خدك الأرجوان
فغان زان دو رخ جون كل ارغواني ... وزان رسيد قامت خيزران
وأنشدني له بعض أهل ناحيته والعهدة عليه :
عليك بإخوانك الأولين ... إذا كنت في حاجة مستغيثا
فقد قيل في مثل : لن يعود ... عدو قديم صديقاً حديثا
وقوله :
ألما ببدر الدجى فانظرا ... إلى صورة صورت للورى
يكى بر امد ماه بنكرا ... بروى نكارين او بنكرا
الفقيه عبد الملك بن محمد
قيم مدرسة زريسك وهي قرية من زام . وهو صديقي الصدوق وشقيقي الشقيق . وقد جربته فوجدته من عباد الله الصالحين ومن أوليائه المقربين . وهو إمام المذهب وبه يقتدون ونجم الغيهب وبالنجم هم يهتدون . وله وعظ يرقق القلوب القواسي ويلين الصخور الرواسي ويلهب الوجد الخامد ويذيب الدمع الجامد . ولا تزال كتبه ورقاعه ترد علي فأرتع في آثار بنانه وأرخي طول الألحاظ في أزهار حنانه وأشتفي من علة كبدي بنسيم جواره وأطفئ به ما أواري من لفح الشوق وأواره وله أشعار كثيرة مشتملة على المواعظ والحكم وإن كان مثله لا يتمسك بمثل هذه العصم . فمما بلغني من نتاج خواطره قوله :
طلق الدنيا ثلاثاً ... إنما الدنيا دنية
لا تكن ممن يرجي ... عيشةً فيها هنية
إنها إن طاب ... عيش كدرته بالمنية
شعراء زوزن (1/208)
فصل : قلت : إن لنيسابور اثنتي عشرة ناحية وزوزن كما زعموا دارها وهي رحى على الفضل مدارها ولعمري إنها تربة منجبة وروضة برجالها مخصبة وبما ينبت من فضلها وأفضالها معشبة . بلغني أن الشيخ الإمام أبا الطيب سهل بن محمد بن سلمان الصعلوكي اجتاز بها فقال : بلدة قرعاء فقلت : هي كما وصفها قرعاء من مرط النبات تطن طاسات شؤونها . ولكنها فرعاء من ذوائب الحسنات تنتعل فضلات شعورها . سقى الله فلواتها الحص فما فيها إلا فاضل حظ من الفضل وخص وسقي من سلاف الأدب مشعشعة كأن فيها الحص وسيرد عليك من مآثر أخبارهم ومحاسن أشعارهم ما ينغض إليها الرأس ويشرب عليها الكأس وتشغل بروايتها الأنفاس وتنزف بكتبها الأنقاس ويوشى بحلتها القرطاس . ولا أعرف من فضلاء الدنيا من يكتحل بمحاسنهم فلا يغرم بها ولا يغرى ولهذا لقبت زوزن بالبصرة الصغرى
أبو سعيد الحسن بن إبراهيم
بن علي الهيثم المعروف بالأسود الزوزني
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي له في أبي عبد الله بن هشام الزوزني يهجوه :
إذا ابن أبي المهشوم أحضر مجلساً ... فيا ويل ديناري ويا ويل درهمي
مليء بفض المال من كيس غيره ... كأن به ضغناً على كل مسلم
وله في يحيى بن أبي جعفر الزوزني رحمه الله :
يا أيها السائل عن زوزن ... أمست خراباً شأنها أعوج
رئيسها شيخ له لحية ... شوهاء لكن عقله كوسج
النار والعرفج في وسطها ... هل تفلح النيران والعرفج
وله أيضاً يهجو :
تمنى أبو العباس لو أن دبره ... طريق بخارا والفيوج أيور
فيدخل أير ثم يحرج آخر ... وبعض أماني الرجال غرور
وأنشدني له أيضاً قال : أنشدنيه أبو علي العاصمي له :
قلت للعامل الكثير اللجاج ... بأبي أنت ما دواء الخراج
فتلكا وقال قولاً ضعيفاً ... ليس غير الأداء وجه العلاج
غير جيم خراج زوزن طراً ... في سبال المخنث الحلاج
وما أحسن ما قال الثعالبي نثراً : " الخراج خراج دواؤه أداؤه "
أبو بكر أحمد بن محمد بن الحسن
المعروف بكورخر
يقول من قصيدة :
مساءلة الرسوم عن الغواني ... لدى الحكماء من سفه الوليد
إذا ضيعت دمعك في رسوم ... فرأيك ليس بالرأي السديد
وما من حكمة خطرات شوق ... إلى عين موردة الخدود
وله :
يزري بعقلك تعريج على دمن ... مرت عليها صروف الدهر والزمن
إن الوقوف بدار لا أنيس بها ... يقضي على عزمات الرأي بالغبن
وله :
تأوبني من حب أسماء أولق ... عشاء إلى أن كادت الشمس تشرق
وما في طلوع الشمس كشف لكربة ... ولكن صدر المرء بالليل أضيق
المصراع الأول ينظر إلى قول امرئ القيس : " وما الإصباح منك بأمثل "
تصديت لي في النوم فارتحت هاجداً ... وما كل رؤيا في هوى النفس تصدق
وكتب إلى ابنه أبي علي من خواف :
محمد إن مرت سنوك ولم تنل ... من العلم حظاً لم تكن بمحمد
ولست براض عنك إن لم توافني ... عشية يوم السبت أو ضحوة الغد
لتدرك حظاً من أبيك فإنه ... أسن وأمسى للمنون بمرصد
وله في الأمير أبي إسماعيل الميكالي :
كأنهم فلق الإصباح منبلجاً ... كل أمير وكل بالعلا حال
سيادة ورثوها عن أوائلهم ... كف الأذاة وجود الكف بالمال
إن الأصول إذا طابت منابتها ... طال الفروع وليس النبت كالضال
وله :
وقافية حذاء ألقيت حشوها ... وصححت معناها فجاءت مهذبه
مصدقة في كل ما نطقت به ... وإن كذبت أيضاً فغير مكذبه
لها رونق لا يخمد الدهر نوره ... منقحة من كل عيب مشذبه
إذا شعراء السوء قالوا فعذبوا ... قوافي شعر لم تجدها معذبه
أبو جعفر محمد بن إبراهيم المعدني (1/209)
من معدن زوزن . أخبرني الشيخ الرئيس أبو القاسم عبد الحميد بن يحيى عنه أن هذا المعدني رأى مكتوباً على جدار :
لكل شيء فقدته عوض ... وما لفقد الحبيب من عوض
فأجازه بقوله :
وليس في الدهر من شدائده ... أشد من فاقة على مرض
أبو غانم أحمد بن مزاحم العطار
قال يهجو رئيس زوزن :
ألا العن خالداً واشتم أباه ... ومزق عرضه وانصر عداه
فإنك لا تزال بكل خير ... إذا هو لا يراك ولا تراه
وله أيضاً :
إذا كان الفقيه يلص جهراً ... ويأخذ مالنا جوراً وقهرا
هلموا يا أخلائي هلموا ... على ذي الفقه والمفتين نخرا
أبو بكر بن أبي عبد الله
المعروف بالمحتاج
أنشدني له الرئيس أبو القاسم بن أبي نزار :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً ... وليس لخوافي عليّ سبيل
إذا لم يكن من أهل خواف رئيسنا ... فكل هوان بعد ذاك جميل
وأنشدني له أيضاً قال : رثى ابن المحتاج هذا جدي أبا عبد الله بن محمد بن صالح فكتب على قبره :
أما ترى صاحبي ما يصنع الفلك ... سيان في دوره المملوك والملك
أودى الذي كان يحمينا ويحفظنا ... صلى الإله وحياً روحه الملك
أبو حنيفة الحسين بن محمد المحمشاذي
أنشدني الشيخ الرئيس أبو القاسم بن أبي نزار له وإنما مدحه بها :
عجبت لسعي الدهر ما شئت من عجب ... لطائفة سرى وطائفة ضرب
يقدم وغداً لا مروءة عنده ... بتأخير حر فاز بالعلم والأدب
فكم موسر كظته كثرة ماله ... وكم معسر ذي قلة توأم السغب
فقوم لهم مخ العظام مسلم ... وليس لأقوام سوى العظم والعصب
ومنها :
بدار إلى عبد الحميد أخي العلا ... حليف المعالي سيد العجم والعرب
له بيت عز لا يخاف انهدامه ... تزينه بين الورى رفعة النسب
وقور صبور عند كل ملمة ... جواد بما تحوي يداه من النشب
ومن يك يسمو بالمعالي فإنه ... علا النجم حتى جاوز الرأس والذنب
ولا زالت الأحرار خدام بابه ... وحاسده حلف الشقاوة والتعب
وبالعبد من فعل المرارة في الحشا ... صنيع اشتعال النار في يابس القصب
وشكواه من أخلاقه أن سوءها ... يجر إليه ما يخاف من العطب
أحمد بن أبي غسان بن حمزة
بن أبي النضر الأموي
يقول من أبيات :
ألا ليت شعري كيف حال محمد ... وحال أبي يعلى وحال الفتى نصر
وكيف صنيع الدهر بعدي فيهم ... ولم أر للأحرار أعدى من الدهر
لبست صروف الدهر ليناً وغلظةً ... وجربت حاليه على اليسر والعسر
فلم أر بعد الدين خيراً من الغنى ... ولم أر بعد الكفر شراً من الفقر
ومنها :
ولم أر صون المال إلا ابتذاله ... وإخراجه في أوجه البر والأجر
وفي الله فيمن مات خير خليفة ... على الخلف الباقي وحسبك من ظهر
أبو إسحق إبراهيم بن محمد المؤدب
وأخ تركت إخاءه لجنونه ... لما بدا لي منه سوء ظنونه
فمنحته صدي لعلمي أنه ... قد قيل : كل يقتدي بقرينه
أبو القاسم عبد الله بن يحيى بن عبد الخالق
له :
وشادن بالحسن تياه ... حل به الشعر فأخزاه
بينا تراه ملكاً قادراً ... يطاع فيما هو يهواه
إذ خرجت لحيته فجأةً ... فشفه الحزن وأضناه
يود إذ تخرج لو أنه ... مكانها تخرج عيناه
أبو إسحق العاصمي
أنشدني القاضي أبو جعفر البحاثي قال : أنشدني أبو علي العاصمي لأخيه أبي إسحق هذا :
الحمد لله ليس لي أحد ... وليس لي والد ولا ولد
إني مذ كنت منفرداً ... كذاك ليث العرين منفرد
أبو حامد أحمد بن الوليد (1/210)
يقول في بنت آوى هجمت على دجاجة في بعض القرى أعدت منها أسباب القرى فاحتال عليها كل الاحتيال حتى صادها وشواها وأكلها في الحال :
يا بنت آوى أكلت فروجي ... لحم دجاجي ولحم طيهوج
أوقعك الغي في حبالتنا ... فصرت في معدة بصاروج
محمد بن أبي العباس المشكاني
شاعر مفلق تميز من بين الشعراء الفضلاء الزوازنة بالآداب الراجحة الوازنة . وأفادني شعره الشيخ الرئيس أبو القاسم عبد الحميد بن يحيى رحمة الله عليه . وأملى علي قصيدة له قالها في شمس الكفاة أبي القاسم أحمد بن الحسين الميمندي الوزير رحمه الله وهي :
يبشرني علوك بالوزاره ... ودار الملك أولى بالبشاره
لئن رفع الوزارة منك قدرا ... فقد ضعفت من قدر الإماره
أتتك تلوذ منك إلى خفير ... غدت منه المفاخر في خفاره
وللملك المعظم فيك أمر ... غدا الظفر الجميل له أماره
فإن يفخر فأنت له يمين ... وغيرك لم يكن إلا يساره
وأنت شعاره في كل حال ... وغيرك لم يكن إلا دثاره
رآك له ظهيراً صار يغنى ... به دون البطانة والظهاره
ليهن الملك رأي أحمدي ... نتائجه الإشادة والإناره
أديل على العدا فأغار فيهم ... بأخذ حبال دولته المغاره
له الآمال والآجال طوعاً ... فيحيي تارةً ويميت تاره
إذا انتجعا فعندهما خفاره ... لأقوام وأقوام خساره
فتى فضل الكهول بفضل رأي ... إذا ما الخطب شارفه استشاره
أخو خلقين من أري وشري ... هما عينا الحلاوة والمراره
إذا لقي الخيار فخير راع ... وإن لقي الشرار فكالشراره
ومنها :
وقالوا : لم تشبب في مديح ... وجلى خمر شيبته خماره
فقلت : نهى النهي عن التصابي ... وأيام التصابي مستعاره
غزال الحي لا أخشى فراره ... وسن الوصل لا أرجو فراره
ومنها :
وأطفأ من شبابي جل نار ... وأنساني مشيبي جلناره
تولى من شبابي خير جار ... وأسفر من مشيبي شر جاره
كأن بياض شيبي في شبابي ... حلول الترك وسط الهند غاره
فرار شبيبتي من وخط شيبي ... فرار الليل قد لاقى نهاره
لو استعدى الشباب على مشيب ... لدى الشيخ الجليل أثار ثاره
غرست من الشباب لديه عهداً ... وجاء الشيب مقتطفاً ثماره
ومنها :
لواؤك في علاك لوى الأعادي ... حشاها من حواشيه المطاره
كأنك رائض والدهر مهر ... وكفك مالك منه عذاره
كأن الملك طود أنت نار ... عليه وإنني آنست ناره
ومنها :
وما نظم العلا إلا وزير ... يقوم مع الوزارة بالإماره
فكم شهر الوغى وله استعار ... تراه من حشا الصب استعاره
له أدب لو الآداب أعدت ... لأعدت شيمة اللؤم الطهاره
ولو وردت صفاً لجرى صفاء ... وجمر غضاً أفادته غضاره
يصون الملك راكب ظهر عزم ... أمين المتن لم يرهب عثاره
فجلى عنه أوضار المعادي ... وزحزح عنه ما قد كان ضاره
بسيف ظل مجتلياً غراره ... ونوم بات مجتنباً غراره
لعمر القرم أحمد إن عمري ... به وعمارتي لاقت عماره
حقيق أن يراعي لي حقوقي ... بحرمتي الزيارة والسفاره
كفيل أن يحصن قصر عزي ... جدير أن يسور لي جداره
ومنها :
فداؤك من نباعنه مديحي ... كما ينبو عن الحجر الفخاره
مدحنا فقودنا مراراً ... وكشخننا وجرعنا المراره
وربت ليلة لعنت فيها ... أبي إذ لم يعلمني تجاره
فلما أن نظرت إلى مقامي ... وقد ألبستني ثوب النضاره (1/211)
وددت لو أن أمي من تميم ... وأن أبي وعمي من فزاره
فدونكها لآلئ بحر فكر ... ترفع أن تحيط بها محاره
إذا أنشدت فارت ريح مسك ... كأني ذابح للمسك فاره
قلت : وهذا شعر علا الشعرى علواً ولم أرتكب في هذا التقريظ غلواً . وما من ببت منه إلا وهو يساوي بيت ذهب ويمت بنسب إلى جمال الصيغة وكمال الصنعة بنوع سبب
أبو يعلى الزوزني
كتب إلى بعض أصدقائه وقد سأله قضيماً لدابته فتأخر عنه :
رأيت طرفي مسرجاً في المنام ... عليه من عقد اللآلي لجام
وسرجه من جوهر ناصع ... شد من التبر عليه حزام
تشرق لي غرته مثلما ... يشرق في الحندس بدر الظلام
فقلت : من أعطاك ذا كله ... فقال لي : هذا ثواب الصيام
فقلت : نذر ذاك أم قربة ... فقال : بل عدم ورب الأنام
لكنما الصبر على الجوع والشدة يا مولاي صعب المرام
ما كنت أخشى ضيعتي قط في ... جوار هذا الأريحي الهمام
أصبح لي محلاً ندى كفه ... وهو لكل الناس صوب الغمام
أقل من تبن فأزجي به ... وقتي من قبل حلول الحمام
فقلت : لولا شغله لم يكن ... يغفل عنه فأقل الملام
أبو علي الزرغيلي
