مكتب المشرف العام
القسم العلمي
جزيرة العرب بين التشريف والتكليف
إعداد القسم العلمي
مشاركة أ.د ناصر بن سليمان العمر
المشرف العام على موقع المسلم
www.almoslim.net
ضمن أوراق
البعد الرسالي لمجلس التعاون الخليجي
بإشراف مركز البحوث والدراسات
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
بدولة قطر
نشر في رمضان 1423- نوفمبر 2002م
جزيرة العرب بين التشريف والتكليف
أولاً: الإرث الحضاري التاريخي لجزيرة العرب:
إن لأهل الجزيرة العربية(1) ثروة تاريخية ثرة، وإرث حضاري يمتد عبر قرون بعيدة وأزمنة مديدة، يجب أن يستلهموا منه دروساً، وأن يأخذوا منه عبراً، للمضي بحضارتهم ورسالتهم قُدماً.
فجزيرة العرب بها أم القرى، وبيت الله الحرام، ومدينة النبي، ومسجده عليه الصلاة والسلام، وما بين البيت إلى المنبر، روضة من رياض الجنة(2):
بطيبة رسمٌ للرسول ومعهد منيرٌ
و قد تعفو الرسوم وتهمد
ولا تمحي الآيات من دار حرمة
بها منبر الهادي الذي كان يصعد
و واضح آيات و باقي معالم
وربع له فيه مصلى ومسجد
__________
(1) قال سماحة الشيخ بكر أبو زيد –حفظه الله- : "فيحدها غرباً بحر القلزم -والقلزم مدينة على طرفه الشمالي ويقال بحر الحبشة وهو المعروف الآن باسم البحر الأحمر، ويحدها جنوباً بحر العرب ويقال بحر اليمن، وشرقاً خليج البصرة الخليج العربي، والتحديد من هذه الجهات الثلاث بالأبحر المذكورة محل اتفاق بين المحدثين والفقهاء والمؤرخين والجغرافيين وغيرهم... و يحدها شمالاً ساحل البحر الأحمر الشرقي الشمالي وما على مُسامَتتِهِ شرقاً؛ من مشارف الشام وأطراره [الأردن حالياً] ومنقطع السماوة من ريف العراق، والحد غير داخل في المحدود هنا" خصائص جزيرة العرب ص17-18 باختصار يسير. الطبعة الثانية 1418 دار ابن الجوزي.
(2) انظر صحيح البخاري حديث رقم 1195، وصحيح مسلم حديث رقم 1390.(1/1)
به حجرات كان ينزل وسطها
من الله نور يستضاء و يوقد
معارف لم تطمس على العهد آيها
أتاها البلي فالآي منها تجدد
وفيها كان الخلفاء الراشدون، والأنصار والمهاجرون، وبها عقدت رايات المسلمين، وقويت أمور الدين، وأيضاً فإن فيها المناسك والمشاعر، والمواقيت والمناحر:
إذا هَزَّنا الشوقُ اضطربنا لهزه
على شُعُبِ الرحل اضطراب الأراقم
فمن صبواتٍ تستقيم بمائلٍ
ومن أريحيات ٍ تهُبُ بنائمِ
وأَسْتَشْرِفُ الأَعْلامَ حتى يدلني
على طيبها مَرُّ الرياحِ النواسمِ
وهل أنسم الأرواح إلاّ لأنها
تَهبُ على تلك الربى و المعالمِ؟
كما أنها جزيرة شِعرية، ذكرها الفحول في دواوينهم، فدرسها الشُرَّاح في مصنفاتهم، فإذا قرأتها وجدت زمزم و الحطيم، ودداً و أشداخ، ومدافع الريان، وشماريخ رضوى، وبرقة ثهمد، وحومانة الدراج ، وتقادمت فالجبس فالسوبان، وهجر وجواثا، وإضم والجواء، وتهامة والحجاز، والعروض واليمن، واليمامة والرميصاء بل أرض نجد كلها:
وإني وإن فارقت نجداً وأهله
لمحترق الأحشاء شوقاً إلى نجدِ
أروح على وجدٍ وأغدو على وجدٍ
وأعشق أخلاقاً خلقن من المجدِ
آخر:
أقول لصاحبي والعيس تخدي
بنا بين المنيفة فالضمار
تمتع من شميم عرار نجد
فما بعد العشية من عرار
ألا يا حبذا نفحات نجد
ورياً روضه غب القَطار
(وربك) إذ يحل الناس نجداً
وأنت على زمانك غير زار
شهور ينقضين و ما شعرنا
بأنصَاف لهنَّ ولا سرار(1/2)
ولو استطردنا بذكر شيء مما ورد في أشعارهم لطال المقال(1)، فأي دار من ديارها ما وقفوا عليها؟ وأي أطلال دوارس ماهز بعضهم شوق إليها، وحسبك قول عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم ... أم هل عرفت الدار بعد توهم؟
و فوق ذلك تجد في تلك المصنفات ذكر عشائر الجزيرة وقبائلها وخصائصهم، وأمور دقيقة متعلقة بهم.
__________
(1) انظر في ذلك مثلاً صفة جزيرة العرب للحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني ص 319 وما بعدها. طبعة دار اليمامة 1397 بتحقيق محمد بن علي الأكوع الحوالي.(1/3)
وفضلاً عن ذلك فقد كان للحضارات القديمة فيها شأن عظيم بل إن أول الحضارات البشرية قامت بها وأَهَلتْها وذلك لمّا بنى آدم عليه السلام بيت الله الحرام(1) فكان أول بيت وضع للناس ببكة مباركاً، وقد ذكر العليم الحكيم في القرآن الكريم عن حضارات الجزيرة العربية ما لم يذكره عن غيرها من الأمم والحضارات التي قامت في شتى البلدان والأقاليم فسادت ثم بادت.
