بلاد ما وراء النهر سنة احدى وثلاثين وخمسمائة ولقيهم محمود خان ابن ارسلان خان
فهزموه إلى سمرقند وبخارا واستنجد بالسلطان سنجر ودعاه لنصر المسلمين فجمع العساكر واستنجد صاحب سجستان ابن خلف والغوري صاحب غزنة وملوك ما وراء النهر وغيرهم وسار للقائهم وعبر لنهر في ذى الحجة سنة خمس وثلاثين وشكا إليه محمود من القارغلية فأراد أخذهم فهربوا إلى كوخان وسألوه أن يشفع لهم عند السلطان سنجر وكتب إليه يشفع لهم فلم يشفعه وكتب إليه يدعوه إلى الاسلام ويتهدده ولما بلغ الكتاب إلى كوخان عاقب الرسول وسار للقاء سنجر في أمم الترك والخطا والقارغلية فلقيه السلطان سنجر أول صفر سنة ست وعلى ميمنته قماج وعلى ميسرته صاحب سجستان وأبلى ذلك اليوم وساء أثر القارغلية في تلك الحرب وانهزم السلطان سنجر والمسلمون واستمر القتل فيهم وأسر صاحب سجستان والامير قماج وزوجة السلطان ابنة ارسلان خان محمد وأطلقهم الكفار ولم يكن في الاسلام وقعة أعظم من هذه ولا أفحش قتلا واستقرت الدولة فيما وراء النهر للخطا والترك وهم يومئذ على دين الكفر وانقرضت دولة الخانية المسلمين الذين كانوا فيها ثم هلك كوخان منتصف سبع وثلاثين وكان جميلا حسن الصوت ويلبس الحرير الصينى وكان له هيبة على أصحابه ولا يقطع أحدا منهم خوفا على الرعية من العسف ولا يقدم أميرا على فوق مائة فارس خشية أن تحدثه نفسه بالعصيان وينهى عن الظلم وعن السكر ويعاقب عليه ولا ينهى عن الزنا ولا يقبحه ولما مات ملكت بعده ابنته ومانت قريبا فملكت بعدها أمها زوجة كوخان وبقى ما وراء النهر بيد الخطا إلى أن غلبهم عليه علاء الدين محمد بن خوارزم شاه صاحب دولة الخوارزمية سنة ثنتى عشرة وستمائة على ما يأتي في أخبار دولتهم * (اجلاء القارغلية من وراء النهر) * لما ملك ما وراء النهر سمرقند وبخاري جقرى خان ابن حسين تكين من بيت الخانية وأمره سنة تسع وخمسين باجلاء الترك القارغلية من أعمال بخارا وسمرقند إلى كاشغر
والزامهم الفلاحة ومجابنة حمل السلاح فامتنعوا من ذلك وألخ عليهم جقرى خان فامتنعوا واجتمعوا لحربه وسار إلى بخارا فبعث إليهم بالوعظ في ذلك والوعد الجميل بخلال ما جمع بقراخان وكبسهم على بخارا فانهزموا وأثخن فيهم وقطع دابرهم وأجلاهم عن نواحى سمرقند وصلحت تلك النواحى والله أعلم [ الخبر عن دولة الغورية القائمين بالدولة العباسية بعد بنى سبكتكين وما كان لهم من السلطان الدولة وابتداء أمرهم ومصاير أحوالهم ](4/397)
كان بنو الحسين أيام سبكتكين ملوكا على بلاد الغور لبنى سبكتكين وكانت لهم شدة وشوكة وكان منهم لاخر دولة بنى سبكتكين أربعة أمراء قد اشتهروا واستفحل ملكهم وهم محمد وشورى والحسين شاه وسام بنو الحسين ولا أدرى إلى من ينسب الحسين وأظنهم إلى بهرام شاه آخر ملوك بنى سبكتكين والتحم به فعظم شأنه ثم كانت الفتنة بين بهرام وأخيه ارسلان فمال محمد إلى ارسلان وارتاب به بهرام لذلك ثم انقضى مر ارسلان وسار محمد بن الحسين في جموعه إلى غزنة سنة ثلاث وأربعين موريا بالزيارة وهو يريد الغدر به وشعر بذلك بهرام فحبسه ثم قتله واستوحش الغورية لذلك * (مقتل محمد بن الحسين الغورى وولاية أخيه الحسين شاه ثم أخيه شورى) * ولما قتل محمد ولى من بعده أخوه شاه ابن الحسين ثم كانت الوقعة وملك بعده أخوه شورى بن الحسين وأجمع الاخذ بثأر أخيه من بهرام شاه فجمع له وسار إلى غزنة سنة ثلاث وأربعين فملكها وفارقها بهرام شاه إلى بلاد الهند فجمع عسكره التى هناك ورجع إلى غزنة وعلى مقدمته السلار بن الحسين وأمير هندو خان ابراهيم العلوى وسار شورى للقائه فانفض عنه عسكر غزنة إلى بهرام شاه فانهزم وأسره بهرام ودخل غزنة في محرم سنة أربع وأربعين وصلب شورى على باب غزنة واستقر في ملكه [ مقتل شورى بن الحسين وولاية أخيه علاء الدين
ابن الحسين واستيلاؤه على غزنة وانتزاعها منه ] لما هلك شورى بن الحسين ملك الغور من بعده أخوه الحسين ويلقب علاء الدولة واستولى على جبال الغور ومدينة بيروزكوه المجاورة لاعمال غزوة من بلاد الهند وهى تقارب في اتساعها بلاد خراسان فاستفحل ملكه وطمع في ملك خراسان وسار إلى هراة باستدعاء أهلها فحاصرها ثلاثا ثم ملكها بالامان وخطب فيها للسلطان سنجر وسار إلى بلخ وبها الامير قماج من قبل السلطان سنجر فغدر به أصحابه فملك علاء الدولة بلخ وسار إلى السلطان سنجر وقاتله وظفر به فأسره ثم خلع عليه ورده إلى بيروزكوه ثم سار علاء الدين يريد غزنة سنة سبع وأربعين ففارقها صاحبها بهرام شاه وملكها علاء الدولة وأحسن السيرة واستخلف عليهم أخاه سيف الدولة وعاد إلى بلاد الغور فلما جاء فصل الشتاء وسد الثلج المسالك كتب أهل غزنة إلى بهرام شاه واستدعوه فلما وصل وثبوا بسيف الدولة وصلبوه وبايعوا البهرام شاه وملكوه عليهم كما كان * (انتقاض شهاب الدين وغياث الدين على عمهما علاء الدولة) * لما استفحل أمر علاء الدولة واستفحل ملكه استعمل على البلاد العمال وكان فيمن(4/398)
ولاه بلاد الغور ابنا أخيه سالم بن الحسين وهما غياث الدين وشهاب الدين احسنا السيرة في عملهما ومال اليهما الناس وكثرت السعايا فيهما عند عمهما بأنهما يريدان الوثوب فبعث عنهما فامتنعا فجهز اليهما العساكر فهزماها وأظهر اعصيانه وقطعا خطبته فسار اليهما فقاتلاه قتالا شديدا حتى انهزم فاستأمن اليهما فأجلساه على التخت وقاما بخدمته وزوج بنته غياث الدين منهما وبقى مستبدا على عمه علاء الدولة ثم عهد إليه بالامر من بعده ومات * (وفاة علاء الدولة وولاية غياث الدولة ابن أخيه من بعده وتغلب الغز على غزنة) * ثم توفى علاء الدولة ملك الغورية سنة ست وخمسين وقام بالامر من بعده ببيروز كوه
غياث الدين أبو الفتح ابن أخيه سالم وطمع الغز بموته في ملك غزنة فملكوها من يده وبقى غياث الدين في كرسيه ببيروز كوه وأعمالها وابنه سيف الدين محمد في بلاد الغور ثم أساء السيرة الغز في غزنة بعد مقامهم فيها خمس عشرة سنة واستفحل أمر غياث الدين فسار إلى غزنة سنة احدى وسبعين في عساكر الغورية والخلخ والخراسانية ولقى الغز فهزمهم وملك غزنة من أيديهم وسار إلى كرمان وشنوران فملكهما وكرمان هذه بين غزنة والهند وليست وكرمان المعروفة ثم سار غياث الدين إلى لهاور ليملكها من يد خسرو شاه ابن بهرام فبادر خسرو شاه إلى نهر المد ومنعه العبور منه فرجع وملك ما يليه من جبال الهند وأعمال الاثغارو ولى غزنة أخاه شهاب الدين ورجع إلى بيروز كوه * (استيلاء شهاب الدين الغورى على لهاور ومقتل خسرو شاه صاحبها) * ولما ولى شهاب الدين الغورى غزنة أحسن السيرة فيهم وافتتح جبال الهند مما يليه فاستفحل ملكه وتطاول إلى ملك لهاور قاعدة الهند من يد خسرو شاه فسار سنة تسع وسبعين في عساكر خراسان والغور وعبر إليها وحاصرها وبذل الامان لخسرو شاه وأنكحه ابنته وسوغه ما يريد من الاقطاع على أن يخرج إليه ويخطب لاخيه فأبى من ذلك وبقى شهاب الدين يحاصره حتى ضاق مخنقه بالحصار وخذله أهل البلد فبعث بالقاضي والخطيب يستامنان له فأمنه ودخل شهاب الدين البلد وبقى خسرو شاه عنده مكرما وبعد شهرين وصل الامر من غياث الدين بانفاذ خسرو شاه إليه فارتاب من ذلك فأمنه شهاب الدين وحلف له وبعث به وبأهله وولده مع جيش يحفظونهم فلما وصلوا بلاد الغور حبسهم غياث الدين ببعض قلاعه فكان آخر العهد به وبابنه * (استيلاء غياث الدين على هوارة وغيرها من خراسان) * ولما استقر ملك غياث الدين بلهاور كتب إلى أخيه شهاب الدين الذى تولى فتحها أن يقيم الخطبة له ويلقبه بألقاب السلطان فلقيه غياث الدنيا والدين معين الاسلام والمسلمين(4/399)
قسيم أمير المؤمنين ولقب أخاه شهاب الدين بعز الدين ثم لما فرغ شهاب الدين من أمور لهاور وسار إلى أخيه غياث الدين ببيروز كوه واتفق رأيهما على المسير إلى هراة من خراسان سار في العساكر فحاصرها وبها عسكر السلطان سنجر وأمراؤه فاستأمنوا اليهما وملكا هراة وسار إلى بوشنج فملكها ثم إلى باذغيس كذلك وولى غياث الدين على ذلك وعاد إلى بيروز كوه وشهاب الدين إلى غزنة ظافرين غانمين * (فتح أجرة على يد شهاب الدين) * لما عاد شهاب الدين إلى غزنة راح بها أياما حتى استراحت عساكره ثم سار غازيا لى بلاد الهند سنة سبع وأربعين وحاصر مدينة أجرة وبها ملك من ملوكهم فلم يظفر منه بطائل فراسل امرأة الملك في أنه يتزوجها إذا ملك البلد فأجابت بالعذر ورغبت في ابنتها فأجاب فقتلت زوجها بالسم وملكته البلد فأخذ الصبية وأسلمت وحملها إلى غزنة ووسع عليها الجراية ووكل بها من يعلمها القران حتى توفت والدتها وتوفت هي من بعدها لعشر سنين ولما ملك البلد سار في نواحى الهند فدوخها وفتح الكثير منها وبلغ منها ما لم يبلغه أحد قبله * (حروب شهاب الدين مع الهنود وفتح دهلى وولاية قطب الدين أيبك عليها) * ولما اشتدت نكاية شهاب الدين في بلاد الهند تراسل ملوكهم وتلاوموا بينهم وتظاهروا على المسلمين وحشدوا عساكرهم من كل جهة وجاؤا بقضهم وقضيضهم في حكم امراة ملكت عليهم وسار هو في عساكره من الغورية والخلخ والخراسانية وغيرهم والتقوا فمحص الله المسلمين وأثخن فيهم الكفرة بالقتل وضرب شهاب الدين في يده اليسرى فشلت وعلى رأسه فسقط عن فرسه وحجز بينهم الليل وحمله جماعة من غلمانه إلى منجاته ببلده وسمع الناس بنجاته فتباشروا ووفدوا عليه من كل جهة وبعث إليه أخوه غياث الدين بالعساكر وعذله في عجلته ثم ثارت الملكة ثانيا إلى بلاد شهاب الدين بالعساكر وبعثت إلى شهاب الدين بالخروج عن أرض الهند إلى غزنة فأجاب إلى ذلك بعد أن يستأذن
أخاه غياث الدين وينظر جوابه وأقاموا على ذلك وقد حفظ الهنود مخاضات النهر بينهم وهو يحاول العبور فلا يجد وبينما هو كذلك جاءه بعض الهنود فدله على مخاضة فاستراب به حتى عرفه قوم من أهل أجرة والملتان وبعث الامير الحسن بن حرميد الغورى في عسكر كثيف وعبر تلك المخاضة ووضع السيف في الهنود فأجفل الموكلون بالمخاضات وعبر شهاب الدين وباقى العساكر وأحاطوا بالهنود ونادوا بشعار الاسلام فلم ينج منهم الا الاقل وقتلت ملكتهم وأسروا منهم أمما وتمكن شهاب الدين بعدها من بلاد الهند وحملوا له الاموال وضربت عليهم الجزية فصالحوه وأعطوه الرهن عليها(4/400)
وأقطع قطب الدين أيبك مدينة دهلى وهى كرسى الممالك التى فتحها وأرسل عسكرا من الخلخ مختارين ففتحوا من بلاد الهند ما لم يفتحه أحد حتى قاربوا حدود الصين من جهة الشرق وذلك كله سنة ثمان وأربعين وخمسمائة * (مقتل ملك الغور محمد بن علاء الدين) * قد تقدم لنا أن محمد بن علاء الدين ملك الغور بعد أبيه وأقام مملكا عليها ثم سار سنة ثمان وخمسين بعد أن احتفل في الاحتشاد وجمع العساكر وقصد بلخ وهى يومئذ للغز فزحفوا إليه وجاءهم بعض العيون بأنه خرج من معسكره لبعض الوجوه في خف من الجند فركبو الاعتراضه ولقوه فقتلوه في نفر من أصحابه واسروا منهم آخرين ونجا الباقون إلى المعسكر فارتحلوا هاربين إلى بلادهم وتركوا معسكرهم بما فيه فغنمه الغزو انقلبوا إلى بلخ ومروا ظافرين غانمين * (الفتنة بين الغورية وبين خوارزم شاه على ما ملكوه من بلاد خراسان) * قد تقدم لنا أن غياث الدين وشهاب الدين ابني أبى الفتح سام بن الحسين الغورى رجعا إلى خراسان سنة سبع وأربعين فملكا هراة وبوشنج وبادغيس وغيرها وذلك عند انهزام سنجر أمام الغز وافترق ملكه بين أمرائه ومواليه فصاروا طوائف وأظهرهم خوارزم
شاه بن أنس بن محمد بن أنوشر تكين صاحب خوارزم فلما كان سنة خمس وسبعين قام بأمره ابنه سلطان شاه ونازعه أخوه علاء الدين تكين فغلبه على خوارزم وخرج سلطان شاه إلى مرو فملكا من يد الغز ثم أخرجوه منها فاستجاش بالخطا وأخرجهم من مرو وسرخس ونساوا بيورد وملكها جميعا وصرف الخطا إلى بلادهم وكتب إلى غياث الدين أن ينزل له عن هراة وبوشنج وبادغيس وما ملكه من خراسان وهدده على ذلك فراجعه باقامة الخطبة له بمرو وسرخس وما ملكه من خراسان فامتعض لذلك سلطان شاه وسار إلى بوشنج فحاصرها وعاث في نواحيها وجهز غياث الدين عساكره مع صاحب سجستان وابن أخته بهاء الدين سام بن باميان لغيبة أخيه شهاب الدين في الهند فساروا إلى خراسان وكان سلطان شاه يحاصر هراة فخام عن لقائهم ورجع إلى مرو وعاث في البلاد في طريقه وأعاد الكتاب إلى غياث الدين بالتهديد فاستقدم أخاه شهاب الدين من الهند فرجع مسرعا وساروا إلى خراسان وجمع سلطان شاه جموعا ونزل الطالقان وترددت الرسل بين سلطان شاه وغياث الدين حتى جنح إلى الصلح بالنزول له عن بوشنج وبادغيس وشهاب الدين يجنح إلى الحرب وغياث الدين يكفهم وجاء رسول سلطان شاه لاتمام العقد فقام شهاب الدين العلوى وقال لا يكون هذا أبدا ولا تصالحوه وقام شهاب الدين ونادى في عسكره بالحرب والتقدم إلى مرو الروذ(4/401)
وتواقع الفريقان فانهزم سلطان شاه ودخل إلى مرو في عشرين فارسا وبلغ الخبر إلى أخيه فسار لتعرضه عن جيحون وسمع سلطان شاه بتعرض أخيه له فرجع عن جيحون وقصد غياث الدين فأكرمه وأكرم أصحابه وكتب أخوه علاء الدين في رده إليه وكتب إلى نائب هراة يتهدده فامتعض غياث الدين لذلك وكتب إلى خوارزم شاه بأنه مجيرى وشفيع له ويطلب بلاده وميراثه من أبيه ويضمن له الصلح مع أخيه سلطان شاه وطلب منه مع ذلك أن يخطب له بخوارزم ويزوج أخته من شهاب الدين فامتعض علاء الدين
لذلك وكتب بالتهديد فسرح غياث الدين جميع عساكره مع سلطان شاه إلى خوارزم شاه وكتب إلى المؤيد أبيه صاحب نيسابور يستنجده فجمع عساكره وقام في انتظ ارهم وسمع بذلك علاء الدين تكش وهو زاحف للقاء أخيه سلطان شاه وعساكر الغورية فخشى أن يخالفوه إلى خوارزم وكر إليها راجعا واحتمل أمواله وعبر إلى الخطا وقدم فقهاء خوارزم في الصلح والصهر ووعظه الفقهاء وشكوا إليه بأن علاء الدين يستجيش بالخطا فاما أن تتخذ مرو كرسيا لك فتمنعنا منهم أو تصالحه فأجاب إلى الصلح وترك معاوضة البلاد ورجع إلى كرسية [ غزوة شهاب الدين إلى الهند وهزيمة المسلمين بعد الفتح ثم غزوته الثانية وهزيمة الهنود وقتل ملكهم وفتح اجمير ] كان شهاب الدين قد سار سنة ثلاث وثمانين إلى الهند وقصد بلاد اجمير وتعرف بولاية السواك واسم ملكهم كوكه فملك عليهم مدينة تبرندة ومدينة أسرستى وكوه رام فامتعض الملك وسار للقاء المسلمين ومعه أربعة عشر فيلا ولقيهم شهاب الدين في عساكر المسلمين فانهزمت ميمنته وميسرته وحمل على الفيلة فطعن منها واحدا ورمى بحربة في ساعده فسقط عن فرسه وقاتل أصحابه عليه فخلصوه وانهزموا ووقف الهنود بمكانهم ولما أبعد شهاب الدين عن المعركة نزف من جرحه الدم فأصابه الغشى وحمله القوم على اكتافهم في محفة اتخذوها من اللبود ووصلوا به إلى لهاووز ثم سار منها إلى غزنة فأقام إلى سنة ثمان وثمانين وخرج من غزنة غازيا لطلب النار من ملك الهند ووصل إلى برساور وكان وجوه عسكره في سخطة منه منذ انهزموا عنه في النوبة الاولى فخضروا عنده واعتذروا ووعدوا من أنفسهم الثبات وتضرعوا في الصفح فقبل منهم وصفح عنهم وسار حتى انتهى إلى موضع المصاف الاول وتجاوزه بأربع مراحل وفتح في طريقه بلاد أو جمع ملك الهند وسار للقائه فكر راجعا إلى أن قارب بلاد الاسلام بثلاث مراحل ولحقه الهنود قريبا من بربر فبعث شهاب الدين سبعين ألفا من عسكره لياتوا
العدو من ورائهم وواعدهم هو الصباح وأسرى هو ليلة فصابحهم فذهلوا وركب الملك فرسه للهروب فتمسك به أصحابه فركب الفيل واستماتت قومه عنده وكثر فيهم(4/402)
القتل وخلص إليه المسلمون فأخذوه أسيرا وأحضروه عند شهاب الدين فوقف بين يديه وجذبوا بلحيته حتى قبل الارض ثم أمر به فقتل ولم ينج من الهنود الا الاقل وغنم المسلمون جميع ما معهم وكان في جملة الغنائم الفيول ثم سار شهاب الدين إلى حصنهم الاعظم وهو اجمير ففتحه عنوة وملك جميع البلاد التى تقاربه وأقطعها كلها لمملوكه أيبك نائبه في دهلى وعاد إلى غزنة * (غزوة بناوس ومقتل ملك الهند ثم فتح بهنكر) * كان شهاب الدين ملك غزنة قد أمر مملوكه قطب الدين أيبك خليفته على دهلى أن يغزو بلاد الهند من ناحيته فسار فيها ودوخها وعاث في نواحيها وسمع ملك بناوس وهو أكبر ملوك الهند وولايته من تخوم الصين إلى بلاد ملا وأطولا ومن البحر الاخضر إلى عشرة أيام من لهاووز عرضها وتلك البلاد من أيام السلطان محمود مقيمون على اسلامهم فاستنفرهم معه مسلمون كانوا في تلك البلاد فسار إلى شهاب الدين سنة تسعين والتقوا على ماحون نهر كبير بقارب دجلة فاقتتلوا ونزل الصبر ثم نصرالله المسلمين واستلحم الهنود وقتل ملكهم وكثر السبى في جواريهم والاسرى من أبنائهم وغنموا منهم تسعين فيلا وهرب بقية الفيول وقتل بعضها ودخل شهاب الدين بلاد بناوس وحمل من خزائنها ألفا وأربعمائة حمل وعاد إلى غزنة ثم سار سنة ثنتين وتسعين إلى بلاد الهند وحاصر قلعة بهنكر حتى تسلمها على الامان ورتب فيها الحامية وسار إلى قلعة كواكير وبينهما خمس مراحل يعترضها نهر كبير فحاصرها شهرا حتى صالحوه على مال يحملونه فحملوا إليه حمل فيل من الذهب فرحل عنهم إلى بلاد ابى رسود فأغاروا نهب وسبى وأسر وعاد إلى غزنة ظافرا
* (استيلاء الغورية على بلخ وفتنتهم مع الخطا بخراسان) * كان الخطا قد غلبوا على مدينة بلخ وكان صاحبها تركيا اسمه ازبة يحمل إليهم الخراج كل سنة وراء النهر فتوفى أزبة سنة أربع وتسعين وكان بهاء الدين سام بن محمد بن مسعود صاحب باميان من قبل خاله غياث الدين فسار إلى بلخ وقطع الحمل للخطا وخطب لغياث الدين وصارت من جملة بلاد الاسلام بعد ان كانت في طاعة الكفار فامتعض الخطا لذلك واعتزموا على فتنة الغورية واتفق أن علاء الدين تكش صاحب خوارزم بعث إليهم يغريهم ببلاد غياث الدين وكان سبب ذلك انه ملك الرى وهمذان واصفهان وما بينهما وتعرض لعساكر الخليفة وطلب الخطبة والسلطنة ببغداد مكان ملوك السلجوقية فبعث الخليفة يشكوه إلى غياث الدين يقبح فعله وينهاه عن قصد العراق ويتهدده بسلطان شاه وأخذ بلاده فأنف من ذلك وبعث إلى الخطا يغريهم ببلاده فجهز(4/403)
ملك الخطا جيشا كثيفا مع مقدم عساكره وعبروا النهر إلى بلاد الغور وسار علاء الدين تكش إلى طوس لحصارها لان غياث الدين عاجز عن الحركة بعلة النقرس فعاثوا في بلاده ما شاء الله وحاصر الخطا بهاء لدين فاشتدت الحرب وثبت المسلمون وجاء المدد من عند غياث الدين ثم حملوا جميعا على الخطا فهزموهم إلى جيحون وألقى لكثير منهم أنفسهم في الماء فهلك منهم نحو اثنى عشر ألفا وعظم الامر على ملك الخطا وبعث إلى علاء الدين تكش صاحب خوارزم يطوقه الذنب ويطالبه بدية القتلى من أصحابه والزمه الحضور عنده فبعث علاء الدين تكش يشكو ذلك إلى غياث الدين فرد جوابه باللوم على عصيان الخليفة ودعا ذلك علاء الدين إلى الفتنة مع الخطا وانتزاعه بخارا من أيديهم كما يأتي في أخبارهم * (استيلاء الغورية على ملك خوارزم شاه بخراسان) * ثم توفى علاء الدين تكش صاحب خوارزم وكان قد ملك بعض خراسان وبلاد الرى
والبلاد الجبالية فولى بعده ابنه قطب الدين ولقب علاء الدين بلقب أبيه وولى علاء الدين أخاه على شاه خراسان وأقطعه نيسابور وكان هندو خان ابن أخيهما ملك شاه فخاف عمه فلحق بمرو وجمع الجموع وبعث إليه عمه محمد العسكر مع جنقر التركي فهرب هندو خان ولحق بغياث الدين مستنجدا به على عمه فأكرمه ووعده ودخل جنقر إلى مرو وحمل منها ولد خان وأمه مكرمين إلى خوارزم وأرسل غياث الدين إلى صاحب الطالقان محمد بن خربك بأن يتهدد جنقر فسار من الطالقان واستولى على مرو الروذ وبعث إلى جنقر بأمره بالخطبة بمرو لغياث الدين أو يفارقها فأساء الجواب ظاهرا واستأمن إلى غياث الدين سرا ولما علم غياث الدين بذلك قوى طمعه في البلاد وكتب إلى أخيه شهاب الدين بالمسير إلى خراسان فسار من غزنة في عساكره في منتصف سنة ست وتسعين ولما انتهى إلى الطالقان استحثه جنقر صاحب مرو للبلد واخبره بطاعته حتى إذا وصل إليه خرج في العساكر فقاتله وهزمه شهاب الدين وزحف بالفيلة إلى السور فاستأمن جنقر وخرج إليه وملك شهاب الدين مرو وبعث بالفتح إلى غياث الدين فجاء إلى مرو وبعث جنقر إلى هراة مكرما وسلم مرو إلى هندو خان بن ملك شاه المستنجد به وأوصاه بالاحسان إلى أهلها وسار إلى سرخس فحاصرها ثلاثا وملكها على الامان وأرسل إلى على شاه نائب علاء الدين محمد بنيسابور وينذره الحرب ان امتنع من الطاعة فاستعد للحصار وخربوا العمائر بظاهرها وقطعوا الاشجار وحمل محمود بن غياث الدين فضايق البلد وملك جانبها ورفع راية أبيه على السور وحمل شهاب الدين من الناحية الاخرى فسقط السور بين(4/404)
يديه وملك البلد ونهب الجند عامتها ثم نادوا بالامان ورفع النهب واعتصم الخوارزميون بالجامع فأخرجهم أهل البلد إلى غياث الدين ثم سار إلى قهستان فذكر له عن قرية في نواحيها أن أهلها اسماعيلية فدخلها وقتل المقاتلة وسبى الذرية وخرب القرية ثم سار
إلى مدينة أخرى ذكر له عنها مثل ذلك وأرسل صاحب قهستان إلى غياث الدين يستغيثون من شهاب الدين ويذكرونه العهد فأرسل غياث الدين إلى أخيه شهاب الدين بالرجوع عنهم طوعا أو كرها ووصل الرسول بذلك فامتنع فقطع طنب خيمته ورحل العسكر فرحل شهاب الدين كرها ورجع إلى غزنة * (فتح نهروا كد من الهند) * لما رجع شهاب الدين من خراسان غاضبا من فعل أخيه لم يعرج على غزنة ودخل بلاد الهند غازيا سنة ثمان وتسعين وبعث في مقدمته مملوكه قطب الدين أيبك ولقيه عساكر الهند دون نهر واكد فهزمهم ايبك واستباحهم وتقدم إلى نهر واكد فملكها عنوة وفارقها ملكها وجمع ورأى شهاب الدين انه لا يقوم بحمايتها الا مقامه فيها فصالح ملكها على مال يؤديه إليه عنها ورجع إلى غزنة * (اعادة علاء الدين محمد صاحب خوارزم ما أخذه الغورية من خراسان) * لما فصل الغورية عن خراسان وملكوا ما ملكوه منها وسار شهاب الدين إلى الهند غازيا بعث علاء الدين محمد صاحب خوارزم إلى غياث الدين يعاتبه على ما فعل في خراسان ويطلب اعادة بلده ويهدده باستدعاء عساكر الخطا فصانعه في الخطا حتى قدم شهاب الدين فطمع بالمصانعة وبعث إلى نائبهم بخراسان يأمره بالرحيل عن نيسابور ويتهدده فكتب إلى غياث الدين بذلك وبميل أهل نيسابور إلى عدوهم فوعده النصر وسار إليه علاء الدين صاحب خوارزم آخر سنة تسع وتسعين فلما انتهى إلى نساو أبيورد هرب هندو خان ابن أخيه ولحق بغياث الدين في فيروز كوه وملك علاء الدين مدينة مرو وسار إلى نيسابور وحاصرها شهرين فلما أبطأ عن نائبها المدد من غياث الدين استأمن الصاحب خوارزم وخرج إليه هو وأصحابه فأحسن إليهم وطلب علاء الدين أن يسعى في الصلح بينه وبين غياث الدين وأخيه فوعده بذلك وسار إلى هراة فأقام بها ولم يمض إلى غياث الدين سخطه لتأخر المدد عنه واختص صاحب خوارزم الحسن بن حرميل من
أعيان الغورية واستحلفه أن يكون معه عند غياث الدين ثم سار إلى سرخس وبها الامير زنكى فحاصره أربعين يوما وتعددت بينهما حروب ثم بعث ابنه زنكى بأن يتاخر عن البلد قليلا حتى يخرج هو وأصحابه فتأخر بأصحابه وخرج زنكى فشحن البلد بالاقوات والحطب وأخرج من ضاق به الحصار وتحصن فندم صاحب خوارزم على(4/405)
تأخره وجهز عسكر الحصاره ورجع فلما بعد سار محمد بن خربك من الطالقان وآرسل إلى زنكى بأن يكبس العسكر الذى عليه ونذر بذلك أهل العسكر فأفرجوا عن سرخس وخرج زنكى ولقى محمد بن خربك في مرو وجبوا خراج تلك الناحية وبعث إليهم صاحب خوارزم عسكرا من الثلاثة آلاف فارس فلقيهم محمد بن خربك في تسعمائة فهزمهم وغنم معسكرهم وعاد صاحب خوارزم إلى بلده وأرسل إلى غياث الدين في الصلح فأجابه مع أمير من أكابر الغورية اسمه الحسن بن محمد المرغنى فقبض عليه صاحب خوارزم وحبسه ومرغن من قرى الغور * (حصار هراة) * لما بعث صاحب خوارزم إلى غياث الدين في الصلح وجاء عند الحسن المرغنى تبين عنه المغالطة فحبسه وسار إلى هراة وحاصرها وكان بها اخوان من خدمة السلطان شاه تكش فكتبا إلى صاحب خوارزم ووعداه بالثورة له في البلد وكانا يليان مفاتح الابواب وأمور الحصار من داخل فأطلع الامير الحسن المرغنى المحبوس عند صاحب خوارزم على أمرهما فبعث إلى أخيه بذلك عمر صاحب هراة فاعتقلهما وبعث غياث الدين العساكر مدد الهراة مع ابن أخته ألب غازى فنزل على خمسة فراسخ منها ومنع المسيرة عن عسكر صاحب خوارزم فبعث اصحب خوارزم عسكرا إلى الطالقان للغارة عليها فقاتلهم الحسن بن خربك فظفر بهم ولم يفلت منهم أحد ثم سار غياث الدين في عساكره ونزل قريبا من هراة فاعتزم صاحب خوارزم على الرحيل بعد حصار أربعين لهزيمة
أصحابه بالطالقان ومسير العساكر مع ألب غازى ثم مسير غياث الدين ثم توقعه عود شهاب الدين من الهند وكان قد وصل إلى غزنة منتصف ثمان وتسعين فراسل أمير هراة وصالحه على مال حمله إليه وارتحل عن البلد وبلغ الخبر شهاب الدين وجاء إلى طوس وشتى بها عازما على حصار خوارزم فجاء الخبر بوفاة أخيه غياث الدين فاثنى عزمه وسار إلى هراة * (وفاة غياث الدين وانفراد شهاب الدين بالملك) * ثم توفى غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام صاحب غزنة وبعض خراسان وفيروز كوه ولهاووز ودهلى من الهند وكان أخوه شهاب الدين بطوس كما ذكرنا فسار إلى هراة وأظهر وفاة أخيه وجلس للعزاء وخلف غياث الدين ابنا اسمه محمود فلقب غياث الدين ولما سار شهاب الدين عن طوس استخلف بمرو الامير محمد بن خربك وبعث إليه صاحب خوارزم العساكر فبيتهم ولم ينج منهم الا القليل وأنفذ بالاسارى والرؤس إلى هراة وأعاد إليه صاحب خوارزم الجيوش مع منصور التركي فلقيهم على عشرة فراسخ(4/406)
من مرو فهزموه وحاصره خمسة عشر يوما حتى استأمن إليهم وخرج فقتلوه وترددت الرسل بين شهاب الدين وصاحب خوارزم في الصلح فلم يتفق بينهما أمر ولما اعتزم شهاب الدين على العود إلى غزنة ولى على هراة ابن أخته ألب غازى وقلد علاء الدين محمد الغورى مدينة فيروز كوه وبلد الغور وجعل إليه حرب خراسان وأمور المملكة وجاءه محمود ابن أخيه غياث الدين فولاه على بست واسفراين وتلك الناحية وبعده عن الملك جملة وكانت لغياث الدين زوجة مغنية شغف بها وتزوجها فقبض عليها شهاب الدين وضربها ضربا مبرحا وضرب ولدها غياث الدين وزوج أختها واستصفاهم وغربهم إلى بلاد الهند وكانت بنت مدرسة ودفنت فيها أباها فخر بها ونبش قبورهم ورمى بعظامهم وكان غياث الدين ملكا عظيما مظفرا على قلة حروبه فانه كان قليل المباشرة
للحروب وكان ذاهيبة جواد احسن العقيدة كثير الصدقة بنى بخراسان وغيرها المساجد والمدارس للشافعية وبنى الخوانك في الطرق وبنى على ذلك الاوقاف الكثيرة وأسقط المكوس وكان لا يتعرض إلى مال أحد ومن مات ووارثه غائب دفعه إلى امناء التجار من أهل بلده ليوصلوه إلى ورثته فان لم يجد تاجرا ختم عليه القاضى إلى أن يصل مستحقه وان كان لا وارث له تصدق عنه بماله وكان يحسن إلى أهل البلد إذا ملكها ويفرض الاعطيات للفقهاء كل سنة من خزائنه ويفرق الاموال على الفقراء ويصل العلوية والشعراء وكان أديبا بليغا بارع الخط ينسخ المصاحف ويفرقها في المدارس التى بناها وكان شافعي المذهب من غير تعصب لهم ويقول التعصب في المذاهب هلاك [ فتنة الغورية مع محمد بن تكش صاحب خوارزم وحصار هراة ثم حصار هو خوارزم وحروب شهاب الدين مع الخطا ] لما هلك غياث الدين ملك أخوه شهاب الدين بعده فطمع محمد بن تكش صاحب خوارزم في ارتجاع هراة وكان قد ارسل شهاب الدين في الصلح فلم يتم وسار شهاب الدين عن غزنة إلى لهاووز غازيا فسار حينئذ محمد بن تكش إلى هراة منتصف سنة ستمائة وحاصرها وكان بها ألب غازى ابن أخت شهاب الدين وطال حصارها إلى سلخ شعبان وقتل بين الفريقين خلق منهم رئيس خراسان المقيم يومئذ بمشهد طوس وكان الحسين بن حرميل من أعيان الغورية بجور بان وهو اقطاعه فمكر بصاحب خوارزم وأظهر له الموالاة وأشار بأن يبعث إليه فوارس يعطيهم بعض الفيلة وقعد لهم هو والحسين بن محمد المرغنى بالمراصد فاستلحموهم ثم مات ألب غازى وضجر صاحب خوارزم من الحصار فارتحل إلى سرخس وحاصرها وبلغت هذه الاخبار شهاب الدين ببلاد الهند فكر ارجعا وقصد مدينة خوارزم فأغذ محمد بن تكش السير من سرخس ونزل اثقاله(4/407)
وسبقه إليها وقاتله الخوارزمية قتالا شديدا وفتكوا فيه وهلك من الغورية جماعة منهم
الحسين بن محمد المرغنى وأسر جماعة من الخوارزمية فأمر شهاب الدين بقتلهم ثم بعث خوارزم شاه إلى الخطا يستنجدهم أن يخالفوا شهاب الدين إلى بلاد الغورية فساروا إليها ولما سمع شهاب الدين كر راجعا إلى البلاد فلقى مقدمة عسكرهم بصحراء ايدخوى في صفر سنة احدى وستمائة فأوقع بهم وأثخن فيهم وجاءت ساقتهم على أثر ذلك فلم يكن له بهم قبل فانهزم ونهبت أثقاله وقتل الكثير من أصحابه ونجا في الفيل إلى ايد خوى وحاصروه حتى أعطاهم بعض الفيلة وخلص وكثر الارجاف في بلاد الغور بمهلكه ووصل إلى الطالقان في سبعة نفر وقد لحق بها نائبها الحسين بن حرميل ناجيا من الوقعة فاستكثر له من الزاد والعلوفة وكفاه مهمه وكان مستوحشا مع من استوحش من الامراء بسبب انهزامهم عن شهاب الدين فحمله شهاب الدين إلى غزنة تأنيسا له واستحجبه ولما وقع الارجاف بموت شهاب الدين جمع مولاه تاج الدين العسكر وجاء إلى قلعة غزنة طامعا في ملكها فمنعه مستحفظها فرجع إلى اقطاعه وأعلن بالفساد وأغرى بالخلخ من الترك فكثر عيثهم وكان له مولى آخر اسمه أيبك فلحق بالهند عند نجاته من المعركة وأرجف بموت السلطان واستولى على الملتان وأساء فيها السيرة فلما وصل خبر شهاب الدين الناس من سائر النواحى جمع شهاب الدين لغزو الخطا والنار منهم * (حروب شهاب الدين مع بنى كوكر والتفراهية) * كان بنو كوكر هؤلاء موطنين في الجبال بين لهاووز والملتان معتصبين بها لمنعتها وكانوا في طاعة شهاب الدين ويحملون إليه الخراج فلما وقع الارجاف بموته انتقضوا وداخلوا صاحب جبل الجودى وغيره من أهل الجبال في ذلك وجاهروا بالعيث والفساد وقطع السابلة ما بين غزنة ولهاووز وغيرها وبعث شهاب الدين إلى محمد بن أبى على بلهاووز والملتان يأمره بحمل المال بعد أن قتل مملوكه أيبك قال ومهد البلاد فاعتذر بنو كوكر فبعث شهاب الدين مملوكه أيبك إلى بنى كوكر يتهددهم على الطاعة فقال كبيرهم لو كان شهاب الدين حيا لكان هو المرسل الينا واستخفوا أمر أيبك فعاد الرسول
بذلك فأمر شهاب الدين بتجهيز العساكر في قرى سابور ثم عاد إلى غزنة في شعبان سنة احدى وستمائة ونادى بالمسير إلى الخطا ورجع بنو كوكر إلى حالهم من اخافة السابلة ودخل معهم كثير من الهنود في ذلك وخشى على انتقاض البلاد فاثنى عزمه عن الخطا وسار إلى غزنة وزحف إلى جبال بنى كوكر في ربيع الاول سنة ثنتين ولما انتهى إلى قرى سابور أغذ السير وكبس بنى كوكر في محالهم وقد نزلوا من الجبال إلى البسيط يرومون اللقاء فقاتلوه يوما إلى الليل وإذا بقطب الدين أيبك في عساكره منادين بشعار الاسلام(4/408)
فحملو عليهم وانهزموا وقتلوا بكل مكان واستنجوا بأحمة فأضرمت عليهم نارا وغنم المسلمون أهاليهم وأموالهم حتى بيع المماليك خمسة بدينار وقتل كبير بنى كوكر الذى كان مملكا عليهم وقصد دانيال صاحب الجند الجودى وسار إليها فأقام بها منتصف رجب وهو يستنفر الناس ثم عاد نحو غزنة وأرسل بهاء الدين سام صاحب باميان بالنفير إلى سمرقند وان يتخذ الجسر لعبور العساكر وكان أيضا ممن دعاه هذا الارجاف إلى الانتقاض التتراهية وهم قوم من أهل الهند بنواحي قرى سابور دينهم المجوسية ويقتلون بناتهم بعد النداء عليهن للتزويج فإذا لم يتزوجها أحد قتلوها وتزوج المرأة عندهم بعدة أزواج وكانوا يفسدون في نواحى قرى سابور ويكثرون الغارة عليها وأسلم طائفة منهم آخر أيام شهاب الدين الغورى ثم انتقضوا عند هذا الارجاف وخرجوا إلى حدود سوران ومكران وشنوا الغارة على المسلمين فسار إليهم الخلخى نائب تاج الدين الذى بتلك الجهة فأوقع بهم وأثخن فيهم وبعث برؤس الاعيان منهم فعلقت ببلاد الاسلام وصلح أمر البلاد * (مقتل شهاب الدين الغورى وافتراق المملكة بعده) * لما قضى شهاب الدين شأنه من بلاد الغور وأصلح ما كان بها من الفساد ارتحل من لهاور عائدا إلى غزنة عازما على قصد الخطا بعد أن استنفر أهل الهند وأهل خراسان
فلما نزل بدميل قريبا من لهاور طرق خيمته جماعة من الدعار فقتلوا بعض الحرس وثار بهم الناس وذهل باقى الحرس بالهيعة فدخل منهم البعض على شهاب الدين وضربوه في مصلاه وقتلوه ساجدا وقتلوا عن آخرهم أول شعبان سنة ثنتين وستمائة فيقال ان هذه الجماعة من الكوكرية الذين أحفظهم ما فعل بهم ويقال من الاسماعيلية لانهم كانوا غلوا منه وكانت عساكره تحاصر قلاعهم ولما قتل اجتمع الامراء عند وزيره مؤيد الدين خواجا سحتا واتفقوا على حفظ المال إلى أن يقوم بالامر من يتولاه من أهله وتقدم الوزير إلى أمير العسكر بضبط العسكر وحملت جنازة شهاب الدين في المحفة وحملوا خزائنه وكانت ألفين ومائتي حمل وتطاول الموالى مثل صونج صهر الذر وغيره إلى نهب المال فمنعهم الامراء الكبار وصرفوا الجند الذين اقطاعهم عند قطب الدين أيبك ببلاد الهند أن يعودوا إليه وساروا إلى غزنة متوقعين البيعة على الملك بين غياث الدين محمود ابن السلطان غياث الدين وبين بهاء الدين سام صاحب باميان ابن أخت شهاب الدين فيملك الخزانة والاتراك يريدون طريق سوران ليقربوا من فارس وكان هوى الوزير مؤيد الملك مع الاتراك فلم يزل بالغورية حتى إذا وصلوا طريق كرمان ساروا عليها ولقوا بها مشقة من غارات التتراهية واقعان(4/409)
وغيرهم ولما وصلوا إلى كرمان استقبلهم تاج الدين الذر ونزل عن فرسه وقبل الارض بين يدى المحفة ثم كشف عن وجهه فمزق ثيابه وأجد بالبكاء حتى رحمه الناس وكان شهاب الدين شجاعا قرما عادلا كثير الجهاد وكان القاضى بغزنة يحضر داره أربعة أيام في كل أسبوع فيحكم بين الناس وأمراء الدولة ينفذون أحكامه وان رافع أحد خصمه إلى السلطان سمع كلامه ورده إلى القاضى وكان شافعي المذهب * (قيام الذر بدعوة غياث الدين محمود ابن السلطان غياث الدين) * كان تاج الدين الذر من موالى شهاب الدين وأخصهم به فلما قتل طمع في ملك غزنة
وأظهر القيام بدعوة غياث الدين محمود ابن السلطان غياث الدين وانه كتب إليه بالنيابة عنه بغزنة لشغله بأمر خراسان وتسلم الخزائن من الوزير وسار إلى غزنة فدفن شهاب الدين بتربته في المدرسة التى أنشأها وذلك في شعبان من سنة ثنتين وستمائة وأقام بغزنة * (مسير بهاء الدين سام إلى غزنة وموته وملك بهاء الدين ابنه بعده غزنة) * كان بهاء الدين قد أقطع باميان ابن عمه شمس الدين محمد بن مسعود عند ما ملكها وأنكحه أخته فولدت ابنا وهو سام وكان له ابن آخر من امرأة تركية اسمه عباس فلما مات ملك ابنه الاكبر عباس فغضب غياث الدين وشهاب الدين لابن أختهما وعزلوا عباسا وولوه مكانه على باميان فعظم شأنه وجمع الاموال وترشح للملك بعد أخواله لميل أمراء الغز إليه بعد أخواله فلما قتل شهاب الدين كان في قلعة غزنة نائب اسمه أمير دان فبعث ابنه إلى بهاء الدين محمود ابن السلطان غياث الدين وابن حرميل عامل هراة بحفظ أعمالها واقامة الخطبة له بها والغورية والاتراك على ما ذكرناه من الاختلاف فسار في عساكره إلى غزنة ومعه ابنا علاء الدين وأمرهما جميعا بالمسير إلى غزنة وبلاد الهند فلما مات ثار ابناه في غزنة وخرج أمراء الغورية لغياث الدين وتلقوهما والاتراك معهم مغلبين فملكوا البلد ونزلوا دار السلطنة مستهل رمضان من سنة ثنتين وستمائة واعتزم الاتراك على منعهم وعادلهم الامير مؤيد الملك لاشتغال غياث الدين منهم بابن حرميل عامل هراة فلم يرجعوا ونبذوا إلى علاء الدين وأخيه العهد وآذنوهما بالحرب ان لم يرجعا فبعثا إلى تاج الدين الذر وهو باقطاعه يستدعيانه ويرغبانه بالاموال والمراتب السلطانية والترغيب في الدولة * (استيلاء الذر على غزنة) * كان الذر بكرمان لما بلغه مقتل شهاب الدين تسلم الاموال والخزائن من الوزير(4/410)
وأظهر دعوة غياث الدين ابن مولاه السلطان غياث الدين وسار بهاء الدين سام من باميان كما ذكرناه ومات في طريقه وملك ابنه علاء الدين غزنة كما ذكرناه واستعطف الاتراك وبعث إلى الذر يرغبه ويسترضيه فأبى من طاعته وأساء الرد عليه وسار عن كرمان في عساكر كثيفة من الترك والخلخ والغز وغيرهم وبعث إلى علاء الدين وأخيه بالنذير فأرسل علاء الدين وزيره ووزير ابنه صلة إلى باميان وبلخ وترمذ ليحتشد العساكر وبعث الذر إلى الاتراك الذين بغزنة بأن مولاهم غياث الدين واجتمعت جماعة الغورية والاتراك فالتقوا في رمضان ونزع الاتراك إلى الذر فانهزم محمد بن حدورون وأسر ودخل عسكر الذر المدينة فنهبوا بيوت الغورية والباميانية واعتصم علاء الدين بالقلعة وخرج جلال الدين في عشرين فارسا إلى باميان وحاصر الذر القلعة حتى استأمن علاء الدين في المسير من غزنة إلى باميان ولما نزل من القلعة تعرض له بعض الاتراك فأرجلوه عن فرسه وسلبوه فبعث إليه الذر بالمال والمركب والثياب فوصل إلى باميان فشرع في الاحتشاد وأقام الذر بغزنة يظهر طاعة غياث الدين ويترحم على شهاب الدين ولم يخطب له ولا لاحد وقبض على داود والى القلعة بغزنة وأحضر القضاة والفقهاء وكان رسول الخليفة مجد الدين أبو على بن الربيع الشافعي مدرس النظامية ببغداد وفد على شهاب الدين رسولا من قبل الخليفة وأحضره لذر ذلك اليوم وشاورهم بالجلوس على التخت والمخاطبة بالالقاب السلطانية وأمضى ذلك واستوحش الترك حتى بكى الكثير منهم وكان هناك جماعة من ولد ملوك الغور وسمرقند فأنفوا من خدمته وانصرفوا إلى علاء الدين وأخيه في باميان وأرسل غياث الدين محمود أن يصهر إليه في بنته بابنه فأبى من ذلك ثم جاء في عسكر من الغوريين من باميان وأرسل غياث الدين وفرق في أهلها الاموال واستوزر مؤيد الملك فوزر له على كره * (أخبار غياث الدين بعد مقتل عمه) * لما قتل السلطان شهاب الدين كان غياث الدين محمود ابن أخيه السلطان غياث الدين
في أقطاعه ببست وكان شهاب الدين قد ولى على بلاد الغور علاء الدين محمد بن أبى على من أكابر بيوت الغورية وكان اماميا غاليا فسار إلى بيروز كوه بسابق إليها غياث الدين وكان الامراء الغورية أميل إلى غياث الدين وكذا أهل بيروز كوه فلما دخل خوارزم دعا محمدا المرغنى ومحمد بن عثمان من أكابر الغورية واستحلفهم على قتال محمد بن تكش صاحب خوارزم وأقام غياث الدين بمدينة بست ينتظر مآل الامر لصاحب باميان لانهما كان بينهما العهد من أيام شهاب الدين أن تكون خراسان لغياث الدين وغزنة والهند لبهاء الدين صاحب باميان بعد موت شهاب الدين فلما بلغه موت شهاب(4/411)
الدين دعا لنفسه وجلس على الكرسي في رمضان سنة ثلاث وستمائة واستخلف الامراء الذين في اثره فأدركوه وجاؤا به وملك بيروز كوه وقبض على جماعة من أصحاب علاء الدين ولما دخل بيروز كوه جاء إلى الجامع فصلى فيه ثم ركب إلى دار أبيه فسكنها وأعاد الرسوم وقدم عليه عبد الجبار محمد بن العشير إلى وزير أبيه فاستوزره واقتفى بابيه في العدل والاحسان ثم كاتب ابن حرميل بهراة ولاطفه في الطاعة وكان ابن حرميل لما بلغه مقتل السلطان بهراة خشى عادية خوارزم شاه فجمع أعيان البلد وغيرهم واستحلفهم على الانجاز والمساعدة وقال القاضى وابن زياد يحلف كل الناس الا ابن غياث الدين وينتظر عسكر خوارزم شاه وشعر غياث الدين بذلك من بعض عيونه فاعتزم على المسير إلى هراة واستشار ابن حرميل القاضى وابن زياد فاشارا عليه بطاعة غياث الدين على مكر ابن حرميل وميله إلى خوارزم شاه وحثه على قصد هراة ليكون ذلك حجة عليه ففعل وبعث به مع ابن زياد ثم كاتب غياث الدين صاحب الطالقان وصاحب مرو يستدعيهما غياث الدين ووفر له الاقطاع وأقطع الطالقان لسونج مولى أبيه المعروف بأمير شكار * (استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان) *
كان الحسن بن حرميل نائب الغورية بهراة منتقضا عليهم كما ذكرنا ومداخلا لخوارزم شاه في الباطن واستدعى العساكر من عنده وبعث ابن زياد يستوثق له من غياث الدين وأقام يقدم رجلا ويؤخر أخرى ووصل ابن زياد بالولاية والخلع فلم يثنه ذلك عما هو فيه من المكاذبة لهم ثم وصل عسكر خوارزم شاه فتلقاهم وأكرمهم وبلغه أن خوارزم شاه في اثرهم على أربع فراسخ من بلخ فندم في أمره ورد إليه عسكره وبلغ غياث الدين عسكر خوارزم شاه ووصولهم إلى هراة فاستدعى ابن حرميل فقبض على املاكه ونكب أصحابه ورد أقطاعه فاعتزم أهل هراة على القبض عليه وكتب القاضى وابن زياد بذلك إلى غياث الدين ونمى الخبر إلى ابن حرميل فخشى على نفسه منهم وأوهمهم انه يكاتب غياث الدين وطلبهم في الكتاب مع رسوله وأوصى الرسول أن يعدل إلى طريق خوارزم شاه ولحق بهم فردهم وأصبحوا على البلد لرابعة يوم من سفر الرسول فأدخلهم ابن حرميل البلد وأمكنهم من أبوابها وقبض على ابن زياد وسمله وأخرج القاضى فلحق بغياث الدين في بيروز كوه ونمى الخبر بذلك إلى غياث الدين فاعتزم على المسير بنفسه فبلغه سير علاء الدين صاحب باميان إلى غزنة فاقتصر عن ذلك وأقام ينتظر شأنه مع الدر وأما بلخ فان خوارزم شاه لما بلغه مقتل شهاب الدين أطلق أسرى الغوريين الذين كانوا عنده وخلع عليهم واستألفهم وبعث أخاه على شاه في العساكر(4/412)
إلى بلخ فقاتله عمر بن الحسين الغورى نائبها ونزل منها على أربعة فراسخ وجاءه خوارزم شاه مددا بنفسه اخر سنة ثنتين وستمائة فحاصرها فاستمد عمر بن الحسين علاء الدين وجلال الدين من باميان وشغلوا عنه بغزنة فأقام خوارزم شاه محاصرا له أربعين يوما وكان عنده محمد بن على بن بشير وأطلقه في أسرى الغورية وأقطعه فبعثه إلى عمر بن الحسين صاحب بلخ في الطاعة فأبى من ذلك واعتزم خوارزم شاه على المسير إلى هراة ثم بلغه ما وقع بين الذر وبين علاء الدين وجلال الدين وأن الذر أسرهما وأن عمر بن
الحسين صاحب بلخ أبى ذلك فأعاد عليه ابن بشير فلم يزل يفتل له في الذروة والغارب حتى أطاع صاحب خوارزم وخطب له وخرج إليه فخلع عليه وأعاده إلى بلده في سلخ ربيع سنة ثلاث ثم سار إلى جورقان ليحاصرها وبها على بن أبى على فوقعت المراوضة بينهما ثم انصرف عن جورقان وتركها لابن حرميل واستدعى عمر بن الحسين الغورى وصاحب بلخ فقبض عليه وبعثه إلى خوارزم ومضى إلى بلخ فملكها وولى عليها جعفرا التركي ورجع إلى خوارزم * (استيلاء علاء الدين تانيا على غزنة ثم انتزاع الذر اياها من يده) * قد تقدم لنا استيلاء الذر على غزنة واخراجه علاء الدين وجلال الدين منها إلى باميان فأقاما بها شهرين ولحق كثير من الجند بعلاء الدين صاحبهم وأقام الذر بغزنة متوقفا عن الخطبة لغياث الدين يروم الاستبداد وهو يعلل الاتراك برجوع رسوله من عند غياث الدين مخافة أن ينفضوا عنه فلما ظفر بعلاء الدين وملك القلعة أظهر الاستبداد وجلس على الكرسي وجمع علاء الدين وجلال الدين العساكر وساروا من باميان إلى غزنة وسرح الذر العساكرة للقائهما فهزماها وأثخناها وهرب الذر إلى بلد كرمان وابتعه بعض العسكر فقاتلهم ودفعهم وسار علاء الدين وأخوه إلى غزنة وملكوها وأخذوا خزانة شهاب الدين التى كان الدر أخذها من يد الوزير مؤيد الدين عند مقدمه بجنازة شهاب الدين إلى كرمان كما مر ثم اعتزم علاء الدين وأخوه على العود إلى غزنة وأهلها متوقعون النهب من عسكرهم والفئ وكان بينهم رسول الخليفة مجد الدين بن الربيع مدرس النظامية جاء إلى شهاب الدين فقتل وهو عنده وأقام بغزنة فقصده أهل غزنة أن يشفع فيهم فشفع وسكن الناس وعاد علاء الدين وأخوه إلى غزنة ثم وقع بينهما تشاجر على اقتسام الخزانة وعلى وزارة مؤيد الملك فندم الناس على طاعتهما وسار جلال الدين ومعه عباس إلى باميان وبقى علاء الدين بغزنة وأساء وزيره السيرة في الجند والرعية ونهب الاموال حتى باعوا أمهات أولادهم ويشكون فلا يشكيهم أحد فسار الذر
في جموع الاتراك والغز والغورية فكبسهم ايدكز الشرفى مولى شهاب الدين(4/413)
في ألفين وملك كرمان وجاء الذر اثر ذلك وأنكر على ايدكز وملك كرمان وأحسن إلى أهلها وبلغ الخبر إلى علاء الدين بغزنة فبعث وزيره إلى أخيه جلال الدين في باميان وكانت عساكر الغورية قد فارقوه ولحقوا بغياث الدين ووصل الذر آخر سنة ثنتين وستمائة إلى غزنة فملكها وامتنع علاء الدين بالقلعة فسكن الذر الناس وأمنهم وحاصروا القلعة وجاء الخبر إلى الذر بأن جلال الدين قادم عليك بعساكره ولحق سليمان بن بشير بغياث الدين ببيروز كوه فأكرمه وجعله أمير داره وذلك في صفر سنة ثلاث وسار الذر فلقى جلال الدين وهزمه وسيق أسيرا إليه ورجع إلى غزنة وتهدد علاء الدين بقتل الاسرى ان لم يسلم القلعة وقتل منهم أربعمائة أسير فبعث علاء الدين يستامنه فامنه ولما خرج قبض على وزيره عماد الملك وقتله وبعث إلى غياث الدين بالفتح * (انتقاض عباس في باميان ثم رجوعه إلى الطاعة) * لما أسر علاء الدين وجلال الدين كما قلناه في غزنة وصل الخبر إلى عمهما عباس في باميان ومعه وزير أبيهما وسار الوزير إلى خوارزم شاه يستنجده على الذر ليخلص صاحبيه فاغتنم عباس غيبته وملك القلعة وكان مطاعا واخرج أصحاب علاء الدين وجلال الدين فرجع الوزير من طريقه فحاصره بالقلعة وكان مطاعا في تلك الممالك من لدن بهاء الدين ومن بعده فلما خلص جلال الدين من أسر الذر وصل إلى مدينة باميان واجتمع مع الوزير وبعثوا إلى عباس ولا طفوه حتى نزل عما كان استولى عليه من القلاع وقال انما أردت حفظها من خوارزم شاه * (استيلاء خوارزم شاه على ترمذ ثم الطالقان من يد الغورية) * كان خوارزم شاه لما ملك بلخ من يد عمر بن الحسين الغورى سار منها إلى ترمذ وبها ابنه وقدم إليه محمد بن بشير بما كان من نزول أبيه عن بلخ وانه انتظم في أهل دولته وبعثه
إلى خوارزم مكرما ورغبه بالاقطاع والمواعيد وكان قد ضاق ذرعه من الخطا ووهن من أسر الذر أصحابه بغزنة فأطاع واستأمن وملك خوارزم شاه ترمذ ورأى أن يسلمها للخطا ليتمكن بذلك من خراسان ثم يعود عليهم فينتزعها منهم ولما فرغ من ذلك سار إلى الطالقان وبها سونج نائبا عن غياث الدين محمود وأرسل من يستميله فلج وسار لحربه حتى إذا التقيا نزل عن فرسه وسأل العفو فذمه بذلك وأخذ ما كان بالطالقان بعض أصحابه وسار إلى قلاع كاكوير وسوار فخرج إليه حسام الدين على بن أبى على صاحب كالوين وقاتله وطالبه في تسليم البلاد فأبى وسار خوارزم شاه إلى هراة ونزل بظاهرها وابن حرميل في طاعته فكف عساكره عن أهل هراة ولقيه هنالك رسول غياث الدين بالهدايا ثم سار ابن حرميل إلى اسفزار في صفر وقد كان صاحبها سار إلى غياث الدين(4/414)
فحاصرها حتى استأمن إليه وملك البلد ثم أرسل إلى صاحب سجستان بطاعة خوارزم والخطبة له فأجاب إلى ذلك بعد أن طلبه في ذلك غياث الدين فامتنع وعند مقام خوارزم شاه على هراة عاد إليها القاضى صاعد بن الفضل الذى كان ابن حرميل أخرجه منه فلحق بشهاب الدين ثم رجع من عنده إلى خوارزم شاه فسعى به ابن حرميل عنده حتى سجنه بقلعة زوزن وولى على القضاء بهراة الصفى أبا بكر محمد بن السرخسى * (خير غياث الدين مع الذر وايبك مولى أبيه) * لما ملك الذر غزنة وأسر علاء الدين وأخاه جلال الدين كتب إليه غياث الدين يأمره بالخطبة وطاول في ذلك فبعث إليه يستحثه بأمر الخطيب بالترحم على شهاب الدين والخطبة لنفسه فاستراب الاتراك به وبعث هو يشترط على غياث الدين العتق فأجابه إلى ذلك بعد توقف وكان عزمه عى أن يصالح خوارزم شاه ويستمده على الذر فلما طلب العتق أعتقه وأعتق قطب الدين أيبك مملوك عمه شهاب الدين ونائبه ببلاد الهند وأرسل إلى كل منهما هدية ورد الخبر واستمر الذر على مراوغته وأيبك
على طاعته فاستمد غياث الدين خوارزم شاه على الذر فأمده على أن يرد ابن حرميل صاحب هراة إلى طاعته وأن يقسم الغنيمة أثلاثا بينهما وبين العسكر وبلغ الخبر إلى الذر فسار إلى بكتاباد فملكها ثم إلى بست وأعمالها كذلك وقطع خطبة غياث الدين منها وأرسل إلى صاحب سجستان بقطع خطبة خوارزم شاه والى ابن حرميل كذلك ويتهددهما وأطلق جلال الدين صاحب باميان وزوجه بنته وبعث معه خمسة آلاف فارس مع ايدكين مملوك شهاب الدين ليعيدوا جلال الدين إلى ملكه بباميان وينزلوا ابن عمه فلما سار معه ايدكين أغراه بالعود إلى غزنة وأعلمه ان الاتراك مجمعون على خلاف الذر فلم يجبه جلال الدين إلى ذلك فرجع عنه ايدكين إلى اقطاعه بكابل ولقيه رسول من قطب الدين أيبك إلى الذر يتهدده على عصيانه على غياث الدين ويأمره بالخطبة له ووصل معه الهدايا والالطاف إلى غياث الدين وأشار عليه أيبك باجابة خوارزم إلى جميع ما طلب حتى يفرغ من أمر غزنة وكتب إلى أيبك يستأذنه في المسير إلى غزنة ومحاربة الذر فأذن له بمحاربته ووصل ايدكين في رجب سنة ثلاث وخطب لغياث الدين بغزنة وامتنعت عليه القلعة فنهب البلد ووصل الخبر إلى الذر بشأن ايدكين في غزنة ومراسلة أيبك له ففت ذلك في عضده وخطب لغياث الدين في بكتاباد وأسقط اسمه ورحل إلى غزنة فرحل ايدكين عنها إلى بلد الغور وأقام في تمواز وكتب إلى غياث الدين بالخبر وأنفذ إليه أموالا فبعث إليه غياث الدين بالخلع وأعتقه وخاطبه بملك الامراء وسار غياث الدين إلى بست وأعمالها فاستردها وأحسن إلى أهلها وأقام الذر بغزنة(4/415)
* (مقتل ابن حرميل واستيلاء خوارزم شاه على هراة) * كان ابن حرميل كما قدمناه استدعى عسكر خوارزم شاه إلى هراة وأنزلهم معه بهراة فساء أمرهم في الناس وكثر عيثهم فحبسههم وبعث إلى خوارزم شاه بصنيعهم ويعدده وكان مشتغلا بقتال الخطا فكتب إليه يحسن فعله ويستدعى الجند الذين حبسهم
وبعث إلى عز الدين خلدك أن يحتال في القبض على ابن حرميل فسار في ألفى فارس وكان خلدك أيام السلطان سنجر واليا على هراة فلما قدم خرج ابن حرميل لتلقيه فنزل كل واحد منهما إلى صاحبه وأمر خلدك أصحابه بالقبض على ابن حرميل فقبضوا عليه وانفض عنه أصحابه إلى المدينة فأمر الوزير خواجه الصاحب بغلق الابواب والاستعداد للحصار ونادى بشعار غياث الدين محمود فحاصره خلدك وبذل له الامان وتهدده بقتل ابن حرميل وخاطبه بذلك ابن حرميل ففعل وكتب بالخبر إلى خوارزم شاه فبعث ولانه بخراسان بأمرهم بحصار هراة فسار في عشرة آلاف وامتنعت هراة عليهم وكان ابن حرميل قد حصنها بأربعة أسوار محكمة وخندق وشحنها بالميرة وصار بعدهم إلى حضور خوارزم شاه وأسروه أياما حتى فادى نفسه ورجع إلى خوارزم كما يذكر في أخبار دولته وأرجف بموته في خراسان فطمع أخوه على شاه في طبرستان وكزلك حان في نيسابور إلى الاستبداد بالملك فلما وصل خوارزم شاه هرب أخوه على شاه ولحق بشهاب الدين في بيروز كوه فتلقاه وأكرمه وسار خوارزم شاه إلى نيسابور وأصلح أمرها واستعمل عليها وسار إلى هراة وعسكره على حصارها وقيل للوزير قد وصل خوارزم شاه لما وعدته وتحدث في ذلك جماعة من أهل البلد فقبض عليهم ووقعت بذلك هيعة وشعر بها خوارزم شاه فزحف إلى السور وخرب برجين منه ودخل البلد فملكه وقتل الوزير وولى على هراة من قبله وذلك سنة خمس وستمائة ورجع إلى قتال الخطا * (مقتل غياث الدين محمود) * لما ملك خوارزم شاه مدينة هراة وولى عليها خاله أمير ملك وأمره أن يسير إلى بيروز كوه ويقبض على صاحبها غياث الدين محمود بن غياث الدين الغورى وعلى اخيه على شاه بن خوارزم شاه فسار أمير ملك واستأمن له محمود فأمنه وخرج إليه هو وعلى شاه فقبض عليهما أمير ملك وقتلهما ودخل فيروز كوه سنة خمس وستمائة وصارت بخراسان كلها لخوارزم شاه
* (استيلاء خوارزم شاه على غزنة وأعمالها) * ولما استولى خوارزم شاه على عامة خراسان وملك باميان وغيرها أرسل إلى تاج الدين(4/416)
الذر صاحب غزنة في الخطبة والسكة وأن يقرر الصلح على غزنة بذلك فشاور أهل دولته وفيهم قطلوتكين من موالى شهاب الدين وهو النائب عن الذر بغزنة فأشار عليه بطاعته وأعاد الرسول بالاجابة وخطب له وسار عن غزنة متصديا وبعث قطلوتكين إلى خوارزم شاه سرا أن يبعث إليه من يسلمه غزنة فجاء بنفسه وملك غزنة وهرب الذر إلى لهاور ثم أحضر خوارزم شاه قطلوتكين وقتله بعد أن استصفاه وحصل منه على أموال جمة وولى على غزانة ابنه جلال الدين وذلك سنة ثلاث عشرة وستمائة ورجع إلى بلده * (استيلاء الذر على لهاور ومقتله) * لما هرب الذر من غزنة أمام خوارزم شاه لحق بلهاور وكان صاحبها ناصر الدين قباجة من موالى شهاب الدين وله معها ملتان وآجر والدبيل إلى ساحل البحر وله من العسكر خمسة عشر ألف فارس وجاء الذر في ألف وخمسمائة فقاتله على التعبية ومعه الفيلة فانهزم الذر أولا وأخذت فيوله ثم كانت له الكرة وحمل فيل له على علم قباجة باغراء الفيال وصدق هو الحملة فانهزم قباجة وعسكره وملك الذر مدينة لهاور ثم سار إلى الهند ليملك مدينة دهلى وغيرها من بلاد المسلمين وكان قطب الدين ايبك صاحبها قد مات ووليها بعده مولاه شمس الدين فسار إليه والتقيا عند مدينة سمابا واقتتلا فانهزم الذر وعسكره وأسر فقتل وكان محمود السيرة في ولايته كثير العدل والاحسان إلى الرعية لا سيما التجار والغرباء وكان بملكه انقراض دولة الغورية والبقاء لله وحده [ الخبر عن دولة الديلم وما كان لهم من الملك والسلطان في ملة الاسلام ودولة
بنى بويه منهم المتغلبين على الخلفاء العباسيين ببغداد وأولية ذلك ومصايره ] قد تقدم لنا نسب الديلم في انساب الامم وانهم من نسل ماذاى بن يافت وماذاى معدود في التوراة من ولد يافت وذكر ابن سعيد ولا أدرى عمن نقله انهم من ولد سام بن باسل ابن اشور بن سام واشور مذكور في التوراة من ولد سام وقال ان الموصل من جرموق ابن اشور والفرس والكرد والخزر من ايران بن اشور والنبط والسوريان من نبيط ابن اشور هكذا ذكر ابن سعيد والله أعلم والجيل عند كافة النسابين اخوانهم على كل قول من هذه الاقوال وهم أهل جيلان جميعا عصبية واحدة من سائر أحوالهم ومواطن هؤلاء الديلم والجيل بجبال طبرستان وجرجان إلى جبال الرى وكيلان وحفا في البحيرة المعروفة بحيرة طبرستان من لدن أيام الفرس وما قبلها ولم يكن لهم ملك فيما قبل الاسلام ولما جاء الله بالاسلام وانقرضت دولة الاكاسرة واستفحلت دولة العرب(4/417)
وافتتحوا الاقاليم بالمشرق والمغرب والجنوب والشمال كما مر في الفتوحات وكان من لم يدخل من الامم في دينهم دان لهم بالجزية وكان هؤلاء الديلم والجيل على دين المجوسية ولم تفتح أرضهم أيام الفتوحات وانما كانوا يؤدون الجزية وكان سعيد بن العاصى قد صالحهم على مائة ألف في السنة وكانوا يعطونها وربما يمنعونها ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد وكانوا يمنعون الطريق من العراق إلى خراسان على قومس ولما ولى يزيد ابن المهلب خراسان سنه ست وثمانين للهجرة ولم يفتح طبرستان ولا جرجان وكان يزيد ابن المهلب يعيره بذلك إذا قصت عليه اخباره في فتوحات بلاد الترك ويقول ليست هذه الفتوح بشئ والشأن في جرجان التى قطعت الطريق وأفسدت قومس ونيسابور فلما أولاه سليمان بن عبد الملك خراسان سنة تسع وتسعين أجمع غزوها ولم تكن جرجان يومئذ مدينة انما هي جبال ومحاصر يقوم الرجل على باب منها فيمنعه وكانت طبرستان مدينة وصاحبها الاصبهبد ثم سار إلى جرجان مولاه فراسة وسار الهادى
اليهما وحاصرهما حتى استقاما على الطاعة ثم بعث المهدى سنة ثمان وتسعين يحيى الحرسى في أربعين ألفا من العساكر فنزل طبرستان وأذعن الديلم ثم لحق بهم أيام الرشيد يحيى بن عبد الله بن حسن المثنى فأجاروه وسرح الرشيد الفضل بن يحيى البرمكى لحربهم فسار إليهم سنة خمس وتسعين ومائة فأجابوه إلى التمكين منه على مال شرطوه وعلى أن يجئ بخط الرشيد وشهادة اهل الدولة من كبار الشيعة وغيرهم فبذل لهم المال وكتب الكتاب وجاء الفضل بيحيى فحبسه عند أخيه جعفر حسبما هو مذكور في أخباره وفى سنة تسع وثمانين كتب الرشيد وهو بالرى كتاب الامان لسروين بن أبى قارن ورندا هرمز بارخشان صاحب الديلم وبعث بالكتاب مع حسن الخادم إلى طبرستان فقدم بخستان ورندا هرمز وأكرمهما الرشيد وأحسن اليهما وضمن رندا هرمز الطاعة والخراج عن سروين بن أبى قارن ثم مات سروين وقام مكانه ابنه شهريار ثم زحف سنة احدى وثمانين عبد الله بن أبى خرداذيه وهو عامل طبرستان إلى البلاد والسيزر من بلاد الديلم فافتتحها وافتتح سائر بلاد طبرستان وأنزل شهريار بن سروين عنها وأشخص مازيار بن قارن ورندا هرمز إلى المأمون وأسر أبا ليلى ثم مات شهريار بن سروين سنة عشر وقام مكانه ابنه سابور فحاربه مازيار بن قارن بن رندا هرمز وأسره ثم قتله ثم انتقض مازيار على المعتصم وحمل الديلم وأهل تلك الاعمال على بيعته كرها واخذ رهنهم وجبى خراجهم وخرب أسوار آمل وسارية ونقل أهلها إلى الجبال وبنى على حدود جرجان سورا من طميس إلى البحر مسافة ثلاثة أميال وحصنه بخندق وكانت الاكاسرة بنته سدا على طبرستان من الترك وقد نقل أهل جرجان إلى نيسابور وأملى له في انتقاضه الافشين مولى(4/418)
المعتصم وكثير دولته طمعه في ولاية خراسان بما كان يضطغن ابن طاهر صاحب خراسان فدس إليه بذلك كتابا ورسالة حتى امتعض وجهز عبد الله بن طاهر العساكر لحربه مع عمه الحسن ومولاه حيان بن جبلة وسرح المعتصم العساكر يردف بعضها بعضا حتى
احاطوا بجباله من كل ناحية وكان قارن بن شهريار أخو مازيار على سارية فدس إلى قواد ابن طاهر بالرجوع من كل ناحية وكان قارن قد أتى إلى الطاعة والنزول لهم عن سارية على أن يملكوه جبال آبائه وأسجل له ابن طاهر بذلك فقبض على عمه قارن في جماعة من قواد مازيار وبعث بهم فدخل قواد ابن طاهر جبال قارن وملكوا سارية ثم استأمن إليهم قوهيار أخو مازيار ووعدهم بالقبض على أخيه على أن يولوه مكانه فأسجل له ابن طاهر بذلك فقبض على أخيه مازيار وبعث به إلى المعتصم ببغداد فصلبه واطلع منه على دسيسة الافشين مولاه فنكبه وقتله ووثب مماليك مازيار بقوهيار فثاروا منه بأخيه وفروا إلى الديلم فاعترضتهم العساكر وأخذوا جميعا ويقال ان الذى كان غدر بمازيار هو ابن عمه كان يضطغن عليه عزله عن بعض جبال طبرستان وكان مولاه ورأيه عن رأيه ثم تلاشت الدعوة العباسية بعد المتوكل وتقلص ظلها واستبد أهل الاطراف بأعمالهم وظهرت دعاة العلوية في النواحى إلى أن ظهر بطبرستان أيام المستعين الحسن بن زيد الداعي العلوى من الزيدية وقد مر ذكره وكان على خراسان محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر وقد ولى على طبرستان عمه سليمان بن عبد الله بن طاهر فكان محمد بن أوس ينوب عنه مستبدا عليه فأساء السيرة وانتقض لذلك بعض عمال أهل الاعمال ودعوا جيرانهم الديلم إلى الانتقاض وكان محمد بن أوس قد دخل بلادهم أيام السلم وأثخن فيها بالقتل والسبي فلما استنجدهم أولئك الثوار لحرب سليمان ونائبه محمد بن أوس نزعوا لاجابتهم واستدعوا الحسن بن زيد من مكانه وبايعوه جميعا وزحفوا به إلى آمل فملكوها ثم ساروا إلى سارية فهزموا عليها سليمان وملكوها ثم استولى الحسن الداعي على طبرستان وكانت له ولاخيه بعده الدولة المعروفة كما هو معروف في أخبارهم أقامت قريبا من أربعين سنة ثم انقرضت بقتل محمد بن زيد ودخل الديلم الحسن الاطروس من ولد عمر بن زين العابدين وكان زيدي المذهب فنزل فيما وراء السعيد دوى إلى آمل ولبث في الديلم ثلاث عشرة سنة وملكهم يومئذ حسان بن
وهشوذان وكان يدعوهم إلى الاسلام ويأخذ منهم العشر ويدافع عنهم ملكهم ما استطاع فأسلم على يديه منهم خلق كثير وبنى لهم المساجد وزحف بهم إلى قزوين فملكها وسالوس من ثغور المسلمين فأطاعوه وملك آمل ودعاهم إلى غزو طبرستان وهى في طاعة ابن سامان فأجابوه وساروا إليها سنة احدى وثلثمائة وبرز إليها عاملها ابن(4/419)
صعلوك فهزمه الاطروش واستلحم سائر أصحابه ولحق ابن صعلوك بالرى ثم إلى بغداد واستولى الاطروش على طبرستان وأعمالها وقد ذكرنا دولته وأخبارها في دول العلوية وكان استظهاره على أمره بالديلم وقواده في حروبه وولاته على أعماله منهم ثم قتله جيوش السعيد بن سامان سنة أربع وثلثمائة ودال الامر بين عقبه قواد الديلم كما هو مذكور في أخبارهم * (الخبر عن قواد الديلم وتغلبهم على اعمال الخلفاء بفارس والعراقين) * كان للديلم جماعة من القواد بهم استظهر الاطروش وبنوه على أمرهم منهم سرخاب بن وهشوذان أخو حسان وهو معدود في ملوكهم وكان صاحب جيش أبى الحسين بن الاطروش ثم أخوه على ولاه المقتدر على أصفهان ثم ليلى بن النعمان من ملوكهم أيضا وكان قائدا للاطروش وولاه بعده صهره الحسن المعروف بالداعى الصغير على جرجان ثم ما كان بن كالى وهو ابن عم سرخاب وحسان ابني وهشوذان وولاه أبو الحسين بن الاطروش مدينة استراباذ وأعمالها ثم كان دون هؤلاء جماعة أخرى من القواد فمنهم من أصحاب ماكان بن كالى اسفارين شيرويه ومرداويچ بن زيار بن بادر وأخوه وشمكير ولشكرى ومن أصحاب مرداويچ بنو بويه الملوك الاعاظم ببغداد والعراقين وفارس ولما تلاشت دولة العلوية واستفحل هؤلاء القواد بالاستبداد على أعقابهم في طبرستان وجرجان وكانت خراسان عند تقلص الدولة العباسية على الاطراف قد غلب عليها الصفار وملكها من يد بنى طاهر ثم نازعه فيها بنو سامان والداعى العلوى فأصبحت
مشاعا بينهم ثم انفرد بها ابن سامان وكل منهم يعطى طاعة معروفة للخلفاء ومركز ابن سامان وراء النهر وخراسان في أطراف مملكتهم وزاد تقلص الخلافة عما وراءها فتطاول ملوك الديلم هؤلاء قواد الدولة العلوية بطبرستان إلى ممالك البلاد وتجافوا عن أعمال ابن سامان لقوة سورته واستفحال ملكه وساروا في الارض يرومون الملك وانتشروا في النواحى وتغلب كل منهم على ما دفع إليه من البلاد وربما تنازعوا بعضها فكانت لهم دون طبرستان وجرجان بلاد الرى وظفر بنو بويه منهم بملك فارس والعراقين وحجر الخلفاء ببغداد فذهبوا بفضل القديم والحديث وكانت لهم الدولة العظيمة التى باهى الاسلام بها سائر الامم حسبما نذكر ذلك كله في أخبار دولتهم * (أخبار ليلى بن النعمان ومقتله) * كان ليلى بن النعمان من قواد الديلم وكان أولاد الاطروش ينعتونه في كتابهم إليه المؤيد لدين الله المنتصر لاولاد رسول الله وكان كريما شجاعا قد ولاه الحسن بن القاسم الداعي(4/420)
الصغير على جرجان بعد الاطروش سنة ثمان وثلثمائة فسار من جرجان إلى الدامغان وهى في طاعة ابن سامان وعليها مولاه قراتكين فبرزوا إليه وقاتلوه فهزمهم وأثخن فيهم وعاد إلى جرجان فابتنى أهل الدامغان حصنا يمتنعون به وسار قراتكين إلى ليلى فبرز إليه من جرجان وقاتله على عشرة فراسخ فانهزم قراتكين وأثخن في عسكره وسار إليه فارس مولى قراتكين فأكرمه وزوجه أخته وكثرت أجناده وضاقت أمواله فأغراه أبو حفص القاسم بن حفص بنيسابور وأمره الحسن الداعي بالمسير إليها فسار وملكها آخر ثمان وثلثمائة وخطب بها للداعى وأنفذ السعيد نصر بن سامان عساكره من بخارا مع قواده حمويه بن على ومحمد بن عبد الله البلعمى وأبو حفص بنيسابور وأبو الحسن صعلوك وسيجور الدوانى فقاتلوا ليلى بن النعمان عن طوس وهزموه فلحق باآمل واختفى
فيها وجاءه بقرا خان وأخرجه من الاختفاء وأنفذ بالخبر إلى حمويه فأمره بقتله وتأمين أصحابه فقتل وحمل رأسه إلى بغداد وذلك في ربيع سنة تسع وثلثمائة وبقى فارس غلام قراتكين بجرجان وعاد قراتكين إلى جرجان فاستأمن إليه مولاه فارس فقتله قراتكين وانصرف عن جرجان * (أخبار سرخاب بن وهشوذان ومهلكه وقيام ماكان بن كالى بمكانه) * كان سرخاب بن وهشوذان الديلمى من قواد الاطروش وبنيه وبايع لابي الحسن بن الاطروش الناصر بعد مهلك أبيه بطبرستان واستراباذ وكان صاحب جيشه ولما انصرف قراتكين عن جرجان بعد مهلك ليلى بن النعمان سار إليها أبو الحسن بن الاطروش وسرخاب فملكوها وأنفذ السعيد نصر بن سامان سنة عشر سيجور الدوانى في أربعة آلاف فارس لقتاله ونزل على فرسخين من جرجان وحاصرها أشهرا ثم برزوا إليه وأكمن لهم سيجور كمينا فتباطأ الكمين وانهزم سيجور واتبعه سرخاب ثم خرج الكمين بعد حين وانهزم أبو الحسن إلى استراباذ وترك جرجان واتبعه سرخاب في الفل بمخلفه ومخلف أصحابه ورجع سيجور إلى جرجان فملكها ثم مات سرخاب ولحق ابن الاطروش بسارية فأقام بها واستخلف ماكان بن كالى وهو ابن عم سرخاب فسار محمد ابن عبيد الله البلعمى وسيجور لحصاره وأقاموا عليه طويلا ثم بذلوا له مالا على أن يخرج لهم عنها فتقوم لهم بذلك حجة عند ابن سامان ثم يعود ففعل ذلك وخرج إلى سارية ثم نزل إلى الشمانية عن استراباذ وولوا عليها بقرا خان فعاد إليها ماكان وملكها ولحق بقرا خان بأصحابه في نيسابور * (بداية اسفارين شيرويه وتغلبه على جرجان ثم طبرستان) * كان اسفار هذا من الديلم من أصحاب ماكان بن كالى وكان سيئ الخلق صعب العشرة(4/421)
وأخرجه ماكان من عسكره فاتصل ببكر بن محمد بن اليسع في نيسابور وهو عامل عليها
من قبل ابن سامان فأكرمه واختصه في العساكر سنة خمس عشرة لفتح جرجان وكان ماكان بن كالى يومئذ بطبرستان وولى على جرجان أبا الحسن بن كالى واستراب بأبى على بن الاطروش فحبسه بجرجان فجعله عنده في البيت وقام ليلة إليه ليقتله فأظفر الله العلوى به وقتله وتشرب من الدار وأرسل من الغد إلى جماعة من القواد فجاؤا إليه وبايعوه وألبسوه القلنسوة وولى على جيشه على بن خرشية وكاتبوا اسفار بن شيرويه بذلك وهو في طريقه إليهم واستدعوه فاستأذن بكر بن محمد وسار إليهم وسار على ابن خرشية في القيام بامر جرجان بدعوة العلوى الذى معهم وضبط ناحيتها وسار إليهم ماكان بن كالى في العساكر من طبرستان وقاتلوه فهزموه واتبعوه إلى طبرستان فملكوها من يده وقاموا بها ثم هلك أبو على الاطروش وعلى بن خرشية صاحب الجيش وانفرد اسفار بطبرستان وسار بكر بن محمد بن اليسع إلى جرجان فملكها وأقام فيها دعوة نصر بن سامان ثم رجع ماكان إلى طبرستان وبها اسفار فحاربه وغلبه وملك طبرستان من يده ولحق اسفار بجرجان فأقام بها عند بكر بن اليسع إلى أن توفى بكر فولاه السعيد على جرجان سنة خمس عشرة ثم ملك نصر بن سامان الرى بولاية المقتدر وولى عليها محمد بن على بن صعلوك فطرقه المرض في شعبان سنة ست عشرة وكاتب الحسن الداعي اسفار ملك جرجان بولاية نصر بن سامان فاستدعى مرادويچ بن زيار من ملوك الجبل وجعله أمير جيشه وسار إلى طبرستان فملكها * (استيلاء اسفار على الرى واستفحال أمره) * لما استولى اسفار على طبرستان ومرداويچ معه وكان يومئذ على الرى وملكها من يد صعلوك كما ذكرناه واستولى على قزوين وزنجان وابهر وقم والكرخ ومعه الحسن بن القاسم الداعي الصغير وهو قائم بدعوته فلما خالفه اسفار إلى طبرستان وملكها واستضافها إلى جرجان سار إليه ماكان والداعى والتقوا بسارية واقتتلوا وانهزم ماكان وقتل الداعي وكانت هزيمته بتخاذل الديلم عنه فان الحسن كان يشتد عليهم في النهى عن المنكر
فنكروه واستقدموا خال مرداويچ من الجبل واسمه هزر سندان وكان مع أحمد الطويل بالدامغان فمكروا بالداعى واستقدامه للاستظهار به وهم يضمرون تقديمه عوض ما كان ونصب أبى الحسن بن الاطروش عوض الحسن الداعي ودس إليه بذلك أحمد الطويل صاحب الدامغان بعد موت صعلوك فحذرهم حتى إذا قدم هزر سندان أدخله مع قواد الديلم إلى قصره بجرجان ثم قبض عليهم وقتلهم جميعا وأمر أصحابه بنهب أموالهم فامتعض لذلك سائر الديلم وأقاموا على مضيض حتى إذا كان(4/422)
يوم لقائه اسفار خذلوه فقتل وفر ماكان واستولى اسفار على ماكان لهم من الرى وقزوين وزنجان وابهر وقم والكرخ واستضافها إلى طبرستان وجرجان وأقام فيها دعوة السعيد بن سامان ونزل سارية واستعمل على الرى هرون بن بهرام صاحب جناح وكان يخطب فيها لابي جعفر العلوى فاستدعاه إليه وزوجه من آمل وجاء أبو جعفر لوليمته مع جماعة من العلويين فكبسهم اسفار وبعث بهم إلى بخارا فحبسهم بها إلى أن خلصوا مع يحيى أخى السعيد وكانوا في فتية حسبما ذكرناه ولما فرغ اسفار من الرى تطاول إلى قلعة الموت ليحصن بها عياله وذخيرته وكانت لسياه چشم بن مالك الديلمى ومعناه الاسود العين فاستقدمه أسفار وولاه قزوين وسأله في ذلك فأجابه فقنل عياله إليها وسرب الرجال إليهم لخدمتهم حتى كملوا مائة ثم استدعاه فقبض عليه وثار أولئك بالقلعة فملكوها وكان في طريقه إلى الرى استأمن إليه صاحب جبلى نهاوند وقم ابن أمير كان فملكها ومر بسمنان فامتنع منه صاحبها محمد بن جعفر وبعث إليه من الرى بعض أصحابه فاستأمن إليه وخدعه حتى قتله وتدلى من ظهر القلعة ثم استفحل أمر اسفار وانتقض على السعيد بن سامان وأراد أن يتتوج ويجلس على سرير الذهب واعتزم على حرب ابن سامان والخليفة فبعث المقتدر العساكر إلى قزوين مع هرون بن غريب الحال فقاتله اسفار وهزمه ثم سار ابن سامان إلى نيسابور لحربه فأشار على اسفار
وزيره مطرف بن محمد الجرجاني بمسالمته وطاعته وبذل الاموال له فقبل اشارته وبعث بذلك إلى ابن سامان وتلطف أصحابه في رجوعه إلى ذلك فرجع وشرط عليه الخطبة والطاعة فقبل وانتظم الحال بينهما ورجع إلى السطوة بأهل الرى ولما كانوا عابوا عليه عسكرا لقتال ففرض عليهم الاموال وعسف بهم وخص أهل قزوين بالنهب لما تولوا من ذلك وسلط عليهم الديلم فضاقت بهم الارض * (مقتل اسفار وملك مرداويچ) * كان مرداويچ بن زيار من قواد اسفار وكان قد سئم عسفه وطغيانه كما سئمة الناس وبعثه اسفار إلى صاحب سميران الطر الذى ملك اذربيجان بعد ذلك يدعوه إلى طاعته ففاوضه في أمر اسفار وسوء سيرته في الناس واتفقا على الوثوب عليه به فأجابوه وفيهم مطرف بن محمد وزيره فسار هو وسلار إليه وبلغه الخبر فثار به الجند فهرب إلى الرى وكتب إلى ماكان بن كالى بطبرستان يستألفه على اسفار فسار إليه ماكان فهرب اسفار من بيهق إلى بست ثم دخل مفازة الرى قاصدا قلعة الموت بها أهله وذخيرته وتخلف عنه بعض أصحابه في المفازة وجاء إلى مرداويچ يخبره فسار إليه وتقدم بين يديه بعض القواد فلقى اسفار وساء له عن قواده فأخبره أن مرداويچ قتلهم فسر بذلك ثم(4/423)
حمله القائد إلى مرداويچ فأراد أن يحبسه بالرى فحذره بعض أصحابه غائلته فأمر بقتله ورجع إلى الرى ولما قتل اسفار تنقل مرداويچ في البلاد يملكها فملك قزوين ثم الرى ثم همذان ثم كنكور ثم الدينور ثم دجرد ثم قم ثم قاشان ثم اصفهان ثم جرباد واستفحل ملكه وعتا وتكبر وجلس على سرير الذهب وأجلس أكابر قواده على سرير الفضة وتقدم لعسكره بالوقوف على البعد منه ونودى بالخطاب بينهم وبين حاجبه * (استيلاء مرداويچ على طبرستان وجرجان) * قد ذكرنا أن الالفة الواقعة بين مرداويچ وما كان وتظاهرهما على أسفار حتى قتل
وثبت مرداويچ في الملك واستفحل أمره فتطاول إلى ملك طبرستان وجرجان وسار اليهما سنة ست عشرة فانهزم ماكان أمامه واستولى مرداويچ على طبرستان وولى عليها اسفهسلان وأمر على عسكره أبا القاسم وكان حازما شجاعا ثم سار إلى جرجان فهرب عامل ماكان عنها وملكها مرداويچ وولى عليها صهره أبا القاسم المذكور خليفة عند ورجع إلى أصفهان ولحق أبو القاسم وهزمها فرجع السائر إلى الديلم ولحق ماكان بنيسابور واستمد أبا على بن المطفر صاحب جيوش ابن سامان فسار معه في عساكره إلى جرجان فهزمهما أبو القاسم ورجعا إلى نيسابور ثم سار ماكان إلى الدامغان فدفعه عنها أبو القاسم فعاد إلى خراسان * (استيلاء مرداويچ على همذان والجبل وحروبه مع عساكر المقتدر) * لما ملك مرداويچ بلاد الرى أقبلت الديلم إليه فأفاض فيهم العطاء وعظمت عساكره فلم تكفه جباية أعماله وامتدت عينه إلى الاعمال التى تجاوره فبعث إلى همذان سنة تسع عشرة جيشا كثيفا مع ابن أخته وبها محمد بن خلف وعسكر المقتدر فاقتتلوا وأعان على همذان عسكر الخليفة فظفروا بعسكر مرداويچ وقتلوا ابن أخته فسار إليهم مرداويچ من الرى وهرب عسكر الخليفة من همذان ودخلها عنوة فأثخن فيهم واستلحمهم وسباهم ثم أمنهم وزحفت إليه عساكر المقتدر مع هرون بن غريب الحال فهزمهم بنواحي همذان وملك بلاد الجبل وما وراء همذان وبعث قائدا من أصحابه إلى الدينور ففتحها عنوة وبلغت عساكره نحو حلوان وامتلات أيديهم من الذهب والسبي ورجعوا * (خبر لشكري في أصفهان) * كان لشكري من الديلم ومن أصحاب اسفار واستأمن بعد قتله إلى المقتدر وصار في جند هرون بن غريب الحال ولما انهزم هرون أمام مرداويچ سنة تسع عشرة أقام في قرقلنين(4/424)
ينتظر مدد المقتدر وبعث لشكري هذا إلى نهاوند يجيئه بمال منها فتغلب عليها وجمع بها جندا ثم مضى إلى أصفهان في منتصف السنة وبها أحمد بن كيغلغ فحاربه وهزمه وملك أصفهان ودخل إليها عسكره وأقام هو بظاهرها فرأى لشكري فقصده يظنه من بعض جنده أي أحمد فلما تراءى دافع أحمد بن كيغلغ عن نفسه فقتل وهرب أصحابه ورجع ابن كيغلغ إلى أصفهان * (استيلاء مرداويچ على أصفهان) * ثم بعث مرداويچ عسكرا آخر إلى أصفهان سنة تسع عشرة فملكوها وجددوا له مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبى دلف فنزلها وعسكره يومئذ أربعون أو خمسون ألفا ثم بعث عسكرا إلى الاهواز وخوزستان فملكوها وجبوا أعمالها وبعث إلى المقتدر وضعن هذه البلاد بمائتي ألف دينار في كل سنة ففررت عليه وأقطعه المقتدر همذان وماه الكوفة * (قدوم وشمكير على أخيه مرداويچ) * وفى سنة ست عشرة بعث مرداويچ رسوله من الجند ليأتيه بأخيه وشمكير فبعث إليه وأبلغه رسالة أخيه وأعلمه بمقامه في الملك فاستبعد ذلك ثم استغربه ونكر على اخيه مشايعته للمسودة لان الديلم والجيل كانوا شيعة للعلوية بطبرستان فلم يزل الرسول به حتى سار به إلى أخيه فخرج به إلى قزوين وألبسه السواد بعد مراوضة وقدم على أخيه بدويا حافيا مستوحشا فلم يكن الا أن رهف الملك أعطافه فأصبح أرق الناس حاشية وأكثر الناس معرفة بالسياسة * (خبر مرداويچ مع ابن سامان على جرجان) * كان أبو بكر المظفر صاحب جيوش ابن سامان بخراسان قد غلب على جرجان وانتزعها من ملكه مرداويچ فلما فرغ مرداويچ من أمر خوزستان والاهواز رجع إلى الرى وسار منها إلى جرجان فخرج ابن المظفر عن جرجان إلى نيسابور وبها يومئذ
السعيد نصر بن سامان فسار لمدافعة مرداويچ عن جرجان وكاتب محمد بن عبد الله البلعمى من قواد ابن سامان مطرف بن محمد وزير مرداويچ واستماله وشعر بذلك فقتل وزيره وبعث إليه البلعمى يعذله في قصد جرجان ويطوق ذلك بالوزير مطرف ويذكره حقوق السعيد بن سامان قبله وقصور قدرته عنه ويشير عليه بالنزول له عن جرجان وتقرير المال عليه بالرى فقبل مرداويچ اشارته وعاد عن جرجان وانتظم الحال بينهما(4/425)
* (بداية أمر بنى بويه) * وكانوا اخوة ثلاثة أكبرهم عماد الدولة أبو الحسن على وركن الدولة الحسن ومعز الدولة أبو الحسن أحمد لقبهم بهذه الالقاب الخلفاء عند ما ملكوا الاعمال وقلدوهم اياها على ما نذكر بعد وهم الذين تولوا حجر الخلفاء بعد ذلك ببغداد كما يأتي وأبوهم أبو شجاع بويه بن قناخس وللناس في نسبهم خلاف فأبو نصر بن ماكولا ينسبهم إلى كوهى ابن شيرزيك الاصغر ابن شيركوه بن شيرزيك الاكبر ابن سران شاه بن سيرقند بن سيسانشاه بن سير بن فيروز بن شروزيل بن سنساد بن هراهم جور وبقية النسب مذكور في ملوك الفرس وابن مسكوية قال يزعمون أنهم من ولد يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس والحق أن هذا النسب مصنوع تقرب إليهم به من لا يعرف طبائع الانساب في الوجود ولو كان نسبهم ذا خلل في الديلم لم تكن لهم تلك الرياسة عليهم وان كانت الانساب قد تتغير وتخفى وتنتقل من شعب إلى شعب ومن قوم إلى قوم فانما هو بطول الاعصار وتناقل الاجيال واندراس الازمان والاحقاب وأما هؤلاء فلم يكن بينهم وبين يزدجرد وانقطاع الملك من الفرس الا ثلثمائة سنة فيها سبعة أجيال أو ثمانية أجيال ميزت فيها أنسابهم وأحصيت أعقابهم فكيف يدرك مثل هذه الانساب الخفاء في مثل هذه الاعصار وان قلنا كان نسبهم إلى الفرس ظاهرا منع ذلك من رياستهم على
الديلم فلا شك في هذه التقادير في ضعة هذا النسب والله أعلم وأما بدايتهم فانهم كانوا من أوسط الديلم نسبا وحالا وفى أخبارهم أن أباهم أبا شجاع كان فقيرا وأنه رأى في منامه أنه يبول فخرج من ذكره نار عظيمة فاستضاءت الدنيا بها فاستطالت وارتفعت إلى السماء ثم افترقت ثلاث شعب ومن كل شعب عدة شعب فاستضاءت الدنيا بها والناس خاضعون لتلك النيران وأن عابرا عبر له الرؤيا بانه يكون له ثلاثة أولاد يملكون الارض ويعلو ذكرهم في الافاق كما علت النار ويولد لهم ملوك بقدر الشعب وأن أبا شجاع استبعد ذلك واستنكره لما كانوا عليه من توسط الحال في المعيشة فرجع المعبر إلى السؤال عن وقت مواليدهم فأخبروه بها وكان منجما فعدل طوالعهم وقضى لهم جميعا بالملك فوعدوه وانصرف ولما خرج قواد الديلم الملك البلاد وانتشروا في الاعمال مثل ليلى وما كان واسفار ومرداويچ خرج مع كل واحد منهم جموع من الديلم رؤس وأتباع وخرج بنو أبى شجاع هؤلاء في جملة قواد ماكان فلما اضطرب أمره وغلبه مرداويچ عن طبرستان وجرجان مرة بعد مرة لحق آخرا بنيسابور مهزوما فاعتزم بنو بويه على فراقه واستأذنوه في ذلك وقالوا انما نفارقك تخفيفا عليك فإذا صلح أمرك عدنا اليك وساروا إلى مرداويچ وتبعتهم جماعة من قواد ماكان فقبلهم(4/426)
مرداويچ وقلد كل واحد منهم ناحية من نواحى الجيل وقلد على بن بويه كرمس وكتب لهم العهود بذلك وساروا إلى الرى وبها يومئذ أخوه وشمكير ومعه وزيره الحسين بن محمد العميد والد أبى الفضل ثم بد المرداويچ في ولاية هؤلاء القواد المستأمنة فكتب إلى أخيه وشمكير ووزيره العميد بردهم عن تلك الاعمال وكان على بن بويه قد أسلف عند العميد يدا في بغلة فارهة عرضها للبيع واستامها العميد فوهبها له فرعى له العميد هذه الوسيلة فلما قرأ كتاب مرداويچ دس إلى ابن بويه يأن يغذ السير إلى عمله فسار من حينه وغدا وشمكير على بقية القواد فاستعاد العهود من أيديهم
وأمر ابن بويه فاشار عليه أصحابه بترك ذلك لما فيه من الفتنة فتركه * (ولاية عماد الدولة بن بويه على كرج وأصفهان) * ولما وصل عماد الدولة إلى كرج ضبط أمورها وأحسن السياسة في أهلها وأعمالها وقتل جماعة من الحرمية كانوا فيها وفتح قلاعهم وأصاب فيها ذخائر كثيرة فانفقها في جنده فشاع ذكره وحمدت سيرته وكتب أهل الناحية إلى مرداويچ بالنبا فغص وجاء من طبرستان إلى الرى وأطلق مالا لجماعة من قواده على كرج فاستمالهم عماد الدولة وأحسن إليهم فأقاموا عنده واستراب مرداويچ فكتب إلى عماد الدولة في استدعائهم فدافعه وحذرهم منه فحذروا ثم استأمن إليه سيراذ من أعيان قواد مرادويچ فكثف به جمعه وسار إلى أصفان وبها المظفر بن ياقوت من قبل القاهر في عشرة آلاف مقاتل وعلى خراجها أبو على بن رستم فاستاذنهما في الانحياز اليهما والدخول في طاعة الخليفة فاعرضا عنه ومات خلال ذلك ابن رستم وبرز ابن ياقوت من أصفهان لمدافعته واستأمن إليه من كان مع ابن ياقوت من الجيل والديلم ثم لقيه عماد الدولة في تسعمائة فهزمه وملك أصفهان * (استيلاء ابن بويه على أرجان واخواتها ثم على شيراز وبلاد فارس) * ولما بلغ خبر أصفهان إلى مرداويچ اضطرب وكتب إلى عماد الدولة بن بويه يعاتبه ويستميله ويطلب منه اظهار طاعته ويمده بالعساكر في البلاد والاعمال ويخطب له فيها وجهز له أخاه وشمكير في جيش كثيف ليكبسه وهو مطمئن إلى تلك الرسالة وشعر ابن بويه بالمكيدة فرحل عن أصفهان بعد أن جباها شهرين وسار إلى أرجان وبها أبو بكر ابن ياقوت من أصفهان واليا عليها ففصل عنها ولما ملك ابن بويه ارجان كاتبه أهل شيراز يستدعونه إليهم وعليهم يومئذ ياقوت عامل الخليفة وثقلت وطأته عليهم وكثر ظلمه فاستدعوا ابن بويه وخام عن المسير إليهم فأعادوا إليه الكتاب بالحث على ذلك وأن(4/427)