رأس زوزن وعينها وجمالها وزينتها . وقد رأيت خطه فاستدللت بحسنه على أن قلمه كان يحيك مشياً ويحوك وشياً ورويت شعره فدريت سحره . فمن مقطعاته التي هي قطع الرياض قوله :
أليلة يوم البين ما كنت ليلةً ... ولكن ليال قد خلقن بلا فجر
فلو كان عمري مثل طولك لم يكن ... لصرف الردى يوماً سبيل إلى عمري
ولو دام لي ما دمت وصل أحبتي ... لبشرت نفسي بالأمان من الهجر
وقوله أيضاً :
أساء الزمان إلي الصنيعا ... وما كان ما ساء منه بديعا
رماني بأسهم أحداثه ... وما إن لبست لهن الدروعا
ولو كنت ضاعفت فوق الدروع ... لجزن الدروع ونلن الضلوعا
أبو بكر اليوسفي
صاحب التجنيس الأنيس والتطبيق الذي طبق به مفصل الصنعة كل التطبيق . وكان في زمانه نادرةً يملك قلماً جارياً ويداً قادرةً . فاللفظ أري والخط وشي والقول فصل والمذهب عدل . وتوسل إلى الصاحب إسماعيل بن عباد بمذهب الاعتزال وامتطى إلى حضرته بالري ظهور الآمال وأوقر من صلاته الظهور بالأموال . وربحت بحضرته تجارته ولم تخسر في معاملته صفقته . ووقع شعره منه أحسن المواقع ورتبه في مجلسه في أرفع المواضع . وحدثني والدي قال : كان أبو بكر عندنا بباخرز مدة وأحمد جوارنا وصحبتنا . فقال يمدحنا وقصبتنا :
وردت مالين فألفيتها ... رمانةً حباتها المكرمات
أصيح من ظرف سجاياهم ... عاش الوفاء المحض والمكرمات
قال والدي : واتفق أني وردت ملتجئاً إليها من أيدي قوم ذقتهم فعفتهم وفررت منهم لما خفتهم فأقبلوا علي وشكا محطي ثقل وطأة إنزالهم لدي . فقلت فيهم معارضاً لما قال يوسفهم فينا . فإن أيادي أولئك لم تكن تقصر عن أيادينا :
قد ملئت زوزن من سادة ... لهم نفوس بالعلا عارفات
ما أغتدي إلا ومن عندهم ... عارفة عندي بل عارفات
قد بقي الفخر بهم والندى ... والبخل والشؤم مع العارفات
والأيادي قروض وقضاء القروض مفروض . وأنشدني والدي قال : أنشدنيها لنفسه :
سقى الله رياً وأروى معاً ... وأروى منازل أروى بها
بلاد بها كنت أرعى المنى ... وآتي المعيشة من بابها
وإني لآمل في آمل ... ليالي أحظى بأعتابها
فيا دهر ساعد على بغيتي ... ويا عمر كن بعض أسبابها
وأنشدني له أيضاً قال : أنشدني لنفسه من قصيدة طويلة له :
ليالي ريا كروض الأصيل ... كبدر السماء كماء الفرات
تبسم عن ضاحك كالمهاة ... وتلحظ عن مثل عين المهاة
وفي عينها عين ماء الحياء ... وفي فمها عين ماء الحياة (1/212)
فعشنا نواتي بلا رقبة ... وما ضاق عنا نقير النواة
فقولا لريا : أفاق الزمان ... فواتي بوصلك قبل الفوات
وله :
لمن رسم دار بذات الأشا ... وقد أوحش القلب إذ أوحشا
عهدت به بين غزلانه ... غزالاً حشا بالغرام الحشا
وأنشدني له بعض من أثق به من تلامذة القاضي أبي العلاء صاعد بن محمد هذه القصيدة :
سقياً لمنزلنا بذات خبار ... حيث العذول يريبها أخباري
إذ حاجتي ذات المداري والهوى ... أقصاه والفلك المدار مدار
ألقى زماني مسعداً ومساعداً ... وأرى سواءً حبرتي وحباري
صاحبت بكراً من زمان مقبل ... ففضضت عذرته بخلع عذاري
بكرت أزهار الحيا بمزاهر ... وأخذت من أوتارها أوتاري
فعريت فيه من المروءة لابساً ... ثوب الهوى والعار ثوب العاري
ومنها :
لما فطمت عن اللذاذة كلها ... داوى النهى بصراري إصراري
فوقفت في ربع خلا من أهله ... والدمع جار في فراق الجار
والحب يأكل كل قلب فارغ ... خال ويسروه عريم الساري
والمرء بالأوزار مخذول إذا ... لم يلف من تقواه ذا أوزار
فإذا أجرتني الغواية حبلها ... في شرتي فقصارها إقصاري
والمرء يقتل بالفراق وما له ... غير التعلل بالمنى من ثار
وإذا الفتى حرم الغنى في أرضه ... ألقاه إقتار إلى الإقتار
وكذاك من منع الحيا أحياؤه ... تبع القطار وسار في الأقطار
صاحبت أحداث الزمان مجاملاً ... فاستعتبت أقدارها أقداري
وركبت أهوال الفلاة مساوراً ... فنعشت من أخطارها أخطاري
وغنيت دهراً لو غنيت بنصره ... ولقد أواري في الضلوع أواري
يعني بنصر الأمير العالم العادل ابن سبكتكين أخا السلطان محمود :
وأملني طول التصرف أنني ... أبصرت بخس الحق في استمرار
فشكا إلى الله العزيز هوانه ... فافتكه من عقله وإسار
والدين أبدى للإله جواره ... حتى أتاح له أعز جوار
يا أيها القاضي الذي آثاره ... قد غبرت في أوجه الآثار
وتبسمت أفعاله وكأنها ... غرر وضحن على جبين نهار
وعقائل جلت العقول وجوهها ... أبكارها كقلائد الأبكار
حجج كمثل طرائق الصبح انجلت ... معها ظلامة ممتر وممار
وأبحن للدين القويم سعادةً ... وقطعن عنه دوابر الإدبار
وعليه درع تقى وحلة سؤدد ... ورداء مكرمة وتاج فخار
إن الأمير رآك سيفاً مثله ... هو في النضال وأنت يوم نظار
ذاك الذي لو قال للفرس اضطرم ... نزل الحضار به بجنب حضار
زند به عضد السيوف فصاوكت ... حرباً وزند في المجاعة وار
فنفى غواشيه بطلعة نير ... ورمى أعاديه بشعلة نار
وجلوت عن وضح الهدى فجلوته ... متضاحك الأنوار والأنوار
يا من أقام ببلدة مستوطناً ... وثناه في الأسفار والأسفار
تروى محاسن لفظها وكأنها ... درر وآراء كمثل دراري
ومآثر قد خلدت فكأنها ... غرر وعزم مثل حد غرار
ومنها في صفة القلم :
قصبات فضل قد حوى قصباتها ... فجرى موقى كبوة وعثار
يبثثن في القرطاس أجباء النهي ... بلعاب منقار لها من قار
فكأنهن من الحرير لوابس ... قميصاً لها مفروجة الأزرار
سقياً لأيام مضين مضيئة ... وظلمن مظلمةً وهن عوار
فسعدت قبل بقربه وبقربتي ... وشقيت بعد ببعده ودياري
كم من يد أسدت يداه كلاهما ... يمناه يمني واليسار يساري (1/213)
ولقد قصدت زيارةً فمنعتها ... والحج آفته من الإحصار
فوسمت باسم أبي العلاء قصيدةً ... وجعلتها هدياً مع الأشعار
ومنها :
فالعقل جسري والجسارة معقلي ... والعذر صوني والصواب عذاري
أبو جعفر محمد بن الحسن
بن سليمان البحاثي
هذا الذي ينسب البحاثيون إليه وهو جد القاضي أبي جعفر البحاثي الأخير المعدود من أئمة القضاة وأزمة الكفاة . ولي القضاء ببعض كور ما وراء النهر وبعض كور خراسان أيضاً . وأنشدني له حافده القاضي أبو جعفر البحاثي الأخير قصيدة قالها في الشيخ العميد أبي علي محمد بن عيسى يخطب فيها قضاء فرغانه ويصف الربيع :
اكتست الأرض وهي عريانة ... من نشر نور الربيع ألوانه
واكتنزت بالنبات وانتشرت ... حين سقاها السحاب ألبانه
فالروض يختال في ملابسه ... مرتدياً ورده وريحانه
تضاحكت بعد طول عبستها ... ضحك عجوز تعود بهنانه
يعانق الأقحوان توأمه ... إن زار روح النسيم قضبانه
ترى الخزامى المساء مسلمةً ... ثم تعود الصباح نصرانه
فضاحك الشمس من جوانبه ... كواكب بالعبير ملآنه
ومنها في خطبة القضاء :
كم سائل لج في مساءلتي ... عن حالتي قلت وهي وسنانه
منزوعة الحلي عاطل سلبت ... محاسن الوسع فهي عريانه
ترى بحاراً يموج زاخرها ... وهي على شطهن عطشانه
قال : فما حليها وملبسها ... وزيها كي تعود ريانه
قلت : كسير فمن يجبره ... قال : ترى من يحب جبرانه
سوى الوزير الذي تلوذ به ... يخدم برد الغداة إيوانه
قلت متى قد أتى فدنا ... مفتتح العام كان إبانه
فقلت : ماذا الذي تؤمله ... فقال : أبشر قضاء فرغانه
من طلب التبر من معادنه ... أصاب من تبرهن عقيانه
وأنشدني له كنيه وحافده في معنى الخيال ما لم أسمع لأحد مثله :
يا من ينبهني عن رقدة جمعت ... بيني وبين خيال منه مأنوس
دعني فإنك محروس ومرتقب ... وخلني وخيالاً غير محروس
وله في اختلاس القبلة :
توردت وجنتاه من خجل ... وقال : قبلتني على عجل
فخل عني فإن في شفتي ... علامةً من تواتر القبل
فلو رأى والدي علامتها ... حرمت ما عشت عذب مقتبلي
فقلت : يا سيدي ويا سندي ... ويا رجائي ومنتهى أملي
أسأت فاغفر إساءتي كرماً ... واعف عن الذنب واغتفر زللي
وله في المدح وهو أبلغ ما سمعت في فنه :
إن الخزائن للملوك ذخائر ... ولك المودة في القلوب ذخائر
أنت الزمان فإن رضيت فخصبه ... وإذا غضبت فجدبه المتعاسر
فإذا رضيت فكل شيء نافع ... وإذا غضبت فكل شيء ضائر
وله في الشكوى وهو أيضاً حسن جداً :
ألا فاصرفي عني ملامك إنني ... سقيت بكأس من جوى خالص صرف
وحق لمثلي أن يساور قلبه ... لوافح حزن ما لجاحمها مطفي
كأن ثراء المال عذراء أبصرت ... بكفي مشيباً فهي تنفر من كفي
الأستاذ أبو علي
الحسن بن عبد الله المطوعي
يقول في مالين باخرز وأهلها :
سقياً لمالين وأربابها ... وقدمة الفضل لأصحابها
ظرافة الخلق غدت شيمةً ... أكثرهم دخل أبوابها
ما منهم إلا له همة ... تسمو إلى الشمس وحجابها
كفى لباخرز ومن حوله ... فخراً لمالين وكتابها
إن غصت في أبحر آدابهم ... وجدت أصدافاً لطلابها
الأستاذ أبو محمد العبد لكاني (1/214)
عبد الله بن محمد بن يوسف . أدركته وأنا بزوزن سنة سبع وعشرين وأربعمائة شيخاً شاب الظرف يأتي دائماً وهو مكتحل الطرف وقد هم أن يلتقي طرفاه قصراً . وقد كاد يكون من غزارة علمه عالماً مختصراً أملى علي وأنا لا أعرف معنى كلامه لحداثتي :
يا من هجانا على جهل ليوحشنا ... قابلتنا بسلاح نحن نملكه
يا بؤس كفك هل تدري وقد كتبت ... هجاءنا أي تنين تحركه
وكتب إليه والدي على يدي ونحن بزوزن :
أيها الأستاذ مهلاً ... لست للجفوة أهلا
جئت من ربعك حزناً ... كان للأضياف سهلا
لا تغادر سلسبيل القرب بالهجران مهلا
وأقرني وجهك واجعل نزلي أهلاً وسهلا
فأجاب عنه :
أيها الباذخ فرعاً ... أيها الراسخ أصلا
جاءني الشعر الذي حز ... ت به للسبق خصلا
خاطري صار عموداً ... وهو وقتاً كان نصلا
فتفضل وتقبل ... بدل السكر مصلا
واهجر الكلفة هجرا ... أصل الخدمة وصلا
وللأستاذ أبي محمد أيضاً :
إذا كنت متخذاً ضيعةً ... فإياك والشركاء الوجوها
ودار الملوك فإن الملوك ... " إذا دخلوا قريةً أفسدوها "
وله أيضاً :
يا قومنا إلى متى نصيح ... ولا يروج عندنا نصيح
إن البلاد عرضها فسيح ... وزوزن قد خربت فسيحوا
وله في الشيخ الرئيس أبي القاسم عبد الحميد بن يحيى :
إني حلفت يمينا ... بمن أمات وأحيا
أن الرئيس المرجى ... عبد الحميد بن يحيى
رأى لزوزن رأياً ... كأنما كان وحيا
القاضي أبو جعفر محمد بن إسحق البحاثي
كتبت على ظهر ديوانه فصلاً جمع بين بعض أوصافه وإن كان مشتملاً من الفضل على أضعافه . وفي القليل ما يغني عن الكثير ولا ينبئك مثل خبير
الفصل : لما تجاوزت عتبة إيوان هذا الديوان أعذت في ذلك ناشر بزها وواشي طرزها القاضي أبا جعفر من عين الكمال راغباً في ذلك إلى الله تعالى بأصدق الآمال . فقد خاض بها لجج البلاغة أتم الخوض وتفنن في أنواعها تفنن الحمراء والصفراء من قطع الروض . إن أجم الجد بالفكاهة في الأحيان فمنحوت من نبعة ابن الحجاج . وإن نشط لمغازلة الغزلان فموصوف بظرف ابن أبي ربيعة في وصف ما تضمنته هوادج الحجاج . وإن استب فأحد الفحلين ؛ جريراً أو الفرزدق وإن كانا من القدماء . وإن دب فالملك الضليل يسمو إلى صاحبته سمو حباب الماء . وإن أطرى فابن ثابت حسان وقصائده في غسان تلك الحسان . وإن رثى ورى زنداً عفاره من المرخ . وأملى النياحة على الحمامة المفجوعة بالفرخ وعلى الجملة ما من بحر ركب سفينة إلا غاص على دره وانتزع دفينه . فلله دره من فاضل يغمر ماطراً ويقمر مخاطراً . فمما قاله في المديح قوله من قصيدة له في الأمير أحمد بن نيالتكين وأنشدنيها لنفسه :
من يكن يطلب البراز فذا أحمد في سرج طرفه القماص
وبكفيه خاطب قوله الفصل على منبر الطلى والعناصي
شغلته العلا بأسمر ذي عشرين عن كل أسمر ذي عقاص
ومنها وذكر عدوه :
ليس ينجيه غيضة من شبا جهم لآساد غيلها قناص
سوف يأتيه بالسيوف تراها ... طائعات على أكف عواص
وبجيش يجيش نحو الأعادي ... بقلوب على الحتوف حراص
ونفوس يوم اللقاء رخاص ... وهي بعد اللقاء غير رخاص
قد أعدوا من قوة ما استطاعوا ... وتواصوا بالصبر أي تواص
مطعمي أنسر الفلاة لحوماً ... بالمواضي بطانها والخماص
تاركي رؤوس الأعادي كبيض ... في أداحي النعام بالأدعاص
وله من أخرى في غيره :
يرتاح للمجد مهتزاً كمطرد ... مثقف من رماح الخط عسال
فمرة باسم عن برق ثغر حياً ... وتارةً كاشر عن ناب رئبال
فما أسامة مطروراً براثنه ... ضخم الجزارة يحمي جيش أشبال
يوماً بأشجع منه حشو ملحمة ... والحرب تصدم أبطالاً بأبطال (1/215)
ولا خضارة صخاباً غوار به ... تسمو أواذيه حالاً على حال
أندى وأسمح منه إذ يبشره ... مبشروه برود ونزال
يمشي ببرق إذا جفت خلوف حياً ... نحو الهجان لأيديهن بلال
غيث يروي صدى الأفهام من عطش ... بمنطق مثل ماء المزن سلسال
فكم أعاد وحساد ذوي عدد ... قد زلزلوا بك ذعراً أي زلزال !