__________
(1) ذكر ابن حجر في الفتح أقوالاً في أول من بنى البيت فذكر آدم والملائكة وشيث ابن آدم، ثم قال والأول أثبت، قال السيوطي في شرح سنن النسائي عند تعليقه على حديث:" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أَيّ مَسْجِد وُضِعَ أولاً؟ قال: (المسجد الحرام). قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصى). قُلْت: وكم بينهما؟ قال: (أَرْبَعُونَ عَامًا) قال القرطبي: فيه إشكال، وذلك أن المسجد الحرام بناه إبراهيم عليه السلام بنص القرآن, والمسجد الأقصى بناه سليمان عليه السلام، كما أخرجه النسائي من حديث ابن عمر، وسنده صحيح، وبين إبراهيم وسليمان أياماً طويلة، قال أهل التاريخ أكثر من ألف سنة. قال: ويرتفع الإشكال بأن يقال: الآية والحديث لا يدلان على بناء إبراهيم وسليمان -لِما بينّا- ابتداء وضعهما لهما, بل ذلك تجديد لما كان أسسه غيرهما وبدأه، وقد روي: أول من بنى البيت آدم، وعلى هذا فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاماً. انتهى. قُلْت: بل آدم نفسه هو الذي وضعه أيضاً، قال الحافظ ابن حجر في كتاب التيجان لابن هشام: إن آدم لمّا بنى الكعبة أمره الله –تعالى- بالسير إلى بيت المقدس, وَأَنْ يَبْنِيَهُ فَبَنَاهُ وَنَسَكَ فِيهِ" كتاب المساجد باب ذكر أي مسجد وضع أولاً، حديث رقم 689، سنن النسائي بشرح السيوطي 2/362، الطبعة الخامسة لدار المعرفة، 1420.(1/4)
ألا ترى أن جزيرة العرب، أرض معجزات نبوية، ومجال رسالات سماوية ، ففيها بلد سبأ، وسدُّ مأرب، وعرشٌ عظيم، وبئرٌ معطلة، وقصر مشيد، بل سائر بلاد عاد؛ إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي، وأصحابُ الرس، وأصحاب الأيكة، وأصحاب الأخدود، وقبر هود، ودعوة إبراهيم، وحجر صالح، ومدين شعيب، ومرتع إسماعيل، وملجأ موسى، ومهد محمد -صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين- ومثواه:
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد(1)
ثم كانت أرض الجزيرة وطاءً لخير القرون وأديمها لحافاً لجُلِّهم بعد أن غيبوا تحت أطباق ثراها.
وشتان شتان بين قبر لأبي بكر وعمر، وآخر لخوفو وخفرع! بون واسع وفرق شاسع بين روضة من رياض الجنة وحفرة من حفر النار:
لئن تطاول بالأهرام منهزم ... ... فنحن أهرامنا سلمان أو عمر
ومع هذا كله فأرض الجزيرة العربية تشتمل على حدود جليلة، وكُوَرٍ جسيمة، فهي من أمد الأقاليم مساحة، وأفسحها ساحة، وأعظمها حرمة، وأشرفها مدناً، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ...)(2).
لحكمة ٍ بالغة ٍ قضاها ... يستوجب الحمد على اقتضاها
__________
(1) البيت من مرثية حسان –رضي الله عنه- التي مطلعها: بطيبة رسم للرسول ومعهد.
(2) القصص: 68.(1/5)
وقد فضل جزيرة العرب على ما سواها جمع ممن عنوا بالأقاليم والبلدان. قال الهمداني: "أفضل البلاد المعمورة من شق الأرض الشمالي إلى الجزيرة الكبرى ... وتسمى جزيرة العرب"(1)، وقال القلقشندي: ".. بجزيرة العرب الواقعة في أواسط المعمورة وأعدل أماكنه وأفضل بقاعه، حيث الكعبة الحرام .."(2)، قال المقدسي في أحسن التقاسيم: "وهي أمد الأقاليم مساحة، وأفسحها ساحة، وأفضلها تربة، وأعظمها حرمة، وأشرفها مدناً"(3).
فجزيرة العرب من أفضل البلاد وأشرفها قال الشيخ بكر أبوزيد: "كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، ولهذه الجزيرة جملة أسماء؛ كلها مضافة إلى العرب لا غير"(4) وذكرها: [جزيرة العرب]، و[أرض العرب]، و [بلاد العرب]، و[وديار العرب]، و[الجزيرة العربية]، و[شبه جزيرة العرب]، [وشبه الجزيرة العربية].
ومما يدل على شرفها أيضاً كثرة ما صنف فيها، وقد أشار الشيخ بكر إلى شيء منها، ومما كُتب زيادة على ما ذكر(5)، والشأن هنا أيضاً في ذكر المؤلفات المفردة عن هذه الجزيرة على اختلاف مقاصد المؤلفين:
جزيرة العرب للأصمعي، يذكره من ترجم له.
جزيرة العرب لأبي سعيد السيرافي، ذكره الباباني في هدية العارفين، وغيره.
جزيرة الإسلام للشيخ سلمان العودة، مطبوع، وما يليه كذلك.
جزيرة العرب مهد الحضارة الإنسانية، لمحمد معروف الدواليبي.
مرآة جزيرة العرب، لأبي أيوب صبري باشا.
__________
(1) صفة جزيرة العرب ص3، للهمداني.
(2) نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص15، لأبي العباس أحمد القلقشندس، طبعة دار الكتاب المصري مع دار الكتاب اللبناني، بتحقيق إبراهيم الأبياري.
(3) أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ص38، للمقدسي.
(4) انظر خصائص جزيرة العرب للشيخ بكر أبو زيد ص15، ومن أسمائها كذلك ما ذكره الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب ص3؛ ألا وهو [الجزيرة الكبرى] وقد مضى نصه.
(5) انظر خصائص جزيرة العرب لفضيلة الشيخ بكر أبو زيد –حفظه الله- ص12.(1/6)
السكان والاقتصاد والعمل قبل قرن في جزيرة العرب، أحمد اليحيى.
جغرافية شبه جزيرة العرب، لمحمود أبو العلا.
جغرافية جزيرة العرب، لعمر رضا كحالة.
رحلات في شبه جزيرة العرب، لجون لويس بوركهات.
جزيرة العرب قبل الإسلام، لبرهان الدين دلو.
