خصائص المصطفى
صلى الله عليه وسلم
بين الغلو والجفاءالفقهية
تأليف
الصادق بن محمد بن إبراهيم
بسم الله الرحمن الرحيم
أصل الكتاب:
أصل هذا الكتاب رسالة علمية تقدم بها الباحث إلى قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية لنيل درجة الماجستير، ونوقشت الرسالة في عام (1415هـ) من قبل المشايخ أصحاب الفضيلة:
الدكتور/ علي بن عبد الرحمن الحذيفي، إمام وخطيب المسجد النبوي: مشرفاً.
الدكتور/ أحمد بن مرير العمري: مناقشاً.
الدكتور/ محمد بن خليفة التميمي: مناقشاً.
وأوصت اللجنة بإجازة الرسالة بتقدير ممتاز ولله الفضل والمنّة.
المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له شهادةَ مَنْ أقرَّ له برق العبوديةِ، واستعاذَ به من شرِ الشيطان والهوى. وأشهدُ أن محمداً عبدُه المصطفى، ونبيُّه المجتبى، ورسولُه الصادقُ المصدوقُ الذي لا ينطقُ عن الهوى ((إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم:4].
أرسله رحمةً للعالمين، وحسرةً على الكافرين، وحُجةً على العالمين أجمعين. فشرحَ له صدرَه، ووضعَ عنه وزرَه، ورفعَ له ذكرَه، وجعلَ الذّلةَ والصغارَ على مَنْ خالفَ أمرَهُ ونهيَه، وأقسَم بحياتِهِ في كتابهِ المبينِ، وقرن اسمهَ باسمهِ فلا يُذكرُ إلا ذُكرَ معه كما في التشهدِ والخُطبِ والتأذينِ. وافترضَ على العبادِ طاعتَه، ومحبتَه، وتعظيمَه، وتوقيرَه، وسدَّ إلى جنتهِ جميعَ الطرقِ فلم يفتحْ لأحدٍ من أمتهِ إلا مِن طريقهِ. فلم يزلْ صلى الله عليه وسلم قائماً بأمرِ ربهِ لا يردُّه عنه رادٌّ، مُشمِّراً في مرضاتِه لا يصدّه عنه صادّ. إلى أن أشرقتِ الدُّنيا برسالتهِ ضياءً، وابتهاجاً، ودخلَ الناسُ في دينِ اللهِ أفواجاً. فصلواتُ ربي وسلامُه عليه.
وبعد:(1/1)
فقد جعلَ اللهُ تباركَ وتعالى هذه الأمةَ وسطاً بينَ الأممِ في جميع أمورِ دينها بما هيأ لها من أسبابِ التوسطِ في ذلك بأنْ بعثَ فيها خيرةَ رسلهِ وأنزلَ إليها أفضلَ كتبهِ وأكملَ لها من أسبابِ التوسطِ والاعتدالِ ما يجعلُها على بصيرةٍ مِن أن يروجَ عليها ما راجَ على الأممِ السابقةِ: من الضلالاتِ، والانحرافاتِ، فالمسلمون وسطٌ بينَ الغالينَ والجافينَ، لم يغلُوا كما غلتِ النصارى الذين جعلوا المسيحَ ابنَ اللهِ، ولم يقَصروا كما قصّرتِ اليهودُ الذين قتلوا الأنبياءَ والرسلَ، بل قدّروا رسولَهم حقَّ قدرِه، وعظّموه حقَّ تعظيمه، بطاعتهِ فيما أمرَ، وتصديقهِ فيما أخبرَ، وتقديمِ محبتهِ على محبةِ النفسِ، والمالِ، والأهلِ، والولدِ، والسعيِ في إظهارِ دينهِ وإعلاء كلمتهِ ونصرِ ما جاءَ به وجهادِ مَنْ خالفه وتحكيمه وحده والتسليم لحكمه والرضا به إلى غير ذلك من أنواع التعظيم المشروع الذي فهمه سلف هذه الأمة وعملوا به فصدق عليهم التحقق بالوسطية التامة والخيرية الكاملة. ثم بعد أن فتح الله تعالى البلاد وانتشر فيها الإسلام ودخل فيه من أهلها من كان متأثراً بمعتقدات تلك البلاد أو دخل بنية التضليل والإفساد فسَرَتْ نتيجة لذلك عدوى الأمم السابقةِ إلى هذه الأمة من الغلو في أنبيائها والتقصير في حقوقهم مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: {لتتبعنَّ سننَ مَنْ كان قبلَكم شبراً بشبرٍ ذراعاً بذراعٍ حتى لو دخلوا جحرَ ضبٍّ لاتبعتموهم. قلنا: يا رسول اللهِ اليهودَ والنصارى؟ قال: فَمَن؟}(1). قوله صلى الله عليه وسلم: (فَمَنْ) استفهامٌ استنكاريّ والتقديرُ: فَمَنْ هُمْ غيرُ أولئك(2) فنشأ من الغلوِ فيه صلى الله عليه وسلم ما أدّى إلى بخسِ حقوقه الواجبةِ له على أمتهِ والأذى
__________
(1) خ: ك. الاعتصام، ب. قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) (13/305) مع الفتح؛ م: ك. العلم (16/219) مع النووي.
(2) فتح الباري (13/301).(1/2)
مِن ذلك بنحو ما حصلَ للأنبياء السابقينَ وبيانُ ذلك بأمورٍ(1) منها:
الأمرُ الأول: إنّ الأنبياء أمرتْ أممهم بعبادةِ اللهِ وحدَه لا شريكَ له فإنْ هُم أطاعوهم كان للأنبياء مِنَ الأجرِ مثلُ أجورِهم من غيرِ أن ينقْص من أجورهم شيء، وإذا غلوا فيهم واتخذوهم أرباباً مِنْ دونِ الله انقطعَ ثوابُ العملِ الصالحِ الذي يحصُلُ للأنبياء بتوحيدِ أممهم وطاعتِهم، وحصلَ للغلاةِ العذابُ الأليمُ، وإن كان الأنبياءُ سالمينَ من العذابِ لكن فوّتوا عليهم مِنْ الأجرِ والثوابِ الذي كانَ يحصلُ لهم مِنْ توحيدِ أممِهم وطاعتهم الشيءُ الكثيرُ، بخلافِ أتباعِ الرسلِ الذين وحدّوا ربّهم وعبدُوه كما شرعَتْهُ لهم الرسل فصاروا أولياء لله تعالى وحصل للرسول الذي دعاهم مثل أجورهم فكان هذا من التعظيم للرسل ما ليس في طريق الغلاة.
الأمر الثاني: إن أهل التوحيد والسنة يدعون دائماً للرسل فينتفعون بدعاء أممهم بخلاف أهل الشرك والبدع فإنهم يكلفونهم حوائجهم ويؤذونهم بسؤالهم ويعتبر بحال الصدّيق رضي الله عنه الذي كان يعاون الرسول صلى الله عليه وسلم بماله ونفسه ولا يكلفه شيئاً أين منزلته من منزلة من يسأله ويكلفه ولا يسعى في تحصيل المنفعة له صلى الله عليه وسلم؟!
__________
(1) هذه الأمور مختصرة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على البكري ص (307-308).(1/3)
الأمر الثالث: إن أهل التوحيد والسنة يصدقون الرسل فيما أخبروا ويطيعونهم فيما أمروا ويحفظون ما قالوا ويفهمونه ويعملون به، وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ويجاهدون من خالف الرسل تقرباً إلى الله تعالى طلباً للجزاء منه لا من الرسل، وأما الغلاة فلا يميزون بين ما أمرت به الرسل ونهوا عنه ولا بين ما صح عنهم وما كذب عليهم ولا يفهمون حقيقة مرادهم ولا يتحرون طاعتهم ومتابعتهم، بل هم معظّمون لأغراضهم الخاصة، فالسدنة الذين عند قبور الرسل وقبور غيرهم من المعَظّمين غرضهم أكل أموال الناس بهم، والصادق منهم غرضه أنه إذا سألهم واستغاث بهم في دفع شدة أو قضاء حاجة قضوها له فأي الفريقين أشد تعظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم وإخوانه الرسل أولئك أو هؤلاء؟
إلى غير ذلك من الأمور التي تبين أن التعظيم الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلاّ وفق ما أمر به الشارع الحكيم وكان على فهم سلف هذه الأمة الذي به يُقضى على الغلو والتقصير في حقه صلى الله عليه وسلم فتتحقق للأمة الوسطية التامة والخيرية الكاملة. والله هو المسؤول أن يجعلني وإخواني المسلمين أجمعين من عباده الذين هم بكتابه يهتدون وبرسوله يؤمنون وبه يقتدون وبحبل الله يعتصمون ولأولياء الله يوالون ولأعدائه يعادون وفي سبيله يجاهدون ولطريقَي المغضوب عليهم والضالين يجتنبون وللسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان يتبعون.
أهمية الموضوع:(1/4)
خصَّ الله تبارك وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالخصائص العظيمة، والمنح والعطايا الكريمة التي ليس لأحد عليه فيها مزيد ولا يلحقه عبد من العبيد. ولمّا كانت الخصائص النبوية، والفضائل المحمدية من الموضوعات المحببة إلى النفوس؛ لتعلقها بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد استهوى الشيطان بها أقواماً فأخرجهم بها عن حد التوسط والاعتدال مما جاء في الكتاب وصحيح السُّنة، وبلغ بأقوام أن نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم خصائص هي من جنس خصائص الربوبية والإلهية مما يتبرأ منه سيد البرية. وقصَّر بآخرين حتى قدّموا مشايخهم وأئمتهم على سيد المرسلين فجعلوا لهم من الخصائص والفضائل ما فاقوا به خصائص وفضائله صلى الله عليه وسلم.
فلمَّا كان الناس في الخصائص النبوية ثلاثة أطراف، طرفان ووسط:
طرف غلا، وطرف جفا، وطرف توسط؛ ولتعلقها بما يعتقده المسلم في شخص الرسول الكريم صلوات ربي وسلامه عليه آثرت الكتابة فيها فاستخرت الله تعالى واستعنت به على ذلك.
أهداف البحث وأسباب اختياري له:
1- إبراز الخصائص النبوية الصحيحة التي تزيد المؤمنين إيماناً ومحبة وتعظيماً للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وبإبراز الخصائص الصحيحة تتكون ملكة عند المسلم تمكنه من التمييز بين الخصائص التي فيها غلو والتي فيها جفاء.
2- تصحيح الاعتقاد في الرسول صلى الله عليه وسلم.
3- ذبُّ الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نُسب إليه من خصائص مزعومة مكذوبة.
4- إظهار الجفاة الحقيقيين للرسول صلى الله عليه وسلم.
خطة البحث:
وقد سرت في الكتابة فيه وفق الخطة التالية:
قسمت الموضوع إلى مقدمة ومدخل وثلاثة أبواب وخاتمة ثم ذيلته بالفهارس.
أمّا المقدمة فبينت فيها أهمية الموضوع وأسباب اختياري له وأهداف البحث وخطته. وأمَّا المدخل فعرّفت فيه بعنوان البحث، وأمَّا الأبواب الثلاثة فكانت على النحو التالي:
الباب الأول: الخصائص النبوية الصحيحة. وفيه فصلان:(1/5)
الفصل الأول: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء عليهم السلام وفيه مبحثان:
المبحث الأول: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء عليهم السلام في الحياة الدنيا.
المبحث الثاني: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء عليهم السلام في الحياة الآخرة.
الفصل الثاني: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته وقد يشاركه فيها أنبياء آخرون.
الباب الثاني: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة. وفيه فصلان:
الفصل الأول: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة قبل وجوده. وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه أول النبيين في الخلق وأنه مرسل إلى جميع الأنبياء وأممهم.
المبحث الثاني: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه مخلوق من نور الله تعالى وأن الوجود كله مخلوق من نوره صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثالث: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بتوسل الأنبياء به قبل وجوده.
المبحث الرابع: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة باستفتاح أهل الكتاب بحقه قبل وجوده.
الفصل الثاني: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة في حياته البرزخية. وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنَّ من زار قبره وجبت له شفاعته.
المبحث الثاني: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأن من حج حجة الإسلام وزار قبره وغزا غزوة وصلّى عليه في بيت المقدس لم يسأله الله تعالى فيما افترض عليه.
المبحث الثالث: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بمحو الذنوب وعلم ما في اللوح المحفوظ والقلوب.
المبحث الرابع: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه إليه الملاذ والمهرب في الشدائد والكرب.(1/6)
المبحث الخامس: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه يُجيب الدعاء وتُرفع إليه أكف الضراعة.
المبحث السادس: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بخروج يده الشريفة من القبر لمصافحة أحمد الرفاعي.
المبحث السابع: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة برؤيته بعد موته يقظة لا مناماً.
المبحث الثامن: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بتلقين مشايخ الصوفية الأوراد وحضور حلق ذكرهم بعد موته يقظة لا مناماً.
الباب الثالث: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عند الجفاة. وفيه فصلان:
الفصل الأول: رد خصيصة ختم النبوة بالنبي صلى الله عليه وسلم. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: رد خصيصة ختم النبوة بالنبي صلى الله عليه وسلم عند الفلاسفة المنتسبين الإسلام.
المبحث الثاني: رد خصيصة ختم النبوة بالنبي صلى الله عليه وسلم عند القاديانية.
الفصل الثاني: تقديم الجفاة لأوليائهم على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم في الخصائص. وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: دعوى مشاركة أولياء الجفاة للأنبياء في خصائصهم.
المبحث الثاني: خصائص لأولياء الجفاة فاقت خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثالث: خصائص لأولياء الجفاة فارقت هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
خاتمة البحث.
الفهارس.
منهجي في البحث:
أولاً: انتقيت الخصائص الصحيحة من كتب الخصائص والفضائل والدلائل مع ذكر أدلتها من الكتاب وصحيح السنة. وجعلت بعض الضوابط لذلك وهي على النحو التالي:
أ- أن يأتي النص صريحاً في الدلالة على الخصيصة كقوله تعالى: ((مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)) [الأحزاب:40]، وكقوله صلى الله عليه وسلم: {أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي}، أو كقوله: {أنا سيد الناس يوم القيامة} ونحو ذلك.
ب- أن يأتي النص عليها من أهل العلم.(1/7)
ج- أن تظهر الخصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم بمقارنة ما جاء في شأنه وشأن الأنبياء الذين من قبله.
د- وبما أن خصائص الباب الأول صحيحة وثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من المسلمين يردها، لذا فقد خلا هذا الباب من الاستطراد في المناقشة والتعليقات، وتم الاكتفاء بعرضها والتعليق عليها عند الحاجة بما يتناسب وأهداف الباب.
ثانياً: جمعت الخصائص التي فيها غلو من كتب الغلاة القديمة والحديثة ووثقت النقل عنهم في الغالب بعدد من المراجع إلا أن يكون المنقول عنه من زعمائهم الذين به يقتدون. وجعلت الضوابط التالية لإضافة الخصيصة لهم:
أ- أن يأتي النص عليها في أنها خصوصية عندهم كما في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم إلى جميع الأنبياء وأممهم قبل أن يوجد.
ب- أن يعتقدوا في الرسول صلى الله عليه وسلم عقائد هي من جنس ما يعتقده المسلم في ربه عزّ وجلّ كمحو الذنوب وعلم الغيوب وما بالقلوب.
ج- أن يعتقدوا في الرسول كميه عقائد تؤدي إلى هدم الشريعة عموماً كتلقي الأوراد منه صلى الله عليه وسلم، وتوزيع الفضائل على أئمة الغلاة وأتباعهم يقظة لا مناماً بعد موته صلى الله عليه وسلم بما يتعارض مع الثابت من شريعته صلى الله عليه وسلم.
د- الاستدلال بما نسب إلى الأمم السابقة فيما جاء في فضل النبي صلى الله عليه وسلم بما لم يأت به شرعنا.
ثالثاً: نقلت الخصائص المزعومة لأولياء الجفاة من كتب الطبقات والمناقب المعتمدة عندهم، وجعلت في إضافة الخصيصة لهم الضوابط التالية:
أ- أن يجعلوا لأوليائهم من المناقب والكرامات مثل معجزات الأنبياء كإحياء الموتى، أو نزول موائد من السماء، أو جعل فضائل لهم تفوق خصائص وفضائل النبي صلى الله عليه وسلم كصلاة الفاتح التي تعدل القرآن ستة آلاف مرة عند التجانية.
ب- أن يخصوا أولياءهم بخصائص تخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم كالصلاة بمكة وهم في بيوتهم، أو صيام عدد من السنوات من غير أكل أو شرب.(1/8)
ج- أن يردوا الثابت من خصائصه صلى الله عليه وسلم كرد اعتقاد أنه خاتم الأنبياء بجعل النبوة باقية في الخلق إلى قيام الساعة.
رابعاً: اتبعت المنهج التالي في نقد الخصائص التي فيها غلو:
أ- أنقل أقوال علماء الجرح والتعديل في نقد أدلتهم من جهة السند.
ب- عند نقل أقوال علماء الجرح والتعديل أراعي ترتيبهم من حيثُ التشدد والاعتدال والتساهل لا من حيثُ سنة الوفاة. وربما قدمت المتأخر على المتقدم عموماً لمناسبة.
ج- أناقش أدلتهم مناقشة مستفيضة أُبين ما فيها من المفاسد العقدية أو المخالفة لنصوص الشرع الأخرى، أو للثابت من الروايات. وإذا كانت الخصوصية مستمدة من مصادر دخيلة على المسلمين فإني أوضح ذلك عن طريق المقارنة بينها وبين تلك المصادر. وغالباً أُبين الصحيح أو المشروع من الذي غلوا فيه إما في ثنايا الرد والمناقشة وإما في ذيله.
خامساً: اتبعت في نقد الخصائص المزعومة لأولياء الجفاة طريقة العرض وذلك لشدة وضوح الكذب فيها وأنها دعاوي خالية من الأدلة، إلا إذا اقتضى المقام التعليق.
سادساً: ذكرت من الخصائص الصحيحة، والتي فيها غلو، والتي فيها جفاء ما يفي بمقصود البحث وأهدافه.
سابعاً: عزوت الآيات إلى سورها مع ذكر رقم الآية.
ثامناً: إذا كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما اكتفيت بالعزو لهما أو لأحدهما، وإذا كان في غير الصحيحين ذكرت من صححه أو حسنه.
تاسعاً: عند الإحالة إلى مرجع أو مصدر فإني أذكر اسم المؤلف واسم الكتاب والجزء والصفحة وأترك بقية المعلومات عن الكتاب لفهرس المراجع. وإذا تكرر المرجع أكثر من مرة ربما أذكر اسم الكتاب فقط دون المؤلف.
عاشراً: إذا كان النقل عن كتب أعجمية أبحث أولاً عن ترجمة لها فإذا لم أجد نقلت عنها بالواسطة، وكذا الكتب العربية غير المتوفّرة.(1/9)
الحادي عشر: ترجمت للصحابة عدا الخلفاء الأربعة، ولبقية الأعلام عدا الأئمة الأربعة وأصحاب الكتب الستة والمعاصرين منهم. وترتيبهم في الفهرس على الشهرة.
الثاني عشر: لم ألتزم تخريج النصوص ولا الترجمة للأعلام الذين وردوا في كلام الغير.
الثالث عشر: ذيلت البحث بفهارس تسهيلاً لمهمة القارىء وهي:
1- فهرس الآيات القرآنية.
2- فهرس الأحاديث النبوية.
3- فهرس الأعلام المترجمين.
4- فهرس المراجع والمصادر.
5- فهرس الموضوعات.
الرابع عشر: استخدمت بعض الرموز للاختصار وهي:
1- رموز الكتب الستة ومسند الإمام أحمد كما في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث (خ: يعني أخرجه البخاري في صحيحه، م: مسلم، د: أبو داود في سننه، ت: الترمذي في جامعه، ن: النسائي في سننه، جه: ابن ماجه في سننه، حم: أحمد بن حنبل في مسنده).
2- التذكرة: تذكرة الحفاظ.
3- اللسان: لسان الميزان.
4- ط. ك: الطبقات الكبرى للشعراني.
5- الشيخان: البخاري ومسلم.
6- شيخ الإسلام: أحمد بن عبد الحليم بن تيمية.
7- القوم: الغلاة (للتنويع).
8- ت: توفي.
9- ص: الصفحة.
15- ص. ن: الصفحة نفسها، ط: الطبعة، هـ: هجرية، م: ميلادية.
11- ك: كتاب.
12- ب: باب.
ومن بعد شكر الله تعالى على توفيقه لي بإتمام هذا البحث فإني أتقدم بالشكر لشيخي وأستاذي فضيلة الدكتور: علي بن عبد الرحمن الحذيفي المشرف على الرسالة على توجيهه وإرشاده لي وتشجيعه فجزاه الله عني خير الجزاء، وبارك في عمره وعلمه. كما أشكر كل من أبدى لي رأياً أو أسدى لي نصحاً أو أعارني مرجعاً. وأخص بالذكر منهم فضيلة الدكتور: مبارك رَحَمَه، وفضيلة الدكتور: غالب بن علي العواجي، وفضيلة الدكتور: إبراهيم بن خلف التركي، وفضيلة الدكتور: إبراهيم بن عامر الرحُّيلي، فجزاهم الله عني كل خير، والشكر موصول إلى جميع المشايخ والقائمين على أمر هذه الجامعة المباركة على تعليمهم ورعايتهم لأبناء المسلمين فجزاهم الله خير الجزاء.(1/10)
المدخل إلى الموضوع:
وهو عبارة عن تعريف بمفردات العنوان.
الخصائص:
التعريف اللغوي:
قال صاحب لسان العرب(1): (خصه بالشيء يخُصَّه خصاً وخَصُوصِيَّة وخُصوصِيَّة، والفتح أفصح واختصه: أي أفرده دون غيره)(2). (خصَّه: فضله)(3).
وفي المعجم الوسيط: (خصوصية الشيء خاصيته، والخَصِيْصة الصفة التي تميز الشيء وتحدده، والجمع خصائص)(4).
فمن التعريفات اللغوية السابقة يُستنتج أن معنى الخَصِيْصة يدور على الآتي:
1- الانفراد.
2- الفضل.
3- التميز.
التعريف بالخصائص النبوية:
بناء على الاستنتاجات السابقة فالخصائص النبوية: (هي الفضائل والأمور التي انفرد بها النبي صلى الله عليه وسلم وامتاز بها إما عن إخوانه الأنبياء وإمّا عن سائر البشر).
أقسام الخصائص النبوية:
للخصائص النبوية قسمان رئيسان:
القسم الأول: خصائص تشريعية: وهي ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم من التشريعات الإلهية وهي على ضربين:
الضرب الأول: تشريعات اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم دون الأنبياء السابقين.
فمن ذلك: أن الأرض جُعلت له مسجداً وطهوراً وأحلت له الغنائم فعن جابربن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أُعطيت خمساً لم يُعطهن أحد قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأُحلت لي الغنائم ولم تحلَّ لأحدٍ قبلي...} الحديث(5).
__________
(1) هو: محمد بن مكرم بن علي الأنصاري، جمال الدين، أبو الفضل، من تصانيفه: لسان العرب. ت: سنة 711هـ. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر (5/31)، والأعلام للزركلي (7/108).
(2) ابن منظور: لسان العرب (2/841).
(3) الفيروز آبادي: القاموس المحيط ص (796).
(4) المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة (1/237).
(5) خ: ك التيمم (1/436).(1/11)
الضرب الثاني: ما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته وقد يشاركه فيها أنبياء آخرون فمن ذلك: تزوجه صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع نسوة فعن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة وله يومئذ تسع نسوة}(1) وكان صلى الله عليه وسلم يصح عقد نكاحه بلفظ الهبة. قال تعالى: ((إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)) [الأحزاب:50]، ونحو ذلك. فهذا القسم من الخصائص مجال الدراسة والتوسع فيه كتب الفقه.
القسم الثاني: خصائص تفضيلية: وهي الفضائل والتشريفات التي كرّم الله بها نبينا صلى الله عليه وسلم دون غيره، وهي أيضاً على ضربين:
الضرب الأول: ما اختص به صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء عليهم السلام. وينقسم هذا الضرب إلى قسمين:
الأول: ما اختص به صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء عليهم السلام في الحياة الدنيا.
الثاني: ما اختص به صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء عليهم السلام في الحياة الآخرة.
الضرب الثاني: ما اختص به صلى الله عليه وسلم دون أمته وقد يشاركه فيها أنبياء آخرون.
فهذا القسم من الخصائص -الخصائص التفضيلية- مجال البحث فيه عقدي لوجود الإفراط والتفريط فيه، وهذا القسم هو موضوع هذه الدراسة التي يُعنى بها هذا البحث.
مظان الخصائص:
للخصائص أربعة أنواع من المظان:
النوع الأول: كتب السنة النبوية: كصحيحي البخاري ومسلم وغيرهما.
النوع الثاني: كتب السيرة النبوية:
حيث توجد في كتب السيرة النبوية عموماً وكتب دلائل النبوة وأعلامها وكتب الشمائل والفضائل.
والسبب في ذكر الخصائص ضمن هذه الكتب هو وجود علاقة وثيقة بينها وبين تلك الكتب أو المصطلحات وإليك بيان هذه العلاقة:
__________
(1) خ: ك. النكاح، من طاف على نسائه في غسل واحد (9/316) مع الفتح.(1/12)
1- كتب السيرة النبوية: وهي الكتب التي تُعنى بدراسة كل تلك المصطلحات ولكنها تركز الاهتمام بغزواته وسراياه صلى الله عليه وسلم وتستقصي كل كبيرة وصغيرة في حياته صلى الله عليه وسلم مراعية الترتيب الزمني. والخصائص تعتبر من متممات السيرة النبوية.
2- كتب دلائل النبوة وأعلامها: وهي الكتب التي تُعنى بإبراز ما يدل على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم بذكر الأدلة الحسية كالمعجزات، والمعنوية كفضائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه. كما أن من المعجزات الحسية ما يكون من الخصائص كنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم.
3- كتب الشمائل: هي الكتب التي تُعنى بذكر صفاته صلى الله عليه وسلم الخلُقية والخَلْقية. ومن الشمائل ما يعتبر من الخصائص كطيب عرقه ولين ملمسه صلى الله عليه وسلم.
4- كتب الفضائل: وهي التي تُعنى بذكر فضائله صلى الله عليه وسلم ومقارنتها مع بقية الأنبياء الآخرين وجُل خصائصه صلى الله عليه وسلم التفضيلية توجد في هذه الكتب إلا أن مصطلح الخصائص أعم من الفضائل؛ لأنه يشمل الخصائص التفضيلية والتشريعية معاً.
فمن التقسيمات السابقة لكتب الدلائل والشمائل والفضائل يتضح لنا أن بينها وبين الخصائص عموماً وخصوصاً من وجه وتوضيح ذلك على النحو التالي:
بالنظر إلى مصطلح الخصائص مقارناً بجميع تلك المصطلحات نجد أن الخصائص تدخل في الدلائل والشمائل والفضائل، فمن هذا الوجه الخصائص أعم. وبالنظر إلى مصطلح الخصائص مقارناً بكل واحد من المصطلحات السابقة على حده نجد أن الخصائص جزء من ذلك المصطلح فمن هذا الوجه الخصائص أخص.
النوع الثالث: كتب الفقه:
وتذكر خصائصه صلى الله عليه وسلم عادة ضمن أبواب النكاح؛ لأن أكثر خصائصه صلى الله عليه وسلم التشريعية تتعلق به، وتُذكر الخصائص التفضيلية تبعاً للتشريعية.
النوع الرابع: كتب أفردت للخصائص النبوية منها:(1/13)
1- بداية السول في تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم للعز بن عبد السلام(1) وهو كتاب صغير الحجم ركز فيه مؤلفه على الخصائص التفضيلية. مطبوع بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - طبعة المكتب الإسلامي.
2- غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم لابن الملقن(2) واعتنى المؤلف فيه بذكر الخصائص التشريعية الخاصة بالواجبات والمحرمات والمباحات في حقه صلى الله عليه وسلم مع ذكر بعض الفضائل. طبع مؤخراً بتحقيق عبد الله بحر الدين – طبعة دار البشائر الإسلامية، بيروت. (وهذا الكتاب عبارة عن رسالة علمية "ماجستير" حقق في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية عام 1389هـ).
3- الخصائص الكبرى أو كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب للسيوطي(3). والكتاب حسب ظني لم يُحقق تحقيقاً علمياً إلى الآن وإنما توجد طبعة عليها تعليقات للدكتور محمد خليل هراس. وللسيوطي مختصر من الخصائص الكبرى سماه أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب، وهذا الأخير شرحه محمد بن أحمد عبد الباري الأهدل في كتاب سماه فتح الكريم القريب في شرح أنموذج اللبيب. فالسيوطي جمع في هذا الكتاب بالإضافة إلى الخصائص التفضيلية والتشريعية متعلقات السيرة النبوية الأخرى.
المصطفى:
__________
(1) عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الشافعي الملقب بسلطان العلماء، له مصنفات منها: التفسير والقواعد الكبرى والصغرى، ت 660هـ. انظر: طبقات الشافعية للأسنوي (2/197)،البداية والنهاية لابن كثير (13/248).
(2) عمر بن أبي الحسين علي أحمد المعروف بابن الملقن الشافعي. له شرح على المنهاج وكتاب خصائص أفضل المخلوقين ت سنة 804هـ. انظر: شذرات الذهب لابن العماد (9/71).
(3) جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي صاحب التصانيف الكثيرة منها: الإتقان في علوم القرآن، وألفية الحديث، وتدريب الراوي وغيرها ت 911هـ. شذرات الذهب (10/74)،الأعلام (3/301).(1/14)
المصطفى اسم مفعول مشتق من الصفو، والصفو ضد الكَدَر، وصفوة الشيء ما صفا منه، واصطفاه: اختاره، والمصطفى هو المختار(1).
قال تعالى: ((اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)) [الحج:75].
قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلاً فيما يشاء من شرعه وقدره ومن الناس لإبلاع رسالاته)(2).
والمقصود بالمصطفى هنا هو رسولنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: {إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم}(3).
الغلو:
قال صاحب القاموس: (غلا في الأمر غلواً جاوز حدّه)(4).
والمقصود بالغلو هنا تجاوز الحد فيما يجب أن يعتقده المسلم في حق الرسول صلى الله عليه وسلم.
والغلو هنا أمر تختلف درجته من شخص لآخر يدور بين الشرك والبدعة؛ لذا يُحكم على الشخص أنه غالٍ بحسب درجة غلوه. وأكثر من يتصف بهذا النوع من الغلو هم الصوفية أصحاب الطرق ذات العهود والمواثيق التي يلتزم بها أتباعها. وأيضاً يكثر في القبوريين الذين لا ينتسبون إلى طرق معينة لكن غلوا في الأنبياء والصالحين عموماً وتعلقوا بهم وبقبورهم التعلق الذي لا يكون إلا لله تعالى من الاستغاثة بهم في الشدائد وطلب كشف الضر منهم فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
الجفاء:
قال صاحب القاموس: (جفا جفاءً وتجافى: لم يلزم مكانه. ورجل جافي الخِلقة والخُلُق: غليظ. والجفاء نقيض الصلة)(5).
__________
(1) انظر القاموس ص (1680).
(2) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (3/246).
(3) م: ك. فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم (15/36).
(4) القاموس المحيط ص (1700).
(5) المرجع السابق ص (1640).(1/15)
والمقصود بالجفاء هنا رد ما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم من الخصائص والفضائل أورد بعضها. وفي هذا معنى الجفاء الذي يقطع الصلة المتولدة في القلب من المحبة والتعظيم نتيجة اعتقاد عدم ثبوت تلك الخصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم أو جعل تلك الخصيصة لعامة الناس.
وأيضاً يدخل في معنى الجفاء ما جعله الأتباع لمشايخهم وأئمتهم من الفضائل والمناقب ما لم يكن له صلى الله عليه وسلم فهذا من الجفاء إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم فاق في فضله جميع الأنبياء والمرسلين بل هو سيدهم وإمامهم فلا شك أن تقديم غيره عليه صلى الله عليه وسلم في الفضائل من أعظم الجفاء؛ لأن بذلك التقديم والتعظيم للغير تنشأ المحبة التي تفوق محبة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا يبقى منها إلا الادعاءات التي يُعبرون عنها بالموالد والاحتفالات. ويدخل في الجفاء أيضاً ترك التأسي به صلى الله عليه وسلم في هديه والتأسي بغيره. والجفاء في كل ذلك تختلف درجته، فمنه ما يكون كفراً والعياذ بالله، ومنه ما هو دون ذلك، وأكثر من يتصف بالجفاء هم الفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام ومدعو النبوة عموماً والصوفية.
الباب الأول:
الخصائص النبوية الصحيحة
وفيه فصلان:
الأول: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم دون جميع الأنبياء عليهم السلام.
الثاني: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وقد يشاركه فيها أنبياء آخرون.
الفصل الأول
خصائص النبي صلى الله عليه وسلم دون جميع الأنبياء
وفيه مبحثان:
الأول: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم دون جميع الأنبياء عليهم السلام في الحياة الدنيا.
الثاني: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم دون جميع الأنبياء عليهم السلام في الحياة الاخرة.
المبحث الأول: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم دون جميع الأنبياء عليهم السلام في الحياة الدنيا:
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن آيته العظمى في كتابه:(1/16)
القرآن كلام الله تعالى، المُنزّل على رسوله الأمين؛ ليكون نذيراً للعالمين، وهو الذي سمّاه الله تعالى نوراً مبيناً ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا)) [النساء:174]، وهو الوحي الذي أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة(1) رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة} متفق عليه واللفظ للبخاري(2) لذا فالقرآن الكريم أخصُّ معجزات المصطفى صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) صحابي، اختلف في اسمه إلى عشرة أقوال، قال ابن حجر: مرجعها من جهة صحة النقل إلى ثلاثة، عُمير، وعبد الله، وعبد الرحمن، الأولان محتملان في الجاهلية والإسلام، وعبد الرحمن في الإسلام خاصة وأمَّا اسم أبيه فعامر بن عبد ذي الشِّري بن طريف الدوسيِّ، توفي رضي الله عنه سنة سبعٍ وخمسين، انظر الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، ج (12) رقم الترجمة (1180).
(2) خ: ك. فضائل القرآن، ب: كيف نزل الوحي (9/3) مع الفتح؛ م: ك. الإيمان، ب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (2/186) مع النووي.(1/17)
وفي هذا يقول الماوردي(1) رحمه الله: (والقرآن أوّل معجز دعا به محمد صلى الله عليه وسلم إلى نبوته، فصدع(2) فيه برسالته، وخُصّ بإعجازه من جميع رسله، وإن كان كلاماً ملفوظاً وقولاً محفوظاً، لثلاثة أسباب صار بهنَّ من أخصِّ إعجازه، وأظهر آياته:
أحدها: أنّ معجز كل رسول موافق للأغلب من أحوال عصره، والشائع المنتشر من ناس دهره؛ لأنَّ موسى عليه السلام حين بُعث في عصر السحرة خُصَّ من فلق البحر(3) يبساً، وقلب العصا حية، ما بهر كلَّ ساحرٍ، وأذلَّ كلَّ كافرٍ، وبُعث عيسى عليه السلام في عصر الطّب، فخُصَّ من إبراء الزمنى(4)، وإحياء الموتى ما أدهش كلَّ طبيبٍ، وأذهل كلَّ لبيبٍ، ولمّا بُعث محمّد صلى الله عليه وسلم في عصر الفصاحة، والبلاغة، خُصَّ بالقرآن في إيجازه، وإعجازه بما عجز عنه الفصحاء، وأذعن له البلغاء، وتبلّد فيه الشعراء؛ ليكون العجز فيه أقهر، والتقصير فيه أظهر.
__________
(1) أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي، شيخ الشافعية، صاحب الحاوي الكبير والتصانيف الكثيرة في الأصول والفروع والتفسير والأحكام السلطانية وأدب الدنيا والدين، ت. سنة 455هـ. انظر طبقات الشافعية للسبكي (5/267)، والبداية والنهاية لابن كثير (11/85).
(2) الصاع: الشق، أي شقَّ جماعتهم بكلمة التوحيد، انظر القاموس المحيط للفيروزآبادي، ص (951).
(3) أي شقه، انظر القاموس المحيط ص (1186).
(4) أصحاب العاهات المستديمة. انظر: القاموس المحيط ص (1553).(1/18)
الثاني: أنّ المعجز في كل قوم بحسب أفهامهم، وعلى قدر عقولهم وأذهانهم، وكان من قوم موسى وعيسى عليهما السلام بلادةٌ وغباوةٌ؛ لأنّه لم ينقل عنهم ما يدرون به من كلام مستحسنٍ، أو يستفاد من معنى مبتكرٍ، وقالوا لنبيهم حين مرّوا بقوم يعكفون على أصنامٍ لهم: ((اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)) [الأعراف:138]، فخُصُّوا من الإعجاز بما يصلون إليه ببداية حواسهم، والعرب أصح النَّاس أفهاماً، وأحدهم أذهاناً؛ قد ابتكروا من الفصاحة أبلغها، ومن المعاني أغربها، ومن الآداب أحسنها؛ فخُصُّوا من معجزة القرآن بما تجول فيه أفهامهم، وتصل إليه أذهانهم؛ فيدركوه بالفطنة دون البديهة، وبالرّوية دون المبادرة؛ لتكون كل أمَّة مخصوصة بما يشاكل طبعها، ويوافق فهمها.
الثالث: أنّ معجزة القرآن أبقى على الأعصار، وأنشر في الأقطار من معجزة يختص بحاضره ويندرس بانقراض عصره، وما دام إعجازه أحج؛ فهو بالاختصاص أحق)(1).
فما ذكره الماوردي رحمه الله كلام سديد، لكنّ معجزة القرآن أوسع نطاقاً من الفصاحة والبلاغة؛ لأنَّ رسالته صلى الله عليه وسلم عامة للثقلين، إلى قيام الساعة.
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بتعهد الله تعالى بحفظ الكتاب المنزل عليه:
__________
(1) الماوردي: أعلام النبوة، ص (57-58)، وانظر بداية السول في تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم للعز بن عبد السلام ص (39)، وانظر علامات النبوة لأحمد بن أبي بكر البوصيري، ص (185).(1/19)
خصَّ الله تعالى القرآن الكريم دون سائر الكتب السماوية الأخرى بالحفظ. قال تعالى: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9]، وقال تعالى: ((وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)) [فصلت: 41-42] الآية، وقال تعالى: ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)) [الإسراء:88]. وأمّا الكتب الأخرى فقد وكل الله تعالى أمر حفظها إلى أهلها، قال تعالى: ((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ)) [المائدة:44].
يقول الآلوسي(1) رحمه الله: (بما استحفظوا) أي بالذي استحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفظوها من التغيير والتبديل على الإطلاق، وقوله: (وكانوا عليه شهداء) عطف على (استحفظوا) ومعنى (شهداء) رقباء يحمونه من أن يحوم حول حماه التغيير والتبديل بوجه من الوجوه)(2).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن كتابه مشتمل على ما اشتملت عليه الكتب السابقة وفُضِّل بالمفصل:
__________
(1) هو: محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي، أبو الثناء، مفسر ومحدث وأديب، من كتبه: روح المعاني في تفسير القرآن. انظر: الأعلام للزركلي (7/176)، ومعجم المؤلفين لكحالة (12/175).
(2) روح المعاني للألوسي (6/144).(1/20)
لحديث واثلة بن الأسقع(1) رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أُعطيت مكان التوراة السبع(2)، وأُعطيت مكان الزّبور المئين(3)، وأُعطيت مكان الإنجيل المثاني(4)، وفُضِّلت بالمفصل(5)}(6).
قال الهيثمي(7): (وفيه ليث بن أبي سليم وقد ضعّفه جماعة ويعتبر بحديثه وبقية رجاله رجال الصحيح)(8). وقال الألباني: (صحيح بمجموع طرقه)(9).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بخواتيم سورة البقرة:
روى الإمام أحمد من حديث أبي ذر(10) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني أوتيتهما من كنز من بيت تحت العرش ولم يؤتهما نبي قبلي}. يعني الآيتين من سورة البقرة.(11).
قال الألباني: (صحيح على شرط مسلم)(12).
__________
(1) ابن كعب بن عامر من بني ليث بن عبد مناة، صحابي، ت. سنة ثلاث وثمانين وقيل خمس وثمانين، وهو آخر من مات بدمشق من الصحابة. انظر الإصابة (ج10، رقم 9088).
(2) السبع الطوال هي من البقرة إلى التوبة.
(3) هي السور التي بلغ عدد آياتها المائة أو قاربها.
(4) هي السور التي بعد المئين إلى المفصل.
(5) ويبدأ المفصل على الأرجح من سورة (ق) إلى آخر السور القرآَنية. انظر في ذلك الإتقان في علوم القرآَن للسيوطي ص (179-180).
(6) حم: (4/107).
(7) هو: نور الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر الهيثمي الحافظ، من تصانيفه مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ت. سنة 807 هـ. انظر شذرات الذهب لابن العماد (9/105).
(8) الهيثمي: مجمع الزوائد (7/58).
(9) السلسلة الصحيحة لمحمد ناصر الدين الألباني (3/469).
(10) الغفاري، صحابي، اختلف في اسمه والمشهور أنه جندب بن جنادة، ت: بالربذة سنة إحدى وثلاثين، انظر الإصابة ج (11، رقم 384).
(11) حم: (5/15).
(12) السلسلة الصحيحة (3/471).(1/21)
والآيتان هما قوله تعالى: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) [البقرة: 285-286].
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن في كتابه الناسخ والمنسوخ:
قال تعالى: ((مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [البقرة:106] الآية.
قال ابن جرير(1): (ما نغير من حكم آية فنبدله، أو نتركه فلا نبدله، نأت بخير لكم أيها المؤمنون حكماً منها أو مثل حكمها في الخفة والثقل والثواب والأجر)(2).
__________
(1) محمد بن جرير بن يزيد الإمام أبو جعفر الطبري، وُلد سنة أربع وعشرين ومائتين، وكان عارفاً بالقراءات كلها، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في الأحكام، عالماً بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم. وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في التفسير لم يُصنف أحد مثله، وله غير ذلك من الكتب، ت. سنة عشر وثلاثمائة، انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (14/267)، والبداية والنهاية لابن كثير (11/156).
(2) ابن جرير: جامع البيان في تأويل القرآن (1/527).(1/22)
وقال السيوطي: (وليس في سائر الكتب مثل ذلك؛ ولذا كان اليهود ينكرون النسخ، والسر في ذلك أنّ سائر الكتب نزلت دفعة واحدة فلا يتصور فيها الناسخ والمنسوخ، لأنّ شرط الناسخ أن يتأخر نزوله عن المنسوخ)(1).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بكونه خاتم النبيين:
قال تعالى: ((مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)) [الأحزاب:40].
قال ابن كثير(2): (فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس)(3).
بل قد نصَّ النبي صلى الله عليه وسلم على ختم النبوة به، وذلك في المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلاّ وضعت هذه اللبنة؟! قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين}(4) واللفظ للبخاري.
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بإرساله إلى الثقلين:
__________
(1) السيوطي: الخصائص الكبرى (2/319).
(2) إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، اشتغل بالحديث على طريقة الفقهاء مطالعة في متونه ورجاله وجمع التفسير والتاريخ الذي سماه البداية والنهاية وغير ذلك من التصانيف. ت. سنة 774هـ. انظر: الدرر الكامنة لابن حجر (1/373).
(3) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (3/501).
(4) خ: ك. المناقب، ب. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم (6/558)، مع الفتح؛ م: ك. الفضائل، ب: ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين (15/51) مع النووي.(1/23)
وهذه من خصائصه الكبرى صلى الله عليه وسلم، حيث كان النبي يرسل إلى قومه خاصَّة، قال تعالى: (وَمَاَ ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)) [إبراهيم:4] وقال تعالى: ((وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ)) [فاطر:24]، وأمّا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال الله له: ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)) [الأعراف:158] الآية، وقال تعالى: ((وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)) [آل عمران:20].
فنبينا صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس عامة، قال صلى الله عليه وسلم: {أُعطيت خمساً لم يُعطهنَّ أحد من الناس -وذكر منها- وكان النبي يرسل إلى قومه خاصَّة وبُعثت إلى الناس عامة} متفق عليه(1).
وكما أنه صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الناس عامة فهو أيضاً مرسل إلى الجن قال تعالى: ((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)) [الفرقان:1] حيث يدخل في العالمين عالم الجن مع الإنس.
__________
(1) خ: ك. التيمم (1/436) مع الفتح؛ م: ك. المساجد ومواقيت الصلاة (5/4) مع النووي.(1/24)
قال القرطبي(1): (والمراد بالعالمين هنا الإنس والجن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان رسولاً إليهما ونذيراً لهما)(2). وقال تعالى: ((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)) [الجن: 1-2].
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر بالرعب مسيرة شهر وجعلت له الأرض مسجداً وطهوراً وأحلت له الغنائم:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أُعطيت خمساً لم يُعطهن أحد قبلي: نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأُحلت لي الغنائم ولم تحل لأحدٍ قبلي، وأُعطيت الشفاعة، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصّة وبُعثت إلى الناس عامة}(3).
__________
(1) محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي المالكي المفسر صاحب جامع أحكام القرآن، ت. سنة 671هـ. انظر: الديباج المذهب لابن فرحون المالكي (2/308).
(2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (13/4).
(3) خ: ك. التيمم (1/436)، وانظر: بداية السول ص (57)، وابن الملقن: خصائص أفضل المخلوقين ص (411-412)، والبوصيري: علامات النبوة ص (195-196)، القسطلاني: المواهب اللدنية (2/642-643).(1/25)
وروى الإمام أحمد بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: {أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى وانصرف إليهم، فقال لهم: لقد أعطيت الليلة خمساً، ما أعطيهنَّ أحد قبلي... -وذكر منها:- وأحلت لي الغنائم آكلها، وكان من قبلي يعظمون أكلها، كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مساجد وطهوراً، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وكان مَن قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم...} الحديث(1). قال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات(2).
وقال أحمد شاكر: صحيح الإسناد(3).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بيوم الجمعة:
أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأُوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له قال: يوم الجمعة فاليوم لنا وغداً لليهود وبعد غد للنصارى}(4) وهذا لفظ مسلم.
قال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: ((فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ)) [البقرة:213] الآية: (كان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه، وهدى الذين آمنوا بمحمد لإصابة يوم الجمعة، ضلوا عنها وقد فرضت عليهم كالذي فرض علينا فجعلوها السبت)(5).
__________
(1) حم: (12/26) مع شرح أحمد شاكر.
(2) مجمع الزوائد (10/25).
(3) مسند الإمام أحمد شرح أحمد شاكر (12/25).
(4) م: ك. الجمعة (6/143-144) مع النووي؛ خ: ك. الجمعة، ب. فرض الجمعة (2/354) مع الفتح.
(5) انظر تفسير الطبري (2/351).(1/26)
ويعلق ابن حجر(1) على هذا الاختلاف من اليهود بقوله: وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم كما وقع لهم في قوله تعالى: ((وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ)) [البقرة: 58] وغير ذلك، كيف لا وهم القائلون: ((سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)) [البقرة: 93].
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بنداء الله تعالى له بأعزّ أوصافه:
فناداه ربه بأحب أوصافه وأسنى كمالاته، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)) [الأنفال: 64]، و((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)) [المائدة: 41].
قال العز بن عبد السلام: (وهذه الخَصِيصة لم تثبت لغيره بل إن كلاً منهم نودي باسمه فقال تعالى: ((وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)) [البقرة:35]، وقال تعالى: ((يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ)) [المائدة: 110]، وقال تعالى: ((يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ)) [القصص:30]، وقال تعالى: ((يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا)) [هود: 48]، وقال تعالى: ((يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا)) [الصافات: 104-105].
__________
(1) حافظ عصره أحمد بن علي بن حجر انتهى إليه معرفة الرجال وعلل الحديث، من مصنفاته: فتح الباري شرح صحيح البخاري وتغليق التعليق وصل به تعليقات البخاري والإصابة في تمييز الصحابة وتهذيب تهذيب الكمال وتقريب التهذيب وغير ذلك من المصنفات، ت. سنة 852هـ. شذرات الذهب (9/395).(1/27)
ولا يخفى على أحد أن السيد إذا دعى أحد عبيده بأفضل ما وجد فيه من الأوصاف العلية والأخلاق السنية ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام لا يشعر بوصف من الأوصاف ولا بخلق من الأخلاق، إن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم)(1). وأما الآيات التي ورد فيها ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم إنما كان ذلك من باب الإخبار كقوله تعالى: ((مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ)) [الأحزاب: 40]، وكقوله تعالى: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ)) [الفتح:29] الآية.
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى نهى الناس أن ينادوه باسمه العلم:
قال تعالى: ((لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا)) [النور: 63].
فندبهم سبحانه وتعالى إلى تكنيته بالنبوة والرسالة تشريفاً ورفعاً لمنزلته.
قال أبو نعيم الأصبهاني(2): (فخصه الله تعالى بهذه الفضيلة من بين رسله وأنبيائه وأخبر سبحانه عن سائر الأمم أنهم كانوا يخاطبون رسلهم وأنبياءهم بأسمائهم كقول قوم موسى له: ((يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)) [الأعراف:138]، وقول قوم عيسى له: ((يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ)) [المائدة: 112]، وقول قوم هود له: ((يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ)) [هود: 53])(3).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن السماء حُرست بمبعثه:
__________
(1) بداية السول ص (38).
(2) الحافظ الكبير أحمد بن عبد الله الأصبهاني. له تصانيف مشهورة مثل: معرفة الصحابة، وتاريخ أصبهان، ودلائل النبوة. ت. سنة 436هـ. انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي (3/1092-1097).
(3) دلائل النبوة ص (12).(1/28)
قال تعالى حكاية عن الجن: ((وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا)) [الجن: 8-9].
قال القرطبي: (أي طلبنا خبرها كما جرت العادة: (فوجدناها) قد (مُلئت حرساً شديداً) أي حفظة، يعني الملائكة. (وشهباً) جمع شهاب، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراق السمع)(1).
فحفظ الله كتابه ورحم عباده حتى لا يلتبس الحق عليهم بمبعثه صلى الله عليه وسلم.
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى أقسم بحياته:
قال تعالى: ((لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)) [الحجر:72].
قال ابن كثير: (أقسم تعالى بحياة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض)(2).
وقال العز بن عبد السلام: (والإقسام بحياة المُقْسَم بحياته يدل على شرف حياته وعزتها عند المُقْسِم بها، ولم يثبت هذا لغيره صلى الله عليه وسلم)(3).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن أدلّه تعالى تولى الدفاع عنه مما رماه به قومه:
__________
(1) تفسير القرطبي (10/9) باختصار.
(2) تفسير ابن كثير (2/575).
(3) بداية السول ص (37).(1/29)
كان الأنبياء السابقون عليهم السلام يتولون الدفاع عن أنفسهم مما رماهم به المكذبون من أقوامهم من السفه والضلال. قال تعالى فيما أخبر عن قوم نوح عليه السلام أنهم قالوا له: ((إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) [الأعراف:60]، فقال عليه السلام دفاعاً عن نفسه: ((يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ)) [الأعراف: 61]، وقول قوم هود عليه السلام له: ((إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ)) [الأعراف:66]، فقال نافياً عن نفسه ما نسبوه إليه: ((يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ)) [الأعراف: 67]، وأما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد تولى ربه الرد عنه حين رماه المشركون بالجنون والضلال وقول الشعر، قال تعالى: ((فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)) [الطور: 29-34].
وفي هذا من التشريف لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما تحار فيه العقول وتزداد به محبة الرسول صلى الله عليه وسلم.
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى قدّمه على جميع أنبيائه في الذكر في أغلب آيات القرآن:
قال تعالى: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)) [النساء: 163-164].(1/30)
وقال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا)) [الأحزاب: 7].
قال ابن كثير: (فبدأ بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم)(1).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بإمامة الأنبياء في بيت المقدس:
لم تقتصر فضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالنسبة لإخوانه الأنبياء على تَقَدُّمه عليهم في الذكر، بل قد جمع الله تعالى له جماعة منهم فصلى بهم إماماً؛ تأكيداً لفضله وشرفه عليهم، أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط، قال: فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي(2)، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم يعني نفسه، فحانت الصلاة فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد! هذا مالك صاحب النار فسلم عليه فالتفت إليه فبدأني بالسلام}(3).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بانشقاق القمر آية له:
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/478).
(2) ابن مُعتِّب الثقفي، صحابي من أهل الطائف، توفي في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو قومه للإسلام، انظر الإصابة (6/416)، رقم (5518).
(3) م: ك. الإيمان، ذكر المسيح عيسى ابن مريم وذكر الدجال (2/237-238) مع النووي.(1/31)
قال تعالى: ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)) [القمر:1]. أخرج الشيخان من حديث ابن مسعود(1) رضي الله عنه قال: {انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشهدوا} واللفظ للبخاري(2).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن من معجزاتة ما هو أظهر في الإعجاز من معجزات غيره:
__________
(1) عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهُذلي أبو عبد الرحمن، صحابي مات بالمدينة سنة اثنين وثلاثين. الإصابة (6/214)، رقم (4945).
(2) خ: ك. التفسير، ب. قوله تعالى: (وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا) (8/617) مع الفتح؛ م: ك: صفة القيامة والجنة والنار، ب. انشقاق القمر (17/144) مع النووي.(1/32)
كتفجير الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، فإنه أبلغ في خرق العادة من تفجيره من الحجر؛ لأن جنس الحجر مما يتفجر منه الأنهار قال تعالى: ((وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا)) [البقرة:60] الآية. وقال تعالى في شأن بني إسرائيل: ((ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ)) [البقرة: 74] الآية. وأما ما جاء في شأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك(1) رضي الله عنه قال: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر فالتمس الناس الوَضُوء فلم يجدوه فأتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوَضُوء فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناء يده وأمر الناس أن يتوضؤوا منه. قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه حتى توضؤوا من عند آخرهم}(2)، واللفظ للبخاري. وفي رواية لمسلم: {كانوا زهاء الثلاثمائة}(3)، فكان انفجار الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أبلغَ في الإعجاز من انفجار الماء من الحجر لموسى عليه السلام(4).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بحنين الجذع إليه:
__________
(1) ابن النضر الأنصاريِّ الخزرجي أبو حمزة، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات سنة تسعين. الإصابة (1/112-113)، رقم (275).
(2) خ: ك. الوضوء، ب. التماس الوضوء إذا حانت الصلاة (1/271) مع الفتح؛ م: ك. الفضائل، ب. معجزات النبي صلى الله عليه وسلم (15/39) مع النووي.
(3) المصدر السابق (15/39).
(4) انظر: بداية السول ص (40-41). (بتصرف).(1/33)
أخرج البخاري من حديث ابن عمر(1) رضي الله عنهما: {كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحنَّ(2) الجذع، فأتاه فمسح يده عليه}(3).
قال العز بن عبد السلام: (ولم يثبت لواحد من الأنبياء مثل ذلك)(4).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بتسليم الحجر عليه قبل البعثة:
أخرج مسلم من حديث جابر بن سمرة(5) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أُبعث إني لأعرفه الآن}(6).
قال العز بن عبد السلام: (ولم يثبت لواحد من الأنبياء مثل ذلك)(7).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بعث رحمة للعالمين:
__________
(1) عبد الله بن عمر بن الخطَّاب بن نُفَيل القُرشي العدويّ، صحابي، مات سنة ثلاث وسبعين. الإصابة (6/167-173)، رقم (4825).
(2) الحنين: الشوق وشدة البكاء. الطاهر الزاوي: ترتيب القاموس المحيط (1/729).
(3) ك. المناقب، ح (3583)، (6/601)، مع الفتح.
(4) بداية السول، ص (39-45).
(5) ابن جُنادة العامري، وأمه خالدة بنت أبي وقَّاص أخت سعد بن أبي وقَاص، صحابي، توفي سنة أربع وسبعين، الإصابة (2/42)، رقم (1013).
(6) ك. الفضائل، ب. نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه، (15/36) مع النووي.
(7) بداية السول ص (39-40).(1/34)
قال الله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107]، وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: {ادع على المشركين، قال: إني لم أبعث لعَّاناً وإنما بُعِثت رحمة}(1)، وروى الطبري بسنده عن ابن عباس(2) رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107]، قال: [[من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف]](3). وفي بيان هذه الرحمة يقول القاضي عياض(4): (للمؤمن رحمة بالهداية، ورحمة للمنافقين بالأمان من القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب)(5). قال أبو نعيم الأصبهاني: (فأمن أعداؤه من العذاب مدة حياته عليه السلام فيهم وذلك قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)) [الأنفال: 33] فلم يعذبهم مع استعجالهم إيَّاه تحقيقاً لما نعته به)(6).
__________
(1) ك. البر والصلة، ب. من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبه (16/150) مع النووي.
(2) عبد الله بن عبَّاس بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي بالطائف سنة ثمان وستين، الإصابة (6/130-140)، رقم (4772).
(3) جامع البيان (9/83).
(4) عياض بن موسى اليحصبي البُستي المالكي، أبو الفضل، العلاّمة الحافظ. له كتاب الشفاء في التعريف بحقوق المصطفى، وترتيب المدارك وتقريب المسالك في ذكر فقهاء مذهب مالك وغير ذلك ت. سنة 524هـ. انظر الديباج المذهب لابن فرحون المالكي (2/46)؛ سير أعلام النبلاء (20/212).
(5) الشفاء (1/19).
(6) دلائل النبوة ص (9).(1/35)
وأمَّا الأمم الماضية فقد أخبرنا الله تعالى بما حلَّ بهم من العذاب قال تعالى في شأن نوح عليه السلام وقومه: ((فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ)) [الأعراف:64]، وقال تعالى في شأن هود عليه السلام وقومه: ((فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ)) [الأعراف:72]، وقال تعالى في شأن صالح عليه السلام وقومه: ((فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ)) [الأعراف: 78-79].
وقال تعالى في شأن لوط عليه السلام وقومه: ((فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)) [الأعراف: 83-84].
فكان بذا صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة والنعمة المسداة للعالمين.
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى جمع له من مراتب الوحي مراتب عديدة:
الأولى: الرؤيا الصالحة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم وكان لا يرى الرؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، أخرج البخاري من حديث عائشة(1) رضي الله عنها أنها قالت: {كان أول ما بُدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح} الحديث(2).
__________
(1) بنت أبي بكر الصديق، أم المؤمنين، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد المبعث بخمس سنين، ماتت سنة ثمان وخمسين ودفنت بالبقيع، الإصابة (13/ (38-42)، رقم (75).
(2) خ: ك. التفسير سورة (اقرأ) (8/715)، مع الفتح.(1/36)
الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه، أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة(1) رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنَّ روح القدس نفث في روعي أنَّ نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فأجملوا في الطلب، ولا يحملنَّ أحدَكم استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصية الله فإنَّ الله لا يُنال ما عنده إلا بطاعته}(2).
قال الهيثمي: (فيه عُفير بن معدان وهو ضعيف)(3).
وقال شعيب الأرنؤوط: (صحيح بشواهده)(4).
الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلاً فيخاطبه، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً، أخرج مسلم من حديث عمر رضي الله عنه الطويل وفيه: {يا عمر أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم}(5).
الرابعة: أنه كان يأتيه مثل صلصلة الجرس، أخرج البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ الحارث بن هشام(6) رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّ عليَّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال...} الحديث(7).
__________
(1) صُدي بن عجلان بن الحارث الباهلي مشهور بكنيته مات سنة 86هـ. الإصابة (5/133)، رقم (4054).
(2) 10/26-27).
(3) مجمع الزوائد (4/72).
(4) انظر حاشية زاد المعاد لابن القيم (1/79).
(5) م: ك. الإيمان (1/159-160) مع النووي.
(6) أبو عبد الرحمن القرشي المخزومي أخو أبي جهل وابن عم خالد بن الوليد أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، قيل مات في طاعون عمواس وقيل في يوم اليرموك. انظر: الإصابة (2/45)، رقم (1022).
(7) خ: ك. بدء الوحي (1/18) مع الفتح.(1/37)
الخامسة: أنه كان يرى الملك في صورته التي خُلق عليها، أخرج الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه لما سُئل عن تفسير قوله تعالى: ((فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)) [النجم: 9-10] قال رضي الله عنه: {إنه رأى جبريل له ستمائة جناح}(1)، وأخرج البخاري من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: {من زعم أنَّ محمداً رأى ربه فقد أعظم ولكن رأى جبريل في صورته وخَلقه ساداً ما بين الأفق}(2).
السادسة: ما أوحاه الله إليه وهو فوق السموات ليلة المعراج.
السابعة: كلام الله منه إليه بلا واسطة ملك كلما كلَّم الله تعالى موسى بن عمران عليه السلام، أخرج مسلم من حديث أنس بن مالك الطويل وفيه: {...ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت ما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها فأوحى الله إليَّ ما أوحى...} الحديث(3).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الميثاق له من جميع الأنبياء بالإيمان به ونصرته:
قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)) [آل عمران:81].
__________
(1) خ: ك. بدء الخلق (6/313) مع الفتح؛ م: ك. الإيمان. ب. الإسراء (2/214) مع النووي.
(2) خ: ك. بدء الخلق (6/313).
(3) م: ك. الإيمان، ب. الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم (2/214) مع النووي؛ وانظر زاد المعاد لابن القيم (1/79).(1/38)
قال ابن كثير: (يقول تعالى مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول بعد هذا كله، فعليكم الإيمان به ونصرته، وإذا كان هذا الميثاق شاملاً لكل منهم تضمن أخذه لمحمد صلى الله عليه وسلم من جميعهم، وهذه خصوصية ليست لأحدٍ منهم سواه)(1).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن أهل الكتاب لهم علم به:
قال تعالى: ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ)) [الأعراف: 157]الآية، وقال تعالى: ((وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ)) [الصف:6].
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بكونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب:
قال تعالى: ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ)) [الأعراف: 157] الآية. وقال تعالى: ((وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)) [العنكبوت:48].
وأخرج الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: {إنَّا أمة أمِيَّة لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين}(2).
__________
(1) الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص (286).
(2) خ: ك. الصوم، ب. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا نكتب ولا نحسب) (4/126) مع الفتح؛ م: ك. الصيام، ب. وجوب صيام رمضان برؤية الهلال (7/192) مع النووي.(1/39)
قال ابن حجر: (المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (إنَّا) أي العرب، وقيل أراد نفسه، وقيل أمية بلفظ النسب إلى الأم أراد أمة العرب؛ لأنها لا تكتب، أو منسوب إلى الأمهات أي أنهم إلى أصل ولادة أمهم، قوله: (لا نكتب ولا نحسب) المراد أهل الإسلام الذين بحضرته عند تلك المقالة وهو محمول على أكثرهم أو المراد نفسه وقيل للعرب أميون؛ لأنَّ الكتابة كانت فيهم عزيزة قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ)) [الجمعة: 1])(1).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أوتي مفاتيح خزائن الأرض:
أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بُعثت بجوامع الكلم، ونُصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي. قال أبو هريرة: فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تنتثلونها}(2).
قال النووي(3): (قوله (تنتثلونها) يعني تستخرجون ما فيها، يعني خزائن الأرض وما فتح الله على المسلمين من الدنيا)(4).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى جمع له بين القبلتين:
__________
(1) فتح الباري (4/127).
(2) ك. المساجد (5/5) مع النووي.
(3) يحيى بن شرف الحزامي النووي الشافعي محيي الدين أبو زكريا، محرر المذهب الشافعي وكبير الفقهاء في زمانه. من مصنفاته: شرح مسلم وشرح المهذب والروضة والمنهاج وتهذيب الأسماء واللغات ورياض الصالحين والأذكار. ت. سنة 676هـ. انظر: طبقات الشافعية للأسنوي (2/476)، والبداية والنهاية (13/294).
(4) شرح النووي على مسلم (5/5).(1/40)
قال تعالى: ((سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [البقرة:143].
((قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ)) [البقرة:142-144].
قال ابن كثير: (وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة، وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس فكان بمكة يصلي بين الركنين وهو مستقبل صخرة بيت المقدس فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، قاله ابن عباس والجمهور... قال: والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس كان بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستمر على ذلك بضعة أشهر وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم فأجيب إلى ذلك)(1).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى أحلّ له مكة ساعة من نهار:
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (1/195).(1/41)
أخرج مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فتح مكة: {لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا}، وقال يوم الفتح فتح مكة: {إنَّ هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار} الحديث(1).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ الدجال لا يدخل بلدتيه:
أخرج مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ليس من بلد إلا سيطؤه الدَّجال إلا مكة والمدينة، وليس نقب(2) من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين تحرسها فينزل بالسبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج إليه كل كافر ومنافق}(3).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الطاعون لا يدخل مدينته:
أخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {على المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال}(4).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الصلاة في مسجده أفضل من ألف صلاة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: {إنَّ امرأة اشتكت شكوى فقالت إنْ شفاني الله لأخرجنَّ فلأصلينَّ في بيت المقدس، فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج، فجاءت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تسلم عليها فأخبرتها ذلك فقالت: اجلسي فكلي ما صنعت وصل في مسجد الرسول الله صلى الله عليه وسلم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة}(5).
__________
(1) ك. الحج، ب. تحريم مكة (9/123-126) مع النووي.
(2) الطريق في الجبل، انظر ترتيب القاموس (4/421).
(3) ك. الفتن وأشراط الساعة (18/85) مع النووي.
(4) ك. الفتن، ب. لا يدخل المدينة الدجال (13/101) مع الفتح.
(5) م: ك. الحج، ب. فضل الصلاة بمسجد مكة والمدينة (9/166-167) مع النووي.(1/42)
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن ما بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة وأنَّ منبره على حوضه:
أخرج الشيخان من حديث عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة}(1). وفي رواية للبخاري: {ومنبري على حوضي}(2).
قال ابن حجر في قوله صلى الله عليه وسلم: (روضة من رياض الجنة): (أي كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة والسعادة بما يحصل من ملازمة حلق الذكر لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلم فيكون تشبيهاً بغير أداة، أو أن المعنى أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة فيكون مجازاً، أو هو على ظاهره وأن المراد أنه روضة حقيقة بأن يُنقل ذلك الموضع في الآخرة إلى الجنة). هذه محصلة ما أوّله أهل العلم في هذا الحديث، وهي على ترتيبها في القوة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ومنبري على حوضي) أي يُنقل يوم القيامة فينصب على الحوض، قال الأكثر المراد منبره بعينه الذي قال فيه هذه المقالة وهو فوقه، وقيل المراد المنبر الذي يوضع له يوم القيامة)(3).
المبحث الثاني خصائص النبي صلى الله عليه وسلم دون جميع الأنبياء عليهم السلام في الحياة الآخرة:
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أول من تنشق عنه الأرض وبإعطائه لواء الحمد وأول من يدخل الجنة يوم القيامة:
__________
(1) خ: ك. فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، ب. فضل ما بين القبر والمنبر (3/70) مع الفتح؛ م: ك. الحج، ب. فضل ما بين قبره ومنبره (9/161) مع النووي.
(2) المصدر السابق.
(3) فتح الباري (9/161).(1/43)
روى الإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إني لأول من تنشق الأرض عن جمجمتي يوم القيامة ولا فخر، وأعطى لواء الحمد ولا فخر، وأنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، وإني آتي باب الجنة فآخذ بحلقها فيقولون من هذا فأقول أنا محمد فيفتحون لي فأدخل فإذا الجبار مستقبلي فأسجد له فيقول: ارفع رأسك يا محمد، وتكلم يُسمع منك...} الحديث(1).
قال الألباني: (سنده جيد ورجاله رجال الشيخين)(2).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى يبعثه يوم القيامة مقاماً محموداً:
قال الله تعالى لصفيه وخليله محمّد صلى الله عليه وسلم: ((وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)) [الإسراء:79]. أخرج البخاري رحمه الله في تفسير هذه الآية من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه يقول: {إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا(3) كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود}(4). وأخرج أيضاً من حديث ابن عمر: {إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم}(5). ثم ذكر البخاري رحمه الله طريقاً آخر فيه زيادة: {فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم}(6).
__________
(1) حم: (3/144)، وانظر بداية السول ص (34)، والمواهب اللدنية بالمنح المحمدية (2/700-701).
(2) السلسلة الصحيحة (4/100).
(3) جمع جاثٍ هو الذي يجلس على ركبتيه. فتح الباري (8/450).
(4) خ: ك. التفسير ب. (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) (8/399) مع الفتح.
(5) المصدر السابق ك الزكاة ب من سأل الناس تكثراً (3/338).
(6) المصدر السابق نفسه.(1/44)
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد ولد آدم يوم القيامة ويفتح الله عليه من المحامد ما لا يفتحه على غيره وأن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر:
أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: {أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع -وكانت تعجبه- فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الناس -الأولين والآخرين- في صعيد واحد يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآَدم، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وأنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سمّاك الله عبداً شكوراً، اشْفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وأنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات -فذكرهن أبو حيان في الحديث- نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى فيقولون: أنت رسول الله، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟(1/45)
فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وكلمت الناس في المهد، اشفع لنا، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -ولم يذكر ذنباً- اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم، فيقولون: يا محمد أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق، فآتي العرش فأقع ساجداً لربي عزّ وجلّ، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي. ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سلْ تُعطه، واشفع تُشَفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا ربِّ، أمتي يا ربِّ. فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء للناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثُمَّ قال: والذي نفسي بيده إنَّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما بين مكة وبُصْرى(1)}(2).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أول شفيع في الجنة وأول من يقرع بابها:
__________
(1) كانت بُصْرى مدينة حوران، وهي في منتصف المسافة بين عمّان ودمشق، وهي اليوم آثار قرب مدينة "درعة" لما التي احتلت مكانها حتى ظن بعض الناس أنها هي وبُصْرى داخل الحدود السورية على مقربة من الحدود الأردنية. انظر: معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية لعاتق البلادي ص (43-44).
(2) خ: ك. التفسير، ب. (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدأ شكوراً) (8/395-396) مع الفتح؛ م: ك. الإيمان، ب. الشفاعة (3/65-69) مع النووي.(1/46)
روى مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تابعاً}(1). وفي لفظ آخر: {أنا أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة وأول من يقرع باب الجنة}(2). ولنفس الصحابي رضي الله عنه أخرج مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك}(3).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة ويدخل من أمته الجنة سبعون ألفاً بغير حساب:
أخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما من الأنبياء نبي إلا أُعطِيَ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وأما الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة}(4). وأخرج أيضاً من حديث عمران بن حصين(5) وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عُرِضت عليَّ الأمم، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط والنبي ليس معه أحد حتى رُفِعَ لي سواد عظيم قلت: ما هذا؟! أمتي هذه؟ قيل هذا موسى وقومه، قيل انظر إلى الأفق فإذا سواد عظيم قد ملأ الأفق، ثُمَّ قيل انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء فإذا سواد قد ملأ الأفق قيل هذه أمتك ويدخل الجنَّة من هؤلاء سبعون ألفاً بغير حساب..} الحديث(6).
__________
(1) مسلم بشرح النووي ك الإيمان ب الشفاعة (3/73).
(2) المصدر السابق (3/73).
(3) المصدر السابق (3/73).
(4) تقدم تخريجه ص (35).
(5) هو: عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي، صحابي، ت. سنة 52 هـ. الإصابة (7/155-156) رقم (6003).
(6) خ: ك. الطب، ب. من اكتوى أو كوى نفسه (10/155) مع الفتح.(1/47)
وفي مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يدخل من أمتي زمرة هم سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر. قال أبو هريرة: فقام عُكَّاشة بن محصن الأسدي يجُر نمرة عليه فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعله منهم. ثم قام رجل آخر من الأنصار فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبقك بها عُكاشة}(1).