شاموا عقيقة برق شمت من خلل ... فأصبحوا بين فرار وفلال
ومن غزلياته قوله في غلام نصراني :
قولا لبدر تلا إنجيله وشدا ... أفديك من مسمع طوراً ومستمع
أشتاق نار جحيم أنت تسكنها ... وأكره الخلد لا ألقاك فيه معي
وقوله أيضاً :
وذي شنب لو أن خمرة ظلمه ... أشبهها بالخمر خفت به ظلما
قبضت عليه خالياً واعتنقته ... فأوسعني شتماً وأوسعته لثما
وقوله :
لحاجبه المقرون أعشق قوسه ... وإن أرسلت بالنبل نحوي الدواهيا
وأهوى الظبى لما حكاه ابيضاضها ... وإن قطعت لي من حياتي الأواخيا
وقوله :
تركت الزيارة لا عن قلى ... وعفت التواصل لا عن سلو
ولكن نهاني عن أن أزور ... حياء الصديق وخوف العدو
وقوله أيضاً :
عليك بالخد النقي الذي ... تفتح الورد له حليه
واسلح على الخط وعشاقه ... فإنه جزء من اللحيه
ومن خمرياته قوله :
أشرب من كفك مشمولةً ... كأنها قد أشربت عصفرا
راحاً متى ما صافحت راحةً ... ألقت عليها صبغها الأحمرا
تخالفا من خمرة حمرةً ... وكأسها ماء عليها جرى
ما ضرها من بعد ما قد صفت ... أن لم تكن تنمى إلى عكبرا
وكتب إلى صديقه أحمد بن عثمان الخشنامي :
قم يا بن عثمان الكريم المنصب ... واشرب على رغم العواذل واطرب
واخلع عذارك في السرور وفي المنى ... غضبت له العذال أو لم تغضب
أو ما ترى الغيم الركام مطرزاً ... ببروقه مثل الرداء المذهب
متناثراً فوق الثرى حباته ... كثغور معسول الثنايا أشنب
برد تحدر من ذرا صخابة ... كالدر إلا أنه لم يثقب
وله في صفة البرد من أبيات :
برد حكى بيض الحمام ولم تزل ... من خوفه تلقي الحمامة بيضها
وله أيضاً رحمه الله تعالى :
من تاب عن لذاته يافعاً ... فإنني تبت عن التوبه
كل له من دهره نوبة ... لا بد أن أستوفي النوبه
وله في حكمة مشوبة بالمجون :
صيانة المرء استه في الصبا ... والأدب الجزل من الحرفه
وخاب من دنياه من يبتغي ... صناعة الفضل له حرفه
فإنما الدنيا بها خسة ... وقلما تدرك بالعفه
وإن من يطلبها بإسته ... ينالها عفواً بلا كلفه
ما نطفة في الوجه إلا لمن ... قد صب في تينته نطفه
وله :
وأعجر الكيس لمعطي إسته ... لأعجر كالبوق ذي فلذه
عليك بالترك وأولادهم ... فالترك جيل كله لذه
أيري على مقدار أستاههم ... كحذوك القة بالقذة
وله أيضاً ومما قاله في الاغتراب :
لما رأيت الفقر ينزل بالفتى ... تحت الثرى ومحله الجوزاء
فارقت قومي أبتغي لهم علاً ... يسمو به الآباء والأبناء
واخترت دار الاغتراب يصيبني ... في غربتي السراء والضراء
إن نلت خيراً أبت أوبة غانم ... أو مت لم يشعر بي الأعداء
ومما يدخل في باب الافتخار :
وقسورة بادرت والليل ضارب ... سرادق دجن لا يزول مربه
دفقت له ماء الوتين سحيرة ... كجمر الغضا باتت شمال تشبه
وكم بلد صعب المرام دخلته ... يغص بأرماح المغيرين دربه
ولي بلو جسم سوء حال يهده ... أحب إليه من نعيم يربه (1/216)
قلت : وكان رحمه الله بذيء اللسان يضرط الأعيار ولا تفارق مكواته النار :
وما كان بهلول على الشتم والخنا ... وقذف النساء المحصنات بغيضا
فمن أهاجيه التي يحلو عند مرارته العلقم ويهلك بنفثه الأرقم قوله في الشيخ أبي سعد الكنجروذي :
قل لبغا كنجروذ أبي سعد ... ومن قد تناجلته بغايا
يا بغيضاً على اختلاف الليالي ... يا دعياً على اتفاق البرايا
إخس كلباً فما لشتمك إلا ... حجر يترك الرمايا شظايا
ونعال تكسو الأخادع ثوباً ... من سواد يريك حمر المنايا
وله فيه أيضاً :
الكنجروذي في العلوم له ... برق كذوب وماله صيب
فيه على نكره مطايبة ... مثل خرا النيك منتن طيب
وله في غيره :
له شرج كالدرب ما فيه مسكن ... مباح لمن يأتيه والكيس مشرج
وإحسانه إن زل من لؤم كفه ... فرادى مع التنغيص والصفع مزوج
وله أيضاً :
يغار على العورات فهو يكنها ... كراهيةً من أن يراها بطرفه
رأى من حمار سوءة الفيل فانكفا ... إليها وواراها بسوءة خلفه
وله من قصيدة :
يعطي القليل المزدرى عابساً ... كأنما ينتف من إبطه
وقد ينيل النزر مستكرهاً ... على الأحايين وفي غلطه
الشيخ أبو جعفر بن خالد
حكى لي ابنه الشيخ أبو الأزهر قال : كتب والدي كتاباً وصف فيه رمداً أصابه فقال في بعض فحوله : أنا منذ أيام ما خطوت بقدمي ولا خططت بقلمي . قال : ولم أرو من شعره إلا قوله :
أصبحت أمشي في غمار الوحل ... لولا عصاي لعصاني رجلي
وبلغني أن كثير بن أحمد قال يوماً لابنه خالد : " أتلوت قول الله تعالى : خالداً في النار قال : نعم وقوله أيضاً : لا خير في كثير
ابنه
الشيخ أبو الأزهر
رئيس زوزن وابن رئيسها والفائز من أعلاق الأدب بنفيسها . رأيته بزوزن وقد قلعت الأيام أوتاد فيه وأنشب طول السن سنه فيه . وظرفه إذا اختلط بالمعاشرين أفتى من ظرف أبناء العشرين . فمما أنشدني لنفسه قوله :
وحياة أحمد ما رأيت كأحمد ... في لطف منعطف وحسن تأود
يمشي كخوط البان يطلع فوقه ... شمس الضحى في جنح ليل أسود
أبداً يصيد قلوبنا وعقولنا ... منه بحسن مقبل ومقلد
يهوي التصيد بالبزاة فلا يصد ... حتى تعلم منه حسن تصيد
لا تسقني كأس المدام وسقني ... من خمر عينيك في مزاج الإثمد
كتب الهوى بمداد شعر عذاره ... للعاشقين سجل عشق سرمدي
وأنشدني أيضاً لنفسه :
ظنوني بعلام الغيوب جميلة ... وصدري رحيب والرجاء فسيح
وإن رجائي حين تدنو منيتي ... لسان بتوحيد الإله فصيح
الأديب أبو جعفر محمد بن عبد الله
صائن زاهد لم يكن يحب الحياة لنفسه إلا ليشتد على العبادة ويتقوى . ولا يتزود في معاشه لمعاده إلا خير الزاد عنيت به التقوى . ولا أشك إلا أنه ممن " أتى الله بقلب سليم " . وهذا وصف بالبراعة بليغ وليس بالسليم الذي معناه لديغ . وأنشدني لنفسه في مرثية الأديب أبي بكر اليوسفي الزوزني رحمه الله :
ولما قضى نحبه بغتةً ... أخونا أبو بكر اليوسفي
بكيت عليه وقد فاتني ... بكاء الكظيم على يوسف
العميد أبو سهل محمد بن الحسن
كان يقال : من أراد أن يرى البادية مزروراً عليها قمص فلير ذلك الشخص . وكان جامعاً بين أدبي بنانه وبيانه مقرباً من سرير سلطانه ممكناً من صدر ديوانه . ولم يكن يعوذ كماله إلا شراسة في شمائله مع تجعد في أنامله وتنغص الفضلاء بطيب مجلسه لزهو يرقص على طرف معطسه . فمما أنشدني له الرئيس أبو القاسم عبد الحميد بن يحيى قوله من تشبيب قصيدة :
يا دهرنا أينا أشجى لبينهم ... أأنت أم أنا أم ريا أم الدار
يا ليت شعري ما ألوى بخدمتها ... هوج الرياح وصوب الغيث مدرار
أم صوب دمعي وأنفاسي فهن لها ... بعد الأحبة رواح وأمطار (1/217)
وأنشدني له أيضاً :
لا يشمتن بنا قوم وقد وهموا ... أو أخطأوا الظن جهلاً أنهم سلموا
إن الرزية بالأموال هينة ... إذا نجا سالمين العرض والحرم
ولست آسى على مال فجعت به ... وهل يمس الحيا في فيضه ألم
ولست أنزل للأيام عن شرف ... ما دام تحت بناني في الورى قلم
وأنشدني له :
بلغت جميع آمالي فكادت ... تزول الأرض لو أن قلت زولي
وجالست الملوك على سواء ... ولو زاحمتهم لتحفزوا لي
وكنت مع الخداع أطير زهواً ... إلى أن حان لي حين النزول
فلما أن نزلت نزلت جداً ... وهل بعد النزول سوى النزول
وأنشدني له الشيخ ناصر بن جعفر البوشنجي :
سننضي الخيل في طلب المعالي ... ولا نرضى المكارم بالمعاش
ونضرب في بلاد الله حتى ... نرى أيامنا خضر الحواشي
الرئيس أبو القاسم عبد الحميد بن يحيى
كانت زوزن أيام حياته خضرةً تكتسي منها معايش الفضاء خضرة فيضربون إليها أكباد الإبل من كل طريق ويقصدونها من كل فج عميق . ولم يكد يخلو مجلسه من مجتمع لأهل الفضل ينظمهم هنالك في سلك ويحكمهم من جاهه وماله في ما يقترحون من ملك وملك . وكان من سعة العطن بحيث يناخ إليه الأمل ويضرب بسماحه المثل . وكان الغالب على فضله الترسل . أما الشعر فقد يجود به طبعه . أنشدني في مجلس أنسه لنفسه يهجو الهاني ويحذر شمس الكفاة خفة يده على الولاة بشؤم ثقيل الوطأة :
ألا أبلغا شمس الكفاة وما أنا ... بمتهم في وده بملوم
نصحتك نصحاً لو تبينت رشده ... لأيقنت أني صادق وعليم
فلا تقرب الهاني إليك فإنه ... زنيم وزنديق ونجل زنيم
فما دار في دار ولا حل حلةً ... فأبقى بها يوماً مدار نعيم
لقد صانك الرحمن من حيث دينه ... فصن منه نفساً إنه لمشوم
وأنشدني أيضاً لنفسه :
وإني معروض عمن قلاني ... وعمن عند مولانا هجاني
ويعرفني كرام الناس طراً ... وكل في المكارم قد بلاني
فما يبقى سوى بذل العطايا ... وفل معاند أو فك عان
وإني لا أزال أخا حروب ... إذا لم أجن كنت مجن جان
القاضي أبو علي الحسن بن أحمد
كتب في ديوان القضاء للقاضي ابن محمد الناصحي أنار الله برهانه . بخط كأنه سمط اللآلي يكتسيه لفظ تشرق به الليالي . وكان بينه وبين والدي رحمهما الله مفاوضة هي المفاوحة بين البرد والتفاح ومؤاخاة هي المصافاة بين الماء والراح
حدثني الأديب أبو جعفر المختار الزوزني قال : حدثني هذا القاضي فقال : كانت بيني وبين العميد أبي سهل قرابة الرحم وصحبة الكتاب ومناسبة الآداب . فارتفع شأنه حتى تصدر في ديوان رسالة الأمير مسعود بن مسعود . وكان يجتذبني إلى ديوانه ويهيب بي إلى الانتظام معه في خدمة سلطانه . فلم أوثر على صحبة قاضي القضاة أبي محمد صحبة غيره ولا مالت بي الرغبة عن شق القلم إلى سواه فظل يعدني بتفويض الأعمال الحكمية لي على أمهات البلدان ثم إنها استقرت الولاية في يديه وصارت مصادر الأمور عنه ومواردها عليه كتبت إليه بهذين البيتين أهزه على إنجاز ما وعد وهي :
ملكت مملكة الدنيا بأجمعها ... وقد تأتى زمان مسعد فأتى
فالآن إن لم أنل ما كنت أطلبه ... في ظل جاهك من نيل المنى فمتى
قال : وعمل القاضي منصور الهروي بيتين ارتضاهما الفضلاء وهما :
كفى حزناً أن زارني من أحبه ... فأعرضت عنه لا ملالاً ولا بغضا
ولكن نهتني عنه نفس أبية ... إذا لم تجد كل المنى ردت البغضا
قال : فناقضته بقولي :
ولو كنت في دعوى المحبة صادقاً ... غنمت قليلاً والمحب به يرضى
ولم يتأت التيه والحب لامرئ ... ومن يبتغي كل المنى حرم البعضا
ومن مقطعاته الحسنة قوله :
طويت بساط الشعر مني تعمدا ... إذ الشعر أضحى بالدناءة يلصق (1/218)
فلست بمداح ولا أنا شاعر ... ولكن لساني بالمودة ينطق
وله في غلام كله طيب ومولاه طبيب :
أرى غلام عبيد الله أمرضني ... بصورة حيرت في حسنها القمرا
قد خالف العبد مولاه بحرفته ... مولى يداوي وعبد يمرض البشرا
وله في لجوج مسهب يدعي كل شيء ولا يحسنه :
وكم قائل يهذي ويحسب أنه ... ينظم دراً وهو يلفظ بالبعر
فقلت له : أمسك لساناً إنما ... كلامك نتف الشعر لا نتف الشعر
وأنشدني له الشيخ أبو جعفر محمد بن أحمد بن المختار وهو في غاية الملاحة :
أقول لمن يراوغني بكيد ... رماك الله مذموماً بمثلك
سأذهل عنك لا عجزاً ولكن ... ليجزيك الزمان بسوء فعلك
وأنشدني له أيضاً :
لحظات عين ضمنها سحر ... وقوام غصن فوقه بدر
وكأن في الصدر التي وقدت ... من خده وكلاهما جمر
وضياء وجهك إنه قمر ... وصفاء ثغرك إنه در
ما نال من قلبي السلو ولم ... يجتز بباب أمانتي غدر
وله يهجو :
أستاذنا في صيده أجدل ... يختطف المال ولا يغفل
قد وعظ الناس ولم يتعظ ... كأنه من بينهم مهمل
يأوي إلى ميزانه خاشعاً ... يأمر بالبر ولا يفعل
وله في أحداث زوزن وراوي الأشعار منهم :
قالوا : بزوزن أحداث أتوا عجباً ... في الخبث إذ طبعوا من جوهر الخبث
فقلت : " دردي دن " بل عصارته ... وإنما القوم أحداث من الحدث
قال الأديب أبو جعفر محمد بن أحمد المختار الزوزني : راجعته في البيتين معاتباً وخشنت له حاشية الكلام مخاطباً . فقال لي مستميلاً بعدما ألقيت عليه قولاً ثقيلاً : أنت بالعراء من بين أحداث الشعراء ومستثنى من أولئك الفريق ومعدول عن ذلك الطريق ومسلول منهم سل الشعر من معجون الدقيق . فقلت أنا : بمثل هذا تخدع آراء المغفلين الأغمار الذين لم يسافروا في مراحل الأعمار ولم يرتضعوا أفاويق التجارب ولا تطلعوا في مرأى العواقب وكذا يقال لأم عامر : خامري وللنفس الخواضة في الغمرات : غامري . وقد غولط هذا الفاضل ولج به اللج حيث خيل إليه الساحل . فهو راتع من هذه الغلطة في الورطة ونازل من الدائرة في مركز النقطة حوالينا هذه النادرة حوالينا والحجة لنا لا علينا
ذلت نفسه المسكينة وجرت الريح بما لا تشتهي السفينة . والله تعالى أعلم
الفقيه أبو الحسن البخاري
خال القاضي أبي جعفر محمد بن إسحاق البحائي وناهيك من خال عن الخير غير خال وفضله على كل حال بالوفور حال . فمما أنشدنيه لنفسه قوله :
ألا إن الفراق أذاب جسمي ... جزى الله الفراق بمثل فعله
وغادرني أسيراً مستهاماً ... قتيل حسامه وصريع نبله
وكتب إلى الحاكم أحمد بن الحسن الخطيب يستزيره :
لي وللشيخ ناصر يوم خلوه ... ولنا بالخطيب أنس وسلوه
فحقيق بأن يرانا وشيكاً ... والذي بيننا فديناه غلوه
ابنه
أبو جعفر محمد
أنشدني القاضي أبو جعفر له :
قد أزف الموت وأهواله ... أهل الخطيات ألا تتقون
وزهرة الدنيا متاع ألا ... لغيرها فليعمل العاملون
الأديب أبو القاسم أسعد بن علي البارع
