مخطوطات المدينة المنورة
تنزيل السكينة على قناديل المدينة
لتقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي (756هـ)
( القسم الأول )
د. مصطفى عمار منلا
باحث ورئيس قسم المخطوطات والوثائق
بمركز بحوث ودراسات المدينة المنورة
كانت المدينة المنورة ، وما تزال مثار اهتمام المسلمين في كل مكان وزمان ، يُحركهم إليها حنينهم وأشواقهم عن بُعد ، ويَتحرك إيمانهم وينمو عن قُرب ، ولهذا تَجد أن عامة المسلمين وعلماءهم أحاطوا مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حباً وعلماً ومعرفةً ، فاهتموا بشؤونها ، واغتموا لشجونها ، وفرحوا لطمأنينتها ، وحزنوا لاضطرابها .
ومن مظاهر اهتمامهم بها كثرة تأليفهم عنها فما تركوا دقيقة من المسائل أو جليلة إلا وبحثوا فيها ، ومن هؤلاء العلماء :
شيخ الإسلام ، تقي الدين ، أبو الحسن ، علي بن عبد الكافي السُّبكي الشافعي ، ولد في سبك العبيد ، من أعمال المنوفية بمصر سنة 683هـ ، وتفقه على والده ، ثم دخل القاهرة فأخذ عن أكابر علمائها ، ورحل في طلب العلم ؛ فدخل الشام والإسكندرية والحجاز ، وأخذ عن كبار عصره، حتى صار علماً في الأصول والفقه والتفسير واللغة ، وغيرها , ولي قضاء الشام سنة 739هـ ، إلى سنة 742هـ، واعتل فعاد إلى القاهرة وعمل بالتدريس والتأليف ، وصنف كتباً كثيرة، استوفى ذكرها ابنه تاج الدين في كتابه طبقات الشافعية(1) ، توفي بمصر سنة 756هـ(2) .
من كتبه : تنزيل السكينة على قناديل المدينة ، صنفه يومي السبت والأحد الرابع والعشرين من شهر رجب الفرد عام أربعة وخمسين وسبعمائة بظاهر دمشق(3) .
__________
(1) طبقات الشافعية 6/146-226 .
(2) انظر ترجمته : طبقات الشافعية 6/146-226 ، حسن المحاضرة 1/177 ، غاية النهاية 1/551 ، الدرر الكامنة 3/63-71 .
(3) كما ذكر في آخر المخطوط .(1/1)
تحدث فيه عن حكم الهبة للمسجد ، وهل يَملك أم لا يَملك ؟ وحكم صرف القناديل الموقوفة على الكعبة ، وحكم تَحلية الكعبة والمساجد بالذهب والفضة .
وتطرَّق بعد ذلك لمسألة ثبوت الفضيلة في توسعة المسجد النبوي ، والمراد بالحجرة الشريفة ، ونقل الإجماع على تفضيل البقعة التي ضمت الأعضاء الشريفة .
يقول المؤلِّف في بداية المخطوط عن سبب تأليفه : (( وأنه بلغني أنه وقع الكلام في بيع القناديل الذهب التي بحجرته المقدسة التي هي على التقوى مؤسسة ، ليُصرف ثمنها في عمارتِها وعمارة الحرم ، فحصل لي من ذلك همٌّ وغمٌّ ، فأردت أن أكتب ما عندي في ذلك ، وأقدم حديثاً صحيحاً يكون في الاستدلال من أوضح المسالك )) .
واعتمد المؤلِّف فيما ذهب إليه من عدم جواز صرف القناديل والصفائح وما أوقف على الكعبة والحجرة والمساجد من ذهب أو فضة أو غيره على حديث أخرجه البخاري في صحيحه ، في باب كسوة الكعبة أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - همَّ أن لا يَدَعَ في الكعبة ذهباً ولا فضة إلا ويقسمها بين فقراء المسلمين ، فذكَّره شيبة بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لم يفعلا ذلك ، عندها قال عمر : ( هما المرآن أقتدي بهما ) .
ثم أورد نُقولاً عن أبي إسحاق الشَّيرازي والرافعي وإبراهيم المروروذي وابن بطال تعضد قوله في المسألة ، وعلل فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر الصديق - رضي الله عنه - ترك مال الكعبة بأنه يَجري مُجرى الأوقاف ، ولا يَجوز تغيير الأوقاف ، وفي ذلك تعظيم الإسلام وحرماته ، وترهيب العدو .
وأما بالنسبة للهبة للمسجد ، وأنه يَملك أو لا يَملك ؟ فذكر وجهين ، أصحهما الجواز .(1/2)
ثم ذكر مسألة خلافية بين الفقهاء في الوقف على المسجد ؛ هل هو وقف على المسلمين أو على مصالح المسجد ؟ ورجَّح أنه وقف على المسجد ، والكعبة لها اختصاص بذلك لقوله تعالى : { هَدْياً بَالِغَ الكَعْبَةِ } ، فما يُهدى إليها وما يُنذر لها وما يوجد فيها من الأموال لا يصرف في غيرها ، لا للفقراء ولا للحرم الخارج عنها المحيط بِها ، ولا لشيء من المصالح إلا أن تعرض لها نفسها عمارة أو نَحوها فحينئذٍ يُنظر ، فإن كانت تلك الأموال قد أُرصدت لذلك فتصرف فيه وإلا فتختص بالوجه الذي أُرصدت له ، ولا يغير شيءٌ عن وجهه . فالمرصد للبخور لا يصرف في غيره ، والمرصد للسترة لا يصرف في غيره ، والمرصد للعمارة لا يصرف في غيرها ، والمرصد للكعبة مطلقاً يصرف في جميع هذه الوجوه .
ويعود المؤلِّف للحديث عن الوقوف وأنه إذا علم حالها وكان عليه قرينة تدل عليها فتصرف على ما أُوقفت ، وأما القناديل والصفائح فتبقى على حالها ولا يصرف منها شيءٌ .
ثم ذكر أقوال المذاهب الأربعة في حكم تحلية الكعبة بالذهب والفضة وتعليق القناديل عليها ورجّح الجواز ، وردّ على أقوال المخالفين .
ثم تحدّث عن مسألتين ؛ الأولى : حكم كسوة الكعبة بالحرير ، وما يعمل بالكسوة إذا تلفت ، والثانية : حكم استعمال أواني الذهب والفضة ، وأثبت أنه لا يحرم استعمالها في غير الأكل والشرب .
ثم انتقل للحديث عن المدينة ومسجدها والحجرة الشريفة ، موضحاً أن مسجد المدينة أولى من غيره من المساجد بالتزيين ، وأما الحجرة الشريفة ( مكان المدفن الشريف ) فلها فضل آخر مختص بها يزيد شرفها به ، فالمدفن الشريف لا يشمله حكم المسجد الشريف ، بل هو أفضل من المسجد ، وأشرف من مسجد مكة ، وأشرف من كل البقاع ، ونقل الإجماع الذي حكاه القاضي عياض في ذلك .(1/3)
ثم عرَّج على مسألة توسعة المسجد النبوي ، وهل تثبت الفضيلة بالتوسعة أم أنَّها مُختصة بالقدر الذي كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - دون ما زيد فيه ، وممن رأى الاختصاص النووي للإشارة إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( مسجدي هذا )) .
وفي ختام الرسالة قرر المؤلِّف نتائج بَحثه وهي أن القناديل التي في الحجرة الشريفة لا تُمسُّ ، ولا حَقَّ فيها لأحد من الفقراء ، وأنه بعد تعليقها بوقف أو ملك بإهداء أو نذر أو هبة لا يَجوز إزالتها .
ثم ذكر حكم غير الكعبة والحجرة من الأماكن التي يهدى إليها ، أو ينذر لها ، ورجَّح بطلان النذر لما سوى الكعبة الشريفة والحجرة الشريفة والمساجد الثلاثة لعدم شهادة الشرع لها .
وفي آخر المخطوط أعاد المؤلِّف ذكر سبب تأليف هذا الكتاب ، وهو : أنه سُئل عن بيع القناديل الذَّهب التي بالحجرة المعظمة الشريفة ، وأن بعضهم قصد بيعها لعمارة الحرم الشريف النبوي ، فأنكر المؤلِّف ذلك واستقبحه .
فأمّا إنكاره ؛ فمن جهة الفقه ، لأن الواقف قصد وقفها لمنفعة خاصة وهي التَّزيين ، فبيعها للعمارة مفوت لهذا الغرض . وأما استقباحه فللسمعة السيئة التي يتركها هذا العمل في أقطار الأرض وعند الملوك حين يبلغهم أن المسلمين باعوا قناديل مسجد نبيهم لعمارة حرمه ، وهم يفدونه بأنفسهم فضلاً عن أموالهم.
ثم أورد المؤلِّف في الرسالة قصيدة من نظمه ، مطلعها :
نفسُ النَّبي لديَّ أغلى الأنفسِ ... فاتبعه في كل النوائبِ وائتسِ
حُقق الكتاب على نسختين خطيتين :
الأولى : من مخطوطات دار الكتب المصرية ، وتوجد صورة منها في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، برقم : 982 (ميكروفيلم) ، عدد أوراقها : 23 ، وعدد أسطرها : 19 . كُتبت بِخَطٍ نسخي حسن في عصر يوم الأربعاء ، الرابع من صفر سنة 825هـ . ونُقلت عن نسخة منقولة من نسخة المؤلِّف . مصححة ، عليها هوامش قليلة ، وقد جعلتها أصلاً .(1/4)
الثانية : من مخطوطات جامعة الملك سعود في الرياض، محفوظة برقم : 81 . عدد أوراقها : 18 ، وعدد أسطرها : 19 ، كُتبت بِخَطٍ نسخي حسن ، ونقلت عن نسخة بِخَطِ المؤلِّف ، وقُوبلت على النسخة المنقولة منها سنة 1220هـ ، متأثرة بالأرضة ، عليها هوامش وتعليقات بِخط مختلف ، ورمزت لها بنسخة: ب .
صورة الغلاف من نسخة الأصل
صورة الغلاف من نسخة (ب)
صورة الصفحة الأولى من نسخة الأصل
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن(1)
الحمد لله الذي أسعدنا بنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - سعادة لا تبيد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الولي الحميد ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، الهادي إلى كل أمر رشيد ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، صلاة تليق بجلاله لا تزال تعلو وتزيد ، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم المزيد ، وبعد :
فإن الله تعالى يعلم أن كل خير أنا فيه ومنَّ عليَّ به فهو بسبب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتجائي إليه واعتمادي في توسلي إلى الله في كل أموري عليه ، فهو وسيلتي إلى الله في الدنيا والآخرة ، وكم له عليَّ من نعم باطنة وظاهرة(2) .
__________
(1) في (ب) وبه ثقتي . بدل : رب يسر وأعن .
(2) في هذا النص أمران لا بد من التنبيه عليهما :
? ... كل خير ونعمة - باطنة وظاهرة - من الله سبحانه وتعالى ، ولا تنسب لغيره - عز وجل - ، فهو الخالق الرازق المنعم ، ومن الغلو المذموم في محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينسب المسلم ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهو عليه الصلاة والسلام بشر لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ، ونصوص الكتاب تدل على ذلك وتبينه في آيات كثيرة ، منها قوله سبحانه وتعالى : { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضرّاً إلا ما شاءَ الله ولو كنتُ أعلم الغيبَ لاستكثرتُ من الخير وما مسَّنيَ السوءُ } الأعراف : 188 ، وقوله : { قلْ إنَّما أدعو ربي ولا أشرك به أحدًا . قلْ إنِّي لا أملكُ لكم ضرًا ولا رشدًا . قلْ إنِّي لن يجيرني من الله أحدٌ ولن أجدَ من دونه ملتحدًا إلا بلاغاً من الله ورسالاته } الجن : 20-23 ، وقوله { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين . وإن يمسسك الله بضرٍّ فلا كاشفَ له إلا هو وإن يردْك بخيرٍ فلا رادّ لفضله } يونس : 106-107 ، وقوله : { قلْ إنَّما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليَّ أنَّما إلهكم إلهٌ واحدٌ فمنْ كان يرجو لقاءَ ربه فليعملْ عملاً صالحاً ولا يشركْ بعبادة ربه أحداً } الكهف : 110 .
? ... التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو بذاته ، أو بجاهه ، ليس له دليل من الكتاب أو السنة ، بل ثبت في السنة وفي الآثار عن السلف ما يدل على تركه ولو كان مشروعاً أو مستحباً لسبقونا إلى فعله .
? ... والذي دل عليه الدليل الصحيح من الكتاب والسنة النبوية مشروعية التوسل في ثلاث :
أ- توسل المؤمن بأسماء الله وصفاته ، ومنه قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } الأعراف : 180 .
ب-توسل المؤمن بالعمل الصالح كما في حديث الغار المشهور الذي رواه البخاري في الأدب ، باب إجابة دعاء من بر والديه ، برقم : 5974 .
ج- توسل المؤمن إلى الله تعالى بدعاء أخيه المؤمن ، ومنه حديث توسل الأعمى ؛ إذ توسل الأعمى بدعاء النبي لا بذاته كما في الواقعة ، ويدل على ذلك أن عمل الصحابة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بالتوسل به ولا بذاته ولا بجاهه ، وإنما استسقوا بدعاء العباس - رضي الله عنه - . وانظر لتفصيل ذلك كتاب ( التوسل والوسيلة ) لشيخ الإسلام ابن تيمية .(1/5)
[وإنه ](1) بلغني أنه وقع كلام في بيع القناديل الذهب التي بحجرته المقدسة ، التي هي على الخير والتقوى مُؤسسة ، ليُصرف ثمنها في عمارتها وعمارة الحرم ، فحصل لي من ذلك هَم وغَم ، فأردت أن أكتب ما عندي من(2) ذلك ، [ وأقدم ](3) حديثًا صحيحًا ، يكون في الاستدلال من أوضح المسالك .
فأقول وبالله التوفيق والهداية إلى سواء الطريق :
[2/ب]
أخبرنا علي بن محمد(4) بقراءتي عليه قلت له : قرئ على الحسين بن المبارك(5) - وأنت حاضر - أن أبا الوقت(6) أخبره / قال : أخبرنا أبو الحسن الداودي(7) ، قال : أخبرنا ابن حَمُّويه(8) ، قال : أخبرنا الفَِرَبْرِي(9) ،
__________
(1) بياض في الأصل ، والمثبت من النسخة (ب) .
(2) في ب : في .
(3) طمسٌ في الأصل ، والمثبت من (ب) .
(4) علي بن محمد بن هارون التغلبي القارئ ، الدمشقي ، توفي سنة 712هـ . الدرر 3/121 .
(5) الحسين بن المبارك بن محمد ، أبو عبد الله ، ابن الزبيدي ، توفي سنة 631هـ . سير 22/357 ، شذرات 5/144 .
(6) عبد الأول بن عيسى بن شعيب ، أبو الوقت ، السجزي ، توفي سنة 553هـ .
الأنساب 7/47 ، سير 20/303 .
(7) عبد الرحمن بن محمد بن المظفر ، أبو الحسن ، الداودي ، توفي سنة 467هـ .
الأنساب 5/263 ، سير 18/222 .
(8) عبد الله بن أحمد بن حَمُّويه ، أبو محمد ، السرخسي ، توفي سنة 381هـ .
سير 16/492 ، النجوم الزاهرة 4/161 .
(9) محمد بن يوسف بن مطر الفربري ، أبو عبد الله ، رواي صحيح البخاري عن الإمام البخاري ، توفي سنة 320 . الأنساب 9/260 ، سير 15/10 .
وفربر : بكسر الفاء وفتحها ، وهي من قرى بخارى ، حكي الوجهين ، القاضي عياض ، وابن قُرْقُول ، والحازمي . وقال : الفتح أشهر . وأما ابن ماكولا ، فما ذكر غير الفتح . انظر : الإكمال 7/84 ، سير 15/12 ، 13 .(1/6)
قال : أخبرنا البخاري(1) .
وأخبرنا جماعة آخرون قالوا : سمعنا الحسين بن المبارك بالإسناد المذكور إلى البخاري .
وزاد علي بن محمد : أنا أبو(2) عمرو ابن الصَّلاَح(3) قال : أخبرنا منصور(4) قال : أخبرنا الفارسي(5) والشَّحَّاميّ(6) ، والشَّاذْياخي(7) ، سماعًا ، وأبو جدي(8) سماعًا وإجازة(9) ، قال الفارسي - وهو محمد بن إسماعيل - وأبو جدي : أخبرنا سعيد الصوفي(10) قال : أخبرنا أبو علي الشَيُّويُّ(11) .
__________
(1) محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ، أبو عبد الله البخاري ، الإمام ، صاحب الصحيح ، توفي سنة 256هـ . تاريخ بغداد 2/4 ، سير 12/391 .
(2) في ب : أبا . بدل : أنا أبو .
(3) عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان ، تقي الدين ، أبو عمرو ابن الصلاح ، الإمام الحافظ ، صاحب المقدمة ، توفي سنة 643 هـ . طبقات الشافعية 8/326 ، سير 23/140 .
(4) منصور بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمد ، أبو الفتح ، وأبو القاسم ، الفُرَاوِيّ ، النيسابوري ، توفي 608هـ . سير 21/494 ، شذرات 5/34 .
(5) محمد بن إسماعيل الفارسي ، أبو المعالي ، توفي سنة 539هـ .
سير 20/93 ، شذرات 4/154 .
(6) وجيه بن طاهر بن محمد بن محمد ، الشحامي النيسابوري ، توفي 541هـ .
المنتظم 10/124 ، سير 20/109 .
(7) عبد الوهاب بن شاه بن أحمد ، أبو الفتوح ، الشاذياخي ، النيسابوري ، توفي سنة 535هـ .
الأنساب 7/241 ، سير 20/35 .
(8) يعني محمد بن الفضل بن أحمد ، أبو عبد الله ، الفُراوي النيسابوري .
(9) في ب : أو إجازة . بدل : وإجازة .
(10) سعيد بن أبي سعيد أحمد بن محمد ، أبو عثمان ،المعروف بالعَيَّار ، توفي سنة 457 .
الإكمال 6/287 ، سير 18/86 .
(11) محمد بن عمر بن شَبُّويَه الشَيُّويُّ المَرْوَزيّ ، أبو علي ، توفي بعد سنة 378 هـ .
الإكمال 5/107 ، سير 16/423 . قال في الأنساب 3/398 : الشبوي : بفتح الشين المعجمة ، وضم الباء المشددة المنقوطة بواحدة .(1/7)
وقال الشَّحَّامي - وهو وجيه - والشَّاذْياخي ، وأبو جدي : أخبرنا الحَفْصي(1) قال : أخبرنا(2) الكُشْمِيْهَني(3) ، قالا : أخبرنا الفِرَبْرِي .