مرداويچ طلب الصلح من ياقوت فعاجل الامر قبل أن يجتمعا فسار إلى النوبندجان في ربيع سنة احدى وعشرين وسبقته إليها مقدمة ياقوت في ألفين من شجعان قومه فلما وأقاهم ابن بويه انهزموا إلى كرمان وجاءهم ياقوت هنالك في جميع أصحابه وأقام عماد الدولة بالنوبندجان وبعث أخاه ركن الدولة الحسن إلى كازرون وغيرها من أعمال فارس فلقى هنالك عسكر الياقوت فهزمهم وجبى تلك الاعمال ورجع إلى أخيه بالاموال ثم وقعت المراسلة بين مرداويچ وياقوت في الصلح وسار وشمكير إليه عن أخيه فخشيهما عماد الدولة وسار من نوبندجان إلى اصطخر ثم إلى البيضاء وياقوت في اتباعه وسبقه ياقوت إلى قنطرة على طريق كرمان فصده عن عبوره واضطره للحرب فتحاربوا واستأمن جماعة من أصحاب ابن بويه إلى ياقوت فقتلهم فخشيه الباقون واستماتوا وقدم ياقوت أمام عسكره رجالة بقوار النفط فلما أشعلوها وقذفت اعادتها الريح عليهم فعلقت بهم فاضطربوا وخالطهم أصحاب ابن بويه في موقفهم وكانت الدبرة على ياقوت ثم صعد إلى ربوة ونادى في أصحابه بالرجوع فاجتمع إليه نحو اربعة آلاف فارس وأراد الحملة عليهم لاشتغالهم بالنهب ففطنوا له وتركوا النهب وقصدوه فانهزم واتبعوهم فأثخنوا فيهم وكان معز الدولة أحمد بن بويه من أشد الناس بلاء في هذه الحرب ابن تسع عشرة سنة لم يطر شاربه ثم رجعوا إلى السواد فنهبوه وأسروا جماعة منهم فأطلقهم ابن بويه وخيرهم فاختاروا المقام عنده فأحسن إليهم ثم سار إلى شيراز فأمنها ونادى بالمنع من الظلم واستولى على سائر البلاد وعرفوه بذخائر في دار الاماره وغيرها من ودائع ياقوت وذخائر بنى الصفار فنادى في الجند بالعطاء وأزاح عللهم وامتلات خزائنه وكتب إلى الراضي وقد أفضت إليه الخلافة والى وزيره أبى على بن مقلة تقرير البلاد عليه بألف ألف درهم فأجيب إلى ذلك وبعثوا إليه بالخلع واللواء وكان محمد بن ياقوت قد فارق أصفهان عند خلع القاهر وولاية الراضي وبقيت عشرين يوما دون أمير فجاء إليها وشمكير وملكها فلما وصل الخبر إلى مرداويچ باستيلاء ابن بويه على فارس سار إلى
أصفهان للتدبير عليه وبعث أخاه وشمكير إلى الرى * (استيلاء ماكان بن كالى على الرى) * قد ذكرنا في دولة بنى سامان أن أبا على محمد بن الياس كان سنة ثنتين وعشرين بكرمان منتقضا على السعيد فبعث إليه في هذه السنة جيشا كثيفا فاستولى على كرمان وأقام فيها الدعوة لابن سامان وكان أصل محمد بن الياس من أصحاب السعيد فسخطه وحبسه ثم أطلقه بشفاعة البلعمى وبعث مع صاحب خراسان محمد بن المظفر إلى جرجان حتى إذا خرج أخوه السعيد من محبسهم وبايعوا ليحيى منهم كان محمد بن الياس معهم حتى(4/428)
تلاشى أمرهم ففارقه ابن الياس من نيسابور إلى كرمان فاستولى عليها إلى هذه الغاية فأزاله عنها ماكان ولحق بالدينور وأقام ماكان واليا بكرمان بدعوة بنى سامان * (مقتل مرداويچ وملك أخيه وشمكير من بعده) * لما استفحل أمر مرداويچ كما قلنا عتا وتجبر وتتوج بتاج مرصع على هيئة تاج كسرى وجلس على كرسى الذهب وأجلس أكابر قواده على كراسي الفضة واعتزم على قصد العراق وبنى المدائن وقصور كسرى وأن يدعى بشاه وكان له جند من الاتراك كان كثير الاساءة إليهم ويسميهم الشياطين والمرادة فثقلت وطأته على الناس وخرج ليلة الميلاد من سنة ثلاث وعشرين إلى جبال أصفهان وكانوا يسمونها ليلة الوقود لما يضرم فيها من النيران فأمر بجمع الحطب على الجبل من أوله إلى آخره أمثال الجبال والتلال وجمع ألفى طائر من الغربان والحدآت وجعل النفط في أرجلها ليضرم الجبل نارا حتى يضئ الليل واستكثر من أمثال هذا اللعب ثم عمل سماطا للاكل بين يديه فيه مائة فرس ومائتا بقرة وثلاثة آلاف كبش وعشرة آلاف من الدجاج وأنواع الطير وما لا يحصى من أنواع الحلوى وهيأ ذلك كله ليأكل الناس ثم يقوموا إلى مجلس الشرب والندمان فتشعل النيران ثم ركب آخر النهار ليطوف على ذلك كله بنفسه فاحتقره
وسخط من تولى ترتيبه ودخل خيمته مغضبا ونام فأرجف القواد بموته فدخل إليه وزيره العميد وأيقظه وعرفه بما الناس فيه فخرج وجلس على السماط وتناول القمتين ثم ذهب وعاد إلى مكانه فقام في معسكره بظاهر اصفهان ثلاثا لا يظهر للناس ثم قام في اليوم الرابع ليعود إلى قصره باصفهان فاجتمعت العساكر ببابه وكثر صهيل الخيل ومراحها فاستيقظ لكثرة الضجيج فازداد غضبه وسأل عن أصحاب الدواب فقيل انها للاتراك نزلوا للخدمة وتركوها بين يدى الغلمان فأمر أن تحل عنها السروج وتجعل على ظهور الاتراك ويقودونهم إلى اصطبلات الخيل ومن امتنع من ذلك ضرب فأمسكوا ذلك على أقبح الهيئات واصطنعوا ذلك عليه واتفقوا على الفتك به في الحمام وكان كورتكين يحرسه في خلوته وحمامه فسخطه ذلك اليوم وطرده فلم يتقدم إلى الحرس لمراعاته وداخلوا الخادم الذى يتولى خدمته في الحمام في أن يفقده سلاحه وكان يحمل خنجرا فكسر حديد الخنجر وترك النصاب لمرداويچ فلم يجد له حدا فأغلق باب الحمام ودعمه من ورائه بسرير الخشب الذى كان صاعدا عليه فصعدوا إلى السطح وكسروا الجامات ورموه بالسهام فانحجر في زوايا الحمام وكسروا الباب عليه وقتلوه وكان الذى تولى كبر ذلك جماعة من الاتراك وهم تورون الذى صار بعد ذلك أمير الامراء ببغداد ويارق بن بقرا خان ومحمود بن نيال الترجمان ويحكم الذى ولى امارة(4/429)
الامراء قبل تورون ولما قتلوه خرجوا إلى أصحابهم فركبوا ونهبوا قصر مرداويچ وهربوا وكان الديلم والجيل بالمدينة فركبوا في اثرهم فلم يدركوا منهم الا من وقفت دابته فقتلوهم وعادوا النهب الخزائن فوجدوا العميد قد أضرمها نارا ثم اجتمع الديلم والجيل وبايعوا أخاه وشمكير بن زيار وهم بالرى وحملوا معهم جنازة مرداويچ فخرج وشمكير وأصحابه لتلقيهما على أربع فراسخ حفاة ورجع العسكر الذى كان بالاهواز إلى وشمكير واجتمعوا عليه وتركوا الاهواز لياقوت فملكها وقام وشمكير بملك أخيه مرداويچ
في الديلم والجيل وأقام بالرى وجرجان في مكله وكتب السعيد بن سامان إلى محمد ابن المظفر صاحب خراسان والى ماكان بن كالى صاحب كرمان بالمسير إلى جرجان والرى فسار ابن المظفر إلى قومس ثم إلى بسطام وسار ماكان على المفازة إلى الدامغان واعترضه الديلم من أصحاب وشمكير في جيش كثيف فهزموهم ولحق بنيسابور آخر ثلاث وعشرين وجعلت ولايتها لما كان بن كالى فأقام بها وسار أبو على بن الياس إلى كرمان بعد انصراف ماكان عنها فملكها وصفت له بعد حروب شديدة طويلة مع جيوش السعيد بن سامان وكان له الظفر آخرا وأما الاتراك الذين قتلوا مرداويچ فافترقوا في هزيمتهم فرقتين فسارت فرقة إلى عماد الدولة بن بويه وهم الاقل وفرقة إلى الجيل مع يحكم وهم الاكثر فجبوا خرج الدينور وغيره ثم ساروا إلى النهروان وكاتبوا الراضي في المسير إلى بغداد فأذن لهم واستراب الحجرية بهم فردهم الوزير ابن مقلة إلى بلد الجيل وأطلق لهم مالا فلم يرضوا به فكاتبهم ابن رائق وهو يومئذ صاحب واسط والبصرة فلحقوا به وقدم عليهم يحكم فكاتب الاتراك من أصحاب مرداويچ فقدم عليه منهم عدة وافرة واختص يحكم وتولاه ونعته بالرانقى نسبة إليه وأمره أن يرسمها في كتابه * (مسير معز الدولة بن بويه إلى كرمان وهزيمته) * لما ملك عماد الدولة بن بويه وأخوه ركن الدولة بلاد فارس والجيل بعثا أخاهما الاصغر معز الدولة إلى كرمان خالصة له فسار في العسكر إليها سنة أربع وعشرين واستولى على السيرجان وكان ابراهيم بن سيجور الدوانى قائد ابن سامان يحاصر محمد بن الياس ابن اليسع في قلعته هنالك فلما بلغه خبر معز الدولة سار من كرمان إلى خراسان وخرج محمد بن الياس من القلعة التى كان محاصرا بها إلى مدينة قم على طرف المفازة بين كرمان وسجستان فسار إلى جيرفت وهى قصبة كرمان وجاء رسول على بن ابى الزنجي المعروف بعلى بن كلونة أمير القفص والبلوص كان هو وسلفه متغلبين على تلك الناحية ويعطون طاعتهم للامراء والخلفاء على البعد ويحملون إليهم المال فلما جاء رسوله بالمال(4/430)
امتنع معز الدولة من قبوله الا بعد دخول جيرفت فلما دخل جيرفت صالحه وأخذ رهنه على الخطبة له وكان على بن كلونة قد نزل بمكان صعب المسلك على عشرة فراسخ من جيرفت فأشار على معز الدولة بعض أصحابه أن يغدر به ويكبسه ففعل ذلك وأتى لعلى بن كلونة عيونه بالخبر فأرصد جماعة لمعز الدولة بمضيق في طريقه فلما مر بهم ساريا ثاروا به من جوانبه وقتلوا من أصحابه وأسروا وأصابته جراح كثيرة وقطعت يده اليسرى من نصف الذراع وأصابع يده اليمنى وسقط بين القتلى وبلغ الخبر إلى جيرفت فهرب أصحابه منها وجاء على بن كلونة فحمله من بين القتلى إلى جيرفت وأحضر الاطباء لعلاجه وكتب إلى أخيه عماد الدولة يعتذر ويبذل الطاعة فأجابه وأصلحه وسار محمد ابن الياس من سجستان إلى بلد خبابة فتوجه إليه معز الدولة وهزمه وعاد ظافرا ومر بابن كلونة فقاتله وهزمه وأثخن في أصحابه وكتب إلى أخيه عماد الدولة بخبره مع ابن الياس وابن كلونة فبعث إليه قائدا من قواده واستقدمه إليه بفارس فأقام عنده باصطخر إلى أن قدم عليهم أبو عبد الله البريدى منهزما من ابن رائق ويحكم المتغلبين على الخلافة ببغداد فبعث عماد الدولة أخاه معز الدولة وجعل له ملك العراق عوضا عن ملك كرمان كما يذكر بعد * (استيلاء ماكان على جرجان وانتقاضه على ابن سامان) * قد ذكرنا انهزام ماكان على جرجان أيام بانجين الديلمى ورجوعه إلى نيسابور فاقام بها ثم بلغ الخبر بمهلك بانجين بجرجان فاستأذن ماكان محمد بن المظفر في الخروج لاتباع بعض أصحابه هرب عنه وطالبه به عارض الجيش فأذن له وسار إلى اسفراين وبعث معه جماعة من عسكره إلى جرجان فاستولى عليها ثم أظهر لوقته الانتقاض على ابن المظفر وسار إليه بنيسابور فتخاذل أصحابه وهرب عنها إلى سرخس وعاد منها ما كان خوفا من اجتماع العساكر عليه وذلك في رمضان سنة أربع وعشرين
[ الخبر عن دولة بنى بويه من الديلم المتغلبين على العراقين وفارس والمستبدين على الخلفاء ببغداد من خلافة المستكفى إلى أن صاروا في كفالتهم وتحت حجرهم إلى انقراض دولتهم وأولية ذلك ومصايره ] قد تقدم لنا التعريف ببنى بويه وذكر نسبهم وهم من قواد الديلم الذين تطاولوا للاستيلاء على أعمال الخلفاء العباسيين لما لم يروا عنها مدافعا ولا لها حامية فتنقلوا في نواحيها وملك كل واحد منهم أعمالا منها واستولى بنو بويه على أصفهان والرى ثم انعطفوا على بلاد فارس فملكوا أرجان وما إليها ثم استولوا على شيراز وأعمالها وأحاطوا بأعمال(4/431)
الخلافة بنواحي بغداد من شرقها وشمالها وكانت الخلافة قد طرقها الاعلال وغلب عليها الموالى والصنائع وقد كان أبو بكر محمد بن رائق عاملا بواسط واضطرب حال الراضي ببغداد فاستقدمه وقلده امارة الجيوش ونعته أمير الامراء وكان بنو البريدى في خورستان والاهواز فغصوا به ووقعت الوحشة بينه وبينهم فبعث ابن رائق بدرا الخرشنى ويحكم الذى نزع إليه أتراك مرداويچ فساروا في العسكر لقتال ابن البريدى واستولوا على الاهواز سنة خمس وعشرين ولحق ابن البريدى بعماد الدولة بن بويه لما ملك العراق وسهل عليه أمره وذلك عند رجوع أخيه معز الدولة من كرمان وامتناعها عليه كما ذكرناه فبعث معه العساكر * (استيلاء معز الدولة بن بويه على الاهواز) * لما لحق أبو عبد الله البريدى بعماد الدولة ناجيا من الاهواز مستنجدا له بعث أخاه معز الدولة في العساكر بعد أن أخذ منه ابنيه أبا الحسن محمدا وأبا جعفر الفياض رهنا وسار معز الدولة سنة ست وعشرين فانتهى إلى أرجان ويحكم جاء للقائهم وانهزم أمامهم إلى الاهواز فأقام بها وأنزل بها بعض عسكره في عسكر مكرم فقاتلوا معز الدولة ثلاثة عشر يوما ثم انهزموا إلى تستر فرحل معز الدولة إلى عسكر مكرم وأنفذ
ابن البريدى خليفته إلى الاهواز ثم بعث إلى معز الدولة بأن ينتقل إلى السوس ويبعد عنه فيؤمن له الاهواز فعذله وزيره أبو جعفر الصيمري وغيره من أصحابه وأروه أن البريدى يخادعه فامتنع معز الدولة من ذلك وبلغ اختلافهم إلى يحكم فبعث عسكرا من قبله فاستولى على الناس وجند نيسابور وبقية الاهواز بيد ابن البريدى وعسكر مكرم بيد معز الدولة وضاق حال جنده وتحدثوا في الرجوع إلى فارس فواعدهم لشهر وكتب إلى أخيه عماد الدولة بالخبر فبعث إليه مددا من العسكر فعادوا واستولوا على الاهواز وسار يحكم من واسط فاستولى على بغداد وقلده الراضي امارة الامراء وهرب ابن رائق فاختفى ببغداد [ انتزاع وشمكير أصفهان من يد ركن الدولة ومسيره إلى واسط ثم استرجاعه أصفهان ] قد ذكرنا أن وشمكير المستولي بعد أخيه مرداويچ على الرى كان عماد الدولة استولى على أصفهان ودفعها إلى أخيه ركن الدولة فبعث إليها وشمكير سنة سبع وعشرين جيشا كثيفا من الرى فملكوها من يده وخطبوا فيها لو شمكير ثم سار وشمكير إلى قلعة الموت فملكها ورجع فلحق ركن الدولة باصطخر وجاءه هنالك رسول أخيه معز الدولة(4/432)
من الاهواز بأن ابن البريدى أنفذ جيشا إلى السوس وقتل قائدها من الديلم وأن الوزير أبا جعفر الصيمري كان على خراجها محتصرا بقلعة السوس فسار ركن الدولة إلى السوس وهرب عساكر ابن البريدى بين يديه ثم سار إلى واسط ليستولي عليها لانه قد خرج عن أصفهان وليس له ملك يستقل به فنزل بالجانب الشرقي وسار الراضي ويحكم من بغداد لحربه فاضطرب أصحابه واستأمن جماعة منهم لابن البريدى فخام ركن الدولة عن اللقاء ورجع إلى الاهواز فسار إلى أصفهان وهزم عسكر وشمكير بها وملكها وكان هو وأخوه عماد الدولة بعثا لابن محتاج صاحب خراسان يحرضانه على ماكان ووشمكير
واتصلت بينهم مودة * (مسير معز الدولة إلى واسط والبصرة) * كان ابن البريدى بالبصرة وواسط قد صالح يحكم أمير الامراء ببغداد وحرضه على المسير إلى الجيل ليرجعها من يد ركن الدولة بن بويه ويسير هو إلى الاهواز فيرتجعها من يد معز الدولة واستمد يحكم فأمده بخمسائة رجل وسار إلى حلوان في انتظاره وأقام ابن البريدى يتربص به وينتظر أن يبعد عن بغداد فيهجم هو عليها وعلم يحكم بذلك فرجع إلى بغداد ثم سار إلى واسط فانتزعها من يد ابن البريدى وذلك لسنة ثمان وعشرين وولى الخلافة المتقى وكان ظل الدولة العباسية قد تقلص حتى قارب التلاشى والاضمحلال وتحكم على الدولة بعد مولاه ابن رائق وابن البريدى الذى كان يزاحمه في التغلب على الدولة فبعث عساكره من البصرة إلى واسط فسرح إليه يحكم العساكر مع مولاه تورون فهزمهم وجاء ويحكم على أثره ولقيه خبر هزيمتهم فاستقام أمره وطفق يتصدق في تلك النواحى إلى أن عرض له بعض الاكراد ممن له عنده ثأر وهو منفرد عن عسكره فقتله وافترق أصحابه فلحق جماعة من الاتراك بالشام ومقدمهم تورون وولى الباقون عليهم يكسك مولى يحكم وكان الديلم عند مقتله قد ولوا عليهم باسوار بن ملك ابن مسافر بن سلار وسلار جده صاحب شميران الطرم الذى داخل مرداويچ في قتل اسفار وملك ابنه محمد بن مسافر بن سلار اذربيجان فكانت له ولولده بها دولة ووقعت الفتنة بين الديلم والاتراك فقتله الاتراك وولى الديلم مكانه كورتكين ولحقوا بابن البريدى فزحف بهم إلى بغداد ثم تنكروا واتفقوا مع الاتراك على طرده فلحقوا بواسط واستفحل الديلم وغلبوا الاتراك وقتل كورتكين واستبد بامرة الامراء ببغداد ثم جاء تورون من الشام بابن رائق وهزم كورتكين الديلم وقتل أكثرهم وانفرد ابن رائق بامرة الامراء ببغداد سنة ثنتين وثلثمائة وكان ابن البريدى في هذه الفترة بعد يحكم قد استولى على واسط فبعث إليه ابن رائق واستوزره ففعل(4/433)
على أن يقيم بمكانه ويستخلف ابن شير زاد ببغداد ثم سار إليهم إلى واسط فهرب ابن رائق والمقتفى إلى الموصل وتخلف عنهم تورون وعاث أصحاب ابن البريدى في بغداد فشكا له الناس ولما وصل المقتفى ولى ابن حمدان امرة الامراء بمكانه وقصدوا بغداد فهرب وخالفه تورون إلى المقتفى وابن حمدان وملكوا بغداد وسار سيف الدولة أمام ابن البريدى وخرج ناصر الدولة في اتباعه فنزل المدائن وانكشف سيف الدولة أمام ابن البريدى حتى انتهوا إلى أخيه ناصر الدولة بالمدائن فأمده ورجع فهزم ابن البريدى وغلبه على واسط فملكها ولحق ابن البريدى بالبصرة وأقام سيف الدولة بواسط ينتظر المدد ليسير إلى البصرة وجاءه أبو عبد الله الكوفى بالاموال فشغب عليه الاتراك في طلب المال وثاروا به ومقدمهم تورون فهرب إلى بغداد وهم في اتباعه وكان أخوه قد انصرف إلى بغداد ثم إلى الموصل فلحق به ودخل تورون بغداد وولى الامر بها ثم استوحش من المقتفى وتربص مسيره إلى واسط لقتال ابن البريدى وسار إلى الموصل سنة احدى وثلاثين ومعز الدولة بن بويه في أثناء هذا كله مقيم بالاهواز مطل على بغداد وأعمال الخليفة يروم التغلب عليها وأخوه عماد الدولة بفارس وركن الدولة باصفهان والرى فلما سار المقتفى من الرقة إلى تورون خلعه وسمله ونصب المكتفى وقد قدمنا هذه الاخبار كلها مستوعبة في أخبار الدولة العباسية وانما أعدناها توطئة لاستيلاء بنى بويه على بغداد واستبدادهم على الجلالقة ثم عاد معز الدولة إلى واسط سنة ثلاث وثلاثين فسار تورون والمستكفى لدفاعه ففارقها وعاد إلى الاهواز * (استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد واندراج أحكام الخلافة في سلطانه) * ثم ان تورون في فاتح سنة أربع وثلاثين عقد الاتراك الرياسة عليهم لابن شير زاد وولاه المستكفى امرة الامراء في الارزاق فضاقت الجبايات على العمال والكتاب والتجار وامتدت الايدى إلى أموال الرعايا وفشا الظلم وظهرت اللصوص وكبسوا المنازل
وأخذ الناس في الجلاء عن بغداد ثم استعمل ابن شير زاد على واصل نيال كوشه وعلى تكريت الفتح اليشكرى فانتقضا وسار الفتح لابن حمدان فولاه على تكريت من قبله وبدعوته وبعث نيال كوشه إلى معز الدولة وقام بدعوته واستدعاه لملك بغداد فزحف إليها في عساكر الديلم ولقيه ابن شير زاد والاكراد فهزمهم ولحقوا بالموصل وأخفى المستكفى وقدم معز الدولة كاتبه الحسن بن محمد المهلبى إلى بغداد فدخلها وظهر الخليفة من الاختفاء وحضر عند المهلبى فبايع له عن معز الدولة أحمد بن بويه وعن أخويه عماد الدولة وركن الدولة الحسن وولاهم المستكفى على أعمالهم ولقبهم بهذه الالقاب ورسمها على سكته ثم جاء معز الدولة إلى بغداد فملكها وصرف الخليفة(4/434)
في حكمه واختص باسم السلطان وبعث إليه أبو القاسم البريدى صاحب البصرة فضمن واسط وأعمالها وعقد له عليها * (خلع المستكفى وبيعة المطيع وما حدث في الجباية والاقطاع) * وبعد أشهر قلائل من استيلاء معز الدولة على بغداد نمى إليه أن المستكفى يريد الادالة منه فتنكر له وأجلسه في يوم مشهود للقاء وافد من أصحاب خراسان وحضر معز الدولة في قومه وعشيرته وأمر رجلين من نقباء الديلم بالفتك بالخليفة فتقدما ووصلاه ليقبلا يد المستكفى ثم جذباه عن سريره وقاداه ماشيا واعتقلاه بداره وذلك في منتصف أربع وثلاثين فاضطرب الناس وعظم النهب ونهبت دار الخلافة وبايع معز الدولة للفضل بن المقتدر ولقبه المطيع لله وأحضر المستكفى فأشهد على نفسه بالخلع وسلم على المطيع بالخلافة وسلب الخليفة من معاني الامر والنهى وصيرت الوزارة إلى معز الدولة يولى فيها من يرى وصار وزير الخليفة مقصور النظر على اقطاعه ومقتات داره وتسلم عمال معز الدولة وجنده من الديلم وغيرهم أعمال العراق وأراضيه ولاية واقطاعا حتى كان الخليفة يتناول الاقطاع بمراسم معز الدولة وانما ينفرد بالسرير والمنبر والسكة والختم
على الرسائل والصكوك والجلوس للوفد واجلال النحية والخطاب ومع ذلك بأوضاع القائم على الدولة وترتيبه وكان القائم منهم على الدولة تفرد في دولة بنى بويه والسلجوقية بلقب السلطان ولا يشاركه فيه غيره ومعانى الملك من القدرة والابهة والعز وتصريف الامر والنهى حاصل للسلطان دون الخليفة وكانت الخلافة حاصلة للعباسي المنصوب لفظا مسلوبة عنه معنى ثم طلب الجند أرزاقهم بأكثر من العادة لتجدد الدولة فاضطر إلى ضرب المكوس ومد الايدى إلى أموال الناس وأقطعت جميع القرى والضياع للجند فارتفعت أيدى العمال وبطلت الدواوين لان ما كان منها بأيدى الرؤساء لا يقدرون على النظر فيها وما كان بأيدى الاتباع خرب بالظلم والمصادرات والحيف في الجباية واهمال النظر في اصلاح القناطر وتعديل المشارب وما خرب منها عوض صاحبه عنه بآخر فيخربه كما يخرب الاخر ثم ان معز الدولة أفرد جمعها من المكوس والظلامات وعجز السلطان عن ذخيرة يعدها لنوائبه ثم استكثر من الموالى ليعتز بهم على قومه وفرض لهم الارزاق والاقطاع فحدثت غيرة قومه من ذلك وآل الامر إلى المنافرة كما هو الشأن في الدول * (مسير ابن حمدان إلى بغداد وانهزامه أمام معز الدولة) * ولما بلغ استيلاء معز الدولة على بغداد وخلعه المستكفى إلى ناصر الدولة بن حمدان(4/435)
امتعض لذلك وسار من الموصل إلى بغداد في شعبان سنة أربع وثلاثين فقدم معز الدولة عساكره فأوقع بها ابن حمدان بعكبرا ثم سار معز الدولة ومعه المطيع إلى مدافعته ولحق به ابن شير زاد فاستحثه إلى بغداد سنة أربع وثلاثين وخالفه معز الدولة إلى تكريت ونهبها وتسابقوا جميعا إلى بغداد فنزل معز الدولة والمطيع بالجانب الشرقي وابن حمدان بالجانب الغربي فقطع الميرة عن معسكر معز الدولة فغلت الاسعار وعزت الاقوات ونهب عسكره مرار افضاق به الامر واعتزم على العود إلى الاهواز فأمر
وزيره أبا جعفر الصيمري بالعبور في العساكر لقتال ابن حمدان فظفر بن الصيمري وغنم الديلم أموالهم وظهرهم ثم أمن معز الدولة الناس وأعاد المطيع إلى داره في محرم سنة خمس وثلاثين ورجع ابن حمدان إلى عكبرا وأرسل في الصلح سرا فنكر عليه الاتراك التورونية وهموا بقتله وفر إلى الموصل ومعه ابن شير زاد ثم صالحه معز الدولة كما طلب ولما فر عن الاتراك التورونية أعلمهم تكين الشيرازي فقبضوا على من تخلف من أصحابه وساروا في اتباعه وقبض هو في طريقه على ابن شير زاد وتجاوز الموصل إلى نصيبين فملكها تكين وسار في اتباعه إلى السند فلحقه هنالك عسكر من معز الدولة كما طلب وأمده به مع وزيره أبى جعفر الصيمري وقاتل الاتراك فهزمهم وسار إلى الموصل هو والصيمري فدفع ابن شير زاد إلى الصيمري وحمله إلى معز الدولة وذلك سنة خمس وثلاثين * (استيلاء معز الدولة على البصرة والموصل وصلحه مع ابن حمدان) * وفى سنة خمس وثلاثين انتقض أبو القاسم بن البريدى بالبصرة فجهز معز الدولة الجيش إلى واسط ولقيهم جيش ابن البريدى في الماء وعلى الظهر فانهزموا إلى البصرة وأسروا من أعيانهم جماعة ثم سار معز الدولة سنة ست وثلاثين إلى البصرة ومعه المطيع كارها من قتال أبى القاسم البريدى وسلكوا إليها البرية وبعث القرامطة يعذلون في ذلك معز الدولة فكتب يتهددهم ولما قارب البصرة استأمنت إليه عساكر أبى القاسم وهرب هو إلى القرامطة فأجاروه وملك معز الدولة البصرة ثم سار هو منها إلى الاهواز ليلقى اخاه عماد الدولة وترك المطيع وأبا جعفر الصيمري بالبصرة وانتقض على معز الدولة كوكير من أكابر الديلم فقاتله الصيمري وهزمه وأسره وحبسه معز الدولة بقلعة رامهرمز ثم لقى أخاه معز الدولة بارجان في شعبان من السنة وسلك في تعظيمه واجلاله من وراء الغاية وكان عماد الدولة يأمره بالجلوس في مجلسه فلا يفعل ثم عاد معز الدولة والمطيع إلى بغداد ونودى بالمسير إلى الموصل فترددت الرسل من ابن حمدان في الصلح وحمل المال ثم سار إليه سنة سبع وثلاثين في شهر رمضان واستولى على الموصل وأراد
الاثخان في بلاد ابن حمدان فجاءه الخبر عن أخيه ركن الدولة بان عساكر خراسان(4/436)
قصدت جرجان واضطر إلى الصلح واستقر الصلح بينهما على ان يعطى ابن حمدان عن الموصل والجزيرة والشأم ثمانية آلاف ألف درهم كل سنة ويخطب لعماد الدولة ومعز الدولة في بلاده وعاد إلى بغداد * (استيلاء ركن الدولة على الرى ثم طبرستان وجرجان ومسير عساكر ابن سامان إليها) * قد تقدم لنا استيلاء ركن الدولة على اصفهان من يد وشمكير حين بعث عساكره مددا لما كان بن كالى وكان ركن الدولة وأخوه عماد الدولة بعثا إلى أبى على بن محتاج قائد بنى سامان يحرضانه على ماكان ووشمكير ويعدانه المظاهرة عليهما فسار أبو على إلى وشمكير بالرى ولقيه ركن الدولة بنفسه واستمد وشمكير ما كان فجاءه في عساكره والتقوا فانهزم وشمكير ولحق بطبرستان ثم سار بعساكره إلى بلد الجيل فاقتحمها واستولى على زنجان وأبهر وقزوين وقم وكرج وهمذان ونهاوند والدينور إلى حدود حلوان ورتب فيها العمال وجبى أموالها ثم وقع خلاف بين وشمكير والحسن بن القيرزان ابن عم ماكان واستنجد الحسن بأبى على بن محتاج فأنجده حتى وقع بينهما صلح وعاد أبو على إلى خراسان وصحبه الحسن بن القيرزان ولقيه في طريقه رسل السعيد بن سامان وأمر أبا على بن محتاج سنة ثلاث وثلاثين بغدر الحسن بأبى على ونهب سواده وعاد إلى جرجان فملكها وملك معها الدامغان وسمنان وسار وشمكير من طبرستان إلى الرى فاستولى عليها أجمع وكان في قل من العسكر لفناء رجاله في حروبه مع أبى على بن محتاج والحسن بن القيرزان فتطاول حينئذ ركن الدولة إلى الاستيلاء على الرى وسار إلى الرى وقاتل وشمكير فهزمه فلحق بطبرستان واستولى ركن الدولة على الرى وأجمع مخالصة الحسن بن القيرزان وزوجه ابنته وتمسك بمواصلته ومودته واستفحل بذلك ملك بنى بويه وامتنع وصارت لهم أعمال الرى والجيل وفارس والاهواز والعراق ويحمل إليهم ضمان الموصل وديار
بكر ثم سار ركن الدولة بن بويه إلى بلاد وشمكير سنة ست وثلاثين ومعه الحسن بن القيرزان مددا ولقيهما وشمكير فانهزم امامهما ولحق بخراسان مستنجدا بابن سامان وملك ركن الدولة طبرستان وسار منها إلى جرجان فاطاعه الحسن بن القيرزان وولاه ركن الدولة عليها واستأمن إليه قواد وشمكير ورجع إلى اصفهان * (بداية بنى شاهين ملوك البطيحة أيام بنى بويه) * كان عمران بن شاهين من أهل الجامدة وكان يتصرف في الجباية وحصل منها بيده مال فصرفه وهرب إلى البطيحة ممتنعا من الدولة وأقام هنالك بين القصب والاجام يقتات بسمك الماء وطيره ويأخذ الرفاق التى تمر به واجتمع إليه لصوص الصيادين فقوى(4/437)
وامتنع على السلطان وتمسك بطاعة أبى القاسم بن البريدى بالبصرة فقلده حماية الجامدة وحماية البطائح ونواحيها فعز جانبه وكثر جمعه وسلاحه واتخذ معاقل على التلال بالبطيحة وغلب على تلك النواحى واهم معز الدولة أمره وبعث وزيره أبا جعفر الصيمري في العساكر سنة ثمان وثلاثين وحصره وأيقن بالهلاك وما نفس عن مخنقه الاوصول الخبر بوفاة عماد الدولة بن بويه ومبادرة الوزير الصيمري إلى شير زاد فعاد عمران إلى حاله وقوى أمره كما يأتي في أخبار دولته * (وفاة عماد الدولة ابن بويه وولاية عضد الدولة ابن أخيه على بلاد فارس مكانه) * ثم توفى عماد الدولة أبو الحسن على بن بويه بمدينة شيراز كرسى مملكة فارس في منتصف سنة ثلاث وثلاثين بعد أن كاطلب من أخيه ركن الدولة أن ينفذ إليه ابنه عضد الدولة فتأخر ليوليه عهده إذ ليكن له ولذ ذكر فأنفذه إليه ركن الدولة في جماعة من أصحابه لسنة بقيت من حياته وركب عماد الدولة للقائه ودخل به إلى داره في يوم مشهود وأجلسه على السرير وأمر الناس أن يحيوه بتحية الملك وكان في قواد عماد الدولة جماعة أكابر لا يستكبنون لعماد الدولة فضلا عن عضد الدولة مكانه بفارس واختلف
عليه أصحابه فجاء إليه ركن الدولة أبوه من الرى بعد أن استخلف عليها على بن كتامة وكتب معز الدولة إلى وزيره الصيمري بأن يترك محاربة ابن شاهين ويسير إلى شيراز مدد العضد الدولة وأقام ركن الدولة في شيراز تسعة أشهر وبعث إلى أخيه معز الدولة بهدية من الاموال والسلاح وكان عماد الدولة هو أمير الامراء وانما كان معز الدولة نائبا عنه في كفالة الاموال وولاية أعمال العراق فلما مات عماد الدولة انقلبت امرة الامراء إلى ركن الدولة وبقى معز الدولة نائبا عنه كما كان عن عماد الدولة لانه كان أصغر منهما * (وفاة الصيمري ووزارة المهلبى) * كان أب جعفر أحمد الصيمري وزير معز الدولة قد عاد من فارس إلى اعمال الجامدة وأقام يحاصر عمران بن شاهين إلى أن هلك منتصف تسع وثلاثين وكان يستخلف بحضرة معز الدولة في وزارته أبا محمد الحسن بن محمد المهلبى فباشره معز الدولة وعرف كفايته واضطلاعه فاستوزره مكان الصيمري فحسن أثره في جمع الاموال وكشف الظلامات وتقريب أهل العلم والادب والاحسان إليهم * (مسير عساكر ابن سامان إلى الرى ورجوعها) * لما سار ركن الدولة إلى بلاد فارس بعث الامير نوح بن سامان إلى منصور بن قراتكين صاحب جيوشه بخراسان أن يسير إلى الرى فسار إليها سنة تسع وثلاثين وكان بها على بن(4/438)
كتامة خليفة ركن الدولة ففارقها إلى أصفهان وملك منصور الرى وبث العساكر في البلاد فملكوا الجيل إلى قرميس واستولوا على همذان وبعث ركن الدولة من فارس إلى أخيه معز الدولة بانفاذ العسكر إلى مدافعتهم فبعث سبكتكين الحاجب في جيش كثيف من الديلم وغيرهم فكبسهم وأسر مقدمهم فأعادوا إلى همذان ثم سار إليهم ففارقوها وملكها وورد عليه ركن الدولة بهمذان فعدل منصور بن قراتكين إلى اصفهان فملكها وسار إليها ركن الدولة وسبكتكين في مقدمته وشغب عليه بعض
الاتراك فأوقع بهم وترددوا في تلك الناحية وكتب معز الدولة إلى ابن أبى الشوك الكردى يتبعهم فقتل منهم وأسر ونجا بعض إلى الموصل وترك ركن الدولة قريبا من اصفهان وجرت بينه وبين منصور حروب وضاقت الميرة على الفريقين الا أن الديلم كانوا أصبر على الجوع وشظف العيش من أهل خراسان لقرب عهدهم بالبداوة ومع ذلك فهم ركن الدولة بالفرار لو لا وزيره ابن العميد كان يثبته ويريه أنه لا يغنى عنه وان الاستماتة أولى به فصبر وشغب على منصور بن قراتكين جنده وانفضوا جميعا إلى الرى وتركوا مخلفهم باصفهان فاحتوى عليه ركن الدولة وذلك فاتح سنة أربعين ومات منصور بن قراتكين بالرى في ربيع الاول من السنة ورجعت العساكر إلى نيسابور * (استيلاء ركن الدولة ثانيا على طبرستان وجرجان) * قد كنا قدمنا استيلاء ركن الدولة على طبرستان وجرجان سنة ست وثلاثين وأنه استخلف على جرجان الحسن بن القيرزان وسار وشمكير إلى خراسان مستنجدا بابن سامان فسار معه صاحب جيوش خراسان منصور بن قراتكين وحاصر جرجان فصالحه الحسن بن القيرزان بغير رضا من وشمكير لانحرافه عنه وعن الامير نوح ورجع إلى نيسابور وأقام وشمكير بجرجان والحسن بروزن ثم سار ركن الدولة سنة أربعين من الرى إلى طبرستان وجرجان ففارقها وشمكير إلى نيسابور واستولى ركن الدولة عليها واستخلف بجرجان الحسن بن القيرزان وعلى بن كتامة وعاد إلى الرى فقصدهما وشمكير وانهزما منه واسترد البلاد من ركن الدولة وكتب الامير نوح يستنجده على ركن الدولة فأمر أبا على بن محتاج بالمسير معه في جيوش خراسان فسار في ربيع سنة ثنتين وأربعين وامتنع ركن الدولة ببعض معاقله وحاربه أبو على بن محتاج في جيوش خراسان حتى ضجرت عساكره وأظلهم فصل الشتاء فراسل ركن الدولة في الصلح على أن يعطيهم ركن الدولة مائتي ألف دينار في كل سنة وعاد إلى خراسان وكتب وشمكير إلى الامير نوح بأن ابن محتاج لم ينصح في أمر ركن الدولة وأنه ممالئ فسخطه من أجل ذلك وعز له عن خراسان ولما عاد
ابن محتاج عن ركن الدولة سار هو إلى وشمكير فانهزم وشمكير إلى اسفراين واستولى ركن(4/439)
الدولة على طبرستان * (اقامة الدعوة لبنى بويه بخراسان) * ولما عزل الامير نوح أبا على بن محتاج عن خراسان استعمل مكانه أبا سعيد بكر بن مالك الفرغانى فانتقض حينئذ وخطب لنفسه بنيسابور وتحيز عنه ابن القيرزان مع وشمكير إلى الامير نوح فخام ابن محتاج عن عداوتهم واستأذن ركن الدولة في المسير إليه ثم سار سنة ثلاث وأربعين فتلقاه بأنواع الكرامات وسأل منه ابن محتاج أن يقتضى له عهد الخليفة بولاية خراسان فبعث ركن الدولة في ذلك إلى أخيه معز الدولة ببغداد وجاءه العهد والمدد فسار إلى خراسان فخطب بها للخليفة وركن الدولة ثم مات نوح خلال ذلك وولى ابنه عبد الملك فبعث بكر بن مالك من بخارا إلى خراسان لاخراج ابن محتاج منها فسار إليه وهرب ابن محتاج إلى الرى فآواه ركن الدولة وأقام عنده واستولى بكر ابن مالك على خراسان ثم سار ركن الدولة إلى جرجان ومعه ابن محتاج فتركها وملكها ولحق وشمكير بخراسان * (مسير عساكر ابن سامان إلى الرى وأصفهان) * ولما فرغ بكر بن مالك من أمر خراسان وأخرج منها ابن محتاج سار منها سنة أربع وأربعين في اتباعه إلى الرى وأصفهان وكان ركن الدولة غائبا بجرجان فملكها ورجع إلى الرى في المحرم من السنة وكتب إلى أخيه معز الدولة يستمده فامده بالعساكر مع ابن سبكتكين وجاء مقدمة العساكر من خراسان إلى أصفهان من طريق المفازة وبها الامير منصور بن بويه بن ركن الدولة ومقدم العساكر محمد بن ماكان فملك أصفهان وخرج في طلب ابن بويه واتفق وصول الوزير أبى الفضل بن العميد فلقيه محمد بن ماكان فهزمه وعاد أولاد ركن الدولة وحرمه إلى أصفهان وراسل ركن الدولة بكر بن مالك صاحب
العساكر بخراسان في الصلح على مال يحمله إليه وتكون الرى وبلد الجيل في ضمانه فأجابه بكر بن مالك إلى ذلك وصالحه عليه وكتب ركن الدولة إلى أخيه معز الدولة بأن يبعث إلى بكر بن مالك خلعا ولواء بولاية خراسان فبعث بها في ذى القعدة من السنة * (خروج روزبهان على معز الدولة وميل الديلم إليه) * كان روزبهان ونداد خرسية من كبار قواد الديلم وكان معز الدولة قد رفعه ونوه بذكره فخرج سنة خمس وأربعين بالاهواز ومعه أخوه اسفار وخرج أخوه بلكا بشيراز ولما خرج روزبهان زحف إليه الوزير المهلبى لقتاله فنزع الكثيرر من اصحابه إلى روزبهان فانحاز عنه وبعث بالخبر إلى معز الدولة فسار إليهم واختلف عليه الديلم ومالوا(4/440)
مع روزبهان وفصل معز الدولة من بغداد خامس شعبان من السنة قاصد الحربه وبلغ الخبر إلى ناصر الدولة بن حمدان فبعث ابنه أبا الرجال في العساكر للاستيلاء على بغداد فخرج الخليفة عنها منحدرا وأعاد معز الدولة سبكتكين الحاجب وغيره لمدافعة ابن حمدان عن بغداد وسار إلى أن قارب الاهواز والديلم في شغب عليه وعلى عزم اللحاق بروزبهان الا نفرا يسيرا من الديلم كانوا خالصة فكان يعتمد عليهم وعلى الاتراك وكان يفيض العطاء في الديلم فيمسكون عما يهمون به ثم ناجز روزبهان الحرب سلخ رمضان فانهزم وأخذ أسيرا وعاد إلى بغداد إلى أبى الرجال بن حمدان وكان بعكبرا فلم يجده لانه بلغه خبر روزبهان فأسرع العود إلى الموصل ودخل معز الدولة بغداد وغرق روزبهان وكان أخوه بلكا الخارج بشيراز ازعج عنها عضد الدولة وسار إليه أبو الفضل بن العميد وقاتله فظفر به وعاد عضد الدولة إلى ملكه وانمحى أثر روزبهان واخوته وقبض معز الدولة على جماعة منهم ممن ارتاب بهم واصطنع الاتراك وقدمهم وأقطع لهم فاعتزوا وامتدت أيديهم * (استيلاء معز الدولة على الموصل ثم عودها) *
كان ناصر الدولة بن حمدان قد صالح معز الدولة على ألفى ألف درهم كل سنة ثم لم يحمل فسار إليه معز الدولة منتصف سبع وأربعين ففارق الموصل إلى نصيبين وحمل معه سائر أهل دولته من الوكلاء والكتاب ومن يعرف وجوه المال وأنزلهم في قلاعه كقلعة كواشى والزعفران وغيرهما وقطع الميرة عن عسكر معز الدولة فضاقت عليهم الاقوات فسار معز الدولة إلى نصيبين للميرة وبلغه أن أبا الرجاء وهبة الله في عسكر سنجار فبعث إليهم بعض عساكره وكبسوهم فهربوا واستولى العسكر على مخلفهم ونزلوا في خيامهم وكر عليهم أولاد ناصر الدولة وهم غارون فأثخنوا فيهم وأقاموا بسنجار وسار معز الدولة إلى نصيبين فلحق ناصر الدولة بميافارقين واستأمن الكثير من أصحابه إلى معز الدولة فلحق بأخيه سيف الدولة بحلب فبالغ في تكرمته وخدمته وتوسط في الصلح بينه وبين معز الدولة بثلاثة آلاف ألف فأجابه معز الدولة وتم ذلك بينهما ورجع معز الدولة العراق في محرم سنة ثمان وأربعين * (العهد لبختيار) * وفى سنة خمس طرق معز الدولة مرض استكان له وخشى على نفسه فأراد العهد لابنه بختيار وعهد إليه بالامر وسلم له الاموال وكان بين الحاجب سبكتكين والوزير المهلبى منافرة فأصلح بينهما ووصاهما بابنه بختيار وعهد إليه بالامور واعتزم على العود إلى(4/441)
الاهواز مستوحشا هواء بغداد فلما بلغ كلو إذا اجتمع به أصحابه وسفهوا رأيه في الانتقال من بغداد على ملكه وأشاروا عليه بالعود إليها وأن يستطيب الهواء في بعض جوانبها المرتفعة ويبنى بها دور السكنة ففعل وأنفق فيها ألف ألف دينار وصادر فيها جماعة من أصحابه * (استيلاء ركن الدولة على طبرستان وجرجان) * وفى سنة احدى وخمسين سار ركن الدولة إلى طبرستان وبها وشمكير فحاصره بمدينة سارية
وملكها ولحق وشمكير بجرجان وترك طبرستان فملكها ركن الدولة وأصلح أمرها ثم سار إلى جرجان فخرج عنها وشمكير واستولى عليها ركن الدولة واستأمن إليه من عسكر وشمكير ثلاثة آلاف رجل فازداد بهم قوة ودخل وشمكير بلاد الجيل مسلوبا واهنا * (ظهور البدعة ببغداد) * وفى هذه السنة كتب الشيعة على المساجد بأمر معز الدولة لعن معاوية بن أبى سفيان صريحا ولعن من غصب فاطمة فدك ومن منع أن يدفن الحسن عند جده ومن نفى أبا ذر الغفاري ومن أخرج العباس من الشورى ونسب ذلك كله لمعز الدولة لعجز الخليفة ثم أصبح ممحوا وأراد معز الدولة اعادته فأشار عليه الوزير المهلبى بأن يكتب مكانه لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يذكر أحدا باللعن الا معاوية رضى الله عنه * (وفاة الوزير المهلبى) * وفى سنة ثنتين وخمسين سار المهلبى وزير معز الدولة إلى عمان ليفتحها فلما ركب البحر طرقه المرض فعاد إلى بغداد ومات في طريقه في شعبان من السنة ودفن ببغداد وقبض معز الدولة أمواله وذخائره وقبض على حواشيه وحبسهم ونظر في الامور بعده أبو الفضل ابن العباس بن الحسن الشيرازي وأبو الفرج محمد بن العباس بن نسا قجرو لم يتسموا باسم الوزارة * (استيلاء معز الدولة ثالثا على الموصل) * كان ناصر الدولة بن حمدان قد ضمن الموصل كما تقدم وأجابه معز الدولة إلى ضمانه فبذل له ناصر الدولة زيادة على أن يدخل معه في الضمان أبو ثعلب فضل الله الغضنفر ويحلف لهما معز الدولة فأبى من ذلك وسار إلى الموصل منتصف ثلاث وخمسين ففارقها ابن حمدان إلى نصيبين وملكها معز الدولة ثم خرج إلى طلب ابن حمدان منتصف شعبان(4/442)
واستخلف على الموصل بكتورون وسبكتكين العجمي وسار ابن حمدان عن نصيبين وملكها معز الدولة وخالفه ابن حمدان إلى الموصل وحارب عسكر معز الدولة فيها فهزموه وجاء الخبر إلى معز الدولة فظفر أصحابه بابن حمدان وسار ونزل جزيرة ابن عمر فسار في اتباعه فوصل سادس رمضان فوجده قد جمع أولاده وعساكره إلى الموصل فأوقع بأصحاب معز الدولة وأسر الاميرين اللذين خلفا بها واستولى على ما خلفوه من مال وسلاح وحمل الجميع مع الاسرى إلى قلعة كواشى فأعيا معز الدولة أمره وهو من مكان إلى مكان في اتباعه فأجابه إلى الصلح وعقد عليه ضمان الموصل وديار ربيعة والرحبة بمال قرره فاستقر الصلح على ذلك وأطلق ابن حمدان الاسرى ورجع معز الدولة إلى بغداد * (استيلاء معز الدولة على عمان) * قد تقدم لنا أن عمان كانت ليوسف بن وجيه وأنه حارب بنى البريدى بالبصرة حتى قارب أخذها حتى عملوا الحيلة في اضرام النار في سفنه فولى هاربا في محرم سنة ثنتين وثلاثين وأنه ثار عليه مولاه في هذه السنة فغلبه على البلد وملكها من يده ولما استوحش معز الدولة من القرامطة كتب إليهم ابن وجيه صاحب عمان يطمعهم في البصرة واستمدهم في البر وسار هو في البحر سنة احدى وأربعين وسابقه الوزير المهلبى من الاهواز إليها وأمده معز الدولة بالعساكر والمال فاقتتلوا أياما ثم ظفر المهلبى بمراكبه وما فيها من سلاح وعدة ولم يزل القرامطة يثاورونها حتى غلبوا عليها سنة أربع وخمسين واستولوا عليها وهرب رافع عنها وكان له كاتب يعرف بعلى بن أحمد ينظر في أمور البلد والقرامطة بمكانهم من هجر فاتفق قاضى البلد وكان ذا مشير وعصابة على أن ينصبوا للنظر في أمورهم أحد قوادهم فقدموا لذلك ابن طغان ففتك بجميع القواد الذين معه وثأر منه بعض قرابتهم فقتلوه فاجتمع الناس على تقديم عبد الوهاب بن أحمد بن مروان من قرابة القاضى مكانه فولوه واستكتب على بن أحمد
كاتب القرامطة قبله من الجند فامتعضوا لذلك فدعاهم إلى بيعته فأجابوه وسواهم في العطاء مع البيض فسخط البيض ذلك ودارت بينهم حرب سكنوا آخرها واتفقوا وأخرجوا عبد الوهاب من البلد واستقر على بن أحمد الكاتب أميرا فيها ثم سار معز الدولة إلى واسط سنة خمس وخمسين وقدم إليه نافع مولى ابن أخيه الذى كان ملكها بعد مولاه فأحسن إليه وأقام عنده حتى فرغ من أمر عمران بن شاهين وانحدر إلى الابلة في رمضان من السنة وجهز المراكب إلى عمان مائة قطعة وبعث فيها الجيوش بنظر أبى الفتوح محمد بن العباس وتقدم إلى عضد الدولة بفارس أن يمدهم بالعساكر من(4/443)
عنده فوافاهم المدد بسيراف وساروا إلى عمان فملكوها يوم الجمعة يوم عرفة من السنة وفتكوا فيها بالقتل وأحرقوا لهم تسعين مركبا وخطب لمعز الدولة وصارت من أعماله * (وفاة معز الدولة وولاية ابنه بختيار) * كان معز الدولة قد سار سنة خمس وخمسين إلى واسط لمحاربة عمران بن شاهين فطرقه المرض سنة ست وخمسين فسار إلى بغداد وخلف أصحابه بواسط على أن يعود إليهم فاشتد مرضه ببغداد وجدد العهد لابنه بختيار ثم مات منتصف ربع الاخر من السنة فقام ابنه عز الدولة بختيار مكانه وكتب إلى العساكر بمصالحة عمران بن شاهين ففعلوا وعادوا وكان فيما أوصى به معز الدولة ابنه بختيار طاعة عمه ركن الدولة والوقوف عند اشارته وابن عمه عضد الدولة لعلو سنة عليه وتقدمه في معرفة السياسة وأن يحفظ كاتبيه أبا الفضل العباس ابن الحسن وأبا الفرج بن العباس والحاجب سبكتكين فخالف جميع وصاياه وعكف على اللهو وعشرة النساء والمغنين والصفاعين فأوحش الكاتبين والحاجب فانقطع الحاجب عن حضور داره ثم طرد كبار الديلم عن مملكته طمعا في اقطاعاتهم فشغب عليه الصغار واقتدى بهم الاتراك في ذلك وطلبوا الزيادات وركب الديلم إلى الصحراء وطلبوا اعادة من أسقط من كبارهم ولم يجد بدا من اجازتهم
لانحراف سبكتكين عنه فاضطربت أموره وكان الكاتب أبو الفرج العباس في عمان منذ ملكها فلما بلغه موت معز الدولة خشى أن ينفرد عنه صاحبه أبو الفضل العباس بن الحسين بالدولة فسلم عمان لعضد الدولة وبادر إلى بغداد فوجد أبا الفضل قد انفرد بالوزارة ولم يحصل على شئ * (مسير عساكر ابن سامان إلى الرى ومهلك وشمكير) * كان أبو على بن الياس قد سار من كرمان إلى بخارا مستنجدا بالامير منصور بن نوح بن سامان فتلقاه بالتكرمة فأغراه ابن الياس بممالك بنى بويه وأشار له قواده في أمرهم فصدق ذلك عندما كان يذكر وشمكير عنهم وتقدم إلى وشمكير والحسن بن القيرزان بالمسير مع عساكره إلى الرى ثم جهز العساكر مع صاحب خراسان أبى الحسن محمد بن ابراهيم بن سيجور الدوانى وأمره بطاعة وشمكير وقبول اشارته فسار لذلك سنة ست وخمسين وأنزل ركن الدولة أهله باصفهان وكتب إلى ابنه عضد الدولة بفارس والى ابن أخيه عز الدين بختيار ببغداد يستنجدهما فأنفذ عضد الدولة العساكر على طريق خراسان ليخالفهم إليها فأحجموا وتوقفوا وساروا إلى الدامغان وقصدهم ركن الدولة في عساكره من الرى وبينماهم كذلك هلك وشمكير استعرض(4/444)
خيلا واختار منها واحدا وركب للصيد واعترضه خنزير فرماه بحربة وحمل الخنزير عليه فضرب الفرس فسقط إلى الارض وسقط وشمكير ميتا وانتقض جميع ما كانوا فيه ورجعوا إلى خراسان * (استيلاء عضد الدولة على كرمان) * كان أبو على بن الياس قد ملك كرمان بدعوة بنى سامان واستبد بها كما مر في أخبارهم ثم أصابه فالج وأزمن به وعهد إلى ابنه اليسع ثم لا لياس من بعده وأمرهما باجلاء أخيهما سليمان إلى أرضهم ببلاد الروم يقيم لهم ما هنالك من الاموال لعداوه كانت
بين سليمان واليسع فلم يرض سليمان ذلك وخرج فوثب على السيرجان فملكها فسار إليه أخوه اليسع فحبسه وهرب من محبسه واجتمع إليه العسكر وأطاعوه ومالوا إليه مع أبيه ثم ان أبا على هم أن يلحق بخراسان فلحق ثم سار إلى الامير أبى الحرث ببخارا وأغراه بالرى كما مرو توفى سنة ست وخمسين وصفت كرمان لليسع وكان عضد الدولة مزاحما لليسع في بعض حدود عمله مدلا بجهل الشباب فاستحكمت القطيعة بينهما وهرب بعض أصحاب عضد الدولة إليه فزحف إليه واستأمن إليه أصحابه وبقى في قل من أصحابه فاحتمل أهله وأمواله ولحق ببخارا وسار عضد الدولة إلى كرمان فملكها وأقطعها ولده أبا الفوارس الذى ملك العراق بعد ولقب شرف الدولة واستخلف عليها كورتكين بن خشتان وعاد إلى فارس وبعث إليه صاحب سجستان الطاعة وخطب له ولما وصل اليسع إلى بخارا أنذر بنى سامان على تقاعدهم عن نصره فنفوه إلى خوارزم وكان قد خلف أثقاله بنواحي خراسان فاستولى عليها أبو على بن سيجور وأصاب اليسع رمد اشتد به بخوارزم فضجر منه وقطع عرقه بيده وكان ذلك سبب هلاكه ولم يعد لبنى الياس بكرمان بعده ملك * (مسير ابن العميد إلى حسنويه ووفاته) * كان حسنويه بن الحسن الكردى من رجالات الكرد واستولى على نواحى الدينور واستفحل أمره وكان يأخذ الخفارة من القفول التى تمر به ويخيف السابلة الا أنه كان فئة للديلم على عساكر خراسان متى قصدتهم وكان ركن الدولة يرعى له ذلك ويغضى عن اساءته ثم وقعت بينه وبين سلار بن مسافر بن سلار فتنة وحرب فهزمه حسنويه وحصره وأصحابه من الديلم في مكان ثم جمع الشوك وطرحه بقربهم وأضرمه نارا حتى نزلوا على حكمه فأخذهم وقتل كثيرا منهم فلحقت ركن الدولة النفرة لعصبية الديلم وأمر وزيره أبا الفضل بن العميد بالمسير إليه فسار في محرم سنة تسع وخمسين وقعد ابنه(4/445)
أبو الفتح وكان شابا مليحا قد أبطره العز والدالة على أبيه وكان يتعرض كثيرا لما يغضبه وكانت بأبى الفضل علة النقرس فتزايدت عليه وأفحشت عليه ولما وصل إلى همذان توفى بها لاربع وعشرين سنة من وزارته وأقام ابنه أبا الفتح مقامه وصالح حسنويه على مال أخذه منه وعاد إلى الرى إلى مكانه من خدمة ركن الدولة وكان أبو الفضل بن العميد كاتبا بليغا وعالما في عدة فنون مجيدا فيها ومطلعا على علوم الاوائل وقائما بسياسة الملك مع حسن الخلق ولين العشرة والشجاعة المعروفة بتدبير الحروب ومنه تعلم عضد الدولة السياسية وبه تأدب * (انتقاض كرمان على عضد الدولة) * ولما ملك عضد الدولة كرمان كما قلناه اجتمع القفص والبلوص وفيهم أبو سعيد وأولاده واتفقوا على الانتقاض والخلاف واستمد عضد الدولة كورتكين بن حسان بعابد بن على فسارا في العساكر إلى جيرفت وحاربوا أولئك الخوارج فهزموهم وأثخنوا فيهم وقتلوا من شجعانهم وفيهم ابن لابي سعيد ثم سار عابد بن على في طلبهم وأوقع بهم عدة وقائع وأثخن فيهم وانتهى إلى هرمز فملكها واستولى على بلاد التيز ومكران وأسر منهم ألف أسير حتى استقاموا على الطاعة واقامة حدود الاسلام ثم سار عائدا إلى طائفة أخرى يعرفون بالحرومية والجاسكية يخيفون السبيل برا وبحرا وكانت قد تقدمت لهم اعانة سليمان بن أبى على بن الياس فلما أوقع بهم أثخن فيهم حتى استقاموا على الطاعة وصلحت تلك البلاد مدة ثم عاد البلوص إلى ما كانوا عليه من اخافة السبيل بها فسار عضد الدولة إلى كرمان في القعدة سنة ثنتين وانتهى إلى السيرجان وسرح عابد بن على في العساكر لاتباعهم فأوغلوا في الهرب ودخلوا إلى مضايق يحسبونها تمنعهم فلما زاحمتهم العساكر بها آخر ربيع الاول من سنة احدى وستين صابروا يوما ثم انهزموا آخره فقتلت مقاتلتهم وسبيت ذراريهم ونساؤهم ولم ينج منهم الا القليل ثم استأمنوا فأمنوا ونقلوا من تلك الجبال وأنزل عضد الدولة في تلك البلاد أكرة وقلاحين ثم شملوا
الارض بالعمل وتتبع العابد أثر تلك الطوائف حتى بدد شملهم ومحاما كان من الفساد منهم * (عزل أبى الفضل ووزارة ابن بقية) * كان أبو الفضل العباس بن الحسين وزير المعز الدولة ولابنه بختيار من بعده وكان سيئ التصرف وأحرق في بعض أيامه الكرخ ببغداد فاحترق فيه عشرون ألف انسان وثلثمائة دكان وثلاثة وثلاثون مسجدا ومن الاموال ما لا يحصى وكان الكرخ معروفا(4/446)
بسكنى الشيعة وكان هو يزعم أنه يتعصب لاهل السنة وكان كثير الظلم للرعية غصابا للاموال مفرطا في أمر دينه وكان محمد بن بقية وضيعا في نفسه من الفلاحين في أوانا من ضياع بغداد واتصل ببختيار وكان يتولى الطعام بين يديه ويتولى الطبخ ومنديل الخوان على كتفه فلما ضاقت الاحوال على الوزير أبى الفضل وكثرت مطالبته بالارزاق والنفقات عزله بختيار وصادره وسائر أصحابه على أموال عظيمة أخذت منهم واستوزر محمد بن بقية فاستقامت أموره ونمت أحواله بتلك الاموال فلما نفدت عاد إلى الظلم ففسدت الاحوال وخربت تلك النواحى وظهر العيارون وتزايد شرهم وفسادهم وعظم الاختلاف بين بختيار والاتراك ومقدمهم يومئذ سبكتكين وتزايدت نفرته ثم سعى ابن بقية في اصلاحه وجاء به إلى بختيار ومعه الاتراك فصالحه بختيار ثم قام غلام ديلمى فرحمي وتينه بحربة في يده فأثبته فصاح سبكتكين بغلمانه فأخذوه يظن أنه وضع على قتله وقرره فلم يعترف فبعث إلى بختيار فأمر به فقتل فعظم ارتيابه وانه انما قتل حذرا من افشاء سره فعظمت الفتنة وقصد الديلم قتل سبكتكين ثم أرضاهم بختيار بالمال فسكنوا * (استيلاء بختيار على الموصل ثم رجوعه عنها) * فلما قبض أبو ثعلب بن ناصر الدولة بن حمدان على أبيه وحبسه واستقل بملك الموصل
وعصى عليه اخوته من سائر النواحى غلبهم ولحق أخوه أحمد وابراهيم ببختيار فاستصرخاه فوعدهما بالمسير معهما وأن يضمن حمدان البلاد ثم أبطأ عليهما فرجع ابراهيم إلى أخيه أبى ثعلب وقارن ذلك وزارة ابن بقية وقصر أبو ثعلب في خطابه فاغرى به بختيار فسار إليه ونزل الموصل وفارقها أبو ثعلب إلى سنجار وأخلاها من الميرة والكتاب والدواوين ثم سار من سنجار إلى بغداد فحاربها ولم يحدث في سوادها حدثا وبعث بختيار اثره العساكر مع ابن بقية والحاجب سبكتكين فدخل ابن بقية بغداد وأقام سبكتكين بجدى وثار العيارون واضطربت الفتنة بين أهل السنة والشيعة وضربوا الامثال لنشتد على الوزير بحرب الجمل وهذا كله في الجانب الغربي ونزل أبو ثعلب حذاء سبكتكين بجدى واتفقا في سر على خلع الخليفة ونصب غيره والقبض على الوزير وعلى بختيار وتكون الدولة لسبكتكين ويعود أبو ثعلب إلى الموصل ليتمكن من بختيار ثم قصر سبكتكين عن ذلك وخشى سوء المغبة واجتمع به الوزير ابن بقية وصالحوا أبا ثعلب على ضمان أعماله كما كانت وزيادة ثلاثة آلاف كر من الغلة لبختيار وأن يرد على أخيه حمدان أملاكه وأقطاعه الا ماردين وأرسلوا إلى بختيار بذلك ودخل أبو ثعلب إلى الموصل فلما نزل الموصل وبختيار بالجانب الاخر(4/447)
فغضب أهل الموصل لابي ثعلب لما نالهم من عسف بختيار فتراسلوا في الصلح ثانيا وسأل أبو ثعلب لقبا سلطانيا وتسليم زوجته ابنة بختيار فأبى ذلك ورحل عنه إلى بغداد وبلغه في طريقه أن أبا ثعلب قتل مخلفين من أصحاب بختيار فأقام بالكحيل وبعث بالوزير وابن بقية وسبكتكين فجاؤه في العساكر ورجع إلى الموصل وفارقها أبو ثعلب وبعث إلى الوزير كاتبه ابن عرس وصاحبه ابن حوقل معتذرا وحلفا عنه عن العلم بما وقع فاستحكم بينهم صلح آخر وانصرف كل منهم إلى بلده وبعث بختيار إليه زوجته واستقر أمرهما على ذلك
* (الفتنة بين الديلم والاتراك وانتقاض سبكتكين) * كان جند بختيار وأبيه معز الدولة طائفتين من الديلم عشيرتهم والاتراك المستنجدين عندهم وعظمت الدولة وكثرت عطاياها وأرزاق الجند حتى ضاقت عنها الجباية وكثر شغب الجند وساروا إلى الموصل لسد ذلك فلم يقع لهم ما يسده فتوجهوا إلى الاهواز صحبة بختيار ليظفروا من ذلك بشئ واستخلف سبكتكين على بغداد فلما وصلوا إلى الاهواز صحبة بختيار حمل إليه حملين من الاموال والهدايا ما ملا عينه وهو مع ذلك يتجنى عليه ثم تلاحى خلال ذلك عاملان ديلمى وتركي وتضاربا ونادى كل منهما بقومه فركبوا في السلاح بعضهم على بعض وسالت بينهما الدماء وصاروا إلى النزاع واجتهدوا في تسكين الناس فلم يقدروا وأشار عليه الديلم بالقبض على الاتراك فاحضر رؤساءهم واعتقلهم وانطلقت أيدى الديلم على الاتراك فافترقوا ونودى في البصرة باباحة دمائهم واستولى بختيار على اقطاع سبكتكين ودس بان يرجفوا بموته فإذا جاء سبكتكين للعزاء قبضوا عليه وقيل كان وطأهم على ذلك قبل سفره وجعل موعده قبضه على الاتراك فلما أرجفوا بموته ارتاب سبكتكين بالخبر وعلم أنها مكيدة ودعاه الاتراك للامر عليهم فأبى ودعا ابن معز الدولة أبا اسحق إليها فمنعته أمه فركب سبكتكين في الاتراك وحاصروا بختيار يومين ثم أحرقها وبعث لابي اسحق وأبى ظاهرا بنى معز الدولة وسار بهما إلى واسط فاستولى على ما كان لبختيار وأنزل الاتراك في دور الديلم وثار العامة بنصر سبكتكين وأوقعوا بالشيعة وقتلوهم وأحرقوا الكرخ * (مسير بختيار لقتال سبكتكين وخروج سبكتكين إلى واسط ومقتله) * ولما انتقض سبكتكين انتقض الاتراك في كل جهة حتى اضطرب على بختيار غلمانه الذين بداره وعاتبه مشايخ الاتراك على فعلته وعذله الديلم أصحابه وقالوا لابد لنا من الاتراك ينصحون عنا فأطلق المعتقلين عنهم ورجع وجعل أردويه صاحب الجيش مكان(4/448)
سبكتكين وكتب إلى عمه ركن الدولة وابنه عضد الدولة يستنجدهما والى أبى ثعلب بن حمدان يستمده بنفسه ويسقط عنه مال الضمان والى عمران بن شاهين بأن يمده بعسكر فبعث عمه ركن الدولة العساكر مع وزيره أبى الفتح بن العميد وأمر ابنه عضد الدولة بالمسير معهم فتربص به ابن العميد وأنفذ أبو ثعلب ابن حمدان أخاه أبا عبد الله الحسين ابن حمدان إلى تكريت وأقام ينتظر خروج سبكتكين والاتراك عن بغداد فيملكها وانحدر سبكتكين ومعه الاتراك إلى واسط وحمل معه الخليفة الطائع الذى نصبه وأباه المطيع مكانه افتكين وساروا إلى بختيار ونازلوه بواسط خمسين يوما والحرب بينهم متصلة والظفر للاتراك في كلها وهو يتابع الرسل إلى عضد الدولة ويستحثه * (استيلاء عضد الدولة على العراق واعتقال بختيار ثم عوده إلى ملكه) * ولما بلغ عضد الدولة ما فعله الاتراك مع بختيار اعتزم على المسير إليه بعد ان كان يتربص به فسار في عساكر فارس وسار معه أبو القاسم بن العميد وزير أبيه من لاهواز في عساكر الرى وقصدوا واسط ورجع افتكين والاتراك إلى بغداد وكان أبو ثعلب عليها فأجفل وكتب بختيار إلى طبة الاسدي صاحب عين التمر والى بنى شيبان بمنع الميرة عن بغداد وافساد سابلتها فعدمت الاقوات وسار عضد الدولة إلى بغداد ونزل في الجانب الشرقي وبختيار في الجانب الغربي وخرج افتكين والاتراك العضد الدولة فلقيهم بين دبانى والمدائن منتصف جمادى سنة أربع وستين فهزمهم وغرق كثير منهم وساروا إلى تكريت ودخل عضد الدولة بغداد ونزل دار الملك واسترد الخليفة الطائع من افتكين والاتراك وكانوا أكرهوه على الخروج معهم وخرج للقائه في دجلة وأنزله بدار الخلافة وحدثته بنفسه بملك العراق واستضعف بختيار ووضع عليه الجند يطالبونه بأرزاقهم ولم يكن عنده في خزائنه شئ وأشار عليه بالزهد في امارته يتنصح له بذلك سرا والرسل تتردد إلى بختيار والجند فلا يقبل عضد الدولة تقربهم ثم تقبض عليه آخرا ووكل به وجمع الجند ووعدهم بالاحسان والنظر في أمورهم فسكنوا وبعث عضد
الدولة عسكره إلى ابن بقية ومعه عسكر ابن شاهين فهزموا عسكر عضد الدولة وكاتبوا ركن الدولة فكتب إليهم بالثبات على شأنهم فلما علم أهل النواحى بأفعال عضد الدولة اضطربوا عليه وانقطعت عنه مواد فارس وطمع فيه الناس حتى عامة بغداد فحمل الوزير أبا الفتح بن العميد إلى أبيه ركن الدولة الرسالة بما وقع وبضعف بختيار وأنه ان عاد إلى الامر خرجت المملكة والخلافة عنه وأنه يضمن أعمال العراق بثلاثين ألف ألف درهم في كل سنة ويبعث إليه بختيار بالرى والا قتلت بختيار وأخويه وجميع شيعتهم وأترك البلاد فخشى ابن العميد من هذه الرسالة وأشار بأن يبعث بها غيره ويمضى(4/449)
هو إلى ركن الدولة فيحاول على مقاصد عضد الدولة فمضى الرسول إلى ركن الدولة فحجبه أولا ثم أحضره وذكر له الرسالة فهم بقتله ثم رده وحمله من الاساءة في الخطاب فوق ما أراد وجاء ابن العميد فحجبه ركن الدولة وأنفذ إليه بالوعيد وشفع إليه أصحابه واعتذر بانه انما جعل رسالة عضد الدولة طريقا إلى الخلاص منه فأحضره وضمن له ابن العميد اطلاق بختيار ثم سار إلى عضد الدولة وعرفه بغضب أبيه فأطلق بختيار من محبسه ورده إلى ملكه على أن يكون نائبا عنه ويخطب له ويجعل أخاه أبا اسحق أمير الجيش لضعفه عن الملك وخلف أبا الفتح بن العميد لقضاء شؤنه فتشاغل هو مع بختيار فيما كان فيه من اللذات عن ركن الدولة وجاء ابن بقية فأكد الوحشة بين بختيار وعضد الدولة وجبى الاموال واختزنها وأساء التصرف واحترز من بختيار * (أخبار عضد الدولة في ملك عمان) * لما توفى معز الدولة كان أبو الفرج بعمان فسار عنها لبغداد وبعث إلى عضد الدولة بأن يتسلمها فوليها عمر بن نبهان الطائى بدعوة عضد الدولة ثم قتلته الزنج وملكوا البلد وبعث عضد الدولة إليها جيشا من كرمان مع قائده ابى حرب طغان وساروا في البحر وأرسوا على صحار وهى قصبة عمان ونزلوا إلى البر فقاتلوا الزنج وظفروا بهم واستولى
طغان على صحار سنة ثنتين وستين ثم اجتمع الزنج إلى مدين رستان على مرحلتين من صحار فأوقع بهم طغان واستلحمهم وسكنت البلاد ثم خرج بجبال عمان طوائف الشراة مع ورد بن زياد منهم وبايعوا لحفص بن راشد واشتدت شوكتهم وبعث عضد الدولة المظفر بن عبد الله في البحر فنزل في اعمال عمان وأوقع بأهل خرخان ثم سار إلى دما على أربع مراحل وقاتل الشراة فهزمهم وهرب أميرهم ورد بن حفص إلى زوا وهى حصن تلك الجبال ولحق حفص باليمن فصار فيه معلما واستقامت البلاد ودانت لطاعة عضد الدولة * (اضطراب كرمان على عضد الدولة) * كان ظاهر بن الصنمد من الحرومية وهى البلاد الحارة قد ضمن من عضد الدولة ضمانات واجتمعت عليه أموال ولما سار عضد الدولة إلى العراق وبعث وزيره المظهر بن عبد الله إلى عمان خلت كرمان بن العساكر فطمع فيها ظاهر وجمع الرجال الحرمية وكان بعض موالى بنى سامان من الاتراك واسمه مؤتمر استوحش من ابن سيجور صاحب خراسان فكاتبه ظاهر وأطمعه في اعمال كرمان فسار إليه وجعله ظاهر أميرا ثم شغب عليه بعض أصحاب ظاهر فارتاب به مؤتمر وقاتله فظفر به وبأصحابه وبلغ الخبر إلى الحسين بن على(4/450)
ابن الياس بخراسان فطمع في البلاد وسار إليها واجتمت عليه جموع وكتب عضد الدولة إلى المظهر بن عبد الله وقد فرغ من أمر عمان بالمسير إلى كرمان فسار إليه سنة أربع وستين ودوخ البلاد في طريقه وكبس مؤتمرا بنواحي مدينة قم فلحق بالمدينة وحصره فيها حتى استأمن وخرج إليه ومعه ظاهر فقتله المظهر وحبس مؤتمرا ببعض القلاع وكان آخر العهد به ثم سار إلى ابن الياس وقاتله على باب جيرفت وأخذه أسيرا وضاع بعد ذلك خبره ورجع المظهر ظافرا وصلحت كرمان لعضد الدولة * (وفاة ركن الدولة وملك ابنه عضد الدولة) *
كان ركن الدولة ساخطا على ابنه عضد الدولة كما قدمناه وكان ركن الدولة بالرى فطرقه المرض سنة خمس وستين وثلثمائة فسار إلى اصفهان وتلطف الوزير أبو الفتح بن العميد إليه في الرضا عن ابنه عضد الدولة وأن يحضره ويعهد إليه فأحضره من فارس وجمع سائر ولده وكان ركن الدولة قد خف من مرضه فعمل الوزير ابن العميد بداره صنيعا وأحضرهم جميعا فلما قضوا شأن الطعام خاطب ركن الدولة بولاية اصفهان وأعمالها نيابة عن أخيه عضد الدولة وخلع عضد الدولة في ذلك اليوم على سائر الناس الاقبية والاكسية بزى الديلم وحياه اخوته والقواد بتحية الملك المعتاد لهم وأوصاهم أبوهم بالاتساق وخلع عليهم من الخاص وسار عن اصفهان في رجب من السنثم اشتد به المرض في الرى فتوفى في محرم سنة ست وستين لاربع وأربعين سنة مولايته وكان حليما كريما واسع المعروف حسن السياسة لجنده ورعيته عادلا فيهم متحريا من الظلم عفيفا عن الدماء بعيد الهمة عظيم الجد والسعادة محسنا لاهل البيوتات معظما للمساجد متفقدا لها في المواسم متفقدا أهل البيت بالبر والصلات عظيم الهيبة لين الجانب مقر باللعلماء محسنا إليهم معتقدا للصلحاء برا بهم رحمه الله تعالى * (مسير عضد الدولة إلى العراق وهزيمة بختيار) * ولما توفى ركن الدولة ملك عضد الدولة بعده وكان بختيار وابن بقية يكاتبان أصحاب القاصية مثل فخر الدولة أخيه وحسنويه الكردى وغيرهم للتظافر على عضد الدولة فحركه ذلك لطلب العراق فسار لذلك وانحدر بختيار إلى واسط لمدافعته وأشار عليه ابن بقية بالتقدم إلى الاهواز واقتتلوا في ذى القعدة من سنة ست وستين ونزع بعض عساكر بختيار إلى عضد الدولة فانهزم بختيار ولحق بواسط ونهب سواده ومخلفه وبعث إليه ابن شاهين بأموال وسلاح وهاداه وأتحفه فسار إليه إلى البطيحة وأصعد منها إلى واسط واختلف أهل البصرة فمالت مضر إلى عضد الدولة وربيعة مع بختيار صوبت(4/451)
مضر عند انهزامه وكاتبوا عضد الدولة فبعث إليهم عسكرا واستولوا على البصرة وأقام بختيار بواسط وقبض الوزير ابن بقية لاستبداده واحتجانه الاموال وليرضى عضد الدولة بذلك وترددت الرسل بينهم في الصلح وتردد بختيار في امضائه ثم وصله ابنا حسنويه الكردى في ألف فارس مددا فاعتزم على محاربة عضد الدولة ثم بداله وسار إلى بغداد فأقام بها ورجع ابنا حسنويه إلى أبيهما وسار عضد الدولة إلى البصرة فأصلح بين ربيعة ومضر بعد اختلافهما مائة وعشرين سنة * (نكبة أبى الفتح ابن العميد) * كان عضد الدولة يحقد على أبى الفتح بن العميد مقامه عند بختيار ببغداد ومخالطته له وما عقده معه من وزارته بعد ركن الدولة وكان ابن العميد يكاتب بختيار بأحواله وأحوال أبيه وكان لعضد الدولة عين على بختيار يكاتبه بذلك ويغريه فلما ملك عضد الدولة بعد أبيه كتب إلى أخيه فخر الدولة وبالرى بالقبض على ابن العميد وعلى أهله وأصحابه واستصفيت أموالهم ومحيت آثارهم وكان أبو الفضل بن العميد ينذرهم بذلك لما يرى من مخايل أبى الفتح وانكاره عليه * (استيلاء عضد الدولة على العراق ومقتل بختيار وابن بقية) * ولما دخلت سنة سبع وستين سار عضد الدولة إلى بغداد وأرسل إلى بختيار يدعوه إلى طاعته وأن يسير عن العراق إلى أي جهة أراد فيمده بما يحتاج إليه من مال وسلاح فضعفت نفسه فقطع عينه وبعثها إليه وخرج بختيار عن بغداد متوجها إلى الشام ودخل عضد الدولة بغداد وخطب له بها ولم يكن خطب لاحد قبله وضرب على بابه ثلاث نوبات ولم يكن لمن تقدمه وأمر أن يلقى ابن بقية بين أرجل الفيلة فضربته حتى مات وصلب على رأس الجسر في شوال سنة سبع وستين ولما انتهى بختيار إلى عكبرا وكان معه حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان فزين له قصد الموصل واستماله إليه عن الشام وقد كان عقد معه عضد الدولة أن لا يقصد الموصل لموالاة بينه وبين أبى ثعلب فسار هو إلى
الموصل ونقض عهده وانتهى إلى تكريت فبعث إليه أبو ثعلب يعده المسير معه لقتال عضد الدولة واعادة ملكه على أن يسلم إليه أخاه حمدان فقبض بختيار عليه وسلمه إلى سفرائه وحبسه أبو ثعلب وسار بختيار إلى الحديثة ولقيه أبو ثعلب في عشرين ألف مقاتل ورجع معه إلى العراق ولقيهما عضد الدولة بنواحي تكريت فهزمهما وجئ ببختيار أسيرا فأشار أبو الوفاء طاهر بن اسمعيل كبير أصحاب عضد الدولة بقتله فقتل لثنتى عشرة سنة من ملكه واستلحم كثير من أصحابه وانهزم أبو ثعلب بن حمدان(4/452)
إلى الموصل * (استيلاء عضد الدولة على أعمال بنى حمدان) * ولما انهزم أبو ثعلب سار عضد الدولة في أثره فملك الموصل منتصف ذى القعدة سنة ست وستين وكان حمل معه الميرة والعلوفات خوفا أن يقع به مثل ما وقع بسلفه فأقام بالموصل مطمئنا وبث السرايا في طلب أبى ثعلب ولحق بنصيبين ثم بميافارقين فبعث عضد الدولة في اثره سرية عليها أبو ظاهر بن محمد إلى سنجار وأخرى عليها الحاجب أبو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر فترك أبو ثعلب أهله بميافارقين وسار إلى تدلس ووصل أبو الوفاء في العساكر إلى ميافارقين فامتنعت عليه فسار في اتباع أبى ثعلب إلى أرزن الروم ثمث إلى الحسنية من أعمال الجزيرة وصعد أبو ثعلب إلى قلعة كواشى فأخذ أمواله منها وعاد أبو الوفاء وحاصره بميافارقين وسار عضد الدولة وقد افتتح سائر ديار بكر وسار أبو ثعلب إلى الرحبة ورجع أصحابه إلى أبى الوفاء فأمنهم وعاد إلى الموصل فتسلم ديار مضر من يده وكان سعد الدولة على الرحبة وتقري أعمال أبى ثعلب وحصونه مثل هوا والملاسى وفرقى والسفياني وكواشى بما فيها من خزائنه وأمواله واستخلف أبو الوفاء على الموصل وجميع أعمال بنى ثعلب وعاد إلى بغداد وسار أبو ثعلب إلى الشام فكان فيه مهلكه كما مر في أخباره
* (ايقاع العساكر ببنى شيبان) * كان بنو شيبان قد طال افسادهم للسابلة وعجز الملوك عن طلبهم وكانوا يمتنعون بجبال شهرزور لما بينهم وبين أكرادها من المواصلة فبعث عضد الدولة العساكر سنة تسع وستين فنازلوا شهرزور واستولوا عليها وعلى ملكها رئيس بنى شيبان فذهبوا في البسيط وسار العسكر في طلبهم فأوقعوا بهم واستباحوا أموالهم ونساءهم وجئ منهم إلى بغداد بثلثمائة أسير ثم عاودوا الطاعة وانحسمت علتهم * (وصول ورد بن منير البطريق الخارج على ملك الروم إلى ديار بكر والقبض عليه) * كان ارمانوس ملك الروم لما توفى خلف ولدين صغيرين ملكا بعده وكان تقفور وهو يومئذ الدمستق غائبا ببلاد الشام وكان نكاء فيها فلما عاد حمله الجند وأهل الدولة على النيابة عن الولدين فامتنع ثم أجاب وأقام بدولة الولدين وتزوج أمهما ولبس التاج ثم استوحشت منه فراسلت ابن الشمسيق في قتله وبيته في عشرة من أصحابه فقتلوا تقفور واستولى ابن الشمسيق على الامر واستولى على الاولاد وعلى ابنه ورديس واعتقلهم في بعض القلاع وسار في أعمال الشام فعاث فيها وحاصر طرابلس فامتنعت(4/453)
عليه وكان لوالد الملك أخ خصى وهو الوزير يومئذ فوضع عليه من سقاه السم وأحس به فأسرع العود إلى القسطنطينية ومات في طريقه وكان ورد بن منير من عظماء البطارقة فطمع في الملك وكاتب أبا ثعلب بن حمدان عند خروجه بين يدى عضد الدولة وظاهره واستجاش بالمسلمين بالثغور وساروا إليه وقصد القسطنطينية وبرزت إليه عساكر الملكين فهزمهم مرة بعد أخرى فأطلق الملكان ورديس بن لاورن وبعثاه في العساكر لقتال ورد فهزمه بعد حروب صعبة ولحق ورد ببلاد الاسلام ونزل ميافارقين وبعث أخاه إلى عضد الدولة ببذل الطاعة وبطلب النصرة وبعث إليه ملك الروم واستمالاه فجنح اليهما وكتب إلى عاملة بميافارقين بالقبض على ورد وأصحابه فيئسوا
منه وتسللوا عنه فبعث أبو على الغنمى عنه إلى داره للحديث معه ثم قبض عليه وعلى ولده وأخيه وجماعة من أصحابه واعتقلهم بميافارقين ثم بعث بهم إلى بغداد فحبسوا بها * (دخول بنى حسنويه في الطاعة وبداية أمرهم) * كان حسنويه بن حسن الكردى من جنس البرز فكان من الاكراد من طائفة منهم يسمون الذولنية وكان أميرا على البرز مكان خاله ونداد وكان ابنا أحمد بن على من طائفة أخرى من البرز فكانوا يسمون العيشائية وغلبا على أطراف الدينور وهمذان ونهاوند والدامغان وبعض أطراف اذربيجان إلى حد شهرزور وبقيت في أيديهم خمسين سنة وكانت تجتمع عليها من الاكراد جموع عظيمة ثم توفى عام ست وخمسين وثلثمائة وكانت له قلعة بسنان وغانم أبار وغيرها فملكها بعده ابنه أبو سالم غنم إلى أن غلبه الوزير أبو الفتح بن العميد وتوفى ونداد سنة تسع وأربعين وقام ابنه عبد الوهاب أبو الغنائم مقامه وأراد السادنجان وأسلمه إلى حسنويه فاستولى على أملاكه وقلاعه وكان حسنويه عظيم السياسة حسن السيرة وبنى أصحابه حصن التصص وهى قلعة سرماج بالصخور المهندسة وبنى بالدينور جامعا كذلك وكان كثير الصدقة بالحرمين ثم توفى سنة تسع وستين وافترق أولاده من بعده فبعضهم صار إلى طاعة فخر الدولة صاحب همذان وأعمال الجيل والاخرون صاروا إلى عضد الدولة وكان بختيار منهم بقلعة سرماج ومعه الاموال والذخائر فكاتب عضد الدولة بالطاعة ثم انتقض فبعث عضد الدولة عسكرا فحاصروه وملكوا القلعة من يده والقلاع الاخرى من اخوته واستولى عضد الدولة على أعمالهم واصطنع من بينهم أبا النجم بن حسنويه وأمده بالعسكر فضبط تلك النواحى وكف عادية الاكراد بها واستقام أمرها [ استيلاء عضد الدولة على همذان والرى من يد أخيه فخر الدولة وولاية أخيهما مؤيد الدولة عليها ](4/454)
قد تقدم ان ركن الدولة عهد إلى ابنه فخر الدولة وكان يكاتب بختيار وعلم بذلك عضد الدولة فأغضي فلما فرغ من شأن بختيار وابن حمدان وحسنويه وعظم استيلاؤه أراد اصلاح الامر بينه وبين أخيه وقابوس بن وشمكير فكاتب مؤيد الدولة وفخر الدولة يعاتبه ويستميله وكان الرسول خواشادة من أكبر أصحاب عضد الدولة فاستمال أصحاب فخر الدولة وضمن لهم الاقطاعات وأخذ عليهم العهود واعتزم عضد الدولة على المسير إلى الرى وهمذان وسرب العساكر إليها مساللة فأبو الوفاء طاهر في عسكر وخواشادة في عسكر وأبو الفتح المظفر بن أحمد في عسكر ثم سار عضد الدولة في أثرهم من بغداد ولما أطلت عساكره استأمن قواد فخر الدولة وبنو حسنويه ووزيره أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه ولحق فخر الدولة ببلاد الديلم ثم بجرجان ونزل على شمس المعالى قابوس ابن وشمكير مستجيرا فأمنه وآواه وحمل إليه فوق ما أمله وشاركه فيما بيده من الملك وغيره وملك عضد الدولة همذان والرى وما بينهما من الاعمال وأضافها إلى اخيه مؤيد الدولة ابن بويه صاحب اصفهان وأعمالها ثم عطف على ولاية حسنويه الكردى وفتح نهاوند والدينور وسرماج وأخذ ما كان فيها لبنى حسنويه وفتح عدة من قلاعهم وخلع على بدر بن حسنويه وأحسن إليه وولاه رعاية الاكراد وقبض على اخوته عبد الرزاق وأبى العلاء وأبى عدنان ولما لحق فخر الدولة بجرجان وأجاره قابوس بعث إليه أخوه عضد الدولة في طلبه فأجاره وامتنع من اسلامه فجهز إليه عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة صاحب اصفهان بالعساكر والاموال والسلاح فسار إلى جرجان وبرز قابوس للقائه والتقوا بنواحي استراباذ في منتصف احدى وسبعين فانهزم قابوس ومر ببعض قلاعه فاحتمل منها ذخيرته ولحق بنيسابور وجاء فخر الدولة منهزما على أثره وكان ذلك لاول ولاية حسام الدولة تاش خراسان من قبل أبى القاسم بن منصور من بنى سامان فكتب بخبرهما إلى الامير نوح ووزيره العتبى أبى العباس تاش فجاءه الجواب بنصرهما فجمع عساكر خراسان وسار معهما إلى جرجان فحاصروا بها مؤيد الدولة شهرين حتى ضاقت
أحوال مؤيد الدولة واعتزم هو وأصحابه على الخروج والاستمائة بعد أن كاتب فائقا الخاصة السامانى ورغبه فوعده بالانهزام عند اللقاء وخرج مؤيد الدولة وانهزم فائق وتبعه العساكر وثبت تاش وفخر الدولة وقابوس إلى آخر النهار ثم انهزموا ولحقوا بنيسابور وبعثوا بالخبر إلى الامير نوح فبعث إليهم بالعساكر ليعود إلى جرجان ثم قتل الوزير العتبى كما تقدم في أخبار دولتهم وانتقض ذلك الرأى * (استيلاء عضد الدولة على بلاد الهكارية وقلعة سندة) * كان عضد الدولة قد بعث عساكره إلى بلاد الاكراد الهكارية من أعمال الموصل فحاصر(4/455)
قلاعهم وضيق عليهم وكانوا يؤملون نزول الثلج فترحل عنهم العساكر وتأخر نزوله فاستأمنوا ونزلوا من قلاعهم إلى الموصل واستولت عليها العساكر وغدر بهم مقدم الجيش فقتلهم جميعا وكانت قلعة بنواحي الجبل لابي عبد الله المرى مع قلاع أخرى وله فيها مساكن نفيسة وكان من بيت قديم فقبض عليه عضد الدولة وعلى أولاده واعتقلهم وملك القلاع ثم أطلقهم الصاحب بن عباد فيما بعد واستخدم أبا طاهر من ولده واستكتبه وكان حسن الخط واللفظ * (وفاة عضد الدولة وولاية ابنه صمصام الدولة) * ثم توفى عضد الدولة ثامن شوال سنة ثنتين وسبعين لخمس سنين ونصف من ولايته العراق وجلس ابنه صمصام الدولة أبو كليجار المرزبان للعزاء فجاءه الطائع معزيا وكان عضد الدولة بعيد الهمة شديد الهيبة حسن السياسة ثاقب الرأى محبا للفضائل وأهلها وكان كثير الصدقة والمعروف ويدفع المال لذلك إلى القضاة ليصرفوه في وجوهه وكان محبا للعلم وأهله مقربا لهم محسنا إليهم ويجلس معهم ويناظرهم في المسائل فقصده العلماء من كل بلد وصنفت الكتب باسمه كالا يضاح في النحو والحجة في القراآت والملكي في الطب والتاخى في التواريخ وعمل البيمارستانات وبنى القناطر وفى أيامه حدثت
المكوس على المبيعات ومنع من الاحتراف ببعضها وجعلت متجرا للدولة ولما توفى عضد الدولة اجتمع القواد والامراء على ابنه أبى كليجار المرزبان وولوه الملك مكانه ولقبوه صمصام الدولة فخلع على أخيه أبو الحسن أحمد وأبى ظاهر فيروز شاه وأقطعهما فارس وبعثهما إليها [ استيلاء شرف الدولة بن عضد الدولة على فارس واقتطاعها من أخيه صمصام الدولة ] كان شرف الدولة أبو الفوارس شرزيك قد ولاه أبوه عضد الدولة قبل موته كرمان وبعث إليه فلما بلغه وفاة أبيه سار إلى فارس فملكها وقتل نصر بن هرون النصراني وزير أبيه لانه كان يسئ عشرته وأطلق الشريف أبا الحسن محمد بن عمر العلوى كان أبوه حبسه بما قال عنه وزيره المظهر بن عبد الله عند قتله نفسه على البطيحة وأطلق النقيب أبا أحمد والد الشريف الرضى والقاضى أبا محمد بن معروف وأبا نصر خواشادة وكان أبوه حبسهم وقطع خطبة أخيه صمصام الدولة وخطب لنفسه وتلقب بأخى الدولة ووصل أخوه أبو الحسن أحمد وأبو ظاهر فيروز شاه اللذان أقطعهما صمصام الدولة بشيراز فبلغهما خبر شرف الدولة بشيراز فعاد إلى الاهواز وجمع شرف الدولة وفرق(4/456)
الاموال وملك البصرة وولى عليها أخاه أبا الحسين ثم بعث صمصام الدولة العساكر مع ابن تتش حاجب أبيه وأنفذ مشرف الدولة مع أبى الاغر دبيس بن عفيف الاسدي والتقيا بظاهر قرقوب وانهزم عسكر صمصام الدولة وأسر ابن تتش الحاجب واستولى حينئذ الحسين بن عضد الدولة على الاهوام ورامهرمز وطمع في الملك * (وفاة مؤيد الدولة صاحب أصفهان والرى وجرجان وعود فخر الدولة إلى ملكه) * ثم توفى مؤيد الدولة يوسف بن بويه بن ركن الدولة صاحب أصفهان والرى بجرجان سنة ثلاث وسبعين واجتمع أهله للشورى فيمن يولونه فأشار الصاحب اسمعيل بن عباد باعادة
فخر الدولة إلى ملكه لكبر سنه وتقدم امارته بجرجان وطبرستان فاستدعوه من نيسابور وبعث ابن عباد من استخلفه لنفسه وتقدم إلى جرجان فتلقاه العسكر بالطاعة وجلس على كرسيه وتفادى ابن عباس من الوزارة فمنعه واستوزره والتزم الرجوع إلى اشارته في القليل والكثير وأرسل صمصام الدولة وعاهده على الاتحاد والمظاهرة ثم عزل الامير نوح أبا العباس تاش عن خراسان وولى عليها ابن سيجور فانتقض تاش ولقيه ابن سيجور فهزمه فلحق بجرجان فكافأه فخر الدولة وترك له جرجان ودهستان واستراباذ وسار عنها إلى الرى وأمده بالاموال والالات وطلب خراسان فلم يظفر بها فأقام بجرجان ثلاث سنين ثم مات سنة سبع وتسعين كما ذكرنا في أخبار بنى سامان * (انتقاض محمد بن غانم على فخر الدولة) * قد تقدم لنا ذكر غانم البرزنكانى خال حسنويه وانهم كانوا رؤساء الاكراد وأنه مات سنة خمسين وثلثمائة وكان ابنه دلسيم مكانه في قلاعه قستتان وغانم أبا وملكها منه أبو الفتح بن العميد ولما كان سنة ثلاث وسبعين انتقض محمد بن غانم بناحية كردون من أعمال قم على فخر الدولة ونهبت غلات السلطان وامتنع بحصن الفهجهان واجتمع إليه البرزنكان وسارت العساكر لقتاله في شوال فهزمها مرة بعد أخرى إلى أن بعث فخر الدولة إلى أبى النجم بدر بن حسنويه بالنكير في ذلك فصالحه أول أربع وسبعين ثم سارت إليه العساكر سنة خمس وسبعين فقاتلها وأصيب بطعنة ثم أخذ أسيرا ومات بطعنته * (تغلب باد الكردى على الموصل من يد الديلم ثم رجوعها إليهم) * قد تقدم لنا استيلاء عضد الدولة على الموصل وأعمالها وتقدم لنا ذكر باد الكردى خال بنى مروان وكيف خان عضد الدولة لما ملك الموصل وطلبه فصار يخيف ديار بكر ويغير عليها حتى استفحل أمره وملك ميافارقين كما ذكرنا ذلك كله في أخبار بنى مروان وان(4/457)
صمصام الدولة جهز إليه العساكر مع أبى سعيد بهرام بن اردشير فهزمه باد وأسر أصحابه فأعاد صمصام الدولة إليه العساكر مع أبى سعيد الحاجب وفتك باد في الديلم بالقتل والاسر ثم اتبع سعيد خانور الحسينية من بلد كواشى فانهزم سعيد الحاجب إلى الموصل وثارت العامة بالديلم وملك باد سنة ثلاث وسبعين الموصل وحدث نفسه بملك بغداد وأخرج الديلم عنها واهتم صمصام الدولة بأمره وبعث زياد بن شهرا كونه من أكبر قواد الديلم لقتاله واستكثر له من الرجال والعدد والمال وسار إلى باد فلقيه في صفر سنة أربع وسبعين وانهزم باد وأسر أكثر أصحابه ودخل زياد بن شهرا كونه الموصل وبعث سعيد الحاجب في طلب باد فقصد جزيرة ابن عمر وعسكر آخرا إلى نصيبين وجمع باد الجموع بديار بكر وكتب صمصام الدولة إلى سعد الدولة بن سيف الدولة بتسليم ديار بكر له فبعث إليها عساكره من حلب وحاصروا ميافارقين وخاموا عن لقاء باد فرجعوا عن حلب ووضع سعيد الحاجب رجلا لقتل باد فدخل عليه وضربه في خيمته فأصابه وأشرف على الموت عنها فطلب الصلح على أن يكون له ديار بكر والنصف من طور عبدين فأجابه الديلم إلى ذلك وانحدروا إلى بغداد وأقام سعيد الحاجب بالموصل إلى أن توفى سنة سبع وسبعين أيام مشرف الدولة فتجرد الكردى وطمع في الموصل وولى شرف الدولة عليها أبا نصر خواشاده وجهزه بالعساكر ولما زحف إليه باد الكردى كتب إلى مشرف الدولة يستمد العساكر والاموال فأبطأ عليه المدد فاستدعى العرب من بنى عقيل وبنى نمير وأقطعهم البلاد ليدافعوا عنها وانحدر باد واستولى على طور عبدين ولم يقدر على النزول على الصحراء وبعث أخاه في عسكر لقتال العرب فهزموه وقتلوه ثم أتاهم الخبر بموت مشرف الدولة فعاد خواشاده إلى الموصل وأقامت العرب بالصحراء يمنعون باد من النزول وينتظرون خروج خواشاده لمدافعة باد وحربه وبينماهم في ذلك جاء ابراهيم وأبو الحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان فملكها الموصل كما ذكرنا في أخبار دولتهم * (استيلاء صمصام الدولة على عمان ورجوعها لمشرف الدولة) *
كان مشرف الدولة استولى على فارس وخطب له بعمان وولى عليها أستاذ هرمز فانتقض عليه وصار مع صمصام الدولة وخطب له بعمان فبعث مشرف الدولة إليه عسكرا فهزموا أستاذ هرمز وأسروه وحبس ببعض القلاع وطولب بالاموال وعادت عمان إلى مشرف الدولة * (خروج نصر بن عضد الدولة على أخيه صمصام الدولة وانهزامه وأسره) * كان اسفار بن كردويه من أكابر قواد الديلم واستوحش من صمصام الدولة فمال عن(4/458)
طاعته إلى اخيه مشرف الدولة وهو بفارس وداخل رجال الديلم في صمصام الدولة وأن ينصبوا بهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة نائبا عن أخيه مشرف الدولة حتى يقدم من فارس وتمكن اسفار من الخوض في ذلك فمرض صمصام الدولة وتأخر عن حضور الدار وراسله صمصام الدولة أنه لا ذنب له لانه كان صبيا فاعتقله مكرما وسعى إليه بابن سعدان وزيره ارهواه كان معهم فعزله وقتله ومضى اسفار إلى أبى الحسن بن عضد الدولة بالاهواز ومضى بقية العسكر إلى مشرف الدولة بفارس * (استيلاء القرامطة على الكوفة بدعوة مشرف الدولة ثم انتزاعها منهم) * كان للقرامطة محل من البأس والهيبة عند أهل الدول وكانوا يدافعونهم في أكثر الاوقات بالمال وأقطعهم معز الدولة وابنه بختيار ببغداد وأعمالها وكان يأتيهم ببغداد أبو بكر بن ساهويه يحتكم بحكم الوزراء فقبض عليه صمصام الدولة وكان على القرامطة في هجر ونيسابور مشتركان في امارتهما وهما اسحق وجعفر فلما بلغهما الخبر سارا إلى الكوفة فملكاها وخطبا لمشرف الدولة وكاتبهما صمصام الدولة بالعتب فذكرا أمرهما ببغداد وانتشر القرامطة في البلاد وجبوا الاموال ووصل أبو قيس الحسن بن المنذر من أكابرهم إلى الجامعين فسرح صمصام الدولة العسكر ومعهم العرب فعبروا الفرات وقاتلوه فهزموه وأسروه وقتلوا جماعة من قواد القرامطة ثم عاودوا عسكرا آخر