هو البارع حقاً الوافر من البراعة حظاً . وقد اكتسب الأدب بجده وكده وانتهى من الفضل إلى أقصى حده . ولفتني إليه نسبة الآداب ونظمتني وإياه صحبة الكتاب وهلم جرا إلى الآن . وقد ارتدينا المشيب وخلعنا برد الشباب ذلك القشيب . ولا أكاد أنسى وأنا في الحضر حظي منه في السفر . وقد أخذنا بيننا بأطراف الأحاديث ورسنّا المطايا بأجنحة السير الحثيث حتى صرنا معاً إلى العراق ونزل هو من فضلائه بمنزلة السواد من الأحداق وعنده توقيعاتهم بتبريزه على الأقران وحيازته قصبات الرهان . وأنا على ذلك من الشاهدين لا أكتم من شهادتي دقاً ولا جلاً بل أعقد بها صكاً عليها سجلاً " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " وعازب لبه (1/219)
فمما أنشدني لنفسه من قصائده قوله في السيد الأجل شرف السادة أبي الحسن البلخي ومن أنشد الشعر بين يديه فلا مزيد في الجرأة عليه :
بدا ابن جلاحين ليلي انجلى ... وقد جلّ للصب خطب الجلا
فلا تعذلاه على حبه ... بأن يرعوي عنه لا تعجلا
قد راقه رشأ أكحل ... وقد يقتض الرشأ الأكحلا
سلا عن هواه فلما رأى ... سلاسل أصداغه ماسلا
عليه تمائمه كالحلي ما حلن عن جيده محولا
بحيث المناصب في حلتيه لم تعد من بعد مستبدلا
ترعرع كالشبل في غيله ... ولم يشك مرضعةً مغيلا
ويسأل والده : أينا ... على غرث منه كيف الطلا
فديت سليمى وكم قد كني ... ت عنها بخود ولم أعدلا
وإني لأعرض عن ذكرها ... حذار رقيب به أبتلي
إذا التفتت بين أترابها ... أراك الأراك بها مغزلا
إذا ما نبا منزل بي حملن ... قلاقل عيش به قلقلا
نفى وقد وجدي برد الشتاء ... فلم أحفل الصبر والمجهلا
بلغت على الريح بحر السماح ... بقطع الجبال وجوب الفلا
أبا الحسن الهاشمي الأجل ... فتى يهشم المال لا المأكلا
عشوت إلى ناره واصطفيت ... سنا المصطفى لا سنى المصطلى
سمي النبي كني الوصي ... وهل فوق أصليهما معتلى
هم ما لأولهم آخر ... غدا كلهم في السنا أولا
عماد الممالك تاج لهم ... بعليائه هامهم كللا
لقد صادفوا علمه فينقا ... كما وجدوا حكمه فيصلا
ومنها :
يدل على كل ذي رتبة ... وقد ذخر الشرف الأجزلا
بمنظومه وبمنثوره ... بدر غلا وبدر جلا
ولا تحفلوا من دنا أو نأى ... إذا شهد السيد المخفلا
هلال السماء اشتهى أنه ... به كان مركوبه منعلا
مناقب مولاي ملء الزمان ... فلا تحسبوهن ملء الملا
له السؤدد العد والمكرمات ... يود لها النجم أن ينزلا
ليحسب من عقدها لؤلؤاً ... ويكسى بها الخطر الأنبلا
ذليق البنان كخد السنان ... له مقول مشبه معولا
يجادله الخصم عن رأيه ... كما جادلت حجل أجدلا
فتى رأيه صائب صائد ... يرد الظبى والقنا الذبلا
أعد العدا لقناه الكلى ... كما هيأوا لظباه الطلى
ومنها :
إذا خوفتك جنود العدا ... فخذ رأيه واترك المنصلا
يصول على القرن من ذروة ... كما انقض جانبه من علا
لو أن السماكين باتا لديه ... لما غلب الرامح الأعزلا
سقى الله أيامنا في هراة ... فقد كن أقصر من لا ولا
بها شرف السادة انتاشني ... ألا هل معيد لماض ألا
وله من أخرى نظامية :
هنيئاً لصدر أنت ممن تجانسه ... وطوبى لملك أنت ممن تجالسه
حويت المعلى في المعالي وإنما ... لكل وزير حاول المجد نافسه
إذا ما لبست الملك بالرأي راتقاً ... ملابسه ارتاحت عليك ملابسه
سحبت على أرض الندى مطرف العلا ... وما حاز إلا الهذب منك مخالسه
تعجبت من سوط وأنت تمسه ... بكفك لم يورق بكفك يابسه
وله من أخرى نظامية أولها :
لآلئ دمعي من فراق الكواعب ... فلم هي في أفواهها والترائب
ومنها :
وفيهن طاووس الحسان بحسنها ... وألحانها تزري بلحن العنادب
إذا جست الأوتار مست بأنمل ... لطاف حكت عقداً أنامل حاسب
لها بمناط صدغ مقصف ... كما انعطفت في مهرق نون كاتب
ومنها :
وهن بعيدان الأراك أعرنني ... صواقل أمثال القطار السوارب (1/220)
حمائلها راح الغواني وإنما ... مشاربها منها مجاج المشائب
ومن افتخاراته العالية قوله :
وإني من القوم الذين إذا سروا ... لغزو تراع الأرض من شدة الركض
وإن لحوم الوحش حشو قدورنا ... إذا لاحمت أحشاؤها شحمة الأرض
ومن مقطعاته التي أنشدنيها قوله :
قمر سبى قلبي بعقرب صدغه ... لما تجلى عنه قلب العقرب
فأجبته : ألديك قلبي قال : لا ... لكن قلبك عند قلب العقرب
وقوله :
حبذا عيش مضى لي ... في مغاني الغانيات
وجوار ساقيات ... وسواق جاريات
وقيان فاتنات ... يجفون فاترات
راقصات راقيات ... لهمومي راقيات
وقوله في معنى لم يسبق إليه :
وعجوز تتغنى ... طمعاً أن تتعشق
تتغذى في غداء ... وعشاء ألف جردق
إن جسماً كجرير ... لا يقويه الفرزدق
الشيخ الرئيس الأديب أبو جعفر
محمد بن أحمد المختار
مختار في أدبه كلقبه وقاد الخاطر يتلسن لهبه متحل في عنفوان شبابه بفنون آدابه مقطوع على مقدار قامته الظرف من الفرق إلى القدم منادم لا يقرع عليه نديمه سن الندم . يلعب ببيادق النرد مع الأحباب لعب الغدران يوم المطر بالحباب . ويتصرف على حكم أنامله دوران الكعاب ثم إذا انتقل منها إلى الشطرنج غلب الحريف بلعب أبدع إنشاءه وأمات شاهه في أي بيت شاءه . وله شعر مرضي اليوم مرجو الغد كأنه لباس العافية في ظلال الرغد واختصاصه بي اختصاص الولد بأبيه . وهو بحمد الله عند ظني به وفراستي فيه والناس يعدونه من رماة مدرتي والحاملين لعرشي والمؤمنين بعرشي وهو لا يأبه لذلك ويقول : بلى أنا هنالك . وقد استهديته من أشعاره ما يليق بهذا الكتاب فكسر لي جزءاً على خطه الموشى ولفظه الذي لو مشى مع الراح في العروق لتمشى مثل قوله في خدمته النظامية ومدحته القوامية :
سلام على تلك المعاهد بالحمى ... وإن عجمت عن أن تجيب مسلما
ديار عليها للتقادم ميسم ... وعهدي بها للحسن والطيب موسما
أذلت ذيول العشق في عرصاتها ... وصنت الهوى عن أن ينال محرما
منازل غزلان أطعت بها الصبا ... وكان الهوى فيها علي محكما
وقفت عليها للأسى غير مالك ... أحاكي بإسبال الدموع متمما
ويممتها من بعد عهد فذكرت ... عهود غرور غادرتني متيما
ولست وإن أحببت من كان بالحمى ... أعق حبيباً بالعقيق مخيما
بنجد وغور والعذيب وبارق ... هواي تجزى والفؤاد تقسما
بكل مكان لي هوى غير أن بي ... وفاء حمى قلبي لساكنة الحمى
هنالك حب لاط بالقلب في الصبا ... فما زاده الأيام إلا تضرما
قلت : قد نسب هذا الفاضل إلى حبه اللواط فتجرم . وأظن حبه اللوطي لم يبزق قلبه متضرم . ولا غرو أن يضرم تمزيق لم يعالجه تبزيق معذرةً مني إليه فيما مخرقت عليه . وقد كان علي وفيه دعابة وأنا علي وإن لم أكن من الصحابة وفي المثل النادرة : ولو على الوالدة . ومن النوادر ما يكون شراً ومن نار جهنم أشد حراً ومنها ما يكون هزلاً ومع الحديث غزلاً وهذه من تلك وللكلام غصون وللحديث شجون ولا بد من تصريح عقب تعريض وتصحيح عقب تمريض وإحماض قفاء تحميض صيانةً للخواطر من الكلال والمسامع من الملال . عاد الشعر :
وما أنا بالناسي مودةً أهلها ... وإن نقضوا العهد الذي كان مبرما
ولا يأس من روح الوصال وإن نأوا ... عسى وطن يدنو بهم ولعلما
تعقيهم قلبي وأعقب في الحشا ... علائق حب من عقائل كالدمى
لئن حال ذاك الربع بعد قطينه ... وأصبح من بعد الفصاحة أعجما
فيا رب لهو كان فيه وعيشة ... قنصت بها اللذات فذا وتوأما
ومن مقطعاته ما كتب به إلى أخيه الشقيق الشفيق والصديق الصدوق وهكذا وجدته بخط الشيخ أبي إبراهيم إسماعيل بن غصن رحمة الله عليه : (1/221)
سقاني تحت غصن الورد ورداً ... كمسبوك النضار مع ابن غصن
غزال لو يباري البدر أربى ... على البدر المنير بألف حسن
فرمت وقد شربت الكأس نقلا ... فقال وقد زوى شفتيه : بسني
وله في الحنين إلى أصدقائه بخواف :
بالله يا راكباً يزجي مطيته ... بلغ سلامي بلغت النجع والرشدا
بأرض خواف أحبائي وقل لهم ... نسيتموني ولا أنساكم أبدا
وله في الشكوى :
ما للأقارب آذنتي عقاربهم ... وعيروني الحجا والعلم والفطنا
إذا أساءت ذوو القربى مجاورتي ... كنت القريب وإن لم أهجر الوطنا
ليالي بات الوصل للأنس موقظاً ... وباتت صروف الدهر عنهن نوما
تراضعني سعدى سلافة قهوة ... تضوع مسكاً في الإناء مختما
إذا ما شربت الكأس وارتدت قبلةً ... تعين عليها قربت لفمي الفما
وإن تركتني سورة الكأس عابساً ... أهاب لظاها سوغتها تبسما
وتلقي أحاديثاً كمعسولة المنى ... فأسرد منها سمط در منظما
لأجعله يوماً نسيب قصيدة ... ألاقي بها الشيخ الأجل المعظما
ومنها :
وزير به شد الممالك أزرها ... وعاد به منآدها متقوما
وجلت ظلام الظلم أضواء عدله ... ألا فتأمل هل ترى متظلما
ومنها :
إذا فوق التدبير صائب رأيه ... على مشكل قد رام أقصد ما رمى
فأين ابن وهب فليقم ير عنده ... مصابيح رأي تزهر الليل مظلما
وليت ابن قيس أحنف الحلم لم يمت ... ليبصر حلماً يستخف يرمرما
ولو طيئ راءت سماحة بيته ... طوت ذكر جود في عدي بن أخزما
تندى سحاباً وانتدى شمس ضحوة ... وطال قطامياً وأقدم ضيغما
ووقع معصوماً وقال مسدداً ... وعامل مرضياً وفكر ملهما
قلت : أبصر البيتين كيف تعادل أوزانهما وتناصف أقسامهما وتناسب كلامهما :
ورام بأرض الروم أن يظهر الهدى ... فأشعله فيها حريقاً مضرما
قلت : ما أحسن ما جعل إحراق ديار الرومية سبباً لإشراق الملة الحنيفية وكفى لدين الإسلام أن يشتهر اشتهار النيران على الأعلام :
فمن صم عن حق وأعوج عن هدى ... أزار وريديه الأصم المقوما
وقد شاهد السلطان أنوار رأيه ... فأطلعها في ظلمة الكفر أنجما
هو النجم يوماً يستضاء بنوره ... ويوماً يرى في حومة الحرب مرجما
ويسعد من والى رضاه بيمنه ... ويشقى أعاديه كذا النجم في السما
إذا نديت كفاه كف ندى الحيا ... حياء وأمسى مرزم القطر مرزما
ومنها :
سريت اعتسافاً والنجوم أدلتي ... إلى حيثما وجهت وجهي وأينما
تلوح لي الجوزاء جوز سمائها ... كأن لها في آل إسحق منتمى
أولئك قوم شرّف الله ذكرهم ... بهذا المرجى ما أبر وأكرما !
!
بقيت نظام الملك للدين عصمة ... وللمجد والعلياء كفاً ومعصما
وله وهو من ملحه :
قلت لها : لا تمنعي قبلةً ... تشفي سقام النفس ياقوتها
فغمضت من عينها مؤخراً ... ورصعت بالدر ياقوتها
وله أيضاً :
ما في جناني لجن الشعر من سفه ... ولي عن الهجو للأعراض إعراض
الهجو طيش يليه طبع ذي هوج ... والعقل للمرء عند الطيش رواض
أبو سهل أحمد بن الحسن (1/222)
المعروف بالكرماني ثم الزوزني نبغ بزوزن فاستوى بها شبابه وكملت آدابه وارتقت درجته إلى الترتب في ديوان رسالة الأمير قرا أرسلان بك . فانتصب هناك مدةً واكتسب رياشاً وعدةً . وأخصبت حاله ومال إلى جانب الوفور ماله ورجع كرات في خدمة الركاب الأميري إلى زوزن فيجمل بمرأىً من أهل مدينته وخرج على قومه في زينته والأجل من ورائه ينظر شذراً إليه والأمل بحذائه يضحك عليه . فاختضر بكرمان أنضر ما كان شباباً وأكمل ما كان آداباً . وكان رحمه الله مفتوناً بشعري وربما كتب إلي وتطفل في الصنعة علي . وكانت عندي سوادات من منقولاته من مقولاته امتدت إليها أيدي الضياع وأنا متلهف عليها ومتلفت إليها . وعلق بحفظي ذرو يسير من بعض مقطعاته . فمنها بيت قاله في قرية لاز من ناحية خواف لما شن الغارة عليها الأمير قر أرسلان وهو :
خوت خواف وأهلها شينوا ... مذ صار لاز وزايها شين
ومنها وقد علق بحفظي بيت قاله في غلام من ملاح شورق زوزن وهو :
لا تنكرن ملاحةً في وجهه ... فالملح من منشاه ينقل نحونا
وأنشدني الشيخ أبو محمد الحمداني قال : أنشدني أبو سهل لنفسه :
هاك دمعي يفيض ما شئت فيضا ... وعزائي يغيض ما شئت غيضا
يعلم الله أنني بك صب ... مستهام وأنت تعلم أيضاً
أبو نصر صاعد بن الحسين الأعلم
هو ابن الفقيه أبي عبد الله بن أبي غسان . أنشدني لنفسه :
لكل من بني حواء دين ... وديني حب أصحاب الحديث
فكم مجد حويت بهم وجاه ... مشيد من قديم أو حديث
متى أهدي الثناء إلى سواهم ... ففندني ولا تسمع حديثي
قلت : التدين بمذهب الشافعي رضي الله عنه غريب من فقهاء زوزن إلا أن هذا العالم الأعلم بشمس أرضه أعلم ولا منازعة في اللذات ولا خصومة في الشهوات والعاقل يختار الخيار ويعتام الثمار . وفي المثل : " دليل العقل ما اختاره " . وهذا الفاضل قد أحسن اختياره وجمل بمدح أصحاب الحديث أشعاره وأعلن بها في الناس شعاره
الفقيه أبو علي الحسن الشجاعي الأعلم
كنت بزوزن سنة ثمان وعشرين وأربعمائة ووالدي رحمة الله عليه بها وفضلاؤها يجاورونه طوراً ويحاضرونه مرةً ويجاذبونه أهداب الآداب تارةً . فكان مما كوتب به أبيات لهذا الفقيه لم أحفظ إلا مفتتحها وهو :
جاء من باخرز قرم ... وجهه يحكي الهلالا
خلعت حسناً عليه ... قدرة الله تعالى
فأجابه والدي بأبيات محذوة على الابتداء وزناً وقافيةً أولها :
أنت بدر يتلالا ... ليس منقوصاً هلالا
ونبغ له ولد فاضل وهو :
أبو بكر أحمد بن محمد الشجاعي
فبرع في الفقه والأدب وعارضهما مقضي الأرب وأهدى إلي من أشعاره الواعدة شمائلها المومضة مخائلها نبذاً استصلحت منها لكتابي هذه قوله :