ح - وأخبرنا علي بن عيسى بن سليمان الشافعي(4) قال : أخبرنا أبي قال : أخبرنا مُنْجِبْ(5) قال : أخبرنا أبو صادق(6) .
وقال : أخبرتنا كَرِيمَة(7) ،
__________
(1) محمد بن أحمد بن عبيد الله المروزي ، أبو سهل ، الحفصي ، راوي صحيح البخاري عن الكشمينهي ، توفي سنة 465هـ ، وقيل : 466 . الأنساب 4/175 ، سير 18/244 .
(2) في (ب) : حدثنا .
(3) محمد بن مكي ، أبو الهيثم الكشمهيني ، المحدث الثقة ، حدّث بصحيح البخاري مرات عن الفربري ، توفي سنة 389 هـ . الأنساب 10/437 ، سير 16/491 .
(4) علي بن عيسى بن سليمان ، ابن أبي الكرم ، الثعلبي الشافعي ، أبو الحسن ، توفي سنة 710هـ . الدرر 3/91-92 .
(5) منجب بن عبد الله المرشدي . راوي الصحيح ، متوفى سنة 585هـ . سير 21/125 .
(6) لم أقف على ترجمته .
(7) كريمة بنت أحمد بن محمد ، أم الكرام المروزية ، المجاورة بحرم الله ، العالمة المسندة ، سمعت الصحيح من أبي الهيثم الكشميهني ، وروته مرات كثيرة ، توفيت سنة 463هـ ، وقد بلغت المائة .
الإكمال 7/171 ، سير 18/233 .(1/8)
قال : أخبرنا الكُشْمِيْهَني ، قال : أخبرنا الفَِرَبْرِيّ ، قال : أخبرنا البخاري ، قال : باب كِسْوَةِ الكعبة : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب(1) قال : حدثنا خالد بن الحارث(2) ، قال : حدثنا سفيان(3) ، قال : حدثناَ وَاصِلٌ الأَحْدَب(4) عن أبي وَائل(5) قال : جئت إلى شَيْبَة(6) .
[3/أ]
قال البخاري ، وحدثنا قَبيِصَة(7) ، قال : حدثنا سفيان ، عن وَاصِل ، عن أبي وَائِل قال : جَلَسْتُ مع شَيْبَةَ / على الكُرْسِيِّ في(8) الكعبة فقال : لقد جلس هذا المَجْلِسَ عُمَرُ ، فقال : لقد هَمَمْتُ أن لا أَدَعَ فيها صَفْرَاءَ ولا بَيْضَاءَ إلا قسمتها(9) ،
__________
(1) عبد الله بن عبد الوهاب ، أبو محمد ، الحَجَبي ، ثقة ، توفي سنة 228هـ . تهذيب الكمال15/246 ، تقريب 312 .
(2) خالد بن الحارث ، أبو عثمان ، الهُجَيْمي ، ثقة ثبت ، توفي سنة 186هـ ، تهذيب الكمال 8/35 ، تقريب 187 .
(3) سفيان بن سعيد بن مسروق ، أبو عبد الله الثوري ، ثقة حافظ ، توفي سنة 161هـ . تهذيب الكمال 11/154 ، تقريب244 .
(4) واصل بن حيان ، الأسدي ، الأحدب ، ثقة ثبت ، توفي سنة 120هـ . تهذيب الكمال 30/400 ، تقريب 579 .
(5) شقيق بن سلمة ، أبو وائل الأسدي ، ثقة ، توفي سنة 82هـ . تقريب 268 .
(6) شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الحَجَبي ، أبو عثمان ، أسلم يوم الفتح ، وقيل يوم حنين ، وليس له في الصحيحين إلا هذا الحديث عند البخاري ، توفي سنة 57هـ ، وقيل سنة 59هـ . أسد الغابة 2/534 .
(7) قبيصة بن عقبة بن محمد بن سفيان ، أبو عامر ، السواني ، صدوق ربما خالف ، توفي سنة 215هـ . تهذيب الكمال 23/481 ، تقريب 453 .
(8) في (ب) بزيادة : فناء .
(9) في البخاري ، رقم : 1594 : إلا قسمته .
قال الحافظ ابن حجر في الفتح 3/533 : وفي رواية عمر بن شبة في كتاب مكة عن قبيصة : إلا قسمتها ، وفي رواية ابن مهدي ، عن سفيان في الاعتصام رقم : 7275 : إلا قسمتها .(1/9)
قلت : إن صَاحِبَيْكَ لم يَفْعَلا ، قال : هما المَرْآَنِ أَقتدي بهما(1) .
وبالإسناد إلى البخاري قال : [ كتاب ](2) الاعتصام بالكتاب والسنة ، ثم قال في هذا الكتاب : باب الاقتداء بسُنَنِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقول الله تعالى : { واجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } (3) .
قال(4) : أئمة نقتدي بمن قبلنا ، ويقتدي بنا من بعدنا . وقال ابن عون(5) : ثلاث أحبهن(6) لنفسي وإخواني : هذه السُّنَّةُ أن يَتَعَلّمُوها وَيَسْأَلوا عنها ، والقرآنُ أن يَتفهموهُ ويسألوا عنه ، وَيَدَعُوا(7) الناسَ إلا من خير(8) .
حدثنا عمرو بن العباس(9)
__________
(1) رواه البخاري ، في الحج ، باب كسوة الكعبة ، رقم : 1594 . وسيأتي تخريجه بعد قليل من طرق أخرى .
(2) بياض في الأصل ، والمثبت من (ب) .
(3) الفرقان : 74 .
(4) قال ابن حجر في الفتح 13/265 : ثبت ذلك من قول مجاهد ، أخرجه الفريابي والطبري وغيرهما من طريقه بهذا اللفظ بسند صحيح . وأخرجه ابن أبي حاتم من طريقه بسند صحيح أيضاً .
(5) عبد الله بن عون بن أرطبان ، المزيني ، الخراز ، أبو عون ، البصري ، ثقة ثبت ، من صغار التابعين ، توفي سنة 150هـ . تهذيب الكمال 15/394 ، تقريب 317 .
(6) في النسختين : (أحبها) ، والمثبت من صحيح البخاري .
(7) بفتح الدال : من الودع ، بمعنى الترك ، ووقع في رواية الكشمهيني بسكون الدال : من الدعاء . انظر : فتح الباري 13/265 .
(8) علقه البخاري في الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد وصله محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة . والجوزقي من طريقه .
قال محمد بن نصر ، ثنا يحيى بن يحيى ، ثنا سليم بن أخضر ، سمعت ابن عون .
ووصله اللالكائي في كتاب السنة من طريق القعنبي ، سمعت حماد بن زيد ، قال ابن عون .
انظر فتح الباري 13/265 .
(9) عمرو بن العباس ، أبو عثمان الباهلي ، صدوق ربما وهم ، توفي سنة 235هـ .
تهذيب الكمال 22/94 ، تقريب 423 .(1/10)
قال : حدثنا [ عبد الرحمن(1)حدثنا ](2) سفيان عن واصل عن أبي وائل قال : جلست إلى شَيْبَة في هذا المسجد قال : جَلَسَ إليّ(3) عُمَرُ في مجلسك هذا ، فقال : هَمَمْتُ أن لا أدع فيها صَفْرَاءَ ولا بَيْضَاءَ إلاَ قَسَمْتُهَا بين المسلمين قلت : ما أنت بفاعل ، قال : لم ؟ قلت : لم يفعله صاحباك ، قال : هما(4) المرآن يُقْتَدَى بهما(5) .
وأخبرنا الحافظ الإمام عبد المؤمن الدِّمياطي(6) ، قال : أخبرنا ابن المُقَيَّر(7) سماعًا قال : أخبرنا الفضلُ بن سهل(8) إجازة قال : أخبرنا الخطيب أبو بكر(9) إجازة .
[3/ب]
__________
(1) عبد الرحمن بن مهدي بن حسان ، أبو سعيد العنبري اللؤلؤي ، ثقة ثبت ، عارف بالرجال والحديث ، توفي سنة 198هـ . تهذيب الكمال 17/430 ، تقريب 351 .
(2) سقط ما بين المعقوفتين في الأصل ،ولم يظهر في (ب) بسبب طمس ، والمثبت من صحيح البخاري .
(3) في الأصل جلست إلى . والمثبت من صحيح البخاري .
(4) في الأصل هم ، والمثبت هو الصواب .
(5) رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، رقم 7275 .
(6) عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن شرف الدمياطي ، أبو أحمد ، وأبو محمد ، المعروف بابن الجامد ، حافظ المشرق والمغرب ، توفي سنة 705هـ . الدرر 2/417 .
(7) علي بن أبي عبيد الله الحسين بن علي ، أبو الحسن ، ابن الْمُقَيَّر ، البغدادي الأَزَجي ، المقرئ ، النجار ، ولد سنة 545هـ وتوفي سنة 643هـ . سير 23/119 ، شذرات 5/223 .
(8) الفضل بن سهل بن بشر ، أبو المعالي ، الإسفراييني الدمشقي ، الملقب بالأثير الحلبي ، توفي سنة 548هـ . المنتظم 10/155 ، سير 20/226 .
(9) أحمد بن علي بن ثابت ، أبو بكر ، الخطيب ، صاحب تاريخ بغداد ، وخاتمة الحفاظ ، ولد سنة 392هـ ، وتوفي سنة 463 هـ . الأنساب 5/151 ، طبقات الشافعية 4/29 ، سير 18/270 .(1/11)
قال ابن الْمُقَيَّر : وأخبرنا ابن ناصر(1) إجازة ، قال : أخبرنا ابن السَّمَرْقَنْدِي(2) / وابن الفَرَّاء(3) والماوردي(4) سماعًا .
قال ابن السَّمَرْقَنْدِي و ابن الفَرَّاء : أخبرنا الخطيب سماعًا . وقال الماوردي : أخبرنا أبو علي التُّسْتَرِي(5) ، قال الخطيب والتُّسْتَرِي : أخبرنا أبو عُمر الهاشمي(6) ، قال : أخبرنا أبو علي اللُّؤْلُؤي(7) ، قال : حدثنا أبو داود(8) قال : [ باب ](9) في مال الكعبة ، أخبرنا أحمد بن حنبل(10) ،
__________
(1) محمد بن ناصر بن محمد بن علي بن عمر السَّلاَمي ، أبو الفضل ، توفي سنة 550هـ . الأنساب 7/209 سير 20/265 .
(2) إسماعيل بن أحمد بن عمر ، أبو القاسم ، السمرقندي ، البغدادي ، ولد سنة 454هـ ، توفي سنة 536هـ . سير 20/28 طبقات الشافعية 7/46 .
(3) محمد بن أبي خازم ، أبو يعلى ، ابن الفراء ، توفي سنة 560هـ . المنتظم 10/213 ، سير 20/353 .
(4) محمد بن الحسن بن علي ، أبو غالب ، البصري الماوردي ، توفي سنة 525هـ .
المنتظم 10/23 ، سير 19/589 .
(5) علي بن أحمد بن علي ، أبو علي ، التستري البصري السَّقَطي ، راوي سنن أبي داود عن أبي عمر الهاشمي ، صحيح السماع ، توفي سنة 479هـ . المنتظم 9/33 ، سير 18/481 .
(6) القاسم بن جعفر بن عبد الواحد ، أبو عمر ، الهاشمي ، العباسي البصري ، توفي سنة 414هـ .تاريخ بغداد 12/451 ، سير17/225 .
(7) محمد بن أحمد بن عمرو ، أبو علي اللؤلؤي البصري ، الإمام المحدث ، قرأ السنن على أبي داود عشرين سنة ، توفي سنة 333هـ . سير 15/307 ، الوافي 2/39 .
(8) سليمان بن الأشعث ، أبو داوود ، السِّجستاني ، صاحب السنن ، الإمام الحافظ ، توفي سنة 275هـ . الجرح 4/11 ، تاريخ بغداد 9/55 .
(9) بياض في الأصل ، والمثبت من ( ب) .
(10) أحمد بن محمد بن حنبل ، أبو عبد الله ، الشيباني ، المروزي ، شيخ الإسلام ، توفي سنة 241هـ .
ابن سعد 7/354 ، الجرح 1/313 292 سير 11/177 .(1/12)
قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المُحَارِبي(1) ، عن الشَّيْبَانِي(2) ، عن واصل الأحدب ، عن شَقِيق ، عن شيبة ؛ يعني ابن عثمان ، قال : قعدَ عمرُ بن الخطاب في مَقْعدك الذي أنت فيه ، فقال : لا أخرجُ حتى أَقْسِمَ مالَ الكعبةِ ، قال : قلت : ما أنت بفاعلٍ ، قال : بلى لأفعلن ، قال : قلت ما أنت بفاعل ، قال : لم ؟ قلت : لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رأى مكَانهُ وأبو بكر ، وهما أحوج منك(3) إلى المال فلم يُخرجاهُ ، فقام ، فخرج(4) .
[4/أ]
__________
(1) عبد الرحمن بن محمد بن زياد ، أبو محمد ، المحاربي ، لا بأس به وكان يدلس ، توفي سنة 195هـ . تهذيب الكمال 17/386 ، تقريب 349 .
(2) سليمان بن أبي سليمان ، أبو إسحاق الشيباني ، ثقة ، توفي سنة 138 هـ .
تهذيب الكمال 11/444 ، تقريب 252 .
(3) في الأصل : منكم ، والمثبت من أبي داوود ، رقم 2031 .
(4) رواه أبو داود في المناسك ، باب في مال الكعبة ، رقم : 2031 , وقد تقدم تخريجه عند البخاري ، قبل قليل .(1/13)
وأخبرنا القاضي محمد بن عبد العظيم ابن السقطي(1) بقراءتي عليه ، عن أبي بكر بن باقا(2) - إجازة - ، قال : أخبرنا أبو زُرعة (3) سماعًا بهذا الحديث قال : أخبرنا أبو منصور المُقَوِّمِي(4) إجازة ، إن لم يكن سماعًا ، ثم ظهر سماعه ، قال : أخبرنا أبو طلحة الخطيب(5) ، قال : أخبرنا ابن بَحْر(6) ، قال : حدثنا ابن ماجه(7) قال : [ باب ] مال الكعبة ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة(8) ،
__________
(1) محمد بن عبد العظيم بن علي بن سالم ، جمال الدين ، أبو بكر ، السقطي ، توفي سنة 707هـ . الدرر 4/18 .
(2) عبد العزيز بن أبي الفتح ، صفي الدين ، أبو بكر ، ابن باقا البغدادي ، السِّيبي ، توفي سنة 630هـ . سير 22/351 ، شذرات 5/135 .
(3) طاهر بن محمد بن طاهر بن علي ، أبو زُرعة ، الشيباني المقدسي ، الرازي ، توفي سنة 566هـ . سير20/53 ، شذرات 4/217 .
(4) محمد بن الحسين بن أحمد بن الهيثم القَزويني ، المقومي ، أبو منصور ، الصدوق المسند ، راوي سنن ابن ماجه عن القاسم بن أبي المنذر ، توفي بعد سنة 484هـ . سير 18/530 ، العبر3/306 شذرات 3/372 .
(5) القاسم بن أبي المنذر أحمد بن منصور ، أبو طلحة ، الخطيب ، القزويني ، حدث بسنن ابن ماجه ، عن القطان ، عن مؤلفه . التقييد 2/225 .
(6) علي بن إبراهيم بن سلمة بن بحر ، أبو الحسن ، القزويني القطان ، شيخ الإسلام ، الإمام الحافظ ، توفي سنة 345هـ . سير15/436 النجوم 3/315 .
(7) محمد بن يزيد ، أبو عبد الله ، ابن ماجه القزويني ، الحافظ الحجة ، مصنف السنن ، توفي سنة 273هـ . سير13/277 ، تهذيب الكمال 9/530 .
(8) عبدالله بن محمد بن أبي شيبة ، أبو بكر ، العبسي ، ثقة حافظ ، توفي سنة 235هـ .
تهذيب الكمال 16/34 ، تقريب 320 .(1/14)
قال : حدثنا الْمُحَارِبيّ ، عن الشَّيْبَانيّ ، عن / وَاصِلٍ الأَحْدَب ، عن شَقِيق قال : بعث رجل معي بدراهم هدية للبيت(1) ، قال : فدخلت البيتَ وشَيْبَةُ جالس على كرسي فناولته إياها ، فقال [ له ] : ألك هذه ؟ قلت : لا ، ولو كانت لي لم آتِكَ بها ، قال : أما لئن قلت ذاك ؛ لقد جلس عمرُ بن الخطاب مجلسك الذي أنت فيه ، فقال : لا أخرج حتى أقسمَ مالَ الكعبة بين فقراء المسلمين ، قلت : ما أنت بفاعل(2) ، قال : لأفعلن ، قال : ولم ؟(3) قلت : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رأى مكانه وأبو بكر ، وهما أحوجُ منكَ إلى المال فلم يحركاه ، فقام كما هو فخرج(4) .
__________
(1) في الأصل زيادة (إلى) ، وفي ب : إلى البيت .
(2) في السنن : فاعل .
(3) بزيادة : (ذاك) في السنن .
(4) راوه ابن ماجه ، في المناسك ، باب مال الكعبة ، رقم : 3116 ، وقد تقدم تخريجه قبل قليل عند البخاري .(1/15)
هذا حديث صحيح ، أخرجه هؤلاء الأئمة الثلاثة(1) كما ذكرناه ، وهو عمدة في مال الكعبة ، ومال الكعبة : هو ما يُهدى إليها ، أو يُنذَرُ لها ، وإياكَ أن تغلطَ فتعتقدَ أن ذلك يصرف إلى فقراء الحرم ، فإنما ذلك فيما إذا كان الإهداءُ إلى الحَرَمِ أو إلى مَكَّة ، أما إذا كان إلى الكعبة نفسها ، فلا يصرف [ إلا ](2) إليها ، ولهذا قال الشيخ أبو إسحاق(3) في المهذب : وإن نَذَرَ الهديَ للحرمِ لَزِمَهُ في الحَرَمِ(4) . قال : وإن كان قد نَذَرَ الهدي لرِتَاجِ(5) الكعبة وعمارة(6) مسجد لَزِمَهُ صرفه فيما نَذَرَ(7) .
[4/ب]
وقال الرافعي(8) : إذا نذر أن يُجْعَلَ ما يهديه في رِتاج الكعبة وتطييبها ؛ قال إبراهيم المرورُّوذِي(9) : ينقله إليها ويسلمه إلى القيِّم ليصرفَه إلى الجهة المنذورة ، إلا أن يكون قد / نص في نذره أن يتولى ذلك بنفسه(10) .
فهذان النقلان يبينان لك ذلك .