قال العز بن عبد السلام: (من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يدخل إلى الجنة من أمته سبعون ألفاً بغير حساب ولم يثبت ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم}(2).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أمته على الأمم يوم القيامة:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يُجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلّغت الرسالة؟ فيقول نعم. فتُسأل أمته: هل بلّغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير. فيقول: من شهودك؟ فيقول: محمد وأمته، فيجاء بكم فتشهدون، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) قال عدلاً: ((لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)) [البقرة: 143]}(3).
قال العز بن عبد السلام: (نزّل الله تعالى أمته منزل العدول من الحكام، فإن الله تعالى إذا حكم بين العباد فجحدت الأمم بتبليغ الرسالة أحضر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون على الناس بأن رسلهم أبلغتهم، وهذه الخصيصة لم تثبت لأحد من الأنبياء)(4).
__________
(1) ك. الإيمان ب. دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب (3/88-89) مع النووي.
(2) بداية السول ص (52).
(3) وانظر: خ: ك. الاعتصام بالكتاب والسنة ب. (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) (13/316) مع الفتح.
(4) بداية السول ص (69)، وانظر: خصائص أفضل المخلوقين ص (403).(1/48)
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة على أمته بإبلاغ الرسالة:
قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا)) [الأحزاب:46].
قال القاضي عياض: (وهي -أي الشهادة لنفسه- من خصائصه صلى الله عليه وسلم، هذا بالإضافة إلى ما تضمنته الآية من ضروب المدح والثناء حيث جعله الله مبشراً لأهل طاعته ونذيراً لأهل معصيته وداعياً إلى توحيده وعبادته وسراجاً منيراً يُهتدى به إلى الحق)(1).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أول من يجوز الصراط من الرسل بأمته:
أخرج البخاري من حديث أبي هريرة الطويل وفيه: {... يُحشر الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبع: فمنهم من يتبع الشمس، ومنهم من يتبع القمر، ومنهم من يتبع الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيدعوهم فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته...}(2).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة الوسيلة:
أخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليَّ فإنه من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة}(3).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بإعطائه الكوثر:
__________
(1) الشفاء (1/29-30).
(2) خ: ك. الأذان ب. فضل السجود (2/292-293) مع الفتح.
(3) ك الصلاة ب. استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه (4/85).(1/49)
قال سبحانه وتعالى: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) [الكوثر:1]. روى الإمام البخاري رحمه الله في تفسير هذه الآية: (أنّ عائشة رضي الله تعالى عنها سألها أبو عبيدة(1) عن قوله تعالى: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) [الكوثر:1] قالت: {هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم شاطئاه عليه در مجوف آنيته كعدد النجوم}(2).
قال ابن حجر: (الكوثر فوعل من الكثرة سمي بها النهر لكثرة مائه وآنيته وعظم قدره وخيره، وهذا هو أحد الأقوال في معنى الكوثر أنه نهر في الجنة يؤيده حديث أنس رضي الله عنه قال: {لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر}. وهو قول عائشة رضي الله عنها وغيرها من الصحابة.
__________
(1) ابن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فتح الباري (8/732).
(2) خ: ك. التفسير ب. سورة: (إنا أعطيناك الكوئر) (8/731).(1/50)
والقول الثاني في معنى الكوثر أنه الخير الكثير، روى الإمام البخاري في صحيحه تفسير ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر: [[هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه]]. وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير. والقول الثالث: أن المراد بالكوثر الحوض وذلك لحديث المختار بن فلفل عن أنس بن مالك وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: {أتدرون ما الكوثر؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عزّ وجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة...} الحديث. هذه أشهر الأقوال في معنى الكوثر. فأولاها بالصواب القول الأول؛ وذلك لأن الأدلة نص في معناه، بخلاف قول ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه وإن كان لا يخالف المعنى الأول إلاّ أنه عام، والأحاديث أثبتت التخصيص بالنهر. وأما القول الثالث فإن أصحابه أخذوا عجز الحديث وتركوا صدره الذي فيه: {أتدرون ما الكوثر؟... قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عزّ وجل}، ولِمَا جاء في صحيح مسلم في الحوض: {يشخب فيه ميزابان من الجنة}(1). وغاية ما يقال على الحوض كوثر لكونه يمد منه)(2).
الفصل الثاني: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته وقد يشاركه فيها الأنبياء أو بعضهم:
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بوجوب محبته:
قال تعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)) [التوبة:24]..
__________
(1) ك. الفضائل، ب. حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفته (15/62).
(2) انظر فتح الباري (8/731-732).(1/51)
قال القرطبي: (وفي الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله)(1). وأخرج الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده}. وزاد مسلم: {والناس أجمعين}(2).
قال ابن حجر في تعليقه على ترجمة الباب: (باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان). قال: (اللام فيه للعهد، والمراد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرينة قوله: (حتى أكون أحب)، وإن كانت محبة جميع الرسل من الإيمان، لكنَّ الأحبية مختصة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)(3).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأن الله تعالى عصمه من الناس:
قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)) [المائدة:67].
قال القرطبي: (قيل معناه أظهر التبليغ؛ لأنه كان في أول الإسلام يخفيه خوفاً من المشركين)(4)، ثم أمر بإظهاره في هذه الآية، وأعلمه الله أنه يعصمه من الناس)(5).
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (8/62).
(2) خ: ك. الإيمان، ب. حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان (1/58) مع الفتح. م. ك. الإيمان، ب. وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم (2/15) مع النووي.
(3) فتح الباري (1/58).
(4) أي على أصحابه.
(5) الجامع لأحكام القرآن (16/157).(1/52)
وأخرج الشيخان من حديث جابر بن عبد الله(1) رضي الله عنهما قال: {غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة(2) قِبَل نجد، فأدْركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وادٍ في العِضاة(3)، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلَّق سيفه بغصن من أغصانها، وتفرَّق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ رجلاً(4) أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صَلْتاً(5) في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟ قال: قلت الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قلت: الله. قال: فشام السيف(6)...}(7) الحديث واللفظ لمسلم.
قال ابن حجر: (ويؤخذ من مراجعة الأعرابي له في الكلام أنَّ الله سبحانه وتعالى يمنع نبيه صلى الله عليه وسلم منه، وإلا فما أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه إلى الحظوة عند قومه بقتله، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم في جوابه (الله) أي يمنعني منك إشارة إلى ذلك)(8).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بإسلام قرينه:
__________
(1) هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، صحابي ت. سنة 74هـ. الإصابة (2/45) رقم (1022).
(2) ذات الرقاع، انظر خ: ك. المغازي، ب. غزوة ذات الرقاع (7/426) مع الفتح.
(3) كل شجرة ذات شوك. شرح النووي على مسلم (15/44).
(4) هو غورث بن الحارث، انظر البخاري المصدر السابق.
(5) مسلولاً، النووي المصدر السابق (15/45).
(6) شام السيف: إذا سلَّه وإذا أغمده والمراد هنا أغمده، النووي المصدر السابق ص. ن.
(7) خ: ك. المغازي، ب. غزوة ذات الرقاع (7/426) مع الفتح؛ م. ك. الفضائل، ب. توكله على الله وعصمة الله تعالى له من الناس (15/44-45) مع النووي.
(8) فتح الباري (7/427).(1/53)
أخرج مسلم من حديث عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي، إلاَّ أنّ الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير}(1).
قال النووي: (فأسلم برفع الميم وفتحها، وهما روايتان مشهورتان، فمن رفع قال: معناه أسلم أنا من شره وفتنته. ومن فتح قال: إنَّ القرين أسلم من الإسلام، وصار مؤمناً لا يأمرني إلاَّ بخير. واختلفوا في الأرجح منهما، فقال الخطابي: الصحيح المختار الرفع، ورجح القاضي عياض الفتح، وهو المختار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فلا يأمرني إلا بخير) واختلفوا في رواية الفتح، فقيل أسلم بمعنى استسلم وانقاد وقد جاء هكذا في غير صحيح مسلم (فاستسلم) وقيل: معناه صار مسلماً مؤمناً وهذا هو الظاهر)(2).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأن من رآه في المنام فقد رآه حقاً(3) ولا يتمثل الشيطان به:
__________
(1) ك. القيامة والجنة والنار، ب. تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس (17/158) مع النووي.
(2) شرح النووي على مسلم (17/158).
(3) لا بُدّ هنا من تنبيه مهم جداً، وهو أنّ من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام (على صفته المعروفة) فقد رآه حقاً، وأن الشيطان لا يتمثل به، ولكن قد يتمثل الشيطان بصورة رجل ما ويدعي أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فمتى رؤى بغير صفاته فهو شيطان، وهذا أمر يغفل عنه كثير من الناس.(1/54)
أخرج البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من رآني في المنام فقد رآني فإنَّ الشيطان لا يتمثل بي، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة}(1). ولمسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من رآني في المنام فقد رآني ولا يتمثل الشيطان بي}(2). وزاد البخاري من رواية أبي هريرة أيضاً: {ولا يتمثل الشيطان صورتي، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار}(3). نصت هذه الأحاديث المتفق عليها على أنَّ الرؤيا تكون في المنام لا كما يزعم الصوفية من دعوى رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً والتلقي منه(4).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأن من كذب عليه متعمداً مختلف في كفره:
أخرج الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه قال: {إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثاً كثيراً أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تعمَّد عليَّ كذباً فليتبوأ مقعده من النار}(5). وروى البخاري من حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قلت للزبير: {إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان؟ قال: أما إني لم أفارقه ولكن سمعته يقول: من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار}(6).
__________
(1) ك. العبير، ب. من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام (12/383) مع الفتح.
(2) ك. الرؤيا (15/24) مع النووي.
(3) ك. الأدب، ب. من سمي بأسماء الأنبياء (10/577-578) مع الفتح.
(4) انظر تفاصيل هذه الدعوى والرد عليها ص (207).
(5) خ: ك. العلم (1/251) مع الفتح؛ م. المقدمة/66 مع النووي.
(6) المصدر السابق (1/205).(1/55)
قال ابن كثير: (رُوي هذا الحديث من طريق نيفٍ وثمانين صحابياً. وصرَّح بتواتره ابن الصلاح والنووي، وغيرهما من حفاظ الحديث، وهو الحق؛ فلهذا أجمع العلماء على كفر من كذب متعمداً مستجيزاً لذلك. واختلفوا في المتعمد فقال الشيخ أبو محمد(1): يكفر أيضاً، وخالفه الجمهور. ثم لو تاب فهل تقبل روايته؟ على قولين: فأحمد بن حنبل وابن معين وأبو بكر الحميدي قالوا: لا تقبل؟ لقوله صلى الله عليه وسلم: {إنَّ كذبا عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار}(2)، وقالوا: ومعلوم أنَّ من كذب على غيره فقد أثم وفسق، وكذلك الكذب عليه، لكن من تاب من الكذب على غيره يقبل بالإجماع، فينبغي أن لا تقبل رواية من كذب عليه؛ فرقاً بين الكذب عليه والكذب على غيره، وأما الجمهور فقالوا: تقبل روايته؛ لأنَّ قصارى ذلك أنه كفر، ومن تاب من الكفر قُبلت توبته وروايته، وهذا هو الصحيح)(3).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأنه لا يحل لأحد أن يرفع صوته فوق صوته صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)) [الحجرات: 2-4].
__________
(1) الجويني والد إمام الحرمين.
(2) خ: ك. الجنائز، ب. ما يكره من النياحة على الميت (3/160) مع الفتح.
(3) الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم (باختصار) (296-298).(1/56)
قال القرطبي: (معنى الآيات الأمر بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وخفض الصوت بحضرته، وعند مخاطبته، أي إذا نطق ونطقتم فعليكم ألاَّ تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه صوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالباً لكلامكم، وجهره باهراً لجهركم؛ حتى تكون مزيته عليكم لائحة وسابقته واضحة)(1).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأنه تنام عينه ولا ينام قلبه:
روى البخاري من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها: {كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربع ركعات فلا تسأل عن حُسنهنَّ وطولهنَّ، ثم أربعاً فلا تسأل عن حُسنهنَّ وطولهنَّ، ثم يصلي ثلاثاً. فقلت: يا رسول الله تنام قبل أن توتر؟ قال: تنام عيني ولا ينام قلبي}(2).
وفي رواية أنس بن مالك: {والنبي نائمة عيناه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم}(3).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأنه يرى من وراء ظهره كما يرى أمامه:
أخرج الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أتموا الركوع والسجود، فوالله إني أراكم من بعد ظهري، إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم}(4) واللفظ لمسلم.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (16/202).
(2) خ: ك. المناقب، ب. كان النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه (6/579) مع الفتح.
(3) المصدر السابق ص. ن.
(4) خ: ك. الأذان، ب. إقبال الإمام على الناس عند تسوية الصفوف (2/258) مع الفتح؛ م: ك. المساجد، ب. تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود (4/150) مع النووي.(1/57)
ولمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: {صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ثمَّ انصرف، فقال: يا فلان ألا تحسن صلاتك؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي، فإنما يصلي لنفسه، إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي}(1).
قال النووي: (قال العلماء: معناه أن الله تعالى خلق له صلى الله عليه وسلم إدراكاً في قفاه يبصر به من ورائه، وقد انخرقت العادة له صلى الله عليه وسلم بأكثر من هذا وليس يمنع من هذا عقل ولا شرع، بل ورد الشرع بظاهره فوجب القول به)(2).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأنه يسمع ما لا يسمعه الناس:
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، إنَّ السماء أطَّت وحق لها أن تئطَّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلاَّ وملك واضع جبهته ساجداً لله. والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذَّذْتم بالنساء على الفرشات، ولخرجتم إلى الصُّعُدات تجأرون إلى الله} رواه أحمد(3)، والترمذي(4)، وابن ماجة(5) واللفظ له.
قال الألباني: (حديث حسن)(6).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بطيب عرقه وريحه ولين مسه:
__________
(1) المصدر السابق (4/149).
(2) شرح النووي على مسلم (4/149).
(3) حم: (5/127-128).
(4) في جامعه (4/556) ح (231).
(5) في سننه (2/1402) ح (4195)، وقال الألباني: حديث حسن، انظر صحيح ابن ماجة للألباني (2/407-408) ح (3387).
(6) المصدر السابق (2/408).(1/58)
روى مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: {دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال(1) عندنا، فَعَرِق، وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق(2) فيها فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أمَّ سليم ما هذا الذي تصنعين؟! قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا وهو من أطيب الطيب}(3).
وروى له أيضاً قوله: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون(4) كأنَّ عَرَقَهُ اللؤلُؤ(5) إذا مشى تكفَّأ ولا مسستُ ديباجة ولا حريرة ألين من كفِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شممتُ مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم}(6).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بتفضيل نسائه على سائر النساء:
قال تعالى: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا)) [الأحزاب:30-31].
__________
(1) أي نام القيلولة، شرح النووي (15/86).
(2) أي تتمسحه وتتبعه بالمسح، المصدر السابق.
(3) ك. الفضائل، ب. طيب عرقه صلى الله عليه وسلم (15/86-87) مع النووي.
(4) هو الأبيض المستنير، وهو أحسن الألوان، شرح النووي (15/86).
(5) أي في الصفاء والبياض، المصدر السابق.
(6) م: ك. الفضائل، ب. طيب ريحه صلى الله عليه وسلم (15/86) مع النووي.(1/59)
يقول ابن كثير: (يقول تعالى واعظاً نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة، واستقرَّ أمرهنَّ تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فناسب أن يخبرهنَّ بحكمهنَّ وتخصيصهنَّ دون سائر النساء بأنَّ من يأت منهن بفاحشة مبينة. قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[النشوز وسوء الخلق]]، وعلى كل تقدير فهو شرط والشرط لا يقتضي الوقوع كقوله تعالى: ((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)) [الزمر:65].
فلمَّا كانت محلتهنَّ رفيعة ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهنَّ مغلظاً صيانة لجنابهنَّ وحجابهنَّ الرفيع؛ ولهذا قال تعالى: ((مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ)) [الأحزاب: 30]. قال مالك عن زيد بن أسلم: أي في الدنيا والآخرة. ثم ذكر سبحانه وتعالى عدله وفضله في قوله: ((وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ)) [الأحزاب: 31] أي تطع الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم. وتستجب ((نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا)) [الأحزاب:31] أي في الجنة، فإنهنَّ في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين فوق منازل جميع الخلائق في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش)(1).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأن أزواجه اللاتي توفي عنهنّ محرمات على غيره أبداً:
قال تعالى: ((وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ)) [الأحزاب: 53] الآية.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (3/490).(1/60)
ولأنهنَّ أمهات المؤمنين لقوله تعالى: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ..)) [الأحزاب:6] الآية قال ابن الملقن: (أي مثل أمهاتهم في وجوب احترامهن، وطاعتهن وتحريم نكاحهنَّ لما في إحلالهنَّ لغيره من النقص لمنصبه)(1)صلى الله عليه وسلم.
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأنه يوعك في مرضه كما يوعك الرجلان من أمته:
أخرج الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك(2) فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكاً شديداً! قال: أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت: ذلك بأنَّ لك أجرين. قال: أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى -شوكة فما فوقها- إلاَّ كفَّر الله بها سيئاته، كما تحطُ الشجرة ورقها}(3). واللفظ للبخاري.
وأخرج أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: {ما رأيت أحداً أشدَّ عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم}(4).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بتخييره قبل قبضه بين الدنيا والآخرة:
__________
(1) خصائص أفضل المخلوقين ص (343-344).
(2) الوعك: الحمى، وقيل تعبها، وقيل إرعادها الموعوك وتحريكها إياه فتح الباري (10/111).
(3) خ: ك. المرضى، ب. أشد الناس بلاءً الأنبياء (10/111) من الفتح؛ م: ك. البر والصلة، ب. ثواب المؤمن فيما يصيبه (16/127) مع النووي.
(4) خ: ك. المرضى، ب. شدة المرض (10/110) مع الفتح.(1/61)
أخرج الشيخان من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من نبي يمرض إلاَّ خيِّر بين الدنيا والآخرة. وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحَّة(1) شديدة، فسمعته يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فعلمت أنه خيِّر}(2) واللفظ للبخاري.
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بدفنه في المكان الذي قبض فيه:
أخرج الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: {لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ما نسيته قال: ما قبض الله نبياً إلاَّ في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه. فدفنوه في موضع فراشه}(3).
قال الألباني: (صحيح)(4).
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأن الأرض لا تأكل جسده وعرض صلاة أمته عليه في قبره:
__________
(1) غلظ في الصوت، شرح النووي على مسلم (15/208).
(2) خ: ك. التفسير، ب. (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين) (8/255) مع الفتح؛ م: ك. فضائل الصحابة، ب. فضل عائشة رضي الله عنها (15/208-209) مع النووي.
(3) ت: أبواب الجنائز باب آخر (2/139)، وانظر صحيح الترمذي للألباني (1/298).
(4) المصدر السابق، وانظر أحكام الجنائز للألباني ص (137-138).(1/62)
أخرج النسائي من حديث أوس بن أوس(1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنَّ أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه السلام وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة. فأكثروا عليَّ من الصلاة، فإنَّ صلاتكم معروضة عليَّ. قالوا: يا رسول الله وكيف تُعْرض صلاتُنا عليك وقد أرمت؟ أي يقولون قد بليت. قال: إنَّ الله عز وجل قد حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم السلام}(2). قال ابن كثير: (وقد صححه بعض الأئمة)(3).
الباب الثاني
خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة
وفيه فصلان:
الفصل الأول: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة قبل وجوده.
الفصل الثاني: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة في حياته البرزخية.
الفصل الأول: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة قبل وجوده:
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه أول النبيين في الخلق وأنه مرسل إلى الأنبياء وأممهم.
المبحث الثاني: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه مخلوق من نور الله تعالى وأن الوجود كله مخلوق من نوره صلى الله عليه وسلم.
المبحث الثالث: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بتوسل الأنبياء به قبل وجوده.
المبحث الرابع: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة باستفتاح أهل الكتاب بحقه قبل وجوده.
المبحث الأول: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه أول النبيين في الخلق وأنه مرسل إلى جميع الأنبياء وأممهم:
__________
(1) الثقفي روى له أصحاب السنن الأربعة من رواية الشاميين عنه. لم يُذكر له تاريخ وفاة، انظر الإصابة (1/127)، رقم (313)؛ الاستيعاب لابن عبد البر (1/223) بهامش الإصابة.
(2) ن: ب. إكثار الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة (3/75).
(3) الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص (315).(1/63)
يعتقد أئمة الغلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم خُلق قبل الأنبياء، وأنَّه نُبي منذ ذلك الوقت، وأنه مرسل إلى جميع الأنبياء وأممهم، فممن قال بذلك منهم: ابن عربي(1)، وأبو الحسن السُبكي(2)، والسيوطي(3)، ومحمد بن عبد الباري الأهدل(4). واستدلوا لذلك بالأدلة الآتية:
الأول: أخرج أبو نعيم في الدلائل بسنده من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوح)) [الأحزاب: 7] الآية.
قال: {كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث}(5).
وبالنظر إلى سند هذا الحديث نجده مُعلاً بالعلل الآتية:
أولاً: عنعنة الحسن البصري، وهو في المرتبة الثالثة من مراتب المدلسين(6).
ثانياً: عنعنة قتادة بن دعامة السدوسي، وهو مشهور بالتدليس(7).
ثالثاً: في سنده سعيد بن بشير: قال فيه يحيى بن معين(8): (ليس بشيء)(9).
وقال النسائي: (ضعيف)(10).
وقال البخاري: (يتكلمون في حفظه)(11).
__________
(1) الفتوحات المكية (1/134-135)، دار صادر.
(2) السُّبكي: التعظيم والمنَّة نقلاً عن الخصائص الكبرى للسيوطي (1/8-9).
(3) الخصائص الكبرى (1/7).
(4) الأهدل: شرح أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب للسيوطي ص (19).
(5) الأصبهاني: دلائل النبوة ص (11-12).
(6) وهي مرتبة من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع، ومنهم من رد حديثهم مطلقاً، ومنهم من قبلهم كأبي الزبير المكي. انظر: ابن حجر: تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس ص (23)، (56).
(7) المرجع السابق ص (102).
(8) الإمام الفرد سيد الحفاظ يحيى بن معين المري مولاهم البغدادي، أبو زكريا ت. سنة 233هـ. انظر: تذكرة الحفاظ (4/419).
(9) يحيى بن معين وكتابه التاريخ (2/196).
(10) الضعفاء والمتروكون ص (120).
(11) التاريخ الكبير (3/465).(1/64)
وقال ابن حبَّان(1): (كان رديء الحفظ فاحش الخطأ يروي عن قتادة ما لا يُتابع عليه، وعن عمرو بن دينار ما ليس من حديثه)(2).
وقال الذهبي(3) وابن حجر: (قال محمد بن نمير: سعيد بن بشير يروي عن قتادة المنكرات)(4).
وأورد الذهبي في ترجمة سعيد بن بشير هذا الحديث: {كنت أول النبيين في الخلق..} وقال: هذا من غرائبه)(5).
وعليه فالحديث ضعيف لا تقوم به حجة. وممن قال بضعفه الألباني(6).
دليلهم الثاني:
__________
(1) الإمام الحافظ العلاَّمة أبو حاتم محمد بن حبَّان البُستي، صاحب التصانيف: صنَّف المسند الصحيح والتاريخ وكتاب الضعفاء، مات سنة 354هـ. انظر: التذكرة (3/920-922).
(2) كتاب المجروحين (1/315).
(3) محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني الأصل ثم الدمشقي شمس الدين الذهبي. مهر في فن الحديث وجمع التصانيف المفيدة الكثيرة حتى كان أكثر أهل عصره تصنيفاً وجمع تاريخ الإسلام فأربى فيه على من تقدم بتحرير أخبار المحدثين خصوصاً. ت. سنة 748هـ. انظر الدرر الكامنة لابن حجر (3/336).
(4) الذهبي: ميزان الاعتدال (2/129)، ابن حجر: تهذيب التهذيب (4/9).
(5) ميزان الاعتدال (2/129).
(6) السلسلة الضعيفة (2/115).(1/65)
حديث ميسرة الفجر رضي الله عنه قال: قلت: {يا رسول الله متى كُتبت نبياً؟ قال: وآدم عليه السلام بين الروح والجسد}(1)، وحديث العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إني عبد الله لخاتم النبيين، وآدم عليه السلام لمنجدل في طينته..} الحديث(2). هذان الحديثان لا يدلان على مراد القوم، بل يدلان على الكتابة أي أنه صلى الله عليه وسلم كُتِبَ نبياً وآدم بين الروح والجسد، وقد جاء في الحديث الأول التصريح بذلك وهو موافق لحديث ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيحين قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، قال: {إنَّ أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثمَّ يكون علقة مثل ذلك، ثمَّ يكون مضغة مثل ذلك، ثمَّ يبعث الله ملكاً يُؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وسعيد أو شقي، ثمَّ يُنفخ فيه الروح...} الحديث(3). فقد ثبت في الحديث أنَّ كتابة العمل، والرزق، والسعادة أو الشقاوة تكون قبل نفخ الروح في الجنين.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (5/59).
(2) المسند (4/127).
(3) خ: ك. بدء الخلق، ب. ذكر الملائكة (6/303) مع الفتح؛ م: ك. القدر، ب، كيفية خلق الآدمي في بطن أمه (16/190-192) مع النووي.(1/66)
قال شيخ الإسلام(1): (فناسب هذا أنه بين خلق آدم عليه السلام ونفخ الروح فيه تُكتب أحواله، ومن أعظمها كتابة سيد ولده صلى الله عليه وسلم)(2). وعليه فإنما يدل الحديثان السابقان على أنه صلى الله عليه وسلم كُتب نبياً وآدم عليه السلام ما زال بين الروح والجسد. إلا أن القوم أبوا إلاَّ أن يلووا أعناق النصوص ليًّا؛ لكي تتفق مع أهوائهم فأتوا بأمور حيَّرت عقولَهم قبل الآخرين.
__________
(1) الشيخ الإمام العلاَّمة الحافظ الناقد الفقيه المجتهد المفسر البارع شيخ الإسلام علم الزًّهاد، ونادرة العصر تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم الحرَّاني، أحد الأعلام: كان من بحور العلم، ومن الأذكياء المعدودين، والزُّهاد الأفراد، والشجعان الكبار والكرماء الأجواد، أثنى عليه الموافق والمخالف، وسارت بتصانيفه الرُّكبان، توفي سنة 728هـ. انظر: التذكرة (4/1496-1497)، وذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (4/387)، والبداية والنهاية (11/141).
(2) الرد على البكري، ص (9).(1/67)
يقول السُّبكي(1) في كتابه التعظيم والمِنَّة في: ((لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ)) [آل عمران: 81] (في هذه الآية من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيم قدره العلي ما لا يخفى، وفيه مع ذلك أنه على تقدير مجيئه صلى الله عليه وسلم في زمانهم(2) يكون الأمر مرسلاً إليهم؛ فتكون نبوته ورسالته عامة لجميع الخلق من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء وأممهم كلهم من أمته، ويكون قوله: {بُعثت إلى الناس كافة} لا يختص به الناس من زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضاً، ويتبين بذلك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: {كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد}. وأنَّ من فسره بعلم الله بأنه سيصير نبياً لم يصل إلى هذا المعنى؛ لأنَّ علم الله محيط بجميع الأشياء، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة في ذلك الوقت أمر ينبغي أن يفهم منه أنه أمر ثابت له في ذلك الوقت؛ ولهذا رأى آدم اسمه مكتوباً على العرش (محمد رسول الله) فلا بُدَّ أن يكون ذلك معنى ثابت في ذلك الوقت، وإذا كان المراد بذلك مجرد العلم بما سيصير في المستقبل لم يكن له خصوصية بأنه نبي وآدم بين الروح والجسد؛ لأنَّ جميع الأنبياء يعلم الله نبوُتهم في ذلك الوقت وقبله، فلا بُدَّ من خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم، لأجلها أخبر بهذا الخبر
__________
(1) أبو الحسن علي بن عبد الكافي بن السُّبكي المصري الشافعي الصوفي الأشعري. ولي القضاء بدمشق نحواً من سبع عشرة سنة، ثم نزل عن ذلك لولده تاج الدين عبد الوهاب، وقد سمع الحديث في شبيبته بديار مصر، ورحل إلى الشام، وقرأ بنفسه وكتب، وخرَّج، وله تصانيف فيما يمس العقيدة يجب الحذر منه، وكان كثير التلاوة، قال عنه تلميذه جمال الدين الأسنوي صاحب طبقات الشافعية (إلا أنه يُعاب عليه حرصه على جمع الوظائف له ولأهله). توفي سنة 756هـ. انظر: طبقات الشافعية للأسنوي (2/76)، والبداية والنهاية (14/264).
(2) أي الأنبياء وأممهم.(1/68)
إعلاماً لأمته، ليعرفوا قدره عند الله تعالى فيحصل لهم الخير بذلك.
فإن قلت أريد أن أعرف ذلك القدر الزائد. فإنَّ النبوة وصف لا بُدَّ أن يكون الموصوف بها موجوداً، وإنما يكون بعد الأربعين سنة أيضاً فكيف يوصف به قبل وجوده وقبل إرساله، وإن صح ذلك فغيره كذلك؟! قلتُ: قد جاء أنَّ الله خلق الأرواح قبل الأجساد، فقد تكون الإشارة بقوله كنت نبياً إلى روحه الشريفة، أو إلى حقيقته والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها، وإنما يعلمها خالقها، ومن أمده الله بنور إلهي، ثم إن تلك الحقائق يؤتي الله كل حقيقة منها ما يشاء في الوقت الذي يشاء، فحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم قد تكون من قبل خلق آدم، آتاه الله ذلك الوصف بأن خلقها متهيئة لذلك، وأفاض عليها من ذلك الوقت فصار نبياً، وكتب اسمه على العرش، وأخبر عنه بالرسالة ليعلم ملائكته وغيرهم كرامته عنده، فحقيقته موجودة من ذلك الوقت وإن تأخر جسده الشريف المتصف بها، واتصاف حقيقته بالأوصاف الشريفة المفاضة من الحضرة الإلهية. وإنما يتأخر البعث والتبليغ وكل ماله من جهة الله تعالى، ومن جهة تأهل ذاته الشريفة وحقيقته معجل لا تأخير فيه، وكذلك استنباؤه، وإيتاؤه الكتاب والحكم والنبوة، وإنما المتأخر تكونه وتنقله إلى أن ظهر صلى الله عليه وسلم. وغيره من أهل الكرامة قد تكون إفاضة الله تعالى له تلك الكرامة بعد وجوده بمدة كما يشاء الله تعالى... إلى أن قال: فعرفنا بالخبر الصحيح حصول ذلك الكمال من قبل خلق آدم لنبينا صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه، وأنه أعطاه النبوة من ذلك الوقت ثم أخذ المواثيق له على الأنبياء، ليعلموا أنه المقدم عليهم، وأنه نبيهم ورسولهم)(1).
أقول وبالله التوفيق:
__________
(1) السبكي: التعظيم والمنة نقلاً عن الخصائص الكبرى للسيوطي (1/8-10).(1/69)
أولاً: بنى السُّبكي كل ما قاله على التقدير والاحتمال وأطلق لخياله العنان فأصَّل ثمَّ فرَّع من تلك التقديرات والاحتمالات أموراً جعلها من المسلمات، والحقائق الثابتات الواضحات، ويظهر ذلك جلياً في قوله: (إنه على تقدير مجيئه صلى الله عليه وسلم في زمانهم... يكون الأمر مرسلاً إليهم) فمفهوم كلام السُّبكي أنه إذا لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم في زمانهم لا يكون مرسلاً إليهم وهذا هو الواقع الذي هدم كل ما بناه السبكي.
ثانياً: استدل السبكي بحديث: {كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد} وكرر الاستدلال بلفظة (كنت) في أكثر من موضع والصواب ما في رواية ميسرة الفجر (كُتبت).(1/70)
ثالثاً: وأمَّا الاعتراض الذي أورده السبكي على ما قاله (فإن النبوة وصف لا بُدَّ أن يكون الموصوف بها موجوداً...). فيقال فيه: لا يُشترط للموصوف بالنبوة أن يكون موجوداً قبل زمان وجوده؛ لأنَّه لا يترتب على هذا الوصف أحكام كما يترتب عليها بعد وجوده. وأما السبكي فقد رتب على هذا الوصف أحكاماً منها: إرسال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأنبياء وأممهم قبل أن يوجد صلى الله عليه وسلم؛ لذا احتاج السبكي أن يتكلف إيجاد معنى يقبله العقل الصحيح كيف يكون مرسلاً إليهم مع تأخر وجوده صلى الله عليه وسلم عنهم؟ فقال مرة: (فقد تكون الإشارة بقوله كنت نبياً إلى روحه الشريفة) أو (إلى حقيقته صلى الله عليه وسلم والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها) واستدل للأول بحديث: {إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد..}، وهذا الحديث حكم عليه ابن حجر الهيتمي(1) بأنه باطل لا أصل له(2). وأمَّا الثاني فقد أحال فيه إلى أمر تقصر العقول عن معرفته، وهي الحيدة حجة المفاليس الذين عجزوا عن الإتيان بدليل سمعي وعقلي صحيح.
والسبكي مقلد في هذا الفهم لشيخه الأكبر وكبريته الأحمر فيلسوف القوم ابن عربي(3) الذي أورد في فتوحاته المكية: دليلهم الثالث: {كنت نبياً وآدم بين الماء والطين}(4).
يقول ابن عربي في تعليقه على ما أورد: (يُريد على علم بذلك فأخبره بمرتبته وهو روح قبل إيجاد الأجسام الإنسانية).
__________
(1) أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي فقيه باحث، مولده في محلة أبي الهيتم من إقليم الغربية بمصر، وهو معروف بتأثره بالسبكي ودفاعه عن القوم، له مصنفات منها الجوهر المنظم في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والفتاوى الحديثية ت. 974هـ. الأعلام للزركلي (1/234).
(2) الهيتمي: الفتاوى الحديثية ص (119).
(3) انظر ترجمته وبيان مذهبه في المبحث التالي ص (114).
(4) الفتوحات المكية (1/134-135)، دار صادر.(1/71)
ومثل ذلك قوله: (إنه لمَّا خلق الله الأرواح المحصورة المدبّرة للأجسام بالزمان عند وجود حركة الفلك، لتعيين المدة المعلومة عند الله، وكان عند أول خلق الزمان بحركته خلق الروح المدبّرة(1) روح محمد صلى الله عليه وسلم، ثمَّ صدرت الأرواح عند الحركات فكان لها وجود في عالم دون عالم الشهادة وأعلمه الله بنبوته، وبشَّره بها وآدم لم يكن إلاَّ كما قال: (بين الماء والطين)، وانتهى الزمان بالاسم الباطن في حق محمد صلى الله عليه وسلم إلى وجود اسمه وارتباط الروح به انتقل حكم الزمان في جريانه إلى الاسم الظاهر فظهر محمد صلى الله عليه وسلم بذاته جسماً وروحاً)(2).
__________
(1) وهذه الروح تُسمى عند الفلاسفة القدماء بالعقل الأول الذي صدر عن الله تعالى بزعمهم عن طريق نظرية فيض الموجودات عن الواحد، ثم صدرت عن هذا العقل بقية الموجودات، انظر تفاصيل ذلك في المبحث التالي.
(2) المرجع السابق (1/143).(1/72)
هذا الحديث الذي ذكره ابن عربي ولم يذكر له إسناداً قال فيه ابن تيمية: في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والفتاوى الحديثية ت 9740هـ. الأعلام للزركلي (1/234) (يروي كثير من الجُهَّال والاتحادية(1)، وغيرهم من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كنت نبياً وآدم بين الماء والطين} فهذا مما لا أصل له من نقل ولا عقل، فإنَّ أحداً من المحدثين لم يذكره، ومعناه باطل: فإنَّ آدم عليه السلام لم يكن بين الماء والطين قط؛ فإنَّ الطين ماء وتراب، وإنما كان بين الروح والجسد، ثمَّ هؤلاء الضلال يتوهمون أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان حينئذٍ موجوداً، وأنَّ ذاته خُلقت قبل الذوات، ويستشهدون على ذلك بأحاديث مفتراة)(2). ومن جملة هذه الأحاديث المفتراة الحديث المنسوب إلى جابر رضي الله عنه: {إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره...}.
يقول شارح أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب: (ومعنى كونه صلى الله عليه وسلم (أولهم خلقاً) أنه جعله حقيقة تقصر عقولنا عن معرفتها، وأفاض عليه النبوة من ذلك الوقت.. إلى قوله: وشاهد ذلك حديث عبد الرزاق بسنده عن جابر {أنَّ الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره...}(3).
والكلام على هذا الحديث ومناقشتهم فيه هو موضوع المبحث التالي.
المبحث الثاني: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه مخلوق من نور الله تعالى وأن الوجود كله مخلوق من نوره صلى الله عليه وسلم:
يعتقد الغلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم مخلوق من نور، وأن هذا النور مخلوق من نور الله جلَّ وعلا.
__________
(1) الذين قالوا باتحاد ذات العبد بذات الرب تعالى فتصير ذاتاً واحدة. انظر: الجرجاني: التعريفات ص (8-9)؛ د. الحفني: معجم مصطلحات الصوفية ص (9).
(2) الرد على البكري ص (8-9).
(3) محمد عبد الباري الأهدل؛ فتح الكريم القريب ص (19).(1/73)
فممن قال بذلك منهم: ابن عربي الحاتمي(1) وعبد الكريم الجيلي(2) وأبو الحسن بن عبد الله البكري(3) والبريلوي(4)، ومحمد عثمان عبده البرهاني(5) وغيرهم.
ومناقشة هؤلاء الغلاة فيما يعتقدونه في مطلبين:
الأول: ذكر دليلهم والكلام عليه من جهة الثبوت.
الثاني: المفاسد العقدية المترتبة عليه.
المطلب الأول: ذكر دليلهم والكلام عليه من جهة الثبوت:
__________
(1) الفتوحات المكية (1/119) دار صادر.
(2) الإنسان الكامل (2/46).
(3) البكري: الأنوار ومصباح السرور والأفكار وذكر نور محمد المصطفى المختار ص (4) وما بعدها.
(4) أحمد رضا البريلوي، مؤسس الطريقة البريلوية بباكستان. انظر: رسالة (صلاة صفا) المندرجة في مجموعة رسائل (1/33)، نقلاً عن البريلوية عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ص (17).
(5) شيخ الطريقة البُرهانية الدسوقية الشاذلية بالسودان ومصر، انظر: تبرئة الذمة له ص (9).(1/74)
استدل الغلاة بالحديث المنسوب إلى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما في مواضع متفرقة من كتبهم، ولكن أشمل رواية لهذا الحديث وجدتها عند شيخ الطريقة البرهانية في كتابه تبرئة الذمة حيث يقول: (روى عبد الرزاق(1) بسنده في كتابه (جنة الخلد) عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قلت: {يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء؟ قال: يا جابر إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار، ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جن ولا إنس، فلما أراد الله أن يخلق الخلق قَسّم ذلك النور أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول السموات، ومن الجزء الثاني الأراضين، ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الجزء الرابع إلى أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم، وهي المعرفة بالله، ومن الثالث نور أنسهم، وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم نظر إليه فترشح النور عرقاً، فتقطرت منه مائة ألف قطرة وعشرين ألفاً وأربعة آلاف قطرة، فخلق الله من كل قطرة روح نبي رسول، ثم تنفست أرواح الأنبياء فخلق الله من أنفاسهم أرواح الأولياء والسعداء والشهداء والمطيعين من المؤمنين إلى يوم القيامة، فالعرش والكرسي من نوري، والكروبيون من نوري، والروحانيون من نوري، والجنة وما فيها من النعيم من نوري والشمس والكواكب من نوري، والعقل والعلم والتوفيق من نوري، وأرواح الأنبياء والرسل من نوري، والسعداء والصالحون من نتائج نوري، ثم خلق الله آدم من الأرض
__________
(1) ابن همَّام الصنعاني.(1/75)
ورَّكب فيه النور وهو الجزء الرابع، ثم انتقل منه إلى شيث وكان ينتقل من طاهر إلى طيب إلى أن وصل إلى صلب عبد الله ومنه إلى وجه أمي آمنة ثم أخرجني إلى الدنيا فجعلني سيد المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين. هكذا بدأ خلق نبيك يا جابر}. حديث صحيح)(1).
أقول وبالله التوفيق:
لقد حاولت أن أسير في بحثي هذا في نقد الروايات الحديثية على منهج المحدثين قدر الجهد، والطاقة: فأذكر أقوال أهل العلم في نقد السند ثم المتن. أمَّا الحديث موضوع الدراسة فكل الذين ذكروه لم يذكروا له سنداً، وإنما اكتفوا بنسبته إلى عبد الرزاق الصنعاني فقط دون ذكر السند ولا الكتاب الذي ورد فيه، عدا شيخ الطريقة البرهانية فقد أحال إلى كتاب (جنة الخلد) ونسبه إلى عبد الرزاق، وقد بحثت عن هذا الكتاب لعلي أطلع على سند الحديث، ولكن دون جدوى فلم أعثر له على أثر، بل لم أقف على من نسب الكتاب لعبد الرزاق، وكذلك بحثت في كتب عبد الرزاق الأخرى فلم أجد له أثراً، وقد بحث غيري أيضاً عن هذا الحديث المزعوم فلم يعثر عليه.
يقول عدَّاب الحمش: (نسبه العجلوني إلى عبد الرزاق وقد كنت أرجح أنه في تفسيره لأنني اجتهدت فلم أقف عليه في المصنف... إلى أن قال: ثم ترجح عندي أنه من غرائب ابن عربي وابن حمويه والبكري)(2). بل قد شهد شاهد من القوم على براءة عبد الرزاق من هذا الحديث.
__________
(1) تبرئة الذمة ص (9-10).
(2) النور المحمدي بين هدى الكتاب المبين وغلو الغالين ص (46).(1/76)
يقول عبد الله بن الصديق الغماري(1) معلقاً على قول السيوطي في الحاوي على هذا الحديث: (إنه غير ثابت) (وهو تساهل قبيح بل الحديث ظاهر الوضع، واضح النكارة، وفيه نَفَسٌ صوفي... إلى أن قال: والعجب أن السيوطي عزاه إلى عبد الرزاق، مع أنه لا يوجد في (مصنفه) ولا (تفسيره) ولا (جامعه) وأعجب من هذا أن بعض الشناقطة صدَّق هذا العزو المخطىء، فرّكب له إسناداً من عبد الرزاق إلى جابر، ويعلم الله أن هذا كله لا أصل له. فجابر رضي الله عنه بريء من رواية هذا الحديث، وعبد الرزاق لم يسمع به، وأول من شهَّر هذا الحديث ابن عربي الحاتمي، فلا أدري عمن تلقاه وهو ثقة(2)، فلا بُدَّ أن أحد المتصوفة المتزهدين وضعه، ومثل هذا الحديث ما روي من طريق أهل البيت عن علي عليه السلام مرفوعاً: {كنت نوراً بين يدي ربي قبل أن يُخلق آدم بأربعة عشر ألف عام} وحديث: {لولاك ما خلقت الأفلاك} وكتب المولد النبوي ملأى بهذه الموضوعات، وأصبحت عقيدة راسخة في أذهان العامة)(3).
ومما يشهد على وضع الحديث أن الغلاة لم يعزوه لغير عبد الرزاق مما يؤكد خلو دواوين السنة المعتبرة عند عامة المسلمين منه كالصحاح والسنن والمسانيد، ومن القرائن التي يعرف بها الوضع في الحديث أن لا يتداوله علماء الحديث.
المطلب الثاني: المفاسد العقدية المترتبة على هذا الحديث:
المفسدة الأولى: اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم خُلق من نور.
وهذا باطل من وجهين:
__________
(1) له مشاركات في علوم الحديث، قال عنه محمد بن علوي المالكي: (العلاَّمة الفقيه محدث المغرب، بل محدث الدنيا). انظر: مفاهيم يجب أن تُصحح ص (19).
(2) ثقة عند الصوفية فقط.
(3) ملحق عن قصيدة البردة كتبه عبد الله الصديق الغماري بذيل كتاب البوصيري مادح الرسول صلى الله عليه وسلم. ص (75) تأليف: عبد العال الحمامصي.(1/77)
الوجه الأول: إن في إثبات هذا المعنى الذي زعموه نفياً لبشرية الرسول صلى الله عليه وسلم التي أمره الله تعالى أن يعلنها في الملأ، قال تعالى: ((قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولاً)) [الإسراء:93]. والبشر مخلوقون من تراب لا من نور قال تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ)) [الروم:20]، وقال تعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ..)) [فاطر: 11] الآية، والآيات كثيرة في هذا المعنى. فربُّ العزة والجلال يخبرنا أن رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بشر، وأن البشر مخلوقون من تراب، فهذا خبر عام يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من بني آدم عليه السلام. فتخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه خلق من نور يحتاج إلى مخصص، ولا مخصص. وأمَّا الحديث المنسوب إلى عبد الرزاق فلا يجوز التخصيص به أصلاً؛ لأنه ليس حديثاً صحيحاً؛ لما سبق ذكره(1).
قال ابن تيمية: (والنبي صلى الله عليه وسلم خُلق مما يخُلق منه البشر، ولم يُخلق أحد من البشر من نور، بل قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله خلق الملائكة من نور، وخلق إبليس من نار، وخلق آدم مما وصف لكم}، وليس تفضيل بعض المخلوقات على بعض باعتبار ما خلقت منه فقط، بل قد يخلق المؤمن من كافر والكافر من مؤمن، كابن نوح منه، وكإبراهيم من آزر، وآدم خلقه الله من طين، فلما سوّاه ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وفضله عليهم بتعليمه أسماء كل شيء وبأن خلقه بيديه، وبغير ذلك(2). فهو وصالحو ذريته أفضل من الملائكة وإن كان هؤلاء مخلوقين من طين وهؤلاء من نور)(3).
__________
(1) انظر: ص (95).
(2) أي من الفضائل.
(3) مجموع الفتاوى (11/94-95).(1/78)
الوجه الثاني: إن الذين قالوا بخلق النبي صلى الله عليه وسلم من نور، غفلوا عن الآية من أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بشر، لا قدرة له إلا قدرة البشر، وإنما يؤيده الله تعالى بالوحي، وبنصره كيف يشاء ربنا ويرضى. وذلك لمّا طلب منه المشركون أموراً ليست في قدرة البشر على سبيل التعجيز، أمره ربه جل وعلا أن يقول: ((قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولًا)) [الإسراء:93] وإنما الله وحده هو المتصرف في جميع الأمور إن شاء أتاكم بما سألتم عنه وإن شاء منع، وهذا دليل واضح على أن ما جاء به صلى الله عليه وسلم من آيات بينات، ودلائل واضحات ليست في قدرة البشر إنما هو أمر من عند الله جل وعلا.
المفسدة العقدية الثانية: اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم مخلوق من نور الله تعالى.
جاء في حديث جابر المزعوم: {أن الله تعالى خلق نور نبيه من نوره}.(1/79)
قال تعالى: ((وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)) [النور:16] نزلت هذه الآية الكريمة في عتاب المؤمنين لمّا تعاطى بعضهم حادثة الإفك على سبيل الحكاية ولم ينكروا ذلك وينزهوا الله تعالى أن يحدث مثل هذا من زوج نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان(1). فيجب على كل مسلم أن يُنزّه الله تبارك وتعالى مما نسبه إليه هؤلاء الغلاة من خلق نبيه صلى الله عليه وسلم من نوره سبحانه. وإنما جاؤوا به افتراءً للكذب على الله، قال سبحانه: ((وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ)) [يونس:60]، وقال: ((إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)) [يونس:69]، وقال: ((قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [يونس:68] فالمسلم لا ينسب شيئاً إلى الله تعالى أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلا وعنده فيه من الله برهان، وقد ذم الله تعالى أقواماً نسبوا إليه القول والفعل من غير برهان منه سبحانه، قال تعالى: ((وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ)) [النحل:116]، وقال تعالى: ((مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
__________
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (12/136).(1/80)
وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ)) [المائدة:103].
ألا يعي هؤلاء الغلاة ما يخرج من رؤوسهم ((مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا)) [الكهف:5].
ويترتب على اعتقاد النبي صلى الله عليه وسلم مخلوق من نور الله تعالى: القول بوحدة الوجود والاتحاد بالله تعالى.
فالنبي صلى الله عليه وسلم عند أئمة الصوفية خُلق من نور الله تعالى، ثم خُلق من نور النبي صلى الله عليه وسلم بقية المخلوقات. وهذا الذي ذهبوا إليه من خلق العالم أو صدوره عن ذات الله تعالى هو الشق الأول الذي يفسر لنا ما ذهب إليه هؤلاء الغلاة من القول بوحدة الوجود(1)، والفناء(2) أو الاتحاد بالله تعالى.
يقول عارفهم ابن عربي: (فلما أراد -الله- وجود العالم وبدأه على حد علمه ما علمه بنفسه انفعل عن تلك الإرادة المقدسة بضرب تجل من تجليات التنزيه إلى الحقيقة الكلية، انفعل عنها حقيقة تُسمى الهباء وهي بمنزلة طرح البناء الجص ليفتح فيها ما شاء من الأشكال والصور، وهذا أول موجود في العالم... ثم إنه سبحانه تجلى بنوره إلى ذلك الهباء... فلم يكن أقرب إليه قبولاً في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم المسماة بالعقل(3)، فكان سيد العالم بأسره وأول ظاهر في الوجود، فكان وجوده من ذلك النور الإلهي)(4).
__________
(1) مذهب يقول: إنَّ الله تعالى والعالم حقيقة واحدة. وعُرفت وحدة الوجود في التاريخ القديم، والمتوسط، وأوضح ما تكون عند الرواقيين وأفلوطين من اليونان، وعند ابن عربي بين المسلمين، ولها مؤيدون في التاريخ الحديث. انظر: المعجم الفلسفي ص (212).
(2) تبديل الصفات البشرية بالصفات الإلهية دون الذات، كلما ارتفعت صفة قامت صفة إلهية مقامها. انظر معجم المصطلحات الصوفية ص (207).
(3) قارن ص (233).
(4) الفتوحات المكية (1/911) دار صادر.(1/81)
ويقول عارفهم عبد الكريم الجيلي: (ولما خلق الله تعالى العالم جميعه من نور محمد صلى الله عليه وسلم كان المحل المخلوق منه إسرافيل قلب محمد صلى الله عليه وسلم)(1). ويقول أيضاً: (... ثم إن العقل الأول المنسوب إلى محمد صلى الله عليه وسلم خلق الله جبريل عليه السلام منه في الأزل، فكان محمد صلى الله عليه وسلم أبا جبريل وأصلاً لجميع العالم)(2).
وقال أيضاً: (اعلم أن الله تعالى لما خلق النفس المحمدية من ذاته، وذات الحق جامعة للضدين، خلق الملائكة العالين من حيث صفات الجمال والنور والهدى من نفس محمد صلى الله عليه وسلم)(3).
فَخَلْقُ العالَمِ أو صدوره عن ذات الله تعالى هو الشق الأول الذي يفسر لنا ما ذهب إليه هؤلاء الغلاة من القول بوحدة الوجود أو الاتحاد بالله تعالى، وبيان ذلك يكون بعد إثبات أن ما ذهبوا إليه لم يكن وليد أفكارهم، وإنما كان مستمداً من مصادر فلسفية قديمة تأثروا بها ونقلوها إلى المسلمين، وما زال تأثيرها إلى وقتنا الحاضر.
المصدر الهرمسي:
ظهرت هذه الفلسفة في القرن الثاني الميلادي في الإسكندرية، وتنسب إلى هرمس الإسكندري(4). وآراء هذه الفلسفة مبسوطة في كتب مصرية، ويونانية لا يعرف تاريخها، ولا أصلها على وجه اليقين والدقة(5).
__________
(1) الإنسان الكامل (2/26).
(2) المرجع السابق (2/27).
(3) المرجع السابق (2/61).
(4) يطلق اليونانيون اسمه على الإله المصري (تحوت). المعجم الفلسفي ص (307).
(5) انظر: المرجع السابق ص. ن.(1/82)
يقول الدكتور نجيب بلدي: (فكتابات هذه الفلسفة مزيج من الأفلاطونية، والحكمة المصرية، وبعض الأساطير اليونانية وبعض أجزائها في الفلك والتنجيم)؛ ولذلك يُعتقد (أن كتَّاب هذه الفلسفة كانوا إما كهنة مصريين أتقنوا اليونانية أو يونانيين متمصريين تعلموا صياغة آرائهم في قالب مصري شرقي)(1).
ويقول الدكتور إبراهيم هلال: (فالاتجاه الذي تسير فيه الهرمسية هو اتجاه القرن الميلادي الثاني كله، وهو العودة إلى القديم، والاستعانة بالسحر والتنجيم والكيمياء في الوصول إلى المعرفة أو الكشف)(2).
فنجدهم يعتقدون أنهم إخوة للهواء، والشمس، والقمر، وأنهم انفصلوا عنهم، وأن السماء منبع وجودهم. فنجد في المؤلفات الهرمسية قولهم: (أيتها السماء منبع وجودنا، أيها الأثير، أيها الهواء... أيها النور الذي لا ينطفىء للشمس والقمر، أيها الإخوة الأشقاء، أنتم انفصلنا عنهم، وتحملنا البؤس والشقاء بانفصالنا عنهم، وبالحلول في هذه الثياب الرذلة. إننا نناشدكم ما الإثم الذي ارتكبناه؟ ما هذا الإثم الذي استحق عذابنا الحاضر)(3).
يقول الدكتور نجيب بلدي: (فيصفون ميلاد إنسان سماوي كامل مشابه من جميع الوجوه لأبيه السماوي، ومتمتع بجميع مزايا الإله). ثم نجد تلميذ الهرامسة يؤمن بتلك الأسطورة، ويتعرف عندئذ عدم تعرض النفس للانحلال وخلودها)(4).
__________
(1) تمهيد لدراسة تاريخ مدرسة الإسكندرية وفلسفتها للدكتور نجيب بلدي ص (89)، دار المعارف سنة 1962م، نقلاً عن نظرية المعرفة الإشراقية ص (16).
(2) نظرية المعرفة الإشراقية وأثرها في النظرة إلى النبوة (1/16).
(3) المؤلفات الهرمسية نشر وترجمة فستوجير، طبعة باريس سنة 1945م. انظر: الدكتور هلال، نظرية المعرفة الإشراقية (1/19).
(4) تمهيد لدراسة تاريخ الإسكندرية ص (101)، نقلاً عن المرجع السابق.(1/83)
يقول الدكتور هلال: (ومن هنا رأينا هرمس يعمل على الوصول إلى الطبيعة الكامل أو (الأنا) الجزء السماوي المكمل لروحه الذي انفصل عنه ونزل إلى الأرض)(1). يقول الهرامسة: (اعمل على أن تصبح أكبر فأكبر حتى يصبح مقدارك لا متناهياً، وذلك بقفزة تحررك من جميع الحدود المكانية والزمانية، واعتبر أن لا شيء ممتنع عليك. اجمع في نفسك تأثرات جميع الكائنات: النار والماء، واليابس والرطب، تصور أنك في كل مكان على الأرض، وعلى البحر وفي السماء... تمثل الإله في كل شيء وفي كل وقت، حتى في اللحظة التي لا تتوقعه عندها... فلا يوجد شيء إلا كان هو)(2).
ونجد أن ابن سبعين(3) من الذين تأثروا بالفكر الهرمسي وعمل على نشره في أوساط المسلمين. حيث يقول في مقدمة كتابه بُدُّ العارف: (أما بعد فقد استخرت الله العظيم على إفشاء الحكمة التي رمزها هرامسة الدهور الأولية)(4).
__________
(1) نظرية المعرفة الإشراقية (1/19).
(2) تمهيد لتاريخ الإسكندرية ص (114) نقلاً عن المرجع السابق (1/114).
(3) عبد الحق بن إبراهيم بن محمد الرقوطي. نسبة إلى رقوطة بلدة قريبة من مرسية، الصوفي، ولد سنة 614هـ، واشتغل بعلم الأوائل والفلسفة، توفي سنة 669هـ. انظر البداية والنهاية (13/273).
(4) ص (29)، ط. سنة 1978م.(1/84)
ويقول في ترتيب الموجودات: (إذا سُئلت عن الموجودات كم هي وكيف ترتبت عن الأول الحق وما هو المتقدم منها والمتأخر، فقل له الموجودات نوعان: كليات وجزئيات، فالكليات منها تسعة مراتب كتسعة آحاد، أولها الله عز وجل فاعل الكل وخالق كل شيء ثم العقل الكلي، ثم النفس ثم الطبيعة ثم الهيولى ثم الجسم المطلق ثم الفلك ثم الأركان ثم المولدات فهذه الكليات. وأنت تنزل بالتحليل من الأعلى إلى الأنقص فالأنقص. والجزئيات تبتدىء من أنقص الحالات ثم ترتقي أولاً فأولاً إلى أرفعها وأعظمها. مثال ذلك: أن تنتقل من الجماد إلى النامي إلى الحساس إلى العاقل إلى الحليم إلى النبي إلى الملك إلى الله سبحانه)(1).
ويقول: (لا تكتمل للسعيد سعادته ولا جوهره إلا بأن يعقل السبب الأول الذي منه انبعثت الموجودات. إلا أنه كل موجود يتعدى مرتبة ما من مرتبته لا يمكنه أن يعقلها إلا أن يعقل ما بينه وبينها من الموجودات التالية له بالمرتبة، ويرى أن الموجود الثاني لا يحتاج في تكميل جوهره إلى واسطة، والموجود الثالث لا يعقل عن الأول إلا بتوسط الثاني... وكذلك كل موجود من هذه الموجودات الناطقة يحتاج إلى أن يعقل ما فوقه وما دونه ولذلك احتاج في كمال تجوهره إلى أن يعقل جميع الموجودات كلها على التمام. والعلة في ذلك أن مرتبته من الوجود الفائض عن السبب الأول يلي آخر المراتب)(2).
ويقول في الصوفي: (الصوفي هو العَالِم بالله العارف به الواصل لغاية الإنسان السعيد على الإطلاق)(3).
__________
(1) المرجع السابق ص (112).
(2) المرجع السابق ص (125).
(3) المرجع السابق ص (124).(1/85)
يقول الدكتور إبراهيم هلال: (كما أن بعض العقائد الهرمسية الخاصة بالكون، مثل العقيدة الأساسية التي تتناول التوافق بين الكون الصغير (الإنسان) والكون الكبير (العالم)، يمكن أن نراها كثيراً في الكتابات الصوفية عن الكون وخاصة تلك التي كتبها (ابن عربي) مثل فصوص الحكم، وبعض فصول كتاب الفتوحات المكية. وعموماً فقد تجمعت العقائد الهرمسية الكونية في المعتقدات الصوفية بواسطة (ابن عربي)، وهذا ظاهر في كتاباته وكتابات معظم ممثلي هذه المدرسة البارزين مثل (صدر الدين القنوي، عبد الكريم الجيلي، وابن توركاه الأصفهاني، وابن أبي جهور)(1). ويُمثِّل لهذه العقائد المشتركة بين الهرامسة والمتصوفة بقوله: (ووحدة الوجود التي ظهرت عند متفلسفي الصوفية لها أصولها في هذه الفلسفة الهرمسية كذلك)(2)، فغاية التصوف عندهم: (تقارنٌ وجودي يصبح الإنسان فيه الوجود كله... ووجود يحمل جواهر الموجودات المختلفة معاً... هذه هي المساواة بالإله عندئذ لا نبقى نحن، بل نصبح هو هو)(3).
ويقول الدكتور النشار عن الكتابات الهرمسية وأثرها في العالم الإسلامي: (وقد انتشرت هذه الكتابات في العالم الإسلامي، وأثرت أثراً بالغاً في كثيرين من المفكرين الإسلاميين... وفي كتب الكثيرين من صوفية الإسلام المتفلسفة)(4).
المصدر الأفلوطيني:
__________
(1) د. إبراهيم هلال: نظرية المعرفة الإشراقية (1/28).
(2) المرجع السابق (1/30).
(3) تمهيد لتاريخ مدرسة الإسكندرية ص (113)، نقلاً عن المرجع السابق (1/30).
(4) د. علي سامي النثار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (1/179-180).(1/86)
ظهرت هذه الفلسفة في القرن الثالث الميلادي عن طريق كتابات فيلسوفها أفلوطين(1) الذي أسس مدرسة فلسفية نسبت إليه، وفي الغالب تسمى بالأفلاطونية المحدثة(2) نسبة لأفلاطون.
ويعلل الدكتور إبراهيم بن خلف التركي سبب هذه النسبة لأفلاطون بقوله: (سميت هذه المدرسة الفلسفية بالأفلاطونية الحديثة نسبة لأفلاطون؛ حيث جُددت أفكاره، ومزجت مع غيرها فأصبحت حديثة بالنسبة لأفكاره القديمة)(3).
فبجانب تجديد هذه المدرسة لأفكار أفلاطون فقد كانت امتداداً لفلسفة الهرامسة التي كانت في القرن الذي قبل قرنها خاصة إذا علمنا أن مؤسسها ولد ونشأ في الإسكندرية منشأ الفلسفة الهرمسية. والذي يهمنا من دراسة فلسفة أفلوطين هو نظرته إلى الوجود وأنه صادر (فائض) عن الأول -الله تعالى- التي كان لها تأثير كبير على أئمة الطرق الصوفية الذين ينشدون الوصول أو الفناء بذات الله تعالى.
يقول الدكتور النشار عن أثر الأفلاطونية المحدثة في العالم الإسلامي: (وهي أكثر المذاهب أثراً في العالم الإسلامي... فقد نقلت آثار الأفلاطونية المحدثة على أوسع صورة)(4).
نظرية الفيض الأفلاطونية:
__________
(1) ولد في ليقوبوليس من أعمال مصر الوسطى سنة 205م، وقصد الإسكندرية للدراسة، ثم روما وهو في الأربعين. نُقل جُزء من كتابه التُّساعات إلى اللغة السريانية وجُعل عنوانه (أثولوجيا أرسطاطاليس)، ونُقل إلى العربية بهذا العنوان فيما نُقل من الكتب الفلسفية في العصر العباسي. مات سنة 270م. انظر: د. يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية ص (286-297).
(2) مذهب أفلوطين وأتباعه، وأساسه القول: بالواحد الذي صدرت عنه الكثرة. وفيه نزعة صوفية تمزج الفلسفة بالدين مع الاعتداد بأفلاطون خاصة. انظر: المعجم الفلسفي ص (18).
(3) د. إبراهيم بن خلف التركي: التصوف وتأثره بالنصرانية والفلسفات القديمة، ص (373).
(4) د. النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (1/179).(1/87)
يقول أفلوطين في تقرير فلسفته: (الواحد المحض هو علة الأشياء كلها، وليس كشيء من الأشياء، بل هو بدء الشيء، وليس هو الأشياء، بل الأشياء كلها فيه، وليس هو في شيء من الأشياء) وذلك أن الأشياء كلها إنما انبجست منه، وبه ثباتها وقوامها وإليه مرجعها)(1).
ويقول أيضاً: (وإن كانت الأشياء كلها إنما انبجست منه، فإن الهوية الأولى، أعني هوية العقل، هي التي انبجست منه أولاً بغير توسط، ثم انبجست منه جميع هويات الأشياء التي في العالم الأعلى والعالم الأسفل بتوسط هوية العقل والعالم العقلي)(2).
__________
(1) أفلوطين: أثولوجيا أرسطاطاليس ص (134) الميمر العاشر، نقله إلى العربية عبد المسيح بن عبد الله بن ناعمة الحمصي، وأصلحه لأحمد بن المعتصم بالله: أبو يوسف بن يعقوب الكندي، وهو مطبوع ضمن كتاب أفلوطين عند العرب للدكتور عبد الرحمن بدوي من ص (3 بعد التصدير إلى صفحة 164) من الكتاب، طبعة وكالة المطبوعات - الكويت، ط. الثالثة لسنة 1977م.
(2) المرجع السابق ص. ن.(1/88)
فلما قرر أفلوطين أن جميع العالم إنما انبجس (صدر) عن الله تعالى مبدىء الأشياء التي من ضمنها النفس البشرية وكذلك بقية المخلوقات. تاقت نفسه إلى موطنها الأول وهي ذات الرب جل وعلا، وعمل جاهداً للوصول إليها. حيث يقول: (إني ربما خلوت بنفسي، وخلعت بدني جانباً، وصرت كأني جوهر بلا بدن فأكون داخلاً في ذاتي، راجعاً إليها، خارجاً عن سائر الأشياء، فأكون العلم والمعلوم جميعاً، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء والضياء ما أبقى له متعجباً بهتاً، فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الشريف الفاضل الإلهي ذو الحياة الفعالة. فلما أيقنت بذلك ترقيت بذاتي من ذلك العالم إلى العالم الإلهي... إلى قوله: (فتذكرت عند ذلك أرقليطوس(1) فإنه أمر بالطلب والبحث عن جوهر النفس والحرص على الصعود إلى ذلك العالم الشريف الأعلى، وقال: فلا ينبغي لأحد أن يفتر عن الطلب والحرص في الارتفاع إلى ذلك العالم، وإن تعب ونصب، فإن أمامه الراحة التي لا تعب بعدها ولا نصب)(2).
يقول الدكتور التفتازاني: (ويصطنع ابن سبعين في تفسيره للوجود نظرية في الفيض تشبه نظرية أفلوطين السكندري في فيض الموجودات عن الواحد والتي يفيض كل منها عن الوجود السابق عليه ويتصل به اتصال المعلول بعلته)(3).
ويقول الدكتور عفيفي في تعليقاته على الفصوص: (شرح -أي ابن عربي - فيضان الوجود عن الواحد الحق... وهذا بالضبط ما يقوله أفلوطين في فيوضاته ولكن بلغة أخرى)(4).
__________
(1) لم أجد له ترجمة.
(2) أفلوطين: أثولوجيا أرسطاطاليس، الميمر الأول ص (22-23).
(3) د. أبو الوفا التفتازاني: ابن سبعين وفلسفته الصوفية، ص (251).
(4) ابن عربي: فصوص الحكم (2/110).(1/89)
ويقول المستشرق الفرنسي جولد تسهير: (نفذت تعاليم الأفلاطونية الحديثة إلى نطاق الحياة العقلية في الإسلام، ويُعدُّ هذا الحادث ذا أهمية حاسمة من جهة التصوف الإسلامي، فهذا التيار الفلسفي -الأفلاطونية الحديثة- قد أوجد أساساً فلسفياً واعتقادياً بُنيت عليه تقاليد الزهد وطقوسه: فالزاهد المتصوف الذي نبذ الدنيا واحتقرها، وسما بروحه إلى الكائن الأعلى، والملاذ الأوحد يجد ما يُثبّت يقينه بمنهج حياته الذي نهجه، وما يقوّي نزعته الروحية الإلهية التي اتجه إليها في مذهب الفيض عند أفلوطين ونظريته في وحدة الوجود)(1). ويقول نيكسلون عن أثر الفيوضات الأفلوطينية على التصوف: (فالنور المحمدي عندهم -أي الصوفية- هو الروح الإلهي الذي نفخ الله منه في آدم أو هو شيء أشبه بالعقل الذي قال به أفلوطين وعدَّه أول الفيوضات التي صدرت عن الواحد الحق)(2).
المصدر الهندي:
تُعتبر الفلسفة الهندية من المصادر التي لا يقتصر تأثيرها على جزئية معينة من جزئيات التصوف في العالم الإسلامي، بل شمل تأثيرها العديد من تعاليم التصوف؛ لذا يعتبر البعض أنه لا يمكن دراسة ما يسمى بالتصوف الإسلامي إلا من خلال دراسة التصوف الهندي.
يقول الفاخوري ود. الجرَّ: (لا يمكن دراسة التصوف إلا على ضوء التصوف الهندي..)(3).
والفلسفة الهندية وإن كانت من أقدم الفلسفات إلا أن وصولها إلى ديار المسلمين في نظر البعض كان متأخراً.
__________
(1) أجناس جولد تسهير: العقيدة والشريعة في الإسلام ص (153) ترجمة د. محمد يوسف وآخرين.
(2) رينولد نيكسلون: في التصوف الإسلامي وتاريخه ص (159) نقلاً عن التصوف وتأثره بالنصرانية ص (397).
(3) حنا الفاخوري ود. خليل الجر: تاريخ الفلسفة العربية ص (31).(1/90)
يقول د. النشار: (والمذاهب الأخيرة التي عرفها المسلمون هي مذاهب الهنود. اتصل المسلمون بها عن طريق البصرة سواء من فارس أو من الهند... ثم نقلت آراؤهم عن طريق كتبهم من الفارسية ومن السنسكريتية)(1). وجل المذاهب الهندية تنقل عن أسفارهم (الأوبانيشاد) وهي الكتب الدينية القديمة عندهم.
يقول الدكتور إبراهيم التركي عنها: (ولها أهمية قصوى في الفكر الفلسفي الهندي)(2)، وأيضاً لها أهميتها عند أئمة الصوفية (إذ هي أسرار ومشاهدات كبار الصوفية الذين يسعون لتحقيق غايتهم وهي الخلاص التام من تناسخ الأرواح عن طريق الاتحاد بالله)(3).
حيث جاء في الأوبانيشاد في مخاطبة الإله: (أنت رجل أنت امرأة، وأنت الفتيان، وأنت الفتيات، وأنت الشيخ المترنح فوق عصاه، قد وجدت وجهك متجه إلى كل صوب، أنت النحلة الزرقاء، أنت الببغاء ذات العين الحمراء، أنت السحاب العاصف والبحور والفصول، أنت لا بدء لك ولا نهاية، وعنك انبثقت جميع العوالم)(4).
نتيجة:
فثبت من خلال تلك النصوص المتقدمة بما لا يدع مجالاً للشك أن عقيدة القوم في النبي صلى الله عليه وسلم أنه مخلوق من نور الله تعالى وأن بقية المخلوقات مخلوقة من نور النبي صلى الله عليه وسلم مستفادة من نظرية الفيض الأفلوطينية وغيرها من الفلسفات الأخرى القديمة، وأنها ليست وليدة أفكارهم؛ وعليه فهذا التأثر بتلك الفلسفات يفسر لنا سرَّ قولهم بوحدة الوجود والفناء أو الاتحاد بالله تعالى؛ وذلك لمَّا تأصَّل عند أئمة القوم أنهم مخلوقون من النور المحمدي وأن النور المحمدي مخلوق من نور الله تعالى وأنهم بذلك جزء من الذات الإلهية وكذا جميع المخلوقات نتج عن ذلك قولهم:
__________
(1) د. النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام (1/219-225).
(2) د. إبراهيم التركي: التصوف وتأثره بالنصرانية والفلسفات القديمة ص (296).
(3) المرجع السابق: ص. ن.
(4) نقلاً عن تاريخ الفلسفة العربية ص (31).(1/91)
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة(1).
وهي وحدة الوجود المطلقة التي ينعقون بها. وأما قولهم بالفناء أو الاتحاد بالله تعالى فإنه نتيجة بدهية لنظرية الفيض المتقدمة؛ وذلك لمَّا فاضت جميع الموجودات عن الله تعالى، وأن الله تعالى بزعمهم هو أصلها وموطنها الأول الذي صدرت عنه كان لها أن تحنَّ وتشتاق إلى ذلك الموطن. وقد عُرف هذا النوع من الشوق عند القوم بالحُب الإلهي، وهو مسلك لبعضهم للاتحاد بذات الرب سبحانه وتعالى، وفريق منهم سلك مسلكاً آخر وهو مسلك التطهر والتخلص من كثافة البدن عن طريق المجاهدات والرياضات بالجوع والسهر وغير ذلك(2) ؛ لتكون نفسه متهيئة لذلك الموطن.
فلما فنوا في ذات الله تعالى بزعمهم صدرت عنهم نتيجة لذلك الشطحات(3) من دعوى الإلهية والربوبية، وغير ذلك من عظائم الأمور.