لا تيأس من نيل فضل يبتغى ... فالفضل في كل البرايا مشترك
وصد المعالي بالتواضع جاهداً ... إن التواضع للمعالي كالشرك
وقوله :
لا تعاشر معشراً ضلوا الهدى ... فسواء أقبلوا أو أدبروا
بدت البغضاء من أفواههم ... والذي يخفون منها أكثر
وقوله :
ولما غاب عني غاض صبري ... وفاض الدمع عن عيني فيضا
وقالوا : لست تملك غير صبر ... فقلت : ولست أملك ذاك أيضا
وله من قصيدة استعطاف :
يقول إذا أردت بنا جفاء ... حوالينا الجفاء ولا علينا
وهب أن القريب غدا غريباً ... فأين تفضل السادات أينا
ولا تشمت بنا الأعداء إنا ... تأزرنا بودك وارتدينا
الربيع بن البارع
ابن أبيه وهذا من أبلغ التشبيه . وقد برقت عقيقة سحابته لا بل ظهرت حقيقة نجابته . كتب إلي :
علي صديق أبي كاسمه ... علي بحلى العلا متسم
يجود لسؤاله ضاحكاً ... كما المزن منهمراً يبتسم
وكنت بزوزن والربيع بن البارع طفل بعد ما مشى ولم يعد . فكتبت إلى أبيه في معنى خبر منه أستهديه . وعاتبته على تركه الزيارة وحرمانه الضيف وقد حل بطن تباله : (1/223)
يا بارعاً ليس يزور ضيفه ... ولا يريه في المنام طيفه
أخبر فوجدي بك سل سيفه ... عن الربيع والشتاء كيف هو
أبو الحسن علي بن عبد العزيز العماري
جعلته خاتم هذه الطبقة من الفضلاء كما جعل الله نبيه محمداً خاتم الأنبياء . وهو من ليس بزوزن اليوم ولا في زواياها من بقاياها مثله ولهذا اشتهر ببلاد خراسان فضله وانضاف إلى أولادي مدة يفيدهم مما أفاء عليه الله من آداب منسوبة إلى الأئمة فذهب مندوب إليها كل عالي الهمة وكم فحصته عن اللغة فإذا هو أصمعيها وخليلها وعنده دقيقها وجليلها يسأل عنها فلا يحك لحيته ولا يعتل . وتدخل معه غوامضها الحمام فلا تبتل . ولم يكن يقر عندي بأن له في قطيع الشعر سخلاً وفي سواد النظم نخلاً حتى أنشدني له تلميذه الحاكم العالم أبو الفضل هارون بن أحمد الباخرزي بيتين وهما :
وما أنس لا أنس حبيبي ذاهباً ... وصبري وأين الصبر لي معه ذهب
فما زال يذري فوق خديه لؤلؤاً ... وعاشقه يجري عقيقاً على ذهب
قلت : كنت قد قدرت في نفسي أنني ختمت بهذا الفاضل فضلاء زوزن فلما وصوصت لزوزن علمت أني أخطأت في التقدير ونسيت في المربط أفره الحمير . وكل من الزوازنة جواد في المضمار إلا أن المثل هاهنا للحمار ومساق التشبيب إلى الأديب الأريب :
أبي الحسن علي بن محمشاد
وهذا رجل كان أبوه شيخاً صالحاً يخزن أشفية الخمار في كيزان الأحجار ويذوي على رؤوسها معاجرها ويخنق بذوائبها مناجرها وكان يوسع بضاعته على أهل بلده وينفق ما يكتسب منها على تأديب ولده حتى برز بحمد الله لا بحمد الناس سخنة النواظر ومثلة للبادي والحاضر . وله شعر بل سحر وعنبر زوزن له شحر والعنبر زعموا روث وبشعره من هذا العطر لوث . وهذه كلها من باب المطايبة وإن كانت عند الناس من أسباب المطالبة ولا أرى به من تخميش هذا القرص أثراً ولا أعرف له تحت هذا القضيم مدراً . فمما يحضرني من هذيانه الذي أخذه من فور الطبع وغليانه وكتب به إلى بعض السادة يعاتبه :
حضرت الباب مرات ... وما صادفت إمكانا
وماذا ضر لو كان ... يرينا الوجه أحياناً
أإذن لي في العود ... أطال الله مولانا
كاد يقول : أطال الله بقاء مولانا فوهى السقاء وسقط من دروزة البقاء . ولعل مخاطبه كان قريب النعل من العمامة مختصر ما بين القدم إلى الهامة لو زل من استه بيض لما انفلق من قشره قيض . فدعا له هذا الفاضل بإطالة القامة وهذه معذرة فيها لذنبه مغفرة لا أخلى الله من البعثرة قفاه ومن الزبطرة فاه بمنه وسعة طوله
أبو سهل علي بن أبي معاذ الماثير ناباذي
عربي الأشعار عجمي النجار . ولم يتفق اجتماعي معه إلا أني لم أزل استهدي الركب أخباره والرواة أشعاره واستنشق نسيماً يؤدي نبأ سلامته وأشيم وميضاً يبشر بخصب العيش في جنبته حتى وقعت به الواقعة وحركت الحلقة على بابه القارعة . وفتك به الأمير أبو المظفر الماثير ناباذي في جوف الليل وهجم عليه بالثبور والويل هجوم الأبهمين من الحريق والسيل . فأورد السيف وريده وخضب بدمه حديده فشق عليه الفضل صداره ولطم بعنابه جلناره . ولم أجد من شعره ما أسمط به قلادة ذكره اللهم إلا بيتين من مطلع قصيدة له في الرئيس أبي القاسم عبد الحميد بن يحيى وهما :
اركب الظهر واستعن بالحرائر ... واستشر في النوى ظهور الأباعر
وتنكب قوساً وقلد حساماً ... واعترض سبسباً وحرك عذافر
وكتب على ظهر هذه الرائية :
قل للرئيس سراج الأرض والزمن ... شيخ الهدى شفعوي النسج والسنن
نظمت فيك قريضاً قام منشده ... فليأذن الشيخ من إذن ومن أذن
ولعلي أستثير أخواتهما من مكامنيهما وألحق منها بكتابي ما يكون غراراً في أجبنة محاسنها إن شاء الله عز و جل
الفقيه الإمام أبو عمرو محمد
بن علي الماثير ناباذي (1/224)
هو في الصنعة من الفحول وإن كان من الحول وشعره في جنان الفضل من الخور . وقد صاحبته حيناً من الدهر فوجدته من نوادر العصر وطبعه طبع البحتري وإن كان البحتري وادياً يطم على القرى . ثم له في حسن معاملته مع أهل خطته نيقة أنيقة وطريقة لا تعدل بها طريقة . وكان قاضي القضاة أبو محمد الحسن الناصحي رضي الله عنه يعده في المختصين بجانبه ويلحقه بأقاربه دون أجانبه علماً منه بجزالة عقله وغزارة فضله . قرأت له في كتاب قلائد الشرف قصيدة نظامية يقول فيها :
أعطى فقلنا ما سواه جائد ... وسطا فقلنا : ما سواه ذائد
شغفته أسباب العلا وشؤونها ... لا مبسم رتل وثدي ناهد
لأبي شجاع في الحروب مشجع ... ولساعديه معاضد ومساعد
رقدت رعاياه وتحرسهم له ... همم مسافرة ورأي شاهد
وكأنه للعزم ريح عاصف ... وكأنه للحلم طود راكد
وإذا تشمر للعدا فرؤوسهم ... للبيض والسمر الطوال حصائد
هاماتهم لظبى النصال موارد ... وشعورهم فوق الرماح مطارد
وأنشدني لنفسه في السيد الأجل أبي القاسم الموسوي لنفسه :
علي بن موسى سيد قصد بابه ... غدا سببا لليمن والبركات
فتى خلقت للمجد أخلاقه العلا ... كما خلق الأفلاك للحركات
أبا قاسم لولاك في مرو ناقداً ... لضاعت وما باعت بها كلماتي
وأنشدني لنفسه في مفتصد مليح :
يا من غدت فيه أحوالي منشرةً ... مختلةً غير مرجو تلافيها
أشفق على اليد مهلاً لا ترق دمها ... وارفق بها ففؤاد المبتلى فيها
وأنشدوني له أيضاً من قصيدة أولها :
سقى الله ربعاً بالمحصب دائراً ... حياً ناشراً فيه الأزاهير ناثرا
ديار إذا وافيتها ظل أدمعي ... جواري عن طرفي وطرفي عاثرا
ومنها :
معان ترى للمسك فيها مساقطاً ... لما سحبت فيها الغواني المعاجرا
وحن بعيري إذ أنخنا وكيف لا ... يشوقني رسم يشوق الأباعرا
تطرقتها والأرض مخضرة الربا ... فذكرت روض العيش أخضر ناضرا
ألا أيها الشيخ الإمام الذي غدا ... مطول لفظي عن معانيه قاصرا
لقد طفت وجه الأرض شرقاً ومغرباً ... وعاشرت من هذا الرجال معاشرا
فلم أر إلا عن علاك محدثاً ... ولا بسوى طيب امتداحك سامرا
ركبت إليك الخيل جرداً سلاهباً ... جياداً مبلين السيول حوادرا
وقفن وما أشبهن إلا رواسيا ... وسرن فما أشبهن إلا أعاصرا
ترى الحصيات البلق تحت نعالها ... نوافر يجلين الجراد حوافرا
إذا نحن سميناك طرن نوازعاً ... ألا من رأى مهراً تحول طائراً
وأنشدني لنفسه يصف دابةً شهباء للأمير أبي المظفر الماثير ناباذي :
وشهباء تستهوي القلوب بحسنها ... إذا أومضت قلنا وميض شهاب
وإن عصفت تحت الأمير حسبتها ... مبشرةً بالرزق تحت سحاب
وأنشدني أيضاً لنفسه فيمن طلب فوق منزلته :
تروم وما للصدر أنت تصدراً ... وتطمع أن تدعى الإمام ولسته
نصحتك سامق ذروة العلم وارتبط ... شوارده والصدر حيث جلسته
وأنشدني الحاكم هارون بن أحمد الباخرزي قال : أنشدني لنفسه :
لنا في صحبة الأنذال سمت ... وفي حمل الأذى والصبر نهج
فلا تتعجل الشكوى ولكن ... نعاتب ثم نغضب ثم نهجو
وأنشدني أيضاً قال : أنشدني لنفسه :
أطلق الطبع عند أسر القوافي ... غير ناف عن الجفون كراها
فإذا جاد باللآليء فانظم ... وإذا ما أبى فلا إكراها
وأنشدني له أيضاً :
لقد منيتني الإحسا ... ن تعريضاً وتصريحاً
وكان الوعد يامولا ... ي في كلتيهما ريحا
وقد قتلتني والله ... تعذيباً وتبريحا
فإن لم تنو إمساكاً ... بمعروف فتسريحا
أحمد بن محمد القائني (1/225)
كتب إلى ابنه الشيخ الرئيس أبي نصر المساح بهذه الأبيات :
سلام وريحان وروح وراحة ... على الولد المرضي عندي أبي نصر
تذكرني الأيام طلعة وجهه ... وتمنعني عما أريد سوى الذكر
فيا ليتني ألقى صباحاً طلوعه ... ونمسي ونغدو سالمين من الهجر
ويا ليتني أحيا إلى وقت عوده ... ويا ليته يحيا إلى آخر الدهر
فأجابه ابنه الشيخ الرئيس أبو نصر المساح والد العميد كمال الدولة أبي الرضا بقوله :
لعمر أبي إني كتبت وأدمعي ... تسيل فتمحو ما أنمق من صدري
وما كنت أدري قبل ذلك ما النوى ... فأدرتني الأيام ما كنت لا أدري
ولكنني أرجو بيمن دعائه ... من الله صنعاً يستقيم به أمري
الشيخ الرئيس أبو نصر المساح القائني
قلت : والرئيس أبو النصر هذا كان من أفراد الدهر وآحاد العصر . ونثره على النثرة ونظمه على النجم . وأعارني الأديب يعقوب بن أحمد ديوان أشعاره وقيد ناظري بسلاسل ريح الفضل على أنهاره وأطعمني تفتح أنواره في اجتناء الدواني من قطوف ثماره ورتعت من جناته بين روضة وغدير وظلت من طيباته في ظل عيش غرير والتقطت منه لديواني هذا ما يبقى على الأيام أثره ويحلو بأفواه الرواة ثمره . فمنها قوله :
سقى الله أياماً لنا ولياليا ... أعانق فيها جيد خالي خاليا
لقد كن في صدر الزمان بحسنها ... صداراً وفي سلك الليالي لآليا
وكن لوجه الدهر خالا فأقبلت ... حوادث ردته عن الخال خاليا
تصرمت الأسباب إلا تذكراً ... لبهجة أيام مضين خواليا
وهذا صنيع الدهر بين أولي النهى ... إذا لم يكلفهم قلى فتقاليا
علي زمان ليس لي ليتني أرى ... طلوع زمان لا علي ولا ليا
وله من أحسن ما قيل في معناه :
تركتك لا شكر لدي ولا شكوى ... ولاعتب فيما قد فعلت ولا عتبى
إذا لم يكن عندي لمثلك منة ... فلله فيه عندي المنة العظمى
وله من خمرية :
من ذهب ذا المدام أم عنب ... من عنب فهو سيد الذهب
الكرم أصل وفرعه كرم ... أما ترى كيف حكمة العرب
عليك بالراح فهي رائحة ... لكل روح براحة عجب
قلت : وقد زاد الأجل شرف السادة في خمرية له على هذا التجنيس فقال :
أرى الراحة في الراح ... إذا راحت على الراح
ولابن الرومي تصرف عجيب في المعاني المشتقة من الراح حيث يقول :
والله ما أدري لأية علة ... يدعونها في الراح باسم الراح
ألريحها أم روحها تحت الحشا ... أم لارتياح نديمها المرتاح
رجع شعر الرئيس أبي نصر فقال يصف الخمر :
وقهوة تضحك في الإناء ... وتخطف الأبصار باللألاء
جاءت بها ساحبة الرداء ... كالشمس في ظرف من الهواء
أعجب بظبي من بني حواء ... يحمل ناراً من بنات الماء
وله في الحكمة والموعظة :
لا تحكمن على الرجال تعسفاً ... فتشوب خالص فضة برصاص
صدف اللآلي كامن ما عنده ... حتى تشققه يد الغواص
وله :
راع الكلام فما كلمت مألكة ... تملى على ملك يأتي به الملكا
واردد هواك إذا لجت جوامحه ... بالنفس إن من اختار الهوى هلكا
وقوله :
إن الفتى كل الفتى من لم يذع ... أسرار يوم الود يوم خلاف
فعليك بالأفضال ثم إن التوت ... اسبابه فعليك بالأنصاف
وله من قصيدة :
خطوب الليالي للرجال قوالب ... قوالب إلا انهن قوالب
لها كتب في كل قلب فان وعى ... لهن وإلا شيعتها كتائب
زمان تقول : المرء يسمع ذكره ... عجائب حتى ليس فيها عجائب
ويستدرج الإنسان في شخص لاعب ... به وهو بالسم المثمل لاعب
ومن عشق الدنيا قلته ولم يزل ... له خاطب في منبر الذل خاطب (1/226)
ومن يستفد بالذل عزاً فإنما ... فوائده أمست وتلك مصائب
ولم يغن علم المرء إن قل عقله ... وقل غناء العلم لولا التجارب
وله من خمرياته عفا الله تعالى عنه :
قالوا : الرحيق وصحفوا ... فهي الحريق على الحقيقة
أطيب بها لا سيما ... إن مازجتها منك ريقه
يا شمس قبل الشمس أدركني بها من غير نيقه
فعلي في طيب الصبوح ... لمن ينادمني وثيقه
ولمقلتيك ضمانة ... ولظرف قامتك الرشيقه
وله يهجو أيضاً ثقيلاً
عجباً لأرض الله كيف تحملت ... ثقل المعلى وهو منها أثقل
وكأنما خلق الفتى وتداً لها ... حتى تقر به فلا تتزلزل
وله في الهجو أيضاً :
أبو عبد الإله بكل حال ... لنا خل من الخل اشتقاقه
وفي اقطار همته اتساع ... ولكن ضاق من دوني نطاقه
وقد أنكحته ودي ولكن ... جميع مراده أبداً طلاقه
وله :
فارقت تلك الغانيات وربما ... دفع الرضيع إلى فراق المرضع
ولرب حوت كان يألف مشرعاً ... فدعته نائبة لترك المشرع
طفت البلاد وعدتي من مهجتي ... فيما أطوف ومطعمي من أضلعي
ولبست كمت الحادثات وبلقها ... حتى كأني لابس لمرقع
حافده الرئيس
أبو المحاسن محمد بن كمال الدولة