ولقيتهم عساكر صمصام الدولة بالجامعين فانهزم القرامطة وقتل مقدمهم وغيره وأسروا منهم العساكر وساروا في اتباعهم إلى القادسية فلم يدركوهم * (استيلاء مشرف الدولة على الاهواز ثم على بغداد واعتقال صمصام الدولة) * ثم سار مشرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة من فارس لطلب الاهواز وقد كان أخوه أبو الحسين تغلب عليها عند انهزام عساكر صمصام الدولة سنة ثنتين وسبعين وكان صمصام الدولة عند ما ملك بعث أبا الحسين وأبا ظاهر أخويه على فارس كما قدمناه فوجدا أخاهما مشرف الدولة قد سبقهما إلى ملكها وعند ما ملك فارس والبصرة ولاهما على البصرة فلما انهزمت عساكر صمصام الدولة أمام عسكر مشرف الدولة بعث أبا الحسين على الاهواز فملكها وأقام بها واستخلف على البصرة أخاه أبا ظاهر فلما سار مشرف الدولة هذه السنة إلى الاهواز قدم إليه الكتاب بأن يسير إلى العراق وأنه يقره على عمله فشق ذلك على أبى الحسين وتجهز للمدافعة فعاجله مشرف الدولة عن ذلك وأغذ السير إلى ارجان فملكها ثم رامهرمز وانتقض أجناده ونادوا بشعار مشرف الدولة فهرب إلى عمه فخر الدولة بالرى وأنزله باصفهان ووعده بالنصر وأبطأ عليه فنار في اصفهان بدعوة(4/459)
أخيه مشرف الدولة فقبض عليه جندها وبعثوا به إلى الرى فحبسه فخر الدولة إلى أن مرض واشتد مرضه فأرسل من قتله في محبسه ولما هرب أبو الحسين من الاهواز سار إليها مشرف الدولة وأرسل إلى البصرة قائدا فملكها وقبض على أخيه أبى ظاهر وبعث إليه صمصام الدولة في الصلح وأن يخطب له ببغداد وسارت إليه الخلع والالقاب من الطائع وجاء من قبل صمصام الدولة من يستخلفه وكان معه الشريف أبو الحسن محمد بن عمر الكوفى فكان يستحثه إلى بغداد وفى خلال ذلك جاءته كتب القواد من بغداد بالطاعة وبعث أهل واسط بطاعتهم فامتنع من اتمام الصلح وسار إلى واسط فملكها وأرسل صمصام الدولة أخاه أبا نصر يستعطفه بالسلافة فلم يعطف عليه وشغب الجند على
صمصام الدولة فاستشار صمصام الدولة أصحابه في طاعة أخيه فنهوه وقال بعضهم نصعد إلى عكبرا ونتبين الامر وان دهمنا ما لا نقوى عليه سرنا إلى الموصل وننتصر بالديلم وقال آخرون نقصد فخر الدولة باصفهان ثم نخالفه إلى فارس فنحتوى على خزائن مشرف الدولة وذخائره فيصالح كرها فأعرض عنهم وركب صمصام الدولة إلى أخيه مشرف الدولة في خواصه فتلقاه بالمبرة ثم قبض عليه وسار إلى بغداد فدخلها في رمضان سنة ست وسبعين وأخوه صمصام الدولة في اعتقاله بعد أربع سنين من امارته بالعراق * (أخبار مشرف الدولة في بغداد مع جنده ووزرائه) * لما دخل مشرف الدولة بغداد كان الديلم معه في قوة وعدد تنتهى عدتهم إلى خمسة عشر ألفا والاتراك لا يزيدون على ثلاثة آلاف فاستطال الديلم بذلك وجرت بين اتباعهم لاول دخولهم بغداد مصاولة آلت إلى الحرب بين الفريقين فاستظهر الديلم على الترك وتنادوا باعادة صمصام الدولة إلى ملكه فارتاب بهم مشرف الدولة ووكل بصمصام الدولة من يقتله ان هموا بذلك ثم اتيحت الكرة للاتراك على الديلم وفتكوا فيهم وافترقوا واعتصم بعضهم بمشرف الدولة ثم دخل من الغد إلى بغداد فتقبله الطائع وهنأه بالسلامة ثم أصلح بين الطائفتين واستحلفهم جميعا وحمل صمصام الدولة إلى قلعة ورد بفارس فاعتقل بها وكان نحرير الخادم يشير بقتله فلا يجيبه أحد واعتقل سنة تسع وسبعين وأشرف على الهلاك ثم اشار نحرير في قتله أو سمله فبعث لذلك من يثق به فلم يقدم على سمله حتى استشار ابا القاسم بن الحسن الناظر هناك فأشار به فسمله وكان صمصام الدولة يقول انما اعماني العلاء لانه في معنى حكم سلطان ميت ولما فرغ مشرف الدولة من فتنة الجند صرف نظره إلى تهذيب ملكه فرد على الشريف محمد بن عمر الكوفى جميع أملاكه وكانت تغل في كل سنة ألفى ألف وخمسمائة ألف درهم ورد على النقيب أبى أحمد والد الرضى جميع أملاكه وأقر الناس على مراتبهم وكان قبض على وزيره(4/460)
أبى محمد بن فسا نجس وأفرج عن أبى منصور الصاحب واستوزره فأقره على وزارته ببغداد وكان قراتكين قد أفرط في الدولة والضرب على أيدى الحكام فرأى أن يخرجه إلى بعض الوجوه وكان حنقا على بدر بن حسنويه لميله مع عمه فخر الدولة فبعثه إليه في العساكر سنة سبع وسبعين فهزمه بدر بوادي قرمسين بعد أن هزمه قراتكين أولا ونزل العسكر فكر عليهم بدر فهزمهم وأثخن فيهم ونجا قراتكين في الفل إلى جسر النهروان حتى اجتمع إليه المنهزمون ودخل بغداد واستولى بدر على أعمال الجيل ولما رجع قراتكين أغرى الجند بالشغب على الوزير أبى منصور بن صالحان فأصلح مشرف الدولة بينه وبين قراتكين وحقدها له فقبض عليه بعد أيام وعلى جماعة من أصحابه واستصفى أموالهم وشغب الجند من أجله فقتله وقدم عليهم مكانه طغان الحاجب ثم قبض سنة ثمان وسبعين على شكر الخادم خالصة أبيه عضد الدولة وخالصته وكان يحقد عليه من أيام أبيه من سعاياته فيه منها اخراجه من بغداد إلى كرمان تقربا إلى أخيه صمصام الدولة باخراجه فلما ملك مشرف الدولة بغداد اختفى شكر فلم يعثر عليه وكان معه في اختفائه جارية حسناء فعلقت بغيره وفطن لها فضربها فخرجت مغاضبة له وجاءت إلى مشرف الدولة فدلت عليه فأحضره وهم بقتله وشفع فيه نحرير الخادم حتى وهبه له ثم استأذن في الحج وسار من مكة إلى مصر فاختصه خلفاء الشيعة وأنزلوه عندهم بالمنزلة الرفيعة * (وفاة مشرف الدولة وولاية أخيه بهاء الدولة) * ثم توفى مشرف الدولة أبو الفوارس سرديك بن عضد الدولة ملك العراق في منتصف تسع وسبعين لثمانية أشهر وسنتين من ملكه ودفن بمشهد على ولما اشتدت علته بعث ابنه أبا على إلى بلاد فارس بالخزائن والعدد مع أمه وجواريه في جماعة عظيمة من الاتراك وسأله أصحابه أن يعهد فقال أنا في شغل عن ذلك فسألوه نيابة أخيه بهاء الدولة ليسكن الناس إلى أن يستفيق من مرضه فولاه نيابته ولما جلس بهاء الدولة في دست الملك
ركب إليه الطائع فعزاه وخلع عليه خلع السلطنة وأقر بهاء الدولة أبا منصور بن صالحان على وزارته * (وثوب صمصام الدولة بفارس وأخباره مع أبى على ابن أخيه مشرف الدولة) * قد تقدم لنا أن صمصام الدولة اعتقله أخوه مشرف الدولة بقلعة ورد قرب شيراز من أعمال فارس عندما ملك بغداد سنة ست وسبعين فلما مات مشرف الدولة وكان قد بعث ابنه أبا على إلى فارس ولحقه موت أبيه بالبصرة فبعث ما معه في البحر إلى ارجان وسار(4/461)
إليها في البر مخفا والتف عليه الجند الذين بها وكاتبه العلاء بن الحسن من شيراز بخبر صمصام الدولة فسار إلى شيراز واختلف عليه الجند وهم الديلم باسلامه إلى صمصام الدولة فتحرك الاتراك وقاتل الديلم أياما ثم سار إلى نساو الاتراك معه فأخذوا ما بها من المال وقتلوا الديلم ونهبوا أموالهم وملاحهم وسار أبو على إلى ارجان وبعث الاتراك إلى شيراز فقاتلوا صمصام الدولة والديلم ونهبوا البلد وعادوا إليه بارجان وجاءه رسول عمه بهاء الدولة من بغداد بالمواعيد الجميلة ودس مع رسوله إلى الاتراك واستمالهم فحسنوا لابي على المسير إلى عمه بهاء الدولة فسار إليه ولقيه بواسط منتصف ثمانين وثلثمائة وقد أعد له الكرامة والنزول ثم قبض عليه لايام وقتله وتجهز للمسير إلى فارس * (مسير فخر الدولة صاحب الرى واصفهان وهمذان إلى العراق وعوده) * كان الصاحب أبو القاسم اسمعيل بن عباد وزير فخر الدولة بن ركن الدولة يحب العراق ويريد بغداد لما كان بها من الحضارة واستئثار الفضائل فلما توفى مشرف الدولة سلطان بغداد رأى أن الفرصة قد تمكنت فدس إلى فخر الدولة من يعرفه بملك بغداد حتى استشاره في ذلك فتلطف في الجواب بأن أحاله على سعادته فقبل اشارته وسار إلى حمدان ووفد عليه بدر بن حسنويه ودبيس بن عفيف الاسدي وشاوروا في المسير فسار الصاحب بن عباد وبدر في المقدمة على الجادة وفخر الدولة على خورستان ثم ارتاب
فخر الدولة بالصاحب بن عباد خشية من ميله مع أولاد عضد الدولة فاستعاده وساروا جميعا إلى الاهواز فملكها فخر الدولة وأساء السيرة في جندها وجنده وحبس عنهم العطاء فتخاذلوا وكان الصاحب منذ اتهمه ورده عن طريقه معرضا عن الامور ساكنا فلم تستقم الامور باعراضه ثم بعث بهاء الدولة عساكره إلى الاهواز فقاتلوهم وزادت دجلة إلى الاهواز وانفتقت أنهارها فتوهم الجند وحسبوها مكيدة فانهزموا وأشار عليه الصاحب باطلاق الاموال فلم يفعل فانفضت عنه عساكر الاهواز وعاد إلى الرى وقبض في طريقه على جماعة من قواد الديلم والرى وعادت الاهواز إلى دعوة بهاء الدولة * (مسير بهاء الدولة إلى أخيه صمصام الدولة بفارس) * ثم سار بهاء الدولة سنة ثمانين إلى خورستان عازما على قصد فارس وخلف ببغداد أبا نصر خواشاده من كبار قواد الديلم ومر بالبصرة فدخلها وسار منها إلى خورستان وأتاه نعى أخيه أبى ظاهر فجلس لعزائه ودخل ارجان وأخذ جميع ما فيها من الاموال وكانت ألف ألف دينار وثمانية آلاف ألف درهم وهرعث إليه الجنود ففرقت فيهم تلك الاموال كلها ثم بعث مقدمته أبا العلاء بن الفضل إلى النوبندجان فهزموا بها عسكر صمصام(4/462)
الدولة فأعاد صمصام الدولة العساكر مع فولاد بن ماندان فهزموا أبا العلاء بمراسلة وخديعة من فولاد كبسه في أثرها فعاد إلى ارجان مهزوما ولحق صمصام الدولة من شيراز بفولاد ثم ترددت الرسل في الصلح على أن يكون لصمصام الدولة بلاد فارس وارجان ولبهاء الدولة خورستان والعراق ويكون لكل منهما اقطاع في بلد صاحبه فتم ذلك بينهما وتحالفا عليه وعاد بهاء الدولة إلى الاهواز وبلغه ما وقع ببغداد من العيارين وبين الشيعة وأهل السنة وكيف نهبت الاموال وخرجت المساكين فأعاد المسير إلى بغداد وصلحت الاحوال * (القبض على الطائع ونصب القادر للخلافة) *
قد ذكرنا أن بهاء الدولة قد شغب الجند عليه لقلة الاموال وقبض وزيره فلم يغن عنه وكان أبو الحسن بن المعلم غالبا على هواه فأطمعه في مال الطائع وزين له القبض عليه فأرسل إليه بهاء الدولة في الحضور عنده فجلس على العادة ودخل بهاء الدولة في جمع كبير وجلس على كرسيه وأهوى بعض الديلم إلى يد الطائع ليقبلها ثم جذبه عن سريره وهو يستغيث ويقول انا لله وانا إليه راجعون واستصفيت خزائن دار الخلافة فمشى بها الحال أياما ونهب الناس بعضهم بعضا ثم أشهد على الطائع بالخلع ونصبوا للخلافة عمه القادر أبا العباس أحمد المقتدر استدعوه من البطيحة وكان فر إليها أمام الطائع كما تقدم في أخبار الخلفاء وهذا كله سنة احدى وثمانين وثلثمائة * (رجوع الموصل إلى بهاء الدولة) * كان أبو الرواد محمد بن المسيب أمير بنى عقيل قتل أبا طاهر بن حمدان آخر ملوك بنى حمدان بالموصل وغلب عليها وأقام بها طاعة معروفة لبهاء الدولة وذلك سنة ثمانين كما مر في أخبار بنى حمدان وبنى المسيب ثم بعث بهاء الدولة أبا جعفر الحجاج بن هرمز من قواد الديلم في عسكر كبير إلى الموصل فملكها آخر احدى وثمانين فاجتمعت عقيل مع أبى الرواد على حربه وجرت بينهم عدة وقائع وحسن فيها بلاء أبى جعفر بالقبض عليه فخشى اختلاف أمره هناك وراجع في أمره وكان باغراء ابن المعلم وسعايته ولما شعر الوزير بذلك صالح أبا الرواد وأخذ رهنه وأعاده إلى بغداد فوجد بهاء الدولة قد نكب ابن المعلم * (أخبار ابن المعلم) * هو أبو الحسن بن المعلم قد غلب على هوى بهاء الدولة وتحكم في دولته وصدر كثير من عظائم الامور باشارته فمنها نكبة أبى الحسن محمد بن عمر العلوى وكان قد عظم شأنه مع مشرف(4/463)
الدولة وكثرت أملاكه فلما ولى بهاء الدولة سعى به عنده وأطمعه في ماله فقبض عليه
واستصفى سائر أملاكه ثم حمله على نكبة وزيره أبى منصور بن صالحان سنة ثمان واستوزر أبا نصر سابور من ارشير قبل مسيره إلى خورستان ثم حمله على خلع الطائع واستصفى أمواله وحمل ذخائر الخلافة إلى داره ثم حمله على نكبة وزيره أبى نصر سابور واستوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف وبعد مرجعه من خورستان قبض على أبى خواشاده وأبى عبد الله بن ظاهر سنة احدى وثمانين لانهما لم يوصلا لابن المعلم هداياهما فحمل بهاء الدولة على نكبتهما ولما استطال على الناس وكثر الضجر منه شغب الجند على بهاء الدولة وطالبوه باسلامه إليهم وراجعهم فلم يقبلوا فقبض عليه وعلى سائر أصحابه ليسترضيهم بذلك فلم يرضوا الا به فاسلمه إليهم وقتلوه ثم اتهم الوزير أبا القاسم بمداخلة الجند في الشغب على الوزير فقبض عليه واستوزر مكانه أبا نصر سابور وابا نصر بن الوزير الاولين وأقاما شريكين في الوزارة * (خروج أولاد بختيار وقتلهم) * كان عضد الدولة قد حبس أولاد بختيار فأقاموا معتقلين مدة أيامه وأيام صمصام الدولة من بعده ثم أطلقهم مشرف الدولة وأحسن إليهم وأنزلهم بشيراز وأقطعهم فلمما مات مشرف الدولة حبسوا في قلعة ببلاد فارس فاستمالوا الموكل الذى عليهم والجند الذى معه من الديلم فأفرجوا عنهم وذلك سنة ثلاث وثمانين واجتمع إليهم أهل تلك النواحى وأكثرهم رجالة وبلغ الخبر إلى صمصام الدولة فبعث أبا على بن أستاذ هرمز في عسكر فافترقت تلك الجموع وتحصن بنو بختيار ومن معهم من الديلم وحاصرهم أبو على وأرسل أحد الديلم معهم فأصعدهم سرا وملكوا القلعة وقتلوا أولاد بختيار * (استيلاء صمصام الدولة على الاهواز ورجوعها منه) * ثم انتقض الصلح سنة ثلاث وثمانين بين بهاء الدولة صاحب بغداد وأخيه صمصام الدولة صاحب خورستان وذلك أن بهاء الدولة بعث أبا العلاء عبد الله بن الفضل إلى الاهواز وأسر إليه أن يبعث العساكر متفرقة فإذا اجتمعوا عنده صدم بهم بلاد فارس فسار
أبو العلاء وتشاغل بهاء الدولة عن ذلك وظهر الخبر فجهز صمصام الدولة عسكره إلى خورستان واستمد أبو العلاء بهاء الدولة فتوافت عساكره والتقى العسكران وانهزم أبو العلاء وأخذ أسيرا فأطلقته أم صمصام الدولة وقلق بهاء الدولة لذلك وافتقد الاموال فأرسل وزيره أبا نصر سابور إلى واسط وأعطاه جواهر واعلاقا يسترهنا عند مهذب الدولة صاحب البطيحة فاسترهنا ولما هرب الوزير أبو نصر استعفى ابن الصالحان من(4/464)
الانفراد بالوزارة فأعفي واستوزر بهاء الدولة أبا القاسم على بن أحمد ثم عجز وهرب وعاد أبو نصر سابور إلى الوزارة بعد أن أصلح الديلم ثم بعث بهاء الدولة طغان التركي إلى الاهواز في سبعمائة من المقاتلة فملكوا السوس ورحل أصحاب صمصام الدولة عن الاهواز وانتشرت عساكر طغان في أعمال خورستان وكان أكثرهم من الترك فغص الديلم بهم الذين في عسكر طغان فضل الدليل وأصبح على بعد منهم ورآهم الاتراك فركبوا إليهم وأكمن الوفا واستأمن كثير منهم وأمنهم طغان حتى نزلوا بأمر الاتراك فقتلوهم كلهم وانتهى الخبر إلى بهاء الدولة بواسط وسار إلى الاهواز وسار صمصام الدولة إلى شيراز وذلك سنة أربع وثمانين وأمر صمصام الدولة بقتل الاتراك في جميع بلاد فارس سنة خمس وثمانين فقتل منهم جماعة وهرب الباقون فعاثوا في البلاد ولحقوا بكرمان ثم ببلاد السند حتى توسطهم الاتراك فأطبقوا عليهم واستلحموهم * (استيلاء صمصام الدولة على الاهواز ثم على البصرة) * ثم بعث صمصام الدولة عساكره الديلم سنة خمس وثمانين إلى الاهواز وكان نائب بهاء الدولة قد توفى وعزم الاتراك على العود إلى بغداد فبعث بهاء الدولة مكانه أبا كاليجار المرزبان بن سفهيعون وأنفذ أبا محمد الحسن بن مكرم إلى رام هرمز مدد النائبها لفتكين وقد انهزم إليها أمام عسكر صمصام الدولة فترك أبا محمد بن مكرم بها ومضى إلى الاهواز وسار إلى خورستان فكاتبه العلاء بن الحسن يخادعه ثم سار إلى رامهرمز وحارب ابن
مكرم ولفتكين وبعث بهاء الدولة ثمانين من الاتراك يأتون من خلف الديلم فشعروا بهم وقتلوهم أجمعين وخام بهاء الدولة عن اللقاء فرجع إلى الاهواز ثم سار إلى البصرة ونزل بها وانتهى خبره إلى ابن مكرم فعاد إلى عسكر مكرم واتبعه العلاء والديلم فأجلوه عنها إلى قرب تستر وتكررت الوقائع بين الفريقين فكان بيد الاتراك من تستر إلى رامهرمز وبيد الديلم من رامهرمز ورجع الاتراك واتبعهم العلاء فوجدهم قد سلكوا طريق واسط فرجع عنهم وأقام بعسكر مكرم ورجع بهاء الدولة إلى بغداد وكان مع العلاء قائد من قواد الديلم اسمه شكر استان فاستأمن إليه من الديلم الذين مع بهاء الدولة نحو من أربعمائة رجل فاستكثر بهم وسار إلى البصرة وحاصرها ومال إليهم أبو الحسن بن جعفر العلوى من أهل البصرة وكانوا يحملون الميرة وعلم بهاء الدولة فانفذ من يقبض عليهم فهربوا إلى ذلك القائد وقوى بهم وجمعوا له السفن فركبها إلى البصرة وقاتل أصحاب بهاء الدولة وهزمهم وملك البصرة واستباحها وكتب بهاء الدولة إلى مهذب الدولة صاحب البطيحة بأن يرتجعها من يد الديلم ويتولاها فأمده عبد الله بن مرزوق وأجلى الديلم عنها ثم رجع للقاء شكر استان وهجم عليها في السفن(4/465)
فملكها وكاتب بهاء الدولة بالطاعة والضمان فأجابه وأخذ ابنه رهينة وكان يظهر طاعة بهاء الدولة وصمصام الدولة * (وفاة الصاحب بن عباد) * وفى سنة خمس وثمانين وثلثمائة توفى أبو القاسم اسمعيل بن عباد وزير فخر الدولة بالرى وكان أوحد زمانه علما وفضلا ورياسة ورأيا وكرما وعرفا بأنواع العلوم عارفا بالكتابة ورسائلة مشهورة مدونة وجمع من الكتب ما لم يجمعه أحد حتى يقال كانت تنقل في أربعمائة حمل ووزر بعده لفخر الدولة أبو العباس أحمد بن ابراهيم الضبى الملقب بالكافي ولما توفى استصفى فخر الدولة أمواله بعد أن أوصاه عند الموت فلم ينفذ وصيته
وكان الصاحب قد أحسن إلى القاضى عبد الجبار المعتزلي وقدمه وولاه قضاء الرى وأعمالها فلما مات قال عبد الجبار لا أرى الترحم عليه لانه مات على غير توبة ظهرت منه فنسب إليه قلة الوفاء بهذه المقالة ثم صادر فخر الدولة عبد الجبار فباع في المصادرة ألف طيلسان وألف ثوب من الصوف الرفيع ثم تتبع فخر الدولة آثار ابن عباد وأبطل ما كان عنده من المسامحات وقبض على أصحابه والبقاء لله وحده * (وفاة فخر الدولة صاحب الرى وملك ابنه مجد الدولة) * ثم توفى فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه صاحب الرى واصفهان وهمذان في شعبان سنة خمس وثلاثين بقلعة طبرك ونصب للملك من بعده ابنه مجد الدولة أبو طالب رستم وعمره أربع سنين نصبه الامراء وجعلوا أخاه شمس الدولة بهمذان وقرميس إلى حدود العراق وكان زمام الدولة بيد أم رستم مجد الدولة واليها تدبير ملكه وبين يديها في مباشرة الاعمال أبو ظاهر صاحب فخر الدولة وأبو العباس الضبى الكافي * (وفاة العلاء بن الحسن صاحب خورستان) * ثم توفى العلاء بن الحسن عامل خورستان لصمصام الدولة بعسكر مكرم فبعث صمصام الدولة أبا على بن استاذ هرمز بالمال ففرقه في الديلم ودفع أصحاب بهاء الدولة عن جند نيسابور بعد وقائع كان الظفر فيها له ثم دفعهم عن خورستان إلى واسط واستمال بعضهم فنزعوا إليه ورتب العمال في البلاد وجبى الاموال سنة سبع وثمانين ثم سار أبو محمد ابن مكرم من واسط مع الاتراك فدافعهم وكانت بينه وبينهم وقائع ثم سار بهاء الدولة في أثرهم من واسط وكان لحق بهم في واسط أبو على بن اسمعيل الذى كان نائبا ببغداد عند مسيره إلى الاهواز سنة ست وثمانين وجاء المقلد بن المسيب من الموصل للعبث في جهات بغداد فبرز أبو على لقتاله فنكر ذلك بهاء الدولة مغالطة وبعث(4/466)
من يصالحه ويقبض على أبى على فهرب أبو على إلى البطيحة ثم لحق بهاء الدولة وهو
بواسط فوزر له وزير أمره واشار عليه بالمسير لانجاد ابى محمد بن مكرم في قتال أبى على بن استاذ هرمز بخورستان فسار بهاء الدولة ونزل القنطرة البيضاء وجرت بينه وبين أبى على بن استاذ هرمز وقائع وانقطعت الميرة عن عسكر بهاء الدولة فاستمد بدر بن حسنويه فأمده ببعض الشئ وكثرت سعاية الاعداء في أبى على بن اسمعيل فكاد ينكبهم وبينماهم على ذلك بلغهم مقتل صمصام الدولة فصلحت الاحوال واجتمعت الكلمة * (مقتل صمصام الدولة) * كان أبو القاسم وأبو نصر ابنا بختيار محبوسين كما تقدم فخدعا المتوكلين بهما في القلعة وخرجا فاجتمع اليهما لفيف من الاكراد وكان صمصام الدولة قد عرض جنده وأسقط منهم نحوا من ألف لم يثبت عنده نسبهم في الديلم فبادروا إلى ابني بختيار والقتوا عليهما في أرجان وكان أبو جعفر استاذ هرمز مقيما فثار به الجند ونهبوا داره فاختفى ثم انتقضوا على صمصام الدولة ونهبوه وهرب إلى الرودمان على مرحلتين من شيراز فقبض عليه صاحبها وجاء أبو نصر بن بخيتار فأخذه منه وقتله في ذى الحجة سنة ثمان لتسع سنين من امارته بفارس وأسلمت امه إلى بعض قواد الديلم فقتلها ودفنها بداره حتى ملك بهاء الدولة فارس فنقلها إلى تربة بنى بويه * (استيلاء بهاء الدولة على فارس وخورستان) * ولما قتل صمصام الدولة وملك ابنا بختيار فارس بعثا إلى أبى على بن استاذ هرمز يستميلانه ويأمر انه بأخذ العهد لهما على الذين معه من الديلم ومحاربة بهاء الدولة وكتب إليه بهاء الدولة يستميله ويؤمنه ويؤمن الديلم الذين معه ويرغبهم واضطرب رأى أبى على لخوفه من ابني بختيار لما أسلف من قتل اخوتهما وحبسهما فمال عنهما ومال الديلم عن بهاء الدولة خوفا من الاتراك الذين معه فما زال أبو على بهم حتى بعثوا جماعة من أعيانهم إلى بهاء الدولة واستوثقوا يمينه ونزلوا إلى خدمته وساروا إلى الاهواز ثم إلى رامهرمز وارجان واستولى بهاء الدولة على سائر بلاد خورستان وبعث وزيره
أبا على بن اسمعيل إلى فارس فنزل بظاهر شيراز وبها ابنا بختيار فحاربهما ومال بعض أصحابهما إليه ثم انفضوا عنهما إلى أبى على وأطاعوه واستولى على شيراز ولحق أبو نصر ابن بختيار ببلاد الديلم وأخوه أبو القاسم ببدر بن حسنويه ثم بالبطيحة وكتب الوزير أبو على إلى بهاء الدولة بالفتح فسار إلى شيراز وامر بنهب قرية الرودمان فملكها وأقام بهاء الدولة بالاهواز واستخلف ببغداد أبا على بن جعفر المعروف باستاذ هرمز ولقبه(4/467)
عميد العراق وبقى ملوك الديلم بعد ذلك يقيمون بفارس الاهواز ويستخلفون على العراق مدة طويلة * (مقتل ابن بختيار بكرمان واستيلاء بهاء الدولة عليها) * لما استقر أبو نصر بن بختيار ببلاد الديلم كاتب جند الديلم بفارس وكرمان واستمالهم فاستدعوه إلى فارس فاجتمع إليه كثير من الربض والديلم والاكراد ثم سار إلى كرمان وبها أبو جعفر بن السيرجان ومضى ابن بختيار إلى جيرفت فملكها وملك أكثر كرمان فبعث بهاء الدولة وزيره الموفق أبا على بن اسمعيل في العساكر ولما وصل جيرفت استأمن إليه أهلها وملكها وهرب ابن بختيار فاختار الوزير من أصحابه ثلثمائة رجل وسار في أتباعه وترك باقى العسكر بجيرفت ولما أدركه أوقع به وغدر بابن بختيار بعض اصحابه فقتله وجاء برأسه إلى الموفق واستلحم الباقين وذلك سنة تسعين واستولى الموفق على كرمان وولى عليها أبا موسى سياه چشم وعاد إلى بهاء الدولة فقبض عليه واستصفاه وكتب إلى وزيره سابور بالقبض على انسابه وأصحابه فدس إليهم سابور بذلك وهربوا ثم قتل بهاء الدولة الموفق سنة اربع وسبعين وثلثمائة ثم استعمل بهاء الدولة على خورستان وأعمالها أبا على الحسن بن استاذ هرمز ولقبه عميد الجيوش وعزل عنها أبا جعفر الحجاج بن هرمز لسوء سيرته وفساد أحوالها بولايته وكثرة مصادراته فصلحت حالها بولاية أبى على وحصل إلى بهاء الدولة منها الاموال مع كثرة العدل
* (مسير ظاهر بن خلف إلى كرمان واستيلاؤه عليها ثم ارتجاعها) * قد تقدم لنا أن ظاهر بن خلف خرج عن طاعة أبيه خلف بن أحمد السجستاني وحاربه فظفر به أبوه فسار إلى كرمان يروم التوثب عليها وتكاسل عاملها عن أمره فكثر جمعه واجتمع إليه بحيالها كثير من المخالفين فنزل بهم إلى جيرفت فملكها وملك غيرها سنة احدى وتسعين وكان بكرمان أبو موسى سياه چشم فسار إليه بمن معه من الديلم فهزمه ظاهر وأخذ ما بقى بيده فبعث بهاء الدولة أبا جعفر استاذ هرمز في العساكر إلى كرمان فهزم ظاهرا إلى سجستان وملك كرمان وعادت الديلم * (حروب عساكر بهاء الدولة مع بنى عقيل) * كان قرواش بن المقلد قد بعث جمعا من بنى عقيل سنة ثلاث وتسعين فحاصروا المدائن وبعث أبو جعفر الحجاج بن هرمز وهو ببغداد نائب لبهاء الدولة عساكره فدفعوهم عنها فاجتمع بنو عقيل وأبو الحسن بن مزيد من بنى أسد وبرز إليهم الحجاج واستدعى خفاجة(4/468)
من الشام وقاتلهم فانهزم واستبيح عسكره وانهزم ثانيا وبرز إليهم فالتقوا بنواحي الكوفة فهزمهم وأثخن فيهم ونهب من حلل بنى يزيد ما لا يعبر عنه من العين والمصاغ والثياب * (الفتنة بين أبى على وأبى جعفر) * لما غاب أبو جعفر الحجاج عن بغداد قام بها العيارون واشتد فسادهم وكثر القتل والنهب فبعث بهاء الدولة أبا على بن جعفر المعروف باستاذ هرمز لحفظ العراق فانهزم أبو جعفر بنواحي الكوفة مغضبا ثم جمعوا الجموع من الديلم والاتراك والعرب فانهزم أبو جعفر وأمن أبو على جانبه فسار إلى خورستان وبلغ السوس فأتاه الخبر بأن أبا جعفر عاد إلى الكوفة فكر راجعا وعاد الحرب بينهم وبينماهم على ذلك أرسل بهاء الدولة إلى أبى على يستدعيه سنة ثلاث وتسعين لحرب ابن واصل بالبصرة فسار إليه وكانت
الحرب بينه وبين ابن واصل كما يأتي في أخبار ملوك البطيحة ورجع إلى بغداد ونزل أبو جعفر على فلح حامى طريق خراسان وأقام هنالك وكان فلح مباينا لعميد الجيوش أبى على وتوفى سلخ سنة سبع وتسعين فولى أبو على مكانه أبا الفضل بن عنان وكان بهاء الدولة في محاربة ابن واصل بالبصرة فأتاهم الخبر بظهور بهاء الدولة عليه فاوهن ذلك منهم وافترقوا ولحق ابن مزيد ببلده وسار أبو جعفر وابن عيسى إلى حلوان وأرسل أبو جعفر في اصلاح حاله عند بهاء الدولة فأجابه إلى ذلك وحضر عنده بتسترفا عرض عنه خوفا ان يستوحش أبو على وحقد بهاء الدولة لبدر بن حسنويه فسار إليه وبعث إليه بدرا في المصالحة فقبله وانصرف وتوفى أبو جعفر الحجاج بن هرمز بالاهواز سنة احدى وأربعمائة [ الفتنة بين مجد الدولة صاحب الرى وبين امه واستيلاء ابن خالها علاء الدين بن كاكويه على اصفهان ] قد تقدم لنا ولاية مجد الدولة أبى طالب رستم بن فخر الدولة على همذان وقرميس إلى حدود العراق وتدبير الدولتين لامه وهى متحكمة عليهما فلما وزر لمجد الدولة الخطير أبو على بن على بن القاسم استمال الامراء عنها وخوف مجد الدولة منها فاسترابت وخرجت من الرى إلى القلعة فوضع عليها من يحفظها فأعملت الحيلة حتى لحقت ببدر ابن حسنويه مستنجدة به وجاءها ابنها شمس الدولة في عساكر همذان وسار معهما بدر وذلك سنة سبع وتسعين فحاصروا اصفهان وملكوها عنوة وعاد إليها الامر فاعتقلت مجد الدولة ونصبت شمس الدولة للملك ورجع بدر إلى بلده ثم بعد سنة استرابت بشمس(4/469)
الدولة فأعادت مجد الدولة إلى ملكه وسار شمس الدولة إلى همذان وانتقض بدر بن حسنويه لذلك وكان في شغل بفتنة ولده هلال واستمد شمس الدولة فأمده بعسكر وحاصر قم فاستصعبت عليه وكان علاء الدين أبو حفص بن كاكويه ابن خال هذه
المرأة وكاكويه هو الخال بالفارسية فلذلك قيل له ابن كاكويه وكانت قد استعملته على اصفهان فلما فارق أمرها فسد حاله فسار هو إلى بهاء الدولة بالعراق وأقام عنده فلما عادت إلى حالها هرب أبو حفص إليها من العراق فاعادته إلى اصفهان ورسخ فيها ملكه وملك بنيه كما يأتي في أخبارهم * (وفاة عميد العراق وولاية فخر الملك) * كان أبو جعفر استاذ هرمز من حجاب عضد الدولة وخواصه وصير ابنه أبا على في خدمة ابنه صمصام الدولة فلما قتل صمصام الدولة رجع إلى بهاء الدولة وبلغه ما وق ببغداد في مغيبه من الهرج وظهور العيارين فبعث بهاء الدولة مكانه على العراق فخر الملك أبا غلب وأصعد إلى بغداد فلقيه الكتاب والقواد والاعيان في ذ الحجة من السنة وبعث العساكر من بغداد لقتال أبى الشوك حتى استقام وكانت الفتنة قد وقعت بين بدر بن حسنويه وابنه هلال واستنجد بدر بهاء الدولة فأنجده من يده وأخذ ما فيها من الاموال وفتح دير العاقول وجاء سلطان وعلوان ورجب بنو ثمال الخفاجى في أعيان قومهم وضمنوا حماية سقى الفرات من بنى عقيل وساروا معه إلى بغداد فبعثهم مع ذى السعادتين الحسن بن منصور للانبار فعاثوا في نواحيها وحبس ذو السعادتين نفرا منهم ثم أطلقهم فهموا بقبضه وشعر بهم فحاول عليهم حتى قبض على سلطان منهم وحبسهم ببغداد ثم شفع فيهم أبو الحسن بن مزيد فاطلقهم فاعترضوا الحاج سنة ثنتين وأربعمائة ونهبوهم فبعث فخر الملك إلى أبى الحسن بن مزيد بالانتقام منهم فلحقهم بالبصرة فأوقع بهم وأثخن فيهم واسترد من أموال الحاج ما وجد وبعث به وبالاسرى إلى فخر الملك ثم اعترضوا الحاج مرة أخرى ونهبوا سواد الكوفة فاوقع بهم أبو الحسن بن مزيد مثل ذلك وبعث باسراهم إلى بغداد * (وفاة بهاء الدولة وولاية ابنه سلطان الدولة) * ثم توفى بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة بن بويه هلك بالعراق منتصف ثلاث
وأربعمائة بارجان وحمل إلى تربة أبيه بمشهد على فدفن بها لاربع وعشرين سنة من ملكه وملك بعده ابنه سلطان الدولة أبو شجاع وسار من أرجان إلى شيراز وولى أخاه جلال الدولة أبا ظاهر على البصرة وأخاه أبا الفوارس على كرمان(4/470)
* (استيلاء شمس الدولة على الرى من يد أخيه مجد الدولة ورجوعه عنها) * قد تقدم لنا أن شمس الدولة بن فخر الدولة كان ملك همذان وأخوه مجد الدولة ملك الرى بنظر أمه وكان بدر بن حسنويه أمير الاكراد وبينه وبين ولده هلال فتنة وحروب نذكرها في أخبارهم واستولى شمس الدولة على كثير من بلادهم وأخذ ما فيها من الاموال كما يذكر في أخبارهم ثم سار إلى الرى يروم ملكها ففارقها أخوه مجد الدولة ومعه أمه إلى دنباوند واستولى شمس الدولة على الرى وسار في طلب أخيه وامه فشغب الجند عليه وطالبوه بأرزاقهم فعاد إلى همذان وعاد أخوه مجد الدولة وامه إلى الرى * (مقتل فخر الملك ووزارة ابن سهلان) * ثم قبض سلطان الدولة على نائبه بالعراق ووزيره فخر الملك أبى غالب وقتله في سلخ ربيع الاول سنة ست وأربعمائة لخمس سنين ونصف من ولايته واستصفى أمواله وكان الف ألف دينار سوى العروض وما نهب وولى مكانه بالعراق أبا محمد الحسن بن سهلان ولقبه عميد الجيوش واستوزر مكانه الرجحى بعد أن كان ابن سهلان هرب إلى قرواش فأقامه عنده بهيت وولى سلطان الدولة مكانه في الوزارة أبا القاسم جعفر بن فسا نجس ثم رجع ابن سهلان إلى سلطان الدولة فلما قتل فخر الملك ولاه مكانه فسار إلى العراق في محرم سنة تسع وأربعمائة ومر في طريقه ببنى أسد فرأى أن يثأر منهم من مضر ابن دبيس بما كان قبض عليه قديما بأمر فخر الملك فأسرى إليه والى أخيه مهارش وفى جملته أخوهم طراد واتبعهما حتى أدركهما وقاتله رجال الحى فقتل جماعة من الديلم والاتراك ثم انهزموا ونهب ابن سهلان أموالهم وسبى حريمهم وبذل الامان لمضر
ومهارش وأشرك بينهما وبين طراد في الجزيرة ونكر عليه سلطان الدولة ذلك ورحل هو إلى واسط والفتن بها فقتل جماعة منهم وأصلحها وبلغه ما ببغداد من الفتنة فسار إليها ودخلها في ربيع من السنة وهرب منه العيارون ونفى جماعة من العباسيين وأبا عبد الله ابن النعمان فقيه الشيعة وأنزل الديلم باطراف البلد فكثر فسادهم وفساد الاتراك وساروا إلى سلطان الدولة بواسط شاكين من ابن سهلان فوعدهم وأمسكهم وبعث عن ابن سهلان فارتاب وهرب إلى بنى خفاجة ثم إلى الموصل ثم استقر بالبطيحة وبعث سلطان الدولة العساكر في طلبه فأجاره واليها الشرابى وهزم العساكر وكان ابن سهلان سار إلى جلال الدولة بالبصرة ثم أصلح الرجحى حاله مع سلطان الدولة ورجع إليه وضعف أمر الديلم في هذه السنة ببغداد وواسط وثارت لهم العامة فلم يطيقوا مدافعتهم ثم قبض سلطان الدولة على وزيره فسا نجس وأخويه واستوزر أبا غالب ذا السعادتين الحسن ابن منصور وقبض جلال الدولة صاحب البصرة على وزيره أبى سعد عبد الواحد على(4/471)
ابن ماكولا * (انتقاض أبى الفوارس على أخيه سلطان الدولة) * كان سلطان الدولة قد ولى أخاه أبو الفوارس على كرمان فاجتمع إليه بعض الديلم وداخلوه في الانتقاض فانتقض وسار إلى شيراز فملكها سنة سبع وأربعمائة وسار سلطان الدولة فهزمه إلى كرمان وسار في اتباعه فلحق بمحمود بن سبكتكين ببست ووعده بالبصرة وبعث معه أبا سعيد الطائى في العساكر إلى كرمان وقد انصرف عنها سلطان الدولة إلى بغداد فملكها أبو الفوارس وسار إلى بلاد فارس فملكها ودخل إلى شيراز فسار سلطان الدولة إليه فهزمه فعاد إلى كرمان سنة ثمان وأربعمائة وبعث سلطان الدولة في أثره فملكوا عليه كرمان ولحق بشمس الدولة صاحب همذان لانه كان اساء معاملة أبى سعيد الطائى فلم يرجع إلى محمود بن سبكتكين ثم فارق شمس الدولة
إلى مهذب الدولة صاحب البطيحة فبالغ في تكرمته وأنزله بداره وأنفذ إليه أخوه جلال الدولة مالا وعرض عليه المسير إليه فأبى ثم ترددت الرسل بينه وبين أخيه سلطان الدولة فعاد إلى كرمان وبعث إليه التقليد والخلع * (وثوب مشرف الدولة على أخيه سلطان الدولة ببغداد واستبداده آخرا بالملك) * ثم شغب الجند على سلطان الدولة ببغداد سنة احدى عشرة ونادوا بولاية مشرف الدولة أخيه فهم بالقبض عليه فلم يتمكن من ذلك ثم اراد الانحدار إلى واسط لبعض شؤن الدولة فطلب الجندان يستخلف فيهم أخاه مشرف الدولة فاستخلفه ورجع من واسط إلى بغداد ثم اعتزم على قصد الاهواز فاستخلف أخاه مشرف الدولة ثانيا على العراق بعد ان كانا تحالفا ان لا يستخلف أحد منهما ابن سهلان فلما بلغ سلطان الدولة تستر استوزر ابن سهلان فاستوحش من مشرف الدولة ثم بعث سلطان الدولة إلى الاهواز فنهبوها فدافعهم الاتراك الذين بها وأعلنوا بدعوة مشرف الدولة فانصرف سلطان الدولة عنهم ثم طلب الديلم من مشرف الدولة المسير إلى بيوتهم بخورستان فأذن لهم وبعث معهم وزيره أبا غالب ولحق الاتراك الذين كانوا معه بطراد بن دبيس الاسدي بجزيرة بنى دبيس وذلك لسنة ونصف من ولايته الوزارة وصودر ابنه أبو العباس على ثلاثين ألف دينار وسر سلطان الدولة بقتل أبى غالب وبعث أبا كاليجار إلى الاهواز فملكها ثم تراسل سلطان الدولة ومشرف الدولة في الصلح وسعى فيه بينهما أبو محمد بن مكرم صاحب سلطان الدولة ومؤيد الملك الرجحى وزير مشرف الدولة على أن يكون العراق لمشرف الدولة وفارس وكرمان لسلطان الدولة وتم ذلك بينهما سنة ثلاث عشرة(4/472)
* (استيلاء ابن كاكويه على همذان) * كان شمس الدولة بن بويه صاحب همذان قد توفى وولى مكانه ابنه سماء الدولة وكان فرهاد بن مرداويچ بقطع يزدجرد فسار إليها سماء الدولة وحاصره فاستنجد بعلاء
الدولة بن كاكويه فأنجده بالعساكر ودفع سماء الدولة عن فرهاد ثم سار علاء الدولة وفرهاد إلى همذان وحاصراها وخرجت عساكر همذان مع عساكر تاج الملك الفوهى قائد سماء الدولة فدفعهم ولحق علاء الدولة بجرباذقان فهلك الكثير من عسكره بالبرد وسار تاج الملك الفوهى إلى جرباذقان فحاصر بها علاء الدولة حتى استمال بها قوما من الاتراك الذين مع تاج الملك وخلص من الحصار وعاود المسير إلى همذان فهزم عساكرها وهرب القائد تاج الملك واستولى علاء الدولة على سماء الدولة فأبقى عليه رسم الملك وحمل إليه المال وسار فحاصر تاج الملك في حصنه حتى استأمن إليه فأمنه وسار به وبسماء الدولة إلى همذان فملكها وملك سائر أعمالها وقبض على جماعة من أمراء الديلم فحبسهم وقتل آخرين وضبط الملك وقصد أبا الشوك الكردى فشفع فيه مشرف الدولة فشفعه وعاد عنه وذلك سنة أربع عشرة * (وزارة أبى القاسم المغربي لمشرف الدولة ثم عزله) * كان عنبر الخادم مستوليا على دولة مشرف الدولة بما كان حظى أبيه وجده وكان يلقب بالاثير وكان حاكما في دولة بنى بويه مسموع الكلمة عند الجند وعقد الوزير مؤيد الملك الرجحى على بعض اليهود من حواشيه مائة ألف دينار فسعى الاثير الخادم وعزله في رمضان سنة أربع عشرة واستوزر لناصر الدولة بن حمدان ونزع عنه إلى خلفاء العبيديين وولاه الحاكم بمصر وولد له بها ابنه أبو القاسم الحسين ثم قتله الحاكم فهرب ابنه أبو القاسم إلى مفرج بن الجراح أمير طيئ بالشأم وداخله في الانتقاض على العبيديين بأبى الفتوح أمير مكة فاستقدمه وبايع له بالرملة ثم صونع من مصر بالمال فانحل ذلك الامر ورجع أبو الفتوح إلى مكة وقصد أبو القاسم العراق واتصل بالعميد فخر الملك أبى غالب فأمره القادر بابعاده فقصد الموصل واستوزره صاحبها ثم نكبه وعاد إلى العراق وتقلب به الحال إلى أن وزر بعد مؤيد الملك الرجحى فساء تصرفه في الجند وشغب الاتراك عليه وعلى الاثير عنبر بسببه فخرجا إلى السندية وخرج معهما
مشرف الدولة فأنزلهم قرواش ثم ساروا إلى أوانا وندم الاتراك فبعثوا المرتضى وأبا الحسن الزينى يسألون الاقالة وكتب إليهم أبو القاسم المغربي بأن أرزاقكم عند الوزير مكرا به وشعر بذلك فهرب إلى قرواش لعشرة أشهر من وزارته وجاء الاتراك إلى مشرف الدولة والاثير عنبر فردهما إلى بغداد(4/473)
* (وفاة سلطان الدولة بفارس وملك ابنه أبى كليجار وقتل ابن مكرم) * ثم توفى سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة صاحب فارس بشيراز وكان محمد بن مكرم صاحب دولته وكان هواه مع ابنه أبى كليجار وهو يومئذ أمير على الاهواز فاستقدمه للملك بعد أبيه وكان هوى الاتراك مع عمه أبى الفوارس صاحب كرمان فاستقدموه وخشى محمد بن مكرم جانبه وفر عنه أبو المكارم إلى البصرة وسار العادل أبو منصور بن ماقته إلى كرمان لاستقدام أبى الفوارس وكان صديقا لابن مكرم فحسن أمره عند أبى الفوارس وأحال الاجناد بحق البيعة على ابن مكرم فضجر وما طلهم فقبض عليه أبو الفوارس وقتله ولحق ابنه القاسم بأبى كليجار بالاهواز فتجهز إلى فارس وقام بتربيته بابن مزاحم صندل الخادم وسار في العساكر إلى فارس ولقيهم أبو منصور الحسن بن على النسوي وزير أبى الفوارس فهزموه وغنموا معسكره وهرب أبو الفوارس إلى كرمان وملك أبو كليجار شيراز واستولى على بلاد فارس وتنكر للديلم الذين بها فبعثوا إلى من كان منهم بمدينة نسا فتمسكوا بطاعة أبى الفوارس ثم شغب عسكر أبى كليجار عليه وطالبوه بالمال فظاهرهم الديلم فسار إلى النوبندجان ثم إلى شعب بوان وكاتب الديلم بشيراز أبو الفوارس يستحثونه ثم أصلحوا بينهما على أن تكون لابي الفوارس كرمان ويعود أبو كليجار لفارس لما فارقه بها من نعمته وكان الديلم يطيعونه فساروا في العساكر وهزموا أبا الفوارس فلحق بدار ابجرد واستولى أبو كليجار على فارس ثم زحف إليه أبو الفوارس في عشرة آلاف من الاكراد فاقتتلوا بين
البيضاء واصطخر فانهزم أبو الفوارس ولحق بكرمان واستولى أبى كليجار على فارس واستقر ملكه بها سنة سبع عشرة وأربعمائة * (وفاة مشرف الدولة وملك أخيه جلال الدولة) * ثم توفى مشرف الدولة أبو على بن بهاء الدولة بن بويه سلطان بغداد في ربيع الاول سنة ست عشرة وأربعمائة لخمس سنين من ملكه ولما توفى خطب ببغداد لاخيه جلال الدولة وهو بالبصرة واستقدم فلم يقدم وانتهى إلى واسط فأقام بها يخطب لابي كليجار ابن أخيه سلطان الدولة وهو يومئذ بخورستان مشغول بحرب عمه أبى الفوارس كما قدمناه فحيئذ أسرع جلال الدولة من واسط إلى بغداد فسار الجند ولقوه النهروان وردوه كرها بعد أن نهبوا بعض خزائنه وقبض على وزيره أبى سعيد بن ماكولا واستوزر ابن عمه أبا على واستحث الجند أبا كليجار فعللهم بالوعد وشغل بالحرب وكثر الهرج ببغداد من العيارين وانطلقت أيديهم وأحرقوا الكرخ ونهاهم الامير عنبر عن ذلك فلم ينتهوا فخافهم على نفسه فلحق بقرواش في الموصل وعظمت لفتن ببغداد(4/474)
* (استيلاء جلال الدولة على ملك بغداد) * ولما عظم الهرج ببغداد ورأى الاتراك أن البلاد تحرب وان العرب والاكراد والعامة قد طمعوا فيهم ساروا جميعا إلى دار الخلافة مستعتبين ومعتذرين عما صدر منهم من الانفراد باستقدام جلال الدولة ثم رده واستقدام أبى كليجار مع أن ذلك ليس لنا وانما هو للخليفة ويرغبون في استدعاء جلال الدولة لتجتمع الكلمة ويسكن الهرج ويسألون أن يستخلف فأجابهم الخليفة القادر وبعث إلى جلال الدولة فسار من البصرة فبعث الخليفة القاضى أبا جعفر السمنانى لتلقيه ويستخلفه لنفسه فسار ودخل بغداد سنة ثمان عشرة وركب الخليفة لتلقيه ثم سار إلى مشهد الكاظم ورجع ودخل دار الملك وأمر بضرب النوب الخمس فراسله القادر في قطعها فقطعها غصبا ثم أذن له في اعادتها
وبعث جلال الدولة مؤيد الملك أبا على الرجحى إلى الاثير عنبر الخادم عند قرواش بالتأنيس والمحبة والعذر عن فعل الجند * (أخبار ابن كاكويه صاحب اصفهان مع الاكراد ومع الاصبهبد) * كان علاء الدولة بن كاكويه قد استعمل أبا جعفر عليا ابن عمه على نيسابور خوست ونواحيها وضم إليه الاكراد الجودرقان ومقدهم أبو الفرج البابونى فجرت بين أبى جعفر وأبى الفرج البابونى مشاجرة وترافعا إليه فأصلح بينهما علاء الدولة وأعادهما ثم قتل أبو جعفر أبا الفرج فانتقض الجودرقان وعظم فسادهم فبعث علاء الدولة عسكرا وأقاموا أربعة أيام ثم فقدوا الميرة وجاء علاء الدولة وأعطاهم المال فافترقوا واتبعهم وجاء إليه بعض الجودرقان وانتهى في اتباعهم إلى وفد وقاتلوه عندها فهزمهم وقتل ابني ولكين في المعركة ونجا هو في الفل إلى جرجان وأسر الاصبهبد وابنان له ووزيره وهلك في الاسر منتصف سنة تسع عشرة وتحصن على بن عمران بقلعة كنكور فحاصره بهاء الدولة وصار ولكين إلى صهره منوجهر قابوس وأطمعه في الدخسن وكان ابنه صهر علاء الدولة على ابنته وأقطعه مدينة قم فعصى عليه وبعث إلى أبيه ولكين فسار بعساكره وعساكر منوجهر ونازلوا مجد الدولة بن بويه بالرى وجرت بينهم وقائع فصالح علاء الدولة على بن عرمان ليسير إليهم فارتحلوا عن الرى وجاء علاء الدولة إليها وأرسل إلى منوجهر يونجه ويتهدده فسار منوجهر وتحصن بكنكور وقتل الذين قتلوا أبا جعفر ابن عمه وقبل الشرط وخرج إلى علاء الدولة فأقطعه الدينور عوضا عن كنكور وأرسل منوجهر إلى علاء الدولة في الصلح فصالحه * (دخول خفاجة في طاعة أبى كليجار) * كان هؤلاء خفاجة وهم من بنى عمرو بن عقيل موطنين بنواحي العراق ما بين بغداد(4/475)
والكوفة وواسط والبصرة وأميرهم بهذه العصور منيع بن حسان وكانت بينه وبين
صاحب الموصل منافسات جرتها المناهضة والجوار فترددت الرسل بين السلم والحرب وسار منيع بن حسان سنة سبع عشرة إلى الجامعين من أعمال دبيس فنهبها وسار دبيس في طلبه ففارق الكوفة وقصد الانبار من أعمال قرواش فحاصرها أياما ثم افتتحها وأحرقها وجاء قرواش لمدافعته ومعه عريب بن معن فلم يجدوه فمضوا إلى القصر فخالفهم منيع إلى الانبار فعاث فيها ثانية فسار قرواش إلى الجامعين واستنجد دبيس بن صدقة فسار معه في بنى أسد ثم خاموا عن لقاء منيع فافترقوا ورجع قرواش إلى الانبار فأصلحها ورم أسوارها وكان دبيس وقرواش في طاعة جلال الدولة فسار منيع ابن حسان إلى أبى كليجار بالاهواز فأطاعه وخلع عليه ورجع إلى بلده يخطب له بها * (شغب الاتراك على جلال الدولة) * ولما استقل جلال الدولة بملك بغداد وكثر جنده من الاتراك واتسعت أرزاقهم من الديوان وكان الوزير أبو على بن ماكولا فطالبوه بأرزاقهم فعجز عنها وأخرج جلال الدولة صياغات وباعها وفرقها في الجند ثم ثاروا عليه وطالبوه بأرزاقهم وحصروه في داره حتى فقد القوت والماء وسأل الانزال إلى البصرة وخرج بأهله ليركب السفن إلى البصرة وقد ضرب سرادقا على طريقهم ما بين داره والسفن فقصد الاتراك السرادق فامتعض جلال الدولة لحريمه ثم نادى في الناس وخرج الجند ونادوا بشعاره ثم شغبوا عليه بعد أيام قلائل في طلب أرزاقهم واضطر جلال الدولة إلى بيع ملبوسه وفرشه وخيامه وفرق أنمانها فيهم وعزل جلال الدولة وزيره أبا على واستوزر أبا طاهر ثم عزله بعد أربعين يوما وولى سعيد بن عبد الرحيم وذلك سنة تسع عشرة * (استيلاء أبى كليجار على البصرة ثم على كرمان) * ولما أصعد جلال الدولة إلى بغداد استخلف على البصرة ابنه الملك العزيز أبا منصور وكان بين الاتراك وبين الديلم من الفتنة ما ذكرناه فتجددت بينهم الفتنة فغلب الاتراك وأخرجوا الديلم إلى الابلة مع بختيار بن على فسار إليهم الملك العزيز ليرجعهم فحاربوه
ونادوا بشعار أبى كليجار بن سلطان الدولة وهو بالاهواز فعاد منهزما ونهب الديلم الابلة ونهب الاتراك البصرة وبلغ الخبر إلى أبى كليجار فبعث من الاهواز عسكرا إلى بختيار والبصرة والديلم فقاتلوا الملك العزيز وأخرجوه فلحق بواسط وملكوا البصرة ونهبوا أسواقها سنة تسع عشرة وهم جلال الدولة بالمسير إليهم وطلب المال للجند وشغل بمصادرة أرباب الاموال وبلغ خبر استيلاء أبى كليجار على البصرة إلى كرمان وكان بها عمه قوام الدولة أبو الفوارس وقد تجهز لقصد بلاد فارس فأدركه أجله فمات فنادى(4/476)
أصحابه بشعار أبى كليجار واستدعوه فسار ملك بلاد كرمان وكان أبو الفوارس سيئ السيرة في رعيته وأصحابه * (قيام بنى دبيس بدعوة أبى كليجار) * كانت جزيرة بنى دبيس بنواحي خورستان لطراد بن دبيس وغلب عليه فيها منصور وخطب فيها لابي كليجار ومات طراد فسار ابنه على واستنجد جلال الدولة عليه فأمده بعسكر من الاتراك وسار عجلا واتفق أن أبا صالح كوكين هرب من جلال الدولة إلى أبى كليجار أراد أن يفتتح طاعته باعتراض أصحاب جلال الدولة فسار إلى منصور بالجزيرة وخرجوا لقتال على بن طراد ولقوه بمبرود فهزموه وقتلوه واستقر منصور بالجزيرة على طاعة أبى كليجار * (استيلاء أبى كليجار على واسط ثم انهزامه وعودها جلال الدولة) * ثم ان نور الدولة دبيس على صاحب حلب والنيل خطب لابي كليجار في أعماله لما بلغه أن ابن عمه المقلد بن الحسن ومنيع بن حسان أمير خفاجة سارا مع عساكر بغداد إليه فخطب هو لابي كليجار واستدعاه فسار من الاهواز إلى واسط وقد كان لحق بها الملك العزيز بن جلال الدولة ومعه جماعة من الاتراك فلما وصل أبو كليجار فارقها الملك العزيز إلى النعمانية واستولى أبو كليجار على واسط ووفد عليه دبيس وبعث إلى قرواش صاحب الموصل والاثير عنبر عنده وأمرهما أن ينحدرا
إلى العراق فانحدرا ومات الاثير عنبر بالكحيل ورجع قرواش وجمع جلال الدولة العساكر واستنجد أبا الشوك وغيره وسار إلى واسط وضاقت عليه الامور لقلة المال وأشار عليه أصحابه بمخالفة أبى كليجار إلى الاهواز لاخذ أمواله وأشار أصحاب أبى كليجار بمخالفة جلال الدولة إلى العراق وبينما هم في ذلك جاءهم الخبر من أبى الشوك بمسير عساكر محمود بن سبكتكين إلى العراق ويشير باجماع الكلمة وبعث أبو كليجار بكتابه إلى جلال الدولة فلم يعرج عليه وسار إلى الاهواز ونهبها وأخذ من دار الامارة خاصة مائتي ألف دينار سوى أموال الناس وأخذت والدة أبى كليجار وبناته وعياله وحملن إلى بغداد وسار جلال الدولة لاعتراضه وتخلف عنه دبيس بن مزيد خشية على أحيائه من خفاجة والتقى أبو كليجار وجلال الدولة في ربيع سنة احدى وعشرين فاقتتلوا ثلاثا ثم انهزم أبو كليجار وقتل من أصحابه نحو من ألفين ورجع إلى الاهواز وأتاه العادل بن ماقته بمال أنفقه في جنده ورجع جلال الدولة إلى واسط واستولى عليها وأنزل ابنه العزيز بها ورجع * (استيلاء محمود بن سبكتكين صاحب خراسان على بلاد الرى والجيل وأصفهان) *(4/477)
كان مجد الدولة بن فخر الدولة متشاغلا بالنبا والعلم وتدبير ملكه لامه وتوفيت سنة تسع عشرة فاختلفت أحواله وطمع فيه جنده فكتب إلى محمود بن سبكتكين يشكو إليه فبعث إليه عسكرا مع حاجبه وأمره بالقبض عليه فركب مجد الدولة لتلقيه فقبض عليه وعلى ابنه أبى دلف وطير بالخبر إلى محمود فجاء إلى الرى ودخلها في ربيع الاخر سنة عشرين وأخذ منها مال مجد الدولة ألف ألف دينار ومن الجواهر قيمة خمسمائة ألف دينار وستة آلاف ثوب ومن الحرير والالات ما لا يحصى وبعث بمجد الدولة إلى إلى خراسان فاعتقل بها ثم ملك قزوين وقلاعها ومدينة ساوة وآوة ويافت وقبض على صاحبها ولكين وبعث به إلى خراسان وقتل من الباطنية خلقا ونفى المعتزلة إلى خراسان
وأحرق كتب الفلسفة والاعتزال والنجامة وملك حدود أرمينية وخطب له علاء الدولة ابن كاكويه باصفهان واستخلف على الرى ابنه مسعودا فافتتح زنجان وأبهر ثم ملك اصفهان من يد علاء الدولة واستخلف عليها بعض أصحابه فثار به أهل اصفهان وقتلوه فسار إليها وفتك فيهم يقال قتل منهم خمسة آلاف قتيل وعاد إلى الرى فأقام بها * (اخبار الغز بالرى واصفهان وأعمالها وعودهما إلى علاء الدولة) * قد تقدم لنا في غير موضع بداية هؤلاء الغزو أنهم كانوا بمفازة بخارا وكانوا فريقين أصحاب ارسلان بن سلجوق وأصحاب بنى أخيه ميكائيل بن سلجوق وأن يمين الدولة محمود ابن سبكتكين لما ملك بخارا وما وراء النهر قبض على ارسلان بن سلجوق وسجنه بالهند ونهب أحياءه ثم نهض إلى خراسان ولحق بعضهم باصفهان وبعث محمود في طلبهم إلى علاء الدولة بن كاكويه فحاول على أخذهم وشعروا ففروا إلى نواحى خراسان وكثر عيثهم فأوقع بهم تاش الفوارس قائد مسعود بن سبكتكين فساروا إلى الرى قاصدين اذربيجان وكانوا يسمون العراقية وكان أمراء هذه الطائفة كوكتاش ويرفا قزل ويعمرو ناصفلى فلما انتهوا إلى الدامغان خرج إليهم عسكرها فلم يطيقواد فاعهم فتحصنوا بالجبل ودخل الغز البلد ونهبوه ثم فعلوا في سمنان مثل ذلك ثم في جوار الرى وفى اسحاق اباذ وما جاورها من القرى ثم ساروا إلى مسكويه من أعمال الرى فنهبوها وكان تاش الفوارس قائد بنى سبكتكين بخراسان ومعه أبو سهل الحمدونى من قوادهم فاستنجدوا مسعود بن سبكتكين وصاحب جرجان وطبرستان فأنجداهم وقاتلا الغز فانهزما وقتل تاش الفوارس وسار إلى الرى أبو سهل الحمدونى فهزموه وتحصن بقلعة طبرك ودخل الغز الرى ونهبوه ثم قاتلوه ثانيا فاسر منهم ابن أخت لعمر من قوادهم فبذلوا فيه ثلاثين ألف دينار واعادة ما أخذوا من عسكر تاش من المال والاسرى فأبى أبو سهل من اطلاقه وخرج الغز من الرى ووصل عسكر جرجان وقاتلوا الغز عندما(4/478)
قاربوا الرى وأسروا قائدهم وألفين معه وساروا إلى اذربيجان وذلك سنة سبع وعشرين ولما سار الغز إلى اذربيجان سار علاء الدولة إلى الرى فدخلها بدعوة مسعود ابن سبكتكين وأرسل إلى أبى سهل الحمدونى أن يضمنه على البلد مالا فأبى فأرسل علاء الدولة يستدعى الغز فرجع إليه بعضهم وأقام عنده ثم استوحشوا منه وعادوا إلى العيث بنواحي البلاد فكرر علاء الدولة مراسلة أبى سهل في الضمان ليكون في طاعة مسعود بن سبكتكين وكان أبو سهل بطبرستان فأجابه وسار إلى نيسابور وملك علاء الدولة الرى ثم اجتمع أهل اذربيجان لمدافعة الغز الذين طرقوا بلادهم وانتقموا من الغز فافترقوا فسارت طائفة إلى الرى ومقدمهم يرقا وطائفة إلى همذان ومقدمهم منصور وكوكتاش فحاصروا بها أبا كليجار بن علاء الدولة وأنجده أهل البلاد على دفاعهم وطال حصارهم لهمذان حتى صالحهم أبو كليجار وصاهر كوكتاش وأما الذين قصدوا الرى فحاصروا بها علاء الدولة بن كاكويه وانضم إليهم فنا خسرو بن مجد الدولة وكامد صاحب ساوة فطال حصارهم وفارق البلد في رجب ليلا إلى اصفهان وأجفل أهل البلد وتمزقوا ودخلها الغز من الليل واستباحوها واتبع علاء الدولة جماعة منهم فلم يدركوه فعدلوا إلى كرج ونهبوها ومضى ناصفلى منهم إلى قزوين فقاتلهم حتى صالحوه على سبعة آلاف دينار وصاروا إلى طاعته ولما ملكوا الرى رجعوا إلى حصار همذان ففارقها أبو كليجار وصحبه الوجوه والاعيان وتحصنوا بكنكون وملك الغز همذان ومقدمهم كوكتاش ومنصور ومعهم فنا خسرو بن مجد الدولة في عدد من الديلم فاستباحوها وبلغت سراياهم إلى استراباذ وقرى الدينور وقاتلهم صاحبها أبو الفتح ابن ابى الشوك فهزمهم وأسر منهم حتى صالحوه على اطلاقهم فأطلقهم ثم راسلوا أبا كليجار بن علاء الدولة في المتقدم عليهم يدبر ملكهم بهمذان فلما جاءهم وثبوا به فنهبوا ماله وانهزم وخرج علاء الدولة من اصفهان فوقع في طريقه بطائفة من الغز فظفر بهم ورجع إلى اصفهان منصورا ولما أجاز الفريق الثاني من
الغز السلجوقية من وراء النهر وهم أصحابه طغرلبك وداود وجغربيك وبيقوا واخوهم ابراهيم نيال في العسكر لاتباع هؤلاء الذين بالرى وهمذان ساروا إلى اذربيجان وديار بكر والموصل وافترقوا عليها وفعلوا فيها الافاعيل كما تقدم في أخبار قرواش صاحب الموصل وابن مروان صاحب ديار بكر وكما يأتي في أخبار ابن وهشودان [ استيلاء مسعود بن سبكتكين على همذان واصفهان والرى ثم عودها إلى علاء الدولة بن كاكويه ](4/479)
ولما فارق الغز همذان بعث إليها مسعود بن سبكتكين عسكرا فملكوها وسار هو إلى أصفهان فهرب عنها علاء الدولة واستولى ما كان له بها من الذخائر ولحق علاء الدولة إلى أبى كليجار بتستر يستنجده عقب انهزامه أمام جلال الدولة سنة احدى وعشرين كما قدمنا فوعده بالنصر إذا اصطلح مع عمه جلال الدولة ثم توفى محمود بن سبكتكين ورجع مسعود من خراسان وكان فنا خسرو بن مجد الدولة معتصما بعمران فطمع في الرى وجمع جمعا من الديلم والاكراد وقصدها فهزمه نائب مسعود بها وقتل جماعة من عسكره وعاد إلى حصنه وعاد علاء الدولة من عند أبى كليجار وقد كان خائفا من مسعود أن يسير إليهم ولا طاقة لهم به فجاء بعد موت محمود ومهلك أصفهان وهمذان والرى وتجاوز إلى أعمال أنوشروان وسروا إليه بالرى واشتد القتال وغلبوه على الرى ونهبوها ونجا علاء الدولة جريحا إلى قلعة فرد خان على خمسة عشر فرسخا من همذان فاعتصم بها وخطب بالرى وأعمال أنوشروان لمسعود بن سبكتكين وولى عليها تاش الفوارس فأساء السيرة فولى علاء الدولة * (استيلاء جلال الدولة على البصرة ثم عودها لابي كليجار) * قد كنا قدمنا أن جلال الدولة خالف أبا كليجار إلى الاهواز واتبعه أبو كليجار من واسط
فهزمه جلال الدولة ورجع إلى واسط فارتجعها وبعث أبو منصور بختيار بن على نائبا لابي كليجار فبعث أربعمائة سفينة للقائهم مع عبد الله السرانى الركازى صاحب البطيحة فانهزموا وعزم بختيار على الهرب ثم ثبت وأعاد السفن لقتالهم والعسكر في البر وجاء الوزير أبو على لحربهم في سفينة فلما وصل نهر أبى الخصيب وبه عساكر بختيار رجع مهزوما وتبعه أصحاب بختيار ثم ركب بختيار بنفسه وأخذوا سفن أبى على كلها وأخذوه أسيرا وبعثه بختيار إلى أبى كليجار فقتله بعض غلمانه اطلع له على ريبة وخشيه فقتله وكان قد أحدث في ولايته رسوما جائرة من المكوس ويعين فيها ولما بلغ خبره إلى جلال الدولة استوزر مكانه ابن عمه أبا سعيد عبد الرحيم وبعث الاجناد لنصرة الذين كانوا معه فملكوا البصرة في شعبان سنة احدى وعشرين ولحق بختيار بالابلة في عساكره واستمد أبا كليجار فبعث إليه العساكر مع وزيره ذى السعادات أبى الفرج بن نسانجس فقاتلوا عساكر جلال الدولة بالبصرة فانهزم بختيار اولا وأخذ كثير من سفنه ثم اختلف أصحاب جلال الدولة بالبصرة وتنازعوا وافترقوا واستأمن بعضهم إلى ذى السعادات فركبوا إلى البصرة وملكوها وعادت لابي كليجار كما كانت * (وفاة القادر ونصب القائم للخلافة) *(4/480)
وفى ذى الحجة سنة ثنتين وعشرين واربعمائة توفى الخليفة القادر لاحدى وأربعين سنة من خلافته وكان مهيبا عند الديلم والاتراك ولما مات نصب جلال الدولة للخلافة ابنه القائم بأمر الله أبا جعفر عبد الله بعد أبيه ولقبه القائم وبعث القاضى أبا الحسن الماوردى إلى ابى كاليجار في الطاعة فبايع وخطب له في بلاده وأرسل إليه بهدايا جليلة وأموال ووقعت الفتنة ببغداد في تلك الايام بين السنة والشيعة ونهب دور اليهود واحرقت من بغداد أسواق وقتل بعض جباة المكس وثار العيارون ثم هم الجند بالوثوب
على جلال الدولة وقطع خطبته ففرق فيهم الاموال فسكتوا ثم عاودوا فلزم جلال الدولة الا صاغر فشكا من قواده الاكابر وهما بارسطعان وبلدوك وانهم استأثرا بالاموال فاستوحشا لذلك وطالبهما الغلمان بعلوفتهم وجراياتهم فسارا إلى المدائن وندم الاتراك على ذلك وبعث جلال الدولة مؤيد الملك الرجحى فاسترضاهما ورجعا وزاد شغب الجند عليه ونهبوا دوابه وفرشه وركب إلى دار الخليفة متغضبا من ذلك وهو سكران فلاطفه ورده إلى بيته ثم زاد شغبهم وطالبوه في الدواب لركوبهم فضجر وأطلق ما كان في اسطبله من الدواب وكانت خمس عشرة وتركها عائرة وصرف حواشيه وأتباعه لانقطاع خزائنه فعوتب بتلك الفتنة وعزل وزيره عميد الملك ووزر بعده أبو الفتح محمد ابن الفضل أياما ولم يستقم أمره فعزله ووزر بعده أبو اسحق ابراهيم بن أبى الحسين السهيلي وزير مأمون صاحب خوارزم وهرب لخمسة وعشرين يوما [ وثوب الاتراك ببغداد بجلال الدولة بدعوة أبى كاليجار ثم رجوعهم إلى جلال الدولة ] ثم تجددت الفتنة بين الاتراك وجلال الدولة سنة ثلاث وعشرين في ربيع الاول فأغلق بابه ونهب الاتراك داره وسلبوا الكتاب وأصحاب الدواوين وهرب الوزير أبو اسحق السهيلي إلى حى غريب بن محمد بن معن وخرج جلال الدولة إلى عكبرا وخطبوا لابي كاليجار واستدعوه من الاهواز فمنعه العادل بن ماقته إلى أن يحضره بين قوادهم فعادوا إلى جلال الدولة وتطارحوا عليه فعاد لثلاث وأربعين يوما من مغيبه واستوزر أبا القاسم بن ماكولا ثم عزله لفتنة الاتراك به واطلاق بعض المصادرين من يده * (استيلاء جلال الدولة على البصرة ثانيا ثم عودها لابي كاليجار) * ثم توفى أبو منصور بختيار بن على نائب أبى كاليجار بالبصرة منتصف أربع وعشرين فقام مكانه صهره أبو القاسم لاضطلاعه وكفايته واستبد بها ونكر أبو كاليجار استبداده وبعث بعزله فامتنع وخطب لجلال الدولة وبعث لابنه يستدعيه من واسط فجاء وملك
البصرة وطرد عساكر أبى كاليجار ثم فسد ما بين أبى القاسم والعزيز واستجار منه بعض(4/481)
الديلم بالعزيز وشكوا منه فأخرجه العزيز عن البصرة وأقام بالابلة ثم عاد إلى محاربة العزيز حتى أخرجه عن البصرة ورجع أبو القاسم إلى طاعة أبى كاليجار * (اخراج جلال الدولة من دار الملك ثم عوده) * وفى رمضان من سنة أربع وعشرين استقدم جلال الدولة الوزير أبا القاسم فاستوحش الجند واتهموه بالتعرض لاموالهم فهجموا عليه في دار الملك وأخرجوه إلى مسجد في داره فاحتمل جلال الدولة الوزير أبا القاسم وانتقل إلى الكرخ وأرسل إليه الجند بأن ينحدر عنهم إلى واسط على رسمه ويقيم لامارتهم بعض ولده الاصاغر فأجاب وبعث إليهم واستمالهم فرجعوا عن ذلك واستردوه إلى داره وحلفوا له على المناصحة واستوزر عميد الدولة أبا سعد سنة خمس وعشرين عوضا من ابن ماكولا فاستوحش ابن ماكولا وسار إلى عكبرا فرده إلى وزارته وعزل أبا سعد فبقى أياما ثم فارقها إلى أوانا فأعاد أبا سعد عبد الرحيم إلى وزارته ثم خرج أبو سعد هاربا من الوزارة ولحق بأبى الشوك ووزر بعده أبو القاسم فكثرت مطالبات الجند له وهرب لشهرين فحمل إلى دار الخلافة مكشوف الرأس وأعيد أبو سعد إلى الوزارة وعظم فساد العيارين ببغداد وعجز عنهم النواب فولى جلال الدولة البساسيرى من قواد الديلم حماية الجانب الغربي ببغداد فحسن فيه غناؤه وانحل أمر الخلافة والسلطنة ببغداد حتى أغار الاكراد والجند على بستان الخليفة ونهبوا ثمرته وطلب أولئك الجند جلال الدولة فعجز عن الانتصاف منهم أو اسلامهم للخليفة فتقدم الخليفة إلى القضاة والشهود والفقهاء بتعطيل رسومهم فوجم جلال الدولة وحمل أولئك الجند بعد غيبتهم أياما إلى دار الخليفة فاعترضهم أصحابهم وأطلقوهم وعجز النواب عن اقامة الاحكام في العيارين ببغداد وانتشر العرب في ضواحي بغداد وعاثوا فيها حتى سلبوا النساء
في المقابر عند جامع المنصور وشغب الجند سنة سبع وعشرين بجلال الدولة فخرج متنكرا في سيما بدوى إلى دار المرتضى بالكرخ ولحق منها برافع بن الحسين بن معن بتكريت ونهب الاتراك داره وخربوها ثم أصلح القائم أمر الجند وأعاده * (فتنة باد سطفان ومقتله) * قد قدمنا ذكرباد سطفان هذا وانه من أكابر قواد الديلم ويلقب حاجب الحجاب وكان جلال الدولة ينسبه لفساد الاتراك والاتراك ينسبونه إلى احجاز الاموال فاستوحش واستجار بالخليفة منتصف سبع وعشرين فأجاره وكان يراسل أبا كاليجار ويستدعيه فبعث أبو كاليجار عسكرا إلى واسط وثار معهم العسكر الذين بها وأخرجوا العزيز بن جلال الدولة إلى بغداد وكشف باد سطفان القناع في الدعاء لابي كاليجار وحمل الخطباء(4/482)
على الخطبة لامتناع الخليفة منها وجرت بينه وبين جلال الدولة حرب وسار إلى الانبار وفارقه قرواش إلى الموصل وقبض بادسطفان على ابن فسا نجس فعاد منصور بن الحسين إلى بلده ثم جاء الخبر بأن أبا كاليجار سار إلى فارس فانتقض عن بادسطفان الديلم الذين كانوا معه وترك ماله وخدمه وما معه بدار الخليفة القائم وانحدر إلى واسط وعاد جلال الدولة إلى بغداد وبعث البساسيرى وبنى خفاجة في طلب بادسطفان وسار هو ودبيس في اتباعهم فلحقوه بالخيزرانية فقاتلوه وهزموه وجاؤا به أسيرا إلى جلال الدولة ببغداد وطلب من القائم أن يخطب له ملك الملوك فوقف عن ذلك الا أن يكون بفتوى الفقهاء فأفتاه القضاة أبو الطيب الطبري وأبو عبد الله الصيمري وأبو القاسم الكرخي بالجواز ومنع أبو الحسن الماوردى وجرت بينهم مناظرات حتى رجحت فتواهم وخطب له بملك الملوك وكان الماوردى من أخص الناس بجلال الدولة فجعل وانقطع عنه ثلاثة أشهر ثم استدعاه وشكر له ايثار الحق وأعاده إلى مقامه * (مصالحه جلال الدولة وأبى كاليجار) *
ثم ترددت الرسل بين جلال الدولة وأبى كاليجار ابن أخيه وتولى ذلك القاضى أبو الحسن الماوردى وأبو عبد الله المردوسى فانعقد بينهما الصلح والصهر لابي منصور بن أبى كاليجار على ابنه جلال الدولة وأرسل القائم إلى أبى كاليجار بالخلع النفيسة * (عزل الظهير أبى القاسم عن البصرة واستقلال أبى كاليجار بها) * قد قدمنا حال الظهير أبى القاسم في ملك البصرة بعد صهره أبى منصور بختيار وانه عصى على أبى كاليجار بدعوة جلال الدولة ثم عاد إلى طاعته واستبد بالبصرة وكان ابن أبى القاسم بن مكرم صاحب عمان يكاتب أبا الجيش وأبا كاليجار بزيادة ثلاثين ألف دينار في ضمان البصرة فأجيب إلى ذلك وجهز له أبو كاليجار العساكر مع العادل أبى منصور ابن ماقته وجاء أبا الجيش بعساكره في البحر من عمان وحاصروا البصرة برا وبحرا وملكوها وقبض على الظهير واستصفيت أمواله وصودر على تسعيني ألفا فحملها في عشرة أيام ثم على مائة ألف وعشرة آلاف فحملها كذلك ووصل الملك أبو كاليجار إلى البصرة سنة احدى وثلاثين وأنزل بها ابنه عز الملوك والامير أبا الفرج فسا نجس وعاد إلى الاهواز ومعه الظهير أبو القاسم * (أخبار عمان وابن مكرم) * قد قدمنا خبر أبى محمد بن مكرم وانه كان مدبر دولة بهاء الدولة وقبله ابنه أبو الفوارس وان ابنه أبا القاسم كان أميرا بعمان منذ سنة خمس عشرة ثم توفى سنة احدى وثلاثين(4/483)
وخلف بنين أربعة وهم أبو الجيش والمهذب وأبو محمد وآخر صغير لم يذكر اسمه وكان على ابن هطال صاحب جيش أبى القاسم فأقره أبو الجيش وبالغ في تعظيمه حتى كان يقوم له إذا دخل عليه في مجلسه فنكر ذلك المهذب على أخيه وحقدها له ابن هطال فعمل دعوة واستأذن أبا الجيش في احضار أخيه المهذب لها وأحضره وبالغ في خدمته حتى إذا طعموا وشربوا وانتشوا فاوضه ابن هطال في التوثب بأخيه أبى الجيش واستكتبه
بما يوليه من المراتب ويعطيه من الاقطاع على مناصحته في ذلك ثم وقف أبا الجيش على خطه ولم يوافقه وبسبب ذلك كان نكيره عليك في شأني فقبض أبو الجيش على أخيه واعتقله ثم خنقه ثم توفى أبو الجيش بعد ذلك بيسير وهم ابن هطال بتولية أخيه محمد فأخفته أمه حذرا عليه ورفعت الامر إلى ابن هطال فولى عمان وأساء السيرة وصادر التجار وبلغ ذلك إلى أبى كاليجار فأمر العادل أبا منصور بن ماقته أن يكاتب المرتضى نائب أبى القاسم بن مكرم بجبال عمان ويأمره بقصد ابن هطال في عمان وبعث إليه العساكر من البصرة فسار إلى عمان وحاصرها واستولى على أكثر أعمالها ثم دس إلى خادم كان لابن مكرم وصار لابن هطال وأمره باغتياله فاغتاله وقتله ومات العادل أبو منصور بهرام بن ماقته وزير أبى كاليجار سنة ثلاث وثلاثين ووزره بعده مهذب الدولة وبعث المدافعتهم عنها وكانوا يحاصرون جيرفت فأجفلوا عنها ولم يزل في اتباعهم حتى دخلوا المفازة ورجع مهذب الدولة إلى كرمان فأصلح فسادهم * (وفاة جلال الدولة سلطان بغداد وولاية أبى كاليجار) * ثم توفى جلال الدولة ببغداد في شعبان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة لسبع عشره سنة من ملكه وقد كان بلغ في الضعف وشغب الجند عليه واستبداد الامراء والنواب فوق الغاية ولما توفى اتخذل الوزير كمال الملك عبد الرحيم وأصحاب السلطان الاكابر إلى حريم دار الخلافة خوفا من الاتراك والعامة واجتمع قواد العسكر فمنعوهم من النهب وكان ابنه الاكبر الملك العزيز أبو منصور بواسط فكاتبه الجند بالطاعة وشرطوا عليه تعجيل حق البيعة فأبطأ عنهم وبادر أبو كاليجار صاحب الاهواز فكاتبهم ورغبهم في المال وتعجيله فعدلوا عن الملك العزيز إليه وأصعد بعد ذلك من الاهواز فلما انتهى إلى النعمانية غدر به أصحابه فرجع إلى واسط وخطب الجند ببغداد لابي كاليجار وسار العزيز إلى دبيس بن مزيد ثم إلى قرواش بن المقلد بالموصل ثم فارقه إلى أبى الشوك لصهر بينهما فغدر به وألزمه على طلاق بنته فسار إلى ابراهيم نيال أخى طغرلبك ثم قدم
بغداد مختفيا يروم الثورة بقتل بعض اصحابه ففر ولحق بنصير الدولة بن مروان فتوفى عنده بميافارقين وقدم أبو كاليجار بغداد في صفر سنة ست وثلاثين وأربعمائة وخطب له(4/484)
بها واستقر سلطانه فيها بعد أن بعث بأموال فرقت على الجند ببغداد وبعشرة آلاف دينار وهدايا كثيرة للخليفة وخطب له فيها أبو الشوك ودبيس بن مزيد كل بأعماله ولقيه الخليفة بمحيى الدولة وجاء في قل من عساكره خوفا أن يستريب به الاتراك فدخل بغداد في شهر رمضان ومعه وزيره أبو السعادات أبو الفرج محمد بن جعفر بن فسا نجس واستعفى القائم من الركوب للقائه وتقدم باخراج عميه من بغداد فمضيا إلى تكريت وخلع على أصحاب الجيوش وهم البساسيرى والسارى والهمام أبو اللقاء وثبت قدمه في الملك * (أخبار ابن كاكويه مع عساكر مسعود وولايته على اصفهان ثم ارتجاعه منها) * قد تقدم انهزم علاء الدولة بن كاكويه من الرى ومسيره جريحا ومعه فرهاد بن مرداويچ جاءه إلى قلعة فرد خان مددا وساروا منها إلى يزدجرد واتبعهم على بن عمران قائد تاش قرواش وافترقوا من يزدجرد فمضى أبو جعفر إلى نيسابور عند الاكراد الجردقان وصعد فرهاد إلى قلعة سمكيس واستمال الاكراد الذين مع على بن عمران وحملهم على الفتك به فشعر وسار إلى همذان واتبعه فرهاد والاكراد فحصروه في قرية بطريقه فامتنع عليهم بكثرة الامطار ورجعوا عنه وبعث على بن عمران إلى الامير تاش يستمده وعلاء الدولة إلى ابن أخيه بأصفهان يستمد المال والسلاح فاعترضه على بن عمران من همذان وكبسه بجردقان وغنم ما معه وأسره وخالفه علاء الدولة وأقره على أصفهان على ضمان معلوم وكذلك قابوس في جرجان وطبرستان وولى على الرى أبا سهل الحمدونى وأمر تاش قرواش صاحب خراسان بطلب شهربوس بن ولكين صاحب ساوة وكان يفسد السابلة ويعترض الحاج وسار إلى الرى وحاصرها
بعد موت محمود فبعث تاش العساكر في أثره وحاصروه ببعض قلاع قم وأخذوه أسيرا فأمر بصلبه على ساوة ثم اجتمع علاء الدولة بن كاكويه وفرهاد بن مرداويچ على قتال أبى سهل الحمدونى وقد زحف في العساكر من خراسان فقاتلاه وقتل فرهاد وانهزم علاء الدولة إلى جبل بين اصفهان وجرجان فاعتصم به ثم لحق بأيدج وهى للملك أبى كاليجار واستولى أبو سهل على اصفهان ونهب خزائن علاء الدولة وحملت كتبه إلى غزنة إلى أن أحرقها الحسين بن الحسين الغورى وذلك سنة خمس وعشرين ثم سار علاء الدولة سنة سبع وعشرين وحاصر أبا سهل في اصفهان وغدرته الاتراك فخرج إلى يزدجرد ومنها إلى الطرم فلم يقبله ابن السلار خوفا من ابن سبكتكين فسار عنه ثم غلبه طغرلبك على خراسان سنة تسع وعشرين وارتجعها مسعود سنة ثلاثين كما ذكرناه ونذكره * (وفاة علاء الدولة أبى جعفر بن كاكويه) *(4/485)
ثم توفى علاء الدولة شهربان بن كاكويه في محرم سنة ثلاث وثلاثين وقد كان عاد إلى اصفهان عند شغل بن سبكتكين بفتنة طغرلبك فملكها ولما توفى قام مكانه باصفهان ابنه الاكبر ظهير الدين أبو منصور قرامرد وسار ولده الاخر أبو كاليجار كرساسف إلى نهاوند فملكها وضبط البلد وأعمال الجيل وبعث أبو منصور قرامرد إلى مستحفظ قلعة نظير التى كان فيها ذخائر أبيه وأمواله فامتنع بها وعصى وسار أبو منصور لحصاره ومعه أخوه أبو حرب فلحق أبو حرب بالمستحفظ ورجع أبو منصور إلى اصفهان وبعث أبو حرب إلى السلجوقية بالرى يستنجدهم فسار طائفة منهم إلى جرجان فنهبوها وسلموها لابي حرب فسير أبو منصور العساكر وارتجعها فجمع أبو حرب فهزموه وحاصروا أبا حرب بالقلعة فأسرى من القلعة ولحق بالملك أبى كاليجار صاحب فارس واستنجده على أخيه أبى منصور فأنجده بالعساكر وحاصروا أبا منصور وأوقعوه عدة وقائع ثم اصطلحوا آخرا على مال يحمله أبو منصور إلى أبى كاليجار وعاد أبو حرب إلى قلعة نظير
واشتد الحصار عليه ثم صالح أخاه أبا منصور على أن يعطيه بعض ما في القلعة وتبقى له فاتفقا عل ذلك ثم سار ابراهيم نيال إلى الرى وطلب الموادعة من أبى منصور فلم يجبه فسا إلى همذان ويزدجرد فملكهما وسعى الحسن الكبافى اتفاقه مع أخيه أبى حرب فاتفقا وخطب أبو حرب لاخيه أبى منصور في بلاده وأقطعه أبو منصور همذان ثم ملك طغرلبك البلاد من يد ابن سبكتكين واستولى على خوارزم وجرجان وطبرستان وكان ابراهيم نيال عندما استولى طغرلبك على خراسان وهو أخوه لامه تقدم في عساكر السلجوقية إلى الرى فاستولى عليها ثم ملك يزدجرد ثم قصد همذان سنة أربع وثلاثين ففارقها صاحبها ابن علاء الدولة إلى نيسابور وجاء ابراهيم إلى همذان بطلب طاعتهم فشرطوا عليه استيلاءه على عساكر كرساسف فسار إليها وتحصن في سابور خواست وملك عليه البلاد وعاث في نواحيها وتحصن هو بالقلعة وعاد هو إلى الرى وقد صمم طغرلبك على قصدها فسار إليه وترك همذان ورجع كرساسف وملك طغرلبك الرى من يد ابراهيم وبعث إلى سجستان وأمر بعمارة ما خرب من الرى ووجد بدار الامارة مراكب ذهب مرصعة بالجواهر وبرنيتين من النحاس مملوأتين جواهر وذخائر مما سوى ذلك وأموالا كثيرة ثم ملك قلعة طبرك من يد مجد الدولة بن بويه وأقام عنده مكرما وملك قزوين فصالحه صاحبها بثمانين ألف دينار وصار في طاعته ثم بعث إلى كركتاش وموقا من الغز العراقية الذين تقدموا إلى الرى واستدعاهم من نواحى جرجان فارتابوا وشردوا خوفا منه ثم بعث إلى ملك الديلم يدعوه إلى الطاعة ويطلب منه المال فأجاب وحمل وبعث إلى سلار الطرم بمثل ذلك فأجاب وحمل مائتي ألف دينار(4/486)
وقرر عليه ضمانا معلوما ثم بعث السرايا إلى اصفهان وخرج من الرى في اتباعها فصانعه قرامرد بالمال فرجع عنه وسار إلى همذان فملكها وقد كان سار إليه كرساسف بن علاء الدولة وهو بالرى فأطاعه وسار معه إلى ابهر وزنجان فملكهما وأخذ منه همذان وتفرق
عنه أصحابه وطلب منه طغرلبك قلعة كشكور فأرسل إلى مستحفظها بنزولهم عنها فامتنعوا واتبعه طغرلبك إلى الرى واستخلف على همذان ناصر الدين العلوى وكان كرساسف قد قبض عليه فأخرجه طغرلبك وجعله رديفا للذى ولاه البلد من السلجوقية ثم نزل كرساسف على كنكور سنة ست وثلاثين وجاء إلى همذان فملكها وطرد عنها عمال طغرلبك وخطب للملك أبى كاليجار فبعث طغرلبك أخاه ابراهيم نيال سنة سبع وثلاثين إلى همذان ولحق كرساسف بشهاب الدولة أبى الفوارس منصور بن الحسين صاحب جزيرة بنى دبيس وارتاع الناس بالعراق لوصول ابراهيم نيال إلى حلوان وبلغ الخبر إلى أبى كاليجار فأراد التجمع لابراهيم نيال فمنعه قلة الظهر وحدثت فتنة بين طغرلبك وأخيه ابراهيم نيال وأخذ الرى وبلاد الجيل من يده ثم سار إلى اصفهان فحاصرها في محرم سنة اثنين وأربعين وبعث السرايا فبلغت البيضاء وأقام يحاصرها حولا كاملا حتى جهدهم الحصار وعدموا الاقوات وحرقوا السقف لوقودهم حتى سقف الجامع ثم استأمنوا وخرجوا إليه وملك اصفهان سنة ثلاث وأربعين وأقطع صاحبها أبا منصور وأجناده في بلاد الجيل ونقل أمواله وسلاحه من الرى إليها وجعلها كرسيا لملكه وانقرضت دولة فخر الدولة بن بويه من الرى واصفهان وهمذان وبقى منهم بالعراق وفارس أبو كاليجار والبقاء لله وحده ولما رأى أبو كاليجار استيلاء طغرلبك على البلاد وأخذه الرى واصفهان وهمذان والجيل من قومه وازالة ملكهم راسله في الصهر والصلح بأن يزوجه ابنته وزوج داود أخو طغرلبك ابنته من أبى منصور بن أبى كاليجار وانعقد ذلك بينهما في منتصف تسع وثلاثين وكتب طغرلبك إلى أخيه ابراهيم نيال عن العراق وأعماله ابن سكرستان من الديلم وقرر عليه مالا فطاول في حمله ورافع فشكر له أبو كاليجار وانتزع من يده قلعة يزدشير وهى تعلقه ثم استمال أجناده فقتلهم بهرام واستوحش فسار إليه أبو كاليجار وانتهى إلى قصر مجامع من
خراسان فطرقه المرض وضعف عن الركوب فرجعوا به إلى مدينة خبايا وتوفى بها في جمادى الاولى سنة أربعين وأربعمائة لاربع سنين وثلاثة أشهر من ملكه العراق ولما توفى نهب الاتراك خزائنه وسلاحه ودوابه وانتقل ولده أبو منصور فلاستون إلى(4/487)
مخيم الوزير أبى منصور كانت منفرده عن العسكر فأقام عنده واختلف الاتراك والديلم وأراد الاتراك نهب الامير والوزير فمنعهم الديلم واختلفوا إلى شيراز فملكها الامير أبو منصور وامتنع الوزير بقلعة حزقه وبلغ وفادة أبى كاليجار إلى بغداد وبها ابنه أبو نصر فاستخلف الجند وأمر القائم بالخطبة على عادة قومه وسأل أن يلقب بالرحيم فمنع الخليفة من ذلك أدبار ولقبه به أصحابه واستقر بالعراق وخورستان والبصرة وكان بالبصرة أخوه أبو على فأقره عليها ثم بعث أخاه أبا سعد في العساكر في شوال من السنة إلى شيراز فملكها وخطبوا له بها وقبضوا على أخيه أبى منصور وأمه وجاؤا بهما إليه وكان الملك العزيز بن جلال الدولة عند ابراهيم نيال لحق به بعد مهلك أبيه فلما مات أبو كاليجار زحف إلى البصرة طامعا في ملكها فدافعه الجند الذين بها وبلغه استقامة الملك ببغداد للرحيم فأقطع وذهب إلى ابن مروان فهلك عنده كما مر قد تقدم لنا أن أبا منصور فلاستون بن أبى كاليجار سار إلى فارس بعد موت أبيه فملكها وانه بعث أخاه أبا سعيد بالعساكر فقبضوا عليه وعلى أمه ثم انطلق ولحق بقلعة اصطخر ببلاد فارس فسار الملك الرحيم من الاهواز في اتباعه سنة احدى وأربعين وأطاعه أهل شيراز وجندها ونزل قريبا منها ثم وقع الخلاف بين جند شيراز وبين جند بغداد وعادوا إلى العراق فعاد معهم الملك الرحيم لارتيابه بجند شيراز وبعث الجند والديلم جميعا ببلاد فارس إلى أخيه فلاستون ولما عاد استخلف العساكر وسار إلى ارجان عازما على قصد الاهواز وعاد الملك الرحيم للقائه من الاهواز في ذى القعدة من السنة واقتتلوا وانهزم الملك الرحيم وعاد إلى واسط منهزما
وسار بعض إلى الملك الرحيم يستجيشون به للرجوع إلى فارس فأرسل إلى بغداد واستنفر الجند وسار إلى الاهواز فبلغه طاعة أهل فارس وانهم منتظرون قدومه فأقام بالاهواز ينتظر عساكر بغداد ثم سار إلى عسكر مكرم فملكها سنة ثلاث وأربعين ثم اجتمع جمع من العرب والاكراد مقدمهم طراد بن منصور ومذكور بن نزار فقصدوا سرف فنهبوها ونهبوا درق وبعث الملك الرحيم بعساكره في محرم سنة ثلاث وأربعين فهزموا العرب والاكراد وقتل مطارد وأسر ابنه واسترد النهب وبلغ الخبر إلى الملك الرحيم وهو بعسكر مكرم فتقدم إلى قنطرة اربق ومعه دبيس بن مزيد والبساسيرى وغيرهما ثم سار هزار شب بن تنكر ومنصور بن الحسين الاسدي بمن معهما من الديلم والاتراك من ارجان إلى تستر فسابقهم الملك الرحيم فكان الظفر له ثم زحف في عسكر إلى رام هرمز وبها أصحاب هزار شب فهزموهم وأثخنوا فيهم وتحيزوا إلى رام هرمز في طاعة الملك الرحيم ثم قبض هزار شب عليهم وأرسل إلى الملك الرحيم بطاعته فبعث اخاه أبا سعيد(4/488)
إليه فملك اصطخر وخدمه أبو نصر معسكره وماله واطاعته جموع من عساكر فارس من الديلم والترك والعرب والاكراد وحاصروا قلعة بهندر فخالفه هزار شب ومنصور بن الحسين الاسدي إلى الملك الرحيم فهزموه وفارق الاهواز إلى واسط وعاد إلى سعد بشيراز فقاتلهم وهزمهم ثم عاودوا القتال فهزمهم وأثخن فيهم واستأمن إليه كثير منهم وصعد فلاستون إلى قلعة بهندر فامتنع بها وأعيدت الخطبة للملك الرحيم بالاهواز ثم مضى فلاستون وهزار شب إلى ايدج وبعثوا بطاعتهم إلى السلطان طغرلبك واستمدوه وبعث إليهم العساكر والملك الرحيم بعسكر مكرم وقد انصرف عنه البساسيرى إلى العراق ودبيس بن مزيد والعرب والاكراد وبقى معه ديلم الاهواز وأنزل بغداد فسار من عسكر مكرم إلى الاهواز وحاصروه بها فبعث أخاه أبا سعد صاحب فارس حين طلبه صاحب اصطخر ليفت في عضد فلاستون وهزار شب ويرجعوا عنه فلم
يهجهم ذلك وساروا إلى الاهواز وقاتلوه فهزموه ولحق في الفل بواسط ونهبت الاهواز وفقد في الوقعة الوزير كمال الملك أبو المعالى بن عبد الرحيم وكانت السلجوقية قد ساروا إلى فارس فاستولى البارسلان ابن أخى طغرلبك على مدينة نسا وعاثوا فيها وذلك سنة ثلاث وأربعين ثم ساروا سنة أربع وأربعين إلى شيراز ومعهم العادل بن ماقته وزير فلاستون فقبضوا عليه وملكوا منه ثلاث قلاع وسلموها إلى أبى سعد أخى الملك الرحيم واجتمعت عساكر شيراز فهزموا الغز الذين ساروا إليها وأسروا بعض مقدميهم ثم ساروا إلى نسا وقد كان تغلب عليها بعض السلجوقية فأخرجوهم عنها وملكوها * (الفتنة بين البساسيرى وبنى عقيل واستيلاؤه على الانبار) * لما سار الملك الرحيم إلى شيراز سنة احدى وأربعين ثار بعض بنى عقيل باردوقا فنهبوها وعاثوا فيها وكانت من أقطاع البساسيرى فلما عاد من فارس سار إليهم من بغداد فأوقع بأبى كامل بن المقلد واقتتلوا قتالا شديدا ثم تحاجزوا ورفع إلى البساسيرى أن قرواش أساء السيرة في أهل الانبار وجاء أهلها متظلمين منه فبعث معهم عسكرا فملكوها وجاء على أثرهم فاصلح أحوالها وزحف قريش إليها سنة ست وأربعين فملكها وخطب فيها لطغرلبك ونهب ما كان فيها للبساسيرى ونهب حلل أصحابه بانحاص وجمع البساسيرى وقصد الانبار وجرى فاستعاد من يد قريش ورجع إلى بغداد * (استيلاء الخوارج على عمان) * كان أبو المظفر بن أبى كاليجار أميرا على عمان وكان له خادم مستبد عليه فأساء السيرة في الناس ومد يده إلى الاموال فنفروا منه وعلم بذلك الخوارج في جبالها فجمعهم ابن رشد منهم وسار إلى المدينة فبرز إليه أبو المظفر وظفر بالخوارج ثم جمع ثانية وأعاد لقتال(4/489)
أبى المظفر والديلم وأعانه عليهم أهل البلد لسوء سيرتهم فهزمهم ابن رشد وملك البلد وقتل الخادم وكثيرا من الديلم والعمال وأخرب دار الامارة وأسقط المكوس واقتصر على