تاريخ جزيرة العرب القديم وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، لعبدالله العثيمين.
وفود القبائل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتشار الإسلام في جزيرة العرب، لحسن جبر.
جزيرة العرب: مصير أرض وأمة، لمحمد ولد داداه.
شبه جزيرة العرب، لمحمود شاكر، وهو مجموعة كتب جعل لكل قسم أو أقسام منها كتاباً.
أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ: جزيرة العرب، لمحمد عبدالهادي، وفاء محمد.
صور من شمالي جزيرة العرب: في منتصف القرن التاسع عشر، لجورج أوغست، ترجمة سمير الشبلي.
أرض المعجزات: رحلة في جزيرة العرب، لعائشة عبدالرحمن.
جزيرة العرب في العصر الحديث، لصلاح العقاد.
الجزيرة العربية: موطن العرب ومهد الإسلام، لمصطفى مراد الدباغ.
لمحات عن تطور الفكر في جزيرة العرب في القرن العشرين، لفهد المبارك.
جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة.
النهضات الحديثة في جزيرة العرب، لمحمد عبدالله ماضي.
مشاهداتي في جزيرة العرب، لأحمد حسين.
اكتشاف جزيرة العرب: خمسة قرون من الحضارة والعلم، جاكلين بيرين، ترجمة قدري قلعجي.
دراسات عن تاريخ الخليج العربي والجزيرة العربية، لصباح إبراهيم الشيخلي.
وقد أغفلنا شيئاً مما كتب في جيولوجيتها وتضاريسها للاكتفاء بما ذكر، أما التسجيلات المرئية، والندوات، وما كتب في المجلات من مقالات متخصصة عن الجزيرة العربية فأكثر من أن تحصر، ولا أطيل بسرد بعضها ففيما سبق غنية وكفاية.
جزيرة العرب بين التشريف والتكليف 2-6
ثانياً: جزيرة العرب وعلاقتها بفضل العرب:
سل المعاني عنا إننّا عرب
شعارنا المجد يهوانا ونهواه
هي العروبة لفظ إن نطقت به(1/7)
لقد قرر أهل العلم أن العرب هم "رأس الأمة وسابقوها إلى المكارم"(1) فهم "أفضل من العجم"(2) بل "أفضل من غيرهم"(3) بل "أفضل الأمم"(4) قاطبة،قال شيخ الإسلام: "ولهذا ذكر أبومحمد حرب بن إسماعيل بن خلف الكرماني صاحب الإمام أحمد في وصفه للسنة التي قال فيها: هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها: وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم، فكان من قولهم أن الإيمان قول وعمل ونية، وساق كلاما طويلاً إلى أن قال: ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها ونحبهم، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حب العرب إيمان وبغضهم نفاق) ولا نقول بقول الشعوبية وأراذل الموالي، الذين لا يحبون العرب، ولا يقرون بفضلهم، فإن قولهم بدعة وخلاف. ويروون هذا الكلام عن أحمد نفسه، في رسالة أحمد بن سعيد الأصطخري عنه إن صحت، وهو قوله وقول عامة أهل العلم"(5) وقال الكرماني أيضاً: "فالعرب أفضل الناس، وقريش أفضلهم، هذا مذهب الأئمة وأهل الأثر والسنة.."(6)
__________
(1) نوادر الأصول في أحاديث الرسول ص106، لمحمد بن علي الحكيم الترمذي، طبعة المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
(2) انظر تفسير القرطبي 1/141.
(3) السابق 4/263.
(4) انظر تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 9/379، لمحمد بن عبدالرحمن المباركفوري، طبعة دار الكتب العلمية.
(5) اقتضاء الصراط المستقيم 1/148، لشيخ الإسلام ابن تيمية. وانظر كذلك ص156، وقد نسب القول بفضل العرب للجمهور في منهاج السنة النبوية 4/599.
(6) انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير 4/515، لعبد الرؤوف المناوي، الطبعة الأولى للمكتبة التجارية الكبرى.(1/8)
قال شيخ الإسلام: "(إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة) الحديث، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح وهذا يقتضي أن إسماعيل وذريته صفوة ولد إبراهيم، فيقتضي أنهم أفضل من ولد إسحق، ومعلوم أن ولد إسحق الذين هم بنو إسرائيل أفضل العجم، لما فيهم من النبوة والكتاب، فمتى ثبت الفضل على هؤلاء فعلى غيرهم بطريق الأولى"(1) وقال قبلها: "فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة: اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم...وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم بمجرد كون النبي صلى الله عليه وسلم منهم، وإن كان هذا من الفضل بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك ثبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفضل نفسا ونسبا وإلا لزم الدور"(2)، وقد وضع المصنفون كُتباً وأجزاء في الدليل على فضل العرب فلتراجع(3).
__________
(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم، لشيخ الإسلام بن تيمية، 1/154، الطبعة الثانية لمطبعة السنة المحمدية بالقاهرة.
(2) السابق 1/148.
(3) لابن القيم -رحمه الله- فصل في الدليل على فضل العرب، وللمقدسي مسبوك الذهب في فضل العرب وشرف العلم على شرف النسب، وللهيتمي مبلغ الأرب في فخر العرب، اختصره الهيتمي من كتاب حافل للحافظ العراقي.(1/9)
وسر تفضيل العرب على من سواهم، هو ما تميزوا به من خصال حميدة، وأخلاق نبيلة ، كما قال الحكيم الترمذي: "فالعرب بالأخلاق شرفوا، وإلاّ فالشجرة واحدة وهو خليل الرحمن"(1) وقال الشيخ بكر: "فالعرب هم حملة شريعة الإسلام إلى سائر المخاطبين بها ... لأنهم يومئذ قد امتازوا من بين سائر الأمم باجتماع صفات أربع لم تجتمع في التاريخ لأمة من الأمم، وتلك هي: جودة الأذهان، وقوة الحوافظ، وبساطة الحضارة والتشريع، والبعد عن الاختلاط ببقية أمم العالم"(2)، كما أنهم "أطوع للخير، وأقرب للسخاء، والحلم، والشجاعة، والوفاء ... أصحاب إباء لا يعرفون التزلف والنفاق وتحمل الاستبداد.. ومما تميز به العرب الصدق، حتى الذين كانوا يحاربون الإسلام ظهر صدقهم في أمور"(3). فيا لله كيف انتكست بعد ذلك الفطر وتغيرت العقول ففتن بعضنا بحضارة غربية قاصرة على جوانب قاصرة فيها ما فيها، واسْتَبْدَل -يوم اسْتَبْدَل- شرها بمكارم حضارة عريقة.