لست أدري ماذا أقول في من ورث المجد خلفاً عن سلف وزها به دست الوزارة . وهو بالعراء عن كل زهو وصلف ميسر له الخير محبب وكل امرئ يولي الجميل محبب . وكيف لا أنسب إليه المحاسن وهو أبوها وقد وجدها بلا طلب ولم يجدها قوم وقد طلبوها . واتفق أني دخلت عليه وهو بنيسابور وبين يديه من الفضلاء أئمة ألقيت إليهم للآداب أعنة وأذمة . وقد التفت عليه قصب الأقلام وهو خادر بينها كشبل الضرغام . فمنهم الأديب البارع الذي لو أخفيت في وصف فضائله الأقلام وفي طلب مثله الأقدام لقيل لي : تمنيت ما لا يكون والجنون حاشا السامعين فنون . والشيخ الأديب أبو جعفر محمد بن أحمد المختار الذي قلت فيه :
شعرك يا بن المختار مختار ... يكاد حب القلوب يمتار
فراستي فيك أن تسود وإن ... ذيل دون الغيوب أستار
اتفقت لي هذه الأبيات والفأل على ما جرى وتصدقت فيه مخيلتي وبالحرى أما تراه اليوم بحمد الله كيف ساد واستحق بدولة كمال الدولة الوساد وأرغم بسعادة أيامه الحساد فلما رأيت همه إلى اصطناع الأدب وأهله مصروفاً استمليت من بواكير طبعه حروفاً فجاد لي بهذا النظم البديع في صفة الربيع وأثبته بخطه الذي من أنصفه جعله أحسن من الربيع الذي وصفه :
لقد لبس الربيع حلى الغواني ... وماس الروض في حلل الجمال
ولاح الورد في الأغصان غضاً ... كورد الحسن في خد الغزال
وهب نسيمه فذكرت عهد ال ... وصل وحبذا عهد الوصال
وكأني بهذا الهلال وقد صار قمراً منيراً مضياً وعاد عرجونه مجناً وضياً . إن شاء الله تعالى
أبو القاسم الحسين بن عبد الله الفراء (1/227)
فضلاء قائن قد أفرؤا عن آخرهم على كثرة مفاخرهم أن طبقاتهم جميعاً تلامذة هذا الفرا كما أن كل الصيد في جوف الفرا . والتقيت به مرات في مجلس الرئيس أبي القاسم بن أبي نزار فوجدت تفننه في العلوم كقطع الروضة الغناء تروق العيون بالحمراء والصفراء وتجلو عن القلوب ما ران عليها من السوداء ويمن على المستفيدين باليد البيضاء . وكان آخر عهدي به في الوقعة الياقوتية بقائن وكأني به وقد حمل مقرناً مع الأسار في الأصفاد مخلخلاً بثقال الأقياد أعلاه وحاشا آذان السامعين في الوهق واسفله بعيداً من وجوه الحاضرين في الدهق : ثم احتال له أبو القاسم العارض رحمه الله حتى تملس من أيدي أولئك الظلمة بعد ما عصبوه عصب السلمة وتوارى بذيل خيمة الشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن عيسى البركزدري رحمة الله عليه كالفار سدت عليه مندوحة القاصعاء فأمسك بالنافقاء . وكان في قيد الحياة إلى هذه الغاية . ونعي إلي فعز نعيه علي رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة متقلبة ومثواه . وليس يحضرني من شعره إلا قوله من خمرية :
وكأس كلون الأرجوان شربتها ... على رغم لاح أو عذول مفند
إذا هي شجت خلت عكس شعاعها ... تلألؤ برق في سحاب منضد
كأن حباب الماء فوق مزاجها ... شآبيب دمع فوق خد مورد
سقاني بها ظبي كأن بنانه ... أنابيب در قد أحطن بعسجد
وقوله وقد اقترح عليه الرئيس أبو القاسم عبد الحميد بن يحيى رحمه الله أن يصف حبارى كانت تطوف في داره وهي داجنة ما لها رأي في مفارقته تلك الساحة حتى كأنها اختارت تلك الهجرة للاستراحة :
ودارية إما تراع تترست ... بملحفتي وشي تضمهما نشرا
وإن لاح صقر فالسلاح سلاحها ... توليه ظهراً تستعد به ظهرا
تعدى لفرط الشح والفقر نحوها ... فأخبث به شحاً وأدقع به فقرا
... . . لم يدر حلت حمى الندى ... بحيث رأوا ذخراً إذا وهبوا ذخرا
وهي طويلة علق منها بحفظي هذا الذرو اليسير فتعللت به عند ذكره
أبو القاسم أحمد بن علي العامري
قال وهو واقف على أطلال الهمم باك على رسوم الكرم يشكو نأيها ويندب نؤيها ناسجاً على منوال المتنبي حيث يقول :
حق عاف بدمعك الهمم ... أحدث شيء عهداً بها القدم
والعامري عمر هذا الطريق بقوله :
خفت بأسبق مهرياتها الهمم ... وقوضت للمعالي خلفها الخيم
وقفت في عرصات الفضل آونة ... حتى تبين من آرامها إرم
هبت عليها رياح اللوم عاصفةً ... وسح للجهل فيها وابل رذم
أقوت مغاني العلا يا حسن بهجتها ... حتى كأن اسمها لغو يلوك فم
إذا تكلم عند الناس ذو أدب ... عرا مسامعهم من غيظه صمم
أبو منصور عبد الرحمن بن محمد
بن سعيد
أنشدني الأديب يعقوب بن أحمد قال : أنشدني أبو بكر القهستاني قال : أنشدني أبو منصور هذا لنفسه :
تباع بغزنة في سوقها ... بدور ولكنها بالبدور
وبالمدنف الصب عن وصلهم ... قصور فقد حجبوا في القصور
قال وأنشدني أيضاً لنفسه :
خلة الغانيات خلة سوء ... فاتقوا الله يا أولي الألباب
وإذا ما سألتموهن شيئاً ... فاسألوهن من وراء حجاب
أبو القاسم علي بن عبد الرحيم الشيباني
عرض علي الأديب يعقوب له رقعة مصدرةً بهذين البيتين فكثرت بها سواد قائن وأوردت بيتيه وإن كانا زائدين كالزمع في الأدم والزنم في الغنم :
كل بلاد الله مهجورة ... إلا بلاد أنت يعسوبها
أصبح نيسابور رأساً لها ... وعينها الأستاذ يعقوبها
أبو المظفر محمد بن عبد الله
ابن محمد بن إبراهيم بن شهاب بن إسحاق بن محمد بن فيروز العبنسي المعروف بالشارستاني
أنشدني الرئيس أبو القاسم عبد الحميد بن يحيى قال : أنشدنيه لنفسه في عيادة بعض أصدقائه من الرمد :
غدونا أيها الشيخ المرجى ... رهائن للغموم وللكروب
وضاق لأجل عينك كل قلب ... لأن العين زوزنة القلوب (1/228)
قال : وأنشدني أيضاً لنفسه في العيادة :
ولو استطعت حملت علة جسمه ... وقرنتها مني بعلة بالي
وجعلت صحتي التي لم تصف لي ... صفواً له مع صحة الأحوال
فيكون عندي العلتان كلاهما ... والصحتان له بغير زوال
أبو الفتح ناصر بن منصور الطبسي
المقيم كان بغزنة . أنشدني له أبو منصور عبد الرزاق بن الحسن البوشنجي قال : أنشدني لنفسه مرات من أبيات :
يقال : شعرك وسواس هذيت به ... وقد يقال لصوت الحلي وسواس
وقد استنبطت معنى من وسواس الحلي في غزل قلته وهو :
وخريدة تكسى الجمال لباسا ... قاسى الفؤاد بحبها ما قاسى
جنت خلاخلها بنغمة ساقها ... ولذاك سمي جرسها وسواسا
السيد أبو طالب محمد بن أحمد
العلوي الحسيني
صاحب كتاب " الرضا " . رأيت هذا العالم السيد الزاهد رضي الله عنه عند اجتيازي بالطبسين وأقررت بطلعته الناظر وارتديت بصحبته العيش الناضر . وطالما كنت أسمع به فلما التقينا صغر الخبر الخبر فالخلق جد والعلم عد وما له في طريقته المثلى ند . وكان ملحاً على أصحاب الملح يستفيدهم ويفيدهم . فألح علي حتى أمليت عليه شيئاً من محفوظاتي واستكتبته بعض فوائده فجشم قلمه واستعمل في إجابتي كرمة إلا أني فجعت به وبما أفادنيه ونفذ الدهر علي حكمه فيه وآفات التعليقات كثيرة كما قال الحاكم أبو سعد بن دوست :
عليك بالحفظ دون الجمع في كتب ... فإن للكتب آفات تفرقها
الماء يغرقها والنار تحرقها ... والفار تخرقها واللص يسرقها
فمما أنشدنيه لنفسه قوله :
إن المكارم أصبحت لهبانةً ... حرى وأنت بلالها وبليلها
وإذا المكارم دللت أو ضللت ... يوماً فأنت دلالها ودليلها
وقوله :
لا تلحقنك ضجرة من سائل ... فدوام عزك أن ترى مسؤولا
واعلم بأنك عن قليل صائر ... خبراً فكن خبراً يروق جميلا
فصل من نثر له وشحه بنظم . وكتب بهما إلى الرئيس أبي القاسم عبد الحميد بن يحيى : " طلع عالي خطاب حضرة سيدنا مقصوراً على عقود حلاها تقاصيرها وحليها كالرياض من حلاها أزاهيرها . وحليها هذه نظمها خاطر الولي وتلك وسمها ماطر الولي . وقد حارت حداق البشر في حدائقه وغارت حقاق الدر على حقائقه . فخدمته وتلقيته باليمين وقلت : " أزلفت الجنة للمتقين " :
ولو أطاقت من الإعظام تنشره ... نواظر العين ما مكنت منه يدا
وإن من أعطته المعالي زمامها وأمطته المكارم سنامها وأولته البلاغة صمصامها وجعلته البراعة عصامها ثم اعتام صفاياها اعتياما واحتكم في مزاياها احتكاما فأحربه أن يكون كتابه العالي مقصوراً على حور مقصورات في الخيام . وتبسم ألفاظه عن اللؤلؤ الفرادى والتؤام . فهنيئاً له منزلته الشماء في المجد العميم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . وكم كررت ناظري في فصوله عند وصوله فكانت أحسن من ملك أو شباب معاد وأشفى من هلك حاسد ومعاد ووقفت على سلامة نفسه النفيسة نفس الله مددها ووقر من الخير مددها . فلا زالت عيون البلاء عنها غافلة وفنون العلاء إليها رافلةً وأفنان العوارف عليها مائدة وأنواع العوائد عليها عائدةً . فإنها نفس من عانق المكارم وألفها كما عانقت لأم الكاتب ألفها . أما العقيلة المخطوبة والكريمة المطلوبة فقد وصلت . ومثله وإن كان لا مثل له مثلها إلى مثلي من المنتمين إلى خدمته والمربوبين بنعمته يهدي ويزف وعن غيرها كفؤ يكف :
فرائد جاوز الشعرى ترقيها ... نظم المحاسن عقد في تراقيها
فلو تجسم ما فيهن من حكم ... زهر كزهر جلاها صوب ساريها
تناهبتها العذارى الحور ناظمةً ... على النحور عقوداً من لآليها
لها محاسن ما إن سوميت أبداً ... إلا وأبدى مساويه مساويها
إذ لا مروءة إلا وهو ناظمها ... ولا فتوة إلا وهو بانيها
متى نظمت مديحاً في مفاخره ... تضوعت عنبراً ورداً قوافيها
هدي المهاري حداهن الولاء إلى ... دار تعطرت الدنيا بأهليها (1/229)
قلت : لما انصرفت من البصرة في خدمة الركاب العميدي اتفق الاستسعاد برؤيته ثانيةً وتدلت به إلى أهداب المسرات دانية يكاد بأخذها من قام بالراح تزودت إلى ناحيتي من النشاط بلقائه والاغتباط ببقائه ما اعتقدت لله تعالى عليه حمداً دائباً وشكراً واصباً . ولم تطل عليه الأيام حتى بسط عليه القضاء جناحيه وقبضه الله وله الكبرياء إليه رحمة الله ورضوانه عليه
القاضي أبو القاسم
عبد العزيز بن محمد الطبسي
أنشدني أبو إبراهيم بن أبي أسعد المقري له في ترجمة البيتين بالفارسية :
كفتى كه برو برابرم جه نشينى ... اينك رفتم جرا جنين غمكينى
جون بفروشى بتا ستور زينى ... بر بسته بر آخر دكر كس بينى
فقال :
وأنت الذي أبعدتني إذ رأيتني ... وها أنا ذا غاد فما لك تحزن
إذا أنت بعت اليوم مهراً لهزله ... تراه على آري غيرك يسمن
قال : وأنشدني أيضاً لنفسه :
وما غربتي يا قوم عندي محنة ... ولكنه صرف الزمان ينوب
فقل للذي سرته محنة غربتي ... توقع إيابي فالغريب يؤوب
قلت : الكربة الكربة من غربة تكون تحت التربة والخيبة الخيبة من مثل تلك الغيبة فإن غريب التراب يرجع بعد مشيب الغراب وغائب الممات منقطع المواد والموات ولا متدارك لذلك الفوات صدق عبيد وهو من أصدق العبيد حيث قال :
وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب
القسم السابع
في أئمة الأدب
الذين لم يجر لهم في الشعر رسم
هؤلاء قومٌ ليس لهم في دواوين الشعر رسمٌ ولا في قوانين الشعراء اسمٌ . وقد أفردت لهم باباً أنا ابن بجدته وأبو عذرته . وأنت وإن ألجمت في طلبه عراباً وزممت بختاً لم تلحق له في سائر الطبقات أختاً
أبو الحسين أحمد بن فارس
ابن زكريا
إذا ذكرت اللغة فهو صاحب مجملها لا بل صاحبها المجمّل لها . وعندي أن تضيفه ذلك من أحسن " التّصانيف التّي صنعت " في معناها وأنّ مصنّفها إلى أقصى غايةٍ من الإحسان تناهى . ولم أر له شعراً غير ما رويت " وهو " :
وقالوا : كيف حالك قلت : خيرٌ ... تقضّى حاجةٌ وتفوت حاج
إذا ازدحمت هموم القلب قلنا ... عسى يوماً يكون لها انفراج
نديمي هرّتي وسرور قلبي ... دفاتر لي ومعشوقي السّراج
أبو الفتح عثمان بن جنّي
ليس لأحدٍ من أئمة الأدب في فتح المقفلات وشرح المشكلات ما له ؛ " فقد وقع " عليها من " ثمرات الأعراب ولا سيّما في علم الإعراب " . ومن تأمل مصنّفاته وقع على بعض صفاته فور بيّ إنّه كشف الغطاء عن شعر المتنبّي وما كنت أعلم به أنّه ينظم القريض أو يسيغ ذلك المتنبّي وما كنت أعلم به أنّه ينظم القريض أو يسيغ ذلك الجريض حتّى قرأت له مرثيّته في المتنبّي وأولها :
غاض القريض وأودت نضرة الأدب ... وصوّحت بعدري دوحة الكتب
" ومنها " :
سلبت ثوب بهاء كنت تلبسه ... لّما تخطّفت بالخطّيّة السلب
ما زلت تصطحب الجلّى إذا نزلت ... قلباً جميعاً وعزماً غير منشعب
وقد حلبت لعمر الدّهر أشطره ... تمطو بهمّة لا وان و نصب
من للهواجل يحيي ميت أرسمها ... بكلّ جائلة التصدير والحقب
قباء خوصاء محمودٍ علالتها ... تنبو عريكتها بالحلس والقتب
أم من لسرحانها يقريه فضلته ... وقد تضور بين اليأس والسغب
أم من لبيض الظبى تو كافهنّ دمٌ ... أم من لسمر القنا والزغف واليلب
" أم للجحافل يذكي نار " جاحمها ... حتّى يفرّيها عن ساطع اللّهب
أم للمحافل إذ يبدو ليعمرها ... بالنظم والنّثر والأمثال والخطب
أم للصّواهل محمّراً سرابلها ... من بعد ما غربت معروفة الشّهب
أم للمناهل والظلماء عاكفةٌ ... يواصل الكرّ بين الورد والقرب
أم للقساطل تعتمّ الحزون بها ... أم من لضغم الهزبر الضّيغم الحرب (1/230)
أم للضراب إذا الأحساب دافع عن ... تدنيسها شفرات الوكّف القضب
أم للملوك يحلّيها ويلبسها ... حتى تمايس في أبرادها القشب
ومنها :
نابت وسادي أطرابٌ تؤرقني ... لما غدوت لقىّ في قبضة النوب
عمّرت خدن المساعي غير مضطهد ... " ومتّ كالنّصل " لم يدنس ولم يعب
فاذهب عليك سلام المجد ما قلقت ... خوص الرّكائب الرّكائب بالأكوار والشّعب
أبو حاتم السّجزي