__________
(1) البخاري ، وأبو داود ، وابن ماجه .
(2) سقطت في الأصل ، والمثبت من ب .
(3) أبو إسحق ، إبراهيم بن علي الشيرازي ، صاحب التنبيه والمهذب وطبقات الشافعية ، توفي ببغداد سنة 476هـ . وفيات الأعيان 1/29 ، طبقات الشافعية 4/215 .
(4) انظر : المجموع شرح المهذب 8/466 .
(5) قال النووي في المجموع 8/365 : رتاج الكعبة ، هو - بكسر الراء وتخفيف التاء المثناة فوق وبالجيم - وأصله الباب ، وقد يراد به الكعبة نفسها .
(6) في المجموع : أو عمارة . 8/466 .
(7) انظر : المجموع 8/466 .
(8) عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم ، أبو القاسم ، الرافعي ، القزويني ، الفقيه الشافعي ، متوفى سنة 623هـ . طبقات اشافعية 5/119 .
(9) إبراهيم بن أحمد بن محمد ، أبو إسحق ، المرورُّوذِي ، قتل سنة 536هـ . الأنساب 430 ، طبقات الشافعية 7/31 .
(10) فيلزمه . انظر : المجموع 8/371 .(1/16)
ونقل المهذب أصرح ، وليس ذلك كما لو نذر الهدي وأطلق ، فإنه لم يعين الْمُهْدى إليه ، وهنا عَيَّنَهُ وهو الكعبة ، وإذا وجدنا مالاً في الكعبة ، واحتمل أن يكون من هذه الجهة حملناه عليها ، عملاً باليد ، كما تبقى أيدي أرباب الأملاك على ما بأيديهم ، فكذلك يبقى ما في الكعبة من المال على ما هو عليه ، لا نُحَرِّكُهُ ، كما فعلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فإن قلت : فما مستند عمر - رضي الله عنه - فيما هَمَّ به ؟ قلت : عمر - رضي الله عنه - إمامُ هدى ، وأبو بكر - رضي الله عنه - أعظمُ منه ، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ منهما ، والهديُ كله فيما جاء به ، فلا يلزمنا النظر فيما كان سببَ هَمِّ عمر ، وقد رَجعَ عنه بمجرد ما سمع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، وهو أعلم بهما وأطوع لهما .
قال ابن بَطَّال : أراد عمر أن يصرفه في منافع المسلمين ؛ نظرًا لهم(1) ، فلما أخبرهُ شيبةُ ، صَوَّبَ فِعْلَهُما ، وإنما تركاهُ لأن ما جعل للكعبة وسُبِّلَ لها يجري مجرى الأوقاف(2) ،
__________
(1) في شرح صحيح البخاري لابن بطال 2/276 زيادة : ( وحيطة عليهم ) .
(2) تعقبه الحافظ ابن حجر في فتح الباري 3/457 فقال : هذا ليس بظاهر من الحديث ، بل يحتمل أن يكون تركه - صلى الله عليه وسلم - لذلك رعاية لقلوب قريش كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم . ويؤيده ما وقع عند مسلم في بعض طرق حديث عائشة في بناء الكعبة ، ولفظه : (( لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض )) فهذا التعليل هو المعتمد .
ثم قال : وعلى هذا فإنفاقه جائز ، ولولا قوله في الحديث (( في سبيل الله )) لأمكن أن يحمل الإنفاق على ما يتعلق بها فيرجع إلى أن حكمه حكم التحبيس .
ويمكن أن يحمل قوله : في سبيل الله ، على ذلك ، لأن عمارة الكعبة يصدق عليه أنه في سبيل الله . اهـ ، بتصرف .(1/17)
ولا يجوز تغيير الأوقاف ، وفي ذلك أيضًا تعظيم الإسلام وحرماته ، وترهيبُ العدو(1) .
[5/أ]
وعن(2) الحسن قال : قال عمر : لو أخذنا ما في البيت - يعني الكعبة - فقسمناه ؟ فقال له أبي بن كعب : والله ما ذلك لك ، قال : لم ؟ / قال : لأن الله قد بين موضع كل مال ، وأقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال : صدقت(3) .
وقال ابن بطال(4) في صدر كلامه : إن عمر رأى أن ما فيها من الذهب والفضة لا تحتاج إليه ؛ لكثرته ، ويؤخذ من تبويب البخاري وإدخالِه هذا الحديثَ فيه : أن حكم الكسوة حكم المال .
وقال ابن بطال أيضًا في كتاب الاعتصام(5) : أراد أن يقسم المال الذي تجمع وفضل عن نفقتها ومؤنتها ، ويضعه في مصالح المسلمين ، فلما ذكَّره شيبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر بعده لم يتعرضا له ، لم يسعه خلافهما . ورأى أن الاقتداء بهما واجب(6) .
فربما تهدَّمَ البيتُ أو خَلُقَ(7) بعض آلاته ، فَصُرِفَ ذلك المالُ فيه ، ولو صُرِفَ ذلك في منافع المسلمين ، لكان كأنه قد أُخْرِج عن وجهه الذي سُبِّلَ فيه .
__________
(1) شرح صحيح البخاري ، 2/276-277 .
(2) بياض في الأصل والمثبت من (ب) .
(3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 5/88 ، رقم : 9084 .
(4) شرح صحيح البخاري 4/276 .
(5) 10/333 .
(6) قال ابن حجر في الفتح 13/252 ، ح : 7275 : قلت : وتمامه أن تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - منزل منزلة حكمه باستمرار ماترك تغييره فيجب الاقتداء به في ذلك لعموم قوله تعالى : واتبعوه ، وأما أبو بكر فدل عدم تعرضه على أنه لم يظهر له من قوله - صلى الله عليه وسلم - ولا من فعله مايعارض التقرير المذكور ، ولو ظهر له لفعله لاسيما مع احتياجه للمال لقلته في مدته فيكون عمر مع وجود كثرة المال في أيامه أولى بعدم التعرض .
(7) خلق ، بفتح اللام وكسرها وضمها ، أي : بلي . وانظر : القاموس (خلق) ص : 881 .(1/18)
فإن قلت : قد ذكر الفقهاء وجهين في صِحَّةِ الهِبة للمسجد ، وأنه هل يَملك أو لايَملك ؟ قلت : أصحهما الجوازُ ، وأنه تَصِحُّ الهِبَةُ ، ويَقْبَلُهَا قَيِّمُهُ ، ويَمْلِك ويُؤْخَذُ له بالشُّفْعَةِ(1) .
والوجه الآخر ضعيف ، وَيُرَدُّ عليه بالحديث ، أو لا يرد عليه به ، بل يكون الوجه خاصًا بالهبة المفتقرة إلى إيجاب وقبول .
[5/ب]
وأما الإهداء إلى الكعبة فأصله معهود ، قال الله تعالى : { هديًا بالغ الكعبة } (2) ، وإن كان ذلك في الفداء(3) ، لكنه عرف به مشروعية هذا النوع وإضافته إلى / الكعبة .
__________
(1) قال ابن الرِّفْعَة : وفي كلام الرافعي ما يفهم جواز الهبة للمسجد . قال ابن الملقن : وبه صرح القاضي في تعليقه . انظر : مغني المحتاج 4/91 ( كتاب الوصايا ) .
(2) المائدة : 95 .
(3) يعني في فدية الصيد .(1/19)
وإن كان ذلك وقد اختلف العلماء في الوقف على المسجد ؛ هل هو وَقْف على المسلمين ، أو على مصالح المسجد ؟(1) والأصح الثاني ، والقائل الأول لا يريد أنه وَقْف على المسلمين يصرفونه فيما شاؤوا ، بل يختص بالمسجد قطعًا ، وإنما حمله على جعله على المسلمين أنهم القائلون للتمليك ، والجماد(2) لا يقبل التمليك . والجواب : أن الجماد إذا كان له جهة يُصْرَفُ فيها ، وَيُحتاج إليه ، فذلك معنى الملك ، فظهر بها القطع بثبوت اختصاص الكعبة بما يُهدَى إليها ، وما يُنذَرُ لها ، وما يوجد فيها من الأموال ، وامتناع صرفها في غيرها ، لا للفقراء ، ولا للحرم الخارج عنها المحيط بها ، ولا لشيء من المصالح ، إلا أن يعرض لها نفسها عمارة أو نحوها ، فحينئذ ينظر ؛ فإن كانت تلك الأموال قد أرصدت لذلك ، فتصرف فيه ، وإلا فيختص بها الوجه الذي أرصدت له ، فلا يغير شيء عن وجهه ، فالمرصد للبخور لا يصرف في غيره ، والمرصد للسترة لا يصرف في غيرها ، والمرصد للعمارة لا يصرف في غيرها ، والمرصد للكعبة مطلقًا يصرف في جميع هذه الوجوه ، وكذا الموجود ولم يعلم قصد من أتى به ، لكنه يعد للصرف .
[6/أ]
فإن قلت : الشيخ أبو إسحاق إنما قاله في الهدي للرِّتَاج ، أما الْمُهدى / للكعبة مطلقًا فلم يذكره ، وقد ذكر في الْمُهدى المطلق وجهين . قلت : الوجهان في الهدي المطلق من غير ذكر كعبة ولا غيرها ، أما الهدي للكعبة فهو مقيد .
__________
(1) قال ابن قدامة : فإن قيل : قد جوزتم الوقف على المساجد والسقايات وأشباهها وهي لا تَمْلِكُ ، قلنا : الوقف هناك على المسلمين؛ إلا أنه عين في نفع خاص لهم . المغني 5/646 .
(2) يعني المسجد .(1/20)
فإن قلت : قد يقال إن العرف الشرعي يقتضي تفرقته على مساكين الحرم ، كما في الذبائح ، قلت : ذاك ظاهر فيما يُهدى إلى الحرم ، أعني مكة وما حولها ، فإن القرينة تقتضي أن الإهداء لأهله ، وكذا فيما يُهدى إلى مكة ، ويحتمل أن يَطَّرِدَ فيما يُهدى إلى الكعبة من غنم وإبل وبقر ؛ لأن القرينة تقتضي ذبحه وتفرقته ، أما مثل ذهب أو فضة فلا عرفَ يقتضي ذلك فيه ، فوجب قصره على مُقتضى اللفظ ، واختصاص الكعبة بخصوصها به .
ويشهد له الحديث الذي صدّرنا كلامنا به ، وقد تكلم الفقهاء في تقييد مكان الهدي الذي يُهدى [ إليه من الحرم أو غيره من البلاد ، وفي تعيين نوع الهدي الذي يُهدى ](1) ؛ هل هو نَعَم(2) : إبل أو بقر أو غنم ، أو غيرها ، وفي إطلاق الهدي وعدم تقييده بهذا أو بهذا ؟ وأما إطلاق الهدي للكعبة عن التقييد بمصارفه فلم أقف عليه ، ولكني ذكرت ما قلته تفقهًا ، والحديث المذكور يعضده .
[6/ب]
__________
(1) سقط مابين المعقوفتين من الأصل ، وأثبته من ب .
(2) النعم : واحد الأنعام ، هي الإبل والشاء ، يذكر ويؤنث . انظر : اللسان 6/4482 .(1/21)
تنبيه : محل الذي قلته من الصرف إلى وجوه الكعبة إذا كان المال علم من حاله ذلك ، أو كانت عليه قرينة بذلك ، مثل كونه / دراهم ودنانير ، أما القناديل التي فيها ، والصفائح التي عليها فتبقى على حالها ، ولا يصرف منها شيء ، وقول عمر - رضي الله عنه - : صفراء أو بيضاء ، محتمل للنوعين ، ولم ينقل إلينا صفتهما التي كانت ذلك الوقت ، وقد قيل : إن أول من ذَهَّبَ البيت في الإسلام الوليدُ بن عبد الملك ، وذلك لا ينفي أن يكون ذُهِّبَ في الجاهلية وبقي إلى عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (1) .
ويقال : إن الذي عمله الوليد بن عبد الملك - على بابها صفائح ، والميزاب ، وعلى الأساطين التي في بطنها والأركان - ستة وثلاثون ألف دينار ، وفي خلافة الأمين زيدَ عليها ثمانية عشر ألف دينار(2) ، وأول من فرشها بالرخام الوليدُ بن عبد الملك(3) ، ولما عمل الوليد ذلك كانت أئمة الإسلام من التابعين موجودين ، وبقايا الصحابة ، ولم ينقل لنا عن أحد منهم أنه أنكر ذلك ، ثم جميع علماء الإسلام والصالحون وسائر المسلمين يحجون ويبصرون ذلك ولا ينكرونه على ممر الأعصار .
[7/أ]
__________
(1) أول من حلى الكعبة في الجاهلية عبد المطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم - . أما في الإسلام ، فأول من حلى البيت عبد الله بن الزبير ، وقيل : عبد الملك بن مروان ، وقيل : الوليد بن عبد الملك ، وقيل غير ذلك . انظر : تاريخ مكة للأزرقي 1/212 ، الإعلام بأعلام بيت الله الحرام ، ص : 87 .
(2) انظر : الإعلام بأعلام بيت الله الحرام ص : 88 .
(3) انظر : تاريخ مكة للأزرقي 1/212ا-213 ، والإعلام ص : 122 .(1/22)
وقال(1) في كتاب النذر : ستر الكعبة وتطييبها من القربات ، فإن الناس اعتادوهما على مر الأعصار ، ولم يبد من أحد نكير ، ولا فرق بين الحرير وغيره ، وإنما ورد تحريم لبسه في حق الرجال ، وذكرنا في كتاب الزكاة أن الأظهر أنه لا يجوز تحلية الكعبة بالذهب والفضة وتعليق قناديلهما ، وكان / الفرق استمرار الخلق على ذلك دون هذا ، فلو نذر ستر الكعبة وتطييبها صح نذره(2) . وهذا الذي قاله الرافعي في ستر الكعبة وتطييبها صحيح ، وأما الذي ذكره في باب الزكاة من أن الأظهر أنه لا يجوز تحلية الكعبة بالذهب والفضة .
وقال أيضًا في باب الزكاة : هل يجوز تحلية المصحف بالفضة ؛ وجهان : أحدهما : لا ؛ كالأواني ، وأظهرها : نعم ، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله ؛ إكرامًا للمصحف . وقال في سير الواقدي ما يدل على حظرها ، وفي القديم والجديد عن حرملة ما يدل على الجواز ، وفي تحليته بالذهب ثلاثة أوجه : أحدها الجواز ، إكرامًا ، وبه قال أبو حنيفة . والثاني : المنع ؛ إذ ورد في الخبر ذمها . والثالث : إن كان للمرأة يجوز ، وللرجل لا يجوز .
وكلام الصيدلاني والأكثرين إلى هذا أميل .
وذكر بعضهم أنه يجوز تحلية نفس المصحف(3) دون غلافه المنفصل ، والأظهر التسوية ، وأما سائر الكتب فقال الغزالي : لا يجوز .
وفي تحلية الكعبة والمساجد بالذهب والفضة وتعليق قناديلهما ، فيها وجهان مرويان في الحاوي(4) وغيره ، أحدهما : الجواز ؛ تعظيمًا ، كما في المصحف ، وكما يجوز ستر الكعبة بالديباج . وأظهرهما المنع ، ويحكى عن أبي إسحاق ؛ إذ لم ينقل ذلك عن فعل السلف .
[7/ب]
وحكم الزكاة مبني على / الوجهين ، نعم لو جُعِلَ المتّخذُ وقفًا فلا زكاة فيه بحال . انتهى ما ذكره الرافعي رحمه الله .
__________
(1) أي الرافعي .
(2) انظر : المجموع شرح المهذب 8/454 .
(3) وذلك كتابته أو زخرفة أطراف صفحاته وما أشبه ذلك .
(4) الحاوي الكبير للماوردي 3/276 باب زكاة الحلي .(1/23)
فأما المصحف فمن قال بالمنع فيه إما مطلقًا ، وإما للرجل ؛ فلعل مأخذه أن القارئ فيه والحامل له مستعمل للذهب أو الفضة التي فيه ، ولا يأتي هذا المعنى في الكعبة ، ولو فرض مصحف لا ينظر فيه رجل ولا امرأة فذلك نادر ، ولم يوضع المصحف لذلك ، لكن لينتفع به ، فلا يلزم من جريان الخلاف في المصحف جريانه في الكعبة ، وإن كان المصحف أفضل ؛ للفرق الذي ذكرناه .
وأما التسوية بين الكعبة والمساجد ، فلا تنبغي ؛ لأن للكعبة من التعظيم ما ليس للمساجد ، ألا ترى أن ستر الكعبة بالحرير وغيره مجمع عليه ، وفي ستر المساجد خلاف ، فحينئذ الخلاف في الكعبة مشكل ، وترجيح المنع فيها أشكل ، فكيف يكون ذلك ، وقد فُعِلَ في صدر هذه الأمة(1) .
[8/أ]
__________
(1) ساق الفيروزآبادي في المغانم 3/1332 قول السبكي ثم عقب عليه بقوله : وهذا الكلام لايخفى على الفقيه ضَعْفُه ، ووجه الإشكال والإشكالية غير ظاهر ، وفي التمسك بجواز ستر الكعبة بالحرير تكلف ظاهر وتعسف بَيِّن ، والحرير إنما جوزوه للإجماع وفعل السلف ، ولم يُنْقَل تَحليته بالذهب عنهم .اهـ .(1/24)
وقد تولى عمر بن عبد العزيز عمارةَ مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوليد ، وذَهَّبَ سَقْفَهُ(1) ، وإن قيل : إن ذلك امتثال لأمر الوليد ، فأقول : إن الوليد وأمثالَهَ من الملوك إنما تصعب مخالفتهم فيما لهم فيه غرض يتعلق بملكهم ونحوه ، أما مثل هذا وفيه توفير عليهم في أموالهم فلا تصعب مراجعتهم فيه ، فسكوت عمر بن عبد العزيز ، وأمثاله ، وأكبر منه ، مثل : / سعيد بن المسيب ، وبقية فقهاء المدينة ، وغيرهما دليل لجواز ذلك(2) ، بل أقول : قد ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة بعد ذلك ، وأراد أن يزيل ما في جامع بني أمية من الذهب ، فقيل له : إنه لا يتحصل منه شيء يقوم بأجرة حَكِّه ، فتركَهُ ، والصفائح التي على الكعبة يتحصل منها شيء كبير ، فلو كان فعلها حرامًا لأزالها في خلافته ، لأنه إمام هدى ، فلما سكت عنها ، وتركها ، وجب القطع بجوازها(3) ،
__________
(1) انظر : المنتظم 6/283 ، المغانم المطابة في معالم طابة 1/422 ، نزهة الناظرين 44-47 .