مولى المكارم يرعاها ويعمرها ... ... إن المكارم قد قلت مواليها
ولا يخفى على القارئ الكريم أن هذا التفضيل ينبغي أن يراعى عند النظر إليه أمران:
__________
(1) انظر نوادر الأصول في أحاديث الرسول، لأبي عبدالله الحكيم الترمذي ص96.
(2) خصائص جزيرة العرب ص61، للشيخ بكر أبو زيد. مع اختصار يسير.
(3) جزيرة الإسلام ص42-46، للشيخ سلمان بن فهد العودة، والنقل باختصار وتصرف يسير.(1/10)
الأول: أن النظرة هنا إلى طبائع الشعوب والأجناس مجردة عما تأثرت به من أمور خارجة عنها، فمن استصلح بالشرع والدين يفضل من سواه ويعلوه بقدر ما قام فيه من دين. ومَن فضّلَ العرب إنما فضلهم لمكارم الأخلاق التي اتصفوا بها، وجاءت الشرائع بتميمها، فإذا التزم الناس بالشرائع فلا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى، والأصل أن الناس معادن(1).
الثاني: أنه وصف عام وعند التفصيل ومقارنة الأفراد يشذ بعضهم، فقد تجد شخصاً من العجم يفضل بعض العرب في أخلاقه وصفاته، ولكن عند الإطلاق والتعميم فالعرب أفضل ممن سواهم.
__________
(1) جزء من حديث الصحيحين، انظر صحيح البخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) 3381، وصحيح مسلم رقم 2526.(1/11)
والشاهد من هذا التقرير هو أن البيئة التي يعيش فيها الإنسان، والأرض التي ينشأ عليها لها صلة وثيقة بأخلاقه وعاداته، وقد عرفت العرب هذه العلاقة منذ زمن بعيد، ولهذا كانوا يدفعون أولادهم إلى المراضع "لينشأ الطفل في الأعراب ، فيكون أفصح للسانه وأجلد لجسمه وأجدر أن لا يفارق الهيئة المعدية وقد قال - عليه السلام - لأبي بكر - رضي الله عنه - حين قال له: "ما رأيت أفصح منك يا رسول الله". فقال: (وما يمنعني ، وأنا من قريش ، وأرضعت في بني سعد ؟) فهذا ونحوه كان يحملهم على دفع الرضعاء إلى المراضع الأعرابيات . وقد ذُكِر أن عبد الملك بن مروان كان يقول أضر بنا حُب الوليد لأن الوليد كان لحّاناً، وكان سليمان فصيحاً; لأن الوليد أقام مع أمه، وسليمان وغيره من إخوته سكنوا البادية، فتعربوا، ثم أدبوا فتأدبوا"(1)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فرق بين من يتقلب في عيش لين الأعطاف رطب، وبين آخر تربى في بيئة شديدة وعرة، فذلل شظف العيش وركب صعبه، وقد قيل:
إنما الإسلام في الصحرا امتهد ... ليجيء كل مسلم أسد
فإذا شرف العرب لأخلاقهم وصفاتهم فالبيئة [الجزيرة العربية] هي التي ساعدت في صنع كثير من تلك الأخلاق والخصال التي تميز بها العرب(2)، ولهذا كانت الجزيرة العربية أفضل من غيرها.
وإني وإن فارقت نجداً وأهله
أروح على وجدٍ وأغدو على وجدٍ
لمحترق الأحشاء شوقاً إلى نجدِ
وأعشق أخلاقاً خلقن من المجدِ
جزيرة العرب بين التشريف والتكليف 3-6
ثالثاً: تعلق العرب في شتى الأمصار بأرض الجزيرة:
__________
(1) انظر الروض الأنف، لعبدالرحمن بن عبدالله السهيلي، شرح حديث الرضاع 1/188، طبعة مكتبة الكليات الأزهرية.
(2) ذكر الشيخ بكر أبو زيد في كتابه خصائص الجزيرة ص63-66 ستاً وعشرين ميزة للعرب وجزيرتهم نقلاً عن كتاب أم القرى فلتراجع.(1/12)
ولا يخفى على القارئ الكريم أن العرب الأصليين الذين تفرقوا في شتى الأمصار أصولهم من الجزيرة العربية وإن بَعُد العهد، وهذا ما قرره من عنوا بالتقاسيم والأقاليم، وغيرهم من المحققين، قال القلقشندي: "اعلم أن مساكن العرب في ابتداء الأمر، كانت بجزيرة العرب"(1)، وهو قول المعاصرين من الباحثين في هذا الحقل، قال المقريزي: "و لا خلاف بيننا في أن هذه القبائل العربية التي ملأت الأقطار العربية على اتساع رقعتها، قد انبعث كلها بطبيعة الحال من مهدها الأول وهو شبه الجزيرة العربية"(2)، وقال: "وليس من شك في أن المستودع الأول في شبه الجزيرة العربية الذي أمد شطري الوادي بالعناصر العربية منذ عصور الجاهلية، هو نفسه الذي أمد بلاد المغرب كلها في أفريقية، وبلاد الشام والعراق في آسيا.."(3).