والنماذج التالية لأقوال أئمتهم توضح ذلك:
__________
(1) انظر النفحات الأقدسية لمحمد بهاء الدين البيطار (1/338)، ط-1314هـ نقلاً عن خطاب مفتوح إلى شيخ مشايخ الطرق الصوفية لعبد الرحمن الوكيل ص (44).
(2) انظر ص (243).
(3) يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي: الشطح تعبير عما تشعر به النفس حينما تصبح لأول مرة في حضرة الألوهية، فتدرك أنَّ الله هي وهي هو. ويقوم إذن على عتبة الاتحاد. ويأتي نتيجة وجد عنيف لا يستطيع صاحبه كتمانه.. وهذا هو الأصل في تحريم ما يجري في النفس إبان هذه الحال، لكن هل في وسعه ألاَّ يذيع. انظر: شطحات الصوفية ص (9 - وما بعدها).(1/92)
أبو يزيد البسطامي(1):
يقول أبو يزيد: (أوفى صفة للعارف أن تجري فيه صفات الحق، ويجري فيه من جنس الربوبية)(2).
__________
(1) طيفور بن عيسى بن آدم بن عيسى البسطامي شيخ الصوفية، كان جده مجوسياً ثم أسلم. قال الذهبي: كان له نبأ عجيب وحال غريب، ونكت مليحة، وجاء عنه أشياء مشكلة لا مساغ لها، الشأن في ثبوتها عنه أو قالها في حالة الدهشة أو الشُكر مثل: سبحاني، وما في الجُبة إلا الله، إذ ظاهرها إلحاد ا. هـ. قلت: ومثل هذا الاعتذار الذي ذُكر للبسطامي أيضاً لا مساغ له؛ لأنَّ الدنيا في عصره ملأى بالصالحين الذين يُحبون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يصدر مثل هذا الإلحاد إلا من غلاة الصوفية. يقول د. عبد الرحمن بدوي: (فليس لأولئك الخصوم أن يتهموا السًّكر وما ينتج عنه من شطحيات بأنه هذيان لا يؤخذ به الصوفي ولا يُلام عليه. إنما هو عين الحق في نظر الصوفي الحق) انظر: شطحات الصوفية ص (18). توفي أبو يزيد سنة 261هـ. انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان (2/531)، الذهبي: السير (13/86-89)، ميزان الاعتدال (2/346-347).
(2) النور من كلمات أبي طيفور: ص (156)، ضمن شطحات الصوفية للدكتور عبد الرحمن بدوي، يقول الدكتور: يُنسب الكتاب للسهلجي، ونبهنا أستاذنا ماسينيون إلى مخطوط بفرنسا ورد فيه (كتاب النور (للسهلكي) في كلمات البسطامي). انظر الشطحات ص (48، 52). والذي يظهر أنَ صاحب الكتاب هو أبو الفضل الفلكي، ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ونسب الكتاب المذكور إليه حيث يقول: (وقد جمع أبو الفضل الفلكي كتاباً من كلام أبي يزيد سماه النور من كلام طيفور). مجموع الفتاوى (13/257). وأبو الفضل هذا هو: علي بن الحُسين بن أحمد، عُرف بالفلكي؛ لأنَّ جده كان بارعاً في الفلك، وكان صوفياً مشمِّراً، توفي سنة 427هـ. انظر الذهبي: السير (17/552).(1/93)
ويقول: (عجبت ممن عرف الله كيف يعبده؟!)(1) ؛ لأنَّ العارف في نظر البسطامي هو الذي تجري فيه صفات الحق تبارك وتعالى بما في ذلك صفات الألوهية، والربوبية عن طريق الفناء، أو الاتحاد فيُصبح هذا العارف جُزءاً من الذات الإلهية؛ لذا ظهر تعجب البسطامي كيف يعبد اللهُ اللهَ!. تعالى الله عن قوله علواً كبيراً، بل زعم البسطامي أنه هو الله وذلك (لمَّا دقَّ عليه رجل الباب قال له أبو يزيد: من تطلب؟ قال أبا يزيد، قال أبو يزيد: مُرْ ويحك فليس في الدار غير الله)(2).
فلما تحقق عند البسطامي أنه هو الله كان من البدهي أن يُسَبِّح باسم نفسه حيث يقول: (سُبحاني سُبحاني ما أعظم شأني!! حسبي من نفسي حسبي)(3)
ويقول أيضاً: (سُبحاني سُبحاني أنا ربي الأعلى)(4).
وسُئل عن التصوف فقال: (صفة الحق يلبسها العبد)(5).
الحلاج(6):
يقول الحلاَّج: (إنَّ الأسماء التسعة والتسعين تصير أوصافاً للعبد)(7).
ويقول:
سُبحان مَنْ أظهر ناسوته ……سرَّ سنا لاهوته الثاقب
ثمَّ بدا لخلقه ظاهراً ………في صورة الآكل الشارب
حتى لقد عاينه خلقُهُ ………كلحظة الحاجب بالحاجب(8)
__________
(1) المرجع السابق ص (109).
(2) المرجع السابق ص (84).
(3) المرجع السابق ص (101).
(4) المرجع السابق ص (79).
(5) المرجع السابق ص (110).
(6) الحُسين بن منصور بن محمي الفارسي الصوفي، كان جده مجوسياً، وكان الحلاَّج مشعبذاً محتالاً مقداماً جسوراً على السلاطين مرتكباً للعظائم، ويدَّعي عند أصحابه أن الإلهية حلَّت فيه، قصد إلى الصين والهند في رحلة طويلة طوَّر فيها أفكاره الصوفية وراض نفسه على التصوف الهندي. قُتل على زندقته بحكم مجلس القضاء في زمن الخليفة المقتدر بالله جعفر بن المعتضد أحمد بن الأمير محمد سنة 359هـ. انظر: السير (14/313-353)، والبداية والنهاية (11/141-154)، ومقدمة ديوانه ص (16).
(7) الحلاَّج: الطواسين ص (126).
(8) المرجع السابق ص (130).(1/94)
وقال: (لا فرق بيني وبين ربي إلاّ في صفتين، وجودنا منه وقوامنا به)(1)
وقال:
اتحد المعشوق بالعاشق ……ابتسم الموموق للوامق
اشترك الشكلان في حالة …
فامتحقا في عالم الماحق(2)
وقال:
أنا عين الله في الأشياء …
فهل ظاهر في الكون إلاَّ عيننا(3)
وقال:
أنا أنت بلا شك ……فسُبحانك سُبحاني
وتوحيدك توحيدي ……وعصيانك عصياني
وإسخاطك إسخاطي ……وغفرانك غفراني(4)
والنهاية المتوقعة التي وصل إليها الحلاج ما صرَّح بها في قوله:
كفرتُ بدين الله والكفر واجب …
عليَّ وعند المسلمين قبيح(5)
ويستطيع القارىء الآن أن يعرف لماذا قال الحلاّج: (والكفر واجبٌ عليَّ). بل ويُصر على ذلك الكفر حتى قُتل. ويُبين الحلاَّج السبب الذي جعله يُصر على ذلك الكفر بقوله: (تناظرتُ مع إبليس وفرعون في الفتوة(6)، فقال إبليس: إن سجدتُ سقط عني اسم الفتوة، وقال فرعون: إن آمنت برسوله سقطتُ من منزلة الفتوة، وقلت أنا: إن رجعتُ عن قولي ودعواي سقطتُ من بساط الفتوة... فصاحبي وأستاذي إبليس وفرعون، وإبليس هُدد بالنار وما رجع عن دعواه، وفرعون أغرق في اليم وما رجع عن دعواه ولم يُقر بالواسطة البتة. وإن قُتلتُ أو صُلبتُ أو قُطعت يداي ورجلاي ما رجعتُ عن دعواي)(7).
نعوذ بالله من الخذلان.
__________
(1) المرجع السابق ص (198).
(2) ديوان الحلاج، ص (72).
(3) المرجع السابق ص (184).
(4) المرجع السابق ص (82).
(5) المرجع السابق (ص 39).
(6) ذكر القُشيري في معناها عند القوم أكثر من عشرين قولاً بعضها يدور حول المروءة. انظر الرسالة القشيرية ص (390 وما بعدها).
(7) الطواسين، ص (50-52).(1/95)
ابن الفارض(1):
مقتطفات من تائيته المسماة بـ(نظم السلوك):
وحُز بالولا ميراث أرفع عارف ……
غدا همه إيثار تأثير هِمَّةِ
وته ساحباً أذيال عاشق ……
بوصل على أعلى المجرة جُرَّتِ
وجُل في فنون الاتحاد ولا تحِد ……
إلى فئة في غيره العمر أفنتِ(2)
فذا نفسه رقَّت إلى ما بدت ……
به وروحي ترقت للمبادي العلية
وباب تخطي اتصالي بحيث لا ……
حجابَ وصل عنه روحي ترقتِ(3)
ولم أله باللاَّهوت عن حُكم مظهري ……
ولم أنس بالناسوت مظهر حكمتي
وقد جاءني مني رسول عليه ما عنت ……
عزيز بي حريص لرأفةِ
إليَّ رسولاً كنت مني مرسلاً وذاتي ……
بآياتي عليَّ استدلت(4)
ولا ندَّ في الدارين يقضي بنقض ما ……
بنيتُ ويمضي أمرُهُ حُكم إمرتي
ولا ضدَّ في الكونين والخلق ما ترى بهم ……
للتساوي من تفاوت خِلْقتي
وفيَّ شهدتُ الساجدين لمظهري ……
فحققتُ أني كنت آدم سجدتي(5)
ولولاي لم يوجد وجود ولم يكن ……
شهود ولم تُعهد عهود بذمتي
__________
(1) عمر بن علي بن مرشد الحموي، ثم المصري، صاحب الاتحاد الذي ملأ به تائيته، وحامل لواء الشعر. قال الذهبي: فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده فما في العالم زندقة ولا ضلال اللهم ألهمنا التقوى وأعذنا من الهوى، فيا أئمة الدين ألا تغضبون لله؟! ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله. انظر: الذهبي: السير (22/368-369)، والعبر (3/213). وقال عنه ابن حجر: وفي قصائده من هذا النمط فيما يتعلق بالاتحاد شيء كثير. وقد كنتُ سألتُ شيخنا الإمام سراج الدين البلقيني عن ابن العربي -الحاتمي- فبادر بأنه كافر، فسألته عن ابن الفارض فقال: لا أُحب أن أتكلم فيه، قلت: فما الفرق بينهما والموضع واحد. وأنشدته من التائية فقطع عليَّ بعد إنشاد عدة أبيات بقوله: هذا كفر هذا كفر. أ. هـ انظر: لسان الميزان (4/318).
(2) ديوان ابن الفارض، ص (40-41).
(3) المرجع السابق ص (49).
(4) المرجع السابق ص (55).
(5) المرجع السابق ص (51).(1/96)
فلا حيَّ إلا من حياتي حياته ……
وطوعُ مُرادي كُل نفس مريدة
ولا ناطق غيري ولا ناظر ……
ولا سميع سواي من جميع الخليقتي
وإن نار بالتنزيل محراب مسجد ……
فما بار بالإنجيل هيكل بيعة
وأسفار توراة الكليم لقومه ……
يناجي بها الأحبار في كل ليلة
وإن خرَّ للأحجار في البدِّ(1) عاكف ……
فلا وجه للإنكار بالعصبية
وإن عبد النار المجوس وما انطفت ……
كما جاء في الأخبار في ألف حجة
فما قصدوا غيري وإن كان قصدهم ……
سواي وإن لم يظهروا عقد نية(2)
ابن عربي(3):
__________
(1) الجمع بِدَدَةٌ وأبْداد: بيت الصنم، انظر القاموس المحيط ص (340).
(2) ديوان ابن الفارض ص (66-67).
(3) محيي الدين محمد بن علي بن أحمد الطائي الحاتمي المرسي. سكن الروم مدَّة، وكان ذكياً كثير العلم، من أردإ تواليفه كتاب الفصوص فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفر. توفي سنة 638هـ. انظر: الذهبي: السير (23/48-49). ويقول الدكتور أبو العلا عفيفي: فقد قرر -أي ابن عربي- مذهب وحدة الوجود في صورته النهائية، ووضع له مصطلحاً صوفياً كاملاً استمده من كل مصدر وسعه أن يستمد منه كالقرآن، والحديث، وعلم الكلام، والفلسفة المشائية، والفلسفة الأفلاطونية الحديثة، والغنوصية المسيحية، والرواقية، وفلسفة فليون اليهودي، كما انتفع بمصطلحات الإسماعلية الباطنية، والقرامطة، وإخوان الصفا، وفلاسفة الإسلام المتقدمين عليه، ولكنه صبغ هذه المصطلحات جميعها بصبغته الخاصة، وأعطي لكل منها معنى جديداً يتفق مع روح مذهبه العام في وحدة الوجود). انظر: مقدمة تحقيق كتاب فصوص الحكم للدكتور أبو العلا عفيفي (1/7).(1/97)
يقول ابن عربي: (ومن عرف ما قررناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، وإن كان قد تميز الخلق من الخالق. فالأمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق الخالق. كل ذلك عين واحدة، بل هو العين الواحدة، وهو العيون الكثيرة. ((فانظر ماذا ترى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)) [الصافات:102]، والولد عين أبيه، فما رأى يذبح سوى نفسه. ((وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)) [الصافات:107] فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان. وظهر بصورة ولد: لا، بل بحكم ولد من هو عين الوالد ((وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)) [النساء: 1] فما نكح سوى نفسه)(1). ويقول: (فإن ثبت أن الوجود للحق لا لك، فالحكم لك بلا شك في وجود الحق. وإن ثبت أنك الموجود فالحكم لك بلا شك. وإن كان الحاكم الحق، فليس له إلا إفاضة الوجود عليك، والحكم لك عليك. فلا تحمد إلا نفسك ولا تذم إلا نفسك، وما يبقى للحق إلا حمد إفاضة الوجود، لأن ذلك له لا لك. ثم أنشأ يقول:
فيحمدني وأحمده ……ويعبدني وأعبده
ففي حال أقر به ……وفي الأعيان أجحده
فيعرفني وأنكره ……وأعرفه فاشهده(2)
ويقول:
الربُّ حق والعبد حق ……يا ليت شعري مَن المكلف
إن قلتَ عبدٌ فذاك ميت ……أو قلت ربٌّ أنىّ يكلف
__________
(1) الفصوص (1/78).
(2) المرجع السابق 1، ص (83).(1/98)
عبد الكريم الجيلي(1):
يقرر الجيلي ما أصَّله أسلافه السابقون من عقيدة وحدة الوجود والاتحاد بالله تعالى.
يقول في ذلك: (إذا تجلى الله على عبد من عبيده في اسم من أسمائه، اصطلم(2) العبد تحت أنوار ذلك الاسم، فمتى ناديت الحق بذلك الاسم أجابك العبد، لوقوع ذلك الاسم عليه، فأول مشهد من تجليات الأسماء: أن يتجلى الله لعبده في اسمه الموجود فيطلق هذا الاسم على العبد... وأعلى منه تجليه في اسمه الله، فيصطلم العبد لهذا التجلي ويندك جبله، فيناديه الحق على طور حقيقته: إنه أنا الله، هنالك يمحو الله اسم العبد ويثبت له اسم الله. فإن قلت يا الله أجابك هذا العبد لبيك وسعديك، فإن ارتقى وقواه الله وأبقاه بعد فنائه كان الله مجيباً لمن دعا هذا العبد. فإن قلت مثلاً: يا محمد أجابك الله لبيك وسعديك)(3).
ويرى الجيلي أنه من الواصلين الذين وصلوا إلى الذات العلية وفنوا فيها وعليه فقد صور له شيطانه أنه هو رب العزة والجلال تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فمن جرأته على الله تعالى التي قرر فيها مذهبه وحدة الوجود والاتحاد بالله قوله:
لي الملك في الدارين لم أر فيهما ……
سواي فأرجو فضله أو فأخشاه
__________
(1) هو عبد الكريم بن إبراهيم بن عبد الكريم الجيلي، ابن سبط الشيخ عبد القادر الجيلاني من كبار الصوفية. قال عنه شيخ الطريقة البُرهانية: (هو من أكابر العارفين، وأئمة الصوفية المحققين السالكين على نهج الشيخ الأكبر سيدنا محيي الدين) أي في الإلحاد والقول بوحدة الوجود، صاحب "الإنسان الكامل" وكل كتبه مليئة بالكفر والإلحاد نسأل الله السلامة منها: مراتب الوجود، شرح مشكلات الفتوحات المكية، الناموس الأعظم والقاموس الأقدم. مات سنة 832 هـ. انظر: محمد عثمان عبده البرهاني: تبرئة الذمة ص (36)، الزركلي، الأعلام (4/50-51).
(2) الاصطلام: هو الوله الغالب على القلب. انظر د. الحفني: معجم مصطلحات الصوفية.
(3) الجيلي: الإنسان الكامل (1/59).(1/99)
وقد حُزت أنواع الكمال وإنني ……
جمال جلال الكل ما أنا إلا هو
فمهما ترى من معدن ونباته ……
وحيوانه مع إنسه وسجاياه
ومهما ترى من أبحر وقفاره ……
ومن شجر أو شاهق طال أعلاه
فإني ذاك الكل والكل مشهدي ……
أنا المتجلي في حقيقته لا هو
وإني رب للأنام وسيد ……
جميع الورى اسم وذاتي مسماه
لي الملك والملكوت نسجي وصنعتي ……
لي الغيب والجبروت مني منشاه(1).
وعبد الكريم الجيلي هذا الذي ادعى الربوبية كما ادعاها أسلافه: فرعون والبسطامي يرى: (أن الكفار عموماً والمجوس واليهود والنصارى وغيرهم من الملل والطوائف عابدون لله تعالى كما ينبغي أن يعبد)، ويعلل لذلك بقوله: (لأن الله تعالى أظهر في هذه الملل حقائق أسمائه وصفاته فتجلى في جميعها بذاته فعبدته جميع هذه الطوائف)(2).
ويفصل في كيفية تلك العبادة بقوله: (فأما الكفار فإنهم عبدوه بالذات؛ لأنه لما كان الحق سبحانه وتعالى حقيقة الوجود بأسره، والكفار من جملة الوجود، وهو حقيقتهم فكفروا أن يكون لهم رب، لأنه تعالى حقيقتهم ولا رب له بل هو الرب المطلق، فعبدوه من حيث ما تقتضيه ذواتهم التي هو عينها، ثم من عبد منهم الوثن فلسر وجوده سبحانه بكماله بلا طول، ولا مزج في كل فرد من أفراد ذرات الوجود، فكان تعالى حقيقة تلك الأوثان التي يعبدونها، فما عبدوا إلا الله)(3).
ويرى الجيلي أن أفلاطون اليوناني الفيلسوف قد وصل مرتبة لم يصل إليها إلا آحاد الأولياء.
حيث يقول: (ولقد اجتمعت بأفلاطون الذي يعدونه أهل الظاهر كافراً، فرأيته وقد ملأ العالم الغيبي نوراً وبهجة، ورأيت له مكانة لم أرها إلا لآحاد الأولياء فقلت له: من أنت؟ قال: أنا قطب الزمان وواحد الأوان)(4).
__________
(1) المرجع السابق (1/31-32).
(2) المرجع السابق (2/122).
(3) المرجع السابق ص. ن.
(4) المرجع السابق (2/52).(1/100)
فمن النماذج السابقة للغلاة تبين أن بعضهم يدّعي الربوبية للعبد والبعض الآخر يدّعي بقاء النبوة بطريق غير مباشر، ولكن ظهر في هذا العصر من جمع بين مقام الربوبية والنبوة للعبد في أغرب نظرية لم يتوصل إليها فلاسفة الدهور الأولية ولا من اقتفى أثرهم من أئمة الصوفية جاء بها وأظهرها في أوساط المسلمين:
الخميني وشيوخه:
يقول الخميني: (قال شيخ مشايخنا أغا محمد رضا القمشة في المعمولة لتحقيق الأسفار الأربعة ما ملخصه: اعلم أن السفر هو الحركة من الموطن إلى المقصد بطي المنازل وهو صوري مستغن عن البيان ومعنوي وهو أربعة: الأول: السفر من الخلق إلى الحق برفع الحُجب الظلمانية والنورانية التي بينه وبين حقيقته التي معه أزلاً وأبداً وأصولها ثلاثة: وهي الحجب الظلمانية والنورانية والعقلية والروحية، أي بالترقي من المقامات الثلاثة برفع الحجب، فإذا رفع الحجب يشاهد السالك جمال الدين الحق وفنى عن ذاته وهو مقام الفناء وفيه السر الخفي والأخفى فينتهي سفره الأول ويصير وجوده وجوداً حقانياً ويعرض له المحو ويصدر عنه الشطح فيُحكم بكفره فإن تداركته العناية الإلهية يزول المحو فيقر بالعبودية بعد الظهور بالربوبية، ثم عند الانتهاء من السفر الأول يأخذ في السفر الثاني وهو السفر من الحق إلى الحق بالحق وإنما يكون بالحق لأنه صار ولياً، وجوده وجوداً حقانياً فيأخذ بالسلوك من الذات إلى الكمالات حتى يعلم الأسماء كلها إلا ما استأثره عنده فتصير ولايته تامة وتفنى ذاته وصفاته في ذات الحق وصفاته وفيه يحصل الفناء عن الفنائية الذي هو المقام الأخفى وتتم دائرة الولاية وينتهي السفر الثاني ويأخذ في السفر الثالث وهو من الحق إلى الخلق ويسلك في هذا الموقف مراتب الأفعال ويحصل له الصحو التام ويبقى بإبقاء الله ويسافر في عوالم الجبروت والملكوت والناسوت ويحصل له حظ من النبوة وليس نبوة التشريع وحينئذٍ ينتهي السفر الثالث ويأخذ في السفر الرابع وهو من(1/101)
الخلق إلى الخلق بالحق فيشاهد الخلائق وآثارها ولوازمها فيعلم مضارها ومنافعها ويعلم كيفية رجوعها إلى الله فيكون نبياً بنبوة التشريع)(1).
فمن خلال هذا العرض الموجز لهذه النماذج لأئمة الصوفية والشيعة الإمامية أهل الطريق الموصل إلى عبادة الله من خلال دين الفلاسفة الغابرين الذي هو غاية عارفيهم الذين أتعبوا أنفسهم بالمجاهدات وأنواع الرياضات للوصول إلى مقام الفناء أو الاتحاد بالله تعالى الذي يوصل صاحبه إلى نار جهنم والعياذ بالله.
يقول ابن تيمية في تصور مذهب أصحاب وحدة الوجود والاتحاد بالله تعالى: (إن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده، ولا يحتاج مع حسن التصور إلى أي دليل آخر)(2).
ويغلب على ظني أن جمهور الصوفية والشيعة الإمامية لو علموا حقيقة مذاهب أئمتهم مع المقارنة بهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم لنفروا منها غاية النفور ومجتها قلوبهم واتبعوا طريق النبي صلى الله عليه وسلم الموصل إلى رضوان الله تعالى وجنته، على فهم سلف الأمة الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المفسدة العقدية الثالثة: اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم خُلق قبل العرش:
جاء في هذا الحديث المنسوب إلى جابر رضي الله عنه: {أن الله تعالى خلق نور نبيه صلى الله عليه وسلم قبل الأشياء}.
هذه المسألة لم يتطرق لها السلف الصالح حتى يدرجوها ضمن إطار المناقشة في ما هو أول المخلوقات؟ إذ إن كل النقاش الذي كان بينهم كان حول أولية العرش أو القلم.
وقول جمهور السلف رحمهم الله: إن العرش خلق قبل القلم.
__________
(1) مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية لآية الله الخميني ص (148-149).
(2) حقيقة مذهب الاتحاديين لابن تيمية ص (4).(1/102)
قال شيخ الإسلام: (ذهب كثير من السلف والخلف إلى أن العرش متقدم على القلم واللوح مستدلين بحديث عمران بن حصين قال: {إني عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا قبلنا، جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان، قال: كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء، ثم أتاني رجل فقال: يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت، فانطلقت أطلبها فإذا السراب ينقطع دونها، وأيم الله لوددت أنها قد ذهبت ولم أقم}(1). وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم: {أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. فقال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة}(2). على هذا الخلق المذكور في قوله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)) [هود: 7])(3).
ونقل حكاية مذهب الجمهور أيضاً بن كثير في تاريخه(4). قال: (ويدل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه -ثم ذكر السند- إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء}(5).
__________
(1) البخاري: ك. التوحيد، ب. وكان عرشه على الماء (13/403) مع الفتح.
(2) جامع الترمذي (4/205). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(3) مجموع الفتاوى (2/275) بتصرف يسير.
(4) البداية والنهاية (1/7).
(5) م. ك. القدر (16/203) مع شرح النووي.(1/103)
قال ابن كثير: (قالوا: فهذا التقدير هو كتابته بقلم المقادير وقد دل هذا الحديث أن ذلك بعد خلق العرش فثبت أن تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير كما ذهب إلى ذلك الجماهير ويحمل حديث القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم)(1).
وقال ابن أبي العز الحنفي(2): (فأخبر صلى الله عليه وسلم أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كان قبل خلقه بخمسين ألف سنة وأن عرش الرب تعالى كان حينئذ على الماء)(3).
فثبت أن أهل العلم لم يتعرضوا لأولية خلق النبي صلى الله عليه وسلم لعدم وجود الدليل الصحيح الذي يدل على ذلك.
المبحث الثالث: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بتوسل الأنبياء به قبل وجوده:
يعتقد كثير من الغلاة أن الأنبياء عليهم السلام توسلوا بحق وجاه وذات المصطفى صلى الله عليه وسلم الشريفة قبل أن يُخْلق. ويوردون في ذلك أحاديث إمَّا موضوعة، وإمَّا ضعيفة لا يحتج بها، وإمَّا صحيحة لكنها لا تدل على المراد أصلاً.
فمن تلك الأحاديث ما أورده السبكي في شفاء السقام مستدلاً به على ما ذهب إليه من القول بتوسل الأنبياء عليهم السلام بحق نبينا صلى الله عليه وسلم قبل أن يُخلق، حيث يقول:
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير (1/7).
(2) محمد بن علاء الدين بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي ولي قضاء الشام ثم مصر، ت. سنة 792هـ. ابن العماد: شذرات الذهب (8/557).
(3) شرح العقيدة الطحاوية لعلي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي (1/113).(1/104)
(يدل على ذلك آثار عن الأنبياء الماضين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، اقتصرنا منها على ما تبين لنا صحته وهو ما رواه الحاكم في المستدرك)(1)... ثم ساق السند إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لمَّا اقترف آدم الخطيئة قال: يا ربِّ أسألك بحق محمدٍ لمَّا غفرت لي، فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا ربِّ لأنك لمَّا خلقتني بيدك، ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله. فعلمتُ أنك لم تُضف إلى اسمك إلاَّ أحبَّ الخلق إليك. فقال الله: صدقت يا آدم إنَّه لأحبُّ الخلق إليَّ، ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك}. قال الحاكم بعد روايته للحديث: (هذا حديث صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم)(2).
هذا النص من الأهمية بمكان وذلك للآتي:
- لمكانة السبكي الحديثية عند القوم؛ ولأنه أكثر القوم خوضاً في مسائل التوسل والاستغاثة بالأنبياء والصالحين؛ وأنَّ جلَّ مَنْ خاض في هذه المسائل من القوم عالة عليه(3).
- ولرواج ذلك على الناس.
- ولقول السبكي: (اقتصرنا منها على ما تبين لنا صحته). فمفهوم كلامه أن غير ما ذكره ضعيف عنده؛ وعليه يسقط الاستدلال بجميع الآثار الأخرى التي جاءت في هذا المعنى، وبالتالي سأقتصر على بحث ما صححه فقط وهو حديث الحاكم الذي أورده. وذلك من خلال النقاط الآتية:
الأولى: أقوال أهل العلم في تضعيف الحديث وتصحيح الحاكم.
__________
(1) شفاء السقام في زيارة خير الأنام. ص (161-162).
(2) المستدرك (2/615).
(3) انظر: ابن حجر الهيتمي: الجوهر المنظم ص (8)، أحمد زيني دحلان: الدرر السنية، ص (10)، يوسف النبهاني: شواهد الحق، ص (139)، محمد علوي المالكي: مفاهيم يجب أن تصحح، ص (46)، راشد بن إبراهيم المريخي: إعلام النبيل، ص (24) وغيرهم.(1/105)
الثانية: مخالفة ألفاظ الحديث للعديد من نصوص الشرع الأخرى.
الثالثة: المفاسد العقدية المترتبة عليه.
النقطة الأولى: أقوال أهل العلم في تضعيف الحديث وتصحيح الحاكم.
وفيها مسألتان:
الأولى: أقوال أهل العلم في تضعيف الحديث.
الثانية: الكلام على تصحيح الحاكم.
المسألة الأولى: أقوال أهل العلم في تضعيف الحديث.
بالنظر إلى سند الحديث نجد فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعَّفه كل من: النسائي(1)، والدارقطني(2)، والعقيلي(3)، والبيهقي(4).
وقال فيه البخاري: (ضعَّفه عليّ(5) جداً)(6).
وقال ابن حبَّان: (كان ممن يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كَثُر ذلك في روايته من رفع المراسيل، وإسناد الموقوف فاستحق الترك)(7).
__________
(1) الضعفاء والمتروكون للنسائي، ص (158).
(2) الإمام شيخ الإسلام حافظ الزمان أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد صاحب السنن، انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بالعلل وأسماء الرجال مع المعرفة وصحة الاعتقاد. توفي سنة 385هـ. انظر: التذكرة (3/991-995). وانظر: الضعفاء والمتروكون للدارقطني. ص (336).
(3) الحافظ الإمام أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى العقيلي، صاحب كتاب الضعفاء الكبير. توفي سنة 322هـ. انظر: التذكرة (3/833-834)، الضعفاء الكبير للعقيلي (2/331).
(4) الإمام الحافظ العلاَّمة شيخ خراسان أبو بكر أحمد بن الحُسين بن علي البيهقي الشافعي، صاحب التصانيف منها: الأسماء والصفات، والسنن الكبير، ودلائل النبوة وغيرها، توفي سنة 458هـ. انظر: التذكرة (3/1132-1134)، وطبقات الشافعية للأسنوي (1/198)، ودلائل النبوة للبيهقي (5/489).
(5) يعني علي بن المديني، حافظ العصر، وقدوة أرباب هذا الشأن، أبو الحسن علي بن عبد الله ابن جعفر المديني، توفي سنة 234هـ. انظر: التذكرة (2/428-429).
(6) البخاري: الضعفاء الصغير، ص (456).
(7) ابن حبَّان: كتاب المجروحين (2/57).(1/106)
بل قال الحاكم نفسه عنه: (وروي عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أنَّ الحمل فيها عليه)(1).
فكون الحاكم يتهم عبد الرحمن بن زيد بالوضع، ثم يصف روايته للحديث موضوع الدراسة بالصحة هو الذي جعل ابن حجر يتعجب من صنيعه.
حيث يقول: (ومن عجيب ما وقع للحاكم أنه أخرج لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال بعد روايته: هذا صحيح الإسناد وأول حديث ذكرته لعبد الرحمن مع أنه قال في كتابه الذي جمعه عن الضعفاء: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة -ثم ذكر قول الحاكم السابق- قال: فكان هذا من عجائب ما وقع له من التساهل والغفلة)(2).
محصلة الحكم على الحديث:
قال ابن تيمية: (ليس له أصل)(3).
وحكم عليه الذهبي بـ(الوضع)(4)، و(البطلان)(5)..
وممن حكم عليه بالوضع من المعاصرين: محمد ناصر الدين الألباني(6).
المسألة الثانية: الكلام على تصحيح الحاكم:
__________
(1) الحاكم النيسابوري: المدخل إلى الصحيح، ص (154).
(2) النكت (1/317-319).
(3) الرد على البكري ص (9-10).
(4) التلخيص (2/615).
(5) ميزان الاعتدال (2/504).
(6) السلسلة الضعيفة (1/38).(1/107)
لا يخفى على طلبة العلم إمامة الحاكم النيسابوري(1) في علم الحديث، وما له من تصانيف عديدة في ذلك، منها المستدرك على الصحيحين، الذي قال في شأنه: (وأنا أستعين الله على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان رضي الله عنهما أو أحدهما، وهذا شرط الصحيح عند كافة فقهاء الإسلام أن الزيادة في الأسانيد والمتون من الثقات مقبولة)(2). إلاَّ أنه رحمه الله توسع في شرطه، وتساهل في حكمه على أحاديث بالصحة وهي على غير ذلك.
قال عنه ابن الصلاح(3): (وهو واسع الخطو في شرط الصحيح، متساهل في القضاء به)(4).
وهذا فيما ينص الحاكم أنه على شرطهما، أمَّا التي يصححها دون أن يذكر أنها على شرط الشيخين، أو أحدهما فيُحْكم فيها على الحديث بحسب حاله: من الحسن، أو الصحة، أو الضعف(5).
وقد ذكر ابن حجر مثل هذا النوع من الأحاديث في القسم الثالث من تقسيمه لأحاديث المستدرك: وهو الذي اشتمل على أحاديث يكون إسنادها مما لم يحتج به الشيخان لا في الاحتجاج ولا في المتابعات.
__________
(1) الإمام، الحافظ، الكبير محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه، أبو عبد الله الضبيِّ، ويُعرف بابن البيِّع، كان من أهل الحفظ والحديث، صنَّف الكتب الكبار والصغار منها: المستدرك على الصحيحين، وعلوم الحديث، والإكليل، وتاريخ نيسابور، والمدخل إلى علم الصحيح، وغيرها، توفي سنة 405هـ. انظر: تذكرة الحُفَّاظ للذهبي (3/1039-1045)، والبداية والنهاية (11/379).
(2) المستدرك (3/2).
(3) تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الإمام العلامة، مفتي الشام ومحدثها الشهرزوري. كان ديِّناً، ورعاً، زاهداً، ناسكاً على طريقة السلف الصالح، وقد صنَّف كتباً كثيرة مفيدة في علوم الحديث، والفقه، توفي سنة 643هـ. انظر: البداية والنهاية (13/179-180).
(4) مقدمة ابن الصلاح، ص (18).
(5) انظر: التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح للعراقي، ص (18).(1/108)
حيث يقول: (وقد أكثر منه(1) الحاكم فيخرج أحاديث عن خلق ليسوا في الكتابين ويصححهما، لكن لا يدَّعِي أنها على شرط واحد منهما، وربما ادَّعى ذلك على سبيل الوهم... إلى أن قال: ومن هنا دخلت الآفة كثيراً فيما صححه، وقلَّ أن تجد في هذا القسم حديثاً يلتحق بدرجة الصحيح فضلاً عن أن يرتفع إلى درجة الشيخين)(2).
وقال عنه في اللسان: (إمام صدوق ولكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة فيكثر من ذلك فما أدري هل خفيت عليه؟! فما هو ممن يجهل ذلك، وإن علم فهو خيانة عظيمة... إلى أن قال: والحاكم أجلُّ قدراً وأعظمُ خطراً وأكبرُ ذكراً من أن يُذكر في الضعفاء لكن قيل في الاعتذار عنه أنه عند تصنيفه للمستدرك كان في أواخر عمره، وذكر بعضهم أنه حصل له تغيير وغفلة في آخر عمره، ويدل على أنه ذكر جماعة في كتاب الضعفاء له وقطع بترك الرواية عنهم ومنع من الاحتجاج بهم، ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها، ومن ذلك أنه أخرج حديثاً لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم...)(3). وعبد الرحمن بن زيد هذا هو الذي عليه مدار سند الحديث موضوع الدراسة، قد مرّ بنا قول الحاكم فيه وتعليق ابن حجر عليه عند ذكر أقوال علماء الجرح والتعديل في بيان حال عبد الرحمن.
وقال ابن تيمية: (ولهذا كان أهل العلم لا يعتمدون على مجرد تصحيح الحاكم، وإن كان غالب ما يصححه فهو صحيح، لكن هو في الصحيحين بمنزلة الثقة الذي يكثر غلطه، وإن كان الصواب أغلب عليه. وليس فيمن يصحح الحديث أضعف من تصحيحه)(4).
لذا فلا يعتمد على تصحيح الحاكم وحده.
وعليه يسقط الاحتجاج بالحديث سنداً ومتناً، ويدل على ذلك مخالفته للثابت من نصوص الشرع:
النقطة الثانية: مخالفة ألفاظ الحديث للعديد من نصوص الشرع:
__________
(1) أي من القسم الثالث.
(2) ابن حجر: النكت على كتاب ابن الصلاح، ص (317-318).
(3) لسان الميزان (5/233)، وانظر: تدريب الراوي للسيوطي (1/106).
(4) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، ص (175).(1/109)
وتتجلى تلك المخالفة في الآتي:
أولاً: لفظ: {يا ربِّ أسألك بحق محمد لمَّا غفرت لي}. وهو مخالف لظاهر القرآن، قال تعالى في شأن آدم عليه السلام: ((فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) [البقرة:37].
قال ابن جرير: (اختلف أهل التأويل في أعيان الكلمات التي تلقاها آدم من ربه).
- ثم ذكر سبعة أقوال لم يذكر من بينهنَّ حديث: {يا ربِّ أسألك بحق محمد لما غفرت لي}.
قال: وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناه عنه، وإن كانت مختلفة الألفاظ فإنَّ معانيها متفقة في أنَّ الله جلَّ ثناؤه لقَّى آدم كلمات، فتلقَّاهُنَّ آدم من ربِّه فقبلهنَّ وعمل بهنَّ وتاب بقيله وعمله بهنَّ إلى الله من خطيئته معترفاً بذنبه، متنصلاً إلى ربه من خطيئته... إلى قوله: والذي عليه كتاب الله تعالى، أنَّ الكلمات التي تلقَّاهُنَّ آدم من ربه هنَّ قوله تعالى: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) [الأعراف:23].
ثم أفادنا رحمه الله بقوله: (وهذا الذي أخبر الله عن آدم من قيله الذي لقَّاه إياه فقاله تائباً إليه من خطيئته تعريف منه جل ذكره جميع المخاطبين بكتابه بكيفية التوبة إليه من الذنوب)(1).
__________
(1) جامع البيان (1/280-283).(1/110)
قال ابن تيمية: (فلو كان آدم قد قال هذا -{يا ربِّ أسألك بحق محمد لمَّا غفرت لي} - لكانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحق به منه، بل لكان الأنبياء من ذريته أحق به منه، وقد علم كل عالم بالآثار أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته به، ولا نقل عن أحد من الصحابة الأخيار، ولا نقله أحد من العلماء الأبرار، فعلم أنه من أكاذيب أهل الوضع والاختلاق، الذين وضعوا من الأحاديث أكثر مما بأيدي المسلمين من الصحيح، لكنَّ الله فرَّق بين الحق والباطل بأهل النقد العارفين بالنقل علماء الجرح والتعديل)(1).
وقال في موضع آخر: (ومثل هذا لا يجوز أن تُبنى عليه الشريعة، ولا يحتج به في الدين باتفاق المسلمين، فإنَّ هذا من جنس الإسرائيليات ونحوها والتي لا يعلم صحتها إلاَّ بنقل ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه لو نقلها مثل كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وأمثالهما ممن ينقل أخبار المبتدأ وقصص المتقدمين عن أهل الكتاب لم يجُز أن يحتج بها في دين المسلمين باتفاق المسلمين، فكيف إذا نقلها من لا ينقلها لا عن أهل الكتاب ولا عن ثقات علماء المسلمين، بل ينقلها عمن هو عند المسلمين مجروح ضعيف لا يحتج بحديثه، واضطرب اضطراباً يعرف به أنه لم يحفظ ذلك)(2).
ثانياً: لفظ: {لولا محمد ما خلقتك}(3) ومخالفة هذه العبارة لصريح القرآن واضحة قال الله تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56].
قال الماوردي: فيها تأويلات:
أحدها: إلا ليقروا لي بالعبودية، قاله ابن عباس.
__________
(1) الرد على البكري ص (9-11).
(2) انظر المصدر السابق ص. ن.
(3) قدمت هذه العبارة على التي قبلها؛ لأنَ ما قبلها يحتاج إلى شيء من البسط.(1/111)
الثاني: إلا لآمرهم وأنهاهم، قاله مجاهد(1).
الثالث: إلا لأجبلهم على الشقاء والسعادة، قاله زيد بن أسلم(2).
الرابع: إلا للعبادة وهو الظاهر(3).
قال الشوكاني(4): (ولأنَّ خلقهم للعبادة مما يُنشط الرسول للتذكير ويُنشطهم للإجابة)(5).
وبالرجوع إلى عددٍ من مصادر التفسير المعتمدة عند عامة المسلمين(6).
لم أقف على من فسَّر هذه الآية بحديث: {لولا محمد ما خلقتك} ولو بقول مرجوح، ولو كان الحديث معتمداً عند أهل العلم لكان أولى ما يُفسر به كتاب الله تعالى.
ثالثاً: لفظ: {ادعني بحقه فقد غفرت لك}.
فلو قيل إن هذا مِن شرع مَنْ قبلنا، وهو شرع لنا: أقول في الجواب عن ذلك: هذا الأمر لا يثبت إلاَّ بطريقين:
الأول: أن يأتينا الخبر عن الله تعالى في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يخبرنا الله تعالى عن ذلك ولا صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الإمام أبو الحجاج مجاهد بن جبر المخزومي مولاهم المقرىء المفسر الحافظ. سمع عائشة، وأبا هريرة، وعبد الله بن عمر، وابن عبَّاس ولزمه مدة، وقرأ عليه القرآن، وكان أحد أوعية العلم، توفي سنة 103هـ. انظر: التذكرة: (1/92).
(2) الإمام أبو عبد الله العمري المدني الفقيه، روى عن مولاه عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله وأنس وغيرهم. له تفسير يرويه عنه ولده. توفي سنة 136هـ. انظر: التذكرة (1/132-133).
(3) الماوردي: النكت والعيون (5/374-375).
(4) محمد بن علي بن محمد الشوكاني من كبار علماء اليمن، من كتبه: فتح القدير في التفسير، ونيل الأوطار، والبدر الطالع بمحاسن ما بعد القرن السابع، ت. سنة 1250هـ. الأعلام للزركلي (6/298).
(5) فتح القدير (5/89).
(6) انظر: الطبري، جامع البيان (11/475-476) القرطبي. الجامع لأحكام القرآن (18/37)، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (4/238).(1/112)
الثاني: عن طريق أهل الكتاب، وهو طريق مظلم، فقد أخبرنا الله تعالى عن تحريفهم وتبديلهم لكتبهم قال تعالى: ((فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ)) [المائدة: 13] الآية.
وقال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)) [آل عمران:187]. وهو أمر أظهر من أن يستدل عليه.
وعليه فلا تدخل هذه المسألة تحت الأصل المختلف فيه: (هل شرع من قبلناشرع لنا؟).
قال ابن تيمية: (وهذا إنما هو فيما ثبت أنه شرع لمن قبلنا من نقل ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أو ما تواتر عنهم لا كما يروى على هذا الوجه)(1).
وقال الآمدي(2): (اختلفوا في النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، بعد البعث هل هم متعبدون بشرع من تقدم؟ فنُقِل عن أصحاب أبي حنيفة، وعن أحمد في إحدى الروايتين، وعن بعض أصحاب الشافعي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متعبداً بما صح من شرائع من قبلنا بطريق الوحي إليه، لا من جهة كتبهم المبدلة ونقل أربابها)(3).
وهذا فيما لم يؤمر به صلى الله عليه وسلم أو ينه عنه أو يأت ما ينسخه.
__________
(1) قاعدة جليلة ص (176).
(2) أبو الحسن علي بن أبي علي بن محمد التغلبي، الشيخ سيف الدين الآمدي، كان حسن الأخلاق، سليم الصدر، كثير البكاء، رقيق القلب، وقد تكلموا فيه بأشياء الله أعلم بصحتها، والذي يغلب عليه الظن أنه ليس لغالبها صحة، له مصنفات منها: أبكار الأفكار في الكلام، أحكام الأحكام في الأصول. توفي سنة 631هـ. انظر: طبقات الشافعية للأسنوي (1/137)، والبداية والنهاية (13/151).
(3) الأحكام في أصول الأحكام (2/123).(1/113)
وفي هذا يقول الدكتور عبد الرحمن الدرويش: (فيجب تقييد قاعدة الاحتجاج بشرع من قبلنا بما ورد في شرعنا أنه شرع لمن قبلنا مما قصه الله أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم وليس في شرعنا ما ينسخه أو يقره شرعاً لنا)(1).
فإذاً تبين أن دليلهم الذي استدلوا به لا تقوم به حجة لضعفه، فاعلم أن نفراً من القوم(2) قد ذكروا بعض الآثار مستدلين بها على أن ذلك النوع من التوسل قد جاء في شرعنا ما يدل عليه فمن ذلك: حديث فاطمة بنت أسد(3) رضي الله عنها وفيه: {اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع مدخلها بحق نبيك والأنبياء من قبلي}.
هذا الحديث رواه الطبراني(4) في الكبير(5) بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية(6).
__________
(1) الشرائع السابقة ومدى حجيتها في الشريعة الإسلامية ص (262).
(2) انظر دحلان: الدرر السنية. ص (7)، محمد زاهد الكوثري. مقالات الكوثري، ص (467)، محمد عثمان عبده البرهاني: تبرئة الذمة. ص (266)، محمد علوي المالكي: مفاهيم يجب أن تصحح، ص (65).
(3) فاطمة بنت أسد بن هشام بن عبد مناف الهاشمية، والدة علي وإخوته رضي الله عنهم، أسلمت وهاجرت. توفيت بالمدينة. انظر: الإصابة (13/77)، رقم (828).
(4) الإمام الحافظ العلاّمة أبو القاسم سليمان بن أحمد اللخمي الطبراني مسند الدنيا له المعجم الكبير والمتوسط والصغير وغير ذلك ت. سنة 360هـ. تذكرة الحفاظ (3/912).
(5) المعجم الكبير (24/351).
(6) حلية الأولياء (3/121).(1/114)
ورواه الحاكم(1) بسنده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وليس فيه لفظ: {بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي}. ورواه ابن عبد البر(2) في الاستيعاب(3) وابن الأثير(4) في أسد الغابة(5) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وليس فيه ذلك اللفظ المخالف.
فظهر بهذا مخالفة رواية أنس بن مالك المتقدمة لرواية علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عن الجميع، لا سيما إذا علمنا أن رواية أنس بن مالك رضي الله عنه تفرد بها راوٍ ضعيف.
قال أبو نعيم بعد ذكر رواية أنس رضي الله عنه: (غريب من حديث عاصم والثوري، لم نكتبه إلاَّ من حديث روح بن صلاح تفرد به)(6).
وقال الهيثمي: (لم يروه عن عاصم إلا سفيان تفرد به روح بن صلاح)(7).
وروح بن صلاح هذا:
قال عنه الدارقطني: (ضعيف في الحديث)(8).
وقال ابن عدي(9): (في بعض حديثه نكْرة)(10).
__________
(1) المستدرك (3/108).
(2) الإمام، شيخ الإسلام، حافظ المغرب أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي، له تصانيف منها: التمهيد، الاستذكار وهو مختصر للتمهيد، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، والكافي على مذهب الإمام مالك. توفي سنة 463هـ. انظر: التذكرة (3/1128-1130).
(3) 4/1891).
(4) الإمام العلاَّمة عز الدين أبو الحسن علي بن عبد الكريم الجزري، المعروف بابن الأثير، مصنف كتاب أسد الغابة في أسماء الصحابة، وكتاب الكامل في التاريخ، توفي سنة 630هـ. انظر البداية والنهاية (13/149).
(5) 7/217).
(6) الحلية (3/121).
(7) مجمع البحرين في زوائد المعجمين (6/362).
(8) لسان الميزان (2/446). (نقلتُ تضعيف الدارقطني لروح من اللسان؛ لأني لم أجد له ترجمة في الضعفاء للدارقطني).
(9) الإمام الحافظ الكبير أبو أحمد عبد الله بن عدي الجُرجاني، صاحب الكامل في الضعفاء. توفي سنة 365هـ. انظر التذكرة (3/940-942).
(10) الكامل في الضعفاء (3/1005).(1/115)
وقال الهيثمي: (وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف)(1).
وعلق الألباني على عبارة الهيثمي بقوله: (ولكن قد ضعَّفه من قوله أرجح من قولهما لأمرين:
الأول: أنه جرح، والجرح مقدم على التعديل بشرطه.
الآخر: أن ابن حبان متساهل في التوثيق، فإنه كثيراً ما يوثق المجهولين حتى الذين يصرح هو نفسه أنه لا يدري من هو ولا من أبوه... ومثله في التساهل الحاكم كما لا يخفى على المتضلع بعلم التراجم والرجال، فقولهما عند التعارض لا يقام له وزن حتى لو كان الجرح مبهماً لم يذكر سببه فكيف مع بيانه كما هو الحال في ابن صلاح هذا. فأنت ترى أئمة الجرح والتعديل قد اتفقت عباراتهم على تضعيف هذا الرجل وبينوا أن السبب رواياته المناكير، فمثله إذا انفرد بحديث يكون منكراً لا يحتج به، فلا يغتر بعد هذا بتوثيق من سبق ذكره إلا جاهل أو مغرض)(2). وعليه فالحديث ضعيف(3).
دليلهم الثاني: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: {من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وأسألك بحق ممشاي هذا...} وله طريقان:
الأول: رواه ابن ماجة(4)، وابن السني(5) في عمل اليوم والليلة(6)، وأحمد(7) مرفوعاً.
__________
(1) مجمع الزوائد (9/257).
(2) السلسلة الضعيفة (1/32-33)، وانظر تحفة القارىء في الرد على الغماري لحماد الأنصاري. ص (45) ضمن مقالات مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
(3) انظر: السلسلة الضعيفة (1/33).
(4) جه (1/256).
(5) الحافظ الإمام الثقة أبو بكر أحمد بن إسحاق الدينوري يُعرف بابن الشُني، صاحب كتاب عمل اليوم والليلة، وراوي سنن النسائي، مات 364هـ.
(6) ص (42).
(7) المسند (3/21 - المكتب الإسلامي.(1/116)
- وفيه عطية العوفي ضعَّفه كل من: يحيى بن معين(1)، والنسائي(2)، وأحمد بن حنبل(3)، وأبو داود السجستاني(4).
وقال الذهبي: (مجمع على تضعيفه)(5).
وقال ابن حبان: (سمع من أبي سعيد الخدري أحاديث، فلما مات أبو سعيد جَعَلَ يُجالس الكلبي(6)، ويحضر قصصه، فإذا قال الكلبي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، يحفظه، وكنَّاه أبا سعيد، ويروي عنه، فإذا قيل له من حدثك بهذا؟ فيقول: حدثني أبو سعيد، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري، وإنما أراد الكلبي. فلا يحل الاحتجاج به، ولا كتابة حديثه إلا على جهة التعجب)(7).
وقال ابن حجر: (ضعيف الحفظ مشهور بالتدليس القبيح)(8).
وفيه أيضاً فضيل بن مرزوق:
__________
(1) انظر: الضعفاء للعقيلي (2/359). (لم أجد ترجمة عطية في تاريخ ابن معين المطبوع).
(2) النسائي: الضعفاء والمتروكون ص (185).
(3) أحمد بن حنبل: العلل ومعرفة الرجال (1/198).
(4) سؤالات أبي عبيدة الآجري أبا داود في الجرح والتعديل ص (105).
(5) المغني في الضعفاء للذهبي (2/436).
(6) هو: محمد بن السائب بن بشير الكلبي، أبو نصر الكوفي، النسّابة المفسر، متهم بالكذب، ورمي بالرفض، مات سنة 146هـ. انظر التقريب (2/163).
(7) كتاب المجروحين لابن حبان (2/176).
(8) ابن حجر: تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس. ص (130).(1/117)
قال عنه ابن أبي حاتم(1): (سألت أبي(2) عن فضيل بن مرزوق فقال: هو صدوق صالح الحديث يهم كثيراً يكتب حديثه، قلتُ: يحتج به؟ قال: لا(3).
وقال ابن حبان: (منكر الحديث جداً، كان ممن يخطىء كثيراً على الثقات، ويروي عن عطية الموضوعات، وعن الثقات الأشياء المستقيمة؛ فاشتبه أمره، والذي عندي أن كل ما روي عن عطية من المناكير يُلزق ذلك كله بعطية ويبرأ فضيل منها، وفيما وافق الثقات من الروايات عن الأثبات يكون محتجاً به، وفيما انفرد على الثقات ما لم يُتابع عليه يُتنكب عنها في الاحتجاج)(4).
وقال الذهبي: (روى عن عطية وضُعِّف)(5).
وقال ابن حجر: (صدوق يهم ورُمي بالتشيع)(6).
وأما الطريق الثاني: فرواه ابن السني من حديث بلال بن رباح رضي الله عنه(7) ولا يصلح للاستشهاد، لأن فيه:
الوازع بن نافع العقيلي: قال عنه النسائي: (متروك الحديث)(8).
وقال البخاري: (منكر الحديث)(9).
وكان أبو حاتم الرازي يأمر بالضرب على أحاديثه(10).
__________
(1) الإمام الحافظ الناقد شيخ الإسلام أبو محمد عبد الرحمن ابن الحافظ الكبير أبي حاتم الرازي، له كتاب الجرح والتعديل، وكتاب في التفسير، ومصنف كبير في الرد على الجهمية، توفي سنة 327هـ. انظر: التذكرة (3/829-831).
(2) الإمام الحافظ الكبير محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي، أحد الأعلام. توفي سنة 277هـ. انظر: التذكرة (2/567-569).
(3) ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل (7/75).
(4) ابن حبَّان: كتاب المجروحين (2/259).
(5) ميزان الاعتدال (3/363).
(6) ابن حجر: التقريب (2/113).
(7) الحبشي، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات بالشام سنة 20هـ. انظر: الإصابة (1/273-274)، رقم (732).
(8) الضعفاء والمتروكون، ص (231).
(9) الضعفاء الصغير، ص (495).
(10) انظر: الجرح والتعديل (9/39-40).(1/118)
فهذه حال من عليه مدار الحديث وهم ما بين مجمع على تضعيفه ومن لا يحتج به وما بين متروك منكر الحديث. بجانب هذا عنعنة عطية العوفي وهو مشهور بالتدليس القبيح. فواحدة من هذه العلل تكفي لرد دليلهم فكيف بها إذا اجتمعت.
وممن قال بضعف هذا الحديث الشيخ الألباني(1).
هذه هي أهم أدلة القوم في التوسل بحق وجاه وذات النبي صلى الله عليه وسلم(2)، وبالرجوع لأهل هذا الشأن من جهابذة الحديث وصيارفته علماء الجرح والتعديل ظهر جلياً أنَّ أدلتهم لا يبنى على مثلها ما يعتقده المسلم ويرجو أن يلقى به ربه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
النقطة الثالثة: المفاسد العقدية المترتبة على حديث: {لمّا اقترف آدم الخطيئة}. المفسدة الأولى: ظهور البدع(3) وتفشيها في أوساط المسلمين، وعبادة الله بغير ما شرع، فالتوسل بالحق والجاه والذات أمر محدث مبتدع لم يأذدن الله تعالى به.
قال شيخ الإسلام: (ومن سأل الله تعالى بالمخلوقين أو أقسم عليه بالمخلوقين كان مبتدعاً بدعة ما أنزل الله بها من سلطان)(4).
__________
(1) السلسلة الضعيفة (1/34).
(2) لهم أدلة أخرى لم أتطرق إليها خشية الإطالة، ولإشباع الكلام عليها في كتب أخرى، انظر: ابن تيمية: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، السهسواني: صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، سُليمان بن سحمان النجدي: الصواعق المرسلة الشهابية على الشُّبه الداحضة الشامية، الألباني: التوسل.
(3) البدعة هي: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى. الشاطبي: الاعتصام (1/37).
(4) قاعدة جليلة. ص (243).(1/119)
فالبدعة من أسو! أبواب الضلال؛ لأنَّ صاحبها يتقرب بها إلى الله تعالى ويحسب أنه على شيء حتى إذا جاء يوم القيامة لم يجده شيئاً، وفوجىء بأن أعماله ردت عليه ومُنع من ورود حوض المصطفى صلى الله عليه وسلم القائل: {أيها الناس إني لكم فرط(1) على الحوض فإيَّاي لا يأتينَّ أحدكم فيُذَبُّ(2) عنِّي كما يُذَبُّ البعير الضال، فأقول: فيمَ هذا؟! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول سحقاً}(3) رواه مسلم(4). والقائل: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} متفق عليه(5). وفي رواية لمسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}(6).
قال النووي: (قال أهل العربية الرد هنا بمعنى المردود، ومعناه فهو باطل غير معتد به، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات، وفي الرواية الثانية زيادة: وهي أنه قد يعاند بعض الفاعلين في بدعة سُبق إليها، فإذا احتج بالرواية الأولى يقول: أنا ما أحدثت شيئاً. فيُحتج عليه بالثانية التي فيها التصريح برد كل المحدثات سواءً أحدثها الفاعل أو سُبق بإحداثها... إلى أن قال: وهذا مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به)(7).
فرد الأعمال والمنع من ورود الحوض أخف أضرار البدع، بل هي أولى خطوات الشيطان، وحبائله التي يسوق بها أهل الغلو للوقوع في الشرك الأكبر المخرج من الملة، ويتبين هذا من خلال المفسدة التالية.
المفسدة الثانية: الحديث وسيلة وذريعة للشرك الأكبر.
__________
(1) سابق ومتقدم.
(2) يُمنع.
(3) بعداً.
(4) ك. الفضائل، ب: حوض نبينا صلى الله عليه وسلم (15/56) مع النووي.
(5) خ: ك. الصلح (5/351) مع الفتح؛ م: ك. الأقضية (12/15-16).
(6) المصدر السابق.
(7) النووي: شرح مسلم (12/16).(1/120)
فالمتأمل للأدلة السابقة التي ساقها القوم في التوسل بالحق والجاه والذات يجد أثر خطوات عدو الله إبليس فيها ظاهرة، حيث يجدهم يقولون بجواز التوسل بحق النبي صلى الله عليه وسلم في الخطوة الأولى، ثم توسعوا في التي تليها وقالوا بجوازه بالأنبياء من قبلُ عليهم السلام، ثم توسعوا في الخطوة التي تليها التي فتحوا فيها الباب على مصراعيه وقالوا بجواز التوسل بكل عبد مؤمن كما في استدلالهم بحديث: {اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك}، قال دحلان: (فإن فيه التوسل بكل عبد مؤمن)(1).
ثم في عصور تفشي الجهل لدى المسلمين ساغ لعدو الله إبليس أن يخطو بهم خطوته الأخيرة التي أوقعت الكثير منهم في هوة الشرك الأكبر؛ وذلك بأن بين لهم أن المقصود بالتوسل بحق النبي صلى الله عليه وسلم والصالحين هو الاستغاثة بهم في قضاء الحاجات وكشف الضر والكربات من شفاء الأسقام فيما عجز عن طبه الأنام وغفران الذنوب والآثام التي هي من خصائص ربِّ العزة والجلال. فها هو شاعرهم لم يفهم من التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يمد يده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفي ابنه الذي لم يجد له حيلة في الشفاء، حيث يقول:
أبُنيَّ طال بك السقام فليتني ……
أفديك لو ولد بوالده فُدي
أبُنيَّ ما بيدي لمثلك حيلة ……
لكن أمُدُّ إلى ابن آمنة يدي
إن ضاق بي وبك الخناق لم يضق ……
عني وعنك عريض جاه محمد
ذاك الغياث المستغاث الذي به ……
لولاه ما كان الوجود بموجد(2).
وقال آخر:
يا رسول الإله إني ضعيف ……
فاشفني أنت مقصد للشفاء
يا رسول الإله إن لم تغثني …
فإلى من ترى يكون التجائي(3)
وقال اَخر:
يا ملاذي يا منجدي يا منائي ……
يا معاذي يا مقصدي يا رجائي
يا نصيري يا عمدتي يا مجيري ……
__________
(1) الدرر السنية، ص (7).
(2) القائل عبد الرحيم البرعي: ديوان عبد الرحيم البرعي مع شرحه، ص (176).
(3) القائل شمس الدين النواجي المصري. انظر شواهد الحق للنبهاني ص (352).(1/121)
يا خفيري يا عدتي يا شفائي
أدرك أدرك أغث يا شفيعي ……
عند ربي واعطف وجد بالرضاء(1).
وقال البُرعي(2):
يا صاحب القبر المنير بيثرب ……
أنا من ذنوبي في أشد وثاقي
ناداك من بُرع أسيرُ ذنوبه ……
أفلا تمنُّ عليه بالإطلاق(3)
وقال أيضاً:
يا صاحب القبر المنير بيثرب ……
يا منتهى أملي وغاية مطلبي
يا من به في النائبات توسلي ……
وإليه من كل الحوادث مهربي
يا من نرجيه لكشف عظيمة ……
ولحل عقد ملتوٍ متصعب(4)
__________
(1) القائل محمد الجمالي الحلبي، انظر شواهد الحق، ص (355).
(2) عبد الرحيم بن أحمد بن علي البُرعي الهاجري اليماني، شاعر صوفي. من آثاره ديوان شعر في المدائح النبوية. انظر: ملحق البدر الطالع للشوكاني ص (120).
(3) ديوان البرعي مع شرحه ص (78-79).
(4) المصدر السابق، ص (63).(1/122)
فهذه الأبيات نزر يسير يوضح الخطوة التي وصل إليها القوم من فهم التوسل بحق، وجاه، وذات النبي صلى الله عليه وسلم الذي جُعل شريكاً مع الله تعالى(1) حتى في خصائص الربوبية. الأمر الذي لم يبلغه مشركو قريش من قبل الذين: قال الله تعالى فيهم: ((فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)) [العنكبوت:65].
ففي حالة الشدة نسي المشركون آلهتهم ولجأوا إلى الله الواحد القهار وأما هؤلاء القوم فعند الشدة لا يعرفون الله تعالى فحالهم كما قال شاعرهم:
يا رسول الله إن لم تغثني ……
فإلى من ترى يكون التجائي
إلى غير ذلك من الشواهد والأدلة التي توضح ما وصل إليه القوم من الغلو في جعل خصائص للرسول صلى الله عليه وسلم هي من خصائص الربوبية كما سيأتي بيانه في موضعه من هذا البحث إن شاء الله تعالى(2).
ولم تقف خطوات عدو الله إبليس عند إفهام أتباعه أن هذا النوع من التوسل خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم بل وسع الأمر ليشمل غيره صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) لم يتضح ما المقصود بالشرك لدى كثير من الناس، حيث يظنون أن الشرك هو أن تسجد أو تركع لغير الله تعالى، أو تظن أن غير الله خلقك أو رزقك. وهو مفهوم قاصر دون شك) فالشرك مأخوذ من الاشتراك في شيء ما من تجارة ونحوه فيُجعل لكل شريك نصيبه من الربح. فكذلك الشرك مع الله تعالى حيثُ يُجعل لله تعالى الصلاة والصيام والزكاة ونحوه، ويُجعل لغيره تعالى من الأنبياء، والأولياء والأصنام نصيباً من العباد: كالدعاء، والتضرع، والاستغاثة وطلب كشف الضر فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله تعالى، هذا بالإضافة إلى جهلهم بحقيقة العبادة. ولإثبات أنَّ مثل هذه الأمور عبادة لله تعالى انظر ص (144 وما بعدها).
(2) انظر ص (174) وما بعدها.(1/123)
قال صاحب مآثر الشاذلية: (قال الشيخ أبو عبد الله الشاطبي: كنت أترضى عن الشيخ -يعني أبا الحسن الشاذلي- في كل ليلة كذا مرة، وأسأل الله به في جميع حوائجي، فأجد القبول في ذلك، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت له يا سيدي يا رسول الله إني أترضى عن الشيخ أبي الحسن في كل ليلة بعد صلاتي عليك، وأسأل الله تعالى به في حوائجي أفترى في ذلك شيئاً إذا تعديت؟ فقال لي: أبو الحسن، ولدي حساً ومعنى، والولد جزء من الوالد، فمن تمسك بالجزء فقد تمسك بالكل، وإذا سألت الله بأبي الحسن فقد سألته بي صلى الله عليه وسلم)(1).
ثم هؤلاء القوم بعد أن أصَّلوا في نفوس مريديهم جواز طلب قضاء الحاجات التي يعجز عن مثلها البشر بحق االنبي صلى الله عليه وسلم ثم من النبي صلى الله عليه وسلم فرَّعوا منه جواز طلب ذلك بحق مشايخهم والإقسام على الله بهم، ثم جندوا الجنود وأرسلوا الرسائل في القرى والأمصار لدعوة الناس إلى ذكر مشايخهم عند طلب الحاجات والملمات.
يقول صاحب المآثر الشاذلية: (ومن مكاتبات أبي العباس المرسي من الإسكندرية إلى بعض أصحابه قوله: وكان يقول -يعني أبا الحسن الشاذلي- إذا عرضت لك حاجة إلى الله فأقسم عليه بي، قال: فكنت والله لا أذكره في شدة إلا انفرجت، ولا أمر صعب إلا هان، وأنت يا أخي إذا كنت في شدة فأقسم على الله به، وقد نصحتك والله يعلم والسلام)(2).
ومثل هذا كثير من كتبهم التي يؤلفونها في مناقب مشايخهم(3).
__________
(1) أحمد بن عباد الشافعي: المفاخر العلية في المآثر الشاذلية، ص (24).
(2) المفاخر العلية ص (24).
(3) انظر: الشعراني: الطبقات الكبرى (1/117)، (2/94، 123، 128، 129) ابن ضيف الله: الطبقات ص (198-199)، (273-274)، المناوي: الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية (1/242)، النبهاني: جامع كرامات الأولياء (1/270، 274، 437، 439، 445، 609).(1/124)
والمقصود هنا أن ما وصل إليه هؤلاء القوم من تدريج الشيطان لهم للوقوع في الشرك الأكبر قريب الشبه لما وقع فيه قوم نوح عليه السلام بتدريج الشيطان لهم عبر خطواته، وأوحاه لهم من دقيق مكره وخبثه لعنه الله. حيث جاء في صحيح البخاري بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: [[صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد. أما ودّ فكانت لكلب(1) بدومة الجندل(2) وأما سواع فكانت لهذيل(3) وأما يغوث فكانت لمراد(4)، ثم لبني غطيف(5) بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان(6) وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع(7). أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون عليها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد -حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عبدت]](8)
__________
(1) ابن وبرة: بطن من قُضاعة القحطانية، كانوا ينزلون دومة الجندل وتبوك وأطراف الشام. انظر رضا كحالة: معجم قبائل العرب (3/991).
(2) قرية من قرى الجوف، والجوف منطقة زراعية شمال تيماء. ويربطها بكل من تيماء والمدينة المنورة طرف معبدة. عاتق البلادي: معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية ص (127-128).
(3) ابن مدركة: بطن من مدركة بن إليس من العدنانية، كانت ديارهم بالسروات، وسراتهم متصلة بجبل غزوان المتصل بالطائف. المرجع السابق (3/1213).
(4) ابن مذحج: بطن من مذْحج من كهلان من القحطانية، كانت بلادهم إلى جانب زبيد من اليمن. المرجع السابق (3/1066).
(5) ابن عبد الله بن ناجية بن مراد. انظر: فتح الباري (8/668).
(6) بطن من كهلان، من القحطانية وهم بنو همدان بن مالك بن زيد بن أوْسِلة. كانت ديارهم باليمن قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام تفرقوا فمنهم من نزل الكوفة ومصر ومنهم من بقي. معجم قبائل العرب (3/1225).
(7) من حمير، من القحطانية، وهم بنو شرحبيل بن حمير. انظر: المرجع السابق (3/990).
(8) ك. التفسير، ب. (وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق) (8/667)، مع الفتح.(1/125)
.
قال السُّهيلي(1) في قوله تعالى: ((وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا)) [نوح:23] الآية: (هذه أسماء أصنام كانت قبلُ أسماء لقوم صالحين يقال إن يغوث هو ابن شيث بن آدم وكذلك سواع كان بعده، وكانوا يتبركون بهم وبدعائهم، فكلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها إلى زمن مهلايل فعبدوها من حينئذ بتدريج الشيطان لهم)(2).
بقي أن يعلم القارىء الكريم أن كون أحاديث التوسل بحق، وجاه، الرسول صلى الله عليه وسلم ضعيفة لا يعني أن ليس له جاه عند ربه عز وجل، ولا ينفي التوسل المشروع الذي جاء به الشرع الحنيف. فجاهه صلى الله عليه وسلم أعظم الجاه بل لا يبلغ أحد من الخلق ما بلغه صلى الله عليه وسلم من الجاه عند ربه جل وعلا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وجاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، وقد أخبر سبحانه وتعالى عن موسى وعيسى عليهما السلام أنهما وجيهان عند الله تعالى. فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا)) [الأحزاب:69].
وقال تعالى: ((إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)) [آل عمران:45].
__________
(1) الحافظ العلاَّمة البارع أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله الأندلسي الضرير، صاحب الروض الأنف في السيرة النبوية، والإعلام بما أُبهم في القرآن من الأعلام، وغيرها. توفي سنة 581هـ. انظر: التذكرة (4/1348-1349).
(2) أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي: التعريف والإعلام فيما أبهم من الأسماء والأعلام، ص (135).(1/126)
فإذا كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل فكيف بسيد ولد آدم، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب الكوثر والحوض المورود...، وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة حيث يتأخر عنها آدم وأولو العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهو إمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا ذو الجاه العظيم صلى الله عليه وسلم)(1).
وقد ذكرت في الباب الأول طرفاً صالحاً ممَّا خصَّ الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم ممَّا يبين جاهه صلى الله عليه وسلم ومكانته عند الله جل وعلا.
التوسل المشروع:
يكون التوسل المشروع بأمور منها: الإيمان بالله ورسله ومحبة الله ورسله، وفي هذا يقول شيخ الإسلام: (وإذا تكلمنا فيما يستحقه الله تبارك وتعالى من التوحيد، بيَّنا أن الأنبياء عليهم السلام وغيرهم من المخلوقين لا يستحقون ما يستحق الله تبارك وتعالى من الخصائص، فلا يُشرك بهم، ولا يُتوكل عليهم، ولا يُستغاث بهم كما يُستغاث بالله، ولا يُقسم على الله بهم، ولا يُتوسل بذواتهم، وإنما يُتوسل بالإيمان بهم، وبمحبتهم، وطاعتهم، وموالاتهم، وتعزيرهم، وتوقيرهم، ومعاداة من عاداهم، وطاعتهم فيما أمروا، وتصديقهم فيما أخبروا، وتحليل ما حلَّلوه، وتحريم ما حرَّموه، والتوسل بذلك على أمرين:
أحدهما: أن يُتوسل بذلك إلى إجابة الدعاء، وإعطاء السؤال كحديث الثلاثة الذين آووا إلى الغار، فإنهم توسلوا إلى الله تعالى بأعمالهم؛ ليجيب دُعاءهم، ويُفرج كربتهم.
__________
(1) قاعدة جليلة، ص (252-254).(1/127)
والثاني: التوسل بذلك، لحصول ثواب الله تعالى، وجنته، ورضوانه؛ فإن الأعمال الصالحة التي أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم هي الوسيلة التامة إلى سعادة الدنيا والآخرة: ومثل هذا كقوله تعالى: ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ)) [آل عمران:193].
فإنهم قدَّموا ذكر الإيمان قبل الدعاء، وقوله تعالى: ((إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)) [المؤمنون:109]، وكذلك التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وشفاعته فإنه يكون على وجهين:
الأول: أن يُطلب منه الدعاء، والشفاعة. فيدعو، ويشفع كما كان يُطلب منه في حياته، وكما يُطلب منه يوم القيامة، فيطلبون منه الشفاعة.
الثاني: أن يكون التوسل مع ذلك بأن يسأل الله تعالى بشفاعته ودعائه كما في حديث الأعمى فإنه طلب منه صلى الله عليه وسلم الدعاء والشفاعة، فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم، وشفع فيه، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن يقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم)(1).