ربع العشر من أموال التجار والواردين وأظهر العدل وليس الصوف وبنى مسجدا لصلاته وخطب لنفسه وتلقب الراشد بالله وقد كان أبو القاسم بن مكرم بعث إليه من قبل ذلك من حاصره في جبله وأزال طمعه * (الفتنة بين العامة ببغداد) * وفى صفر من سنة ثلاث وأربعين تجددت الفتنة ببغداد بين أهل السنة والشيعة وعظمت وتظاهر الشيعة بمذاهبهم وكتبوا بعض عقائدهم في الابواب وأنكر ذلك أهل السنة واقتتلوا وأرسل القائم نقيبى العباسية والعلوية لكشف الحال فشهدوا للشيعة ودام القتال وقتل رجل من الهاشمية من أهل السنة فقصدوا مشهد باب النصر ونهبوا ما فيه وأحرقوا ضريح موسى الكاظم وحافده محمد المتقى وضرائح بنى بويه وبعض خلفاء بنى العباس وهموا بنقل شلوا الكاظم إلى مقبرة أحمد بن حنبل فحال دون ذلك جهلهم بعين الجدث وجاء نقيب العباسية فمنع من ذلك وقتل أهل الكرخ من الشيعة أبا سعيد السرخسى مدرس الحنفية وأحرقوا محال الفقهاء ودورهم وتعدت الفتنة إلى الجانب الشرقي وبلغ احراق المشهد إلى دبيس فعظم عليه وقطع خطبة القائم لانه وأهل ناحيته كانوا شيعة وعوتب في ذلك فاعتذر بأن أهل الناحية تغرى القائم بأهل السنة وأعاد الخطبة بحالها ثم عظمت الفتنة سنة خمس وأربعين واطرحوا مراقبة السلطان ودخل معهم طوائف من الاتراك وقتل بعض العلوية فصرخ النساء بثاره واجتمع السواد الاعظم وركب القواد لتسكين الفتنة فقاتلهم أهل الكرخ قتالا شديدا وحرقت أسواق الكرخ ثم منع الاتراك من الدخول بينهم فسكنوا قليلا * (استيلاء الملك الرحيم على البصرة) * قد كنا قدمنا أن الملك الرحيم لما تولى بغداد بعد أبيه أقر اخاه أبا على على امارة البصرة ثم بدا منه العصيان فبعث إليه العساكر مع البساسيرى القائم بدولته فزحف إلى
البصرة وبرزوا إليه في الماء فقاتلهم عدة أيام ثم هزمهم وملك عليهم الانهار وسارت العساكر في البر إلى البصرة واستأمنت ربيعة ومضر فامنهم وملك البصرة وجاءته رسل الديلم بخورستان بعتذرون ومضى أبو على فتحصن بشط عثمان وخندق عليه فمضى الملك الرحيم إليه وملكه ومضى أبو على وابنه إلى عبادان ولحق منها إلى جرجان متوجها إلى السلطان طغرلبك فلما وصل إليه بأصفهان لاقاه بالتكرمة وأنزله بعض قلاع(4/490)
جرباذقان وأقطع له في أعمالها وأقام الملك الرحيم بالبصرة أياما واستبدل من أجناد أخيه أبى على بها واستخلف عليها البساسيرى وسار إلى الاهواز وترددت الرسل بينه وبين منصور بن الحسين وهزار شب فدخلوا في طاعته وصارت تستر إليه وأنزل بارجان فولاد بن خسرو الديلمى فسار في أعمالها وحمل المتغلبين هناك على طاعة الملك الرحيم حتى أذعنوا * (استيلاء فلاستون على شيراز بدعوة طغرلبك) * قد قدمنا أنه كان بقلعة اصطخر أبو نصر بن خسرو مستوليا عليها وأنه أرسل بطاعته سنة ثلاث وأربعين إلى الملك الرحيم عندما ملك رامهرمز واستدعى منه أخاه أبا سعيد ليملكه بلاد فارس فسار إليه في العساكر وملك البلاد ونزل شيراز وكان معهم عميد الدولة أبو نصر الظهير قد استبد في دولته وساءت سيرته في جنده وأوحش أبا نصر مستدعيهم للملك فانتقض عليهم وداخل الجند في الانتقاض فشغبوا وقبضوا على عميد الدولة ونادوا بدعوة أبى منصور فلاستون واستدعوه وأخرجوا أبا سعيد عنهم إلى الاهواز ودخل أبو منصور إلى الاهواز فملكها وخطب طغرلبك وللملك الرحيم ثم لنفسه بعدهما * (وقائع البساسيرى مع الاعراب والاكراد لطغرلبك) * لما استولى طغرليك على النواحى وأحاط باعمال بغداد من جهاتها وأطاعه أكثر الاكراد إلى حلوان وكثر فسادهم وعيثهم والتفت عليهم الاعراب وأهم الدولة شأنهم سار إليهم
البساسيرى واتبعهم إلى التراويخ فظفر بهم وقتل وغنم وعبروا الزاب وجاء الديلم فتمكن من العبور إليهم وذلك سنة خمس وأربعين ثم دعاه دبيس صاحب الحلة إلى قتال خفاجة وقد عاثوا في بلاده فاستنجد به وسار إليهم فأجلاهم عن الجامعين ودخلوا المفازة واتبعهم فأدركهم بخفان فأوقع بهم وغنم أموالهم وأنعامهم وحاصر حصن خفان وفتحه وخربه وأراد تخريب القائم الذى به وهو بناء في غاية الارتفاع كالعلم يهتدى به قيل انه وضع لهداية السفن لما كان البحر إلى النجف فصانع عنه ربيعة بن مطاعم بالمال وترك له وعاد إلى بغداد فصلب من كان معه من أسرى العرب ثم سار إلى جرى فحصرها وقرر عليها سبعة آلاف دينار * (فتنة الاتراك واستيلاء عساكر طغرلبك على النواحى) * كان الاتراك من جند بغداد قد استفحل أمرهم على الدولة واشتطوا وتطاولوا إلى الفتنة عندما هبت ريحها بظهور طغرلبك واستيلائه على النواحى فطالبوا الوزير في محرم سنة ست وأربعين بمبلغ كبير من أرزاقهم ورسومهم وأرهقوه واختفى في دار(4/491)
الخلافة فاتبعوه وطلبوه من أهل الدار فجحدوه فشغبوا على الديوان وتعدوا إلى الشكوى من الخليفة وساء الخطاب بينهم وبين أهل الديوان وانصرفوا وشاع بين الناس أنهم محاصرون دار الخلافة فانزعجوا وركب البساسيرى وهو النائب يومئذ ببغداد إلى دار الخلافة وطلب الوزير وكبس الدور من أجله فلم يوقف له على خبر وشغب الجند ونهبوا دار الروم وأحرقوا البيع وكبسوا دار ابن عبيد وزير البساسيرى ووقف أهل الدروب لمنع بيوتهم من الاتراك فنهبوا الواردين وعدمت الاقوات والبساسيرى في خلال ذلك مقيم بدار الخلافة إلى أن ظهر الوزير وقام بهم بما عليهم من أثمان دوابه وقماشه واتصل الهرج وعاد الاعراب والاكراد إلى العيث والاغارة والنهب والقتل وجاءت أصحاب قريش صاحب الموصل فكبسوا حلل كامل
ابن عمه بالبردوان ونهبوا منها دواب وجمالا من البخاتى كانت هناك للبساسيرى فتضاعف الهرج وانحل نظام الملك ووصل عساكر الغز إلى الدسكرة مع ابراهيم بن اسحق من أمراء طغرلبك ورستباد فاستباحوها ثم تقدموا إلى قلعة البردوان وقد عصى صاحبها سعدى على طغرلبك فامتنعت عليهم فعاثوا في نواحيها وخربت تلك الاعمال وانجلى أهلها وسارت طائفة أخرى إلى الاهواز فخربوا نواحيها وقوى طمع السلجوقية في البلاد وخافت الديلم ومن معهم من الاتراك وضعفت نفوسهم ثم بعث طغرلبك أبا على بن أبى كاليجار الذى كان صاحب البصرة في عساكر السلجوقية إلى خورستان فانتهى إلى سابور خواست وكاتب الديلم بالوعد والوعيد فنزع إليه أكثرهم واستولى على الاهواز ونهبها عساكر السلجوقية وصادروا أهلها وهرب أهلها منهم * (الوحشة بين القائم والبساسيرى) * قد قدمنا ما وقع من قريش بن بدران في نهب حلل البساسيرى أصحابه سنة ست وأربعين ثم وصل إلى بغداد أبو الغنائم وأبو سعد ابنا المجلبان صاحب قريش ودخلا في خفية فهم البساسيرى بأخذهما فأجارهما الوزير رئيس الرؤساء عليه فغضب وسار إلى جرى والانبار فملكهما ورجع ولم يعرج على دار الخلافة وأسقط مشاهرات القائم والوزير وحواشي الدار من دار الضرب ونسب إلى الوزير مكاتبته طغرلبك ثم سار في ذى الحجة من سنة ست وأربعين إلى الانبار وبها أبو الغنائم بن المجلبان ونصب عليها المجانيق ودخلها عنوة وأسر أبا الغنائم في خمسمائة من أهلها ونهب البلاد وعاد إلى بغداد وقد شهر أبا الغنائم وهم بصلبه فشفع فيه دبيس بن صدقة وكان قد جاء مددا له على حصار الانبار فشفعه وصلب جماعة من الاسرى * (وثوب الاتراك بالبساسيرى ونهب داره) *(4/492)
كان هذا البساسيرى مملوكا لبعض تجار بسا من مدائن فراس فنسب إليها ثم صار لبهاء
الدولة بن عضد الدولة ونشأ في دولته وأخذت النجابة بضبعه وتصرف في خدمة بيته إلى أن صار في خدمة الملك الرحيم وكان يبعثه في المهمات ومدافعة هذه الفتن فدافع الاكراد من جهة حلوان ودافع قريش بن بدران من الجانب الغربي وهما قائمان بدعوة طغرلبك ثم سار إلى الملك الرحيم بواسط وقد تأكدت الوحشة بينه وبين الوزير رئيس الرؤساء كما تقدم وبعث إليه وزيره أبو سعد النصراني بجرار خمر قدس عليها الوزير قوما ببغداد كانوا يقومون في تغيسير المنكر فكسروها وأراقوا خمرها فتأكدت الوحشة بذلك واستفتى البساسيرى الفقهاء الحنفية في ذلك فأفتوه باحترام مال النصراني ولا يجوز كسرها عليه ويغرم من أتلقها وتأكدت الوحشة بين الوزير وبين البساسيرى وكانت الوحشة بينه وبين الاتراك كما مر فدس الوزير بالشغب على البساسيرى فشغبوا واستأذنوا في نهب دوره فأذن لهم من دار الخلافة فانطلقت أيدى النهب عليها وأشاع رئيس الرؤساء أنه كاتب المستنصر العلوى صاحب مصر واتسع الخرق وكاتب القائم الملك الرحيم بابعاد البساسيرى وأنه خلع الطاعة وكاتب المستنصر العلوى فأبعده الملك الرحيم * (استيلاء طغرلبك على بغداد والخليفة ونكبة الملك الرحيم وانقراض دولة بنى بويه) * كان طغرلبك قد سار غازيا إلى بلاد الروم فأثخن فيها ثم رجع إلى الرى فأصلح فسادها ثم وصل همذان في المحترم سنة سبع وأربعين عاملا على الحج وأن يمر بالشأم ويزيل دولة العلوية بمصر وتقدم إلى أهل الدينور وقرميس وغيرهما باعداد العلوفات والزاد في طريقه وعظم الارجاف بذلك في بغداد وكثر شغب الاتراك وقصد واديوان الخلافة يطلبون القائم في الخروج معهم للمدافعة وعسكروا بظاهر البلد فوصل طغرلبك إلى حلوان وانتشر أصحابه في طريق خراسان وأجفل الناس إلى غربي بغداد وأصعد الملك الرحيم من واسط بعد أن طرد عنه البساسيرى بأمر القائم فلحق بدبيس بن صدقة صاحب الحلة لصهر بينهما وبعث طغرلبك إلى القائم بطاعته والى الاتراك بالمواعيد
الجميلة فرد الاتراك كتابه وسألوا من القائم رده عنهم فأعرض وجاء الملك الرحيم يعرض نفسه فيما يختاره فأمر بتفويض الاتراك خيامهم وأن يبعثوا بالطاعة لطغرلبك ففعلوا وأمر القائم الخطباء بالخطبة لطغرلبك فبعث إلى طريقهم الوزير أبا نصر الكندرى وأمر الاجناد ثم دخل طغرلبك بغداد يوم الخميس ليومين من رمضان ونزل بباب الشماسية ووصل قريش صاحب الموصل وكان في طاعته قبل ذلك ثم انتشرت عساكر طغرلبك في البلد وأسواقها فوقعت الهيعة وظن الناس أن الملك الرحيم أذن بقتال(4/493)
طغرلبك فأقبلوا من كل ناحية وقتلوا الغز في الطرقات الا أهل الكرخ فانهم أمنوهم وأجاروهم وشكر الخليفة لهم ذلك وتمادى العامة في ثورتهم وخرجوا إلى مغسكر طغرلبك ودخل الملك الرحيم بأعيان أصحابه إلى دار الخلافة تفاديا من الظنة به وركبت عساكر طغرلبك فهزموا العامة وكسروهم ونهبوا بعض الدروب ودورب الخلفاء والرصافة ودرب الدروب وكانت هذه الدروب قد نقل الناس إليها أموالهم ثقة باحترامها وفشا النهب واتسع الخرق وأرسل طغرلبك من الغد إلى القائم بالعتب على ما وقع ونسبه إلى الملك الرحيم ويطلب حضوره وأعيان أصحابه فيكون براءة لهم فأمرهم الخليفة بالركوب إليه وبعث معهم رسوله ليبرئهم فساروا في ذمامه وأمر طغرلبك بالقبض عليهم ساعة وصولهم ثم حمل الملك الرحيم إلى قلعة السيروان فحبس بها وذلك لست سنين من ولايته وانقرض أمر بنى بويه ونهب في الهيعة حلة قريش صاحب الموصل ونجا سليمان إلى خيمة بدر بن مهلهل فأجاره ثم خلع عليه طغرلبك ورده إلى حلله ونقم القائم على طغرلبك ما وقع وبعث في اطلاق المحبوسين فانهم في ذمامه وهدده بالرحيل عن بغداد فأطلق بعضهم ومحا عسكر الرحيم من الدواوين وأذن لهم في السعي في معاشهم فلحق كثير منهم بالبساسيرى فكثر جمعه واستصفى طغرلبك أموال الاتراك ببغداد من أجله وبعث إلى دبيس بابعاده فلحق بالرحبة وكاتب المستنصر صاحب
مصر بالطاعة وخطب دبيس لطغرلبك في بلاده وانتشر الغز في سواد بغداد فنهبوه وفشا الخراب فيه وانجلى أهله وولى طغرلبك البصرة والاهواز هزار شب فخطب لنفسه بالاهواز فقط وأقطع الامير أبا على ابن الملك أبى كاليجار قرميس وأعمالها وأمر أهل الكرخ أن يؤذنوا في مساجدهم في نداء الصبح الصلاة خير من النوم وأمر بعمارة دار الملك فعمرت على ما اقترحه وانتقل إليها في شوال سنة سبع وأربعين واستقرت قدمه في الملك والسلطان وكانت له الدولة التى ورثها بنوه وقومه السلجوقية لم يكن للاسلام في العجم أعظم منها والملك لله يؤتيه من يشاء (الخبر عن دولة وشمكير وبنيه من الجيل اخوة الديلم وما كان لهم) (من الملك والسلطان بجرجان وطبرستان وأوليه ذلك ومصايره) قد تقدم لنا ذكر مرودايج بن زيار وأنه كان من قواد الديلم للاطروش وأنه من الجيل اخوة الديلم وكانت حالهم واحدة وكان منهم قواد للعلوية استظهروا بهم على أمرهم حتى إذا انقرضت دولة الاطروش وبنيه على حين فشل الدولة العباسية ومحى أعمالها من السلطان ساروا في النواحى لطلب الملك متفرقين فيها فملكوا الرى واصفهان وجرجان وطبرستان والعراقين وفارس وكرمان كل منهم في ناحية وتغلب بنو بويه على(4/494)
الخليفة وحجروه إلى آخر أيامهم وذكرنا أن مرداويج عندما استفحل ملكه بعث عن أخيه وشمكير من بلاد كيلان سنة عشرين وأربعمائة فاستظهر به على أمره وولاه على الاعمال الجليلة وكان قد استولى على اصفهان والرى وأصبح من أعظم الملوك وكان له موال من الاتراك تنكروا له لشدته عليهم فاغتالوه وقتلوه في محرم سنة ثلاث وعشرين فاجتمعت العساكر بعده على أخيه وشمكير بالرى وبعث إلى ماكان بن كالى وهو بكرمان بعد ما ملكها من أبى على بن الياس بالمسير إليه بالرى مع ابن محتاج وسار ماكان على المفازة إلى الدمغان وبعث وشمكير قائده تاتجيز الديلمى مع جيش كثيف
لاعتراضه ومع ما كان عسكر ابن مظفر مددا له فتقاتلوا وهزمهم تاتجيز فعادو إلى نيسابور وجعلت ولايتها لما كان وقد مر ذكر ذلك كله ثم سار تاتجيز إلى جرجان وأقام بها ثم هلك آخر السنة من سقطة عن فرسه فاستولى عليها ماكان وحاصره ابن محتاج سنة ثمان وعشرين فملكها وسار ماكان إلى طبرستان فأقام بها وكان ركن الدولة بن بويه غلب على أصفهان فبعث وشمكير عساكره إلى ماكان مددا له في حروبه مع ابن محتاج فاغتنم ركن الدولة خلو وشمكير من العساكر فسار إلى أصفهان فملكها واتصل ما بينه وبين صاحب خراسان وانفرد وشمكير يملك الرى * (استيلاء عساكر خراسان على الرى والجيل وملك وشمكير طبرستان) * لما ملك ركن الدولة اصفهان وصل يده بأبى على بن محتاج صاحب خراسان هو وأخوه عماد الدولة صاحب فارس وحرضاه على أخذ الرى من وشمكير رجاء أن يكون طرفا لعمله فيتمكن به من ملكها فسار أبو على لذلك واستمد وشمكير ما كان للمدافعة فجاء بنفسه وبعث ركن الدولة مدد الابن محتاج فلقوه باسحاق اباد وتقاتلوا فانهزم وشمكير ولحق بطبرستان فملكها وقتل ما كان بالمعركة واستولى أبو على على الرى ثم بعث أبو على العساكر إلى بلد الجيل فاستولى على زنكان وابهر وقزوين وكرج وهمذان ونهاوند والدينور إلى حلوان * (استيلاء الحسن بن القيرزان على جرجان) * كان الحسن بن القيرزان ابن عم ماكان وكان مناهضه في الصرامة فلما قتل ماكان وملك وشمكير طبرستان بعث إليه بالدخول في طاعته فأبى ونسبه إلى المواطأة على قتل ماكان فقصده وشمكير ففارق سارية وسار إلى ابن محتاج صاحب خراسان واستنجده فسار معه ابن محتاج وحاصر وشمكير بسارية حولا كاملا حتى رجع إلى طاعة ابن سامان وأعطى ابنه سلار رهينة بذلك ورجع هو والحسن إلى خراسان وهو مكابده للصلح ولقيهما موت سعيد بن سامان فثار الحسن بأبى على بن محتاج ونهب سواده وأخذ ابن(4/495)
وشمكير الذى كان عنده ورجع فملكها من يد ابراهيم بن سيجور الدوانى ولحق ابن سيجور بنيسابور معصى على بن محتاج كما مر في أخبارهم * (رجوع إلى لوشمكير واستيلاء ابن بويه عليها) * لما انصرف أبو على إلى خراسان وفعل به الحسن ما ذكرناه سار وشمكير إلى الرى فملكها ورامله ابن القيرزان يستميله ورد عليه ابنه سلار فصانعه ولم يبالغ محافظة على عهد ابن محتاج ثم طمع ركن الدولة بن بويه في ملك الرى لخلويده وقلة عسكره فسار إليه وهزمه واستأمن كثير من عسكره إليه وملك الرى ورجع وشمكير إلى طبرستان فاعترضه الحسن وهزمه فلحق بخراسان وراسل ابن القيرزان ركن الدولة بن بويه وواصله * (استيلاء وشمكير على جرجان) * لما ملك ابن بويه الرى من يد وشمكير ولحق طبرستان واعترضه ابن القيروزان وهزمه ولحق بخراسان سار إلى نوح بن سامان مستنجدا به وبعث معه عسكرا وأرسل إلى ابن محتاج صاحب خراسان بمظاهرته فبعثه فيمن معه إلى جرجان وبها الحسن بن القيرزان فهزمه وشمكير وملك جرجان * (استيلاء ركن الدولة على طبرستان وجرجان) * لما ملك وشمكير جرجان من يد الحسن بن القيرزان سار إلى ركن الدولة بن بويه وأقام عنده بالرى ثم سار سنة ست وثلاثين إلى بلاد وشمكير ولقيهم فهزموه وملك ركن الدولة طبرستان وسار منها إلى جرجان واستأمن إليه قواد وشمكير وولى الحسن بن القيرزان على جرجان ورجع إلى الرى وسار وشمكير إلى خراسان مستنجد ابا بن سامان فأمر منصور بن قراتكين صاحب خراسان أن يستوفد العساكر لانجاده فسار معه وكان مصطنعا عليه وكتب وشمكير إلى ابن سامان يشكو من ابن قراتكين ثم كتب الامير نوح إلى أبى على بن محتاج أن يسير معه إلى الرى فسار معه وقاتلوا ركن الدولة فلم يظفروا
به حتى صالحهم كما تقدم ورجع إلى وشمكير فانهزم أمامه إلى اسفراين وملك ابن بويه طبرستان وحاصر سارية وملكها ولحق وشمكير بجرجان وسار إلى جرجان في طلب وشمكير إلى بلد الجيل واستولى ابن بويه عليها * (وفاة وشمكير وولاية ابنه مهستون) * لما غلب بنو بويه على كرمان من يد أبى على بن الياس لحق وشمكير بالامير منصور بن نوح ببخارا مستنصرا به وأطمعه في ممالك بنى بويه وأسر إليه أن قواده بخراسان لا باصحونه في شأنه فكتب إلى أبى الحسن محمد بن ابراهيم بن سيجور صاحب(4/496)
خراسان بالمسير إلى الرى بطاعة وشمكير والتصرف عن رأيه واستع ركن الدولة للقائهم واستنجد ابنه عضد الدولة وخالفهم إلى خراسان وبلغهم الخبر فتوقفوا بالدامغان يستطلعون الاخبار وركب وشمكير للصيد فاعترضه خنزير فرماه بحربة من يده فحمل عليه الخنزير فشب الفرس وسقط وشمكير إلى الارض ومات من سقطته في محرم سنة سبع وخمسين وانتقض جميع ما كانوا فيه ولما مات وشمكير قام ابنه بهستون مقامه وراسا ركن الدولة وصالحه فأمده بالعساكر والاموال * (وفاة بهستون وولاية أخيه قابوس) * ثم توفى بهستون بن وشمكير بجرجان سنة ست وستين لسبع سنين من ولايته وكان أخوه قابوس عند خاله رستم بجبل شهريار وترك بهستون ابنا صغيرا بطبرستان في كفالة جده لامه فطمع له جده في الملك وبادر به إلى جرجان وقبض على من كان عنده ميل إلى قابوس من القواد وفى خلال ذلك وصل قابوس فخرج الجيش إليه واجتمعوا عليه وملكوه وهرب أصحاب ابن منصور فكفله عمه قابوس وجعله اسوة بنيه وقام بملك جرجان وطبرستان * (استيلاء عضد الدولة على جرجان وطبرستان) *
لما توفى ركن الدولة سنة ست وستين وثلثمائة وعهد لابنه عضد الدولة وولى ابنه فخر الدولة على همذان وأعمال الجيل وابنه مؤيد الدولة على اصفهان وكان بختيار بن معز الدولة ببغداد فاستولى عليه ثم سار إلى أخيه فخر الدولة بهمذان فهرب إلى قابوس ونزل عضد الدولة الرى وبعث إلى قابوس في طلب أخيه فخر الدولة فأبى فأمر أخاه مؤيد الدولة بخراسان أن يسير إليه وأمده بالاموال والعساكر وسار إلى جرجان سنة احدى وسبعين ولقيه فخر الدولة بخراسان عند ما وليها حسام الدولة أبو العباس تاش من قبل الامير أبى القاسم بن نوح وكتب إلى العباس تاش يأمره بانجاد قابوس بن وشمكير وفخر الدولة على مؤيد الدولة واعادة قابوس إلى بلده فزحف في العساكر إلى جرجان وحاصرها شهرين حتى ضاقت أحوالهم وكاتب مؤيد الدولة فائقا الخاصة من قواد خراسان واستماله فوعده أن ينهزم بمن معه يوم اللقاء وخرج مؤيد الدولة فقاتلهم وانهزم فائق بمن معه كما وعد ووقف حسام الدولة وفخر الدولة قليلا ثم اتبعوه منهزمين إلى خراسان ثم استدعى تاش لتدبير الدولة ببخارا بعد قتل الوزير العتبى فسار إليه سنه ثنتين وسبعين مؤيد الدولة وكان من خبر وفاته ما قدمناه ووقعت الفتنة بين تاش وابن سيجور وانهزم تاش إلى جرجان وقابله فخر الدولة من الكرامة والنصرة بما لم يعهد مثله حسمام في اخبارهم ولما ملك فخر الدولة جرجان وطبرستان والرى اعتزم على رد(4/497)
جرجان وطبرستان إلى قابوس رغبا لما كان بينهما بدار الغرية وانه الذى جر على قابوس الخروج عن ملكه فشاور عن ذلك وزيره الصاحب بن عباد فلم يوافقه وبقى مقيما بخراسان وأنجده بنو سامان بالعساكر المرة بعد المرة فلم يقدر له بالظفر حتى كان استيلاء سبكتكين * (عود قابوس إلى جرجان وطبرستان) * ولما ولى سبكتكين خراسان وعد قابوس برده إلى ملكه جرجان وطبرستان ثم مضى إلى
بلخ فمات سنة سبع وثمانين فأقام قابوس إلى سنة ثمان وثمانين فبعث الاصبهبد إلى جبل شهريا وعليه رستم بن المرزبان خال مجد الدولة وجمع له فقاتله وانهزم رستم واستولى اصبهبهد على الجيل وخطب فيه لشمس المعالى قابوس وكان نائب ابن سعيد بناحية الاستنداويه وكان يميل إلى شمس المعالى فسار إلى آمد وطرد عنها عسكر مجد الدولة واستولى عليها وخطب فيها القابوس وكتب إليه بذلك ثم كتب أهل جرجان إلى قابوس يستدعونه فسار إليهم من نيسابور وسارا صبهبد ويأتى بن سعيد إليها من مكانهما فخرج اليهما عساكر جرجان فقاتلوهما فانهزم العسكر ورجعوا إلى جرجان فلقوا مقدمة قابوس عندها فانهزموا ثانية إلى الرى ودخل شمس المعالى قابوس جرجان في شعبان سنة ثمان وثمانين وجاءت العساكر من الرى لحصاره فأقاموا ودخل فصل الشتاء وتوالت عليهم الامطار وعدمت الاقوات فارتحلوا وتبعهم قابوس وقاتلهم فهزمهم وأسر جماعة من أعيانهم وملك ما بين جرجان واستراباذ ثم ان الاصبهبد حدث نفسه بالملك واغتر بما اجتمع له من الاموال والذخائر فسارت إليه العساكر من الرى مع المرزبان خال مجد الدولة فهزموه وأسروه وأظهروا دعوة شمس المعالى بالجيل لان المرزبان كان مستوحشا من مجد الدولة فانضافت مملكة الجيل جميعا إلى مملكة جرجان وطبرستان وولى عليها قابوس ابنه منوجهر ففتح الرى ايات وشالوش وقارن ذلك استيلاء محمود بن سبكتكين على خراسان فراسله قابوس وهاداه وصالحه على سائر أعماله * (مقتل قابوس وولاية ابنه منوجهر) * كان شمس المعالى قابوس قد استفحل ملكه وكان شديد السطوة مرهف الحد فعظمت هيبته على أصحابه وتزايدت حتى انقلبت إلى العتو فأجمعوا على خلعه وكان ببعض القلاع فساروا إليه ليمسكوم بها فامتنع عليهم فانتهبوا موجوده ورجعوا إلى جرجان وجاهروا بالخلعان واستدعوا ابنه من طبرستان فأسرع إليهم مخافة أن يولوا غيره واتفقوا على طاعته بأن يخلع أباه فأجاب إلى ذلك كرها وسار قابوس من حصنه إلى
بسطام يقيم بها حتى تضمحل الفتنة فساروا إليه وأكرهوا منوجهر على المسير معهم(4/498)
وينفرد هو للعبادة بقلعة ابخيا وأذن له أبوه بالقيام بالملك حذرا من خروجه عنهم وبقى المتولون لكبر تلك الفتنة من الجند مرتابين من قابوس وكتبوا من جرجان إلى منوجهر يستأذنونه في قتله ولم ينتظروا رد الجواب وساروا إليه فدخلوا عليه البيت وجردوه من ثيابه فما زال يستغيث حتى مات من شدة البرد وذلك سنة ثلاث وأربعمائة لخمس عشرة سنة من استيلائه وقام بالملك ابنه منوجهر وخطب له على مغابره ولم يزل في التدبير على الرهط الذين قتلوا أباه حتى أباد كثيرا منهم وشرد الباقين * (وفاة منوجهر وولاية ابنه أنوشروان) * ولما سار محمود بن سبكتكين سنة عشرين وأربعمائة عندما قبض حاجبه على مجد الدولة وملك الرى بدعوة محمود وسار إليه محمود فهرب منوجهر بن قابوس من جرحان وبعث إليه باربعمائة ألف دينار ليصلحه وتحصن منه بجبال وعرة ثم أبعد المذهب ودخل في الغياض الملتفة وأجابه محمود فبعث إليه منوجهر بالمال ونكب عنه في رجوعه إلى نيسابور ثم توفى منوجهر اثر ذلك سنة ست وعشرين وولى بعده ابنه أنوشروان فأقره محمود على ولايته وقرر عليه خمسمائة ألف أميرى وخطب لمحمود في بلاد الجيل إلى حدود أرمينية ثم استولى مسعود بن محمود أعوام الثلاثين على جرجان وطبرستان ومحا دولة بنى قابوس كان لم تكن والبقاء لله وحده * (الخبر عن دولة مسافر من الديلم باذربيجان ومصايره) * كانت أذربيجان عند ظهور الديلم وانتشارهم في البلاد واستيلائهم على الاعمال أعوام الثلاثين والثلثمائة بيد رستم بن ابراهيم الكردى من أصحاب يوسف بن أبى الساج وكان من خبره أن أباه ابراهيم من الخوارج من أصحاب هرون الشادى الخارج بالموصل هرب بعد مقتله إلى أذربيجان وأسهر في الاكراد إلى بعض
رؤسائهم فولد له ابنه رستم ونشأ في اذربيجان ولما كبر استضافه ابن أبى الساج وتنقل في الاطوار إلى أن استولى على أذربيجار بعد يوسف بن أبى الساج وكان معظم جيوشه الاكراد ولما استولى الديلم على البلاد وملك وشمكير الرى ولى أعمال الجيل لشكري وجمع الاموال والرجال وسار لشكري إلى أذربيجان ليملكها سنة ست وعشرين وحاربه دسيم في بعض جهات اذربيجان واستولى لشكري على سائر بلاد اذربيجان الا اردبيل فان أهلها امتنعوا ثقة بحصن بلادهم وراسلهم فلم يجيبوه وحاصرها وشد حصارها وثلم سورها وملكها أياما يدخل نهارا ويخرج إلى عساكره ليلا ثم ثدو اثلم السور وامتنعوا وعادوا إلى الحصار واستدعواد سيما فجاء لقتال لشكري من ورائه وناشبته أهل اردبيل القتال من أمامه فانهزم وقتل عامة أصحابه وتحيزوا إلى موقان(4/499)
واستنجد اصبهبد بن دوالة فجمعوا وساروا إلى دسيم فانهزم أمامهم وعبر نهر ارس وقصد وشمكير في الرى واستنجده وضمن له مالا كل سنة فبعث معه عسكرا واستمال عسكر لشكري فداخلوه وكاتبوا وشمكير بالطاعة وعلم بذلك لشكري فتأخر إلى الزوزن عالما على الموصل أن يملكها ومر بأرمينية فنهب وسبى ولما انتهى إلى الزوزن لقيه بعض الرؤساء من الارمن وصانعه بالمال على بلده حتى كف عنها وأكمن له في مضيق بطريقه ودس لبعض الارمن أن ينهبوا شيأ من ثقله ويلكوا المضيق وركب لشكري في اثرهم فقتله الكمين ومن معه وقدم أهل العسكر عليهم ابنه الشكر ستان ورجعوا إلى بلد الطرم الارمينى ليثأروا من الارمن بصاحبهم وكان أكثر بلده مضايق فقاتلهم الارمن عليها وفتكوا فيهم ولحق العسكر والشكر ستان في الفل بالموصل فأقام بها عند ناصر الدولة بن حمدان وكانت له معادن اذربيجان وولى عليها ابن عمه أبا عبد الله الحسين ابن سعيد بن حمدان وبعث معه الشكر ستان وأصحابه فقاتلهم دسيم على المعادن وغلبهم عليها ورجعوا واستولى دسيم على اذربيجان
* (استيلاء المرزبان بن محمد بن مسافر على اذربيجان) * كان محمد بن مسافر من كبار الديلم وكان صاحب الطرم وكان له أولاد كثيرون منهم سلار ومنهم صعلوك ومنهم وهشودان والمرزبان أمه بنت حسان وهشودان ملك الديلم وقد مر خبره وكان دسيم ابن ابراهيم الكردى بعد مدافعة لشكري وابنه عن اذربيجان أقام عنده بعض الديلم من عسكر وشمكير الذين أنجدوه على شأنه ثم ان قومه من الاكراد استبدوا عليه باطراف أعماله وملكوا بعض القلاع فاستظهر عليهم بأولئك الديلم وغلبهم واستدعى صعلوك بن محمد من قلعة أبيه الطرم فجاء إليه جماعة من الديلم وسار بهم إلى التى تغلب عليها الاكراد فانتزعها منهم وقبض على جماعة منهم ثم استوحش منه وزيره أبو القاسم على بن جعفر من اهل اذربيجان فهرب إلى الطرم ونزل على محمد بن مسافر عندما استوحش منه ابناه وهشودان والمرزبان وغلبا على بعض قلاعه ثم قبضا عليه وانتزعا منه أمواله وذخائره فتقرب الوزير على بن جعفر إلى المرزبان وكان يشاركه في دين الباطنية وأطمعه في اذربيجان فاستوزره المرزبان وكانت الديلم الذين عند دسيم وغيره من جنده واستمالهم فأجابوه وسار المرزبان إلى اذربيجان وبرز دسيم للقائه فنزع الديلم إلى المرزبان واستأمن إليه كثير من الاكراد وهرب دسيم إلى أرمينية ونزل على صاحبها حاجيق بن الديرانى وملك المرزبان اذربيجان سنة ثلاثين وثلثمائة وأساء وزيره على بن جعفر السيرة مع أصحابه فتظافروا عليه وشرعوا في السعاية فيه فأطمع المرزبان في أموال بتهريز يضمنها له وسار إليها في عسكر من الديلم وأسر لاهلها أنه جاء(4/500)
لمصادرتهم فوثبوا بمن معه من الديلم وقتلوهم واستدعوا دسيم بن ابراهيم فجاء إلى تبريز وملكوه ولحق به الاكراد الذين استأمنوا إلى المرزبان فسار المرزبان في عساكره وحاصرهم دسيم بتبريز وكاتب على بن جعفر وحلف له على الوفاء بما يرومه منه فطلب منه السلامة وترك العمل فاجابه واشتد الحصار على دسيم فهرب من تبريز إلى أردبيل
وخرج الوزير إليه فوفى له المرزبان ثم طلب دسيم أن ينزله بأهله بقلعة من قلاع الطرم ففعل وأقام المرزبان فيها * (استيلاء الروس على مدينة بردعة وظفر المرزبان بهم) * هؤلاء الروس من طوائف الترك ويجاورون الروم في مواطنهم وأخذوا بدين النصرانية معهم منذ أزمان متطاولة وبلادهم تجاور بلاد أذربيجان فركبت طائفة منهم البحر سنة ثنتين وثلاثين ثم صعدوا من البحر في نهر اللكن هر وانتهوا إلى مدينة بردعة من بلاد اذربيجان وبها نائب المرزبان فخرج إليهم في نحو خمسة آلاف مقاتله من الديلم وغيرهم فهزمهم الروس وقتلوا الديلم وتبعوهم إلى البلد فملكوه ونادوا بالامان وأحسنوا السيرة وجاءت العساكر الاسلامية من كل ناحية فلم يقدروا عليهم وظاهرهم العوام والرعاع فلما انصرفت العساكر غدرت الروسية بهم فقتلوهم ونهبوا أموالهم واستعبدوهم وأحزن المسلمين ذلك واستنفر المرزبان الناس وسار لهم وأكمن لهم كمينا وزحف إليهم وخرجوا إليه واستطرد لهم حتى جاوزوا موضع الكمين فاستمر أصحابه على الهزيمة ورجع هو مع أخيه وصاحب له مستميتين وخرج الكمين من ورائهم واستلحم الروسية وأميرهم ونجا فلهم إلى البلد فاعتصموا بحصنه وكانوا قد نقلوا إليه السبى والاموال وحاصرهم المرزبان وصابروه ثم ان ناصر الدولة بن حمدان صاحب الموصل بعث إلى ابن عمه الحسين بن سعد بن حمدان في هذه السنة إلى اذربيجان ليملكها فبلغ الخبر إلى المرزبان بأنه انتهى إلى سلماس فجهز عسكرا إلى الروس وسار لقتال ابن حمدان فقاتله أياما ثم استدعاه ابن عمه ناصر الدولة من الموصل وأخبره بموت تورون وأنه سائر إلى بغداد وأمره بالرجوع فرجع وأما الروس فحاصرهم العسكر أياما واشتد فيهم الوباء فانقضوا من الحصن ليلا وحملوا ما قدروا عليه من الاموال ولحقوا باللكن فركبوا سفنهم ومضوا إلى بلادهم وطهر الله البلاد منهم * (مسير المرزبان إلى الرى وهزيمته وحبسه) *
ولما سارت عساكر خراسان إلى الرى وظن المرزبان أن ذلك يشغل ركن الدولة بن بويه عنه وكان قد بعث رسوله إلى معز الدولة ببغداد قصرفه مذموما مدحورا فاعتزم على غزو الرى وطمع في ملكه واستأمن إليه بعض قواد الرى وأغراه بذلك وراسله ناصر(4/501)
الدولة بن حمدان يستحثه لذلك ويشير عليه ببغداد قبل الرى وكتب ركن الدولة إلى أخويه عماد الدولة ومعز الدولة يستنجدهما فبعثوا إليه بالعساكر وسار بها من بغداد سبكتكين الحاجب ولما انتهى إلى الدنيور انتقض عليه الديلم وثبوا به فركب في الاتراك فتخاذل الديلم وأعطوه الطاعة وكان المرزبان قبل وصول العساكر زحف إلى الرى وهزمه ركن الدولة وحبسه ورجع الفل إلى اذربيجان ومعهم محمد بن عبد الرزاق واجتمع أصحاب المرزبان على أبيه محمد بن مسافر واساء السيرة فهموا بقتله وكان ابنه وهشودان قد هرب منه واعتصم بحصن له فلحق به أبوه محمد فقبض عليه وهشوذان وضيق عليه حتى مات ثم استدعى دسيم الكردى من مكانه بقلعة الطرم حيث أنزله المرزبان عند ظفره به وبعثه إلى محمد بن عبد الرزاق وأقام بنواحي اذربيجان ثم رجع إلى الرى سنة ثمان وثلاثين واستعتب إلى سلطانه نوح بن سامان فأعتبه وعاد إلى طوس واستولى دسيم على اذربيجان لوالى القلعة حتى تمكنوا من قتله فقتله المرزبان ولحق بأخيه وهشوذان سنة ثنتين وأربعين وكان على بن منسلى من قواد ركن الدولة قد لحق بوهشودان وأغراه بدسيم فبعثه وهشودان في العساكر وكاتب الديلم واستمالهم وسار إليه دسيم وخلف وزيره أبا عبد الله النعيمي باردبيل فجمع مالا كان صادره عليه وهرب بما معه من المال إلى على بن منسلى وبلغ الخبر إلى دسيم عند اذربيجان فعاد إلى اردبيل وشغب عليه الديلم ففرق فيهم ما كان معه من المال وسار للقاء على بن منسلى فالتقيا وهرب الديلم الذين معه إلى على بن منسلى وانهزم هو إلى ارمينية ثم جاءه الخبر بان المرزبان تخلص من محبسه بقلعة سيرم وملك اردبيل واستولى على اذربيجان وأنفذ
العساكر في طلبه فهزم دسيم إلى بغداد فأكرمه معز الدولة وأقام عنده ثم استدعاه شيعته باذربيجان سنة ثلاث واربعين فسار إليهم وطلب من معز الدولة المدد لان أخاه ركن الدولة كان قد صالح المرزبان فسار دسيم إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل واستنجد به فلم ينجده فسار إلى سيف الدولة فأقام عنده بالشام فلما كان سنة أربع وأربعين خرج على المرزبان خارج باب الابواب فسار إليه وخالفه دسيم إلى اذربيجان فاستدعاه مقدم من الاكراد وملك سلماس فبعث إليه المرزبان قائدا من قواده فهزمه دسيم ولما فرغ المرزبان من أمر الخارج وعاد إلى اذربيجان هرب دسيم إلى ارمينية واستجاش بابن الديرانى وكتب إليه المرزبان بحمل دسيم إليه فسلمه وحبسه حتى إذا توفى المرزبان قتله بعض أصحابه حذرا من فتنته * (وفاة المرزبان وولاية ابنه خستان) * ثم توفى المرزبان صاحب اذربيجان سنة خمس وأربعين وعهد بالملك إلى أخيه وهشودان(4/502)
وبعده لابنه خستان وكان قد أوصى نوابه بالقلاع أن يسلموها لابنه خستان ثم لاخويه ابراهيم وناصر ثم إلى أخيه وهشودان عندما عهد بالعهد الثاني إلى أخيه عرفه بامارات بينه وبين نوابه يرجعون إليها في ذلك وبعث إلى النواب عبد الله النعيمي وهرب وهشودان من اردبيل فلحق بالطرم وجاء قواد المرزبان إلى خستان بن شرمول فانه كان مقيما على ارمينية فانتقض بها * (مقتل خستان واخوته واستيلاء عمهم وهشودان على اذربيجان) * ولما ولى خستان بن المرزبان انغمس في لذانة وعكف على اللهو وقبض على وزيره أبى عبد الله النعيمي وكان خستان بن برسموه منتقضا بارمينية وقد ملكها وكان وزيره أبو الحسن عبد الله بن محمد بن حمدويه صهر اللوزير النعيمي فاستوحش لنكبته وحمل صاحبه ابن سرمدن على مكاتبة ابراهيم بن المرزبان فأطمعه في الملك وسار به إلى
مراغة فملكها فراسله أخوه خستان وسار إلى موقان وكان باذربيجان رجل من ولد المكتفى متنكرا يدعو للرضا من آل محمد ويأمر بالعدل ويلقب بالمجير وكثرت جموعه فبعث إليه النعيمي من موقان وأطمعه في الخلافة وان يملكه اذربيجان على أن يقصد بغداد ويترك لهم اذربيجان فسارا إليه خستان وابراهيم ابنا المرزبان فهزماه وقتلاه فلما رأى وهشودان الخلاف بين بنى أخيه المرزبان استمال ابراهيم وسار ناصر إلى موقان وطمع الجند في المال فساروا إلى ناصر وملكوا بهم اردبيل وطالبه الجند بالمال فعجز وقعد عمه وهشودان عن نصرة وتبين له أنه كان يخادعه فاجتمع مع أخيه خستان واضطربت عليهما الامور وانتقضت أصحاب الاطراف فاضطرهما الحال إلى طاعة عمهما وهشودان وراسلاه في ذلك واستحلفاه وقدما عليه مع أمهما فغدر وقبض عليهم وعقد الامارة على اذربيجان لابنه اسمعيل وسلم له أكثر قلاعه ولحق ابراهيم بن المرزبان بمراغة وجمع لاستنقاذ أخويه ومنازعة اسمعيل فقتل وهشودان أخويه وأمهما وأمر خستان بن سرمدن بقتال ابراهيم بمراغة وبعث إليه بالمدد وانضم ابراهيم إلى نواحى ارمينية سنة تسع وأربعين فاستولى ابن سرمدن على مراغة واستضافها إلى ارمينية وجمع ابراهيم وكانت ملوك ارمينية من الارمن والاكراد وأصلح خستان بن سرمدن ثم جاء الخبر بوفاة اسمعيل ابن عمه فسار إلى اردبيل فملكها وانصرف ابن منسلى إلى وهشودان وزحف اليهما ابراهيم وهزمهما فلحقا ببلاد الديلم واستولى ابراهيم على أعمال وهشودان ثم جمع وهشودان وعاد إلى قلعته بالطرم وبعث أبو القاسم بن منسلى العساكر لقتال ابراهيم فهزموه ونجا إلى الرى مستنجدا بركن الدولة لصهر بينهما(4/503)
* (استيلاء ابراهيم بن المرزبان ثانيا على اذربيجان) * قد تقدم هزيمة ابراهيم بن المرزبان أمام عساكر ابن منسلى وانه لحق بركن الدولة
مستنجدا به فبعث معه الاستاذ أبا الفضل بن العميد في العساكر فاستولى على اذربيجان وحمل أهلها على طاعة ابراهيم وقاد له خستان بن سرمدن وطوائف الاكراد فتمكن من البلاد وكتب ابن العميد إلى ركن الدولة ان يعطيه ملكها ولعله يعوض ابراهيم عنها لكثرة جبايتها وقلة معرفة ابراهيم بالجباية وأن يشهد فيها بالخروج عن ملكه فأبى من ذلك وقال لا أفعل ذلك بمن استجار بى فسلم له ابن العميد البلاد ورجع * (تنبيه) * أخبار بنى مسافر المعروفين ببنى السلار ملوك اذربيجان نقلتها من كتاب ابن الاثير والى ههنا انتهى في أخبارهم وأحال على ما بعده فقال بعد ذلك وكان الامير كما ذكر ابن العميد فد أخذ ابراهيم وحبسه على ما ذكره ولم نقف على ذكر شئ من أخبار ابراهيم بعد ذلك ولا من خبر قومه وذكر أن محمود بن سبكتكين بعد خبر استيلائه على الرى سنة عشرين وأربعمائة أنه بعث إلى المرزبان بن الحسين بن حرابيل من أولاد ملوك الديلم والتجى إلى محمود فبعثه إلى بلاد السلار وهو ابراهيم بن المرزبان بن اسمعيل بن وهشودان بن محمد بن مسافر الديلمى وكان له من البلاد شهر خان وزنجان وشهرزور وغيرها فقصدها واستمال الديلم وعاد محمود إلى خراسان فسار السلار ابراهيم إلى قزوين فملكها وقتل من عساكر محمود الذين بها وتحصن بقلعة إلى وكان بينهما وقائع ظهر فيها السلار ثم استمال مسعود بن محمود طوائف من عسكره وجاؤا إليه ودلوه على عورة الحصن الذى فيه السلار وسلكوا بعسكره من طرق غامضة وبعث إليه العسكر في رمضان سنة ست وعشرين فانهزم وقبض عليه مسعود وحمله إلى سرجها روبها ولده وطالب أن يسلم إليه القلعة فأبى وعاود عنه وتسلم بقية قلاعه وأخذ أمواله وقرر على ابنه بسر جهار مالا وعلى الاكراد الذين في جواره وعاد إلى الرى وهذا السلار الذى ذكر غير السلار الاول ولم يتصل الخبر بالخبر المتقدم ثم ذكر أخبار الغز الذين تقدموا بين يدى السلجوقية وانتشروا في بلاد الرى وملكوها وكثيرا من بلادها ووصلت طائفة منهم إلى اذربيجان الذين كان مقدمهم بوقا وكوكتاش ومنصور ودانا
* (دخول الغز اذربيجان) * يقال دخل هؤلاء الغز إلى اذربيجان وسمى صاحبها يومئذ وهشودان بن غلاك فأكرمهم وصاهرهم يدافع شرهم بذلك ويستميلهم لنصرته فلم يحصل من ذلك بطائل وعاثوا في البلاد أشد العيث ودخلوا مراغة سنة تسع وعشرين وأربعمائة فقتلوا أهلها وحرقوا مساجدها وفعلوا كذلك بالاكراد الهمذانية فاتفق أهل البلاد على(4/504)
مدافعتهم وأصلح أبو الهيجاء ابن ربيب الدولة ووهشوذان صاحبا اذربيجان واتفقت كلمتهما واجتمع معهما أهل همذان فانصرفت تلك الطائفة عن اذربيجان وافترقوا على الرى كما تقدم في أخبارهم وبقى الغز الذين تقدموا قبلهم فقاسى منهم أهل اذربيجان شدة وفتك فيهم وهشوذان بتبريز سنة ثنتين وثلاثين فتكة أوهنت منهم ودعا منهم جمعا كثيرا إلى صنيع وقبض على ثلاثين من مقدميهم فقتلهم وفر الباقون من ارمينية إلى بلاد الهكارية من أعمال الموصل وكانت بينهم وبين الاكراد وقائع ذكرناها في أخبار الغز بالموصل ولم يعد ابن الاثير لبنى المرزبان ملوك اذربيجان ذكرا إلى أن ذكر استيلاء طغرلبك على البلاد والمفهوم من فحوى الاخبار أن الاكراد استولوا عليها بعد بنى المرزبان والله أعلم * (استيلاء طغرلبك على اذربيجان) * قال ابن الاثير وفى سنة ست وأربعين سار طغرلبك إلى اذربيجان وقصد تبريز وصاحبها الامير منصور بن هشوذان بن محمد الروادى فأطاعه وخطب له وحمل إليه ورهن عنده ولده فسار طغرلبك عنه إلى الامير أبى الاسوار وخبر ه فأطاع وخطب وكذلك سائر النواحى فأبقى عليهم بلادهم وأخذ رهنهم وسار إلى ارمينية كذلك وقصد ملاذ كرد وهى للنصرانية فعاث في بلادها وخرب أعمالها وغزا من هنالك بلاد الروم وانتهى إلا رزن الروم فأثخن في بلادهم ودوخها وعاد ابن السلار وذكر ابن الاثير خلال هذا
غزو فضلون الكردى إلى الخزر من التركمان على ما مر أول الكتاب فقال كان بيد فضلو الكردى قطعة كبيرة من اذربيجان فغزا إلى الخزر سنة احدى وعشرين ودوخ البلاد وقفل فجاؤا في أثره وكبسوه وقتلوا أيضا بخطط الانجار إلى مدينة تفليس فقال وفى سنة تسع وعشرين زحف ملك الانجار إلى اذربيجان ليتعرف المسلمين على حين وصول الغز إلى اذربيجان وما فعلوه فيها وسمع الانجار بأخبارهم فأجفلوا عن مخلفهم ووصل وهشوذان صاحب اذربيجان وصرف نظره إلى ملاطفة الغز ومصاهرتهم ليستعين بهم كما مر هذا آخر ما وجدناه من أخبار ملوك اذربيجان والله وارث الارض ومن عليها وهو خير الوارثين [ الخبر عن بنى شاهين ملوك البطيحة ومن ملكها من بعدهم من قرابتهم وغيرهم وابتداء ذلك ومصايره ] كان عمران بن شاهين من الجامدة وكان يتصرف في الجباية وحصل بيده منها مال فتخوف وألح عليه الطلب فهرب إلى البطيحة ممتنعا من الدولة وكان له نجدة وبأس وصبر(4/505)
على الشظف فأقام هنالك بين القصب والاجام يقتات بسمك الماء والطير ويتعرض للرفاق التى تمر بالطريق فيأخذها واجتمع إليه لصوص الصيادين فقوى وامتنع على السلطان وتمسك بخدمة أبى القاسم بن البريدى صاحب البصرة فأمنه ووصل حبل الطاعة بيده وقلده حماية تلك النواحى إلى الجامدة دفعا لضرره عن السابلة فعز جانبه وكثر جمعه وسلاحه واتخذ معاقل على التلال بالبطائح وغلب على تلك النواحى ولما استولى معز الدولة على بغداد وقام بكفالة الخلافة والنظر في أمورها أهمه شأن عمران هذا وامتناعه في معاقله في نواحى بغداد فجهز إليه وزيره أبا جعفر الصيرمى في العساكر وسار إليه سنة ثمان وثلاثين وتعددت بينهما الحروب والوقائع ثم هزمه الصيمري ثم أتاه الخبر بمسيره إلى شيراز كما تقدم في أخبار دولتهم
* (مسير العساكر إلى عمران بن شاهين وانهزامها) * ولما انصرف الصيمري عن عمران عاد إلى حاله فبعث معز الدولة لقتاله روزبهان من أعيان الديلم في العساكر فتحصن منه في مضايق البطائح فطاوله فضجر روزبهان واستعجل قتاله فهزمه عمران وغنم ما معهم فاستفحل وقوى وأفسد السابلة وكان أصحابه يطلبون الخفارة من جند السلطان إذا مروا بهم إلى ضياعهم ومعايشهم بالبصرة فبعث معز الدولة بالعساكر مع المهلبى وزحف إلى البطائح سنة أربعين ودخل عمران في مضايقه وأشاروا عليه بالهجوم فلم يفعل فكتب إليه معز الدولة بذلك باشارة روزبهان فدخل المهلبى المضايق بجميع عسكره وقد أكمن لهم عمران فخرج عليهم الكمين وتقسموا بين القتل والعراق والاسر ونجا المهلبى سابحا في الماء وكان روزبهان متأخرا في الزحف فسلم وأسر عمران كثيرا من قوادهم الاكابر ففاداه معز الدولة بمن في أسره من أهله وأصحابه وقلده ولاية البطائح فاستفحل أمره ثم انتقض سنة أربع وأربعين لخبر بلغه عن مرض طرق معز الدولة وأرجف أهل بغداد بموته ومر به مال من الاموال يحمل إلى معز الدولة ومعه جماعة من التجار فكبسهم وأخذ جميع ما معهم ثم رد ذلك بعد ابلال معز الدولة من مرضه وفسد ما بينهما من الصلح ثم سار معز الدولة إلى واسط سنة خمس وخمسين فبعث العساكر من هنالك لقتال عمران مع أبى الفضل العباس بن الحسن وقدم عليه نافع مولى ابن وجيه صاحب عمان يستنجده عليها فانحدر إلى الابلة وبعث معه المراكب إلى عمان وسارت عساكره إلى البطائح فنزلوا الجامدة وسدوا الانهار التى تصب إليها ثم رجع معز الدولة من الابلة وطرقه المرض فجهز العساكر لقتال عمران وعاد إلى بغداد فهلك وولى بعده ابنه عز الدولة بختيار فأعاد العساكر المجمرة على عمران وعقد معه الصلح فاستمر حاله ثم زحف بختيار اليسنة تسع(4/506)
وخمسين وأقام بواسط يتصيد شهرا ثم بعث وزيره إلى الجامدة وطر البطيحة فسد
مجارى المياه وقلبها إلى أنهارها وهى الجسور إلى العراق ثم جاء المد من دجلة وخرب جميع ذلك ثم انتقل عمران إلى معقل آخر ونقل ماله إليه حتى إذا حسر المياه وانتهجت الطرق فقدوا عمران من مكانه وطال عليهم الامر وشغب الجند على الوزير فأمر بختيار بمصالحته على ألف ألف درهم ولما رحل العسكر عنه ثار أصحابه في اطراف الناس فنهبوا كثيرا من العساكر ووصلوا إلى بغداد سنة احدى وستين * (وفاة عمران بن شاهين وقيام ابنه الحسن مقامه ومحاربته عساكر عضد الدولة) * ثم توفى عمران بن شاهين فجأة في محرم سنة تسع وسنين لاربعين سنة من ثورته بعد أن طلبه الملوك والخلفاء ورددوا عليه العساكر فلم يقدروا عليه ولما هلك قام بعده ابنه الحسن فطمع عضد الدولة فيه وجهز العساكر مع وزيره وسدوا عليه المياه وأنفق فيها أموالا وجاء المد فأزالها وبقوا كلما سدوا فوهة فتق الحسن أخرى وفتح الماء أمثالا لها ثم وافقهم في الماء فاستظهر عسكر الحسن وكان معه المظفر أبو الحسن ومحمد بن عمر العلوى الكوفى فاتهمه بمراسلة الحسن وافشاء سره إليه وخاف أن تنقص منزلته عند عضد الدولة فطعن نفسه فمات وأدرك بآخر رمق فقال محمد بن عمر حملني على هذا وحمل إلى ولده بكازرون فدفن هنالك وأرسل عضد الدولة إلى العسكر من رجعه إليه وصالح الحسن بن عمران على مال يحمله وأخذ رهنه بذلك * (مقتل الحسن بن عمران وولاية أخيه أبى الفرج) * كان الحسن بن عمران آسفا على أخيه أبى الفرج وحنقا عليه ولم يزل يتحيل عليه إلى أن دعاه إلى عيادة أخت لهما مرضت وأكمن في بيتها جماعة اعدها لقتله فدخل الحسن منفردا عن أصحابه فاغلقوا الباب دونهم وقتلوه وصعد أبو الفرج إلى السطح فأعلمهم بقتله ووعدهم فسكتوا ثم بذل لهم المال فأقروه وكتب إلى بغداد بالطاعة فكتب له بالولاية وذلك لثلاث سنين من ولاية الحسن * (مقتل أبى الفرج وولاية أبى المعالى بن الحسن) *
ثم ان أبا الفرج لما قتل أخاه الحسن قدم الجماعة الذين قتلوه على أكابر القواد وكان الحاجب المظفر بن على كبير قواد عمران والحسن فاجتمع إليه القواد وشكوا إليه فسكنهم فلم يرضوا وحملوه على قتل أبى الفرج فقتله ونصب أبا المعالى ابن أخيه الحسن مكانه لاشهر من ولايته ثم تولى تدبيره بنفسه لصغره وقتل من كان يخافه من القواد(4/507)
واستولى على أموره كلها * (استيلاء المظفر وخلع أبى المعالى) * ثم ان المظفر بن على الحاجب القائم بأمر أبى المعالى طمع في الاستقلال بأمر البطيحة فصنع كتابا على لسان صمصام الدولة سلطان بغداد بولايته وجاء به ركابي عليه أثر السفر وهو بدست امارته فقرأه بحضرتهم وتلقاه بالطاعة وعزل أبا المعالى وأخرجه مع أمه إلى واسط وكان يصلهما بالنفقة وأحسن السيرة بالناس وانقرض بيت عمران بن شاهين ثم عهد إلى ابن أخته على بن نصر ويكنى أبا الحسن وتلقب بالامير المختار وبعده إلى ابن أخته الاخرى ويكنى أبا الحسن ويسمى على بن جعفر * (وفاة المظفر وولاية مهذب الدولة) * ثم توفى الحاجب المظفر صاحب البطيحة سنة ست وسبعين لثلاث سنين من ولايته وولى بعده ابن أخيه أبو الحسن على بن نصر بعهده إليه كما مر وكتب إلى شرف الدولة سلطان بغداد بالطاعة فقلده ولقبه مهذب الدولة فأحسن السيرة وبذل المعروف وأجار الخائف فقصده الناس وأصبحت البطيحة معقلا واتخدها الاكابر وطنا وبنوا فيها الدور والقصور وكاتب ملوك الاطراف وصاهره بهاء الدولة بابنته وعظم شأنه واستجار به القادر عندما خاف من الطائع وهرب إليه فأجاره ولم يزل عنده بالبطيحة ثلاث سنين إلى أن استدعى منها للخلافة سنة احدى وثمانين * (بعث ابن واصل على البطيحة وعزل مهذب الدولة) *
كان من خبر أبى العباس بن واصل هذا أنه كان ينوب عن رزبوك الحاجب وارتفع معه ثم استوحش منه ففارقه وسار إلى شيراز واتصل بخدمة فولاد وتقدم عنده ثم قبض على فولاد فعاد إلى الاهواز ثم أصعد إلى بغداد ثم خرج منها وخدم أبا محمد بن مكرم ثم انتقل إلى خدمة مهذب الدولة بالبطيحة وتقدم عنده ولما استولى السكر ستان على البصرة بعثه مهذب الدولة في العساكر لحربه فقتله وغلبه مضى إلى شيراز فأخذ سفن محمد بن مكرم وأحواله ورجع إلى أسافل دجلة فتغلب عليها وخلع طاعة مهذب الدولة فأرسل إليه مائة سميرية مشحونة بالمقاتلة فغرق بعضها وأخذ ابن واصل الباقي وعاد إلى الابلة فبعث إليه أبا سعيد بن ماكولا فهزمه ثانية واستولى على ما معه وأصعد إلى البطيحة وخرج مهذب الدولة إلى شجاع بن مروان وابنه صدقة فغدروا به وأخذوا أمواله ولحق بواسط واستولى ابن واصل على البطيحة وعلى أموال مهذب الدولة وجمع ما كان(4/508)
لزوجه ابنة بهاء الدولة وبعث به إلى أبيها وكانت قد لحقت ببغداد ثم اضطرب عليه أهل البطائح وبعث سبعمائة فارس إلى المجاورة فقاتلهم أهلها وظفروا بهم وخشى ابن واصل على نفسه فعاد إلى البصرة وترك البطائح فوضى ونزل البصرة في قوة واستفحال وخشى أهل النواحى عاديته فسار بهاء الدولة من فارس إلى الاهواز ليتلا في أمره واستدعى عميد الجيوش من بغداد وسيره في العساكر إليه فجاء إلى واسط واستكثر من السفن وسار إلى البطائح وسار إليه ابن واصل من البصرة فهزمه وغنم ثقله وخيامه ورجع ابن واصل مفلولا * (عود مهذب الدولة إلى البطيحة) * ولما انهزم عميد الجيوش أقام بواسط فجمع عساكره لمعاودة ابن واصل ثم بلغه أن نائب ابن واسط بالبطائح قد خرج منها مجفلا فبعث إلى بغداد وبعث بالعساكر وهم بالانتقاض فاستدعى عميد الجيوش مهذب الدولة من بغداد وبعثه بالعساكر في السفن إلى
البطيحة سنة خمس وستين فاستولى عليها واجتمع عليه أهل الولايات وأطاعوه وقرر عليها بهاء الدولة خمسين ألف دينار في كل سنة وشغل عن ابن واصل بتجهيز العساكر إلى خورستان وطمع في الملك واجتمع عنده كثير من الديلم وأصناف الاجناد وسار إلى الاهواز وسير بهاء الدولة عسكرا للقائه فهزمهم ودخل دار الملك وأخذ ما كان فيها وبعث إلى بهاء الدولة في الصلح فصالحه وزاد في أقطاعه ثم بعث بهاء الدولة العساكر للقائه وسار إلى الاهواز وزحف إليها ابن واصل ومعه بدر بن حسنويه فبعث بهاء الدولة الوزير بالبطيحة فهزمه الوزير ثانية فمضى مع حسان بن محال الخفاجى الكوفى وملك إلى الكوفة وملك البصرة وسار ابن واصل إلى دجلة قاصدا بدر بن حسنويه فبلغ جامعين فأنزله أصحاب بدر وكان أصحاب أبى الفتح بن عنان قريبا منهم فكبسه وجاء به إلى بغداد فبعثه عميد الجيوش إلى بهاء الدولة فقتله سنة ست وتسعين كما مر في أخبار الدولة * (وفاة مهذب الدولة وولاية ابن اخته عبد الله بن نسى) * ثم توفى مهذب الدولة عبد الله بن على بن نصر في جمادى سنة ثمان وأربعمائة وكان ابن أخته أبو عبد الله محمد بن نسى قائما بأموره ومرشحا للولاية مكانه وقد اجتمع عليه الجند واستحلفهم لنفسه وبلغه قبل وفاة خاله أن ابنه أبا الحسن أحمد داخل بعض الجند في البيعة له بعد أبيه فاستدعاه وحمله إليه الجند فقبض عليه ودخلت إليه أمه فخبرته الخبر فلم يزد على الاسف له وتوفى مهذب الدولة من الغد وولى أب محمد بن نسى(4/509)
مكانه وقتل أبو الحسين ابن خاله الثلاث من وفاة أبيه * (وفاة ابن نسى وولاية السرانى) * ثم توفى أبو عبد الله محمد بن نسى لثلاثة أشهر من ولايته واتفق الجند على ولاية أبى محمد الحسين بن بكر السرانى من خواص مهذب الدولة فولوه عليهم وبذل لسلطان الدولة
ملك بغداد مالا فأقره على ولايته * (نكبة السرانى وولاية صدقة المازيارى) * وأقام أبو محمد السرانى على البطيحة إلى سنة عشر وأربعمائة وبعث سلطان الدولة صدقة بن فارس المازيارى فنكبه وملك البطيحة وبقى عنده أسيرا إلى أن توفى صدقة وخلص على ما يذكر * (وفاة صدقة وولاية سابور من المرزبان) * ثم توفى صدقة بن فارس المازيارى في محرم لثنتى عشرة سنة من ولايته وكان سابور بن المرزبان بن مردان قائد جيشه وكان أبو الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين قد تنقل بعد موت أبيه في البلاد بمصر وعند بدر بن حسنويه حتى استقر عند الوزير أبى غالب ونفق عنده بما كان لديه من الادب * (عزل سابور وولاية أبى نصر) * ثم ان أبا نصر بن مردان زاد في المقاطعة ولم يبلغها سابور وتخلى عن الولاية وفارق البطيحة إلى جزيرة بنى دبيس واستقر أبو نصر في ولايتها ثم عادت إلى أبى عبد الله الحسين بن بكر السرانى * (عصيان أهل البطيحة على أبى كاليجار) * وبعث أبو كاليجار سنة ثمان عشرة وزيره ابا محمد بن نابهشاد إلى البطيحة ومقدمها يومئذ أبو عبد الله الحسين بن بكر السرانى فعسف بالناس في أموالهم وقسط عليهم مقادير تؤخذ منهم فانجلوا إلى البلاد وعزم الباقون على قتل السرانى ونما الخبر إلى السرانى فجاء إليهم واعتذر إليهم وأوعدهم بالمساعدة وأشار عليه الوزير باصلاح السفن حتى زحزحها بحيث لا يتمكن منها ثم وثبوا به فأخرجوه وكان عندهم جماعة من عسكر جلال الدولة محبوسين فأخرجوهم واستعانوا بهم وعادوا إلى الامتناع الذى كانوا عليه أيام مهذب الدولة فتم لهم ذلك ثم جاء ابن العبراني فغلب على البطيحة
وأخرج منها السرانى فلحق بيزيد بن مزيد وأقام بها ابن العبراني سنة ثلاث وثلاثين(4/510)
فزحف إليه أبو نصر بن الهيثم فغلبه عليها ونهبها واستقر في ملكها على مال يؤديه لجلال الدولة * (استيلاء أبى كاليجار على البطيحة) * ولما كانت سنة تسع وثلاثين بعث أبو كاليجار أبا الغنائم أبا السعادات الوزير في عسكر لحصار البطيحة فحاصرها وبها أبو منصور بن الهيثم حتى جنح إلى الصلح واستامن نفر من أصحابه إلى أبى الغنائم وأخبروه بضعفه وعزمه على الهرب فحفظ عليه الطرق ولما كان شهر صفر من السنة واقعهم أبو الغنائم فظفر بهم وقتل من أهل البطيحة خلقا كثيرا وغرقت منهم سفن متعددة وتفرقوا في الاجام وركب ابن الهيثم السفن ناجيا بنفسه وأحرقت داره ونهب ما فيها * (ولاية مهذب الدولة بن أبى الخير على البطيحة ثم كان بعد ذلك لبنى أبى الخير ولاية على البطيحة فيما قبل المائة الخامسة وما بعدها ولا أدرى ممن هؤلاء بنو أبى الخير الا أن ابن الاثير قال كان اسمعيل ولقبه المصطنع ومحمد ولقبه المختص هما ابنا أبى الخير ولهما رياسة قومهما وهلك المختص وقام مكانه ابنه مهذب الدولة ونازع ابن الهيثم صاحب البطيحة إلى أن غلبه مهذب الدولة أيام كوهوايين الشحنة ببغداد وكان بنو عمه وعشيرته تحت حكمه وأقطع السلطان محمد سنة خمس وتسعين وخمسمائة مدينة واسط لصدقة بن مزيد صاحب البطيحة والحلة فضمنها منه مهذب الدولة أحمد بن أبى الخير صاحب البطيحة وفرق أولاده في الاعمال وطالبه صدقة بالاموال وحبسه وضمن حماد ابن عمه واسط وكان مهذب الدولة يصانع حماد ابن عمه اسمعيل ويداريه وحماد يطمح إلى رياسة فلما هلك كوهوايين نازع حماد مهذب الدولة ابن عمه واجتهد مهذب الدولة في اصلاحه فلم يقدر فجمع النفيس بن
مهذب الدولة فهرب حماد إلى صدقة مستجيشا به فعاد بالجيش وحاربه مهذب الدولة وزاده صدقة المدد فانهزم مهذب الدولة وهلك أكثر عسكره وقوى طمع حماد واستمد صدقة فامده بالعساكر مع مقدم جيشه حميد بن سعيد وبعث مهذب الدولة لصاحب الجيش بالاقامات والصلات فمال إليه وأصلح ما بينه وبين صدقة وبعث مهذب الدولة ابنه النفيس إلى صدقة فأصلح بينهم وبين حماد ابن عمهم وكان ذلك أعوام الثلاثين * (ولاية نصر بن النفيس والمظفر بن حماد من بعده على البطيحة) * ثم كان انتقض دبيس بن صدقة أيام المسترشد والسلطان محمود وكان البرسقى شحنة(4/511)
ببغداد فانتزع السلطان البطيحة من يد دبيس وأقطعها إلى سحان الخادم مولاه فولى عليها نصر بن النفيس بن مهذب الدولة أحمد بن محمد بن أبى الخير وأمر السلطان محمود البرسقى بالمسير لقتال دبيس فاحتشد وسار لذلك ومعه نصر بن النفيس صاحب البطيحة وابن عمه المظفر بن حماد بن اسمعيل بن أبى الخير وبينهما من العداوة المتوارثة ما كان بين سلفهما والتقى البرسقى ودبيس وهزمه دبيس وجاءت العساكر منهزمة وبقى نصر بن النفيس وابن عمه حماد عند ساباط نهر فقتله ولحق بالبطيحة فملكها وبعث إلى دبيس بطاعته وبعث دبيس إلى الخليفة بصانعه بالطاعة على البعد وبلغ الخبر إلى السلطان محمود فقبض على منصور بن صدقة أخى دبيس وولده فكحلهما فاستشاط دبيس وساء أثره في البلاد وبعث إلى أحيائه بواسط فمنعهم الاتراك الذين بها فبعث مهلهل بن أبى العسكر مقدم عساكره في جيش وكتب إلى المظفر بن حماد صاحب البطيحة بمعاضدته على قتال واسط فتجهز وأصعد وعاجل مهلهل الحرب قبل وصوله فهزمه أهل واسط وغنموا ما معه وكان في حملتها بخط دبيس وصار معهم وساءت آثار دبيس في البلاد ولم يزل حال البطيحة على ذلك ثم صار أمرها لبنى معروف وأجلاهم الخلفاء عنها * (اجلاء بنى معروف من البطيحة) *
كان بنو معروف هولاء أمراء بالبطيحة في آخر المائة السادسة ولا أدرى ممن هم فلما استجمع للخلفاء أمرهم وخرجوا عن استبداد ملوك السلجوقية واقتطعوا الاعمال من أيديهم شيأ فشيأ فصار لهم الحلة والكوفة وواسط والبصرة وتكريت وهنت والانبار والحديثة وجاءت دولة الناصر وبنو معروف على البطيحة وكبيرهم معلى قال ابن الاثير وهم قوم من ربيعة كانت غربي الفرات تحت سورا وما يتصل بها من البطائح وكثرت إذا ياتهم وافسادهم في النواحى وبلغت الشكوى بهم إلى الديوان فأمر الخليفة الناصر مغذا الشريف متولى بلاده واسط أن يسير إلى قتالهم فاستعد لذلك وجمع من سائر تلك الاعمال فسار إليهم سنة ست عشرة بالعير من بلاد البطيحة وفشا القتل بينهم ثم انهزم بنو معروف وتفرقوا بين القتل والاسر والغرق واستبيحت أموالهم وانتظمت البطيحة في أعمال الناصر ولم يبق بها ملك ولا دولة [ الخبر عن دولة بنى حسنويه من الاكراد القائمين بالدعوة العباسية بالدينور والصامغان ومبدا أمورهم وتصاريف أحوالهم ] كان حسنويه بن الحسين الكردى من طائفة الاكراد يعرفون بالريز نكاس وعشيرة منهم يسمون الدويلتية وكان مالكا قلعة سرباج وأميرا على البررفكان وورث الملك عن خاليه ونداد وغانم ابني أحمد بن على وكان صنفهما من الاكراد يسمون العبابية(4/512)
وغلبا على أطراف الدينور وهمذان ونهاوند والصامغان وبعض نواحى اذربيجان إلى حدود شهرزور فملكاها نحوا من خمسين سنة ولكل واحد منهما ألوف من العساكر وتوفى ونداد بن أحمد سنة تسع وأربعين وقام مقامه ابنه أبو الغنائم عبد الوهاب إلى أن أسره الشادنجان من طوائف الاكراد وسلموه إلى حسنويه فأخذ قلاعه وأملاكه وتوفى غانم سنة خمسين وثلثمائة فقام ابنه أبو سالم دسيم مكانه بقلعة فتنان إلى أن أزاله أبو الفتح بن العميد واستصفى قلاعه المسماة بستان وغانم أفاق وغيرهما وكان حسنويه
حسن السيرة ضابطا لامره وبنى قلعة سرماج بالصخور المهندسة وبنى بالدينور جامعا كذلك وكان كثير الصدقة للحرمين ولما ملك بنو بويه البلاد واختص ركن الدولة بالرى وما يليه كان شيعة ومددا على عدوه فكان يرعى ذلك ويغضى عن أموره إلى أن وقعت بين ابن مسافر من قواد الديلم وكبارهم وقعة هزمه فيها حسنويه وتحصن بمكان فحاصره فيه وأضرمه عليه نارا فكاد يهلك ثم استأمن له فغدر به وامتعض لذلك ركن الدولة وأدركته نغرة العصبية وبعث وزيره أبا الفضل بن العميد في العساكر سنة تسع وخمسين فنزل همذان وضيق على حسنويه ثم مات أبو الفضل فصالحه ابنه أبو الفتح على مال ورجع عنه * (وفاة حسنويه وولاية ابنه بدر) * ثم توفى حسنويه سنة تسع وستين وافترق ولده على عضد الدولة لقتال أخيه محمد وفخر الدولة وكانوا جماعة أبو العلاء وعبد الرزاق وأبو النجم بدر وعاصم وأبو عدنان وبختيار وعبد الملك وكان بختيار بقلعة سرماج ومعه الاحوال والذخائر فكاتب عضد الدولة ورغب في طاعته ثم رغب عنه فسير إليه عضد الدلوة جيشا وملك قلعته وغيرها من قلاعهم ولما سار عضد الدولة لقتال أخيه فخر الدولة وملك همذان والرى وأضافهما إلى اخيه مؤيد الدولة ولحق فخر الدولة بقابوس بن وشمكير عرج عضد الدولة إلى ولاية حسنويه الكردى فافتتح نهاوند والدينور وسرماج وأخذ ما فيها من ذخائره وكانت جليلة المقدار وملك معها عدة قلاع حسنويه ووفد عليه أولاد حسنويه فقبض على عبد الرزاق وأبى العلاء وأبى عدنان واصطنع من بينهم أبا النجم بدر بن حسنويه وخلع عليه وولاه على الاكراد وقواه بالرجال فضبط ملك النواحى وكف عادية الاكراد بها واستقام أمره فحسده أخواه وأظهر عاصم وعبد الملك منهم العصيان وجمعا الاكراد المخالفين وبعث عضد الدولة العساكر فأوقعوا بعاصم وهزموه وجاؤا به اسيرا إلى همذان ولم يوقف له بعد ذلك على خبر وذلك سنة سبعين وقتل جميع أولاد حسنويه(4/513)
وأقر بدرا على عمله * (حروب بدر بن حسنويه وعساكر مشرف الدولة ولما توفى عضد الدولة وملك ابنه صمصام الدولة ثار عليه أخوه مشرف الدولة بفارس ثم ملك بغداد وكان فخر الدولة بن ركن الدولة قد عاد من خراسان إلى مملكة اصفهان والرى بعد وفاة أخيه مؤيد الدولة ووقع بينه وبين مشرف الدولة فكان مشرف الدولة يحقد عليه فلما استقر ببغداد وانتزعها من يد صممام الدولة وكان قائده قراتكين الجهشارى مدلا عليه متحكما في دولته وكان ذلك يثقل على مشرف الدولة جهزه في العساكر لقتال بدر بن حسنويه يروم احدى الراحتين فسار إلى بدر سنة سبع وسبعين ولقيه على وادى قرميسين وانهزم بدر حتى توارى ولم يتلقوه ونزلوا في خيامه ثم كر بدر فأعجلهم عن الركوب وفتك فيهم واحتوى على ما معهم ونجا قراتكين في فل إلى جسر النهروان فلحق به المنهزمون ودخل بغداد واستولى بدر على أعمال الجيل وقويت شوكته واستفحل أمره ولم يزل ظاهرا عزيزا وقلد من ديوان الخلافة سنة ثمان وثمانين أيام السلطان بهاء الدولة ولقب ناصر الدولة وكان كثير الصدقات بالحرمين وكثير الطعام للعرب بالحجاز لخفارة الحاج وكف أصحابه من الاكراد عن افساد السابلة فعظم محله وسار ذكره * (مسير ابن حسنويه لحصار بغداد مع أبى جعفر بن هرمز) * كان أبو جعفر الحجاج بن هرمز نائبا بالعراق عن بهاء الدولة ثم عزله فدال منه بأبى على ابن أبى جعفر أستاذ هرمز وتلقب عميد الجيوش فأقام أبو جعفر بنواحي الكوفة وقاتل عميد الجيوش فهزمه العميد ثم جرت بينهما حروب سنة ثلاث وستين وأقاما على الفتنة والاستنجاد بالعرب من بنى عقيل وخفاجة وبنى أسد وبهاء الدولة مشتغل بحرب ابن واصل في البصرة واتصل ذلك إلى سنة سبع وتسعين وكان ابن واصل قد
قصد صاحب طريق خراسان وهو قلج ونزل عليه واجتمعا على فتنة عميد الجيوش وتوفى قلج هذه السنة فولى عميد الجيوش مكانه أبا الفتح محمد بن عنان عدو بدر بن حسنويه وفحل الاكراد المسامى لبدر في الشؤن وهو من الشادنجان من طوائف الاكراد وكانت حلوان له فغضب لذلك بدر ومال إلى أبى جعفر وجمع له الجموع من الاكراد مثل الامير هندي بن سعدى وأبى عيسى سادى بن محمد وورام بن محمد وغيرهم واجتمع له معهم على ابن مزيد الاسدي وزحفوا جميعا إلى بغداد ونزلوا على فرسخ منها ولحق أبو الفتح بن عنان بعميد الجيوش وأقام معه ببغداد حاميا ومدافعا إلى أن وصل الخبر بهزيمة ابن(4/514)
واصل وظهور بهاء الدولة عليه فأجفلوا عن بغداد وسار أبو جعفر إلى حلوان ومعه أبو عيسى وراسل بهاء الدولة ثم سار ابن حسنويه إلى ولاية رافع بن معن من بنى عقيل يجتمع مع بنى المسيب في المقلد وعاث فيها لانه كان آوى أبا الفتح بن عنان حسين أخرجه بدر من حلوان وقرميسين واستولى عليها فأرسل بدر جيشا إلى أعمال رافع بالجناب ونهبوها وأحرقوها وسار أبو الفتح بن عنان إلى عميد الجيوش ببغداد فوعده النصر حتى إذا فرغ بهاء الدولة من شان ابن واصل وقتله أمر عميد الجيوش بالمسير إلى بدر بن حسنويه لاعانته على بغداد وامداده ابن واصل فسار لذلك ونزل جند نيسابور وبعث إليه بدر في الصلح على أن يعطيه ما أنفق على العساكر فحمل إليه ورجع عنه * (انتقاض هلال بن بدر بن حسنويه على أبيه وحروبهما) * كانت أم هلال هذا من الشادنجان رهط أبى الفتح بن عنان وأبى الشوك بن مهلهل واعتزلها أبوه لاول ولادته فنشأ مبعدا عن أبيه واصطفى بدر ابنه الاخر ابا عيسى وأقطع هلالا الصامغان فأساء مجاورة ابن المضاضى صاحب شهرزور وكان صديقا لبدر فنهاه عن ذلك فلم ينته وبعث ابن المضاضى يتهدده فبعث إليه أبوه بالوعيد فجمع وقصد ابن المضاضى وحاصره في قلعة شهرزور حتى فتحها وقتل ابن المضاضى واستباح
بيته فاتسع الخرق بينه وبين أبيه واستمال أصحاب أبيه بدر وكان بدر نسيكا فاجتمعوا إلى هلال وزحف لحرب أبيه والتقيا على الدينور وانهزم بدر وحمل أسيرا إلى ابنه هلال فرده في قلعته للعبادة وأعطاه كفايته بعد أن ملك الحصن الذى تملكه بما فيه فلما استقر بدر بالقلعة حصنها وأرسل إلى أبى الفتح بن عنان والى أبى عيسى سادى بن محمد باستراباذ وأغراهما بأعمال هلال فسار أبو الفت إلى قرميسين وملكها وأساء الديلم فاتبعه هلال إليها ووضع السيف في الديل وأمكنه ابن رافع من أبى عيسى فعفا عنه وأخذه معه وأرسل بدر من قلعته يستنج بهاء الدولة فبعث إليه الوزير فخر الملك في العساكر وانتهى إلى سابور خواست واستشار هلال أبا عيسى بن سادى فأشار عليه بطاعة بهاء الدولة والا فالمطاولة وعدم العجلة باللقاء فاتهمه وسار العسكر ليلا فكبسه وركب فخر الملك في العساكر وثبت فبعث إليه هلال بانى انما جئت للطاعة ولما عاين بدر رسوله طرده وأخبر الوزير أنها خديعة فسر بذلك وانتفت عنه الظنة ببدر وأمر العساكر بالزحف فلم يكن بأسرع من مجئ هلال أسيرا فطلب منه تسليم القلعة لبدر فأجاب على أن لا يمكن أبوه منه واستأمنت أمه ومن معها بالقلعة فأمنهم الوزير وملك القلعة وأخذ ما فيها من الاموال يقال أربعون ألف بدرة دنانير وأربعمائة ألف(4/515)
بدرة دراهم سوى الجواهر والثياب والسلاح وسلم الوزير فخر الملك القلعة لبدر وعاد إلى بغداد * (استيلاء ظاهر بن هلال على شهرزور) * كان بدر بن حسنويه قد نزل عن شهرزور ولعميد الجيوش ببغداد وأنزل بها نوبة فلما كانت سنة أربع وأربعمائة وكان هلال بن بدر معتقلا سار ابنه ظاهر إلى شهرزور وقاتل عساكر فخر الملك منتصف السنة وملكها من أيديهم وأرسل إليه الوزير يعاتبه ويأمره باطلاق من أسر من أصحابه ففعل وبقيت شهرزور بيده
* (مقتل بدر بن حسنويه وابنه هلال) * ثم سار بدر بن حسنويه أمير الجيل إلى الحسن بن مسعود الكردى ليملك عليه بلاده وحاصره بحصن كوسجة وأطال حصاره فغدر أصحاب بدر وأجمعوا قتله وتولى ذلك الجورقان من طوائف الاكراد فقتلوه وأجفلوا فدخلوا في طاعة شمس الدولة بن فخر الدولة صاحب همذان وتولى الحسين بن مسعود تكفين بدر ومواراته في مشهد على ولما بلغ ظاهر بن هلال مقتل جده وكان هاربا منه بنواحي شهرزور ورجاء لطلب ملكه فقاتله شمس الدولة فهزمه وأسره وحبسه بهمذان واستولى على بلاده وصار الكرية والشادنجان من الاكراد في طاعة أبى الشوك وكان أبوه هلال بن بدر محبوسا عند سلطان الدولة ببغداد فأطلقه وجهز معه العساكر ليستعيد بلاده من شمس الدولة فسار ولقيه شمس الدولة فهزمه وأسره وقتله ورجعت العساكر منهزمة إلى بغداد وكان في ملك بدر سابور خواست والدينور وندرحرد ونهاوند واستراباذ وقطعة من أعمال الاهواز وما بين ذلك من القلاع والولايات وكان عادلا كثير المعروف عظيم الهمة ولما هلك هو وابنه هلال بقى حافده ظاهر محبوسا عند شمس الدولة بهمذان * (مقتل ظاهر بن هلال واستيلاء أبى الشوك على بلادهم ورياستهم) * كان أبو الفتح محمد بن عنان أمير الشادنجان من الاكراد وكانت بيده حلوان وأقام عليها أميرا وعلى قومه عشرين سنة وكان يزاحم بدر بن حسنويه وبنيه في الولايات والاعمال بالجيل وهلك سنة احدى وأربعمائة وقام مكانه ابنه أبو الشوك وطلبته العساكر من بغداد فقاتلهم وهزموه فامتنع بحلوان إلى أن أصلح حاله مع الوزير فخر الملك لمقدم العراق بعد عميد الجيوش من قبل بهاء الدولة ثم ان شمس الدولة بن فخر الدولة ابن بويه أطلق ظاهر بن هلال بن بدر من محبسه يعد أن استحلفه على الطاعة وولاه على(4/516)
قومه وعلى بلاده بالجيل وأبو الشوك صاحب حلوان والسهل وبينهما المنافسة القديمة
فجمع ظاهر وحارب أبا الشوك فهزمه وقتل سعدى بن محمد أخاه ثم جمع ثانية فانهزم أبو الشوك أيضا وامتنع بحلوان وملك ظاهر عامة البسيط وأقام بالنهروان ثم تصالحا وتزوج ظاهر أخت أبى الشوك فلما أمنه ظاهر وثب عليه أبو الشوك فقتله بثأر أخيه سعدى ودفنه أصحابه بمقابر بغداد وملك سائر الاعمال ونزل الدينور ولما استولى علاء الدولة بن كاكويه على همذان سنة أربع عشرة عندما هزم عساكر شمس الدولة بن بويه واستبد عليه سار إلى الدينور فملكها من يد أبى الشوك ثم إلى سابور خواست وسائر تلك الاعمال وسار في طلب أبى الشوك فأرسل إليه مشرف الدولة سلطان بغداد وشفع فيه فعاد عنه علاء الدولة ولما زحف الغز إلى بلاد الرى سنة عشرين وأربعمائة وملكوا همذان وعاثوا في نواحيها إلى استراباذ وقرى الدينور خرج إليهم أبو الفتح بن أبى الشوك وقاتلهم فهزمهم وأسر منهم جماعة ثم عقد الصلح معهم على اطلاق أسراهم ورجعوا عنه ثم استولى أبو الشوك سنة ثلاثين على قرميسين من أعمال الجيل وقبض على صاحبها من الاكراد الترهية وسار أخوه إلى قلعة أرمينية فاعتصم بها من أبو الشوك وكانت لهم مدينة خولنجان فبعث إليها عسكرا فلم يظفروا وعادوا عنها ثم جهز آخر وبعثهم ليومهم يسابقون جندهم ومروا بارمينية فنهبوا ربضها وقاتلوا من ظفروا به وانتهوا إلى خولنجان فكبسوها على حين غفلة واستأمن إليهم أهلها وتحصن الحامية بقلعة وسط البلد فحاصروها وملكوها عليهم في ذى القعدة من السنة * (الفتنة بين أبى الفتح بن أبى الشوك وعمه مهلهل) * كان أبو الفتح بن أبى الشوك نائبا عن أبيه بالدينور واستفحل بها وملك قلاعا عدة وحمى أعماله من الغز فأعجب بنفسه ورأى التفوق على أبيه وسار في شعبان سنة احدى وثلاثين إلى قلعة بكورا من قلاع الاكراد وصاحبها غائب وبها زوجته فراسلت مهلهلا لتسلم له القلعة نكاية لابي الفتح وكانت حلة مهلهل في نواحى الصامغان فانتظر حتى عاد أبو الفتح عن القلعة وجمرا لعساكر لحصارها وسار إليها أبو الفتح فورى له عن قصده
ورجع فأتبعه أبو الفتح فقاتله عمه مهلهل ثم ظفر به وأسره وحبسه وجمع أبو الشوك وقصد شهرزور وحاصرها ثم قصد بلاد مهلهل وطال الامر ولج مهلهل في شأنه وأغرى علاء الدولة بن كاكويه ببلد أبى الفتح فملك عليه الدينور وقرميسين سنة ثنتين وثلاثين ثم سار أبو الشوك إلى دقوقا وقدم إليها ابنه سعدى فحاصرها وجاء على أثره فنقبوا سورها وملكها عنوة ونهب بعض البلد وأخذت أسلحة الاكراد وثيابهم وأقام أبو(4/517)
الشوك بها ليلة ثم بلغه أن أخاه سرخاب بن محمد قد أغار على مواضع من ولايته فخاف على البندنجين ورجع وبعث إلى جلال الدولة سلطان بغداد يستنجده فبعث إليه العساكر وأقاموا عنده وسار مهلهل إلى علاء الدولة بن كاكويه يستصرخه على أخيه أبى الشوك على الاعتصام بقلعة السيروان ثم بعث إلى علاء الدولة يعرض له بالرجوع إلى جلال الدولة صاحب بغداد فصالحه على أن يكون الدينور لعلاء الدولة ورجع عنه ثم سار أبو الشوك إلى شهرزور فحاصرها وعاث في سوادها وحصر قلعة بيزاز شاه فدافعه أبو القاسم بن عياض عنها ووعده بخلاص ابنه أبى الفتح من أخيه مهلهل فسار من شهرزور إلى نواحى سند من أعمال أبى الشوك ولما بعث إليه ابن عياض بالصلح مع أخيه أبى الشوك امتنع فسار أبو الشوك من حلوان إلى الصامغان ونهب ولاية مهلهل كلها وأجفل مهلهل بين يديه ثم تردد الناس بينهما في الصلح وعاد عنه أبو الشوك * (استيلاء نيال أخى طغرلبك على ولاية أبى الشوك) * ثم سار ابراهيم نيال بأمر أخيه طغرلبك من كرمان إلى همذان فملكها ولحق كرساشف ابن علاء الدولة بالاكراد الجورقان وكان أبو الشوك حينئذ بالدينور ففارقها إلى قرميسين وملكها نيال وسار في اتباعه إلى قرميسين ففارقها إلى حلوان وترك كل من في عسكره من الديلم والاكراد الشادنجان وسار إليها نيال وملكها عليهم عنوة
واستباحها وفتك في العسكر ولحق فلهم بأبى الشوك في حلوان فقدم أهله وذخيرته إلى قلعة السيروان وأقام ثم سار نيال إلى الصيمرة فملكها ونهبها وأوقع بالاكراد المجاورين لها في الجورقان فانهزموا وكان عندهم كرساشف بن علاء الدولة فلحق ببلد شهاب الدولة وشرد أهلها في البلاد ووصل إليها نيال آخر شعبان فملكها وأحرقها وأحرق دار أبى الشوك وسارت طائفة من الغز في اثر جماعة منهم فأدركوهم بخانقين فغنموا ما معهم وانتشر الغز في تلك النواحى وتراسل أبو الشوك وأخوه مهلهل وكان ابنه أبو الفتح قد مات في سنجن مهلهل فبعث مهلهل ابنه وحلف له أنه لم يقتله وان ثبت فاقتل أبا الغنائم بثأره فقبل ورضى واصطلحا على دفاع نيال عن أنفسهما وكان أبو الشوك قد أخذ سرخاب أخوه ما عدا قلعة دور بلونه وتقاطعا لذلك فسار سرخاب إلى البندنجين وبها سعدى بن أبى الشوك ففارقها سعدى إلى ابلة ونهبها سرخاب * (وفاة أبى الشوك وقيام أخيه مهلهل مقامه) * ثم توفى أبو الشوك فارس بن محمد سنة سبع وثلاثين بقلعة السيروان من حلوان وقام(4/518)
مقامه أخوه مهلهل واجتمع إليه الاكراد مائلين إليه عن ابن أخيه سعدى بن أبى الشوك فلحق سعدى بنيال أخى طغرلبك يستدعيه لملك البلاد ولما استولى مهلهل بعد موت أخيه أبى الشوك وكان نيال عندما غدا من حلوان ولى على قرميسين بدر ابن ظاهر بن هلال بن بدر بن حسنويه فسار إليها مهلهل سنة ثمان وثلاثين فهرب بدر عنها وملكها وبعث ابنه محمدا إلى الدينور وبها عساكر نيال فهزمهم وملكها * (استيلاء سعدى بن أبى الشوك على اعمالهم بدعوة السلجوقية) * ولما ملك مهلهل بعد أخيه أبى الشوك تزوج بأم سعدى وأهله واساء معاملة الاكراد الشادنجان فراسل سعدى نيال وسار إليه بالشادنجان فبعث معهم عسكرا من الغز سنة تسع وثلاثين فملك حلوان وخطب فيها لابراهيم نيال ورجع إلى ما بدشت فخالفه عمه
مهلهل إلى حلوان فملكها وقطع منها خطبة نيال فعاد سعدى إلى عمه سرخاب فكبسه ونهب حلله وسير إلى البندنجين جمعا فقبضوا على نائب سرخاب ونهبوها وصعد سرخاب إلى قلعة دور بلونة وعاد سعدى إلى قرميسين وبعث مهلهل ابنه بدرا إلى حلوان فملكها فجمع سعدى وأكثر من الغز وسار فملك حلوان وتقدم إلى عمه مهلهل فلحق بتيراز شاه من قلاع شهرزور واستباح الغز سائر تلك النواحى وحاصر سعدى تيراز شاه ومعه أحمد ابن ظاهر قائد نيال ونهب الغز حلوان وأراد مهلهل أن يسير إلى ابن أخيه فتكا سلوا ثم قطع سعدى البندنجين لابي الفتح بن دارم على أن يحاصر معه عمه سرخاب بقلعة دور بلونة فساروا إليها وكانت ضيقة المسلك فدخلوا المضيق فلم يخلصوا وأسر سعدى وأبو الفتح وغيرهما من الاعيان ورجع الغز عن تلك النواحى بعد أن كانوا ملكوها * (نكبة سرخاب واستيلاء نيال على أعمالهم كلها) * ثم ان سرخاب لما قبض سعدى ابن أخيه أبى الشوك غاضبه ابنه أبو العسكر واعتزله وكان سرخاب قد أساء السيرة في الاكراد فاجتمعوا وقبضوا عليه وحملوه إلى نيال فاقتلع عينه وطالبه باطلاق سعدى بن أبى الشوك فأطلقه أبو العسكر ابنه واستحلفه على السعي في خلاص أبيه سرخاب فانطلق سعدى واجتمع عليه كثير من الاكراد وسار إلى نيال فاستوحش منه وسار إلى الدسكرة وكاتب أبا كاليجار بالطاعة ثم سار ابراهيم نيال إلى قلعة كلجان وامتنعت عليهم ثم حاصروا قلعة دور بلونة فتقدمت طائفة إلى البندنجين فنهبوها وسار ابراهيم فيها بالنهب والقتل والعقوبة في المصادرة حتى يموتوا وتقدمت طائفة إلى الفتح فهرب وترك حلله فعرجوا عليها واتبعوه فقاتلهم وظفر بهم وبعث مستنجدا فلم ينجدوه فعبر وأمر بنزول حلله إلى جانب الغز وكان سعدى بن أبى الشوك(4/519)
نازلا على فرسخين من باجس فكبسه الغز فهرب وترك حلله وغنمها الغز ونهبوا تلك الاعمال والدسكرة والهارونية وقصر سابور وتقسم أهلها بين القتل والغرق والهلاك
بالبرد ووصل سعدى إلى دبال ولحق منها بابى الاغر دبيس بن مزيد فأقام عنده وحاصر نيال قلعة السيروان وضيق عليها وضربت سراياه في البلاد وانتهت إلى قرب تكريت ثم استأمن أهل قلعة السيروان إلى نيال فملكها وأخذ منها ذخيرة سعدى وولى عليها من أصحابه ثم مات صاحب قلعة السيروان وبعث وزيره إلى شهرزور فملكها وهرب مهلهل وأبعد في الهرب وحاصر عسكر نيال قلعة هواز شاه ثم راسل مهلهل أهل شهرزور بالتوثب بالغز الذين عندهم فقتلوهم ورجع قائد نيال ففتك فيهم ثم سار الغز المقيمون بالبندنجين إلى نهر سليلى وقاتلوا أبا دلف القاسم بن محمد الجاوانى فهزمهم وظفر بهم وغنم ما معهم وسار في ذى الحجة جمع من الغز إلى بلد على بن القاسم فعاثوا فيها فأخذ عليهم المضيق فأوقع بهم واسترد ما غنموه ولم يزل أحمد بن ظاهر قائد نيال محاصرا قلعة تيراز شاه في شهرزور إلى أن دخلت سنة أربعين ووقع الموتان في عسكره واستمد نيال فلم يمده فرحل عنها إلى مايد شير وبلغ ذلك مهلهلا فبعث احد أولاده إلى شهرزور فملكها وأجفل الغز من السيروان وسارت عساكر بغداد إلى حلوان وحاصروا قلعتها ولم يظفروا فنهبوا مخلف الغز وخربوا الاعمال وسار مهلهل إلى بغداد فأنزل أهله وأمواله بها وأنزل حلله على ستة فراسخ منها فسار عسكر من بغداد إلى البندنجين وقاتلوا الغز الذين بها فهزمهم الغز وقتلوهم جميعا * (بقية أخبار مهلهل وابن أبى الشوك وانقراض أمرهم) * ثم سار مهلهل أخو أبى الشوك إلى السلطان طغرلبك سنة ثلاث وأربعين فأحسن إليه وأقره على اقطاعه السيروان ودقوقا وشهرزور والصامغان وسعى في أخيه سرخاب وكان محبوسا عنده فأطلقه وسوغه قلعة الماهكى وكانت له فسار إليها وأقطع سعدى ابن أبى الشوك الرادندبين ثم بعثه سنة ست وأربعين في عسكر من الغز إلى نواحى العراق فنزل بما بدشت وسار منها إلى أبى دلف الجاوانى فهرب بين يديه وأدركه فنهب أمواله وفلت بنفسه وكان خالد ابن عمه مع الوزير ومطرا بنى على بن معن العقيلى فوفد
أولادهم على سعدى يشكون مهلهلا فوعدهم النصر ورجعهم من عنده فاعترضهم أصحاب مهلهل فأسرهم بنو عقيل ففداهم مهلهل وأوقع بهم على تل عكبرا ونهبهم فساروا إلى سعدى وهو بسامرا وأتبع عمه مهلهلا وظفر به وأسره وأسر مالكا ابنه ورد غنائم بنى عقيل ورجع إلى حلوان واضطربت بغداد واجتمعت عساكر الملك الرحيم ومعهم أبو الاغر دبيس بن مزيد سعى عند سعدى في أبيه وكان ابن سعدى عند(4/520)
السلطان طغرلبك رهينة فرده على أبيه عوضا عن مهلهل وأمره باطلاق مهلهل فامتعض لذلك سعدى وعصى على طغرلبك وسار إلى حلوان فامتنعت عليه وأقام يتردد بين رشقبا والبردان وأظهر مخالفة طغرلبك ورجع إلى طاعة الملك الرحيم فبعث طغرلبك العساكر مع بدران بن مهلهل إلى شهرزور ووجد ابراهيم بن اسحق من قواده فأوقعوا به ومضى إلى قلعة رشقباد وسار بدر بن مهلهل إلى شهرزور ورجع ابراهيم بن اسحق إلى حلوان فأقام بها ثم نهض سنة ست وأربعين إلى الدسكرة فنهبها واستباحها وسار إلى رشقباد وهى قلعة سعدى وفيها ذخيرته وفى القلعة البردان فامتنعت عليه فخرب أعمالها ووهن الديلم في كل ناحية وبعث طغرلبك أبا على ابن أبى كاليجار صاحب البصرة في عسكر من الغز إلى الاهواز فملكها ونهبها الغز ولقى الناس منهم عينا بالنهب والمصادرة وأحاطت دعوة طغرلبك ببغداد من كل ناحية وانقرض الاكراد من أعمالهم واندرجوا في جملة السلطان طغرلبك وتلك الايام نداولها بين الناس والله يؤتى ملكه من يشاء والله يرث الارض ومن عليها وهو خير
ومعهم أبو الاغر دبيس بن مزيد سعى عند سعدى في أبيه وكان ابن سعدى عند(4/521)
السلطان طغرلبك رهينة فرده على أبيه عوضا عن مهلهل وأمره باطلاق مهلهل فامتعض لذلك سعدى وعصى على طغرلبك وسار إلى حلوان فامتنعت عليه وأقام يتردد بين رشقبا والبردان وأظهر مخالفة طغرلبك ورجع إلى طاعة الملك الرحيم فبعث طغرلبك العساكر مع بدران بن مهلهل إلى شهرزور ووجد ابراهيم بن اسحق من قواده فأوقعوا به ومضى إلى قلعة رشقباد وسار بدر بن مهلهل إلى شهرزور ورجع ابراهيم بن اسحق إلى حلوان فأقام بها ثم نهض سنة ست وأربعين إلى الدسكرة فنهبها واستباحها وسار إلى رشقباد وهى قلعة سعدى وفيها ذخيرته وفى القلعة البردان فامتنعت عليه فخرب أعمالها ووهن الديلم في كل ناحية وبعث طغرلبك أبا على ابن أبى كاليجار صاحب البصرة في عسكر من الغز إلى الاهواز فملكها ونهبها الغز ولقى الناس منهم عينا بالنهب والمصادرة وأحاطت دعوة طغرلبك ببغداد من كل ناحية وانقرض الاكراد من أعمالهم واندرجوا في جملة السلطان طغرلبك وتلك الايام نداولها بين الناس والله يؤتى ملكه من يشاء والله يرث الارض ومن عليها وهو خير الوارثين لا راد لامره م * (تم طبع الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس أوله الخبر عن دولة السلجوقية) *(4/521)
تاريخ ابن خلدون - ابن خلدون ج 5
تاريخ ابن خلدون
ابن خلدون ج 5(5/)
تاريخ ابن خلدون المسمى بكتاب العبر، وديوان المبتدإ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الاكبر لوحيد عصره العلامة عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي المغربي المتوفى سنة 808 هجرية الجزء الخامس 1391 ه.
- 1971 م.
منشورات مؤسسة الاعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان ص.
ب.