قال شيخ الإسلام :".. وفي هذه الأرض كانت العرب حين البعث وقبله فلما جاء الإسلام وفتحت الأمصار سكنوا سائر البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب وإلى سواحل الشام وأرمينية وهذه كانت مساكن فارس والروم والبربر وغيرهم ثم انقسمت هذه البلاد قسمين منها ما غلب على أهله لسان العرب حتى لا تعرف عامتهم غيره ... ومنها ما العجمة كثيرة فيهم أو غالبة عليهم .. فهذه البقاع انقسمت إلى ما هو عربي ابتداء وما هو عربي انتقالا وإلى ما هو عجمي وكذلك الأنساب ثلاثة أقسام قوم من نسل العرب وهم باقون على العربية لسانا ودارا أو لسانا لا دارا أو دارا لا لسانا وقوم من نسل العرب بل من نسل بني هاشم ثم صارت العربية لسانهم ودارهم أو أحدهما وقوم مجهولو الأصل لا يدرون أمن نسل العرب هم أو من نسل العجم وهم أكثر الناس اليوم "(4)
__________
(1) نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص51.
(2) البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب ص74، للمقريزي.
(3) السابق ص 95.
(4) اقتضاء الصراط المستقيم 1/166-167 باختصار.(1/13)
والمقصود أن أصول العرب في مشارق الأرض ومغاربها ترجع إلى الجزيرة العربية في كثير من الأحيان، وهذا بدوره يجعل للجزيرة العربية في كثير من القلوب مكاناً وقد قيل:
نَقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
ما الحب إلاّ للحبيب الأول
وحنينه أبد اً لأول منزل
وقبيح بنا وإن قدم العهد ... هوان الأباء و الأجداد
قبائل العرب وتواجدها في الجزيرة العربية في العصر النبوي
جزيرة العرب مهوى أفئدة المسلمين:
وعيرني الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة زائل عنك عارها
لمّا كانت الجزيرة مهبط الوحي وسابقة الأراضي للإسلام -فما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه سائر الجزيرة العربية(1)لمّا كان الأمر كذلك عظمت مكانة الجزيرة في قلوب المسلمين جميعاً عرباً وعجماً، ولاغرابة فهي التي مدت البقاع والأصقاع بالإسلام، فلا عجب إذا قرأت في بعض التراجم، عن بعض أهل العلم من الأعاجم، أنه كان: "واسع الاطلاع بشئون العالم الإسلامي، شديد التعلق بجزيرة العرب والحجاز والحرمين الشريفين، عميق الحق، شديد التعظيم للنبي -صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وأهل بيته- شديد الحب للعرب، يسوؤه ويؤلمه ذمهم وانتقاص حقهم وفضلهم، خبيراً بجغرافية الجزيرة العربية، ألف كتاباً باللغة العربية في هذا الموضوع في شبابه"(2).
وكيف لا يكون للمسلمين في المشارق والمغارب تعلق بها وهم يتوجهون تلقاءها في الخمسة الأوقات. وقد قال قائلهم إقبال:
__________
(1) انظر التماس السعد في الوفاء بالوعد للسخاوي ص3، وكذلك أسد الغابة لابن الأثير ص602 ترجمة حبة بن بعكك.
(2) نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر ص1917، لعبد الحي اللكنوي، والكلام هنا عن ابنه عبدالعلي بن عبدالحي.(1/14)
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم ... والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا ... بمسامع الروح الأمين فكبرا
وهذا التَعَلُّق نلحظه في كثير من العجم وبخاصة في شبه القارة الهندية، فتراهم يكبرون ويجلون من عرفوا أنه من أرض العرب، وهذا كثير فيمن عنوا بالشرع والدين، ولاسيما من لم يعش منهم بأرض الجزيرة، وأما من عاش فيها فكثير منهم تغيرت نظرته إما لاختلاف واقع أحفاد أبي بكر وعمر وسائر الصحابة- عمّا في مخيلته، أو نتيجة معاملة وأخلاقٍ ليست بأخلاق أهل هذه البلاد، ولكنها أخلاق حضارات وافدة فتحت لها الصدور فتطاير شررها واستشرى شرها.
جزيرة العرب بين التشريف والتكليف 4-6
رابعاً: جزيرة العرب ودعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام:
ومن مميزات جزيرة العرب التي جعلتها ذات حضارة رائدة متميزة، قيام دعوة إبراهيم عليه السلام بها:
هي الحنيفية عين الله تكلؤها ... فكلما حاولوا تشويهها شاهوا(1/15)
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(1) (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(2)، فاستجاب الله دعوته؛ وجعل في نسله من الأنبياء من يقوم بدعوة الحنيفية يحوطها ويرعاها ويتممها، فكان إسماعيل عليه السلام أبا العرب، ورسولهم، والمجدد الأول لملة إبراهيم -عليه السلام- وعن بنيه انتشرت بقايا الحنيفية في سائر أرجاء الجزيرة العربية، وصارت الحنيفية الديانة الرسمية لشبه الجزيرة العربية.
__________
(1) البقرة: 126.
(2) إبراهيم: 37.(1/16)
ولقد ظل العرب رواد حضارة نبوية مجيدة ردحاً من الزمن، ثم تقادمت بهم السنون، اندرست معالم حضارة التوحيد شيئاً فشيئاً، إلى أن جاء عمرو بن لحي الخزاعي واستورد عبادة الأصنام عن دين العماليق بأرض الشام(1)، قال صلى الله عليه وسلم: (رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار)(2)، وأورد "ابن إسحاق في السيرة الكبرى … أتم من هذا ولفظه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لأكثم بْن الْجَوْن: رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، لأنه أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان وسَيَّبَ السَّائِبَة وَبَحَّرَ الْبَحِيرَة وَوَصَلَ الْوَصِيلَة وَحَمَى الْحَامِي )"(3)، وقال و" قال هشام وحدثني أبي وغيره أن إسماعيل عليه السلام لما سكن مكة وولد بها أولاده فكثروا حتى ملئوا مكة ونفوا من كان بها من العماليق ضاقت عليهم مكة ووقعت بينهم الحروب والعداوات وأخرج بعضهم بعضا فتفسحوا في البلاد(4) والتماس المعاش فكان الذي حملهم على عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلاّ احتمل معه حجراً من حجارةِ الحرم، تعظيما للحرم وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالبيت حبا للبيت وصبابة به، وهم على ذلك يعظمون البيت ومكة ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ثم عبدوا ما استحسنوا ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم، واستخرجوا ما كان يعبد قوم نوح عليه السلام منها على إرث ما بقى من ذكرها فيهم، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل
__________
(1) انظر فتح الباري لابن حجر كتاب المناقب حديث رقم 3520، 6/669، طبعة دار السلام 1421.