وأختم هذا المبحث بأبيات شعرية نُسبت لأبي القاسم السُّهيلي(2) تُبين كيف يُتوسل إلى الله تعالى عند نزول الشدائد والعظائم، يقول فيها:
يا من يرى ما في الضمير ويسمع ……
أنت المُعَدُّ لكل ما يُتوقع
يا من يُرجَّى للشدائد كلها ……
يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن ملكه في قول كن …
امنن فإن الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة
فبالافتقار إليك فقري أدفع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ……
فلئن رُددتُ فأي باب أقرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ……
إن كان فضلك عن فقيرك يُمنع
__________
(1) قاعدة جليلة ص (240-241).
(2) التعريف والإعلام: مقدمة الناشر ص (2).(1/128)
حاشا لمجدك أن تُقنِّط عاصياً ……
والفضل أجزل والمواهب أوسع
المبحث الرابع: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة باستفتاح أهل الكتاب بحقه قبل وجوده:
لمَّا كان توسل الأنبياء السابقين بحق النبي صلى الله عليه وسلم جائزاً عند القوم، كان توسل أو استفتاح(1) أممهم بحق النبي صلى الله عليه وسلم جائزاً عندهم من باب أولى وأحرى. فقد أورد السيوطي في الخصائص الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم حديثاً يبين استفتاح أهل الكتاب بحق النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يُخلق(2).
هذا الحديث أخرجه الحاكم في المستدرك(3) موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنهما قال: [[كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمتْ يهود خيبر. فعاذت بهذا الدعاء، اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلاَّ نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان، فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسم كفروا به، فأنزل الله: ((وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا)) [البقرة: 89] الآية. قال الحاكم بعد إخراجه للحديث: (أدت الضرورة إلى إخراجه في التفسير وهو غريب من حديثه)(4)والكلام على هذا الحديث في نقطتين:
الأولى: أقوال أهل العلم في تضعيف الحديث.
الثانية: مخالفته للثابت من الروايات.
النقطة الأولى: أقوال أهل العلم في تضعيف الحديث.
بالنظر إلى سند الحديث نجد فيه عبد الملك بن هارون بن عنترة:
قال فيه يحيى بن معين: (كذَّاب)(5).
وقال النسائي: (متروك الحديث)(6).
وقال البخاري: (منكر الحديث)(7).
__________
(1) الاستنصار، انظر: القاموس المحيط للفيروزآبادي. ص (298).
(2) 2/39-40).
(3) 2/263).
(4) المستدرك (2/263).
(5) يحيى بن معين وكتابه التاريخ (2/376).
(6) النسائي: الضعفاء والمتروكون. ص (70).
(7) البخاري: التاريخ الكبير للبخاري (5/436).(1/129)
وقال الدارقطني: (وأبوه أيضاً متروك)(1).
وقال ابن حبان: (كان ممن يضع الحديث، لا يحل كتابة حديثه إلاَّ على جهة الاعتبار)(2).
وعلق الذهبي على قول الحاكم: (أدت الضرورة إلى إخراجه) بقوله: (لا ضرورة في ذلك فعبد الملك متروك هالك)(3).
قال ابن حجر: (المحفوظ عن ابن عباس ما تقدم(4)، وأما هذا الطريق بهذا اللفظ أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عنه(5)، واعتذر عن إخراجه فقال: غريب من حديثه أدت الضرورة إلى إخراجه في التفسير. قلت: وأي ضرورة تحوج إلى إخراج حديث من يقول فيه يحيى بن معين كذاب في المستدرك على البخاري ومسلم، ما هذا إلا اعتذار ساقط)(6)، وحكم السيوطي نفسه بضعف هذه الرواية(7). النقطة الثانية: مخالفة رواية عبد الملك بن هارون للثابت من الروايات: الرواية الأولى: وهي المحفوظة عن ابن عباس رضي الله عنهما والتي أشار إليها الحافظ ابن حجر قريباً رواها الطبري بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله جل ثناؤه في ذلك من قولهم: ((وَلَمَّا
__________
(1) الضعفاء والمتروكون للدارقطني ص (289).
(2) كتاب المجروحين (2/133).
(3) الذهبي: التلخيص (2/263).
(4) انظر: الرواية المشار إليها بعد عدة أسطر.
(5) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(6) العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني، ص (64).
(7) السيوطي: لباب النقول في أسباب النزول ص (21).(1/130)
جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)) [البقرة:89](1). الرواية الثانية: وهي رواية محمد بن إسحاق إمام المغازي قال: (حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن رجال من قومه، قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه لنا لما كنا نسمع من رجال يهود وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم وليس عندنا. وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا: إنه قد تقارب زمان نبي يُبعث الآن نقاتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيراً ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنا به، وكفروا به. ففينا وفيهم نزل هؤلاء الآيات من البقرة: ((وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ)) [البقرة:89](2).
فمحمد بن إسحاق قال عنه ابن حجر: إمام المغازي صدوق يُدلس(3).
وقد صرح في هذه الرواية بالتحديث.
وأما عاصم بن عمر بن قتادة: فهو الأوسي الأنصاري ثقة عالم بالمغازي(4).
__________
(1) تفسير الطبري (1/325)، دار المعرفة - بيروت.
(2) تفسير الطبري. المصدر السابق. ص. ن؛ وانظر ابن هشام: السيرة النبوية (1/225)، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم (1/129)، السيوطي: لباب النقول ص (21).
(3) تقريب التهذيب، ص (467).
(4) المرجع السابق، ص (286).(1/131)
هذا وقد ذكر الطبري خمسة عشر حديثاً في سبب نزول قوله تعالى: ((وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا)) الآية ولم يذكر من بينهن رواية عبد الملك بن هارون. بل قد صَدّرَ برواية ابن إسحاق(1) التي حسَّن إسنادها مقبل بن هادي الوادعي(2).
أوجه مخالفة رواية عبد الملك بن هارون للروايات الثابتة:
الوجه الأول: مخالفتها للمحفوظ من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، وأن أقل درجات رواية عبد الملك الضعف، وأما رواية ابن إسحاق فأقل درجاتها الحُسن.
الوجه الثاني: جاء في رواية عبد الملك أن يهود خيبر كانت تقاتل غطفان والصحيح ما جاء في المحفوظ من رواية ابن عباس من أن اليهود هم بنو النضير وبنو قريظة وهم من يهود المدينة، وأن مشركي العرب هم الأوس والخزرج. لا سيما إذا علمنا أن راوي حديث ابن إسحاق هو عاصم بن عمر الأوسي الأنصاري وقد نص على أن الآية نزلت فيهم وحدثه بذلك رجال من قومه، وعاصم بن عمر ثقة عالم بالمغازي.
قال ابن تيمية في صدد تعليقه على رواية عبد الملك في سبب نزول الآية: (إنما نزلت باتفاق أهل التفسير والسير في اليهود المجاورين للمدينة كبني قينقاع وقريظة والنضير وهم الذين كانوا يحالفون الأوس والخزرج... إلى أن قال: فكيف يقال نزلت في يهود خيبر وغطفان؟ فإن هذا من كذاب جاهل لم يُحسن كيف يكذب. ومما يبين ذلك أنه ذكر انتصار اليهود على غطفان لما دعوا بهذا الدعاء، وهذا مما لم ينقله أحد غير هذا الكذاب، ولو كان هذا مما وقع لكان مما تتوفر دواعي الصادقين على نقله)(3).
الوجه الثالث: جاء في رواية عبد الملك بن هارون أن يهود كانوا يسألون الله بحق النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ما لم يرد في المحفوظ من رواية ابن عباس رضي الله عنهما ولا في رواية ابن إسحاق المتفق على قبولها.
__________
(1) الطبري: التفسير (1/225).
(2) الوادعي: الصحيح المسند في أسباب النزول، ص (14).
(3) قاعدة جليلة، ص (228).(1/132)
هذا وقد ذكر الطبري روايات كثيرة عن أهل العلم تُبين ما المراد باستفتاح اليهود برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء في الآية الكريمة(1) هذا بعضها:
الأولى: قال الطبري: قال ابن أبي نجيح عن الأزدي في استفتاح اليهود: (كانوا يقولون: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس يستفتحودن يستنصرون به على الناس)(2).
الثانية: وقال: قال أبو العالية: (كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوباً عندنا حتى يعذب المشركين ويقتلهم فلما بعث الله محمداً ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسداً للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)(3).
الثالثة: وقال: (قال السُّدِّي: (كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم، وكانوا يجدون محمداً صلى الله عليه وسلم في التوراة، ويسألون الله أن يبعثه فيقاتلوا معه العرب، فلما جاءهم محمد كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل)(4).
فهذه الروايات تُبين بياناً واضحاً أن المقصود باستفتاح أهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم هو سؤالهم الله تعالى أن يبعث نبيه محمداً حتى يقاتلوا معه مشركي العرب، لا السؤال والاستنصار بحقه صلى الله عليه وسلم.
الفصل الثاني: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة في حياته البرزخية:
وفيه ثمانية مباحث:
المبحث الأول: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأن من زار قبره وجبت له شفاعته.
المبحث الثاني: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأن من حج حجة الإسلام وزار قبره وغزا غزوة وصلى عليه في بيت المقدس لم يسأله الله تعالى فيما افترض عليه.
__________
(1) إضافة إلى بيان رواية ابن عباس رضي الله عنهما ورواية ابن إسحاق.
(2) الطبري: جامع البيان (1/326).
(3) المرجع السابق ص. ن.
(4) المرجع السابق ص. ن.(1/133)
المبحث الثالث: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بمحو الذنوب وعلم ما في اللوح المحفوظ والقلوب.
المبحث الرابع: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه إليه الملاذ والمهرب في الشدائد والكرب.
المبحث الخامس: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه يجيب الدعاء وترفع إليه أكف الضراعة.
المبحث السادس: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بخروج يده الشريفة من القبر لمصافحة أوليائهم.
المبحث السابع: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة برؤيته بعد موته يقظة لا مناماً.
المبحث الثامن: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بتلقين مشايخ الصوفية الأوراد وحضور حلق ذكرهم بعد موته يقظة لا مناماً.
المبحث الثاني: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأن من زار قبره وجبت له شفاعته:
دأب أهل الغلو في كل ما غلوا فيه بالدندنة حول أمر يوهم العامة أنه مشروع، ويحاولون الاستدلال على ذلك بأدلةٍ إمَّا موضوعةٍ، أو واهيةِ لا يعتمد عليها، أو لا تدل على مرادهم، ثم يجعلون ذلك الأمر الذي غلواً فيه أصلاً يُفرِّعون عليه التفريعات الكثيرة، فمن ذلك: الغلو في قبره صلى الله عليه وسلم، حيث يعتقد الغلاة بأن من زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم وجبت له شفاعته.
فممن شهَّر القول بذلك منهم: السبكي(1) وابن حجر الهيتمي(2) واستدلوا على ذلك بالآتي:
أولاً: {من زار قبري وجبت له شفاعتي} رواه الدارقطني(3)، والبيهقي(4).
__________
(1) شفاء السقام ص (2/14).
(2) الجوهر المنظم في زيارة القبر الشريف النبوي المكرم، ص (9).
(3) سنن الدارقطني (2/278).
(4) شعب الإيمان (3/490).(1/134)
ثانياً: {من زار قبري حلَّت له شفاعتي} رواه البزَّار(1).
أما دليلهم الأول: ففيه موسى بن هلال العبدي:
قال ابن أبي حاتم: (سألت أبي عنه فقال: مجهول)(2).
وقال العقيلي: (لا يصح حديثه ولا يتابع عليه)(3).
وقال ابن عبد الهادي(4): (مجهول الحال)(5).
وقال ابن حجر: (صويلح الحديث... ثم قال: وأنكر ما عنده حديثه عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً: {من زار قبري وجبت له شفاعتي}(6).
واختلف في رواية موسى بن هلال هل هي عن عبد الله بن عمر العمري الضعيف أم عن أخيه عبيد الله العمري الثقة. زعم السبكي أن روايته عن عبيد الله المصغر الثقة أرجح ويحتمل أن يكون الحديث عن عبيد الله وعبد الله جميعاً ويكون موسى سمع منهما(7).
وقد جانب السبكي الصواب فيما ذهب إليه: والصواب أن رواية موسى بن هلال عن عبد الله المكبر.
__________
(1) الحافظ العلاّمة أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري صاحب المسند الكبير. ت. سنة 192هـ. التذكرة (2/653). وانظر: مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة لابن حجر العسقلاني (1/481).
(2) ابن أبي حاتم: الجرح والتعديل (8/166).
(3) العقيلي: الضعفاء (4/170).
(4) محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن يوسف بن قدامة المقدسي الحنبلي، أحد الأذكياء مهر في الحديث ومعرفة الرجال والعلل والعربية، له من التصانيف: تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق والأحكام الكبرى والمحرر في الأحكام وغير ذلك. انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (4/436)، والدرر الكامنة لابن حجر (3/331).
(5) ابن عبد الهادي: الصارم المنكي في الرد على السبكي ص (32).
(6) لسان الميزان (6/134).
(7) شفاء السقام، ص (8).(1/135)
قال ابن حجر: (قال ابن خزيمة في صحيحه في باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم إن ثبت الخبر فإن في القلب منه(1) ثم رواه(2) عن الأحمسي(3) كما تقدم(4) وعن عبد الله بن محمد الوراق عن موسى بن هلال عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه به وقال بعده(5): أنا أبرأ من عهدته، هذا الخبر من رواية الأحمسي أشبه لأن عبيد الله بن عمر أجل وأحفظ من أن يروي هذا المنكر، فإن كان موسى بن هلال لم يغلط في من فوق العمرين فشبه أن يكون هذا من حديث عبد الله بن عمر، فأما من حديث عبيد الله بن عمر فإني لا أشك أنه ليس من حديثه(6).
قال ابن حجر: (هذه عبارته بحروفها، وعبد الله بن عمر العمري بالتكبير ضعيف الحديث وأخوه عبيد الله بن عمر بالتصغير ثقة حافظ جليل، ومع ما تقدم من عبارة ابن خزيمة وكشفه لعلة هذا الخبر لا يحسن أن يقال أخرجه ابن خزيمة في صحيحه إلا مع البيان)(7).
ومما يقطع النزاع أن رواية موسى بن هلال عن عبد الله لا عن عبيد الله ما ذكره الدولابي في الكنى قال: (حدثنا علي بن معبد بن نوح قال حدثنا موسى بن هلال قال حدثنا عبد الله بن عمر أبو عبد الرحمن أخو عبيد الله عن نافع عن ابن عمر.. ثم ذكر الحديث)(8)).
__________
(1) هنا محذوف تقديره: شيئاً.
(2) أي ابن خزيمة.
(3) محمد بن إسماعيل الأحمسي.
(4) أي ذكره قريباً في اللسان في ترجمة موسى بن هلال نفسها.
(5) أي ابن خزيمة.
(6) نقلت عبارة ابن خزيمة من اللسان وذلك لنقصان النسخة المطبوعة، قال محققها بعد ذكره باب إباحة العمرة قبل الحج: (انتهت المخطوطة أدعو الله أن يمن علينا بنسخة لهذا الكتاب كاملة غير ناقصة).
(7) لسان الميزان (6/135).
(8) الدولابي: الكنى والأسماء (2/64).(1/136)
قال الحافظ ابن حجر معلقاً على عبارة الدولابي: (فهذا قاطع للنزاع من أنه عن المكبر لا عن المصغر فإن المكبر هو الذي يكنى أبا عبد الرحمن وقد أخرج الدولابي هذا الحديث في من يكنى أبا عبد الرحمن)(1). وعليه فقد ثبت أن رواية موسى بن هلال كانت عن عبد الله بن عمر العمري الذي قال فيه: البخاري: (كان يحيى بن سعيد يضعفه)(2).
والنسائي: (ليس بالقوي)(3).
وابن حبان: (كان ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن ضبط الأخبار وجودة الحفظ للآثار فرفع المناكير في روايته فلما فحُش خطؤه استحق الترك)(4).
الحكم على الحديث:
قال البيهقي: (سواءً قال(5) عبيد الله أو عبد الله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر لم يأت به غيره)(6).
وقال النووي معلقاً على إيراد الشيرازي(7) للحديث موضوع الدراسة: (وأما حديث ابن عمر فرواه البزار والدارقطني والبيهقي بإسنادين ضعيفين)(8). وقال ابن عبد الهادي: (حديث منكر عند أئمة هذا الشأن ضعيف الإسناد عندهم لا يقوم بمثله حجة ولا يعتمد على مثله في الاحتجاج(9). ومر بنا قريباً إنكار ابن خزيمة وابن حجر لهذا الحديث(10).
وأما دليلهم الثاني: الذي رواه البزار ففيه عبد الله بن إبراهيم:
قال فيه البزار عقيب الحديث: (عبد الله بن إبراهيم لم يتابع على هذا)(11).
__________
(1) لسان الميزان (6/135).
(2) البخاري: التاريخ الصغير، ص (452).
(3) النسائي: الضعفاء والمتروكون. ص (140).
(4) ابن حبان: كتاب المجروحين (2/7).
(5) أي موسى بن هلال العبدي.
(6) البيهقي: شعب الإيمان (3/490).
(7) إبراهيم بن علي بن يوسف أبو إسحاق الشافعي صاحب المهذب في الفقه الشافعي والتنبيه واللمع وغيرها ت. سنة 446هـ. انظر: طبقات الشافعية للأسنوي (2/83).
(8) النووي: المجموع شرح المهذب (8/272).
(9) الصارم المنكي في الرد على السبكي لابن عبد الهادي، ص (30).
(10) ص (157).
(11) ابن حجر، مختصر زوائد البزار (1/481).(1/137)
وقال العقيلي: (كان يغلب على حديثه الوهم)(1).
وقال ابن حبان: (كان ممن يأتي على الثقات بالمقلوبات وعن الضعفاء بالملزقات)(2).
وقال ابن حجر: (متروك)(3).
وفي الحديث أيضاً عبد الرحمن بن زيد تقدمت(4) أقوال العلماء في ضعفه.
الحكم على الحديث:
تقدم قول النووي بضعفه(5).
وقال ابن عبد الهادي: (حديث ضعيف منكر ساقط الإسناد)(6).
وبالنظر إلى متن الحديثين نجد:
__________
(1) العقيلي: الضعفاء (2/233).
(2) المجروحين (2/37).
(3) تقريب التهذيب (1/400).
(4) انظر ص (124).
(5) ص (158).
(6) ابن عبد الهادي: الصارم المنكي ص (56).(1/138)
حصول الشفاعة بل وجوبها لمن زار قبره صلى الله عليه وسلم، وهذا لم يثبت؛ لأنَّ حصول الثواب على عبادةٍ ما أمر توقيفي لا يؤخذ إلا من كتاب الله تعالى أو الصحيح من سُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح، وقد بين أهل العلم بالحديث أن مثل تلك الروايات لا يعتمد عليها في أخذ الأحكام الشرعية، وقد أغنانا الله من فضله عن تلك الروايات الضعيفة بما صح عن رسوله الكريم صلوات ربي وسلامه عليه مما يبين ويوضح لنا كيف نحظى بشفاعته صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قيل: {يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، أو نفسه}(1)، ومن ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليَّ فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له شفاعتي}(2). وغير ذلك من الأحاديث التي تبين أسباب الحصول على شفاعته صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) خ: ك. العلو، باب. الحرص على الحديث (1/193) مع الفتح.
(2) تقدم تخريجه، ص (65).(1/139)
فإذا علمنا هذا فقد يرد تساؤل لماذا يتشبث الغلاة بمثل تلك الأحاديث الواهية وينافحون عنها؟! أيستدلون بها ظناً منهم أن أحداً من المسلمين ينكر زيارة مسجده عليه الصلاة والسلام المتضمنة لزيارة قبره الشريف وقبري صاحبيه وأهل البقيع وغير ذلك من الأماكن التي تشرع للزائر إذا قدم مدينته صلى الله عليه وسلم؟! وبالرجوع إلى كتب أهل العلم، وكتب الغلاة تبين لي أن الغلاة لم يهتدوا إلى التفريق بين الحث والترغيب في زيارة القبور مطلقاً وبين السفر إليها بشد الرحال، فالأول أمر مستحب دلت عليه السنة ففي مسلم وغيره قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {.. فزوروا القبور فإنها تُذكّر الموت}(1) الحديث. والثاني منهي عنه للنهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة في الحديث المتفق عليه: {لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى...}(2) واللفظ لمسلم(3). وفي هذا المعنى يقول ابن عبد الهادي: (والسفر إلى زيارة القبور مسألة وزيارتها من غير سفر مسألة أخرى، ومن خلط هذه المسألة بهذه المسألة وجعلها مسألة واحدة وحكم عليها بحكم واحد وأخذ في التشنيع على من فرق بينهما وبالغ في التنفير عنه فقد حُرِم التوفيق وحاد عن سواء الطريق)(4). وهذا الذي قاله ابن عبد الهادي هو ملخص ما قاله ابن تيمية في مسألة الزيارة المشهورة التي افترى عليه فيها الغلاة الكذب، وزعموا أن الشيخ يمنع زيارة القبور مطلقاً أو زيارة قبره صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) م: ك. الجنائز (7/46) مع النووي.
(2) خ: ك. الصوم، ب. صوم يوم النحر (4/240-241) مع الفتح، م: ك. الحج (9/105-106) مع النووي.
(3) انظر تفاصيل أكثر حول هذا الحديث: الرد على الأخنائي لابن تيمية ص (43).
(4) الصارم المنكي، ص (27).(1/140)
قال الشيخ الألباني: (يظن كثير من الناس أن شيخ الإسلام ابن تيمية ومن نحى نحوه من السلفيين يمنع زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، وهذا كذب وافتراء وليست أول فرية على ابن تيمية رحمه الله تعالى، وكل من له اطلاع في كتب ابن تيمية يعلم أنه يقول بمشروعية زيارة قبره صلى الله عليه وسلم واستحبابها إذا لم يقترن بها شيء من المخالفات والبدع، مثل شد الرحل والسفر إليها لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: {لا تشد الرحل إلا إلى ثلاثة مساجد}. والمستثنى منه ليس هو المساجد فقط كما يظن كثيرون بل هو كل مكان يقصد للتقرب إلى الله فيه سواء كان مسجداً أو قبراً أو غير ذلك، بدليل ما رواه أبو هريرة قال: (في حديث له): {فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من الطور، فقال: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد} الحديث أخرجه أحمد وغيره بسند صحيح.
فهذا دليل على أن الصحابة فهموا الحديث على عمومه، ويؤيده أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه شد الرحل لزيارة قبر ما، فهم سلف ابن تيمية في هذه المسألة، فمن طعن فيه فإنما يطعن في السلف الصالح رضي الله عنهم(1).
__________
(1) السلسلة الضعيفة (1/64).(1/141)
ولم يكتف الغلاة بمثل تلك الفرية فحسب على شيخ الإسلام، بل شنعوا عليه غاية التشنيع وتحاملوا عليه غاية التحامل فرأيت أن أذكر هنا بعض أوجه هذا التحامل ثم دفاع تلاميذ الشيخ عنه بما عرفوه من عقيدة شيخهم، ورأى شيخ الإسلام فيما نسب إليه؛ وذلك نصرة للحق وأهله؛ وحتى لا يُحرم العامة من الاستفادة من هذا العالم الرباني لا سيما وأن جُلَّ كتاباته كانت في العقيدة. علماً بأن كتب المتحاملين عليه القدامى ما زالت إلى الآن تطبع وتنشر بالإضافة إلى المتحاملين الجدد(1).
فمن أقوال المتحاملين عليه رحمه الله: 1- قول السبكي: (ضمنت هذا الكتاب الرد على من زعم أن أحاديث الزيارة كلها موضوعة وأن السفر إليها بدعة غير مشروعة، وهذه المقالة أظهر فساداً من أن يرد عليها العلماء... إلى أن قال: وكنت سميت هذا الكتاب (شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة)(2).
__________
(1) النبهاني في كتابه المسمى شواهد الحق، والكوثري في مقالاته، وعبد الله الصديق الغماري في كتابه المسمى الرد المحكم المتين، وغيرهم.
(2) شفاء السقام، ص (2).(1/142)
2- قول ابن حجر الهيتمي بعد أن نقل الإجماع على مشروعية الزيارة والسفر إليها قال: (فإن قلت كيف تحكي الإجماع السابق على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها وابن تيمية من متأخري الحنابلة منكر لمشروعية ذلك كله كما رآه السبكي في خطه وأطال -أعني ابن تيمية- في الاستدلال لذلك بما تمجه الأسماع وتنفر عنه الطباع، بل زعم حرمة السفر إليها إجماعاً وأنه لا تقصر فيه الصلاة وأن جميع الأحاديث الواردة فيها موضوعة وتبعه من تأخر عنه من أهل مذهبه؟ قلت -أي ابن حجر الهيتمي- من هو ابن تيمية حتى ينظر إليه أو يُعَوَّلُ في شيء من أمور الدين عليه وهل هو إلا كما قال جماعة من الأئمة الذين تعقبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة حتى أظهروا عوار سقطاته وقبائح أوهامه وغلطاته كالعز بن جماعة: (عبد أضله الله وأغواه وألبسه رداء الخزي وأرداه وبوأه من قوة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان وأوجب له الحرمان)...)(1). وغيرهما.
__________
(1) الهيتمي: الجوهر المنظم، ص (13).(1/143)
فانتدب بعض تلامذة شيخ الإسلام الذين عرفوا مذهب شيخهم في هذه المسألة وغيرها فأبرأوا ذمتهم بقول الحق الذي يعرفونه، ومن هؤلاء ابن كثير المفسر والمؤرخ المشهور. حيث يقول: (دخل القاضي جمال الدين بن جملة وناصر الدين مشد الأوقاف، وسألاه -يعني ابن تيمية- عن مضمون قوله في مسألة الزيارة، فكتب ذلك في درج وكتب تحته قاضي الشافعية بدمشق: قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية إلى أن قال: (وإنما المَحَز جعله زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصية بالإجماع مقطوعاً بها)، فانظر الآن هذا التحريف على شيخ الإسلام، فإن جوابه على هذه المسألة ليس فيه منع زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما ذكر قولين في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور، وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى، والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل، بل يستحبها ويندب إليها، وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض إلى هذه الزيارة في هذا الوجه في الفتيا، ولا قال إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها ولا هو جاهل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة} والله سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء ولا يخفى عليه خافية، ((وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)) [الشعراء:227](1).
وقال ابن عبد الهادي في مقدمة الصارم المنكي: (قبل الشروع في الكلام مع هذا المعترض -يعني السبكي الكبير- أن شيخ الإسلام رحمه الله لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه ولم ينه عنه ولم يكرهها بل استحبها وحضَّ عليها ومناسكه ومصنفاته طافحة بذكر استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر القبور)(2)).
رأي شيخ الإسلام فيما نسب إليه:
__________
(1) البداية والنهاية (14/129).
(2) الصارم المنكي، ص (24).(1/144)
لم يكن شيخ الإسلام رحمه الله يأبه لمثل تلك التشنيعات التي رُمي بها لولا أن بعض أصحابه أرسل إليه جزءاً صنفه بعض القضاة(1) في مسألة السفر إلى غير المساجد الثلاثة وأقسم عليه بالله أن يكتب رداً ليظهر للناس جهل مثل هؤلاء الذين يتكلمون في الدين بغير علم(2).
قال شيخ الإسلام: (قال المعترض(3): (أما بعد فإن العبد لما وقف على الكلام المنسوب لابن تيمية المنقول عن نسخة فتياه ظهر لي -من صريح ذلك القول وفحواه- مقصده السيئ ومغزاه، وهو تحريم زيارة قبور الأنبياء وسائر القبور والسفر إليها ودعواه أن ذلك معصية محرمة مجمع عليها). فيقال: هذا الكلام مع قلته فيه من الكذب الباطل والافتراء ما يُلْحِقُ صاحبه بالكذابين المردودي الشهادة، أو الجُهَّال البالغين في نقض الفهم والبلادة. وكان ينبغي له أن يحكي لفظ المجيب بعينه ويبين ما فيه من الفساد وإن ذَكَرَ معناه فليسلك سبيل الهدى والسداد. فأما أن يذكر عنه ما ليس فيه ولا يذكر ما فيه فهذا خروج عن الصدق والعدل إلى الكذب والظلم. وذلك أن الجواب ليس فيه تحريم زيارة القبور ألبتة، لا قبور الأنبياء والصالحين، ولا غيرهم، ولا كان السؤال عن هذا وإنما فيه الجواب عن السفر إلى القبور وذَكْرِ قولي العلماء في ذلك.
__________
(1) محمد بن أبي بكر الأخنائي المالكي القاضي ت. سنة 750هـ. انظر: الديباج المذهب في معرفة علماء المذهب لابن فرحون المالكي (2/321)، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر (3/407).
(2) انظر ابن تيمية الرد على الأخنائي ص (8-10).
(3) الأخنائي.(1/145)
والمجيب قد عُرِفَتْ كتبه وفتاويه مشحونة باستحباب زيارة القبور وفي جميع مناسكه يذكر استحباب زيارة قبور أهل البقيع وشهداء أحد ويذكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل مسجده والأدب في ذلك وما قاله العلماء، وفي نفس الجواب قد ذكر ذلك ولم يذكر قط أن زيارة القبور معصية ولا حكاه عن أحد بل كان يعتقد حين كتب هذا الجواب أن زيارة القبور مستحبة بالإجماع ثم رأى بعد ذلك فيها نزاعاً هو نزاع مرجوح والصحيح أنها مستحبة)(1)... إلى أن قال رحمه الله تعالى: (والمقصود هنا أن ما حكاه عن المجيب أنه يُحرِّم زيارة قبور الأنبياء، وزيارة القبور كذب بَيّن على المجيب ليس في الجواب وإنما فيه السفر خاصة، وكلام المجيب فيما لا يحصيه إلا الله يبين كذب النقل وأنه يستحب زيارة قبور المؤمنين عموماً فضلاً عن الصالحين والأنبياء. وبل نفس السفر الذي ذكر فيه قولين لم يذكر أنه يختار أحد القولين بل ذكر حجة هؤلاء وهؤلاء فكيف يجوز أن يُحكى عنه أنه حرَّم زيارة قبور الأنبياء والصالحين وسائر القبور وأنه ادعى أن ذلك معصية محرمة مجمع عليها؟! ثم من المعلوم لكل من قرأ شيئاً من العلم ما في كتب العلماء من إباحة زيارة القبور للرجال أو استحباب ذلك، وذكر النزاع في زيارتها للنساء. هذا موجود في الكتب الصغار والكبار وقد قرأه المجيب وقُرِىء عليه مرات لا يحصيها إلا الله وليس هذا مما يخفى على آحاد الطلبة الذين يحضرون عنده. فكيف يحكي إجماع المسلمين على أن زيارة قبور الأنبياء وسائر القبور معصية محرمة؟! ولو كان لهذا القاضي نوع عقل وحُكي له ذلك عن آحاد الطلبة لم يصدقه وقال: هل في الإسلام من ينتسب إلى أدنى علم يقول إن زيارة القبور معصية محرمة مجمع عليها؟ فهل في الإسلام شخص يحكي الإجماع على تحريم زيارة القبور مطلقاً؟ وإذا كان هذا ما يعلم انتفاؤه عن جميع المسلمين كان انتفاؤه عن المجيب أولى(2)
__________
(1) الرد على الأخنائي، ص (16-17).
(2) المرجع السابق، ص (33-34).(1/146)
ثم ذكر رحمه الله نص السؤال والجواب فليراجع.
المبحث الثاني: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأن من حج حجة الإسلام وزار قبره وغزا غزوة وصَلّى عليه في بيت المقدس لم يسأله الله تعالى فيما افترض عليه:
هذه خطوة أخرى من خطوات عدو الله إبليس حسنها وزيَّنها للقوم يدعوهم فيها للتنصل والانسلاخ من دين الله وشرائعه وفرائضه.
فقد أورد السبكي في شفائه من رواية أبي الفتح محمد بن الحسين الأزدي في الثاني من فوائده بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً قال: {من حج حجة الإسلام وزار قبري وغزا غزوة وصلى عليَّ في بيت المقدس لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه}(1) مستدلاً بذلك على فضل زيارة القبر النبوي الشريف وتعظيمه.
وهذا الحديث موضوع باطل لا شك في بطلانه ويتبين هذا من خلال:
- ضعف سنده.
- المفاسد العظيمة المترتبة على متنه.
أولاً: سند الحديث: وفيه: بدر بن عبد الله المصيصي مجهول الحال.
قال الذهبي الذي لم يذكر في ترجمته إلا سطراً واحداً: (روى خبراً باطلاً)(2). وعلق ابن حجر على قول الذهبي بقوله: (والخبر المذكور أخرجه أبو الفتح الأزدي في الثامن من فوائده... ثم ذكر نص الحديث المستدل به)(3).
وقال عنه ابن عبد الهادي: (لم يعرف بثقة ولا عدالة ولا أمانة)(4).
بل قال السبكي نفسه عنه بعد إيراده للحديث: (ما علمت من حاله شيئاً)(5). وفي السند أيضاً أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي الموصلي.
قال فيه الخطيب البغدادي(6): (في حديثه غرائب ومناكير).
__________
(1) شفاء السقام، ص (34).
(2) ميزان الاعتدال (2/4).
(3) لسان الميزان (2/4).
(4) الصارم المنكي، ص (224).
(5) شفاء السقام، ص (34).
(6) أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي الشافعي، أحد مشاهير الحفاظ، كان بحراً في الرواية والدراية. من تصانيفه تاريخ بغداد، ت. سنة 463هـ. انظر: طبقات الشافعية للأسنوي (1/201)، البداية والنهاية (6/108).(1/147)
وقال أيضاً: (حدثني أبو النجيب الأرموي قال: رأيت أهل الموصل يوهنون أبا الفتح الأزدي جداً ولا يعدونه شيئاً).
وقال: (حدثني محمد بن صدقة الموصلي أن أبا الفتح قدم بغداد على الأمير -يعني ابن بويه- فوضع له حديثاً: (أن جبريل كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في صورته. قال فأجازه وأعطاه دراهم كثيرة).
وقال أيضاً: (سألت أبا بكر البرقاني عن أبي الفتح الأزدي: فأشار إلى أنه كان ضعيفاً وقال: رأيته في جامع المدينة وأصحاب الحديث لا يرفعون به رأساً ويتجنبونه)(1).
وقال الجوزي(2): (كان حافظاً ولكن في حديثه مناكير وكانوا يضعفونه)(3).
وذكر تضعيف الأزدي كل من: الذهبي(4)، وابن حجر(5)، وابن كثير(6).
وقد ذكره ابن عراق في سلسلته التي ذكرها في أسماء الوضاعين والكذابين ومن كان يسرق الأحاديث ويقلب الأخبار ومن اتهم بالكذب والوضع. وقال عنه: (متهم بالوضع)(7).
الحكم على الحديث:
قال الذهبي إنه: (خبر باطل).
وقال ابن عبد الهادي: (هذا الحديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب عند أهل المعرفة بالحديث)(8).
__________
(1) انظر الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد (2/244).
(2) الإمام الحافظ عالم العراق وواعظ الآفاق جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي، صاحب التصانيف السائرة في سائر الفنون منها: المغني في علوم القرآن، وزاد المسير في التفسير، والموضوعات، والضعفاء، وغيرها ت. سنة 597هـ، تذكرة الحفاظ (4/1342).
(3) ابن الجوزي: الضعفاء والمتروكين (3/53).
(4) ميزان الاعتدال (3/523).
(5) لسان الميزان (11/139).
(6) البداية والنهاية (11/323).
(7) ابن عراق: تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة (1/103).
(8) الصارم المنكي، ص (222).(1/148)
يقول أحمد النجمي: (وعلامات الوضع بادية في قوله: (لم يسأله الله فيما افترض عليه) فإن سؤال العباد في الآخرة عما افترض عليهم ومحاسبتهم على ذلك من الأمور القطعية الثابتة بصريح القرآن وصحيح السنة، قال تعالى وهو أصدق قائل: ((فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الحجر: 92-93]. ففي هذه الآية أخبر الله عز وجل بأن السؤال حاصل لجميع الناس وأكد هذا الخبر بثلاثة مؤكدات هي: القسم واللام والنون التوكيدية ثم أكد الضمير (بأجمعين) ليدل على استيعاب السؤال لجميع المكلفين)، وغير ذلك من الآيات. وأما السنة ما رواه أصحاب السنن: {أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن وجدت تامة كتبت تامة وإن كان انتقص منها شيء قال: انظروا هل تجدون له من تطوع يُكمِّل له ما ضيَّع من فريضة من تطوعه، ثم سائر الأعمال تجري على حسب ذلك}(1)(2) واللفظ للنسائي.
ثانياً: المفاسد العظيمة المترتبة على الحديث:
لمَّا سوَّد السبكي بهذا الحديث كتابه لا أدري هل تأمل متن الحديث جيداً وعرف ما يلزم منه من لوازم تنقض عرى الإسلام عروة عروة أم غلب عليه الهوى حتى أصمه وأعمى بصره وبصيرته عن تدبر ما يلزم من ذلك الحديث.
__________
(1) رواه الترمذي في جامعه (2/269) ح (413)؛ وابن ماجة في سننه (1/458) ح (1425)، وصحيح ابن ماجة للألباني (1/240).
(2) انظر أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة للشيخ أحمد يحيى النجمي ص (155).(1/149)
- هل يعتقد السبكي ومن شايعه: أن من حج حجة الإسلام وزار قبره عليه الصلاة والسلام وغزا غزوة وصلى في بيت المقدس جاز له أن يعبد غير الله تعالى؟! وأنه إذا عبد غير الله لا يسأله الله عما افترض عليه من التوحيد محتجاً بهذا الحديث، والله سبحانه هو القائل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)) [الزمر:65-66].
- هل يعتقد السبكي ومن شايعه: أن من أتى بتلك الأعمال جاز له ترك الصلاة والزكاة؟! وهما مما افترض على العبد وقد جاء في شأن الصلاة: {إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر}(1).
- هل يعتقد السبكي ومن شايعه: أن من أتى بتلك الأعمال حلَّ له شرب الخمر ونكاح الأمهات والأخوات والبنات؟! لأنه يزعم أن الله لا يسأله عما افترض عليه من اجتناب محارمه مما هو معلوم من الدين بالضرورة. وغير ذلك من اللوازم الفاسدة التي من اعتقدها خرج عن دائرة الإسلام والمسلمين. نعوذ بالله من الخذلان.
أصناف حُجاج القبور:
الصنف الأول: قوم يقصدون القبور من أجل قضاء الحاجات، وطلب الدعاء من الأموات، فمنهم من يسأل المقبور شفاء الأسقام، ومنهم من يطلبه رد غائبه، أو إنجاح ولده، ومنهم من يطلب منه إنزال الأمطار والحصول على الذرية وغير ما ذكر، وقد شاهدت بعض ذلك بنفسي بل هو مشاهد في جميع أرجاء العالم الإسلامي ولا ينكر ذلك إلا مكابر.
__________
(1) رواه ابن ماجة في سننه (1/342) ح (1079)، وانظر صحيح ابن ماجة (1/177).(1/150)
يقول شيخ الإسلام: (وهؤلاء الذين يحجون إلى القبور يقصدون ما يقصده المشركون الذين يقصدون بعبادة المخلوق ما يقصده العابدون لله وحده. منهم من قَصدُه قضاء حاجته وإجابة سؤاله. يقول: (هؤلاء أقرب إلى الله مني فأنا أتوسل بهم فهم يتوسطون لي في قضاء حاجتي كما يتوسط خواص الملك لمن يكون بعيداً عنهم، وقد ينذر لهم أو يأتي بقربات بلا نذر ويتقربون إليهم بما ينذرونه ويهدونه إلى قبورهم كما يتقرب المسلمون بما يتقربون به إلى الله من الصدقات والضحايا، وكما يهدون إلى مكة أنواع الهدي. ومنهم من يجعل لصاحب القبر نصيباً من ماله أو بعض ماله، أو يجعل ولده كما كان المشركون يفعلون بآلهتهم، ومنهم من يسيب لهم السوائب فلا يُذبح ولا يركب ما يسيب لهم من بقر وغيرها كما كان المشركون يسيبون لطواغيتهم، فهذا صنف)(1). الصنف الثاني: قال رحمه الله: (وصنف ثان يحجون إلى قبورهم لِما عندهم من المحبة للميت والشوق إليه أو التعظيم والخضوع له، فيجعلون السفر إلى قبره أو إلى صورته الممثلة تقوم مقام السفر إلى نفسه لو كان حياً، ويجدون بذلك أنساً في قلوبهم وطمأنينة وراحة كما يحصل لكثير من المحبين إذا رأى قبر محبوبه، وكما يحصل للقريب أو الصديق إذا رأى قبر قريبه وصديقه، لكن ذلك حب وتعظيم ديني فهو أعظم تأثيراً في النفوس، ولهذا يجد كل قوم عند قبر من يحبونه ويعظمونه ما لا يجدونه عند قبر غيره وإن كان أفضل.
__________
(1) الرد على الأخنائي، ص (90-91).(1/151)
وكثير من أتباع المشايخ والأئمة يجدون عند قبور مشايخهم وأئمتهم ما لا يجدونه عند قبور الأنبياء لا نبينا صلى الله عليه وسلم ولا غيره وذلك، لأن الوجد الذي يجدونه ليس سببه نفس فضيلة المزور بل سببه ما قام بنفوسهم من حبه وتعظيمه وإن كان هو لا يستحق ذلك... إلى أن قال: وكذلك عباد العجل، قال الله تعالى: ((وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ)) [البقرة: 93] أي حب العجل هذا قول الأكثرين... إلى أن قال: وهذا الجنس من الزيارة ليس مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لا إباحة ولا ندباً ولا استحبه أحد من أئمة الدين بل هم متفقون على النهي عن هذا الجنس كله)(1). وبهذا يتبين أن قول دحلان: (وأما تخيل المانعين المحرومين من بركاته أن منع التوسل والزيارة من المحافظة على التوحيد وأن التوسل والزيارة مما يؤدي إلى الشرك فهو تخيل فاسد باطل)(2)، من المكابرة والمعاندة بالباطل. فهو يعلم أنه لا أحد يمنع التوسل الصحيح المشروع ولا الزيارة الخالية من البدع والمخالفات الشرعية وإنما الممنوع بناء العقائد على الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنامات واستحسانات الرجال وغير ذلك مما يخالف صريح القرآن وصحيح السنة وإجماع سلف الأمة، وهذا من المحافظة على التوحيد دون شك. وكلام دحلان هذا مستفاد من كلام سلفه السبكي الذي يقول: (فإن قلت الفرق أيضاً أن غيره لا يخشى فيه محذور وقبره صلى الله عليه وسلم يخشى الإفراط في تعظيمه أن يعبد. قلت: هذا كلام تقشعر منه الجلود ولولا خشية اغترار الجهال به لما ذكرته فإن فيه تركاً لما دلت عليه الأدلة الشرعية بالآراء الفاسدة الخيالية وكيف يقدم على تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: {زوروا القبور}(3)، وعلى ترك قوله: {من زار قبري وجبت له
__________
(1) الرد على الأخنائي، ص (91-94) باختصار.
(2) الدرر السنية، ص (18).
(3) هذا الحديث لا دليل له فيما ذهب إليه وإنما يدل على الزيارة المشروعة لا الممنوعة.(1/152)
شفاعتي}(1)، وعلى مخالفة إجماع السلف(2) والخلف بمثل هذا الخيال الذي لا يشهد به كتاب ولا سنة... إلى قوله وجوب المبالغة في تعظيمه وتوقيره صلى الله عليه وسلم)(3). وقد أجاب عن ذلك ابن عبد الهادي بكلام رصين كشف به تلاعب المتلاعبين قال: (والجواب أن يقال لا يخفى ما في هذا الكلام من التلبيس والتمويه والغلو والتخليط والقول بغير علم والمناقشة على جميع ذلك تفضي إلى التطويل ولكن التنبيه على البعض كاف لمن وفقه الله. قوله: (فإن قلت الفرق أيضاً أن غيره لا يخشى فيه محذور... الخ) سؤال لا تخفى صحته وقوته على أهل العلم والإيمان. وقوله في جوابه: (هذا كلام تقشعر منه الجلود... إلخ). فيقال نعم تقشعر منه جلود عُبَّادِ القبور الذين إذا دُعوا إلى عبادة الله وحده وأن لا يشرك به ولا يتخذ من دونه وثن يعبد اشمأزت قلوبهم واقشعرت جلودهم واكفهرت وجوههم ولا يخفى أن هذا نوع مشابهة للذين قال الله فيهم: ((وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)) [الزمر: 54].
__________
(1) تقدم تخريج هذا الحديث ص (155) وبيان أقوال أهل العلم في ضعفه.
(2) أما السلف فإجماعهم على الزيارة الشرعية لا البدعية وأما الخلف فإن خالف إجماعهم السلف فلا يلتفت إليهم.
(3) شفاء السقام ص (85-86).(1/153)
ثم يقال: أما جلود أهل التوحيد المتبعين للرسول العالِمين بمقاصده الموافقين له فيما أحبه ورغب فيه وكرهه وحذر منه فإنها لا تقشعر من هذا الفرق بل تزيد قلوبهم وجلودهم طمأنينة وسكينة وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فلا تزيدهم قواعد التوحيد وأدلته وحقائقه وأسراره إلا رجساً إلى رجسهم، وإذا سلك التوحيد في قلوبهم دفعته قلوبهم وأنكرته ظناً منهم أنه تنقص وهضم للأكابر وإزراء بهم وحط لهم عن مراتبهم وأتباع هؤلاء ضعفاء العقول وهم أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، وأما أهل العلم والإيمان فإنما تقشعر جلودهم من مخالفة الرسول فيما أمر ومن ترك قبول قوله فيما أخبر ومن قولى القائل وإقراره بأن اليقين لا يستفاد بقوله صلى الله عليه وسلم وأنه يجب تقديم عقول الرجال وآرائهم على قوله صلى الله عليه وسلم إذا خالفها وأنه يجب أو يشرع الحج إلى قبره ويجعل من أعظم الأعياد ويحتج بفعل العوام والطغام على أن هذا من دينه صلى الله عليه وسلم، ويقدم هديهم على هدى المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ويستحل تكفير من نهى عن أسباب الشرك والبدع ودعا إلى ما كان عليه خيار الأمة وساداتها ويستحل عقوبته وينسب إلى التنقص والإزراء. فهذا وأمثاله تقشعر منه جلود أهل العلم والإيمان)(1). إلى قوله: (وقوله إن المبالغة في تعظيمه واجبة). أيريد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به واعتقاد أنه يعلم الغيب وأنه يعطي ويمنع ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج كروب المكروبين وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء؟ فدعوى وجوب المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين، أم يريد بها التعظيم الذي لشرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من وجوب
__________
(1) انظر الصارم المنكي ص (457-459) (مختصراً).(1/154)
محبته وطاعته ومعرفة حقوقه وتصديق أخباره وتقديم كلامه على كلام غيره ومخالفة غيره لموافقته ولوازم ذلك؟ فهذا التعظيم لا يتم الإيمان إلا به ولكن هذا المعترض وأضرابه عن ذلك بمعزل)(1). والمباحث التالية تُبين لنا ما الذي فهمه الغلاة من تعظيم الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
المبحث الثالث: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بمحو الذنوب وعلم ما في اللوح المحفوظ والقلوب:
خصَّ الغلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بخصائص هي من جنس خصائص ربِّ العزة والجلال من غير علم ولا هدى ولا كتاب منير، يتبعون كل شيطانٍ مريد يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً بالتلبيس، والتدليس، وإلقاء الوساوس، والشُّبه؛ ليُخرجوا بها من قل نصيبه من العلوم وقامت حقائق الإيمان في قلبه مقام الرسوم، من النور إلى الظلمات قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ)) [الأنعام: 112-113].
وقال: ((هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ)) [الأنعام:148].
__________
(1) المرجع السابق، ص (464).(1/155)
يظنون ظناً كاذباً خاطئاً أن بإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم تلك الخصائص يكون تعظيمه وتوقيره وتبجيله، وجهلوا أو تجاهلوا حقيقة (لا إله إلا الله) التي قامت عليها دعوته وجهاده صلى الله عليه وسلم. ففتحوا لأنفسهم باباً إلى الجحيم بدعوى المحبة والتعظيم. ويتجلى ذلك الغلو في كتب المولد والمدائح النبوية، وقد أجرى الله سبحانه وتعالى الحق على لسان أحد علمائهم فحذَّر من مثل تلك الكتب لما فيها من غلو ومبالغات في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول عبد الله الصديق الغماري: (فما يوجد في كتب المولد النبوي وقصة المعراج من مبالغات وغلو لا أساس له من الواقع يجب أن تحرق لئلا يحرق أصحابها وقارؤها في نار جهنم نسأل الله السلام والعافية)(1).
والنماذج الشعرية التالية توضح ما جعله الغلاة للرسول صلى الله عليه وسلم من خصائص هي من جنس خصائص الربوبية والإلهية:
يقول البُرعي:
يا صاحب القبر المنير بيثرب ……
أنا من ذنوبي في أشد وثاقي
ناداك من برع أسير ذنوبه ……
أفلا تمن عليه بالإطلاق
أثقلتُ ظهري بالكبائر سالكاً ……
سبل المهالك صحبة الفساق
ونقضت عهداً قد تقادم عهده ……
يا وافياً بالعهد والميثاق
فاعطف على عبد الرحيم برحمة ……
وافسح له عن ضيق كل خناق(2)
قال النبهاني: قال أبو المواهب البكري مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم:
أقلني عثرة عظُمت فإني ………ضاق بي المذهب
وخلصني وخصصني بسر ………منه لا أسلب
أغث يا سيدي لهفي …………وإلا من له أذهب
وقل لي أنت في جاهي ……فلا تخشَ ولا تتعب
بك استنصرت فانصرني ……فمن تنصره لا يغلب(3)
__________
(1) ملحق عن قصيدة البردة لعبد الله بن الصديق الغماري، ص (77) بذيل كتاب البوصيري مادح الرسول صلى الله عليه وسلم.
(2) ديوان البرعي ص (78-79) مع الشرح.
(3) شواهد الحق للنبهاني ص (377).(1/156)
ويقول البُوصِيري(1):
فإن من جودك الدنيا وضرتها ……
ومن علومك علم اللوح والقلم(2)
ويقول النبهاني:
سيدي أبا البتول أغثني ……
أنت أدرى بما حواه الضمير(3)
خصّ الغلاة النبي صلى الله عليه وسلم بمحو الذنوب وغفرانها:
__________
(1) محمد سعيد بن حماد الصنهاجي البُوصيري المصري، شاعر له ديوان شعر وأشهر شعره بردة المديح والهمزية ت. سنة 696هـ. الأعلام (6/139).
(2) البوصيري: بُردة المديح ص (35).
(3) شواهد الحق ص (363).(1/157)
وهذا لا يكون إلا لله جل وعلا حيث أخبر سبحانه وتعالى أنه غافر الذنب وقابل التوب قال تعالى: ((غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)) [غافر:3]، وأخبر سبحانه وتعالى أنه خبير بصير بذنوب عباده قال تعالى: ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا)) [الإسراء:17]، وأخبرنا جلت عظمته وتقدست أسماؤه بأنه يغفر الذنوب جميعاً، قال تعالى: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [الزمر:53]، بل إن الله تعالى أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يستغفر من ذنبه، قال تعالى: ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ)) [محمد:19]، وقال تعالى: ((فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ)) [غافر:55] وقد غفر الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال تعالى: ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)) [الفتح:2] وأخبر سبحانه وتعالى أنه لا أحد يغفر الذنوب سواه قال تعالى: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ)) [آل عمران: 135] الآية.(1/158)
يقول ابن كثير رحمه الله: (أي لا يغفرها أحد سواه)(1).
وروى الإمام أحمد بسنده عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بأسير فقال: {اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله}(2).
أبعد كل هذا التعريف والبيان من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يعدل إلى الاستدلال بالأشعار والحكايات واستحسانات الرجال لبيان أن أحداً من الخلق يقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى والقول بوجود وسائط بين الخالق والمخلوق؛ لتحصل المنفعة للمخلوق بما لم يُشرع أو يباح لهم فيه. فمن حكاياتهم في ذلك ما رواه النبهاني عن سيده مصطفى البكري قال: (يُحكى أن سيدي محمداً الحنفي قدس الله سره، فرش سجادته على البحر، وقال لمريده: قل يا حنفي وامش، فمشى المريد خلفه فخطر له لِمَ تقول يا حنفي؟ هلا قلت يا الله؟ فلما قالها غرق، فأمسك الشيخ بيده، وقال له: أنت الحنفي تعرفه؟ فكيف بالله؟ فإذا عرفت الله فقل يا الله؟ قال البكري يشير إلى أن الوسائط لا بد منهم)، ومن تلك الحكايات ما حكاه محمد صادق القادري في مناقب الشيخ عبد القادر الكيلاني. قال: (جاءت امرأة ذات يوم إلى حضرة الغوث والتمست من حضرته الدعاء ليعطيها الله ولداً، فراقب اللوح المحفوظ فلم ير لها ولداً مكتوباً فيه، فسأل الله أن يعطيها ولدين، فجاءه النداء من الله: ليس لها ولد مكتوب في اللوح المحفوظ وأنت تطلب لها ولدين؟ فسأل الله أن يعطيها ثلاثة أولاد، فجاءه النداء مثل الأول، فسأل أن يعطيها أربعة أولاد، فجاءه النداء أيضاً مثله، فسأل أن يعطيها خمسة أولاد، فجاء النداء كالسابق، فسأل أن يعطيها ستة أولاد، فجاءه النداء كالسابق، فسأل أن يعطيها سبعة أولاد، فجاءه النداء يكفي يا غوث لا تطلب الزيادة، فبهذه الإشارة جاءت البشارة بإعطاء الله لها سبعة أولاد ذكور، فأعطاه الغوث مقداراً
__________
(1) تفسير القران العظيم (1/416).
(2) حم (3/435).(1/159)
من التراب، وكانت تلك المرأة حينئذ كاملة الصدق والاعتقاد في حضرة الغوث، فوضعت ذلك التراب في فضة وعلقتها كالتعويذة، فأكرمها الله بسبعة أولاد ذكور، وبعد مدة فسد اعتقادها في حق الغوث، وقالت: التراب الذي أعطانيه الغوث أي فائدة تحصل منه؟! فمجرد تفوهها بهذا الكلام مات أولادها، فجاءت إلى الغوث باكية وتضرعت فقالت: يا غوث أغثني؟ فقال الغوث: كان ذلك الزمان زمانه، ففي هذا الزمان ليست فيه فائدة؟ وفي رواية قال لها الغوث: ارجعي إلى بيتك فبأي نية جئت بها تجديهم، فراحت إلى بيتها فوجدتهم أحياء)(1).
فإذا كان هذا حال أحد الأولياء عند الغلاة من قراءة اللوح المحفوظ والإلحاح على الله تعالى أن يُثبت فيه ما لم يكن مثبتاً بعد أن جفت الأقلام ورفعت الصحف قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم يحصل لهذا الولي ما أراد ثم يميتهم بمجرد تغير معتقد تلك المرأة فيه ثم يحيون بمجرد أن يرجع اعتقادها في قدرة ذلك الشيخ على إرادة ما لم يرده الله جعل وعلا فإذا كان هذا هو حال الأولياء مع الله تعالى عند القوم فكيف بحال الأنبياء؟
وكيف بحال سيد المرسين صلى الله عليه وسلم.
يقول مصطفى البكري: (إن الذين يفعلون ذلك إنما يتخذون الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره واسطة لمقامهم الرفيع عند ربهم)(2).
وقبل مناقشة القوم فيما ذهبوا إليه من القول بتلك الوسائط الشركية، أذكر شيئاً عن الوسائط المشروعة:
__________
(1) تفريح الخاطر في مناقب الشيخ عبد القادر الكيلاني ص (42-43).
(2) لمع برق المقامات العوالي في زيارة سيدي حسن الراعي وولده عبد العال لمصطفى البكري الحلوتي، ص (442) ضمن شواهد الحق للنبهاني، وانظر الدرر السنية لزين دحلان ص (17).(1/160)
1- الرسل واسطة تبليغ: قال تعالى: ((يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [الأعراف:36]، وقال تعالى عن أهل النار: ((كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ)) [الملك: 8-9].
وقال تعالى: ((وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)) [الأنعام: 48] الآية.
يقول شيخ الإسلام: (وهذا ما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، فإنهم يُثبتون الوسائط بين الله تعالى وعباده وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أمره وخبره، قال الله تعالى: ((اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ)) [الحج: 75] الآية.
ومن أنكر هذه الوسائط فهو كافر بإجماع أهل الملل)(1).
2- ومن ذلك ما يحدث بين الخلق من الشفاعات المحمودة، قال تعالى: ((مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا)) [النساء: 85].
قال مجاهد: (نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض)(2).
وثبت في الصحيح: {اشفعوا تؤجروا}(3) الحديث، أي من يسعى في أمر يترتب عليه مصلحة من مصالح العباد يكن له نصيب من الخير في ذلك، كما يحدث بين الرعية والملك والرئيس والمرؤوس، ونحوه.
وتلك الوسائط التي تكون بين الملوك والناس على أحد ثلاثة أوجه قاله شيخ الإسلام.
__________
(1) الواسطة بين الحق والخلق، ص (19).
(2) تفسير القرآن العظيم (1/544).
(3) خ: ك. الزكاة، ب. التحريض على الصدقة والشفاعة فيها (3/299) مع الفتح.(1/161)
الوجه الأول:
إما لإخبارهم من أحوال الناس بما لا يعرفونه -أي الملوك- ومن قال إن الله لا يعلم أحوال عباده حتى يخبره بذلك الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر، بل سبحانه يعلم السر وأخفى، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو السميع البصير. يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين. فهل عرف النبهاني تلك الصفات التي لله جلّ وعلا وهو الذي يقول: سيدي أبا البتول أغثني أنت أدرى بما حواه الضمير.
الوجه الثاني:
أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته ودفع أعدائه إلا بأعوان يُعينونه، فلا بد من أنصار وأعوان لذله وعجزه، والله سبحانه وتعالى ليشِ له ظهير(1) ولا ولي من الذل قال تعالى: ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)) [سبأ:22]، وقال تعالى: ((وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا)) [الإسراء:111] وكل ما في الوجود من الأسباب فهو خالقه وربه ومليكه فهو الغني عن كل ما سواه وما سواه فقير إليه.
الوجه الثالث:
__________
(1) معاون.(1/162)
أن يكون الملك ليس مريداً لنفع رعيته والإحسان إليهم ورحمتهم إلا بمحرك يحركه من الخارج، فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظمه أو من يُدل عليه بحيث يكون يرجوه ويخافه تحركت إرادة الملك وهمته في قضاء حوائج رعيته إما لما يحصل في قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير وإما لما يحصل من الرغبة والرهبة من كلام المدل عليه، والله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأشياء إنما تكون بمشيئته فما شاء كان وما لم يشألم يكن(1).
وسبب اتخاذهم الواسطة الشركية هو تشبيههم الخالق جلّ وعلا بالمخلوق.
يقول مصطفى البكري: (إن العبد إذا سمع أو رأى عبداً صالحاً وشاهد أو أخبر عن كرامات أكرمه الله تعالى بها وأحوال وعلوم وهبها له تحقق له أنه أقرب منه لدى الحق جل وعلا كما يتحقق أحدنا بقرب الوزير من قلب السلطان أكثر منا، فإذا أراد قضاء حاجته من السلطان اتخذ له واسطة يوصله إلى السلطان)(2).
__________
(1) الواسطة بين الحق والخلق (باختصار وتصرف يسير) ص (26-27).
(2) لمع برق المقامات العوالي للبكري، ص (446) بذيل شواهد الحق للنبهاني.(1/163)
يقول شيخ الإسلام: (وهذا كما يظنه جهال العُباد من أن لهم على الله سبحانه وتعالى حقاً بعبادتهم وذلك أن النفوس الجاهلية تتخيل أن الإنسان بعبادته وعمله يصير له على الله حق من جنس ما يصير للمخلوق على المخلوق، كالذين يخدمون ملوكهم وملاّكهم فيجلبون لهم منفعة ويدفعون عنهم مضرة، ويبقى أحدهم يتقاضى العوض والمجازاة على ذلك، ويقول له عند جفاء أو إعراض يراه منه ألم أفعل كذا؟ يمن عليه بما يفعله معه، وإن لم يقله بلسانه كان ذلك في نفسه وتخيل هذا في حق الله تعالى من جهل الإنسان وظلمه؟ ولهذا بين سبحانه أن عمل الإنسان يعود نفعه عليه وأن الله غني عن الخلق كما في قوله تعالى: ((إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)) [الإسراء: 7]، وقوله تعالى: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) [فصلت:46]، وقوله تعالى: ((وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)) [النمل:40](1).
__________
(1) قاعدة جليلة ص (103)، ط. مكتبة لينة.(1/164)
ومما يجب أن يعلم أن في كلام هؤلاء المتصوفة إجمال وتدليس وتلبيس على العوام يجب أن يحذر، يقول محمد بن علوي المالكي: (فالواسطة ليست شركاً وليس كل من اتخذ بينه وبين الله واسطة يعتبر مشركاً وإلا لكان البشر كلهم مشركين لأن أمورهم جميعاً تبني على الواسطة، فالنبي صلى الله عليه وسلم تلقَّى القرآن بواسطة جبريل، فجبريل واسطة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو صلى الله عليه وسلم الواسطة العظمى للصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد كانوا يفزعون إليه في الشدائد.. إلخ)(1). نفى المالكي أن يكون من الوسائط ما هو شرك، ولم يفهم من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن الصحابة يفزعون إليه عند الشدائد، وغفل عن أهم ما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم لأجله من تعريف الخلق بحقوق الخالق وحقائق التوحيد والإيمان، بل إن ما ذكره لا يدل على مراده لأن ما ذكره من فزع الصحابة رضوان الله عليهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من التوسل المشروع الذي هو في حال حياته وفيما يقدر عليه صلى الله عليه وسلم وهذا بخلاف الواسطة الشركية التي يفهمها الغلاة والتي نفاها الدكتور المالكي والذي يصرح بها البكري بقوله: (فمن قال مثلاً: يا سيدي عبد القادر، فمراده كن شفيعي عند الله في قبول ما سألته من ربي فإني أعتقد أنك أقرب مني إليه والأقربون أولى بالمعروف، أو فتشفع لي عند سيد المرسلين وهو عند رب العالمين في قبولي وإجابتي ما دعوته أو في قضاء حاجتي، وهذا مما لا بأس به)(2). ومن هنا دخلت الآفة على هؤلاء الغلاة وهو اعتقادهم أن للأموات سعياً في مصالح الأحياء وقد قال سيد المرسلين: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له}(3).
__________
(1) مفاهيم يجب أن تصحح للدكتور محمد علوي المالكي ص (26).
(2) لمع برق المقامات، ص (446).
(3) م: ك. الوصية، ب. ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (11/85) مع النووي.(1/165)
أبعد هذا البيان يُظن أن الأولياء وهم أموات يسعون في مصالح الأحياء؟!
وهؤلاء الغلاة إذا قلت لهم ما الفرق بين سؤالكم الأولياء حتى يقربوكم إلى الله زلفى وبين قول المشركين لأصنامهم: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر: 3] فالأولياء انقطع عملهم بعد موتهم إلا من ثلاثة، والأصنام جمادات لا تنفع ولا تضر؟ ما كان جوابهم إلا الصياح والعويل إذا دمغتهم الحجة والدليل وقالوا لأتباعهم ومريديهم الذين يخافون أن ينفضوا من حولهم هؤلاء يحتجون علينا بالآيات التي نزلت في المشركين، يُلبسون على مريديهم حتى أني ناقشت أحد المريدين في بعض مسائل التوحيد فلما قطعه الله وبُهت وخشي أن يترك ما عليه الآباء وتذكر المواثيق الغليظة التي أخذت عليه عند أخذ الطريق من الشيخ قال لي: (نحن مع الشيخ إن دخل الجنة دخلنا معه وإن دخل النار دخلنا معه).
فهل ينظر هذا التابع إلا أن يأتي يوم يتبرأ فيه المتبوع منه إلا بحق قال تعالى: ((إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)) [البقرة: 166-167] وأنىّ لهم ذلك.
والمقصود هنا أن هؤلاء الغلاة يعرفون الحق ولكن يحرفونه، يعرفون أن الآيات التي نزلت تحذر من الشرك لم تُنسخ ولم تكن خاصة بكفار قريش، فمن جعل لله شريكاً تارة يدعوه وتارة يدعو الله فقد أشرك ولا ريب.
يقول شاعرهم:
طوراً أنادي ربِّ بِّ ……وتارة يا خير شافع(1)
__________
(1) انظر ص (196).(1/166)
فهل فهم هذا الشاعر مدلول لا إله إلا الله؟ بل إني أجزم أن أكثرهم لا يعرف معناها حيث تجد الواحد منهم يعد على مسبحته (لا إله إلا الله) آلاف المرات، فإذا سقطت المسبحة من يده قال: يا سيدي فلان! تعلق بشيخه. فالمشركون الأوائل كانوا على جانب من الفهم مكنهم من معرفة مدلول (لا إله إلا الله) فلما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: {قولوا كلمة تدين لكم بها العرب والعجم}، أبى المشركون؛ لأنهم فهموا من مدلول لا إله إلا الله ترك التعلق بآلهتهم التي كانوا يعتقدون أنها تقربهم إلى الله زلفى، ومن ثمّ إفراد الله جلّ وعلا بجميع أنواع العبادات، في حالتي الشدة والرخاء.
وحسبنا من القوم إنصافاً ما أجراه الله على لسان ابن حجر الهيتمي الذي يقول: (وهنا أمران لا بد منهما، أحدهما: وجوب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ورفع رتبته على سائر الخلق.
والثاني: إفراد الربوبية واعتقاد أن الرب تبارك وتعالى منفرد بذاته وأفعاله عن جميع خلقه، فمن اعتقد في مخلوق مشاركة البارىء سبحانه وتعالى في شيء من ذلك فقد أشرك، ومن قصر بالرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء من مرتبته فقد عصى أو كفر، ومن بالغ في تعظيمه صلى الله عليه وسلم بأنواع التعظيم ولم يبلغ به ما يختص بالبارىء سبحانه وتعالى فقد أصاب الحق وحافظ على جانب الربوبية والرسالة جميعاً. وذلك القول الذي لا إفراط فيه ولا تفريط)(1).
فكون الهيتمي يفرق بين خصائص الرب جل وعلا وبين خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ثم يحكم على من اعتقد في مخلوق مشاركة البارىء سبحانه وتعالى في شيء من خصائصه سبحانه فقد أشرك، فهذا قد يقنع القوم بإمكان وقوع الشرك في هذه الأمة بعد إسلامها، وبالتالي لا يقال أنتم تفهمون من النصوص ما لم يفهمه أئمتنا. وعلى الرغم مما حوته عبارة الهيتمي من جوانب مضيئة إلا أنها لا تخلو من ملاحظات.
__________
(1) الهيتمى: الجوهر المنظم، ص (13).(1/167)
الملاحظة الأولى: عندما ذكر الأمرين اللذين لا بد منهما جعل الأول فيما يتعلق بحق النبي صلى الله عليه وسلم والثاني فيما يتعلق بحق الرب تعالى، وكان الأولى أن يقدم الكلام فيما يتعلق بحق الرب جل وعلا.
الثانية: قوله: (إفراد الربوبية واعتقاد أن الرب تبارك وتعالى منفرد بذاته وأفعاله عن جميع خلقه). فلا يعتقد وجود خالق أو رازق مع الله تعالى. وعلى فرض التسليم للقوم أن المطلوب من المكلفين إفراد الله بالربوبية دون التنبيه من علمائهم على توحيد الألوهية. فإن من عارفي القوم من ادعى انفراده بملك الدنيا والآخرة وربوبية العباد.
يقول عبد الكريم الجيلي:
لي الملك في الدارين لم أر فيهما سواي فأرجو فضله أو فأخشاه ولا قبل من قبلي فألحق شأنه ولا بعد من بعدي فأسبق معناه وقد حزت أنواع الكمال وأنني جمال جلال الكل ما أنا إلا هو إلى قوله:
وإني رب للأنام وسيد ……
جميع الورى اسم وذاتي مسماه(1)
__________
(1) الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل لعبد الكريم الجيلي (1/31-32).(1/168)
مع العلم أن هذا النوع من التوحيد الذي خصه الهيتمي بالذكر، أعني توحيد الربوبية كان المشركون الأوائل يقرون به، قال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)) [العنكبوت:61] الآية، وقال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [العنكبوت: 63] (1) الآية، وقال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)) [الزخرف:87] ومع ذلك فقد سماهم الله تعالى مشركين وأمر بقتالهم، قال تعالى: ((فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)) [التوبة: 5] الآية وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)) [التوبة: 28] الآية.
إذاً لا بُدَّ مع إفراد الله تعالى بالربوبية إفراده بالألوهية فلا يُشرك فيها مع الله أحد بمعنى لا تُجعل الصلاة والزكاة لله تعالى ويُدعى ويستغاث بغيره تعالى ليمحو الذنوب ويفرج الكروب. فلا حجة إذاً للغلاة من عدم تنزيل الآيات التي وردت في شأن المشركين على من صرف حقاً من حقوق الله تعالى للمخلوقين، فللإسلام نواقض كما للوضوء والصلاة نواقض. فمن دخل في الإسلام ثم حدث منه ناقض من نواقضه انتقض دون شك. فمن نواقض الإسلام:
1- الشرك في عبادة الله، قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء: 116] وقال تعالى: ((إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)) [المائدة:72].(1/169)
2- من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم فقد كفر إجماعاً(1).
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن من أمته من سيعبد الأوثان وأن قبائل منهم ستلحق بالمشركين.
أخرج ابن ماجة من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الطويل وفيه: {وإن مما أتخوف على أمتي أئمة مضلين. وستعبد قبائل من أمتي الأوثان. وستلحق قبائل من أمتي بالمشركين. وإن بين يدي الساعة دجالين كذابين قريباً من ثلاثين كلهم يزعم أنه نبي. ولن تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل}(2). وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من أمته من يتبع سنن اليهود والنصارى، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر ذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟}(3). قوله: (فمن) استفهام استنكاري والتقدير: فمن هم غير أولئك(4). ومن اليهود من عبد العجل ومن النصارى من عبد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، وأما هؤلاء فمنهم من عبد الكلب والخنزير -نسأل الله السلامة والعافية-. قال شاعرهم:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا ……
وما الله إلا راهب في كنيسة(5)
__________
(1) نواقض الإسلام للشيخ ابن باز. الناشر مكتبة القدس الإسلامية بجدة.
(2) أخرجه ابن ماجة في سننه (2/1304) ح (3952)، وقال الألباني: حديث صحيح، انظر صحيح ابن ماجة للألباني (2/353) ح (3192).
(3) خ: ك. الاعتصام، ب. قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) (13/300) مع الفتح؛ م: ك. العلم (16/219) مع النووي.
(4) فتح الباري (13/301).
(5) النفحات الأقدسية لمحمد بهاء الدين البيطار (1/338)، ط. (1314هـ)، نقلاً عن خطاب مفتوح إلى شيخ مشايخ الطرق الصوفية من عبد الرحمن الوكيل ص (44).(1/170)
((رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)) [آل عمران:8].
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بعلم الغيب وعلم ما في الضمير واللوح المحفوظ:
قال شعراؤهم: (ناداك من برع) (تعلم ما حواه الضمير) (ومن علومك علم اللوح والقلم).
وهذه من خصائص رب الأرض والسموات قال تعالى: ((فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)) [يونس:20]، وقوله تعالى: ((وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ)) [هود: 123]، وقال تعالى: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) [الأنعام:59]، بل إن الله تبارك وتعالى أمر نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم أن ينفي الغيب عن نفسه قال تعالى: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ)) [الأنعام:50]، وقوله تعالى: ((قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) [الأعراف:188]، وأخبر سبحانه وتعالى أنه العليم بذات الصدور، قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) [فاطر:38]، وقال تعالى: ((أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ(1/171)
يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)) [التوبة:78]، وقال نبي الله عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مخاطباً ربه جل وعلا: ((تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)) [المائدة:116] ولا يُعترض بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب بقوله تعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)) [الجن:26-27]، قال ابن عباس واختاره ابن جرير: [[أعلم الله الرسل من الغيب الوحي وأظهرهم عليه بما أوحى إليهم من غيبه وما يحكم الله فإنه لا يعلم ذلك غيره]](1). فالذي يعلمه الرسل من الغيب إنما هو عن طريق الوحي.