(2) تعقبه الحافظ ابن حجر ، فقال : إن تجويز ستر الكعبة بالديباج قام الإجماع عليه ، وأما التحلية بالذهب والفضة فلم ينقل عن فعل من يعتد به ، والوليد لا حجة في فعله ، وترك عمر بن عبد العزيز النكير أو الإزالة يحتمل عدة معان . وماتطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال . فتح الباري 3/535 بتصرف .
(3) رد الفيروزآبادي عليه بقوله : وفي هذا القول أمران : أحدهما : أن أمر عمر بن عبد العزيز بحك المموه دليل على عدم جواز تحلية المساجد بالذهب قليله وكثيره ، والقناديل أَطَمُّ وأَعظمُ ..الثاني : أن في أيام عمر بن عبد العزيز لم يثبت أنه كانت على الكعبة صفائح الذهب والفضة ولاقناديل منهما شيء ، وإنما صارت بعده في خلافة بني العباس ، وعلى تقدير أنها كانت موجودة ، وصح أن الوليد أول من عمل ذلك ، وكانت باقية إلى خلافة عمر بن عبد العزيز فسكوته عنها ، وتركه الأمر بإزالتها يحتمل وجوهاً : منها أنه غفل عنها لاشتغاله بما هو أعظم وأهم . ومنها : أن الصفائح ليس حكمها حكم القناديل . اهـ بتصرف ، المغانم 3/1332-1333 .(1/25)
ومعه جميع الناس الذين يحجون كل عام ويرونها ، فالقول بمنعها عجيب جدًا ، على أنه قل من تعرض لذكر هذا الحكم فيها ، أعني الكعبة بخصوصها ، ورأيتها أيضًا في كتب المالكية ، وفي الذخيرة القرافية ، وليس في كلامه تصريح بالتحريم ، وهذا الذي قلته كله(1) في تحلية الكعبة بخصوصها بصفائح الذهب والفضة ونحوها ، فليضبط ذلك ولا يتعدى ، ولا أمنع من جريان الخلاف في التمويه والزخرفة فيها ؛ لأن التمويه يزيل مالية النقدين اللذين هما قيم الأشياء ، وتضييق النقدين محذور ؛ لتضييقه المعايش ، وإغلائه الأسعار ، وإفساده المالية ، ولا منع من جريان الخلاف أيضًا في سائر المساجد في القسمين جميعًا ؛ التمويه والتحلية ، على أن القاضي الحسين جزم / بِحِلِّ تحلية المسجد بالقناديل من الذهب ونحوها ، وأن حكمها حكم الحلي المباح ، وهذا أرجح مما قال الرافعي ؛ لأنه ليس على تحريمها دليل ، والحرام من الذهب إنما [ هو ](2) استعمال الذكور له ، والأكل والشرب ، ونحوهما من الاستعمال من أوانيه ، وليس في تحلية المسجد بالقناديل الذهبية ونحوها شيء من ذلك(3) .
[8/ب]
__________
(1) في (ب) كلية .
(2) سقطت في الأصل ، وهي في (ب) .
(3) وهذا فيه مالايخفى من ترجيح المرجوح ، وتقوية الضعيف بما هو أضعف ، حيث جعل الدليل على إباحته عدم الدليل على حرمته ، والحال أن الدليل على حرمته قائم . ثم القول : بأن الحرام من الذهب استعمال الذكور له والأكل والشرب ونَحوهما من الاستعمال من أوانيه ، ليت شعري ما أراد (( بنحوهما )) من الاستعمال؟ وهل استعمال القنديل إلا تعليقه في المكان تارة للتَّزيين ، وتارة للإيقاد ، ولم يعهد قط أن القناديل يؤكل فيها ويشرب ، بل استعمال كل شيء بِحَسَبِهِ .
قاله الفيروزآبادي في المغانم 3/1334 .(1/26)
وقد قال الغزالي في الفتاوى : الذي يتبين لي أن من كتب القرآن بالذهب فقد أحسن ، ولا زكاة عليه فيه ، فلم يثبت في الذهب إلا تحريمه على ذكور الأمة فيما يُنسَبُ إلى الذكور ، وهذا لا ينسب إلى الذكور ، فيبقى على أصل الحل ما لم ينته إلى الإسراف(1) . فإن كل ذلك احترام ، وليس فيه ما ينسب إلى الذكور حتى يحكم بالتحريم ، ولست أقول هذا عن رأي مجرد ، لكني رأيت في كلام بعض الأصحاب ما دل على جوازه .
وهذا كلام الغزالي في الكتابة بالذهب وفي ذلك ما ذكرناه من تضييق النقدين لزوال مالية الذهب بالكلية ، بخلاف التحلية بذهب باق .
فقد ظهر بهذا أن تحلية الكعبة بالذهب والفضة جائز ، والمنع منه بعيد شاذ غريب في المذاهب كلها ، قل من ذكره منهم ، ولا وجه له ، ولا دليل يعضده(2) .
[9/أ]
وأما سترها بالحرير وغيره فمجمع عليه ، وأما قول أبي بكر / الشامي من أصحابنا : القياس أنه لا يجوز ؛ فليس بصحيح ، وأي قياس يقتضي ذلك ؟ ، والقياس إنما يكون على منصوص من جهة الشرع ، ولم ينص الشرع على شيء يقاس عليه ذلك .
وأما قول الشامي المذكور : وإنما تركنا ذلك لأنه لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحداً من الصحابة - رضي الله عنهم - أنكر ذلك ، فيكفي ذلك حجة عليه ، وقد كان عمر - رضي الله عنه - يكسوها من بيت المال ، وذلك من عمر دليل على وجوب كسوتها ؛ لأنه لا يصرف مال بيت المال إلا إلى واجب .
__________
(1) قال الفيروزآبادي : وأعجب من ذلك استدلاله بِمَقَال الغزالي .
وهذا يصلحُ دليلاً عليه حيث قال بالتحريمِ إذا بلغ حَدَّ الإسرافِ ، فهذا في القناديل المعلقة ونَحوها من باب الأَوْلى . وليت شعري متى يبلغ الكاتب - يعني للمصحف - حَدَّ الإسرافِ ، فإن القنديلَ الصغيرَ يَحْتَمِلُ أن يُكتب بمحلوله مائة مصحف . المغانم 3/1334 .
(2) تقدم قبل صفحتين رد ابن حجر على هذا القول . وانظر : فتح الباري 3/535 .(1/27)
وليُتَنَبَّه هنا لفائدة(1) ، وهي : أن الكعبة بناها إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ولم تكن تكسى من زمانه إلى زمان تُبَّعٍ اليماني ، فهو أول من كساها على الصحيح ، وقيل : إن إسماعيل - عليه السلام - كساها ، ففي تلك المدد لا نقول إن كسوتها كانت واجبة ، لأنها لو كانت واجبة لما تركها الأنبياء عليهم السلام ، ولكن لما كساها تُبَّعٌ ، وكان من الأفعال الحسنة ، واستمر ذلك كان شعارًا لها ، وصار حقًا لها وقربة وواجبًا ، لئلا يكون في إزالته تنقيص من حرمتها فتقاس(2) عليه إزالة ما فيها - والعياذ بالله - من صفائح الذهب والرخام ، ونحوه ، ونقول : إنه يحرم إزالته ، ولا يمتنع أن يكون ابتداء الشيء غير واجب ، واستدامته واجبة ، ومرادي وجوب سترها دائمًا ، لا بقاء كل سترة دائمًا .
[9/ب]
وتفصيل القول في / ذلك : أن السترة التي تكساها من بيت المال تصير مستحقة لها بكسوتها ، ولا يجوز نزعها للإمام ولا لغيره ، حتى تأتي كسوة أخرى .
فتلك الكسوة القديمة ما يكون حكمها ؟ قال ابن عبدان من أصحابنا : لا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا نقلها ، ولا وضع شيء منها بين أوراق المصحف ، ومن حمل من ذلك شيئًا لزمه رده ، خلاف ما يتوهمه العامة ويشترونه من بني شيبة .
وحكى الرافعي ذلك ، ولم يُعْتَرضْ عليه ، وقال ابن القاص من أصحابنا : لا يجوز بيع كسوة الكعبة .
وقال الحليمي : لا ينبغي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شيء .
وقال ابن الصلاح : الأمر فيها للإمام يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعًا وعطاء ، واحتج بما روى الأزرقي أن عمر كان ينزع كسوة البيت كل سنة ، فيوزعها على الحاج ، قاله النووي . وهذا حسن .
[ وعن ](3) ابن عباس وعائشة قالا : تباع كسوتها ، ويجعل ثمنها في سبيل الله والمساكين وابن السبيل .
__________
(1) في (ب) : إلى فائدة .
(2) في (ب) فقاس .
(3) سقطت في الأصل والمثبت من (ب) .(1/28)
قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة : لا بأس أن يلبس كسوتها(1) من صار إليه من حائض وجنب وغيرهما(2) .
وهذا كله فيما إذا كانت من بيت المال ، فلو كانت موقوفة فينبغي أن لا تزال(3) عن الوقف ، وتبقى ، وإنما اختلف الفقهاء فيها على ما ذكرناه ؛ لأن العرف فيها ذلك ، ولا معنى لبقائها بعد نزعها وهي غير موقوفة .
[10/أ]
أما الذهب الصفائح والقناديل ، ونحوهما مما يُقْصَدُ بقاؤه ولا / يَتْلَفُ ، فلا يأتي ذلك فيه ، بلا خلاف ، بل يبقى ، وقد قالوا في الطيب أنه لا يجوز أخذ شيء منه ؛ لا للتبرك ولا لغيره ، ومن أخذ شيئًا منه لزمه رده ، ولم يذكروا في ذلك خلافًا ، فإذا كان في الطيب ، فما ظنك بالذهب والفضة ، قالوا : وإذا أراد أن يأخذ شيئًا من الطيب للتبرك فطريقه أن يأتي بطيب من عنده فيمسحها به ثم يأخذه ، والذي استحسنه النووي في الكسوة لا بأس به ، وكذا ما نقل عن ابن عباس وعائشة .
ولا بأس بتفويض ذلك إلى بني شَيْبَة ، فإنهم حَجَبَتُهَا ، ولهم اختصاص بها ، فإن أخذوه لأنفسهم أو لغيرهم لم أر به بأسًا ، لاقتضاء العرف ذلك كونهم من مصالح الكعبة .
وأما لو أراد الإمام أخذها وجعلها من جملة أموال بيت المال كما اقتضاه إطلاق ابن الصلاح ، فلا وجه لذلك أصلاً ، ولكن له ولاية التفرقة على من يختص بالتفرقة ، وبنو شيبة قائمون مقامه .
هذا كله في الكعبة شرفها الله تعالى ، أما غيرها من المساجد فلا ينتهي إليها ، ولا يبعد جريان الخلاف فيه ، والأرجح منه الجواز ، كما قاله القاضي حسين ، ولا أقول أنه ينتهي إلى حد القربة ، ولهذا استمر الناس على خلاف في الأكثر .
[10/ب]
__________
(1) في الأصل كسوة والمثبت من (ب) وهو الصواب .
(2) ينظر قول عائشة رضي الله عنها في أخبار مكة للفاكهي 5/231 ، رقم : 210 . وفتح الباري 3/458 ،410 .
(3) في (ب) أن تزال ، والمثبت هو الصواب .(1/29)
وأما تعليل الرافعي رحمه الله بأن ذلك لم ينقل عن فعل السلف / فعجيب(1) ؛ لأن هذه العلة لا تقتضي التحريم ، وقصاراها أن تقتضي أنه ليس بسنة أو مكروهة كراهة تنزيه ، أما التحريم فلا وليس لنا أن نحرم بمثل ذلك حتى يرد نهي من الشارع ، وإنما ورد قوله - صلى الله عليه وسلم - في الذهب والحرير : (( هَذَانِ حَرَامٌ على ذُكُورِ أُمّتي ، حِلٌّ لإِنَاثِهَا ))(2) ، وليس هذا منها ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله : (( لا تشربوا في آنِيَةِ الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صِحَافِهَا ، فإنها لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة ))(3) ،
__________
(1) قال الحافظ في الفتح 3/535 : وقد أنكر السبكي على الرافعي تمسكه في المنع بكون ذلك لم ينقل عن السلف . وجوابه : أن الرافعي تمسك بذلك مضموماً إلى شيء آخر ، وهو أنه قد صح النهي عن استعمال الحرير والذهب ، فلما استعمل السلف الحرير في الكعبة دون الذهب - مع عنايتهم بها وتعظيمها ـ دل على أنه بقي عندهم على عموم النهي ، وقد نقل الشيخ الموفق الإجماع على تحريم استعمال أواني الذهب ، والقناديل من الأواني بلا شك ، واستعمال كل شيء بحسبه . اهـ.
(2) رواه علي بن أبي طالب ، وأبو موسى الأشعري ، رضي الله عنهما :
حديث علي - رضي الله عنه - أخرجه أبو داود ، في اللباس ، باب في الحرير للنساء ، رقم : 4057 ، والنسائي في الزينة ، باب تحريم الذهب على الرجال 8/160 ، وابن ماجه ، في اللباس ، باب لبس الحرير والذهب للنساء ، 3595 . وغيرهم .
وأما حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - فقد أخرجه الترمذي ، في اللباس ، باب ما جاء في الحرير والذهب ، رقم : 1720 ، والنسائي في الزينة ، 8/161 .
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
(3) متفق عليه عن حذيفة - رضي الله عنه - :
فقد أخرجه البخاري في الأطعمة ، باب الأكل في إناء مفضض ، رقم : 5426 ، وفيه : ولنا في الآخرة . وأخرجه في الأشربة ، باب آنية الفضة ، رقم : 5633 ، وفيه : ولكم في الآخرة .
ومسلم في اللباس والزينة ، باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة ، رقم : 2067 .(1/30)
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يحرم غير الأكل والشرب فيهما(1) ، لأن الحديث إنما اقتضى لفظه ذلك ، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يُجَرْجِرُ(2) في بطنه نَارَ جهنم(3) )) .
[11/أ]
__________
(1) قال القرطبي في المفهم 5/345 : في الحديث تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب ، ويلحق بهما ما في معناهما ، مثل التطيب والتكحل وماشابه ذلك ، وبهذا قال الجمهور .
وأغربت طائفة شذت فأباحت ذلك مطلقاً ، ومنهم من قصر التحريم على الأكل والشرب ، ومنهم من قصره على الشرب ، لأنه لم يقف على الزيادة في الأكل . اهـ .
قال النووي : قال أصحابنا : انعقد الإجماع على تحريم الأكل والشرب وسائر الاستعمال في إناء ذهب أو فضة ، إلا ما حُكِيَ عن داود وقول الشافعي في القديم ، فهما مردودان بالنصوص والإجماع . صحيح مسلم بشرح النووي ، كتاب اللباس والزينة ، باب تَحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب وغيره على الرجال والنساء 14/29 .
(2) الجرجرة : صوت يردده البعير إذا هاج ، نحو صوت اللجام في فك الفرس . فتح الباري 10/99 . وفي شرح مسلم للنووي 14/28 : الفاعل هو الشارب مضمر في يجرجر ، أي يلقيها في بطنه بجرْع متتابع يسمع له جرجرة ، وهو الصوت لتردده في حلقه .
(3) عن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها ، حديث متفق عليه :
أخرجه البخاري ، في الأشربة ، باب آنية الفضة ، رقم : 5634 ، ومسلم في اللباس والزينة ، باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الشرب ، رقم : 2065 .(1/31)
وقاس أكثر العلماء غيرَ الأكل والشرب عليهما ، وتكلموا في العلل المقتضية لقياس غير الأكل والشرب ، والمقتضية لقياس غير الذهب والفضة عليهما ، فمنهم من قال : التشبه بالأعاجم ، ورد عليه بأن هذه العلة تقتضي الكراهة لا التحريم ، واستند من علل بالعلة المذكورة إلى قوله في الحديث : (( فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة )) ، وتأملت فوجدت هذه العلة ليست لمشروعية التحريم ، بل هي تسلية للمخاطبين عن منعهم / عنها ، وعلة لانتهائهم بمجازاتهم في الآخرة ؛ لبسط نفوسهم ، كما يقول القائل : لا تأخذ هذا في هذا الوقت ، فإني أدخره لك في وقت أنفع لك من الآن ، فلذلك لم تكن هذه علة للتحريم ، ولو كانت علة منصوصة لم يجز تعديها .
وقال بعضهم : العلة السرفُ أو الخُيَلاء ، أو كسر قلوب الفقراء ، أو تضييق النقدين ، كما قدمنا الإشارة إليه ، وجميع العلل بالنسبة إلى ما يستعمله الشخص ؛ كالأكل والشرب(1) .
أما تحلية المساجد تعظيمًا لها ، فليس فيه شيء من هذه العلل(2) ،
__________
(1) ورجح الحافظ ابن حجر في الفتح 10/100 : أن علة المنع ترجع إلى عينهما .
وقال : رأي الجمهور على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب ، ويلحق بهما ما في معناهما مثل التطيب والتكحل وسائر وجوه الاستعمالات .
(2) رد عليه الفيروزآبادي بقوله : وهذا فصل يقضي منه العجب كل العجب وهو ظاهر الخلل ، إذ السرف فيه أظهر من نارٍ على علمٍ ، وتضييق قلوب الفقراء أوضح وأظهر ، لأن المسجد محلهم ومقامهم ، وينظرون إلى شيء يضيع لا ينتفع به أحد من المسلمين ، وهم مُحتاجون إلى صرف حبة منها ، بِخلاف ما في أَجْوُفِ البيوت والمخادع فإنه قد لا تَحصل منه هذه المفسدة العظمى ، والبَلِيَّة الكبرى .
وأما تضييقُ النقدين المؤدي إلى غلاء السعرِ ، وتقليلِ أسبابِ المعاملاتِ ، فهذا أحدُ أسبابهِ لا يضاهيها نوع آخر من أنواع استعمال النقدين ، وذلك لأنه يَبْطُلُ حكمه بالكليةِ ، ولا يَجوز لأحد صرفه ، ولا كسره ، ولا بيعه .
وقوله : ( لأن الشخص الذي اتَّخذها لم يقصد استعمالها ، ولا أن يتزين بِهَا ، ولا أحد من جهته ) . فيه أن اتِّخَاذ ذلك حرام ، ولا اعتبار لقصد الاستعمال ، وعدمه .