لم يبلغني له شعرٌ غير هذه الأبيات :
موفّقٌ لسبيل الرّشد متبّعٌ ... يزينه كلّ ما يأتي ويجتنب
تسمو العيون إليه كلّما انفرجت ... للنّاس عن وجهه الأبواب والحجب
له خلائق بيضٌ لا يغيّرها ... صرف الزّمان كما لا يصدأ الذهب
أسدٌ العامريّ
رأيت له بيتين مكتوبين على ظهر كتابٍ ونظرت في الخطّ فتفرّست في جبينه أنّه من وشي يمينه والبيتان قوله :
لا يخدعنّك أن ترى شبحاً ... طويت مكاسره على الحمق
المرء يذهب حيث يذهب أصله ... فاحكم على الأغصان بالعرق
وأنشدني القاضي أبو جعفرٍ البحّاثيّ له بيتاً واحداً من قصيدةٍ جيميّةٍ :
تمنّى لقائي فلاقيته ... فعاد الغبار إلى المرهج
أبو القاسم زيد بن أسدٍ العامريّ
هو أبوه وأبو العباس أخوه وابنه أبو الحسن في الأدب من الأئمة وكان الآداب " قد " ألقت إليهم أطراف الأزمة . فمن شعره البارع قوله :
بنو عامرٍ قومي ومن يك قومه ... بنو عامرٍ يفخر بمنصبه الفخر
جبال لها فوق الفراقد مطلع ... بدور دجى حقت بها الأنجم الزّهر
فسائل بنا يوم الذّنائب هل أتى ... على الدهر يوم مثله أو جرى أمر
فأصبح أمر الدهر دون أمورنا ... وإن قام منّا واحد قعد الدّهر
ويعجب منا الجود يوم حبائنا ... ويعجب يوم البأس من صبرنا الصبّر
فنحن الحماة الذائدون عن الحمى ... ونحن الكماة الطاعنون ولا فخر
" قلت " : لولا أنّ إسناد هذه الأبيات إليه صحيحٌ وليس يشينه أنّها رغوة هي أم صريحٌ لا تهتمه فيها ؛ فإنّ مثلها " إنّما " يصدر عن " أواذيّ بحور الشّعراء لا من نحاتات صخور الأدباء . ولم أر لأبي العبّاس شعراً مرغوباً فيه
ابنه
أبو الحسين بن زيدٍ العامريّ
أنشدني " القاضي أبو جعفر البحّاثيّ له قال : وهو أديبٌ لا يشقّ في الأدب غباره ولا تلحق آثاره :
ولحية كأنها مخلاة ... من بابه الضّرط فهاتوا هاتوا
وأنشدني أيضاً له :
الله أغناني بعزّ جلاله ... عن جعفر والمبتغى من ماله
لا يعجبنك قدّه وجماله ... فعساكر الإدبار تحت جماله
لا تنظرنّ إلى أبيه وجدّه ... وانظر إلى المذموم من أفعاله
وانظر إلى محبوبه وقرينه ... لترى خساسته وفرط سفاله
يا لائمي في بغضه وهجائه ... اقصر فلم تعرف حقيقة حاله
أبو نصرٍ إسماعيل بن حمّاد الجوهريّ
صاحب صحاح اللغة " وتاج العربيّة " لم يتأخرّ فيها عن شوط أقرانه ولا انحدر عن درجة أبناء زمانه . أنشدني الأديب يعقوب بن أحمد قال : أنشدني الشيخ أبو إسحاق صالحٍ الورّاق تلميذ الجوهريّ له :
يا ضائع العمر بالأماني ... أما ترى رونق الزّمان
فرصتك اليوم فاغتنمها ... فكلّ وقت سواه فان
فقم بنا يا أخا الملاهي ... نخرج إلى نهر بشتقان
لعلّنا نجتني سروراً ... حيث جنى الجنّتين دان
كأنّنا والقصور فيها ... بحافتي كوثر الجنان
والطير فوق الغصون تحكي ... بحسن أصواتها الأغاني
وراسل الورق عندليب ... كالزيّر والبمّ والمثاني
وبركةٍ حولها أناخت ... عشر من الدّلب واثنتان
أبو نصر الحيّان النحويّ
من أئمة النّحاة كتب إلى الصّاحب كافي الكفاة : (1/231)
قل للوزير أدام الله نعمته ... مستخدماً لمجاري الدّهر والقدر
أردت عبداً وقد أعطيته ولداً ... فسمّه يسم في المعراج مفتخري
وإن وصلت له تشريف كنيته ... جمعت بالطّول بين الرّوض والمطر
لا زال ظلّك ممدوداً ومنتشراً ... فإنّه خير ممدودٍ ومنتشر
فأجابه الصاحب :
هنيته ابناً يشيع الأنس في البشر ... هنّئت مقدم هذا الصارم الذّكر
أخوه كالشمس قد عمّ الضيّاء به ... فاجمع بهذين بين الشمس والقمر
أما اسمه منصور وكنيته ... أبو المظّفر بين النصر والظّفر
أنت الحياة لآدابٍ برعت بها ... فليجر لي مثل مجري السّمع والبصر
أبو الحسن علي بن القاسم السنجانيّ
وسنجان قصبة خواف . صاحب " مختصر العين " ومحلّه من الأدباء " محلّ العين " من الإنسان و " محلّ " الإنسان من العين وقد سهل طريق اللغة على طالبيها وأدنى قطوفها من متناوليها باختصاره العين فلا تكاد ترى حجور المتأدّبين منه خالية " لا " بل تراها " أبداً منه " حالية . وله شعر الزّهّاد وقد جرى فيه على سمت العبّاد ونسج فيه على منوال أولي الاجتهاد . فممّا وقع إليّ منه قوله :
خليليّ قوما فاحملالي رسالةً ... وقولا لدنيانا التي تتصنّع
عرفناك يا خداعة الخلق فاغربي ... ألسنا نرى مل تصنعين ونسمع
فلا تتحلّي للعيون بزينةٍ ... " فأنا متى ما " تسفري نتقنّع
نغطّي بثوب اليأس منك عيوننا ... إذا لاح يوماً من مخازيك مطمع
وهل أنت إلا متعةٌ مستعارةٌ ... وهل طاب يوماً بالعواري تمتّع
رتعنا وجلنا في مراعيك كلّها ... فلم يهننا مّما رعيناه مرتع
وأنت خلوب كالغمامة كلّما ... رجاها مرجّي الغيث ظلّت تقشّع
طلوعٌ قبوعٌ كالمغازلة التّي ... تطلّع أحياناً وحيناً تقبّع
فهذا لعمري كلامٌ لو دعي به الصّخر لجاب ولو قرع به مسمع عفريتٍ لتاب
وله أيضاً يرثي نفسه :
دبّت إليّ بنات الدّهر مسرعةً ... حتّى تمشيّن في قلبي وفي كبدي
قد وسّد التّرب خدّي فهو مضطجعي ... وصار مهادي أوعر المهد
والعين مني فويق الخدّ سائلةٌ ... وطالما كنت أحميها من الرّمد
وله أيضاً :
عن قريب سرائر القلب تفشو ... في مقامٍ يشيب فيه الوليد
أيّ يومٍ هناك يومي إذا ما ... جمع الخلق موقفٌ مشهود
أبو الحسن عليّ بن الحرث البياريّ
عنده مفصّل الفضل ومجموعه ومرأى الأدب ومسموعه ومعدن العلم وينبوعه " والذّي تشدّ إليه الرّحال وتزمّ نحوه الجمال " ويقصد مجلسه القصّاد وتنثال على مناهله الورّاد . حدّ ثني تلميذه أبو العبّاس محمد بن عليّ البادغوسيّ . قال : كتب إليه الوزير الحسن المصعبيّ مهيباً به إلى جانبه ليجني من الأدب " ألذّ " الجنى به فترفّع عن إجابته إذ لم يكن قصد مثل ذلك الباب من بابته وصدّر جواب كتاب المصعبيّ بهذه الأبيات :
قد تدبّرت ما أشرت إليه ... وهو الخير لا غبار عليه
غير أن المشيب من برد المو ... ت وخيط الرّقاب في كفيّه
فلماذا أريد ما لم أرده ... في شبابي ولم أحنّ إليه
" وأنشدني أيضاً له قال : أنشدنيه لنفسه : "
ماذا أقول لربيّ حين يسألني : ... فيم اتبعت حراماً بعد سبعين
لا همّ إن طمعت نفسي فلا طمعت ... فيما ابتغت غير زقّومٍ وغسلين
أبو المظفر محمد بن آدم
بن الكمال الهرويّ
اختصر النّسب إلى آدم وإن كان العهد بينهما قد تقادم والكمال الهرويّ أبوه فهو ابن الكمال وأخوه . ولئن كان نفسه في الشعر قصيراً فقد كان طويل الباع في الأدب " وبه بصيراً " . وللمتكلمّين في مذهب العدل إماماً وعلى علم التّوحيد زماماً . أنشدني له الأديب أبو القاسم مهدي بن أحمد الخوافي قال : أنشدني لنفسه ولم أسمع له شعراً سواه :
صباح الشّيث أسفر في عذاري ... فسافرت العذارى عن جواري (1/232)
أقمن على السّواد وهنّ بيضٌ ... ورحن من البياض على نفار
كذ الأقمار تؤنسها الليالي ... وتبهرها تباشير النّهار
وأغرب ما ترينيه اللّيالي ... غرابٌ في قميص الباز طاري
الأديب أبو القاسم مهديّ بن أحمد
الخوافيّ
لو قلت : إنّي لم أر مثله في عصرنا هذا معرفة بأصول الآداب وغوصاً في بحار المعاني الطامية العباب وصحبة لأئمة الصنّاعة الذين هم أسنمة الفضل وكواهله وعندهم " شفاء علل الآذان وفيهم مناهله مثل " محمد بن أبي يوسف الأسفزاريّ والحاج " صلاح " النّبيّ وشريح السّجزيّ وغيرهم ممّن لا أذكره لما نسبت إلى التزّيّد والأشتطاط ولا " وصفت إلا بالتوثّق " والاحتياط . وقد صحبته مقتطفاً من نوّاره ومخترقاً من ثماره ومغترفاً من بحاره . راتعاً في رياض مجموعاته كارعاً في حياض مسموعاته . وكلمّا ازددت منه قرباً ازداد سمعي من فوائده " قرطاً " . وله نثرٌ حسنٌ تدلّك عليه خطبه التّي صدّر بها كتبه أمّا النظم فقلّما يعتاده ولو أراد لكان ميسّراً على لسان إيراده
فممّا تعلّل به اشتعال الرأس ووهن العظم وكلال الخاطر عن تعاطي النثر والنظم قوله الذّي أنشدنيه لنفسه :
أبا قاسم عمرك كلّه ... فلا تك مغتراً بما ترجف المنى
فإنّ أمرأً ناجى الثّمانين عمره ... بعيد نجاة النّفّس من مخلب الفنا
فوطنّ على التّرحال نفسك ثانياً ... ولا ترج إلاّ مرقد اللّحد موطنا
وقوله أيضاً :
يقولون : قد أنفقت عمرك كلّه ... على أدبٍ لم تحظ منه بطائل
فقلت هم : إذ كان أنسي وزينتي ... وكان الصّيد الكرام وسائلي
وميزّني عن زمرة الجهل علمه ... فلست أبالي بالحطام المزايل
أبو الفضل النّوشجانيّ
هو من علية الأدباء والعارفين بلسان العرب العرباء وإن كان في الشّعر من المقليّن فهو في اللّغة من المستقليّن وإقلالٌ مع استقلالٍ خيرٌ من إكثارٍ مع إهجارٍ . حدثني الأديب أبو القاسم مهديّ بن أحمد الخوافيّ قال : حدّثنا شيخنا محمد بن " أبي " يوسف الأسفزاريّ قال : حملني أبي إلى دار الشيخ أبي عبيدٍ الهرويّ وحطّ رحلي عنده فأضاف جماعةً من الفضلاء وكان يسقيهم ويراضعهم لبان الكاس . فسأل أبا الفضل النوشجانيّ قال : وبلغني أنّك كنت تخدم بعض الأماثل فهل حظيت منه بطائلٍ فقال : لا ولكنّي هجوته بيتين صعتهما فيه وهما :
إذا ما لم يكن جداوي منكم ... سوى مرقٍ وذا أيضاً بمنّه
فلست ببائعٍ أدبي بحشوي ... " رؤوسكم كما كانت " أجنّه
قلت : المصراع الأخير من الظرف في أقصى النّهاية وهو مع ذلك من باب الكفاية في الكناية
أبو الفتح بن الأشرس
حدّثني القاضي أبو جعفرٍ " محمد " بن إسحاق البحّاثيّ قال : حدّثني الحاكم أبو سعد بن دوست عن أبي الفتح هذا أنه كان من ناحية الرّخّ وكان يؤدّب بنيسابور ويختلف إلى أبي بكرٍ الخوارزميّ . فلما نزف ما عنده ارتحل إلى مدينة السّلام . قال : فرأيت كتاباً بخطّ يده وقد كتب به إلى بعض أصدقائه وذكر في أثنائه أن ليس اليوم بخراسان من يقوم بكتاب " اختيار الفصيح " لثعلب وألفاظ الكتبة لعبد الرّحمن بن عيسى
قال الحاكم أبو سعدٍ : وكان الخوارزميّ يومئذٍ حياً يرزق والألسنة بفضله تطلق . وهذان الكتابان من زغب فراخ الكتب . وأنكر معرفة أهل خراسان بهما . فما ظنّك بالقشاعم اللّقمانيّة من أمهاتها وأنشدني القاضي أبو جعفر قال : أنشدني الحاكم أبو سعدٍ قال : أنشدني " أبو الفتح " بن الأشرس لنفسه في أبي الحسين الأهوازيّ يهجوه :
يا عجباً لشيخنا الأهوازي ... يزهى علينا وهو في هوّاز
قال القاضي : وأنشدني الحاكم أيضاً قال : أنشدني ابن الأشرس لنفسه :
كأنّما الأغصان لّما علا ... فروعها قطر النّدى ثراّ
ولاحت الشمّس عليها ضحى ... زبرجدٌ قد أثمر الدرا (1/233)
نقد الحاكم أبو سعدٍ على بيتيه فقال : " قد أثمر الدّرّا " لا يستقيم في النحو . لأنّه لا يقال : أثمرت النخلة بالثمر . وإنما يقال : أثمرت ثمراً بغير الألف واللام . وبمعنى أثمرت بالثمر . فقال القاضي : وسمعت الحاكم أبا سعد بن دوست يقول : كتب أبو الفتح بن الأشرس من بغداد إلى أبي نصرٍ الحدّاد بينسابور :
ربّ غلامٍ صار في ... بغداد إحدى الفتن
رقّعت خرق ظهره ... برقعةٍ من بدني
قال القاضي الحاكم : وفي هذين البيتين أيضاً خللٌ لأنّه " لا " يمكن أن يفسر على وجهٍ قبيحٍ لأنّ لحيته من بدنه . قال القاضي : فقلت له : وهذا التفسير أشبه لأنّ اللّحية أشبه بالرّقعة من الفعل قال : نعم لأنّ اللحية ترقّع وذاك يمزّق
أبو سعيد الحسين بن أحمد الطّبسيّ
من تلامذة أبي بكرٍ الخوارزمي رأيته في مجلس الرئيس أبي القاسم عبد الحميد بن يحيى الزّوزنيّ شيخاً أخذ منه الهرم فصار فريخاً :
وزاد على السنين صباً وحسناً ... كما رقّت على العتق الشمول
فالقد من الكبر حنيٌّ " ولكنّ نور الظرّف جنيّ " ومذاق العشرة هنيّ ومن مسموعاته التّي رغب في استفادتها العام والخاصّ حتّى شرق بهم مجلسهم الغاصّ كتاب " الغريبين " من تأليف أبي عبيد " الله " الهرويّ . فإنّه سمع ذلك من مؤلّفه واستملاه من مصنّفه . وممّا أنشدني لنفسه قوله من مرثيّة أستاذه أبي بكرٍ محمد بن العبّاس الخوارزميّ :
شيّب فرط الأسى قذالي ... وكدّر الدّهر صفو حالي
وارتجع الدهر ما حباه ... وحيعل المجد بالزّوال
وعادت النّيّرات بهماً ... وناحت العصم في الجبال
فقلت : يا صاحبيّ ماذا ... أتت به كرّة اللّيالي
أقام ربّي النّشور أم قد ... دعا إلى العرض والسّؤال
أم " الإمام الهمام " أودى ... به حمام فبيّنا لي
لهفي على الشّعر والمعاني ... لهفي على ناقد الرّجال
ربّ الفيافي أبي القوافي ... عمّ المعالي أخي العوالي
حاربه الدّهر وهو بدرٌ ... لّما رآه بلا مثال
يا أهل خوارزم من يعزّى ... أنتم أم المجد والمعالي
أم القوافي أم المذاكي ... أم التّعاليق والأمالي
مضى الذي لو رآه قسّ ... يوماً لأضحى بلا مقال
وفلّ منه الرّدى حساماً ... ما فلّه كثرة النّزال
وأنضب الدّهر منه بحراً ... يموج بالدّرّ واللآلي
يا من غدا يدّعي المعالي ... قد رفع الفخّ لا تبال
صلّ على روحه إلهي ... ما دام يتلو لسان تال
وما سرى في الظلام سارٍ ... وشدّ بالكور والرّحال
وكتب إلى الرئيس أبي القاسم بن أبي نزار :
بالأمس مهرج ناسٌ ... ولم يمهرج أناس
وقد نسيت فما لي ... قربى ولا إيناس
وكان حظّي منه ... خمول ذكرٍ وياس
دعاهم إيسار ... وردّني إفلاس
فليت شعري لماذا ... يجوز هذا القياس