(2) صحيح مسلم حديث رقم 2856.
(3) فتح الباري لابن حجر كتاب المناقب حديث رقم 3520باختصار يسير.
(4) في نهاية هذا المبحث خارطة تبين تواجد العرب في الجزيرة قبل البعثة ص14.(1/17)
يتنسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والحج والعمرة والوقوف على عرفة والمزدلفة وإهداء البدن مع إدخالهم فيه ما ليس منه"(1).
غير أنه بقيت فيهم قلة على الحنيفية مستقيمون، كأمثال زيد بن عمرو بن نفيل، قال ورقة بن نوفل -وهو كذلك من المتألهين قبل البعثة دارساً للكتاب- في رثائه:
رَشدت وأنعمت بن عمروٍ وإنما
بدَينِِك رباً ليس رب كمثله
تجنبت تنوراً من النار حامياً
وتركك أوثان الطواغي كما هيا
إلى قوله:
فأصبحت في دار كريم مُقامها
تُلاقي خليلَ الله فيها ولم تَكُنْ
وقد تُدرِك الإنسان رحمة ربه
تُعَلَلُ فيها بالكرامةِ لاهياً
من النّاس جباراً إلى النار هادياً
و لو كان تحت الأرض سبعين وادياً
وقد كان زيد يلتمس الحنيفية ملة إبراهيم، " فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان ونهى عن قتل الموءودة وقال أعبد رب إبراهيم ; وبادى قومه بعيب ما هم عليه"(2).
__________
(1) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 2/210، لابن القيم، بتحقيق محمد حامد الفقي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي1357.
(2) السيرة النبوية لابن هشام 1/253-254، الطبعة السابعة لدار الكتاب العربي 1420.(1/18)
وقد ثبت في صحيح البخاري "أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشأم يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم، فأخبرني. فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال: زيد ما أفر إلاّ من غضب الله ولا أحمل من غضب الله شيئا أبداً، وأنَّى أستطيعه؟ فهل تدلني على غيره قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً. قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا الله. فخرج زيد فلقي عالماً من النصارى، فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: ما أفر إلاّ من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا أبداً، وأنَّى أستطيع؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفاً. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله. فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم عليه السلام، خرج فلما برز رفع يديه فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم. وقال الليث كتب إلي هشام عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل قائما مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معاشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيي الموءودة يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها أنا أكفيكها مئونتها فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مئونتها"(1)
ومن المتألهين قبل البعثة أيضاً أمية بن أبي الصلت الثقفي وهو القائل:
إنَّ آيات ربنا ثاقباتٌ
كل دينٍ يوم القيامةِ عند اللـ
لا يماري فيهنَّ إلاّ الكفورُ
ــــــــــه إلاّ دين الحنيفة ِ بورُ
وكان يرى ما آل إليه حال أهل الكتاب من الضلال ومن ذلك قوله:
فرأى الله حالهم بمضْيَعٍ
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب المناقب، حديث رقم 3828.(1/19)
فسناها عليهمُ غادياتٍ
لابذي مَزْرَعٍ ولا مَثْمُورا
وترى مُزنهم خَلايا وخُورا
إلى آخر ما قال، غير أنه لم يسلم بعد البعثة النبوية حسداً من عند نفسه. وما مضى يدل على بقايا سمحة كانت عند العرب، صقلت أذهانهم وجلت أبصارهم ليروا زيغ النصارى واليهود وما آلو إليه.
والخلاصة أن دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بالإضافة إلى الجانب الروحي الذي عمرته بالعبادات التي شرعتها والشعائر والمناسك التي تركتها وبقيت آثارها إلى حين البعثة النبوية الشريفة، فقد أرست دعائم حضارة فذة، في مجالات الحياة كلها، وقد كان لها أثر كبير على العرب وما تميزوا به من كريم خصال وحسن أخلاق، فلئن كان في العرب صدق ووفاء فإن أباهم كان صادقاً، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً)(1)، ولئن كان في العرب صبر وجلد فإن أباهم قال عند الذبح (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(2)، ولئن كانوا يجيدون القتال والرمي بالنبال فإن أباهم كان رامياً(3)، ولئن كانوا فرساناً فإن أباهم أول من ذللت له الخيل(4)، ولئن كان فيهم كرم فجدهم مالبث أن جاء بعجل حنيذ.
ثم لمّا ضاعت هويتهم الحنيفية السمحة، ذهبت حضارتهم، وأمسوا في شر حال كل عام يرذلون، وبالمقابل فقد سطعت شمس القياصرة، وتأججت نار الأكاسرة.
جزيرة العرب قبل البعثة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام
جزيرة العرب بين التشريف والتكليف 5-6
__________
(1) مريم:54.
(2) الصافات: 102.
(3) في حديث البخاري وغيره: (ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً) انظر الصحيح كتاب الجهاد باب التحريض على الرمي حديث رقم 2899.
(4) انظر أخبار مكة 4/189، لمحمد بن إسحاق الفاكهي، الطبعة الأولى لمكتبة النهضة الحديثة 1407 بتحقيق عبدالملك بن دهيش.(1/20)
خامساً: جزيرة العرب ودعوة محمد عليه الصلاة والسلام:
جرت سنة الله القاضية بإهلاك المكذبين الظالمين، في أصحاب الحضارات السابقة من الأمم التي خلت في أرض الجزيرة. وذلك لمّا بطرت معيشتهم، وعتوا عن أمر ربهم، وتفاقم ظلمهم، (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ)(1)، (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ)(2)، (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ)(3) (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ لأعأَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ)(4)، (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ
__________
(1) الحج: 45.
(2) القصص:58.
(3) الأنبياء: 11- 15.
(4) الأعراف: 96 – 98.(1/21)
أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً)(1).