7120(5/1)
(بسم الله الرحمن الرحيم) الخبر عن دولة السلجوقية من الترك المستولين على ممالك الاسلام ودوله بالمشرق كلها إلى حدود مصر مستبدين على الخليفة ببغداد من خلافة القائم إلى هذا الزمان وما كان لهم من الملك والسلطان في أقطار العالم وكيف فعلوا بالعلماء وحجروهم وما تفرع عن دولتهم من الدول قد تقدم لنا ذكر أنساب الامم والكلام في أنساب الترك وأنهم من ولد كومر بن يافث أحد السبعة المذكورين من بنى يافث في التوراة وهم ماواق وماذاى وماغوغ
وقطوبال وماشخ وطيراش وعدا بن اسحق منهم ستة ولم يذكر ماذاى وفي التوراة أيضا ان ولد كومر ثلاثة توغرما واشكان وريعات ووقع في الاسرائيليات أن الافرنج من ريعات والصقالبة من اشكان والخزر من توغرما والصحيح عند نسابة الاسرائيلين ان الخزر هم التركمان وشعوب الترك كلهم من ولد كومر ولم يذكر من أي ولده الثلاثة والظاهر أنهم من توغرما وزعم بعض النسابة أنهم من طيراش بن يافث ونسبهم ابن سعيد إلى ترك بن غامور بن سويل والظاهر أنه غلط وأن غامور تصحيف كما مر(5/2)
واما سويل فلم يذكر أحد أنه من بني يافث وقد مر ذكر ذلك كله (والترك أجناس) كثيرة وشعوب فمنهم الروس والاعلان ويقال ابلان والخفشاخ وهم القفجق والهياطلة والخلج والغز الذين منهم السلجوقية والخطا وكانوا بأرض طمعاج ويمك والقوروتزكس واركس والططر ويقال الطغر غروانكر وهم مجاورون للروم واعلم أن هؤلاء الترك أعظم أمم العالم وليس في أجناس البشر أكتر منهم ومن العرب في جنوب المعمور وهؤلاء في شمله قد ملكوا عامة الاقاليم الثلاثة من الخامس والسادس والسابع في نصف طوله مما يلى المشرق فأول مواطنهم من الشرق على البحر بلاد الصين وما فوقها جنوبا إلى الهنك وما تحتها شمالا إلى سد يأجوج ومأجوج وقد قيل انهم من شعوب الترك وآحر مواطنهم من جهة الغرب بلاد الصقالبة المجاورين للافرنج مما يلى رومة إلى خليج القسطنطينية وأول مواطنهم من جهة الجنوب بلاد القور المجاورة للنهر ثم خراسان واذربيجان وخليج القسطنطينية وآخرها من الشمال بلاد مرغانة والشاش وما وراءها من البلاد الشمالية المجهولة لبعدها وما بين هذه الحدود من بلاد غزنة ونهر جيحون وما بحفافيه من البلاد وخوارزم ومفاوز الصين وبلاد القفچق والروس حفافى خليج القسطنطينية من جهة الشمال الغربي قد اعتمر لهذه البسائط منهم أمم لا يحصيهم الا خالقهم رحالة متنقلون فيها مستنجعين مساقط الغيث في نواحيه يسكنون
الخيام المتخذة من اللبود لشدة البرد في بلادهم فقروا عليها * ومر بديار بكر وخرج إليه صاحبها نصر بن مروان وحمل مائة الف دينار لنفقته فلما سمع أنه قبضها من الرعايا ردها عليه ثم مر بنا هرو وأمنها واطف على السور وجعل يمسحه بيده ويمر بها على خدوده تبركا بثغر المسلمين ثم مر بالرها وحاصرها فامتنعت عليه ثم سار إلى حلب فبعث إليه صاحبها محمود ريعول القائد الذى عنده يخبر بطاعته وخطبته ويستعفيه من الخروج إليه منكرا منه الاذى وبحى على خير العمل فقال لابد من خروجه واشتد الحصار فخرج محمود ليلا مع أمه بنت وثاى الهنى متطارحا على السلطان فأكرم مقدمها وخلع عليه واعاده إلى بلده * (غزاة السلطان البارسلان إلى خلاط واسر ملك الروم) * كان ملك الروم بالقسطنطينية لهذا العهد اسمه ارمانوس وكان كثيرا ما يخيف تغور المسلمين وتوجه في سنة ثنتين وستين في عساكر كثيرة إلى الشأم ونزل على مدينة منبج واستباحها وجمع له محمود بن صالح بن مرداس الكلابي وابن حسان الطائى قومهما ومن إليهم من العرب فهزمتهم الروم ثم رجع ارمانوس إلى القسطنطينية واحتشد الروم والفرنج والروس والكرخ ومن يليهم من العرب والطوائف وخرج إلى بلاد كرد من(5/3)
أعمال خلاط وكان السلطان البارسلان بمدينة حوف من اذربيجان منقلبا من حلب فبعث بأهله وأثقاله إلى همدان مع وزيره نظام الملك وسار هو في خمسة عشر ألف مقاتل وتوجه نحوهم متهيأ ولقيت مقدمته الروس فهزموهم وجاؤا بملكهم أسيرا إلى السلطان فجدعه وبعث اسلابهم إلى نظام الملك ثم توجه إلى سمرقند ففارقها التكير وأرسل في الصلح ويعتذر عن تومق فصالحه ملك شاه وأقطع بلخ وطخارستان لاخيه شهاب الدين مكين إلى خراسان ثم إلى الري * (فتنة قاروت بك صاحب كرمان ومقتله) *
كان بكرمان قاروت بك اخو السلطان البارسلان أميرا عليها فلما بلغه وفاة أخيه سار إلى الزي لطلب الملك فسبقه إليها السلطان ملك شاه ونظام الملك ومعهما مسلم بن قريش ومنصور بن دبيس وأمراء الاكراد والتقوا على نهر مان فانهزم قاروت بك وجئ به إلى أمام سعد الدولة كوهراس فقتله خنقا وأمر كرمان بسير بنيه وبعث إليهم بالخلع وأقطع العرب والاكراد مجازاة لما ابلوا في الحرب وقد كان السلطان البارسلان شافعا فيه على الخليفة فلقيهم خبر وفاة البارسلان في طريقهم فمروا إلى ملك شاه وسبق إليه مسلم بطاعته واما بهاء الدولة منصور بن دبيس فان أباه أرسله بالمال إلى ملك شاه فلقيه سائرا للحرب فشهدها معه ثم توفى اياز أخو السلطان ملك شاه ببلخ سنة خمس وستين فكفله ابنه ملك شاه إلى سنة سبع وستين وتوفى القائم منتصف شعبان منها لخمس وأربعين سنة من خلافته ولم يكن له يومئذ ولد وانما كان له حافد وهو المقتدى عبد الله ابن محمد وكان أبوه محمد بن القائم ولى عهده وكان يلقب ذخيرة الدين ويكنى ابا العباس وتوفى سنة وعهد القائم لحافده فلما توفى اجتمع اهل الدولة وحضر مؤيد الملك بن نظام الملك والوزير فخر الدولة بن جهيز وابنه عميد الدولة والشيخ ابو اسحق الشيرازي ونقيب النقباء طراد وقاضي االقضاة الدامغاني فبايعوه بالخلافة لعهد جده إليه بذلك وأقر فخر الدولة بن جهير على الوزارة وبعث ابنه عميد الدولة إلى السلطان ملك شاه لاخذ بيعته والله الموفق للصواب استيلاء السلجوقية على دمشق وحصارهم مصر ثم استيلاء تتش ابن السلطان البارسلان على دمشق قد تقدم لنا ملك انسز الرملة وبيت المقدس وحصاره دمشق سنة احدى وستين ثم عاد عنها وجعل يتعاهد نواحيها بالعيث والافساد كل سنة ثم سار إليها في رمضان سنة سبع وستين وحاصرها ثم عاد عنها وهرب منها أميرها من قبل المستنصر العلوى صاحب(5/4)
مصر المعلى بن حيدوه لانه كثر عسفه بالجند والرعية وظلمه فثاروا به فهرب إلى ياساس ثم إلى صور ثم إلى مصر فحبس ومات بها محبوسا واجتمعت المصامدة بدمشق وولى عليهم انصار بن يحيى المصمودى ويلقب نصير الدولة وغلت الاقوات عندهم واضطربوا فعاد إليها انسز في شعبان سنة ثمان وستين فاستأمنوا إليه وعوض انتصارا منها بقلعة بانياس ومدينة يافان الساحل ودخلها في ذى القعدة وخطب بها للمقتدى ومنع من النداء بحى على خير العمل وتغلب على كثير من مدن الشأم ثم سار سنة تسع وستين إلى مصر وحاصرها وضيق عليها واستنجد المنتصر بالبوادي من نواحيها فوعدوه بالنصر وخرج بدر الجمالى في العساكر التى كانت بالقاهرة وجاء أهل البلاد لميعادهم فانهزم انسز وعساكره ونجا إلى بيت المقدس فوجدهم قد بمخلفه فتحصنوا منه بالمعاقل فافتتحها عنوة واستباحها حتى قتلهم في المسجد وقد تقدم ضبط هذا الاسم وأنه عند أهل الشأم انسيس والصحيح انسز وهو اسم تركي ثم ان السلطان ملك شاه اقطع اخاه تتش بن البارسلان بلاد الشأم وما يفتحه من تلك النواحى سنة سبعين وأربعمائة فقصد حلب أولا وحاصرها ومعه جموع من التركمان وكان بدر الجمالى المستولي على مصر قد بعث العساكر لحصار دمشق وبها انسز فبعث إلى تتش وهو على حلب يستنجده فسار إليه وأخرت عساكر مصر عنه منهزمين ولما وصل إلى دمشق قعد انسز على لقائه وانتظر قدومه فلقيه عند السور وعاتبه على ذلك فتساهل في العذر فقتله لوقته وملك البلد واستولى على الشأم أجمع كما سيأتي وكان يلقب تاج الدولة ثم سار في سنة ثنتين وسبعين إلى حلب فحاصرها أياما وأفرج عنها وملك مراغة والبيرة وعاد إلى دمشق وخالفه مسلم بن قريش إلى حلب فملكها كما تقدم في أخباره وضمنها للسلطان ملك شاه فولاه اياها وسار مسلم بن قريش فحاصرها آخر سنة أربع وسبعين ثم أفرج عنها فخرج تتش وقصد طرسوس من الساحل فافتتحها ورجع ثم حاصرها مسلم ثانية سنة تسع وسبعين وبلغه أن تاج الدولة تتش سار إلى بلاد الروم غازيا
فخالفه إلى دمشق وحاصرها معه العرب والاكراد وبعث إليه العلوى صاحب مصر بعده بالمدد وبلغ الخبر إلى تتش فكر راجعا وسبقه إلى دمشق فحاصرها أياما ثم خرج إليه تتش في جموعه فهزمه واضطرب أمره ووصله الخبر بانتقاض أهل حران فرحل من مرج الصفر راجعا إلى بلاده ثم سار أمير الجيوش من مصر في العساكر إلى دمشق سنة ثمان وسبعين وحاصرها فامتنعت عليه ورجع فلحقوا بأخيه تكش في فقوى به وأظهر العصيان واستولى على مرو الروذ ومرو الساهجان وغيرهما وسار الى نيسابور طامعا في ملك خراسان وبلغ الخبر إلى السلطان(5/5)
فسبقه إلى نيسابور فرجع تتش وتحصن بترمذ وحاصره السلطان حتى سأل الصلح وأطلق من كان في أسره من عسكر السلطان ونزل عن ترمذ وخرج إليه فأكرمه ثم عاود العصيان سنة سبع وسبعين وملك مرو الروذ ووصل قريبا من سرخس وحاصر قلعة هناك لمسعود ابن الامير فاخر وتحيل أبو الفتوح الطوسى صاحب نظام وهو بنيسابور على ملطفة وضعوها على شبه خط نظام الملك يخاطب فيها صاحب القلعة بأنه واصل في ركاب السلطان ملك شاه وأنه مصالح للقلعة وتعرض حاملها لاهل المعسكر حتى أخذوا كتابه بعد الضرب والعرض على القتل وحدثهم بمثل ما في الصحيفة وان السلطان وعساكره في الرى فأجفلوا لوقتهم إلى قلعة ربح وخرج أهل الحصن فأخذوا ما في العسكر وجاء السلطان بعد ثلاثة أشهر فحاصره في قلعته حتى افتتحها وحده ودفعه إلى ابنه أحمد فتسلمه وحبسه فخرجا من يمينه معه * (سفارة الشيخ أبى اسحق الشيرازي عن الخليفة) * كان الخليفة المقتدى وكان عميد العراق أبو الفتح بن أبى الليث يسئ معاملة الخليفة فبعث المقتدى الشيخ أبا اسحق الشيرازي إلى السلطان ملك شاه ووزيره نظام الملك باصفهان شاكيا من العميد فسار الشيخ لذلك ومعه الامام أبو بكر الشاشى وغيره
من الاعيان ورأى الناس عجبا في البلاد التى يمر بها من اقبال الخلق عليه وازدحامهم على محفته يتمسحون بها ويلثمون أذيالها وينشرون موجودهم عليها من الدراهم والدنانير لاهلها والمصنوعات لاهل الصنائع والبضائع للتجار والشيخ في ذلك يبكى وينتحب ولما حضر عند السلطان أظهر المحرمة وأجابه إلى جميع ما طلبه ورفعت بدا لعميد عن كل ما يتعلق بالخليفة وحضر الشيخ مجلس نظام الملك فجرت بينه وبين امام الحرمين مناظرة خبرها معروف * (اتصال بنى جهير بالسلطان ملك شاه ومسير فخر الدولة لفتح ديار بكر) * كان فخر الدولة أبو نصر بن جهير وزير المقتدى قد عزل سنة احدى وسبعين على يد نظام الملك ولحق به ابنه عميد الدولة واسترضاه فرضى نظام الملك وشفع إلى الخليفة فاعتمد عميد الدولة دون أبيه كما تقدم في أخبار الخلفاء ثم أرسل المقتدى سنة أربع وسبعين فخر الدولة إلى ملك شاه يخطب له ابنته فسار إلى اصبهان وعقد له نكاحها على خمسين ألف دينار معجلة وعاد إلى بغداد ثم عزل المقتدى ابنه عميد الدولة عن الوزارة سنة ست وسبعين وكانوا قد علقوا بخطة من نظام الملك فبعث عن نفسه وعن ملك شاه يطلب حضور بنى جهير عندهم فساروا بأهليهم فعظمت حظوظهم عند السلطان وعقد لفخر الدولة(5/6)
على ديار بكر وبعث معه العساكر لفتحها من يد بنى مروان وأذن له في اتخاذ الآلة وان يخطب لنفسه ويكتب اسمه على السكة فسار في العساكر السلطانية * (استيلاء ابن جهير على الموصل) * ولما سار فخر الدولة ابن جهير لفتح ديار بكر استنجد ابن مروان مسلم بن قريش وشرط له أمرا وتحلفا على ذلك واجتمعا لحرب ابن جهير وبعث السطان الامير ارتق بن أكسك في العساكر مددا لابن جهير فجنح ابن جهير إلى الصلح وبادر ارتق إلى القتال فهزم العرب والاكراد وغنم معسكرهم ونجا مسلم بن قريش إلى آمد وأحاطت به العسكر
فلما اشتد مخنقه راسل الامير ارتق في الخروج على مال بذله له فقبله وكانت له حراسة الطريق فخرج إلى الرقة وسار ابن جهير إلى ميافارقين وفارقه منصور بن مزيد وابنه صدقة فعاد منها إلى خلاط ولما بلغ السلطان انحصار مسلم في آمد بعث عميد الدولة في جيش كثيف إلى الموصل ومعه آقسنقر قسيم الدولة الذى أقطعه بعد ذلك حلب وساروا إلى الموصل فلقيهم أرتق ورجع معهم ولما نزلوا على الموصل بعث عميد الدولة إلى أهلها بالترغيب والترهيب فأذعنوا واستولى عليها وجاء السلطان في عساكره إلى بلاد مسلم بن قريش وقد خلص من الحصار وهو مقيم قبالة الرحبة فبعث إليه مؤيد الكتاب ولاطف السلطان واسترضاه ووفد إليه بالقوارح ورده السلطان إلى اعماله وعاد لحرب أخيه تتش الذى ذكرناه آنفا فتح سليمان بن قطلمش انطاكية والخبر عن مقتله ومقتل مسلم ابن قريش واستيلاء تتش على حلب كان سليمان بن قطلمش بن اسرائيل بن سلجوق قد ملك قرسة واقتصرا وأعمالها من بلاد الروم إلى الشأم وكانت انطاكية بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلثمائة وكان ملكها لعهده الفردروس فأساء السيرة إلى جنده ورعاياه وتنكر لابنه وحبسه فداخل الشحنة في تمكين سليمان من البلد فاستدعوه سنة سبع وسبعين فركب إليها البحر وخرج إلى البر في أقرب السواحل إليها في ثلثمائة ألف فارس ورجل كثير وسار في جبال وأوعار فلما انتهى إلى السور وأمكنه الشحنة من تسليم السور دخل البلد وقاتل أهلها فهزمهم وقتل كثيرا منهم ثم عفا عنهم وملك القلعة وغنم من أموالهم ما لا يحصى وأحسن إلى أهلها وأمر لهم بعمارة ما خرب وأرسل إلى السلطان ملك شاه بالفتح ثم بعث إليه مسلم بن قريش يطلب منه ما كان يحمل إليه الفردروس ملك انطاكية من المال ويخوفه معصية السلطان فأجابه بتقرير الطاعة للسلطان(5/7)
وبان الجزية لا يعطيها مسلم فسار مسلم ونهب نواحى انطاكية فنهب سليمان نواحى حلب ثم جمع سليمان العرب والتركمان وسار لنواحي انطاكية ومعه جماهير التركمان وجمع سليمان كذلك والتقيا آخر صفر سنة ثمان وسبعين وانحاز جق إلى سليمان فانهزمت العرب وقتل مسلم وسار سليمان بن قطلمش إلى حلب وحاصرها فامتنعت عليه وارسل إليه ابن الحثيثى العباسي كبير حلب بالاموال وطالبه أن يمهل حتى يكاتب السلطان ملك شاه ودس إلى تاج الدولة تتش صاحب دمشق يستدعيه لملكها فجاء لذلك ومعه ارسوس اكسك وكان خائفا على نفسه من السلطان ملك شاه لفعلته في امر فاستجار بتتش وأقطعه المورس وسار معه لهذه الحرب وبادر سليمان بن قطلمش إلى اعتراضهم وهم على تعبية وابلى أرتق في هذه الحروب وانهزم سليمان وطعن نفسه بخنجر فمات وغنم تتش معسكره وبعث إلى ابن الحثيثى العباسي فيما استدعاه إليه فاستمهله إلى مشورة السلطان ملك شاه واغلظ في القول فغضب تتش وداخله بعض اهل البلد فتسورها وملكها واستجار ابن الحثيثى بالامير ارتق فأجاره وسمع له * (استيلاء ابن جهير على ديار بكر) * ثم بعث ابن جهير سنة ثمان وسبعين ابنه زعيم الرؤساء ابا القاسم إلى حصار آمد ومعه جناح الدولة اسلار فحاصرها واقتلع شجرها وضيق عليها حتى جهدهم الجوع وغدر بعض العامة في ناحية من سورها ونادى بشعار السلطان واجتمع إليه العامة لما كانوا يلقون من عسف العمال النصارى فبادر زعيم الرؤساء إلى البلد وملكها وذلك في المحرم وكان ابوه فخر الدولة محاصر الميافارقين ووصل إليه سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد بمدد العساكر فاشتد الحصار وسقطت من السور ثلمة في سادس جمادى فنادوا بشعار السلطان ومنعوا ابن جهير من البلد واستولى على أموال بنى مروان وبعثها مع ابنه زعيم الرؤساء إلى السلطان فسار مع كوهراس إلى بغداد ثم فارقه إلى السلطان باصبهان ولما انقضى أمر ميافارقين بعث فخر الدولة جيشا إلى جزيرة ابن عمر فحاصرها
وقام بعض أهلها بدعوة السلطان وفتحوا مما يليهم بابا قريبا دخل منه العسكر فملكوا البلد وانقرضت دولة بنى مروان من ديار بكر والبقاء لله ثم أخذ السلطان ديار بكر من فخر الدولة بن جهير وسار إلى الموصل فأقام بها إلى أن توفى سنة ثلاث وثمانين * (استيلاء السلطان ملك شاه على حلب وولاية اقسنقر عليها) * لما ملك تاج الدولة تتش مدينة حلب وكان بها سالم بن ملك بن مران ابن عم مسلم بن قريش وامتنع بالقلعة وحاصره تتش سبعة عشر يوما حتى وصل الخبر بمقدم أخيه(5/8)
السلطان ملك شاه وقد كان ابن الحثيثى كتب إليه يستدعيه لما خاف من تتش فسار من اصبهان منتصف تسع وسبعين وفي مقدمته برثق وبدران وغير هما من الامراء ومر بالموصل في رجب ثم سار إلى هراة وبها ابن الشاطى فملكها وأقطعها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش وأقطعه معها مدينة الرحبة وأعمالها حران وسروج والرقة وخابور وزوجه أخته زليخا خاتون ثم سار إلى الرها وافتتحها من الروم وكانوا اشتروها من ابن عطية كما مر وسار إلى قلعة جعفر فملكها وقتل من كان بها من بنى قشير وكان صاحبها جعفر أعمى وكان يخيف السابلة هو وولده فأزال ضررهم ثم ملك منبج وعيسر الفرات إلى حلب فأجفل تتش عن المدينة ودخل ومعه الامير ارتق ورجع إلى دمشق فلما وصل السلطان إلى حلب ملكها ثم إلى القلعة فملكها من سالم بن ملك على أن يعليه قلعة جعفر فلم تزل بيد عقبه إلى أن ملكها منهم نور الدين الشهيد ثم بعث إليه نصر بن علي بن منقذ الكنانى بالطاعة فأقره على شيراز وتسلم منه اللاذقية وبعرطاف وجامية ورجع ثم رجع السلطان بعد أن ولى على حلب قسيم الدولة اقسنقر ورغب إليه أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثى فأخرجه عنهم إلى ديار بكر وتوفى بها ثم رجع السلطان إلى بغداد فدخلها في ذى الحجة من سنته ونزل بدار المملكة وأهدى للخليفة هدايا كثيرة واجتمع بالخليفة ليلا ثم دخل إليه في مجلسه نهارا وأفيضت عليه الخلع وسلم
أمراء السلجوقية على الخليفة ونظام الملك قائم يقربهم واحدا واحدا ويعرف بهم ثم صرح المقتدى للسلطان ملك شاه بالتفويض وأوصاه بالعدل فقبل يده ووضعها على عينيه وخلع الخليفة على نظام الملك وجاء إلى مدرسته التى فيها الحديث وأملى * (خبر الزفاف) * قد قدمنا أن السلطان ملك شاه زوج ابنته من الخليفة المقتدى سنة أربع وسبعين بخطبة الوزير بن جهير فلما كان سنة ثمانين في المحرم نقل جهازها للزفاف إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملا مجللة بالديباج الرومي أكثرها ذهب وفضة ومعه ثلاث عماريات ومعها أربع وسبعون بغلا مجللة بأنواع الديباج المكى وقلائدها الذهب وعلى ستة منها اثنا عشر صندوقا من فضة مملوأة بالحلى والجواهر ومهد عظيم من ذهب وسار بين يدى الجهاز سعد الدولة كوهراس والامير ارتق وغيرهما من الامراء والناس يسترون عليهم الدنانير والثياب وبعث الخليفة وزيره أبا شجاع إلى زوجة السلطان تركمان خاتون ومعه خادمه ظفر بمحفة لم ير مثلها ومعهم ثلثمائة من الشمع الموكف ومثلها مشاعل واوقدت الشموع في دكاكين الحريم الخلافى وقال الوزير لخاتون سيدنا أمير المومنين يقول ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وقد أذن في نقل(5/9)
الوديعة إلى داره فقالت سمعا وطاعة ومشى بين يديها أعيان الدولة مع كل واحد لشمع والمشاعل يحملها الفرسان ثم جاءت المأمون من بعدهم في محفة مجللة عليها من الذهب والجواهر ما لا يحد ويحيط بالمحفة مائتا جارية من الاتراك على مراكب رائعة وأولم الخليفة وليمة لم يسمع بمثلها ثم أطلع للناس من الغد سماط مائدة عليها أربعون ألفا من السكر وخلع على أعيان العسكر وعلى جميع الحواشى * (استيلاء السلطان ملك شاه على ما وراء النهر) * كان صاحب سمرقند لهذا العهد من الخانية أحمد خان بن خضر خان أخى شمس الملك
الذى كان أميرا عليها وعمته خاتون زوجة ملك شاه وكان ردئ السيرة فبعثوا إلى السلطان يسألونه الرجوع إلى ايالته وجاء بذلك مفتى سمرقند أبو طاهر الشافعي قدم حاجا وأسر ذلك إلى السلطان فسار من اصبهان سنة ثنتين وثمانين ومعه رسول الروم بالخراج المقدر عليهم فاستعجم وأحضر للفتح ولما انتهى إلى خراسان جمع العساكر وعبر النهر بجيوش لا تحصى وأخذ ما في طريقه من البلاد ثم انتهى إلى بخارى فملكها وما جاورها ثم سار إلى سمرقند فحاصرها وأخذ بهجتها ثم رماها بالمنجنيق وثلم سورها ودخل من الثلمة وملك البلد واختفى أحمد خان ثم جئ به أسيرا فأطلقه وبعث به إلى اصبهان وولى على سمرقند أبا طاهر عميد خوارزم وسار الى كاشقر فبلغ إلى نور وكمن وبعث إلى كاشقر بالخطبة وضرب السكة فأطاع وحضر عند السلطان فأكرمه وخلع عليه وأعاده إلى بلده ورجع السلطان إلى خراسان وكان بسمرقند عساكر يعرفون بالحكلية فأرادوا الوثوب بالعميد نائب السلطان فلاطفهم ولحق ببلده خوارزم (عصيان سمرقند وفتحها ثانيا) * كان مقدم الحكلية بسمرقند اسمه عين الدولة وخاف السلطان لهذه الحادثة فكاتب يعقوب نكين أخا ملك كاشقر وكانت مملكته تعرف بارياسى فاستحضره وملكه ثم شكر له يعقوب وحمل أعداءه من الرعية على طلب الثأر منه وقتله بفتاوى الفقهاء واستبد بسمرقند وسار السلطان ملك شاه إليها سنة ثنتين وثمانين فلما انتهى إلى بخارى هرب يعقوب إلى فرغانة ولحق بولايته وجاء بعسكره مستأمنين إلى السلطان فلقوه بالطواويس من قرى بخارى ووصل السلطان إلى سمرقند وولى عليها الامبرانز وأرسل العساكر في طلب يعقوب وأرسل إلى ملك كاشقر بالجد في طلبه وشعب على يعقوب عساكره وتهيؤا خزائنه ودخل على أخيه كاشقر مستجيرا به وبعث السلطان في طلبه منه فتردد بين المخافة والانفة ثم غلب عليه الخوف فقبض على أحيه يعقوب وبعثه مع ابنه وأصحابه إلى السلطان وأمرهم أن يسملوه في طريقه فان قنع السلطان بذلك والا أسلموه إليه فلما قربوا على السلطان وعزموا على حمله(5/10)
بلغهم الخبر بأن طغرل بن نيال أسرى من ثمانين فرسخا بعساكر لا تحصى فكبس ملك كاشقر وأسره فأطلقوا يعقوب ثم خشى السلطان شأن طغرل بن نيال وكثرة عساكره فرجع على البلد ودس تاج الملك في استصلاح يعقوب فشفع له ورد إلى كاشقر ورد الطغرل ورجع هو إلى خراسان ثم قدم إلى بغداد سنة أربع وثمانين العزمة الثانية ووجد عليه أخوه تاج الدولة تتش صاحب الشأم وقسيم الدولة اقسنقر صاحب حلب وبوران صاحب الرها وعمال الاطراف وأقام صنيع الميلاد ببغداد وتأنق بما لم يعهد مثله وأمر وزيره نظام الملك وأمراءه ببناء الدور ببغداد لنزلهم ورجع إلى اصبهان * (استيلاء تتش على حمص وغيرها من سواحل الشأم) * لما قدم السلطان سنة أربع وثمانين وفد عليه أمراء الشأم كما قدمنا فلما انصرفوا من عنده أمر أخاه تاج الدولة تتش أن يذهب دولة العلويين من ساحل الشأم ويفتح بلادهم وأمر اقسنقر وبوران أن يسيرا لانجاده فلما رجعوا إلى دمشق سار إلى حمص وبها صاحبها ابن ملاعب وقد عظم ضرره وضرر ولده على الناس فحاصرها وملكها ثم سار إلى قلعة عرفة فملكها عنوة ثم إلى قلعة أماسية فائتا من إليه خادم كان بها فأرسل إلى أمراء تتش في اصلاح حاله فسدوا عليه المذاهب فأرسل إلى وزير اقسنقر يسعى له عند صاحبه وعمل له على ثلاثين ألف دينار ومثلها عروضا فجنح إلى مصالحته واختلف مع تتش على ذلك وأغلظ كل منهما لصاحبه في القول فرحل اقسنقر مغاضبا واضطر الباقون إلى الرحيل وانتقض أمرهم * (ملك اليمن) * كان فيمن حضر عند السلطان ببغداد كما قدمناه عثمان چق أمير التركمان صاحب قرمسيس وغيرها فأمره السلطان أن يسير في جموع التركمان للحجاز واليمن فيظهر أمرهم هناك وفوض إلى سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد فولى عليهم أميرا اسمه
ترشك وسار إلى الحجاز فاستولى عليه وأساء السيرة فيه حتى جاء أمير الحجاز محمد بن هاشم مستغيثا منهم ثم ساروا سنة خمس وثمانين إلى اليمن وعاثوا في نواحيه وملكوا عدن وأساؤا السيرة في أهلها وأهلكوا برشك سابع دخولها وأعاده أصحابه إلى بغداد فدفنوه بها * (مقتل الوزير نظام الملك) * ثم ارتحل السلطان ملك شاه إلى بغداد سنه خمس وثمانين فانتهى إلى اصبهان في رمضان وخرج نظام الملك من بيته بعد الافطار عامدا إلى خيمته فاعترضه بعض الباطنية(5/11)
في صورة متظلم فلما استدناه لسماع شكواه طعنه بخنجر فأشواه وعثر الباطني في أطناب الخيام ودخل نظام الملك الخيمة فمات لثلاثين سنة من وزارته واهتاج عسكره فركب إليه السلطان وسكن الناس ويقال ان السلطان ملك شاه وضع الباطني على قتله لما وقع منه ومن بنيه من الدالة والتحكم في الدولة وقد كان السلطان دس على ابنه جمال الدين من قتله سنة خمس وسبعين كان بعض حواشى السلطان سعى به فسطابه جمال الدين وقتله فأحقد السلطان بذلك وأخذ عميد خراسان فقتله خنقا فدس لخادم من خدم جمال الدين بذلك وأنهم إذا تولوا قتله بأنفسهم كان أحفظ لنعمتهم فسقاه الخادم سما ومات وجاء السلطان إلى نظام الملك وأغراه به وما زال بطانة السلطان يغضون منه ويحاولون السعاية إلى أن ولى حافده عثمان بن جمال الملك على مرو وبعث السلطان إليها كردن من أكابر المماليك والامراء شحنة ووقعت بينه وبين عثمان منازعة قى بعض الايام فأهانه وحبسه ثم أطلقه وجاء إلى السلطان شاكيا فاستشاط غضبا وبعث فخر الملك البارسلان إلى نظام الملك وأغراه به ومازل يقول ان كنت تابعا فقف عند حدك وان كنت شريكي في سلطاني فافعل ما بدالك وقرر عليه فعل حافده وسائر بنيه في ولايتهم وأرسل معه نكبرذ من خواصه ثقة على ما يؤديه من القول ويجيبه
الآخر فانبسط لسان نظام الملك يعدد الوسائل منه والمدافعة عن السلطان وجمع الكلمة وفتح الامصار في كلام طويل حملته عليه الدالة وقال في آخره ان شاء فله مؤيد مرو آتى ومتى أطعت هذه زالت تلك فليأخذ حذره ثم زاد في انبساطه وقال قولوا عنى ما أردتم فان توبيخكم نتأفى عضدي ومضى نكبرذ فصدق السلطان الخبر وجاء الآخرون وحاولوا الكتمان فلم يسعهم لما وشى نكبرذ بجلية القول فصدقوه كما صدقه ومات نظام الملك بعدها بقليل ومات السلطان بعده بنحو شهر وكان أصل نظام الملك من طوس من أبناء الدهاقين اسمه أبو على الحسن بن على بن اسحق ذهبت نعمة آبائه وماتوا فنشأ يتيما ثم تعلم وحذق في العلوم والصنائع وعلق بالخدم السلطانية في بلاد خراسان وغزنة وبلخ ثم لازم خدمة أبى على بن شاذان وزير البارسلان ومات ابن شاذان فاوصي به السلطان البارسلان وعرفه كفايته فاستخدمه فقام بالامور أحسن قيام فاستوزره ثم هلك السلطان البارسلان وهو في وزارته ثم استوزره ملك شاه بعد أبيه وكان عالما جوادا صفوحا مكرما للعلماء وأهل الدين ملازما لهم في مجلسه شيد المدارس وأجرى فيها الجرايات الكثيرة وكان يملى الحديث وكان ملازما للصلوات محافظا على أوقاتها وأسقط في أيامه كثيرا من المكوس والضرائب وأزال لعن الاشعرية من المنابر بعد أن فعله الكندوى من قبله وحمل عليه السلطان طغرلبك وأجراهم مجرى الرافضة(5/12)
وفارق امام الحرمين وأبو القاسم القشيرى البلاد من أجل ذلك فلما ولى البارسلان حمله نظام الملك على ازالة ذلك ورجع العلماء إلى أوطانهم ومناقبه كثيرة وحسبك من عكوف العلماء على مجلسه وتدوينهم الدواوين باسمه فعل ذلك امام الحرمين وأشباهه وأما مدارسه فقد بنى النظامية ببغداد وناهيك بها ورتب الشيخ أبا اسحق الشيرازي للتدريس بها وتوفى سنة ست وسبعين فرتب ابنه مؤيد الملك مكانه أبا سعيد المتولي فلم يرضه نظام الملك وولى فيها الامام أبا نصر الصباغ صاحب الشاهل ومات أبو نصر
في شعبان من تلك السنة فولى أبو سعيد من سنة ثمان وسبعين ومات فدرس بعده الشريف العلوى أبو القاسم الدبوسي وتوفى سنة ثنتين وثمانين وولى تدريسه بعدها أبو عبد الله الطبري والقاضى عبد الوهاب الشيرازي بالنوبة يوما ببوم ثم ولى تدريسها الامام أبو حامد الغزالي سنة أربع وثمانين واتصل حكمها على ذلك وفي أيامه عكف الناس على العلم واعتنوا به لما كان من حسن أثره في ذلك والله أعلم * (وفاة السلطان ملك شاه وولاية ابنه محمود) * ثم لما سار السلطان بعد مقتل نظام الملك إلى بغداد ودخلها آخر رمضان وكان معه في الدولة أبو الفضل الهروستمانى وزير زوجته الخاتون الجلالية من الملوك الخانية فيما وراء النهر وكان من أشد الناس سعاية في نظام الملك وعزم السلطان أن يستوزره لاول دخوله بغداد فعاقت الميتة عن ذلك وطرقه المرض ثالث الفطر وهلك منتصف شوال سنة خمس وثمانين وكانت زوجته تركمان خاتون الجلالية عنده في بغداد وابنها محمود غائبا في اصبهان فسلمت موته وسارت بشلوه إلى اصبهان وتاج الملك في خدمتها وقدمت بين يديها قوام الدين كربوقا الذى ولى الموصل من بعد وأرسلته بخاتم السلطان إلى مستحفظ القلعة فملكها وجاءت على اثره وقد أفاضت الاموال في الامراء والعساكر ودعتهم إلى بيعة ولدها محمود وهو ابن أربع سنين فأجابوا إلى ذلك وبايعوه وارسلت إلى المقتدر في الخطبة له فأجابها على أن يكون الامير أنز قائما بتدبير الملك ومجد الملك مشيرا وله النظر في الاعمال والجباية فنكرت ذلك أمه خاتون وكان السفير أبا حامد الغزالي فقال لها ان الشرع لا يجيز ولاية ابنك فقبلت الشرط وخطب له آخر شوال سنة خمس وثلاثين وأرسلت تركمان خاتون إلى اصبهان في القبض على بركيارق فحبس باصبهان وكان السلطان ملك شاه من أعظم ملوك السلجوقية ملك من الصين إلى الشأم ومن أقصى الشأم إلى اليمن وحمل لطيه ملوك الروم الجزية ومناقبه عظيمة مشهورة * (منازعة بركيارق لاخيه محمود وانتظام سلطانه) *(5/13)
كان بركيارق أكبر أولاد السلطان ملك شاه وكانت أمه زبيدة بنت ياقوتي بن داود وياقوتي عم ملك شاه ولما حبس بركيارق وخافت عليه أمه زبيدة دست لمماليك نظام الملك فتعصبوا له وكانت خاتون غائبة ببغداد مع ابنها محمود لفقد سلطانه فوثب المماليك النظامية على سلاح لنظام الملك باصبهان وأخرجوا بركيارق من محبسه وخطبوا له وبلغ الخبر إلى خاتون فسارت من بغداد وطلب العسكر تاج الملك في عطائهم فهرب إلى قلعة بوجين لينزل منها الاموال وامتنع فيها ونهب العسكر خزائنه وساروا إلى اصبهان وقد سار بركيارق والنظامية إلى الرى فأطاعه أرغش النظامي في عساكره وفتحوا قلعة طغرل عنوة وبعثت خاتون العساكر لقتال بركيارق فنزع إليه سبكرد وكمستكن الجاندار وغيرهما من أمراء عساكره ولقيهم بركيارق فهزمهم وسار في اثرهم إلى أصفهان فحاصرهم بها وكان عز الملك بن نظام الملك باصبهان وكان واليا على خوارزم فحضر عند السلطان قبل مقتل أبيه وبقى هناك بعد وفاة السلطان فخرح إلى بركيارق ومعه جماعة من اخوانه فاستوزره بركيارق وفوض إليه الامور كما كان أبوه * (مقتل تاج الملك) * وهو أبو الغنائم المرزبان بن خسرو فيروز كان وزيرا لخاتون وابنها ولما هرب إلى قلعة بوجين خوفا من العسكر كما قدمنا وملكت خاتون اصبهان عاد إليها واعتذر بأن صاحب القلعة حبسه فقبلت عذره وبعثته مع العساكر لقتال بركيارق فلما انهزموا حمل أسيرا عنده وكان يعرف كفاءته فأراد أن يستوزره وكان النظامية ينافرونه ويتهمونه بقتل نظام الملك وبذل فيهم أموالا فلم يغنه ووشوا به فقتلوه في المحرم سنة ست وثمانين وكان كثير الفضائل جم المناقب وانما غطى على محاسنه ممالاته على قتل نظام الملك وهو الذى بنى تربة الشيخ أبى اسحق الشيرازي والمدرسة بازائها ورتب بها أبا بكر الشاشى مدرسا * (مهلك محمود) * ثم هلك السلطان محمود وهو محاصر باصبهان لسنة من ولايته واستقل
بركيارق بالملك * (منازعة تتش بن البارسلان وأخباره إلى حين انهزامه) * كان تاج الدولة تتش أخو السلطان ملك شاه صاحب الشأم وسار إلى لقاء أخيه ملك شاه ببغداد قبيل موته فلقيه خبر موته بهيت فاستولى عليها وعاد إلى دمشق فجمع العساكر وبذل الاموال وأخذ في طلب الملك فبدأ بحلب ورأى صاحبها قسيم الدولة اقسنقر اختلاف ولد ملك شاه وحقرهم فأطاع تاج الدولة تتش وتبعه في طاعته وبعث إلى باعى يسار صاحب انطاكية وإلى مران صاحب الرها وحران يشير عليهما بمثل ذلك فأجابا وخطبوا لتاج الدولة تتش في بلادهم وساروا معه إلى الرحبة فملكها ثم إلى نصيبين(5/14)
فملكها واستباحها وسلمها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش وساروا إلى الموصل وقدم عليه الكافي بن فخر الدولة بن جهير من جزيرة ابن عمر فاستوزره وكانت الموصل قد ملكها علي بن شرف الدولة مسلم بن قريش وأمه صفية عمة ملك شاه وأطلقت تركمان خاتون عمه ابراهيم فجاء وملك الموصل من يده كما تقدم في أخبار بنى المقلد فبعث إليه تتش في الخطبة وأن يهىء له الطريق إلى بغداد فامتنع وزحف لحربه فانهزم العرب وسيق ابراهيم أسيرا إلى تتش في جماعة من أمراء العرب فقتلوا صبرا ونهبت أموالهم واستولى تتش على الموصل وغيرها واستناب عليها على بن مسلم وهو ابن صفية عمة أبيه وبعث إلى بغداد في الخطبة ووافقه كوهراس الشحنة وحرر الجواب بانتظار الرسل من العسكر فسار تتش إلى ديار بكر فملكها ثم سار إلى اذربيجان وزحف بركيارق يعتذر من سعيه مع تتش فعزله بركيارق بسعاية كمستكن الجاندار بقسيم الدولة وأقام عوضه شحنة ببغداد الامير مكرد وأعطاه أقطاعه وسار إلى بغداد ثم رده من دقوفا لكلام بلغه عنه وقتله وولى على شحنة بغداد فتكين حب * (مقتل اسمعيل بن ياقوتي) *
كان اسمعيل بن ياقوتي بن داود بن عم ملك شاه وخال بركيارق أميرا على أذربيجان فبعثت تركمان خاتون إليه فأطمعته في الملك وأنها تتزوج به فجمع جموعا من التركمان وغيرهم وسار لحرب بركيارق فلقيه عند كرخ ونزع عنه مكرد إلى بركيارق فانهزم اسمعيل إلى اصبهان فخطبت له خاتون وضربت اسمه على الدنانير بعد ابنها محمود وأرادت العقد معه فمنعها الامير أنز مدبر الدولة وصاحب العسكر وخوفهم وفارقهم ثم أرسل أخته زبيدة أم بركيارق فأصلحت حاله مع ابنها وقدم عليه فأكرمه واجتمع به رجال الدولة كمستكن الجاندار واقسنقر وبوران وكشفوا سره في طلب الملك ثم قتلوه وأعلموا بركيارق أهدر دمه * (مهلك توران شاه بن قاروت بك) * كان توران شاه بن قاروت بك صاحب فارس وأرسلت خاتون الجلالية الامير انز لفتح فارس سنة سبع وثمانين فهزمه أولا ثم أساه السيرة مع الجند فلحقوا بتوران شاه وزحف إلى انز فهزمه واسترد البلد من يده وأصاب توران شاه في المعركة بسهم هلك منه بعد شهرين * (وفاة المقتدى وخلافة المستظهر وخطبته لبركيارق) * ثم توفى المقتدى منتصف محرم سنة سبع وثمانين وكان بركيارق قد قدم بغداد بعد هزيمة عمه تتش فخطب له وحملت إليه الخلع فلبسها وعرض التقليد على المقتدى فيه وتوفى فجأة وبويع لابنه المستظهر بالخلافة فأرسل الخلع والتقليد إلى بركيارق وأخذت عليه البيعة(5/15)
للمستظهر * (استيلاء تتش على البلاد بعد مقتل أقسنقر ثم هزيمة بركيارق) * لما عاد تتش منهزما من أذربيجان جمع العساكر واحتشد الامم وسار من دمشق إلى حلب سنة سبع وثمانين واجتمع قسيم الدولة أقسنقر وبوران وجاء كربوقا مددا من عند بركيارق وساروا لحرب تتش ولقوه على ستة فراسخ من حلب فهزمهم وأخذ أقسنقر
أسيرا فقتله ولحق كربوقا وبوران بحلب واتبعهما تتش فحاصرهما وملك حلب وأخذهما أسيرين وبعث إلى والرها في الطاعة فامتنعوا فبعث إليهم برأس بوران وملك البلدين وبعث بكربوقا إلى حمص فحبسه بها وسار إلى الجزيرة فملكها ثم إلى ديار بكر وخلاط فملكها ثم إلى أذربيجان ثم سار إلى همدان ووجد بها فخر الدولة ابن نظام الملك جاء من خراسان إلى بركيارق فلقيه الامير قماج من عسكر محمود باصبهان فنهب ماله ونجا إلى همذان فصادف بها تتش فأراد قتله وشفع فيه باغى يسار وأشار بوزارته لميل الناس إلى بيته واستوزره وكان بركيارق قد سار إلى قسيس فخالفه تتش إلى أذربيجان وهمذان فسار بركيارق من نصيبين وعبر دجلة من فوق الموصل إلى اربل فلما تقارب العسكران أشرف الامير يعقوب بن أنق من عسكر تتش فكبس بركيارق وهزمه ونهب سواده ولم يبق معه الا برسد وكمستكن الجاندار والبارق من أكابر الامراء فلجؤا إلى أصبهان وكانت خاتون أم محمود قد ماتت فمنعه محمود وأصحابه من الدخول ثم خرج إليه محمود وأدخله إلى اصبهان واحتاطوا عليه وأرادوا أن يسلموه فمرض محمود فأبقوه * (مقتل تتش واستقلال بركيارق بالسلطان) * ثم مات محمود منسلخ شوال سنة سبع وثمانين واستولى بركيارق على اصبهان وجاء مؤيد الملك بن نظام الملك فاستوزره عوض أخيه عز الملك وكان توفى بنصيبين فكاتب مؤيد الملك الامراء واستمالهم فرجعوا إلى بركيارق وكشف جمعه وبعث تاج الملك تتش بعد هزيمة بركيارق يوسف بن انق التركماني شحنة إلى بغداد في جمع من التركمان فمنع من دخول بغداد وزحف إليه صدقة بن مريد صاحب الحلة فقاتله في يعقوب وانهزم صدقة إلى الحلة ودخل يوسف بن انق بغداد وأقام بها وكان تتش لما هزم بركيارق سار إلى همذان وقد تحصن بها بعض الامراء فاستأمن إليه واستولى على همذان وسار في نواحى اصبهان وإلى مرو وراسل الامراء باصبهان يستميلهم فأجابوه بالمقاربة
والوعد وبركيارق مريض فلما أفاق من مرضه خرج إلى جرباذقان واجتمع إليه من(5/16)
العسكر ثلاثون ألفا ولقيه تتش فهزمه بركيارق وقتله بعض أصحاب اقسنقر بثار صاحبه وكان فخر الملك بن نظام الملك أسيرا عنده فانطلق عند هزيمته واستقامت أمور بركيارق وبلغ الخبر إلى يوسف * (استيلاء كربوقا على الموصل) * قد كنا قدمنا أن تاج الدولة تتش أسر قوام الدولة أبا سعيد كربوقا وحبسه بعدما قتل اقسنقر بوران فأقام محبوسا بحلب إلى أن قتل تتش واستولى رضوان ابنه على حلب فأمره السلطان بركيارق باطلاقه لانه كان من جهة الامير انز فأطلقه رضوان وأطلق أخاه التوسطاش فاجتمعت عليهما العساكر وكان بالموصل على بن شرف الدولة مسلم منذ ولاه عليها تتش بعد وقعة المضيع وكان بنصيبين أخوه محمد بن مسلم ومعه مروان ابن وهب وأبو الهيجاء الكردى وهو يريد الزحف إلى الموصل فكاتب كربوقا واستدعاه للنصرة ولقيه على مرحلتين من نصيبين فقبض عليه كربوقا وسار إلى نصيبين وحاصرها أربعين يوما وملكها ثم سار إلى الموصل فامتنعت عليه فتحول عنها إلى وقتل بها محمد بن شرف الدولة تغريقا وعاد إلى حصار الموصل ونزل منها على فرسخ واستنجد علي بن مسلم بالامير مكرس صاحب جزيرة ابن عمر فجاء لانجاده واعترضه التوسطاش فهزمه ثم سار إلى طاعة كربوقا وأعانه على حصار الموصل ولما اشتد بصاحبه على بن مسلم الحصار بعد تسعة أشهر هرب عنها ولحق بصدقة بن مزيد ودخل كربوقا إلى الموصل وعاث التوسطاش في أهل البلد ومصادرتهم واستطال على كربوقا فأمر بقتله ثالثة دخوله سنة تسع وثمانين وسار كربوقا إلى الرحبة فملكها وعاد فأحسن السيرة في أهل الموصل ورضوا عنه واستقامت اموره * (استيلاء أرسلان أرغون أخى السلطان ملك شاه على خراسان ومقتله) *
كان ارسلان أرغون مقيما عند أخيه السلطان ملك شاه ببغداد فلما مات وبويع ابنه محمود سار إلى خراسان في سبعة من مواليه واجتمعت عليه جماعة وقصد نيسابور فامتنعت عليه فعاد إلى مرو وكان بها شحنة الامير قودر من موالى السلطان ملك شاه وكان أحد الساعين في قتل نظام الملك فمال إلى طاعة أرغون وملكه البلد وسار إلى بلخ وكان بها فخر الدين بن نظام الملك ففر عنها ووصل إلى همدان ووزر لتاج الدولة تتش كما مر وملك ارسلان أرعون بلخ وترمذ ونيسابور وسائر خراسان وأرسل إلى السلطان بركيارق وزيره مؤيد الملك في تقرير خراسان عليه بالضمان كما كانت لجده داود ماعو نيسابور فاعرض عنه بركيارق لاشتغاله بأخيه محمود وعمه تتش ثم عزل بركيارق(5/17)
مؤيد الملك عن الوزارة بأخيه فخر الملك واستولى فخر الملك البارسلان على الامور فقطع ارسلان مراسلة بركيارق فبعث حينئذ عمه بورسوس في العساكر لقتاله فانهزم ارسلان إلى بلخ وأقام بورسوس بهراة وسار ارسلان إلى مرو وفتحها عنوة وخربها واستباحها وسار إليه بورسوس من هراة سنة ثمان وثمانين وكان معه مسعود بن تأخر الذى كان أبوه مقدم عساكر داود ومعه ملك شاه من أعاظم الامراء فبعث إليه ارسلان واستماله فمال إليه ووثب لمسعود بن تأخر وابنه فقتلهما في خيمته فضعف أمر بورسوس وانفض الناس عنه وجئ به أسيرا إلى أخيه ارسلان أرغون فحبسه بترمذ ثم قتله في محبسه بعد سنة وقتل أكابر خراسان وخرب أسوارها مثل سودان ومرو الشاهجان وقلعة سرخس ونهاوند ونيسابور وصادر وزيره عماد الملك بن نظام الملك على ثلئمائة ألف دينار ثم قتله واستبد بخراسان وكان مرهف الحد كثير العقوبة لمواليه وأنكر على بعضهم يوما بعض فعلاته وهو في خلوة وضربه فطعنه الغلام بخنجر معه فقتله وذلك في المحرم من سنة تسعين * (ولاية سنجر على خراسان) *
ولما قتل ارسلان أرغون ملك أصحابه من بعده صبيا صغيرا من ولده وكان السلطان بركيارق قد جهز العساكر لخراسان للقتال ومعه الاتابك قماج ووزيره على بن الحسن الطغرائي وانتهى إليه مقتل ارسلان بالدامغان فأقاموا حتى لحقهم السلطان بركيارق وساروا إلى نيسابور فملكها في جمادى سنة تسعين وأربعمائة وملك سائر خراسان وسار إلى بلخ وكان أصحاب ارسلان قد هربوا بابنه الذى نصبوه للملك إلى جبل طخارستان وبعثوا يستأمنون له ولهم فأمنهم السلطان وجاؤا بالصبى في آلاف من العساكر فأكرمه السلطان وأقطعه ما كان لابيه أيام ملك شاه وانفض عنه العسكر الذين كانوا معه وافترقوا على أمراء السلطان وأفردوه فضمته أم السلطان إليها وأقامت من يتولى رتبته وسار السلطان إلى ترمذ فملكها وخطب له بسمرقند ودانت له البلاد وأقام على بلخ سبعة أشهر ثم رجع وترك أخاه سنجر نائبا بخراسان * (ظهور المخالفين بخراسان) * لما كان السلطان بخراسان خالف عليه محمود بن سليمان من قرابته ويعرف بأمير أميران وسار إلى بلخ واستمد صاحب غزنة من بنى سبكتكين فأمده بالعساكر والغيول على أن يخطب له فيما يفتحه من خراسان فقويت شوكته فسار إليه الملك سنجر وكبسه فانهزم وجئ به أسيرا فسمله ولما انصرف السلطان عن خراسان سار نائب خوارزم(5/18)
واسمه اكنجى في اتباعه وسبق إلى مرو فتشاغل بلذاته وكان بها الامير تورد قد تشاغل عن السلطان واعتذر بالمرض فداخل بارقطاش من الامراء في قتل اكنجى صاحب خوارزم فكبسه في طائفة من أصحابه وقتلوه وساروا إلى خوارزم فملكوها مظهرين ان السلطان ولاهما عليها وبلغ الخبر إلى السلطان وكان قد بلغه في طريقه خروج الامير انز بفارس عن طاعته فمضى إلى العراق وأعاد داود الحبشى بن التونطاق في العساكر لقتالهما فسار إلى العراق من هراة وأقام في انتظار العسكر فعاجلاه فهرب
أمامهما وهرب جيحون وتقدم بارقطاش قبل تودن وقاتله فهزمه داود وأسره وبلغ الخبر إلى تودن فثار به عسكره ونهبوا أثقاله ولحق بسنجار فقبض عليه صاحبها ثم أطلقه فلحق بالملك سنجر ببلخ فقتله سنجر وأفرغ هو طاعته في نظمه وجمع العساكر على طاعته ثم مات قريبا وبقى بارقطاش أسيرا عند داود إلى أن قتل * (بداية دولة بنى خوارزم شاه) * كان أبو شكين مملوكا لبعض أمراء السلجوقية واشتراه من بعض أهل غرشتان فدعى أبا شكين غرشه ونشأ على حال مرضية وكان مقدما وولد له ابنه محمد فأحسن تأديبه وتقدم هو بنفسه ولما سار الامير داود الحبشى إلى خراسان كما مر سار محمد في جملته فلما مهد خراسان وأزال الخوارج نظر فيمن يوليه خوارزم وكان نائبها اكنجى قد قتله كما مر فوقع اختياره على محمد بن أبى شكين فولاه ولقبه خوارزم شاه فحسنت سيرته وارتفع محله وأقره السلطان سنجر وزاده عناية بقدر كفايته واضطلاعه وغاب في بعض الايام عن خوارزم فقصدها بعض ملوك الاتراك وكان طغرلتكين محمد الذى كان أبوه اكنجى نائبا بخوارزم وبادر محمد بن أبى شكين إلى خوارزم بعد أن استمد السلطان سنجر وسار بالعساكر مددا له وتقدم محمد بن أبى شكين فتأخر الاتراك إلى منقشلاع ورحل طغرلتكين إلى جرجان وازداد محمد بذلك عناية عند سنجر ولما توفى ولى ابنه بعده أقسز وأحسن السيرة وكان قد قاد الجيوش أيام أبيه وباشر الحروب فملك مدينة منقشلاع ولما توفي اختصه السلطان سنجر وكان يصاحبه في أسفاره وحروبه واتصل الملك في بنى محمد بن أبى شكين خوارزم وكانت لهم الدولة وتمت دولة بنى ملك شاه وعليها كان ظهور الططر بعد المائة السادسة ومنهم أخذوا الملك كما سيأتي في أخبارهم * (استيلاء لافرنج على انطاكية وغيرها من سواحل الشأم) * كان الافرنج قد ظهر أمرهم في هذه السنين وتغلبوا على صقلية واعتزموا على قصد الشأم وملك بيت المقدس وأرادوا المسير إليها في البر فراسلوا ملك الروم بالقسطنطينية(5/19)
أن يسهل لهم الطريق إلى الشأم فأجابهم على أن يعطوه انطاكية فعبروا خليج القسطنطينية سنة تسعين وأربعمائة وسار ارسلان بن سليمان بن قطلمش صاحب مرقيه وبلاد الروم لمدافعتهم فهزموه ثم مروا ببلاد ابن لبون الارمني ووصلوا إلى انطاكية فحاصروها تسعة أشهر وصاحبها يومئذ باغى سيان فأحسن الدفاع عنها ثم تبوؤا البلد بمداخلة بعض الحامية أصعدهم السور بعد أن رغبوه بالاموال والاقطاع وجاؤا إلى السور فدلهم على بعض المخادع ودخلوا منه ونفخوا لبوق فخرج باغى سيان هاربا حتى إذا كان على أربعة فراسخ راجع نفسه وندم فسقط مغشيا عليه ومر به أرمنى فحمل رأسه إلى انطاكية وذلك سنة احدى وتسعين وأربعمائة واجتمعت عساكر المسلمين وزحفوا إلى انطاكية من كل ناحية ليرتجعوها من الافرنج وجاء قوام الدين كربوقا إلى الشأم واجتمعت عليه العساكر بمرج دابق فكان معه دقاق بن تتش وطغرلتكين أتابك وجناح الدولة صاحب حمص وارسلان تاش صاحب سنجار وسقمان بن أرتق وغيرهم وساروا إلى انطاكية فنازلوها واستوحش الامراء من كربوقا وأنفوا من ترفعه عليهم وضاق الحصار بالافرنج لعدم الاقوات لان المسلمين عاجلوهم عن الاستعداد فاستأمنوا كربوقا فمنعهم الامان وكان معهم من الملوك بردويل وصخبل وكمدمرى والقمط صاحب الرها وسمند صاحب انطاكية وهو مقدم العساكر فخرجوا مستأمنين وضربوا مصاف وتخاذل الناس لما كان قلوبهم من الاضغان لكربوقا فتمت الهزيمة عليهم وآخر من انهزم سقمان بن أرتق واستشهد منهم العرب وغنم العدو سوادهم بمنافيه وساروا إلى معرة النعمان فملكوها وأفحشوا في استباحتها ثم ساروا إلى غزة فحاصروها أربعة أشهر وامتنعت عليهم وصالحهم ابن منقذ على بلده شيراز وحاصروا حمص فصالحهم صاحبها جناح الدولة ثم ساروا إلى عكا فامتنعت عليهم وكان هذا بداية الافرنج بسواحل الشأم ويقال ان من خلفاء العميد بن نصر
لما خشوا من السلجوقية عند استيلائهم على الشأم إلى غزة وزحف الاقسيس من أمرائهم إلى مصر وحاصرها فراسلوا إلى الافرنج واستدعوهم لملك الشأم لينشلوهم عن أنفسهم ويحولوا بينهم وبين مصر والله سبحانه وتعالى أعلم * (انتقاض الامير انز وقتله) * لما سار السلطان بركيارق إلى خراسان ولى على بلاد فاس الامير انز وكانت قد تغلبت الشوانكار واستظهروا بايران شاه بن قاروت بك صاحب كرمان فلما سار إليهم انز قاتلوه فهزموه ورجع إلى اصبهان فاستأذن السلطان فأمره بالمقام هناك وولاه امارة العراق وكانت العساكر في جواره بطاعته وجاءه مؤيد الملك بن نظام الملك من بغداد على(5/20)
الحلة فأغراه بالخلاف وخوفه غائلة بركيارق وأشار عليه بمكاتبة محمد بن شاه وهو في كنجه وشاع عنه ذلك فازداد خوفه وجمع العساكر وسار من اصبهان إلى الرى وجاهر السلطان بالخلاف وطلب منه أن يسلم إليه فخر الملك البارسلان وبينما هو في ذلك إذ هجم عليه ثلاثة نفر من الاتراك المولدين بخوارزم من جنده فطعنوه فقتلوه واهتاج عسكره فنهبوا خزائنه وحمل شلوه إلى اصبهان فدفن بها وأشهر خبر قتله إلى السلطان في أحواز الرى وهو سائر لقتاله فسر بذلك هو وفخر الملك البارسلان وذلك في سنة ثنتين وتسعين وكان محمود المذاهب كبير المناقب ولما قتل هرب اصهنر صبار إلى دمشق فأقام بها مدة ثم قدم على السلطان محمد سنة احدى وخمسمائة فأكرمه وأقطعه رحبة مالك بن طوق * (استيلاء الافرنج على بيت المقدس) * كان بيت المقدس لتاج الدولة تتش وأقطعه الامير سقمان بن أرتق التركماني وكان تتش ملكه من يد العلويين أهل مصر فلما وهن الاتراك بواقعة انطاكية طمع المصريون في ارتجاعه وسار صاحب دولتهم الافضل بن بدر الجمالى وحاصر الامير سقمان وأخاه
ابلغارى وابن أخيهما ياقوتي وابن عمهما سونح ونصب المجانيق فثلموا سوره ثم ملكوه بالامان لاربعين يوما من حصاره في شعبان سنة تسع وثمانين وأحسن الافضل إلى سقمان وابلغارى ومن معهما وأطلقهم فأقام سقمان ببلد الرها وسار ابلغارى إلى العراق وولى الافضل على بيت المقدس افتخار الدولة من أمرائهم ورجع إلى مصر فلما رجع الافرنج من عكا جاؤا إلى بيت المقدس فحاصروه أربعين يوما واقتحموه من جهة الشمال آخر شعبان من سنة ثنتين وتسعين وعاثوا في أهله واعتصم فلهم بمحراب داود عليه السلام ثلاثا حتى استأمنوا وخرجوا ليلا إلى عسقلان وقتل بالمسجد سبعون ألفا أو يزيدون من المجاورين فيهم العلماء والزهاد والعباد وأخذوا نيفا وأربعين قنديلا من الفضة زنة كل واحد ثلاثة آلاف وستمائة درهم ومائة وخمسين قنديلا من الصغار وتنورا من الفضة زنته أربعون رطلا بالشامى وغير ذلك مما لا يحصى ووصل الصريخ إلى بغداد مستغيثين فأمر المقتدى أن يسير إلى السلطان بركيارق أبو محمد الدامغاني وأبو بكر الشاشى وأبو القاسم الزنجانى وأبو الوفاء بن عقيد وأبو سعد الحلواني وأبو الحسين بن السماك فساروا إلى بركيارق يستصرخونه للمسلمين فانتهوا إلى حلوان وبلغهم مقتل نجد الملك البارسلان وفتنة بركيارق مع أخيه محمد فرجعوا وتمكن الافرنج من البلاد ونحن عازمون على افراد أخبارهم بالشأم وما كان لهم فيه من الدولة على حكم أخبار الدول في كتابنا(5/21)
* (ظهور السلطان محمد بن ملك شاه والخطبة له ببغداد وحروبه مع أخيه بركيارق) * كان محمد وسنجر شقيقين وكان بركيارق استعمل سنجر على خراسان ثم لحق به محمد باصبهان وهو يحاصرها سنة ثمان وثمانين فأقطعه كنجة وأعمالها وأنزل معه الامير قطلغ تكين أتابك وكانت كنجة من أعمال اران وكانت لقطون فانتزعها ملك ساه وأقطعه استراباذ وولى على اران سرهناسا وتكين الخادم ثم ضمن قطون بلاده وأعيد إليها فلما قوى
رجع إلى العصيان فسرح إليه ملك شاه الامير بوزان فغلبه على البلاد وأسره ومات ببغداد سنة أربع وثمانين وأقطع ملك شاه بلاد اران لاصحاب باغى سيان صاحب انطاكية ولما مات باغى سيان رجع ابنه إلى ولاية أبيه ثم أقطع السلطان بركيارق كنجة وأعمالها لمحمد كما قلناه سنة ست وثمانين ولما اشتدو استفحل قتل اتابك قطلغ تكين واستولى على بلاد اران كلها ولحق مؤيد الملك عبد الله بن نظام الملك بعد مقتل صاحبه انز فاستخلصه وقربه وأشار عليه مؤيد الملك فطلب الامر لنفسه فخطب له بأعماله واستوزر مؤيد الملك وقارن ذلك مقتل مجد الملك الباسلانى المتغلب في دولة بركيارق فاستوحش أصحابه لذلك ونزعوا إلى محمد وساروا جميعا وكان بركيارق قد سبقهم إليها واجتمع إليه الامير نيال بن أبى شكين الحامى من أكابر الامراء وعز الملك بن نظام الملك ولما بلغه مسير أخيه محمد إليه رجع إلى اصبهان فمنعوه من الدخول فسار إلى خوزستان وملك محمد الرى في ذى القعدة سنة ثنتين وتسعين ووجد بها زبيدة أم بركيارق قد تخلفت عن ابنها فحبسها مؤيد الملك وصادرها ثم قتلها خنقا بعد ان تنصح له أصحابه في شأنها فلم يقبل وكان سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد قد استوحش من بركيارق فاتفق هو وكربوقا صاحب الموصل وجكرمس صاحب جزيرة ابن عمر وسرخاب بن بدر صاحب كنكسون وساروا إلى السلطان محمد بقم فخلع عليهم ورد كوهراس إلى بغداد في شأن الخطبة فخطب له بالخليفة ولقبه حياة الدين والدنيا وسار كربوقا وجكرمس مع السلطان محمد إلى اصبهان والله سبحانه وتعالى أعلم * (مقتل الباسلانى) * كان أبو الفضل سعد الباسلانى ويلقب مجد الملك متحكما عند السلطان بركيارق ومتحكما في دولته ولما فشا القتل في أمرائه من الباطنية استوحشوا ونسبوا ذلك للباسلانى وكان من أعظم من قتل منهم الامير برسق فاتهم ابنه زنكى وأقبورنى الباسلانى في قتله ونزعوا عن بركيارق إلى السلطان محمد فاجتمع الامراء ومقدمهم أمير الحيرة
لكابك وطغابرك من الروز وبعثوا إلى بنى برسق يستدعونهم للطلب بثار أبيهم فجاؤا(5/22)
واجتمعوا قريبا من همدان ووافقهم العسكر جميعا على ذلك وبعثوا إلى بركيارق يطلبون الباسلانى فامتنع وأشار عليه الباسلانى باجابتهم لئلا يفعلوا ذلك بغير رأى السلطان فيكون وهنا على الدولة فاستحلفهم السلطان فدفعه إليهم فقتله الغلمان قبل أن يتصل بهم وسكنت الفتنة وحمل رأسه إلى مؤيد الملك واستوحش الامراء لذلك من بركيارق وأشاروا عليه بالعود إلى الرى ويكفونه قتال أخيه محمد فعاد متشاغلا ونهبوا سرادقه وساروا إلى أخيه محمد ولحق بركيارق باصبهان ثم لحق رستاق كما تقدم * (اعادة الخطبة ببغداد لبركيارق) * ولما سار بركيارق إلى خوزستان ومعه نيال بن أبى شكين الحسامى مع عسكره سار من هنالك إلى واسط ولقيه صدقة بن مزيد صاحب الحلة ثم سار إلى بغداد وكان سعد الدولة كوهراس الشحنة على طاعة محمد فخرج عن بغداد ومعه أبو الغازى بن ارتق وغيره وخطب لبركيارق ببغداد منتصف صفر سنة ثلاث وتسعين بعد ان فارقها كوهراس وأصحابه وبعثوا إلى السلطان محمد ومؤيد الملك يستحثونهما فأرسلا إليهم كربوقا صاحب الموصل وجكرمس صاحب جزيرة ابن عمر يستكثرون بهم في المدافعة وطلب جكرمس من كوهراس السير لبلده خشية عليها فأذن له ثم يئس كوهراس وأصحابه من محمد فبعثوا إلى بركيارق بطاعتهم فخرج إليهم واسترضاهم ورجع إلى بغداد وقبض على عميد الدولة بن جهير وزير الخليفة وطالبه بما أخذ هو وأبوه من الموصل وديار بكر أيام ولايتهم عليها فصادرهم على مائة وستين ألف دينار واستوزر الاغر أبا المحاسن عبد الجليل بن على بن محمد الرهستانى وخلع الخليفة على بركيارق (المصاف الاول بين بركيارق ومحمد ومقتل كوهراس وهزيمة بركيارق والخطبة لمحمد) ثم سار بركيارق من بغداد لحرب أخيه محمد ومر بشهر زور فاجتمع إليه عسكر كثير من
التركمان وكاتب رئيس همدان يستحثه فركب وسار للقاء أخيه على فراسخ من همدان في أول رجب من سنة ثلاث وتسعين وفي ميمنته كوهراس وعز الدولة بن صدقة بن مزيد وسرحاب بن بدر وفي ميسرته كربوقا وفى ميمنته محمد بن اضر وابنه ايار وفى ميسرته مؤيد الملك والنظامية ومعه في القلب أمير سرخو شحنة اصبهان فحمل كوهراس من الميمنة على مؤيد الملك والنظامية فهزمهم وانتهى إلى خيامهم فنهبها وحملت ميمنة محمد على ميسرة بركيارق فانهزموا وحمل محمد على بركيارق فهزمه ووقف محمد مكانه وعاد كوهراس من طلب المنهزمين فكبابه فرسه فقتل وجئ بالاغر أبى المحاسن يوسف وزير بركيارق أسيرا فأكرمه مؤيد الملك ونصب له خيمة وبعثه إلى بغداد في الخطبة لمحمد(5/23)
فخطب له منتصف رجب من السنة وكانت أولية سعد الدولة كوهراس انه كان خادما للملك ابى كلنجار بن بويه وجعله في خدمة ابنه أبى نصر ولما حبسه طغر لبك مضى معه إلى قلعة طغرل فلما مات انتقل إلى خدمة السلطان البارسلان وترقى عنده وأقطعه واسط وجعله شحنة بغداد وحضر يوم قتله فوقاه بنفسه ثم أرسله ملك شاه إلى بغداد في الخطبة وجاء بالخلع والتقليد وحصل له من نفوذ الامر واتباع الناس ما لم يحصل لغيره إلى أن قتل في هذه المعركة وولى شحنة بغداد بعده ابلغارى بن ارتق مسير بركيارق إلى خراسان وانهزامه من أخيه سنجر ومقتل الامير داود حبشي أمير خراسان لما انهزم بركيارق من أخيه محمد خلص في الفل إلى الرى واجتمع له جموع من شيعته فسار إلى خراسان وانتهى إلى اسفراين وكتب الامير داود حبشي إلى النونطاق يستدعيه من الدامغان وكان أميرا على معظم خراسان وعلى طبرستان وجرجان فأشار عليه بالمقام بنيسابور فقصدها وقبض على عميدها أبى محمد وأبى القاسم بن امام الحرمين ومات أبو القاسم في محبسه مسموما ثم زحف سنجر إلى الامير داود فبعث إلى بركيارق
يستدعيه لنجدته فسار إليه والتقى الفريقان بظاهر بوشنج وفي ميمنة سنجر الامير برغش وفي ميسرته الامير كوكر ومعه في القلب الامير رستم فحمل بركيارق على رستم فقتله وانقض الناس على سنجر وكاد ينهزم وأخذ بركيارق أم سنجر أسيرة وشغل أصحاب بركيارق بالنهب فحمل عليهم برغش وكوكر فانهزموا واستمرت الهزيمة على بركيارق وهرب الامير داود فجئ به إلى برغش أسيرا فقتله وسار بركيارق إلى جرجان ثم إلى الدامغان ودخل البرية ثم استدعاه أهل اصبهان وجاءه جماعة من الامراء منهم جاول سقاد وسبقه محمد إلى اصبهان فعدل عنها إلى عسكر مكرم المصاف الثاني بين بركيارق ومحمد وهزيمة محمد وقتل وزيره مؤيد الملك والخطبة لبركيارق لما انهزم بركيارق أمام سنجر سنة ثلاث وتسعين وسار إلى اصبهان فوجد أخاه محمدا قد سبقه إليها فعدل عنها إلى خوزستان ونزل إلى عسكر مكرم وقدم عليه هناك الاميران زنكى والبكى ابنا برسق سنة أربع وتسعين وساروا معه إلى همدان وهرب إليه الامير أبرز في خمسة آلاف من عسكر محمد لان صاحب امير اضر مات في تلك الايام وظنوا أن مؤيد الملك دس عليه وزيره فسمه وكان ابرز في جملة أمير اضر فقتل الوزير المتهم ولحق بركيارق ثم وصل إليه سرحاب بن كنجر وصاحباه فاجتمع له نحو من خمسين ألف فارس ولقيه محمد في خمسة عشر ألفا واستأمن أكثرهم إلى بركيارق يوم المصاف أول(5/24)
جمادى الاخيرة سنة أربع وتسعين واستولت الهزيمة على محمد وجئ بمؤيد الملك أسيرا فوبخه ثم قتله بيده لانه كان سيء السيرة مع الامراء كثير الحيل في تدبير الملك ثم بعث الاغر أبو المحاسن وزير بركيارق أبا ابراهيم الاستراباذى لاستقصاء أموال مؤيد الملك وذخائره ببغداد فحمل منها ما لا يسعه الوصف يقال انه وجد في ذخائره ببلاد العجم قطعة بلخش زنتها أربعون مثقالا واستوزر محمد بعده خطيب الملك أبا منصور محمد بن الحسين ثم سار السلطان بركيارق إلى الرى ووفد عليه هنالك كربوقا صاحب الموصل ودبيس
ابن صدقة وأبوه يومئذ صاحب الحلة وسار السلطان قافلا إلى جرجان وبعث إلى أخيه سنجر يستجديه فبعث إليه ما أقامه ثم طلبه في المدد فسار إليه سنجر من خراسان ثم سارا جميعا إلى الدامغان فخرباها وسار إلى الرى واجتمعت عليه النظامية وغيرهم فكثرت جموعهم وكان بركيارق بعد الظفر قد فرق عساكره لضيق الميرة ورجع دبيس بن صدقة إلى أبيه وخرج باذربيجان داود بن اسمعيل بن ياقوتي فبعث لقتاله قوام الدولة كربوقا في عشرة آلاف واستأذنه اياز في المسير إلى ولايته بهمدان ويعود بعد الفطر فبقى في قلة من العساكر فلما بلغه قريب أخيه محمد وسنجر اضطرب حاله وسار إلى همدان ليجتمع مع اياز فبلغه انه قد راسل أخاه محمدا وأطاعه فعاد إلى خورستان ولما انتهى إلى تستر استدعى ابن برسق وكان من جملة اياز فلم يحضر وتأخر فأمنه فسار نحو العراق فلما بلغ حلوان لحق به اياز وكان راسل محمدا فلم يقبله وبعث عساكره إلى همدان فلحق بهمدان اياز وأخذ محمد محلة اياز بهمدان وكانت كثيرا من كل صنف وصودر أصحابه ور بهمدان بمائة ألف دينار وسار بركيارق واياز إلى بغداد فدخلها منتصف ذى القعدة من سنة أربع وتسعين وطلب من الخليفة المال للنفقة فبعث إليه بعد المراجعة بخمسين ألف دينار وعاث أصحاب بركيارق في أموال الناس وضجر وامنه ووفد عليه أبو محمد عبد الله بن منصور المعروف بابن المصلحية قاضى جبلة من سواحل الشأم منهزما من الافرنج باموال جليلة المقدار فأخذها بركيارق منه وقد تقدم خبر ابن المصلحية في دولة العباسيين ثم بعث وزير بركيارق الاغر بالمحاسن إلى صدقة بن مزيد صاحب الحلة في ألف ألف دينار يزعم أنها تخلفت عنده من ضمان البلاد وتهدده عليها فخرج عن طاعة بركيارق وخطب لمحمد أخيه وبعث إليه بر كيارق في الحضور والتجاوز عن ذلك وضمن له اياز جميع مطالبه فأبى الا ان يدفع الوزير واستمر على عصيانه وطرد عامل بركيارق عن الكوفة واستضافها إليه * (مسير بركيارق عن بغداد ودخول محمد وسنجر إليها) *
ولما استولى السلطان محمد وأخوه سنجر على همدان سار في اتباع بركيارق إلى حلوان(5/25)
فقدم عليه هنالك أبو الغازى ابن ارتق في عساكره وخدمه وكثرة جموعه فسار إلى بغداد وبركيارق عليل بها فاصطرب أصحابه وعبروا به إلى الجانب الغربي ووصل محمد إلى بغداد آخر سنة أربع وتسعين وتراءى الجمعان بشاطئ دجلة وجرت بينهم المراماة والنشاب وكان عسكر محمد ينادون عسكر بركيارق يا باطنية ثم سار بركيارق إلى واسط ونهب عسكره جميع ما مروا عليه ودخل محمد إلى دار المملكة ببغداد وجاءه توقيع المستظهر بالاستبشار بقدومه وخطب له ونزل الملك سنجر بدار كوهراس ووفد على السلطان محمد ببغداد صدقة صاحب الحلة في محرم سنة خمس وسبعين * (مقتل بركيارق الباطنية) * كان هؤلاء الباطنية قد ظهروا بالعراق وفارس وخراسان وهم القرامطة والدعوة بعينها دعوتهم الا أنهم سموا في هذه الاجيال بالباطنية والاسماعيلية والملاحدة والفداوية وكل اسم منها باعتبار فالباطنية لانهم يبطنون دعوتهم والاسماعيلية لانتساب دعوتهم في أصلها لاسمعيل الامام بن جعفر الصادق والملاحدة لان بدعتهم كلها الحاد والفداوية لانهم يفادون أنفسهم بالمال على قتل من يسلطون والقرامطة نسبة إلى قرمط منشئ دعوتهم وكان أصلهم من البحرين في المائة الثالثة وما بعدها ثم نشأ هؤلاء بالمشرق أيام ملك شاه فأول ما ظهروا باصبهان واشتد في حصار بركيارق وأخيه محمود وأمه خاتون فيها ثم ثارت عامة اصبهان بهم باشارة القضاة وأهل الفتيا فقتلوهم في كل جهة وحرقوهم بالنار ثم انتشروا واستولوا على القلاع ببلاد العجم كما تقدم في أخبارهم ثم أخذ بمذهبهم ثيران شاه بن بدران شاه بن قارت بك صاحب كرمان حمله عليه كاتب من أهل خورستان يسمى أبا زرعة وكان بكرمان فقيه من الحنفية يسمى أحمد بن الحسين البلخى مطاع في الناس فخشى من نكيره فقتله فهرب عنه صاحب
جيشه وكان شحنة البلد ولحق بالسلطان محمد ومؤيد الملك باصبهان وثار الجنا بعده بثيران شاه إلى مدينة كرمان فمنعه أهلها ونهبوه فقصد قلعة سهدم واستجار بصاحيها محمد بهستون وبعث أرسلان شاة عساكر لحصارها فطرده بهستون وبعث مقدم العساكر في طلبه فجئ به أسيرا وبأبى زرعة الكاتب معه فقتلهما أرسلان شاه واستولى على بلاد كرمان وكان بركيارق كثيرا ما يسلطهم على من يريد قتله من الامراء مثل انز شحنة اصبهان وأرغش وغيرهم فامنوا جانبه وانتشروا في عسكره واغروا الناس ببدعتهم وتجاوزوا إلى التهديد عليها حتى خافهم اعيان العسكر وصار بركيارق يصرفهم على أعدائه والناس يتهمونه بالميل إليهم فاجتمع أهل الدولة وعذلوا بركيارق في ذلك فقبل نصيحتهم وأمر بقتل الباطنية حيث كانوا فقتلوا وشردوا كل مشرد(5/26)
وبعث إلى بغداد بقتل ابى ابراهيم الاستراباذى الذى بعثه أبو الاغر لاستقصاء اموال مؤيد الملك وكان يتهم بمذهبهم فقتل وقتل بالعسكر الامير محمد بن ولد علاء الدين بن كاكوبه وهو صاحب مدينة تيرد وكان يتهم بمذهبهم وسعى بالكيا الهراسى مدرس النظامية انه باطني فأمر السلطان محمد بالقبض عليه حتى شهد المستظهر ببراءته وعلو درجته في العلم فاطلقه وحسمت علة الباطنية بين الجمهور وبقى امرهم في القلاع التى ملكوها إلى ان انقرضوا كما تقدم في اخبارهم مستوفى * (المصاف الثالث بين بركيارق ومحمد والصلح بينهما) * ولما رحل بركيارق عن بغداد إلى واسط ودخل إليها السلطان محمد اقام بها إلى منتصف المحرم من سنة خمس وتسعين ثم رحل إلى همدان وصحبه السلطان سنجر لقصد خراسان موضع امارته وجاءت الاخبار إلى المستظهر باعتزام بركيارق على المسير إلى بغداد ونقل له عنه قبائح من أقواله وأفعاله فاستدعى السلطان محمدا من همدان وقال أنا أسير معك لقتاله فقال محمد أنا أكفيكه يا أمير المؤمنين ورجع ورتب ببغداد أبا المعالى شحنة وكان بركيارق لما سار
من بغداد إلى واسط هرب أهلها منه إلى الزبيدية ونزل هو بواسط عليلا فلما أفاق أراد لعبور إلى الجانب الشرقي فلم يجد سفنا ولا نواتية وجاءه القاضى أبو على الفارسى إلى العسكر واجتمع بالامير اياز والوزير فاستعطفهما لاهل واسط وطلب اقامة الشحنة بينهم فبعثاه وطلبا من القاضى من يعبر فأحضر لهم رجالا عبروا بهم فلما صاروا في الجانب الشرقي نهب العسكر البلد فجاء القاضى واستعطفهم فمنعوا النهب واستأمن إليهم عسكر واسط فأمنوهم وسار بركيارق إلى بلاد بخ برسق في الاهواز وساروا معه ثم بلغه مسير أخيه محمد عن بغداد فسار في اتباعه على نهاوند إلى أن أدركه وتصافوا ولم يقتتلوا لشدة البرد ثم عاودوا في اليوم الثاني كذلك وكان الرجل يخرج لقريبه من الصف الآخر فيتصافحان ويتساءلان ويفترقان ثم جاء الامير بكراج وعبر من عسكر محمد إلى الامير اياز والوزير الاغر فاجتمعوا وعقدوا الصلح بين الفريقين على ان السلطان بركيارق والملك محمد ويضرب له ثلاث نوب ويكون له من البلاد حرة وأعمالها وأذربيجان وديار بكر والجزيرة والموصل ويمده بركيارق بالعساكر على من يمتنع عليه منها وتحالفا على ذلك وافترقا وكان العقد في ربيع الاول سنة خمس وتسعين وسار بركيارق إلى ساوة ومحمد إلى استراباذ وكل أمير على أقطاعه والله سبحانه وتعالى أعلم * (انتقاض الصلح والمصاف الرابع بين السلطانين وحصار محمد باصبهان) * لما انصرف السلطان محمد إلى استراباذ وكان اتهم الامراء الدين سعوا في الصلح بالخديعة فسار إلى قزوين ودس إلى رئيسها لان يصنع صنيعا ويدعوه إليه مع الامراء ففعل وجاء(5/27)
السلطان إلى الدعوة وقد تقدم إلى أصحابه بحمل السلاح ومعه يشمك وافتكيز من أمرائه فقبض عليهما وقتل يشمك وسمل افتكين وورد عليه الامير نيال بن أنشوكس الحسامى نازعا عن أخيه بركيارق ولما التقى الفريقان حمل سرحاب بن كشمر الديلمى صاحب ساوة على نيال الحسامى
فهزمه واتبعه عامة العسكر واستولت الهزيمة على عسكر محمد ومضى بعضهم إلى طبرستان وبعضهم إلى قزوين وذلك في جمادى من سنة خمس وتسعين لاربعة أشهر من المصاف قبله ولحق محمد في الفل باصبهان ومعه نيال الحسامى واصبهان في حكمه فحصنها وسد ما ثلم من سورها وأعمق الخندق وفرق الامراء في الاسوار وعلى الابواب ونصب المجانيق وجاء بركيارق في خمسة عشر ألف مقاتل فأقام محاصرا للبلد حتى اشتد الحصار وعدمت الاقوات واستقرض محمد المال للجند من أعيان البلدة مرة بعد أخرى فلما جهده الحصار خرج من البلد ومعه الامير نيال وترك باقى الامراء وبعث بركيارق الامير اياز في عسكر لطلبه فلم يدركه وقيل بل أدركه وذكره لعهد فرجع عنه بعد ان أخذ رايته وجشره وثلاثة أحمال من المال ولما خرج محمد عن اصبهان طمع المفسدون والسودية في نهبها فاجتمع منهم ما يزيد على مائة ألف وزحفوا بالسلالم والذبابات وطموا الخندق وصعدوا في السلالم باشارة أهل البلد وحدوا في دفاعهم وعادوا خائبين ورحل بركيارق آخر ذى القعدة من سنة خمس وتسعين واستخلف على البلاد القديم الذى يقال له شهرستان مرشد الهراس في ألف فارس مع ابنه ملك شاه وسار إلى همدان وفى هذا الحصار قتل وزير بركيارق الاغر أبو المحاسن عبد الجليل الدهستانى عرض له يوما بعض الباطنية عندما ركب من خيمته لباب السلطان طعنه طعنات وتركه بآخر رمق وقتل غلام من غلمان بعض المكوس للوزير ثار فيه بمولاه وكان كريما واسع الصدر وولى الوزارة على حين فساد القوانين وقلة الجباية فكان يضطر لاخذ أموال الناس بالاخافة فنفرت الصفوة منه ولما مات استوزر بركيارق بعده الخطير أبا منصور البذى كان وزيرا لمحمد وقد وكله في الحصار ببعض الابواب فبعث إليه محمد نيال بن أبى شكين يطالبه بالاموال لاقامة العسكر فخرج من الباب ليلا ولحق ببلده وامتنع بقلعتها فارسل السلطان بركيارق إليها عساكر وحاصروها حتى استأمن وجاء عند قتل وزيره الاغر فاستوزره بركيارق مكانه والله تعالى أعلم بغيبه
* (مسير صاحب البصرة إلى واسط) * كان صاحب البصرة لهذا العهد اسمعيل بن ارسلان حين كان السلطان ملك شاه شحنة بالرى وولاه عليها عندما اضطر أهلها وعجزا لولاة عنهم فحسنت كفايته وأثخن فيهم(5/28)
وأصلح أمورها ثم عزل عنها وأقطع السلطان بركيارق البصرة للامير قماج وكان ممن لا يفارقه فاختار اسمعيل لولاية البصرة ثم نزع قماج عن بركيارق وانتقل إلى خراسان فحدثت اسمعيل نفسه بالاستبداد بالبصرة وانتقض وزحف إليه مهذب الدولة بن أبى الخير من البطيحة ومعقل بن صدقة بن منصور بن الحسين الاسدي من الجزيرة في العساكر والسفن فقاتلوه في مطارى وقتل معقل بسهم أصابة فعاد ابن أبى الخير إلى البطيحة فأخذ اسمعيل السفن وذلك سنة احدى وتسعين وأسرهما واستفحل أمره بالبصرة وبنى قلعة بالايلة وقلعة بالشاطئ قبالة مطارى وأسقط كثيرا من المكوس واتسعت امارته لشغل السلاطين بالفتنة وملك المسبار وأضافها إلى ما بيده ولما كان سنة خمس وتسعين طمع في واسط وداخل بعض أهلها وركب إليها السفن إلى نعما جار وخيم عليها بالجانب الشرقي أياما ودافعوه فارتحل راجعا حتى ظن خلاء البلد من الحامية فدس إليها من يضرم النار بها ليرجعوا فرجع عنهم فلما دخل أصحابه البلد فتك اهل البلد فيهم وعاد إلى البصرة منهزما فوجد الامير أبا سعيد محمد بن نصر بن محمود صاحب الاعمال لعمان وجنايا وشيراز وجزيرة بنى نفيس محاصر اللبصرة وكان أبو سعيد قد استبد بهذه الاعمال منذ سنين وطمع اسمعيل في الاستيلاء على أعماله وبعث إليها السفن في البحر فرجعوا خائبين فبعث أبو سعيد خمسين من سفنه في البحر فظفروا بأصحاب اسمعيل معهم إلى الصلح ولم يقع منه وفاء به فسار أبو سعيد بنفسه في مائة سفينة وأرسى بفوهة نهر الابلة ووافق دخول اسمعيل من واسط فتزاحفوا برا وبحرا فلما رأى اسمعيل عجزه عن المقاومة كتب إلى ديوان الخليفة بضمان البلد
ثم تصالحا ووقعت بينهما المهاداة وأقام اسمعيل مستبدا بالبصرة إلى أن ملكها من يده صدقة بن مزيد في المائة الخامسة كما مر في اخباره وهلك برامهرز وفاة كربوقا صاحب الموصل واستيلاء جكرمس عليها واستيلاء سقمان بن ارتق على حصن كبيعا كان السلطان بركيارق أرسل كربوقا إلى اذربيجان لقتال مودود بن اسمعيل بن ياقوتي الخارج بها سنة أربع وتسعين فاستولى على أكثر اذربيجان من يده ثم توفى منتصف ذى القعدة سنة خمس وتسعين وكان معه أصهر صباوة بن خمار تكين وسنقرجه من بعده وأوصى الترك بطاعته فسار سنقرجه إلى الموصل واستولى عليها وكان أهل الموصل لما بلغهم وفاة كربوقا قد استدعوا موسى التركماني من موضع نيابته عن كربوقا بحصن كبيعا للولاية عليهم فبادر إليهم وخرج سنقرجه للقائه فظن انه جاء إليه وجرت بينهما محاورات ورد سنقرجه الامر إلى السلطان فآل الامر بينهما إلى المطاعنة(5/29)
وكان مع موسى منصور بن مروان بقية أمراء ديار بكر وضرب سنقرجه فأبان رأسه وملك موسى البلد ثم زحف جكرمس صاحب جزيرة ابن عمر إلى نصيبين فملكها وخالفه موسى إلى الجزيرة فبادر إليه جكرمس وهزمه واتبعه إلى الموصل فحاصره بها فبعث موسى إلى سقمان بن ارتق بديار بكر يستنجده على أن يعطيه حصن كبيعا فسار سقمان إليه وأفرج عنه جكرمس وخرج موسى للقاء سقمان فقتله مواليه ورجع سقمان إلى كبيعا وجاء جكرمس إلى الموصل فحاصرها وملكها صلحا واستلحم قتلة موسى ثم استولى بعد ذلك على الخابور وأطاعه العرب والاكراد وأما سقمان بن ارتق فسار بعد مقتل موسى إلى حصن كبيعا واستمر بيده قال ابن الاثير وصاحبها الآن في سنة خمس وعشرين وستمائة محمود بن محمد بن الفراء ارسلان بن داود بن سقمان بن ارتق والله تعالى أعلم * (أخبار نيال بالعراق) *
كان نيال بن أبى شتكين الحسامى مع السلطان محمد باصبهان لما حاصرها بركيارق بعد المصاف الرابع سنة خمس وتسعين فلما خرج محمد من الحصار إلى ومعه نيال استأذنه في قصد الرى ليقيم بها دعوتهم وسار هو وأخوه على وعسف بأهل الرى وصادرهم وبعث السلطان بركيارق الامير برسق بن برسق في ربيع من سنة ست وتسعين فقاتله وهزمه واستولى برسق على الرى وأعاده على ولاية بقزوين وسلك نيال على الجبال وهلك كثير من أصحابه وخلص إلى بغداد فأكرمه المستظهر وأظهر طاعة السلطان محمد وتحالف هو وأبو الغازى وسقمان بن ارتق على مناصحة السلطان محمد وساروا إلى صدقة بن مزيد بالحلة فاستخلفوه على ذلك ثم ان نيال بن أبى شتكين عسف بأهل بغداد وتسلط عليهم وصادر العمال فاجتمع الناس إلى أبى الغازى بن ارتق وكان نيال صهره على أخته التى كانت زوجا لتتش وطلبوا منه أن يشفع لهم عنده وبعث المستظهر إليه قاضى القضاة أبا الحسن الدامغاني بالنهي عما يرتكبه فأجاب وحلف ثم نكث فأرسل المستظهر إلى صدقة بن مزيد يستدعيه فوصل في شوال من السنة واتفق مع نيال على الرحيل من بغداد ورجع إلى حلته وترك ولده دبيسا يزعج نيال للخروج فسار نيال إلى وعاث في السابلة وأقطع القرى لاصحابه وبعث إلى صدقة فأرسل إليه العساكر وخرج فيها أبو الغازى بن ارتق وأصحاب المستظهر فسار نيال إلى اذربيجان ورجعوا عنه * (ولاية كمستكين النصيرى شحنة بغداد وفتنته مع أبى الغازى وحربه) * كان أبو الغازى بن ارتق شحنة بغداد ولاه عليها السلطان محمد عند مقتل كوهراس ولما طهر الآن بركيارق على محمد وحاصره باصبهان ونزل بركيارق همدان وأرسل إلى بغداد كمستكين النصيرى في ربيع سنة ست وتسعين وسمع أبو الغازى بمقدمه فاستدعى(5/30)
أخاه سقمان بن ارتق من حصن كبيعا يستنجده وسار إلى صدقة بن مزيد فحالفه على
النصرة والمدافعة ورجع إلى بغداد ووصل إليه أخوه سقمان بعد أن نهب في طريقه ووصل كمستكين إلى قرقيسيا ولقيه شيعة بركيارق وخرج أبو الغازى وسقمان عن بغداد ونهب قرى دجيل واتبعتهما العساكر ثم رفعت عنهما وأرسل كمستكين إلى صدقة صاحب الحلة فامتنع من طاعة بركيارق وسار من الحلة إلى صرصر وقطع خطبة بركيارق وعبر بغداد واقتصر على الدعاء للخليفة وبعث صدقة إلى أبى الغازى وسقمان يعرفهما بوصوله وهما بالحرنى وجاء إلى دجيل ونهب القرى واشتد فسادهم وأضر ذلك بحال بغداد في غلاء الاسعار وجاء أبو الغازى وسقمان ومعهما دبيس بن صدقة فخيموا بالرملة وقاتلهم العامة ففتكوا فيهم وبعث المستظهر قاضى القضاة أبا الحسن الدامغاني وتاج الرؤساء بن الرحلات إلى صدقة بن مزيد بمراجعة الطاعة فشرط خروج كمستكين عن بغداد فأخرجه المستظهر إلى النهروان وعاد صدقة إلى الحلة وأعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد ثم سار كمستكين النصيرى إلى واسط وخطب فيها لبركيارق ونهب عسكره سوادها فسار صدقة وأبو الغازى إليه وأخرجاه من واسط وتحصن بدجلة فقصده صدقة فانفض عنه أصحابه ورجع إلى صدقة بالامان فأكرمه وعاد إلى بركيارق وأعيدت خطبة السلطان محمد بواسط وبعده لصدقة وأبى الغازى وولى كل واحد فيها ولده وعاد أبو الغازى إلى بغداد وعاد صدقة إلى الحلة وبعث ابنه منصورا مع أبى الغازى يطلب الرضا من المستظهر لانه كان سخطه من أجل هذه الحادثة * (المصاف الخامس بين بركيارق ومحمد) * كان السلطان محمد لما سار عن كنجة وبلاد اران استخلف بها الامير غرغلى وأقام بها في طائفة من عسكره مقيما خطبة السلطان محمد في جميع أعماله إلى زنجان من آخر اذربيجان فلما انحصر محمد باصبهان سار غرغلى لانجاده ومعه منصور بن نظام الملك ومحمد بن أخيه مؤيد الملك فانتهوا إلى الرى وملكوها آخر خمس وتسعين ولقوا السلطان محمدا بهمدان عندما خرج من أصبهان ومعه نيال بن أبى شتكين وأخوه على وأقاموا
معه بهمدان ثم جاء الخبر بمسير بركيارق إليهم فتوجه السلطان محمد قاصدا شروان وانتهى إلى اذربيجان فبعث إليه مودود بن اسمعيل بن ياقوتي الذى كان بركيارق قتل أباه اسمعيل وكانت أخت مودود هذا تحت محمد وكان له طائفة من أعمال اذربيجان فاستدعى محمدا ليظاهره على بركيارق فسار إليه وانتهى إلى سقمان وتوفى مودود في ربيع سنة ست وتسعين واجتمع عساكره على السلطان محمد وفيهم سقمان القطى ومحمد بن باغى(5/31)
بركيارق وقاتلهم على خراسان وسار اياز من عسكر بركيارق وجاء من خلف السلطان محمد فانهزم محمد وأصحابه ولحق بارقيش من أعمال خلاط ولقيه الامير على صاحب ارزن الرومي فمضى إلى اصبهان وصاحبها منوجهر أخو فظون الروادى ثم سار إلى هرمز وأما محمد بن مؤيد الملك بن نظام الملك من الوقعة إلى ديار بكر ثم إلى جزيرة ابن عمر ثم إلى بغداد وكان أيام أبيه مقيما ببغداد في جوار المدرسة النظامية فشكى إلى أبيه وخاطب كوهراس بالقبض عليه فاستجار بدار الخلافة ولحق سنة ثنتين وتسعين بمجد الملك البارسلانى وأبوه بكنجة عند السلطان محمد فلما خطب السلطان محمد لنفسه واستوزر أباه مؤيد الملك لحق محمد هذا بأبيه ثم قتل أبوه وبقى في جملة السلطان محمد * (استيلاء ملك بن بهرام على مدينة غانة) * كان ملك بن بهرام بن ارتق بن أخى ابى الغازى بن ارتق مالكا مدينة سروج فملكها الفرنج من يده فسار عنها إلى غانة وغلب عليها بنى العيش بن عيسى بن خلاط كانت لهم فقصدوا صدقة بن مزيد مستنجدين به فأنجدهم وجاء معهم فرحل ملك بن بهرام والتركمان عنها ودخلها بنو العيش وأخذ صدقة رهائنهم وعاد إلى الحلة فرجع ملك إليها في ألفى رجل من التركمان وحاربها قليلا ثم عبر المخاضة وملكها واستباح أهلها ومضى إلى هيت ورجع عنها * (الصلح بين السلطانين بركيارق ومحمد) * ثم استقر الامر آخرا بالسلطان بركيارق
في الرى وكان له الجبال وطبرستان وخورستان وفارس وديار بكر والجزيرة والحرمين ولمحمد اذربيجان وبلاد اران وارمينية واصبهان والعراق جميعا غير تكريت والبطائح بعضها وبعضها والبصرة لهما جميعا وخراسان لسنجر من جرجان إلى ما وراء النهر يخطب فيها لاخيه محمد وله من بعده والعساكر كلهم يتحكمون عليهم بسبب الفتنة بينهما وقد تطاول الفساد وعم الضرر واختلفت قواعد الملك فأرسل بركيارق إلى أخيه محمد في الصلح مع فقيهين من أماثل الناس ورغباه في ذلك وأعاد معهما رسلا آخرين وتقرر الامر بينهما أن يستقر محمد على ما بيده سلطانا ولا يعارضه بركيارق في الطول ولا يذكر اسمه في أعمال محمد وأن المكاتبة تكون بين الوزيرين والعساكر بالخيار في خدمة من شاؤا منهما ويكون للسلطان محمد من النهر المعروف باسترد إلى باب الابواب وديار بكر والجزيرة والموصل والشأم والعراق بلاد صدقة بن مزيد وبقية الممالك الاسلامية لبركيارق وتحالفا على ذلك وانتظم الامر وأرسل السلطان محمد إلى أصحابه باصبهان بالخروج عنها لاخيه بركيارق واستدعاهم إليه فأبوا وجنحوا إلى خدمة بركيارق وساروا إليه بحريم السلطان محمد الذى كانوا معهم فأكرمهم بركيارق ودلهم(5/32)
إلى صاحبهم وحضر أبو الغازى بالديوان ببغداد وسار المستظهر في الخطبة لبركيارق فخطب له سنة سبع وتسعين وكذلك بواسط وكان أبو الغازى قبل ذلك في طاعة محمد فأرسل صدقة إلى المستظهر يعذله في شأنه ويخبره بالمسير لاخراجه من بغداد ثم سار صدقة ونزل عند الفجاج وخرج أبو الغازى إلى عقربا وبعث لصدقة بأنه انما عدل عن طاعة محمد للصلح الوقع بينه وبين أخيه وأنهما تراضيا على أن بغداد لبركيارق وانا شحنة بها واقطاعى حلوان فلا يمكننى التحول عن طاعة بركيارق فقبل منه ورجع إلى الحلة وبعث المستظهر في ذى القعدة سنة سبع وتسعين بالخلع للسلطان بركيارق والامير اياز والوزير الخطير واستخلفهم جميعا وعاد إلى بغداد والله سبحانه ولى التوفيق
* (حرب سقمان وجكرمس الافرنج) * قد تقدم لنا استيلاء الافرنج على معظم بلاد الشأم وشغل الناس عنهم بالفتنة وكانت حران لقراجا من مماليك ملك شاه وكان غشوما فخرج منها لبعض مذاهبه وولى عليها الاصبهاني من أصحابه فعصى فيها وطرد أصحاب قراجا منها ما عدا غلاما تركيا اسمه جاولى جعله مقدم العسكر وأنس به فقرره وتركه وملك حران وسار الافرنج إليها وحاصروها وكان بين جكرمس صاحب جزيرة ابن عمر وسقمان صاحب كبيعا حروب وسقمان يطالبه بقتل ابن أخيه فانتد بالنصر المسلمين واجتمعا على الخابور وتحالفا وسار سقمان في سبعة آلاف من التركمان وجكرمس في ثلاثة آلاف من الترك والعرب والاكراد والتقوا بالافرنج على نهر بلخ فاستطرد لهم المسلمون نحو فرسخين ثم كروا عليهم فغنموا فيهم وقتلوا سوادهم وأخذ القمص بردويل صاحب الرها أسره تركماني من أصحاب سقمان في نهر بلخ وكان سمند صاحب انطاكية من الافرنج ونيكرى صاحب الساحل منهم قد كمنا وراء الجبل ليأتيا المسلمين من ورائهم عند المعركة فلما عاينوا الهزيمة كمنوا بقية يومهم ثم هربوا فأتبعهم المسلمون واستلحموهم وأسروا منهم كثيرا وفلت سمند ونيكرى بدماء أنفسهم ولما حصل الظفر للمسلمين عصى أصحاب جكرمس باختصاص سقمان بالقمص وحملوه على أخذه لنفسه فأخذه جكرمس من خيام سقمان وشق ذلك عليه وأراد أصحابه فأبى حذرا من افتراق المسلمين ورحل وفتح في طريقه عدة حصون وسار جكرمس إلى حران ففتحها ثم سار إلى الرها فحاصرها خمس عشرة ليلة وعاد إلى الموصل وقاد من القمص بخمسة وثلاثين ألف دينارا ومائة وستين أسيرا من المسلمين.