وأما بيت البوصيري: فيرد عليه الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري وهو من القوم الذين فيهم إنصاف حيث يقول معلقاً على البيت: (ومن علومك علم اللوح والقلم). ففي هذه الدعوى مبالغة ليس عليها دليل. وقد أصلحت هذا البيت بقولي:
فإن جودك في الدنيا وضرتها …
وفي كتابك علم اللوح والقلم
__________
(1) تفسير ابن جرير (29/76) دار المعرفة، بيروت.(1/172)
إلى قوله: والمقصود أن الغلو في المدح مذموم لقوله تعالى: ((لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)) [النساء: 171] وأيضاً فإن مادح النبي صلى الله عليه وسلم بأمر لم يثبت عنه يكون كاذباً عليه فيدخل في وعيد: {من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} وليست الفضائل النبوية مما يتساهل فيها برواية الضعيف ونحوه لتعلقها بصاحب الشريعة ونبي الأمة الذي حرّم الكذب عليه وجعله من الكبائر العظيمة حتى قال أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين بكفر الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا فما يوجد في كتب المولد النبوي وقصة المعراج من مبالغات وغلو لا أساس له من الواقع يجب أن تحرق لئلا يحرف أصحابها وقارئها في نار جهنم نسأل الله السلامة والعافية)(1).
__________
(1) ملحق عن قصيدة البردة لعبد الله بن الصديق الغماري ص (77) بذيل كتاب البوصيري مادح الرسول صلى الله عليه وسلم.(1/173)
وقول الغماري: (وليست الفضائل النبوية مما يتساهل فيها برواية الضعيف...) إلخ يصحح مفاهيم صاحب كتاب (مفاهيم يجب أن تصحح) الذي يقول: (ولم يزل العلماء يتسامحون في نقل الخصائص النبوية وينظرون إليها على أنها داخلة في فضائل الأعمال ولا تتعلق بالحلال والحرام وعلى هذا بنى العلماء قاعدتهم في العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ما دام أنه ليس موضوعاً ولا باطلاً بشروطهم المعتبرة في هذا الباب ولا يشترطون فيها الصحيح بالمعنى المصطلح عليه، ولو ذهبنا إلى اشتراط هذا الشرط الشاذ لما أمكن لنا ذكر شيء من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعد البعثة مع أنك تجد كتب الحفاظ الذين عليهم العمدة وعلى صنيعهم المعول والذين منهم عرفنا ما يجوز وما لا يجوز ذكره من الحديث الضعيف نجد كتبهم مملوءة بالمقطوعات والمراسيل وما أُخذ عن الكهان وأشباههم في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك مما يجوز ذكره في هذا المقام)(1). ومن العجيب في الأمر أن صاحب كتاب المفاهيم المذكور ذكر في مقدمة كتابه أن الغماري يوافق موافقة تامة ويؤيد تأييداً كاملاً ما جاء في كتابه مفاهيم يجب أن تصحح(2)، فهل غضّ الغماري الطرف عن مقالة المالكي تلك في التساهل برواية الضعيف في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وبذا يكون قد كتم الحق الذي يدين الله به ويعتقده؟ ولا أظن أن هذه المسألة تخفى عليه وهو المتخصص في علوم الحديث والإسناد وهو محدث المغرب بل محدث الدنيا كما قال صاحب المفاهيم(3) أو أن صاحب المفاهيم نسب إلى الغماري ما لم يقله. وهناك مفهوم آخر يجب أن يُصحح لصاحب كتاب مفاهيم يجب أن تصحح في مفهوم العمل بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال وهو أن الذين قالوا بالعمل
__________
(1) مفاهيم يجب أن تصحح لمحمد علوي المالكي، ص (109-110).
(2) انظر كتاب مفاهيم يجب أن تصحح للمالكي، ص (19).
(3) انظر مفاهيم يجب أن تصحح لمحمد بن علوي المالكي ص (19).(1/174)
بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال إنما يعنون بالحديث الضعيف الحديث الحسن.
قال ابن تيمية: (ومن نقل عن أحمد أنه كان يحتج بالحديث الضعيف الذي ليس بصحيح ولا حسن فقد غلط عليه، ولكن كان في عرف أحمد بن حنبل ومن قبله من العلماء أن الحديث ينقسم إلى نوعين: صحيح وضعيف. والضعيف عندهم ينقسم إلى ضعيف متروك لا يحتج به وإلى ضعيف حسن... إلى قوله: وأول من عُرف أنه قسم الحديث ثلاثة أقسام صحيح وحسن وضعيف هو أبو عيسى الترمذي في جامعه، والحسن عنده ما تعددت طرقه ولم يكن في رواته متهم وليس بشاذ. فهذا الحديث وأمثاله يسميه أحمد ضعيفاً ولا يحتج به؛ ولهذا مثل أحمد للحديث الضعيف الذي يحتج به بحديث عمرو بن شعيب وحديث إبراهيم الهجري)(1).
وجاء أيضاً من جملة تلك الخصائص المزعومة قول شاعرهم يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم:
بك استنصرت فانصرني ……ومن تنصره لا يغلب
__________
(1) انظر قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية. ص (163-164) باختصار.(1/175)
فالذي لا يُغلب هو الله تعالى: ((إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)) [آل عمران:160] هذه الآية خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين وقد جاءت هذه الآية في سياق الكلام على غزوة أحد التي انهزم فيها المسلمون بسبب اجتهاد الرماة في فهم أمره صلى الله عليه وسلم بعدم نزولهم من الجبل. قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم) أي عليه توكلوا فإنه إن يُعِنكم ويمنعكم من عدوكم لن تُغلبوا (وإن يخذلكم) يترككم من معونته (فمن ذا الذي ينصركم من بعده) أي من بعد خذلانه إياكم؟ لأنه قال: (وإن يخذلكم) والخذلان ترك العون والمخذول المتروك لا يعبأ به)(1). فإذا عُلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا نصره الله تعالى فلا غالب له وإذا منع منه النصر فلا ناصر له وأن الله تعالى أمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاعتماد والتوكل عليه فهل بعد ذلك يُسوي بين الله تعالى الذي لا غالب له وبين الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والله سبحانه وتعالى هو القائل لنبيه وللمؤمنين: ((وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) [الأنفال:10].
__________
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (4/163).(1/176)
بل جميع الأنبياء يعلمون أنه لا ناصر لهم من الله إن هم خالفوا أمره، قال تعالى حاكياً قول نوح عليه السلام: ((وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ)) [هود:30] وقول صالح عليه السلام: ((قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ)) [هود:63]، وقال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: ((فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ)) [هود:109] إلى قوله تعالى: ((وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ)) [هود:113] فلا يطلب النصر إلا من الله وحده الذي لا يغلب.
المبحث الرابع: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه إليه الملاذ والمهرب في الشدائد والكرب فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى:
قال النبهاني: (قال محمد الجمالي الحلبي:
يا ملاذي يا منجدي يا منائي ……
يا معاذي يا مقصدي يا رجائي
يا نصيري يا عمدتي يا مجيري ……
يا خفيري يا عدتي يا شفائي
أدرك أدرك أغث أغث يا شفيعي ……
عند ربي واعطف وجد بالرضاء
أنت عوني وملجئي وغياثي ……
وجلا كربتي وأنت غنائي(1)
وقال النبهاني: (قال عبد العزيز الزمزمي المكي:
نفحة لمحة غياثاً عياذاً ……عطفة جذبة جواباً نداء
كم هموم من الديون علتني ……
أنا في فكرها صباح مساء
ثقلت حملها غير أني ……
بك أرجو وضعاً لها أو وفاء
أنت في كل مطلب نصب عيني ……
لا أرى لي إلا سواك التجاء
يا مجلي بحبه الكرب فرج ……
كربة القلب واكشف الغماء
يا مرجي الخطوب أنت المُرَجَّي ……
عندما ترجى الخطوب الرجاء
__________
(1) شواهد الحق ص (355).(1/177)
عظمت كربتي فجئتك قصداً ……
قاصداً للعظائم العظماء(1) (1)
وقال: (قال مجد الدين الوتري:
بِذُلِيّ بإفلاسي بفقري بفاقتي ……
إليك رسول اللّه أصبحت أهرب(2)
وقال أيضاً: (قال شمس الدين التواجي المصري):
يا رسول الإله إني ضعيف ……
فاشفني أنت مقصد للشفاء
يا رسول الإله إن لم تغثني ……
فإلى من ترى يكون التجائي(3)
خص الغلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن إليه الملاذ والمعاذ في كشف الضر والكربات في النصوص السابقة.
ويتبين بطلان ذلك بالنصوص الآتية:
__________
(1) المرجع السابق ص (353).
(2) المرجع السابق ص (361).
(3) المرجع السابق ص (352).(1/178)
قال تعالى: ((قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)) [الأنعام:63-64]، وقال تعالى: ((وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ)) [النحل:53-54]، وقال تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته معه: ((وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [يونس:107]، وقال تعالى: ((وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الأنعام:17]، وقوله تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ)) [الزمر:38].(1/179)
وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: ((قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)) [الجن:21-23].
وقد أخبر سبحانه وتعالى عن حال المشركين الأوائل أنهم إذا أصابهم الضر دعوا الله منيبين إليه قال تعالى:
((وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)) [الزمر:8]، وقوله تعالى: ((فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)) [العنكبوت:65] وأما غلاة الصوفية والقبوريون إذا أصابهم الضر دعوا غير الله تعالى نعوذ بالله من الخذلان.
المبحث الخامس: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه يُجيب الدعاء وترفع إليه أكف الضراعة:
قال البراعي:
وهاك جوهر أبيات بك افتخرت ……
جاءت بخط أسير الذنب يرقمه
فانهض بقائلها عبد الرحيم ومن ……
يليه إن همّ صرفُ الدهر يدهمه
اجعله منك بمرعى العين مرحمة ……
إذا ألمَّ به من ليس يرحمه
وإن دعا فأجبه وأحمِ جنابه ……
يا خير من دفنت في القاع أعظمه(1)
وقال أيضاً:
أبُنيَّ طال بك السقام فليتني ……
أفديك لو ولد بوالده فُدي
أبنيَّ ما بيدي لمثلك حيلة ……
لكن أمد إلى ابن آمنة يدي(2)
قال النبهاني: قال فتح الله بن النحاس:
يا رب بابك بابه ………ورجاي فيك وفيه طامع
__________
(1) ديوان البرعي ص (74-75) مع شرحه.
(2) المرجع السابق ص (176).(1/180)
طوراً أنادي رب رب ……وتارة يا خير شافع(1)
قال البرعي:
وليس معي زاد ولا لي وسيلة ……
سوى هاشمي بالبهاء متوج
ألوذ به ذاك الجناب فأحتمي ……
بمن هو عند الكرب للكرب مفرج
وأدعوه في الدنيا فتقضى حوائجي ……
وإني إليه في القيامة أحوج(2)
خصّ الغلاة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما سبق من النصوص (بأنه يجيب الدعاء وترفع إليه أكف الضراعة:
وهذا أيضاً من خصائص الله تعالى التي لا يجوز صرف شيء منها لغيره تعالى. فقد أمر سبحانه بإخلاص الدعاء له وحده. قال تعالى: ((هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) [غافر:65]، وقال تعالى: ((فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)) [غافر:14]، وقوله تعالى: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [الأعراف:55]، وقوله تعالى:
((قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)) [الإسراء:110].
وقد نهى الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يعبد الذين يُدعون من دون الله تعالى: ((قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّه)) [غافر:66] الآية فخص الله تعالى الدعاء بالذكر من دون سائر عبادات المشركين لأوثانهم لمكانة الدعاء من بين العبادات؛ لذلك قال تعالى: ((قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا)) [الفرقان:77].
__________
(1) شواهد الحق، ص (380).
(2) ديوان البرعي ص (190) مع شرحه.(1/181)
قال ابن جرير نقلاً عن مجاهد واختاره: (قل ما يعبؤا بكم ربي) قال: يعبؤا: يفعل، وقوله: (لولا دعاؤكم) يقول: لولا عبادة من يعبده وطاعة من يطيعه منكم)(1). قال ابن كثير في قوله: (قل ما يعبوا بكم ربي): (أي لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه)(2)، فسمى الله تعالى الدعاء عبادة وخصه بالذكر من دون سائر العبادات ولولا تلك العبادة لم يكترث الله بنا؛ لذلك مدح الله عباده الذين لا يدعون غيره قال تعالى: ((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا)) [الفرقان:63] إلى قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا)) [الفرقان:68]، وضرب الله تعالى المثل للناس زيادة في البيان، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)) [الحج:73]. وقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) [الأعراف:194]، وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أمته آداب الدعاء التي يدعو بها العبد ربه، فمن ذلك رفع اليدين في الدعاء، وبذلك بوب البخاري في صحيحه قائلاً: (باب رفع الأيدي في الدعاء). وقال أبو موسى الأشعري: {دعا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه}. وقال ابن عمر: {رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم إني
__________
(1) تفسير ابن جرير (19/35) دار المعرفة.
(2) تفسير ابن كثير (3/343).(1/182)
أبرأ إليك مما صنع خالد}، ثم روى بسنده إلى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: {رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه}(1). وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تبين أن رفع اليدين من الآداب المستحبة في الدعاء. فدعاء غير الله تعالى من الشرك الأكبر والظلم العظيم الذي رتب عليه رب العزة والجلال من العقوبات ما لم يرتبه على ذنب سواه.
يقول ابن القيم(2): (إن الشرك لما كان أظلم الظلم، وأقبح القبائح، وأنكر المنكرات، كان أبغض الأشياء إلى الله وأكرهها له، وأشدها مقتاً لديه.
__________
(1) ك. الدعوات (11/141) مع الفتح.
(2) محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي ثم الدمشقي الفقيه الأصولي المفسر اللغوي شمس الدين أبو عبد الله بن قيم الجوزية. تفنن في سائر علوم الإسلام وكان عارفاً بالتفسير لا يُجارى فيه وبأصول الدين وإليه فيها المنتهى والحديث ومعانيه وفقهه وبالفقه والأصول والعربية وله فيها اليد الطولى، له تصانيف كثيرة منها: تهذيب سنن أبي داود وزاد المعاد في هدي خير العباد، وجلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ت. سنة 751هـ. ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (4/449).(1/183)
ورتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه، وأخبر أنه لا يغفره قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)) [النساء:48]، وأن أهله نَجَس، ومنعهم من قربان حرمه، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا)) [التوبة:28]، وحرم ذبائحهم قال تعالى: ((وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) [الأنعام:121]، ومناكحتهم قال تعالى: ((وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ)) [البقرة:221]، وقطع الموالاة بينهم وبين المؤمنين، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [التوبة:23]، وجعلهم أعداء له سبحانه ولملائكته ورسله وللمؤمنين قال تعالى: ((مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ)) [البقرة:98](1)، وأباح لأهل التوحيد أموالهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يتخذوهم عبيداً، وهذا لأن الشرك هضم لحق الربوبية
__________
(1) لم يذكر ابن القيم رحمه الله هذه الآية والآيات التي قبلها ضمن كلامه وإنما ذكرتها إكمالاً للفائدة.(1/184)
وتنقيص لعظمة الإلهية، وسوء ظن برب العالمين، كما قال تعالى: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)) [الفتح:6]، فلم يجمع على أحد من الوعيد والعقوبة ما جمع على أهل الإشراك فإنهم ظنوا به ظن السوء، حتى أشركوا به، ولو أحسنوا به الظن لوحدوه حق توحيده، ولهذا أخبر سبحانه عن المشركين أنهم ما قدروه حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابه، وكيف يقدره حق قدره من جعل له عدلاً ونداً، يحبه، ويخافه، ويرجوه ويذل له، ويخضع له، ويهرب من سخطه، ويؤثر مرضاته؟ قال تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه)) [البقرة:165] وقال تعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)) [الأنعام:1] أي يجعلون له عدلاً في العبادة والمحبة والتعظيم. وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم، وعرفوا -وهم في النار أنها كانت ضلالاً وباطلاً، فيقولون لآلهتهم وهم في النار معهم: ((تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [الشعراء: 97-98].(1/185)
ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الذات والصفات والأفعال، ولا قالوا: إن آلهتهم خلقت السموات والأرض، وأنها تحيي وتميت، وإنما ساووها به في محبتهم لها وتعظيمهم لها وعبادتهم إياها، كما ترى عليه أهل الإشراك ممن ينتسب إلى الإسلام. ومن العجب أنهم ينسبون أهل التوحيد إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين، وما ذنبهم إلا أن قالوا: إنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وأنهم لا يشفعون لعابدهم أبداً، بل قد حرم الله شفاعتهم لهم، ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله، والشفاعة كلها له سبحانه، والولاية له فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع)(1).
وهنا قد يتساءل أصحاب الفطر السليمة ألا يكفي في الرد على هؤلاء الغلاة بشأن مقالاتهم المزعومة في جعل خصائص للنبي صلى الله عليه وسلم هي من جنس خصائص الربوبية والإلهية أن تعرض مجرد عرض؛ فإن مجرد العرض يكفي لمجها والنفرة منها؟!
__________
(1) إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم (1/99-155).(1/186)
أقول: هذا التساؤل وجيه؛ ولكن إذا عرف السبب فعسى أن يزول العجب وهو أن أولياء الغلاة أحكموا القبضة على مريديهم وأتباعهم بتأليف أوراد مبتدعة صرفوهم بها عن كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عليهم العهود والمواثيق في الاشتغال بها صباح مساء وأن من نسيها فعليه القضاء وأن من تركها بالكلية فسيقع عليه الهلاك والدمار، وفي هذا يقول طاهر ميغري البرناوي - وكان خليفة من خلفاء الطريقة التجانية: (لما رسم الشيخ التجاني لأتباعه دائرته التي قرر أنها كانت مكنوزة وراء جميع دوائر دين الإسلام، بقصد محوه وإزالة جميع آثاره ومبادئه وتعاليمه من قلوبهم أدرك أنه إذا تركهم يقرؤون القرآن فإنهم لا محالة ينسون أنهم كانوا في تلك الدائرة لأنها في الحقيقة لا وجود لها إلا في الوهم فقط، بل يدركون ضلالته في النهاية ويتخلون عنه بالمرة مستعيذين بالله من همزاته؛ ولذلك فكر في طريقة سهلة يصرفهم بها عن قراءة القرآن وهم لا يعلمون ومن ثم ذهب يزين لهم صلاة الفاتح التي زعم أن الملك هو الذي نزل بها في صحيفة من نور وأنها أفضل من القرآن ستمائة مرة أو ستة آلاف مرة...)(1).
فأتباع كبار الغلاة من أبعد الناس عن الكتاب والسنة وفهمهما والعمل بهما وربما لأول مرة تطرق مثل هذه الحجج والبراهين قلوبهم وأنهم مخاطبون بها أيضاً وأن القرآن لم ينزل يتوعد مشركي العرب فقط كما سبق بيانه. فعسى أن يفيق من ألقى السمع وهو شهيد، وأما الذين لهم شيء من علم الكتاب والسنة منهم فإن غالبهم يُسخر ذلك في تتبع المتشابه وإلقاء الشبه وتزيينها للعوام والله المستعان.
المبحث السادس: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بخروج يده الشريفة من القبر لمصافحة أحمد الرفاعي:
__________
(1) انظر التحفة السنية في توضيح الطريقة التجانية لطاهر ميغري البرناوي، ص (127).(1/187)
وهذه خطوة أخرى من خطوات الغلو فيه صلى الله عليه وسلم، فبعد أن كان يُدعى ويُسأل قضاء الحاجات، إلى غير ذلك، وهو صلى الله عليه وسلم في قبره. بدأ الغلاة مرحلة أخرى من مراحل الغلو فيه صلى الله عليه وسلم وهو إخراجه من قبره، وأول ذلك زعمهم خروج يده الشريفة ليقبلها أحمد الرفاعي(1):
قال أبو الهدى الصيادي الرفاعي: (ولما حج -يعني أحمد الرفاعي- وقف تجاه الحجرة الشريفة وأنشد:
في حالة البعد روحي كنت أرسلها ……
تقبل الأرض عني وهي نائبتي
وهذه نوبة الأشباح قد ظهرت ……
فأمدد يمينك كي تحظى بها شفتي
قال: فخرجت إليه يده الشريفة من القبر حتى قبلها والناس ينظرون)(2).
فالناظر في هذه الحادثة المزعومة لا يشك أنها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كذب حتى على أحمد الرفاعي نفسه وذلك من أوجه:
الأول: ثبت بهذه الحادثة المزعومة أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأحمد الرفاعي تفوق محبة الخلفاء الراشدين، بل تفوق محبة كل من آمن به من عصره صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا؛ لأن هذه الحفاوة المزعومة التي قابل بها النبي صلى الله عليه وسلم أحمد الرفاعي لم تحدث لأحد قبله أو بعده ممن آمن به وزاره بعد وفاته. وهذا بلا شك كذب واضح وبهتان فاضح لتلك الشرذمة التي تؤلف كتب المناقب والكرامات في زعمائها لاستجلاب عاطفة العوام وضعفاء العقول نحو مشايخهم، وما يحصل لهم بذلك من الجاه العريض في الدنيا بكثرة الأتباع.
__________
(1) هو: أحمد بن أبي الحسين الرفاعي تُنسب إليه الطريقة الرفاعية ت. 575هـ. ط. ك للشعراني (2/62)، جامع كرامات الأولياء للنبهاني (1/283).
(2) قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر، لمحمد أبي الهدى أفندي الرفاعي الصيادي، ص (76-68)، وانظر البرهان المؤيد لأحمد الرفاعي - ترجمة الرفاعي لمحمد أفندي الصيادي الرفاعي، ص (13).(1/188)
الثاني: كما لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم حال حياته أن يمد يده كي يقبلها المسلِّم عليه.
الثالث: ذكر تاج الدين السبكي الصوفي في ترجمة أحمد الرفاعي: (أن من فضائله رأفته على الهرة والبعوضة والجرادة والكلب)(1)، ولم يذكر شيئاً عن حادثة اليد، ولو كان لها وجود لما توانى السبكي في ذكرها وقد ذكر ما هو دونها. وقد ترجم ابن خلكان للرفاعي وهو قريب العهد به، وقد ذكر أن لأتباع الرفاعي أحوالاً عجيبة من أكل الحيات وهي حية ودخول النار وهي متوقدة، ولم يذكر حادثة تقبيل اليد(2). وترجم له أيضاً ابن كثير ولم يذكر له حادثة تقبيل اليد(3). فعلم بذلك كذب الصيادي الذي ذكر شهادة الناس على هذه الحادثة بقوله: (والناس ينظرون). فهؤلاء أصحاب كتب التراجم والتاريخ، أتراهم الصيادي، ص (67-68)، وانظر البرهان المؤيد لأحمد الرفاعي -ترجمة الرفاعي لمحمد أفندي الصيادي الرفاعي، ص (13).
غفلوا عن تدوين هذه الحادثة التي لم تحدث لأحد قبل الرفاعي؟ أم هو الكذب والبهتان حتى على مشايخهم.
قالى الذهبي: (وقد كثر الزغل في أصحابه -يعني الرفاعي- وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتار العراق. من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات وهذا لا يعرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه نعوذ بالله من الشيطان الرجيم)(4).
وقد ذكر الصيادي حادثة أخرى في مناقب شيخه الرفاعي قريبة من حادثة اليد، يقول فيها: ولما حج الرفاعي عام وفاته وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل من الجنة بل من العرش والكرسي، أنشد قائلاً:
إن قيل زرتم بما رجعتم ……يا أشرف الرسل ما تقول
فخرج صوت من القبر سمعه كل من حضر وهو يقول:
قولوا رجعنا بكل خير …واجتمع الفرع والأصول(5)
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي (6/23).
(2) وفيات الأعيان لابن خلكان (1/171-172).
(3) البداية والنهاية (12/333).
(4) العبر (3/75).
(5) قلادة الجواهر ص (104).(1/189)
ويعلق الشيخ عبد الرحمن دمشقية على هذه الحادثة بقوله: (فالرفاعي نجده في كل مرة لا يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالشعر، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يجيبه إلا بالشعر. لماذا لا يخاطبه بلغة القرآن من غير شعر ولا نثر ولا سجع؟ وهل نسي القوم قول الله تعالى: ((وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ)) [يس:69]. ألم يعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبغض الشعر؟)(1)(2).
وقد ذكر دمشقية في دراسته المستفيضة عن الرفاعية: أنهم زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم رؤي في الرؤيا أنه شد الرحال إلى قرية الرفاعي والكعبة تسير معه وقد قال: (ها أنا والكعبة زائرون)، وجلس ينادي أهل القرى في طريقه أن يزوروا معه (الشيخ أحمد الرفاعي) ثم تبين للراوي أن الرؤيا حقيقة فقام وذهب إلى قرية الرفاعي مشاركاً موكب النبي عليه الصلاة والسلام والكعبة)!!!(3).
المبحث السابع: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة برؤيته بعد موته في الحياة الدنيا يقظة لا مناماً:
__________
(1) لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يبغض الشعر على إطلاقه بدليل سماعه لشعر حسان بن ثابت رضي الله عنه.
(2) الرفاعية: لعبد الرحمن دمشقية، ص (44).
(3) انظر المرجع السابق ص (43-44).(1/190)
بعد أن ادّعى القوم خروج يد النبي صلى الله عليه وسلم من قبره صلى الله عليه وسلم، وراجت الكِذْبة في أوساط القوم، تجرأوا في ادعاء خروجه صلى الله عليه وسلم من قبره صلى الله عليه وسلم ورؤية مشايخ القوم له يقظة لا مناماً في الحياة الدنيا والتلقي منه، على اختلاف بينهم في كيفية هذه الرؤية كما سيأتي إن شاء الله بيانه ضمن هذا المبحث فممن قال بذلك منهم: ابن حجر الهيتمي(1) والسيوطي(2) وأبو المواهب الشاذلي(3) والشعراني(4) وأحمد التجاني وخلفاؤه(5). ومن المتأخرين: خوجلي بن عبد الرحمن بن إبراهيم(6) ومحمد بن علوي المالكي(7) ومحمد فؤاد الفرشوطي(8) وغيرهم.
أدلتهم:
أكثر ما يستدل به هؤلاء: الحكايات، والادعاءات المنقولة عن أرباب الأحوال الصوفية، ومنهم من استدل بحديث أبي هريرة الذي رواه البخاري ولفظه: {من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي}(9). والكلام على هذا الاستدلال من عدة أوجه سيأتي بيانها إن شاء الله. وأورد الآن بعض الحكايات التي يذكرونها إما في معرض الاحتجاج أو الاستشهاد أو الكرامات:
__________
(1) الهيتمي: الفتاوى الحديثية ص (217).
(2) السيوطي: تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي صلى الله عليه وسلم والملك (2/255).
(3) ط- ك للشعراني (2/69).
(4) ط- الصغرى ص (89).
(5) رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم (1/210).
(6) من مشايخ الطرق الصوفية بالسودان. انظر طبقات ابن ضيف الله ص (190).
(7) الذخائر المحمدية ص (259).
(8) القرب والتهاني في حضرة التداني شرح الصلوات المحمدية للسادة الصوفية ص (25).
(9) خ: ك. التعبير (12/383) ح (6993) مع الفتح.(1/191)
قال الشعراني(1): (قال أبو المواهب الشاذلي: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي عن نفسه لست بميت وإنما موتي تستري عمن لا يفقه عن الله فها أنا أراه ويراني)(2)وقال: (كان أبو المواهب كثير الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن الناس يكذبوني في صحة رؤيتي لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعزة الله وعظمته من لم يؤمن بها أو كذبك فيها لا يموت إلا يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً. وهذا منقول من خط الشيخ أبي المواهب)(3).
وقال أيضاً: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن الحديث المشهور: {اذكروا الله حتى يقولوا مجنون}. في صحيح ابن حبان: {أكثروا من ذكر الله حتى يقولوا مجنون} فقال صلى الله عليه وسلم: صدق ابن حبان في روايته وصدق راوي اذكروا الله، فإني قلتهما معاً، مرة قلت هذا ومرة قلت هذا)(4).
ويزعم بعض تلامذة خوجلي بن عبد الرحمن: (أن شيخهم يرى النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم أربعة(5) وعشرين مرة والرؤيا يقظة)(6).
ويقول الشعراني: (وكان يقول -يعني أبا العباس المُرسي- لي أربعون سنة ما حجبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو حُجبت طرفة عين ما أعددت نفسي من جملة المسلمين).
هذا هو حال طائفة من الغلاة الذين عبدوا الله على جهل وغرور فتلاعب بهم الشيطان أيما تلاعب، فإن ماتوا على تلك الحال ولم يتراجعوا عن ذلك المقال فليتبؤوا مقعدهم من النار على لسان النبي المختار(7) صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) عبد الوهاب بن أحمد الشعراني صاحب الطبقات الكبرى والصغرى في تراجم الصوفية والجواهر في عقائد الأكابر ت. سنة 973هـ. شذرات الذهب لابن العماد (10/544).
(2) ط. ك. للشعراني (2/69).
(3) ط. ك. (2/67).
(4) المرجع السابق (2/70).
(5) الصواب: كل يوم أربعاً وعشرين مرة (خطأ نحوي في نص).
(6) طبقات ابن ضيف الله ص (190).
(7) انظر: ص (72).(1/192)
وطائفة أخرى لها حظ من العلم في بعضه دخن، يستعمل ما آتاه الله من علم في نصرة الباطل وأهله من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
لمّا سُئل ابن حجر الهيتمي: (هل يمكن الاجتماع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة والتلقي منه؟ فأجاب بقوله: (نعم يمكن ذلك وصرح بأدن ذلك من كرامات الأولياء الغزالي والبارزي والتاج السبكي والعفيف اليافعي من الشافعية، والقرطبي وابن أبي جمرة من المالكية. وقد حُكي عن بعض الأولياء أنه حضر مجلس فقيه فروى ذلك الفقيه حديثاً فقال له الولي: هذا الحديث باطل، قال: ومن أين لك هذا؟ قال هذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف على رأسك يقول: إني لم أقل هذا الحديث وكُشف للفقيه فرآه)(1).
وأعجب من تلك الحكاية زيارة النبي صلى الله عليه وسلم للسيوطي في بيته يقظة لا مناماً وقراءة السيوطي للأحاديث بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسمع.
قال الشعراني: (أخبرني الشيخ سليمان الخضيري قال: بينا أنا جالس في الخضيرية على باب الإمام الشافعي رضي الله عنه إذ رأيت جماعة عليهم بياض وعلى رؤوسهم غمامة من نور، يقصدونني من ناحية الجبل. فلما قربوا مني فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقبلت يده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: امضِ معنا إلى الروضة. فذهبت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت الشيخ جلال الدين، فخرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقبل يده وسلم على أصحابه، ثم أدخله الدار، وجلس بين يديه. فصار الشيخ جلال الدين يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الأحاديث وهو يقول: هات يا شيخ السنة)(2).
__________
(1) الفتاوى الحديثية ص (217).
(2) ط- الصغرى للشعراني ص (28-29).(1/193)
وقال الشعراني أيضاً: (وكان رضي الله عنه -يعني السيوطي- يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقظة فقال لي: يا شيخ الحديث. فقلت: يا رسول الله أمن أهل الجنة أنا؟ فقال: نعم. فقلت: من غير عذاب يسبق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لك ذلك)(1). ألا يعلم الهيتمي وهو على معرفة بعلوم الحديث، بل وله فتاوى حديثية في ذلك والسيوطي -والعهدة على الشعراني- وله ألفية في علوم الحديث وله عليها شرح كبير أن تلك الحكايات والادعاءات لا يجوز الاحتجاج ولا الاستشهاد بها في شيء من أمور الدين. بل هي الباطلة ومن أبين الأدلة على بطلانها سؤال الولي والسيوطي للنبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، فلو كالن مثل هذا السؤال ممكناً لما أفنى علماء الحديث أعمارهم في التمييز بين الصحيح والضعيف، ولكان تأليف الدواوين الضخمة في أحوال الرجال نوعاً من العبث وتضييعاً للأوقات، ولاستغنوا عن ذلك بسؤاله صلى الله عليه وسلم مباشرة عن صحة الأحاديث وضعفها كما فعل السيوطي شيخ السنة!!
بل ما كان للهيتمي وصنوه السبكي ومن نحا نحوهم أن يتكلفوا التأليف في مسائل الزيارة والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم ويسودوا صفحات كتبهم بالأحاديث الضعيفة والمنكرة، وكان الأولى لهم أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن المسائل التي نازعهم فيها خصومهم كما فعل السيوطي شيخ السنة!!! أم أنه لا يوجد أولياء لله في ذلك الوقت؟! إنهم يعرفون ولكنهم قوم يُحرِّفون.
وبعد هذا النزر اليسير من الحكايات والادعاءات المنقولة عن أرباب الأحوال الصوفية في دعوى مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم يقظة والتلقي منه، وكل حكاية تتضمن تكذيب تلك الدعوى، ننتقل إلى الرواية التي استدلوا بها. وهذا سندها ومتنها:
__________
(1) المرجع السابق ص (30).(1/194)
قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبدان أخبرنا عبد الله عن يونس عن الزهري حدثني أبو سلمة أن أبا هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي}(1).
والكلام على الاستدلال بهذه الرواية من عدة أوجه:
الوجه الأول: من حيث مخالفتها لروايات أصحاب أبي هريرة رضي الله عنه: جاء هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه من خمسة طرق، أربعة منها تخالف تلك الرواية، وتفصيلها على النحو التالي:
الطريق الأول: عن أبي صالح ذكوان السمان(2) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: {تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، ومن رآني في المنام فقد رآني ولا يتمثل الشيطان في صورتي}(3).
الطريق الثاني: عن محمد بن سيرين(4) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: {من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي}(5).
الطريق الثالث: عن العلاء بن عبد الرحمن(6) عن أبيه(7) (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً بمثل اللفظ السابق(8).
الطريق الرابع: عن عاصم بن كليب(9) عن أبيه(10) عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً بمثل اللفظ السابق(11).
__________
(1) خ: ك. التعبير (12/383)، ح (6993) مع الفتح.
(2) المدني ثقة ثبت من الثالثة مات سنة إحدى ومائة. التقريب (1/239).
(3) خ: ك. الأدب، ح 6197 مع الفتح، حم: (1/455)، (2/463).
(4) الأنصاري ثقة ثبت عابد كبير القدر من الثالثة مات سنة 115هـ. التقريب (2/169).
(5) م: الرؤيا (15/24) مع النووي، حم: (2/411)، (2/472).
(6) الحُرَقي المدني صدوق ربما وهم من الخامسة. التقريب (2/92-93).
(7) الجهني المدني مولى الحُرَقي، ثقة من الثالثة. التقريب (1/503).
(8) جه: ك. الرؤيا ح (3901).
(9) الجرمي الكوفي صدوق رُمي بالإرجاء، من الخامسة. التقريب (1/385).
(10) صدوق من الثانية. التقريب (2/136).
(11) حم: (2/232، 342).(1/195)
الطريق الخامس: عن أبي سلمة(1) بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة.
ورواه عن أبي سلمة اثنان:
أ- محمد(2) بن عمرو بن علقمة الليثي. ولفظه: {من رآني في المنام فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتشبه بي}(3) كلفظ الجماعة.
ب- محمد(4) بن شهاب الزهري، واختُلف على الزهري في لفظ الحديث:
- فرواه محمد(5) بن عبد الله بن مسلم بن شهاب عنه بلفظ الشك: {من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو فكأنما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي}(6).
وتابعه سلامة بن عقيل على الرواية بالشك(7).
ورواه يونس(8) بن يزيد عن الزهري، واختُلف على يونس في لفظ الحديث كذلك.
- فرواه عبد الله(9) بن وهب عن يونس بالشك كما رواه ابن أخي ابن شهاب وسلامة بن عقيل عن الزهري باللفظ السابق(10).
- ورواه أنس بن عياض(11) عن يونس بلفظ: {من رآني في المنام فقد رأى الحق}(12) كلفظ الجماعة.
__________
(1) الزهري المدني، قيل اسمه عبد الله وقيل إسماعيل ثقة مكثر من الثالثة مات سنة 94هـ. التقريب (2/430).
(2) المدني صدوق له أوهام من السادسة. التقريب (2/430).
(3) حم (2/261).
(4) القرشي الفقيه الحافظ متفق على جلالته واتقانه، وهو من رؤوس الطبقة الرابعة. التقريب (2/207).
(5) ابن أخي الزهري، صدوق له أوهام، من السادسة. التقريب (2/180).
(6) حم: (5/306).
(7) الخطيب: تاريخ بغداد (10/284).
(8) الأيلي. ثقة إلا أن في روايته عن الزهري وهماً قليلاً وفي غير الزهري خطأ، من كبار السابعة. التقريب (2/386).
(9) القرشي مولاهم الفقيه، ثقة عابد من التاسعة. التقريب (1/460).
(10) م: ك. الرؤيا (15/24) مع النووي، د: (4/444-445).
(11) أنس بن عياض بن ضمرة الليثي أبو حمزة ثقة ت. سنة 255هـ. التقريب (1/84).
(12) ابن حبان (7/617).(1/196)
- ورواه عبد الله(1) بن المبارك عن يونس باللفظ المخالف لكل الطرق السابقة عن أبي هريرة: {من رآني في المنام فسيراني في اليقظة}(2).
ولم يقتصر هذا اللفظ للرواية على مخالفة الطرق الأخركما لأصحاب أبي هريرة رضي الله عنه، بل خالف جميع الألفاظ التي وردت عن جمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن روى هذا الحديث.
الوجه الثاني: من حيث مخالفتها لروايات الصحابة الآخرين:
روى حديث رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم المنام جمع من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بألفاظ متقاربة ومعان متوافقة، وتفصيل ذلك على النحو التالي: اللفظ الأول:
رواه أنس بن مالك(3) وجابر بن عبد الله(4)، وأبو سعيد الخدري(5)، وابن عباس(6) وابن مسعود(7)، وأبو جحيفة(8) رضي الله عنهم مرفوعاً: {من رآني في المنام فقد رآني}.
اللفظ الثاني:
رواه أبو قتادة(9) وأبو سعيد الخدري(10) رضي الله عنهما مرفوعاً: {من رآني فقد رأى الحق}.
اللفظ الثالث:
رواه جابر(11) رضي الله عنه مرفوعاً: {من رآني في النوم فقد رآني}.
__________
(1) المروزي، ثقة، ثبت، فقيه، عالم، جواد، جمعت فيه خصال الخير، من الثامنة. التقريب (1/445).
(2) خ: ك. التعبير ح (6993)، (12/383) مع الفتح.
(3) المصدر السابق ح (6994).
(4) جه: ك. الرؤيا، ح (3902).
(5) المصدر السابق، ح (3953).
(6) المصدر السابق، ح (3905).
(7) ت: (3/238).
(8) وهب بن عبد الله بن مسلم السُّوائي، صحابي ت. سنة 64هـ. الإصابة (322/15) رقم (9167)، جه: ك. الرؤيا، ح (3904).
(9) الحارث ويقال عمرو أو النعمان بن رِبْعي السلمي صحابي، مات سنة 54هـ. تقريب التهذيب (2/463)، خ: ك. التعبير (12/383)، ح (6996) مع الفتح.
(10) المصدر السابق ح (6997).
(11) م: ك. الرؤيا (15/26) مع النووي.(1/197)
فظهر من هذين الوجهين أن الرواية التي استدل بها القوم جاءت مخالفة لجميع ألفاظ من روى هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، بل جاءت مخالفة لجميع ألفاظ من روى هذا الحديث من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونتيجة لهذا الاختلاف ولكون الرواية في صحيح البخاري أخذ أهل العلم يتأولون معناها ويذكرون لها أجوبة لتتوافق مع روايات الجمهور.
الوجه الثالث: أجوبة العلماء عن ذلك اللفظ المشكل:
ذكر ابن حجر ملخصاً لتلك الأجوبة بقوله: (وحاصل تلك الأجوبة ستة:
- أحدها: أنه على التشبيه والتمثيل، ودل عليه قوله في الرواية الأخرى: {فكأنما رآني في اليقظة}.
- ثانيها: أن معناها سيرى في اليقظة تأويلها بطريق الحقيقة أو التعبير.
- ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه.
- رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكن ذلك، وهذا من أبعد المحامل.
- خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية لا مطلق من يراه.
- سادسها: أنه يراه في الدنيا حقيقة ويُخاطبه، وفيه ما تقدم من الإشكال(1).
__________
(1) فتح الباري (12/385).(1/198)
الوجه الرابع: ما يرد على القوم من الإشكال على المعنى الذي قالوا به: والإشكال الذي أشار إليه ابن حجر رحمه الله ذكره بعد قوله: ونُقل عن جماعة من الصالحين أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك. قلت(1): وهذا مشكل جداً ولو حُمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويُعَكِّرُ عليه أن جمعاً جماً رأوه في المنام ثم لم يُذكر عن واحد منهم أنه رآه في اليقظة وخبر الصادق لا يتخلف، وقد اشتد إنكار القرطبي(2) على من قال: (من رآه في المنام فقد رأى حقيقته ثم يراها كذلك في اليقظة)(3).
والإنكار الذي أشار إليه ابن حجر هو قول القرطبي: (اختلف في معنى الحديث فقال قوم هو على ظاهره فمن رآه في النوم رأى حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء، وهذا قول يُدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في اَن واحد في مكانين وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده فلا يبقى من قبره فيه شيء، فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب؛ لأنه جائز أن يُرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره، وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل).
__________
(1) أي ابن حجر.
(2) أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري القرطبي المالكي الفقيه المحدث صاحب المفهم في شرح مسلم ت. 656هـ. البداية والنهاية (13/226). وكتاب المفهم توجد منه أجزاء مخطوطة ناقصة بالمكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية برقم 5959/1 (فلم).
(3) المصدر السابق (12/385).(1/199)
وممن أنكر على القوم رؤيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا يقظة القاضي أبو بكر بن العربي(1) قال: (وشذ بعض القدرية فقال: الرؤية لا حقيقة لها أصلاً وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع بعيني الرأس)(2).
الوجه الخامس: اضطراب مقالات القوم في كيفية الرؤية:
فلما اشتد الإنكار على هؤلاء القائلين برؤيته صلى الله عليه وسلم في الدنيا بعد وفاته يقظة لا مناماً، اضطربت مقالاتهم في كيفية تلك الرؤيا فمنهم من أخذته العزة بالإثم فنفى الموت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية وزعم أن موته صلى الله عليه وسلم هو تستره عمن لا يفقه عن الله(3).
- ومنهم من زعم أنه صلى الله عليه وسلم يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه ويسير حيث شاء في أقطار الأرض في الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته(4).
- ومنهم من زعم أن له صلى الله عليه وسلم مقدرة على التشكل والظهور في صور مشايخ الصوفية(5).
وفريق لان بعض الشيء:
- فمنهم من زعم أن المراد برؤيته كذلك يقظة القلب لا يقظة الحواس الجسمانية(6).
- ومنهم من قال إن الاجتماع بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون في حالة بين النائم واليقظان(7).
__________
(1) محمد بن محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي الأشبيلي المالكي، اْكبر علماء الأندلس، له كتب كثيرة منها: عارضة الأحوذي في شرح الترمذي وأحكام القرآن ت. سنة 543هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (20/197)، وشجرة النور الزكية في طبقات المالكية ص (136).
(2) فتح الباري (12/384).
(3) تقدم ص (208).
(4) عمر الفوتي: رماح حزب الرحيم (1/215) بهامش جواهر المعاني.
(5) عبد الكريم الجيلي: الإنسان الكامل (2/74-75).
(6) الشعراني: ط. ك. نقلاً عن محمد المغربي الشاذلي.
(7) الشعراني: ط. الصغرى ص (89).(1/200)
- ومنهم من قال إن الذي يُرى هي روحه صلى الله عليه وسلم(1).
وعليه فبعد أن ظهر تفرد تلك الرواية التي استدل بها القوم عن روايات الجمهور، وتلك الاحتمالات التي تأولها أهل العلم في المراد بمعناها، وتلك الإشكالات والإنكارات التي وردت على المعنى الذي قصده القوم، واضطراب مقالاتهم في كيفية تلك الرؤيا، بكل ذلك يسقط استدلالهم بها، والقاعدة المشهورة في ذلك: إذا ورد على الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال.
وبعد هذا سأذكر لك أيها القارىء الكريم نموذجاً واحداً من الخصائص المزعومة التي فُرعت عن خصيصة رؤيته صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، تدل على بطلان ذلك المعتقد، ليرجع إلى الله السالك لنهج أولئك، وليتعظ المتعاطف معهم؛ وليحمد الله المعافى في دينه.
المبحث الثامن: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بتلقين مشايخ الصوفية الأوراد وحضور حلق ذكرهم بعد موته يقظة لا مناماً:
فبعد أن وصل القوم إلى مرحلة دعوى مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً والتلقي منه، سنحت لهم الفرصة لتغيير معالم الدين بإحداث ما ليس منه. بعد أن كان الباب موصداً أمامهم بالسؤال عن الدليل ومن أي كتب السنة أُخذ؟ وهل هو صحيح أم ضعيف؟ فشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله. بل شرَّع بعضهم ديناً جديداً له واجباته ومحرماته وشروطه ومبطلاته... الخ(2) كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
__________
(1) محمد علوي المالكي: الذخائر المحمدية ص (259)، والقرب والتهاني في حضرة التداني شرح الصلوات. لفؤاد الفرشوطي ص (25).
(2) سأقتصر في هذا المبحث على الطريقة التيجانية فقط كنموذج لبيان تلك الأمور التي أشرت إليها.(1/201)
قال عمر الفوتي: (ولما أذن له صلى الله عليه وسلم -أي لأحمد التجاني(1) - في هذه الطريقة الأحمدية والسيرة المصطفوية النبوية وفتح الله تعالى على يديه صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه مربيه وكافله وأنه لا يصل شيء من الله إليه إلا على يديه وبواسطته صلى الله عليه وسلم وقال له: لا منة لمخلوق عليك من أشياخ الطريق، فأنا واسطتك وممدك على التحقيق، فاترك عنك جميع ما أخذت من جميع الطرق. وقال له الزم هذه الطريقة من غير خلوة ولا اعتزال عن الناس حتى تصل إلى مقامك الذي وعدت به وأنت على حالك من غير ضيق ولا حرج ولا كثرة مجاهدة واترك عنك جميع الأولياء)(2).
وقال أيضاً: (لما وقع الفتح -للتجاني- وأذن له صلى الله عليه وسلم في تلقين الخلق بعد أن كان فاراً من ملاقاتهم لاعتنائه بنفسه وعدم ادعاء المشيخة إلى أن وقع له الإذن منه يقظة لا مناماً بتربية الخلق على العموم والإطلاق وعين له الورد الذي يلقنه... وهذا بعد إخباره بعلو مقامه وارتفاع قدره ومكانه وأخبره صلى الله عليه وسلم بفضل ورده وقدره، وما أعد الله تعالى لمن أحبه من أتباعه وحزبه)(3).
__________
(1) أحمد بن محمد المختار التجاني، لبعض أصحابه كتب في سيرته منها جواهر المعاني لعلي حرازم ت. سنة 1235هـ. الأعلام للزركلي (1/245).
(2) رماح حزب الرحيم (1/191).
(3) المرجع السابق (1/191).(1/202)
فمن تلك الأوراد التي أملاها الرسول صلى الله عليه وسلم لأحمد التجاني كما زعموا، صلاة جوهرة الكمال، التي جاء في فضلها ما يلي: قال محمد سعد الرُباطابيّ: (وأما جوهرة الكمال فهي من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا الشيخ رضي الله عنه يقظة لا مناماً. فمن فضلها أن المرة الواحدة منها تعدل تسبيح العالم ثلاث مرات بشرط الطهارة المائية، وأن من لازمها كل يوم سبع مرات يحبه النبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة يحضرون مع الذاكر عند السابعة منها ولا يفارقونه حتى يفرغ من ذكرها)(1).
وقال محمد السيد التجاني في فضل ذكرها: (يحضر الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخلفاء الأربعة والشيخ -يعني أحمد التجاني- مع عدد عظيم من الملائكة في الوظيفة(2) السابعة من الجوهرة إلى الاختتام ويشفع في جميع الحاضرين شفاعة خاصة تلحقهم وتلحق السابع من أولاده ولو لم يكن فقيراً(3) إن حضرها بمحبة في الذكر وأهله، ولو لم يعرف خاصيتها، بل يحضر النبي صلى الله عليه وسلم لكل من قرأها في غير الوظيفة حتى يختم، ولو سار عمره ما فارقه صلى الله عليه وسلم صاحباً(4) أو فقيراً أو تلميذاً، وهذا أغرب من كل غريب تفضل به الحق سبحانه على أهل هذه الطريقة لا غير، فمن لم يؤذن له فيها فلا ثواب لخاصيتها له)(5).
__________
(1) محمد سعد الرباطابي: شروط وأحكام أوراد الطريقة التجانية ص (25).
(2) كيفية خاصة لقراءة الورد.
(3) أي صوفيا.
(4) أي سواء كان القارىء من أصحابهم.
(5) محمد السيد التجاني: الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية ص (12).(1/203)
- ومن تلك الأوراد، ما جاء في فضل دعاء السيفي ودعاء يا من أظهر الجميل: يقول علي حرازم(1) عن أحمد التجاني: (ففي المرة الواحدة منه ثواب صوم رمضان وقيام ليلة القدر وعبادة سنة وسورة القدر مثله كما أخبرني سيدنا رضي الله عنه عن سيد الوجود صلى الله عليه وسلم. ثم قال: وأعظم من السيفي دعاء يا من أظهر الجميل... إلخ قال الراوي: جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أتيتك بهدية، قال: وما تلك الهدية؟ فذكر هذا الدعاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما ثواب من قرأ هذا الدعاء؟ فقال جبريل: لو اجتمعت ملائكة سبع سموات على أن يصفوه ما وصفوه إلى يوم القيامة وكل واحد يصف ما لا يصفه الآخر فلا يقدرون عليه، ومن جملة ذلك أن الله يقول فيه: أعطيه من الثواب بعدد ما خلقت في سبع سموات وفي الجنة والنار وفي العرش والكرسي وعدد القطر والمطر والبحار وعدد الحصى والرمل، ومن جملتها أن الله تعالى يعطيه ثواب جميع الخلائق، ومن جملتها أن الله يعطيه ثواب سبعين نبياً كلهم بلغ الرسالة)(2).
- ومن تلك المبالغات ما ذكروه في خاصية صلاة الفاتح لما أغلق: يقول علي حرازم نقلاً عن شيخه: (وخاصية صلاة الفاتح لما أغلق أمر إلهي لا مدخل للعقول فيه، فلو قدرت مائة ألف أمة في كل أمة مائة ألف قبيلة في كل قبيلة مائة ألف رجل وعاش كل منهم مائة ألف عام، يذكر كل واحد منهم في كل يوم ألف صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من غير صلاة الفاتح لما أغلق... وجميع ثواب هذه الأمم كلها في هذه السنين كلها في هذه الأذكار كلها ما لحقوا كلهم ثواب واحدة من صلاة الفاتح لما أغلق)(3).
__________
(1) علي حرازم بن الحزمي برادة المغربي التجاني الصوفي من تصانيفه جواهر المعاني، كان حياً سنة 1214هـ معجم المؤلفين لرضا كحالة (7/57).
(2) جواهر المعاني (1/136).
(3) المصدر السابق (1/139).(1/204)
ولم يقتصر أحمد التجاني على هذه الدعاوى، بل تطاول ليصل إلى القرآن الكريم كتاب الله تعالى؛ منتقصاً له في مقابل الدعوة والترغيب في أوراده وأذكاره الموضوعة.
يقول التجاني عن فضل صلاة الفاتح لما أغلق: (لما أمرني صلى الله عليه وسلم بالرجوع إليها سألته عن فضلها؟ فأخبرني أن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانياً أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيح وقع في الكون ومن كل ذكر ومن كل دعاء كبير أو صغير ومن القرآن ستة آلاف مرة)(1). فالناظر في أذكار التجانية تلك وفضلها يُلزمهم بواحد من الأمور التالية:
- إما أن يقولوا بخيانة الرسول صلى الله عليه وسلم للأمانة وعدم تبليغه للرسالة لإخفائه هذه الأذكار وهذا الفضل العظيم الذي يسع ثواب الخلق أجمعين بما فيهم الأنبياء والمرسلين عن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين الذين ماتوا ولم يدركوا ما أدركه التجانيون من الفضل، فإن قالوا بهذا فقد كفروا بالله ورسوله وذلك للقدح في علم الله الذي خفي عليه ما أخفاه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولإثبات الخيانة لخيرة رسله صلى الله عليه وسلم، فإن فروا من هذا وقالوا لا نقدح في علم الله ولا نثبت الخيانة لرسوله صلى الله عليه وسلم وإنما هذه الأذكار وهذا الفضل لم يكن يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم وقت حياته وإنما أوحاه الله له بعد وفاته. وعلى هذا أيضاً يلزمهم أحد أمرين:
- إما أن يقولوا إن هذه الأذكار من جملة شرائع الإسلام أو أنها من غير شرائع الإسلام. فإن قالوا إنها من جملة شرائع الإسلام نقول لهم لقد كذَّبتم الله تعالى الذي أخبر عن إكمال شرائع دينه وإتمام النعمة علينا بذلك، قال تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا)) [المائدة: 3].
__________
(1) المصدر السابق (1/136).(1/205)
وتكذيب الله كفر به، إذ يخبر تعالى عن إكمال الدين ثم يزعم التجانيون أن تلك الأذكار أمور إلهية جاء بها جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وأنها من جملة شرائع الإسلام. فإن فروا من هذا طوَّق عنقهم الإلزام الآخر وهو أن يقولوا: إنها من شريعة غير شريعة الإسلام وإنها دين آخر غير دين الإسلام. فإن قالوا بهذا فلنا معهم طرق أخرى منها الدعوة إلى الإسلام أو أخذ الجزية عن يد وهم صاغرون أو القتال.
وإلى القول بأن الطريقة التجانية دين جديد ذهب الشيخ طاهر ميغري البرناوي وهو أحد مشايخ الطريقة التجانية السابقين الذين تدرجوا في مراتبها إلى أن وصل إلى أعلى هذه المراتب وهي رتبة خليفة للشيخ أحمد التجاني.(1/206)
يحدثنا الشيخ طاهر في مقدمة كتابه: (الطريقة التيجانية دين جديد هدّام لعقيدة الإسلام وشريعته(1)) عن تجربته مع الطريقة التجانية قائلاً: (ينبغي أن يعرف القارىء لكتابي هذا أنني كنت تجانياً شديد الإيمان بعقائد الطريقة التجانية، والتمسك بمبادئها والاعتقاد في مؤسسها الشيخ التجاني وجميع شيوخها ولا سيما الشيخ إبراهيم إيناس السنغالي، بل كنت من علماء الطريقة التجانية المتعصبين لها، المدافعين عن حوزتها، الذين يعرفونها ظاهراً وباطناً علماً وذوقاً، ومن القائمين بامتحان المريدين الذين أسلكوا في تربيتها الباطنة، وتوجيههم فيها إلى أن يصلوا إلى اعتقاد وحدة الوجود الذي يعبرون عنه بالفناء أو الوصول أو الفتح وهلم جرا، فقد وصل على يدي عدد من المريدين إلى اعتقاد هذه الطريقة الخبيثة -غفرانك اللهم- حتى وصلتُ في الطريقة التجانية إلى أعز مقام يتمنى أدن ايصل إليه المريد التجاني وهو الحصول على الإذن المطلق الذي يجعله خليفة للشيخ التجاني. ثم أنقذني الله سبحانه وتعالى من قبضة الزندقة والإلحاد بغير علم وأخرجني من ظلمات الجهل والبدع والخرافات والإشراك بالله في عبادته، ورفع عن عنقي نير عبودية الأعلاج والخضوع لحكم الطواغيت، فرفضت الطريقة التجانية رفض السّقْب(2) غِرسه(3) والرأل(4) تَرِيكته(5)، ولو خطر بخلدي قبل ذلك أنني سوف أنسلخ من الطريقة التجانية لعذت بالله من ذلك الخاطر وقطعت أنه من خواطر الشياطين... إلى قوله: ومن أجل ذلك عزمت على أن أكتب بكثرة لأنبه إخواني المسلمين
__________
(1) طُبع هذا الكتاب بعنوان: التحفة السنية بتوضيح الطريقة التجانية.
(2) ولد الناقة انظر: لسان العرب (2/162).
(3) الغِرس بالكسر: الجلدة التي تخرج على رأس الولد أو الفصيل ساعة يولد فإن تُركت قتلته. لسان العرب (2/976).
(4) ولد النّعام. القاموس المحيط ص (1296).
(5) البيضة بعد أن يخرج منها الفرخ، ويُخصُّ بالنّعام. القاموس المحيط ص (1207).(1/207)
المخلصين على الخطر الكامن في الطريقة التجانية على عقيدة الإسلام وشريعته، ليحاربوها بكل ما يستطيعون من قوة حتى يخرجوها من أوساطهم)(1).
ومما يؤيد ما ذهب إليه الشيخ طاهر ميغري من أن التجانية دين جديد أمور منها:
1- إن كل من رأى أحمد التجاني فهو من الآمنين إن مات على الإيمان، وكل من أحسن إليه بخدمة أو أطعمه طعاماً يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب(2).
وهذا الفضل الذي حصل لأحمد التيجاني لم يحصل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
2- إن كل من أخذ ذكراً من أحمد التجاني فهو مغفور له وتؤدى تبعاته من خزائن فضل الله(3).
3- إن اتباع التجاني كلهم معه في عليين مع الضمان(4).
4- إن من قرأ بعض أوراد التجانية له ثواب سبعين نبياً كلهم بلغ الرسالة(5).
5- إن بعض أوراد التجانية أفضل من القرآن آلاف المرات(6).
6- إن لأورادهم شروطاً ومبطلات منها:
- حكم أورادها اللازمة الوجوب العيني على كل من التزمها كالنذر فتصير فرضاً عينياً يجب الوفاء به(7).
- لأورادهم وقت مختار ووقت ضروري(8).
- من شك هل نقص في ورده أو زاد فيه فيبني على اليقين وهو الأقل ثم بعد الفراغ يستغفر الله مائة مرة بنية الجبر(9).
- يجوز للمسافر أن يقرأ أوراده على ظهر الدابة فإذا وصل إلى جوهرة الكمال نزل وذكرها ماشياً فإذا وصل إلى السابعة منها فإنه يجلس حتى يتم الوظيفة إلا لضرورة فادحة(10).
__________
(1) طاهر ميغري: التحفة السنية ص (6-7).
(2) جواهر المعاني (1/129).
(3) المصدر السابق (1/130).
(4) جواهر المعاني (1/131).
(5) المصدر السابق (1/136).
(6) المصدر السابق (1/136).
(7) محمد سعد الرباطابي: الدرر السنية في شروط وأحكام الطريقة التجانية. ص (13، 15).
(8) المصدر السابق ص. ن.
(9) المصدر السابق ص. ن.
(10) المصدر السابق ص (6).(1/208)
- ترك الكلام من مبتدأ الورد إلى انتهائه إلا لضرر فلا يضره الكلام كالكلمة والكلمتين لكن يشير أولاً برأسه أو يده(1).
- ويبطل الورد بالنقص أو الزيادة أو التنكيس عمداً، كما يبطل بالأكل والشرب(2).
7- أمور تخرج المريد عن دائرة الديانة التجانية:
- من أخذ ورداً على وردهم.
- من زار الأولياء الأحياء أو الأموات من غير مشايخ الطريقة التجانية.
- من ترك الورد تركاً كلياً. وأما من تركه تكاسلاً فلا يخرجه من الطريقة لأنه لم يتركه تركاً قلبياً ولا أعرض عنه، إلا أنه عرّض نفسه للمصائب وحل به الهلاك في الدنيا والآخرة(3).
8- إن من سبّ أحمد التجاني لا يموت إلا كافراً(4).
فواحد من هذه الأمور يكفي لإثبات أن الطريقة التجانية دين جديد، فكيف بها إذا اجتمعت. والطريقة التجانية نموذج واحد خصصته بالتناول؛ لانتشارها الواسع خاصة في القارة الإفريقية؛ ولعظم البلاء بها. ويقاس على الطريقة التجانية عشرات بل مئات الطرق الصوفية إذ إن جل مشايخها يَدّعي مقابلة النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً والتلقي منه ولكل طريقة طقوسها وشروطها وأورادها الخاصة، ولهم من الفضل ما ليس للآخرين. قال تعالى: ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)) [النساء:82].
الباب الثالث
خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عند الجفاة
وفيه فصلان:
الأول: رد خصيصة ختم النبوة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: تقديم الجفاة أولياءهم على النبي صلى الله عليه وسلم في الخصائص.
الفصل الأول: رد خصيصة ختم النبوة بالنبي صلى الله عليه وسلم:
وفيه مبحثان:
الأول: رد خصيصة ختم النبوة بالنبي صلى الله عليه وسلم عند الفلاسفة المنتسبين للإسلام.
الثاني: رد خصيصة ختم النبوة بالنبي صلى الله عليه وسلم عند القاديانية.
__________
(1) المصدر السابق ص (9).
(2) المصدر السابق ص (21).
(3) المصدر السابق ص (4).
(4) جواهر المعاني (1/133).(1/209)
المبحث الأول: رد خصيصة ختم النبوة بالنبي صلى الله عليه وسلم عند الفلاسفة المنتسبين للإسلام:
تأثر بعض المسلمين ممن ولد أو عاش في بيئات أعجمية بأفكار تلك البيئات وأخذوا ينظرون إلى الإسلام من خلالها وحاولوا أن يصوغوا تعاليم الإسلام بأفكار تلك المجتمعات وما يوجد فيها من فلسفات تخالف تعاليم الإسلام، أو ممن لبس ثوب الإسلام منهم. وقد عمل بعضهم على الخلط بين الإسلام وبين تلك الفلسفات. فحدث بذلك من الانحراف في عقائد المسلمين ما نعاني منه إلى هذه الساعة.
ومن هؤلاء الذين سعوا في الخلط بين الإسلام وبين تلك الفلسفات الأعجمية أبو نصر الفارابي(1).
يقول الدكتور ابراهيم مدكور: (وقد كان فلاسفة الإسلام(2) حريصين كل الحرص على أن يوفقوا بين الفلسفة والدين وبين العقل والنقل... وبينوا الدين في اختصار على أساس عقلي؛ فكونوا نظرية النبوة التي هي أهم محاولة قاموا بها للتوفيق بين الفلسفة والدين. والفارابي هو أول من ذهب إليها وفصَّل القول فيها. وقد كتب الفارابي كتاباً سماه: (آراء أهل المدينة الفاضلة) جارى فيه أفلاطون في كتابه: (الجمهورية) إلى حد كبير، ويحوي كثيراً من الآراء الأفلاطونية التي ضمنها نظريته في النبوة(3).
__________
(1) محمد بن محمد بن طرْخان بن أولغ الفارابي المنطقي شيخ الفلسفة، أخذ المنطق عن متى بن يونس النصراني، وسار إلى حرّان فلزم بها يوحنا بن جيلان النصراني، له مصنفات من ابتغى الهدى منها ضلّ وحار. منها تخرج ابن سينات. سنة 339هـ. سير أعلام النبلاء (15/416).
(2) تسميتهم بفلاسفة الإسلام ليس صحيحاً؛ لأنَّه لا يوجد في الإسلام فلسفة حتى يُضافون إليها، فعلماء الإسلام يُسمون بالفقهاء والمحدثين والمؤرخين ونحوه. فالفلسفة كما يعلم الدكتور لفظ يوناني دخيل على الإسلام. وانظر مجموع الفتاوى (9/186).
(3) في الفلسفة الإسلامية (منهج وتطبيق) ص (69-70).(1/210)
حيث تظهر تفاصيل هذه النظرة إلى النبوة عند الفارابي فيما وضعه من شروط لرئيس مدينته الفاضلة حيث يقول في ذلك:
(وإذا جُعلت الهيئة الطبيعية(1) مادة العقل المنفعل(2) الذي صار عقلاً بالفعل(3)، والمنفعل مادة المستفاد، والمستفاد مادة العقل الفعَّال، وأخذت جملة ذلك كشيء واحد، كان هذا الإنسان هو الذي يحل فيه العقل الفعَّال.
__________
(1) هي النفس الناطقة القابلة للإدراك والتي هي مادة العقل المنفعل. انظر: المدينة الفاضلة للفارابي ص (74)، تأليف: د. علي عبد الواحد وافي (وهو عبارة عن نصوص نقلها المؤلف من كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي ثم شرحها وعلق عليها؛ لذا إن ورد اسم هذا الكتاب مرة أخرى فإني أشير إليه بقولي: (المدينة الفاضلة نصوص مختارة مع شرحها).
(2) والعقل المنفعل عندهم هو العقل في حالة تقبله للصور الذهنية. انظر: المعجم الفلسفي ص (125).
(3) ذهب أرسطو إلى أن هناك عقلاً بالفعل وعقلاً بالقوة فأحدهما فاعل والآخر منفعل ولا يستغني واحد منهما عن الآخر. وذهب شراح فلسفته المتأخرون إلى تسمية العقل بالفعل عقلاً فعّالاً وأغدقوا عليهم صفات تسمو به على عالم المادة وتبرئه من الفناء. وذهب (الفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام إلى عد العقل الفعال في نهاية سلسلة العقول الفلكية وسموه العقل العاشر الذي يدبر شؤون الأرض. قال الفارابي: العقل الفعال صورة مفارقة لم تكن في مادة ولا تكون أصلاً، وعدّه ابن سينا حلقة الوصل بين عالم الغيب وعالم الشهادة. انظر: المعجم الفلسفي ص (120).(1/211)
وإذا حصل ذلك في كلا جزئي قوته الناطقة وهما النظرية والعملية(1)، ثم في قوته المتخيلة، كان هذا الإنسان هو الذي يوحى إليه. فيكون الله عز وجل يوحي إليه بتوسط العقل الفعال. فيكون ما يفيض من الله تبارك وتعالى إلى العقل الفعال يفيضه العقل الفعال إلى عقله المنفعل بتوسط العقل المستفاد ثم إلى قوته المتخيلة؛ فيكون بما يفيض منه إلى عقله المنفعل حكيماً فيلسوفاً ومتعقلاً على التمام، وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبياً منذراً بما سيكون ومخبراً بما هو الآن... وهذا الإنسان هو في أكمل مراتب الإنسانية وفي أعلى درجات السعادة، وتكودن نفسه متحدة بالعقل الفعال على الوجه الذي قلنا. وهذا الإنسان هو الذي يقف على كل فعل يمكن أن يبلغ به السعادة. فهذا أول شرائط الرئيس)(2).
فمن هذا النص نلاحظ الآتي:
1- يذهب الفارابي إلى أن الوحي إنما يكون لمن حل العقل الفعال في قوتيه الناطقة والمتخيلة. ويجعل هذه القوى من خصائص النبوة التي تؤثر على العالم الخارجي فتكون بذلك المعجزات.
وفي هذا يقول الفارابي: (النبوة تختص في روحها بقوة قدسية تُذعن لها غريزة عالم الخلق الأكبر، كما تذعن لروحك عالم الخلق الأصغر، فتأتي بمعجزات خارجة عن الحيلة)(3).
__________
(1) يقصد بالعملية: الناحية النزوعية المتصلة بالفكر والتي تتمثل في النزوع إلى فهم شيء ما. أما النواحي الأخرى من القوة العملية النزوعية التي تتمثل في عمل شيء ما أو إحساس شيء ما فليست من القوة الناطقة في شيء. انظر المدينة الفاضلة. (نصوص مختارة مع شرحها ص 75).
(2) المرجع السابق ص (74-75).
(3) فصوص الحكم لأبي نصر محمد بن طرخان الفارابي ص (72).(1/212)
2- يسوي في الرتبة بين الفلاسفة والأنبياء من حيث الأخذ عن العقل الفعال. ثم يقدم الفلاسفة على الأنبياء، حيث جعل إفاضة العقل الفعال إلى صاحب العقل المنفعل حكيماً فيلسوفاً ومتعقلاً على التمام، وبعد الإفاضة على العقل المنفعل التي هي مرتبة الفلاسفة، تأتي الإفاضة على القوة المتخيلة التي هي مرتبة الأنبياء متراخية عن رتبة الفلاسفة. كذلك الإفاضة إذا كانت على العقول فهي أولى من أن تكون على آلة الخيال.
3- يقول الدكتور علي وافي معلقاً على قول الفارابي: (فهذا أول شرائط الرئيس)، ويلاحظ أن هذا الشرط الروحي قد انفرد الفارابي باشتراطه في رئيس المدينة الفاضلة دون فلاسفة اليونان الذين اغترف فلسفته من معينهم، فلم يرد لمثل هذا الشرط ذكر في جمهورية أفلاطون التي اعتمد عليها الفارابي اعتماداً كبيراً. ويظهر أنه استمد هذا الشرط مما فهمه عن روح الدين الإسلامي وما سار عليه العمل في صدر الإسلام إذ تولى الرياسة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن بعده خلفاؤه الراشدون(1).
فظهر بهذا سوء اعتقاد الفارابي في النبوة، وأنه إذا وجد شخص لديه قوة تخيل سيكون نبياً، واستمرار وجود أنبياء إلى قيام الساعة، وهذا رد واضح لعقيدة ختم النبوة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بجانب اعتقاده عدم اصطفاء الله تعالى لأنبيائه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم.
__________
(1) المدينة الفاضلة للفارابي (نصوص مختارة مع شرحها) ص (76-77).(1/213)
وفي هذا المعنى يعلق ابن طفيل(1) على مقالة للفارابي حول السعادة الإنسانية قائلاً: (فهذا قد أيأس الخلق جميعاً عن رحمة الله تعالى، وصير الفاضل والشرير في رتبة واحدة؛ إذ جعل مصير الكل إلى العدم، وهذه زلة لا تقال وعثرة ليس بعدها جبر. هذا مع ما صرح به من سوء معتقده في النبوة، وأنها بزعمه للقوة الخيالية، وتفضيله الفلسفة عليها)(2).
__________
(1) محمد بن عبد الملك بن طفيل الأندلسي، فيلسوف صاحب القصة الفلسفية (حيي بن يقظان) ت. سنة 581هـ. الأعلام للزركلي (6/249).
(2) حييُ بن يقظان: لأبي بكر بن طفيل الأندلسي ص (62).(1/214)
ومما يبطل قول الفارابي وغيره من الفلاسفة من أن النبوة مكتسبة، وأنها تعتمد على قوة التخيل التي تكتسب بالمجاهدات والرياضات ونحوها واقع الأنبياء وحياتهم فعلى سبيل المثال نبي الله عيسى عليه السلام جعله الله نبياً وهو ما زال في المهد صبياً. قال تعالى في شأنه عليه السلام: ((فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)) [مريم: 27-33]، فهل اكتسب عيسى عليه السلام النبوة بقوة مخيلته وعن طريق الرياضة والمجاهدات؟!! وغير ذلك من قصص الأنبياء وسيرهم. فالنبوة اصطفاء من الله تعالى قال جل شأنه: ((اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)) [الحج:75].(1/215)
فهل قرأ هؤلاء الذين يزعمون أنهم عقلاء وحكماء كتاب الله وعقلوا ما فيه؟!. وقد تأثر جماعة من الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام بنظرة الفارابي السابقة للنبوة منهم: ابن سينا(1): الذي يجعل معجزات الأنبياء من قبيل السحر والطلاسم.