إن من سنن الله عزوجل في هذه الحياة أن جعل لكل بداية نهاية، فمع اليوم غداً، وبعد الحدث جدثاً، ولكل مولود يوم موعود، وهذه سنة الله في الذين خلو من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً، فكم من حضارة قامت وازدهرت ثم ما لبثت أن تبدلت وتبددت. ولكن جعل الله لهذه السنن أسباباً ونواميس وقوانين؛ حتى يسهم البشر في صنعها؛ في تقديمها و تأخيرها، بحسب علمهم وحلمهم. وحتى يكون الجزاء من جنس العمل، فيقال يداك أوكتا وفوك نفخ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
وهكذا لمّا اندرست معالم التوحيد في أرض الجزيرة وترك الناس ملة الحنيفية خلا نفر قليل، واجتالت الشياطينُ البشرَ فتاهوا بين وثنية جائرة، ومجوسية فاجرة، ويهودية مدمرة، ونصرانية حائرة، (وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلاّ بقايا من أهل الكتاب)(2). أمست حضارة العرب في حضيض وغدو في شر حال(3) وآذن الناس بهلاك، ولكن اقتضت رحمة الله أن ينبثق فجرٌ وأن يُبعث رسولٌ يخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ويهديهم إلى صراط مستقيم:
لمّا أطل محمدٌ زكت الربى ... واخضر في البستان كل هشيم
__________
(1) الطلاق: 8 – 10.
(2) جزء من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه وهو عند مسلم برقم 2865.
(3) عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: " لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل" رواه الإمام أحمد في المسند 2684 ومن الميمنية6/3، ورجاله ثقات قال ابن كثير في التفسير 3/331 وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه. وساقه الطبري بسنده في التفسير 19/53 من رواية محمد بن إسماعيل بن عياش عن أبيه، وراه ابن حبان في صحيحه 14/489 والطبراني في المعجم الكبير 20/253، والبخاري في الأدب المفرد 1/44.(1/22)
فألف الله به بين الشمل وجمع به بين القلوب وعصم به من كيد الشيطان.
واقتضت حكمته أن تكون أرض النبوة الخاتمة والرسالة العالمية الخالدة هي أرض الجزيرة العربية. ليبلغ أهلها رسالة ربهم إلى الناس كافة "فالعرب هم حملة شريعة الإسلام إلى سائر المخاطبين بها .. لأنهم يومئذ قد امتازوا من بين سائر الأمم باجتماع صفات أربع لم تجتمع في التاريخ لأمة من الأمم، وتلك هي: جودة الأذهان، وقوة الحوافظ، وبساطة الحضارة والتشريع، والبعد عن الاختلاط ببقية أمم العالم. فهم بالوصف الأول: أهل لفهم الدين وتلقيه. وبالوصف الثاني: أهل لحفظه، وعدم الاضطراب في تلقيه. وبالوصف الثالث: أهل لسرعة التخلق بأخلاقه، إذ هم أقرب إلى الفطرة السليمة... وبالوصف الرابع: أهل لمعاشرة بقية الأمم، إذ لا حزازات بينهم وبين الأمم الأخرى"(1).
ومن رعاية الله لهذه الجزيرة وأهلها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه سائرها.
ومن عناية النبي صلى الله عليه وسلم بها أنها كانت وصيته قبل موته عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ".. وأوصى عند موته بثلاث أخرجوا المشركين من جزيرة العرب .."(2)
وفي صحيح مسلم عن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً)(3). ومن ثمرة تلك الرعاية الإلهية والعناية النبوية ما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: )إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم(4).
__________
(1) خصائص جزيرة العرب ص61، للشيخ بكر أبو زيد. مع اختصار يسير.
(2) صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير باب هل يستشفع إلى أهل الذمة رقم 3053.
(3) صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب حديث رقم 1767.
(4) صحيح مسلم كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس. حديث رقم2812.(1/23)
ومن لطف الله بهذه الجزيرة وأهلها، أنه قصم فئاماً من الظالمين اعتدوا فيها، (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)(1)، (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ)(2)
الغدر أهلك عاداً في منازلها
من حمير حين كان البغي مجهرة
والبغي أفنى قروناً دارها الجُنْد
منهم على حادث الأيام فانجردوا
...
وهذه سنة الله الباقية..
فمن موعود الله لنا ما ثبت في حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم) قالت: "قلت يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم" قال: (يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم)(3)
ولا مجال هنا للحديث عن حضارة الإسلام وكم سادت من قرون وكيف انتكس أهلها لمّا تخلو عنها، فإن النهار لا يحتاج إلى دليل، والمعروف لا يعرف، وما كتب أكثر من أن يحصر.
بالله سَلْ خلف بحر الروم عن عرب
فإن تراءت لك الحمراء عن كثب
وانزل دمشق وخاطب صخر مسجدها
وطف ببغداد وابحث في مقابرها
أين الرشيد وقد طاف الغمام به
هذي معالم خرس كل واحدة
ماض نعيش على أنقاضه أَمَمَا
لا در در امرئ يطري أوائله
__________
(1) سورة الفيل.
(2) هود: 59 – 60.
(3) صحيح البخاري رقم 2118، ومسلم رقم 2882.(1/24)
بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا
فسائل الصرح أين المجد والجاه
عمن بناه لعل الصخر ينعاه
علَّ امرئ من بني العباسِ تلقاه
فحين جاوز بغداد تحداه
قامت خطيباً فاغراً فاه
ونستمد القوى من وحي ذكراه
فخراً ويطرق إن ساءلته ما هو؟
والحاصل أن لأهل هذه الجزيرة مقوم من مقومات ظهور حضارتهم ألا وهو أس الحضارة وأساسها ذلك هو الإسلام، الذي وطئ كل أرض فدخل كل قلب صالح. ولئن سمعنا بأن بعض الدول الإسلامية نسبة المسلمين إلى المائة فيها مئوية، فأي دولة أعجمية -أياً كانت حضاراتها- لاوجود لمسلم فيها؟ وهذا دليل على قوة حضارة الإسلام ونفوذها. وبيان جلي عملي يؤكد صلاحها لأي زمان وفي كل مكان.