* (وفاة بركيارق وولاية ابنه ملك شاه) * ثم توفى السلطان بركيارق بن ملك شاه بنرد جرد في أوائل ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين لاثنتى عشرة سنة ونصف من ملكه جاء إليها(5/33)
عليلا من اصبهان واشتد مرضه بنردجرد فولى عهده لابنه ملك شاه وعمره نحو من خمس سنين وخلع عليه وجعل الامير اياز كافله وأوصى أهل الدولة بالطاعة والمساعدة وبعثهم إلى بغداد فأدركهم خبر وفاته بالطريق ورجع اياز حتى دفنه باصبهان وجمع السرادقات والخيام والجثر والسمسمة لابنه ملك شاه وكان بركيارق قد لقى في ملكه من الرخاء والشدة والسلم ما لم يلقه أحد فلما استقر واستقامت سعادته أدركته المنية ولما توفى خطب لابنه ملك شاه ببغداد وكان أبو الغازى قد سار من بغداد إليه وهو باصبهان يستحثه إلى بغداد وجاء معه فلما مات سار مع ابنه ملك شاه والامير اياز إلى بغداد وركب الوزير أبو القاسم على بن جهير فلقيهم به مالى وحضر أبو الغازى والامير طغلبرك بالديوان وطلبا الخطبة لملك شاه فخطب له ولقب بألقاب جده ملك شاه * (حصار السلطان محمد الموصل) * لما انعقد الصلح بين بركيارق ومحمد واختص كل منهما اعماله وكانت اذربيجان في قسمة محمد رجع محمد إلى أذربيجان ولحق به سعد الملك أبو المحاسن الذى كان نائبا باصبهان بعد أن أبلى المدافعة عنها ثم سلمها بعد الصلح إلى نواب بركيارق واستوزره فأقام محمد إلى صفر من سنة ثمان وتسعين ثم سار يريد الموصل على طريق مراغة ورحل وبلغ الخبر إلى جكرمس فاستعد للحصار وأدخل أهل الضاحية إلى البلد وحاصره محمد ثم بعث له يذكره ما استقر عليه بينه وبين أخيه وأن الموصل والجزيرة له وعرض عليه خط بركيارق بذلك وبايمانه عليه ووعده أن يقرها في عمالته فقال له جكرمس ان السلطان كتب إلى بعد الصلح بخلاف ذلك فاشتد في حصاره واشتد أهل البلد في المدافعة ونفس الله عنهم برخص الاسعار وكان عسكر جكرمس مجتمعين قريبا من الموصل وكانوا يغزون على أطراف العسكر ويمنعون عنهم الميرة ثم وصل الخبر عاشر جمادى الاولى بوفاة السلطان بركيارق فاستشار جكرمس أهل البلد فردوا
النظر إليه واستشار الجند فأشاروا بطاعة السلطان محمد فأرسل إليه بذلك واستدعى وزيره سعد الملك فدخل عليه وأشار عليه بلقاء السلطان فخرج إليه على كره من أهل البلد فتلقاه السلطان بالكرامة وأعاده سريعا إلى البلد ليطمئن الناس * (استيلاء السلطان محمد على بغداد وخلع ملك شاه بن أخيه ومقتل اياز) * قد كنا قدمنا صلح بركيارق وأخيه من أنه يستقل بركيارق بالسلطنة وينفرد محمد بالاعمال التى ذكرنا وموت بركيارق اثر ذلك وتقديم ابنه ملك شاه ببغداد فوصل الخبر(5/34)
بذلك إلى محمد وهو يحاصر الموصل فأطاعه جكرمس وسار محمد إلى بغداد ومعه جكرمس وسقمان القطبى مولى قطب الدولة اسمعيل بن ياقوتي بن داود وياقوتي عم ملك شاه ومحمد وغيرهما من الامراء وجمع صدقة صاحب الحلة العساكر وبعث ابنه بدران ودبيسا إلى محمد يستحثانه وجا السلطان محمد إلى بغداد فاعتزم الامير اياز أتابك ملك شاه على دفاعه وخيم خارج بغداد وأشار عليه بذلك أصحابه وخالفهم وزيره أبو المحاسن الضبعى وأبلغ في النصيحة له بطاعة السلطان فأقام مترددا ونزل محمد بالجانب الغربي وخطب له هنالك منفردا ولهما معا في بعض الجوامع واقتصر على سلطان العالم في بعضها ورجع اياز إلى استحلاف الامراء ثانيا فوقف بعضهم وقال لا فائدة في اعادة اليمين وارتاب اياز عندها وبعث وزيره الضبعى أبا المحاسن لعقد الصلح مع السلطان واستحلافه فقرأ على وزيره سعد الملك أبى المحاسن سعد بن محمد فدخل معه إلى السلطان وأجابه إلى ما طلب وجاء معه من الغد قاضى القضاة والمفتيان واستحلفاه لاياز وللامراء فحلف الا أن ينال الحسامى و وقال أما ملك شاه فهو ابني وأنا أبوه وجاء اياز من الغد وقارن وصول صدقة بن مزيد فانزلهما واحتفى بهما وذلك آخر جمادى الاولى من سنة ثمان وتسعين ثم احتفل اياز بعدها في عمل صنيع للسلطان في بيته وهى دار كوهراس وأهدى إليه تحفا من جملتها حبل البلخش الذى أخذه من
تركة نظام الملك بن مؤيد الملك واتفق ان اياز تقدم لمواليه بلبس السلاح ليعرضهم على السلطان وكان عندهم مصفعان فألبسوه درعا تحت ثيابه وتناولوه بالنخس فهرب عنهم ودخل في حاشية السلطان مذعورا فلمسوه فإذا الدرع تحت ثيابه فارتابوا ونهض السلطان إلى داره ثم دعا الامراء بعد دلك بأيام فاستشارهم في بعث يبعثهم إلى ديار بكر ان ارسلان بن سليمان بن قطلمش قصدها فاتفقوا على الاشارة بمسير اياز وطلب هو أن يكون معه صدقة بن مزيد فالمعه السلطان بذلك واستدعاهما لانفاذ ذلك وقد أرصد في بعض المخادع بطريقهم جماعة لقتل اياز فلما مر بهم تعاورته سيوفهم وقطع رأسه وهرب صدقة وأغمى على الوزير وهرب عسكر اياز فنهبوا داره وأرسل السلطان من دفعهم عنها وسار السلطان من بغداد إلى اصبهان وهذا اياز من موالى السلطان ملك شاه ثم سار في جملة ملك آخر فساء وأما الضبعى وزير اياز فاختفى أشهرا ثم حمل إلى الوزير سعد الملك في رمضان فلما وصل كان ذلك سبب رياسته بهمدان * (استيلاء سقمان بن ارتق على ماردين وموته) * كان هذا الحصن في ديار بكر أقطعه السلطان بركيارق لمغن كان عنده وكان حواليها خلق كثير من الاكراد يغيرون عليها ويخيفون سابلتها واتفق ان كربوقا خرج من(5/35)
الموصل لحصار آمد وكانت لبعض التركمان فاستنجد بسقمان فسار لانجاده ولقيه كربوقا ومعه زنكى بن اقسنقر وأصحابه وأبلوا ذلك اليوم بلاء شديدا فانهزم وأسر ابن أخيه ياقوتي بن ارتق فحبسه بقلعة ماردين عند المغنى فبقى مدة محبوسا وكثر خروج الاكراد بنواحي ماردين فبعث ياقوتي إلى المغنى يسأله أن يطلقه ويقيم عنده بالريف لدفاع الاكراد ففعل وصار يغير عليهم في سائر النواحى إلى خلاط وصار بعض أجناد القلعة يخرجون للاغارة فلا يهيجهم ثم حدثته نفسه بالتوثب على القلعة فقبض عليهم بعض الايام بعد مرجعه من الاغارة ودنا من القلعة وعرضهم للقتل ان لم يفتحها أهلوهم
ففتحوها وملكها وجمع الجموع وسار إلى نصيبين وإلى جزيرة ابن عمر وهى بجركمس فكبسه جكرمس وأصحابه وأصابه في الحرب سهم فقتله وبكاه جكرمس وكانت تحت ياقوتي بنت عمه سقمان فمضت إلى أبيها وجمعت التركمان وجاء بهم إلى نصيبين لطلب الثار فبعث إليه جكرمس ما أرضاه من المال في ديته فرجع وأقام بماردين بعد ياقوتي أخوه على طاعة جكرمس وخرج منها لبعض المذاهب وكتب نائبه بها إلى عمه سقمان بأنه تملك ماردين على جكرمس فبادر إليها سقمان واستولى عليها وعوض عنها ابن أخيه جبل جور وأقامت ماردين في حكمه مع حصن كبيعا واستضاف إليها نصيبين ثم بعث إليها فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس يستنجده على الافرنج وكان استبد بها على الخلفاء العبيديين أهل مصر وثار له الافرنج عندما ملكوا سواحل الشأم فبعث بالصريخ إلى سقمان بن ارتق سنة ثمان وتسعين فأجابه وبينما هو يتجهز للمسير وافاه كتاب طغتكين صاحب دمشق المستبد بها من موالى بنى تتش يستدعيه لحضور وفاته خوفا على دمشق من الفرنج فأسرع السير معتزما على قصد طرابلس وبعدها دمشق فانتهى إلى القريتين وندم طغتكين على استدعائه وجعل يدبر الرأى مع أصحابه في صرفه ومات هو بالقريتين فكفاهم الله تعالى أمره وقد كان أصحابه عندما أيقن بالموت أشاروا عليه بالعود إلى كبيعا فامتنع وقال هذا جهاد وان مت كان لى ثواب شهيد * (خروج منكبرس على السلطان محمد ونكبته) * كان منكبرس بن يورس بن البارسلان مقيما باصبهان وانقطعت عنه المواد من السلطان فخرج إلى نهاوند ودعا لنفسه وكاتب الامراء بنى برسق بخورستان يدعوهم إلى طاعته وكان أخوهم زنكين عند السلطان محمد فقبض عليه وكاتب اخوته في التدبير على منكبرس فأرسلوا إليه بالطاعة حتى جاءهم فقبضوا عليه بخورستان وبعثوا به إلى اصبهان فاعتقل مع ابن عمه تتش وأطلق زنكين بن برسق وأعيد إلى مرتبته وكانت اقطاع بنى برسق الاسير وسابور وخورستان وغيرها ما بين الاهواز وهمدان فعوضهم
عنها بالدينور وأخرجهم من تلك الناحية والله تعالى أعلم(5/36)
* (مقتل فخر الملك بن نظام الملك) * قد ذكرنا قبل ان فخر الملك بن نظام الملك كان وزيرا لتتش ثم حبسه ولما هزمه بركيارق ووجده في محبسه اطلقه وكان أخوه مؤيد الملك وزيرا له فمال إليه فخر الدولة بسعاية مجد الملك البارسلانى واستوزره سنة ثمان وثمانين ثم فارق وزارته ولحق بسنجر بن ملك شاه بخراسان فاستوزره فلما كان في آخر المائة الخامسة جاء باطني يتظلم إلى باب داره فأدخله يسمع شكواه فطعنه بخنجر فقتله وأمر السلطان سنجر بضربه فأقر على جماعة من الناس وقتل * (ولابة جاولى سكاور على الموصل وموت جكرمس) * كان جاولى سكاور قد استولى على ما بين خورستان وفارس فعمر قلاعها وحصنها وأساء السيرة في أهلها فلما استقل السلطان محمد بالملك خافه جاولى وأرسل السلطان إليه الامير مودود بن أنوتكين فتحصن منه جاولى وحاصره مودود ثمانية أشهر ودس جاولى إلى السلطان بطلب غيره فأرسل إليه خاتمه مع أمير آخر فسار إليه باصبهان وجهزه في العساكر لجهاد الافرنج بالشأم واسترجاع البلاد منهم وكان جكرمس صاحب الموصل قد قطع الحمل فأقطع السلطان الموصل وديار بكر والجزيرة لجاولى فسار إلى الموصل وجعل طريقه على بغداد على البواريح فاستباحها أياما ثم سار إلى اربل وكان صاحبها أبو الهيجاء بن برشك الكردى الهربانى إلى جكرمس يستحثه فسار في عسكر الموصل والقوا قريبا من اريل فانهزم أصحاب جكرمس وكان يحمل في المحفة فقاتل عنده غلمانه وأحمد بن قاروت بك فخرج وانهزم إلى الموصل ومات وجئ بجكرمس فحبسه ووصل من الغد إلى الموصل فولوا ازنكين بن جكرمس وأقام بالجزيرة وقام بأمره غرغلى مولى أبيه وفرق الاموال والخيول وكتب إلى فليح
ارسلان صاحب بلاد الروم ميتا وكان قد شيد الموصل وبنى أسوارها وحصنها بالخندق وبينما هو كذلك سار إليه فليح ارسلان من بلاد الروم باستدعاء غرغلى كما تقدم وانتهى إلى نصيبين فرحل جاولى عن الموصل ثم جاء البريقى شحنة بغداد ونزل عن الموصل وخاطبهم فلم يجيبوه فرجع من يومه وسار فليح ارسلان من نصيبين إلى الموصل وتأخر عنها جاولى إلى سنجار واجتمع ابن الغازى بن ارتق وجماعة من عسكر جكرمس وجاء جريح رضوان بن تتش من الشأم على الافرنج فسار إلى الرحبة وبعث أهل الموصل وعسكر جكرمس إلى فليح ارسلان بنصيبين واستحلفوه فحلف وجاء إلى الموصل فملكها في منتصف ختام المائة الخامسة وخلع على ابن جكرمس وخطب لنفسه بعد الخليفة وقطع خطبة السلطان محمد إلى العسكر وأخذ القلعة من غرغلى فولى جكرمس وأقر القاضى أبا محمد عبد الله بن القاسم الشهرزورى على القضاء وجعل(5/37)
الرياسة لابي البركات محمد بن محمد بن خميس وكان في جملة فلهم ارسلان ابراهيم بن نيال التركماني صاحب آمد ومحمد بن حموا صاحب خرتبرت كان ابراهيم ابن نيال ولاه تتش على آمد فبقيت بيده وكان ابن حموا ملك خرتبرت من يد القلادروس ترجمان الروم كانت له الرها وانطاكية فملك سليمان قطلمش انطاكية وبقيت له الرها وخرتبرت وأسلم القلادروس على القيام بأعماله فملك محمد بن حموا خرتبرت وأسلم القلادروس فلما ولى فخر الدولة بن جهير ديار بكر ضعف القلادروس عن الرها على يد ملك شاه وأمره عليها ولما سار جاولى إليه الرحبة قاصدا صريخ رضوان بن تتش نزل عليها آخر رمضان من السنة وحاصرها وبها محمد بن السباق من بنى شيبان ولاه عليها دقاق فاستبد بها وخطب لفليح ارسلان فحاصره جاولى وكتب إلى رضوان يستدعيه ويعده بالمسير معه لدفاع فجاء رضوان وحاصر معه الرحبة ثم دس إلى جاولى جماعة من حامية الاسوار فوثبوا بها وأدخلوا وملك البلد وأبقى على محمد الشيباني وسار معه ثم ان فليح ارسلان
لما فرغ من أمر الموصل ولى عليها ابنه ملك شاه في عسكر ومعه أمير بدبره وسار إلى قتال جاولى ورجع عنه ابراهيم بن نيال إلى بلده آمد من الخابور فبعث إلى بلده في الحشد فعاجله جاولى بالحرب والتقوا في آخر ذى القعدة من السنة وانهزم أصحاب فليح ارسلان على دفاعه وأعاد الخطبة للسلطان واستصفى أصحاب جكرمس ثم سار إلى الجزيرة وبها حبيش بن جكرمس ومعه غرغلى من موالى أبيه فحاصره مدة ثم صالحه على ستة آلاف دينار ورجع إلى الموصل وأرسل ملك شاه من فليح ارسلان إلى السلطان محمد والله سبحانه وتعالى أعلم * (مقتل صدقة بن مزيد) * ولما استوحش صدقة بن مزيد صاحب الحلة من السلطان محمد سار إليه السلطان وملك أعماله ولقيه صدقة فهزمه السلطان وقتل في المعركة كما ذكرنا ذلك في أخبار صدقة في دولة ملوك الحلة والله سبحانه وتعالى أعلم * (قدوم ابن عمار صاحب طرابلس على السلطان محمد) * كان فخر الدولة أبو على بن عمار صاحب طرابلس استبد بها على العبيديين فلما ملك الافرنج سواحل الشأم رددوا عليها الحصار فضاقت أحوالها فلما انتظم الامر للسلطان محمد واستقام ملكه قصده فخر الملك بن عمار صريخا للمسلمين بعد أن استخلف على طرابلس ابن عمه ذا المناقب وفرق في الجند عطاءهم لستة أشهر ورتب الجامكية في مقاعدهم للقتال وسار إلى دمشق فلقيه طغتكين أتابك وخيم بظاهرها أياما ورحل إلى بغداد فأركب السلطان الامراء لتلقيه ولم يدخر عنه يراولا عرامة وكذلك الخليفة وأتحف السلطان بهدايا وذخائر(5/38)
نفيسة وطلب النجدة وضمن النفقة على العسكر فوعده بالنصر وأقام ثم لفى الامير حسين بن أتابك طغتكين ليسير بالعساكر إلى الموصل مع الامير مودود لقتال صدقة جاولى ثم يسير حسين معه إلى الشأم ثم رحل السلطان عن بغداد سنة احدى وخمسمائة
لقتال صدقة واستدعى ابن عمار وهو بالنهروان فودعه وسار معه الامير حسين إلى دمشق وكان ابن عمار لما سار عن طرابلس استخلف عليها ابن عمه ذا المناقب فانتقض واجتمع مع أهل طرابلس على اعادة الدولة العلوية وبعثوا إلى الافضل بن أمير الجيوش المستبد على الدولة بمصر بطاعتهم ويسألون الميرة فبعث إليهم شرف الدولة بن أبى الطيب واليا ومعه الزاد من الاقوات والسلام فدخل البلد وقبض على أهل ابن عمار وأصحابه واستصفى ذخائر وحمل الجميع إلى مصر في البحر * (استيلاء مودود بن أبى شتكين على الموصل من يد جاولى) * قد تقدم لنا استيلاء جاولى على الموصل من يد فليح بن ارسلان وابن جكرمس وهلاكهما على يده واستفحل ملكه بالموصل وجعل السلطان محمد بن الية ولاية ما يفتحه من البلاد له فقطع الحمل عن السلطان واستنفره لحرب صدقة فلم بنفر معه وداخل صدقة بأنه معه فلما فرغ السلطان من أمر صدقة بعث مودود بن أبى شتكين في العساكر وولاه الموصل وبعث معه الامراء ابن برسق وسقمان القطبى واقسنقر البرسقى ونصر بن مهلهل بن أبى الشوك الكردى وأبو الهيجاء صاحب أرجل مددا فوصلوا الموصل وخيموا عليها فوجدوا جاولى قد استعد للحصار وحبس الاعيان وخرج عن البلد وترك بها زوجته هي وابنة برسق في ألف وخمسمائة مقاتل فأحسن في مصادرة الناس واشتد عليهم الحصار فلما كان المحرم سنة ثنتين خرج بعض الحامية من فرجة من السور وأدخلوا منها مودود والعساكر وأقامت زوجة جاولى بالقلعة ثمانية أيام ثم استأمنت وخرجت إلى أخيها يوسف بن برسق بأموالها واستولى مودود على الموصل وأعمالها وأما جاولى فلما سار عن الموصل حمل معه القمص الذى كان أسره بنعمان وأخذه منه جكرمس وسار به إلى نصيبين وسأل من صاحبها أبو الغازى بن ارتق المظاهرة على السلطان فلم يجبه إلى ذلك ورحل عن نصيبين إلى ماردين بعد ان ترك ابنه مقيما مع الحامية فتبعه جاولى ودخل عليه وحده بالقلعة متطارحا عليه فأجابه وسار معه إلى
نصيبين ثم إلى سنجار وحاصراها فامتنعت عليهما ثم هرب أبو الغازى ليلا إلى نصيبين وتركه فسار جاولى إلى الرحبة وأطلق القمص بردويل لخمس سنين من الصرة على مال قرره عليه وأسرى من المسلمين يطلقهم وعلى النصرة مهما طلبه وأرسله إلى سالم بن مالك بقلعة جعفر حتى جاء ابن خالته جوسكر صاحب تل ناشز من زعماء الفرنج وكان أسر(5/39)
مع القمص فافتدى بعشرين ألف دينار وأقام جوسكر رهينة وسار القمص إلى انطاكية ثم أطلق جاولى جوسكر وأخذ رهنا عنه صهره وصهر القمص وبعثه في اتمام ما ضمن ولما وصل إلى انطاكية أعطاه شكرى صاحبها ثلاثين ألف دينار وخيلا وسلاحا وغير ذلك وكانت الرها وسروج بيد القمص ولما أسر ملك جكرمس الرها من أصحابه طلبها منه الآن فلم يجبه فخرج القمص مغاضبا له ولحق بتل ناشز وقدم عليه جوسكر عندما أطلقه جاولى ثم سار اليهما شكرى بعاجلهما قبل اجتماع أمرهما فحاصرهما أياما ورجع القمص وجوسكر على حصون شكرى صاحب انطاكية واستمد أبو سيل الارمني صاحب رعيان وكيسوم والقلاع شمالى حلب فأنجدهم بألف فارس وسار إليهم شكرى وحضر البترك وشهد جماعة من القسيسين والبطارقة أن أسمند خال شكرى قال له عند ما ركب البحر إلى بلاده أعد الرها إلى القمص إذا خلص من الاسر فحكم البترك باعادتها فأعادها تاسع صفر من السنة وعبر القمص الفرات ليرفع إلى جاولى المال والاسرى كما شرط له وكان جاولى لما أطلق القمص سار إلى الرحبة ولقيه أبو النجم بدران وأبو كامل منصور وكانا مقيمين بعد قتل أبيهما عند سالم بن مالك فاستنجداه ووعداه أن يسير معهما إلى الحلة واتفقوا على تقديم ابى الغازى تكين ثم قدم عليهم اصهبر صباور وقد أقطعه السلطان الرحبة فأشار على جاولى بقصد الشأم لخلوها عن العساكر والتجنب عن العراق وطريق السلطان فقبل اشارته وأحصر على الرحبة ثم وفد عليه صريخ سالم ابن مالك صاحب جعفر بستغيث به من بنى نمير وكان حيوش البصري قد نزل على بن سالم
بالرقة وملكها وسار إليه رضوان من حلب فصالحه بنو نمير بالمال ورجع عليهم فاستنجد سالم الآن جاولى فجاء وحاصر بنى نمير بالرقة سبعين يوما فأعطوه مالا وخيلا ورحل عنهم واعتذر لسالم ثم وصل جاولى إلى الامير حسين بن أتابك قطلغ تكين كان أبوه أتابك السلطان محمد بكنجة فقتله وتقدم ولده هذا عند السلطان وبعثه مع ابن عمار ليصلح أمر جاولى وتسير العساكر كلها إلى الجهاد مع ابن عمار فأجاب جاولى لذلك وقال لحسين سر إلى الموصل ورحل العساكر عنها وأنا أعطيك ولدى رهينة وتكون الجباية لوال من قبل السلطان فجاء حسين إلى العساكر قبل أن يفتحوها فكلهم أجاب الا الامير مردود فانه امتنع من الرحيل الا باذن من السلطان وأقام محاصرا لها حتى افتتحها وعاد ابن قطلغ إلى السلطان فأحسن الاعتذار عن جاولى وسار جاولى إلى بالس فملكها من أصحاب رضوان بن تتش وقتل جماعة من أهلها فيهم القاضى محمد بن عبد العزير بن الياس وكان فقيها صالحا ثم سار رضوان بن دقاق لحرب جاولى واستمد شكرى صاحب انطاكية فأمده بنفسه وبعث جاولى إلى القمص بالرها يستمده وترك له مال المفاداة فباء(5/40)
إليه بنفسه ولحقه بمنيح وجاء الخبر إلى جاولى باستيلاء مودود وعساكر السلطان على الموصل وعلى خزائنه فاضطرب أمره وانفض عنه كثير من أصحابه منهم زنكى بن اقسنقر وبكتاش وبقى معه اصبهد صباوو وبدروان بن صدقة وابن جكرمس وانضم إليه كثير من المتطوعة ونزل تل ناشر وأتى عسكر رضوان وسكرى وكادان يهزمهم لو لا أن أصحابه ساروا عنه وسار في اتباعهم فأبوا عليه فمضى منهزما وقصد اصبهد الشأم وبدروان بن صدقة قلعة جعفر وابن جكرمس جزيرة ابن عمر وقتل من المسلمين خلق ونهب صاحب انطاكية سوادهم وهرب القمص وجوسكر إلى تل ناشر وكان المنهزمون من المسلمين يمرون بهم فيكرمونهم ويجيزونهم إلى بلادهم ولحق جاولى بالرحبة فلقى بها سرايا مودود صاحب الموصل وخفى عنهم فارتاب في أمره ولم ير الخير له من قصد
السلطان محمد ثقة بما ألقى إليه حسين بن قطلغ تكين في شأنه فأوغر في السير ولحق بالسلطان قريبا من اصبهان ونزل حسين بن قطلغ فدخل به إلى السلطان فأكرمه وطلب منه بكتاش بن عمه تتش واعتقله باصبهان * (متقل مودود بن توتكين صاحب الموصل في حرب الافرنج وولاية البرسقى مكانه) * كان السلطان محمد قد أمر مودودا صاحب الموصل سنة خمس وخمسمائة بالمسير لقتال الافرنج وأمده بسقمان القطبى صاحب ديار بكر وأرمينية واياكى وزتكى ابني برسق أمراء همدان وما جاورها والامير أحمد بك أمير مراغة وأبو الهيجاء صاحب اربل والامير أبو الغازى صاحب ماردين وبعث إليه اياز مكانه فسار إلى سنجار وفتحوا حصونا للافرنج وحاصروا مدينة الرها فامتنعت عليهم وأقام الافرنج على الفرات بعد أن طرقوا أعمال حلب فعاثوا فيها ثم حاصر العساكر الاسلامية قلعة ناشر فامتنعت ودخلوا إلى حلب فامتنع رضوان من لقائهم فعادوا ومات سقمان القبطى في دلاس فحمله أصحابه في تابوت إلى بلاده واعترضهم أبو الغازى بن ارتق ليأخذهم فهزموه ثم افترقت العساكر بمرض ابن برسق ومسير أحمد بن صاحب مراغة إلى السلطان لطلب بلاد سققان القبطى واجتمع قطلغتكين صاحب دمشق بمودود ونزل معه على نهر القاضى وسمع الافرنج بافتراق العساكر فساروا إلى ماميا وجاء السلطان ابن منقذ صاحب شيراز إلى مودود وقطلغتكين وحصرهما على الجهاد ونزلوا جميعا على شيراز ونزل الفرنج قبالتهم ثم رأوا قوة المسلمين فعادوا إلى فامية ثم سار مودود سنة ست إلى الرها وسروج فعاث في نواحيها فكبسه جوسكر صاحب تل ناشر في الافرنج ونال منه ثم اجتمع المسلمون سنة سبع للجهاد باستنجاد قطلغتكين صاحب دمشق لمودود فاجتمع معه بمنزل صاحب سنجار واياز بن أبى الغازى وعبروا الفرات إلى قطلغتكين وقصدوا(5/41)
القدس فسار إليهم صاحبها بقزوين ومعه جوسكر ومعه تل ناشر على جيشه ونزلوا
الاردن واقتتلوا قريبا من طبرية فانهزم الافرنج وقتل كثير منهم وغرق كثير في بحيرة طبرية ونهر الاردن وغنم المسلمون سوادهم ثم لقيهم عسكر طرابلس وانطاكية من الفرنج فاستعانوا بهم وعاودوا الحرب ونزلوا في جبل طبرية فحاصرهم فيه المسلمون ثم ساروا فعاثوا في بلاد الافرنج ما بين عكا إلى القدس ثم نزلوا دمشق وفرق مودود عساكره ووعدهم العود من قابل للجهاد ودخل دمشق ليستريح عند قطلغتكين فصلى الجمعة في الجامع فطعنه باطني فأثواه وهلك لآخر يومه واتهم قطلغتكين به وقتل الباطني من يومه ولما بلغ الخبر السلطان بقتل مودود ولى على الموصل وأعمالها اقسنقر البرسقى سنة ثمان وخمسمائة وبعث معه ابنه الملك مسعود في جيش كثيف وأمره بجهاد الافرنج وكتب إلى الامراء بطاعته فوصل إلى الموصل واجتمعت إليه عساكر النواحى فيهم عماد الدين زنكى بن اقسنقر ونمير صاحب سنجار وسار البرسقى إلى جزيرة ابن عمر فأطاعه نائب مودود بها ثم سار إلى ماردين فأطاعه أبو الغازى صاحبها وبعث معه ابنه اياز فسار إلى الرها فحاصرها شهرين ثم ضاقت الميرة على عسكره ثم رحل إلى شميشاط بعد ان خرب نواحى الرها وسروج وشميشاط وكانت مرعش للافرنج هي وكسوم ورعيان وكان صاحبها كراسك واتفقت وفاته وملكت زوجته بعده فراسلت البرسقى بالطاعة وبعث إليها رسوله فأكرمته ورجعته إلى البرسقى بالهدايا والطاعة وفرعنها كثير من الافرنج إلى انطاكية ثم قبض البرسقى على اياز بن أبى الغازى لاتهامه اياه في الطاعة فسار إليه أبو الغازى في العساكر وهزمه واستنقذ ابنه اياز من أسره كما ترى في أخبار دولة أبى الغازى وبنيه وبعث السلطان يهدده فوصل يده بقطلغتكين صاحب دمشق والفرنج وتحالفوا على التظاهر ورجع أبو الغازى إلى ديار بكر فسار إليه قزجان بن مراجا صاحب حمص وقد تفرق عنه أصحابه فظفر به وأسره وجاء قطلغتكين في عساكره وبعث إلى قزجان في اطلاقه فامتنع وهم بقتله فعاد عنه قطلغتكين إلى دمشق وكان قزجان قد بعث إلى السلطان بخبره وانتظر
من يصل في قتله فأبطأ عليه فأطلق أبا الغازى بعد ان توثق منه بالحلف وأعطاه ابنه اياز رهينة ولما خرج سار إلى حلب وجمع التركمان وحاصر فزجان في طلب ابنه إلى أن جاءت عساكر السلطان * (مسير العساكر لقتال أبى الغازى وقطلغتكين والجهاد بعدهما) * ولما كان ما ذكرناه من عصيان أبى الغازى وقطلغتكين على السلطان محمد وقوة الفرنج على المسلمين جهز السلطان جيشا كثيرا مقدمهم الامير برسق صاحب همدان ومعه(5/42)
الامير حيوس بك والامير كشغرة وعساكر الموصل والجزيرة وأمرهم يقتال آبى الغازى وقطلغتكين فإذا فرغوا منهما ساروا إلى الفرنج فارتجعوا البلاد من أيديهم فساروا لذلك في رمضان من سنة ثمان وعبروا الفرات عند الرقة وجاؤا إلى حلب وطلبوا من صاحبها لؤلؤ الخادم ومن مقدم العسكر المعروف بشمس الخواص تسليم حلب بكتاب السلطان في ذلك فتعلل عليهم وبعث إلى أبى الغازى وقطلغتكين بالخبر واستنجدهما فسارا إليه في ألفين وامتنعت حلب على عساكر السلطان فسار برسق بالعساكر إلى حماة وهى لقطلغتكين فملكها عنوة وسلمها إلى قزجان صاحب حمص بعهد السلطان له بذلك في كل ما يفتحونه من البلاد فثقل ذلك على الامراء وتخاذلوا وتسلم قزجان حماة برسق وأعطاء ابن أبى الغازى ابنه رهينة عنده ثم سار أبو الغازى وقطلغتكين وشمس الخواص إلى انطاكية مستنجدين بصاحبها بردويل وجاءهم بعد ذلك بعدوس صاحب القدس وصاحب طرابلس وغيرهما من الافرنج واتفقوا على تأخير الحرب إلى انصرام الشتاء واجتمعوا بقلعة أفامية وأقاموا شهرين وانصرم الشتاء والمسلمون مقيمون فوهنت عزائم الافرنج وعادوا إلى بلادهم وعاد أبو الغازى إلى ماردين وقطلغتكين إلى دمشق وسار المسلمون إلى كفر طاب من بلاد الافرنج فحاصروه وملكوه عنوة وأسروا صاحبه واستلحموا من فيه ثم ساروا إلى قلعة افامية
فامتنعت عليهم فعادوا إلى المعرة وفارقهم حيوس بك إلى مراغة فملكه وسارت العساكر من المعرة إلى حلب وقدموا أثقالهم وخيامهم فصادفهم بردويل صاحب انطاكية في خمسمائة فارس وألفى راجل صريخا لاهل كغر طاب وصادف مخيم العسكر ففتك فيهم وفعل الافاعيل وهم متلاحقون وجاء الامير برسق وعاين مصارعهم وأشار عليه اخوته بالنجاء بنفسه فنجا بنفسه واتبعهم الافرنج ورجعوا عنهم على فرسخ وعاثوا في المسلمين في كل ناحية وقتل اياز بن أبى الغازى قتله الموكلون به وجاء أهل حلب وغيرها من بلاد المسلمين ما لم يحتسبوه ويئسوا من النصرة ورجعت العساكر منهزمة إلى بلادها وتوفى برسق زنكى سنة عشر بعدها * (ولاية حيوس بك ومسعود بن السلطان محمد على الموصل) * ثم أقطع السلطان الموصل وما كان بيد اقسنقر البرسقى للامير حيوس بك وبعث معه ابنه مسعودا وأقام البرسقى بالرحبة وهى اقطاعه إلى أن توفى السلطان محمد * (ولاية جاولى سكاو على فارس وأخباره فيها ووفاته) * كان جاولى سكاو لما رجع إلى السلطان محمد ورضى عنه ولاه فارسا وأعمالها وبعث معه ابنه جعفرى بك طفلا كما فصل من الرضاع وعهد إليه باصلاحها فسار إليها ومر(5/43)
بالامير بلداجي في بلاده كليل وسرماة قلعة اصطخر وكان من مماليك السلطان ملك شاه فاستدعاه للقاء جعفرى بك وتقدم إليه بأن يأمر بالقبض عليه فقبض عليه ونهبت أمواله وكان أهله وذخائره في قلعة اصطخر وقد استناب فيها وزيره الخيمى ولم يمكنه الا من بعض أهله فلما وصل جاولى إلى فارس ملكها منه وجعل فيها ذخائره ثم أرسل إلى خسرو وهو الحسين بن مبارز صاحب نسا وأمير الشوامكار من الاكراد فاستدعاه للقاء جعفرى بك من السلطان خشية مما وقع لبلداجى فأعرض عنه وأظهر الرجوع إلى السلطان ومضى رسول خبره فبشر بانصافه عن
فارس فما أدى إليه الخبر الا وجاولى قد خالطهم رجع من طريقه وأوغر في السير إليهم ثم هرب خسرو إلى عمدالج وفتك جاولى في أصحابه وماله ثم سار جاولى إلى مدينة نسا فملكها ونهب جهرم وغيرها وسار إلى خسرو فامتنع عليه بحصنه فرجع إلى شيراز وأقام بها ثم سار إلى كازرون فملكها وحاصر أبا سعيد بن محمد في قلعته مدة عامين وراسله في الصلح فقتل الرسل مرتين ثم اشتد عليه الحصار واستأمن فأمنه وملك الحصن ثم استوحش من جاولى فهرب وقبض على ولده وجئ به أسيرا فقتل ثم سار جاولى إلى دار بكرد فهرب صاحبها ابراهيم إلى كرمان وصاحبها ارسلان شاه بن كرمان شاه ابن ارسلان بك بن قاروت بك فسار جاولى إلى حصار درابكرد فامتنعت عليه فخرج إلى البرية ثم جاءهم من طريق كرمان كأنه مدد لهم من صاحب كرمان فأدخلوه فملك البلد واستلحم أهله ثم سار إلى كرمان وبعث إلى خسرو مقدم الشوذكان يستدعيه للمسير معه فلم يجد بدا من موافقته وجاء وصاحبه إلى كرمان وبعث إلى ملك كرمان باعادة الشواذ كان الذين عنده فبعث بالشفاعة فيهم فاستخلص السلطان الرسول بالاحسان وحثه على صاحبه ووعده بأن يرد العساكر عن وجهه ويخذلهم عنه ما استطاع وانقلب عنه إلى صاحبها فقى عساكر كرمان مع وزيره بالسيرجان فتراءى لهم أن جاولى عازم على مواصلتهم وانه مستوحش من اجتماع العساكر بالسيرجان وأشار عليه بالرجوع فرجعوا وسار جاولى في أثر الرسول وحاصر حصنا بطرف كرمان فارتاب ملك كرمان بخبر الرسول ثم اطلع عليه من غير جامعة فقتله ونهب أمواله وبعث العساكر لقتاله واجتمع معهم صاحب الحصن المحاصر وسلك بهم غير الجادة وسمع جاولى بخبرهم فأرسل بعض الامراء ليأتيه بالخبر فلم يجد بالجادة أحدا فرجع وأخبره أن عسكر كرمان قد رجع فاطمأن ولم يكن الا قليل حتى بيتته عساكر كرمان في شوال سنة ثمان وخمسمائة فانهزم وفتكوا فيه قتلا وأسرا وأدركه خسرو بن أبى سعد الذى كان قتل أباه فلما رآهما خاف منهما فأنساه وأبلغاه إلى مأمنه بمدينة نسا ولحقته عساكره وأطلق(5/44)
ملك كرمان الاسرى وجهزهم إليه وبينما هو يجهز العساكر لكرمان لاخذ ثاره توفى جعفرى بك ابن السلطان في ذى الحجة من سنة تسع لخمس سنين عمره فقطعه ذلك عن معاداة كرمان ثم بعث ملك كرمان إلى السلطان ببغداد في منع جاولى عنه فقال له لا بد أن تسلم الحصن إلى حاصره جاولى في حد كرمان وانهزم عليه وهو حصن فرح ثم توفى جاولى في ربيع سنة عشر فامنوا اعادنه والله سبحانه وتعالى أعلم * (وفاة السلطان محمد وملك ابنه محمود) * ثم توفى السلطان محمد بن ملك شاه آخر ذى الحجة سنة اثنتى عشرة من ملكه بعد ان أجلس ولده محمودا على الكرسي قبل وفاته بعشر ليال وفوض إليه أمور الملك فلما توفى نفذت وصيتة لابنه محمود فأمره فيها بالعدل والاحسان وخطب له ببغداد وكان مناهز الحلم وكان السلطان محمد شجاعا عادلا حسن السيرة وله آثار جميلة في قتال الباطنية قد مر ذكرها أخبارهم ولما ولى قام بتدبير دولته الوزير أبو منصور وأرسل إلى المستظهر في طلب الخطبة ببغداد له في منتصف المحرم من سنة ثنتى عشرة وأقر طهرون شحنة على بغداد وقد كان السلطان محمد ولاه عليها سنة ثنتين وخمسمائة ثم عاد البرسقى وقاتله وانهزم إلى عسكر السلطان محمود على الحلة دبيس بن صدقة وقد كان عند السلطان محمد منذ قتل أبوه صدقة وأحسن إليه وأقطعه وولى على الحلة سعيد ابن حميد العمرى صاحب جيش صدقة فلما توفى رغب من ابنه السلطان محمود العود إلى الحلة فأعاده واجتمع عليه العرب والاكراد * (وفاة المستظهر وخلافة ابنه المسترشد) * ثم توفى المستظهر بن المقتدى سنة ثنتى عشرة وخمسمائة منتصف ربيع الآخر ونصب للخلافة ابنه المسترشد واسمه الفضل وقد تقدم ذلك في أخبار الخلفاء * (خروج مسعود بن السلطان محمد على أخيه محمود) *
تقدم لنا أن السلطان ولى على الموصل ابنه مسعودا ومعه حيوس بك وان السلطان محمودا ودبيس بن صدقة سارا إلى الحلة فلما توفى السلطان محمد وولى ابنه محمود سار مسعود من الموصل مع اتابك حيوس بك ووزيره فخر الملك على بن عمار وقسيم الدولة وزنكى بن اقسنقر صاحب سنجار وأبى الهيجاء صاحب اربل وكربارى بن خراسان صاحب المواريح وقصدوا الحلة فدافعهم دبيس فرجعوا إلى بغداد وسار البرسقى إلى قتالهم فبعث إليه حيوس بك بأنهم انما جاؤا لطلب الصريخ على دبيس صاحب(5/45)
الحلة فاتفقوا وتعاهدوا ونزل مسعود بدار الملك ببغداد وجاء الخبر يوصول عماد الدين منكبرس الشحنة وقد كان البرسقى هزم ابنه حسينا كما مر فسار بالعساكر إلى البرسقى فلما علم بدخول مسعود إلى بغداد عبر دجلة من النعمانية إلى دبيس بن صدقة فاستنجده وخرج مسعود وحيوس بك والبرسقى ومن معهم للقائهم وانتهوا إلى المدائن فأتتهم الاخبار بكثرة جموع منكبرس ودبيس فرجعوا وأجازوا نهر صرصر ونهبوا السواد من كل ناحية وبعث المسترشد إلى مسعود والبرسقى والحث على الموادعة والصلح وجاءهم الخبر بأن منكبرس ودبيس بعثا مع منصور أخى دبيس وحسين بن ارز وبنى منكبرس عسكرا لحماية بغداد فرجع البرسقى إلى بغداد ليلا ومعه زنكى بن أقسنقر وترك ابنه عز الدين مسعودا على العسكر بصرصر فالتقى ومنع عسكر منكبرس من العبور وأقام يومين ثم وافاه كتاب ابنه بأن الصلح تم بين الفريقين بعده ففشل وعبر إلى الجانب الغربي ومنصور وحسين في أثره ونزلا عند جامس السلطان وخيم البرسقى عند القنطرة القبلية وخيم مسعود وحيوس بك عند المارستان ودبيس ومنكبرس تحت الرقة وعز الدين مسعود بن البرسقى عند منكبرس منفردا عن أبيه وكان سبب انعقاد الصلح ان حيوس بك أرسل إلى السلطان محمود يطلب الزيادة له وللملك مسعود فأقطعهما اذربيجان ثم وصل الخبر بمسيرهما إلى بغداد فاستشعر منهما العصيان
وجهز العساكر إلى الموصل فكتب إليه رسوله بذلك ووقع الكتاب بيد منكبرس الشحنة فبعث إليه وضمن له اصلاح الحال له وللسلطان مسعود وكان منكبرس متزوجا بأم السلطان مسعود واسمها سرجهان فكان يؤثر مصلحته فاستقر الصلح واتفقوا على اخراج البرسقى من بغداد إلى الملك وأقام عنده واستقر منكبرس شحنة بغداد وساء أثره في الرعية وتعرض لاموال الناس وحرمهم وبلغ الخبر إلى السلطان محمود فاستدعاه إليه فبقى يدافع ثم سار خوفا من عامة بغداد والله سبحانه وتعالى أعلم * (خروج الملك طغرك على أخيه السلطان محمود) * كان الملك طغرك بن السلطان محمد عند وفاة أبيه مقيما بقلعة سرجهان وكان أبوه أقطعه سنة أربع سماوة وآوة وزنجان وجعل اتابك الامير شيركبر الذى حاصر قلاع الاسماعيلية كما مر في أخبارهم وكان عمره يومئذ عشرا فأرسل السلطان محمد الامير كسعدي أتابك له وأعجله إليه وكان كسعدي حاقدا عليه فحمل طغرك على العصيان ومنعه من المجئ إلى أخيه وانتهى ذلك إلى محمود فأرسل إلى أخيه بتحف وخلع وثلاثين ألف دينار ومواعد جميلة فلم يصيخوا إليها وأجابه كسعدي اننا في الطاعة ومعترضون لمراسم الملك فسار إليهم السلطان معدا ليكبسهم وبسهل طريقه على قلعة شهران التى فيها ذخائر طغرك(5/46)
وأمواله ونما الخبر إلى طغرك وكسعدي فخرجا من العسكر في خفية قاصدين شهران وأخلى الطريق عنها لما سبق من اللطف فوقعا على قلعة سرجهان وجاء السلطان إلى العسكر فأخذ خزائن أخيه طغرك وفيها ثلثمائة ألف دينار ثم أقام بزنجان أياما ولحق منها بالرى ولحق طغرك وكسعدي بكنجة واجتمع إليه أصحابه وتمكنت الوحشة بينه وبين أخيه * (فتنة السلطان محمود مع عمه سنجر) * ولما توفى السلطان محمود وبلغ الخبر إلى أخيه سنجر بخراسان أظهر من الجزع
والحزن ما لم يسمع بمثله حتى جلس للعزاء على الرماد وأغلق بابه سبعا ثم سمع بولاية ابنه محمود فنكر ذلك وعزم على قصد بلاد الجبل والعراق وطلب السلطنة لنفسه مكان أخيه وكان قد سار إلى غزنة سنة ثمان وخمسين وفتحها وتنكر لوزيره أبى جعفر محمد بن فخر الملك أبى المظفر ابن نظام الملك لما بلغه أنه أخذ عليه الرشوة من صاحب غزنة ليثنيه عن قصده إليه وفعل مثل ذلك بما وراء النهر وامتحن أهل غزنة بعد فتحها وأخذ منها أموالا عظيمة وشكا إليه الامراء اهانته اياهم فلما عاد إلى بلخ قبض عليه وقتله واستصفى أمواله وكانت لا يعبر عنها كان فيها من العين وحده ألف ألف دينار مرتين واستوزر بعده شهاب الاسلام عبد الرزاق بن أخى نظام الملك وكان يعرف بابن الفقير فلما مات أخوه السلطان محمد عزم على طلب الامر لنفسه وعاوده الندم على قتل وزيره أبى جعفر لما يعلم من اضطجاعه بمثلها ثم ان السلطان محمودا بعث إليه يصطنعه بالهدايا والتحف وضمن له ما يزيد عن مائتي ألف دينار كل سنة وبعث في ذلك شرف الدين أنوشروان بن خالد وفخر الدين طغرك فقال لهما سنجران ابن أخى صغير وقد تحكم عليه وزيره وعلى ابن عمر الحاجب فلا بد من المسير وبعث في مقدمته الامير انز وسار السلطان محمود وبعث في مقدمته الحاجب على بن محمد وكان حاجب أبيه قبله فلما تقاربت المقدمتان بعث الحاجب على بن عمر إلى الامير أنز وهو بجرجان بالعتاب ونوع من الوعيد فتأخر عن جرجان فلحقته بعض العساكر ونالوا منه ورجع الحاجب إلى السلطان محمود بالرى فشكر له فعله وأقاموا بالرى ثم ساروا إلى كرمان وجاءته الامداد من العراق مع منكبرس ومنصور بن صدقة أخى دبيس وأمراء فسار إلى همدان وتوفى وزيره الربيب فاستوزر ابا طالب الشهيرى ثم سار السلطان في عشرين ألفا وثمانية عشر فيلا ومعه ابن الامير أبى الفضل صاحب سجستان وخوارزم شاه محمد والامير انز والامير قماج وكرشاسف بن صرام بن كاكويه صاحب برد وهو صهره على أخته وكان خصيصا بالسلطان محمد فاستدعاه بعد موته سنجر وتأخر عنه وأقطع بلده لقراجا(5/47)
السامر فبادر إليه وتراجعوا بقرب ساوة في جمادى ثالث عشر فسبقت عساكر السلطان محمود إلى الماء من أجل المسافة التى بين ساوة وخراسان وكانت عساكر السلطان ثلاثين ألفا ومعه الحاجب على بن عمر ومنكبرس وأتابك غرغلى وبنو برسق واقسنقر البحارى وقراجا السانى ومعه سبعمائة حمل من السلاح فعندما اصطفوا إلى الحرب انهزم عساكر السلطان سنجر ميمنة وميسرة وثبت هو في القلب والسلطان محمود قبالته وحمل السلطان سنجر في الفيلة فانهزمت عساكر السلطان محمود واسر أتابك غرغلى وكان يكاتب السلطان سنجر بأنه يحمل إليه ابن أخيه فعاتبه على ذلك ثم قتله ونزل سنجر في خيام محمود واجتمع إليه أصحابه ونجا محمود من الواقعة وأرسل دبيس ابن صدقة للمسترشد في الخطبة لسنجر فخطب له أواخر جمادى الاولى من السنة وقطعت خطبة محمود ثم ان السلطان سنجر رأى قلة أصحابه وكثرة أصحاب محمود فراسله في الصلح وكانت تحضه على ذلك فامتنع ولحق البرسقى بسنجر وكان عند الملك مسعود باذربيجان من يوم خروجه من بغداد فسار سنجر من همدان إلى الكرخ وأعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح ووعده بولاية عهده فأجاب وتحالفا على ذلك وسار محمود إلى عمه سنجر في شعبان بهدية حافلة ونزل على جدته فتقبل منه سنجر وقدم له خمسة افراس عربية وكتب لعماله بالخطبة لمحمود بعده في جميع ولايته وإلى بغداد بمئل ذلك وأعاد عليه جميع ما أخذه من بلاده سوى الرى وصار محمود في طاعة عمه سنجر ثم سار منكبرس عن السلطان محمود إلى بغداد وبعث دبيس بن صدقة من منعه من دخولها فعاد ووجه الصلح بين الملكين قد أسفر فقصد السلطان سنجر مستجيرا به من الاستبداد عليه ومسيره لشحنة بغداد من غير اذنه ثم ان الحاجب على بن عمر ارتفعت منزلته في دولته وكثرت سعاية الامراء فيه فأضمر السلطان نكبته فاستوحش وهرب إلى قلعة له كان ينزل بها أهله وأمواله وسار منها إلى خوزستان
وكانت بنو برسق اسورى وابن أخويه ارغوى ابن ملتكى وهدد بن زنكى بعثوا عسكرا يصدونه عن بلادهم ولقوه قريبا من تستر فهزموه وجاؤا به أسيرا وكاتبوا السلطان محمودا بأمره فأمرهم بقتله وحمل رأسه إليه ثم أمر السلطان سنجر باعادة مجاهد الذين تهددوا إلى شحنة بغداد فعاد إليها وعزل نائب دبيس بن صدقة * (استبداد على بن سكمان بالبصرة) * كان السلطان محمد قد أقطع البصرة للامير اقسنقر البحارى واستخلف عليها سنقر الشامي فأحسن السيرة فلما توفى السلطان محمد وثب عليه غرغلى مقدم الاتراك الاسماعيلية وكان يحج بالناس منذ سنين وسنقر ألبا وملكا البصرة من يده وحبساه(5/48)
وذلك سنة احدى عشرة وهم سنقرالب بقتله فعارضه غرغلى فلم يرجع وقتله فقتله غرغلى به وسكن الناس وكان بالبلد أمير اسمه على بن سكمان حج بالناس وغاب عن هذه الواقعة فغص به غرغلى لتمام الحج على يده وخشى أن يثأر منهم بسنقرالب لتقدمه عليهم فأوغر إلى عرب البرية فنهب الحاج (1) وانثنى على بن سكمان في الدفاع عنهم إلى أن قارب البصرة والعرب يقاتلونه فبعث إليه غرغلى بالمنع من البصرة فقصد القرى أسفل دجلة وصدق الحملة على العرب فهزمهم ثم سار إليه غرغلى وقاتله فأصابه سهم فمات وسار على بن سكمان إلى البصرة وملكها وكاتبه اقسنقر البحارى صاحب عمان بالطاعة وأقر نوابه على أعماله وكان عند السلطان وطلبه أن يوليه البصرة فأبى وبقى ابن سكمان مستبدا بالبصرة إلى أن بعث السلطان اقسنقر البحارى إلى البصرة سنة أربع عشرة فملكها من على بن سكمان * (استيلاء الكرج على تفليس) * كان الكرج قديما يغيرون على اذربيجان وبلاد اران قال ابن الاثير والكرج هم الخزر وقد بينا الصحيح من ذلك عند ذكر الانساب وان الخزر هم التركمان (2) الا أن
يكون الكرج من بعض شعوبهم فيمكن ولما استفحل ملك السلجوقية امسكوا عن الاغارة على البلاد المجاورة لهم فلما توفى السلطان محمد رجعوا إلى الغارة فكانت سراياهم وسرايا القفجاق تغير على البلاد ثم اجتمعوا وكانت بلد الملك طغرك وهى اران ونقجوان إلى أوس مجاورة لهم فكانوا يغيرون عليها إلى العراق لملك بغداد ونزل على دبيس ابن صدقة فسار هو وأتابك كبعرى ودبيس بن صدقة وأبى الغازى ابن ارتق وسار في ثلاثين ألفا إلى الكرج والقفجاق فاضطرب المسلمون وانهزموا وقتل منهم خلق وتبعهم الكفار عشرة فراسخ وعادوا عنهم وحاصروا مدينة تفليس وأقاموا عليها سنة وملكوها عنوة سنة خمس عشرة (3) ووصل صريخهم سنة ست عشرة إلى السلطان محمود بهمدان فسار لصريخهم وأقام بمدينة تبريز وانفذ عساكره إلى الكرج فكان من أمرها ما يذكر ان شاء الله تعالى * (الحرب بين السلطان محمود وأخيه مسعود) * قد تقدم لنا مسير مسعود إلى العراق وموت أبيه السلطان محمد وما تقرر بينهما من الصلح ورجوعه إلى الموصل بلده وان السلطان محمودا زاده اذربيجان ولحق به قسيم الدولة البرسقى عندما طرده عن شحنة بغداد فأقطعه مسعود مراغة مضافة إلى الرحبة وكاتب دبيس حيوس بك أتابك مسعود يحرضه على نكبة البرسقى وانه يباطن السلطان محمودا ووعده على ذلك بالاموال وحرضهم على طلب الامر لمسعود ليقع الاختلاف فيحصل له(5/49)
اعلو الكلمة كما حصل لابيه فتنة بركيارق ومحمد وشعر البرسقى بسعاية دبيس فحشى على نفسه ولحق بالسلطان محمود فقبله واعلى محله ثم اتصل بالملك مسعود الاستاذ أبو اسمعيل الحسين بن على الاصبهاني الطغرائي (1) وكان ابنه أبو الوليد محمد بن أبى اسمعيل يكتب الطغرى للملك مسعود فلما وصل أبوه استوزره مسعود وعزل أبا على بن عمار صاحب طرابلس سنة ثلاث عشرة فأغرى مسعودا بالخلاف على أخيه لسلطان محمود
فكتب إليهم السلطان بالترغيب والترهيب فاظهروا أمرهم وخاطبوا الملك مسعودا بالسلطان وضربوا له النوب الخمس وأغروا إليه السير وهو في خف من العسكر فسار إليهم في خمسة عشر ألفا وفي مقدمته البرسقى ولقيهم بعقبة استراباذ منتصف ربيع الاول سنة أربع عشرة فانهزم الملك مسعود وأصحابه وأسر جماعة من أعيانهم منهم الاستاذ أبو اسمعيل الطغرائي وزير الملك مسعود فأمر السلطان محمود بقتله وقال ثبت عندي فساد عقيدته وكان قتله لسنة من وزارته وكان كاتبا شاعر يميل إلى صناعة الكيمياء وله فيها تصانيف معروفة ولما انهزم الملك مسعود لحق ببعض الجبال على اثنى عشر فرسخا من المعركة فاختفى فيه مع غلمان صغار وبعث يستأمن إلى أخيه فأرسل إليه اقسنقر البرسقى يؤمنه ويحئ به إليه وخالفه إليه بعض الامراء فحرضه على اللحاق بالموصل واذربيجان ومكاتبة دبيس ومعاودة الحرب فسار معه لذلك وجاء البرسقى إلى مكانه الاول فلم يجده فاتبعه إلى أن أدركه على ثلاثين فرسخا وأعلمه حال أخيه من الرضا عنه وأعاده فرجع ولقيه العساكر بأمر السلطان محمود وأنزله عند أمه ثم أحضره وهش له وبكى وخلطه بنفسه وذلك لثمانية وعشرين يوما من الخطبة باذربيجان وأما حيوس بك الاتابك فافترق من السلطان من المعركة وسار إلى الموصل وجمع الغلال من سوادها واجتمعت إليه العساكر وبلغه فعل السلطان مع أخيه فسار إلى الزاب موريا بالصيد ثم أجد السير إلى السلطان بهمدان فأمنه وأحسن إليه وبلغ الخبر بالهزيمة إلى ديس وهو بالعراق فنهب البلاد وأحربها وبعث إليه السلطان فلم يصغ لى كتابه * (ولاية اقسنقر البرسقى على الموصل ثم على واسط وشحنة العراق) * ولما وصل حيوس بك إلى السلطان محمود بعثه إلى أخيه طغرل وأتابك كبغرى فسار إلى كنجة وبقى أهل الموصل فوضى من غير وال وكان اقسنقر البرسقى قد أبلى في خدمة السلطان محمود ورد إليه أخاه مسعودا يوم الهزيمة فعرف له حق نصحه وحسن أثره فأقطعه الموصل وأعمالها وما يضاف إليها كسنجار والجزيرة فسار إليها سنة خمس
عشرة وتقدم إلى سائر الامراء بطاعته وأمره بمجاهدة الافرنج واسترجاع البلاد منهم فوصل إلى الموصل وقام بتدبيرها واصلاح أحوالها ثم أقطعه سنة ست عشرة بعدها(5/50)
مدينة واسط وأعمالها مضافة إلى الموصل وجعله شحنة بالعراق فاستحلف عماد الدين رنكى بن اقسنقر وبعثه إليها فسار إليها في شعبان من السنة * (مقتل حيوس بك والوزير الشهيرمى) * ثم ان السلطان بعد وصول حيوس بك بعثه لحرب أخيه طغرل كما قلناه وأقطعه اذربيجان فتنكر له الامراء وأغروا به السلطان فقتله على باب هرمز في رمضان سنة عشر وأصله تركي من موالى السلطان محمد وكان عادلا حسن السيرة ولما ولى الموصل والجزيرة وكان الاكراد بتلك الاعمال انتشروا وكثرت قلاعهم وعظم فسادهم فقصدهم وفتح كثيرا من قلاعهم كبلد البكارية وبلد الزوزن وبلد النكوسة وبلد التحشيبة وهربوا منه في الجبال والشعاب والمضايق وصلحت السابلة وأمن الناس وأما الوزير الكمال أبو طالب الشهيرمى فانه برز مع السلطان دبيس إلى همدان وخرج في موكبه وضاق الطريق فتقدم الموكب بين يديه فوثب عليه باطني وطعنه بسكين فأنفذه واتبعه الغلمان فوثب عليه آخر فجذبه عن سرجه وطعنه طعنات وشردهم الناس عنه فوثب آخر فجذبه وذلك لاربع سنين من وزارته وكان سبى السيرة ظلوما غشوما كثير المصادر ولما قتل رفع لسلطان ما كان أحدث من المكوس * (رجوع طغرل إلى طاعة أخيه السلطان محمود) * قد ذكرنا عصيان طغرل على أخيه السلطان محمود بالرى سنة ثلاث عشرة وأن لسلطان محمود سار إليه وكبسه فلحق برجهان ثم لحق منها بكنجة وبلاد أران ومعه أتابك كبغرى فاشتدت شوكته وقصد التغلب على بلاد اذربيجان وهلك كبغرى في شوال سنة خمس عشرة ولحق باقسنقر الارمني صاحب مراغة ليقيم له الاتابكية وحرضه على قتال
السلطان محمود فسار معه إلى مراغة ومروا باردبيل فامتنعت عليهم فساروا إلى هرمز وجاءهم الخبر هنالك بأن السلطان محمود بعث الامير حيوس بك إلى أذربيجان وأقطعه البلاد وأنه وصل إلى مراغة في عسكر كثيف فساروا عن هرمز إلى وانتقض عليهم وراسلوا الامير بشركين الذى كان أتابك طغرل أيام أبيه يستنجد به وكان كبغرى الاتابك قبض عليه بعد السلطان محمد ثم أطلقه السلطان سنجر وعاد إلى أبهر وزنجان وكانت أقطاعه فأجاب داعيهم وسار أمامهم إلى أبهر ولم يتم أمرهم فراسلوا السلطان في الطاعة وعاد طغرل إلى أخيه وانتظم أمرهم * (مقتل وزير السلطان محمود) * كان وزير السلطان محمود شمس الملك بن نظام الملك وكان حظيا عنده فكثرت سعاية(5/51)
أصحابه فيه وكان ابن عمه الشهاب أبو المحاسن وزير السلطان سنجر فتوفى واستوزر سنجر بعده أبا طاهر القمر عدوا لبنى نظام الملك فأغرى السلطان سنجر حتى أمر السلطان محمود بنكبته فقبض عليه ودفعه إلى طغرل فحبسه بقلعة جلجلال ثم قتله بعد ذلك وكان أخوه نظام الدين أحمد قد استوزره المسترشد وعزل به جلال الدين أبا على ابن فلما بلغه نكبة شمس الملك ومقتله عزل أخاه نظام الدين وأعاد بن إلى وزارته والله سبحانه وتعالى أعلم * (ظفر السلطان بالكرج) * ثم وفد سنة سبع عشرة على السلطان محمود جماعة من أهل وشروان يستصرخونه على الكرج ويشكون ما يلقون منهم فسار لصريخهم ولما تقارب الفئتان هم السلطان بالرجوع وأشار به وزيره شمس وتطارح عليه أهل شروان فأقام وباتوا على وجل ثم وقع الاختلاف بين الكرج وقفجاق واقتتلوا ليلتهم ورحلوا منهزمين وعاد السلطان إلى همدان والله تعالى اعلم
* (عزل البرسقى عن شحنة العراق وولاية برتقش الزكوى) * كان الخليفة المسترشد قد وقعت بينه وبين دبيس بن صدقة حروب شديدة بنواحي المباركة من أطراف غانة وكان البرسقى معه وانهزم دبيس فيها هزيمة شنيعة كما مر في أخباره وقصد غزنة صريخا فلم يصرخوه فقصد المقتفق وسار بهم إلى البصرة فدخلوها واستباحوها وقتلوا سلمان نائبها فأرسل الخليفة لى البرسقى بالنكير على اهمال أمر دبيس حتى فتك في البصرة فسار البرسقى إليه وهرب دبيس فلحق بالافرنج وجاء معهم لحصار حلب فامتنعت فلحق بطغرل بن السلطان محمد يستحثه لقصد العراق كما مر ذلك في أخبار دبيس وبقيت في نفس المسترشد عليه ولحق بها أمثالها فتنكر له وبعث إلى السلطان محمود في عزله فعزله وأمره بالعود إلى الموصل لجهاد الافرنج ووصل نائب برتقش إلى بغداد وأقام بها الشحنة وبعث السلطان ابنا له صغيرا ليكون معه على الموصل وسار البرسقى به ووصل الموصل وقام بولايتها * (بداية أمر بنى اقسنقر وولاية عماد الدين زنكى على البصرة) * كان عماد الدين زنكى فيه جملة البرسقى ولما أقطعه السلطان واسط بعث عليها زنكى فأقام فيها أياما ثم كان مسير البرسقى إلى البصرة في أتباع دبيس فلما هرب دبيس عنها بعث البرسقى إليها عماد الدين زنكى فأقام بحمايتها ودفع العرب عنها ثم استدعاه البرسقى عندما سار إلى الموصل فضجر من تلون الاحوال عليه واختار اللجاق باصبهان(5/52)
فقدم عليه باصبهان فأكرمه السلطان وأقطعه البصرة وعاد إليها سنة ثمان عشرة والله تعالى اعلم * (استيلاء البرسقى على حلب) * لما سار دبيس إلى الافرنج حرضه على حلب وان ينوب فيها عنهم ووجدهم قد ملكوا مدينة صور وطمعوا في بلاد المسلمين وساروا مع دبيس إلى حلب فحاصروها
حتى جهد أهلها الحصار وبها يومئذ تاس بن ابن ارتق فاستنجد بالبرسقى صاحب الموصل وشرط عليهم ان يمكنوه من القلعة ويسلموها إلى نوابه وسار إلى انجادهم فاجفل عنهم الافرنج ودخل إلى حلب فأصلح أمورها ثم سار إلى كفر طاب فملكها من الافرنج ثم سار إلى قلعة عزار من أعمال حلب وصاحبها حوسكين فحاصرها وسارت إليه عساكر الافرنج فانهزم وعاد إلى حلب فخلف فيها ابنه مسعودا وعبر الفرات إلى الموصل * (مسير طغرل ودبيس إلى العراق) * ولما ارتحل الافرنج عن حلب فارقهم دبيس ولحق بالملك طغرل فتلقاه بالكرامة والميرة وأغراه بالعراق وضمن له ملكه فساروا لذلك سنة تسع عشرة وانتهوا إلى دقوقا فكتب مجاهد الدين بهرام بن نكريت إلى المسترشد بخبرهم فتجهز للقائهم وأمر برتقش الزكوى ان يتجهز معه خامس صفر وانتهى إلى الخالص وعدل طغرل ودبيس إلى طريق خراسان ثم نزلوا رباط جلولاء ونزل الخليفة بالدسكرة وفي مقدمته الوزير جلال الدين بن صدقة وسار دبيس إلى جسر النهروان لحفظ المقابر وقد كان رأيه مع طغرل أن يسير طغرل إلى بغداد فيملكها وتقدم دبيس في انتظاره فقعد به المرض عن لحاقه وغشيتهم أمطار أثقلتهم عن الحركات وجاء دبيس إلى النهروان طريحا من التعب والبرد والجوع واعترضوا ثلاثين حملا للخليفة جاءت من بغداد بالملبوس والمأكول فطعموا وأكلوا وناموا في دف ء الشمس وإذا بالمسترشد قد طلع عليهم في عساكره بلغه الخبر بأن دبيسا وطغرل خالفوه إلى بغداد فاضطرب عسكره واجفلوا راجعين إلى بغداد فلقوا في طريقهم دبيسا كما ذكرنا على دبال غرب النهروان ووقف الخليفة عليه فقبل دبيس الارض واستعطف حتى هم الخليفة بالعفو عنه ثم وصل الوزير ابن صدقة فثناه عن رأيه ووقف دبيس مع برتقش الزكوى يحادثه ثم شغل الوزير بمد الجسر للعبور فتسلل دبيس ولحق بطغرل وعاد المسترشد إلى بغداد ولحق
طغرل ودبيس بهمدان فعاثوا في أعمالها وصادروا أهلها وخرج إليهم السلطان محمود فانهزموا بين يديه ولحقوا بالسلطان سنجر بخراسان شاكين من المسترشد وبرتقش(5/53)
الشحنة والله أعلم بغيبه وأحكم * (مقتل البرسقى وولاية بنه عز الدين على الموصل) * ثم ان المسترشد تنكر للشحنة برتقش وتهدده فلحق بالسلطان محمود في رجب سنة عشرين فأغراه بالمسترشد وخوفه غائلته وانه تعود الحروب وركب العيث ويوشك أن يمتنع عنك ويستصعب عليك فاعتزم السلطان على قصد العراق وبعث إليه الخليفة يلاطفه في الرد لغلاء البلاد وخرابها ويؤخره إلى حين صلاحها فصدق عنده حديث الزكوى وسار مجدا فعبر المسترشد بأهله وولده وأولاد الخلفاء إلى الجانب الغربي في ذى القعدة راحلا عن بغداد والناس باكون لفراقه وبلغ ذلك إلى السلطان فشق عليه وأرسل يستعطفه في العود إلى دار فشرط عليه الرجوع عن العراق في القوت كما شرط أولا فغضب السلطان وسار نحو بغداد والخليفة بالجانب الغربي ثم أرسل خادمه عفيفا لى واسط يمنع عنها نواب السلطان فسار إليه عماد الدين زنكى من البصرة وهزمه وفتك في عسكره قتلا وأسرا وجمع المسترشد السفن إليه وسد أبواب قصره ووكل حاجب الباب ابن الصاحب بدار الخلافة ووصل السلطان إلى بغداد في عشرى ذى الحجة ونزل باب الشماسية وأرسل المسترشد في العود والصلح وهو يمتنع وجرت بين العسكرين مناوشة ودخل جماعة من عسكر السلطان إلى دار الخليفة ونهبوا التاج أول المحرم سنة احدى وعشرين وخمسمائة فضج العامة لذلك ونادوا بالجهاد وخرج المسترشد من سرادقه ينتمى بأعلى صوته وضربت الطبول ونفخت البوقات ونصب الجسر وعبر الناس دفعة وعسكر السلطان مشتغلون بالنهب في دور الخلافة والامراء وكان في دار الخلافة ألف رجل كامنون في السرداب فخرجوا عند ذلك ونالوا من عسكر السلطان
وأسروا جماعة من أمرائه ونهب العامة دور وزير السلطان وأمرائه وحاشيته ومثل منهم خلق وعبر المسترشد إلى الجانب الشرقي في ثلاثين ألف مقاتل من أهل بغداد والسواد ودفع السلطان وعسكره عن بغداد وحفر عليها الخنادق واعتزموا على كبس السلطان فأخافهم أبو الهيجاء الكردى صاحب اربل ركب للقتال فلحق بالسلطان ووصل عماد الدين زنكى من البصرة في جيش عظيم في البر والبحر أذهل الناس برؤيته فحام المسترشد عن اللقاء وتردد الرسل بينهما أجاب إلى الصلح وعفا السلطان عن أهل بغداد وأقام بها إلى عاشر ربيع الاخر وأهدى إليه المسترشد سلاحا وخيلا وأموالا ورحل إلى همدان وولى زنكى بن اقسنقر شحنة بغداد ثقة بكفايته واستقامت أحواله مع الخليفة واشار به أصحابه ورأوا أنه يرقع الخرق ويصلح الامر فولاه على ذلك مضافا إلى ما بيده من البصرة وواسط وسار إلى همدان وقبض في طريقه على وزيره أبى(5/54)
القاسم على بن الناصر الشادبي اتهمه بممالاة المسترشد لكثرة تعينه في الصلح فقبض عليه واستدعى شرف الدولة أنوشروان بن خالد من بغداد ملحقة باصبهان في شعبان واستوزره عشره أشهر تم عزله ورجع إلى بغداد وبقى أبو القاسم محبوسا إلى أن جاء السلطان سنجر إلى الرى قأطلقه وأعاده إلى وازرة السلطان محمود آخر ثنتين وعشرين [ وفاة عز الدين بن البرسقى وولاية عماد الدين زنكى على الموصل وأعمالها ثم استيلاؤه على حلب ] ولما استولى عز الدين على الموصل وأعمالها واستفحل أمره طمحت همته إلى الشأم فاستاذن السلطان في المسير إليه وسار إلى دمشق ومر بالرحبة فحاصرها وملكها ثم مات اثر ذلك وهو عليها وافترقت عساكره وشغلوا عن دفنه ثم دفن بعد ذلك ورجعت العساكر إلى الموصل وقام بالامر مملوكه جاولى ونصب أخاه الاصغر وأرسل إلى السلطان يطلب تقرير الولاية له وكان الرسول في ذلك القاضى بهاء الدين أبو الحسن عسلى
الشهرزوى وصلاح الدين محمد الباغسيانى أمير حاجب البرسقى واجتمعا بنصير الدين جعفر مولى عماد الدين زنكى وكان بينه وبين صلاح الدين سر فخوفهما جعفر ابن جاولى وحملهما على طلب عماد الدين زنكى وضمن لهما عنه الولايات والاقطاع فأجابوه وجاء بهما إلى الوزير شرف الدين أنوشروان ابن خالد فقالا له ان الجزيرة والشأم قد تمكن منهما الافرنج من حدود ماردين إلى عريش مصر وكان البرسقى يكفهم وقد قتل وولده صغير ولا بد للبلد ممن يضطلع بأمرها ويدفع عنها وقد خرجنا عن النصيحة اليكم فبلغ الوزير مقالتهما إلى السلطان فأحضرهما واستشارهما فذكرا جماعة منهم عماد الدين زنكى وبذلا عنه مقربا إلى خزانة السلطان مالا جزيلا فولاه السلطان لما يعلم من كفايته وولى مكانه شحنة العراق مجاهد الدين بهروز صاحب تكريت وسار عماد الدين زنكى فبدأ بالبواريح وملكها ثم سار إلى الموصل وتلقاه جاولى مطيعا وعد إلى الموصل في خدمته فدخلها في رمضان وأقطع جاولى الرحبة وبعثه إليها وولى نصير الدين جعفرا قلعة الموصل وسائر القلاع وجعل صلاح الدين محمد الباغسيانى أمير صاحب وولى بهاء الدين الشهرزورى قضاء بلاده جميعا وزاده أملاكا وأقطاعا وشركه في رأيه ثم سار إلى جزيرة ابن عمر وقد امتنع بها مماليك البرسقى فجد في قتالهم وكانت دجلة تحول بينه وبين البلد فعبر بعسكره الماء سبحا واستولى على المسافة التى بين دجلة والبلد وهزم من كان فيها من الحامية حتى أحجزهم بالبلد وضيق حصارهم فاستأمنوا وأمنهم ثم سار إلى نصيبين وهى لحسام الدين تمرتاش ابن أبى الغازى صاحب ماردين فحاصرها واستنجد حسام الدين بن عمه ركن الدولة(5/55)
داود بن سكمان ابن ارتق صاحب كبيعا فأنجده بنفسه وأخذ في جمع العساكر وبعث تمرتاش ماردين إلى نصيبين يعرف العساكر بالخبر وأن العساكر واصلة إليهم عن خمسة أيام وكتبه في رقعة وعلقها في جناح طائر فاعترضه عسكر زنجى وصادوه وقرأ زنكى
الرقعة وعوض الخمسة أيام بعشرين يوما وأطلق الطائر بها إلى البلد فقرؤا الكتاب وسقط في أيديهم واستطالوا العشرين واستأمنوا لعماد الدين زنكى فأمنهم وملك نصيبين وسار عنها إلى سنجار فملكها صلحا وبعث العساكر إلى الخابور فملكها ثم سار إلى حران وخرج إليه أهل البلد بطاعتهم وكانت الرها وسروج والميرة ونواحيها للافرنج وعليها جرسكين صاحب الرها فكاتب زنكى وهادنه ليتفرغ للجهاد بعد ثم عبر الفرات إلى حلب في المحرم سنة ثنتين وعشرين وقد كان عز الدين مسعود بن اقسنقر البرسقى لما سار عنها إلى الموصل بعد قتل أبيه استخلفت عليها فرمان من امرائه ثم عزله بآخر اسمه قطلغ ايه وكتب له إلى قرمان فمنعه الا أن يرى العلامة التى بينه وبين عز الدين ابن البرسقى فعاد قطلغ إلى مسعود ليجئ بالعلامة فوجده قد مات بالرحبة فعاد إلى حلب وأطاعه رئيسها فضائل بن بديع والمقدمون بها واستنزلوا قزمان من القلعة على ألف دينار أعطوه اياها وملك قطلغ القلعة منتصف احدى وعشرين ثم ساءت سيرته وظهر ظلمه وجوره وكان بالمدينة بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن ارتق وكان ملكها قبل وخلع عنها فدعاه الناس إلى البيعة وثاروا بقطلغ فامتنع بالقلعة فحاصروه وجاء مهيار صاحب منبج وحسن صاحب مراغة لاصلاح أمرهم فلم يتفق وطمع الافرنج في ملكها وتقدم جوسكين بعسكره إليها فدافعوه بالمال ثم وصل صاحب انطاكية فحاصرهم إلى آخر السنة وهم محاصرون القلعة فلما ملك عماد الدين زنكى الموصل والجزيرة والشأم فأطاعوا وسار عبد الجبار وقطلغ إلى عماد الدين بالموصل وأقام أحد الاميرين بحلب حتى بعث عماد الدين زنكى صاحبه صلاح الدين محمد الباغسيانى في عسكر فملك القلعة ورتب الامور وولى عليها وجاء عماد الدين بعساكره في أثره وملك في طريقه منبج ومراغة ثم دخل حلب وأقطع أعمالها الاجناد والامراء وقبض على قطلغ ايه وسلمه لابن بديع فكحله فمات واستوحش ابن بديع فهرب إلى قلعة جعفر وأقام عماد الدين مكانه في رياسة حلب أبا الحسن على بن عبد الرزاق
* (قدوم السلطان سنجر إلى الري ثم قدوم السلطان محمود إلى بغداد) * الموصل طغرل ودبيس إلى السلطان سنجر بخراسان حرضه دبيس على العراق والسلطان محمود قد اتفقا على الامتناع منه فسار سنجر وأخبر السلطان محمود باستدعائه فوافاه لاقرب وقت وأمر العساكر بتلقيه وأجلسه معه على التخت وأقام السلطان محمود(5/56)
عنده إلى آخر ثنتين وعشرين ثم رجع سنجر إلى خراسان بعد أن أوصى محمود بدبيس وأعاده إلى بلده ورجع محمود إلى همذان ثم سار إلى العراق وخرج الوزير للقائه ودخل بغداد في تاسوعاء سنة ثلاث وعشرين ثم لحقه دبيس بمائة ألف دينار في ولاية الموصل وسمع بذلك زنكى وجاء إلى السلطان وحمل المائة ألف مع هدايا جليلة فخلع عليه وأعاده وسار منتصف السنة عن بغداد إلى همذان بعد أن ولى الحلة مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد * (وفاة السلطان محمود وملك ابنه داود) * ثم توفى السلطان محمود بهمذان في شوال سنة خمس وعشرين لثلاث عشرة سنة من ملكه بعد أن كان قبض على جماعة من امرائه وأعيان دولته منهم عزيز الدولة أبو نصر أحمد بن حامد المستوفى وأبو شتكين المعروف بشيركين بن حاجب وابنه عمر فخافهم الوزير أبو القاسم الشابادى فاغرى بهم السلطان فنكبهم وقتلهم ولما توفى اجتمع الوزير أبو القاسم والاتابك اقسنقر الاحمر يلى وبايعوا لابنه داود وخطبوا له في جميع بلاد الجبل وأذربيجان ووقعت الفتنة بهمذان وسائر بلاد الجبل ثم سكنت وهرب الوزير إلى الرى مستجيرا بالسلطان فأمر بها * (منازعة السلطان مسعود لداود ابن أخيه واستيلاؤه على السلطان بهمذان) * لما هلك السلطان محمود سار أخوه مسعود من جرجان إلى تبريز فملكها فسار داود من همذان في ذى القعدة سنة خمس وعشرين وحاصره بتبريز في محرم سنة ست وعشرين
ثم اصطلحوا وتأخر داود عن الامر لعمه مسعود فسار مسعود من تبريز إلى همذان وكاتب عماد الدين زنكى صاحب الموصل يستنجده فوعده بالنصر وأرسل إلى المسترشد في طلب الخطبة ببغداد وكان داود قد أرسل في ذلك قبله ورد المسترشد الامر في الخطبة إلى السلطان سنجر ودس إليه أن لا يأذن لواحد منهما وان تكون الخطبة له فقط وحسن موقع ذلك عنده وسار السلطان مسعود إلى بغداد وسبقه إليها أخوه سلجوق شاه مع اتابك قراجا الساقى صاحب فارس وخوزستان ونزل في دار السلطان واستخلفه الخليفة لنفسه ولما سار السلطان مسعود أوعز إلى عماد الدين زنكى أن يسير إلى بغداد فسار من الموصل إليها وانتهى السلطان مسعود إلى عباسة الخالص وبرزت إليه عساكر المسترشد وسلجوق شاه وسار قراجا الساقى إلى مدافعة زنكى فدافعه على المعشوق فهزمه وأسر كثيرا من أصحابه ومر منهزما إلى تكريت وبها يومئذ نجم الدين أيوب أبو الاملاك الايوبية فهيأ له المعابر وعبر دجلة إلى بلاده وسار السلطان مسعود من العباسة وقاتلت طلائعه طلائع أخيه سلجوق وبعث سلجوق يستحث قراجا(5/57)
بعد انهزام زنكى فعاد سريعا وتأخر السلطان مسعود بعد هزيمة زنكى وأرسل إلى المسترشد بأن عمه سنجر وصل إلى الرى عازما على بغداد ويشير بمدافعته عن العراق وتكون العراق لوكيل الخليفة ثم تراسل القوم واتفقوا على ذلك وتحالفوا عليه وان يكون مسعود السلطان ولى العهد ودخلوا إلى بغداد فنزل مسعود ديار السلطان وسلجوق دار الشحنة والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق * (هزيمة السلطان مسعود وملك طغرل أخيه) * لما توفى السلطان محمود سار السلطان سنجر من خراسان إلى بلاد الجبال ومعه طغرل ابن أخيه محمد وانتهى إلى الرى ثم سار إلى همذان فسار مسعود لقتاله ومعه قراجا الساقى وسلجوق شاه وقد كان الخليفة عزم أن لا يتجهز معهم فأبطأ فبعثوا إليه قراجا
فسار إلى خانقين وأقام وقطعت خطبة سنجر من العراق وخالفهم والى بغداد دبيس وزنكى وقد سمى اقطاعه لسنجر الحلة وزنكى ولاه شحنة بغداد فرجع المسترشد إلى بغداد لموافقتهما وسار السلطان وأخوه سلجوق شاه للقاء سنجر ثم سمعا بكثرة عساكره فتأخرا فسار في طلبهم يوما وليلة ثم تراجعوا عند الدينور وكان مسعود يماطل باللقاء انتظارا للمسترشد فلم يجد بدا من اللقاء فالتقوا على النقيبة وحمل قراجا عليهم وتورط في المعركة وأصيب بجراحات ثم التفوا عليه وأسروه وانهزم من أصحاب مسعود قزل وقد كان واطأهم على الهزيمة فانهزم السلطان مسعود عند ذلك منتصف ستة وعشرين وقتل كثير من أكابر الامراء ونزل سنجر في خيامهم وأحضر قراجا فقتله وجئ إليه بالسلطان مسعود فأكرمه وأعاده إلى كنجة وخطب للملك طغرل ابن أخيه في السلطنة وخطب له في جميع البلاد واستوزر له أبا القاسم الساباذى وزير السلطان محمود وعاد إلى نيسابور آخر رمضان سنة ست وعشرين وخمسمائة * (هزيمة السلطان داود واستيلاء طغرل بن محمد على الملك) * لما ولى طغرل همذان وولى عند السلطان سنجر إلى خراسان وبلغه أن صاحب ما وراء النهر المرخان قد انتقض عليه فسار لاصلاحه وشغل بذلك فقام الملك داود باذربيجان وبلاد كنجة وطلب الامر لنفسه وجمع العساكر وسار إلى همذان ومعه برتقش الزكوى واتابك اقسنقر الاحمر يلى ومعه طغرل بن برسق ونزل وقد استقر ثم اضطرب عسكر داود وأحسوا من برتقش الزكوى بالفشل فنهب التركمان خيامه وهرب اقسنقر اتابك وانهزم في رمضان سنة ست وعشرين ثم قدم بغداد في ذى القعدة ومعه اتابك اقسنقر فأكرمه الخليفة وأنزله بدار السلطان(5/58)
* (عود السلطان مسعود إلى الملك وهزيمة طغرل) * قد تقدم لنا هزيمة السلطان مسعود من عمه سنجر وعوده إلى كنجة وولاية طغرل السلطان ثم محاربة داود ابن أخيه له
وانهزام داود ثم رجوع داود إلى بغداد فلما بلغ الخبر إلى مسعود جاء إلى بغداد ولقيه داود قريبا منها وترجل له عن فرسه ودخلا بغداد في صفر سنة سبع وعشرين ونزل مسعود بدار السلطان وخطب له ولداود بعده وطلبا من السلطان عسكرا ليسير معهما إلى اذربيجان فبعث معهما العساكر إلى اذربيجان ولقيهم اقسنقر الاحمر يلى في مراغة بالاقامة والاموال وملك مسعود بلاد اذربيجان وهرب بين يديه من كان بها من الامراء وامتنعوا بمدينة اذربيجان فحاصرهم بها وملكها عليهم وقتل منهم جماعة وهرب الباقون ثم سار إلى همذان لمحاربة أخيه طغرل فهزمه وملك همذان في شعبان من السنة ولحق طغرل بالرى وعاد إلى اصبهان ثم قتل اقسنقر الاحمر يلى بهمذان غيلة ويقال ان السلطان مسعودا دس عليه من قتله ثم سار إلى حصار طغرل باصبهان ففارقها طغرل إلى فارس وملكها مسعود وسار في اثر طغرل إلى البيضاء فاستأمن إليه بعض أمراء طغرل فأمنه وخشى طغرل أن يستأمنوا إليه فقصد الرى وقتل في طريقه ووزيره أبا القاسم الساباذى في شوال من السنة ومثل به غلمان الامير شيركين الذى سعى في قتله كما مر ثم سار الامير مسعود يتبعه إلى أن تراجعا ودارت بينهما حرب شديدة وانهزم طغرل وأسر من أمرائه الحاجب تنكى وأتى بقرا وأطلقهما السلطان مسعود وعاد إلى همذان والله تعالى أعلم * (عود الملك طغرل إلى الجبل وهزيمة السلطان مسعود) * ولما عاد مسعود من حرب أخيه طغرل بلغه انتقاض داود ابن أخيه محمود باذربيجان فسار إليه وحاصره بقلعة فحصر جمع طغرل العساكر وتغلب على بلاده وسار إليه واستعمل بعض قواده فسار مسعود للقائه ولقيه عند قزوين وفارق مسعود الامراء الذين استمالهم طغرل ولحقوا به فانهزم مسعود في رمضان سنة ثمان وعشرين وبعث إلى المسترشد يستأذنه في دخول بغداد فأذن له وكان أخوه سلجوق باصبهان مع نائبه فيها البقش السلاحى فلما سمع بانهزامه سبقه إلى بغداد وأنزله المسترشد بدار
السلطان وأحسن إليه بالاموال ووصل مسعود وأكثر أصحابه رجلا فوسع عليه الخليفة بالانفاق والمراكب والظهر واللباس والآلة ودخل دار السلطان منتصف شوال وأقام طغرل بهمذان * (وفاة طغرل واستيلاء مسعود على الملك) * ولما وصل مسعود إلى بغداد حمل إليه المسترشد ما يحتاج إليه وأمره بالمسير إلى همذان لدافعة طغرل ووعده بالمسير معه(5/59)
بنفسه فتباطأ مسعود عن المسير واتصل جماعة من أمرائه بخدمة الخليفة ثم اطلع على مداخلة بعضهم لطغرل فقبض عليه ونهب ماله وارتاب الآخرون فهربوا عن السلطان مسعود وبعث المسترشد في اعادتهم إليه فدافعه ووقعت لذلك بينهما وحشة فقعد المسترشد عن نصره بنفسه وبينما هم في ذلك وصل الخبر بوفاة أخيه طغرل في المحرم سنة تسع وعشرين فسار مسعود إلى همذان واستوزر شرف الدين أنوشروان بن خالد حمله من بغداد وأقبلت إليه العساكر فاستولى على همذان وبلاد الجبل اه * (فتنة المسترشد مع السلطان مسعود ومقتله وخلافة ابنه الراشد) * قد تقدم لنا ان الوحشة وقعت عندما كان ببغداد بسبب أمرائه الذين اتصلوا بخدمة المسترشد ثم هربوا عنه إلى السلطان مسعود فلما سار السلطان مسعود إلى همذان بعد أخيه طغرل وملكها استوحش منه جماعة من أعيان أمرائه منهم برتقش وقزل وقرا سنقر الخمارتكين والى همذان وعبد الرحمن بن طغرلبك ودبيس بن صدقة وساروا إلى خوزستان ووافقهم صاحبها برسق بن برسق واستأمنوا إلى الخليفة فارتاب من دبيس وبعث إلى الآخرين بالامان مع سديد الدولة بن الانباري وارتاب دبيس منهم أن يقبضوا عليه فرجع إلى السلطان مسعود وسار الآخرون إلى بغداد فاستحثوا المسترشد للمسير إلى قتال مسعود فأجابهم وبالغ في تكرمتهم وبرز آخر رجب من سنة تسع وعشرين وهرب صاحب البصرة إليها وبعث إليه بالامان فأبى فتكاسل عن المسير
فاستحثوه وسهلوا له الامر فسار في شعبان ولحق به برسق بن برسق وبلغ عدة عسكره سبعة آلاف وتخلف بالعراق مع خادمه اقبال ثلاثة آلاف وكاتبه أصحاب الاطراف بالطاعة وأبطأ في مسيره فاستعجلهم مسعود وزحفوا إليه فكان عسكره خمسة عشر ألفا وتسلل عن المسترشد جماعة من عسكره وأرسل إليه داود بن محمود من اذربيجان يشير بقصد الدينور والمقام بها حتى يصل في عسكره فأبى واستمر في مسيره وبعث زنكى من الموصل عسكرا فلم يصل حتى تواقعوا وسار السلطان محمود إليهم مجدا فوافاهم عاشر رمضان ومالت ميسرة المسترشد إليه وانهزمت ميمنته وهو ثابت لم يتحرك حتى أخذ أسيرا ومعه الوزير والقاضى وصاحب المحرر وابن الانباري والخطباء والفقهاء والشهود فأنزل في خيمة ونهب مخيمه وحمل الجماعة أصحابه إلى قلعة ترجمعان ورجع بقية الناس إلى بغداد ورجع السلطان إلى همذان وبعث الامير بك ايه إلى بغداد شحنة فوصلها سلخ رمضان ومعه عميد وقبضوا أملاك المسترشد وغلاتها وكانت بينهم وبين العامة فتنة قتل فيها خلق من العامة وسار السلطان في شوال إلى مراغة وقد ترددت الرسل بينهما في الصلح على مال يؤديه المسترشد وأن لا يجمع العساكر ولا يخرج(5/60)
من داره لحرب ما عاش وأجابه السلطان وأذن له في الركوب وحمل الغاشية وفارق المسترشد بعض الموكلين به فهجم عليه جماعة من الباطنية فألحموه جراحا وقتلوه ومثلوا به جدعا وصلبا وتركوه سليبا في نفر من أصحابه قتلوهم معه وتبع الباطنية فقتلوا وكان ذلك منتصف ذى القعدة سنة ست وعشرين لثمان عشرة سنة من خلافته وكان كاتبا بليغا شجاعا قرما ولما قتل بمراغة كتب السلطان مسعود إلى بك ايه شحنة بغداد بأن يبايع لابنه فبويع ابنه الراشد أبو جعفر منصور بعهده إليه لثمانية أيام من مقتله وحضر بيعته جماعة من أولاد الخلفاء وأبو النجيب الواعظ وأما اقبال خادم المسترشد فلما بلغه خبر الواقعة وكان مقيما ببغداد كما قدمناه عبر إلى الجانب
الغربي ولحق بتكريت ونزل على مجاهد الدين بهروز * (فتنة الراشد مع السلطان مسعود) * لما بويع الراشد بعث إليه السلطان مسعود برتقش الزكوى يطالبه بما استقر عليه الصلح مع أبيه المسترشد وهو أربعمائة ألف دينار فأنكر الراشد أن يكون له مال وانما مال الخلافة كان مع المسترشد فنهب ثم جمع الراشد العساكر وقدم عليهم كجراية وشرع في عمارة السور واتفق برتقش مع بك ايه على هجوم دار الخلافة وركبوا لذلك في العساكر فقاتلهم عساكر الراشد والعامة وأخرجوهم عن البلد إلى طريق خراسان وسار بك ايه إلى واسط وبرتقش إلى سرخس ولما علم داود بن محمود فتنة عمه مسعود مع الراشد سار من اذربيجان إلى بغداد في صفر سنة ثلاثين ونزل بدار السلطان ووصل بعده عماد الدين زنكى من الموصل وصدقة بن دبيس من الحلة ومعه عش بن أبى العسكر يدبر أمره ويديره وكان أبوه دبيس قد قتل بعد مقتل المسترشد باذربيجان وملك هو الحلة ثم وصل جماعة من أمراء مسعود منهم برتقش بازدار صاحب فروق والبقش الكبير صاحب اصبهان وابن برسق وابن الاحمر يلى وخرج للقائهم كجراية والطرنطاى وكان اقبال خادم المسترشد قد قدم من تكريت فقبض عليه الراشد وعلى ناصر الدولة أبى عبد الله الحسن بن جهير فاستوحش أهل الدولة وركب الوزير جلال الدين بن صدقة إلى لقاء عماد الدين زنكى فأقام عنده مستجيرا حتى أصلح حاله مع الراشد واستجار به قاضى القضاة الزينبي ولم يزل معه إلى الموصل وشفع في اقبال فأطلق وسار إليه ثم جد الراشد في عمارة السور وسار الملك داود لقتال مسعود استخلفه الراشد واستخلفه عماد الدين زنكى وقطعت خطبة مسعود من بغداد وولى داود شحنة بغداد برتقش بازدار ثم وصل الخبر بأن سلجوق شاه أخا الامير مسعود ملك واسط وقبض على الامير بك ايه فسار الامير زنكى لدفاعه فصالحه ورجع وعبر إلى طريق خراسان(5/61)
للحاق داود واحتشد العساكر ثم سار السلطان مسعود لقتالهم وفارق زنكى داود ليسير إلى مراغة ويخالف السلطان مسعود إلى همذان وبرز الراشد من بغداد أول رمضان وسار إلى طريق خراسان وعاد بعد ثلاث وعزم على الحصار ببغداد واستدعى داود الامراء ليكونوا معه عنده فجاؤا لذلك ووصلت رسل السلطان مسعود بطاعة الراشد والتعريض بالوعيد للامراء المجتمعين عنده فلم يقبل طاعة من أجلهم والله سبحانه وتعالى أعلم * (حصار بغداد ومسير الراشد إلى الموصل وخلعه وخلافة المقتفى) * ثم ان السلطان مسعودا أجمع المسير إلى بغداد وانتهى إلى الملكية فسار زين الدين على من أصحاب زنكى حتى شارف معسكره وقاتلهم ورجع ونزل السلطان على بغداد والعيارون فأفسدوا سائر المحال ببغداد وانطلقت أيديهم وأيدي العساكر في النهب ودام الحصار نيفا وخمسين يوما وتأخر السلطان مسعود إلى النهروان عازما على العود إلى اصبهان فوصله طرنطاى صاحب واسط في سفن كثيرة فركب إلى غربي بغداد فاضطرب الامراء وافترقوا وعادوا إلى اذربيجان وكان زنكى بالجانب الغربي فعبر إليه الراشد وسار معه إلى الموصل ودخل السلطان مسعود بغداد منتصف ذى القعدة فسكن الناس وجمع القضاة والفقهاء وأوقفهم على يمين الراشد التى كتبها بخطه انى متى جمعت أو خرجت أو لقيت أحدا من أصحاب السلطان بالسيف فقد خلعت نفسي من الامر فأفتوا بخلعه واتفق أرباب الدولة ممن كان ببغداد ومن أسر مع المسترشد وبقى عند السلطان مسعود كلهم على ذمه وعدم أهليته على ما مر في أخباره بين أخبار الخلفاء وبويع محمد بن المستظهر ولقب المقتفى وقد قدمت هذه الاخبار بأوسع من ذلك ثم بعث السلطان العساكر مع قراسنقر لطلب داود فأدركته عند مراغة وقاتله فهزمه وملك اذربيجان ومضى داود إلى خوزستان واجتمع عليه عساكر من التركمان وغيرهم فحاصر تستر وكان عمه سلجوق بواسط فسار إليه بعد ان أمره أخوه مسعود بالعساكر ولقى داود
على تستر فهزمه داود ثم عزل السلطان وزيره شرف الدين أنوشروان بن خالد واستوزر كمال الدين أبا البركات بن سلامة من أهل خراسان ثم بلغه ان الراشد قد فارق الموصل فأذن للعساكر التى عنده ببغداد في العود إلى بلادهم وصرف فيهم صدقة بن دبيس صاحب الحلة بعد ان أصهر إليه في ابنته وقدم عليه جماعة من الامراء الذين كانوا مع داود منهم البقش السلامى وبرسق بن برسق وصاحب تستر وسنقر الخمار تكين شحنة همذان فرضى عنهم وأقامتهم وعاد إلى همذان سنة احدى وثلاثين * (الفتنة بين السلطان مسعود وبين داود والراشد وهزيمة مسعود ومقتل الراشد) *(5/62)
كان الامير بوزابة صاحب خوزستان والامير عبد الرحمن طغرل بك صاحب خلخال والملك داود ابن السلطان محمود خائفين من السلطان فاجتمعوا عند الامير منكبرس صاحب فارس وبلغهم مسير الراشد من الموصل إلى مراغة فراسلوه في أن يجتمعوا عليه ويردوه إلى خلافته فأجابهم وبلغ الخبر إلى السلطان مسعود فسار إليهم في شعبان سنة ثنتين وثلاثين وأوقع بهم وأخذ منكبرس أسيرا فقتله وافترقت عساكره للنهب فانفرد بوزابة وطغرل بك وصدقا الحملة عليه فانهزم وقبض على جماعة من الامراء مثل صدقة بن دبيس صاحب الحلة وكافله نمبتر بن أبى العساكر وابن أتابك قرا سنقر صاحب اذربيجان وحبسهم بوزابة حتى تحقق قتل منكبرس ولحق السلطان مسعود باذربيجان منهزما وسار داود إلى همذان فملكها ووصل إليه الراشد هنالك وأشار بوزابة وكان كبير القوم بالمسير إلى فارس فساروا معه واستولى عليها وملكها ولما علم سلجوق شاه وهو بواسط ان أخاه السلطان مسعودا مضى إلى اذربيجان سار هو إلى بغداد ليملكها ودافعه البقش الثحت ونظم الخادم أمير الحاج وثار العيارون بالبلدان وأفحشوا في النهب فلما رجع الشحنة استأصل شأفتهم وأخذ المستورين بجنايتهم فجلا الناس عن بغداد إلى الموصل وغيرها ولما قتل صدقة بن دبيس أقر السلطان مسعود أخاه محمدا
على الحلة ومعه مهلهل بن أبى العساكر أخو عش المقتول كما مر في أخباره ثم لما ملك بوزابة فارس رجع مع الراشد والملك داود ومعهما خوارزم شاه إلى خوزستان وخربوا الجزيرة فسار إليهم مسعود ليمنعهم عن العراق فعاد الملك داود إلى فارس وخوارزم شاه إلى بلده وسار الراشد إلى اصبهان فثار به نفر من الخراسانية كانوا في خدمته فقتلوه عند القائلة في خامس عشر رمضان من السنة ودفن بظاهر اصبهان ثم قبض السلطان آخر السنة على وزيره أبى البركات بن سلامة الدركرينى واستوزر بعده كمال الدين محمد بن الخازن وكان نبيها حسن السيرة فرفع المظالم وأزال المكوس وأقام وظائف السلطان وجمع له الاموال وضرب على أيدى العمال وكشف خيانتهم فثقل عليهم وأوقعوا بينه وبين الامراء فبالغوا في السعاية فيه عند السلطان وتولى كبرها قرا سنقر صاحب اذربيجان فانه بعث إلى السلطان يتهدده بالخروج عن طاعته فأشار على السلطان خواصه بقتله خشية الفتنة فقتله على كره وبعث برأسه إلى قرا سنقر فرضى وكان قتله سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة لسسعة أشهر من وزارته واستوزر بعده أبا العز ظاهر بن محمد اليزدجردى وزير قرا سنقر ولقب عز الملك وضاقت الامور على السلطان وأقطع البلاد للامراء ثم قتل السلطان البقش السلاحى الشحنة بما ظهر منه من الظلم والعسف فقبض عليه وحبسه بتكريت عند مجاهد الدين بهروز ثم أمر(5/63)
بقتله فلما قرب للقتل ألقى نفسه في دجلة فمات وبعث برأسه إلى السلطان فقدم مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد فحسن أثره ثم عزله السلطان سنة ست وثلاثين وولى فيها قرلى أميرا آخر من موالى السلطان محمود وكانت له يزدجرد والبصرة فأضيف له اليهما والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه * (فتنة السلطان سنجر مع خوارزم شاه) * وهو أول بداية بنى خوارزم قد تقدم لنا ذكر أولية محمد خوارزم شاه وهو محمد بن أبى
شنتكين وان خوارزم شاه لقب له وان الامير داود حبشي لما ولاه بركيارق خراسان وقتله اكنجى ولى محمد بن أبى شنتكين وولى بعده ابنه أتسز فظهرت كفاءته وقربه السلطان سنجر واستخلصه واستظهر به في حروبه فزاده ذلك تقدما ورفعة واستفحل ملكه في خوارزم ونمى للسلطان سنجر انه يريد الاستبداد فسار إليه سنة ثلاث وثلاثين وبرز أتسز ولقيه في التعبية فلم يثبت وانهزم وقتل من عسكره خلق وقتل له ابن فحزن عليه حزنا شديدا وملك سنجر خوارزم وأقطعها غياث الدين سليمان شاه ابن أخيه محمد ورتب له وزيرا وأتابك وحاجبا وعاد إلى مرو منتصف السنة فخالفه أتسز إلى خوارزم وهرب سليمان شاه ومن معه إلى سنجر واستولى أتسز على خوارزم وكان من أمره ما يذكر بعد ان شاء الله تعالى * (استيلاء قرا سنقر صاحب اذربيجان على بلاد فارس) * ثم جمع أتابك قراسنقر صاحب اذربيجان وبرز طالبا ثأر أبيه الذى قتله بوزابة في المصاف كما مر وأرسل السلطان مسعود في قتل وزيره الكمال فقتله كما مر فانصرف عنه إلى بلاد فارس وتحصن عنه بوزابة في القلعة البيضاء ووطئ قرا سنقر البلاد وملكها ولم يمكنه مقام فسلمها لسلجوق شاه ابن السلطان محمود وهو أخو السلطان مسعود وعاد إلى اذربيجان فنزل بوزابة من القلعة سنة أربع وثلاثين وهزم سلجوق شاه وأسره وحبسه ببعض قلاعه واستولى على البلاد ثم هلك قرا سنقر صاحب اذربيجان واران بمدينة اردبيل وكان من مماليك طغرل وولى مكانه جاولى الطغرلى والله سبحانه ولى التوفيق * (مسير جهان دانكى إلى فارس) * ثم أمر السلطان سنة خمس وثلاثين الامير اسمعيل جهان دانكى فسار إليها ومنعها مجاهد الدين بهروز من الوصول واستعد لذلك بخسف المعابر وتغريقها فقصد الحلة فمنعها أيضا فقصد واسط فقاتله طرنطاى وانهزم ودخل واسط ونهبها ونهب النعمانية وما إليها واتبعهم طرنطاى إلى البطيحة ثم فارقه عسكره إلى طرنطاى فلحق بتستر وكتب اسمعيل إلى السلطان فعفا عنه
* (هزيمة السلطان سنجر امام الخطا واستيلاؤهم على ما وراء النهر) *(5/64)
وتلخيص هذا الخبر من كتاب ابن الاثير ان أتسز بن محمد ملك خوارزم واستقر بها فبعث إلى الخطا وهم أعظم الترك فيما وراء النهر وأغراهم بمملكة السلطان سنجر واستحثهم لها فساروا في ثلثمائة ألف فارس وسار سنجر في جميع عساكره وعبر إليهم النهر ولقيهم سنة ست وثلاثين واقتتلوا أشد قتال ثم إنهزم سنجر وعساكره وقتل منهم مائة ألف فيهم أربعة آلاف امرأة وأسرت زوجة السلطان سنجر ولحق سنجر بترمذ وسار منها إلى بلخ وقصد أتسز مدينة مرو فدخلها مراغما للسلطان وفتك فيها وقبض على جماعة من الفقهاء والاعيان وبعث السلطان سنجر إلى السلطان مسعود يأذن له في النصر وفي الرى ليدعوه ان احتاج إليه فجاء عباس صاحب الرى بذلك إلى بغداد وسار السلطان مسعود إلى الرى امتثالا لامر عمه سنجر قال ابن الاثير وقيل ان بلاد تركستان وهى كاشغر وبلاد سامسون وجبى (1) وطراز وغيرها مما وراء النهر كانت بيد الخانية وهم مسلمون من نسل مراسيان ملك الترك المعروف خبره مع ملوك الكينية وأسلم جدهم الاول سبق قراخان لانه رأى في منامه ان رجلا نزل من السماء وقال له بالتركية ما معناه أسلم تسلم في الدنيا والآخرة وأسلم في منامه ثم أسلم في يقظته ولما مات ملك مكانه موسى بن سبق ولم يزل الملك في عقبه إلى ارسلان خان بن سليمان بن داود بن بقرخان بن ابراهيم طغاج خان بن ايلك نصر بن ارسلان بن على بن موسى بن سبق فخرج عليه قردخان وانتزع الملك منه ثم نصر سنجر وقتل قردخان وخرج بعد ذلك خوارزم ونصره السلطان سنجر منهم وأعاده إلى ملكه وكان في جنده نوع من الاتراك يقال لهم القارغلية والاتراك الغربة الذين نهبوا خراسان على ما نذكره بعد وهم صنفان صنف يقال لهم چق وأميرهم طوطى بن داديك وصنف يقال لهم برق وأميرهم برغوث ابن عبد الحميد وكان لارسلان نصر خان شريف يصحبه من أهل سمرقند وهو الاشرف