حيث يقول: (قد يشاهد قوم من المرضى والممرورين صوراً محسوسة ظاهرة، حاضرة ولا نسبة لها إلى محسوس خارجي، فيكون انتقالها إذن من سبب باطني أو سبب مؤثر في سبب باطن، والحس المشترك قد ينتقش أيضاً من الصور الجائلة في معدن التخيل والتوهم كما كانت تنتقش في معدن التخيل والتوهم من لوح الحس المشترك، وقريباً مما يجري بين المرايا المتقابلة)(2)
ويقول في شأن معجزات الأنبياء: (إن الأمور الغريبة، تنبعث في عالم الطبيعة من مبادىء ثلاثة:
أحدها: الهيئة النفسانية.
ثانيها: خواص الأجسام العنصرية، مثل: جذب المغنطيس للحديد.
ثالثها: قوى سماوية بينها وبين أمزجة أجسام أرضية مخصوصة بهيئات وضعية أو بينها وبين قوى نفوس أرضية مخصوصة بأحوال ملكية فعلية أو انفعالية مناسبة تستنبع حدوث آثار غريبة.
والسحر من قبيل القسم الأول، بل المعجزات والكرامات.
والنيرنجات من قبيل القسم الثاني.
والطلسمات من قبيل القسم الثالث)(3).
__________
(1) الحسين بن عبد الله بن الحسين بن سينا البلخي ثم البخاري صاحب التصانيف في الطب والفلسفة والمنطق، كان أبوه من دعاة الإسماعيلية، له كتاب الشفاء وأشياء لا تحتمل وقد كفّره الغزالي في المنقذ من الضلال. قال ابن خلكان: تاب قبل موته وردّ المظالم وأعتق مماليكه وجعل يختم القرآن في كل ثلاث ت. سنة 428هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (17/531)، وفيات الأعيان (2/160).
(2) الإشارات والتنبيهات لابن سينا (3/244-245).
(3) الإشارات (3/254-255).(1/216)
جعل ابن سينا معجزات الأنبياء من قبيل ما يأتي به السحرة، كما أنه سوَّى بين المعجزات والكرامات وجعلهما في مصاف واحد. وهنا تنكشف لنا حقيقة هامة وهي أن ادعاء كثير من مشايخ الصوفية والإمامية الاثني عشرية كرامات هي من قبيل المعجزات أو أعظم، إنما يرجع إلى نظريات فلسفية ورياضات هندية وأحوال شيطانية(1)، وطلمسات سحرية.
وممن تأثر بنظرية الفارابي في النبوة علي بن مسكويه(2) فنجده قد فصَّل تلك النظرية ورتبها ترتيباً زاد في وضوحها حيث يقول: (يرتقي الإنسان من قوة الحس إلى قوة التخيل، إلى قوة الفكر، ومن قوة الفكر إلى إدراك حقائق الأمور التي في العقل، فيؤثر حينئذ العقل في القوة الفكرية، وتؤثر القوة الفكرية في القوة المتخيلة، وتؤثر القوة المتخيلة في الحس، فيرى الإنسان أمثلة الأمور المعقولة: أعني حقائق الأشياء ومباديها وأسبابها كأنها خارجة عنه، وكأنما يراها بنظره ويسمعها بأذنه. فإذا شاهد هذه الحال ولاحظ تلك الأمور لم يشك في صحتها. وخضعت لها نفسه، واعترفت بها. وهذه رتبة واسعة العرض تتفاوت فيها درج الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ومنازلهم، فربما ظهر لهم من الأمور ظهوراً بيناً، وربما كان فيه غموض، فيلوح لهم ما يلوح وكأن عليه ستراً من دونه حجاب. وكذلك حال ما يرونه من الأمور المستقبلة في عالمنا هذا من الفتن والحروب وغيرها. فإنهم ربما رأوا الشيء الذي يكون إلى مائة سنة فقط، وربما بلغ نظرهم إلى ألف سنة)(3).
__________
(1) انظر مباحث الفصل الثاني من الباب الثالث.
(2) أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه، اشتغل بالفلسفة والكيمياء والمنطق مدة ت. سنة 421هـ. الأعلام (1/211).
(3) الفوز الأصغر لأبي علي أحمد بن مسكويه، ص (151-153)، باختصار.(1/217)
قال ابن تيمية: (فهؤلاء الفلاسفة ما قدروا النبوة حق قدرها، وقد ضل بهم طوائف من المتصوفة المدعين للتحقيق وغيرهم، وابن عربي وابن سبعين ضلوا بهم فإنهم اعتقدوا مذهبهم وتصوفوا عليه؛ ولهذا يقول ابن عربي: إن الأولياء أفضل من الأنبياء، وإن الأنبياء وسائر الأولياء يأخذون عن خاتم الأنبياء علم التوحيد وأنه هو يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول فإن الملك عنده هو الخيال الذي في النفس وهو جبريل عندهم وذلك الخيال تابع للعقل، فالنبي عندهم يأخذ عن هذا الخيال ما يسمعه من الصوت في نفسه)(1).
ومن الذين تأثروا بنظرية الفارابي السابقة محيي الدين بن عربي، الذي فرَّع منها نظريته (أنبياء الأولياء)، والتي ختمها بتفضيل الأولياء على رسل الله تعالى وزاد على ذلك أن الرسل إنما يأخذون علمهم عن طريق الوحي أما أنبياء الأولياء فيأخذون علمهم من الله تعالى مباشرة بدون واسطة.
نظرية أنبياء الأولياء عند ابن عربي:
__________
(1) ابن تيمية: النبوات ص (285).(1/218)
يقول ابن عربي: (وأما حالة أنبياء الأولياء في هذه الأمة، فهو كل شخص أقامه الحق في تجل من تجلياته، وأقام له مظهر محمد صلى الله عليه وسلم ومظهر جبريل عليه السلام... فأسمعه ذلك المظهر الروحاني خطاب الأحكام المشروعة لمظهر محمد صلى الله عليه وسلم... حتى إذا فرغ من خطابه، وفُزع عن قلب هذا الولي، عقل صاحب هذا المشهد جميع ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام المشروعة، الظاهرة في هذه الأمة المحمدية. فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي، للحضور الذي حصل له في هذه الحضرة مما أمر ذلك المظهر المحمدي من التبليغ لهذه الأمة فيُرَّد الولي إلى نفسه، وقد وعى ما خاطب الروح به مظهر محمد صلى الله عليه وسلم... وعلم صحته علم يقين، بل عين يقين، فأخذ حكم هذا النبي، وعمل به على بينة من ربه... فهؤلاء هم أنبياء الأولياء، ولا يتفردون قط بشريعة، ولا يكون لهم خطاب بها إلا بتعريف: إن هذا هو شرع محمد صلى الله عليه وسلم أو يُشاهد المُنزّل عليه بذلك الحكم في حضرة التمثل الخارج عن ذاته والداخل، والمعبَّر عنه بالمبشرات في حق النائم. غير أن الولي يشترك في إدراك ما تدركه العامة في النوم، في حال اليقظة، سواء بسواء. وقد أثبت هذا المقام للأولياء أهل طريقنا؛ وإتيان غير هذا هو الفعل بالهمة؛ والعلم من غير معلم من المخلوقين غير الله، وهو علم الخضر. فإن آتاه الله العلم بهذه الشريعة التي تعبَّده بها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بارتفاع الوسائط، أعني الفقهاء وعلماء الرسوم، كان -هذا- من العلم اللدني، فلا يكون من يكون من الأولياء وارث نبي إلا على هذه الحالة الخاصة. من مشاهدة الملك عند الإلقاء على حقيقة الرسول. فافهم! فهؤلاء هم أنبياء الأولياء... فهم في هذه الأمة مثل الأنبياء في بني إسرائيل، على مرتبة تعَبُّد هارون بشريعة موسى عليه السلام، مع كونه نبياً. فإن الله قد شهد بنبوته وصرح بها في القرآن. فمثل هؤلاء الأولياء(1/219)
يحفظون الشريعة الصحيحة التي لا شك فيها، على أنفسهم وعلى هذه الأمة ممن اتبعهم. فهم أعلم الناس بالشرع، غير أن الفقهاء لا يُسلمون لهم ذلك. وهؤلاء الأولياء لا يلزمهم إقامة الدليل على صدقهم. بل يجب عليهم الكتم لمقامهم. ولا يَرُدُّون على علماء الرسوم فيما ثبت عندهم، مع علمهم بأن ذلك خطأ في نفس الأمر. فحكمهم حكم المجتهد الذي ليس له أن يحكم في المسألة بغير ما أداه إليه اجتهاده، وأعطاه دليله. وليس له أن يُخطىء المخالف له في حكمه، فإن الشارع قد قرر ذلك الحكم في حقه. فالأدب يقتضي له أن لا يُخطِّىء ما قرره الشارع حكماً. ودليله وكشفه يحكم عليه باتباع حكم ما ظهر له وشاهده)(1).
تناقضات ابن عربي:
__________
(1) الفتوحات المكية (1/356-360) ط. وزارة الثقافة المصرية.(1/220)
تناقض ابن عربي فيما ذهب إليه من القول بوجود ما يسميه بأنبياء الأولياء تناقضاً فاضحاً لمذهبه: حيث أثبت في عنوان الباب الذي عقده لهم (أنبياء) بقوله: (الباب الرابع عشر في معرفة أسرار الأنبياء) ثم عدل عن تسميتهم بأنبياء فسماهم (أنبياء الأولياء) في نفس العنوان. فأتى بهذه التسمية العجيبة والغريبة تمويهاً للناس، حتى ينفي عن نفسه تهمة القول بوجود أنبياء بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك لم يستطع أن يخفي حقيقة مذهبه القائل بوجود أنبياء بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فعدل عن تسميتهم أنبياء مع إعطائهم خصائص الأنبياء حيث يأخذون علومهم من نفس المصدر الذي أخذ عنه الأنبياء. وهذا ظاهر من قوله: (حتى إذا فرغ من خطابه -يعني جبريل عليه السلام- وفزِّع عن قلب ذلك الولي... فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي). وهذا ما ذهب إليه الفلاسفة من القولى باتحاد رتبة الفلاسفة مع الأنبياء في الأخذ عن الملك المسمى عندهم بالعقل الفعال. ثم استدرك ابن عربي على نفسه حتى لا يقال له: بما أن أنبياء الأولياء يشتركون مع الأنبياء في الأخذ من مصدر واحد هل يأتون بشرع جديد؟ قال: (لا يتفردون قط بشريعة، ولا يكون لهم خطاب بها إلا بتعريف: إن هذا هو شرع محمد صلى الله عليه وسلم)، وهذا يناقض قوله: (فالأدب يقتضي له أن لا يخطىء -يعني الولي- ما قرره الشارع حكماً. ودليله وكشفه يحكم عليه باتباع حكم ما ظهر له وشاهده). فمع إقراره بأن الشارع قد قرر حكماً معيناً إلا أن أنبياء الأولياء لا يتبعون ذلك الحكم وإنما يتبعون ما حصل لهم عن طريق الكشف. مع تصريحه أنهم لا يتفردون بشريعة قط. وتارة يجعل هؤلاء الذين سماهم أنبياء الأولياء يأخذون العلم والوحي من الملك الذي أخذ عنه النبي صلى الله عليه وسلم وتارة يجعل حكم أنبياء الأولياء كحكم المجتهد الذي لا يأخذ العلم عن طريق الوحي وإنما يحكم في المسألة بما أداه إليه اجتهاده. وتارة(1/221)
يأخذ علمه عن طريق الكشف وتارة من الله تعالى مباشرة من غيره معلم من المخلوقين.
هذا بالإضافة إلى تنقص ابن عربي للفقهاء والمحدثين بتسميتهم بعلماء الرسوم، الذين لا يعرفون حقيقة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ويسميهم أيضاً بحفظة الحكم النبوي.(1)ومَثلّ لهم ببعض الصحابة والتابعين وذكر منهم الأئمة الأربعة. وأما السادة عنده فهم حفظة الحال النبوي(2) وهم: ذو النون المصري(3) والجنيد(4) وغيرهم. فَرَفْعُه لمقام علماء الحال النبوي أو الحقيقة كما زعم وتنقصه لعلماء الشريعة خاصة علماء الحديث، وتزهيد الناس في العلم خاصة علم الكتاب والسنة ليس مذهب ابن عربي وحده بل هو مذهب أغلب الصوفية؛ حتى يظل أتباعهم في ظلمات الجهل والعمى ليس عندهم ما يُفرقون به بين الحق والباطل، والسنة والبدعة، وفي مقابل تنفير الناس عن العلم الشرعي وأهله يَدْعون الناس إلى بدعهم التي قد توصلهم إلى الجنون والكفر في الدنيا وإلى جهنم وبئس المصير في الآخرة؛ ولعظم البلاء بهؤلاء واغترار العامة بأقوالهم وأفعالهم أذكر بعض الأمثلة التي توضح ذلك:
يقول سيد طائفة الصوفية أبو القاسم الجنيد: (إذا رأيت الفقير فلا تبدأه بالعلم وابدأه بالرفق؛ فإن العلم يوحشه والرفق يؤنسه)(5).
ويقول أيضاً: (المريد الصادق غني عن علم العلماء، بالمريد خيراً أوقعه إلى الصوفية ومنعه صحبة القراء)(6).
__________
(1) الفتوحات المكية (1/361).
(2) المصدر السابق ص. ن. ويسمونهم أيضاً بأهل الحقيقة والعلم اللدُني الباطن وكل هذه تسميات بدعية للتنصل من أحكام الشريعة انظر ص (219).
(3) هو: ثوبان بن إبراهيم وكان أبوه نوبياً، ت. سنة 245هـ. انظر: ط. ك (1/59-65).
(4) هو: أبو القاسم الجنيد بن محمد الزجاج أصله من نهاوند، كان من كبار أئمة القوم، ت. سنة 297هـ ط. ك (1/72).
(5) ط. ك، (1/72).
(6) المصدر السابق (1/73).(1/222)
ويقول أبو بكر الدقاق(1): (آفة المريد ثلاثة أشياء: التزويج، وكتابة الحديث، معاشرة الضد)(2).
ويقول أبو العباس أحمد بن مسروق(3): (رأيت القيامة قد قامت، ورأيت موائد نصبت، فأردت أدى أجلس عليها فقالوا لي: هذه للصوفية، فقلت: أنا منهم، فقال لي ملك: قد كنت منهم، ولكن شغلك عن اللحوق بهم كثرة الحديث، وحبك التميز عن الأقران، فقلت: تبت إلى الله تعالى، واستيقظت فأقبلت على طريق القوم، وقلت: للحديث رجال غيري)(4).
ويقول أبو الحسن النحراني(5): (كنت شديد الإنكار على الصوفية في علومهم، وأبغض كل من اجتمع بهم، فدخلت بغداد، وأنا أكتب الحديث، فرأيت إبراهيم الخواص وحوله جماعة يتكلم عليهم، فسمعت كلامه، فدخل قلبي صدق قوله، فرأيته علماً صحيحاً لا بد للخلق من استعماله، فلزمته من ذلك المجلس ولم أفارقه، وفرقت ما كنت جمعته من الكتب وقد كانت نحو حملين)(6).
ويقول الشعراني: (كان أبو علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي إماماً في أكثر علوم الشرع، مقدماً في كل فن منه، ثم عطل أكثر علومه واشتغل بعلم التصوف وبه ظهر التصوف بنيسابور)(7).
ولم يكتف هؤلاء بالتنفير إجمالاً عن علم الحديث وغيره من علوم الشرع، بل أخذوا في الطعن على أئمة هذه الأمة الذين شهد لهم السلف والخلف بالإمامة والقبول التام، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حيث أساؤوا الأدب معه بقولهم له: (أثقلك أكل الشهوات) بعد أن كذبوا عليه أنه أذعن لعلوم الصوفية.
__________
(1) هو: نصر بن أحمد بن نصر الدقاق الكبير، كان من أقران الجنيد ط. ك (1/76).
(2) ط. ك (10/76).
(3) الطوسي، كان من كبار مشايخ القوم، ت. سنة 299هـ. ط. ك (1/85).
(4) ط. ك (1/85).
(5) صاحب إبراهيم الخواص، لم يفرد بترجمة ولا ذكر سنة وفاة، ذكر قوله ضمن ترجمة إبراهيم الخواص. ط. ك (1/83).
(6) ط. ك، (1/83).
(7) ط. ك، (1/91-92).(1/223)
أورد النبهاني في جامع كرامات الأولياء ما نصه: (وبلغنا أن الإمام أحمد ما أذعن للصوفية إلا بعد أن أرسل له أبو حمزة الخراساني جماعة من الفقراء الطيارة، فنزلوا عليه في الليل من دور القاعة، فتحادثوا مع الإمام أحمد طويلاً في أحوال أهل الطريق، وأظهروا له علوماً ومعارف لم يكن سمعها قبل ذلك. فاعترف بفضل أهل الطريق بعد ذلك، ثم لما أرادوا الانصراف قالوا له: يا أحمد طر معنا في الهواء، فقال: لا أطيق. فقالوا: قد أثقلك أكل الشهوات، ثم صعدوا من صحن الدار نحو السماء وهو ينظر)(1).
والسر في تنفير الصوفية من علوم الشرع بعامة وعلم الحديث ورجاله بخاصة هو عزل أتباعهم ومريديهم عن نور الحق الذي يكشف دجلهم، وكذبهم، ومخالفتهم لشرع الله تعالى.
فهؤلاء الصوفية ينفرون الناس عن تعلم علوم الشريعة الإسلامية التي يُعرف بها مراد الشارع حتى يعبد الناس ربهم على بينة. وفي الوقت نفسه يدعون الناس إلى ما لم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم من رياضات أهل الهند ومجاهدات التعذيب. فمن أمثلة ذلك:
ما ذكره الشعراني في ترجمة أبي بكر الشبلي(2): (وكانت مجاهداته في بدايته فوق الحد، وكان رضي الله عنه يقول: اكتحلت بالملح كذا وكذا ليلة لأعتاد السهر، فلما زاد الأمر حميت الميل واكتحلت به)(3).
وقيل للشبلي: (مزقت ملبوسك والعيد قد أقبل والناس يتزينون وأنت هكذا؟! قال: زينة الفقير(4) فقره وصبره(5) على فقره)(6).
__________
(1) جامع كرامات الأولياء (1/449).
(2) هو: أبو بكر بن جحدر الشبلي خراساني الأصل، صار أوحد عصره في علوم الصوفية، ت.
(3) ط. ك (1/89).
(4) أي الصوفي.
(5) فعلهم هذا وما في معناه مخالف لقوله تعالى: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) [البقرة:195].
(6) المرجع السابق ص. ن.(1/224)
وقال الشعراني في ترجمة عبد القادر الجيلي(1): (وكان رضي الله عنه يقول: قاسيت الأهوال في بدايتي، فما تركت هولاً إلا ركبته، وكان لباسي الصوف، وكنت أمشي حافياً في الشوك وغيره، وكنت أقتات بخرنوب الشوك، وقمامة البقل، وورق الخس من شاطىء النهر. ولم أزل آخذ نفسي بالمجاهدات حتى طرقني من الله تعالى الحال -أي الحال الشيطاني-، فإذا طرقني الحال صرخت، وهمت على وجهي، سواء كنت في الصحراء أو بين الناس وكنت أتظاهر بالتخارس والجنون، وحملت إلى البيمارستان، وطرقتني مرة الأحوال حتى مت، وجاؤوا بالكفن والمغسل، وجعلوني على المغتسل ليغسلوني ثم سُري عني)(2).
وقال في ترجمة أحمد البدوي(3): (وكان طول ليل ونهاره شاخصاً ببصره إلى السماء وقد انقلب سواد عينيه إلى حمرة تتوقد كالجمر، وكان يمكث الأربعين يوماً وأكثر لا يأكل ولا يشرب ولا ينام)(4).
وقال أيضاً في ترجمة سيده عبد الرحمن المجذوب(5): (وكان من أرباب الأحوال، وكان مقطوع الذَّكَرِ قطعه بنفسه أوائل جذبه، وكان جالساً على الرمل صيفاً وشتاء، وكان ثلاثة أشهر يتكلم وثلاثة أشهر يسكت)(6).
__________
(1) أحياناً يقال له الجيلاني وأخرى الكيلاني، مات سنة 561هـ. ط. ك، (1/108).
(2) ط. ك (1/109).
(3) المتوفى سنة 675هـ. انظر: ط. ك. (1/159) وما بعدها.
(4) ط. ك (1/159).
(5) مات سنة 944هـ. ط. ك (2/127-128).
(6) ط. ك (2/127-128).(1/225)
فمثل هذه المجاهدات والرياضات التي لا تخالف هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فحسب، بل تخالف حتى الطبع والفطر السليمة؛ لذا فقد أصيب أكثر هؤلاء في عقولهم، فمنهم يرى الحيات والهوام فواكهاً فيأكلها، ومنهم من يصعد إلى المنبر فيخطب في الناس عرياناً، ومنهم من يقول: لا إله لكم إلا إبليس، نعوذ بالله من الخذلان. وشاهد ذلك ما رواه الشعراني والنبهاني في تراجم أوليائهم. حيث يقول النبهاني في ترجمة محمد المعروف بأكل الحيات(1): (كان يرى الخنافس زبيباً، والحية قثاء، وكان من أكابر الصالحين)(2).
ويقول الشعراني في ترجمة سيده إبراهيم العريان(3): (وكان رضي الله عنه يطلع المنبر ويخطب عرياناً فيقول: (السلطان ودمياط باب اللوق بين القصرين وجامع طليون، الحمد لله رب العالمين. فيحصل للناس بسط عظيم، وكان يُخرج الريح بحضرة الأكابر، ثم يقول: هذه ضرطة فلان ويحلف على ذلك فيخجل الكبير منه)(4).
ويقول أيضاً في ترجمة سيده محمد الحضري(5): (إن الناس سألوه أن يخطب فيهم يوم الجمعة، فقال: بسم الله فطلع المنبر فحمد الله وأثنى عليه ومجده ثم قال: وأشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة والسلام)(6).
__________
(1) المتوفى سنة 832هـ. جامع كرامات الأولياء (1/260).
(2) المرجع السابق ص. ن.
(3) مات سنة نيف وثلاثين وتسعمائة. ط. ك (2/129).
(4) المصدر السابق ص. ن.
(5) توفي سنة 897هـ. المرجع السابق (2/97-98).
(6) المصدر السابق (2/97).(1/226)
فلا يبلغ الرجل عندهم مبلغ الرجال إلا بتلك المجاهدات والرياضات البدعية التي تكسب نفوسهم قدرة على التأثير على الكائنات -كما يزعمون- فيحصل لهم التصرف في الكون وانقياد الوحوش وغير ذلك من الأمور الغريبة، وهم والفلاسفة سيان في هذه المعتقدات. يقول ابن سينا: (ولعلك قد تبلغك عن العارفين أخبار تكاد تأتي بقلب العادة، فتبادر إلى التكذيب، وذلك مثل ما يقال إن عارفاً استسقى للناس فسقوا، أو استشفى لهم فشفوا، أو دعا عليهم فخسف بهم وزلزلوا، أو هلكوا بوجه آخر... أو خشع لبعضهم سبع، أو لم ينفر عنه طير، أو مثل ذلك. فتوقف ولا تتعجل، فإن لأمثال هذا سبباً في أسرار الطبيعة)(1).
ويقول في موضعاً آخر: (فلا تستبعدن أن تكون لبعض النفوس ملكة يتعدى تأثيرها بدنها، وتكون نفوسها كأنها نفس ما للعالم. فلا تستنكرن أن تكون لبعض هذه النفوس هذه القوة حتى تفعل في أجرام أخر تنفعل عنه انفعال بدنه. ولا تستنكرن أن تتعدى عن قواها الخاصة إلى نفوس أخرى تنفعل فيها)(2). وهو المسمى عند الصوفية بالتصرف في الكون(3).
قال الشعراني في ترجمة شمس الدين محمد الحنفي(4): (هو أحد من أظهره الله تعالى إلى الوجود وصرَّفه في الكون، ومكنه من الأحوال وأنطقه بالمغيبات وخرق له العوائد وقلب له الأعيان...)(5). (واجتمع مع علي الخوَّاص فقال له: ما تقول في رجل رحى الوجود بيده يدورها كيف يشاء، فقال له سيدي محمد: فما تقول فيمن يضع يده عليها فيمنعها أن تدور)(6).
__________
(1) الإشارات والتنبيهات لابن سينا (3/252).
(2) المصدر السابق (3/253).
(3) انظر: ص (297).
(4) مات سنة 847هـ. ط. ك للشعراني (2/81-82).
(5) المرجع السابق (2/81).
(6) المرجع السابق (2/83).(1/227)
وقال الشعراني في ترجمة سيده محمد الشويمي(1): (مرض سيدي مدين رضي الله عنه مرة حتى أشرف فيها على الموت فوهبه -أي الشويمي- من عمره عشر سنين ثم مات في غيبة الشويمي رضي الله عنه، فجاء وهو على المغتسل. فقال: وكيف مت؟!! وعزة ربي لو كنت حاضراً ما خليتك تموت، ثم شرب ماء غسله كله)(2).
وبهذا الحد قد فاق هؤلاء الصوفية ما ذهب إليه الفلاسفة من تأثير النفوس على الكائنات الأخرى فتحصل بذلك المعجزات لمشايخهم بزعمهم وإنما هي خوارق شيطانية، أما الصوفية فقد بلغ تأثير نفوسهم إلى أبعد من ذلك، إلى درجة الاعتراض على الله تعالى ومنازعته في أمره، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. ويزعمون أن ذلك كرامات لهؤلاء المجانين بذلك زين لهم الشيطان أعمالهم حتى جعلوا أولياءهم أعلى مكانة من أولي العزم من الرسل. كما صرح بذلك كبريتهم الأحمر بن عربي حيث يقول:
مقام النبوة في برزخ ……فويق الرسول ودون الولي(3)
أي أن الأنبياء أعلى مكانة من الرسل، والأنبياء أدنى من أولياء الصوفية الذين يسميهم ابن عربي أنبياء الأولياء، وسبب تفضيل أنبياء الأولياء على الأنبياء والرسل هو أن هؤلاء الأولياء يأخذون العلوم بلا واسطة وأما الأنبياء والرسل فيأخذون بواسطة الوحي.
يقول شيخ الإسلام: (وبالجملة فهو -يعني ابن عربي- لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في شيء، فإنه أخذ بزعمه عن الله ما هو متابع فيه في الظاهر، كما يوافق المجتهد المجتهد، والرسول الرسول، فليس عنده شيء من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتلقي عنه شيء أصلاً، لا في الحقائق الخبرية، ولا في الحقائق الشرعية)(4).
__________
(1) لم يذكر له الشعراني سنة وفاة وهو من أصحاب مدين الأشموني المتوفى سنة نيف وخمسين وثمانمائة انظر: ط. ك (2/94).
(2) المرجع السابق (2/94).
(3) لطائف الأسرار لابن عربي، ص (49).
(4) نقض المنطق لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص (141).(1/228)
فبعد أن زعم ابن عربي وجود أنبياء بعد النبي صلى الله عليه وسلم سماهم أنبياء الأولياء، لا يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء مما جاء به. جاء بعده عبد الكريم الجيلي بفرية أعظم مما جاء به ابن عربي، فليس جميع بني آدم يمكن أن يكونوا أنبياء فحسب، بل يمكن أن تتقمص روح النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم أرواح مشايخ الصوفية ويتصور النبي صلى الله عليه وسلم بصورهم، بحيث إذا قال هذا الصوفي أنا رسول الله يجب أن يُصدق. بل وصل عند الجيلي الاستهزاء والاستخفاف بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم حيث جعل النبي صلى الله عليه وسلم يظهر في الكنائس إلى غير ذلك من أنواع الكفر والإلحاد.(1/229)
يقول الجيلي: (اعلم حفظك الله أن الإنسان الكامل هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود إلى أبد الآبدين، ثم تنوع في ملابس ويظهر في كنائس، فيُسمى به باعتبار لباس ولا يُسمى به باعتبار لباس آخر؛ فاسمه الأصلي الذي هو له محمد، وكنيته أبو القاسم ووصفه عبد الله ولقبه شمس الدين، ثم له اعتبار بملابس أخرى أسام، وله في كل زمان اسم ما يليق بلباسه في ذلك الزمان، فقد اجتمعت به صلى الله عليه وسلم وهو في صورة شيخي الشيخ شرف الدين إسماعيل الجبرتي، ولست أعلم أنه النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت أعلم أنه الشيخ، وهذا من جملة مشاهد شاهدته فيها بزبيد سنة ست وتسعين وسبعمائة، وسر هذا الأمر تمكنه صلى الله عليه وسلم من التصور بكل صورة، فالأديب إذا رآه في صورة المحمدية التي كان عليها في حياته فإنه يسميه باسمه، وإذا رآه في الصورة ما من الصور، وعلم أنه محمد فلا يسميه إلا باسم تلك الصورة، ثم لا يوقع ذلك الاسم إلا على الحقيقة المحمدية، ألا تراه صلى الله عليه وسلم لما ظهر في صورة الشبلي رضي الله عنه قال الشبلي لتلميذه: أشهد أني رسول الله، وكان التلميذ صاحب كشف فعرفه، فقال: أشهد أنك رسول الله، وهذا أمر غير منكور، وهو كما يرى النائم فلاناً في صورة فلان. وأقل مراتب الكشف أن يسوغ به في اليقظة كما يسوغ به في النوم، لكن بين النوم والكشف فرق، وهو أدت الصورة التي يُرى فيها محمد صلى الله عليه وسلم في النوم لا يوقع اسمها في اليقظة على الحقيقة المحمدية؛ لأن عالم المثال يقع التعبير فيه، فيعبر عن الحقيقة المحمدية إلى حقيقة تلك الصورة في اليقظة. بخلاف الكشف فإنه إذا كُشف لك عن الحقيقة المحمدية أنها متجلية في صورة من صور الآدميين فيلزمك إيقاع اسم تلك الصورة على الحقيقة المحمدية، ويجب عليك أن تتأدب مع صاحب تلك الصورة تأدبك مع محمد صلى الله عليه وسلم لما أعطاك الكشف أن محمداً صلى الله(1/230)
عليه وسلم متصور بتلك الصورة فلا يجوز ذلك بعد شهود محمد صلى الله عليه وسلم فيها أن تعاملها بما كنت تعاملها من قبل)(1).
فهذا الكلام يلزم منه لوازم باطلة منها:
1- قوله: (إن الإنسان الكامل -الذي يعنون به النبي صلى الله عليه وسلم- تدور عليه أفلاك الوجود... وهو واحد منذ أن كان الوجود إلى أبد الآبدين). هذا كله مفرع عن نظرية الفيض التي تمت مناقشتهم(2) فيها وبيان ما فيها من مفاسد.
2- قوله: (له التصور بكل صورة) يفسر قوله: (ويظهر في كنائس) فيلزمه أن النبي صلى الله عليه وسلم يظهر في صورة النصارى: من رهبان وقساوسة، وهو على هذه الصورة إما أن يدعو الناس إلى الإسلام، وهذا ما لا يتصور. وإما أن يدعوهم إلى النصرانية وهذا هو القريب من فهم الجيلي.
3- كما يلزم من قوله: (يتصور بكل صورة) اختصاصه صلى الله عليه وسلم بخصائص لم تكن عنده من قبل، وإنما خاصية التشكل أو التصور ثبتت للملائكة عليهم السلام، والشياطين.
4- كما يلزم من قوله: (يتصور بكل صورة) العموم من لفظ كل فيشمل التصور بالصور الآدمية وغير الآدمية من الكائنات والمخلوقات الأخرى. سبحانك هذا بهتان عظيم.
__________
(1) الإنسان الكامل (2/74-75).
(2) انظر ص (105).(1/231)
فمن هذا المبحث ظهر أن الفلاسفة المنتسبين إلى الإسلام ينفون ختم النبوة بالنبوة المحمدية بجعل النبوة أمراً اكتسابياً يحصل لكل أحد من أصحاب الخيالات والجهالات، بل الأنبياء عموماً يتأخرون في الرتبة عن الفلاسفة في زعمهم وهذا كفر عظيم بالله ورسله، ومن هؤلاء من اختل عقله وقال بوجود أنبياء الأولياء الذين يوحى إليهم كما يوحى إليه صلى الله عليه وسلم ولا يتبعونه في شيء من الدين أو أن النبي صلى الله عليه وسلم يتصور بأشكال بعضهم فكل ما أتى به ذلك البعض يعتبر عندهم من مشكاة النبوة، وفي كل هذا هدم صريح لمعالم الدين بجعل مشرعين بعد سيد المرسلين. ولم تقف معاول الهدم عند أولئك المحرومين من الهداية القدامى بل ظهر في وقتنا الحاضر من أنكر ختم النبوة به صلى الله عليه وسلم وادعاها لنفسه، ومن هؤلاء غلام أحمد القادياني مؤسس الديانة القاديانية التي انتشرت في أوساط المسلمين بشكل كبير ينذر بالخطر العظيم الذي يحف بالأمة الإسلامية. وفي المبحث التالي يتم تسليط الضوء على نبي القاديانية وفرقته وفضح دعواهم النبوة بعد النبوة المحمدية.
المبحث الثاني: رد خصيصة ختم النبوة بالنبي صلى الله عليه وسلم عند القاديانية:
ظهور القاديانية في أوساط المسلمين:
ظهرت القاديانية في أوائل القرن الرابع عشر الهجري في قرية من قرى الهند تُسمى قاديان بعد استقرار الحكم الإنجليزي فيها. وهي مؤامرة سياسية خطط لها الإنجليز لضرب الإسلام من الداخل بزعزعة اعتقاد المسلمين في ختم النبوة بسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، ولإبطال شرائع الدين؛ وإحداث الفرقة بين المسلمين.(1/232)
يقول أبو الحسن الندوي: (إن وجد لها نظير في الخطر والضرر على الإسلام، ففي الإسماعيلية الباطنية التي تولى كبرها عبد الله بن ميمون القدَّاح في القرن الثالث الهجري، وأشك أنها بلغت مبلغ الأولى -القاديانية- في أصالة الفساد ودقة المؤامرة ومعاداة الإسلام(1).
وقد بذل القاديانيون جهوداً ضخمة من أجل التبشير بدينهم الجديد في أوساط المسلمين.
يقول وكيل التبشير بالقاديانية مبارك أحمد ماك: (وقد نجحت اليوم الحركة الأحمدية في تأسيس المراكز التبشيرية والمساجد في أقطار العالم كافة، وأن معظم كتبه -أي القادياني- الثمانين بالأردية وأقلها بالعربية والفارسية(2).
كما أنشأوا الجامعة الأحمدية في مدينة ربوة(3) بباكستان.
ويُسمي القاديانيون أنفسهم بالأحمدية تدليساً على المسلمين حتى يفهموا أنهم ينتسبون إلى نبي الإسلام أحمد صلى الله عليه وسلم فيحصل لهم الغرر بذلك وإنما هم في الحقيقة يعنون بذلك الانتساب إلى متنبئهم أحمد القادياني.
يقول إحسان إلهي ظهير: (إن القاديانية في إفريقيا وغيرها من البلاد يسمون أنفسهم (أحمدية) تزويراً وتمويهاً على المسلمين، والحقيقة لا علاقة لهم برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي اسمه أحمد، وأما اسم متنبئهم فغلام أحمد القادياني، وبهذه النسبة يُعرفون في باكستان والهند أي القاديانية)(4).
متنبىء القاديانية غلام أحمد:
مولده وأسرته:
__________
(1) أبو الحسن الندوي: القادياني والقاديانية دراسة وتحليل ص (7).
(2) انظر: المسيح الناصري في الهند، تأليف مؤسس الحركة القاديانية، الصفحة الثانية من الغلاف، أحد مطبوعات التبشير الأحمدية -ربوة باكستان، تعريب وكيل التبشير للتحريك الجديد ورئيس القسم العربي بالجامعة الأحمدية مبارك أحمد ماك.
(3) مدينة صغيرة في باكستان الغربي بناها القاديانيون، وجعلوها مركزاً لهم. انظر القاديانية دراسة وتحليل: لإحسان إلهي ظهير ص (8).
(4) المرجع السابق ص (1).(1/233)
ولد غلام أحمد القادياني عام 1835م(1) وقيل 1839م وقيل عام 1840م في قرية قاديان إحدى مقاطعات البنجاب بالهند في أسرة مجهولة الأصل والنسب تدين بالولاء للاحتلال الإنكليزي ضد المسلمين. وفي هذا يقول غلام أحمد نفسه: (اسمي أحمد واسم أبي غلام مرتضى، واسم أبيه عطا محمد وقومي مغول برلاس، ويظهر من الأوراق المحفوظة أن آبائي جاؤوا من سمرقند(2).
ثم يزعم أن الله تعالى كلمه بأن أسرته فارسية، يقول في ذلك: (والظاهر أن أسرتي من المغول... لكن الآن ظهر لي من كلام الله أن أسرتي حقيقة أسرة فارسية، وأنا أؤمن بهذا، لأنه لا يعرف أحد حقائق الأسر مثل ما يعرفها الله)(3). ومرة يعلن أنه صيني الأصل يقول: (محيي الدين بن عربي تنبأ عني في كتابه (فصوص الحكم)، حيث يقول: يولد في آخر الزمان ولد يدعو إلى الله، يكون مولده بالصين، ولغته لغة بلده، فأنا هو المقصود؛ لأني صيني الأصل(4). ومرة أخرى يعلن أنه من آل البيت، وأسرته إسرائيلية الأصل. حيث يقول: (أنا فاطمي من بني فاطمة بنت الرسول رضي الله عنها وأسرتي من أولاد إسحاق)(5).
وإذا سئل عن هذه التقلبات في أصله قال: (لا دليل عندي سوى إلهام الله في ذلك)(6).
__________
(1) المسيح الناصري لغلام أحمد القادياني، صفحة الغلاف.
(2) المرجع السابق.
(3) حاشية (أربعين) نمرة 2 ص (17) لغلام أحمد القادياني نقلاً عن القاديانية لإحسان ص (125).
(4) حقيقة الوحي لغلام أحمد القادياني ص (77)، نقلاً عن القاديانية لإحسان ص (126).
(5) تحفة كولرة للغلام أحمد القادياني ص (29)، نقلاً عن القاديانية لإحسان ص (126).
(6) المرجع السابق ص (29).(1/234)
فمتنبىء القاديانية لا يعرف أصله بل إن إله القادياني (شيطانه) لا يعرف أصله. هذا هو نسب أسرة متنبىء القاديانية المجهول. وأما رب هذه الأسرة فقد اشتهر بالولاء الشديد للحكومة البريطانية وبمعاونتهم بكل ما يستطيع ضد المسلمين. فيحدثنا متنبىء القاديانية عن أبيه قائلاً: (إن والدي كان من الذين شرفهم حاكم المقاطعة بتخصيص مقعد لهم في قصره خلال المناسبات الرسمية. وكان والدي من الموالين المخلصين للحكومة الإنكليزية. وقد أمد الحكومة السامية خلال الثورة الكبرى التي قامت عام 1857م(1) بخمسين فرساً اشترها من خالص ماله وبخمسين فارساً. وكان هذا العون أكثر من طاقته، ولكن بعد ذلك بدأ الزوال والانحطاط لأسرتي حتى بقيت أسرتي كأسرة مزارع فقير(2).
في وسط هذه الأسرة العميلة لبريطانيا نشأ غلام أحمد القادياني عميلاً للإنكليز، حيث يصرح بهذه العمالة قائلاً: (ولقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنحليزية ونصرتها، وقد ألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر الإنكليز)(3).
ويقول في موضع آخر: (وقد ألفت من الكتب والاعلانات والنشرات... وقد نشرت جميع هذه الكتب في البلاد العربية وتركيا، وكان هدفي دائماً أن يصبح المسلمون مخلصين لهذه الحكومة)(4).
__________
(1) يقصد بالثورة الكبرى التي قام بها أهل الهند -من المسلمين وغيرهم- ضد الحكم الإنكليزي، لكن لم يحالفهم النجاح. انظر القادياني والقاديانية لأبي الأعلى المودودي ص (10).
(2) التحفة القيصرية: تأليف الميرزا غلام أحمد ص (16)، نقلاً عن المرجع السابق ص (10)، والقاديانية لإحسان ص (127).
(3) الميرزا غلام أحمد: ترياق القلوب ص (15) نقلاً عن القاديانية والاستعمار الإنجليزي لعبد الله سلوم السامرائي ص (26).
(4) المرجع السابق.(1/235)
ويقول أيضاً: (لقد ظللت منذ حداثة سني وقد ناهزت اليوم الستين أجاهد بلساني وقلمي لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنكليزية والنصح لها والعطف عليها... وأرى أن كتاباتي قد أثرت في قلوب المسلمين، وأحدثت تحولاً في مئات الآلاف منهم)(1).
تعليم القادياني:
لم ينل القادياني نصيباً وافراً من أي نوع من أنواع العلوم، كما يصرح بذلك حيث يقول: (ولما ترعرعت ووضعت قدمي في الشباب قرأت قليلاً من الفارسية ونبذة من رسائل الصرف والنحو وعدة من العلوم، وشيئاً من كتب الطب، وكان أبي عرافاً حاذقاً وكانت له يد طولى في هذا الفن، فعلمني بعض كتب هذه الصناعة، وأطال القول في الترغيب لكسب الكمال فيها... وكذلك لم يتفق لي التوغل في علم الحديث والأصول والفقه إلا كطل الوبل)(2).
أمراض القادياني:
كان غلام أحمد القادياني مستنقعاً من الأمراض الخطيرة التي جاءت في مؤلفاته ومؤلفات أتباعه فمن ذلك:
1- الهستريا والصداع ودوار الرأس:
تقول زوجة غلام أحمد القادياني: (إن حضرة المسيح الموعود أصيب بالصداع ودوار الرأس والهستريا أول مرة حين ولادة البشير الأول... ثم توالت نوبات هذه الأمراض الخطيرة مرة بعد أخرى)(3).
2- سلس البول:
__________
(1) المرجع السابق.
(2) التبليغ إلى مشايخ الهند: للغلام القادياني ص (59)، نقلاً عن القاديانية لإحسان ص (127).
(3) سيرة المهدي: لبشير الدين محمد أحمد القادياني (ابن المتنبئ) (1/35)، نقلاً عن ماهي القاديانية للمودودي ص (16).(1/236)
يقول القادياني نفسه: يلازمني مرضان خطيران: مرض في النصف الأعلى فهو دوار الرأس، وأما الذي في النصف الأسفل فهو سلس البول. وهذان المرضان يلازمانني منذ نشرت ادعائي بكوني مأموراً من الله)(1)سبحان الله العظيم! يُصرح القادياني بأن دعواه مجرد ادعاء ومع ذلك يُصدق. ويصاب بهذه الأمراض المنفرة بمجرد حصول الادعاء منه بدلاً من التأييد بالآيات البينات!!
3- ضعف الذاكرة:
يقول القادياني: (ذاكرتي سيئة جداً. إلى حد أني مهما قابلت أحداً من الناس مراراً وتكراراً أنساه. ولا أستطيع الإعراب عما أعاني من فساد الذاكرة من الآلام)(2).
4- ضعف عصبي:
يقول القادياني: (إن هذا العاجز -غلام أحمد- مصاب بضعف في الأعصاب، إن الهواء البارد والمطر يسببان لي الأضرار والمتاعب)(3).
5- مرض الكوليرا:
وهو المرض الذي هلك بسببه في 26/ مايو/1908م.
يقول إحسان إلهي: (هذا وقد نشرت الجرائد الهندية آنذاك: أن غلام أحمد المتنبي القادياني لما ابتلي بالكوليرا كانت النجاسة تخرج من فمه قبل الموت، ومات وكان جالساً في بيت الخلاء لقضاء الحاجة)(4).
دعوى كلام أحمد النبوة ونزول الوحي إليه:
__________
(1) حقيقة الوحي للميرزا غلام أحمد ص (206-207) نقلاً عن المرجع السابق ص (18).
(2) المكتوبات الأحمدية ج (5) رقم (2)، تأليف: يعقوب علي القادياني، نقلاً عن المرجع السابق ص (19).
(3) المكتوبات الأحمدية ج (5) رقم (3) ص (21)، نقلاً عن المرجع السابق.
(4) القاديانية لإحسان ص (158).(1/237)
بعد أن فشلت ثورة الهند الكبرى (1857م) ضد الاحتلال البريطاني، استولى على المسلمين اليأس من إصلاح الأوضاع بالأساليب المعتادة فبدأوا يتطلعون إلى منقذ جديد، فنشط المحترفون بالتصوف في نشر شطحاتهم وإلهاماتهم، وقويت رغبة العامة والدهماء في الأمور الغريبة، والخوارق العجيبة، والأخبار الغيبية، وكثر المتطفلون والأدعياء، وهيئوا العقول والنفوس لكل أمر غريب وشيء جديد(1).
فاستغلت بريطانيا هذه الأوضاع لمصلحتها وذلك بإيجاد مثل هذا المنقذ والمصلح الذي تتعلق به آمال المسلمين والذي يخدم سياستها من خلال ذلك. فاختاروا عملاء وتخيروهم بُلهاء فكان غلام أحمد أحد هؤلاء(2).
ولكي تنطلي المكيدة على المسلمين ويلتفوا حول المنقذ الجديد، أرسلت الحكومة البريطانية القساوسة يدعون إلى المسيحية(3)، وأوعزت من جهة أخرى إلى غلام أحمد بالتصدي لدعوة القساوسة والدخول معهم في مناظرات بعد الإعلان لها لكي يعرف المسلمون المنقذ الجديد ويلتفوا حوله. يقول أغا كشميري عن غلام أحمد: (فقد رد على الديانات السائدة في الهند كالمسيحية والأبة والبرهمية)(4).
__________
(1) القادياني والقادبانية لأبي الحسن الندوي ص (19-20) بتصرف.
(2) عبارة للشيخ عطية محمد سالم في تصديره لكتاب إحسان إلهي ظهير (القاديانية) ص (5).
(3) القادياني والقاديانية ص (19).
(4) خَوَنةُ الإسلام ص (4) لأغاشورش كشميري، نقلاً عن القاديانية والاستعمار الإنجليزي ص (59).(1/238)
يقول أحمد القادياني: (فكل ما وقع مني بإزاء المبشرين المسيحيين لم يدفعني إليه إلا رغبتي في أخذ المسلمين بالحكمة والسياسة وأن أدخل السرور على نفوسهم وأميت ثورة نفوسهم المتوحشة)(1)، وكان يضفي على جميع مواقفه صفة القدسية وأنه مأمور من الله تعالى لإقامة الحجة على الخلق، يقول في ذلك: (لقد كلفني الله بإصلاح الخلق بمسكنة وتواضع وفقر وتذلل على طريقة النبي الناصري الإسرائيلي المسيح، وقد ألفت لهذا الغرض كتاب براهين أحمدية، وقد بشرني الله أن كل من يقرأ هذه الرسالة الموجهة إليه، ثم لا يُقر بالحق يكتب له الهزيمة والخذلان(2).
__________
(1) ترياق القلوب للقادياني ص (309)، نقلاً عن المسألة القاديانية لأبي الأعلى المودودي ص (85-81).
(2) براهين الأحمدية (1/82-83)، نقلاً عن المرجع السابق.(1/239)
فبعد أن ادّعى أن الله تعالى كلفه بإصلاح الخلق على طريقة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام تدرج في دعواه وادعى بأنه المسيح الموعود الذي سيكون في آخر الزمان؛ ولذا كان لا بد أن ينكر القادياني نزول عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان. ولكي يقنع سفهاء الأحلام بذلك ألف كتابه (المسيح الناصري في الهند)، جاء في مقدمته: (إنني أنا النور لهذا العصر المظلم الحالك، والذي يتبعني هو وحده سيجنب من تلك الهُوات والخنادق والتي أعدها الشيطان لسراة الليل، إنه بعثني لكي أرشد العالم نحو الإله الحق، بكل سلم وحلم وأشيد بناء المثل الخلقية للإسلام، وأنه شرفني بآيات تورث طلاب الحق الطمأنينة والسلوان، ولقد أظهر لي العجائب وكشف لي من الغيوب، وأسرار المستقبل ما تتأسس عليه معرفة الصادقين، ووهب لي من العلوم والمعارف ما يعاديه أبناء الظلام وأخلاف الباطل، لكنني عزمت على مواساة بني الإنسان ما استطعت إلى ذلك سبيلاً... إلى قوله: وإن أعظم مواساة للمسلمين اليوم أن نقوم بإصلاح أوضاعهم الخُلقية، ونُبدد آمالهم الراسخة في صدورهم عن ظهور مسيح أفاك، وهي تنافي التعاليم الإسلامية أشد المنافاة... ومجمل القول أن هذا هو الدليل الوحيد الذي يكفي لدحض مثل هذه العقائد، لكن تطلبت مواساة هؤلاء أن أدعم إبطال هذه العقائد بشواهد تاريخية، وأخرى تلقيناها من كتب الطب، وأخرى بلغتنا بالمشافهة المتواترة، وأخرى استنبطناها من القرائن المتفرقة، وأخرى جمعناها من الأدلة العقلية، وشواهد تلقيناها من الوحي السماوي المتجدد... إلى قوله: والباب العاشر سيحوي شرحاً وافياً للغايات التي بُعثت لأجلها، وسأتناول الأدلة على كوني المسيح الموعود من عند الله تعالى.
ميرزا غلام أحمد القادياني، في 25 أبريل 1899م(1).
__________
(1) المسيح الناصري لغلام أحمد القادياني، ص (12-14).(1/240)
ففي طيات كلام القادياني بدأت تظهر خيوط المؤامرة الإنكليزية وذلك بإبطال عقيدة الجهاد ضد أعداء الله، حتى لا يفكر المسلمون في الجهاد ضدهم ولا ضد غيرهم من أعداء الله في كل مكان حيث يقول القادياني: (إنه بعثني لكي أرشد العالم نحو الإله الحق بكل سلم وحلم). ومن خلال قوله: (أن نقوم بإصلاح أوضاعهم الخلقية ونبدد آمالهم الراسخة في صدورهم عن ظهور مسيح أفاك...).
بل قد صرح غلام أحمد بإلغاء الجهاد علانية حيث يقول: (وقد سبق أن ترحمت على قومي وكتبت عدة كتب أردية وعربية وفارسية صرحت فيها بأن فكرة الجهاد العدواني في المسلمين وعقيدة ظهور مهدي سفاك للدماء وقضية معاداة غير المسلمين بغير داع، كل أولئك من صنع العلماء المتهورين الطائشين وأخطائهم...)(1).
ويقول: (وجملة القول إن طائفة أهل السنة أو الوهابيين كما يسميهم الناس، يحددون غاية نزول المسيح بأنه سيدمر الدنيا عن آخرها، كما يفعل (مهاديو) إله الهنادك)(2).
فبعد دعوى القادياني أنه المسيح الموعود، دعا الناس إلى مبايعته على ذلك.
يقول وكيل التبشير القادياني مبارك أحمد ماك: (استهل مؤسس الحركة الأحمدية كفاحه بكتابه التاريخي العظيم (براهين أحمدية) في أربعة مجلدات. أعلن فيه أن الله عز وجل قد بعثه مسيحاً موعوداً طبق أنباء التوراة والقرآن الكريم، وفي عام 1889م اختار لأتباعه طريق المبايعة للانضمام للحركة الأحمدية)(3).
فمن شروط المبايعة للانضمام للجماعة القاديانية:
__________
(1) المرجع السابق ص (2).
(2) المرجع السابق ص (4).
(3) المسيح الناصري لغلام أحمد القادياني، الوجه الثاني من صفحة الغلاف.(1/241)
ما قاله غلام أحمد: (أن يعقد مع هذا العبد المسيح الموعود عليه السلام عهد الأخوة خالصاً لوجه الله تعالى على أن يطيعني في كل ما آمره به من المعروف، ثم لا يُحيد عنه ولا ينكثه حتى الممات، ويكون في هذا العقد بصورة لا تعدلها العلائق الدنيوية سواء كانت علائق قرابة أو صداقة أو عمل(1). فبعد أن ضمن القادياني الطاعة له على الأقل من أتباعه، ساغ له أن يحدثهم بما أوحاه إليه شيطانه من الخزعبلات والمضحكات، وحاول أن يضفي على ذلك الوحي المزعوم ما يشعر أن صاحبه صادق فيما يدعي فمن ذلك قول غلام أحمد: (ما الله محرمكم من نعمة الوحي والتحديث والخطاب والمكالمة أبداً إلى يوم القيامة. إنه لمتم عليكم جميع النعم التي أوتيها الأولون. غير أنه من تقوَّل على الله كذباً عن وقاحة نفس، وقال للناس: أوحي إلي وحي الله، ولم يوح إليه أو قال شرفني الله بخطابه وكلامه، ولم يكن منه شيء، فأقول وأشهد الله وملائكته على ما أقول إنه ليهلكن هذا الكذاب المتقول لأنه قال الكذب على خالقه وخدع وتوقح واجترأ جراءة كبيرة)(2).
يقول ابن غلام أحمد، ميرزا بشير: (صار المسلمون منذ أكثر من قرن ينكرون نزول الوحي، واعتقدوا أن بابه مسدود، ولم يعد الله يكلم أحداً من عباده... ولكن الفتنة نزلت بالمسلمين منذ قرن، وأصيبوا بعاهة في اعتقادهم ذاك، إذ أنكروا الوحي بتاتاً وزعموا انقطاعه... وكان القوم على هذه الحال وإذا بالمسيح الموعود عليه السلام يُفاجئهم بدعواه، ويقول إن الله أوحى إليه وكلمه)(3).
نماذج من وحي القادياني المزعوم:
__________
(1) سفينة نوح أو تقوية الإيمان لغلام القادياني ص (96).
(2) المرجع السابق ص (32).
(3) دعوة الأحمدية وغرضها لبشير محمد أحمد القادياني ص (37).(1/242)
النموذج الأول: (إنا أنزلناه قريباً من القاديان وبالحق أنزلناه وبالحق نزل صدق الله ورسوله وكان أمر الله مفعولاً)(1).
النموذخ الثاني: (يا أحمد بارك الله فيك... أول نائب عن الله بأمر الله في هذا الزمان، قل جاء الحق وزهق الباطل، قل إن افتريته فعلي إجرامي، هو الذي أرسل رسوله بالهدى، يا أحمد فاضت الرحمة على شفتيك، إنك بأعيننا، يرفع الله ذكرك، يا أيها المدثر قم فأنذر، وربك فكبر، إني رافعك إلي وألقيت عليك محبة مني)(2).
النموذج الثالث:
عندما وقع الطاعون في الهند عام 1952م ادعى القادياني أن الله نبأه بهذا البلاء العظيم.
حيث يقول: (ولقد كنت أنبئت بوقوع هذا البلاء العظيم قبل اليوم بعشرين سنة، وأن هذا النبأ لموجود بحرفه في كتابي (البراهين الأحمدية) مع ما كنت بشرت به إذ ذاك من البركات الخاصة في دعوتي هذه، فليراجع النبأ المذكور هناك في الصحيفة (518))(3).
ولما طلبت منه الحكومة أن يتطعم بمصل الطاعون اعتذر لها بأن عدم تطعيمه جاء بأمر سماوي.
حيث يقول: (بيد أننا بكل احترام نعتذر إلى الحكومة المحسنة بأنه لولا أن هنالك عائق سماوي لكنا من بين الرعايا أول الناس تطعيماً بمصل الطاعون، وذلك العائق السماوي أن الله أراد أن يُري الناس في هذا الزمان آية من آيات رحمته، فشافهني بالخطاب وقال لي: (إنك ومن كان في دارك، ومن تفانى فيك بكامل الطاعة والاتباع وبخالص التقوى كل أولئك يُحفظون من الطاعون، وأن ذلك يكون آية الله في هذه الأيام الأخيرة كي يميز بها الأمم بعضها عن بعض.
__________
(1) براهين أحمدية لغلام أحمد ص (498، 499)، نقلاً عن كتاب المحكمة الشرعية الفيدرالية بجمهورية الباكستان الإسلامية تقرر أن القاديانية فئة كافرة ص (46).
(2) براهين أحمدية ص (233)، نقلاً عن المصدر السابق ص (45).
(3) غلام القادياني: تقوية الإيمان ص (2).(1/243)
ومن قبل هذا اليوم بزمان أوحى إليّ الذي هو رب السموات والأرض، والذي أحاط بكل شيء علماً وسلطاناً وقال لي: (إنه لواق كل من في حظيرة هذا البيت من ميتة الطاعون بشرط الإخلاص والطاعة والتواضع، ولم يكن إزاء الأوامر الإلهية وتجاه رسوله متكبراً متمرداً ذا نخوة متهاوناً عنوداً معجباً بنفسه. هذا وقد قال لي مخاطباً: (إن القرية (القاديان) لا يغشاها الطاعون الجارف الطام المبيد، فيموتون منه كمثل الكلب ويهيمون على وجوههم من شدة الكرب والحزن، وأن جميع أفراد الجماعة الأحمدية مهما يكن تعدادهم سيسلمون منه عموماً بالنسبة لأعدائهم اللهم إلا أولئك الذين لم يراعوا فهم عهدهم حق الرعاية، أولئك سبق فيهم أمر مكتوم كان في علم الله)(1).
تصدير دعوة القاديانية إلى الخارج:
وبعد أن كوّن القادياني اتباعاً له في داخل الهند وباكستان نشر دعوته إلى الخارج فوجهها أولاً إلى العرب حيث يقول: (إن ربي قد بشرني في العرب وألهمني أن أمونهم وأريهم طريقهم وأصلح لهم شؤونهم، وستجدوني في هذا الأمر إن شاء الله من الفائزين، أيها الأعزة إن الرب تبارك وتعالى قد تجلى عليَّ لتأييد الإسلام وتجديده بأخص التجليات، ومنح عليّ وابل البركات، وأنعم عليَّ بأنواع الإنعامات، وبشرني في وقت عبوس للإسلام، وعيش بؤس لأمة خير الأنام، بالتفضلات والفتوحات والتأييدات، فصبوت إلى إشراككم يا معشر العرب في هذه النعم، وكنت لهذا اليوم من المتشوقين، فهل ترغبون أن تلحقوا بي لله رب العالمين)(2).
ثم وجه القادياني بعد ذلك دعوته إلى جميع أرجاء العالم الإسلامي بما فيها الأقليات الإسلامية(3).
__________
(1) سفينة نوح (تقوية الإيمان) لغلام أحمد ص (2).
(2) حب العرب من الإيمان لمؤسس الجماعة الأحمدية ص (6).
(3) انظر كتاب المسألة القاديانية لأبي الأعلى المودودي ص (85). وما بعدها.(1/244)
ثم يتدرج القاديانيون في دعوتهم ليصلوا إلى القول بأن غلام أحمد هو خاتم الأنبياء، فيصفون أصحاب القادياني بأنهم صحابة حيث يقول أحد أتباعها: (إن الأحمديين بما أنهم يؤمنون بأن بعثة حضرة ميرزا غلام أحمد كمسيح موعود، إنما هي البعثة الثانية لحضرة المسيح عليه السلام؛ فلذلك يحق لهم طبق التعاليم الإسلامية ومعتقدات الأحمدية أن يصفوا رفاق حضرة المؤسس عليه السلام بالصحابة، ولا يمكن بتاتاً أن يُكرهوا على الانحراف عن العمل بعقيدتهم هذه)(1).
تطاول القادياني على الرسول صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء:
لم يقف هذا المتنبىء الكذاب عند ادعاء النبوة، فأبت نفسه المريضة وأبى أسياده الإنجليز إلا أذية المسلمين بالحط من قدر نبيهم صلى الله عليه وسلم فمن ذلك:
ادعاء القادياني مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في خصوصية الختم به:
يقول المتنبىء الكذاب: (ليس باستطاعة أحد في الدنيا أن يدرك حقيقة ختم النبوة المحمدية غير الذي هو أيضاً خاتم الأولياء مثل سيدنا خاتم الأنبياء) لأن إدراك حقيقة أصل الشيء يتوقف على أهله، والختمية مخصوصة بسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بحضرة المسيح الموعود)(2).
ادعاء القادياني أنه خاتم الأنبياء:
تستمر موجة الجنون والهستريا بهذا الدجال إلى أن يدعي أنه خاتم الأنبياء، حيث يقول: (وقد ذكرت مراراً أنني أنا ذلك النبي الخاتم بروزاً بموجب الآية وآخرين منهم لما يلحقوا بهم)(3).
- ولم يرض القادياني بمرتبة خاتم الأنبياء بما فيها من خصائص بل زعم الفضل عليه صلى الله عليه وسلم.
يقول القادياني في معرض المقارنة بينه وبين الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) النصيحة، المؤلف: الجماعة الأحمدية ص (32).
(2) تشحيذ الأذهان، قاديان عدد (8) ج (12)، 2 أغسطس 1917م. نقلاً عن المحكمة الشرعية ص (89).
(3) إبك غلطي كازاله ص (5) نقلاً عن المرجع السابق ص (95).(1/245)
له خسف القمر المنير وأن لي غسا القمران المشرقان أتنكر وكل كلام معجز آية له كذلك قولي على الكل يبهر(1) ويقول هذا الشقي أيضاً: (إن النبي صلى الله عليه وسلم له ثلاثة آلاف معجزة، ولكن معجزاتي زادت على المليون)(2).
ولما ادّعى القادياني الفضل على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم كان ادعاؤه وادعاء أتباعه له الفضل على بقية الأنبياء من باب أولى.
يقول بشير أحمد بن الغلام: (إن غلام أحمد أفضل من بعض أولي العزم من الرسل)(3).
ويقول القادياني: (إنه أفضل من جميع الأنبياء والرسل)(4).
ويقول أيضاً: (إنه أُعطي كل ما أعطي لجميع الأنبياء والمرسلين)(5).
تكفير القاديانية للمسلمين:
كان من البديهي أن تحدث العداوة والبغضاء بين المسلمين وبين القاديانيين لما في دعوة القاديانية من هدم للإسلام ومبادئه؛ ولأن من مقتضيات الدعوة إلى الإيمان بالنبوة تكفير كل من لا يؤمن بها.
يقول بشير بن الغلام وخليفته: (إن جميع المسلمين الذين لم يشتركوا في مبايعة المسيح الموعود كافرون خارجون عن دائرة الإسلام ولو كانوا لم يسمعوا باسم المسيح الموعود)(6).
__________
(1) در ثمين للغلام القادياني ص (266)، نقلاً عن عقيدة ختم النبوة بالنبوة المحمدية للدكتور أحمد سعد حمدان الغامدي ص (248).
(2) تحفة كولرة ص (40)، وتذكرة الشهادتين ص (41) كلاهما للغلام، نقلاً عن القاديانية لإحسان ص (72).
(3) حقيقة النبوة لبشير بن الغلام ص (257)، نقلاً عن القاديانية ثورة على النبوة المحمدية والإسلام لأبي الحسن الندوي ص (39).
(4) هامش حقيقة الوحي للغلام ص (72)، نقلاً عن القاديانية لإحسان ص (71).
(5) در ثمين للغلام ص (287-288)، نقلاً عن المرجع السابق.
(6) آيينة صداقت -مرآة الصدق- لبشير بن الغلام ص (35) نقلاً عن المسألة القاديانية لأبي الأعلى المودودي ص (56) الناشر رابطة العالم الإسلامي.(1/246)
ويقول أيضاً: (كل رجل لا يؤمن بموسى ولا يؤمن بعيسى، أو يؤمن بعيسى ولا يؤمن بمحمد، أو يؤمن بمحمد ولا يؤمن بالمسيح الموعود. فما هو بكافر فحسب، بل هو راسخ في الكفر وخارج عن دائرة الإسلام)(1).
ويقول أيضاً: (من الواجب علينا ألا نعتقد بإسلام غير الأحمديين وألا نصلي خلفهم إذ إنهم عندنا كافرون بنبي من أنبياء الله)(2).
ويقول خليفة القادياني: بشير أحمد: (وقد أكد المسيح الموعود النهي عن صلاة الأحمديين خلف رجل من غير الأحمديين. وكثيراً ما ترد عليَّ من الخارج رسائل يسألني أصحابها عن هذا الأمر المرة بعد المرة؛ ولذلك فإني أقول لهم: مهما أعدتم عليَّ السؤال عن هذا الأمر، فإني لن أجيبكم إلا بأنه لا تجوز لا تجوز لا تجوز الصلاة خلف رجل من غير الأحمديين)(3).
ويقول أيضاً: (وقد أبدى المسيح الموعود سخطه العظيم على أحمدي يريد أن يزوج ابنته لرجل من غير الأحمديين. وقد سأله الرجل عن ذلك مرة بعد مرة، وعرض عليه ضروباً من الأعذار، ولكن لم يجب في كل مرة إلا بقوله: أمسك عليك بنتك ولا تزوجها رجلاً من غير الأحمديين. ثم إن هذا الرجل زوج ابنته بعد وفاة المسيح الموعود رجلاً من غير الأحمديين، فعزله الخليفة الأول عن إمامة الأحمديين ولم يقبل له توبة ست سنين من سني خلافته مع أنه لم يزل يتوب من فعلته مرة بعد مرة)(4).
__________
(1) كلمة الفصل لبشير أحمد القادياني، المنشورة في ريفيوآف ريلجتر ص (115)، نقلاً عن المرجع السابق ص (56-57).
(2) أنوار خلافتي لبشير بن الغلام ص (89)، نقلاً عن المرجع السابق ص (59-60).
(3) أنوار خلافتي: بثير بن أحمد ص (89)، نقلاً عن المسألة القاديانية لأبي الأعلى المودودي ص (59).
(4) أنوار خلافتي ص (93-94)، نقلاً عن المرجع السابق ص (65).(1/247)
وقد صرح غلام أحمد القادياني بمخالفة المسلمين حتى في الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك حيث يقول: (من الخطأ إننا لا نخالف المسلمين إلا في مسألة وفاة المسيح، إننا نخالفهم في ذات الله تعالى وفي الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن والصلاة والحج والزكاة)(1).
ويقول ابن الغلام: (فقد قال المسيح الموعود: إن إسلامهم -غير الأحمديين- غير إسلامنا، وإلههم غير إلهنا، وحجهم غير حجنا، وهكذا نخالفهم في كل شيء)(2)وقد صدق وهو كذوب.
القاديانية فئة كافرة:
فيما أوردته عن القاديانية من نصوص يدّعون فيها نبوة غلام أحمد، وأنهم لا يؤمنون بشيء مما يؤمن به المسلمون كفاية لإثبات كفرهم بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وخروجهم عن ملة الإسلام، ولم أتعرض لتلك النصوص بالمناقشة أو الرد؛ لأنها ليست شُبهاً قامت بقلوب مسلمين قد يُعذرون بذلك وإنما هي مجموعة من الادعاءات التي تسيء للإسلام ولرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم جمع فيها أصحابها بين الكذب والخلط والخبط والتناقض، وأن أصحابها في حاجة إلى دعوتهم للدخول في دين الإسلام من جديد، هذا وقد شهد على كفر القاديانيين، القرآَن الكريم والسنة النبوية، والقادياني نفسه، وعامة المسلمين.
أولاً: شهادة القرآن والسنة:
قال تعالى: ((مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)) [الأحزاب:40].
يقول ابن كثير: (فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم)(3).
__________
(1) جريدة (الفضل) عددها الصادر في 35 يوليو سنة 1931م، خطبة لخليفة القادياني، نقلاً عن المرجع السابق ص (58).
(2) جريدة الفضل في عددها الصادر 21 أغسطس سنة 1927م، خطبة لخليفة القاديانيين بعنوان (نصائح للطلاب) نقلاً عن المرجع السابق ص (57).
(3) تفسير القرآن العظيم (3/501).(1/248)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين}(1).
فقد نص الله تعالى ونص رسوله صلى الله عليه وسلم على ختم النبوة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فمن ادعاها بعد ذلك فهو مكذب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم كافر خارج عن ملة الإسلام.
قال تعالى: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)) [الأنعام:93].
ثانياً: شهادة القادياني على نفسه بالكفر:
وذلك من خلا الآتي:
1- تصريحه أن من يدعي النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر.
حيث يقول: (إن من يدعي النبوة بعد محمد هو أخو مسيلمة الكذاب وكافر وخبيث)(2).
ويقول: (نحن نلعن من يدعي النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم)(3).
2- تطاوله وإهانته لأنبياء الله تعالى ورسله:
__________
(1) تقدم تخريجه ص (41).
(2) انجام آثم للغلام ص (28)، نقلاً عن القاديانية لإحسان ص (139).
(3) إعلان الغلام المندرج في (تبليغ رسالت) ج (6/2)، نقلاً عن المرجع السابق.(1/249)
يقول ابن الغلام: (قال أبي إنه أفضل من آدم ونوح وعيسى؛ لأن آدم أخرجه الشيطان من الجنة؛ وأنه يُدخل بني آدم في الجنة، وعيسى صلبه اليهود وهو يكسر الصليب، وهو أفضل من نوح؛ لأن ابنه الكبير حُرم من الهداية، وأما ابنه فدخل في الهداية)(1).
ويقول القادياني عدو الله ورسله: (إن أسرة عيسى أسرة عجيبة، كانت جداته الثلاثة فاجرات، زانيات، ومن هذا الدم تكوّن وجود عيسى... ولعله كان ميلان عيسى إلى المومسات(2) لهذه النسبة(3).
ويشهد على نفسه قائلاً: (الذي يسب أو يشتم الأخيار المقدسين فليس إلا خبيث ملعون لئيم)(4).
ويقول أيضاً: (والذي يستعمل ألفاظاً يلزم منها انتقاص أحد الزعماء الدينيين كناية أو صراحة نعتبره خبيثاً كبيراً وأشر الناس نفساً)(5).
3- موالاة القادياني لأعداء الإسلام:
فموالاة غلام أحمد القادياني لأعداء الله الإنجليز النصارى لا تخفى على أحد، بل يتقرب إليهم بهذه الموالاة.
__________
(1) ملخصاً من خطاب محمود أحمد بن الغلام المنقول في (الفضل) 18 يوليو 1931م، نقلاً عن المرجع السابق ص (66).
(2) الزانيات.
(3) ضميمة انجام آتتهم للغلام ص (7)، نقلاً عن المرجع السابق ص (67-68).
(4) البلاغ المبين للغلام ص (19)، نقلاً عن المرجع السابق ص (69).
(5) عين المعرفة ص (18)؛ وبراهين أحمدية ص (109) للغلام، نقلاً عن المرجع السابق ص (70).(1/250)
حيث كتب في التماس قدّمه إلى الحكومة البريطانية بالهند بعنوان: (التماس متواضع إلى جناب الحكومة العالية) يقول فيه: (لا أزال منذ عشرين عاماً أنشر بالحماسة القلبية كتباً باللغات الفارسية والعربية والإنكليزية والأردية، تكرر فيها مرة بعد مرة أن المسلمين من واجبهم أن يكونوا أولياء مخلصين وفيين لهذه الحكومة ويكفوا أيديهم عن الجهاد والانتظار للمهدي السفاك للدماء... وإن هم أبوا الإقلاع عن هذا الخطأ فمن واجبهم على الأقل أن لا يكونوا كافرين لنعمة هذه الحكومة المحسنة وإلا يكونوا آثمين عند الله بعدم الوفاء لها)(1).
ثم جاء في هذا الالتماس: (وها قد آن لي أن أقول لجناب حكومتي المحسنة بكل جراءة إن هذه هي خدماتي التي قمت بها خلال العشرين سنة الماضية ولا يمكن أن تأتي بمثلها أسرة إسلامية من أسر الهند البريطانية)(2).
__________
(1) ترياق القلوب للغلام ص (307)، الملحق رقم 3 مطبعة ضياء الإسلام بقاديان في 28 أكتوبر سنة 1902م، نقلاً عن المسألة القاديانية لأبي الأعلى المودودي ص (78-79).
(2) المرجع السابق ص. ن.(1/251)
ويقول في عريضة قدمها للحاكم البريطاني في الهند: (إن العمل المهم الذي أنا منصرف إليه بلساني وقلمي ومنذ أول عهدي بهذه الحياة إلى هذا اليوم وأنا ابن الستين هو أن أحوِّل قلوب المسلمين إلى طريق الحب والولاء والإخلاص والوفاء الخالص الصادق للحكومة الإنكليزية وأزيل عن نفوس بعض سفهائهم الأوهام الخاطئة كالجهاد وغيره مما يصدهم عن صفاء القلوب ويصرفهم عن الصلاة القائمة على الإخلاص... إلى قوله: أليست تلك الأمور من الأمور الثابتة الواضحة؟ وإني لأقول بكل قوة وأعلن للحكومة بكل تأكيد إن فرقتنا الجديدة هي في الدرجة الأولى في الولاء للحكومة، وهي أكثر الفرق الإسلامية إخلاصاً وحباً ووفاء واستعداداً للتضحية في سبيلها وليس في مبادئها ما يعد خطراً عليها بأي وجه من الوجوه(1).