والإسلام باق، والتجربة التاريخية في القيادة الحضارية شاهدة ماثلة، والمقومات المادية موجودة، فإذا جمعنا هذه الثلاث واستفدنا منها كانت حضارتنا الأجدر بالسيادة والريادة، كما كانت في سابق عهدها.
جزيرة العرب بين التشريف والتكليف 6-6
سادساً: وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون- ثم المراجع :
إن هذا القرآن شرف للعرب إذ نزل بلغتهم (قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ...)(1) (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً...)(2) (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً...)(3)، (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً...)(4).
__________
(1) الزمر: 28.
(2) يوسف: 2.
(3) الأحقاف: 12.
(4) الرعد: 37.(1/25)
وكيف لا يكون خطاب رب العالمين إلى كافة المكلفين عرباً وعجماً شرفاً للعرب، وقد جاء بلغتهم دون سواهم؟ (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ...)(1) قال القرطبي: "يعني القرآن شرف لك ولقومك من قريش إذ نزل بلغتهم وعلى رجل منهم نظيره: (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم) أي شرفكم فالقرآن نزل بلسان قريش وإياهم خاطب فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم كل من آمن بذلك فصاروا عيالا عليهم لأن أهل كل لغة احتاجوا إلى أن يأخذوه من لغتهم حتى يقفوا على المعنى الذي عنى به من الأمر والنهي وجميع ما فيه من الأنباء فشرفوا بذلك على سائر أهل اللغات ولذلك سمي عربيا"(2)
وعلى قدر التشريف يأتي التكليف، ولهذا قال بعدها (وَسَوْفَ تُسْأَلونَ)(3)، " أي عن هذا القرآن وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له"(4) فأفهم الناس له، ينبغي "أن يكونوا أقوم الناس به، وأعلمهم بمقتضاه وهكذا كان خيارهم وصفوتهم من الخلص من المهاجرين السابقين الأولين ومن شابههم وتابعهم"(5).
فمن قام بهذا التكليف استحق الذكر والتشريف، وبالمقابل من نبذ الرسالة وضيع الأمانة عاد عليه القعود عن التكليف بالتوبيخ والتعنيف، وكان معرضاً للوعيد والتهديد، ولعل من مناسبة قول الله عز وجل: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ) بعد قوله: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(6)، الإشارة إلى أن القعود عن القيام بالذكر ظلمٌ عاقبته وخيمة قصمت مدناً وقرى وحضارات أترفت فغدا أهلها حصيداً خامدين.
__________
(1) الزخرف: 44.
(2) تفسير القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 16/93، طبعة دار الكتاب العربي 1387.
(3) الزخرف: 44.
(4) تفسير ابن كثير 4/130، طبعة دار الفكر 1407.
(5) السابق 4/129.
(6) الأنبياء: 10.(1/26)
فواجب على أهل الجزيرة، منبع العرب، ومشرق الإسلام، أن ينهضوا بحضارتهم، وألا يغفلوا عن تبليغ رسالات ربهم، فقد آتاهم الله ما لم يؤت أحداً من العالمين، وفضلهم على كثير من المخلوقين، (أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)(1)، (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)(2)، ومن ينهض بالتكليف يناله حظه من التشريف، ولن ينسى التاريخ صلاح الدين، ومحمود بن سبكتكين.
لاهم قد أصبحت أهواؤنا شيعاً
راع يعيد إلى الإسلام سيرته
فامنن علينا براع أنت ترضاه
يرعى بنيه وعين الله ترعاه
حرر في
يوم الأربعاء 11/2/1423هـ
ثبت المراجع
البعد الرسالي لدول مجلس التعاون: المحور الأول
بالإضافة إلى القرآن الكريم وكتب السنة تم الرجوع إلى الكتب التالية:
الرقم
اسم الكتاب
المؤلف
الطبعة
ملاحظات
1.
خصائص جزيرة العرب
بكر أبوزيد
دار ابن الجوزي الطبعة الثانية 1418-1997
-
2.
جزيرة الإسلام
سلمان العودة
دار الوطن 1411
-
3.
صفة جزيرة العرب للهمداني
الهمداني
دار اليمامة 1397
بتحقيق محمد بن علي الأكوع الحوالي
4.
فتح الباري
ابن حجر
دار السلام 1421
-
5.
شرح سنن النسائي
السيوطي
دار المعرفة الطبعة الخامسة 1421
-
6.
نوادر الأصول في أحاديث الرسول
الحكيم الترمذي
المكتبة العلمية بالمدينة المنورة
-
7.
تفسير القرطبي
القرطبي
دار الكتاب العربي 1387
-
8.
تحفة الأحوذي
المباركفوري
دار الكتب العلمية- بيروت
-
9.
اقتضاء الصراط المستقيم
شيخ الإسلام
__________
(1) الأنعام: 89.
(2) الأنعام: 133.(1/27)
الثانية- مطبعة السنة المحمدية- القاهرة 1369
-
10.
منهاج السنة النبوية
،،
الأولى- مؤسسة قرطبة 1406
-
11.
فيض القدير
المناوي
الأولى- المكتبة التجارية الكبرى- 1356- مصر
-
12.
الروض الأنف
السهيلي
مكتبة الكليات الأزهرية
-
13.
نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب
القلقشندي
دار الكتاب المصري مع دار الكتاب اللبناني
بتحقيق الأبياري
14.
البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب
المقريزي
-
نقلاً عن موقع الوراق
15.
التماس السعد في الوفاء بالوعد
السخاوي
-
،،
16.
نزهة الخواطر وبهجة المسامع والناظر
اللكنوي
-
،،
17.
أسد الغابة
ابن الأثير
-
،،
18.
إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان
ابن القيم
مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1357
بتحقيق محمد حامد الفقي
19.
سيرة ابن هشام
ابن هشام
دار الكتاب العربي الطبعة السابعة 1420
-
20.
أخبار مكة
الفاكهي
مكتبة النهضة الحديثة الطبعة الأولى 1407
بتحقيق عبدالملك بن دهيش
21.
تفسير ابن كثير
ابن كثير
دار الفكر بيروت 1407
-(1/28)