ابن محمد بن أبى شجاع العلوى فحمل ابن ارسلان نصر خان وطلبوا انتزاع الملك منه فاستصرخ السلطان سنجر فعبر إليه في عساكره سنة أربع وعشرين وخمسمائة وانتهى إلى سمرقند فهرب القار غلية أمامه وعاد إلى سمرقند فقبض على ارسلان خان وحبسه ببلخ فمات بها وولى على سمرقند مكانه قلج طمقاج أبا المعالى الحسن بن على بن عبد المؤمن ويعرف بحسن تكر من أعيان بيت الخانية الا أن ارسلان خان اطرحه فولاه سنجر ولم تطل أيامه فولى بعده محمود بن ارسلان خان وأبوه هو الذى ملك سمرقند من يده وهو ابن أخت سنجر وكان في سنة ثنتين وعشرين وخمسمائة قد خرج كوهرخان من الصين إلى حدود كاشغر في جموع عظيمة وكوهر الاعظم بلسانهم وخان السلطان فمعناه أعظم ملك ولقيه صاحب كاشغر أحمد بن الحسن الخان فهزمه وقد كان خرج قبله من الصين(5/65)
اتراك الخطا وكانوا في خدمة الخانية أصحاب تركسان وكان ارسلان خان محمد ابن سليمان ينزلهم على الدروب بينه وبين الصين مسالح ولهم على ذلك جرايات واقطاعات وسخط عليهم بعض السنين وعاقبهم بما عظم عليهم فطلبوا فسيحا من البلاد يأمنون فيه من ارسلان خان لكثرة ما كان يغزوهم ووصفت لهم بلاد سامسون فساروا إليها ولما خرج كونان من الصين ساروا إليه واجتمعوا عليه ثم ساروا جميعا إلى بلاد ما وراء النهر ولقيهم الخان محمود بن ارسلان خان محمد في حدود بلاده في رمضان سنة احدى وثلاثين فهزموه وعاد إلى سمرقند وعظم الخطب على أهلها وأهل بخارى واستمد محمود السلطان سنجر وذكر ما لقى السلطان من العنت واجتمع عنده ملوك خراسان وملك سجستان من بنى خلف وملك غزنة من الغوريين وملك مازندران وعبر النهر للقاء الترك في أكثر من مائة ألف وذلك لآخر خمس وثلاثين وخمسمائة وشكا إليه محمود خان من القارغلية فقصدهم واستجاروا بكوخان ملك الصين فكتب إلى سنجر بالشفاعة فيهم فلم يشفعه وكتب إليه يدعوه للاسلام ويتهدده بكثرة العساكر فأهان
الرسول وزحف للقاء سنجر والتقى الجمعان بموضع يسمى قطران خامس صفر سنة ست وثلاثين وأبلى القارغلية من الترك وصاحب سجستان من المسلمين ثم انهزم المسلمون فقتل كثير منهم وأسر صاحب سجستان والامير قماج وزوجة السلطان سنجر فأطلقهم كوخان ومضى السلطان سنجر منهزما وملك الترك الكفار والخطا بلاد ما وراء النهر إلى أن مات كوخان ملكهم سنة سبع وثلاثين ووليت بعده ابنته ثم ماتت قريبا وملكت أمها من بعدها وهى زوجة كوخان وابنه محمد وصار ما وراء النهر بيد الخطا إلى أن غلبهم عليه عماد الدين محمد خوارزم شاه سنة ثنتى عشرة وستمائة * (أخبار خوارزم شاه بخراسان وصلحه مع سنجر) * ولما عاد السلطان منهزما سار خوارزم شاه إلى سرخس في ربيع سنة ست وثلاثين فأطاعته ثم إلى مرو الشاهجان فشفع فيهم الامام أحمد الباخرزى ونزل بظاهرها وبينما هو قد استدعى أبا الفضل الكرماني وأعيان أهلها للشورى ثار عامة البلد وقتلوا من كان عندهم من جنده وامتنعوا فطاولها ودخلها عنوة وقتل كثيرا من علمائها ثم رجع في شوال من السنة إلى نيسابور وخرج إليه علماؤها وزهادها يسألون معافاتهم مما نزل بأهل مرو فأعفاهم واستصفى أصحاب السلطان وقطع خطبة سنجر وبعث عسكرا إلى أعمال صغد فقاتلوهم أياما ولم يطق سنجر مقاومته لمكان الخطا وحوارهم له ثم سار السلطان سنجر سنة ثمان وثلاثين لقتال خوارزم وحاصرها أياما وكاد يملكها واقتحمها بعض أمرائه يوما فدافعه أتسز بعد حروب شديدة ثم أرسل(5/66)
أتسز إلى سنجر بالطاعة والعود إلى ما كان عليه فقبله وعاد سنة ثمان وثلاثين * (صلح زنكى مع السلطان مسعود) * ثم وصل السلطان مسعود سنة ثمان وثلاثين إلى بغداد عادته فتجهز لقصد الموصل وكان يحمل لزنكى جميع ما وقع من الفتن فبعث إليه زنكى يستعطفه
مع أبى عبد الله بن الانباري وحمل معه عشرين ألف دينار وضمن مائة ألف على أن يرجع عنه فرجع وانعقد الصلح بينهما وكان مما رغب السلطان في صلحه أن ابنه غازى بن زنكى هرب من عند السلطان خوفا من أبيه فرده إلى السلطان ولم يجتمع به فوقع ذلك من السلطان أحسن موقع والله تعالى أعلم * (انتقاض صاحب فارس وصاحب الرى) * كان بوزابة صاحب فارس وخورستان كما قدمنا فاستوحش من السلطان مسعود فانتقض سنة أربعين وخمسمائة وبايع لمحمد ابن محمود وهو ابن أخى السلطان مسعود وسار إلى مامشون واجتمع بالامير عباس صاحب الرى ووافقه على شأنه واتصل به سليمان شاه أخو السلطان مسعود وتغلبوا على كثير من بلاده فسار إليهم من بغداد في رمضان من السنة ومعه الامير طغابرك حاجبه وكان له التحكم في الدولة والميل إلى القوم واستخلفه على بغداد الامير مهلهل ونصير أمير الحاج وجماعة من غلمان بهروز وسار فلما تقاربوا للحرب نزع السلطان شاه عنهم إلى أخيه مسعود وسعى عبد الرحمن في الصلح فانعقد بينهما على ما أحبه القوم وأضيف إلى عبد الرحمن ولاية اذربيجان واران إلى خلخال عوضا من جاولى الطغرلى واستوزر أبا الفتح بن دراست وزير بوزابة وقد كان السلطان سنة تسع وثلاثين قبض على وزيره اليزدجردى واستوزر مكانه المرزبان بن عبد الله بن نصر الاصبهاني وسلم إليه اليزدجردى واستصفى أمواله فلما كان هذه السنة وفعل بوزابة في صلح القوم ما فعل اعتضد بهم على مقامه عند السلطان وتحكم عليه وعزل وزيره واستوزر له أبا الفتح هذا * (مقتل طغابرك وعباس) * قد قدمنا ان طغابرك وعبد الرحمن تحكما على السلطان واستبدا عليه ثم آل أمره إلى أن منعا بك ارسلان المعروف بابن خاص بك بن النكرى من مباشرة السلطان وكان تربيته وخاصا به ونجى خلوته وتجهز طغابرك لبعض الوجوه فحمله في جملته فأسر السلطان إلى ارسلان الفتك بطغابرك وداخل رجال العسكر في ذلك فأجاب منهم
زنكى جاندار ان يباشر قتله بيده ووافق بك ارسلان جماعة من الامراء واعترضوا له في موكبه فضربه الجاندار فصرعه عن فرسه وأجهز عليه ابن خاص بك ووقف الامراء(5/67)
الذين واطؤه على ذلك دون الجاندار فمنعوه وكان ذلك بظاهر صهوة وبلغ الخبر إلى السلطان مسعود ببغداد ومعه عباس صاحب الرى في جيش كثيف فامتعض لذلك ونكره فداراه السلطان حتى سكن وداخل بعض الامراء في قتله فأجابوه وتولى كبر ذلك البقش حروسوس اللحف وأحضر السلطان عباسا وأدخله في داره وهذان الاميران عنده وقد أكمنوا له في بعض المخادع رجالا وعدلوا به إلى مكانهم فقتلوه ونهبت خيامه وأصاخت البلاد لذلك ثم سكنت وكان عباس من موالى السلطان محمود وكان عادلا حسن السيرة وله مقامات حسان في جهاد الباطنية وقتل في ذى القعدة سنة احدى وأربعين ثم حبس السلطان أخاه سليمان شاه في قلعة تكريت وسار عن بغداد إلى اصبهان والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق * (مقتل بوزابة صاحب فارس) * قد تقدم لنا ان طغابرك كان مستظهرا على السلطان بعباس صاحب الرى وبوزابة صاحب فارس وخورستان فلما قتل طغابرك وامتعض له عباس قتل اثره وانتهى الخبر إلى بوزابة فجمع العساكر وسار إلى اصبهان سنة ثنتين وأربعين فحاصرها وبعث عسكرا آخر لحصار همذان وآخر إلى قلعة الماهكى من بلاد اللحف وكان بلاد اللحف من قلاع البقش كوز حر فسار إليها ودفعهم عنها ثم سار بوزابة عن اصبهان لطلب السلطان مسعود فامتنع وتراجفا بمرج مراتكن واشتد القتال بينهما وكبا الفرس ببوزابة وسيق إلى السلطان فقتل بين يديه وقيل أصابه سهم فسقط ميتا وانهزمت عساكره وكان هذا الحرب من أعظم الحروب بين السلجوقية * (انتقاض الامراء على السلطان) * ولما قتل طغابرك وعباس وبوزابة اختص
بالسلطان ابن خاص بك لميله إليه واطرح بقية الامراء فاستوحشوا وارتابوا بأنفسهم أن يقع بهم ما وقع بالآخرين ففارقوه وساروا نحو العراق أبو ركن المسعودي صاحب كنجة واران والبقش كوزحر صاحب الجبل والحاجب خريطاى المحمودى شحنة واسط وابن طغابرك والركن وقرقوب ومعهم ابن أخى السلطان وهو محمد بن محمود وانتهوا إلى حران فاضطرب الناس ببغداد وغلت الاسعار وبعث إليهم المقتفى بالرجوع فلم يرجعوا ووصلوا إلى بغداد في ربيع الآخر من سنة ثلاث وأربعين ونزلوا بالجانب الشرقي وهرب أجناد مسعود شحنة بغداد إلى تكريت ووصل إليهم على ابن دبيس صاحب الجبلة ونزل بالجانب الغربي وجمع الخليفة العساكر ثم قاتل العامة عساكر الامراء فاستطردوا لهم ثم كروا عليهم فملؤا الارض بالقتلى ثم جست خيولهم خلال الديار فنهبوا وسبوا ثم جاؤا مقايل التاج يعتذرون ورددوا الرسل إلى(5/68)
الخليفة سائر يومهم ثم ارنحلوا من الغد إلى النهروان فعانوا فيها وعاد مسعود من بلاد تكريت إلى بغداد ثم افترق الامراء وفارقوا العراق ثم عاد البقش كوزحر والطرنطاى وابن دبيس سنة أربع وأربعين ومعهم ملك شاه بن محمود وهو ابن أخى السلطان وطلبوا من الخليفة الخطبة لملك شاه فأبى وجمع العساكر وشغل بما كان فيه من أمرعم السلطان سنجر وذلك أن السلطان سنجر بعث إليه يلومه في تقديم ابن خاص بك ويأمره بابعاده وتهدده فغالطه ولم يفعل فسار إلى الرى فبادر إليه مسعود وترضاه فرضى عنه ولما علم البقش كوزحر مراسلة المقتفى لمسعود نهب النهروان وقبض على على بن دبيس وسار السلطان بعد لقاء عمه إلى بغداد فوصلها منتصف شوال سنة أربع وأربعين فهرب الطرنطاى إلى النعمانية ورحل البقش إلى النهروان بعد أن أطلق على بن دبيس فجاء إلى السلطان واعتذر فرضى عنه * (وفاة السلطان مسعود وولاية ملك شاه بن أخيه محمود ثم أخيه محمد من بعده) *
ثم توفى السلطان مسعود بهمذان في رجب منتصف سبع وأربعين لثنتين وعشرين سنة من طلبه الملك وبه كمل استفحال ملك السلجوقية وركب الخمول دولتهم بعده وكان عهد إلى ملك شاه بن أخيه محمود فلما توفى بايع له الامير بن خاص بك وأطاعه العسكر وانتهى خبر موته إلى بغداد فهرب الشحنة بلاك إلى تكريت وأمر المقتفى بالحوطة على داره ودور اصحاب السلطان مسعود ثم بعث السلطان ملك شاه عسكرا إلى الجبلة مع سلاد كرد من أمرائه فملكها وسار إليه بلاك الشحنة فخادعه حتى استمكن منه فقبض عليه وغرقه واستبد بلاك الشحنة بالجبلة وجهز المقتفى العساكر مع الوزير عون الدين ابن عبيرة إلى الجبلة وبعث عساكرا إلى الكوفة وواسط فملكهما ووصلت عساكر السلطان ملك شاه فملكوها وسار إليها الخليفة بنفسه فارتجعها منهم وسار منها إلى الجبلة ثم إلى بغداد آخر ذى القعدة من السنة ثم ان ابن خاص بك طمع في الانفراد بالامر فاستدعى محمد بن محمود من خوزستان فأطمعه في الملك ليقبض عليه وعلى أخيه ملك شاه فقبض على ملك شاه أولا لستة أشهر من ولايته ووصل محمد في صفر من سنة ثمان وأربعين فأجلسه على التخت وخطب له بالسلطنة وحمل إليه الهدايا وقد سعى للسلطان محمد بما انطوى عليه ابن خاص بك فلما باكره صبيحة وصوله فتك به وقتله وقتل معه زنكى الجاندار فاتل طغابرك وأخذ من أموال ابن خاص بك كثيرا وكان صببا كما بينا اتصل بالسلطان مسعود وتنصح له فقدمه على سائر العساكر والامراء وكان أنوغرى لتركي المعروف بشملة في جملة ابن خاص بك ومن أصحابه ونهاه عن الدخول إلى السلطان محمد فلما قتل ابن خاص بك نجا شملة إلى خوزستان وكان له بها بعد ذلك ملك والله أعلم(5/69)
بغيبه وأحكم * (تغلب الغز على خراسان وهزيمة السلطان سنجر وأسره) * كان هؤلاء الغز فيما وراء النهر وهم شعب من شعوب الترك ومنهم كان السلجوقية
أصحاب هذه الدولة وبقوا هنالك بعد عبورهم وكانوا مسلمين فلما استولى الخطا على ملك الصين وعلى ما وراء النهر حجر هؤلاء الغز إلى خراسان وأقاموا بنواحي بلخ وكان لهم من الامراء محمود ودينار وبختيار وطوطى وارسلان ومعر وكان صاحب بلخ الامير قماج فتقدم إليهم أن يبعدوا عن بلخ فصانعوه فتركهم وكانوا يعطون الزكاة ويؤمنون السابلة ثم عاد إليهم في الانتقال فامتنعوا وجمعوا فخرج إليهم في العساكر وبذلوا له مالا فلم يقبل وقاتلوه فهزموه وقتلوا العسكر والرعايا والفقهاء وسبوا العيال ونجا قماج إلى مرو وبها السلطان سنجر فبعث إليهم يتهددهم ويأمرهم بمفارقة بلاده فلاصفوه وبذلوا له فلم يقبل وسار إليهم في مائة ألف فهزموه وأثخنوا في عسكره وقتل علاء الدين قماج وأسروا السلطان سنجر ومعه جماعة من الامراء فقتلوا الامراء واستبقوا السلطان سنجر وبايعوه ودخلوا معه إلى مرو فطلب منه بختيار اقطاعها فقال هي كرسى خراسان فسخروا منه ثم دخل سنجر خانقاه فقسط على الناس واطرهم وعسفهم وعلق في الاسواق ثلاث غرائر وطالبهم بملئها ذهبا فقتله العامة ودخل الغز نيسابور ودمروها تدميرا وقتلوا الكبار والصغار وأحرقوها وقتلوا القضاة والعلماء في كل بلد ولم يسلم من خراسان غير هراة وسبستان لحصانتهما وقال ابن الاثير عن بعض مؤرخي العجم ان هؤلاء الغز انتقلوا من نواحى التغرغر من أقاصى الترك إلى ما وراء النهر أيام المقتفى وأسلموا واستظهر بهم المقنع الكندى على مخارقه وشعوذته حتى تم أمره فلما سارت إليه العساكر خذلوه وأسلموه وفعلوا مثل ذلك مع الملوك الخانية ثم طردهم الاتراك القارغلية عن اقطاعهم فاستدعاهم الامير زنكى بن خليفة الشيباني المستولي على حدود طخارستان وأنزلهم بلاده واستظهر بهم على قماج صاحب بلخ وسار بهم لمحاربته فخذلوه لان قماج كان استمالهم فانهزم زنكى وأسر هو وابنه وقتلهما قماج وأقطع الغز في بلاده فلما سار الحسين بن الحسين الغورى إلى بلخ برز إليه قماج ومعه هؤلاء الغز فخذلوه ونزعوا عنه إلى الغورى حتى ملك بلخ فسار السلطان سنجر إلى بلخ
وهزم الغورى واستردها وبقى الغز بنواحي طخارستان وفي نفس قماج حقد عليهم فأمرهم بالانتقال عن بلاده فتألفوا وتجمعوا في طوائف من الترك وقدموا عليهم ارسلان بوقاء التركي ولقيهم قماج فهزموه وأسروه وابنه أبا بكر وقتلوهما واستولوا على نواحى بلخ وعاثوا فيها وجمع السلطان سنجر وفي مقدمته محمد بن أبى بكر بن قماج المقتول(5/70)
والمؤيد ابنه في محرم سنة ثمان وأربعين وجاء السلطان سنجر على أثرهم وبعثوا إليه بالطاعة والاموال فلم يقبل منهم وقاتلهم فهزموه إلى بلخ ثم عاود قتالهم فهزموه إلى مرو واتبعوه فهرب هو وعسكره من مرو رعبا منهم ودخلوا البلد وأفحشوا فيه قتلا ونهبا وقتلوا القضاة والائمة والعلماء ولما خرج سنجر من مرو وأسروه أجلسوه على التخت على عادته وآتوه طاعتهم ثم عاودوا الغارة على مرو فمنعهم أهلها وقاتلوهم ثم عجزوا واستسلموا فاستباحوها أعظم من الاولى ولما أسر سنجر فارقه جميع أمراء خراسان ووزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك ووصلوا إلى نيسابور واستدعوا سليمان شاه بن السلطان محمود وخطبوا له بالسلطان في منتصف السنة واجتمعت عليه عساكر خراسان وساروا لطلب الغز فبارزوهم على مرو وانهزمت العساكر رعبا منهم وقصدوا نيسابور والغز في اتباعهم ومروا بطوس فاستباحوها وقتلوا حتى العلماء والزهاد وخربوا حتى المساجد ثم ساروا إلى نيسابور في شوال سنة تسع وأربعين ففعلوا فيها أفحش من طوس حتى ملؤا البلاد من القتلى وتحصن طائفة بالجامع الاعظم من العلماء والصالحين فقتلوهم عن آخرهم وأحرقوا خزائن الكتب وفعلوا مثل ذلك في حوين واسفراين فحاصروهما واقتحموهما مثل ما فعلوا في البلاد الاخرى وكانت أفعال الغز في هذه البلاد أعظم وأقبح من أفعال الغز في غيرها ثم ان السلطان سليمان شاه توفى وزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك في شوال سنة ثمان وأربعين فاستوزر ابنه نظام الملك وانحل أمره وعجز عن القيام بالملك فعاد إلى جرجان في صفر سنة
تسع وأربعين فاجتمع الامراء وخطبوا للخان محمود بن محمد بن بقرا خان وهو ابن أخت سنجر واستدعوه فملكوه في شوال من السنة وساروا معه لقتال الغز وهم محاصرون هراة فكانت حروبه معهم سجالا وأكثر الظفر للغز ثم رحلوا عن هراة إلى مرو منتصف خمسين وأعادوا مصادرة أهلها وسار الخان محمد إلى نيسابور وقد غلب عليها المؤيد كما يذكر فراسل الغز في الصلح فصالحوه في رجب * (استيلاء المؤيد على نيسابور وغيرها) * هذا المؤيد من موالى سنجر واسمه وكان من أكابر أوليائه ومطاعا فيهم ولما كانت هذه الفتنة وافترق أمر الناس بخراسان تقدم فاستولى على نيسابور وطوس ونسا وان ورد وشهرستان والدامغان وحصنها ودافع الغز عنها ودانت له الرعية لحسن سيرته فعظم شأنه وكثرت جموعه واستبد بهذه الناحية وطالبه الخان محمود عندما ملكوه بالحضور عنده وتسليم البلاد فامتنع وترددت الرسل بينهما على مال يحمله للخان محمود فضمنه المؤيد وكف عنه محمود واستقر الحال على ذلك(5/71)
والله سبحانه وتعالى أعلم * (استيلاء ايتاخ على الرى) * كان ايتاخ من موالى السلطان سنجر وكانت الرى أيضا من أعمال سنجر فلما كانت فتنة الغز لحق بالرى واستولى عليها وصانع السلطان محمد شاه ابن محمود صاحب همذان واصبهان وغيرهما وبذل له الطاعة فأقره فلما مات السلطان محمد مد يده إلى أعمال تجاوزته وملكها فعظم أمره وبلغت عساكره عشرة آلاف فلما ملك سليمان شاه همذان على ما نذكره وقد كان أنس به عند ولاية سليمان على خراسان سار إليه وقام بخدمته وبقى مستبدا بتلك البلاد والله سبحانه وتعالى أعلم * (الخبر عن سليمان شاه وحبسه بالموصل) * كان سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملك شاه عند عمه السلطان سنجر وجعله
ولى عهده وخطب له على منابر خراسان فلما وقعت فتنة الغز أسر سنجر قدمه أمراء خراسان على أنفسهم ثم عجر ومضى إلى خوارزم شاه فزوجه ابنة أخيه ثم سعى به عنده أخرجه من بلده وجاء إلى اصبهان فمنعه الشحنة من الدخول فمضى إلى قاشان فبعث السلطان محمد شاه بن أخيه محمود عسكرا ليدفعه عنها فسار إلى خوزستان فمنعه ملك شاه منها فقصد اللحف ونزل وأرسل المقتفى في أثره فطلبه في زوجته رهينة ببغداد فبعث بها مع جواريها وأتباعها فأكرمهم المقتفى وأذن له في القدوم وخرج الوزير بن هبيرة وقاضي القضاة والفتيان لتلقيه وخلع عليه المقتفى وأقام ببغداد حتى إذا دخلت سنة احدى وخمسين أحضر بدار الخلافة وحضر قاضى القضاة والاعيان واستحلف على الطاعة والتجافى للخليفة عن العراق وخطب له ببغداد ولقب ألقاب أبيه وأمد بثلاثة آلاف من العسكر وجعل معه الامير دوران أمير حاجب صاحب الجبلة وسار الى بلاد الجبل في ربيع الاول من السنة وسار المقتفى إلى حلوان وبعث إلى ملك شاه بن السلطان محمود يدعوه إلى موافقة عمه سليمان شاه وان يكون ولى عهده فقدم في ألفى فارس وتحالفا وأمدهما المقتفى بالمال والاسلحة واجتمع معهم ايلدكز صاحب كنجة وارانية وساروا لقتال السلطان محمد فلما بلغه خبرهم أرسل إلى قطب الدين مودود بن زنكى ونائبه زين الدين على كوجك في المساعدة والارتفاق فأجاباه وسار اللقاء عمه سليمان شاه ومن معه واقتتلوا في جمادى الاولى فهزمهما السلطان محمد وافترقوا وتوجه سليمان شاه إلى بغداد على شهرزور وكانت لصاحب الموصل وبها الامير بوران من جهة على كوجك نائب الموصل فاعترضه هنالك كوجك وبوران فاحتمله كوجك إلى الموصل فحبسه بها وبعث إلى السلطان محمد بالخبر وانه على الطاعة والمساعدة فقبل منه وشكر له(5/72)
* (فرار سنجر من أسر الغز) *
قد تقدم لنا ما كان من أسر السلطان سنجر بيد الغز وافتراق خراسان واجتماع الامراء بنيسابور وما إليها على الخان محمود بن محمد وامتنعوا من الغز وامتنع أتسز ابن محمد أنوشكين بخوارزم وانقسمت خراسان ببنهم وكانت الحرب بين الغز وبينهما سحالا ثم هرب سنجر من أسر الغز وجماعة من الامراء كانوا معه في رمضان سنة احدى وخمسين ولحق بترمذ ثم عبر جيحون إلى دار ملكه بمرو فكانت مدة أسره من جمادى سنة ثمان وأربعين ثلاث سنين وأربعة أشهر ولم يتفق فراره من الاسر الا بعد موت على بك مقدم القارغلية لانه كان أشد شئ عليه فلما توفى انقطعت القارغلية إليه وغيرهم ووجد فسحة في أمره والله سبحانه وتعالى أعلم * (حصار السلطان محمد بغداد) * كان السلطان محمد بن محمود لاول ولايته الملك بعد عمه مسعود بعث إلى المقتفى في الخطبة له ببغداد والعراق على عادتهم فمنعه لما رجا من ذهاب دولتهم استفحالهم واستبدادهم فسار السلطان من همذان في العساكر نحو العراق ووعده صاحب الموصل ونائبه بمدد العساكر فقدم آخر احدى وخمسين وبعث المقتفى في الحشد فجاء خطا وفرس في عسكر واسط وخالفهم مهلهل إلى الجبلة فملكها واهتم المقتفى وابن هبيرة بالحصار وقطع الجسر وجمع السفن تحت التاج ونودى في الجانب الغربي بالعبور فعبروا في محرم سنة ثنتين وخمسين وخرب المقتفى ما وراء الخرسة صلاحا في استبداده وكذلك السلطان محمد من الجهة الاخرى ونصبت المنجنيقات والرعادات وفرق المقتفى السلاح على الجند والعامة وجاء زين الدين كجك في عسكر الموصل ولقى السلطان على أوانا واتصلت الحرب واشتد الحصار وفقدت الاقوات وانقطعت المواد عن أهل بغداد وفتر كجك وعسكره في القتال أدبا مع المقتفى وقيل أوصاه بذلك نور الدين محمود بن زنكى أخو قطب الدين الاكبر ثم جاء الخبر بأن ملك شاه أخا السلطان محمد وايلدكز صاحب اران وربيبه ارسلان بن طغرل قصدوا همذان فسار عن بغداد مسرعا إلى همذان آخر ربيع الاول وعاد زين الدين إلى
الموصل ولما وصل ملك شاه وايلدكز وربيبه ارسلان إلى همذان أقاموا بها قليلا وسمعوا بمجئ السلطان فاجفلوا وساروا إلى الرى فقاتلهم الشحنة انبانج فهزموه وحاصروه وأمده السلطان محمد بعسكر بن سقمس بن قماز فوجدهم قد أفرجوا عنه وقصدوا بغداد فقاتلهم فهزموه ونهبوا عسكره فسار السلطان محمد ليسابقهم إلى بغداد فلما انتهى إلى حلوان بلغه أن ايلدكز بالدينور ثم وافاه رسول انبانج بأنه ملك همذان وخطب له فيها وان شملة صاحب خراسان هرب عن ايلدكز وملك شاه إلى بلاده(5/73)
فعاد إلى اران ورجع السلطان إلى همذان قاصدا للتجهز إلى بلاد ايلدكز باران * (وفاة سنجر) * ثم توفى السلطان سنجر صاحب خراسان في ربيع سنة ثنتين وخمسين وقد كان ولى خراسان منذ أيام أخيه بركيارق وعهد له أخوه محمد فلما مات محمد خوطب بالسلطنة وكان الملوك كلهم بعدها في طاعته نحو أربعين سنة وخطب له قبلها بالملك عشرين سنة وأسره الغز ثلاث سنين ونصف ومات بعد خلاصه من الاسر وقطعت خطبته ببغداد والعراق ولما احتضر استخلف على خراسان ابن أخته محمد بن محمود بن بقرا خان فأقام بجرجان وملك الغزمر وخراسان وملك به المؤيد نيسابور وناحيته من خراسان وبقى الامر على هذا الخلاف سنة أربع وخمسين وبعث الغز إلى محمود الخان ليحضر عندهم فيملكوه فخافهم على نفسه وبعث ابنه إليهم فاطاعوه مدة ثم لحق هو بهم كما نذكر بعد * (منازعة ايتاق للمؤيد) * كان ايتاق هذا من موالى السلطان سنجر فلما كانت الفتنة وافترق الشمل ومات السلطان سنجر وملك المؤيد نيسابور وحصل له التقدم بذلك على عساكر خراسان حسده جماعة من الامراء وانحرف عنه ايتاق هذا فتارة يكون معه وتارة يكون في مازندان فلما كان سنة ثنتين وخمسين سار من مازندان في عشرة آلاف فارس من
المنحرفين عن المؤيد وقصد نسا وابيورد وأقام بها المؤيد ايتاق فسار إليه وكبسه وغنم معسكره ومضى ايتاق منهزما إلى مازندان وكان بين ملكها رستم وبين أخيه على منازعة فتقرب ايتاق إلى رستم بقتال أخيه على فوجد لذلك غلبة ودفعه عنه وسار يتردد في نواحى خراسان بالعيث والفساد والح على اسفراين فخربها وراسله السلطان محمود الخان والمؤيد في الطاعة والاستقامة فامتنع فساروا إليه في العساكر في صفر سنة ثلاث وخمسين فهرب إلى طبرستان وبعث رستم شاه مازندان إلى محمود والمؤيد بطاعته وبأموال جليلة وهدية فقبلوا منه وبعث ايتاق ابنه رهنا على الطاعة فرجعوا عنه واستقر بجرجان ودستان وأعمالها * (منازعة سنقر العزيزي للمؤيد ومقتله) * كان سنقر العزيزي من أمراء السلطان سنجر وكان في نفسه من المؤيد ما عند الباقين فلما شغل المؤيد بحرب ايتاق سار سنقر من عسكر السلطان محمود بن محمد إلى هراة فملكها واشترط عليه أن يستظهر بملك الغورية الحسين فأبى وطمع في الاستبداد لما رأى من استبداد الامراء على السلطان محمود بن محمد فحاصره المؤيد بهراة واستمال(5/74)
الاتراك الذين كانوا معه فأطاعوه وقتلوا سنقر العزيزي غيلة وملك السلطان محمد هراة ولحق الفل من عسكر سنقر بايتاق وتسلطوا على طوس وقراها واستولى الخراب على البلاد والله تعالى أعلم * (فتنة الغز الثانية بخراسان وخراب نيسابور على يد المؤيد) * كان الغز بعد فتنتهم الاولى أوطنوا بلخ ونزعوا عن النهب والقتل بخراسان واتفقت الكلمة بها على طاعة السلطان محمود بن محمد الخان وكان القائم بدولته المؤيد أبو ايه فلما كان سنة ثلاث وخمسين في شعبان سار الغز إلى مرو فزحف المؤيد إليهم وأوقع طائفة منهم وتبعهم إلى مرو وعاد إلى سرخس وخرج معه الخان محمود لحربهم فالتفوا
خامس شوال وتواقعوا مرارا ثلاثا انهزم فيها الغز على مرو وأحسنوا السيرة وأكرموا العلماء والائمة ثم أغاروا على سرخس وطوس واستباحوهما وخربوهما وعادوا إلى مرو وأما الخان محمود بن محمد فسار الى جرجان ينتظر مآل أمرهم وبعثوا إليه الغز سنة أربع وخمسين يستدعونه ليملكوه فاعتذر لهم خشية على نفسه فطلبوا منه جلال الدين عمر فتوثق منهم بالحلف وبعثه إليهم فعظموه وملكوه في ربيع الآخر من سنة أربع ثم سار أبوه محمود إلى خراسان وتخلف عنه المؤيد ابوايه وانتهى إلى حدود نسا وابيورد فولى عليهم الامير عمر بن حمزة النسوي فقام في حمايتها المقام المحمود بظاهر نسا ثم سار الغز من نيسابور إلى طوس لامتناع أهلها من طاعتهم فملكوها واستباحوها وعادوا إلى نيسابور فساروا مع جلال الدين عمر بن محمود الخان إلى حصار سارورا وبها النقيب عماد الدين محمد بن يحيى العلوى الحسينى فحاصروه وامتنعت عليهم فرجعوا إلى نسا وابيورد للقاء الخان محمود بجرجان كما قدمناه فخرج منها سائرا إلى خراسان واعترضه الغز ببعض القرى في طريقه فهرب منه وأسر بعضهم ثم هرب منه ولحق بنيسابور فلما جاء الخان محمود إليها مع الغز فارقها منتصف شعبان ودخلها الغي وأحسنوا السيرة وساروا إلى سرخس ومرو فعاد المؤيد في عساكره إلى نيسابور وامتنع أهلها عليه فحاصرها وافتتحها عنوة وخربها ورحل عنها إلى سبق في شوال سنة أربع وخمسين * (استيلاء ملك شاه بن محمود على خورستان) * ولما رجع السلطان ملك شاه محمد بن محمود من حصار بغداد وامتنع الخليفة من الخطبة له أقام بهمذان عليلا وسار أخوه ملك شاه إلى قم وقاشان فافحش في نهبها ومصادرة أهلها وراسله أخوه السلطان محمد في الكف عن ذلك فلم يفعل وسار إلى اصبهان وبعث إلى ابن الجمقرى وأعيان البلد في طاعته فاعتذروا بطاعة أخيه فعاث في قراها ونواحيها فسار السلطان إليه من(5/75)
همذان وفي مقدمته كرجان الخادم فافترقت جموع ملك شاه ولحق ببغداد فلما انتهى إلى قوس لقيه موبران وسنقر الهمذانى فأشارا عليه بقصد خوزستان من بغداد فسار إلى واسط ونزل بالجانب الشرقي وساء أثر عسكره في النواحى ففتحوا عليهم البثوق وغرق كثير منهم ورجع ملك شاه إلى خوزستان فمنعه شملة من العبور فطلب الجوار في بلده إلى أخيه السلطان فمنعه فنزل على الاكراد الذين هنالك فاجتمعوا عليه من الجبال والبسائط وحارب شملة ومع ملك شاه سنقر الهمذانى وموبدان وغيرهما من الامراء فانهزم شملة وقتل عامة أصحابه واستولى ملك شاه على البلاد وسار إلى فارس والله هو المؤيد بنصره * (وفاة السلطان محمد وولاية عمه سليمان شاه) * ثم توفى السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملك شاه آخر سنة أربع وخمسين وهو الذى حاصر بغداد يطلب الخطبة له من الخليفة ومنعه فتوفى آخر هذه السنة لسبع سنين ونصف من ولايته وكان له ولد صغير فسلمه إلى سنقر الاحمر يلى وقال هو وديعة عندك فأوصل به إلى بلادك فان العساكر لا تطيعه فوصل به إلى مراغة واتفق معظم الجند على البيعة لعمه سليمان شاه وبعث أكابر الامراء بهمذان إلى أتابك زين الدين مودود أتابك ووزير مودود وزيره فأطلقه مودود وجهزه بما يحتاج إليه في سلطانه وسار معه زين الدين على كجك في عساكر الموصل فلما انتهى إلى بلاد الجبل وأقبلت العساكر للقاء سليمان شاه ذكر معاملتهم مع السلطان ودالتهم عليه فخشى على نفسه وعاد إلى الموصل ودخل سليمان شاه همذان وبايعوا له والله سبحانه وتعالى أعلم * (وفاة المقتفى وخلافة المستنجد) * ثم توفى المقتفى لامر الله في ربيع الاول سنة خمس وخمسين لاربع وعشرين سنة من خلافته وقد كان استبد في خلافته وخرج من حجر السلجوقية عند افتراق أمرهم بعد السلطان مسعود كما ذكرناه في أخبار الخلفاء ولما توفى بويع بعده بالخلافة ابنه المستنجد فجرى على سنن أبيه في الاستبداد واستولى
على بلاد الماهلى ونزل اللحف وولى عليها من قبله كما كانت لابيه وقد تقدم ذكر ذلك في أخبارهما انتهى * (اتفاق المؤيد مع محمود الخان) * قد كنا قدمنا أن الغز لما تغلبوا استدعوا محمود الخان ليملكوه فبعث إليهم بابنه عمر فملكوه ثم سار محمود من جرجان نسا وجاء الغز فساروا به إلى نيسابور فهرب عنها المؤيد ودخلها محمود والغز ثم ساروا عنها فعاد إليها المؤيد فحاصرها وملكها عنوة وخربها في شوال سنة أربع وخمسين ورحل عنها إلى سرخس فعاد إليها المؤبد فحاصرها وملكها عنوة ورحل عنها إلى بيهق ثم رجع إليها سنة خمس(5/76)
وخمسين وعمر خرابها وبالغ في الاحسان إليها ثم سار لاصلاح أعمالها ومحو آثار المفسدين والثوار من نواحيها ففتح حصن اشقيل وقتل الثوار الزيدية وخربه وفتح حصن خسروجور من أعمال بيهق وهو من بناء كنجر وملك الفرس أيام حربه مع جراسياق وملكه ورتب فيه الحامية وعاد إلى نيسابور ثم قصد مدينة كندر من أعمال طرسا وفيها متغلب اسمه خرسده يفسد السابلة ويخرب الاعمال ويكثر الفتك وكان البلاء به عظيما في خراسان فحاصره ثم ملك عليه الحصن عنوة وقتله وأراح البلاد منه ثم قصد في رمضان من السنة مدينة بيهق وكانوا قد عصوا عليه فراجعوا الطاعة وقبلهم واستفحل أمره فأرسل إليه الخان محمود بن محمد وهو مع الغز بالولاية على نيسابور وطوس وما إليها فاتصلت يده به واستحكم الصلح بينه وبين الغز وذهبت الفتن كان هؤلا الاتراك البرزية من شعوب الترك بخراسان وأميرهم بقرا خان بن داود فأغار عليهم جمع من عساكر خوارزم شاه وأوقعوا بهم وفتكوا فيهم ونجا بقرا خان في الفل منهم إلى السلطان محمود بخراسان ومن معه من الغز مستصرخا بهم وهو يظن أن ايتاق هو الذى هيج عليهم فسار الغز معه على طريق نسا وابيورد وقصدوا ايتاق فلم يكن له بهم قوة فاستنصر شاه مازندان فسار لنصره واحتشد في أعماله من الاكراد
والديلم والتركمان وقاتلوا الغز والبرزية بنواحي دهستان فهزمهم خمسا وكان ايتاق في ميمنة شاه مازندان وأفحش الغز في قتل عسكرهم ولحق شاه مازندان بسارية وايتاق شهروز خوارزم ثم ساروا إلى دهستان فنهبوها وخربوها سنة ست وخمسين وخربوا جرجان كذلك وافترق أهلها في البلاد ثم سار ايتاق إلى بقراتكن المتغلب على اعمال قزوين فانهزم من بين يديه ولحق بالمؤيد وصار في جملته واكتسح ايتاق سائر أعماله ونهب أمواله فقوى بها قد قدمنا ان ملك شاه بن محمود سار بعد أخيه السلطان محمد بن خورستان إلى أصبهان ومعه شملة التركماني ودكلا صاحب فارس فأطاعه ابن الخجندى رئيس اصبهان وسائر أهلها وجمع له الاموال وأرسل ملك شاه إلى أهل الدولة باصبهان يدعوهم إلى طاعته وكان هواهم مع عمه سليمان فلم يجيبوه إلى ذلك وبعثوا عن سليمان من الموصل وملكوه وانفرد ملك شاه بأصبهان واستفحل أمره وبعث إلى المستنجد في الخطبة له ببغداد مكان عمه سليمان شاه وان تعاد الامور إلى ما كانت ويتهددهم فوعد الوزير عميد الدين بن هبيرة جارية اعلها على سمه فسمته في الطعام وفطن المطبب بأنه مسموم وأخبر بذلك شملة ودكلا فاحضروا الجارية وأقرت ومات ملك شاه وأخرج أهل(5/77)
اصبهان صحابه وخطبوا لسليمان شاه وعاد شملة إلى خراسان فارتجع ما كان ملك شاه تغلب عليه منها كان سليمان لما ملك أقبل على اللهو ومعاقرة الخمر حتى في نهار رمضان وكان يعاشر الصفاعين والمساخر وعكف على ذلك مع ما كان فيه من الخرق والتهور فقعد الامراء عن غشيان بابه وشكوا إلى شرف الدين كودبازه الخادم وكان مدبر مملكته وكان حسن التربية والدين فدخل عليه يوما يعذله على شأنه وهو مع ندمائه بظاهر همذان فأشار إليهم أن يعبثوا بكردبازه فخرج مغضبا واعتذر إليه عندما صحا فأظهر له القبول
وقعد عن غشيان مجلسه وكتب سليمان شاه إلى انبانج صاحب الرى يدعوه إلى الحضور فوعده بذلك إذا أفاق من مرضه وزاد كردبازه استيحاشا فاستحلف الامراء على خلع سليمان وبدأ بقتل جميع الصفاعين الذين كانوا ينادمونه وقال انما فعلته صونا لملكك ثم عمل دعوة في داره فحضر سليمان شاه والامراء وقبض على سليمان شاه ووزيره أبى القاسم محمود بن عبد الغزيز الحاقدى وعلى خواصه وذلك في شوال سنة خمس وخمسين وقتل وزيره وخواصه وحبس سليمان شاه قليلا ثم قتله ثم أرسل إلى ايلدكز صاحب اران وأذربيجان يستقدم ربيبه أرسلان بن طغرل ليبايع له بالسلطنة وبلغ الخبر إلى انبانج صاحب الرى فسار إلى همذان ولقيه كردبازه وخطب له بالسلطنة بجميع تلك البلاد وكان ايلدكز قد تزوج بأم أرسلان وولدت له ابنه البهلوان محمد ومزد ارسلان عثمان فكان ايلدكز أتابك وابنه البهلوان حاجبا وهو أخو أرسلان لامه وايلدكز هذا من موالى السلطان مسعود ولما ملك أقطعه اران وبعض اذربيجان وحدثت الفتن والحروب فاعتصم هو باران ولم يحضر عند أحد من ملوكهم وجاء إليه ارسلان شاه من تلك الفتن فأقام عنده إلى أن ملك ولما خطب له بهمذان بعث ايلدكز اتابك إلى انبانج صاحب الرى ولاطفه وصاهره في ابنته لابنه البهلوان وتحالفا على الاتفاق وبعث إلى المستنجد بطلب الخطبة لارسلان في العراق واعادة الامور إلى عادتها أيام السلطان مسعود فطرد رسوله بعد الاهانة ثم أرسل ايلدكز إلى اقسنقر الاحمريلى يدعوه إلى طاعة السلطان ارسلان فامتنع وكان عنده ابن السلطان شاه بن محمود المدنى أسلمه إليه عند موته فتهدده بالبيعة له وكان الوزير ابن هبيرة يكاتبه من بغداد ويقمعه في الخطبة لذلك الصبى قصدا للنصر من بينهم فجهز ايلدكز العساكر مع البهلوان إلى اقسنقر واستمد اقسنقر شاهر بن سقمان القطيبى صاحب خلاط وواصله فمده بالعساكر وسار نحو البهلوان وقاتله فظفر به ورجع البهلوان إلى همذان مهزوما والله تعالى أعلم(5/78)
لما مات ملك شاه بن محمود باصبهان كما قلناه لحق طائفة من أصحابه ببلاد فارس ومعهم ابنه محمود فانتزعه منهم صاحب فارس زنكى بن دكلا السلقدى وأنزله في قلعة اصطخر فلما ملك ايلدكز السلطان ارسلان وطلب الخطبة ببغداد وأخذ الوزير ابن هبيرة في استفساد الاطراف عليهم وبعث لابن اقسنقر في الخطبة لابن السلطان محمد شاه الذى عنده وكاتب صاحب فارس أيضا يشير عليه بالبيعة للسلطان محمد بن السلطان ملك شاه الذى عنده ويعده بالخطبة له ان ظفر بايلدكز فبايع له ابن دكلا وخطب له بفارس وضرب النوب الخمس على بابه وجمع العساكر وبلغ إلى ايلدكز فجمع وسار في أربعين ألفا إلى اصبهان يريد فارس فأرسل إلى زنكى في الخطبة لارسلان شاه فأبى فقال له ايلدكز ان المستنجد اقطعني بلادك وأنا سائر إليها وتقدمت طائفة إلى نواحى ارجان فلقيتها سرية لارسلان بوقا صاحب ارجان فأوقعوا بطائفته وقتلوا منهم وبعثوا بالخبر إلى انبانج فنزل من الرى في عشرة آلاف وأمده اقسنقر الاحمريلى بخمسة آلاف فقصد وهرب صاحب ابن البازدان وابن طغايرك وغيرهما من أولياء ايلدكز للقاء انبانج ورد عسكر المدافعة زنكى عن شهبرم وغيرها من البلاد فهزمهم زنكى بن دكلا ورجعوا إليه فاستدعى عساكره من اذربيجان وجاء هبيس بن مزد ارسلان واستمد انبانج وقتل أصحابه ونهب سواده ودخل الرى وتحصن في قلعة طبرك ثم ترددت الرسل بينه وبين ايلدكز في الصلح وأقطعه حربادفان وغيرها وعاد ايلدكز إلى همذان والله سبحانه وتعالى أعلم وفي ربيع سنة ست وخمسين قبض المؤيد على أحياء نيسابور وحبسهم وفيهم نقيب العلويين أبو القاسم زيد بن الحسن الحسنى وآخذهم على ما فعله آباوهم بأهل البلد من أهل البلد من النهب والاعتداء على الناس في أموالهم وحرصهم فأخذ هؤلاء الاعيان ينهونهم كأنهم لم يضربوا على أيديهم وقتل جماعة من أهل الفساد فخرب البلد وامتدت الايدى إلى المساجد والمدارس وخزائن الكتب وأحرق بعضها ونهب بعضها وانتقل
المؤيد إلى الشاد باخ فأصلح سوره وسدثله وسكنه وخرب نيسابور بالكلية وكان الذى اختط هذا الشادباخ عبد الله بن طاهر أيام ولايته على خراسان ينفرد بسكناه هو وحشمه عن البلد تجافيا عن مزاحمتهم ثم خربت وجددها البارسلان ثم خربت فجددها الآن المؤيد وخربت نيسابور بالكلية ثم زحف الغز والخان محمود معهم وهو ملك خراسان لذلك العهد فحاصروا المؤيد بالشادباخ شهرين ثم هرب الخان عنهم إلى شهرستان كأنه يريد الحمام وأقام بها وبقى الغز إلى آخر شوال ثم رجعوا فنهبوا البلاد(5/79)
ونهبوا طوس ولما دخل الخان إلى نيسابور أمهله المؤيد إلى رمضان سنة سبع وخمسين ثم قبض عليه وسمله وأخذ ما كان معه الذخائر وحبسه وحبس معه جلال محمد فماتا في محبسهما وخطب المؤيد لنفسه بعد المستنجد ثم زحف المؤيد إلى شهرستان وقرب نيسابور فحاصرها حتى نزلوا على حكمه في شعبان سنة تسع وخمسين ونهبها عسكره ثم رفع الايدى عنهم واستقامت في ملكه والله أعلم ثم زحف المؤيد إلى قلعة معسكره من طوس وكان بها أبو بكر جاندار ممتنعا فحاصره بها شهرا وأعانه أهل طوس لسوء سيرته فيهم ثم جهده الحصار فاستأمن ونزل فحبسه وسار إلى كرمان فأطاعوه وبعث عسكرا إلى اسفراين فتحصن بها رئيسها عبد الرحمن بن محمد بالقلعة فحاصره واستنزله وحمله مقيدا إلى الشاد باخ فحبس ثم قتل في ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين ثم ملك المؤيد قهندر ونيسابور واستفحل ملكه وعاد إلى ما كان عليه وعمر الشادباخ وخرب المدينة العتيقة ثم بعث عسكرا إلى بوشنج وهراة وهى في ولاية محمد بن الحسين ملك الغور فحاصرها وبعث الملك محمد عسكرا لمدافعته فافرجوا عنها وصفت ولاية هراة للغورية كان الكرج قد ملكوا مدينة انى من بلاد اران في شعبان سنة ست وخمسين واستباحوها قتلا وأسرا وجمع لهم شاه ارمن بن ابراهيم بن سكمان صاحب خلاط جموعا من الجند
والمتطوعة وسار إليهم فقاتلوه وهزموه وأسر كثير من المسلمين ثم جمع الكرج في شعبان سنة سبع وخمسين ثلاثين ألف مقاتل وملكوا دوس من اذربيجان والجبل واصبهان فسار إليهم ايلدكز وسار معه شاه ارمن بن ابراهيم بن سكمان صاحب خلاط واقسنقر صاحب مراغة في خمسين ألفا ودخلوا بلاد الكرج في صفر سنة ثمان وخمسين فاستباحوها وأسروا الرجال وسبوا النساء والولدان وأسلم بعض أمراء الكرج ودخل مع المسلمين وكمن بهم في بعض الشعاب حتى زحف الكرج وقاتلوا المسلمين شهرا أو نحوه ثم خرج الكمين من ورائهم فانهزموا واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون وعادوا ظافرين ثم سار المؤيد إلى ايه صاحب نيسابور إلى بلاد قومس فملك بسطام ودامغان وولى بسطام مولاه تنكز فجرى بينه وبين شاه مازندان اختلاف أدى إلى الحرب واقتتلوا في ذى الحجة سنة ثمان وخمسين ولما ملك المؤيد قومس بعث إليه السلطان ارسلان بن طغرل بالخلع والاولية لما كان بين المؤيد وايلدكز من المودة وأذن له في ولاية ما يفتحه من(5/80)
خراسان ويخطب له فيها فخطب له في أعمال قومس وطوس وسائر أعمال نيسابور ويخطب لفنسه بعد ارسلان وكانت الخطب في جرجان ودهستان لخوارزم شاه ارسلان بن اتسز وبعده للامير اتياق والخطبة في مرو وبلخ وسرخس وهى بيد الغز وهراة وهى بيد الامير اتيكين وهو مسالم للغز للسلطان سنجر يقولون اللهم اغفر للسلطان السعيد سنجر وبعده لامير تلك المدينة والله تعالى ولى التوفيق كان خان خاقان الصينى ولى على سمرقند وبخاري الخان جغرا بن حسين تكين وهو من بيت قديم في الملك ثم بعث إليه سنة سبعة وخمسين باجلاء القارغلية من أعماله إلى كاشغرا ويشتغلو في بلمعاش من الزراعة وغيرها فامتنعوا فألح عليهم فاجتمعوا وساروا إلى بخارى فدس أهل بخارى إلى جغراخان وهو بسمرقند ووعدوا القارغلية بالمصانعة وطاوعوهم إلى أن صبحهم جغر في عساكره فأوقع بهم وقطع دابرهم والله
تعالى أعلم وفي سنة تسع وخمسين استولى الامير صلاح الدين سنقر من موالى السلطان سنجر على بلاد الطالقات وأغار على عرشتان حتى ملكها وصارت في حكمه بحصونها وقلاعها وصالح أمراء الغز وحمل لهم الاتاوة كان صاحب هراة الامير اتبكين وبينه وبين الغز مهادنة فلما قتل الغز ملك الغور محمد ابن الحسين كما مر في أخباره طمع اتيكين في بلاده فجمع جموعه وسار إليها في رمضان سنة تسع وخمسين وتوغل في بلاد الغور فقاتله أهلها وهزموه وقتل في المعركة وقصد الغز هراة وقد اجتمع أهلها على أثير الدين منهم فاتهموه بالميل للغز وقتلوه واجتمعوا على أبى الفتوح بن على بن فضل الله الطغرائي ثم بعثوا إلى المؤيد بطاعتهم فبعث إليهم مملوكه سيف الدين تنكز فقام بأمرهم وبعث جيشا إلى سرخس ومرو وأغاروا على دواب الغز فأفرجوا عن هراة ورجعوا لطاعته والله تعالى أعلم قد ذكرنا استيلاء المؤيد على قومس وبسطام وولاية مولاه تنكز عليها ثم ان شاه مازندان وهو رستم بن على بن هربار بن قاروت جهز إليها عسكرا مع سابق الدين القزويني من أمرائه فملك دامغان وسار إليه تنكز فيمن معه من العسكر فكبسهم القزويني وهزمهم واستولى على البلاد وعاد تنكز إلى المؤيد بنيسابور وجعل يغير على بسطام قومس ثم توفى شاه مازندان في ربيع سنة ستين فكتم ابنه علاء الدين موته حتى استولى على حصونه وبلاده ثم أظهره وملك مكانه ونازعه اتياق صاحب جرجان ودهستان ولم يرع ما كان بينه وبين أبيه فلم يظفر بشئ والله سبحانه وتعالى أعلم(5/81)
ثم بعث المؤيد عساكره في جمادى سنة ستين لحصار مدينة نسا فبعث خوارزم شاه بك ارسلان بن اتسز في عساكره إليها فأجفلت عنها عساكر المؤيد ورجعوا إلى نيسابور وصارت نسا في طاعة خوارزم شاه وخطب له فيها سار عسكر خوارزم إلى دهستان
وغلبوه عليها وأقام فيها بطاعته والله أعلم ثم بعث اقسنقر الاحمريلى صاحب مراغة سنة ثلاث وستين إلى بغداد في الخطبة للملك الذى عنده وهو ابن السلطان محمد شاه على أن يتجافى عن العراق ولا يطلب الخطبة منه الا إذا أسعف بها فاجيب بالوعد الجميل وبلغ الخبر إلى ابلدكز صاحب فبعث ابنه البهلوان في العساكر لحرب اقسنقر فحاربه وهزمه وتحصن بمراغة فنازله البهلوان وضيق عليه وتردد بينهما الرسل واصطلحوا وعاد البهلوان إلى أبيه بهمذان كان زنكى بن دكلا قد أساء السيرة في جنده فأرسلوا إلى شملة صاحب خورستان واستدعوه ليملكوه فسار ولقى زنكى وهزمه ونجا إلى الاكراد الشوابكار وملك شملة بلاد فارس فأساء السيرة في أهلها ونهب ابن أخيه حرسنكا البلاد فنفر أهل فارس عنه ولحق بزنكى بعض عساكره فزحف إلى فارس وفارقها شملة إلى بلاده خوزستان وذلك كله سنة أربع وستين وخمسمائة كان انبانج قد استولى على الرى واستقر فيها بعد حروبه مع ابلدكز على جزية يؤديها إليه ثم منع الضريبة واعتذر بنفقات الجند فسار إليه ابلدكز سنة أربع وستين وحاربه انبانج فهزمه ابلدكز وحاصره بقلعة طبرك وراسل بعض مماليكه ورغبهم فغدروا به وقتلوه واستولى ابلدكز على طبرك وعلى الرى وولى عليها على بن عمر باغ ورجع إلى همذان وشكر لموالى انبانج الذين قتلوه ولم يف لهم بالوعد فافترقوا عنه وسار الذى تولى قتله إلى خوارزم شاه فصلبه لما كان بينه وبين انبانج من الوصلة والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق بمنه وكرمه ثم توفى سنة خمس وستين الملك طغرل بن قاروت بك صاحب كرمان وولى ابنه ارسلان شاه مكانه ونازعه أخوه الاصغر بهرام شاه فحاربه ارسلان وهزمه فلحق بالمؤيد في نيسابور فأنجده بالعساكر وسار إلى أخيه ارسلان فهزمه وملك كرمان ولحق ارسلان باصبهان مستنجد ابا بلدكز فأنجده بالعساكر وارتجع كرمان ولحق بهرام
بالمؤيد وأقام عنده ثم هلك ارسلان فسار بهرام إلى كرمان وملكها ثم توفى المستنجد وولى ابنه المستضئ ولم نترجم لوفاة الخلفاء ههنا لانها مذكورة في أخبارهم وانما ذكرناها قبل هؤلاء لانهم كانوا في كفالة السلجوقية وبنى بويه قبلهم فوفاتهم من جملة أخبار الدولتين وهؤلاء من لدن المقتفى قد استبدوا بأمرهم وخلافتهم من بعد ضعف(5/82)
السلجوقية بوفاة السلطان مسعود وافترقت دولتهم في نواحى المشرق والمغرب واستبد منهاء الخلفا ببغداد ونواحيها ونازعوا من قبلهم أنهم كانوا يخطبون لهم في أعمالهم ونازعهم فيها مع ذلك حرصا على الملك الذى سلبوه وأصبحوا في ملك منفرد عن أولئك المنفردين مضافا إلى الخلافة التى هي شعارهم وتداول أمرهم إلى أن انقرضوا بمهلك المستعصم على يد هلاكوا لما انهزم خوارزم شاه أرسلان امام الخطا رجع إلى خوارزم فمات سنة ثمان وستين وولى ابنه سلطان شاه فنازعه أخوه الاكبر علاء الدين تكش واستنجد بالخطا وسار إلى خوارزم فملكها ولحق سلطان شاه بالمؤيد صربخا فسار معه بجيوشه ولقيهم تكش فانهزم المؤيد وجئ به أسيرا إلى تكش فقتل بين يديه صبرا وعاد أصحابه إلى نيسابور فولوا ابنه طغان شاه أبو بكر بن المؤيد وكان من أخبار طغان شاه وتكش ما نذكره في أخبار دولتهم وفى كيفية قتله خبر آخر نذكره هنالك ثم سار خوارزم شاه سنة تسع وستين إلى نيسابور وحاصرها مرتين ثم هزم في الثانية طغان شاه بن المؤيد وأخذه أسيرا وحمله إلى خوارزم وملك نيسابور وأعمالها وجميع ما كان لبنى المؤيد بخراسان وانقرض أمرهم والبقاء لله وحده والله تعالى أعلم ثم توفى الاتابك شمس الدين ابلدكز أتابك ارسلان شاه ابن طغرل صاحب همذان واصبهان والرى واذربيجان وكان أصله مملوك الكمال الشهير ابن وزير السلطان محمود ولما قتل الكمال صار للسلطان وترقى في كتب الولاية فلما ولى السلطان مسعود
ولاه أرانية فاستولى عليها وبقيت طاعته للملوك على البعد واستولى على أكثر اذربيجان ثم ملك همذان واصبهان والرى وخطب لربيبه ارسلان بن طغرل وبقى أتابك وبلغ عسكره خمسين ألفا واتسع ملكه من تفليس إلى مكران وكان متحكما على ارسلان وليس له من الدولة الاجراية تصل إليه ولما هلك ابلدكز قام بالامر بعده ابنه محمد البهلوان وهو أخو السلطان ارسلان لامه فسار أول ملكه لاصلاح اذربيجان وخالفه ابن سنكى وهو ابن أخى شملة صاحب خوزستان إلى بلد نهاوند فحاصرها ثم تأخر ابن سنكى من تستر وصحبهم من ناحية اذربيجان يوهمهم انه مدد البهلوان ففتحوا له البلد ودخل فطلب القاضى والاعيان ونصبهم وتوجه نحو ماسندان قاصدا العراق ورجع إلى خوزستان ثم سار شملة سنة سبعين وقصد بعض التركمان فاستنجدوا البهلوان بن ابلدكز فأنجدهم وقاتلوه فهزموه وأسر شملة جريحا وولده وابن أخيه وتوفى بعد يومين وهو من التركمان الاتسزية وملك ابنه من بعده وسار البهلوان سنة سبعين إلى مدينة تبريز وكان صاحبها اقسنقر الاحمر بلى قد هلك وعهد(5/83)
بالملك بعده لابنه ملك الدين فسار إلى بلاده وحاصر مراغة وبعث أخاه فنزل وعاد عن مراغة إلى همذان والله سبحانه وتعالى أعلم ثم توفى السلطان ارسلان بن طغرل مكفول البهلوان بن ابلدكز وأخوه لامه بهمذان سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وخطب بعده لابنه طغرل ثم توفى البهلوان محمد بن ابلدكز أول سنة ثنتين وخمسمائة وكانت البلاد والرعايا في غاية الطمأنينة فوقع عقب موته باصبهان بين الحنفية والشافعية وبالرى بين أهل السنة والشيعة فتن وحروب آلت إلى الخراب وملك البلاد بعد البهلوان أخوه فنزل ارسلان واسمه عثمان وكان البهلوان كافلا للسلطان طغرل وحاكما عليه ولما هلك قزل لم يرص طغرل بتحكمه عليه وفارق همذان ولحق به جماعة من الامراء والجند وجرت بينه وبين
قزل حروب ثم غلبه طغرل إلى الخليفة فأمره بعمارة دار السلطان فطرد رسوله وهدمت دار السلطنة وألحقت بالارض وبعث الخليفة سنة أربع وثمانين عسكرا مع وزيره جلال الدين عبيدالله بن يونس لانجاده قزل على طغرل قبل همذان وهزمهم ونهب جميع ما معهم وأسر الوزير ابن يونس قد تقدم لنا ما كان بين السلطان طغرل وبين قزل بن ابلدكز من الحروب ثم ان قزل غلبه واعتقله في بعض القلاع ودانت له البلاد وأطاعه ابن دكلا صاحب فارس وخوزستان وعاد إلى اصبهان والفتن بها متصلة فأخذ جماعة من أعيان الشافعية وصلبهم وعاد إلى همذان وخطب لنفسه بالسلطنة سنة سبعة وثمانين ثم قتل غلبة على فراشه ولم يعرف قاتله وأخذ جماعة من غلمانه بالظنة وكان كريما حليما يحب العدل ويؤثره ولما هلك ولى من بعده قتلغ بن أخيه البهلوان واستولى على الممالك التى كانت بيده ولما توفى قزل وولى قتلغ بن أخيه البهلوان كما قلناه اخرج السلطان طغرل من محبسه بالقلعة التى كان بها واجتمع إليه العساكر وسار إلى همذان فلقيه قتلغ بن البهلوان فانهزم بين يديه ولحق بالرى وبعث خوارزم شاه علاء الدين تتش ليستنجده فسار إليه سنة ثمان وثمانين وندم قتلغ على استدعائه فتحصن ببعض قلاعه وملك خوارزم شاه الرى وملك قلعة طبرك وصالح السلطان طغرل وولى على الرى وعاد إلى خوارزم سنة تسعين فأحدث أحدوثة السلطان شاه نذكره في أخبارهم وسار السلطان طغرل إلى الرى فأغار عليها وفر منه قتلغ بن البهلوان وبعث إلى خوارزم شاه يستنجده ووافق ذلك وصول منشور من الخليفة إليه باقطاعه البلاد فسار من نيسابور إلى الرى وأطاعه قتلغ وسار معه إلى همذان وخرج طغرل للقائهم قبل أن يجمع العساكر ولقيهم قريبا من الرى في ربيع الاول فحمل عليهم وتورط بينهم فصرع عن فرسه وقتل وملك خوارزم شاه(5/84)
همذان وتلك البلاد جميعا وانقرضت مملكة بنى ملك شاه وولى خوارزم شاه على همذان
وملك الاعمال فبلغ انبانج بن البهلوان وأقطع كثيرا منها مماليكه وقدم عليهم مساحق منهم ثم استولى وزير الخليفة ابن العطاف على همذان واصبهان والرى من يد مواليه وانتزعها منهم خوارزم كما ذكرناه في أخبار الخلفاء وجاءت العساكر من قبل الخليفة إلى همذان مع أبى الهيجاء الشمس من أمراء الايوبية وكان أميرا على القدس فعزلوه عنها وسار إلى بغداد فبعثه الناصر سنة ثلاث وتسعين بالعساكر إلى همذان ولقى عندها ازبك بن البهلوان مطيعا فقبض عليه وأنكر الخليفة ذلك وبعث باطلاقه وخلع عليه وعاد إلى بلاد أذربيجان كان ازبك بن البهلوان قد استولى على اذربيجان بعد موته وكان مشغولا بلذاته فسار الكرج إلى مدينة دوير وحاصروها وبعث أهلها إليه بالصريخ فلم يصرخهم حتى ملكها الكرج عنوة واستباحوها والله تعالى أعلم كان كوجة من موالى البهلوان قد تغلب على الرى وهمذان وبلاد الجبل واصطنع صاحبه ايدغمش ووثق به فنازعه الامر وحاربه فقتله واستولى ايدغمش على البلاد وبقى ازبك بن البهلوان مغلبا ليس له من الحكم شئ قد ذكرنا أن ازبك كان مشغولا بلذاته مهملا لملكه ثم حدثت بينه وبين صاحب اربل وهو مظفر الدين كوكبرى سنة اثنتين وستمائة فتنة حملت مظفر الدين على قصده فسار إلى مراغة واستنجد صاحبها علاء الدين بن قراسنقر الاحمريلى فسار معه لحصار تبريز وبعث ازبك الصريخ إلى ابد دغمش بمكانه من بلاد الجبل فسار إليه وأرسل مظفر الدين بالفتن والتهديد فعاد إلى بلده وعاد علاء الدين بن قرا سنقر بلاد مراغة فسار ايدغمش وازبك وحاصروه بمراغة حتى سلم قلعة من قلاعه ورجعوا عنه والله تعالى أعلم ثم توفى حسام الدين اردشير صاحب مازندان وولى ابنه الاكبر وأخرج أخاه الاوسط عن البلاد فلحق بجرجان وبها على شاه برتكش نائبا عن أخيه خوارزم فاستنجده على شرط الطاعة له وأمره أخوه تكش بالمسير معه فساروا من جرجان وبلغهم في طريقهم
مهلك صاحب مازندان المتولي بعد أبيه وان أخاه الاصغر استولى على الكراع والاموال فساروا إليه وملكوا البلاد ونهبوها مثل سارية وآمد وغيرها وخطب لخوارزم شاه فيها وعاد على شاه إلى خراسان وأقام ابن صاحب مازندان وهو الاوسط الذى استصرخ به وقد امتنع أخوه الاصغر بقلعة كورى ومعه الاموال والذخائر وأخوه الاوسط فراسله واستعطف وقد ملك البلاد جميعا والله ولى التوفيق(5/85)
ثم توفى سنة أربع وستمائة علاء الدين بن قراسنقر الاحمريلى صاحب مراغة وأقام بأمرها من بعده خادمه ونصب ابنه طفلا صغيرا وعصى عليه بعض الامراء وبعث العسكر لقتاله فانهزموا أولا ثم استقر ملك الطفل ثم توفى سنة خمس وستمائة وانقرض أهل بيته فسار ازبك بن البهلوان من تبريز إلى مراغة واستولى على مملكة آل قرا سنقر ما عدا القلعة التى اعتصم بها الخادم وعنده الخزائن والذخائر لما تمكن ايدغمش في بلاد الجبل بهمذان واصبهان والرى وما إليها عظم شأنه حتى طلب الامر لنفسه وسار لحصار ازبك ابن مولاه الذى نصبه للامر وكان باذربيجان فخرج عليه مولى من موالى البهلوان اسمه سنكلى وكثر جمعه واستولى على البلاد وقدم ايدغمش إلى بغداد واحتفل الخليفة لقدومه وتلقاه وذلك سنة ثمان وأقام بها كان ايدغمش قد وفد سنة ثمان وستمائة إلى بغداد وشرفه الخليفة بالخلع والالوية وولاه على ما كان بيده ورجع إلى همذان ووعده الخليفة بمسير العساكر فأقام ينتظرها عند سليمان بن مرحم أمير الايوانية من التركمان فدس إلى سنكلى بخبره ثم قتل ايدغمش وحمل أصحابه إلى سنكلى وافترق أصحابه واستولى سنكلى وبعث إليه الخليفة بالنكير فلم يلتفت إليه فبعث إلى مولاه ازبك بن البهلوان صاحب اذربيجان يحرضه عليه والى جلال الدين الاسماعيلي صاحب قلعة الموت لمساعدته على أن يكون للخليفة بعض البلاد ولازبك بعضها ولجلال الدين بعضها
وبعث الخليفة العساكر مع مولاه سنقر ووجه السبع وأمره بطاعة مظفر الدين كوكبرى بن زين الدين على كجك صاحب اربل وشهرزور وهو مقدم العساكر جميعا فسار لدلك وهرب سنكلى وتعلق بالجبل ونزلوا بسفحه قريبا من كوج فناوشهم الحرب فانهزم ازبك ثم عاد فعاد ثم أسرى من ليلتة منهزما وأصبحوا فاقتسموا البلاد على الشريطة وولى أزبك فيما أخذ منها مولى أخيه فاستولى عليها ومضى سنكلى إلى ساو وبها شحنة له فقتله وبعث برأسه إلى ازبك واستقر في بلاد الجبل حتى قتله الباطنية سنة أربع عشرة وستمائة وجاء خوارزم شاه فملكه كما نذكر في أخباره ودخل ازبك بن البهلوان صاحب اذربيجان واران في طاعته وخطب له على منابر أعماله وانقرض أمر بنى ملك شاه ومواليهم من العراقين وخراسان وفارس وجميع ممالك المشرق وبقى ازبك ببلاد اذربيجان ثم استولى التتر على أعمال محمد بن تكش فيما وراء النهر وخراسان وعراق العجم سنة ثمانى عشرة وستمائة وموالى الهند وسار جنكزخان فاطاعه ازبك بن البهلوان سنة احدى وعشرين وأمره بقتل من عنده من الخوارزمية ففعل ورجع عنه إلى خراسان ثم جاء جلال الدين ابن(5/86)
محمد بن تكش من الهند سنة اثنتين وعشرين فاستولى على عراق العجم وفارس وسار إلى أذربيجان قملكها ومر ازبك إلى كنجة من بلاد اران ثم ملك كنجة وبلاد أران ومد ازبك إلى بعض القلاع هنالك ثم هلك وملك جلال الدين على جميع البلاد وانقرض أمر بنى ازبك واستولى التتر على البلاد وقتلوا جلال الدين سنة ثمان وعشرين كما يأتي في أخبارهم جميعا وانتهى الكلام في دولة السلجوقية فلنرجع إلى أخبار الدول المتشعبة عنها واحدة بعد واحدة والله وارث الارض ومن عليها وهو خير الوارثين(5/87)
كان أنوشتكين جدهم تركيا مملوكا لرجل من غرشتان ولذلك يقال له أنوشتكين
غرشه ثم صار لرجل من أمراء السلجوقية وعظمائهم اسمه ملكابك وكان مقدما عنده لنجابته وشجاعته ونشأ ابنه محمد على مثل حاله من النجابة والشجاعة وتحلى بالادب والمعارف واختلط بأمراء السلجوقية وولى لهم الاعمال واشتهر فيهم بالكفاية وحسن التدبير ولما ولى بركيارق ابن السلطان ملك شاه وانتقض عليه عمه ارسلان أرغون واستولى على خراسان بعث إليه العساكر سنة تسعين وأربعمائة مع أخيه سنجر وسار في اثره ولقيهم في طريقهم خبر مقتل أرغون عمهم وان بعض مواليه خلفه فعدا عليه فقتله كما مر قبل فسار بركيارق في نواحى خراسان وما وراء النهر حتى دوخها وولى عليها أخاه سنجر وانتقض عليه أمير ميران من قرابته اسمه محمد بن سليمان فسار إليه سنجر وظفر به وسمله وعاد بركيارق إلى العراق بعد ان ولى على خوارزم اكنجى شاه ومعنى شاه بلسانهم السلطان فأضيف إلى خوارزم على عادتهم في تقديم المضاف إليه على المضاف ولما انصرف بركيارق إلى العراق تأخر من أمرائه قودز وبارقطاش وانتقضا على السلطان ووثبا بالامير اكنجى صاحب خوارزم وهو بمرو ذاهبا إلى السلطان شاه فقتلاه وبلغ الخبر إلى السلطان وقد انتقض عليه بالعراق الامير انز ومؤيد الملك بن نظام الملك فمضى لحربهما وأعاد الامير داود حبشي بن ايتاق في عسكر إلى خراسان لقتالهما فسار إلى هراة وعاجلاه قبل اجتماع عساكر فعبر جيحون وسبق إليه بارقطاش فهزمه داود وأسره وبلغ الخبر إلى قودر فثار به عسكره وفر إلى بخارى فقبض عليه نائبها ثم أطلقه ولحق بالملك سنجر فقبله وأقام برقطاش أسيرا عند الامير داود وصفت خراسان من الفتنة والثوار واستقام أمرها للامير داود حبشي فاختار لولاية خوارزم محمد بن أنوشتكين فولاه وظهرت كفايته وكان محبا لاهل الدين والعلم مقربا لهم عادلا في رعيته فحسن ذكره وارتفع محله ثم استولى الملك سنجر على خراسان فاقر محمد بن أنوشتكين وزاده تقديما وجمع بعض ملوك الترك وقصد خوارزم وكان محمد غائبا عنها ولحق بالترك محمد بن اكنجى الذى كان أبوه أميرا على
خوارزم واسمه طغرل تكين محمد فحرض الترك على خوارزم وبلغ الخبر إلى محمد بن أنوشتكين فبعث إلى سنجر بنيسابور يستمده وسبق إلى خوارزم فافترق الترك وطغرل تكين محمد وسار كل منهما إلى ناحية ودخل محمد بن أنوشتكين إلى خوارزم فازداد بذلك عند سنجر ظهورا والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق لارب سواه ثم هلك محمد بن أنوشتكين خوارزم وولى بعده ابنه اتسز وسار بسيرة أبيه وكان قد قاد الجيوش أيام أبيه وحارب الاعداء فلما ولى افتتح أمره بالاستيلاء على مدينة مقشلاع(5/89)
وظهرت كفايته في شأنها فاستدعاه السلطان سنجر فاختصه وكان يصاحبه في أسفاره وحروبه وكلما مر يزيد تقدما عنده والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم ثم كثرت السعاية عند السلطان سنجر في اتسز خوارزم شاه وانه يحدث نفسه بالامتناع فسار سنجر إليه لينتزع خوارزم من يده فتجهز انسز للقائه واقتتلوا فانهزم انسز وقتل ابنه وخلق كثير من أصحابه واستولى سنجر على خوارزم وأقطعها غياث الدين سليمان شاه ابن أخيه محمدا ورتب له وزيرا وأتابك وحاجبا وعاد إلى مرو منتصف ثلاث وثلاثين وكان أهل خوارزم يستغيثون لانسز فعاد إليهم بعد سنجر فأدخلوه البلد ورجع سليمان شاه إلى عمه سنجر واستبد انسز بخوارزم والله أعلم ثم سار سنجر سنة ست وثلاثين لقتال الخطا من الترك فيما وراء النهر لما رجعوا لملك تلك البلاد فيقال ان انسز أغراهم بذلك ليشغل السلطان سنجر عن بلده وأعماله ويقال ان محمود بن محمد بن سليمان بن داود بقراخان ملك الخانية في كاشغر وتركستان وهو ابن أخت سنجر زحفت إليه أمم الخطا من الترك ليتملكوا بلاده فسار إليهم وقاتلهم فهزموه وعاد إلى سمرقند وبعث بالصريخ إلى خاله سنجر فعبر النهر إليه في عساكر المسلمين وملوك خراسان والتقوا في أول صفر سنة ست وثلاثين فانهزم سنجر والمسلمون وفشا القتل فيهم يقال كان القتلى مائة ألف رجل وأربعة آلاف امرأة وأسرت زوجة
السلطان سنجر وعاد منهزما وملك الخطا ما وراء النهر وخرجت عن ملك الاسلام وقد تقدم ذكر هذه الواقعة مستوفى في أخبار السلطان سنجر ولما انهزم السلطان سنجر قصد انسز خوارزم شاه خراسان فملك سرخس ولقى الامام أبا محمد الزيادي وكان يجمع بين العلم والزهد فأكرمه وقبل قوله ثم قصد مرو الشاهجان فخرج إليه الامام أحمد الباخورى وشفع في أهل مرو وأن لا يدخل لهم أحد من العسكر فشفعه وأقام بظاهر البلد فثار عامة مرو وأخرجوا أصحابه وقتلوا بعضهم وامتنعوا فقاتلهم انسز وملكها عليهم غلابا أول ربيع من سنة ست وثلاثين وقتل الكثير من أهلها وكان فيهم جماعة من أكابر العلماء وأخرج كثيرا من علمائها إلى خوارزم منهم أبو بكر الكرماني ثم سار في شوال إلى نيسابور وخرج إليه جماعة من العلماء والفقهاء متطارحين أن يعفيهم مما وقع بأهل مرو فأعفاهم واستصفى أموال أصحاب السلطان وقطع الخطبة لسنجر وخطب لنفسه ولما صرح باسمه على المنبر هم أهل نيسابور بالثورة ثم ردهم خوف العواقب فاقصروا وبعث جيشا إلى أعمال بيهق فحاصرها خمسا ثم ساروا في البلاد ينهبون ويكتسحون والسلطان سنجر خلال ذلك متغافل عنه فيما يفعله في خراسان لما وراءه من مدد الخطا وقوتهم ثم أوقع الغز سنة ثمان وأربعين بالسلطان سنجر واستولوا على خراسان وكان هؤلاء الغز(5/90)
مقيمين بما وراء النهر منذ فارقهم ملوك السلجوقية وكانوا يدينون بالاسلام فلما استولى الخطا على ما وراء النهر أخرجوهم منها فأقاموا بنواحي بلخ وأكثروا فيها العيث والفساد وجمع لهم سنجر وقاتلهم فظفروا به وهزموه وأسروه وانتثر سلك دولته فلم بعد انتظامه وافترقت أعماله على جماعة من مواليه واستقل حينئذ انسز بملك خوارزم وأعمالها وأورثها بنيه ثم استولوا على خراسان والعراق عندما ركدت ريح السلجوقية وكانت لهم بعد ذلك دولة عظيمة نذكر أخبارها مفصلة عند دول أهلها والله تعالى ولى التوفيق بمنه وكرمه
ثم توفى انسز بن محمد بن أنوشتكين في منتصف احدى وخمسين وخمسمائة لستين سنة من ولايته وكان عادلا في رعيته حسن السيرة فيهم ولما توفى ملك بعده ارسلان بن انسز فقتل جماعة من عماله وسمل أخاه ثم بعث بطاعته للسلطان سنجر عندما هرب من أسر الغز فكتب له بولاية خوارزم وقصد الخطا خوارزم وجمع ارسلان للقائهم وسار غير بعيد ثم طرق المرض فرجع وأرسل الجيوش لنظر أمير من أمرائه فقاتله الخطا وهزموه وأسروه ورجع إلى ما وراء النهر والله سبحانه وتعالى أعلم ثم توفى خوارزم شاه ارسلان بن انسز من مرضه الذى فعد به عن لقاء الخطا وملك بعده ابنه الاصغر سلطان شاه محمود في تدبير أمه وكان ابنه الاكبر علاء الدين تكش مقيما في اقطاعه بالجند فاستنكف من ولاية أخيه الاصغر وسار إلى ملك الخطا مستنجدا ورغبه في أموال خوارزم وذخائرها فأنجده بجيش كثيف وجاء إلى خوارزم ولحق سلطان شاه وأمه بالمؤيد آيه صاحب نيسابور والمتغلب عليها بعد سنجر وأهدى له ورغبه في الاموال والذخائر فجمع وسار معه حتى إذا كان على عشرين فرسخا من خوارزم سار إليه تكش وهزمه وجئ بالمؤيد أسرا إلى تكش فأمر بقتله وقتل بين يديه صبرا ولحق أخوه سلطان شاه بدهستان وتبعه تكش فملكها عنوة وهرب سلطان شاه وأخذت أمه فقتلها تكش وعاد إلى خوارزم ولحق سلطان شاه بنيسابور وقد ملكوا طغان شاه أبا بكر بن ملكهم المؤيد ثم سار سلطان شاه من عنده إلى غياث الدين ملك الغورية فأقام عنده وعظم تحكم الخطا على علاء الدين تكش صاحب خوارزم واشتطوا عليه وبعثوا يطلبونه في المال فأنزلهم متفرقين على أهل خوارزم ودس إليهم فبيتوهم ولم ينج منهم أحد ونبذ إلى ملك الخطا عهده وسمع ذلك أخوه سلطان شاه فسار من غزنة إلى ملك الخطا يستنجده على أخيه تكش وادعى أن أهل خوارزم يميلون إليه فبعث معه جيشا كثيفا من الخطا وحاصروا خوارزم فامتنعت وأمر تكش باجراء ماء النهر عليهم فكادوا يغرقون وأفرجوا عن(5/91)
البلاد ولاموا سلطان شاه فيما غرهم فقال لقائدهم ابعث معى الجيش لمرو لانتزعها من دينار الغزى الذى استولى عليها من حين فتنتهم مع سنجر فبعث معه الجيش وسار إلى سرخس واقتحمها على الغز الذين بها وأفحش في قتلهم واستباحهم ولجأ دينار إلى القلعة فتحصن بها ثم سار سلطان شاه إلى مرو وملكها وأقام بها ورجع الخطا إلى ما وراء النهر وأقام سلطان شاه بخراسان يقاتل الغز فيصيب منهم كثيرا وعجز دينار ملك الغز عن سرخس فسلمها الطغان شاه بن المؤيد صاحب نيسابور فولى عليها مراموش من أمرائه ولحق دينار بنيسابور فحاصر دينار سلطان شاه وعاد إلى نيسابور ولحق به مراموش وترك قلعة سرخس ثم ملك نطوش والتم وضاقت الامور على طغان شاه بنيسابور إلى أن مات في محرم سنة ثنتين وثمانين وملك ابنه سنجر شاه واستبد عليه منكلى تكين مملوك جده المؤيد وأنف أهل الدولة من استبداده وتحكمه فلحق أكثرهم بسلطان شاه في سرخس وسار الملك دينار من نيسابور في جموع الغز إلى كرمان فملكها ثم أساء منلكى تكين السيرة بنيسابور في الرعية بالظلم وفي أهل الدولة بالقتل فسار إليه خوارزم شاه علاء الدين تكش في ربيع سنة ثنتين وثمانين فحاصره بنيسابور شهرين فامتنعت عليه فعاد إلى خوارزم ثم رجع سنة ثلاث وثمانين فحاصرها وملكها على الامان وقتل منكلى تكين وحمل سنجر شاه إلى خوارزم فأنزله بها وأكرمه ثم بلغه أنه يكاتب أهل نيسابور فسمله وبقى عنده إلى أن مات سنة خمس وتسعين قال ابن الاثير ذكر هذا أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقى في كتاب مسارب التجارب وذكر غيره أن تكش بن ارسلان لما أخرج أخاه سلطان شاه من خوارزم وقصد سلطان شاه إلى مرو فملكها من يد الغز ثم ارتجعوها منه ونالوا من عساكره فعبر إلى الخطا واستنجدهم وضمن لهم المال وجاء بجيوشهم فملك مرو وسرخس ونسا وابيورد من يد الغزو صرف الخطا فعادوا إلى بلادهم ثم كاتب غياث الدين الغورى وله هراة وبوشنج وباذغيس
وأعمالها من خراسان يطلب الخطبة له ويتوعده فأجابه غياث الدين بطلب الخطبة منه بمرو وسرخس وما ملكه من بلاد خراسان ثم ساءت سيرة سلطان شاه في خراسان وصادر رعاياها فجهز غياث الدين العساكر مع صاحب سجستان وأمر ابن أخته بهاء الدين صاحب باميان بالمسير معه فساروا إلى هراة وخاف سلطان شاه من لقائهم فرجع من هراة إلى مرو حتى انصرم فصل الشتاء ثم أعاد مراسلة غياث الدين فامتعض وكتب إلى أخيه شهاب الدين بالخبر وكان بالهند فرجع مسرعا إليه وساروا إلى خراسان واجتمعوا بعسكرهم الاول على الطالقات وجمع سلطان شاه جموعه من الغز وأهل الفساد ونزل بجموع الطالقان وتواقفوا كذلك شهرين وترددت الرسل بين(5/92)
سلطان شاه وغياث الدين حتى جنح غياث الدين إلى النزول له عن بوشنج وباذغيس وشهاب الدين ابن أخته وصاحب سجستان يجنحان إلى الحرب وغياث الدين يكفهم حتى حضر رسول سلطان شاه عند غياث الدين لاتمام العقد والملوك جميعا حاضرون فقام الدين العلوى الهودى وكان غياث الدين يختصه وهو يدل عليه فوقف في وسط المجمع ونادى بفساد الصلح وصرخ ومزق ثيابه وحتى التراب على رأسه وأفحش الرسول سلطان شاه وأقبل على غياث الدين وقال كيف تعمد إلى ما ملكناه بأسيافنا من الغز والاتراك والسنجرية فتعطيه هذا الطريد إذ لا يقنع منا أخوه وهو الملك بخوارزم ولا بغزنة والهند فأطرق غياث الدين ساكتا فنادى في عسكره بالحرب والتقدم إلى مرو الروذ وتواقع الفريقان فانهزم سلطان شاه وأخذ أكثر أصحابه أسرى ودخل إلى مرو في عشرين فارسا ولحق الفل من عسكره وبلغ الخبر إلى أخيه تكش فسار من خوارزم لاعتراضه وقدم العساكر إلى جيحون يمنعون إلى الخطا وسمع أخوه سلطان شاه بذلك فرجع عن جيحون وقصد غياث الدين ولما قدم عليه أمر بتلقيه وأنزله معه في بيته وأنزل أصحابه عند نظرائهم من أهل دولته وأقام
إلى انصرام الشتاء وكتب أخوه علاء الدين خوارزم إلى غياث الدين في رده إليه ويعدد فعلاته في بلاده وكتب مع ذلك إلى نائب غياث الدين بهراة يتهدده فامتعض غياث الدين لذلك وكتب إلى خوارزم شاه بأنه مجير له وشفيع في التجافي عن بلاده وانصافه من وراثة أبيه ويطلب مع ذلك الخطبة له بخوارزم والصهر مع أخيه شهاب الدين فامتعض خوارزم شاه وكتب إليه يتهدده ببعض بلاده فجهز غياث الدين إليه العساكر مع ابن اخته أبو غازى إلى بهاء الدين سامى صاحب سجستان وبعثهما مع سلطان شاه إلى خوارزم وكتب إلى المؤيد أبيه صاحب نيسابور يستنجده وكانت ابنته تحت غياث الدين فجمع المؤيد عساكره وخيم بظاهر نيسابور وكان خوارزم شاه عزم على لقاء أخيه والغورية وسار عن خوارزم فلما سمع خبر المؤيد عاد إلى خوارزم واحتمل أمواله وذخائره وعبر جيحون إلى الخطا وترك خوارزم وسار أمانها إلى أخيه سلطان شاه والبو غازى ابن اخت غياث الدين فآتوا طاعتهم وطلبوا الوالى عليهم وتوفى سلطان شاه منسلخ رمضان سنة تسع وعاد البو غازى إلى خاله غياث الدين ومعه أصحاب سلطان شاه فاستخدمهم غياث الدين وأقطعهم وبلغ وفاة سلطان شاه إلى أخيه خوارزم تكش فعاد إلى خوازرم وعاد الشحنة إلى بلاد سرخس ومرو فجهز إليهم نائب الغورية بمرو عمر المرغنى عسكرا ومنعهم منها حتى يستأذن غياث الدين وأرسل خوارزم شاه إلى غياث الدين في الصلح والصهر في وفد من فقهاء خراسان والعلوية يعظمونه ويستجيرون(5/93)
به من خوارزم شاه أن يجيز إليهم الخطا ويستحثهم ولا يحسم ذلك الا صلحه أو سكناه بمرو فأجابهم إلى الصلح وعقدوه ورد على خوارزم تكش بلاد أخيه وطمع الغز فيها فعاثوا في نواحيها وجاء خوارزم شاه إليها ودخل مرو وسرخس فسار البورد وتطرق إلى طوس وهى للمؤيد ابنه فجمع وسار إليها وعاد خوارزم شاه إلى بلده وأفسد الماء في طريقه واتبعه المؤيد فلم يجد ماء ثم كر عليه خوارزم شاه وقد جهد عسكره العطش
فأوقع بهم وجئ إليه بالمؤيد أسيرا فقتله وعاد إلى خوارزم وقام بنيسابور بعد المؤيد ابنه طغان شاه ورجع إليه خوارزم شاه من قابل فحاصره بنيسابور وبرزاليه فأسره وملك نيسابور واحتمل طغان شاه وعياله وقرابته فأنزلهم بخوارزم قال ابن الاثير هذه الرواية مخالفة للاولى وانما أوردتها ليتأمل الناظر ويستكشف أيهما أوضح فيعتمدها والله تعالى أعلم قد تقدم لنا في أخبار الدولة السلجوقية ولاية ارسلان شاه بن طغرل في كفالة ابلدكز وابنه محمد البهلوان من بعده ثم أخيه ازبك ارسلان بن ابلدكز وأنه اعتقل السلطان طغرل ثم توفى فولى مكانه قطلغ ابن أخيه البهلوان فخرج السلطان من محبسه وجمع لقتاله سنة ثمان وثمانين فهزمه ولحق قطلغ بالرى وبعث إلى خوارزم شاه علاء الدين تكش فسار إليه وندم قطلغ على استدعائه فتحصن منه ببعض قلاعه وملك خوارزم شاه الرى وقلعة طبرك ورتب فيها الحامية وعاد إلى خوارزم لما بلغه أن أخاه سلطان شاه خالفه إليها ولما كان ببعض الطريق لقيه الخبر بأن أهل خوارزم منعوا سلطان شاه وعادى خائبا فتمادى إلى خوارزم وأقام إلى انسلاخ فصل الشتاء ثم سار إلى أخيه سلطان شاه بمرو سنة تسع وثمانين وترددت الرسل بينهما في الصلح ثم استأمن إليه نائب أخيه بقلعة سرخس فسار إليها وملكها ومات أخوه سلطان شاه سنة تسع فسار خوارزم شاه إلى مرو وملكها وملك ابيورد ونسا وطوس وسائر مملكة أخيه واستولى على خزائنه وبعث على ابنه علاء الدين محمد فولاه مرو وولى ابنه الكبير ملك شاه نيسابور وذلك آخر تسع وثمانين ثم بلغه أن السلطان طغرل أغار على أصحابه بالرى قطلغ ابنانج فبعث إليه بابنه يستنجده ووصل إليه رسول الخليفة يشكو من طغرل وأقطعه أعماله فسار من نيسابور إلى الرى وتلقاه قطلغ ابنانج بطاعته وسار معه ولقيهم السلطان طغرل قبل استكمال تعبيته وحمل عليهم بنفسه وأحيط به فقتل في ربيع سنة تسعين وبعث خوارزم شاه برأسه إلى بغداد وملك همذان وبلاد الجبل أجمع وكان الوزير مؤيد الدين بن
القصاب قد بعثه الخليفة الناصر مدد الخوارزم شاه في أمره فرحل إليه واستوحش بن القصاب فامتنع ببعض الجبال هنالك وعاد خوارزم شاه إلى همذان وسلمها وأعمالها(5/94)
إلى قطلغ ابنانج وأقطع كثيرا منها ممالكيه وقدم عليهم مناجى وأنزل معه ابنه وعاد إلى خوارزم ثم اختلف مناجى وقطلغ ابنانج واقتتلوا سنة أحدى وتسعين فانهزم قطلغ وكان الوزير بن القصاب قد سار إلى خوزستان فملكها وكثيرا من بلاد فارس وقبض على بنى شملة أمرائها وبعث بهم إلى بغداد وأقام هو يمهد البلاد فلحق به قطلغ ابنانج هنالك مهزوما سليبا واستنجده على الرى فأزاح علله وسار معه إلى همذان فخرج مناجى وابن خوارزم شاه إلى الري وملك ابن القصاب همذان في سنة احدى وتسعين وسار إلى الرى فأجفل الخوارزميون أمامهم وبعث الوزير العساكر في اثرهم حتى لحقوهم بالدامغان وبسطام وجرجان ورجعوا عنهم واستولى الوزير على الرى ثم انتقض قطلغ ابنانج على الوزير وامتنع بالرى فحاصره الوزير وغلبه عليها ولحق ابنانج بمدينة ساوة ورحل الوزير في اتباعه حتى لحقه على دربند كرخ فهزمه ونجا ابنانج بنفسه وسار الوزير إلى همذان فأقام بظاهرها ثلاثة أشهر وبعث إليه خوارزم شاه بالنكير على ما فعل ويطلب اعادة البلاد فلم يجب إلى ذلك وسار خوارزم إليه وتوفى قبل وصوله فقاتل العساكر بعده في شعبان سنة ثنتين وتسعين فهزمهم وأثخن فيهم وأخرج الوزير من قبره فقطع رأسه وبعث به إلى خوارزم لانه كان قتل في المعركة واستولى على همذان وبعث عسكره إلى اصبهان فملكها وأنزل بها ابنه وعاد إلى خوارزم وجاءت عساكر الناصر اثر ذلك مع سيف الدين طغرل فقطع بلاد اللحف من العراق فاستدعاه أهل اصبهان فملكوا البلد ولحق عسكر خوارزم شاه بصاحبهم ثم اجتمع مماليك البهلوان وهم أصحاب قطلغ وقدموا على أنفسهم كركجة من أعيانهم وساروا إلى الرى فملكوها ثم إلى اصبهان كذلك وأرسل كركجة إلى الديوان ببغداد يطلب أن يكون الرى له مع جوار
الرى وساوة وقم وقاشان وما ينضاف إليها وتكون اصبهان وهمذان وزنجان ومرو من الديوان فكتب له بذلك والله أعلم قد تقدم لنا أن خوارزم شاه تكش ولى ابنه ملك شاه على نيسابور سنة تسع وثمانين وأضاف إليه خراسان وجعله ولى عهده في الملك فأقام بها إلى سنة ثلاث وتسعين ثم هلك في ربيع منها وخلف ابنا اسمه هندوخان وولى خوارزم شاه على نيسابور ابنه الآخر فطلب الذى كان ولاه بمرو كان خوارزم شاه تكش لما ملك الرى وهمذان واصبهان وهزم ابن القصاب وعساكر الخليفة بعث إلى الناصر يطلب الخطبة ببغداد فامتعض الناصر لذلك وأرسل إلى غياث الدين ملك غزنة والغور فقصد يلاد خوارزم شاه فكتب إليه غياث الدين يتهدده بذلك فعبث خوارزم شاه إلى الخطا يستنجدهم على غياث الدين ويحذرهم(5/95)
أن يملك البلاد كما ملك بلخ فسار الخطا في عساكرهم ووصلوا بلاد الغور وراسلوا بهاء الدين سام ملك باميان وهو ببلخ يأمرونه بالخروج عنها وعاثوا في البلاد وخوارزم شاه قد قصد هراة وانتهى إلى طوس واجتمع أمراء الغورية بخراسان مثل محمد بن بك مقطع الطالقان والحسين بن مرميل وحروس وجمعوا عساكرهم وكبسوا الخطا وهزموهم وألحقوهم بحيمون فتقسموا بين القتل والغرق وبعث ملك الخطا إلى خوارزم شاه يتجنى عليه في ذلك ويطلب الدية على القتلى من قومه ويجعله السبب في قتلهم فراجع غياث الدين واستعطفه ووافقه على طاعة الخليفة واعادة ما أخذه الخطا من بلاد الاسلام وأجاب ملك الخطا بأن قومه انما جاؤا لانتزاع بلخ من يد الغورية ولم يأتوا لنصرتي وأنا قد دخلت في طاعة غياث الدين فجهز ملك الخطا عساكره إليه وحاصروه فامتنع فرجعوا عنه بعد أن فنى أكثرهم بالقتل وسار في اثرهم وحاصر بخارى وأخذ بمخنقها حتى ملكها سنة أربع وتسعين فأقام بها مدة وعاد إلى
خوارزم والله تعالى ولى التوفيق ثم سار خوارزم شاه تكين لارتجاع الرى وبلاد الجبل من يد مناجق والبهلوانية الذين انتفضوا عليه فهرب مناجق عن البلاد وتركها وملكها خوارزم شاه واستدعاه فامتنع من الحضور واتبعه فاستأمن أكثر أصحابه ورجعوا عنه ولحق هو بقلعة من أعمال مازندان فامتنع بها فبعث خوارزم شاه إلى الخليفة الناصر فبعث بالخلع له ولولده قطب الدين وكتب له تقليدا بالاعمال التى بيده ثم سار خوارزم شاه لقتال الملحدة فافتنح قلعة لهم قريبة من قزوين وانتقل إلى حصار قلعة الموت من قلاعهم فقتل عليها رئيس الشافعية بالرى صدر الدين محمد بن الوزان وكان مقدما عنده ولازمه ثم عاد إلى خوارزم فوثب الملحدة على وزيره نظام الملك مسعود بن على فقتلوه فجهز ابنه قطب الدين لقتالهم فسار إلى قلعة مرنسيس من قلاعهم فحاصرها حتى سألوه في الصلح على مائة ألف دينار يعطونها فامتنع أولا ثم بلغه مرض أبيه فأجابهم وأخذ منهم المال المذكور وعاد والله أعلم ثم توفى خوارزم شاه تكش بن البارسلان بن اتسز بن محمد أنوشتكين صاحب خوارزم بعد ان استولى على الكثير من خراسان وعلى الرى وهمذان وغيرها من بلاد الجبل وكان قد سار من خوارزم إلى نيسابور فمات في طريقه إليها في رمضان سنة ست وتسعين وخمسمائة وكان عندما اشتد مرضه بعث لابنه قطب الدين محمد يخبره بحاله ويستدعيه فوصل بعد موته فبايع له أصحابه بالملك ولقبوه علاء الدين لقب أبيه وحمل شلو أبيه إلى خوارزم فدفنه بالمدرسة التى بناها هنالك وكان تكش عادلا عارفا بالاصول(5/96)
والفقه على مذهب أبى حنيفة ولما توفى ابنه علاء الدين محمد كان ولده الآخر على شاه باصبهان فاستدعاه أخوه محمد فسار إليه ونهب أهل اصبهان فخلعه وولاه أخوه على خراسان فقصد نيسابور وبها هندوخان ابن أخيهما ملك شاه منذ ولاه جده تكش عليها
بعد أبيه ملك شاه وكان هندوخان يخاف عمه محمدا لعداوة بينه وبين أبيه ملك شاه ولما مات جده تكش نهب الكثير من خزائنه ولحق بمرو وبلغ وفات تكش إلى غياث الدين ملك غزنة فجلس للعزاء على ما بينهما من العداوة اعظاما لقدره ثم جمع هندوخان جموعا وسار إلى خراسان فبعث علاء الدين محمد بن تكش العساكر لدفاعه مع جنقر التركي فخام هندوخان عن لقائه ولحق بغياث الدين مستنجدا فأكرمه ووعده النصر ودخل جنقر مدينة مرو وبعث بام هندوخان وولده إلى خوارزم مكرمين فأرسل غياث الدين صاحب غزنة إلى محمد بن ضربك نائبه بالطالقان أن ينبذ إلى جنقر العهد ففعل وسار من الطالقان إلى مرو الروذ فملكها وبعث إلى جنقر يأمره بالخطبة في مرو لغياث الدين أو يفارقها فبعث إليه جنقر يتهدده ظاهر أو يسأله سرا أن يستأمن له غياث الدين فقوى طمعه في البلاد بذلك وأمر أخاه شهاب الدين بالمسير إلى خراسان والله أعلم [ استيلاء ملوك الغورية على أعمال خوارزم شاه محمد تكش بخراسان وارتجاعه اياها منهم ثم حصاره هراة من أعمالهم ] ولما استأمن جنقر نائب مرو إلى غياث الدين طمع في أعمال خوارزم شاه بخراسان كما قلناه واستدعاه أخوه شهاب الدين للمسير إليها فسار إلى غزنة واستشار غياث الدين نائبه بهراة عمر بن محمد المرغنى في المسير إلى خراسان فنهاه عن ذلك ووصل أخوه شهاب الدين في عساكر غزنة والغور وسجستان وساروا منتصف سبع وتسعين ووصل كتاب جنقر نائب مرو إلى شهاب الدين وهو بقرب الطالقان يحثه للوصول وأذن له غياث الدين فسار إلى مرو وقاتل العساكر الذين بها من الخوارزمية فغلبهم وأحجرهم بالبلد وسار بالفيلة إلى السور فاستأمن أهل البلد وأطاعوا وخرج جنقر إلى شهاب الدين ثم جاء غياث الدين بعد الفتح إلى هراة مكرما وسلم مرو إلى هندوخان بن ملك شاه كما وعده ثم سار إلى سرخس فملكها صلحا وولى عليها زنكى بن مسعود من بنى عمه
وأقطعه معها نسا وابيورد ثم سار إلى طوس وحاصرها ثلاثا واستأمن إليه أهلها فملكها وبعث إلى على شاه علاء الدين محمد بن تكش بنيسابور في الطاعة فامتنع فسار إليه وقاتل نيسابور من جانب وأخوه شهاب الدين من الجانب الآخر إليه سقوطه ودخلوا نيسابور وملكوها ونادوا بالامان وجئ بعلى شاه من خوارزم(5/97)
إلى غياث الدين فأمنه وأكرمه وبعثه بالامراء الخوارزمية إلى هراة وولى على خراسان ابن عمه وصهره على ابنته ضياء الدين محمد بن على الغورى ولقبه علاء الدين وأنزله نيسابور في جمع من وجوه الغورية وأحسن إلى أهل نيسابور وسلم على شاه إلى أخيه شهاب الدين ورحل إلى هراة ثم سار شهاب الدين إلى قهستان وقيل له عن قرية من قراها انهم اسماعيلية فأمر بقتلهم وسبى ذراريهم ونهب أموالهم وخرب القرية ثم سار إلى حصن من أعمال قهستان وهم اسماعيلية فملكه بالامان بعد الحصار وولى عليه بعض الغورية فأقام بها الصواب وشعار الاسلام وبعث صاحب قهستان إلى غياث الدين يشكو من أخيه شهاب الدين ويقول ان هذا نقض العهد الذى بيني وبينكم فما راعه الا نزول أخيه شهاب الدين على حصن آخر للاسماعيلية من أعمال دهستان فحاصره فبعث بعض ثقاته إلى شهاب الدين يأمره بالرحيل فامتنع فقطع أطناب سرادقه ورحل مراغما وقصد الهند مغاضبا لاخيه ولما انصل بعلاء الدين محمد بن تكش مسيرهما عن خراسان كتب إلى غياث الدين يعاتبه عن أخذه بلاده ويطلب اعادتها ويتوعده باستنجاد الخطا عليه فماطله بالجواب إلى خروج أخيه شهاب الدين من الهند لعجزه عن الحركة لاستيلاء مرض النقرس عليه فكتب خوارزم شاه إلى علاء الدين الغوري نائب غياث الدين بنيسابور يأمره بالخروج عنها فكتب بذلك إلى غياث الدين فأجابه يعده بالنصر وسار إليه خوارزم شاه محمد بن تكش آخر سنة وتسعين وخمسمائة فلما قرب أبيورد هرب هندو خان من موالى
غياث الدين وملك محمد بن تكش مدينة مرو ونسا وأبيورد وسار إلى نيسابور وبها علاء الدين الغورى فحاصرها وأطال حصارها حتى استأمنوا إليه واستحلفوه وخرجوا إليه فأحسن إليهم وسأل من علاء الدين الغورى السعي في الاصلاح بينه وبين غياث الدين فضمن ذلك وسار الى هراة وبها أقطاعه وغضب على غياث الدين لقعوده عن انجاده فلم يسر إليه وبالغ محمد بن تكش في الاحسان إلى الحسن بن حرميل من أمراء الغورية ثم سار إلى سرخس وبها الامير زنكى من قرابة غياث الدين فحاصرها أربعين يوما وضيق مخنقها بالحرب وقطع الميرة ثم سأله زنكى الافراج ليخرج عن الامان فأفرج عنه قليلا ثم ملاء البلد من الميرة بما احتاج إليه وأخرج العاجزين عن الحصار وعاد إلى شأنه فندم محمد بن تكش ورحل عنها وجهز عسكرا لحصارها وجاء نائب الطالقان مددا لمحمد بن خربك داحس بعد ان أرسل إليه بأنه عساكر الخوارزمية المجمرة عليه وأشاع ذلك فأفرجوا عنه وجاء إليه زنكى من الطالقان فخرج معه ابن خربك إلى مرو الروذ وجبى خراجها وما يجاورها وبعث(5/98)