ولست دون فريقٍ ... منهم إذا ما أقاس
بلى عليهم لباسٌ ... وما عليّ لباس
وإننّي كالذّنابى ... وهم سنامٌ وراس
يقال " لي " حين أشكو : ... دع ذا فذا وسواس
الماء ليس بجار ... لمن علاه نعاس
لا زال يرجى لديه ... " كاس وكيس وطاس "
لا زال يحيى بن يحيى ... عليه كيس وكاس "
يعطي اللّهى وتفدّى ... يمينه وتباس
ما دام للطيّر جوّ ... وللظّباء كناس
وإن مضى يوم مهرٍ ... فما بيومي باس
وكلّ أيام دهري ... في ظلّه أغراس
إذ لا كريم يدانيه ... أو إليه يقاس
وأنشدني لنفسه يهجو بعض فقهاء زوزن :
قد بلينا " بزوزن " بفقيهٍ ... مستخفّ بقيمة الأحرار (1/234)
فتحييّه بالسّلام عليه ... ويرد الجواب كالنّخّار
الأديب شريح بن أحمد السّجزيّ
أنجبت به ولاية " نيم روز " فسار ذكره وطار وملأ الأقطاب والأقطار . فكم من أدبٍ أفاد وشرح به كاسمه الفؤاد . وكان في الشّعر قصير النّفس ولم يكن يظفر به الرّواة إلاّ في الخلس . " فممّا أنشدوني " له بهراة قوله في العبد لكانيّ الزّوزنيّ :
عبدٌ لكانينا محلّىّ ... بالعلم والجانب العفيف
مكحّل العين زوزنيّ ... مذهبه مذهب المضييف
وقوله في الزّهد :
قد طال في الذّنب عمري ... وما ارعويت فويحي
وفاض دمعي بسيلٍ ... وجاد طرفي بسيح
وقد عدمت صريح الت ... قى فجيت بضيح
وليس يجدي صراخي ... وليس ينفع صيحي
فمنّ يا ربّ واشرح ... بالعفو صدر شريح
أبو إسحاق بن صالح الورّاق
هو تلميذ الشيخ أبي نصرٍ إسماعيل بن حماد الجوهريّ . أنشدني له الأديب يعقوب بن أحمد رحمه الله وهو أحسن ما " قيل في معنى " دود القزّ :
وبنات خبتٍ ما انتفعت بعيشها ... " ووأدتها فنفعنني بقبور "
ثمّ انبعثن عواطلاً فإذا لها ... قرن الكباش إلى جناح طيور
ومن المعاني المثارة من دود القزّ قول أبي الفتح البستيّ :
ألم تر أنّ المرء طول حياته ... معنّىً بأمرٍ لا يزال يعالجه
" تراه " كدود القزّ ينسج دائباً ... ويهلك غمّاً وسط ما هو ناسجه
" ولأبي إسحاق بن صالحٍ الورّاق يهجو " ابن زكريّا المتكلم الأصفهانيّ :
أيا أحمدٍ يا أشبه الناس كلّهم ... خلاقاً وخلقاً بالرّجال النواسج
لعمرك ما طالت بتلك اللّحى لكم ... حياةٌ ولكن بالعقول الكواسج
ابن برهان النّحويّ
هو أبو القاسم عبد الواحد بن الحسن بن برهان النّحويّ رأيته ببغداد سنة خمسٍ وخمسين وأربعمائةٍ شيخاً باذّ الهيئة رثّ الكسوة يمشي وقد شمل العري طرفيه ونظم رأسه وقدميه . وقصدته زائراً ولم أكن عهدته . فإذا أنا في باب المراتب بشيخٍ على ما وصفت فلم أشكّ في أنّه ضالتّي المنشودة وفراسة المؤمن لا تخطئ فاقتفيت أثره إلى مسجدٍ اجتمعت فيه تلامذته ينتظرونه " وكمّه أعجر بأجزاء النّحو " . فدخل عليهم وقاموا إليه واستند في المحراب وتكلّم في العلم الذي لقّب فيه والفنّ الذي عقد بنواصيه والضرّب الذي أحاط به من جميع نواحيه . فقل في القرم الهائج هادراً والبحر المائج زاخراً . وكان في نفسي أن اختلف إليه واغترف ممّا لديه فقامت العوائق تدفع في صدور الأماني والأسفار تسير بي سير السّواني . وما كان عندي أنّ له شعراً تتعاطاه الأفواه وتتهاداه الشّفاه . حتّى نسب إليه أبو الفرج الغندجانيّ هذه الأبيات :
أحبّتنا بأبي أنتم ... وسقياً لكم أينما كنتم
اطلتم عذابي بميعادكم ... وقلتم نزور فما زرتم
فإن لم تجودوا على عبدكم ... فإنّ المعزّى به أنتم
أبو بكر محمد بن عبد الله الحطّابيّ
حقٌ للأدب أن يعرّف به و " ينسب إليه لأنّ الحطّابي هو الحاطب في حبله والرائش لنبله والمستمطر لوبله وكان في عصره المدرّس بينسابور تشهد بفضائله المحاضر وتنزف بفوائده المحابر ولم يكن عند أحدٍ من الفضلاء ما عنده من علم حماسة أبي تمّامٍ . وكان رحمه الله يفتح منها الغلق ويسيغ " ذلك " الشرّق ولم يبلغني من شعره إلاّ ما أفادنيه الأديب يعقوب بن أحمد قال : أنشدني الأديب الحطّابيّ لنفسه :
لنا صاحبٌ مولعٌ بالمراء ... كثير الزّيارة للأصدقاء
تشبه خفّته بالأباء ... وتأباه نفسي كلّ الإباء
يزور فيزورّ عنه الصّديق ... ويؤذي المزور بزور الثّناء
له خلق خلق الجانبين ... وطبعٌ به طبع الأغبياء
ونفسٌ تسفّ لأدنى الأمور ... وأدنى المراتب للأدنياء
وكلّفه لي أخٌ زورتي ... وذاك تقاضٍ لسوء القضاء
فقال : سألقاه حتّى يملّ ... فقلت : لقد ملّ قبل اللّقاء (1/235)
أبو عليّ الرازيّ الأديب
لا أعرف له خبراً أمّا الشّعر فقد بلغني له بيتان وهما :
أيسركم أنّي هجرتكم ... ومنحت قوماً غيركم ودّي
لسنا نديم على مودّتنا ... من لا يدوم لنا على عهد
فصلٌ سمّيته
خلخال الكتاب
وقلت : قد أنضيت بدر " هذا " التأليف إلى هلاله ومضيت من تاج هذا التصّنيف إلى خلخاله وأودعته من روائع الحكم نهزاً لأولي الألباب وضمنته من بدائع " الكلم نزهاً للأرباب " وأخذت فيه ولمسك الشبّاب لطخةٌ في الوفرات . وفرغت منه ولكافور المشيب لطمةٌ على القسمات . وما زلت أفحص عن مصاصها وخلاصها الأحياء والقبائل وأعدّ لافتراصها واقتناصها الأشراك والحبائل . حتّى وقع في أناملي غنمها ولجّج في حبائلي عصمها . و " حتّى " حصل صيدٌ نحجل زبدٌ وأورق أملٌ فأثمر عمل
وتوافدت إلى منزلي أوابده ثمّ " تفرّقت على الغور والنّجد طرائفها " وتواردت على مناهلي شوارده . ثمّ علقت في كعبة المجد صحائفها وخدمت بها المجلس العالي النّظامي القوامي الرّضويّ جالياً عليه حرّة كريمة وجالباً إليه درّة يتيمة . فإن ألحفت الكريمة في سؤالها للمهر فقد قال " جلّ ثناؤه " : " وأمّا السائل فلا تنهر " وإن استعفت اليتيمة عن ابتذالها بالقهر فقد قال تقدّست أسماؤه : " فأما اليتيم فلا تقهر "
وبعد فلو هبّ على هذه الخدمة من تلقاء الرأي العالي زاده الله علواً رخاء الإقبال عاش العبد في رخاء البال وجرّ على المجرة ذيل الكبر وصاغ عتبة بابه من التّبر . وإن محيت محو الرّيح للسّحب وطويت طيّ السّجلّ للكتب وصدّت عن جهتها وردّت في جبهتها خاب العبد وبدا له من الخيبة ما لم يبد ولم يجد إلاّ لحم بنانه مأكلاً ولم يرد إلاّ دمع أجفانه منهلاً . فلا زالت الأجمال رائمةً طريق ذاك الحرم الآمن " من " طروق النّوائب والآمال شائمةً بروق ذاك الكرم الضّامن لبلوغ المآرب ووفقّ الله معاشر العبيد لأثنيةٍ فائحةٍ مستطابةٍ يبدونها وأدعيةٍ صالحةٍ مستجابةٍ يخفونها فهو وليّ التّوفيق للخدمة وأهل الحراسة والعصمة من كفران النّعمة وهو حسب عباده ونعم الوكيل
وهذا آخر الكتاب : كتبه أبو بكر محمد بن محمد بن خلف بن عليّ بن عبد العزيز تذكرة للشيخ الإمام الأجلّ الأوحد الأعزّ الأجود المقبل العالم المحترم فجر الدين شمس الإسلام شرف النّحاة والأدباء اختيار الأئمة زين العلماء أبي بكر محمد بن الطيّب بن عبد الله بن عيسى الكرجي . متعه الله بالعلم ووفّقه للعمل الصالح وحصّل أمانيه في الدّارين إنّه سميعٌ مجيبٌ . في شهر الله الحرام محرّم سنة اثنتين وسبعين وخمسمائةٍ حامداً لربّه ومصلّياً على نبيّه محمدٍ وآله وأصحابه أجمعين
فصل
قلت : لمّا أطلعت هذه الدّمية رأسها من شرفة قصرها انثال عليها بنثار الثنّاء فضلاء عمرها فشبهها قومٌ بالعروس وآخرون بالطاووس . وكنت أنفقت الدرّ والذهب على تاج العروس وخلخالها وحسنها في التّرصيع والتّذهيب فلم أرد أن أقصّر في خلط أصباغ الطاووس وجماله في التجنيح والتّذنيب لتتبرّج العروس في أبهى حليها " ومنها " الدرّ والذّهب ويتزين الطاووس في أحسن طرفيه والمراد في الذّنب وهاك تذنيبه بارك الله لك فيه . وقد أعرته من التزيين والتّحسين والتّحضير والتّلسين ما يكفيه
قال " الشيخ " الأديب البارع الزّوزنيّ وله صدر هذا الباب لأنه سبق أقرانه إلى تمهيد هذه الأسباب . ولولا أني أحذر المروق من قضيّة " هذا " التأليف لشغلت بذكره وهي النّصفة نصفاً من هذا التصنيف :
دمين خدود الغانيات بخجلةٍ ... لأنّ عليّاً قد جلا دمية القصر
أدام لنا في دمية القصر بهجةٌ ... بناها بعقلٍ مثل سارية القطر
لقد صاغها باسم الوزير الرّضي الذي ... أفاعيله نقشٌ على جبهة العصر
شجاع إذا ما سلّ نصلاً فحوكه ... من الحول والتأييد نصّ من النّصر
لخدمته قد أنشئ الخصر صالحاً ... لمنطقةٍ فانظر إلى هيف الخصر
فأتممه إن رمت الوزير ووصفه ... في الخصر الإتمام أولى من القصر (1/236)
فلا زال للنّعمى وللعزّ والعلا ... وأعداؤه للحبس " والحصر والهصر "
وضم إلى هذه الرّوضة غديراً فقال :
أبا قاسمٍ لا زلت فينا عطيّة ... من الله لا أمست يد الدهر مجذوذه
طبعت على طبعٍ ولا طبع به ... نصول المعاني منه أرهقن مشحوذه
جلوت علينا دمية القصر غادةً ... فأضحت بألحاظ البريّة مأخوذه
وقد نبذ الناس اليتيمة بعدها ... ولا عجب إنّ اليتيمة منبوذه
فخفت عليها العين من كلّ عاشقٍ ... وقد عبتها كذباً يكون لها عوذه
وثناه الشيخ الإمام أبو عامرٍ الفضل بن إسماعيل بن الفضل التّميميّ الجرجانيّ فقال والقول ما قالت حذام وكلامه أعذب من ابنة الكرم شيبت بماء الغمام :
ما دمية القصر إلاّ روضةٌ أنفٌ ... تحوي محاسن أهل البدو والحضر
من كلّ لفظ كنظم الدرّ مخترع ... وكلّ معنى كنفث السّحر مبتكر
ابقت أسامي في فيها مخلّدةً ... منقوشةً بين سمع الدهر والبصر
فليحسنن من نظام الملك موقعها ... فغنها عصرةٌ من أعظم العصر
يشفى بها كاتبٌ ماتت خواطره ... وشاعر ملكته عقدة الحصر
وهي العرائس لا ترضى لبهجتها ... أن تستباح بلا ألف من البدر
فذاك يدعو عليّاً أن يشيّعها ... بكلّ باهرةٍ أضوا من القمر
فهو الإمام الذي تندى خواطره ... بكلّ معجزةٍ تعيا على البشر
وثلثه الأستاذ الإمام يعقوب بن أحمد وهو المطرّز لهذا الكتاب والحالي لهذه الكعاب :
أغار عليّ بالكتاب أملّه ... وشرّفه باسم الوزير أبي علي
عقائل خدرٍ آنسات كأنها ... بدور سماءٍ للنواظر تنجلي
فيا دمية القصر اسحبي ذيل عزّةٍ ... وتيمي فقد وشاك ما شاءه علي
ولم يبق في قوس التصنّع منزعاً ... ولم تخط مرماه صوائب أنصل
فأعين أهل الفضل أضحت قريرةً ... به وبعقدٍ منه جدّ مفصّل
فلا زال مولانا الذي هي باسمه ... تشرّف ذا جاهٍ وعزّ مؤثّل
لينتاش منكوباً ويفتك عانياً ... وينجح حاج المستميح المؤّمل
وربعه الغمام أبو الفضل الخيريّ وهو الإمام الأصيل ومن لم يفته فيما يكنى به التحصيل . فقد زويت إليه جملته والتّفصيل :
ودمية القصر آتت كاسمها معشوقة المنظر والمخبر
لقد جلاها أوحد العصر في ... معرض حسنٍ رائق أزهر
طرازها من حسن ألفاظه ... وحليها ذكر الوزير السّري
أبي عليّ من علا أمره ... فجاوز العيّوق والمشتري
يعتاض حمد الناس من ماله ... أكرم به من رابحٍ مشتر
قد بسط العدل وأحيا الورى ... برأيه النافذ كالخنجر
لا زالت الأيّام طوعاً له ... في دولة تبقى إلى المحشر
وخمسه الشيخ الأديب عليّ بن أحمد الفنجكرديّ فتثبّت على ذيل فضله بالخمس إذ حصل إليّ اليوم منه ما لم يكن بالأمس :
أروضة أنفٌ يعتادها بكراً ... عهاد غادية هطالةٍ مصره
فاحت روائحها حتّى إذا انتشرت ... دعت إليها نفوساً أصبحت ضجره
ففرّجت غمّها عنها ببهجتها ... وأودعتها سروراً فانبرت أشره
تحلو العيون إذا أبصرن خضرتها ... لم تشك أجفانها من بعد ذاك مره
أم غادة فردةٌ في الحسن غانيةٌ ... فتانة أقبلت في حليها عطره
فرعاء بهكنة خودٌ منعمةٌ ... غيداء خمصانة وهنانة خفره
تبدو قليلاً فإن أوليتها نظراً ... عادت على فورها في الخدر مستتره
باهى ابوها بها شمس النّهار كما ... باهت بها أمها في ليلها قمره
أم دمية القصر وافت في محاسنها ... تميس في حلل الإعجاز مبتدرة (1/237)
مثل الهديّ تهادت في جواهرها ... ثقيلة الحلي والأراداف منبهره
إلى رضي أمير المؤمنين ومن ... به الممالك والأيّام مفتخره
الصاحب السّند الميمون غرّته ... نجم الملوك ونجل السادة البرره
ابي علي نظام الملك من بهرت ... أخلاقه الزهر في لآلائها الزّهره
لم يأت حضرته جلّت أخو وطر ... مرجياً فضله إلاّ قضى وطره
من أجل ذلك توقيعاته نفذت ... في الشرق والغرب إمضاءً فدع كوره
لمّا طغى الروم واستعلت بأكلبهم ... قاد الجيوش وذاد الأكلب الكفره
آثار آرائه في الروم بادية ... فادخل بلادهم ثم انظرن أثره
ذنوب أيامنا لما سمحن به ... وإن أصرت عليها فهي مغتفره
وافى بها المجلس الأعلى أخو كرم ... له بدائع في الآفاق مشتهرة
لو قلت : أكتب أهل العصر قاطبة ... وأشعر الناس لم أعدد من الفجره
فكم له فقرة في الناس سائرةً ... ونكتة غربلت في الكتب مستطره
والخط مثل ابتسام الروم عن زهر ... واللفظ يحكي جمان النحر أو درره
إذا أدق المعاني في قلائده ... تحيرت عندها في سحرة السحره
فقل لقوم رووا عن غيره غرراً ... شتى وقاسوا بها من جهلهم غرره :
لشد ما عزبت عنكم عقولكم ... هل تستوي الدرة البيضاء والبعره
لو جبت من شط جيحون إلى عدن ... فطفت من بعدها بغداد والبصره
لم تلق مثل عليّ في فضائله ... مقالة من علي فيه مختصرة
لا زال في العز ممدوداً سرادقه ... عليه مغتبطاً ما أورقت شجره
خذها نتيجة طبع إن أهبت به أجاب في الوقت مثل العين منفجره (1/238)