لقد صدق عدو الله في ولائه للنصارى حتى صار منهم، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) [المائدة:51].
4- تكفيره للمسلمين:
وقد تقدمت النصوص في ذلك قريباً(2).
5- تكفير عامة المسلمين للقادياني وفرقته:
لما أصاب المسلمين الأذى من دعوة هذا المتنبىء الكذاب رفع مسلمو الباكستان إلى حكومتهم مطالبتهم بإعلان أن فرقة الأحمدية من غير المسلمين ووضعهم بجانب الهندوس والمسيحيين وغيرهم من الطوائف الكافرة.
__________
(1) تبليغ الرسالة (7/15-17)، ط. سنة 1922م، قاديان، نقلاً عن المرجع السابق ص (81-82).
(2) انظر ص (263).(1/252)
قرار المحكمة الشرعية الفيدرالية بجمهورية الباكستان الإسلامية: (بما أن ممثلي المسلمين في البرلمان والجمعية الوطنية قرروا تعديل الدستور الثاني لعام 1974م بعدما استمعوا لموقف القاديانية، بإضافة تعريف إلى المادة رقم 260 من دستور عام 1973م باعتبار القاديانيين من الفرقتين المعروفتين(1) غير مسلمين، ووضعهم جنباً إلى جنب مع الأقليات الأخرى من المسيحيين والبارسيين والهندوس وغيرهم بإدخال تعديل على المادة رقم 156، ونتيجة لهذا الإعلان الذي أجيز على أثر المطالبة الجماعية للمسلمين لم يكن للقاديانيين أن يُسموا أنفسهم مسلمين أو أن ينشروا ديانتهم باسم الإسلام الحق)(2).
الفصل الثاني: تقديم الجفاة أولياءهم على النبي صلى الله عليه وسلم في الخصائص:
وفيه ثلاثة مباحث:
الأول: مشاركة أولياء الجفاة للأنبياء عليهم السلام في خصائصهم.
الثاني: خصائص لأولياء الجفاة فاقت خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
الثالث: خصائص لأولياء الجفاة فارقت هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
المبحث الأول: مشاركة أولياء الجفاة للأنبياء عليهم السلام في خصائصهم:
__________
(1) انقسمت القاديانية بعد وفاة الغلام إلى فرقتين، فرقة قاديان بزعامة محمود بن الغلام، والفرقة اللاهورية بزعامة محمد علي اللاهوري والأخيرة هذه تخالف الأول في بعض المعتقدات، انظر: طائفة القاديانية لمحمد الخضر حسين ص (126).
(2) كتاب المحكمة الشرعية الفيدرالية ص (187).(1/253)
بعد أن استجاز الغلاة وأتباعهم إعطاء خصائص الربوبية للأنبياء عليهم السلام، رغبوا في مشاركة الأنبياء عليهم السلام فيما اختصوا به كخطوة أولى من خطوات تقديم أوليائهم على النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن مِن المغالى فيهم مَن هو بريء مما يفتريه هؤلاء الغلاة. وفي ذلك جفاء عظيم للأنبياء بعامة ولخاتمهم صلى الله عليه وسلم بخاصة؛ لأنه يقوم بقلوب المُعظِمين من المحبة والطاعة للمعظَمين ما لا يكون لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
يقول شيخ الإسلام: (والذين يغلون في هؤلاء هو إن قصدوا تعظيمهم بذلك ففيه غض ونقص بمن هو خير منهم، وهم الأنبياء والرسل، كما أن الذي يغلو في الأنبياء والرسل يكون غلوه عيباً وغضاً بالألوهية، كما قال تعالى: ((وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [آل عمران:80](1).
صور من زعم الجفاة مشاركة الأنبياء عليهم السلام في خصائصهم:
دعوى الوحي إلى أوليائهم بغفران ذنوبهم وهم أحياء:
قال المناوي: قال ذو النون المصري: (رأيت شاباً عند الكعبة يكثر الركوع والسجود، فقلت له فيه، فقال: أنتظر الإذن من ربي بالانصراف، فسقطت عليه رقعة فيها: من العزيز الغفور إلى عبدي الصادق انصرف مغفوراً لك)(2).
وقال النبهاني في ترجمة أحمد الفاروقي السهرندي(3): قال: (كنت يوماً في حلقة الذكر مع أصحابي فخطر لي أني في قصور ونقص، فألقى إلي في الحال: أني قد غفرت لك)(4).
__________
(1) بغية المرتاد في الرد على الفلاسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد لابن تيمية ص (502).
(2) جامع كرامات الأولياء للنبهاني (1/625).
(3) أحد أركان الطريقة النقشبندية، مات سنة 1034هـ. انظر المرجع السابق ص. ن.
(4) المرجع السابق (1/556).(1/254)
فقد شارك هؤلاء الجفاة النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخصيصة، بل زادوا عليه طريقاً آخراً من طرق الوحي وهو نزول الرقع من السماء من الله تعالى. وكذب هؤلاء أبين من أن يرد عليه، وإنما يكفي عرضه لأولي الألباب.
زعمهم نزول موائد من السماء على أولياء الجفاة:
يقول النبهاني في ترجمة محمد البكري بن أبي الحسن البكري(1): ومن كراماته رضي الله عنه ما ذكره الشيخ محمد بن أبي القاسم المالكي حيث قال: (سألت الأستاذ رضي الله عنه أن يعلمني الاسم الأعظم، فوعدني فطال علي الوعد، فقلت في نفسي: طال وعد الأستاذ عليَّ وإلى متى؟ فما شعرت إلا والأستاذ رضي الله عنه خلفي، فدفعني فوجدت نفسي خلف جبل قاف، ووجدت عندي ثلاثة أنفار يعبدون الله، فابتدأتهم بالسلام فردوا عليَّ السلام، فقلت لهم: ماذا تفعلون في هذا المكان؟ فقالوا: نحن عبيد الله نوحده ونعبده ولا نشرك بعبادته أحداً، ونحن إلى الآن منذ خلقنا إلى يومنا هذا على هذا المنوال في هذا الجبل، وكل واحد منا عليه يوم، فيدعو الله تعالى فتنزل علينا مائدة من السماء فنأكل مما رزقنا الله تعالى حلالاً طيباً، فقلت لهم: هل من سبيل أن أمكث معكم ثلاثة أيام؟ فأجابوه، وصاروا على عادتهم يدعون الله تعالى فتنزل عليهم المائدة، فلما كان اليوم الرابع قالوا له: هذا يومك إن كنت تريد الإقامة عندنا وإلا فلا، قال: فبسطت يدي بنية صادقة وقلت: اللهم إني أدعوك بما يدعوك به هؤلاء العباد أن تنزل علينا المائدة المعهودة، قال فما استتم الكلام إلا والمائدة نزلت، فتعجبوا من ذلك، ثم إنهم أكلوا فلما فرغوا، قالوا له: سألناك بالله تعالى بماذا دعوت حتى أكرمك الله بهذه الكرامة؟ فقلت لهم: إن أخبرتموني أخبرتكم، قالوا نحن نقول: اللهم أنت ربنا ورب كل شيء نسألك ببركات سيدي محمد البكري إلا أنزلت علينا مائدة من السماء، فتنزل علينا المائدة من السماء ببركة
__________
(1) مات سنة 1013هـ. جامع كرامات الأولياء (1/327).(1/255)
اسمه، ونحن على هذا إلى وقتنا هذا، قال: وأنا قلت: اللهم إني أدعوك بما يدعوك به هؤلاء العباد، فاستجاب الله دعائي، فما أتممت كلامي معهم إلا ويد قد خرجت إليَّ من خلف ظهري، فوجدتها يد سيدي محمد البكري رضي الله عنه فجذبني فوجدت نفسي جالساً في مجلسه، فتبت إلى الله تعالى مما صدر مني)(1).
وقد شاركوا في هذه الخصيصة عيسى عليه السلام. قال تعالى: ((قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)) [المائدة:115].
زعمهم أن أولياءهم يعلمون منطق الطير وسائر لغات الوحوش يقول الشعراني في ترجمة إبراهيم الدسوقي(2): (كان رضي الله عنه يتكلم بالعجمي والسرياني والعبراني والزنجي وسائر لغات الطيور والوحوش)(3). ويقول محمد باقر المجلسي في بيان معجزات موسى الكاظم(4): (إن الإمام يعلم منطق الطير ومنطق كل ذي روح خلقه الله وما يخفى على الإمام شيء)(5).
__________
(1) جامع كرامات الأولياء (1/318-319)، وانظر أيضاً: نفس المصدر (1/388).
(2) ترجم له الشعراني في خمسة عشر صفحة، مات سنة 676هـ، ط. ك (1/157).
(3) المرجع السابق (1/145).
(4) موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب كان كثير العبادة والمروءة ت. سنة 183هـ. البداية والنهاية.
(5) بحار الأنوار (48/71)، وانظر طبقات ابن ضيف الله ص (325).(1/256)
وقد شاركم نبي الله سليمان عليه السلام في هذه الخصيصة، قال تعالى: ((وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ)) [النمل:16].
دعواهم أن أولياءهم يحيون الموتى يقول المناوي(1) في ترجمة مفرج المجذوب الصاحي(2): (أحضروا له فراخاً مشوية، فقال له طيري فطارت)(3).
__________
(1) محمد عبد الرؤوف المناوي صوفي من المصنفين في الحديث وغيره ت. سنة 1031هـ. الأعلام للزركلي (6/204).
(2) لم يذكر له المناوي تاريخ وفاة (2/106).
(3) الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية لعبد الرؤوف المناوي 2/106).(1/257)
ويقول النبهاني في ترجمة أحمد الرفاعي: (تكلم الشيخ إبراهيم الفاروثي فجعل يذكر فضائل المشايخ ويقول الشيخ فلان، وإذا ذكر سيد أحمد -الرفاعي- يقول شيخنا سيدي أحمد، فاعترضه بعض الفقراء فقال له: كيف تقول للشيخ منصور الشيخ فلان، وتقول شيخنا سيدي أحمد وكلهم صالحون؟ فقال: وكيف لا أقول ذلك لرجل أحيا الله على يديه ميتاً، فقال: كيف؟ قال: حدثني والدي الشيخ عمر أنه جاء مع جماعة إلى الفاروث فلما حضروا وغنى الحادي عصرية الجمعة، وصلوا المغرب، وأكلوا الطعام، وصلوا العشاء، ودخلوا الرباط الذي ينام فيه الفقراء والقراء، وقد نام القراء، وفي الرباط طفل لبعض مشايخ القوم نائم تحت الكساء، فلما استقروا، وغنوا كعادتهم بالسحر، ثم رقصوا، وداسوا الطفل، ورقصوا عليه ليلتهم حتى ترضرض وبقي وجهه كالرغيف لا يعرف من ظهره، حتى خرجوا لصلاة الفجر، جاء الخادم يرفع الفراش، فنفض الكساء فوقع الطفل ميتاً مرضوضاً، فأتى والدي وحكى له، فضاق صدره، وأتى سيدي أحمد -الرفاعي- وعرَّفه وقال: أي عمر قمْ قدامي لننظره، فأتيا والطفل تحت الكساء، وقد أضحى النهار، فوقف سيدي أحمد وبسط خرقة وصلى ركعتين ثم مد يده ودعا بدعوات ثم نادى الطفل: يا فلان اقعد صل، قال والدي: فوالله ما فرغ من ندائه حتى رفع الطفل رأسه من تحت الكساء وقال لبيك، فقال: أي ولدي قد علت الشمس قم، ثم مدَّ يده المباركة عليه فقام كأن لم يكن به ألم...)(1).
__________
(1) جامع كرامات الأولياء (1/491).(1/258)
ويقول النبهاني في ترجمة أبي بكر بن هوار البطائحي(1): (إن امرأة جاءت من البطائح إلى الشيخ أبي بكر بن هوار وقالت: إن ابني غرق في الشط وليس لي سواه، وأنا أقسم بالله إن الله أقدرك على رده، فإن لم تفعل شكوتك غداً إلى الله ورسوله أقول: أتيته ملهوفة وكان قادراً على رد لهفتي فلم يفعل، فأطرق ثم قال: أرني أين غرق؟ فأرته، فإذا ابنها قد طفا ميتاً، فسبح وحمله وأعطاه لأمه، وقال: قد وجدته فانصرفت به، وهو يمشي معها)(2).
ويقول البريلوي: (إن الأولياء يُحيون الأموات ويُبرِئون الأكمه والأبرص ويطوون الأرض كلها بقدم واحد)(3).
وقال أيوب الرضوي في البريلوي: (إن المرضى كانوا يستشفون بعيسى، ولكن أحمد رضا يُحيي الأموات)(4).
فقد شارك أولياء الجفاة عيسى عليه السلام في هذه الخصيصة بل وزادوا عليه أن لهم القدرة على إحياء الأموات من قبل أنفسهم وطي الأرض كلها بقدم واحدة، قال الله تعالى في شأن عيسى عليه السلام: ((وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ)) [آل عمران:49].
__________
(1) من قبيلة من الأكراد تعرف بالهواريين، لم يذكر له تاريخ وفاة، انظر المرجع السابق (1/424-426).
(2) المرجع السابق (1/425)، وانظر المرجع نفسه (1/576)، وانظر ابن ضيف الله ص (143).
(3) الحكايات الرضوية ص (44)، لخليل البركاتي، ط. كراتشي- باكستان، نقلاً عن البريلوية عقائد وتاريخ لإحسان إلهي ظهير ص (74).
(4) مداح أعلى حضرت لأيوب الرضوي، ص (9)، ط. الهند. نقلاً عن البريلوية لإحسان ص (75).(1/259)
مساواة علي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم في الفضل عند الشيعة:
يقول الكليني: (جرى من الفضل لعلي عليه السلام مثل ما جرى لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولمحمد صلى الله عليه وسلم الفضل على جميع من خلق الله عز وجل، المتعقب عليه في كل شيء من أحكامه كالمتعقب على الله وعلى رسوله، والراد عليه في صغيرة أو كبيرة على حد الشرك بالله، كان أمير المؤمنين عليه السلام، باب الله الذي لا يؤتى إلا منه، وسبيله الذي من سلك بغيره هلك، وكذلك جرى لأئمة الهدى واحداً بعد واحد، جعلهم الله أركان الأرض أن تميد بأهلها، وحجته البالغة على من فوق الأرض ومن تحت الثرى، وكان أمير المؤمنين صلوات الله عليه كثيراً ما يقول: لقد أقرت لي جميع الأنبياء والروح والرسل بمثل ما أقروا به لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولقد حُمِّلت مثل حمولته، وهي حمولة الرب، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدعى فيُكسى، وأُدعى فأكسى، ويستنطق، واستنطق على حد منطقه)(1).
يقول الشارح: (حُمِّلت: يعني كلفني ربي مثل ما كلف محمداً من أعباء التبليغ والهداية)(2).
ويقول الخميني: (قال أستاذنا في المعارف الإلهية شاه أبادي أدام الله ظله: لو كان علي عليه السلام ظهر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأظهر الشريعة كما أظهرها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكان نبياً مرسلاً، وذلك لاتحادهما في الروحانية، والمقامات المعنوية والظاهرية)(3).
هذه هي الخطوة الأولى في تفضيل الجفاة لأوليائهم على النبي صلى الله عليه وسلم وفي الخطوة التي تليها جعلوا لهم من الخصائص ما فاقوا به خصائصه صلى الله عليه وسلم وفارقوا به شريعته. والمبحث التالي يبين لنا ذلك.
__________
(1) الأصول من الكافي للكليني (1/196-197).
(2) المرجع السابق ص. ن.
(3) مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية لآية الله الخميني، ص (153).(1/260)
المبحث الثاني خصائص لأولياء الجفاة فاقت خصائص سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم(1):
هذا المبحث لم يعقد للإثارة وإنما هي الحقيقة التي تخفى على كثير من أتباع أولياء الجفاة ومريديهم، والتي كتموها عن صغارهم أو الجدد منهم، فلا يُصرحون لهم بها حتى يأمنوا جانبهم بأخذ المواثيق والعهود ونحوه.
فمن ذلك:
صلاة (الفاتح) لما أغلق تفْضُل القرآن الكريم آلاف المرات عند التجانية. يقول أحمد التجاني: (لما أمرني صلى الله عليه وسلم بالرجوع إليها -أي إلى صلاة الفاتح لما أغلق- سألته صلى الله عليه وسلم عن فضلها؟ فأخبرني أولاً: بأن المرة الواحدة منها تعدل من القرآن ست مرات، ثم أخبرني ثانياً: أن المرة الواحدة منها تعدل من كل تسبيحِ وقع في الكون، ومن كل ذكر، ومن كل دعاء كبير أو صغير، ومن القرآن ستة الاف مرة)(2).
يصلون في مكة المكرمة وهم في بلدانهم.!!!
قال النبهاني في ترجمة محمد بن عمر العباسي(3): (إن بعض المجاورين بمكة من أهل دمشق رآه يصلي الأوقات الخمسة بالمسجد الحرام بالمقام الحنبلي وهو بالشام)(4).
ويقول في ترجمة محمد الشربيني(5): (كان ربما أنكر عليه بعض الفقهاء ترك الجمعة، فوجدوه يُصلي الجمعة بمكة المشرفة)(6).
__________
(1) المقصود بخصائصهم هنا ما جعلوه لأوليائهم من المناقب والكرامات وإن كان بعضها من خصائص الربوبية أو لا تليق بمقام العبودية. وقد تركت التعليق على أكثرها؛ لوضوح الكذب فيها الذي يُعرف بأوائل العقول؛ ولكيلا أقطع على القارىء ما يقرؤه من المضحكات المبكيات في خصائص أولياء الجفاة..
(2) جواهر المعاني لعلي حرازم الفاسي (1/136).
(3) مات سنة 1076هـ. جامع كرامات الأولياء (1/336).
(4) المرجع السابق (1/336).
(5) مات سنة 927 هـ، انظر المرجع السابق (1/296).
(6) المرجع السابق (1/297).(1/261)
ونقل النبهاني عن بعضهم قوله: (إياكم أن تنكروا على أحد من الأولياء كونه لم يصل معكم في جماعة، فإن لله تعالى رجالاً يصلون كل صلاة من الخمس في مكان غير بلدهم، فبعضهم لا يصلي الجمعة دائماً إلا بمكة أو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم لا يصلي الظهر كل يوم إلا في الجامع الأبيض برملة لُد، ومنهم من لا يصلي العصر كل يوم إلا ببيت المقدس... وكان سيدي إبراهيم المتبولي وجماعة يصلون الظهر كل يوم بالجامع الأبيض برملة لُد)(1).
دعواهم أن الكعبة تطوف بهم وتعانقهم:
قال النبهاني في ترجمة أبي بكر العردوك الفراتي(2): (ومما روينا أن الشيخ أبا بكر العردوك تحدث معه شخص من أصحابه في أحوال الرجال وما أعطاهم الله تعالى إلى أن وصلا إلى أن من الرجال من يطوف بالكعبة شرفها الله تعالى وهو جالس في مكانه، ومنهم من تطوف به الكعبة تشريفاً وتكريماً، قال - الراوي- فصار في باطني من ذلك شيء... فعلصت أن الشيخ أبا بكر القائل ممن له ذلك الحال، فأشار إليَّ بالمبيت عنده، فلما كان نصف الليل سمعت قائلاً يقول: قم انظر إلى ما قال الشيخ، فخرجت فوجدت الكعبة بهيئتها وصفتها التي أعرفها وهي طائفة حول دار الشيخ، وفي أرجائها رجال يترنمون بأصوات طيبة. بأشياء من جملتها: سبحانه وتعالى قد اصطفى رجالاً دللهم دلالاً، فأغمي عليَّ، فسمعت الشيخ يقول: لا تنكر بعد ذلك تهلك)(3).
ونقل النبهاني عن الشعراني في (الأجوبة المرضية) قوله: (أخبرني سيد علي الخواص رحمه الله أن الكعبة طافت بالشيخ إبراهيم المتبولي حجراً حجراً ثم رجع كل حجر إلى مكانه)(4).
__________
(1) جامع كرامات الأولياء (1/458).
(2) مات سنة 673هـ، جامع كرامات الأولياء (1/428).
(3) المرجع السابق (1/427)، وانظر (1/501) المرجع نفسه.
(4) المرجع السابق (1/408).(1/262)
وذكر في ترجمة محمد معصوم(1): (أنه حينما حج البيت الحرام وزار النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما دخلت الحرم وشرعت في الطواف، رأيت جماعة من الرجال والنساء في غاية الحسن يطوفون معي باشتياق وتقرب شديد، بحيث يقبلون البيت ويعانقونه في كل وقت، أقدامهم على الأرض ورؤوسهم بلغت عنان السماء، فظهر لي أن الرجال ملائكة والنساء حور، ورأيت الكعبة المعظمة تعانقني وتقبلني باشتياق تام، وكشف لي أن تلك البركات والأنوار ظهرت مني حتى ملأت الصحراء، وأحاطت بالأشياء، وأن محبتها لي بسبب التحقق بحقيقة الكعبة الربانية، ورأيت كثيراً من الروحانيين حضوراً في كل وقت كالخدم بين يدي السلطان، فلما فرغت من طواف الزيارة، جاء ملك بكتاب قبول الحج من رب العالمين!!! ثم دخلت المدينة المنورة، فلما وقفت تلقاء الوجه الأوجه، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من الحجرة المطهرة وعانقني... الخ)(2).
فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو أحرص خلق الله على الأجر والثواب لم ينقل عنه ولا مرة واحدة أنه صلى وقتاً واحداً بالمسجد الحرام وهو بالمدينة، وهو أحب الخلق إلى الله تعالى وتحبه الجمادات، وتحن إليه الأشجار، ما رؤي ولا مرة واحدة أن الكعبة طافت به أو عانقته صلى الله عليه وسلم، وإنما أضر الجوع بعقول هؤلاء واستحوذت عليهم الشياطين حتى رأوا مثل تلك الخيالات.
تحملهم الشياطين فيمشون على الماء ويطيرون في الهواء:
قال النبهاني في ترجمة محمد السروي(3): (كان يطير في الهواء ويحمل زير الماء، ويمشي على الماء جهاراً حتى يغيب عن العيون)(4).
__________
(1) أحد أئمة الطريقة النقشبندية، لم يذكر تاريخ وفاة (1/333)0 المرجع السابق.
(2) المرجع السابق (1/334).
(3) المعروف عندهم بابن أبي الحمائل، مات سنة 932هـ، جامع كرامات الأولياء(1/299-300).
(4) المرجع السابق (1/299).(1/263)
وقال عنه المناوي: (كان عَلِيَّ الهمة كثير الطيران من بلد إلى آخر، وكان يغلب عليه الحال ليلاً فيتكلم بألسنة غير عربية من عجم وهند ونوبة وغيرها، وربما يقول: قاق قاق طول الليل، ويزعق، ويخاطب قوماً لا يرون، وإذا قال شيئاً في غلبة الحال نفذ)(1).
وقال ابن ضيف الله(2) في ترجمة محمد بن الزين(3): (إن رجلاً من الحضور في مركب(4) المالح، هاج عليهم الريح، كادت المركب تغرق، قال: يا محمد بن الزين. فرآه عياناً جاء طايراً(5) بعكازه فهبط البحر وسلمت المركب)(6).
وقال النبهاني في ترجمة أحمد بن محمد المستعجل الرفاعي(7): (إنه تاب على يديه بعض الأغنياء وقال: -أي التائب- أعطني جنوناً، ومد يديه فحثى له الشيخ حثيات في الهواء وسماها أرطالاً معلومة، فصار -أي الغني- مولهاً لوقته وترك دنياه وأهله وخرج إلى نهر ووقف في الماء إلى عنقه مدة سنة أو أكثر، فجاء جيرانه وأصحابه يسألون الشيخ رده إلى حاله الأول وعقله الدنياوي، فرسم الشيخ بطلبه، فلما حضر وحكى له قولهم فقال: بالله يا سيدي لا تفعل، ولكن زدني كذا وكذا أرطالاً من الجنون، فزاده، وذهب إلى مكانه فبقي حتى مات)(8).
__________
(1) لم أجده في نسخة المناوي المطبوعة، فنقلته عن المرجع السابق (1/299).
(2) محمد النور بن ضيف الله، من صوفية السودان ت 12240هـ. انظر: مقدمة محقق طبقات ابن ضيف الله ص (15).
(3) المشهور بالأزرق ولم يذكر له تاريخ وفاة، طبقات ابن ضيف الله ص (356).
(4) السفينة أو الباخرة.
(5) هكذا تنطق باللهجة العامية السودانية.
(6) المرجع السابق ص (357).
(7) مات سنة 672هـ، جامع كرامات الأولياء (1/512).
(8) المرجع السابق (1/519)، وانظر (1/515)، (1/395)، (1/337) المرجع السابق؛ ط. ابن ضيف الله ص (332).(1/264)
لقد حفظ لنا كتَّاب السيرة النبوية ومؤرخو الإسلام أخباره صلى الله عليه وسلم بكل دقة في حركاته وسكناته صلى الله عليه وسلم، فأخبرونا أنه كان صلى الله عليه وسلم يمشي على الأرض، ويركب ناقته القصواء. فلم يبلغنا أنه صلى الله عليه وسلم طار في الهواء أو مشى في الماء، بل حتى في ليلة الإسراء كان راكباً على البُراق صلوات ربي وسلامه عليه، أما هؤلاء المجانين فكانت تتلاعب بهم الشياطين كما يتلاعب الصبية بالكرة، ويظنون أن هذا من هدي الصالحين. سبحانك هذا بهتان عظيم!!
دعوى ضمان الجنة وغفران الذنوب وحصول الرحمة لأتباعهم:
يقول علي حرازم: (قال رضي الله عنه -يعني أحمد التجاني- أخبرني سيد الوجود يقظة لا مناماً، قال لي: أنت من الآمنين، وكل من رآك من الآمنين إن مات على الإيمان، وكل من أحسن إليك بخدمة أو غيرها أو كل من أطعمك يدخلون الجنة بلا حساب ولا عقاب... إلى قوله: فلما رأيت منه هذه المحبة صلى الله عليه وسلم سألته من أحبني ولم يعادني ولكل من أحسن إليَّ بشيء من مثقال فأكثر ولم يعادني بعدها، وأكد ذلك لمن أطعمني طعامه قال رضي الله عنه: يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب، ثم قال رضي الله عنه: وسألته صلى الله عليه وسلم لكل من أخذ عني ذكراً أن تغفر لهم جميع ذنوبهم ما تقدم منها وما تأخر، وأن تؤدي عنهم تبعاتهم من خزائن فضل الله لا من حسناتهم، وأن يرفع الله عنهم محاسبتهم على كل شيء وأن يكونوا آمنين من عذاب الله من الموت إلى دخول الجنة، وأن يدخلوا الجنة بلا حساب ولا عقاب في أول الزمرة الأولى، وأن يكونوا كلهم معي في عليين في جوار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي صلى الله عليه وسلم: ضمنت لهم هذا كله ضمانة لا تنقطع حتى تجاورني أنت وهم في عليين)(1).
__________
(1) جواهر المعاني (1/129-131) باختصار.(1/265)
ويقول أحمد التجاني: (من رآني فقط غايته يدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب ولا يعذب، ولا مطمع له في عليين إلا أن يكون ممن ذكرتهم وهم أحبابنا ومن أحسن إلينا، ومن أخذ عنا ذكراً فإنه يستقر في عليين معنا، وقد ضُمن لنا هذا بوعد صادق لا خُلف له، إلا أني استثنيت من عاداني بعد المحبة والإحسان فإنه لا مطمع له في ذلك... فإن كنتم متمسكين بمحبتنا فأبشروا بما أخبرتكم به، فإنه واقع لجميع الأحباب قطعاً)(1).
ويقول الشعراني في ترجمة عبد القادر الجيلي: (وكان رضي الله عنه يقول: أيما امرىء مسلم عبر على باب مدرستي خفف الله عنه العذاب يوم القيامة، وكان رجل يصرخ في قبره ويصيح حتى آذى الناس، فأخبروه به، فقال إنه رآني ولا بد أن الله تعالى يرحمه لذلك، فمن ذلك الوقت ما سمع له أحد صراخاً)(2). قال النبهاني في ترجمة أبي بكر بن محمد بن عمران(3): (ما مر الفقيه بقرية إلا غُفر لأهلها، ورأى بعضهم أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال له: من قبَّل قدم الفقيه أبي بكر دخل الجنة)(4).
توفي النبي صلى الله عليه وسلم وترك الكثير من أصحابه، بل من خيرة أصحابه ولم يضمن لأحد منهم الجنة، وإنما شهد لبعضهم بها، وعليه فأهل السنة والجماعة لا يشهدون بالجنة لأحد إلا بنص، ولا تقبل النصوص التي يفترونها على النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أخذت منه يقظة لا مناماً.
يقول ابن أبي العز الحنفي: (للسلف في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال:
أحدها: أن لا يُشْهد لأحد إلا للأنبياء، وهذا يُنقل عن محمد ابن الحنفية والأوزاعي.
والثاني: أنه يُشهد بالجنة لكل عبد مؤمن جاء فيه النص، وهذا قول كثير من العلماء وأهل الحديث.
__________
(1) جواهر المعاني (1/132).
(2) المرجع السابق (1/109)، وانظر الأصول من الكافي للكليني (1/223-224).
(3) مات سنة 776هـ. انظر جامع كرامات الأولياء (1/434).
(4) المرجع السابق الصفحة نفسها.(1/266)
والثالث: أن يُشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون(1).
وأما حصول الأمن وتخفيف العذاب، ودخول الجنة بلا حساب ولا عقاب لمجرد من رأى مشايخ الجفاة مجرد رؤية، فإن هذا مما فاقوا به النبي صلى الله عليه وسلم، فكم من رؤوس للكفر والشرك والنفاق رأت النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم تنفعهم مجرد تلك الرؤية من غير إيمان، وإنما نفعت رؤية أحمد التجاني والجيلاني سبحان الله!!!
فريتهم منازعة ملك الموت وقهره ورد أرواح مريديهم منه بعد قبضها:
قال محمد صادق القادري: (توفي أحمد خدَّام الغوث الأعظم عبد القادر الكيلاني، وجاءت زوجته إلى الغوث، فتضرعت، والتجأت إليه، وطلبت حياة زوجها، فتوجه الغوث إلى المراقبة، فرأى في عالم الباطن أن ملك الموت عليه السلام يصعد إلى السماء ومعه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم، فقال: يا ملك الموت قف. واعطني روح خادمي فلان، وسماه باسمه، فقال ملك الموت: إني أقبض الأرواح بأمر إلهي، وأؤديها إلى باب عظمته، كيف يمكنني أن أعطيك روح الذي قبضته بأمر ربي؟! فكرر الغوث عليه إعطاء روح خادمه إليه فامتنع عن إعطائه، وفي يده ظرف مطوي كهيئة الزنبيل فيه الأرواح المقبوضة في ذلك اليوم، فبقوة المحبوبية جرَّ الزنبيل، وأخذه من يده، فتفرقت الأرواح ورجعت إلى أبدانها)(2).
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (2/538).
(2) تفريح الخاطر في مناقب الشيخ عبد القادر الكيلاني لمحمد صادق قادري الإريلي، ص (17).(1/267)
وقال ابن ضيف الله في ترجمة خوجلي بن عبد الرحمن: (ومن كراماته أن فاطمة بنت عبيد مرضت مرضاً شديداً أشرفت فيه على الموت، وجاءه الفقير النور وقال له: يا سيدي الشيخ حسن(1) أحيا الميت(2) دايرك(3). دا الحين تسأل الله أن يحييها، ناذر لك بفرخها(4) قسم السيد(5)... فإن آخر الليل خاطبت فاطمة بنت عبيد النور بصوت هادي وقالت: أنا طيبة، فإني رأيت الشيخ خوجلي واقف عند الصندوق(6). فوكزني بعصاه وقال لي: قومي، ثم إن النور قام في ليله وركب وسار إلى توتي(7). فوجد الفقيه أحمد ابن الشيخ قدَّام المسجد، وقال له: البشارة بنت عبيد طيبة، وقال له أحمد: الفقيه ساد الخلوة عليه إلى الآن. وقال: أنا غلبان كنا أنا وملك الموت نتنازع في روح بنت عبيد فتركها لي)(8).
وقال الشعراني في ترجمة محمد الشربيني(9): (ولما ضَعُف ولده أحمد وأشرف على الموت، وحضر عزرائيل لقبض روحه، قال له الشيخ: ارجع إلى ربك وراجعه فإن الأمر نُسخ، فرجع عزرائيل وشُفي أحمد من تلك الضعفة وعاش بعدها ثلاثين عاماً)(10).
__________
(1) حسن بن حُسُونة بن الحاج موسى، انظر ابن ضيف الله ص (133).
(2) ط. ابن ضيف الله ص (143).
(3) أي: أريد منك.
(4) الفرخ في اللهجة السودانية بمعنى العبد أو الرقيق.
(5) هذا الاسم يطلق على العبيد أو الرقيق خاصة في اللهجة السودانية.
(6) صندوق في بيت المرأة مما يدل على أن الشيخ كان حاضراً عندها وهو في نفس الوقت ببلده.
(7) جزيرة صغيرة في الخرطوم في وسط النيل.
(8) المرجع السابق ص (199).
(9) مات سنة 937هـ، ط. ك (2/123).
(10) المرجع السابق ص. ن.(1/268)
وقال الشعراني في ترجمة مدين بن أحمد الأشموني(1): (ومن أصحابه محمد الشويمي(2)، مرض سيدي مدين رضي الله عنه مرة أشرف فيها على الموت، فوهبه -الشويمي- من عمره عشر سنين، ثم مات في غيبة الشويمي رضي الله عنه، فجاء وهو على المغتسل فقال: كيف مت وعزة ربي لو كنت حاضرك ما خليتك تموت، ثم شرب ماء غسله كله)(3).
كذبهم أن الشيخ عبد القادر الجيلاني خلَّص مريده الذي لا يعرف الله تعالى من ملائكة العذاب:
قال محمد صادق قادري في مناقب عبد القادر الكيلاني: (ذكروا أنه كان رجلاً من مريديه يعتقد في حضرة الغوث الأعظم اعتقاداً جازماً، وصار فانياً في محبته فلما توفي ودفنوه، جاءه الملكان للسؤال، فسألاه ما ربك وما نبيك وما دينك؟ فقال لهما: ما أعرف شيئاً إلا شيخي عبد القادر، فتحير الملكان، فقالا: يا رب أنت أعلم أن عبدك فلان يقول كذا، فأمرهما بعذابه. فأرادا أن يعذباه فظهر حضرت الغوث وقال لهما: إنه لا يعرف الله ورسوله ودينه لجهله أمر دينه فإنه يعرفني واقتدى بي، وأنا أعرف كل ما سألتماه عنه، فلأجلي لا تعذباه. فسألا الله تعالى وقالا: يا رب أنت أعلم أن محبوبك ومجذوبك الغوث الأعظم السلطان محيي الدين عبد القادر يقول كذا وكذا، فأمرهما الله بتعذيبه، فأرادا أن يعذباه، فأخذ الغوث مطرقتهما من أيديهما، وقال لهما: لا تقربا إليه، فإن كثرة العشق في باطني لا تقاس بشيء وإلا أحرق الجنة والنار، بأن لا تكون راحة في الجنة ولا عذاب في النار، فجاءهما النداء من الله تعالى عفوت عنه لا تعذباه)(4).
سُخرت لهم الوحوش:
__________
(1) مات سنة نيف وخمسين وثمانمائة ط. ك. للشعراني (2/95).
(2) لم يذكر له تاريخ وفاة، انظر المرجع السابق (2/94-95).
(3) المرجع السابق (2/94).
(4) تفريح الخاطر ص (43-44).(1/269)
قال المناوي في ترجمة أبي مدين(1): (كان الوحش يذل له، فإذا رآه ارتعد لهيبته، ومر يوماً بحمار أكل السبع نصفه، وصاحبه ينظر من بُعد. فذهب بصاحب الحمار إلى الأسد وقال: أمسك بأذنيه واستعمله مكان حمارك حتى يموت، فركبه واستعمله سنين حتى مات)(2).
وقال في ترجمة عقيل المنيحي(3): (إنه إذا نادى وحوش الفلوات جاءت صاغرة حتى تسد الأفق)(4).
وقال النبهاني في ترجمة محمد الصعيدي(5): (له كرامات كثيرة منها أن الأسد سُخر له يركبه متى شاء)(6).
وقال الشعراني في ترجمة إبراهيم عصيفير(7): (كان ينام في الغيط ويأتي البلد وهو راكب الذئب أو الضبع)(8).
__________
(1) شعيب المغربي، مات سنة نيف وثمانين وخمسمائة، الكواكب الدرية للمناوي (2/85).
(2) المرجع السابق (2/84).
(3) لم يذكر له تاريخ وفاة، المرجع السابق (2/94).
(4) المرجع السابق الصفحة نفسها.
(5) مات أوائل القرن الحادي عشر، جامع كرامات الأولياء (1/324).
(6) المرجع السابق الصفحة نفسها.
(7) مات سنة 942هـ - ط. ك للشعراني (2/127).
(8) المرجع السابق (2/126).(1/270)
وقال في ترجمة محمد بن أحمد الفرغل(1): (خطف التمساح بنت مخيمر النقيب، فجاء وهو يبكي إلى الشيخ، فقال له: اذهب إلى الموضع الذي خطفها منه وناد بأعلى صوتك تمساح تعال كلم الفرغل، فخرج التمساح من البحر وطلع كالمركب والخلق بين يديه جارية يميناً وشمالاً إلى أن وقف على باب الدار، فأمر الشيخ رضي الله عنه الحداد بقلع جميع أسنانه، وأمره بلفظها من بطنه، فلفظ البنت حية مدهوشة. وأخذ على التمساح العهد أن لا يعود يخطف أحداً من بلده ما دام يعيش، ورجع التمساح ودموعه تسيل حتى نزل البحر)(2). وقال النبهاني في ترجمة أبي العباس أحمد أبي الخير(3): (ذُكر عنده بعض الصالحين يركب الأسد، فقال: والله إن الناس لو يحتملون لكنت أربط لهم سبعين أسداً، ولو أحبوا تركتها تمشي بين الناس في الشارع ولا تضر أحداً)(4).
دعواهم أن أولياءهم يعلمون ما بالقلوب:
قال المناوي في ترجمة محمد المجذوب الصاحي: (كان عجيب الكشف الصريح، يقف الإنسان عنده ولا يتكلم فيخبره بما في قلبه، وبما جاء لأجله، ويقول له: افعل أو لا تفعل! وكان إذا خطر لبعض أصحابه شيء في بيوتهم أو عزم على فعل شيء في نفسه يرسل إليه يقول له افعل أو لا تفعل)(5).
وقالى النبهاني في ترجمة محمد سيف الدين الفاروثي(6): (ومن كراماته أن رجلاً من الواقفين لديه خطر بباله أن الشيخ متكبر، فالتفت إليه، وقد كوشف بخاطره فقال له: تكبري من كبرياء الحق تعالى)(7).
__________
(1) مات سنة نيف وخمسين وثمانمائة، ط. ك (20/96).
(2) المرجع السابق (2/95).
(3) المعروف بالصياد اليمني، مات سنة 559هـ. جامع كرامات الأولياء (1/487-490).
(4) المرجع السابق (1/489)، وانظر المرجع نفسه (1/396)، (1/515)، ط. ك للشعراني (1/260)، (1/93)، وطبقات ابن ضيف الله ص (333).
(5) الكواكب الدرية (2/106).
(6) النقشبندي، مات سنة 1596هـ. جامع كرامات الأولياء (1/340-341).
(7) المرجع السابق (1/340).(1/271)
وقال في ترجمة أحمد بن عبد الرحمن السقاف(1): (ومن كراماته أنه أرسل إلى الشيخ الجليل موسى بن علي باجرش وقال له: هات الذي نويت لنا به، فبهت الشيخ موسى وقال: هذا شيء نويت به الآن في قلبي ولم يطلع عليه أحد من الناس)(2).
ونقل النبهاني عن الشعراني في كتابه المنن في ترجمة إبراهيم الأعزب(3): (كان له بالعراق خمسون ألف مريد، فورد عليه فقير فقال: كيف يقدر هذا على تربية هؤلاء ومعرفتهم؟ فلما دخل على الشيخ قال له مكاشفاً: ليس عليَّ تعب في تربيتهم لأن الله تعالى جعل قلوب الكل بيدي، ثم قام فوقف على باب الرواق وجمع أصابع كفه في الهواء وإذا بهم يهرولون من كل مكان حتى امتلأ الرواق، ثم بسط أصابعه فرجع كل واحد منهم من حيث جاء حتى لم يبق في الرواق واحد، فلا هو كلمهم ولا هم كلموه)(4). وهذه القدرة لم تكن للنبي صلى الله عليه وسلم.
تُلبي الشياطين شهواتهم في الحال:
قال النبهاني في ترجمة أبي البركات بن صخر بن مسافر(5). حاكياً قول أحد مريديه: (كنت يوماً عنده، فخطر لي لحم مشوي على رغيف بر ساخن، واشتد الخاطر، فدخل أسد في فمه رغيف وقصد أبا البركات، فقال له: ضعه بين يدي الشيخ عمر -صاحب الخاطر- فإذا به ما أردت. فلم يلبث حتى نزل من الجو رجل أشعث أغبر، فذهبت عني تلك الشهوة، فأكل الجميع وجعل يتحدث مع الشيخ ثم ذهب في الهواء، فقال الشيخ: يا عمر الشهوة إنما كانت شهوة الرجل، وإنه من المدللين إذا خطر له شيء لم تتم الخطرة حتى يُقضى، وإنه الآن ببلاد الصين الأقصى)(6).
__________
(1) مات سنة 829، المرجع السابق (1/530-532).
(2) المرجع السابق (1/531).
(3) لم يذكر له تاريخ وفاة، انظر المرجع السابق (1/347، 372، 393، 396).
(4) المرجع السابق (1/395-396).
(5) لم يذكر له تاريخ وفاة، انظر جامع كرامات الأولياء (1/421-423).
(6) المرجع السابق (1/422).(1/272)
وقال في ترجمة أبي علي الرازي(1): (حُكي عنه أنه قال: مررت يوماً على الفرات فعرضت لنفسي شهوة السمك الطري، فإذا الماء قد قذف سمكة نحوي، وإذا برجل يعدو ويقول أشويها لك؟ فقلت: نعم، فشواها لي فقعدت وأكلتها)(2).
وقال في ترجمة أبي العباس بن الحجاج بن مروان المغربي(3): (صاحب الكرامات المدهشة منها: كان إذا اشتهى أحد أصحابه طعاماً معيناً وهو ببلد آخر، أكل عنه ذلك الطعام بعينه، فيجد ذلك الشخص طعم ذلك الطعام في جوفه، ويشبع منه وهو في محله)(4).
وقال المناوي في ترجمة الحلاج: (من كراماته أنه يخرج فاكهة الشتاء في الصيف وعكسه)(5).
وقال الشعراني في ترجمة محمد بن أحمد الفرغل: (ومن كراماته أن امرأة اشتهت الجوز الهندي فلم يجدوه في مصر، فقال للنقيب(6) مخيمر: يا مخيمر ادخل هذه الخلوة واقطع لها خمس جوزات من الشجرة التي تجدها داخل الخلوة، فدخل فوجد شجرة جوز قطع لها منها خمس جوزات، ثم دخل بعد ذلك فلم يجد الشجرة)(7).
يُعطون الأجنة في بطون الأمهات، وإن لم يُقدِّر الله ذلك (سبحانك هذا بهتان عظيم)
__________
(1) لم يذكر له تاريخ وفاة، انظر المرجع السابق (1/467).
(2) المرجع السابق. ص. ن.
(3) مات في القرن السادس، انظر المرجع السابق (1/460).
(4) المرجع السابق (1/459-460).
(5) الكواكب الدرية للمناوي (2/27).
(6) درجة من درجات المريدين في السلم الصوفي.
(7) ط. ك للشعراني (2/95)، وانظر جامع كرامات الأولياء (1/487)، (1/533).(1/273)
قال محمد صادق قادري في مناقب عبد القادر الكيلاني: (جاءت امرأة ذات يوم إلى حضرة الغوث والتمست من حضرته الدعاء ليعطيها الله ولداً، فراقب اللوح المحفوظ فلم ير لها ولداً مكتوباً فيه فسأل الله أن يعطيها ولدين، فجاءه النداء من الله: ليس لها ولد مكتوب في اللوح وأنت تطلب لها ولدين؟! فسأل أن يعطيها ثلاثة أولاد، فجاءه النداء مثل الأول، فسأل أن يعطيها أربعة أولاد فجاءه النداء أيضاً مثله، فسأل أن يعطيها خمسة أولاد كالسابق، فسأل أن يعطيها ستة أولاد، فجاءه النداء كالسابق، فسأل أن يعطيها سبعة أولاد ذكور فأعطاها الغوث مقداراً من التراب، وكانت تلك المرأة حينئذ كاملة الصدق والاعتقاد في حضرة الغوث، فوضعت ذلك التراب في فضة وعلقتها في عنقها كالتعويذة، فأكرمها الله بسبعة أولاد ذكور، وبعد مدة فسد اعتقادها في حق الغوث وقالت: التراب الذي أعطانيه الغوث أي فائدة تحصل منه؟ فمجرد تفوهها بهذا الكلام مات أولادها، فجاءت إلى الغوث باكية وتضرعت إليه فقالت: يا غوث أغثني، فقال الغوث: كان ذلك الزمان زمانه، ففي هذا الزمان ليست فيه فائدة. وفي رواية قال لها الغوث: ارجعي إلى بيتك فبأي نية جئت بها إلينا تجديهم، فراحت إلى بيتها فوجدتهم أحياء)(1).
وقال ابن ضيف الله في ترجمة عووضة بن عمر(2). بعد أن ساق سند روايته: (كان في ضنقله رجلاً(3) غنياً وعنده امرأة عاقر قاطعة من الحيض، فإذا جاء شهر الحيض تلطخ ثديها بدم جداده(4). فقالت لزوجها: وديني(5) للشيخ عووضة يديني جنى(6). عندها قدحاً(7). ملته(8). فطير قمح وحمام ودجاج
__________
(1) تفريح الخاطر ص (42-43).
(2) لم يذكر له تاريخ وفاة، انظر ط. ابن ضيف الله ص (272-277).
(3) هكذا في مصدر الرواية.
(4) أي دجاجة وهي لهجة سودانية.
(5) أي اذهب معي.
(6) أي يعطيني ولداً.
(7) أي لديها قدح.
(8) أي ملأته وهي لهجة سودانية.(1/274)
وشيَّلته(1). فرختها(2). وقال لها: أي الشيخ عووضة: تديني فرختك وأسورتك وحجولك(3)، فقالت: خير، فقال لهما: ادخلوا ارقدوا فوق عنقريبي(4)، وصار يأكل في فطير القمح والدجاج والحمام. فأنكر عليه رجل حاضر في المجلس قال: الحضري(5) أكَّال الرغيف يتعدَّ على أحكام الله. فقال لهما الشيخ: أديتكم ولد ثم أديتكم ولد ثم أديتكم ولد ثم أديتكم بنت تمسك البيت قال(6): عووضة إن قال للعود اليابس ألد يلد)(7).
زعموا أن أولياءهم يقولون للشيء (كن) فيكون:
قال الشعراني في ترجمة ممشاد الدينوري(8): (تركت قولي للشيء (كن) فيكون منذ عشرين سنة أدباً مع الله عز وجل)(9).
وقال ابن ضيف الله في ترجمة عووضة بن عمر: (وقد أعطاه الله الدرجة الكونية وهي لغة كن فيكون)(10).
وقولهم للشيء (كن فيكون) يتمثل في مظاهر متعددة منها:
أ- تنقلب لهم الأعيان:
قال النبهاني في ترجمة الشيخ محمد المعروف بأكل الحيات(11): (يرى
الخنافس زبيباً، والحية قثاء، ونحو ذلك، وكان من أكابر الصالحين ممن تنقلب لهم الأعيان)(12).
__________
(1) أي حملته.
(2) أي خادمتها.
(3) نوع من الزينة يوضع على الأرجل.
(4) نوع من السرر السودانية يصنع من جذوع الأشجار القوية، وفي الوسط يُشد عليه الحبال بطريقة معينة.
(5) الذي ظهر لي أن الشيخ نسب القائل إلى الحضر وهم أهل المدن بدليل قوله أكَّال الرغيف وهو الخبز وهو يؤكل في المدن غالباً دون البوادي.
(6) أي قال الشيخ للرجل الذي أنكر عليه في سره.
(7) ط. ابن ضيف الله ص (273-274).
(8) مات سنة 297هـ. ط. ك (1/87).
(9) المرجع السابق (1/88).
(10) ط. ابن ضيف الله ص (273).
(11) مات سنة 832هـ. جامع كرامات الأولياء (1/261).
(12) المرجع السابق (1/260).(1/275)
وقال الشعراني في ترجمة بركات الخياط(1): (وكان رضي الله عنه إذا قدَّموا له لحم الضاني واشتهى لحم حمام ينقلب في الحال حماماً)(2). ونقل النبهاني عن الشعراني قوله: (زرته مرة بعد موته -أي بركات الخياط- فأخرج لي خادمه طعاماً فيه أعضاء آدمي وذراعه ورجله، فنفرت منه، فصار الخادم يقول: هذا لحم ضاني، وأنا أرى مشط رِجل الطفل وأصابعه وذراعه، فقلت لأخي أفضل الدين -القائل الشعراني-: كان هذا حاله في حياته، تأكل معه مرة حماماً فيقلبه سمكاً، ثم دجاجاً ونحن ننظر ويذبح خروفاً ويضعوه في الدست فيصير كلباً فيأكله وحده)(3).
وقال الشعراني في ترجمة أبي بكر الدسوقي(4): (أخبرني سيدي عثمان الحطاب أنه حج مع سيدي أبي بكر رضي الله عنه في سنة من السنين، فكان الشيخ يقترض طول الطريق الألف دينار فما دونها على يدي، فإذا طالبني الناس أجيء إليه فأخبره بذلك فيقول: عد لك من هذا الحصا بقدر الدين، فكنت أعد الألف حصاة، والخمسمائة والمائة والأربعين والثلاثين وأذهب بها إلى الرجل فيجدها دنانير، قال: وكان له صاحب يضع الحشيش(5). بباق اللوق، وكان الشيخ يرسل إليه أرباب الحوائج فيقضيها لهم، قال سيدي عثمان رضي الله عنه: فسألته يوماً عن ذلك وقلت المعصية تخالف طريق الولاية؟! فقال: يا ولدي ليس هذا من أهل المعاصي إنما هو جالس يُتوِّبُ الناس في صورة بيع الحشيش(6)، فكل من اشترى منه لا يعود يبلعها أبداً)(7).
__________
(1) مات سنة 923 هـ. ط. ك (1/130).
(2) المرجع السابق (130).
(3) جامع كرامات الأولياء (1/607).
(4) لم يذكر له تاريخ وفاة وانظر ترجمته ط. ك (2/96).
(5) نوع من المخدرات.
(6) هذا من ضحك الصوفية على عقول البسطاء.
(7) ط. ك للشعراني (2/96).(1/276)
وقال المناوي في ترجمة أحمد بن الحسين(1): (له أشجار يخرج من بطونها الدنانير)(2).
وقال ابن ضيف الله في ترجمة علي اللِّبَدي(3)، قالت له أمه: يا مجذوب أختك يتزوجها ابن الخطيب أين السمن والعسل؟ قال لها: جيبي زيراً سُقيه(4). وأملوه ماء. ثم قال لها: جيبي آخر. فملته كذلك. ثم قال لها: جيبي ثالثاً فضحكت عليه هي والنساء وقالت له: املأ الاثنين، قال لها: جيبي ثالثاً فضل المولى كثير، فامتنعت عادَّاه(5). كلام غيبة(6). ثم أدخل عكازه في الزير وساطه(7) وقال بسم الله الرحمن الرحيم أب ت ث ج ح خ، فانقلب الماء سمناً أصفراً له دريش والثاني عسلاً، ثم قالت له: نجيب لك الثالث؟ قال لها: فات)(8).
وقال النبهاني في ترجمة إبراهيم بن سعيد الشاغوري(9): (أتت امرأة وسألته الدعاء وأمرَّت يدها على أطماره الرثة، ثم أمرَّتها على وجهها، وهناك فقيهان روميان فقال أحدهما: يا حرمة تنجست يدك بما مرَّت عليه، فنظر إليه الشيخ مغضباً ثم جلس وغاط، ثم نهض، فتقدم الفقيه المنكر وجعل يلعق غائطه، ورفيقه متمسك بأثوابه ويضمه ويقول: ويلك هذا غائط الشيخ؟ إلى أن لعلق الجميع ببعض التراب، فلما نهض جعل يعاتبه، فقال: والله ما لعقت إلا عسلاً)(10).
__________
(1) المعروف بابن قسي، صاحب كتاب خلع النعلين الذي شرحه ابن عربي، لم يذكر له تاريخ وفاة، انظر الكواكب الدرية (2/74).
(2) المرجع السابق (2/74).
(3) لم يذكر له تاريخ وفاة. انظر ط. ابن ضيف الله ص (262-263).
(4) قربة كبيرة تصنع من جلد البقر، انظر تعليق المحقق، المرجع السابق ص (262).
(5) أي تحسبه.
(6) أي في حالة غيبوبة وانجذاب.
(7) أي حرَّكه يميناً وشمالاً.
(8) المرجع السابق ص (262-263).
(9) المعروف بالجيعانة، مات سنة 68هـ. انظر جامع كرامات الأولياء (1/399).
(10) المرجع السابق (1/399).(1/277)
وقال الشعراني في ترجمة محمد الشربيني: (وكان رضي الله عنه يقول للعصا التي كانت معه كوني إنساناً فتكون إنساناً ويرسلها تقضي الحوائج ثم تعود كما كانت)(1). وزاد النبهاني: (وكان إذا أراد أن يُعدِّي في البحر يقول له المُعدِي: (هات كراء، فيقول الشيخ عندنا الله يا فقير فيعديه، فأبى عليه يوماً وقال له: زمقتنا بحمارتك، فقال الشيخ: ها الله وطأطأ الإبريق فأخذ ماء البحر كله فيه، ووقف المركب على الأرض، فاستغفر المعدي وتاب، فصَبَّ الإبريق في البحر ورجع الماء كما كان. وكان إذا احتاج لضيفه أو لبيته عسلاً أو لبناً أو غير ذلك فيقول للنقيب: خذ هذا الإبريق واملأه من ماء البحر، فيملؤه فيجده عسلاً أو لبناً أو غير ذلك على وفق ما يحتاجون إليه. وكان بعض خطباء مكة المشرفة ينكر على الشيخ، فكان الخطيب ذات يوم يخطب على المنبر فأحدث أو تذكر أنه كان قد احتلم ولم يغتسل، وكان الشيخ حاضراً، فمدَّ الشيخ يده إليه، فوجد كُمَّ الشيخ مثل الزقاق، فدخله فوجد مطهرة وماء، فتطهر وخرج(2) من كُمِّ الشيخ، فزال إنكار الخطيب)(3).
ب- يتصرفون في الكون في حياتهم وبعد مماتهم:
قال الشعراني في ترجمة شمس الدين محمد الحنفي: (هو أحد من أظهره الله تعالى إلى الوجود وصرَّفه في الكون، ومكنه من الأحوال وأنطقه بالمغيبات وخرق له العوائد وقلب له الأعيان...)(4). (واجتمع مع علي الخوَّاص فقال له: ما تقول في رجل رحى الوجود بيده يدورها كيف يشاء، فقال له سيدي محمد: فما تقول فيمن يضع يده عليها فيمنعها أن تدور)(5).
__________
(1) ط. ك للشعراني (2/123).
(2) لا أدري هل كان الناس ينتظرون إلى أن عاد خطيبهم أم تفرقوا؟ هذا ما لم تخبرنا به القصة الخرافية!!!.
(3) جامع كرامات الأولياء (1/297)، وانظر المرجع السابق (1/288، 318، 437، 467، 487، 533)، وانظر بحار الأنوار للمجلسي (46/48)، (46/284)، (50/270).
(4) ط. ك (2/81).
(5) المرجع السابق (2/83).(1/278)
وقال في ترجمة أبو بكر الدسوقي: (كان من أصحاب التصريف النافذ، والأعيان تنقلب له)(1).
وقال النبهاني في ترجمة إبراهيم الأعزب: (قال الشيخ العارف أبو المجد سعد الله بن سعدون الواسطي رحمه الله قال: كنت بمجلس الشيخ إبراهيم ابن الشيخ علي الملقب بالأعزب وهو يتكلم، فمما قال: أعطاني ربي التصريف في كل من حضرني فلا يتحرك إلا وأنا متصرف فيه، فقلت باطناً: أنا أقوم وأقعد، فالتفت إليَّ وقال: يا سعد الله إن قدرت فقم، فلم أستطع، وإذا أنا كالمقيد، فحملوني إلى داري، وبطل نصفي، فبقيت شهراً كاملاً وعلمت أنه باعتراضي، فعقدت التوبة وأمرت أهلي فحملوني إليه، فقلت: يا سيدي إنما كانت خطرة، فنهض وأخذ بيدي فمشيت معه وذهب ألمي)(2). ومثل هذا يفعله السحرة والمشعوذون وذلك بإرسال خُدّامهم من مردة الشياطين لأذية عباد الله في حال بعدهم عن الله تعالى، ثم إذا طلب منهم هؤلاء المرضى الشفاء أمر أولئك السحرة شياطينهم بالخروج من أجساد المرضى في مقابل الشرك بالله من المريض وأهل المريض وأكل أموال الناس بالباطل.
وقال في ترجمة أحمد الرفاعي: (أتاه الرجل الذي يحفظ الله به البحر المحيط)(3).
وقال الشعراني في ترجمة سيده إبراهيم المجذوب(4): (كان رضي الله عنه كل فلوس حصل عليها يعطيها للمطبِّلين ويقول: طبِّلوا لي وزمروا لي، وكان كل قميص لبسه يخيطه ويحزقه على رقبته فإن ضيقه جداً حتى يختنق حصل للناس شدة عظيمة، وإن وسعه حصل للناس الفرج)(5).
__________
(1) ط. ك للشعراني (2/96).
(2) جامع كرامات الأولياء (1/393-394).
(3) المرجع السابق (1/495).
(4) يعرف بإبراهيم النوبة، لم يذكر له تاريخ وفاة، انظر ط. ك (2/128).
(5) المرجع السابق (2/128).(1/279)
وقال المجلسي: (في حديث جابر الجعفي أنه لما شكت الشيعة إلى زين العابدين عليه السلام مما يلقونه من بني أمية، فدعا الباقر عليه السلام وأمره أن يأخذ الخيط الذي نزل به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويحركه تحريكاً، قال: فمضى إلى المسجد فصلى ركعتين، ثم وضع خده على التراب، وتكلم بكلمات، ثم رفع رأسه فأخرج من كُمِّه خيطاً رقيقاً يفوح منه رائحة المسك، وأعطاني طرفاً منه، فمشيت رويداً فقال: قف يا جابر فحرك الخيط تحريكاً ليناً خفيفاً ثم قال: اخرج فانظر ما حال الناس. قال: فخرجت من المسجد فإذا صياح وصراخ من كل ناحية، وإذا زلزلة شديدة وهدة ورجفة، وقد أخربت عامة دور المدينة وهلك تحتها أكثر من ثلاثين ألف إنسان)(1).
وقال النبهاني في ترجمة محمد بن أحمد الفرغل: (أنا من المتصرفين في قبورهم، فمن كانت له حاجة فليأت إلى قبالة وجهي ويذكرها لي أقضيها له)(2).
قال النبهاني نقلاً عن الشعراني في ترجمة محمد الحنفي(3): (قال سيدي محمد الحنفي رضي الله عنه في مرض موته: من كان له حاجة فليأت إلى قبري ويطلب حاجته أقضيها له، فإن ما بيني وبينكم غير ذراع من تراب، وكل رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب فليس برجل)(4).
وقال في ترجمة أحمد الرفاعي: (وروينا عن الشيخ الفاروقي رحمة الله تعالى عليه أنه حضر مراراً عند قبره وكلَّمه وقال له من القبر بصوت جهوري: الحاجة قُضيت)(5).
__________
(1) بحار الأنوار (46/260).
(2) جامع كرامات الأولياء (1/274).
(3) رجعتُ إلى ترجمة الشعراني له في الطبقات فلم أجد ذلك النقل، ربما نقله من كتاب آخر للشعراني.
(4) المرجع السابق (270).
(5) المرجع السابق (1/491).(1/280)
وقال الشعراني في ترجمة سيده أحمد البدوي: (قلت -أي الشعراني- وسبب حضوري مولده كل سنة أن شيخي محمد الشناوي رضي الله عنه أحد أعيان بيته رحمه الله، قد كان أخذ عليَّ العهد في القبة تجاه وجه سيدي رضي الله عنه، وسلمني إليه بيده، فخرجت اليد الشريفة من القبر يقول: نعم، قال: لما دخلت بزوجتي فاطمة أم عبد الرحمن وهي بكر مكثت خمسة أشهر لم أقرب منها، فجاءني -أي سيده أحمد-، وأخذني وهي معي وفرش لي فرشاً فوق ركن القبة التي على يسار الداخل وطبخ لي حلوى ودعا الأحياء والأموات إليه، وقال: أزل بكارتها هنا، فكان الأمر تلك الليلة. وتخلفت عن حضوري للمولد سنة ثمان وأربعين وتسعمائة وكان هناك بعض الأولياء فأخبرني أن سيدي أحمد رضي الله عنه كان ذلك اليوم وكشف الستر عن الضريح ويقول أبطأ عبد الوهاب ما جاء)(1).
فمثل هذه الافتراءات في مناقب أوليائهم تُبين لنا سرَّ تعلق العامة والبسطاء بأولياء الجفاة الأحياء منهم والأموات؛ وهو اعتقاد أنهم يتصرفون في الكون ويقضون لهم الحاجات.
يتطورون بأشكال مختلفة:
قال المناوي في ترجمة الحلاج: (كان من شأن الحلاج التطور في البيت حتى يملأه)(2).
__________
(1) ط. ك الشعراني (1/161)، وانظر جامع كرامات الأولياء (1/161)، (162/1)، (1/328)، (1/355)، (1/362)، (1/477)، (1/523)، (1/595)، (1/609)، (1/624)، ط. ابن ضيف الله ص (258)، الكواكب الدرية (2/97).
(2) الكواكب الدرية للمناوي (2/25).(1/281)
وقال الشعراني في ترجمة محمد الحنفي: (كان يتطور في بعض الأوقات حتى يملأ الخلوة بجميع أركانها ثم يصغر قليلاً قليلاً حتى يعود إلى حالته المعهودة)(1). وقال في ترجمة أبي علي(2): (كان كثير التطورات، تدخل عليه بعض الأوقات تجده جندياً، ثم تدخل فتجده سبعاً ثم تدخل فتجده شبلاً، ثم تدخل فتجده صبياً)(3).
وقال ابن ضيف الله في ترجمة حسن ود حُسُونة: (إنه ذهب إلى الخلاء يتعبد فيه ثم رجع وهو رجل قصير أصلع له قرون)(4). وقال النبهاني في ترجمة محمد بن عمر الواسطي(5): (دخل عليه أحمد النَّخال فوجد له سبعة أعين فغشي عليه، فلما أفاق قال له الشيخ: إذا كمل الرجل صار له سبعة أعين على عدد أقاليم الدنيا)(6). نعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم وأوليائه.
خصائص انفرد بها بعضهم:
قال رجب البرسي في مناقب علي رضي الله عنه: (من خطبه عليه السلام: أنا مخرج من في القبور، أنا صاحب يوم النشور، أنا صاحب نوح ومنجيه، أنا صاحب أيوب المبتلى وشافيه، أنا الذي لا يُبدل القول لدي
وحساب الخلق إليَّ)(7).
وقال محمد صادق القادري في مناقب عبد القادر الجيلاني: (إن صفة الجلالية كانت غالبة عليه في بداية حاله، فمن ذكر اسمه بغير وضوء يفارق رأسه جسده فيموت)(8).
وقال: (وشفع عبد القادر في أحد مريديه، فجاءه الخطاب من الملك المالك: قبلت توبته وعفوت عنه لأجلك، وأعطيك عهداً أن لا أخرج أحداً من مريديك من الدنيا بغير توبة وأن لا أقبض أرواحهم إلا على الإيمان)(9).
__________
(1) ط. ك للشعراني (2/86).
(2) مات سنة نيف وتسعين وثمانمائة، انظر المرجع السابق (2/85).
(3) المرجع السابق الصفحة نفسها.
(4) ط. ابن ضيف الله ص (139) باختصار.
(5) مات سنة نيف وخمسين وثمانمائة، انظر جامع كرامات الأولياء (1/270).
(6) المرجع السابق (1/275).
(7) مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين ص (170-171).
(8) تفريح الخاطر ص (14).
(9) المرجع السابق ص (32).(1/282)
وقال ابن ضيف الله في ترجمة هجا بن عبد اللطيف: (ظهرت له كرامة عجيبة توفي في العصر، ما أمكن الناس أن يمرقوا نعشه لضيق النهار، ثم إن الشمس انقلبت إلى محل الطلوع فحينئذٍ مرقوا جنازته)(1). وكذب هذه القصة أبين من الشمس في رابعة النهار.
المبحث الثالث: خصائص وأحوال لأولياء الجفاة فارقت هدي النبي صلى الله عليه وسلم:
بما أنَّ من الجفاء تقديم غير النبي صلى الله عليه وسلم عليه، كذلك من الجفاء جعل خصائص لبعض أولياء الجفاة تخالف هديه صلى الله عليه وسلم الذي هو أكمل الهدى وسنته التي هي أكمل السنن. ومخالفة الجفاة في هذا مما لا حصر له، ولكني أكتفي بذكر بعض النماذج والإحالة إلى البعض الآخر، خاصة مما يستحي المسلم من ذكره.
خصائصهم في الصيام:
قال الشعراني في ترجمة أحمد البدوي(2): (وكان يمكث الأربعين يوماً وأكثر لا يأكل ولا يشرب ولا ينام)(3).
وقال المناوي في ترجمة مفرج المجذوب الصاحي: (كان ستة أشهر لا يتناول طعاماً ولا شراباً)(4).
وقال في ترجمة بهاء الدين المجذوب القادري: (صرخ وهام على وجهه في الجبل ثلاثة أيام، ثم ثقل عليه الحال فمكث خمس سنين لا يأكل ولا يشرب ولا ينام).
وقال الشعراني في ترجمة شيخه مرشد(5): (أخبرني أنه مكث نحو أربعين سنة يأكل كل يوم زبيبة واحدة حتى لصق بطنه على ظهره)(6).
__________
(1) ط. ابن ضيف الله ص (368).
(2) مات سنة 675هـ. ط. ك للشعراني (1/160).
(3) المرجع السابق (1/159).
(4) الكواكب الدرية (2/106).
(5) مات سنة نيف وأربعين وتسعمائة ط. ك (2/134).
(6) المرجع السابق (2/133).(1/283)
لو أمسكنا عقولنا عن التفكير، وغضضنا الطرف عن كذب تلك الدعاوى، وسلمنا جدلاً أن صوفياً يستطيع الصبر عن الأكل والشرب خمس سنين وأن الساعة عند الصوفي كألف سنة مما نعد، فأقل ما يقال إن مثل هذا النوع من الصيام لا يُسمى صياماً شرعياً ولا يتجاوز التعريف اللغوي للصوم وهو الإمساك ومنه الإمساك عن الطعام والشراب، وهذا النوع من الصيام اشتهر به البراهمة(1). والهنادك وغيرهم من الوثنيين ويُسمى عندهم بالرياضات والمجاهدات لتصفية النفوس فجاراهم الصوفية في صيامهم هذا.
قال المناوي في ترجمة علي بن خفيف الضبي(2): (دعاه برهمي إلى الصبر عن الطعام أربعين يوماً فأكملها وعجز البرهمي، ودعاه برهمي آخر إلى المكث تحت الماء مدة فأتمها وعجز البرهمي)(3).
وأما الصوم المشروع فهو (الإمساك عن المفطرت من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس)(4).
__________
(1) هم طائفة من الهنود يعبدون (براهما) المعبود الأعلى عندهم، انظر: المعجم الفلسفي ص (32).
(2) مات سنة 341هـ. الكواكب الدرية (2/49).
(3) المرجع السابق (2/49).
(4) المغني لابن قدامة (3/3)، وانظر غيره من كتب الفقه.(1/284)
هذا التعريف يشمل صوم الفرض والنفل، وأما الوصال فكان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد نهى أمته عنه، أورد البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تواصلوا، قالوا: إنك تواصل، قال: إني لست مثلكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، فلم ينتهوا عن الوصال. قال: فواصل بهم النبي صلى الله عليهم وسلم يومين أو ليلتين، ثم رأوا الهلال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو تأخر الهلال لزدتكم}. كالمنكي لهم(1). وفي رواية: {لو تأخر لزدتكم} كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا(2). وفي رواية: {فاكلفوا من العمل ما تطيقون}(3). وأخرج البخاري من حديث عبد الله بن عمرو قوله: {أُخْبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت، فقلت له: قد قلته بأبي أنت وأمي. قال: فإنك لا تستطيع ذلك، فصم وافطر، وقم ونم، وصم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدهر. قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال، فصم يوماً وافطر يومين. قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: فصم يوماً وافطر يوماً فذلك صيام داود عليه الصلام، وهو أفضل الصيام. فقلت: إني أطيق أفضل من ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: لا أفضل من ذلك}(4). وقد قال الله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر: 7].
خصائصهم في القيام:
__________
(1) خ: (13/725) مع الفتح.
(2) المرجع السابق ك. الصوم، ب. التنكيل لمن أكثر الوصال (4/205-206).
(3) المرجع السابق (2/206).
(4) خ: ك. الصوم، ب. صوم الدهر (4/220) مع الفتح.(1/285)
قال المناوي في ترجمة شاه بن شجاع الكرماني(1): (أقام شهراً لا ينام)(2). وقال الشعراني في ترجمة علي الكازروني(3): (كان رضي الله عنه كثير المجاهدة والرياضة، أخبرني رضي الله عنه أنه ربما يمكث الخمسة شهور أو أكثر لا يضع جنبه على الأرض لا ليلاً ولا نهاراً)(4).
وقال في ترجمة علي العياش(5): (ومكث رضي الله عنه نحو نيف وسبعين سنة لا يضع جنبه على الأرض إلا من مرض شديد)(6).
__________
(1) مات سنة 275هـ، الكواكب الدرية (2/37).
(2) المرجع السابق (2/36).
(3) مات سنة 965هـ. ط. ك للشعراني (2/164).
(4) المرجع السابق (2/163).
(5) مات سنة نيف وتسعمائة. المرجع السابق (2/170).
(6) المرجع السابق (2/169).(1/286)
على فرض أن هؤلاء القوم استطاعوا قيام هذه المدة التي زعموها ذاكرين الله تعالى يعبدونه لا يشركون به شيئاً. فإنهم قد جفوا هدى المصطفى صلى الله عليه وسلم ورغبوا عنه، إما عن علم وإما عن جهل. فعن أنس رضي الله عنه يقول: {جاء ثلاثة رهط إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أُخبروا بها كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا أصلي الليل أبداً، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني}(1). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل(2). نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مرْه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه}(3). وأخرج مسلم من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: {... وما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح وما صام شهراً متتابعاً إلا رمضان}(4).
فلا شرع أفضل من شرعه ولا هدى أكمل من هديه صلى الله عليه وسلم فمن رغب عن سنته فليس منه.
انقطاعهم عن الخلوات والفلوات:
__________
(1) خ: ك. النكاح، ب. الترغيب في النكاح (9/104) مع الفتح.