ثُم إنا نَمْنع أنه لم يقصد التزين بِهَا ، بل قَصَدَ ذلك وتَزَيَّنَ كما قاله الشيخُ بعد : إنه أراد به لسان صدق في الآخرين ، وأي تزين أعظم من ذلك .اهـ بتصرف ، المغانم 3/1338 .(1/32)
وهكذا القناديل من الذهب والفضة ، لأن الشخص إذا اتخذها للمسجد لم يقصد استعمالها ، ولا أن يتزين بها هو ، ولا أحد من جهته ، والذي حَرَّم اتخاذها على أصح الوجهين إنما حرم ذلك ؛ لأن النفس تدعو إلى الاستعمال المحرم ، وذلك إذا كانت له ، وأما إذا جعلها للمسجد فلا تدعو النفسُ إلى استعمال حرام أصلاً ، فكيف تحرم وهي لا تسمى أواني(1) .
ورأيت الحنابلة قالوا بتحريمها للمسجد ، وجعلوها من الأواني(2) ، أو مقيسة عليها ، وليس بصحيح ، لا هي أواني ، ولا في معنى الأواني .
[11/ب]
وقد رأيت في القناديل شيئًا آخر ، فإنه ورد في الحديث في أرواح الشهداء : (( تأوي إلى قناديل مُعَلَّقَة بالعرش ))(3)
__________
(1) قال الفيروزآبادي في المغانم 3/1338 : وقوله : ( فكيف تحرم وهي لا تسمى أواني ؟ ) .
هذا عدمُ اطلاعٍ على معنى كلامِ العربِ ، وقلةُ فهم لموضوعِ لغتهم ، وهذه كتبُ اللغةِ لمنْ لا يذوقُ بنفسهِ لغةَ العربِ تشهدُ بأنَّ الآنيةَ والوعاءَ والظرفَ أخواتٌ من وادٍ واحدٍ ، تَسْتَعْمِلُ العربُ كلاً منها مقامَ الآخر ، ولا تفرق البَتَّة . ولا يَختلف اثنان في أن القنديل ظرف ووعاء ، وإذا ثبت ذلك فهو إناء أيضاً .
(2) انظر : المغني 3/18 .
(3) جزء من حديث طويل عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - :
أخرجه مسلم ، في الإمارة ، باب بيان أن أرواح الشهداء في الجنة ، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، رقم : 1887 . والترمذي في التفسير ، باب ومن سورة آل عمران ، رقم : 3014 ، 3015 .
وروي : أنها قناديل من ذهب : كما ورد في حديث طويل عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، ولفظه : (( تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش )) .
أخرجه أبو داود ، في الجهاد ، باب في فضل الشهادة ، رقم : 2520 . وغيره ، والحاكم 2/88 ، وصححه ، ووافقه الذهبي .(1/33)
/ ولعل من هنا جُعِلَت القناديل في المساجد ، وإلا فكان يكفي مَسْرَجَة(1) أو مَسَارج تُنَوَّر(2) ، وكأنها محل النُّور ، فلما كان النور مطلوبًا في المساجد للمصلين جُعِلَتْ فيه .
[ واعلم ](3) أن بين الكعبة والمساجد اشتراكًا وافتراقًا ؛ أما الاشتراك فلإطلاق المسجد على الكعبة ، ولأنها بيت الله ، والمساجد بيوت الله .
وأما الافتراق فالمساجد بُنيَتْ لذكر الله والصلاة فيها ، والكعبة بنيت للصلاة إليها ، واختلف العلماء في الصلاة فيها ، وقال - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله : (( لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثلاثة مَسَاجد ))(4) .
__________
(1) المسْرَجَةُ : مايوضع فيها الفتيلة والدهن للإضاءة . اللسان (سرج) 2/297 .
(2) ساق الفيروزآبادي قول المؤلف (وقد رأيتُ في القناديلِ شيئاً آخر ... إلى قوله : تكفي أو مسارجٌ ) ، ثم عقب عليه بقوله : وهذا من كلام المتصوفة ، ولو كان لذلك أصلٌ وَوَجْهُ مُنَاسَبَةٍ لكان أولى الناس بفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون والسلف ، وإنما تعليق القناديل في المساجد بدعة حدثت بالآخر بعد فشو المنكرات ، وظهور الأمارات . اهـ . المغانم 3/1340 .
(3) سقطت في الأصل ، والمثبت من ب .
(4) متفق عليه ، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وأبي سعيد الخدري :
أما حديث أبي هريرة فقد أخرجه البخاري ، في فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة ، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة ، رقم : 1189 ، ومسلم ، في الحج ، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، رقم : 1397 .
وأما حديث أبي سعيد الخدري فقد أخرجه البخاري ، في جزاء الصيد ، باب حج النساء ، رقم : 1864 . ومسلم ، في الحج ، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره ، رقم : 827 .(1/34)
فالمسجد الحرام الذي تُشَدُّ الرحالُ إليه يَصِحُّ أن يُقالَ : إنه الكعبة ، ويصحُّ أن يقال : إنه الذي حولها الذي هو محلُّ الصلاة ، وفيه مَقامُ إبراهيم ، قال الله تعالى : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } (1) ، فالحرم كله شريف ، ومكة أشرفه ، والحرم المحيط بالكعبة الذي هو المسجد ، أشرفها ، والكعبة أشرفه ، وإن كانت ليس محل الصلاة ، فهي من جهة التعظيم والتبجيل أزيد ، وهو من جهة إقامة الصلاة أزيد ، وتلك الجهة أعظم من هذه ، فلا جَرَمَ كانت في التحلية بالذهب والفضة أحق من المسجد ، فضعف الخلاف فيها ، وقوي فيه ، وأعني في التحلية التي استمرت الأعصار عليها .
[12/أ]
وأما القناديل ، فالمقصود منها التنوير على المصلين ، وهم ليسوا داخل الكعبة ، فمن هذه الجهة / كان المسجد بالقناديل أحق ، لكن في الكعبة ما ذكرناه من الرجحان في التبجيل والتعظيم ، فاعتدلا بالنسبة إلى القناديل ، فالتسوية بينهما في القناديل لا بأس به ، والأصح منه على ما اخترناه : الجواز .
وعلى ما قاله الرافعي : التحريم ، ولا دليل له .
لأنها لا أواني ولا تشبه الأواني(2) ، ولم يرد فيها نهي ، ولا فيها معنى ما نُهي عنه ، لا في المساجد ، ولا في الكعبة ، فكان القول بتحريمها فيهما باطلاً(3) ، ولما ذكر الرافعي وغيره الكعبة والمساجد أطلقوا ، ولا شك أن أفضل المساجد ثلاثة : المسجد الحرام ، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومسجد بيت المقدس .
[12/ب]
__________
(1) البقرة : 125 .
(2) في (ب) ولا شبه بالأواني .
(3) تقدم قول الحافظ ابن حجر في الرد على ذلك ، وأكرره لأهميته ، قال : علة المنع ترجع إلى عينهما - أي قناديل الذهب والفضة - ثم قال : رأي الجمهور على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة في الأكل والشرب ، ويلحق بهما مافي معناهما ، مثل التطيب ، والتكحل ، وسائر وجوه الاستعمالات . فتح الباري 10/100 .(1/35)
ومن يقول بجواز التحلية والقناديل الذهبية في سائر المساجد ، فلا شك أنه يقول بها في المساجد الثلاثة بطريق الأولى ، ومن يقول بالمنع في سائر المساجد لم يصرحوا في المساجد الثلاثة بشيء ، لكن إطلاقهم محتمل لهما ، وعموم كلامهم يشملها ، وكلامي هذا لا يختص بمسجد المدينة ومسجد بيت المقدس ، بل يعم الثلاثة ، لأن الكعبة غير المسجد المحيط بها ، فصار هو من جملة المساجد المعطوفة(1) عليها ، وينبغي أن نرتب الخلاف ، فيقال في سائر المساجد غير الثلاثة وجهان ؛ أصحهما الجواز ، كما قاله القاضي حسين ، ومسجد بيت المقدس أولى بالجواز ، والمسجدان ؛ مسجد مكة ، ومسجد المدينة ، أولى من مسجد بيت المقدس بالجواز ، ثم إن المسجدين على الخلاف / بين مالك وغيره ، فمالك يقول : المدينة أفضل ، فيكون أولى بالجواز من مسجد مكة ، وغيره يقول : مكة أفضل(2) ، فقد يقول : إن مسجدها أولى بالجواز ، وقد يقول : إن مسجد المدينة انضاف إليه مجاورة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله ، وقصدُ تعظيمه بما في مسجده من الحلية والقناديل ، وهذه كلها مباحث ، والمنقول ما قدمناه في مذهبنا ، وبه تبين أن الفرق الذي ذكره الرافعي مستغنى عنه ، وأنه ليس بصحيح ، وأن قوله : إن ستر الكعبة وتطييبها من القربات . صحيح الآن بعد الشروع ، وأما قبل ذلك فقد قلنا : إنه لم يكن واجبًا(3) ، وأن السترة صارت واجبة بعد أن لم تكن ، وأما كونها قربة من الأصل ، أو صارت قربة ، ففيه نظر .
__________
(1) في (ب) : التي حض . بدل : المعطوفة .
(2) للتوسع في رأي الفريقين وأدلتهما ، انظر : فتح الباري 3/81 ، وفاء الوفا 1/28-29 .
(3) في (ب) : له أصل . بدل : واجباً .(1/36)
وأما الطيب فالظاهر أنه ليس بواجب ، بل قربة ، والظاهر أنه قربة من الأصل فيها وفي كل المساجد ، وإن كان فيها أعظم ، هذا ما يتعلق بمذهبنا(1) في اتخاذها من غير وقف . فإن وُقِفَ الْمُتَّخَذُ من ذلك من القناديل أو الصفائح ونحوها ، فقد قطع القاضي حسين والرافعي بأنه لا زكاة فيه ، وأما قطع القاضي حسين فلا يرد عليه شيء ، لأنه يقول بإباحتها ، ومقتضاه صحة وقفها ، وإذا صح وقفها فلا زكاة .
[13/أ]
وأما الرافعي فقد رجح تحريمها ، ومقتضاه أنه لا يصح وقفها لهذا الغرض ، وإذا لم يصح وقفها تكون باقية على ملك / مالكها ، وتكون زكاتها مبنية على الوجهين فيما إذا لم تكن موقوفة ، فلعل مراد الرافعي إذا وقفت على قصد صحيح ، أو وقفت وفرعنا على صحة وقفها .
هذا ما يتعلق بمذهبنا .
وأما مذهب مالك رحمه الله ، ففي التهذيب من كتبهم : ليس في حلية السيف ، والمصحف ، والخاتم زكاة(2) .
وفي النوادر لابن أبي زيد روى ابن عبد الحكم عن ابن القاسم عن مالك : إن كان ما في السيف والمصحف من الحلية تبعًا له فلا زكاة .
وفي كتاب ابن القرطبي(3) : يزكي ما حلي به ، ما خلا مصحفاً وسيفاً وخاتماً وحِلِيَّ النساء وأجزاءَ القرآن ، وذكرَ غيرَ ذلك ، وقال : فلا زكاة فيه ، ثم قال : وما كان في جدار من ذهب أو فضة ، لو تكلفَ إخراجُه أخرجَهُ منه بعدَ أجرةٍ من يعمله شيء ، فليزكه ، وإن لم يخرج منه إلا قدر أجر عمله ، فلا شيء فيه .
وفي النوادر عن مالك : لا بأس أن يحلي المصحف بالفضة ، وذلك من العتبية من سماع أشهب .
__________
(1) في (ب) : هذا ما يقتضي مذهبنا . بدل : هذا مايتعلق بمذهبنا .
(2) سيأتي بعد قليل قول سحنون ، والقرافي ، في زكاة القناديل وحلية الكعبة .
(3) انظر : المفهم 3/435 .(1/37)
وفيه : ولقد نهيت عبد الصمد أن يكتب مصحفًا بالذهب ، قال : وينظر في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف يكشف ، [ ولم يعجبه أن يستر بالخيش ](1) .
ولينظر في موطأ القعنبي عن مالك في المساقاة ، ومثل ذلك أنه يُبَاع المصحفُ وفيه الشيء من الحلي من الفضة والسيفُ ، وفيه مثلُ ذلك .
[13/ب]
ولم تزل على هذا بيوع الناس بينهم يبيعونها ويبتاعونها / جائزة بينهم .
قال القرافي في الذخيرة : إنما تحلية الكعبة والمساجد بالقناديل والعلائق والصفائح على الأبواب والجُدُر من الذهب والورِق ، قال سحنون : يزكيه الإمام كل عام كالعين الْمُحَبَّسَة(2) .
وقال أبو الطاهر : وحلية الحلي المحظور كالمعدومة والمباحة ، فيها ثلاثة أقوال :
أحدها : يُزَكَّى كالمصكوك . والثاني : العرض إذا بيعت وجبت الزكاة حينئذ ، فيكمل بها النصاب هنا . والثالث : يتخرج على القول بأن حلي الجواهر(3) يجعل مكان العين ، فيكمل بها النصاب هنا .
وأما الحنفية ؛ فعند أبي حنيفة : لا بأس بنقش المسجد بالجص والساج ، وماء الذهب إذا كان من مال نفسه ، وكذا في سقف البيوت وتمويهها بماء الذهب ، وكرهه أبو يوسف ، وعلى قول أبي حنيفة : المصحف أولى بالجواز ، وكذا المسجد .
واختلفت الحنفية : هل نقش المسجد قربة أم لا ؟ والصحيح : أنه ليس بقربة ، لكنه مباح ، فالذي تقتضيه قواعد أبي حنيفة أن تحلية المسجد بتعليق قناديل الذهب جائز(4) .
__________
(1) في (ب) ولم ينهه أن يشتري بالخيش .
(2) نقل القرافي في الذخيرة 3/50 قول سحنون .
(3) في (ب) الحلي والجواهر .
(4) قال صاحب المغانم معلقاً : وهذه كُتُبُ الحنفية بأيدينا ونصوصُ الجميع تعطي أن ذلك غير جائزٍ ، وإنَّما الجائز من ذلك هو تَمْويهٌ أو تزيينٌ ، والأكثرون من الحنفية كرهوا ذلك أيضاً ، وأن المسجد يُصَانُ عن الزَّخَارِفِ . المغانم 3/1341 .
قال ابن الهمام : ومحمل الكراهة في تزيين المساجد هو التكلف بدقائق النقوش ونحوه خصوصاً في المحراب . فتح القدير 1/434 .(1/38)
قال صاحب الكافي : لا بأس بنقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب(1) .
وقال : قوله - يعني صاحب الوافي - : لا بأس ؛ يدل على أن المستحب غيره .
قال : وأصحابنا جوزوا ذلك ، ولم يستحسنوه ، ومراده بأصحابهم : الجميع .
[14/أ]
فأبو يوسف / ما يخالف في المسجد ، وإنما يخالف في البيوت .
وقال القدوري في شرح مختصر الكرخي : إن أبا حنيفة جوز تمويه السقوف بالذهب ، وأن أبا يوسف كره ذلك ، قال : فعلى قول أبي حنيفة : المصحف أولى بذلك ، وكذا المسجد .
وفي الكافي : قيل : يكره ، وقيل : هو قربة ، لأن العباس زين المسجد الحرام في الجاهلية والإسلام ، وكسى عمر الكعبة ، وبنى داود صلوات الله عليه مسجد بيت المقدس من الرخام والمرمر ، ووضع فيه على رأس القبة كبريتًا أحمر يضيء اثني عشر ميلاً ، وزينة مسجد دمشق شيء عظيم ، وفي ذلك ترغيب الناس في الجماعة ، وتعظيم بيت الله .
وكونه من أشراط الساعة لا يدل على قبحه ، بل يدل على أن المراد تزيين المساجد وتضييع الصلوات . هذا كلام صاحب الكافي من الحنفية ، قال : فإذا اجتمعت أموال المسجد ، وخاف الضياع بطمع الظلمة فيها ، فلا بأس به حينئذ ، يعني من مال المسجد ، وفي غير هذه الحالة لا يباح من مال المسجد ، وإنما يباح من مال نفسه .
وفي قنية المنية من كتبهم : لو اشترى من مال المسجد شمعًا في رمضان يضمن ، وهذا محمول على ما إذا لم يكن شرط الواقف ولا جرت به عادة ذلك الوقف .
وقال السروجي في الغاية شرح الهداية : ولا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج ، وماء الذهب ، وكذا تحلية المصحف بالذهب والفضة ، وقيل : هو قربة .
وفي الجامع الصغير لقاضي خان : منهم من استحسن ذلك ، ومنهم من كرهه .
__________
(1) وانظر : فتح القدير لابن الهمام 1/435 .(1/39)
قال الأزرقي : أول من كسى الكعبة تُبَّعٌ(1) . ثم إلياس في الجاهلية ، ثم كساها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم معاوية ، وكان المأمون يكسوها ثلاث مرات ؛ الديباجَ الأحمرَ يوم التروية ، والقَباطيَّ أول رجب ، والديباجَ الأبيضَ في سابعِ عشري رمضان(2) .
وأما تذهيب الكعبة فإن الوليد بن عبد الملك بعث إلى خالد بن عبد الله والي مكة ، ستة وثلاثين ألف دينار ، وجعلها على بابها والميزاب والأساطين والأركان(3) .
وذكر في الرعاية عن أحمد : أن المسجد يصان عن الزخرفة ، وهم محجوجون بما ذكرناه من إجماع المسلمين في الكعبة .
وذكر ذلك صاحب الطراز من المالكية .
وأما الحنابلة ؛ ففي المغني من كتبهم : لا يجوز تحلية المصحف ولا المحاريب ، وقناديل(4) الذهب والفضة(5)؛ لأنها بمنزلة الآنية ، وإن وقفها على مسجد أو نحوه لم يصح ، وتكون بمنزلة الصدقة ، فَيُكْسَر ويُصرف في مصلحة المسجد(6) .
[15/أ]
فأما قولهم إنها بمنزلة الآنية فليس بصحيح ؛ لما قدمناه ، وأما قولهم : إنه إذا لم يصح وقفها تكون بمنزلة الصدقة فليس بصحيح ؛ لأن واقفها إنما خرج عنها على أن تكون وقفًا دائمًا وله قصد / في ذلك ، فإذا لم يصح ينبغي رجوعها إليه .
فإن قلت : قد قال المتولي من الشافعية : لو وقف على تجصيص المسجد وتلوينه ونقشه هل يجوز ؟ على وجهين ؛ أحدهما : يجوز ؛ لأن فيه تعظيم المسجد وإعزاز الدين .
__________
(1) تاريخ مكة 1/249 .
(2) انظر : تاريخ مكة للأزرقي 1/249 ، والإعلام بأعلام بيت الله الحرام 102-103 .
(3) انظر : تاريخ مكة للأزرقي 1/211-212 ، والإعلام 87 .
(4) في (ب) من الذهب .
(5) النص في المغني : ولايجوز تحلية المصاحف ولا المحاريب ولا اتخاذ قناديل من الذهب والفضة .
(6) المغني 3/18 .(1/40)
والثاني : لا ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر تزيين المساجد في أشراط الساعة(1) ، وألحقه بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
قلت : أما كونه من أشراط الساعة فلا يدل على التحريم ، وأما كونه ألحقه بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالذي ورد : لتزخرفنها ثم لا تعمرونها إلا قليلاً(2) .
فالمذموم عدم العمارة بالعبادة ، أو الجمع بينه وبين الزخرفة ، أو الزخرفة الملهية عن الصلاة ، فهي المكروهة .
أما التجصيص ففيه تحسين للمساجد ، وقد فعله الصحابة ؛ عثمان فمن بعده ، ولا شك أن بناء المساجد من أفضل القرب ، وتحسينها من باب اختيار الأعمال الصالحة ، فهو صفة القربة ، وقد رآه المسلمون حسنًا .
__________
(1) سيأتي تخريجه بعد قليل .
(2) روى أبو قِلابة ، عن أنس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يأتي على الناس زمان يتباهون بالمساجد ، لايعمرونها إلا قليلاً ، أو قال : يعمرونها قليلاً .
أخرجه ابن خزيمة ، 2/281 ، وإستاده ضعيف . والذي يصح ، ما رواه أنس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لاتقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد . أخرجه أبو داود ، في الصلاة ، في بناء المساجد ، رقم : 450 ، وابن ماجه ، في المسجد ، في تشييد المسجد ، رقم : 739 ، وابن خزيمة ، 2/281-282 .
ويشهد له ما أخرجه ابن حبان 4/493 رقم : 1614 عن ابن عباس موقوفاً عليه : لتزخرفنها كما زخرفتها اليهود والنصارى .(1/41)
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن(1) . وكل ذلك حسن ، ولا يكره منه شيء إلا ما يشغل خواطر المصلين ، فلا شك أنه يكره ، كراهة تنزيه ، لا تحريم .
فصل : هذا ما يتعلق بمكة شرفها الله تعالى .
فننتقل إلى المدينة الشريفة .
-
__________
(1) قسم من حديث طويل ، أخرجه أحمد رقم : 3600 ، وأبو داود الطيالسي ص : 23 ، من طريق عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود موقوفاً ، ولفظه : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه ، فابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رأى المسلمون حسناً ، فهو عند الله حسن ، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء .(1/42)
مخطوطات المدينة المنورة
تنزيل السكينة على قناديل المدينة
لتقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي (756هـ)
( القسم الثاني )
د. مصطفى عمار منلا
باحث ورئيس قسم المخطوطات والوثائق
بمركز بحوث ودراسات المدينة المنورة
[15/ب]
... فننتقل إلى المدينة الشريفة ، دار / الهجرة ، على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم ، ونقول : فيها المسجد والحجرة المعظمة ، أما المسجد فقد ذكرنا حكم المساجد في التحلية وتعليق القناديل الذهب والفضة فيها(1) ، وقلنا : إن مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى بذلك من سائر المساجد(2) التي لاتشد الرحال(3) إليها ، ومن مسجد بيت المقدس وإن كانت الرحال تشد إليه ، ومن مسجد مكة عند مالك - رضي الله عنه - (4) بلا إشكال .
__________
(1) انظر : العدد السابق من المجلة (أي : الحادي عشر) ، ص : 212 .
(2) ذكر الفيروزآبادي قول السبكي ثم قال : وقد ذكرنا الجواب عن ذلك ، ولو جَوَّزَ مُجَوِّزٌ ذلك وارتكبه مع كراهة في بعض المساجدِ لكان مسجدُ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي شرفه الله تعالى بهذا النبي العظيم والنور العميم أولى بتنزيههِ وتطهيرهِ عن ذلك.
السِّرُّ أنه أمر وقع فيه الخلافُ بين الأئمةِ المجتهدين، وذهب جماهيرهم أو جمهورهم أو كثيرهم إلى حرمته وعدم جوازه ، أليس صاحب هذا المحل الشريف ومشرفه - صلى الله عليه وسلم - أبعَدَ الناس عن زخارف الدنيا وزينتها ، وأكثرَ الخلق تَجَنُّباً عن النَّظَرِ إليها والالتفات إلى صفوها ؟. المغانم 3/1324.
وكذا قال السمهودي في وفاء الوفا : ومن تأمل سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحواله لم يخف عليه أن كل ذلك لم يكن يعجبه في حياته ، هذا الذي أعتقده .اهـ . وفاء الوفا 2/370.
(3) في (ب) بزيادة : إلا ، وكتب على الهامش : لعلها زائدة .
(4) لأنه من القائلين بتفضيل المدينة على مكة . انظر : فتح الباري 3/81 ، وفاء الوفا 1/93 .(1/1)
وقلنا : إنه يحتمل أن يقال بأولويته على مذهب من يقول بتفضيل مكة أيضاً، لما يختص به هذا المسجد الشريف(1) من مجاورة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يمنع من رفع الصوت فيه(2) ، ولم يكن يفعل ذلك في مسجد مكة ، وما ذاك إلا للأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ووجوب معاملته الآن كما كان يَجبُ أن يُعَامَلَ به لَمَّا كان بين أظهرنا ، وكانت عائشة رضي الله عنها تسمعُ الوتدَ يُوتَد ، والمسمارَ يُضرب في البيوت المطيفة به ، فتقول : لا تُؤذوا رَسُولَ الله(3) - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله ، فمن هذا الوجه يستحقُ من التعظيم والتوقير ما لا يَستحقهُ غيره ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( صَلاةٌ في مسجدي هذا أفضلُ من ألف صلاة فيما سواهُ إلا المسجدَ [الحرامَ] ))(4)(5) .
__________
(1) وانظر : إعلام الساجد ص : 185 ، ومابعدها .
(2) عن السائب بن يزيد قال : كنت قائماً في المسجد ، فحصبني رجل ، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب ، فقال : اذهب فأتني بهذين ، فجئته بهما ، قال : من أنتما ؟ أو: من أين أنتما؟ قالا : من أهل الطائف ، قال : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . أخرجه البخاري ، في الصلاة ، باب رفع الصوت في المساجد ، رقم : 470 .
(3) رواه ابن زبالة في أخبار المدينة ص 131 . ومن طريقه : يحيى ( كما في وفاء الوفا 2/559 ) ، و ابن النجار في الدرة الثمينة ص 197 ، وابن عساكر في إتحاف الزائر ، ص 148.
وابن زبالة : كذبوه .
(4) سقطت من الأصل، والمثبت من (ب)..
(5) متفق عليه : رواه مسلم من عدة طرق عن أبي هريرة ، وابن عمر - رضي الله عنهم - : في الحج ، باب فضل الصلاة بمسجد مكة والمدينة ، (صحيح مسلم بشرح النووي 9/163-165) .
وأخرجه البخاري ، بلفظ : (( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام )) من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه - ، في الصلاة ، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة ، رقم : 1190 .(1/2)
فعند مالك يكون أفضل من المسجد الحرام بما دون الألف(1) ، وعندنا(2) / وعند الحنفية والحنابلة : الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة(3) فيه (4)(5) .
واختلفوا : إذا وسع عما كان عليه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هل يثبت هذه الفضيلة له ، أو يختص بالقدر الذي كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ؟
__________
(1) رواه أشهب عن مالك ، وقاله ابن نافع صاحبه. التمهيد 6/17 و 2/290 .
وابن نافع هو : عبد الله بن نافع الزبيري.
قال ابن عبد البر : لفظ ( دون ) يشمل الواحد فيلزم أن تكون الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بتسعمائة وتسع وتسعين صلاة . التمهيد 6/19 وحكاه ابن حجر في الفتح 3/81 عن ابن عبد البر ثم قال : وحسبك بقول يؤول إلى هذا ضعفاً .
(2) أي الشافعية..
(3) في الأصل حاشية نصها (( وما بعد مكة بقعة أفضل من مدينة الرسول - عليه السلام - روى ابن عباس - رضي الله عنه - أنه - عليه السلام - قال :
(( صلاة في مسجد المدينة بعشرة آلاف صلاة ، وصلاة في مسجد الأقصى بألف صلاة وصلاة في مسجد الحرام بمئة ألف صلاة )) . إحياء في كتاب أسرار الحج . اهـ . يعني أنه في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي ، وهو فيه ، وقد صدره بقوله : وروي ، وقال العراقي كما في إتحاف السادة المتقين 4/284 : غريب بجملته هكذا .
(4) أي : مسجد المدينة .
(5) انظر : شرح النووي 9/163 ، فتح الباري 3/80 ، وفاء الوفا 2/144 ، إعلام الساجد ، ص 119..(1/3)
وممن رأى الاختصاص النووي - رضي الله عنه - ، للإشارة [إليه](1) بقوله : (( مسجدي هذا ))(2) ، ورأى جماعة عدم الاختصاص ، وأنه لو وسع مهما وسع فهو مسجده ، كما في مسجد مكة إذا وسع ، فإن تلك الفضيلة ثابتة له(3) .
__________
(1) سقطت من الأصل والمثبت من (ب) .
(2) قال النووي : واعلم أن هذه الفضيلة مختصة بنفس مسجده - صلى الله عليه وسلم - الذي كان في زمانه دون ما زيد فيه بعده ، فينبغي أن يحرص المصلي على ذلك. المجموع 8/209 ، شرح صحيح مسلم 9/166 . وقد أكد النووي ذلك بقوله : بخلاف مسجد مكة فإنه يشمل جميع مكة ، بل يعم جميع الحرم . وانظر : الإيضاح في المناسك ، ص 165 .
(3) وهذا رأي جمهور أهل العلم. قال السمهودي : ومتمسك من ذهب إلى التخصيص الإشارة في قوله - صلى الله عليه وسلم - : مسجدي هذا ، ولعله - صلى الله عليه وسلم - إنما جاء بها ليدفع تَوَهُّمَ دخول سائر المساجد المنسوبة إليه بالمدينة غير هذا المسجد ، لا لإخراج ما سيزاد فيه . ثم قال : وقد سَلَّمَ النووي أن المضاعفة في المسجد الحرام تَعُمُّ مازيدَ فيه ، فليكن مسجد المدينة كذلك ، كما أشار ابن تيمية ، قال : وهو الذي يدل عليه كلام الأئمة المتقدمين وعملهم ، وكان الأمر عليه في عهد عمر وعثمان رضي الله عنهما ، فإن كلاً منهما زاد في قبلة المسجد ، وكان مقامه في الصلوات الخمس في الزيادة وكذلك مقام الصف الأول الذي هو أفضل مايقام فيه ، ويمتنع أن تكون الصلاة في غير مسجده أفضل منها في مسجده ، وأن يكون الخلفاء والصفوف الأول كانوا يصلون في غير مسجده. ثم قال : وما بلغني عن أحد من السلف خلاف هذا ، إلا أن بعض المتأخرين - يشير إلى قول النووي - ذكر أن هذه ليست من مسجده ، وماعلمت له سلفاً في ذلك . وفاء الوفا 2/72 ، وانظر : مجموع فتاوى ابن تيمية 27/419-423 .(1/4)
وقد قيل : إن مسجدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في حياته سبعين ذراعاً في ستين ذراعاً(1) . ولم يزد فيه أبو بكر شيئاً(2) ، وزاد فيه عمر ، ولم يغير صفة بنائه(3) ، ثم زاد فيه عثمان زيادة كبيرة ، وبنى جداره بالحجارة المنقُوشَة والقَصَّة(4) - وهي الْجَِصُّ - وجعل عَمَدَهُ من حجارة مَنْقُوشَة وسَقَفَهُ بالسَّاج(5)(6) .
__________
(1) انظر : الدرة الثمينة ، ص 114 ، المغانم المطابة 1/418 .
(2) قال أهل السير : لم يزد أبو بكر - رضي الله عنه - في المسجد شيئاً لأنه اشتغل بالفتح . المغانم 1/418 ، وفاء الوفا 2/225 .
(3) أي بناه باللبن والجريد ، وأعاد عمده خشباً . انظر وصف زيادة عمر - رضي الله عنه - في البخاري ، كتاب الصلاة ، باب بنيان المسجد ، رقم : 446 .
وللتوسع في زيادة عمر - رضي الله عنه - . انظر : المغانم 1/418-419 ، وفاء الوفا 2/225 .
(4) القصة : الجص ، لغة حجازية ، وقيل : الحجارة من الجص . اللسان 7/76 (قصص) .
قال أبو داود : القصة : الجص (فيه لغتان : فتح الجيم ، وكسرها) . سنن أبي داود ، 452 .
قال الخطابي : تشبه الجص ، وليست به . انظر : فتح الباري 1/643 .
(5) الساج : شجر . القاموس ، ص 249 (ساج) .
وفي فتح الباري : نوع من الخشب معروف يؤتى به من الهند . 1/540.
وفي الإفصاح في فقه اللغة : الساج : شجر يعظم جداً ، ويذهب طولاً وعرضاً ، وله ورق أمثال التراس الديلمية فيغطى الرجل بالورقة منه فتكنه من المطر ، ولاينبت إلا ببلاد الهند والزنج . اهـ. 2/1117 .
(6) للتوسع في زيادة عثمان - رضي الله عنه - ، انظر : الدرة الثمينة ، ص 155-156 ، تحقيق النصرة ، ص 47-48 ، المغانم المطابة 1/421 ، وفاء الوفا 2/248 .(1/5)
ثم زاد فيه الوليد - في ولاية عمر بن عبد العزيز على المدينة ومباشرته - وعمل سقفه بالسَّاج(1) وماء الذهب(2) .
وكان الوليد أرسل إلى ملك الروم : إني أريد أن أبني مسجد نبينا ، فأرسلَ إليه بأربعين ألف دينار ، وأربعين رومياً ، وأربعين قبطياً ؛ عمالاً ، وشيئاً من آلات العمارة(3) .
وعمر بن عبد العزيز أول من عمل له محراباً وشرفات في سنة إحدى وسبعين(4) ، ثم وسعه المهدي(5) على ما هو اليوم في المقدار ، وإن تغير بناؤه .
فصل :
__________
(1) سقط من (ب) من قوله : (ثم زاد) إلى : (سقفه بالساج) .
(2) للتوسع في زيادة الوليد ، انظر : تحقيق النصرة ، ص 49 ، المغانم 1/422 ، وفاء الوفا 2/262 .
(3) روى هذا الخبر ابن زبالة في قصة طويلة . أخبار المدينة ، ص 116-122 .
وابن زبالة : كذبوه . ورواه أيضاً : يحيى ، وقدامة بن موسى . انظر : وفاء الوفا 2/269 .
(4) رواه ابن زبالة في أخبار المدينة ، ص 122 , ولفظه : مات عثمان وليس في المسجد شرفات ولامحراب ، فأول من أحدث المحراب والشرفات عمر بن عبد العزيز . ثم قال في رواية أخرى : ولم يكن للمسجد شرفات حتى عملها عبد الواحد بن عبد الله النصري وهو وال على المدينة سنة أربع ومائة . انتهى .
قال السمهودي في وفاء الوفا 2/278 : فهذا يقتضي أن عمر بن عبد العزيز لم يحدث الشرفات في زيادة الوليد ، بل ولا في زمن خلافته بعده ، لأن وفاته كانت في رجب سنة إحدى ومائة .
(5) سنة 161هـ . انظر: وفاء الوفا 2/291 .(1/6)
أما الحجرة / الشريفة المعظمة فتعليق القناديل الذهب فيها أمر معتاد من زمان ، ولا شك أنها أولى بذلك من غيرها(1) ، والذين ذكروا الخلاف في المساجد لم يذكروها ولا تعرّضوا لها ، كما لم يتعرضوا لمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكم من عالم وصالح من أقطار الأرض قد أتاها للزيارة ولم يحصل من أحد إنكار للقناديل [الذهب](2) التي هناك(3) ،
__________
(1) ذكر الفيروزآبادي قول السبكي ثم قال : وليته قَيَّدَ الزمان ، فإنه يصدق على القليل والكثير من الأحيان ، ولم ينكر ما قاله إنسان ، ولم يختلف فيه اثنان ، ولكن تيسر زمان سُوِّغَ فيه هذا الذي حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بصريح البيان . المغانم 3/1343 .
(2) سقطت من الأصل والمثبت من (ب) .
(3) حصلت الزخرفة في أواخر عصر الصحابة ، وسكت كثير من أهل العلم عن إنكار ذلك خوفاً من الفتنة ، ورخص في ذلك بعضهم ، وهو قول أبي حنيفة ؛ إذا وقع ذلك على سبيل التعظيم للمساجد ، ولم يقع الصرف من بيت المال . ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري 1/540-541. ثم قال : وقال ابن المنير : لما شيد الناس بيوتهم وزخرفوها ناسب أن يصنع ذلك بالمساجد ؛ صوناً لها عن الاستهانة . وتعقب بأن المنع إن كان للحث على اتباع السلف في ترك الرفاهية فهو كما قال ، وإن كان لخشية شغل بال المصلي بالزخرفة فلا لبقاء العلة . اهـ. ... ... ... ... ... ... ... ... =
= وقد ساق الفيروزآبادي في المغانم 3/1345 قول السبكي ثم علق عليه بقوله : هذا كلام عجيبٌ ؛ لأن هذه القناديل لم تكن في زمن الصحابة والتابعين وأتباعِ التابعين ، الذين كانوا أئمة الدين وهداة المتقين ، ومن الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكر بِمَكان مكين .
وإنَّما حَدَثَ ذلك بعدهم ، ومع ذلك فَحُسْنُ الظن بالعلماءِ أنه ما من عالم حَضَرَ واطَّلَعَ على ذلك إلا وقد أَنْكَرَ غايةَ الإنكارِ ، وأصرَّ المخالفون على ضلالهم غاية الإصرار .
وكم من بدعة شنيعة كانت يُتَظَاهر بِهَا هنالك غايةَ الإظهارِ ، ومع ذلك لم يبلغنا عن أحد من العلماء أنه تَصَدَّى للإنكار ، فعدم بلوغ خبره إلينا لا يدل على عدم وقوعِ الإنكار منهم .(1/7)
فهذا وحده كافٍ في العلم بالجواز مع الأدلة التي قدمناها عليه ، مع استقراء الأدلة الشرعية فلم يوجد فيها ما يدل على المنع منه ، فنحن نقطع بجواز ذلك ، ومن منع ، أو رام إثبات خلاف فيه ، فليثبته(1).