(2) قال ابن حجر لا يشاركه في كنيته أحد من الصحابة واختلف في اسمه فقيل قشير وقيل يسير وقيل قيصر وهو قرشي ثم عامري، فتح الباري (11/590).
(3) خ: ك. الأيمان والنذور، ب. النذر فيما لا يملك أو في معصية (11/586) مع الفتح.
(4) م: ك. صلاة المسافرين، ب. قيام الليل (6/28) مع النووي.(1/287)
قال ابن ضيف الله في ترجمة مصطفى الشريف المغربي(1): (كانت مجاهداته فوق الحد، ويدخل الخلوة اثنا عشر شهراً ما يمرق منها إلا يوم العيد)(2).
وقال النبهاني في ترجمة محمد شمس الدين الحنفي: (ثم حُبب إليه الخلوة فاختلى سبع سنين لم يخرج من خلوة تحت الأرض)(3).
وقال المناوي في ترجمة إبراهيم المعروف بمرشد: (أقام في خربة عشر سنين لا يجتمع بأحد).
وقال الشعراني في ترجمة الشيخ أبي علي: (كان هذا الشيخ من كُمّل العارفين.. مكث نحو أربعين سنة في خلوة مسدود بابها ليس لها غير طاقة يدخل منها الهواء)(4).
وقال المناوي في ترجمة أبي يعزي(5): (لزم البراري والقفار خمس عشرة سنة)(6).
كثيراً ما نشتكي ونتحسر ونتأوه على حال أمتنا الإسلامية، مما أصابها من الوهن والضعف، ومن تكالب أعداء الله عليها ونرجو لها النهوض من كبوتها
__________
(1) اتخذ مذهب الصوفية، ودفن غرب الجزيرة اسلانج، ط. ابن ضيف الله ص (339).
(2) المرجع السابق الصفحة نفسها.
(3) جامع كرامات الأولياء (1/262).
(4) ط. ك للشعراني (2/80).
(5) ينكور بن عبد الرحمن المغربي، لم يذكر له تاريخ وفاة، انظر الكواكب الدرية للمناوي (2/72).
(6) المرجع السابق الصفحة نفسها.(1/288)
وتحقيق الانتصارات بحيث تكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟! كيف تتحقق الانتصارات لهذه الأمة وتنتشر الدعوة إلى دين الله في أرجاء الأرض وكبار الصوفية في خلواتهم وفلواتهم لا يغزون في سبيل الله ولا يحثون على الغزو، ولا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر بل ولا يشهدون الجمعة ولا الجماعة؟! ولا حجة لهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم اختلى في بداية أمره؟ لأن هذا كان قبل البعثة فلو كان مشروعاً بعد البعثة لأمر، أمته صلى الله عليه وسلم؛ ولفعله صحابته من بعده، بل بعد البعثة كان يرسل الجيوش والسرايا ويخرج بنفسه للغزو في سبيل الله، وكذا أصحابه من بعده واصلوا الفتوحات في سبيل الله حتى انتشر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. ولا يمكن تحقيق ذلك إذا عكف الصحابة في خلوات تحت الأرض أو لزموا الصحاري مع الوحوش.
خصائصهم في الزهد والورع:
قال الشعراني في ترجمة الشبلي: (وقيل له مزقت جميع ملبوسك والعيد قد أقبل والناس يتزينون وأنت هكذا؟! فقال: زينة الفقير فقره وصبره على فقره)(1). وقال في ترجمة أبي سعيد الخرَّاز(2): (ما لبس أبو سعيد قميصاً منذ ثلاثين سنة)(3).
وقال في ترجمة عبد القادر الجيلي: (كان رضي الله عنه يقتات بخرنوب الشوك وقمامة البقل والخس)(4).
وحكي عن شيخه محمد السروي قوله لمريد: (إن كنت تطلب الطريق فاجعل ثيابك مسحة لأيدي الفقراء، فكان كل من أكل سمكاً أو زفراً يمسح في
ثوبه يده مدة سنة وسبعة شهور حتى صارت ثيابه كثياب الزياتين أو السماكين)(5).
وقال المناوي في ترجمة الحسن الفلاَّس: (كان يلبس صافي المزابل ولا يأكل إلا القمامة)(6).
__________
(1) المرجع السابق الصفحة نفسها.
(2) أحمد بن عيسى، مات سنة 279هـ. المرجع السابق (1/78).
(3) المرجع السابق (1/88).
(4) ط. ك (1/109).
(5) ط. ك للشعراني (2/115).
(6) الكواكب الدرية (1/222).(1/289)
وقال الشعراني في ترجمة إبراهيم بن أدهم(1): (كان رضي الله عنه إذا لم يجد الطعام الحلال يأكل التراب، ومكث شهراً يأكل الطين)(2).
قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس على الزهاد: (ومن تلبيسه عليهم: أنه يوهمهم أن الزهد ترك المباحات، فمنهم من لا يزيد على خبز الشعير ومنهم من لا يذوق الفاكهة ومنهم من يقلل المطعم حتى ييبس بدنه، ويُعذِّبُ نفسَه بلبس الصوف ويمنعها الماء البارد، وما هذه طريقة رسول صلى الله عليه وسلم وطريقة أصحابه وأتباعهم. وإنما كانوا يجوعون إذا لم يجدوا شيئاً فإذا وجدوا أكلوا. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل اللحم ويحبه، ويأكل الدجاج، ويحب الحلوى، ويستعذب الماء البارد)(3).
وقال: (ومن هؤلاء قوم لو سئل أحدهم أن يلبس اللين من ثوبه ما فعل لئلا يتوكس جاهه في الزهد، ولو خرجت روحه لا يأكل والناس يرونه، ويحفظ نفسه عن التبسم فضلاً عن الضحك. ويوهمه إبليس أن هذا لإصلاح الخلق، وإنما هو رياء يحفظ به قانون الناموس، فتراه مطأطىء الرأس وعليه آثار الحزن فإذا خلا رأيته ليث شري)(4).
أولياء الله تعالى عقلاء ليسوا مجانين:
ترجم الشعراني وغيره لعدد من المجانين من أصحاب الأحوال الشيطانية ونسبوهم إلى الولاية مما أساؤوا به إلى أولياء الله تعالى الصالحين غاية الإساءة. وإليك طرفاً من ذلك:
__________
(1) إبراهيم بن أدهم بن منصور كان من أبناء الملوك ت. 162هـ. جامع كرامات الأولياء (1/385).
(2) ط. ك للشعراني (1/59).
(3) تلبيس إبليس لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ص (168).
(4) تلبيس إبليس ص (174).(1/290)
قال الشعراني في ترجمة سيده إبراهيم بن عصيفير: (وكان يغلب عليه الحال فيخاصم ذباب وجهه وكان يتشوش من قول المؤذن الله أكبر، فيرجمه ويقول: عليك يا كلب نحن كفرنا يا مسلمين حتى تكبروا علينا، وكان لا ينام إلا في الكنيسة ويقول: أنا ما عندي من يصوم حقيقة إلا النصارى لأنهم لا يأكلون اللحم الضاني والدجاج أيام الصوم، أما المسلمون فصومهم باطل عندي لأنهم يأكلون اللحم الضاني والدجاج)(1).
وقال في ترجمة خليل المجذوب(2): (كان يطوف حول بلده طول النهار ويزغرت(3)، وتارة يصيح، وتارة يصمت، ورأيته مرة من بعيد وهو صاعد كوم بلده، فقلت في سري: يا ترى هل هو أحمدي أم برهاني؟ فصاح يا دائم يا دائم يشير إلى أنه برهاني رضي الله عنه)(4).
وقال في ترجمة أحمد المجذوب(5): (كان رضي الله عنه لا يلبس إلا الحرير على بدنه وكان قمعه طول ذراع ونصف، وكان رضي الله عنه يقف على الدكان ويصيح يا مالي ومالي السلطان عند صاحب هذا الدكان فلا يزال كذلك
إلى أن يأخذ ما يطلبه منه، ثم يدفنه تحت الجدار وكراماته كثيرة)(6).
__________
(1) ط. ك. للشعراني (2/126).
(2) مات سنة نيف وعشرين وتسعمائة (2/129)، المرجع السابق.
(3) هو صوت تصدره النساء في حالة الفرح.
(4) المرجع السابق (2/168).
(5) مات سنة نيف وعشرين وتسعمائة (2/129) المرجع السابق.
(6) 2/128-129) المرجع السابق.(1/291)
وقال في ترجمة شعبان المجذوب(1): (كان من أهل التصريف بمصر المحروسة... وكان يقرأ سوراً غير التي في القرآن على كراسي المساجد يوم الجمعة وغيرها فلا ينكر عليه أحد، وكان العامي يظن أنها من سور القرآن لشبهها بالآيات في الفواصل، وقد سمعته مرة يقرأ على باب دارٍ على طريقة الفقهاء الذين يقرؤون في البيوت فسمعته يقول: (وما أنتم في تصديق هود بصادقين، ولقد أرسل الله لنا قوماً بالمؤتفكات يضربوننا ويأخذون أموالنا ومالنا من ناصرين، ثم قال: اللهم اجعل ثواب ما قرأناه من الكلام العزيز في صحائف فلان وفلان إلى آخر ما قال)، وكان رضي الله عنه عرياناً لا يلبس إلا قطعة جلد أو بساط أو حصير أو لباد يغطي به قبله ودبره فقط، وكان يرى حلال زينة الدنيا كالحرام في الاجتناب، وكانت الخلائق تعتقده اعتقاداً زائداً، ولم أسمع أحداً ينكر عليه شيئاً من حاله، ويعدودن رؤيته عيداً عندهم تحنيناً من الله تعالى)(2).
وقال في ترجمة عبد الرحمن المجذوب(3): (كان رضي الله عنه من أكابر الأولياء... وكان مقطوع الذكر، قطعه بنفسه أوائل جذبه، وكان جالساً على الرمل صيفاً وشتاء، وإذا جاع أو عطش يقول: أطعموه، أسقوه، وكان ثلاثة أشهر يتكلم وثلاثة أشهر يسكت وكان يتكلم بالسرياني)(4).
وقال في ترجمة سعدون المجنون(5): (كان يجن ستة أشهر ويفيق ستة أشهر، وكان إذا هاج صعد السقف ونادى بالليل...)(6).
__________
(1) مات سنة نيف وتسعمائة (2/168) المرجع السابق.
(2) المرجع السابق (2/168).
(3) مات سنة 944هـ. المرجع السابق (2/128).
(4) المرجع السابق (2/127-128).
(5) لم يذكر له صاحب الطبقات سنة وفاة، انظر المرجع السابق (1/58).
(6) المرجع السابق (1/58).(1/292)
وقال في ترجمة سيده بركات الخياط: (كان رضي الله عنه يقول لمن يخيط له: هات معك فوطة وإلا يتسخ قماشك من ثيابي، وكان دكانه منتناً قذراً؛ لأن كل كلب وجده ميتاً أو قطاً أو خروفاً يأتي به فيضعه داخل الدكان، فكان لا يستطيع أحد يجلس عنده)(1).
وأخبرني الشيخ عبد الواحد رضي الله عنه أحد جماعة سيد أبي السعود الجارحي رضي الله عنه قال: (مدحته -أي صاحب الترجمة- للشيخ جمال الدين الصائغ مفتي الجامع الأزهر وجماعة فقالوا: امضوا بنا نزوره، وكان يوم الجمعة... فقالوا له: نصلي الجمعة، فقال: ما لي عادة بذلك، فأنكروا عليه فقال: نصلي اليوم لأجلكم، فخرج إلى جامع المارداني فوجد في الطريق مسقاة الكلاب فتطهر منها، ثم وقع في مشخة الحمير، ففارقوه، وصاروا يوبخون الشيخ عبد الواحد الذي جاء بهم إلى هذا الرجل)(2).
وقال النبهاني في ترجمة بهاء الدين(3): (إن زوجته لما جُذب انتظرت إفاقته سبع سنين فلم يفق، فاستفتت العلماء فأفتوها بأنها تتزوج، فجاء تلك الليلة حين دخل بها زوجها وطعنهما فماتا جميعاً، وضرب القاضي فعمي وتكسح إلى أن مات)(4).
وقال في ترجمة أبي عزيزة المغربي(5): (غلب عليه الجذب والاستغراق).
ومن كراماته: أنه كان إذا غلب عليه الحال أكل رطل كبريت وأكثر. ومنها أنه كان يأخذ صحن المسجد في وثبة واحدة، وكان يقيم صارخاً شاخصاً اليوم والليلة)(6).
وقال في ترجمة أبي العباس أحمد بن أبي الخير(7): (وكان يطرأ عليه حال الفناء كثيراً، حتى كان يقيم أياماً مطروحاً تسفي عليه الرياح وينبت عليه العشب)(8).
__________
(1) ط. ك للشعراني (2/130).
(2) ط. ك للشعراني (2/130).
(3) مات سنة 922 هـ، جامع كرامات الأولياء (1/613).
(4) المرجع السابق (1/612).
(5) مات سنة 1010هـ، المرجع السابق (1/466).
(6) المرجع السابق الصفحة نفسها.
(7) يُعرف بالصياد اليمني ت 5790هـ. جامع كرامات الأولياء (1/488).
(8) المرجع السابق (1/488).(1/293)
قال ابن تيمية في قوله صلى الله عليه وسلم: {رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ}، هذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث علي وعائشة رضي الله عنهما. واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول. لكن الصبي المميز تصح عبادته ويثاب عليها عند جمهور العلماء، وأما المجنون الذي رفع عنه القلم فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء، ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات (بل لا يصلح هو عند عامة العقلاء لأمور الدنيا كالتجارة والصناعة.. إلى قوله: وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، وامتنع أن يكون ولياً لله فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه ولي الله) لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه، أو نوع من تصرف، مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صرع فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين -من المشركين وأهل الكتاب- لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية كالكهان والسحرة وعباد المشركين وأهل الكتاب، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص ولياً لله)(1).
مفاسدهم الأخلاقية:
ولهم في الخروج عن شريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم مخالفات يندى لها الجبين، أعرضت عن ذكرها مفصَّلة حياء، حتى لا يتأذى بها من كانت فيه شعرة من حياء؛ ولكن لعظم البلاء بهؤلاء الذين جثوا زماناً طويلاً على صدر هذه الأمة وما زالوا؛ ونصحاً لأمتي من التدرج الشيطاني حتى لا يصلوا إلى مصير هؤلاء المفارقين لهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، اكتفيت بالإشارة إلى بعض مفاسدهم الأخلاقية دون الإكثار منها، وأعرضت عن ذكر صاحب الترجمة، وأحلت إلى الكتاب بالجزء والصفحة لمن أراد التأكد أو التثبت.
__________
(1) مجموع الفتاوى: (11/191-192).(1/294)
- فمن مفاسدهم الأخلاقية: يختلون بالمردان ويجلسون مع النساء(1).
- يتعرون أمام الملأ(2).
- يقترفون الفواحش(3).
قال ابن القيم: (ومحبة الصور المحرمة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك وأبعد من الإخلاص كانت محبته بعشق الصور أشد، وكلما كان أكثر إخلاصاً وأشد توحيداً، كان أبعد من عشق الصور؛ ولهذا أصاب امرأة العزيز ما أصابها من العشق لشركها، ونجا منه يوسف الصديق بإخلاصه، قال تعالى: ((كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)) [يوسف:24]. فالسوء: العشق، والفحشاء: الزنا، فالمخلص قد خلَّص حبه لله، فخلصه من فتنة عشق الصور، والمشرك قلبه متعلق بغير الله، لم يخلص توحيده وحبه لله)(4).
قال: (ومن أبلغ كيد الشيطان وسخريته بالمفتونين بالصور: أنه يُمنّي أحدهم أنه إنما يحب ذلك الأمرد، أو تلك المرأة الأجنبية لله لا للفاحشة، ويأمره بمصاحبته)(5).
وقال ابن الجوزي: (ومن هؤلاء من قارب الفتنة فوقع فيها فلم تنفعه دعوى الصبر والمجاهدة. والحديث بإسناد عن إدريس بن إدريس، قال: حضرت بمصر قوماً من الصوفية، ولهم غلام أمرد يغنيهم، قال: فغلب على رجل منهم أمره فلم يدر ما يصنع، فقال: يا هذا قل لا إله إلا الله، فقال الغلام: لا إله إلا الله، فقال: أُقبِّلُ الفم الذي قال: لا إله إلا الله)(6).
__________
(1) ط. ك للشعراني (78/2)، جامع كرامات الأولياء (1/266، 510).
(2) ط. ك (2/128، 166).
(3) ط. ك (2/135، 94، 119، 122)، جامع كرامات الأولياء (1/406، 414).
(4) إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان لابن القيم (2/197-198).
(5) المرجع السابق (2/1298).
(6) تلبيس إبليس ص (304).(1/295)
قال: (وفيهم من فُرِّق بينه وبين حبيبه فقتل حبيبه. بلغني عن بعض الصوفية أنه كان في رباط عندنا ببغداد ومعه صبي في البيت الذي هو فيه، فشنّعوا عليه وفرَّقوا بينهما، فدخل الصوفي إلى الصبي ومعه سكين فقتله، وجلس عنده يبكي...)(1).
قال: (وفيهم من همَّت نفسه إلى الفاحشة فقتل نفسه. حدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد الدامغاني قال: كان ببلاد فارس صوفي كبير، فابتلي بحدثٍ فلم يملك نفسه أن دعته إلى الفاحشة، فراقب الله عز وجل ثم ندم على هذه الهمة، وكان منزله على مكان عال ووراء منزله بحر من الماء، فلما أخذته الندامة صعد السطح ورمى بنفسه إلى الماء وتلا قوله تعالى: ((فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) [البقرة: 54]. فغرق في البحر)(2).
ثم علَّق ابن الجوزي على هذه القصة التي تدل على فقه القوم قائلاً: (انظر إلى إبليس كيف درج هذا المسكين من رؤية هذا الأمرد إلى إدمان النظر إليه إلى أن مكن المحبة من قلبه، إلى أن حرَّضه على الفاحشة، فلما رأى استعصامه حسَّن له بالجهل قتل نفسه، ولعله همَّ بالفاحشة ولم يعزم، والهمة معفو عنها لقوله عليه الصلاة والسلام: {عُفي لأمتي ما حدثت به نفوسها}، ثم إنه ندم على همته والندم توبة. فأراه إبليس أن من تمام الندم قتل نفسه كما فعل بنو إسرائيل، فأولئك أمروا بذلك لقوله تعالى: ((فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) [البقرة: 54]، ونحن نهينا عنه بقوله تعالى: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)) [النساء: 29]. فلقد أتى بكبيرة عظيمة، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً})(3).
__________
(1) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
(2) تلبيس إبليس ص (303).
(3) تلبيس إبليس ص (303-304).(1/296)
قال ابن القيم: (وعشقهم يجمع المحرمات الأربع: من الفواحش الظاهرة والباطنة، والإثم والبغي بغير الحق، والشرك بالله ما لم ينزل به سلطاناً، والقول على الله ما لا يعلمون، فإن هذا من لوازم الشرك، فكل مشرك يقول على الله ما لا يعلم. فكثيراً ما يوجد في هذا العشق من الشرك الأكبر والأصغر، ومن قتل النفوس تغايراً على المعشوق، وأخذ أموال الناس بالباطل ليصرفها في رضا المعشوق، ومن الفاحشة والكذب والظلم ما لا خفاء به. وأصل ذلك كله من خلو القلب من محبة الله تعالى والإخلاص له، والتشريك بينه وبين غيره في المحبة، ومن محبة ما يُحَبُّ لغير الله، فيقوم ذلك بالقلب، ويعمل بموجبه بالجوارح، وهذا هو حقيقة اتباع الهوى. قال تعالى: ((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)) [الجاثية:23](1).
مجمل الفروق بين آيات الأنبياء وكرامات الصالحين وخوارق الشياطين(2):
الأول: إن ما تخبر به الأنبياء لا يكون إلا صدقاً، وأما ما يخبر به من خالفهم من السحرة والكهان وعباد المشركين وأهل الكتاب وأهل البدع والفجور من المسلمين فإنه لا بد فيه من الكذب.
__________
(1) وانظر إغاثة اللهفان (2/217).
(2) نقلت هذه الفروق من كتاب النبوات لشيخ الإسلام ابن تيمية باختصار وتصرف يسير، انظر: ص (439-449).(1/297)
الثاني: إن الأنبياء لا يأمرون إلا بالعدل ولا يفعلون إلا العدل وهؤلاء المخالفون لهم لا بد لهم من الظلم فما خالف العدل لا يكون إلا ظلماً، فيدخلون في العدوان على الخلق وفعل الفواحش والشرك والقول على الله بلا علم وهي المحرمات التي حرمها الله مطلقاً كما قال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف:33].
الثالث: إن ما تأتي به السحرة والكهان والمشركون وأهل البدع من أهل الملل لا يخرج عن كونه مقدوراً للإنس والجن، وآيات الأنبياء لا يقدر على مثلها لا الإنس ولا الجن، كما قال تعالى: ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)) [الإسراء:88].
الرابع: إن ما تأتي به السحرة والكهان وكل مخالف للرسل تمكن معارضته بمثله وبأقوى منه كما هو الواقع لمن عرف هذا الباب، وآيات الأنبياء لا يمكن لأحد أن يعارضها لا بمثلها ولا بأقوى منها، وكذلك كرامات الصالحين لا تُعارض بمثلها ولا بأقوى منها لأنها متصادقة متعاونة على مطلوب واحد وهو عبادة الله وتصديق رسله. ولهذا كان المشايخ(1) الذين يتحاسدون ويتعادون ويقهر بعضهم بعضاً بخوارقه إما بقبل وإمراض وإما بسلب حاله وعزله عن مرتبته وغير ذلك، فخوارقهم شيطانية ليست من آيات الأنبياء والأولياء، وكثير من هؤلاء يكون في الباطن كافراً منافقاً وكثير منهم يموت على غير الإسلام وكثير منهم يكون مسلماً مع ظلم يعرف أنه ظالم، ومنهم من يكون جاهلاً يحسب أن ما هو عليه مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) أي مشايخ الصوفية.(1/298)
الخامس: إن آيات الأنبياء لا يقدر عليها مخلوق فلا تكون مقدورة للملائكة ولا للجن ولا للإنس وإن كانت الملائكة قد يكون لهم سبب فيها بخلاف تلك فإنها مقدورة للجن والإنس أو مما يمكنهم التوصل إليها بسبب، وأما كرامات الصالحين فهي من آيات الأنبياء ولكن ليست من آياتهم الكبرى ولا يتوقف إثبات النبوة عليها وليست خارقة لعادة الصالحين، بل هي معتادة في الصالحين من أهل الكتاب والمسلمين، وآيات الأنبياء التي يختصون بها خارقة لعادة الصالحين.
السادس: إن خوارق غير الأنبياء: من الصالحين والسحرة والكهان وأهل الشرك والبدع تنال بأفعالهم كعباداتهم ودعائهم وشركهم وفجورهم ونحو ذلك، وأما آيات الأنبياء فلا تحصل بشيء من ذلك، بل الله يجعلها آية وعلامة لهم وقد يكرمهم بمثل كرامات الصالحين، وأعظم من ذلك مما يقصد به إكرامهم لكن هذا النوع يقصد به الإكرام والدلالة بخلاف الآيات المجردة كانشقاق القمر، وقلب العصا حية، وإخراج يده بيضاء، والإتيان بالقرآن، والإخبار بالغيب الذي يختص الله به فأمر الآيات إلى الله لا إلى اختيار المخلوق والله يأتي بها بحسب علمه وحكمته وعدله ومشيئته ورحمته، كما ينزل ما ينزله من آيات القرآن، وكما يخلق من يشاء من المخلوقات بخلاف ما حصل باختيار العبد إما لكونه يفعل ما يوجبه أو يدعو الله به فيجيبه، فالخوارق التي ليست آيات تارة تكون بدعاء العبد، والله تعالى يجيب دعوة المضطر، وإن كان كافراً لكن للمؤمنين من إجابة الدعاء ما ليس لغيرهم وتارة تكون بسعيه في أسبابها مثل توجهه بنفسه وأعوانه، وبمن يطيعه من الجن والإنس في حصولها وأما آيات الأنبياء فلا تحصل بشيء من ذلك.(1/299)
السابع: إن النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين لا يخبرون إلا بحق ولا يأمرون إلا بعدل فيأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويأمرون بمصالح العباد في المعاش والمعاد لا يأمرون بالفواحش ولا الظلم ولا الشرك ولا القول بغير علم فهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتبديلها وتغييرها، فلا يأمرون إلا بما يوافق المعروف في العقول الذي تتلقاه القلوب السليمة بالقبول، فكما أنهم لا يختلفون فلا يناقض بعضهم بعضاً، بل دينهم واحد، وإن تنوعت الشرائع فهم أيضاً موافقون لموجب الفطرة التي فطر الله عليها عباده موافقون للأدلة العقلية لا يناقضونها قط، بل الأدلة العقلية الصحيحة كلها توافق الأنبياء لا تخالفهم، وآيات الله السمعية، والعقلية: العيانية والسماعية كلها متوافقة متصادقة متعاضدة لا يناقض بعضها بعضاً، والذين يخالفون الأنبياء من أهل الكفر وأهل البدع كالسحرة والكهان وسائر أنواع الكفار وكالمبتدعين من أهل الملل، فهؤلاء مخالفون للأدلة السمعية والعقلية والعيانية مخالفون لصريح المعقول، وصحيح المنقول كما أخبر الله عنهم بقوله: ((كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ)) [الملك: 8-11] الآية.(1/300)
فهؤلاء يخالفون أقوال الأنبياء إما بالتكذيب وإما بالتحريف من التأويل وإما بالإعراض عنها وكتمانها فإما أن لا يذكروها أو يذكروا ألفاظها ويقولون ليس لها معنى يعرفه مخلوق، كما أخبر الله عن أهل الكتاب أن منهم من يكذب في اللفظ ومنهم من يحرف الكلم في المعنى ومنهم جهال لا يفقهون ما يقرؤون قال تعالى: ((أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ)) إلى قوله: ((فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ)) [البقرة:79]،
وكذلك هم مخالفون للأدلة العقلية فالأنبياء كَمَّلوا الفطر وبصروا الخلق كما تقدم في صفة محمد صلى الله عليه وسلم أن الله يفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، ومخالفوهم يفسمدون الحس والعقل كما أفسدوا الأدلة السمعية، والحس والعقل بهما تعرف الأدلة. أما إفسادهم لما جاء عن الأنبياء فظاهر، وأما إفسادهم للحس والعقل فإنهم قسمان: قسم أصحاب خوارق حسية كالسحرة والكهان وضُلاّل العُبّادِ، وقسم أصحاب كلام واستدلال بالقياس والمعقول، وكل منهما يفسد الحس والعقل.
أما أصحاب الحال الشيطاني فقد عُرف أن السحر يغير الحس والعقل حتى يخيل إلى الإنسان الشيء بخلاف ما هو عليه، وكذلك سائر الخوارق الشيطانية لا تأتي إلا مع نوع فساد في الحس والعقل كالمؤلهين الذين لا تأتيهم إلا مع زوال عقولهم وآخرين لا تأتيهم إلا في الظلام وآخرين تتمثل لهم الجن في صور الإنس فيظنون أنهم إنس أو يرونهم مثال الشيء فيظنون أن الذي رأوه هو الشيء نفسه أو يسمعونهم صوت من يعرفونه فيظنون أنه صوت ذلك المعروف عندهم، وهذا كثير موجود في أهل العبادات البدعية التي فيها نوع من الشرك ومخالفة الشريعة.
والمقصود هنا التنبيه على أن من خالف الأنبياء فإنه كما أنه مكذب لما جاؤوا به من النبوة والسمع فهو مخالف للحس والعقل.(1/301)
وبعد: فهذا نزر يسير مما تحتاج إليه الأمة الإسلامية من الحقائق والبراهين من الكتاب الكريم وهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم فيما يجب عليها أن تعتقده في نبيها صلوات ربي وسلامه عليه، وفيما يجب عليها من حماية جنابه العظيم طلاخص بذبَّ الكذب عنه مما ألصقه به الغلاة أو انتقصه الجفاة بسبب شبهة قامت على دليل ضعيف، أو عاطفة مجردة عن العلم، أو بسبب عدم التفريق بينما هو معجزة وخصوصية له صلى الله عليه وسلم وبينما هو حق خاص لله تبارك وتعالى، أو بين ما هو كرامة للأولياء وخوارق للشياطين؛ فحدث نتيجة لهذا الخلط مفاسد عقدية عظيمة من إعطاء بعض خصائص الألوهية والربوبية لنبي الأمة صلى الله عليه وسلم أو الغلو في كرامات الأولياء إلى حد يصل إلى معجزات الأنبياء وخصائصهم، بل قد بلغ الغلو في كرامات الأولياء إلى حد الاعتداد على خصائص الربوبية والألوهية مع وقوع كثير من هؤلاء الأولياء في براثن الشرك وتلاعب الشياطين وعمل السحر والشعوذة وزعم أن ذلك من الكرامات تلبيساً على العوام.
فببيان خصائص النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة ينجلي الحق الذي يقوم على موازين العدل والعلم فلا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا جفاء بل توسط واعتدال فيما يجب أن يعتقد المسلم في نبيه صلوات ربي وسلامه عليه.
الخاتمه
بعد حمد الله تعالى على توفيقه لي بإتمام هذا البحث أُبين في خاتمته ما وصلت إليه من نتائج.
1- إن مصطلح الخصائص عند كُتّاب السيرة النبوية أعم من مصطلح الدلائل لاشتماله على الدلائل التي تدل على صدق النبوة وغيرها. وأعم من مصطلح الشمائل لاشتماله على الخصال الحميدة وغيرها من المعجزات والدلائل... الخ. وأعم من مصطلح الفضائل لاشتماله على الخصائص التفضيلية والتشريعية معاً. وبالنظر لمصطلح الخصائص مع كل مصطلح من المصطلحات السابقة على حدة نجده أخص.(1/302)
2- إن مجال الدراسة في الخصائص التشريعية فقهي بخلاف الخصائص التفضيلية فمجال الدراسة فيها عقدي لوجود الإفراط والتفريط فيها وموضوع هذا البحث هو دراسة هذا الجانب الأخير منهما.
3- أثبتت الدراسة أن اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه مخلوق من نور الله تعالى مستمد من الفلسفة الهرمسية والأفلوطينية والهندية القديمة وهو المدخل الذي استغله الفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام في التقريب بين الدين وبين تلك الفلسفات القديمة القائلة بصدور العالم عن الله تعالى.
4- أثبتت الدراسة أن القول بوحدة الوجود والاتحاد بالله تعالى مستمد من تلك الفلسفات خاصة نظرية الفيض الأفلوطينية، نقلها إلى المسلمين فلاسفة الصوفية ووضعوا لها أحاديث النور المحمدي لتأخذ الصبغة الإسلامية.
5- أدى الغلو في خصائصه صلى الله عليه وسلم إلى الغلو في مشايخ الغلاة إمّا عن طريق أخذ الفضائل والخصائص لمشايخهم من النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، أو بالاستمداد من خصائصه صلى الله عليه وسلم المزعومة عن طريق الانتساب إليه صلى الله عليه وسلم.
6- أثبتت الدراسة أن اتخاذ الوسائط الشركية ناتج عن تشبيه الخالق جلّ وعلا بالمخلوق.
7- اعتماد الغلاة في الاستدلال على الأحاديث الضعيفة والموضوعة، واعتماد الجفاة على الكذب والدعاوى المجردة عن الأدلة.
8- بنى الغلاة غلوهم في كرامات ومناقب مشايخهم على الغلو في خصائصه صلى الله عليه وسلم فلما تبين بطلان ما زعموه للنبي صلى الله عليه وسلم من خصائص كان بطلان ما زعموه لمشايخهم من باب أولى.(1/303)
9- أدَّى الغلو بجعل مناقب وكرامات لمشايخ الغلاة تفوق خصائص النبي صلى الله عليه وسلم إلى تعظيمهم فوق تعظيمه وطاعتهم وترك طاعته ومحبتهم ودعوى محبته صلى الله عليه وسلم وهذا هو الجفاء الحقيقي له صلى الله عليه وسلم، وعليه ظهر كذب دعواهم أن أهل السنة الذين يتبعون سنته صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به هم جفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
15- أدَّى جهل الكثير من المسلمين بالصحيح من خصائصه صلى الله عليه وسلم إلى انحرافات عقدية خطيرة كجعل خصائص للرسول صلى الله عليه وسلم هي من جنس خصائص الربوبية والإلهية أو يؤدي إلى هدم الشريعة عموماً بتصديق كل من ادعى النبوة أو أخذ الأذكار والضمانات والفضائل منه صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً ونحو ذلك.
11- وجوب اتباع الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم فيما يدين به المسلم ربه عموماً وفيما يتعلق بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم خصوصاً.
فهرس المصادر والمراجع
(أ)
1- ابن سبعين وفلسفته الصوفية. للدكتور أبو الوفا التفتازاني - دار الكتاب اللبناني، ط. الأولى لسنة 1973م.
2- أثولوجيا أرسطاطاليس. لأفلوطين، ضمن كتاب أفلوطين عند العرب. للدكتور عبد الرحمن بدوي - طبعة وكالة المطبوعات - الكويت، ط. الثالثة لسنة 1977م.
3- أحكام الجنائز. للألباني - المكتب الإسلامي، ط. الرابعة لسنة 1406هـ.
4- الإحكام في أصول الأحكام. للآمدي - دار الفكر، بيروت.
5- الاستيعاب في معرفة الأصحاب. لابن عبد البر. تحقيق: علي البجاوي - مكتبة نهضة مصر.
6- أسد الغابة في أسماء الصحابة. لابن الأثير. تحقيق: البنا وعاشور - دار الشعب.
7- الإشارات والتنبيهات. لابن سينا. تحقيق: د. سليمان دنيا - طبعة الحلبي.
8- الإصابة لي تمييز الصحابة. لابن حجر. وبذيله الاستيعاب لابن عبد البر. تحقيق: د. طه الزيني - الناشر مكتبة ابن تيمية، القاهرة، ط. سنة 1414هـ.(1/304)
9- الأصول من الكافي. للكليني - طهران، سنة 1381هـ.
10- الأعلام. لخير الدين الزركلي - دار العلم للملايين - بيروت، ط. الخامسة لسنة 1980م.
11- أعلام النبوة. للماوردي - دار الكتب العلمية، بيروت.
12- إعلام النبيل بما في شرح الجزائري من التلبيس والتضليل. لراشد المريخي - دولة البحرين.
13- إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان. لابن القيم. تحقيق: عمر عفيفي - المكتب الإسلامي ومكتبة الخاني، ط. الأولى لسنة 1407هـ.
14- الإنسان الكامل في معرفة الأوائل والأواخر. لعبد الكريم الجيلي - دار الفكر - بيروت، ط. الرابعة لسنة 1395هـ.
15- الأنوار ومصباح السرور والأفكار وذكر نور محمد المصطفى المختار. لأبي الحسن بن عبد الله البكري - ط. دار الكتب العربية الكبرى، مصر (ليس بها تاريخ).
16- أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة. لأحمد يحيى النجمي، ط. الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية لسنة 1455هـ.
(ب)
17- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار. لمحمد باقر المجلسي - مؤسسة الوفاء - بيروت - لبنان، ط. الثانية 1403هـ-1983م.
18- بداية السول في تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم. للعز بن عبد السلام. تحقيق: الألباني ط. المكتب الإسلامي، بيروت، ط. الرابعة 1406هـ.
19- البداية والنهاية. لإسماعيل بن كثير. تحقيق: د. أحمد أبو ملحم، د. علي نجيب، فؤاد السيد، مهدي ناصر الدين، علي عبد الستار - دار الريان للتراث، ط. سنة 1408هـ.
20- بُدُّ العارف. لعبد الحق بن سبعين. تحقيق د. جورج كتورة - دار الأندلسي، بيروت، دار الكندي، بيروت، ط. سنة 1978م.
21- بردة المديح. لأبي عبد الله محمد البوصيري - المكتبة الثقافية، بيروت.
22- البرهان المؤيد. لأحمد الرفاعي - ط. سنة 1322هـ وبهامشه كتاب النظام الخاص لأهل الاختصاص لأحمد الرفاعي - مكتبة الظاهر بمصر.(1/305)
23- بغية المرتاد في الرد على الفلاسفة والقرامطة والباطنية أهل الإلحاد. لابن تيمية. تحقيق: د. موسى الدويش - مكتبة العلوم والحكم، ط. الأولى لسنة 1458هـ.
24- البريلوية عقائد وتاريخ. لإحسان إلهي ظهير - الناشر إدارة ترجمان السنة.
(ت)
25- تاريخ بغداد. لأبي بكر أحمد بن الخطيب البغدادي - مطبعة الخانجي، القاهرة، والمكتبة العربية، ببغداد. ط. سنة 1349هـ.
26- تاريخ الفلسفة العربية. لحنا الفاخوري، د. خليل الجر، منشورات دار الجيل، لبنان، ط. الثانية لسنة 1982م.
27- تاريخ الفلسفة اليونانية. يوسف كرم - لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط. السادسة.
28- التاريخ الكبير. للبخاري - إدارة الكتب العلمية، بيروت.
29- تبرئة الذمة في نصح الأمة. محمد عثمان عبده البرهاني، ط. الخرطوم.
35- التحفة السنية بتوضيح الطريقة التجانية. محمد طاهر ميغري البرناوي - طبعة الجامعة الإسلامية لسنة 1404هـ.
31- تدريب الراوي. للسيوطي. تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، ط. الثانية لسنة 1385هـ.
32- تذكرة الحفاظ. للذهبي - دار إحياء التراث العربي.
33- ترتيب القاموس المحيط. الطاهر أحمد الزاوي - دار الفكر، بيروت، ط. الثالثة (بدون تاريخ).
34- التصوف وتأثره بالنصرانية والفلسفات القديمة. للدكتور إبراهيم بن خلف التركي. (رسالة دكتوراه - مطبوعة على الآلة الكاتبة).
35- التعريفات. لعلي بن محمد الجرجاني - دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى لسنة 1453هـ.
36- تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس. لابن حجر. تحقيق: عبد الغفار سليمان، ومحمد أحمد عبد العزيز - دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى لسنة 1405هـ.
37- التعريف والإعلام فيما أبهم من الأسماء والأعلام. لأبي القاسم عبد الرحمن السهيلي، ط. الأزهر الكبرى.(1/306)
38- تفريح الخاطر في مناقب الشيغ عبد القادر الكيلاني. ألفه بالفارسية: محمد صادق القادري. ترجمه عبد القادر الأريلي، ط. الرابعة لسنة 1377هـ، مطبعة الحلبي بمصر.
39- تفسير القرآن العظيم. لإسماعيل بن كثير - دار المعرفة، بيروت، ط. الأولى لسنة 1407هـ.
40- تقريب التهذيب. لابن حجر، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، دار المعرفة - بيروت.
تقريب التهذيب. لابن حجر. تحقيق: محمد عوامة - دار الرشد - حلب، سوريا، ط. لسنة 1406هـ.
41- التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح. للعراقي، بهامش مقدمة ابن الصلاح - دار الحديث للطباعة، بيروت، ط. الثانية لسنة 1455هـ.
42- التلخيص. للذهبي، بهامش المستدرك، ط. دار المعرفة، بيروت.
43- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة. لعلي بن عراق الكناني. تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله محمد الصديق - دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الثانية لسنة 1401هـ.
44- تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي والملك. للسيوطي (ضمن الحاوي له) - دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الثانية لسنة 395 هـ.
45- تهذيب التهذيب. لابن حجر العسقلاني، دائرة المعارف العثمانية، ط. الأولى سنة 1325هـ.
(ج)
46- جامع البيان في تأويل القرآن. لابن جرير الطبري - دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى 1412هـ.
جامع البيان في تأويل القرآن لابن جرير الطبري، دار المعرفة - بيروت.
47- جامع الترمذي. لأبي عيسى الترمذي - الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، ط. الثالثة سنة 1404هـ.
48- جامع كرامات الأولياء. ليوسف بن إسماعيل النبهاني - دار الفكر - تحقيق إبراهيم عطوة. طبعة سنة 1409هـ.
49- الجامع لأحكام القرآن. لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي - دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى لسنة 1458هـ.
50- الجرح والتعديل. لابن أبي حاتم - دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى لسنة 1372هـ.(1/307)
51- الجوهر المنظم في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وكرّم لابن حجر الهيتمي - دار المعرفة، بيروت، الطبعة المصرية ببولاق لسنة 1279هـ.
(ح)
52- حب العرب من الإيمان. لمؤسس الجماعة الأحمدية - الناشر: الجماعة الأحمدية بلندن.
53- حقيقة مذهب الاتحاديين. لابن تيمية. تعليق: محمد رشيد رضا - مطبعة المنار، مصر، ط. الأولى لسنة 1349هـ.
54- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. لأبي نعيم الأصبهاني - دار الكتاب العربي، بيروت، ط. الثانية 1967م.
55- حصي بن يقظان. لأبي بكر بن طفيل الأندلسي. تحقيق: د. عبد الحليم محمود- الناشر مكتبة الأنجلو المصرية، ط. الثانية.
(خ)
56- خصائص أفضل المخلوقين. لابن الملقن، تحقيق: عبد الله بحر الدين (رسالة ماجستير) - الجامعة الإسلامية.
57- الخصائص الكبرى. للسيوطي - دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى لسنة 1405هـ.
58- خطاب مفتوح إلى شيخ مشائخ الطرق الصوفية. من عبد الرحمن الوكيل - الناشر: عبد الكريم المالكي.
(د)
59- الدرر السنية في الرد على الوهابية. لأحمد زيني دحلان، ط. الحلبي - مصر، ط. الخامسة لسنة 1405هـ.
60- الدرر السنية في شروط وأحكام وأوراد الطريقة التجانية. لمحمد سعد الرباطابي - مكتبة القاهرة، ط. الثالثة لسنة 1375هـ.
61- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. لابن حجر العسقلاني، دار الجيل - بيروت.
62- دعوة الأحمدية وغرضها. لبشير الدين محمد أحمد القادياني - الناشر: الجماعة الأحمدية بلندن.
63- دلائل النبوة. لأبي بكر البيهقي. تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي - دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى لسنة 1405هـ.
64- دلائل النبوة. لأبي نعيم الأصبهاني - توزيع دار الباز، مكة المكرمة.
65- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب. لابن فرحون المالكي. تحقيق د. محمد أبو النور، دار التراث - مصر.
66- ديوان البرعي. لعبد الرحيم البرعي، مع شرحه (لم يذكر الشارح) - مكتبة القاهرة.(1/308)
67- ديوان الحلاج. أصلحه أبو طريف الشيبي - دار الآفاق العربية، بغداد، ط. الثانية لسنة 1404هـ.
68- ديوان ابن الفارض. ط. المكتبة الثقافية، بيروت.
(ذ)
69- الذخائر المحمدية. للدكتور محمد علوي المالكي - مطبعة حسان، مصر. 70- ذيل طبقات الحنابلة. لابن رجب الحنبلي، دار المعرفة - بيروت.
(ر)
71- الرد على الأخنائي. لابن تيمية بهامش الرد على البكري - الناشر: الدار العلمية، الهند.
72- الرد على البكري. لابن تيمية وبهامشه الرد على الأخنائي - الناشر: الدار العلمية للطباعة والنشر، دلهي، الهند.
73- الرسالة القشيرية. لعبد الكريم القشيري، تحقيق: عبد الحليم محمود - دار الشعب، ط. سنة 1409هـ.
74- الرفاعية. لعبد الرحمن دمشقية، ط. الأولى لسنة 1410هـ (لا توجد معلومات عن الناشر).
75- رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم. لعمر الفوتي - دار الجيل، بيروت، ط. 1488هـ بهامش جواهر المعاني. لعلي برادة.
76- روح المعاني. للألوسي - دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(س)
77- سفينة نوح أو تقوية الإيمان. لغلام أحمد القادياني - تعريب: ولي الله شاه، أحد مطبوعات التبشير الأحمدية - ربوة باكستان، ط. الثانية.
78- السلسلة الصحيحة. لمحمد ناصر الدين الألباني - مكتبة دار المعارف، الرياض.
79- السلسلة الضعيفة. لمحمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي، دمشق، بيروت، ط. الأولى.
85- سنن الدارقطني. ط. الثانية لسنة 1403هـ - عالم الكتب، بيروت. وبذيله المغني لمحمد شمس الحق العظيم أبادي.
81- سنن ابن ماجة. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. ط. سنة 1395هـ - دار إحياء التراث العربي، بيروت.
82- سنن النسائي. ط. الحلبي الأولى لسنة 1383هـ، وبهامشه زهر الربى على المجتبى. للسيوطي.
83- سؤالات أبي عبيد الآجري أبا داود السجستاني في الجرح والتعديل. تحقيق: محمد قاسم العمري - مطبوعات المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط. الأولى لسنة 1402هـ.(1/309)
84- سير أعلام النبلاء. للذهبي. مؤسسة الرسالة، بيروت، ط. 1453 هـ. 85- السيرة النبوية. لابن هشام. تحقيق: السقا والأبياري والشلبي - دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(ش)
86- شذرات الذهب في أخبار من ذهب. لابن العماد الحنبلي، تحقيق محمود الأرناؤوط، دار ابن كثير - دمشق ط. الأولى 1413هـ.
87- شجرة النور الزكية في طبقات المالكية. لمحمد مخلوف، دار الكتاب العربي - بيروت، صورة من الطبعة السلفية لسنة 1349هـ.
88- الشرائع السابقة ومدى حجيتها في الشريعة الإسلامية. للدكتور عبد الرحمن الدرويش، ط. الأولى لسنة 1410هـ - شركة العبيكان للنشر، الرياض.
89- شرح العقيدة الطحاوية. لابن أبي العز الحنفي. تحقيق وتخريج: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، وشعيب الأرناؤوط - مؤسسة الرسالة، ط. الثانية لسنة 1411هـ.
95- شطحات الصوفية. للدكتور عبد الرحمن بدوي، الناشر وكالة المطبوعات - الكويت ط. الثالثة لسنة 1976م.
91- شعب الإيمان. للبيهقي. تحقيق محمد السعيد بسيوني - دار الكتب، بيروت، ط. الأولى لسنة 1410هـ.
92- الشفا بتعريف حقوق المصطفى. للقاضي عياض. تحقيق علي محمد البجاوي - دار الكتاب العربي.
93- شفاء السقام في زيارة خير الأنام. لأبي الحسن السبكي - لجنة التراث العربي، بيروت.
94- شواهد الحق في الإغاثة بسيد الخلق. ليوسف النبهاني، ط. الحلبي،
(ص)
95- الصارم المنكي في الرد على السبكي. لابن عبد الهادي. تعليق إسماعيل الأنصاري - مكتبة التوعية الإسلامية (ط. بدون تاريخ).
96- صحيح البخاري. لمحمد بن إسماعيل البخاري مع فتح الباري. تحقيق: الشيخ ابن باز - دار المعرفة، بيروت.
97- صحيح الترمذي. للألباني - الناشر: مكتب التربية العربية لدول الخليج، ط. 1408هـ.
98- صحيح ابن ماجة. للألباني - ط. الثالثة 1408هـ، الناشر: مكتب التربية العربية لدول الخليج.
99- صحيح مسلم بن الحجاج مع النووي. المطبعة المصرية بمصر.(1/310)
100- الصحيح المسند في أسباب النزول. لمقبل بن هادي الوادعي. دار ا لأرقم، الكويت، ط. الثانية.
101- صحيح النسائي. للألباني. ط. الأولى لسنة 1409هـ - الناشر: مكتب التربية العربي لدول الخليج.
102- الصواعق المرسلة الشهابية على الشبه الداحضة الشامية. لسليمان بن سحمان النجدي الحنبلي. تحقيق عبد السلام آل عبد الكريم - دار العاصمة، الرياض، ط. الأولى لسنة 1409هـ.
153- صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان. لمحمد بشير السهسواتي. تعليق: الأنصاري - مطابع نجد لسنة 1395هـ، ط. الخامسة.
(ض)
104- الضعفاء الصغير. للبخاري، ضمن المجموعة في الضعفاء والمتروكين. تحقيق عبد العزيز السيروان - دار القلم.
105- الضعفاء والمتروكون. لابن الجوزي، تحقيق: عبد الله القاضي - دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى لسنة 1406هـ.
106- الضعفاء والمتروكون. للدارقطني، ضمن المجموعة في الضعفاء والمتروكين. تحقيق: عبد العزيز السيروان - دار القلم.
107- الضعفاء والمتروكون. للدارقطني. تحقيق موفق بن عبد الله - مكتبة المعارف، الرياض.
108- الضعفاء الكبير. لأبي جعفر محمد بن عمر بن موسى العقيل. تحقيق: د. عبد المعطي قلعجي - دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى.
109- الضعفاء والمتروكون. للنسائي. تحقيق محمود إبراهيم زايد - دار الوعي، حلب، ط. الأولى لسنة 1396هـ.
(ط)
110- طائفة القاديانية. لمحمد الخضر حسين، ضمن مجموعة رسائل عن القادياني - الناشر: رابطة العالم الإسلامي.
111- طبقات الشافعية الكبرى. لتاج الدين بن عبد الوهاب السبكي. تحقيق: الحلور الطناحي - مطبعة الحلبي، مصر، ط. الأولى لسنة 1968م.
112- طبقات الشافعية. لجمال الدين عبد الرحيم الأسنوي، تحقيق عبد الله الجبوري، دار العلوم - الرياض ط. سنة 1400هـ.
113- الطبقات الكبرى. لعبد الوهاب الشعراني - المطبعة التوقيفية، مصر.(1/311)
114- الطبقات الصغرى. للشعراني. تحقيق عبد القادر أحمد عطا، ط. الأولى لسنة 1390هـ.
115- الطبقات في خصوص الأولياء الصالحين والعلماء والشعراء في السودان. لمحمد النور بن ضيف الله. تحقيق: د. يوسف فضل - دار جامعة الخرطوم للنشر، ط. الثالثة لسنة 1985م.
116- الطواسين. للحلاج. تحقيق لويس ماسيتون، ط. مكتبة المثنى، بغداد:
(ع)
117- العبر في خبر من غبر. للذهبي. تحقيق: محمد السعيد زغلول - دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى لسنة 1405هـ.
118- العجاب في بيان الأسباب. لابن حجر العسقلاني. تحقيق خالد السامرائي - مطبوع على الآلة الكاتبة.
119- عقيدة ختم النبوة. للدكتور: أحمد سعد حمدان، دار طيبة، الرياض، ط. الأولى لسنة 1405هـ.
120- العقيدة والشريعة في الإسلام. لأجناس جولد تسهير. ترجمة الدكتور محمد يوسف وآخرون.
121- علامات النبوة. لأحمد أبي بكر البوصيري. تحقيق أم عبد الله العسلي- مكتبة السوادي، جده، ط. الأولى لسنة 1411هـ.
122- العلل ومعرفة الرجال. لأحمد بن حنبل - الناشر د. طلعت نوح، د. إسماعيل جراح.
123- عمل اليوم والليلة. لابن السني. تحقيق: عبد القادر عطا - مكتبة الكليات الأزهرية، مصر، ط. سنة 1389هـ.
(ف)
124- الفتاوى الحديثية. لابن حجر الهيتمي، وبهامشه الدرر المنتثرة في الأحاديث المنتشرة. للسيوطي - المطبعة الميمنية، مصر، لسنة 1307هـ.
125- فتح الباري. لابن حجر العسقلاني - دار المعرفة، بيروت.
126- فتح القدير. للشوكاني. ط. الحلبي، لسنة 1351هـ.
127- فتح الكريم القريب شرح أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب. لمحمد بن أحمد بن عبد الباري الأهدل - مطبعة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، لسنة 1405هـ، ط. الأولى.
128- الفتوحات المكية. لابن عربي - دار صادر، بيروت. تحقيق: د. عثمان يحيى - الناشر: وزارة الثقافة والإعلام بمصر، لسنة 1392هـ.(1/312)
129- فصوص الحكم. لابن عربي. تعليق د. أبو العلاء عفيفي، دار الكتاب العربي بيروت، ط. سنة 1946م.
130- فصوص الحكم. لأبي نصر محمد بن طرخان الفارابي - طبعة المعارف، بغداد، ط. الأولى لسنة 1396هـ.
131- الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. لإسماعيل بن كثير. تحقيق وتعليق: د. محمد السعيد الخطراوي، ومحيي الدين مستو -دار ابن كثير، دمشق، بيروت- مكتبة دار التراث، المدينة المنورة، ط. السادسة لسنة 1413هـ.
132- الفوز الأكبر. لأبي علي أحمد بن مسكويه - دار مكتبة الحياء، لبنان.
133- في الفلسفة الإسلامية. منهج وتطبيق. د. إبراهيم مدكور - دار المعارف بمصر، ط. الثانية.
(ق)
134- القاديانية ثورة على النبوة المحمدية والإسلام. لأبي الحسن الندوي - الناشر: رابطة العالم الإسلامي بمكة، لسنة 1392هـ، ضمن مجموعة رسائل عن القاديانية.
135- القاديانية، دراسة وتحليل. لإحسان إلهي ظهير، ط. الأولى لسنة 1387هـ، الناشر: المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
136- القاديانية والاستعمار الإنجليزي. لعبد الله سلوم السامرائي - منشورات وزارة الثقافة والإعلام العراقية، لسنة 1981م.
137- القادياني والقاديانية، دراسة وتحليل. لأبي الحسن الندوي - الدار السعودية للنشر، جدة، الطبعة الثالثة، لسنة 1387هـ.
138- قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة. لابن تيمية. تحقيق د. ربيع بن هادي، ط. الأولى لسنة 1409هـ - مكتبة لينة، مصر.
139- القاموس المحيط. للفيروز آبادي. تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة - النشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، سوريا، ط. الثانية، لسنة 1407هـ.
140- القرب والتهاني في حضرة التداني. شرح الصلوات المحمدية للسادة الصوفية، ط. لسنة 1397هـ.
141- قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر. لمحمد أبي الهدى الصيادي الرفاعي - دار الكتب العلمية، بيروت، ط. الأولى لسنة.
(ك)(1/313)
142- الكامل في ضعفاء الرجال. لابن عدي - دار الفكر، بيروت، ط. الأولى لسنة 1404هـ.
143- كتاب المجروحين من الضعفاء والمتروكين. لابن حبان البستي. تحقيق محمد إبراهيم زايد - دار الوعي، حلب، ط. سنة 1395هـ.
144- كتاب المحكمة الشرعية الفيدرالية بجمهورية باكستان الإسلامية، تقرر أن القاديانية فئة كافرة - تعريب: محمد بشير، الناشر: حديث أكاديمي فيصل أباد باكستان.
145- الكنى والأسماء. لمحمد بن حماد الدولابي - المكتبة الأثرية، جامع أهل الحديث، باغوالي، ط. الثانية.
(ل)
146- لباب النقول في أسباب النزول. للسيوطي - دار إحياء العلوم، بيروت، لبنان.
147- لسان الميزان. لابن حجر - منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت، لبنان.
148- لسان العرب. لابن منظور، أعاده على الحرف الأول، يوسف خياط ونديم مرعشلي.
149- لطائف الأسرار. لابن عربي. تحقيق: أحمد زكي عطية، وطه عبد الباقي سرور - دار الفكر العربي، لسنة 1385هـ.
150- لمع برق المقامات العوالي في زيارة حسن الراعي وولده عبد العالي. لمصطفى البكري الخلوتي، ضمن شواهد الحق.
(م)
151- مجلة الجامعة الإسلامية. بالمدينة المنورة. السنة الحادية عشرة - العدد الثاني لسنة 1398هـ.
152- مجمع البحرين في زوائد المعجمين. للهيثمي. تحقيق: عبد القدوس نذير، ط. الأولى لسنة 1413هـ - مكتبة الرشد، الرياض.
153- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. لعلي بن أبي بكر الهيثمي - دار الكتاب العربي، بيروت، ط. الثانية لسنة 1967م.
154- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. للهيثمي - مكتبة القدس بالقاهرة، لسنة 1353هـ.
155- المجموع شرح المهذب. دار الفكر. وبذيله فتح العزيز شرح الوجيز. للرافعي، والتلخيص الحبير لابن حجر.
156- مجموع الفتاوى. لابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن محمد بن قاسم النجدي وابنه محمد - دار عالم الكتب، الرياض، لسنة 1412هـ.(1/314)
157- مختصر زوائد البزار على الكتب الستة. لابن حجر العسقلاني. تحقيق: صبري عبد الخالق - مؤسسة الكتب الثقافية، ط. الأولى لسنة 1412هـ.
158- المدخل إلى الصحيح. للحاكم النيسابوري. تحقيق: د. ربيع بن هادي - مؤسسة الرسالة، ط. الأولى لسنة 1404هـ.
159- المدينة الفاضلة للفارابي. تأليف: د. علي عبد الواحد وافي - الناشر: شركة مكتبات عكاظ، ط. الثانية لسنة 1404هـ.
160- المسألة القاديانية. لأبي الأعلى المودودي - دار القلم، الكويت، ط. لسنة 1389هـ.
161- المسألة القاديانية. طبعة أخرى، الناشر رابطة العالم ضمن المجموعة من الرسائل عن القاديانية.
162- المستدرك على الصحيحين. للحاكم النيسابوري - دار المعرفة، بيروت، وبذيله التلخيص للذهبي.
163- مسند الإمام أحمد بن حنبل وبهامشه منتخب كنز العمال. الناشر: دار الفكر العربي.
164- مسند الإمام أحمد بن حنبل. شرح أحمد شاكر - دار المعارف، مصر لسنة 1372هـ.
165- المسيح الناصري. لغلام أحمد القادياني - الناشر: أحد مطبوعات التبشير الأحمدية، ربوة باكستان، ط. الثانية.
166- مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. لرجب البرسي - مؤسسة الأعلمي، بيروت.
167- مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية. للخميني - مؤسسة الوفا، بيروت.
168- المعجم الفلسفي. مجمع اللغة العربية، مصر، عالم الكتب، بيروت.
169- المعجم الكبير. للطبراني. تحقيق حمد السلفي، ط. الأولى، بغداد.
170- معجم مصطلحات الصوفية. للدكتور عبد المنعم الحفني - دار المسيرة، بيروت، ط. الأولى لسنة 1400هـ.
171- معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية. للمُقَدّمِ: عاتق بن غيث البلادي - دار مكة للنشر، مكة المكرمة، ط. الأولى لسنة 1402هـ.
172- المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية بالقاهرة. 173- معجم المؤلفين. لعمر رضا كحالة، مكتبة المثنى - لبنان.
174- المغني. لابن قدامة - دار الكتب العلمية، بيروت. وبهامشه الشرح الكبير.(1/315)
175- المغني في الضعفاء. للذهبي. تحقيق: نور الدين عتر - (ليس به معلومات عن الناشر).
176- المفاخر العلية في المآثر الشاذلية. لأحمد بن عباد الشافعي - طبعة الحلبي، مصر، لسنة 1381هـ.
177- مفاهيم يجب أن تصحح. لمحمد علوي المالكي، ط. الأولى لسنة 1405هـ - دار الإنسان - القاهرة.
178- مقالات الكوثري. لمحمد زاهد الكوثري - مطبعة الأندلس بحمص، ط 1388هـ.
179- مقدمة ابن الصلاح وبهامشها التقييد والإيضاح. للعراقي - دار الحديث للطباعة، بيروت، ط. الثانية لسنة 1405هـ.
180- ملحق قصيدة البردة. كتبه: عبد الله الصديق الغماري، بذيل كتاب البوصيري مادح الرسول صلى الله عليه وسلم. لعبد العال الحمامصي - مكتبة الهداية، بيروت، ط. الثانية لسنة 1413هـ.
181- ميزان الاعتدال. لشمس الدين الذهبي. تحقيق علي محمد البجاوي - دار المعرفة، بيروت، ط. الأولى لسنة 1382هـ.
(ن)
182- النبوات لابن تيمية، تحقيق محمد عبد الرحمن عوض، الناشر دار الكتاب العربي - بيروت ط. الأولى لسنة 1405هـ.
183- نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام. للدكتور علي سامي النشار - دار المعارف، القاهرة، ط. السابعة لسنة 1977م.
184- النصيحة. المؤلف الجماعة الأحمدية - الناشر الجماعة الأحمدية، لندن.
185- نظرية المعرفة الإشراقية وأثرها في النظرة إلى النبوة. للدكتور إبراهيم هلال - الناشر: دار النهضة العربية، مصر، لسنة 1397هـ.
186- نقض المنطق. لابن تيمية. تصحيح محمد حامد الفقي - مكتبة السنة المحمدية، مصر.
187- النكت على كتاب ابن الصلاح. لابن حجر. تحقيق: د. ربيع بن هادي - مطبوعات المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة، ط. الأولى لسنة 1402هـ.
188- النكت والعيون. تفسير أبي الحسن الماوردي. تعليق السيد بن عبد المقصود - دار الكتب العلمية، بيروت.(1/316)
189- النور المحمدي بين هدى الكتاب المبين وغلو الغالين. عدَّاب الحمش دار حسان، الرياض، دار الأماني، الرياض، ط. الأولى لسنة 1407هـ.
190- النور من كلمات أبي طيفور. لأبي الفضل الفلكي، ضمن كتاب شطحات الصوفية للدكتور عبد الرحمن بدوي.
(هـ)
191- الهداية الربانية في فقه الطريقة التجانية. لمحمد السيد التجاني - الناشر: مكتبة مضوي، ود مدني، السودان.
(و)
192- الواسطة بين الحق والخلق. لابن تيمية، راجعها محمد جميل زينو، ط. الجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة، ط. الأولى.
193- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان. لأحمد بن خلكان. تحقيق: د. إحسالت عباس - دار صادر، بيروت.
(ي)
194- يحيى بن معين وكتابه التاريخ. تحقيق د. أحمد محمد نور سيف - طبعة جامعة الملك عبد العزيز، بجدة، ط. الأولى لسنة 1399هـ.
تم بحمد الله...
فهرس الموضوعات
أصل الكتاب:…2
المقدمة:…3
أهمية الموضوع:…11
أهداف البحث وأسباب اختياري له:…13
خطة البحث:…14
منهجي في البحث:…19
المدخل إلى الموضوع:…27
الخصائص:…28
التعريف بالخصائص النبوية:…29
أقسام الخصائص النبوية:…29
مظان الخصائص:…32
المصطفى:…38
الغلو:…39
الجفاء:…40
الباب الأول:…42
الخصائص النبوية الصحيحة…42
الفصل الأول خصائص النبي صلى الله عليه وسلم دون جميع الأنبياء…42
المبحث الأول: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم دون جميع الأنبياء عليهم السلام في الحياة الدنيا:…43
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن آيته العظمى في كتابه:…43
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بتعهد الله تعالى بحفظ الكتاب المنزل عليه:…47
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن كتابه مشتمل على ما اشتملت عليه الكتب السابقة وفُضِّل بالمفصل:…49
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بخواتيم سورة البقرة:…51
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن في كتابه الناسخ والمنسوخ:…52
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بكونه خاتم النبيين:…54(1/317)
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بإرساله إلى الثقلين:…55
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر بالرعب مسيرة شهر وجعلت له الأرض مسجداً وطهوراً وأحلت له الغنائم:…57
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بيوم الجمعة:…60
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بنداء الله تعالى له بأعزّ أوصافه:…62
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى نهى الناس أن ينادوه باسمه العلم:…64
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن السماء حُرست بمبعثه:…65
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى أقسم بحياته:…66
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن أدلّه تعالى تولى الدفاع عنه مما رماه به قومه:…67
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى قدّمه على جميع أنبيائه في الذكر في أغلب آيات القرآن:…68
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بإمامة الأنبياء في بيت المقدس:…69
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بانشقاق القمر آية له:…71
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن من معجزاتة ما هو أظهر في الإعجاز من معجزات غيره:…72
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بحنين الجذع إليه:…74
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بتسليم الحجر عليه قبل البعثة:…75
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بعث رحمة للعالمين:…76
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى جمع له من مراتب الوحي مراتب عديدة:…79
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الميثاق له من جميع الأنبياء بالإيمان به ونصرته:…84
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن أهل الكتاب لهم علم به:…85
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بكونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب:…85
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أوتي مفاتيح خزائن الأرض:…87
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى جمع له بين القبلتين:…88
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى أحلّ له مكة ساعة من نهار:…90(1/318)
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ الدجال لا يدخل بلدتيه:…90
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الطاعون لا يدخل مدينته:…91
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الصلاة في مسجده أفضل من ألف صلاة:…92
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن ما بين بيته ومنبره روضة من رياض الجنة وأنَّ منبره على حوضه:…93
المبحث الثاني خصائص النبي صلى الله عليه وسلم دون جميع الأنبياء عليهم السلام في الحياة الآخرة:…95
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أول من تنشق عنه الأرض وبإعطائه لواء الحمد وأول من يدخل الجنة يوم القيامة:…95
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى يبعثه يوم القيامة مقاماً محموداً:…96
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد ولد آدم يوم القيامة ويفتح الله عليه من المحامد ما لا يفتحه على غيره وأن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر:…97
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أول شفيع في الجنة وأول من يقرع بابها:…102
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أكثر الأنبياء تابعاً يوم القيامة ويدخل من أمته الجنة سبعون ألفاً بغير حساب:…103
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أمته على الأمم يوم القيامة:…105
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة على أمته بإبلاغ الرسالة:…107
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أول من يجوز الصراط من الرسل بأمته:…107
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة الوسيلة:…108
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بإعطائه الكوثر:…109
الفصل الثاني: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته وقد يشاركه فيها الأنبياء أو بعضهم:…112
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بوجوب محبته:…112
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأن الله تعالى عصمه من الناس:…114
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بإسلام قرينه:…116(1/319)
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأن من كذب عليه متعمداً مختلف في كفره:…120
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأنه لا يحل لأحد أن يرفع صوته فوق صوته صلى الله عليه وسلم:…122
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأنه تنام عينه ولا ينام قلبه:…123
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأنه يرى من وراء ظهره كما يرى أمامه:…124
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأنه يسمع ما لا يسمعه الناس:…126
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بطيب عرقه وريحه ولين مسه:…127
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بتفضيل نسائه على سائر النساء:…128
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأن أزواجه اللاتي توفي عنهنّ محرمات على غيره أبداً:…130
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأنه يوعك في مرضه كما يوعك الرجلان من أمته:…131
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بتخييره قبل قبضه بين الدنيا والآخرة:…132
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بدفنه في المكان الذي قبض فيه:…133
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته بأن الأرض لا تأكل جسده وعرض صلاة أمته عليه في قبره:…134
الباب الثاني…136
خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة…136
الفصل الأول: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة قبل وجوده:…136
المبحث الأول: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه أول النبيين في الخلق وأنه مرسل إلى جميع الأنبياء وأممهم:…137
المبحث الثاني: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه مخلوق من نور الله تعالى وأن الوجود كله مخلوق من نوره صلى الله عليه وسلم:…155
المطلب الأول: ذكر دليلهم والكلام عليه من جهة الثبوت:…156
المطلب الثاني: المفاسد العقدية المترتبة على هذا الحديث:…162
المصدر الهرمسي:…172
المصدر الأفلوطيني:…180
نظرية الفيض الأفلاطونية:…182(1/320)
المصدر الهندي:…187
نتيجة:…189
الخميني وشيوخه:…210
المبحث الثالث: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بتوسل الأنبياء به قبل وجوده:…218
التوسل المشروع:…266
المبحث الرابع: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة باستفتاح أهل الكتاب بحقه قبل وجوده:…271
الفصل الثاني: خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة في حياته البرزخية:…282
المبحث الثاني: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأن من زار قبره وجبت له شفاعته:…284
المبحث الثاني: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأن من حج حجة الإسلام وزار قبره وغزا غزوة وصَلّى عليه في بيت المقدس لم يسأله الله تعالى فيما افترض عليه:…308
المبحث الثالث: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بمحو الذنوب وعلم ما في اللوح المحفوظ والقلوب:…325
خصّ الغلاة النبي صلى الله عليه وسلم بمحو الذنوب وغفرانها:…330
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بعلم الغيب وعلم ما في الضمير واللوح المحفوظ:…355
المبحث الرابع: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه إليه الملاذ والمهرب في الشدائد والكرب فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى:…366
المبحث الخامس: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بأنه يُجيب الدعاء وترفع إليه أكف الضراعة:…372
خصّ الغلاة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما سبق من النصوص (بأنه يجيب الدعاء وترفع إليه أكف الضراعة:…374
المبحث السادس: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بخروج يده الشريفة من القبر لمصافحة أحمد الرفاعي:…386
المبحث السابع: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة برؤيته بعد موته في الحياة الدنيا يقظة لا مناماً:…393
المبحث الثامن: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم عند الغلاة بتلقين مشايخ الصوفية الأوراد وحضور حلق ذكرهم بعد موته يقظة لا مناماً:…417
الباب الثالث…434(1/321)
خصائص النبي صلى الله عليه وسلم عند الجفاة…434
الفصل الأول: رد خصيصة ختم النبوة بالنبي صلى الله عليه وسلم:…434
المبحث الأول: رد خصيصة ختم النبوة بالنبي صلى الله عليه وسلم عند الفلاسفة المنتسبين للإسلام:…435
المبحث الثاني: رد خصيصة ختم النبوة بالنبي صلى الله عليه وسلم عند القاديانية:…477
متنبىء القاديانية غلام أحمد:…480
تطاول القادياني على الرسول صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء:…503
ادعاء القادياني مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في خصوصية الختم به:…503
ادعاء القادياني أنه خاتم الأنبياء:…504
تكفير القاديانية للمسلمين:…506
القاديانية فئة كافرة:…510
أولاً: شهادة القرآن والسنة:…511
ثانياً: شهادة القادياني على نفسه بالكفر:…513
الفصل الثاني: تقديم الجفاة أولياءهم على النبي صلى الله عليه وسلم في الخصائص:…519
المبحث الأول: مشاركة أولياء الجفاة للأنبياء عليهم السلام في خصائصهم:…520
صور من زعم الجفاة مشاركة الأنبياء عليهم السلام في خصائصهم:…522
دعوى الوحي إلى أوليائهم بغفران ذنوبهم وهم أحياء:…522
زعمهم نزول موائد من السماء على أولياء الجفاة:…523
مساواة علي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم في الفضل عند الشيعة:…532
المبحث الثاني خصائص لأولياء الجفاة فاقت خصائص سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم():…535
يصلون في مكة المكرمة وهم في بلدانهم.!!!…536
دعواهم أن الكعبة تطوف بهم وتعانقهم:…537
تحملهم الشياطين فيمشون على الماء ويطيرون في الهواء:…541
دعوى ضمان الجنة وغفران الذنوب وحصول الرحمة لأتباعهم:…544
فريتهم منازعة ملك الموت وقهره ورد أرواح مريديهم منه بعد قبضها:…549
كذبهم أن الشيخ عبد القادر الجيلاني خلَّص مريده الذي لا يعرف الله تعالى من ملائكة العذاب:…553
سُخرت لهم الوحوش:…554
دعواهم أن أولياءهم يعلمون ما بالقلوب:…557
تُلبي الشياطين شهواتهم في الحال:…560(1/322)
يُعطون الأجنة في بطون الأمهات، وإن لم يُقدِّر الله ذلك (سبحانك هذا بهتان عظيم)…563
زعموا أن أولياءهم يقولون للشيء (كن) فيكون:…566
ب- يتصرفون في الكون في حياتهم وبعد مماتهم:…574
يتطورون بأشكال مختلفة:…580
خصائص انفرد بها بعضهم:…582
المبحث الثالث: خصائص وأحوال لأولياء الجفاة فارقت هدي النبي صلى الله عليه وسلم:…584
خصائصهم في الصيام:…584
خصائصهم في القيام:…589
انقطاعهم عن الخلوات والفلوات:…592
خصائصهم في الزهد والورع:…595
أولياء الله تعالى عقلاء ليسوا مجانين:…598
مفاسدهم الأخلاقية:…607
مجمل الفروق بين آيات الأنبياء وكرامات الصالحين وخوارق الشياطين():…613
الخاتمه…624
فهرس المصادر والمراجع…629
فهرس الموضوعات…667(1/323)