والمسجد وإن فضلت الصلاة فيه ، فالحجرة لها فضل آخر مختص بها يزيد شرفها به ، فحكم أحدهما غير حكم الآخر ، والحجرة الشريفة هي مكان الدفن(2) الشريف في بيت عائشة وما حوله ، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وُسِّعَ وأدخلت حجر نسائه التسع فيه(3) ، وحجرة حفصة هي الموضع الذي يقف فيه الناس اليوم للسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكانت مجاورة لحجرة عائشة التي دفن فيها - صلى الله عليه وسلم - في بيتها ، وتلك الحجر كلها دخلت في المسجد ، فأما ما كان غير بيت عائشة رضي الله عنها فكان للنسوة الثمان(4) به اختصاص ، ولهن في تلك البيوت حق السكنى في حياتهن ، فيحتمل أن يقال : إن البيوت التسعة كانت للنساء / التسع ، لقوله تعالى { واذكرن ما يتلى في بيوتكن } (5) . ويحتمل أن يقال إنها(6) للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، لقوله تعالى : { بيوت النبي } (7) وهذا هو الأولى .
__________
(1) تقدم الحديث عن ذلك بالتفصيل في أول القسم الأول ، ص : 205 من العدد 11 ، فراجعه لزاماً .
(2) في (ب) : ( المدفن ) ، بدل ( الدفن ) .
(3) في توسعة الوليد بن عبد الملك سنة 88-91 هـ. انظر: تحقيق النصرة 49، المغانم 1/422، وفاء الوفا 2/262.
(4) في (ب) : ( الثمانية ) ، بدل ( الثمان ) .
(5) الأحزاب : 34 .
(6) في الأصل : ( أيضاً ). والمثبت من (ب) وهو أولى..
(7) الأحزاب : 53 .(1/8)
ثم بعد هذا هل تكون بعده صدقة ، ويكون لهنّ فيها حق السكنى ، أو فكيف يكون الحال ؟ والظاهر الأول ، ويحتمل أن يقال : إنها لهن بعده ، وتكون قد دخلت بالشراء أوالوقف في المسجد ، كغيرها من الأماكن . وإن كان الأول فتكون أدخلت في المسجد ، وإن لم يكن لها حكمه ، وحكم صدقته - صلى الله عليه وسلم - جار عليها ، ومن جملة صدقته انتفاع المسلمين بالصلاة والجلوس فيها .
هذا كله في غير المدفن الشريف ، أما المدفن الشريف فلا يشمله حكم المسجد ، بل هو أشرف من المسجد ، وأشرف من مسجد مكة ، وأشرف من كل البقاع ، كما حكى القاضي عياض الإجماع(1) على ذلك ؛ أن الموضع الذي ضم أعضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لا خلاف في كونه أفضل ، وأنه مستثنى من قول الشافعية والحنفية والحنابلة وغيرهم أن مكة أفضل من المدينة ، ونظم بعضهم في ذلك :
جَزَمَ الجميعُ بأنَّ خيرَ الأرض ما ... قد حَاطَ ذاتَ المصطفى وحَواهَا
ونعم لقد صَدَقوا بسَاكِنِهَا عَلَتْ ... كالنفس حين زَكَتْ زَكَى مَأوَاهَا(2)
__________
(1) الشفا 2/682 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأما التربة التي دفن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا أعلم أحداً من الناس قال إنها أفضل من المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو المسجد الأقصى إلا القاضي عياض فذكر ذلك إجماعاً وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه ولاحجة عليه ، بل بدن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من المساجد. فتاوى ابن تيمية 27/37 .
(2) البيتان من قصيدة طويلة لأبي محمد عبد الله بن عمر البسكري . وقد ذكرها كاملة السمهودي في وفاء الوفا 5/127-129 .(1/9)
ورأيت جماعة يستشكلون نقل هذا الإجماع ، وقال لي قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي(1) : طالعت في مذهبنا خمسين تصنيفاً لم أجد فيها تعرضاً(2) لذلك . وقال / لي : ذكر الشيخ عز الدين بن عبد السلام(3) لنا ولكم أدلة في تفضيل مكة على المدينة ، وذكرت أنا أدلة أخرى ، والأدلة التي قال إن الشيخ عز الدين ذكرها وقفت عليها ، ووقفت على ما ذكره الشيخ عز الدين في تفضيل بعض الأماكن على بعض ، وقال : إن الأماكن والأزمان كلها متساوية ، ويفضلان بما يقع فيهما ، لا بصفات قائمة بهما ، ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل الله العباد فيهما من فضله وكرمه ، وإن التفضيل الذي فيهما أن الله يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين فيهما ، هكذا قال الشيخ عز الدين رحمه الله(4) .
__________
(1) أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي ، توفي سنة 710 . المنهل الصافي 1/201 .
(2) في (ب) : ( نصاً ) بدل ( تعرضاً ) .
(3) عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلمي ، توفي سنة 660هـ . طبقات الشافعية 8/209 .
(4) في كتابه: قواعد الأحكام في مصالح الأنام 1/45-50 .(1/10)
وأنا أقول : قد يكون لذلك(1) ، وقد يكون لأمر آخر فيهما وإن لم يكن عمل ، فإن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة ، وله عند الله من المحبة له ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه ، وليس لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل الأمكنة، وليس محل عمل [لنا](2) ، لأنه ليس مسجداً ، ولا له حكم المساجد ، بل هو مستحق للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا معنى غير تضعيف الأعمال فيه ، وقد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيّ ، وأعماله فيه مضاعفة أكثر من كل أحد فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن ، فافهم هذا ينشرح صدرك لما قاله القاضي عياض من تفضيل ما ضمّ أعضاءه - صلى الله عليه وسلم - / باعتبارين :
أحدهما : ما قيل إن كل أحد يدفن في الموضع الذي خلق منه .
والثاني : تَنْزل الرحمة والبركات عليه ، وإقبال الله .
__________
(1) في (ب) : ( كذلك ) بدل ( لذلك ) .
(2) سقطت من الأصل والمثبت من (ب) .(1/11)
ولو سَلَّمنا أن الفضل ليس للمكان لذاته ، لكن لأجل من حَلَّ فيه ، إذا عرفت هذا ، فهذا المكان له شرف على جميع المساجد وعلى الكعبة ، فلا يلزم من مَنْعِ تعليق قناديل الذهب في المساجد والكعبة المنعُ من تعليقها هنا ، ولم نرَ أحداً قال بالمنع هنا ، وكما أن العرش أفضل الأماكن العلوية ، وحوله(1) قناديل ، كذلك هذا المكان أفضل الأماكن الأرضية ، فناسب أن يكون فيه قناديل ، وينبغي أن يكون من أشرف الجواهر ، كما أن مكانها أشرف الأماكن ، فقليل في حقها الذهب والياقوت ، وليس المعنى المقتضي للتحريم موجوداً هنا ، فزالت شبهة المنع(2) ، والقنديل الذهب ملك لصاحبه يتصرف فيه بما شاء ، فإن وقفه هناك إكراماً لذلك المكان وتعظيماً صحّ وقفه ، ولا زكاة فيه ، وإن لم يقفه واقتصر على إهدائه(3) له صحّ أيضاً ، وخرج(4) عن ملكه بقبض من صحّ قبضه لذلك ، وصار مستحقاً لذلك المكان كما يصير(5) المهدى للكعبة مستحقاً لها ، وكذلك المنذور لهذا المكان ، كالمنذور للكعبة ، وقد يزاد هنا فيقال : إنه مستحق للنبي - صلى الله عليه وسلم - والنبي - صلى الله عليه وسلم - حيّ ، / وإنما يحكم بانقطاع ملكه بموته عما كان في ملكه وجعله صدقة بعده ، أما هذا النوع فلا يمنع ملكه له ، وهو الذي في أذهان كثير من الناس ، حيث يقولون : هذا للنبي - عليه السلام - ، هذا إذا لم يجعله وقفاً ، وإن جعله وقفاً فالموقوف عليه كذلك إما نفس الحجرة الشريفة كالكعبة ، وإما النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه على ما قلناه .
__________
(1) في (ب) : ( وحوا ) بدل ( وحوله ) .
(2) تعقبه السمهودي في وفاء الوفا 2/367-370 ، ورد عليه جملة وتفصيلاً ، فانظره .
(3) في (ب) الهدية بدل إهدائه .
(4) في (ب) : ( وتحول ) بدل ( وخرج ) .
(5) في (ب) : ( وكذلك ) بدل ( كما يصير ) .(1/12)
وقد يقول قائل : الوقف حيث صح لا بد أن يكون لمنفعة مقصودة ، ومنفعة تزيين ذلك المكان به غير مقصودة للشرع ، وتذهب منفعة ذلك الذهب بالكلية لأنه لا غاية له تصير إليه ، وإذا قامت القيامة زالت الزينة. فنقول : منفعته في الدنيا الزينة والتعظيم لما هو منسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وبقاء ذكر المهدى له، فيذكر به ، وذلك مقصود : { لسان صدق في الآخرين } (1) { وتركنا عليه في الآخرين } (2) وإذا قامت القيامة يَجد ثوابه ، وربما يجيء ذلك الذهب بعينه ، فإن الله [تعالى](3) مالك الدنيا والآخرة وما فيهما ، وقد(4) يحلى أهل الجنتين بالذهب وبالفضة ، فربما تأتي تلك الفضة والذهب بعينهما فيحلى بهما صاحبهما جزاء له ، أو أحد من حشمه ، ومن عنده ، فيسر بذلك ، أو يسر بمشاهدة النبي - صلى الله عليه وسلم - له في تلك الدّار ، /.وهذه نكتة لطيفة .
وحيث قلنا إنه ملك للحجرة(5) فلا زكاة فيه أيضاً ، كما لا زكاة في مال الكعبة وإن كان مملوكاً ؛ لأن الزكاة وإن تعلقت بالمال فلا بد من ملك مالك معيّن لها ؛ إما مكلف ، وإما متهيئ للتكليف ، وفي دار التكليف ، وأمّا ما قدمناه عن سحنون من المالكية ، في أن الإمام يزكيه كل عام ، كالعين المحبسة ، فعجيب .
فصل :
__________
(1) الشعراء : 84 .
(2) الصافات : 108 .
(3) سقطت من الأصل والمثبت من (ب) .
(4) في (ب) : ( وهو ) بدل ( وقد ) .
(5) في (ب) : ( للنبي - صلى الله عليه وسلم - ) بدل ( وللحجرة ) .(1/13)
ممن صنف في أخبار المدينة أبو الحسين يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله الهاشمي ، فقال في هذا الكتاب: حدثنا هارون بن موسى الفروي(1) ، قال : حدثنا محمد بن يحيى(2) ، عن عبد الرحمن بن سعد(3) ، عن عبد الله بن محمد بن عمار(4) ، عن أبيه(5) ، [عن جده](6) قال : أُتِيَ عمر بن الخطاب بِمِجْمَرَة من فضة ، فيها تماثيل من الشام ، فدفعها إلى سعد جَدِّ المؤذنين ، فقال : أجمر بها في الجمعة وفي شهر رمضان ، قال : فكان سعد يجمر بها في الجمعة ، وكانت توضع بين يدي عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، حتى قدم إبراهيم بن يحيى بن محمد بن العباس المدينة والياً سنة ستين ومائة(7) ، وأمر بها فغيرت وجعلت صلاحاً(8) ،
__________
(1) هارون بن موسى بن أبي علقمة عبد الله بن محمد الفروي ، المدني ، لا بأس به . توفي سنة (253هـ). ميزان الاعتدال 4/287 ، تقريب التهذيب رقم : (7245) .
(2) محمد بن يحيى هو الكناني أبو غسان المدني ، وثقه الدارقطني . تقريب التهذيب رقم : (6390) .
(3) عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد بن عائذ المدني ، أبو محمد ، ضعفه ابن معين . ميزان 2/566 .
(4) عبد الله بن محمد بن عمار بن سعد القرظ ، ضعفه ابن معين . ميزان 2/490 .
(5) محمد بن عمار بن سعد القرظ المدني ، مستور ، حسن له الترمذي ، الترمذي : رقم : 2578 . تقريب .
(6) سقطت من الأصل والمثبت من (ب). وهو : عمار بن سعد بن عائذ المؤذن ، مقبول . تقريب .
(7) إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس . تولى إمارة المدينة سنة (166هـ) بعد موت عمه المنصور وهو محرم ، وكان قبلها على مكة والطائف ، ثم توفي بعد فترة قصيرة في نفس السنة . تاريخ الطبري 4/579-581 ، تاريخ خليفة بن خياط 1/440 .
(8) هكذا في الأصل. وذكره ابن النجار في الدرة 197 نقلاً عن أهل السير ، وفيه : فغيرها وجعلها ساذجاً . اهـ . أي : غير منقوشة ..قال في القاموس 247 (سذج) : الساذج : معرب : سادة .(1/14)
وهي اليوم بيد مولى للمؤذنين ، قال أبو عشار : هم دفعوها إليه(1) .
عبد الله(2) بن محمد بن عمار بن سَعْد القرَظ : ضعفه ابن معين(3) وعبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرَظ : ضعفه ابن معين أيضاً(4) ومحمد بن عمار: حَسَّنَ له الترمذي(5) ، فلو سَلِمَ ممن دونه كان جيداً(6)./ والمجمرة مما يُستعمل ، وقال الفقهاء : إنها إذا احتوى عليها حرام ، ويقتضي اشتراطهم الاحتواء أن هذا الصنيع غير حرام ، لكن العرف(7) دل أن ذلك استعمال ، فإما أن يكون الحديث ضعيفاً ، وإما أن يكون احتمل ذلك لأجل المسجد تعظيماً له ، فتكون القناديل بطريق الأولى ؛ إذ لا استعمال فيها(8) .
__________
(1) سئل ابن معين عن عبد الله بن محمد ، عن آبائه ؟ فقال : ليسوا بشيء . انظر : اللسان 4/562 (رقم : 4403) . وقد ذكر السمهودي هذا الخبر في وفاء الوفا 2/366 نقلاً عن يحيى .
(2) في (ب) : بزيادة ( ابن ) قبل ( عبد الله ) . والصواب حذفها.
(3) انظر: ميزان الاعتدال 2/490 (رقم:4550).
(4) انظر : ميزان الاعتدال 2/566(رقم : 4874).
(5) روى من طريقه حديث أبي هريرة في ضرس الكافر وفخذه ومقعده ، رقم : 2578 .
(6) لكن لم يسلم ممن دونه كما تقدم.
(7) في (ب).: ( الفرق ) بدل ( العرف ) .
(8) قال الفيروزآبادي في المغانم 3/1244 بعد أن ذكر قول السبكي كاملاً : قوله غير جيد ، ولا مقتض لما ذكره ، بل مقتضٍ أنه قد توجد مَجْمَرَةٌ وفيها بَخُورٌ إما بفعل جاهل ، أو صبي ، أو ذمي ، أو فاسق ، ويَمُر عليها مارٌّ فيشتم منها بَخُوراً فإنه لا يأثم بذلك ، وإن قصد الاشتمام .
وليس المراد بالاحتواء أن يَجعله تَحت ثيابه ، أو يسبل عليه ذيله أو كمه كما يظنه جهلة المتفقهة ، وإنَّما المراد بالاحتواء أن تَحوزه وتضمَّه إما بما ذكرنا ، أو بالقعود بقربه بِحيث يُعَدُّ مُتَبَخَّراً به ، أو بوضعه في منزله ليبخِّرَ به منزله ؛ كل ذلك احتواء ، هذا إذا ذهبنا مذهب من يشترط الاحتواء ، وحينئذٍ حرام استعماله ، وإذا ثبت ذلك فاستعماله من الكبائر في مذهب الشيخ ، لأنه يقول بالذنوب والمعاصي كلها كبائر .
وتبع في ذلك جماعة من السلف. ومن الكبائر أيضاً في مذهب من حَدَّ الكبيرة بِمَا وَرَدَ فيه وعيد .
وعلى المذهب الشَّاذِّ القائل بأنه من الصغائر قالا على استعماله من الكبائر .
ويَجب على ولي الأمر منع من يُحْضِرُهَا بين يدي الإمام في مِحراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يَجوز للإمام أن يقف مُحتوياً عليها ، ويصلي بالمسلمين ، وأي دعاء يَصْعَدُ إلى مَحَلِّ القَبُولِ مع ملابسة الكبيرةِ بِحضرة الرسول ؟! أعاذنا الله من أمثال ذلك ، ووقانا وأحبابنا سلوك مظلمات المسالكِ .(1/15)
فصل :
إذا كانت القناديل في الحجرة الشريفة المعظمة فلا حَقَّ فيها لأحد من الفقراء ، كما لا حَقَّ لهم في مال الكعبة ، وكذا لاحَقَّ فيها لما يُحتاج إليه من عمارة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وحرمه الخارج عن الحجرة ، كما لا حَقَّ فيها للفقراء ، لما ذكرناه من المغايرة بين الحجرة والمسجد ، فلا يكون الذي لأحدهما مستحقاً للآخر ، ولا حق له فيه. وأما الحجرة نفسها ، لو فرض احتياجها إلى عمارة أو نحوها ، هل يجوز أن يصرف من القناديل فيها ؟ الذي يظهر المنع ، فليست القناديل كالمال المصكوك ، المعدِّ للصرف الذي في الكعبة ، لأن ذاك إنما أعدَّ للصرف ، وأما القناديل فما أعدت للصرف ، وإنما أعدت للبقاء ، وليس قصد صاحبها الذي أتى بها إلا ذاك ، سواء أوقفها ، أم اقتصر على إهدائها ، فتبقى مستحقة لتلك المنفعة الخاصة ، وهي كونها معلقة يزيّن بها . والعمارة التي تحتاج إليها الحجرة ، أو الحرم إن كان هناك أوقاف يعمر منها ، وإلا فيقوم بها المسلمون من أموالهم ، طيبةً قلوبهم ، فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، والذي / قالته الحنابلة أنها إذا بطل وقفها تصرف إلى مصالحه ليس بصحيح قطعاً ، والذي قاله أصحابنا من أن الموهوب للمسجد يصرف في مصالحه لا يأتي هنا ، لأن ذاك فيما لا يقصد واهبه جهة معينة ، أما لو قصد جهة معينة فيتعين ، كما قالوا في الإهداء لرتاج الكعبة ، أو لتطييبها أنه يتعين صرفه في تلك الجهة ، وليس هذا كما إذا وهب لرجل درهماً ليصرفه في شيء عينه حتى يأتي ، فيه خلاف ، لأن ذاك في الهبة بخصوص عقدها ، وكونها لمعين آدمي يقتضي ذلك، [وهنا](1) الإهداء لما يقصد من الجهات فأي جهة قصدها تعينت ، ولم يعدل عنها .
فصل :
__________
(1) سقطت من الأصل والمثبت من (ب) .(1/16)
بعد تعليق هذه القناديل في الحجرة وصيرورتها لها ، بوقف ، أو ملك بإهداء ، أو نذر أو هبة ، لا يجوز إزالتها ، لأنها وإن لم يكن تعليقها في الأول واجباً ولا قربة صارت شعاراً ، ويحصل بسبب إزالتها تنقيص ، فيجب إدامتها(1) كما قدمناه في كسوة الكعبة(2) ؛ استدامتها واجبة ، وابتداؤها غير واجب ، فلو لم يحصل وقف ولا تمليك ، ولكن أحضرها صاحبها وعلقها هناك مع بقائها على ملكه بقصد تعظيم المكان وانتسابه إليه فينبغي له أن لا يزيلها ما أمكنه عدم إزالتها ، لأن الشعار الحاصل بها والنقص الحاصل بزوالها موجود هنا ، كما هو موجود في التي خرج عنها ، فيخشى عليه من تغييرها ، أو تغيير عقده مع الله [تعالى](3) : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } (4) هذا ما في الباطن وإنما / يمكن في الظاهر منها إذا علم منه بأن كانت باقية في يده [أو](5) أشهد عليه بذلك عند تسليمها ، أمّا إذا لم يعلم، وأحضر[ها](6) لناظر المكان ، أو القيّم عليه ، وتسلمها منه كما عادة النذور والهدايا ، ثم جاء يطلبها ، زاعماً أنه لم يكن خرج عنها ، فلا يقبل قوله بعدما اقتضاه فعله وقرائنه من الإهداء ، كما لو أهدى هدية وأقبضها ، ثم جاء يزعم أنه لم يكن قصد التمليك ، فإن الفعل الظاهر الدال عادة وعرفاً مع القرائن كاللفظ الصريح.
فصل :
__________
(1) قال الفيروزآبادي في المغانم 3/1348 : وقول السبكي : (يَحصل بسبب إزالتها تنقيص ، فيجب إدامتها) قول ساقط جداً لا يساوي مداده ، وذلك أن أمر القناديل وتعليقها وإزالتها أحقر وأصغر وأذل وأدْحر من أن يُنْسَبَ بسببه تنقيصٌ إلى تراب مزابل المدينة المقدسة ، لا سيما إلى المسجد الشريف .
(2) ص : 207 من العدد السابق .
(3) سقطت من الأصل والمثبت من (ب) .
(4) الرعد : 11 .
(5) سقطت من(ب) والمثبت من الأصل .
(6) سقطت من الأصل والمثبت من (ب) .(1/17)
سبب كلامي في ذلك ، أنني سُئِلتُ عن بيع القناديل الذهب التي بالحجرة المعظمة الشريفة، وأن بعض الناس قصد بيعها لعمارة الحرم الشريف النبوي على ساكنه أفضل الصلاة والسلام والرحمة، فأنكرته واستقبحته(1) .
أما إنكاره فمن جهة الفقه، لأن هذه القناديل إن كانت وقفاً صحيحاً فلا يصح بيعها، ومن يقول من الحنابلة ببيع الأوقاف عند خرابها(2) ، أو من الحنفية(3) القائلين بقول أبي يوسف في الاستبدال ، إنما يقول بذلك إذا كان يحصل به غرض الواقف بقدر الإمكان ، وأما هنا فقصد الواقف إبقاؤها لمنفعة خاصة ؛ وهي التزيين ، فبيعها للعمارة مُفَوِّتٌ لهذا الغرض(4) ،
__________
(1) لخص السمهودي في وفاء الوفا 2/364-370 ماورد في رسالة السبكي ، ورد عليه في عدة مواطن ، فانظره ، ومن ذلك قوله : أما التحلية بما ذكر فلم يثبت عن من يحتج بفعله . وقد نقل الشيخ الموفق - يقصد ابن قدامة المقدسي مؤلف كتاب المغني - الإجماع على تحريم استعمال أواني الذهب ، والقناديلُ من الأواني بلا شك ، واستعمالُ كل شيء بحسبه ، فاستعمال ما ذكر بتعليقه للزينة ، وقد سُلََِّم تحريم اتخاذ الآنية منها أيضاً . وفاء الوفا 2/367 .
ثم قال في آخر كلامه عن هذه المسألة مانصه : ومن تأمل سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحواله لم يخف عليه أن كل ذلك لم يكن يعجبه في حياته ، هذا الذي أعتقده ، والله أعلم . اهـ. وفاء الوفا 2/370 ، وانظر : المغني 5/631 .
(2) انظر : المغني 5/631 .
(3) انظر : شرح فتح القدير 6/227 ، ولو شرط الواقف أن يستبدل به أرضاً أخرى .
(4) ذكر الفيروزآبادي في المغانم 3/1347 : قول السبكي : إن غرض الواقف أمر خاص وهو التزيين فبيعها مفوت لهذا الغرض .
ثم عقب عليه بقوله : غير جيد ، لأن غرض الواقف ليس إلا التقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس غير ، ولا غرض له في التزيين به البتة ، ولا في الإبقاء ، وهذا أمر مشاهد يَجده كل مسلم من نفسه ، لا سبيل لأحد إلى إنكاره .
وذلك أن كل من عَلَّقَ هنا قنديل ذهب ، ثم عَرَضَ للحجرة الشريفة عِمَارة ، لكان منتهى أُمْنِيَّة ذلك الإنسان أن يُصْرَفَ قنديله في عِمَارته دون مال غيره ، ليفوز هو بذلك ، ولو تَحقق أن كل من يبذل المال في العمارة المذكورة فإنه يود أن لا يصرف في عمارة الحجرة إلا قنديله أولاً ، فكيف يَجزم الإنسان بأنه يفوت به مقصود الواقف وهو التزيين .(1/18)
وإن كانت مُلْكَاً للحجرة كالملك للمسجد ، فكذلك لما قدمناه إن قصد الآتي بها ادخارها لهذه الجهة . وإن جُهِلَ حالها فَيُحْمَلُ على إحدى هاتين الجهتين فيمتنع البيع أيضاً ، وإن / عرف لها مالك معين فأمرها له ، وليس لنا تصرف فيها ، وإن علم أنها ملك لمن لا يرجى معرفته ، فتكون لبيت المال ، ومعاذ الله ليس ذلك واقعاً ، وإنما ذكرناه لضرورة التقسيم ، حتى يعلم أنه لا يتسلط على بيعها للعمارة بوجه من الوجوه ، فلم يكن في الفقه وجه من الوجوه يقتضي ذلك .
ولو فرضنا أن هذه مما تجب الزكاة فيها ففي هذه المدد قد ملك الفقراء في كل سنة ربع العشر ، فتكون قد استُغرقت بالزكاة إلا أقل من نصاب فيجب صرفها إليهم ، ولا تباع ، فعلى كل تقدير لا مساغ للبيع ، وهذا وجه إنكاري إياها .
وأما الاستقباح : فلِمَا يَبْلُغ الملوكَ في أقطار الأرض أنَّا بِعْنَا قناديل نَبينا - صلى الله عليه وسلم - لِعِمَارَة حَرَمِهِ ، ونحن نفديه بأنفسنا فضلاً عن أموالنا(1) .
__________
(1) علق الفيروزآبادي على هذا القول : وهذا الكلام لو صدر عن غير شيخنا رحمه الله لَصِحْتُ لله العجب مَنْ ملوك الأرض ، وما مَحلهم حتى يُسْتَقْبَح جائز أو واجب بسبب إنكارهم أو تَهْوينهم لنا واحتقارهم ؟!
أذلك أهون وأيسر على النفس ؛ أم إحاطة علوم علماء العالم الذين هم ملوك الوجود حقيقة بارتكابنا المنكرات بِحَضَرِ نبينا الأعظم ، واستدلالنا لها بالواهيات على إباحة المحرم ، وترجيح الأقوال المرجوحة الضعيفة ، والاستدلال لها بأقاويل وَعْظِيَّةٍ يُسميها النكت اللطيفة .
وهذا الذي استقبحه الشيخ وخافه واقع فيه لا مَخرج له عنه البتة ، وهو أن العادة جارية من قديم الأعصار وإلى يومنا في ضريح سيدنا أبي الأنبياء إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه أن تُجْمَع قناديل الذهب والفضة التي وُقِفَتْ هنالك في كل سنة أو أكثر أو أقل ، وتُكسر وتُباع وتُصرف في مصالح المكان وعِمَارته وجوامك المباشرين وغير ذلك .
وهذا الخبر أيضاً يبلغ ملوك الأرض وسلاطين الأقطار ، فكيف لم يُنْكِرْ عليهم ذلك ولا مَنَعَهم ، ولا نَطَقَ فيه ببنتِ شفةٍ ، مع أنه حاكم بلد الخليل وبيت المقدس والناظر فيهما ، فكان عمله هذا أعْوَدَ عليه من أمر المدينة التي ليست مَحل ولايته ، فما وجه تَخصيص المدينة باهتمامه وعنايته؟! المغانم 3/1348-1349 .(1/19)
وما بَرِحَتِ الملوك يعمرون هذا الحرم الشريف يفتخرون بذلك ، وقد ذكرنا عمارة الوليد بن عبد الملك له ، ثم المهدي ، ثم المتوكل وَأزَّرَ(1) الحجرة بالرخام ، ثم جدد التأزير وزيرُ بني(2) زنكي في خلافة المقتفي ، عمل لها شباكاً من خشب الصندل والأبنوس ، وكانت الستائر الحرير تأتي إليه من الخلفاء .
__________
(1) في (ب) : ( فأزر ) بدل ( وأزر ) .
(2) في (ب) : ( ابن ) بدل ( بني ) .(1/20)
وفي ليلة الجمعة مستهل رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة وقعت نار بالمدينة(1) ، فاحترق المنبر ، وبعض المسجد ، وبعض سقف الحجرة ، فكتبوا إلى الخليفة المستعصم ، فأرسل بصُنَّاع وآلات من بغداد ، / وابتدئ بعمارته أول سنة خمس وخمسين وستمائة ، ولم يجسروا على إزالة ما وقع من السقوف على القبور حتى يطالعوا المستعصم ، [واشتغل المستعصم](2) بالتتار ، فَسَقَفُوا الحجرة(3) ، ووصل من مصر آلات العمارة في دولة المنصور علي بن المعز إيبك ، ووصل من اليمن من ملكها شمس الدين المظفر يوسف بن المنصور عمر بن علي بن رسول آلات وأخشاب ، وتسلطن بمصر المظفر قطز ، واسمه الحقيقي محمود بن ممدود ابن أخت جلال الدين خوارزم شاه ، وأبوه ابن عمه وقع عليه السبا فبيع بدمشق وسمي قطز ، واشتغل بالتتار حتى كسرهم في عين جالوت ، ومات في دون السنة ، وتسلطن الملك الظاهر ، وكان صاحب اليمن أرسل منبراً من صندل فقلعه الملك الظاهر ، وأرسل منبراً من جهته ، وكمل عمارته ، والملوك يفعلون ذلك افتخاراً به(4) ،
__________
(1) للتوسع انظر : المغانم 2/469 ، ذروة الوفا بما يجب لحضرة المصطفى ، ص 97 ، سمط النجوم العوالي 3/384 ، مرآة الجنان 4/131 .
(2) سقطت من الأصل والمثبت من (ب) .
(3) في الأصل : ( فشققوا) بدل : ( فسقفوا الحجرة ) ، والمثبت من (ب) .
(4) قال الفيروزآبادي في المغانم 3/1349 : ثم يُنْظَرُ فيما ذكره من التاريخ ؛ ففيه أشياء لا تليق بِجلالة قدره ، وليس ذلك من قصدي ، وإنَّما المراد بيان أن الصحيح عند العلماء خلاف ما ذهب إليه شيخنا رحمه الله من جواز اتِّخَاذ قناديل الذهب والفضة وتزيين المساجد بِهَا .
وهذا القول - وإن قال به بعض العلماء وفرد من أفراد الأئمة الكبراءِ فلا ينبغي أن نعضده ونقويه ونؤيده ونُمَشِّيه ، فإن مقالات العلماء كثيرة بِحسب اجتهاداتِهِم واستنباطاتِهِم ، لكن الذي يليق بِحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان أوضح دليلاً وأَلْوَح منهجاً وسبيلاً ، وأبعد عن شتات طرق الأنام ، وأقرب من اتفاق جماعات فرق الإسلام ، وأوفق لفطرته الطاهرة وطريقته ، ولما أجَلَّهُ الله تعالى من قُرْبِ جنابِهِ بالمنْزلة العُلْيَا، وخصه من بين سائر المرسلين والمقربين من الرُّتب بالغاية القُصْيَا .(1/21)
والله ورسوله غني عنهم :
نَفْسُ النَّبِيِّ لَدَيَّ أغْلَى الأنفسِ ... فاتْبَعْهُ في كُلِّ النَوَائِبِ وائتسي
واتْرُكْ حُظُوظَ النَّفْسِ عَنْكَ وقُلْ لها ... لا تَرْغَبِي عَنْ نَفْسِ هذا الأنْفَسِ
فَرُدِي الرَّدَى ، واحميهِ كل مُلِمَّةٍ ... فلقد سعدت إذا خُصِصْتِ بأبؤسِ(1)
إن تُقْتَلي يُصْعَد بِروحِكِ في العلا ... بيدِ الكرامِ على ثِيابِ السندسِ(2)
وتَرَيْنَ ما تَرْضَيْنَ مِنْ كُلِّ المُنى ... في مَقْعَدٍ عِنْدَ المليكِ مُقَدَّسِ
أو تَرْجِعي بغنيمةٍ تَحْظَيْ بِهَا ... وبذُخْرِ أجْرٍ تَرْتَجيهِ وترأسِ
ما أنتِ حتى لا تكوني فديةً ... لمحمدٍ في كل هَوْلٍ مُبْلِسِ(3)
ما في حياتك بعده خيرٌ ولا ... إن ماتَ تَخلفه جميعُ الأنفسِ
فمحمدٌ بِحَياته تُهْدَى الأنامُ ... وتَنْمَحِي سُدَفُ الظَّلامِ الحِنْدِسِ(4)
ويقومُ دينُ الله أبيضَ ظاهراً ... في غيظِ إبليسَ اللعينِ الأنْجَسِ
أعظم بنفسِ محمدٍ أنْ تفتدى ... أهون بنفسك يا أُخَيَّ وأخسس
نظمت هذه الأبيات في سنة سبع و ثلاثين وسبع مائة في كلام تفسير قوله تعالى: { ما كان لأهل المدينة ومَنْ حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } (5) ، والآن زدت فيها لهذا المعنى العارض :
ولَقَبْرُهُ أغْلى البقاعِ وخَيْرُها ... زَاك على التَّقْوى أجَلُّ مؤسَّسِ
فبِطِيبهِ طَابَ الثرى ونزيلها ... أزكى قِرَىً في كُلِّ وادٍ أقدسِ
أفدي عمارتَها ومسجدَها بِمْا ... أحوي ، وبي كُلُّ البريَّةِ تَأتَسِي
إني يهونُ عَلَيَّ بيعُ حَشَاشَتي ... في ذاك بالثمن الأقلِ الأبْخَسِ
لَوْ جَازَ بَيعُ النَّفْسِ بعتُ وَكَانَ لي ... فَخْرٌ بِذَاكَ الرِّقِ أشَرفِ مَلْبَسِ
__________
(1) في (ب) : ( تردي ) بدل : ( فردي ) .
في (ب) : ( بأبوص ) بدل ( بابوس ) .
(2) في (ب) : ( سندس ) بدل ( السندس ) .
(3) أي شديد.
(4) الحندس : بالكسر : الليل المظلم.القاموس (حندس) ، ص 540 .
(5) التوبة : 120 .(1/22)
صَلَّى عليهِ اللهُ كُلَّ دقِيقَةٍ ... عَدَدَ الخَلائِقِ نَاطِقٍ أو أخرسِ
فصل :
الكعبة والحجرة الشريفة قد علم حالهما ، الأولى بالنص للحديث الوارد الذي قدمناه(1) ، والثانية بالإلحاق به ، وبالقطع بعظمتها ، وفي كثير من البلاد غيرهما أماكن يُنْذَر لها ويُهْدَى إليها ، وقد يُسْأَلُ عن حكمها ويقع النظر في أنها / هل يلحق بهذين المكانين وإن لم يبلغ مرتبتهما ، أو لا ؟ قد ذكر الرافعي عن صاحب التهذيب وغيره : أنه لو نذر أن يتصدق بكذا على أهل بلد ، عَيَّنَهُ ، يجب أن يتصدق به عليهم . قال : ومن هذا القبيل ما ينذر بعثه إلى القبر المعروف بجرجان ، فإن ما يجتمع منه على ما يحكى يقسم على جماعة معلومين ، وهذا محمول على أن العرف اقتضى ذلك ، فنزل النذر عليه ، ولا شك أنه إذا كان عرف حمل عليه ، وإن لم يكن عرف فيظهر أن يجيء فيه خلاف وجهين :
أحدهما : لا يصح النذر ؛ لأنه لم يشهد له الشرع بخلاف الكعبة والحجرة الشريفة .
والثاني : يصح إذا كان مشهوراً بالخير ، وعلى هذا ينبغي أن يصرف في مصالحه الخاصة ولا يتعداها. والأقرب عندي بطلان النذر لما سوى الكعبة والحجرة الشريفة والمساجد الثلاثة ، لعدم شهادة الشرع لها ، وأن من خرج من ماله عن شيء لها واقتضى العرف صرفه في جهة من جهاتها صرف إليها ، واختصت به ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
__________
(1) ص : 195-199 ، العدد السابق من المجلة .(1/23)
قال مصنفه رحمه الله تعالى ورضي عنه وغفر لنا وله : صنفته في يومي السبت والأحد الرابع والعشرين من شهر رجب الفرد ، عام أربعة وخمسين وسبعمائة ، بظاهر دمشق [ حرسها الله تعالى وسائر بلاد الإسلام ](1) ، وكتبت هذه النسخة في شهر رمضان المعظم قدره من السنة المذكورة ، لأهديها إلى المدينة الشريفة ، تكون وقفاً هناك ، وقد وَقَفْتُهَا لذلك وكتبه : علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام السبكي ، غفر الله لهم [ وللمسلمين أجمعين والحمد رب العالمين(2) ](3) ، والحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كبيراً .
حسبنا الله ونعم الوكيل(4) .
__________
(1) سقطت من (ب) والمثبت من الأصل .
(2) على هامش (ب) : بلغت مقابلة على النسخة المنقولة منها سنة 1220هـ .
(3) سقطت من الأصل والمثبت من (ب) .
(4) في آخر الأصل : وافق الفراغ من نسخه يوم الأربعاء ، وقت العصر ، رابع شهر صفر سنة 825هـ ، أحسن الله عاقبتها .
وإن تجد عَيباً فَسُدَّ الخَللا ... فجَلَّ من لا عَيْبَ فيه وَعَلا
غفر الله لمؤلفه ولكاتبه وللناظر فيه ولجميع المسلمين .(1/24)