إليه محمد بن تكش عسكرا نحوا من ثلاثة آلاف مع خاله فلقيهم محمد بن خربك في تسعمائة فارس فهزمهم وأثخن فيهم قتلا وأسرا وغنم سوادهم وعاد خوارزم شاه محمد بن تكش إلى خوارزم وأرسل إلى غياث الدين في الصلح فأجابه مع الحسن بن محمد المرغنى من كبراء الغورية وغالطه في القول ولما وصل الحسن المرغنى إلى خوارزم شاه واطلع على أمره قبض على الحسن وسار إلى هراة فحاصرها وكتب الحسن إلى أخيه عمر بن محمد المرغنى أمير هراة بالخبر فاستعد للمعصار وقد كان لحق بغياث الدين أخوان من حاشية سلطان شاه عم محمد بن تكش المتوفى في سرخس فأكرمهما غياث الدين وأنزلهما بهراة فكاتبا محمد بن تكش وداخلاه في تمليكه هراة فسار لذلك وحاصر البلد وأميرها عمر المرغنى مر إلى الاخوين وعندهما مفاتيح البلد واطلع أخوه الحسن في محبسه
على شأن الاخوين في مداخلة محمد بن تكش فبعث إلى أخيه عمر بذلك فلم يسعفه فبعث إليه بخط أحدهما فقبض عليهما وعلى أصحابهما واعتقلهم وبعث محمد بن تكش عسكرا إلى الطالقان للغارة عليها فظفر بهم ابن خربك ولم يفلت منهم أحد ثم بعث غياث الدين ابن أخته البوغانى في عسكر من الغورية فنزلوا قريبا من عسكر خوارزم شاه محمد بن تكش وقطع عنهم الميرة ثم جاء غياث الدين في عسكر قليل لان أكثرها مع أخيه شهاب الدين بالهند وغزنة فنزل قريبا من هراة ولم يقدم على خوارزم فلما بلغ الحصار أربعين يوما وانهزم أصحاب خوارزم شاه بالطالقان ونزل غياث الدين وابن أخته البوغانى قريبا منه وبلغه وصول أخيه شهاب الدين من الهند إلى غزنة أجمع الرحيل عن هراة وصالح عمر المرغنى على مال حمله إليه وارتحل إلى مرو منتصف ثمان وتسعين وسار شهاب الدين من غزنة إلى بلخ ثم إلى باميان معتزما على محاربة خوارزم شاه والتقت طلائعهما فقتل بين الفريقين خلق ثم ارتحل خوارزم شاه عن مرو فجفلا إلى خوارزم وقتل الامير سنجر صاحب نيسابور لاتهامه بالمخادعة وسار شهاب الدين إلى طوس وأقام بها إلى انسلاخ الشتاء معتزما على السير لحصار خوارزم فأتاه الخبر بوفاة أخيه غياث الدين فرجع إلى هراة واستخلف بمرو محمد بن خربك فسار إليه جماعة من أمراء خوارزم شاه سنة تسعة وتسعين ابن خربك ولم ينج منهم الا القليل فبعث خوارزم شاه الجيوش مع منصور التركي لقتال ابن خربك ولقيهم على عشرة فراسخ من مرو وقاتلهم فهزموه ودخل مرو منهزما فحاصروه خمسة عشر يوما ثم استأمن إليهم وخرج فقتلوه وأسف ذلك شهاب الدين وترددت الرسل بينه وبين خوارزم شاه في الصلح فلم يتم وأراد العود إلى غزنة فاستعمل على هراة ابن أخته البوغانى وملك علاء الدين بن أبى على الغورى مدينة مرو وزكورة وبلد الغور واعمال(5/99)
خراسان وفوض إليه في مملكته وعاد إلى غزنة سنة تسع وتسعين وخمسمائة ثم عاد
خوارزم شاه إلى هراة منتصف سنة ستمائة وبها البوغانى ابن أخت شهاب الدين الغورى وكان شهاب الدين قد سار عن غزنة إلى لهاوون غازيا فحصر خوارزم شاه هراة إلى منسلخ شعبان وهلك في الحصار بين الفريقين خلق وكان الحسن بن حرميل مقيما بخوزستان وهى اقطاعه فأرسل إلى خوارزم شاه يخادعه ويطلب منه عسكرا يستلمون الفيلة وخزانة شهاب الدين فبعث إليه ألف فارس فاعترضهم هو والحسن بن محمد المرغنى فلم ينج منهم الا القليل فندم خوارزم شاه على انفاذ العسكر وبعث إلى البوغانى أن يظهر بعض طاعته ويفرج عنه الحصار فامتنع ثم أدركه المرض فخشى أن يشغله المرض عن حماية البلد فيملكها عليه خوارزم شاه فرجع إلى اجابته واستحلفه وأهدى وخرج له ليلقاه ويعطيه بعض الخدمة فمات في طريقه وارتحل خوارزم شاه عن البلد وأحرق المجانيق وسار إلى سرخس فأقام بها * (حصار شهاب الدين خوارزم شاه وانهزامه أمام الخطا) * ولما بلغ شهاب الدين بغزنة ما فعل خوارزم شاه بهراة وموت نائبه بها البوغانى ابن أخته وكان غازيا إلى الهند فانثنى عزمه وسار إلى خوارزم وكان خوارزم شاه قد سار من سرخس وأقام بظاهر مرو فلما بلغه خبر مسيره أجفل راجعا إلى خوارزم فسبق شهاب الدين إليها وأجرى الماء في السبخة حواليها وجاء شهاب الدين فأقام أربعين يوما يطرق المسالك حتى أمكنه الوصول ثم التقوا واقتتلوا وقتل بين الفريقين خلق كان منهم الحسن المرغنى من الغورية وأسر جماعة من الخوارزمية فقتلهم شهاب الدين صبرا وبعث خوارزم شاه إلى الخطا فيما وراء النهر يستنجدهم على شهاب الدين فجمعوا وساروا إلى بلاد الغور وبلغ ذلك شهاب الدين فسار إليهم فلقيهم بالمفازة فهزموه وحصروه في ايدحوى حتى صالحهم وخلص إلى الطالقان وقد كثر الارجاف بموته فتلقاه الحسن بن حرميل صاحب الطالقان وأزاح علله ثم سار إلى غزنة واحتمل ابن حرميل معه خشية من شدة جزعه أن يلحق بخوارزم شاه ويطيعه فولاه حجابته وسار
معه ووجد الخلاف قد وقع بين أمرائه لما بلغهم من الارجاف بموته حسبما مر في أخبار الغورية فأصلح من غزنة ومن الهند وتأهب للرجوع لخوارزم شاه وقد وقع في خبر هزيمته أمام الخطا بالمفازة وجه آخر ذكرناه هنالك وهو أنه فرق عساكره في المفازة لقلة الماء فأوقع بهم الخطا منفردين وجاء في الساقة فقاتلهم أربعة أيام مصابرا وبعث إليه صاحب سمرقند من عسكر الخطا وكان مسلما وأشار عليه بالتهويل عليهم فبعث عسكرا من الليل وجاؤا من الغد متسايلين وخوفهم صاحب سمرقند بوصول المدد(5/100)
لشهاب الدين فرجعوا إلى الصلح وخلص هو من تلك الواقعة وذلك سنة احدى وستمائة ومات شهاب الدين اثر ذلك * (استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان) * كان نائب الغورية بهراة من خراسان الحسن بن حرميل ولما قتل شهاب الدين الغورى في رمضان سنة ثنتين وستمائة قام بأمرهم غياث الدين محمود ابن أخيه غياث الدين واستولى على الغور من يد علاء الدين محمد بن أبى على سروركاه ولما بلغ وفاة شهاب الدين إلى الحسن بن حرميل نائب هراة جمع أعيان البلد وقاضيهم واستحلفهم على الامتناع من خوارزم شاه ظاهر اودس إلى خوارزم شاه بالطاعة ويطلب عسكرا يمتنع به من الغورية وبعث ابنه رهينة في ذلك فأنفذ إليه عسكرا من نيسابور وأمرهم بطاعة ابن حرميل وغياث الدين خلال ذلك يكاتب ابن حرميل ويطلبه في الطاعة فيراوغه بالمواعدة وبلغه خبره مع خوارزم شاه فاعتزم على النهوض إليه واستشار ابن حرميل بهراة أعيان البلد يختبر ما عندهم فقال له على بن عبد الخالق مدرس مية وناظر الاوقاف الرأى صدق الطاعة لغياث الدين فقال انما أخشاه فسر إليه وتوثق لى منه ففعل وسار إلى غياث الدين فأطلعه على الجلى من أمر ابن حرميل ووعده الثورة به وكتب غياث الدين إلى نائيه بمرو يستدعيه فتوقف وحمله أهل مرو على المسير فسار فخلع
عليه غياث الدين وأقطعه واستدعى غياث الدين أيضا نائبه بالطالقان أميران قطر فتوقف فأقطع الطالقان سونج مملوك ابنه المعروف بأمير شكار وبعث إلى ابن حرميل مع ابن زياد بالخلع ووصل مع رسوله يستنجز خطبته له فمطله أياما حتى وصل عسكر خوارزم شاه من نيسابور ووصل في اثرهم خوارزم شاه وانتهى إلى بلخ على أربعة فراسخ فندم ابن حرميل عندما عاين مصدوقة الطاعة وعرف عسكر خوارزم شاه بأن صاحبهم قد صالح غياث الدين وترك له البلاد فانصرفوا إلى صاحبهم وبعث إليه معهم بالهدايا ولما سمع غياث الدين بوصول عسكر خوارزم شاه إلى هراة أخذ اقطاع بن حرميل وقبض على أصحابه واستصفى أمواله وما كان له من الذخيرة في حروبان وتبين ابن حرميل في أهل هراة الميل إلى غياث الدين والانحراف عنه وخشى من ثورتهم به فأظهر طاعة غياث الدين وجمع أهل البلد على مكاتبته بذلك فكتبوا جميعا وأخرج الرسول بالكتاب ودس إليه بأن يلحق عسكر خوارزم شاه فيردهم إليه فوصل الرسول بهم لرابع يومه ولقيهم ابن حرميل وأدخلهم البلد وسهل ابن زياد الفقيه وأخرج صاعدا القاضى وشيع الغورية فلحقوا بغياث الدين وسلم البلد لعسكر خوارزم شاه وبعث غياث الدين عسكره مع على بن أبى على وسار معه أميران صاحب الطالقان وكان منحرفا(5/101)
عن غياث الدين بسبب عزله فدس إلى ابن حرميل بأن يكبسه وواعده الهزيمة وحلف له على ذلك فكبسه ابن حرميل فانهزم عسكر غياث الدين وأسر كثير من أمرائه وشن ابن حرميل الغارة على بلاد باذغيس وغيرها من البلاد واعتزم غياث الدين على المسير بنفسه إلى هراة ثم شغل عن ذلك بأمر غزنة ومسير صاحب باميان إلى الدوس فأقصر واستظهر خوارزم شاه إلى بلخ وقد كان عند مقتل شهاب الدين أطلق الغورية الذين كان أسرهم في المصاف على خوارزم وخيرهم في المقام عنده أو اللحاق بقومهم واستصفى من أكابرهم محمد بن بشير وأقطعه فلما قصد الآن بلخ قدم إليها أخوه على شاه
في العساكر وبرز إليه عمر بن الحسن أميرها فدافعه عنها ونزل على أربعة فراسخ وأرسل إلى أخيه خوارزم شاه بذلك فسار إليه في ذى القعدة من السنة ونزل على بلخ وحاصرها وهم ينتظرون المدد من صاحبهم باميان بن بهاء الدين وقد شغلوا بغزنة فحاصرها خوارزم شاه أربعين يوما ولم يظفر فبعث محمد بن بشير الغورى إلى عماد الدين عمر بن الحسن نائبها يستنزله فامتنع فاعتزم خوارزم شاه على المسير إلى هراة ثم بلغه أن أولاد بهاء الدين أمراء باميان ساروا إلى غزنة وأسرهم تاج الدين الزر فاعاد محمد بن بشير إلى عمر بن الحسين فأجاب إلى طاعة خوارزم شاه والخطبة له وخرج إليه فأعاده إلى بلده وذلك في ربيع سنة ثلاث وستمائة ثم سار خوارزم شاه إلى جوزجان وبها على بن على فنزل له عنها وسلمها خوارزم شاه إلى ابن حرميل لانها كانت من أقطاعه وبعث إلى غياث الدين عمر بن الحسين من بلخ يستدعيه ثم قبض عليه وبعث به إلى خوارزم شاه وسار الى بلخ فاستولى عليها واستخلف عليها جغرى التركي وعاد إلى بلاده * (استيلاء خوارزم شاه على ترمذ وتسليمها للخطا) * ولما أخذ خوارزم شاه بلخ سار عنها إلى ترمذ وبها عماد الدين عمر بن الحسين الذى كان صاحب بلخ وقدم إليه محمد بن على بن بشير بالعذر عن شأن أبيه وانه انما بعثه لخوارزم مكرما وهو أعظم خواصه ويعده بالاطلاع فاتهم على صاحبها أمره واجتمع عليه خوارزم شاه والخطا من جميع جوانبه وأسر أصحابه ملوك باميان بغزنه فاستأمن إلى خوارزم شاه وملك منه البلد ثم سلمها إلى الخطا وهم على كفرهم ليسالموه حتى يملك وينتزعها منهم فكان كاقدره والله سبحانه وتعالى أعلم * (استيلاء خوارزم شاه على الطالقان) * ولما ملك خوارزم شاه ترمذ سار إلى الطالقان وبها سونج واستناب على الطالقان أمير شكار نائب غياث الدين محمود وبعث إليه يستميله ؟ فامتنع وبرز للحرب حتى ترا ؟(5/102)
الجمعان فنزل عن فرسه ونبذ سلاحه وجاء متطارحا في العفو عنه فأغرض عنه وملك الطالقان واستولى على ما فيها وبعث إليه سونج واستناب على الطالقان بعض أصحابه وسار إلى قلاع كالومين ومهوار وبها حسام الدين على بن على فقاتله ودفعه على ناحيته وسار الى هراة وخيم بظاهرها وجاء رسول غياث الدين بالهدايا والتحف ثم جاء ابن حرميل في جمع من عساكر خوارزم شاه إلى اسفراين فملكها على الامان في صفر من السنة وبعث إلى صاحب سجستان وهو حرب بن محمد بن ابراهيم من عقب خلف الذى كان ملكها منذ عهد ابن سبكتكين في الطاعة لخوارزم والخطبة له فامتنع وقصد خوارزم شاه وهو على هراة القاضى صاعد بن الفضل الذى أخرجه ابن حرميل ولحق بغياث الدين فلما جاء إلى خوارزم شاه رماه ابن حرميل بالميل إلى العورية فحبسه بقلعة زوزن وولى القضاء بهراة الصفى أبا بكر بن محمد السرخسى وكان بنوب عن صاعد وابنه في القضاء * (استيلاء خوارزم شاه على مازندان وأعمالها) * ثم توفى صاحب مازندان حسام الدين ازدشير وولى مكانه ابنه الاكبر وطرد أخاه الاوسط فقصد جرجان وبها الملك على شاه ينوب عن أخيه خوارزم شاه محمد بن تكش واستنحده فاستأذن أخاه وسار معه من جرجان سنة ثلاث وستمائة ومات الاخ الذى ولى على مازندان وولى مكانه أخوهما الاصغر ووصل على شاه ومعه أخو صاحب مازندان فعاثوا في البلاد وامتنع الملك بالقلاع مثل سارية وآمد فملكوها من يده وخطب فيها لخوارزم شاه وعاد على شاه إلى جرجان وترك ابن صاحب مازندان الذى استجار به ملكا في تلك البلاد وأخوه بقلعة كوره * (استيلاء خوارزم شاه على ما وراء النهر وقتاله مع الخطا وأسره وخلاصه) * قد تقدم لنا كيف تغلب الخطا على ما وراء النهر منذ هزموا سنجر بن ملك شاه وكانوا أمة بادبة يسكنون الخيام التى يسمونها الخركاوات وهم على دين المجوسية كما كانوا وكانوا
موطنين بنواحي أوز كنده وبلاد ساغون وكاشغر وكان سلطان سمرقند وبخاري من ملوك الخانية الاقدمين عريقا في الاسلام والبيت والملك ويلقب خان خاقان بمعنى سلطان السلاطين وكان الخطا وضعوا الجزية على بلاد المسلمين فيما وراء النهر وكثر عبثهم ؟ وثقلت وطأتهم فأنف صاحب بخارى من تحكمهم وبعث إلى خوارزم شاه يستصرخه لحادتهم على أن يحمل إليه ما يحملونه للخطا وتكون له الخطبة والسكة وبعث في ذلك وجوه بخارى وسمرقند فحلفوا له ووضعوا رهائنهم عنده فتجهز لذلك وولى أخاه(5/103)
على شاه على طبرستان مع جرجان وولى على نيسابور الامير كزلك خان من أخواله وأعيان دولته وندب معه عسكرا وولى على قلعة زوزن أمين الدين أبا بكر وكان أصله حمالا فارتفع وترقى في الرتب إلى ملك كرمان وولى على مدينة الجام الامير جلدك وأقر على هراة الحسن بن حرميل وأنزل معه ألفا من المقاتلة واستناب في مرو وسرخس وغيرهما وصالح غياث الدين محمودا على ما بيده من بلاد الغور وكرمسين وجمع عساكر وسار إلى خوارزم فتجهز منها وعبر جيحون واجتمع بسلطان بخارى وسمرقند وزحف إليه الخطا فتواقعوا معه مرات وبقيت الحرب بينهم سجالا ثم انهزم المسلمون وأسر خوارزم شاه ورجعت العساكر إلى خوارزم معلولة وقد أرجف بموت السلطان وكان كزلك خان نائب نيسابور محاصر الهراة ومعه صاحب زوزن فرجعوا إلى بلادهما وأصلح كزلك خان سور نيسابور واستكثر من الجند والاقوات وحدثته نفسه بالاستبداد وبلغ خبر الارجاف إلى أخيه على شاه بطبرستان فدعا لنفسه وقطع خطبة أخيه وكان مع خوارزم شاه حين أسر أمير من أمرائه يعرف بابن مسعود فتحيل للسلطان بأن أظهر نفسه في صورته واتفقا على دعائه باسم السلطان وأوهما صاحبهما الذى أسرهما ان ابن مسعود هو السلطان وان خوارزم شاه خديمه فأوجب ذلك الخطائى حقه وعظمه لاعتقاده انه السلطان وطلب منه بعد أيام أن يبعث ذلك الخديم لاهله وهو خوارزم
شاه في الحقيقة ليعرف أهله بخبره ويأتيه بالمال فيدفعه إليه فأذن له الخطائى في ذلك وأطلقه بكتابه ولحق بخوارزم ودخل إليها في يوم مشهود وعلم بما ؟ أخوه على شاه بطبرستان وكزلك خان بنيسابور وبلغهما خبر خلاصه فهرب كزلك خان إلى العراق ولحق على شاه بغياث الدين محمود فأكرمه وأنزله وسار خوارزم شاه إلى نيسابور فأصلح أمورها وولى عليها وسار إلى هراة فنزل عليها وعسكره محاصر دونها وذلك سنة أربع وستمائة والله أعلم * (مقتل ابن حرميل ثم استيلاء خوارزم شاه على هراة) * كان ابن حرميل قد تنكر لعسكر خوارزم شاه الذين كانوا عنده بهراة لسوء سيرتهم فلما عبر خوارزم شاه جيحون واشتغل بقتال الخطا قبض ابن حرميل على العسكر وحبسهم وبعث إلى خوارزم شاه يعتذر ويشكو من فعلهم فكتب إليه يستحسن فعله ويأمره بانفاذ ذلك العسكر إليه ينتفع بهم في قتال الخطا وكتب إلى جلدك بن طغرل صاحب الجام أن يسير إليه بهراة ثقة بفعله وحسن سريرته وأعلم ابن حرميل بذلك ودس إلى جلدك بالتحيل على ابن حرميل بكل وجه والقبض عليه فسار في ألفى مقاتل وكان يهوى ولاية هراة لان أباه طغرل كان واليا بها لسنجر فلما قارب هراة أمر ابن حرميل(5/104)
الناس بالخروج لتلقيه وخرج هو في اثرهم بعد ان أشار عليه وزيره خواجا الصاحب فلم يقبل فلما التقى جلدك وابن حرميل ترجلا عن فرسيهما للسلام وأحاط أصحاب جلدك بابن حرميل وقبضوا عليه وانهزم أصحابه إلى ؟ فأغلق الوزير خواجا الابواب واستعد للحصار وأظهر دعوة غياث الدين محمود وجاء جلدك فناداه من الصور وتهدده بقتل ابن حرميل وجاء بابن حرميل حتى أمره بتسليم البلد لجلدك فأبى وأساء الرد عليه وعلى جلدك فقتل ابن حرميل وكتب إلى خوارزم شاه بالخبر فبعث خوارزم شاه إلى كزلك خان نائب نيسابور وإلى أمين الدين أبى بكر نائب زوزن بالمسير إلى جلدك وحصار
هراة معه فسار لذلك في عشرة آلاف فارس وحاصروها فامتنعت وكان خلال ذلك ما قدمناه من انهزام خوارزم شاه أمام الخطا وأسرهم اياه ثم تخلص ولحق بخوارزم ثم جاء إلى نيسابور ولحق بالعساكر الذين يحاصرون هراة فأحسن إلى أمرائهم لصبرهم وبعث إلى الوزير خواجا في تسليم البلد لانه كان يعد عسكره بذلك حين وصوله فامتنع وأساء الرد فشد خوارزم في حصاره وضجر أهل المدينة وجهدهم الحصار وتحدثوا في الثورة فبعث جماعة من الجند للقبض عليه فثاروا بالبلد وشعر جماعة العسكر من خارج بذلك فرجعوا إلى السور واقتحموه وملك البلد ؟ وجئ بالوزير أسيرا إلى خوارزم شاه فأمر بقتله فقتل وكان ذلك سنة خمس وستمائة وولى على هراة خاله أمير ملك وعاد وقد استقر له أمر خراسان (1) * (استيلاء خوارزم شاه على بيروز كوه وسائر بلاد خراسان) * لما ملك خوارزم شاه هراة وولى عليها خاله أمير ملك وعاد إلى خوارزم بعث إلى أمير ملك يأمره بيروز كوه وكان بها غياث الدين محمود بن غياث الدين وقد لحق به أخوه على شاه وأقام عنده فسار أمير ملك وبعث إليه محمود بطاعته ونزل إليه فقبض عليه أمير ملك وعلى على شاه أخى خوارزم شاه وقتلهما جميعا سنة خمس وستمائة وصارت خراسان كلها لخوارزم شاه محمد بن تكش وانقرض أمر الغورية وكانت دولتهم من أعظم الدول وأحسنها والله تعالى ولى التوفيق * (هزيمة الخطا) * ولما استقر أمر خراسان لخوارزم شاه واستنفر وعبر نهر جيحون وسار إليه الخطا وقد احتفلوا للقائه وملكهم يومئذ طانيكوه ابن مائة سنة ونحوها وكان مظفرا مجربا بصيرا بالحرب واجتمع خوارزم شاه وصاحب سمرقند وبخاري وتراجعوا سنة ست وستمائة ووقعت بينهم حروب لم يعهد مثلها ثم انهزم الخطا وأخذ فيهم القتل كل مأخذ(5/105)
وأسر ملكهم طانيكوه فأكرمه خوارزم شاه وأجلسه معه على سريره وبعث به إلى خوارزم وسار هو إلى ما وراء النهر وملكها مدينة مدينة إلى أوركند وأنزل نوابه فيها وعاد إلى خوارزم ومعه صاحب سمرقند فأصهر إليه خوارزم شاه بأخته ورده إلى سمرقند وبعث معه شحنة يكون بسمرقند على ما كان أيام الخطا والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء * (انتقاض صاحب سمرقند) * ولما عاد صاحب سمرقند إلى بلده أقام شحنة خوارزم شاه وعسكره معه نحوا من سنة ثم استقبح سيرتهم وتنكر لهم وأمر أهل البلاد فثاروا بهم وقتلوهم في كل مذهب وهم بقتل زوجته أخت خوارزم شاه فغلقت الابواب دونه واسترحمته فتركها وبعث إلى ملك الخطا بالطاعة وبلغ الخبر إلى خوارزم شاه فامتعض وهم بقتل من في بلده من أهل سمرقند ثم انثنى عن ذلك وأمر عساكره بالتوجه إلى ما وراء النهر فخرجوا أرسالا وهو في أثرهم وعبر بهم النهر ونزل على سمرقند وحاصرها ونصب عليها الآلات وملكها عنوة واستباحها ثلاثا قتل فيها نحوا من مأتى ألف واعتصم صاحبها بالقلعة ثم حاصرها وملكها عنوة وقتل صاحبها صبرا في جماعة من أقرانه ومحا آثار الخانية وأنزل في سائر البلاد وراء النهر نوابه وعاد إلى خوارزم والله تعالى ولى النصر بمنه وفضله * (استلحام الخطا) * قد تقدم لنا وصول طائفة من أمم الترك إلى بلاد تركستان وكاشغر وانتشارهم فيما وراء النهر واستخدموا للملوك الخانية أصحاب تركستان وكان ارسلان خان محمد بن سليمان ينزلهم مسالح على الريف فيما بينه وبين الصين ولهم على ذلك الاقطاعات والجرايات وكان يعاقبهم على ما يقع منهم من الفساد والعيث في البلاد ويوقع بهم ففروا من بلاده وابتغوا ؟ عنه فسيحا من الارض ونزلوا بلاد ساغون ثم خرج كوخان ملك الترك الاعظم من الصين سنة ثنتين وعشرين وخمسمائة فسارت إليه أمم الخطا ولقيهم الخان
محمود بن محمد بن سليمان بن داود بقراخان وهو ابن أخت السلطان سنجر فهزموه وبعث بالصريخ إلى خاله سنجر فاستنفر ملوك خراسان وعساكر المسلمين وعبر جيحون للقائهم في صفر سنة ست وثلاثين ولقيه أمم الترك والخطا فهزموه وأثخنوا في المسلمين وأسرت زوجة السلطان سنجر ثم أطلقها كوخان بعد ذلك وملك الترك بلاد ما وراء النهر ثم مات كوخان ملكهم سنة سبع وثلاثين ووليت بعده ابنته وماتت قريبا وملكت من بعدها أمها زوجة كوخان وابنه محمد ثم انقرض ملكهم واستولى الخطا على ما وراء(5/106)
النهر إلى أن غلبهم عليه خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش كما قدمنا وكانت قد خرجت قبل ذلك خارجة عظيمة من الترك يعرفون بالتتر ونزلوا في حدود الصين وراء تركستان وكان ملكهم كشلى خان ووقع بينه وبين الخطا من العداوة والحروب ما يقع بين الامم المتجاورة فلما بلغهم ما فعله خوارزم شاه بالخطا أرادوا الانتقام منهم وزحف كشلى في أمم التتر إلى الخطا لينتهز الفرصة فيهم فبعث الخطا إلى خوارزم شاه يتلطفون له ويسألونه النصر من عدوهم قبل أن يستحكم أمرهم وتضيق عنه قدرته وقدرتهم وبعث إليه كشلى يغريه بهم وأن يتركه واياهم ويحلف له على مسالمة بلاده فسار خوارزم شاه يوهم كل واحد من الفريقين انه له وأقام منتبذا عنهما حتى تواقعوا وانهزم الخطا فمال مع التتر عليهم واستلحموهم في كل وجه ولم ينج منهم الا القليل فتحصنوا بين جبال في نواحى تركستان وقليل آخرون لحقوا بخوارزم شاه كانوا معه وبعث خوارزم شاه إلى كشلى خان ملك التتر يعتد عليه بهزيمة الخطا وانها انما كانت بمظاهرته فأظهر له الاعتراف وشكره ثم نازعه في بلادهم وأملاكهم وسار لحربهم ثم علم انه لا طاقة له بهم فمكث يراوغهم على اللقاء وكشلى خان يعذله في ذلك وهو ؟ واستولى كشلى خان خلال ذلك على كاشغر وبلاد تركستان وساغون ثم عمد خوارزم شاه إلى الشاش وفرعانة واسحان وكاشان وما حولها من المدن التى لم يكن في بلاد الله
انزه منها ولا أحسن عمارة فجلا أهلها إلى بلاد الاسلام وخرب جميعها خوفا أن يملكها التتر ثم اختلف التتر بعد ذلك وخرج على كشلى طائفة أخرى منهم يعرفون بالمغل وملكهم جنكزخان فشغل كشلى خان بحربهم عن خوارزم شاه فعبر النهر إلى خراسان وترك خوارزم شاه إلى أن كان من أمره ما نذكره والله تعالى أعلم * (استيلاء خوارزم شاه على كرمان ومكران والسند) * قد تقدم لنا أنه كان من جملة أمراء خوارزم شاه تكش تاج الدين أبو بكر وانه كان كريا للدواب ثم ترقت به الاحوال إلى أن صار سروان لتكش والسروان مقدم الجهاد ثم تقدم عنده لجلده واماتته وصار أميرا وولاه قلعة زوزن ثم تقدم عند علاء الدين محمد بن تكش واختصه فأشار عليه بطلب بلاد كرمان لما كانت مجاورة لوطنه فبعث معه عسكرا وسار إلى كرمان سنة ثنتى عشرة وصاحبها يومئذ محمد بن حرب أبى الفضل الذى كان صاحب سجستان أيام السلطان سنجر فغلبه على بلاده وملكها ثم سار إلى كرمان وملكها كلها إلى السند من نواحى كابل وسار إلى هرمز من مدن فارس بساحل البحر واسم صاحبها مكيك فأطاعه وخطب لخوارزم شاه وضمن ما لا يحمله وخطب له بقلعات وبعض عمان من وراء النهر لانهم كانوا يتقربون إلى(5/107)
صاحب هرمز بالطاعة وتسير سفنهم بالتجار إلى هرمز لانه المرسى العظيم الذى تسا ؟ إليه التجار من الهند والصين وكان بين صاحب هرمز وصاحب كيش ومغاورات وفتن وكل واحد منهما ينهى مراكب بلاده أن ترسى ببلاد الآخر وكان خوارزم شاه يطيف بنواحي سمرقند خشية أن يقصد التتر أصحاب كشلى خان بلاده * (استيلاء خوارزم شاه ؟ لى غزنة وأعمالها) * ولما استولى خوارزم شاه محمد بن تكش على بلاد خراسان وملك باميان وغيرها وبعث تاج الدين المرز صاحب غزنة وقد تغلب عليها بعد ملوك الغورية وقد تقدم في أخبار
دولتهم فبعث إليه في الخطبة له وأشار عليه كبير دولته قطلغ تكين مولى شهاب الدين الغورى وسائر أصحابه بالاجابة إلى ذلك فخطب له ونقش السكة باسمه وسار قنصيرا وترك قطلغ تكين بغزنة نائبا عنه فبعث قطلغ تكين لخوارزم شاه يستدعيه فأغذله السير وملك غزنة وقلعتها وقتل الغورية الذين وجدوا بها خصوصا الاتراك وبلغ الخبر المرز فهرب إلى أساون ثم أحضر خوارزم شاه قطلغ ووبخه على قلة وفائه لصاحبه وصادره على ثلاثين حملا من أصناف الاموال والامتعة وأربعمائة مملوك ثم قتله وعاد إلى خوارزم وذلك سنة ثلاث عشرة وستمائة وقيل سنة ثنتى عشرة بعد ان استخلف عليها ابنه جلال الدين منكبرس والله أعلم بغيبه وأحكم * (استيلاء خوارزم شاه على بلاد الجبل) * كان خوارزم شاه محمد بن تكش قد ملك الرها وهمذان وبلاد الجبل كلها أعوام تسعين وخمسمائة من يد قطلغ آبنايخ بقية أمراء السلجوقية ونازعه فيها ابن القصاب وزير الخليفة الناصر فغلبه خوارزم شاه وقتله كما مر في أخباره ثم شغل عنها تكش إلى أن توفى وذلك سنة سبع وتسعين وصار ملكه لابنه علاء الدين محمد بن تكش وتغلب موالى البهلوان على بلاد الجبل واحدا بعد واحد ونصبوا أزبك بن مولاهم البهلوان ثم انتقضوا عليه وخطبوا لخوارزم شاه وكان آخر من ولى منهم أغماش وأقام بها مدة يخطب لعلاء الدين محمد بن تكش خوارزم شاه ثم وثب عليه بعض الباطنية وطمع أزبك بن محمد البهلوان بقية الدولة السلجوقية باذربيجان واران في الاستيلاء على أعمال اصبهان والرى وهمذان وسائر بلاد الجبل وطمع سعد بن زنكى صاحب فارس ويقال سعد بن دكلا في الاستيلاء عليها أيضا كذلك وسار في العساكر فملك أزبك اصبهان بممالاة أهلها وملك سعد الرى وقزوين وسمنان وطار الخبر إلى خوارزم شاه باصبهان بسمرقند فسار في العساكر سنة أربع عشرة وستمائة في مائة ألف بعد ان جهز(5/108)
العساكر فيما وراء النهر وبثغور الترك وانتهى إلى قومس ففارق العساكر وسار متجردا في اثنى عشر ألفا فلما ظفرت مقدمته بأهل الرى وسعد مخيم بظاهرها ركب للقتال بظن انه السلطان ثم تبين الآلة والمركب واستيقن انه السلطان فولت عساكره منهزمة وحصل في أسر السلطان وبلغ الخبر إلى أزبك باصبهان فسار إلى همذان ثم عدل عن الطريق في خواصه وركب الاوعار إلى اذربيجان وبعث وزيره أبا القاسم بن على بالاعتذار فبعث إليه في الطاعة فأجابه وحمله الضريبة فاعتذر بقتال الكرج وأما سعد صاحب فارس فبلغ الخبر بأسره إلى ابنه نصرة الدين أبى بكر فهاج بخلعان أبيه وأطلق السلطان سعدا على أن يعطيه قلعة اصطخر ويحمل إليه ثلث الخراج وزوجه بعض قرابته وبعث معه من رجال الدولة من يقبض اصطخر فلما وصل إلى شيراز وجد ابنه منتقضا فداخله بعض أمراء ابنه وفتح له باب شيراز ودخل على ابنه واستولى على ملكه وخطب لخوارزم شاه واستولى خوارزم شاه على شاورة وقزوين وجرجان وابهر وهمذان واصبهان وقم وقاشان وسائر بلاد الجبل واستولى عليها كلها من أصحابها واختص الامير طائيين بهمذان وولى ابنه ركن الدولة ياور شاه عليهم جميعا وجعل معه جمال الدين محمد بن سابق الشاوى وزيرا * (طلب الخطبة وامتناع الخليفة منها) * ثم بعد ذلك بعث خوارزم شاه محمد بن تكش إلى بغداد يطلب الخطبة بها من الخليفة كما كانت لبنى سلجوق وذلك سنة أربع عشرة وذلك لما رأى من استفحال أمره واتساع ملكه فامتنع الخليفة من ذلك وبعث في الاعتذار عنه الشيخ شهاب الدين السهروردى فأكبر السلطان مقدمه وقام لتلقيه وأول ما بدأ به الكلام على حديث وجلس على ركبتيه لاستماعه ثم تكلم وأطال وأجاد وعرض بالموعظة في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم في بنى العباس وغيرهم والتعرض لاذايتهم فقال السلطان حاش لله من ذلك وأنا ما آذيت أحدا منهم وأمير المؤمنين كان أولى منى بموعظة
الشيخ فقد بلغني أن في محبسه جماعة من بنى العباس مخلدين بتناسلون فقال الشيخ الخليفة إذا حبس أحدا للاصلاح لا يعترض عليه فيه فما بويع الا للنظر في المصالح ثم ودعه السلطان ورجع إلى بغداد وكان ذلك قبل أن يسير إلى العراق فلما استولى على بلاد الجبل وفرغ من أمرها سار إلى بغداد وانتهى إلى عقبة سراباد وأصابه هنالك ثلج عظيم أهلك الحيوانات وعفن أيدى الرجال وأرجلهم حتى قطعوها ووصله هنالك شهاب الدين السهروردى ووعظه فندم ورجع عن قصده فدخل إلى خوارزم سنة خمس عشرة والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق(5/109)
* (قسمة السلطان خوارزم شاه الملك بين ولده) * ولما استكمل السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش ملكه بالاستيلاء على الرى وبلاد الجبل قسم أعمال ملكه بين ولده فجعل خوارزم وخراسان ومازندان لولى عهده قطب الدين أولاغ شاه وانما كان ولى عهده دون ابنه الاكبر جلال الدين منكبرس لان أم قطب الدين وأم السلطان وهى تركمان خاتون من قبيلة واحدة وهم فياروت من شعوب يمك احدى بطون الخطا فكانت تركمان خاتون متحكمة في ابنها السلطان محمد ابن تكش وجعل غزنة وباميان والغور وبست ومكسامادوما من الهند لابنه جلال الدين منكبرس وكرمان وكيس ومكرمان لابنه غياث الدين يترشاه وبلاد الجبل لابنه ركن الدين غورشاه كما قدمناه وأذن لهم في ضرب النوب الخمس له وهى دبادب صغار تقرع عقب الصلوات الخمس واختص هو بنوبة سماها نوبة ذى القرنين سبع وعشرين دبدبة كانت مصنوعة من الذهب والفضة مرصعة بالجواهر هكذا ذكر الوزير محمد ابن أحمد السنوي المنشى كاتب جلال الدين منكبرس في أخباره وأخبار أبيه علاء الدين محمد بن تكش وعلى كتابه اعتمدت دون غيره لانه أعرف بأخبارهما وكانت كرمان ومكران وكيش لمؤيد الملك قوام الدين وهلك منصرف السلطان من العراق
فأقطعها لابنه غياث الدين كما قلناه وكان الملك هذا سوقة فأصبح ملكا وأصل خبره ان أمه كانت داية في دار نصرة الدين محمد بن أبز صاحب زوزن ونشأ في بيته واستخدمه وسفر عنه للسلطان فسعى به أنه من الباطنية ثم رجع فخوفه من السلطان بذلك فانقطع نصرة الدين إلى الاسماعيلية وتحصن ببعض قلاع زوزن وكتب قوام الدين بذلك إلى السلطان فجعل إليه وزارة زوزن وولاية جبايتها ولم يزل يخادع صاحبه نصرة الدين إلى أن راجع فتمكن من السلطان وسمله ثم طمع قوام الدين في ملك كرمان وكان بها أمير من بقية الملك دينار وأمده السلطان بعسكر من خراسان فملك كرمان وحسن موقع ذلك من السلطان فلقبه مؤيد الملك وجعلها في أقطاعه ولما رجع السلطان من العراق وقد نفقت جماله بعث إليه بأربعة آلاف بختى وتوفى أثر ذلك فرد السلطان أعماله إلى ابنه غياث الدين كما قلناه وحمل من تركته إلى السلطان سبعون حملا من الذهب خلا الاصناف * (أخبار تركمان خاتون أم السلطان محمد بن تكش) * كانت تركمان خاتون أم السلطان محمد بن تكش من قبيلة بياروت من شعوب الترك يمك من الخطا وهى بنت خان حبكش من ملوكهم تزوجها السلطان خوارزم شاه تكش(5/110)
فولدت له السلطان محمدا فلما ملك لحق بها طوائف يمك ومن جاورهم من الترك واستظهرت بهم وتحكمت في الدولة فلم يملك السلطان معها أمره وكانت تولى في النواحى من جهتها كما يولى السلطان وتحكم بين الناس وتنصف من الظلامات وتقدم على الفتك والقتل وتقيم معاهد الخير والصدقة في البلاد وكان لها سبعة من الموقعين يكتبون عنها وإذا عارض توقيعها لتوقيع السلطان عمل بالمتأخر منهما وكان لقبها خداوند جهان أي صاحبة العالم وتوقيعها في الكتاب عصمة الدنيا والدين اولاغ تركمان ملك نساء العالمين وعلامتها اعتصمت بالله وحده تكتبها بقلم غليظ وتجود كتابتها
أن تزور عليها واستوزرت للسلطان وزيره نظام الملك وكان مستخدما لها فلما عزل السلطان وزيره أشارت عليه بوزارة نظام الملك هذا فوزر له على كره من السلطان وتحكم في الدولة بتحكمها ثم تنكر له السلطان لامور بلغته عنه وعزله فاستمر على وزارتها وكان شأنه في الدولة أكبر وشكاه إليه بعض الولاة بنواحي خوارزم أنه صادره فأمر بعض خواصه بقتله فمنعته تركمان من ذلك وبقى على حاله وعجز السلطان عن انفاذ أمره فيه والله يؤيد بنصره من يشاء * (خروج التتر وغلبهم على ما وراء النهر وفرار السلطان أمامهم من خراسان) * ولما عاد السلطان من العراق سنة خمس عشرة كما قدمناه واستقر بنيسابور وفدت عليه رسل جنكرخان بهدية من المعدنين ونوافج المسك وحجر البشم والثياب الطائية التى تنسج من وبر الابل البيض ويخبر أنه ملك الصين وما يليها من بلاد الترك ويسأل الموادعة والاذن للتجار من الجانبين في التردد في متاجرهم وكان في خطابه اطراء السلطان بأنه مثل أعز أولاده فاستنكف السلطان من ذلك واستدعى محمودا الخوارزمي من الرسل واصطنعه ليكون عينا له على جنكزخان واستخبره على ما قاله في كتابه من ملكه الصين واستيلائه على مدينة طوغاج فصدق ذلك ونكر عليه الخطاب بالولد وسأله عن مقدار العساكر فغشه وقللها وصرفهم السلطان بما طلبوه من الموادعة والاذن للتجار فوصل بعض التجار من بلادهم إلى انزار وبها نيال خان ابن خال السلطان في عشرين ألفا من العساكر فشره إلى أموالهم وخاطب السلطان بأنهم عيون وليسوا بتجار فأمره بالاحتياط عليهم فقتلهم خفية وأخذ أموالهم وفشا الخبر إلى جنكزخان فبعث بالنكير إلى السلطان في نقض العهد وان كان فعل نيال افتياتا فبعث إليه يتهدده على ذلك فقتل السلطان الرسل وبلغ الخبر إلى جنكزخان فسار في العساكر واعتزم السلطان أن يحصن سمرقند بالاسوار فجبى لذلك خراج سنتين وجبى ثالثة استخدم بها الفرسان وسار إلى احياء جنكزخان فكبسهم وهو غائب عنها في محاربة كشلى خان(5/111)
فغنم ورجع واتبعهم ابن جنكزخان فكانت بينهم واقعة عظيمة هلك فيها كثير من الفريقين ولجأ خوارزم شاه إلى جيحون فأقام عليه ينتطر شأن التتر ثم عاجله جنكزخان فأجفل وتركها وفرق عساكره في مدن ما وراء النهر انزار وبخاري وسمرقند وترمذ وجند وأنزل آبنايخ من كبراء أمرائه وحجاب دولته في بخارى وجاء جنكزخان إلى انزار فحاصرها وملكها غلابا وأسر أميرها نيال خان الذى قتل التجار وأذاب الفضة في أذنيه وعينيه ثم حاصر بخارى وملكها على الامان وقاتلوا مع القلعة حتى ملكوها ثم عذر بهم وقتلهم وسلبهم وخربها ورحل جنكزخان إلى سمرقند ففعلوا فيها مثل ذلك سنة تسع عشرة وستمائة ثم كتب كتبا على لسان الامراء قرابة أم السلطان يستدعون جنكزخان ويعدها بزيادة خراسان إلى خوارزم وبعث من يستخلفه على ذلك وبعث الكتب مع من يتعرض بها للسلطان فلما قرأها ارتاب بأمه وبقرابتها * (اجفال السلطان خوارزم شاه إلى خراسان ثم إلى طبرستان ومهلكه) * ولما بلغ السلطان استيلاء جنكزخان على انزار وبخاري وسمرقند وجاءه نائب بخارى ناجيا في الفل أجفل حينئذ وعبر جيحون ورجع عنه طوائف الخطا الذين كانوا معه وعلاء الدين صاحب قيدر وتخاذل الناس وسرح جنكزخان العساكر في أثره نحوا من عشرين ألفا يسميهم التتر المغربة لسيرهم نحو غرب خراسان فتوغلوا في البلاد وانتهوا إلى بلاد بيجور واكتسحوا كل ما مروا عليه ووصل السلطان إلى نيسابور فلم يثبت بها ودخل إلى ناحية العراق بعد أن أودع أمواله قال المنشى في كتابه حدثنى الامير تاج الدين البسطامى قال لما انتهى خوارزم شاه في مسيره إلى العراق استحضرني وبين يديه عشرة صناديق مملوأة لآلئ لا تعرف قيمتها وقال في اثنين منها فيهما من الجواهر ما يساوى خراج الارض باسرها وأمرني بحملها إلى قلعة اردهز من أحصن قلاع الارض وأخذت خط يد الموالى بوصولها ثم أخذها التتر بعد ذلك حين ملكوا العراق
انتهى ولما ارتحل خوارزم شاه من نيسابور قصد مازندان والتتر في أثره ثم انتهى إلى أعمال همذان فكبسوه هناك ونجا إلى بلاد الجبل وقتل وزيره عماد الملك محمد بن واقام هو بساحل البحر بقرية عند الفريضة يصلى ويقرأ ويعاهد الله على حسن السيرة ثم كبسه التتر أخرى فركب البحر وخاضوا في أثره فغلبهم الماء ورجعوا ووصلوا إلى جزيرة في بحر طبرستان فأقام بها وطرقه المرض فكان جماعة من أهل مازندان يمرضونه ويحمل إليه كثيرا من حاجته فيوقع لحاملها بالولايات والاقطاع وأمضى ابنه جلال الدين بعد ذلك جميعها ثم هلك سنة سبع عشرة وستمائة ودفن بتلك الجزيرة لاحدى وعشرين سنة من ملكه بعد أن عهد لابنه جلال الدين منكبرس وخلع ابنه الاصغر(5/112)
قطب الدين أولاغ شاه ولما بلغ خبرا جفاله إلى أمه تركمان خاتون بخوارزم خرحت هاربة بعد أن قتلت نحوا من عشرين من الملوك والاكابر المحبوسين هنالك ولحقت بقلعة ايلان من قلاع مازندان فلما رجع التتر المغربة عن السلطان خوارزم شاه بعد ان خاض بحر طبرستان إلى الجزيرة التى مات بها فقصدوا مازندان وملكوا قلاعها على ما فيها من الامتناع ولقد كان فتحها تأخر إلى سنة تسعين أيام سليمان بن عبد الملك فملكوها واحدة واحدة وحاصروا تركمان خاتون في قلعة ايلان إلى أن ملكوا القلعة صلحا وأسروها وقال ابن الاثير انهم لقوها في طريقها إلى مازندان فأحاطوا بها وأسروها ومن كان معها من بنات السلطان وتزوجهن التتر وتزوج دوش خان بن جنكزخان باحداهن وبقيت تركمان خاتون أسيرة عندهن في خمول وذل وكانت تحضر سماط جنكزخان كاحداهن وتحمل قوتها منه وكان نظام الملك وزير السلطان مع أمه تركمان خاتون فحصل في قبضة جنكزخان وكان عندهم معظما لما بلغهم من تنكر السلطان له وكانوا يشاورونه في أمر الجباية فلما استولى دوش خان على خوارزم وجاء بحرم السلطان الذين كانوا بها وفيهن مغنيات فوهب احداهن لبعض خدمه فمنعت نفسها
منه ولجأت للوزير نظام الملك فشكاه ذلك الخادم لجنكزخان ورماه بالجارية فأحضره جنكزخان وعدد عليه خيانة استاذه وقتله [ مسير التتر بعد مهلك خوارزم شاه من العراق إلى اذربيجان وما وراءها من البلاء هنالك ] ولما وصل التتر إلى الرى في طلب خوارزم شاه محمد بن تكش سنة سبع عشرة وستمائة ولم يجدوه عادوا إلى همذان واكتسحوا ما مروا عليه وأخرج إليهم أهل همذان ما حضرهم من الاموال والثياب والدواب فأتوهم ثم ساروا إلى زنجان ففعلوا كذلك ثم إلى قزوين فامتنعوا منهم فحاصروها وملكوها عنوة واستباحوها ويقال ان القتلى بقزوين زادوا على أربعين ألفا ثم هجم عليهم الشتاء فساروا إلى اذربيجان على شأنهم من القتل والاكتساح وصاحبها يومئذ أزبك بن البهلوان مقيم بتبريز عاكف على لذاته فراسلهم وصانعهم وانصرفوا إلى بوقان ليشتوا بالسواحل ومروا إلى بلاد الكرج فجمعوا لقتالهم فهزمهم التتر وأثخنوا فيهم فبعثوا إلى ازبك صاحب اذربيجان والى الاشرف بن العادل بن أيوب صاحب خلاط والجزيرة يطلبون اتصال أيديهم على مدافعة التتر وانضاف إلى التتر اقرش من موالى ازبك واليه جموع من التركمان والاكراد وسار مع التتر إلى الكرج واكتسحوا بلادهم وانتهوا إلى بلقين وسار إليهم الكرج فلقيهم اقرش أولا ثم لقيهم التتر فانهزم الكرج وقتل منهم ما لا يحصى(5/113)
وذلك في ذى القعدة من سنة سبع عشرة ثم عاد التتر إلى مراغة ومروا بتبريز فصانعهم صاحبها كعادته وانتهوا إلى مراغة فقاتلوها أياما وبها امرأة تملكها ثم ملكوها في صفر سنة ثمانى عشرة واستباحوها ثم رحلوا عنها إلى مدينة اربل وبها مظفر الدين بن فاستمد بدر الدين صاحب الموصل فأمده بالعساكر ثم هم بالخروج لحفظ الدروب على بلاده فجاءت كتب الخليفة الناصر إليهم جميعا بالمسير إلى دقوقا ليقيموا بها
مع عساكره ويدافع عن العراق وبعث معهم بشتمر كبير امرائه وجعل المقدم على الجميع مظفر الدين صاحب اربل فخاموا عن لقاء التتر وخام التتر عن لقائهم وساروا إلى همذان وكان لهم بها شحنة منذ ملكوها أولا فطالبوه بفرض المال على أهلها وكان رئيس همذان شريفا علويا قديم الرياسة بها فحضهم على ذلك فضجروا وأساؤا الرد عليه وأخرجوا الشحنة وقاتلوا التتر وغضب العلوى فتسلل عنهم إلى قلعة بقربها فامتنع وزحف التتر إلى البلد فملكوه عنوة واستباحوه واستلحموا أهله ثم عادوا إلى اذربيجان فملكوا ادربيل واستباحوها وخربوها وساروا إلى تبريز وقد فارقها ازبك بن البهلوان صاحب اذربيجان واران وقصد لقجوان وبعث بأهله وحرمه إلى حوى فرارا من التتر لعجزه وانهماكه فقام بأمر تبريز شمس الدين الطغرائي وجمع أهل البلد واستعد للحصار فأرسل إليه التتر في المصانعة فصانعهم وساروا إلى مدينة سوا فاستباحوها وخربوها وساروا إلى بيلقان فحاصروها وبعثوا إلى أهل البلد رجلا من أكابرهم يقرر معهم في المصانعة والصلح فقتلوه فأسرى التتر في حصارهم وملكوا البلد عنوة في رمضان سنة ثمان عشرة واستلحموا أهلها وأفحشوا في القتل والمثلة حتى بقروا البطون على الاجنة واستباحوا جميع الضاحية قتلا ونهبا وتخريبا ثم ساروا إلى قاعدة اران وهى كنجة ورأوا امتناعها فطلبوا المصانعة من أهلها فصانعوهم ولما فرغوا من أعمال اذربيحان واران ساروا إلى بلاد وكانوا قد جمعوا لهم واستعدوا ووقعوا في حدود بلادهم فقاتلهم التتر فهزموهم إلى بلقين قاعدة ملكهم فجمعوا هنالك ثم خاموا عن لقائهم لما رأوا من اقتحامهم المضائق والجبال فعادوا إلى بلقين واستولى التتر على نواحيها فخربوها كيف شاؤا ولم يقدروا على التوغل فيها لكثرة الاوعار والدوسرات فعادوا عنها ثم قصدوا درنبر شروان وحاصروا مدينة سماهى وفتكوا في أهلها ووصلوا إلى السور فعالوه باشلاء القتلى حتى ساموه واقتحموا البلد فأهلكوا كل من فيه ثم قصدوا الدرنبر فلم يطيقوا عبوره فأرسلوا إلى شروان في الصلح فبعث إليهم
رجالا من أصحابه فقتلوا بعضهم واتخذوا الباقين أذلاء فسلكوا بهم درنبر شروان وخرجوا إلى الارض الفسيحة وبها أمم القفجاق واللان واللكن وطوائف من الترك(5/114)
مسلمون وكفار فأوقعوا بتلك الطوائف واكتسحوا عامة البسائط وقاتلهم قفجاق واللان ودافعوهم ولم يطق التتر مغالبتهم ورجعوا وبعثوا إلى القفجاق وهم واثقون بمسالمتهم فأوقعوا بهم وجر من كان بعيدا منهم إلى بلاد الروس واعتصم آخرون بالجبال والغياض واستولى التتر على بلادهم وانتهوا إلى مدينتهم الكبرى سراى على بحر نيطش المتصل بخليج القسطنطينية وهى مادتهم وفيها تجارتهم فملكها التتر وافترق أهلها في الجبال وركب بعضهم إلى بلاد الروم في ايالة بني فليح ارسلان ثم سار التتر سنة عشر وستمائة من بلاد قفجاق إلى بلاد الروس المجاورة لها وهى بلاد فسيحة وأهلها يدينون بالنصرانية فساروا إلى مدافعتهم في تخوم بلادهم ومعهم جموع من القفجاق سافروا إليهم فاستطرد لهم التتر مراحل ثم كروا عليهم وهم غارون فطاردهم القفجاق والروم أياما ثم انهزموا وأثخن التتر فيهم قتلا وسبيا ونهبا وركبوا السفن هاربين إلى بلاد المسلمين وتركوا بلادهم فاكتسحها التتر ثم عادوا إليها وقصدوا بلغار أواخر السنة واجتمع أهلها وساروا للقائهم بعد أن أكمنوا لهم ثم استطردوا أمامهم وخرج عليهم الكمناء من خلفهم فلم ينج منهم الا القليل وارتحلوا عائدين إلى جنكزخان بأرض الطالقان ورحع القفجاق إلى بلادهم واستقروا فيها والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء * (أخبار خراسان بعد مهلك خوارزم شاه) * قد كنا قدمنا مهلك خوارزم شاه ومسير هؤلاء التتر المغربة في طلبه ثم انتهائهم بعد مهلكه إلى النواحى التى ذكرناها وكان جنكزخان بعد اجفال خوارزم شاه من جيحون وهو سمرقند قد بعث عسكرا إلى ترمذ فساروا منها إلى كلات من أحصن القلاع إلى جانب جيحون فاستولوا عليها وأوسعوها نهبا وسير عسكرا آخر إلى فرغانة وكذلك
عسكرا آخر إلى خوارزم وعسكرا آخر إلى خوزستان فعبر عسكر خراسان إلى بلخ وملكوها على الامان سنة سبع وستمائة ولم يعرضوا لها بعيث وأنزلوا شحنتهم بها ثم ساروا إلى زوزن وميمنة وايدخوى وفارياب فملكوها وولوا عليها ولم يعرضوا لاهلها بأذى وانما استنفروهم لقتال البلد معهم ثم ساروا إلى الطالقان وهى ولاية متسعة فقصدوا قلعة صور كوه من أمنع بلادها فحاصروها ستة أشهر وامتنعت عليهم فسار إليهم جنكزخان بنفسه وحاصرها أربعة أشهر أخرى حتى إذا رأى امتناعها أمر بنقل الخشب والتراب حتى اجتمع منه تل مشرف على البلد واستيقن أهل البلد الهلكة واجتمعوا وفتحوا الباب وصدقوا الحملة فنجا الخيالة وتفرقوا في الجبال والشعاب وقتل الرجالة ودخل التتر البلد فاستباحوها ثم بعث جنكزخان صهره قفجاق قوين إلى خراسان ومرواسا وقاتلوها فامتنعت عليهم وقتل قفجاق قوين فاقاموا على حصارها(5/115)
وملكوها عنوة واستباحوها وخربوها ويقال قتل فيها أزيد من سبعين ألفا وجمع فكان كالتلال العظيمة وكان رؤساؤها بنى حمزة بخوارزم منذ ملكها خوارزم شاه تكش فعاد إليها اختيار الدين جنكى بن عمر بن حمزة وبو عمه وضبطوها ثم بعث جنكزخان ابنه في العساكر إلى مدينة مرو واستنفر أهل البلاد التى ملكوها قبل مثل بلخ واخواتها وكان الناجون من هذه الوقائع كلها قد لحقوا بمرو واجتمع بها ما يزيد على مائتي ألف وعسكروا بطاهرها لا يشكون في الغلب فلما قاتلهم التتر صابروهم فوجدوا في مصابرتهم ما لم يحتسبوه فولوا منهزمين وأثخن التتر فيهم ثم حاصروا البلد خمسة أيام وبعثوا إلى أميرها يستميلونه للنزول عنها فاستأمن إليهم وخرج فأكرموه أولا ثم أمروا باحضار جنده للعرض حتى استكملوا وقبضوا عليهم ثم استكتبوه رؤساء البلد وتجاره وصناعه على طبقاتهم وخرج أهل البلد جميعا وجلس لهم جنكزخان على كرسى من ذهب فقتل الجند في صعبد واحد وقسم العامة رجالا
وأطفالا ونساء بين الجند فاقتسموهم وأخذوا أموالهم وامتحنوهم في طلب المال ونبشوا القبور في طلبه ثم أحرقوا البلد وتربة السلطان سنجر ثم استلحم في اليوم الرابع أهل البلد جميعا يقال جميعا يقال كانوا سبعمائة ثم ساروا إلى نيسابور وحاصروها خمسا ثم اقتحموها عنوة وفعلوا فيها فعلهم في مرو أو أشد ثم بعثوا عسكرا إلى طوس وفعلوا فيها مثل ذلك وخربوها وخربوا مشهد علي بن موسى الرضا ثم ساروا إلى هراة وهى من أمنع البلاد فحاصروها عشرا وملكوها وأمنوا من بقى من أهلها وأنزلوا عندهم شحنة وساروا لقتال جلال الدين بن خوارزم شاه كما يذكر بعد فوثب أهل هراة على الشحنة وقتلوه فلما رجع التتر منهزمين اقتحموا البلد واستباحوه وخربوه وأحرقوه ونهبوا نواحيه اجمع وعادوا إلى جنكزخان بالطالقان وهو يرسل السرايا في نواحى خراسان حتى أتوا عليها تخريبا وكان ذلك كله سنة سبع عشرة وبقيت خراسان خرابا وتراجع أهلها بعض الشئ فكانوا فوضى واستبد آخرون في بعض مدنها كما نذكر ذلك في أماكنه والله أعلم [ أخبار السلطان جلال الدين منكبرس مع التتر بعد مهلك خوارزم شاه واستقراره بغزنة ] ولما توفى السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش بجزيرة بحر طبرستان ركب ولده البحر إلى خوارزم يقدمهم كبيرهم جلال الدين منكبرس وقد كان وثب بها بعد منصرف تركمان خاتون أم خوارزم شاه رجل من العيارين فضبطها وأساء السيرة وانطلقت إليها أيدى العيارين ووصل بعض نواب الديوان فأشاعوا موت السلطان ففر(5/116)
العيارون ثم جاء جلال الدين واخوته واجتمع الناس إليهم فكانوا معهم سبعة آلاف من العساكر أكثرهم اليارونية قرابة أم خوارزم شاه فمالوا إلى أولاغ شاه وكان ابن أختهم كما مر وشاوروا في الوثوب بجلال الدين وخلعه ونمى الخبر إليه فسار إلى خراسان
في ثلثمائة فارس وسلك المفازة إلى بلد نسا فلقى هنالك رصدا من التتر فهزمهم ولجأ فلهم إلى نسا وكان بها الاسير اختيار زنكى بن محمد بن عمر بن حمزة قد رجع إليها من خوارزم كما قدمناه وضبطها فاستلحم فل التتر وبلغ وبعث إلى جلال الدين بالمدد فسار إلى نيسابور ثم وصلت عساكر التتر إلى خوارزم بعد ثلاث من مسير جلال الدين فأجفل أولاغ واخوته وساروا في اتباعه ومروا بنسا فسار معهم اختيار الدين صاحبها واتبعتهم عساكر التتر فأدركوهم بنواحي خراسان وكبسوهم فقتل أولاغ شاه وأخوه انشاه واستولى التتر على ما كان معهم من الاموال والذخائر وافترقت في أيدى الجند والفلاحين فبيعت بأبخس الاثمان ورجع اختيار الدين زنكى إلى نسا فاستبد بها ولم يسم إلى مراسم الملك وكتب له جلال الدين بولايتها فراجع أحوال الملك ثم بلغ الخبر إلى جلال الدين بزحف التتر إلى نيسابور وأن جنكزخان بالطالقان نيسابور إلى بست واتبعه نائب هراة أمر ملك ابن خال السلطان خوارزم شاه في عشرة آلاف فارس هاربا أمام التتر وقصد سجستان فامتنعت عليه فرجع واستدعاه جلال الدين فسار إليه واجتمعوا فكبسوا التتر وهم محاصرون قلعة قندهار فاستلحموهم ولم يفلت منهم أحد فرجع جلال الدين إلى غزنة وكانت قد استولى عليها اختيار الدين قربوشت صاحب الغور عندما ساروا إليها عن جلال الدين صريخا عن أمس ملك سجستان فخالفه قربوشت إليها وملكها فثار به صلاح الدين النسائي وإلى قلعتها وقتله وملك غزنة رضا الملك شرف الدين بن أمور ففتك به رضا الملك واستبد بغزنة فلما ظفر جلال الدين بالتتر على قندهار رجع إلى غزنة فقتله وأوطنها وذلك سنة ثمان عشرة * (استيلاء التتر على مدينة خوارزم وتخريبها) * قد كنا قدمنا ان جنكزخان بعدما أجفل خوارزم شاه من جيحون بعث عساكره إلى النواحى وبعث إلى مدينة خوارزم عسكرا عظيما لعظمها لانها كرسى الملك وموضع
العساكر فسارت عساكر التتر إليها مع ابنه جنطاى واركطاى فحاصروها خمسة أشهر ونصبوا عليها الآلات فامتنعت فاستمدوا عليها جنكزخان فأمدهم بالعساكر متلاحقة فزحفوا إليها وملكوا جانبا منها وما زالوا يملكونها ناحية ناحية إلى أن استوعبوها ثم فتحوا السد الذى يمنع ماء جيحون عنها فسار إليها جيحون فغرقها وانقسم أهلها بين(5/117)
السيف والغرق هكذا قال ابن الاثير وقال النسائي الكاتب ان دوشن خان بن جنكزخان عرض عليهم الامان فخرجوا إليه فقتلهم أجمعين وذلك في محرم سنة سبع عشرة ولما فرغ التتر من خراسان وخوارزم رحعوا إلى ملكهم جنكزخان بالطالقان * (خبر آبنايخ نائب بخارى وتغلبه على خراسان فراره أمام التتر إلى الرى) * كان آبنايخ أمير الامراء والحجاب أيام خوارزم شاه وولاه نانيا بخارى فلما ملكها التتر عليه كما قلناه أجفل إلى المفازة وخرج منها إلى نواحى نسا وراسله اختيار الدين صاحبها يعرضها عليه للدخول عنده فأبى فوصله وأمده وكان رئيس بشخوان من قرى نسا أبو الفتح فداخل التتر فكتب إلى شحنة خوارزم بمكان آبنايخ فجرد إليهم عسكرا فهزمه آبنايخ وأثخن فيهم وساروا إلى بشخوان فحاصروها وملكوها عنوة وهلك أبو الفتح أيام الحصار ثم ارتحل آبنايخ إلى ابيورد وقد تغلب تاج الدين عمر بن مسعود على ابيورد وما بينها وبين مرو فجبى خراجها واجتمع عليه جماعة من أكابر الامراء وعاد إلى نسا وقد توفى نائبها اختيار الدين زنكى وملك بعده ابن عمه عمدة الدين حمزة بن محمد بن حمزة فطلب منه آبنايخ خراج سنة ثمان عشرة وسار إلى شروان وقد تغلب عليها ايكجى بهلوان فهزمه وانتزعها من يده ولحق بهلوان بجلال الدين في الهند واستولى آبنايخ خان على عامة خراسان وكان تكين بن بهلوان متغلبا بمرو فعبر جيحون وكبس شحنة التتر ببخارى فهزموه سنة سبع ورجع إلى شروان وهم باتباعه ولحقوا بآبنايخ خان على جرجان فهزموه ونجا إلى غياث الدين يترشاه بن خوارزم شاه بالرى فأقام عنده إلى
أن هلك كما نذكر ان شاء الله تعالى * (خبر ركن الدين غور شاه صاحب العراق من ولد خوارزم شاه) * قد كان تقدم لنا أن السلطان لما قسم ممالكه بين أولاده جعل العراق في قسمة غورشاه منهم ولما أجفل السلطان إلى ناحية الرى لقيه ابنه غورشاه ثم سار من الرى إلى كرمان فملكها تسعة أشهر ثم بلغه أن جلال الدين محمد بن آيه القزويني وكان بهمذان أراد أن يملك العراق واجتمع إليه بعض الامراء وأن مسعود بن صاعد قاضى اصبهان مائل إليه فعاجله ركن الدولة واستولى على اصبهان وهرب القاضى إلى الاتابك سعد بن زنكى صاحب فارس فأجاره وبعث ركن الدين العساكر لقتال همذان فتخاذلوا ورجعوا دون قتال ثم مضى إلى الرى ووجد بها قوما من الاسماعيلية يحاولون اظهار دعوتهم ثم زحف التتر إلى ركن الدولة فحاصروه بقلعة رواند واقتحموها فقاتلوه واستأمن إليهم ابن آيه صاحب همذان فأمنوه ودخلوا همذان فولوا عليها علاء الدين الشريف(5/118)
الحسينى عوضا من ابن آيه * (خبر غياث الدين يترشاه صاحب كرمان من ولد السلطان خوارزم شاه) * قد كنا قدمنا أن السلطان خوارزم شاه ولى ابنه غياث الدين يترشاه كرمان وكيش ولم ينفذ إليها أيام أبيه ولما كانت الكبسة على قزوين خلص إلى قلعة ماروت من نواحى اصبهان وأقام عند صاحبها ثم رجع إلى اصبهان ومر به التتر ذاهبين إلى اذربيجان فحاصروه وامتنع عليهم وأقام بها إلى آخر سنة عشرين وستمائة فلما جاء أخوه ركن الدين غورشاه من كرمان إلى اصبهان لقيه هنالك وحرضه غياث الدين على كرمان فنهض إليها وملكها فلما قتل ركن الدين كما قلناه سار غياث الدين إلى العراق وكان ركن الدين لما ولاه أبوه العراق جعل معه الامير بقاطابستى اتابكين فاستبد عليه فشكاه إلى أبيه وأذن له في حبسه فحبسه ركن الدين بقلعة سرجهان فلما قتل ركن الدين كما قلناه أطلقه
نائب القلعة أسد الدين حولي فاجتمع عليه الناس وكثير من الامراء واستماله غياث الدين وأصهر إليه بأخته وماطله في الزفاف يستبرئ ذهاب الوحشة بينهما وكانت اصبهان بعد مقتل ركن الدين غلب عليها ازبك خان واجتمعت عليه العساكر وزحف إليه الامير بقاطابستى فاستنجد ازبك غياث الدين فانجده بعسكر مع الامير دولة ملك وعاجله بقاطابستى فهزمه بظاهر اصبهان وقتله وملكها ورجع دولة ملك إلى غياث الدين فزحف غياث الدين إلى اصبهان وأطاعه القاضى والرئيس صدر الدين وبادر بقاطابستى إلى طاعته ورضى عنه غياث الدين وزف إليه أخته واستولى غياث الدين على العراق ومازندان وخراسان وأقطع مازندان وأعمالها دولة ملك وبقاطابستى همذان وأعمالها ثم زحف غياث الدين إلى اذربيجان وشن الغارة على مراغة وترددت رسل صاحب اذربيجان ازبك بن البهلوان في المهادنة فهادنه وتزوج بأخته صاحب بقحوان وقويت شوكته وعظم فكان بقاطابستى في دولته وتحكم فيها ثم حدثته نفسه بالاستبداد وانتقض وقصد اذربيجان وبها مملوكان منتقضان على ازبك بن البهلوان فاجتمعا معه وزحف إليهم غياث الدين فهزمهم ورجعوا مغلوبين إلى اذربيجان ويقال ان الخليفة دس بذلك إلى بقاطابستى وأغراه بالخلاف على غياث الدين ثم لحق بغياث الدين آبنايخ خان نائب بخارى مفلتا من واقعته مع التتر بجرجان فأكرمه وقدمه ونافسه خال السلطان دولة ملك وأخوه وسعوا إليها فزجرهما عنه فذهبا مغاضبين ووقع دولة ملك في عساكر التتر بمرو وزنجان فقتل وهرب ابنه بركة خان إلى ازبك باذربيجان ثم أوقع عساكر التتر بقاطابستى وهزموه ونجا إلى الكرم وخلص الفل إلى غياث الدين وعاد التتر إلى ما وراء جيحون ثم تذكر صاحب فارس(5/119)
سعد الدين بن زنكى وكاتبته أهل اصبهان حين كانوا منهزمين عنه فسار إليه وحاصره في قلعة اصطخر وملكها ثم سار إلى شيراز وملكها عليه عنوة ثم سار إلى قلعة حرة
فحاصرها حتى استأمنوا وتوفى عليها آبنايخ خان ودفن هنالك بشعب سلمان وبعث عسكرا إلى كازرون فملكها عنوة واستباحها ثم سار إلى ناحية بغداد وجمع الناس الجموع من اربل وبلاد الجزيرة ثم راسل غياث الدين في الصلح فصالحه ورجع إلى العراق * (أخبار السلطان جلال الدين منكبرس وهزيمته أمام التتر ثم عوده إلى الهند) * قد كان تقدم لنا أن أباه خوارزم شاه لما قسم البلاد بين ولديه جعل في قسمه غزنة وباميان والغور وبست وهكياباد وما يليها من الهند واستناب عليها ملك وأنزله غزنة فلما انهزم السلطان خوارزم شاه أمام التتر زحف إليه حربوشة وإلى الغور فملكها من يده وكان من أمره ما قدمناه إلى أن استقر بها رضا الملك شرف الدين ولما أجفل جلال الدين من نيسابور إلى غزنة واستولى التتر على بلاد خراسان وهرب أمراؤها فلحقوا بجلال الدين فقتل نائب هراة أمين الملك خال السلطان وقد قدمنا محاصرته بسجستان ثم مراجعته طاعة السلطان جلال الدين ولحق به أيضا سيف الدين بقراق الخلخى وأعظم ملك من بلخ ومظهر ملك والحسن فزحف كل منهم في ثلاثين ألفا ومع جلال الدين من عسكره مثلها فاجتمعوا وكبسوا التتر المملوكة محاصرين قلعة قندهار كما قلناه واستلحموهم ولحق فلهم بجنكزخان فبعث ابنه طولى خان في العساكر فساروا إلى جلال الدين فلقيهم بشر وان وهزمهم وقتل طولى خان بن جنكز في المعركة وذهب التتر منهزمين واختلف عسكر السلطان جلال الدين على الغنائم وتنازع سيف الدين بقراق مع امين الملك نائب هراة وتحيز إلى العراق وأعظم ملك ومظفر ملك وقاتلوا أمين الملك فقتل أخ لبقراق وانصرف مغاضبا إلى الهند وتبعه أصحابه ولاطفهم جلال الدين ووعظهم فلم يرجعوا وبلغ خبر الهزيمة إلى جنكزخان فسار في أمم التتر وسار جلال الدين فلقى مقدمة عساكره فلم يفلت من التتر الا القليل ورجع فنزل على نهر السند وبعث بالصريخ إلى الامراء المنحرفين عنه وعاجله جنكزخان قبل رجوعه فهزمه بعد
القتال والمصابرة ثلاثا وقتل أمين الملك قريب أبيه واعترض المنهزمين نهر السند فغرق أكثرهم وأسرا بن جلال الدين فقتل وهو ابن سبع سنين ولما وقف جلال الدين على النهر والتتر في اتباعه فقتل أهله وحرمه جميعا واقتحم النهر بفرسه فخلص إلى عدوته وتخلص من عسكره ثلثمائة فارس وأربعة آلاف راجل وبعض أمرائه ولقوه بعد ثلاث وتخلص بعض خواصه بمركب مشحون بالاقوات والملابس فسد من حاجتهم وتحصن(5/120)
أعظم ملك ببعض القلاع وحاصره جنكزخان وملكها عنوة وقتله ومن معه ثم عاد التتر إلى غزنة فملكوها واستباحوها وأحرقوها وخربوها واكتسحوا سائر نواحيها وكان ذلك كله سنة تسع عشرة ولما سمع صاحب جبل جردي من بلاد الهند بجلال الدين جمع للقائه وخام جلال الدين وأصحابه عن اللقاء لما نهكتهم الحرب فرجعوا ادراجهم وأدركهم صاحب جلال الدين صوري فقاتلهم وهزموه وملكوا أمرهم وبعث إليهم نائب ملك الهند فلاطفهم وهاداهم والله تعالى ولى التوفيق * (أخبار جلال الدين بالهند) * كان جماعة من أصحاب جلال الدين وأهل عسكره لما عبروا إليهم حصلوا عند قباجة ملك الهند منهم بنت أمين الملك خلصت إلى مدينة ارجاء من عمله ومنهم شمس الملك وزير جلال الدين حياة أبيه ومنهم قزل خان بن أمين الملك خلص إلى مدينة كلور فقتله عاملها وقتل قباجة شمس الملك الوزير لخبر جلال الدين بأموره وبعث أمين الملك ولحق بجلال الدين جماعة من أمراء أخيه غياث الدين فقوى بهم وحاصر مدينة كلور وافتتحها وافتتح مدينة ترنوخ كذلك فجمع قباجة للقائه وسار إليه جلال الدين فخام عن اللقاء وهرب وترك معسكره فغنمه جلال الدين بما فيه وسار إلى لهاوون وفيها ابن قباجة ممتنعا عليه فصالحه على مال يحمله ورحل إلى تستشان وبها فخر الدين السلاوى نائب قباجة فتلقاه بالطاعة ثم سار إلى اوجا وحاصرها فصالحوه على المال ثم سار إلى
جانس وهى لشمس الدين اليتمشى من ملوك الهند ومن موالى شهاب الدين الغورى فأطاعه أهلها وأقام بها وزحف إليه ايتش في ثلاثين ألف فارس ومائة ألف راجل وثلثمائة فيل وزحف جلال الدين في عساكره وفي مقدمته جرجان بهلوان ازبك واختلفت المقدمتان فلم يمكن اللقاء وبعث ايتش في الصلح فجنح إليه جلال الدين ثم اجتمع قباجة وايتش وسائر ملوك الهند فخام عن لقائهم ورجع لطلب العراق واستخلف جهان بهلوان الملك على ما ملك من الهند وعبر النهر إلى غزنة فولى عليها وعلى الغور الامير وفاملك واسمه الحسن فزلف وسار إلى العراق وذلك سنة احدى وعشرين بعد مقدمه لها بسنتين * (أحوال العراق وخراسان في ايالة غياث الدين) * كان غياث الدين بعد مسير جلال الدين إلى الهند اجتمع إليه شراد العساكر بكرمان وسار بهم إلى العراق فملك خراسان ومازندان كما تقدم وأقام منهمكا في لذاته واستبد الامراء بالنواحي فاستولى قائم الدين على نيسابور وتغلب يقز بن ايلجى بهلوان على شروان وتملك ينال خطابها تر ونظام الملك اسفراين ونصرة الدين بن محمد مستند(5/121)
بنسا كما مر واستولى تاج الدين عمر بن مسعود التركماني على أبيورد وغياث الدين مع ذلك منهمك في لذاته وسارت إليه عساكر التتر فخرج لهم عن العراق إلى بلاد الجبل واكتسحوا سائر جهاته واشتط عليه الجند وزادهم في الاقطاع والاحسان فلم يشبعهم وأظهروا الفساد وعاثوا في الرعايا وتحكمت أم السلطان غياث الدين في الدولة لاغفاله أمرها واقتفت طريقة تركان خاتون أم السلطان خوارزم شاه وتلقبت بلقبها خداوند جهان إلى أن جاء السلطان جلال الدين فغلب عليه كما فلناه [ وصول جلال الدين من الهند إلى كرمان وأخباره بفارس والعراق مع أخيه غياث الدين ]
ولما فارق جلال الدين الهند كما قلناه سنة احدى وعشرين وسار إلى المفازة وخلص منها إلى كرمان بعد أن لقى بها من المتاعب والمشاق ما لا يعبر عنه وخرج معه أربعة آلاف راكب على الحمير والبقر ووجد بكرمان براق الحاجب نائب أخيه غياث الدين وكان من خبر براق هذا أنه كان حاجبا لكو خان ملك الخطا وسفر عنه إلى خوارزم شاه فأقام عنده ثم ظفر خوارزم شاه بالخطا وولاه حجابته ثم صار إلى خدمة ابنه غياث الدين ترشه بمكران فأكرمه ولما سار جلال الدين إلى الهند ورجع عنه التتر سار غياث الدين لطلب العراق فاستناب براق في كرمان فلما جاء جلال الدين من الهند اتهمه وهم بالقبض عليه فنهاه عن ذلك وزيره شرف الملك فخر الدين على بن أبى القاسم الجندي خواجا جهان أن يستوحش الناس لذلك ثم سار جلال الدين إلى شيراز وأطاعه صاحبها برد الاتابك وأهدى له وكان أتابك فارس سعد بن زنكى قد استوحش من غياث الدين فاصطلحه جلال الدين وأصهر إليه في ابنته ثم سار إلى اصبهان فأطاعه القاضى ركن الدين مسعود ابن صاعد وبلغ خبره إلى أخيه غياث الدين وهو بالرى فجمع لحربه وبعث جلال الدين يستعطفه وأهدى له سلب طولى خان بن جنكر خان الذى قتل في حرب بزوان كما مر وفرسه وسيفه ودس إلى الامراء الذين معه بالاستمالة فمالوا إليه ووعدوه بالمظاهرة ونمى الخبر إلى غياث الدين فقبض على بعضهم ولحق الآخرون بجلال الدين فجاؤا به إلى المخيم قمال إليه أصحاب غياث الدين وعساكره واستولى على مخيمه وذخائره وأمه ولحق غياث الدين بقلعة سلوقان وعاتب جلال الدين أمه في فراره فاستدعته وأصلحت بينهما ووقف غياث الدين موقف الخدمة لاخيه السلطان جلال الدين وجاء المتغلبون بخراسان والعراق واذعنوا إلى الطاعة وكانوا من قبل مستبدين على غياث الدين فاختبر السلطان طاعتهم وعمل فيها على شاكلتها والله أعلم * (استيلاء ابن آبنايخ على نسا) *(5/122)
كان نصرة الدين بن محمد قد استولى على نسا بعد ابن عمه اختيار الدين كما مر واستناب في أموره محمد بن أحمد النسبائى المنشى صاحب التاريخ المعتمد عليه في نقل أخبار خوارزم شاه وبنيه فأقام فيها تسع عشرة سنة مستندا على غياث الدين ثم انتقض عليه و قطع الخطبة له فسرح إليه غياث الدين العساكر مع طوطى بن آبنايخ وأنجده بارسلان وكاتب المتغلبين بمساعدته فراجع نصرة الدين محمد بن حمزة نفسه وبعث نائبه محمد بن أحمد المنشى إلى غياث الدين بمال صالحه عليه فبلغه الخبر في طريقه بوصول جلال الدين واستيلائه على غياث الدين فأقام باصبهان ينتظر صلاح السابلة وزوال الثلج ثم سار إلى همذان فوجد السلطان غائبا في غزو الاتابك بقطابستى وكان من خبره أنه صهر إلى غياث الدين على أخته كما قدمنا فهرب بعد خلعه إلى اذربيجان واتفق هو والاتابك سعد وسار اليهما جلال الدين فخالفه إلى همذان وسار إلى جلال الدين وكبسه هنالك فأخذه ثم أمنه وعاد إلى مخيمه ولقيه وافد نصرة الدين على بلاد نسا وما يتاخمها وبعث إلى ابن آبنايخ بالافراج عن نسا ثم بلغ الخبر بعد يومين بهلاك نصرة الدين واستيلاء ابن آبنايخ على نسا * (مسير السلطان جلال الدين إلى خوزستان ونواحى بغداد) * ولما استولى السلطان جلال الدين على أخيه غياث الدين واستقامت أموره سار إلى خوزستان شاتيا وحاصر قاعدتها وبها مظفر الدين وجه السبع مولى الخليفة الناصر وانتهت سراياه في الجهات إلى بادرايا إلى البصرة فأوقع بهم تلكين نائب البصرة وجاءت عساكر الناصر مع مولاه جلال الدين فشتمر وخاموا عن اللقاء وأوفد ضياء الملك علاء الدين محمد بن مودود السوى العارض على الخليفة ببغداد عاتبا وكان في مقدمته جهان بهلوان فلقى في طريقه جمعا من العرب وعساكر الخليفة فرجع وأوقع بهم ورجعوا إلى بغداد وجئ بأسرى منهم إلى السلطان فأطلقهم واستعد أهل بغداد للحصار وسار السلطان إلى يعقوبا على سبع فراسخ من بغداد ثم إلى دقوقا
فملكها عنوة وخربها وقاتلت بعوثه عسكر تكريت وترددت الرسل بينه وبين مظفر الدين صاحب اربل حتى اصطلحوا واضطربت البلد بسبب ذلك وأفسد العرب السابلة وأقام ضياء الملك ببغداد إلى أن ملك السلطان مراغة والله تعالى أعلم * (أولية الوزير شرف الدين) * هذا الوزير هو فخر الدين علي بن القاسم خواجة جهان ويلقب شرف الملك أصله من وكان أول أمره ينوب عن صاحب الديوان بها وكان نجيب الدين(5/123)
الشهرستاني وزير السلطان وابنه بهاء الملك وزير الجند وفخر الدين هذا يخدمه بها ثم تمكن من منصب الاسعاء وطمح إلى مغالبة نجيب الدين على الوزارة وسعى عند السلطان بأنه تناول من جبايتها مائنى ألف دينار فسامحه بها السلطان ولم يعرض له ثم سعى بفخر الدين ثانية فولى وزارة الجند وأقام بها أربع سنين حتى عبر السلطان إلى بخارى فكثرت به الشكايات فأمر بالقبض عليه فاختفى ولحق بالطالقان إلى أن اتصل بجلال الدين حين كان بغزنة بعد مهلك ابنه فرتبه في الحجابة إلى أن أجاز بحر السند وكان وزيره شهاب الدين الهروي فقتله قباجة ملك الهند كما مر واستوزر جلال الدين مكانة فخر الدين هذا ولقبه شرف الملك ورفع رتبته على الوزراء وموقفه وسائر آدابه وأحواله * (عود التتر إلى الرى وهمذان وبلاد الجبل) * وبعد رجوع التتر المغربة من اذربيجان وبلاد قفجاق وسروان كما قدمناه وخراسان يومئذ فوضى ليس بها ولاة الا متغلبون من بعض أهلها بعد الخراب الاول والنهب فعمروها فبعث جنكزخان عسكرا آخر من التتر إليها فنهبوها ثانيا وخربوها وفعلوا في ساوة وقاشان وقم مثل ذلك ولم يكن التتر أولا أصابوا منها ثم ساروا إلى همذان فاجفل أهلها وأوسعوها نهبا وتخريبا وساروا في اتباع أهلها إلى أذربيجان وكبسوهم
في حدودها فأجفلوا وبعضهم قصد تبريز فسار التتر في اتباعهم وراسلوا صاحبها ازبك ابن البهلوان في اسلام من عنده فبعث بهم بعد ان قتل جماعة منهم وبعث برؤوسهم وصانعهم بما أرضاهم فرجعوا عن بلاده والله تعالى أعلم * (وقائع اذربيجان قبل مسير جلال الدين إليها) * لما رجع التتر من بلاد قفجاق والروس وكانت طائفة من قفجاق لما افترقوا وفروا أمام التتر ساروا إلى درنبر شروان واسم ملكه يومئذ رشيد وسألوه المقام في بلاده وأعطوه الرهن على الطاعة فلم يجبهم ريبة بهم فسألوه الميرة فأذن لهم فيها فكانوا يأتون إليها زرافات وتنصح له بعضهم بأنهم يرومون الغدر به وطلب منه الانجاد بعسكره وسار في أثرهم فأوقع بهم وهم باخعون بالطاعة فرجع ذلك القفجاقى بالعسكر ثم بلغه انهم رحلوا من مواضعهم فاتبعهم ثانيا بالعساكر حتى أوقع بهم ورجع إلى رشيد ومعه جماعة منهم مستأمنين وقد اختفى فيهم كبير من مقدميهم وتلاحق به جماعة منهم فاعتزموا على الوثوب فهرب خائفا ولحق ببلاد شروان واستولت طائفة القفجاق على القلعة وعلى مخلف رشيد فيها من المال والسلاح واستدعوا أصحابهم فلحقوا بهم(5/124)
واعتزموا وقصدوا قلعة الكرج فحاصروها وخالفهم رشيد إلى القلعة فملكها وقتل من وجد بها منهم فعادوا من حصار تلك المدينة إلى درنبر وامتنعت عليهم القلعة فرجعوا إلى تلك المدينة فاكتسحوا نواحيها وساروا إلى كنجة من بلاد اران وفيها مولى لازبك صاحب اذربيجان فراسلوه بطاعة ازبك فلم يجبهم إليها وعدد عليهم في الغدر ونهب البلاد واعتذروا بأنهم انما غدروا شروان لانه منعهم الجواز إلى صاحب اذربيجان وعرضوا عليه الرهن فجاءهم بنفسه ولقوه في عدد قليل فعدا عن محال التهمة فبعث بطاعتهم إلى سلطانه وبعث بذلك إلى أزبك وجاء بهم إلى كنجة فأفاض فيهم الخلع والاموال وأصهر إليهم وأنزلهم بجبل كيكلون وجمع لهم الكرج فآواهم
إلى كنجة ثم سار إليهم أمير من أمراء قفجاق ونال منهم فرجعوا إلى جبل كيكلون وسار القفجاق الذين كبسوهم إلى بلاد الكرج فاكتسحوها وعادوا فاتبعهم الكرج واستنقذوا الغنائم منهم وقتلوا ونهبوا فرحل القفجاق إلى بردعة وبعثوا إلى أمير كنجة في المدد على الكرج فلم يجبهم فطلبوا رهنهم فلم يعطهم فمدوا أيديهم في المسلمين واسترهنوا أضعاف رهنهم وثار بهم المسلمون من كل جانب فلحقوا بشر وان وتخطفهم المسلمون والكرج وغيرهم فافنوهم وبيع سبيهم وأسراهم بابخس ثمن وذلك كله سنة تسع عشرة وكانت مدينة فيلقان من بلاد اران فأخر بها التتر كما قدمناه وساروا عنها إلى بلاد قفجاق فعاد إليها أهلها وعمروها وسار الكرج في رمضان من هذه السنة إليها فملكوها وقتلوا أهلها وخربوها واستفحل الكرج ثم كانت بينهم وبين صاحب خلاط غازى بن العادل بن أيوب واقعة هزمهم فيها وأثخن فيهم كما يأتي في دولة بنى أيوب ثم انتقض على شروان شاه ابنه وملك البلاد من يده فسار إلى الكرج واستصرخ بهم وساروا معه فبرز ابنه إليهم فهزمهم واثخن فيهم فتشاءم الكرج بشر وان شاه فطردوه عن بلادهم واستقر ابنه في الملك واغنبط الناس بولايته وذلك سنه ثنتين وعشرين ثم سار الكرج من تفليس إلى اذربيجان وأتوها من الاوعار والمضائق يظنون صعوبتها على المسلمين فسار المسلمون وولجوا المضائق إليهم فركب بعضهم بعضا منهزمين ونال المسلمون منهم أعظم النيل وبينما هم يتجهزون لاخذهم الثار من المسلمين وصلهم الخبر بوصول جلال الدين إلى مراغة فرجعوا إلى مراسلة ازبك صاحب اذربيجان في الاتفاق على مدافعته وعاجلهم جلال الدين عن ذلك كما نذكره ان شاء الله تعالى * (استيلاء جلال الدين على اذربيجان وغزو الكرج) * قد تقدم لنا مسير جلال الدين في نواحى بغداد وما ملك منها وما وقع بينه وبين صاحب(5/125)
اربل من الموافقة والصلح ولما فرغ من ذلك سار إلى اذربيجان سنة ثنتين وعشرين وقصد مراغة أولا فملكها وأقام بها وأخذ في عمارتها وكان بغان طابش خال أخيه غياث الدين مقيما باذربيجان كما مر فجمع عساكره ونهب البلد وسار إلى ساحل اران فشتى هنالك ولما عاث جلال الدين في نواحى بغداد كما قدمناه بعث الخليفة الناصر إلى بغان طابس وأغراه بجلال الدين وأمره بقصد همذان وأقطعه اياما وما يفتحه من البلاد فعاجله جلال الدين وصبحه بنواحي همذان على غرة وعاين الجند فسقط في يده وأرسل زوجته أخت السلطان جلال الدين فاستأمنت له فآمنه وجرد العساكر عنه وعاد إلى مراغة وكان ازبك بن البهلوان قد فارق تبريز كرسى ملكه إلى كنجة فأرسل جلال الدين إلى أهل تبريز يأمرهم بميرة عسكره فأجابوا إلى ذلك وترددت عساكره إليها فتجمع الناس وشكا أهل تبريز إلى جلال الدين ذلك فأرسل إليهم شحنة يقيم عندهم للنصفة بين الناس وكانت زوجة ازبك بنت السلطان طغرل بك بن ارسلان وقد تقدم ذكرها في أخبار سلفها مقيمة بتبريز حاكمة في دولة زوجها ازبك ثم ضجر أهل تبريز من الشحنة فسار جلال الدين إليها وحاصرها خمسا واشتد القتال وعابهم بما كان من اسلام أصحابه إلى التتر فاعتذروا بأن الامر في ذلك لغيرهم والذنب لهم ثم استأمنوا فآمنهم وأمر ببنت السلطان طغرل وأبقى لها مدينة طغرل إلى خوى كما كانت وجمع ما كان لها من المال والاقطاع وملك تبريز منتصف رجب سنة ثنتين وعشرين وبعث بنت السلطان طغرل إلى خوى مع خادميه فليح وهلال وولى على تبريز ربيبها نظام الدين ابن أخى شمس الدين الطغرائي وكان هو الذى داخله في فتحها وأفاض العدل في أهلها وأوصلهم إليها وبالغ في الاحسان إليهم ثم بلغه انآر الكرج في اذربيجان واران وأرمينية ودرنبر شروان وما فعلوه بالمسلمين فاعتزم على غزوهم وبلغه اجتماعهم برون فسار إليهم وعلى مقدمته جهان بهلوان الكجى فلما تراءى الجمعان وكان الكرج على جبل لم يستهلوه فتسنمت إليهم العساكر الاوعار فانهزموا وقتل منهم أربعة آلاف
أو يزيدون وأسر بعض ملوكهم واعتصم ملك آخر منهم ببعض قلاعهم فجهز جلال الدين عليها عسكرا لحصارها وبعث عساكره في البلاد فعاثوا فيها واستباحوها * (فتح السلطان مدينة كنجة ونكاحه زوجة ازبك) * لما فرغ السلطان من أمر الكرج واستولى على بلادهم وكان قد ترك وزيره شرف الدين بتبريز للنظر في المصالح وولى عليها نظام الملك الطغرائي فقصد الوزير به وكتب إلى السلطان بأنه وعمه شمس الدين داخلوا أهل البلد في الانتقاض واعادة ازبك لشغل السلطان بالكرج فلما بلغ ذلك إلى السلطان أسره حتى فرغ من أمر الكرج وترك(5/126)
أخاه غياث الدين نائبا ما ملك منها وآمره بتدويخ بلادهم وتخريبها وعاد إلى تبريز فقبض على نظام الملك الطغرائي وأصحابه فقتلهم وصادر شمس الدين على مائة ألف وحبسه بمراغة ففر منها إلى ازبك ثم لحق ببغداد وحج سنة خمس وعشرين وبلغ السلطان تنصله في المطاف ودعاؤه على نفسه ن كان فعل شيأ من ذلك فأعاده إلى تبريز ورد عليه أملاكه ثم بعثت إليه زوجة ازبك في الخطبة وان ازبك حنث فيها بالطلاق فحكم قاضى تبريز عز الدين القزويني بحلها للنكاح فتزوجها السلطان جلال الدين وسار إليها فدخل في خوى ومات ازبك لما لحقه من الغم بذلك ثم عاد السلطان إلى تبريز فأقام بها مدة ثم بعث العساكر مع ارخان إلى كنجة من أعمال نقجوان وكان بها ازبك ففارقها وترك بها جلال الدين القمى نائبا فملكها عليه ارخان واستولى على أعمالها مثل وشمكور وبردعة وشنة وانطلقت أيدى عساكره في النهب فشكا ازبك إلى جلال الدين فكتب إلى ارخان بالمنع من ذلك وكان مع ارخان نائب الوزير إلى السلطان فعزل ارخان وذهب مغاضبا إلى أن قتلته الاسماعيلية وفي آخر رمضان من سنة ثنتين وعشرين توفى الخليفة الناصر لسبع وأربعين سنة من خلافته واستخلف بعده ابنه الظاهر أبو نصر محمد بعهده إليه بذلك كما مر في أخبار الخلفاء
* (استيلاء جلال الدين على تفليس من الكرج بعد هزيمته اياهم) * كان هؤلاء الكرج اخوة الارمن وقد تقدم نسبة الارمن إلى ابراهيم عليه السلام وكان لهم استطالة بعد الدولة السلجوقية وكانوا من أهل دين النصرانية فكان صاحب أرمن الروم يخشاهم وبدين لهم بعض الشئ حتى ان ملك الكرج كان يخلع عليه فيلبس خلعته وكان شروان صاحب الدرنبر يخشاهم وكذلك ملكوا مدينة أرجيش من بلاد ارمينية ومدينة فارس وغيرها وحاصروا مدينة خلاط قاعدتها فأسر بها مقدمهم ايواى وفادوه بالرحيل عنهم بعدان اشترطوا عليه متابعته لهم في قلعة خلاط فبنوها وكذلك هزموا ركن الدولة فليحا ارسلان صاحب بلاد الروم لما زحف لاخيه طغرل شاه بارزن الروم استنجدهم طغرل فأنجدوه وهزموا ركن الدين أعظم ما كان ملكا واستفحالا وكانوا يجوسون خلال اذربيجان ويعيثون في نواحيها وكان ثغر تفليس من أعظم الثغور طرزا على من يجاوره منذ عهد الفرس وملكه الكرج سنة خمس عشرة وخمسمائة أيام محمود بن محمود بن ملك شاه ودولة السلجوقية يومئذ أفحل ما كانت وأوسع ايالة وأعمالا فلم يطق ارتجاعه من أيديهم واستولى ابلدكز بعد ذلك وابنه البهلوان على بلاد الجبل والرى واذربيجان واران وارمينية وخلاط وجاورهم بكرسيه ومع ذلك لم يطلق ارتجاعه منهم فلما جاء السلطان جلال الدين إلى اذربيجان(5/127)
وملكها زحف إلى الكرج وهزمهم سنة ثنتين وعشرين وعاد إلى تبريز في مهمه كما قدمناه فلما فرغ من مهمه ذلك وكان قد ترك العساكر ببلاد الكرج مع أخيه غياث الدين ووزيره شرف الدين فأغذ السير إليه غازيا من تبريز وقد جمع الكرج واحتشدوا وأمدهم القفجاق والكز وساروا للقاء فلما التقى الفريقان انهزم الكرج وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب ولم يبقوا على أحد حتى استلحموهم وافنوهم ثم قصد جلال الدين تفليس في ربيع الاول سنة ثلاث وعشرين ونزل قريبا
منها وركب يوما لاستكشاف أحوالها وترتيب مقاعد القتال عليها وأكمن الكمائن حولها واطلع عليهم في خف من العسكر فطمعوا فيه وخرجوا فاستطرد لهم حتى تورطوا والتفت عليهم الكمائن فهربوا إلى البلد والقوم في اتباعهم ونادى المسلمون من داخلها بشعار الاسلام وهتفوا باسم جلال الدين فالقى الكرج بأيديهم وملك المسلمون البلد وقتلوا كل من فيها الا من اعتصم بالاسلام واستباحوا البلد وامتلات أيديهم بالغنائم والاسرى والسبايا وكان ذلك من أعظم الفتوحات هذه سياقة ابن الاثير في فتح تفليس وقال النسائي الكاتب ان السلطان جلال الدين سار نحو الكرج فلما وصل نهر ارس مرض واشتد الثلج ومر بتفليس فبرز أهلها للقتال فهزمهم العساكر وأعجلوهم عن دخولها فملكوها واستباحوها وقتلوا من كان فيها من الكرج والارمن واعتصم أهلها بالقلعة حتى صالحوا على أموال عظيمة فحملوها وتركوهم * (انتقاض صاحب كرمان ومسير السلطان إليه) * ولما اشتغل السلطان جلال الدين بشأن الكرج وتفليس طمع براق الحاجب في الانتقاض بكرمان والاستيلاء على البلاد وقد كنا قدمنا خبره وان غياث الدين استخلفه على كرمان عند مسيره إلى العراق وان جلال الدين لما رجع من الهند ارتاب به وهم بالقبض عليه ثم تركه وأقره على كرمان فلما انتقض الآن وبلغ خبره إلى السلطان وهو معتزم على قصد خلاط فتركها وأغذ السير إليه واستصحب أخاه غياث الدين ووعده بكرمان وترك مخلفه بكيكلون وترك وزيره شرف الدين بتفليس وأمره باكتساح بلاد الكرج وقدم إلى صاحب كرمان بالخلع والمقاربة والوعد فارتاب بذلك ولم يطمئن وقصد بعض قلاعه فاعتصم بها ورجع الرسول إلى جلال الدين فلما علم أن المكيدة لم تتم عليه أقام باصبهان وبعث إليه وأقره على ولايته وعاد وكان الوزير شرف الدين بتفليس كما قلناه وضاق الحال به من الكرج وأرجف عند الامراء بكيكلون أن الكرج
حاصروه بتفليس فسار ارخان منهم في العساكر إلى تفليس ثم وصل البشير من نفجران(5/128)
برجوع السلطان من العراق فأعطاه الوزير أربعة آلاف دينار ثم افترقت العساكر في بلاد الكرج وبها ايوانى مقدمهم مع بعض أعيانهم وبعث عسكرا آخر إلى مدينة فرس واشتد عليها الحصار ثم جمر العساكر عليها وعاد إلى تفليس * (مسير جلال الدين إلى حصار خلاط) * كانت خلاط في ولاية الاشرف بن العادل بن أيوب وكان نائبه بها حسام الدين على الموصلي وكان الوزير شرف الدين حين أقام بتفليس عند مسير جلال الدين إلى كرمان ضاقت على عساكره الميرة فبعث عسكرا منهم إلى أعمال أرزن الروم فاكتسحوا نواحيها ورجعوا فمروا بخلاط فخرج نائبها حسام الدين واعترضهم واستنقذ ما معهم من الغنائم وكتب الوزير شرف الدين بذلك إلى جلال الدين وهو بكرمان فلما عاد جلال الدين من كرمان وحاصر مدينة انى استقر حسام الدين نائب خلاط للامتناع منه فارتحل هو إلى بلاد انحاز ليأتيه على غرة ورحل جلال الدين من انحاز فسار إلى خلاط وحاصر مدينة ملان كرد في ذى القعدة من السنة وانتقل منها إلى مدينة خلاط وحاصرها وضيق مخنقها وقاتلها مرارا واشتد اهل البلد في مدافعته لما يعلمون من سيرة الخوارزمية الالوائية وكانوا متغلبين على الكثير من بسائط ارمينية واذربيجان فبلغه أنهم أفسدوا البلاد وقطعوا السابلة وأخذوا الضريبة من أهل خوى وخربوا سائر النواحى وكتب إليه بذلك نوابه وبنت السلطان طغرل زوجته فلما رحل عن خلاط قصدهم على غرة قبل أن يصعدوا إلى حصونهم بجبالهم الشاهقة فأحاطت بهم العساكر واستباحوهم واقتسموهم بين القتل والغنيمة وعاد إلى تبريز * (دخول الكرج مدينة تفليس واحراقها) * ولما عاد السلطان من خلاط وغز والتركمان فرق عساكره للمشتى وكان الامراء أساؤا
السيرة إلى تفليس وهرب العسكر الذين بها واستلحموا بقيتهم وخربوا البلاد وحرقوها لعجزهم عن حمايتها من جلال الدين وذلك في ربيع سنة أربع وعشرين وستمائة وعند النسائي الكاتب ان استيلاء الفرنج على تفليس واحراقهم اياها كان والسلطان جلال الدين على خلاط وانه لما بلغه ذلك رجع وأغار على التركمان في طريقه لما بلغه من افسادهم فنهب أموالهم وساق مواشيهم إلى موقان وكان خمسها ثلاثين ألفا ثم سار إلى خوى لملاقاة بنت طغرل ثم سار إلى كنجة فبلغه الخبر بانصراف الكرج على تفليس بعد احراقها قال ولما وصل كنجة قدم عليه هنالك خاموش بن الاتابك ازبك ابن البهلوان مؤديا منطقة بلخش قدر الكف مصنوعا عليه منقوشا اسم كيكاوس(5/129)
وجماعة من ملوك الفرس فغير السلطان صناعتها ونقشها على اسمه وكان يلبس تلك المنطقة في الاعياد وأخذها التتر يوم كبسوه وحملت إلى الخان الاعظم ابن جنكزخان بقرا قدوم وأقام خاموش في خدمة السلطان إلى أن صرعه الفقر ولحق بعلاء الملك ملك الاسماعيلية فتوفى عنده انتهى كلام النسائي * (أخبار السلطان جلال الدين مع الاسماعيلية) * كان السلطان جلال الدين بعد وصوله من الهند ولى ارخان على نيسابور واعمالها وكان وعده بذلك بالهند فاستخلف عليها وأقام مع السلطان وكان نائبه بها يتعرض لبلاد الاسماعيلية المتاخمة له بهستان وغيرها بالنهب والقتل فأوفدوا على السلطان وهو بخوى وقد أمنهم يشكون من نائب ارخان وأساء عليهم ارخان في المجاورة ولما عاد السلطان إلى كنجة وكان قد أقطعها وأعمالها لارخان فلما خيم بظاهرها وثب ثلاثة من الباطنية ويسمون الفداوية لانهم يقتلون من أمرهم أميرهم بقتله ويأخذون ديتهم منه وقد فرغوا عن أنفسهم فوثبوا به فقتلوه وقتلتهم العامة وكانت الاسماعيلية قد استولوا على الدامغان أيام الفتنة ووصل رسولهم بعد هذه الواقعة
إلى السلطان وهو ببيلقان فطالبهم بالنزول على الدامغان فطلبوا ضمانها بثلاثين ألف دينار وقررت عليهم وكان الرسول الوافد في خدمة الوزير وهم راجعون إلى اذربيجان فاستخفه الطرب ليلة وأحضر له خمسة من الفداوية معه بالعسكر وبلغ خبرهم السلطان فأمره باحراقهم انتهى كلام النسائي وقال بن الاثير ان السلطان بعد مقتل ارخان سار في العساكر إلى بلاد الاسماعيلية من الموت إلى كردكوه فاكتسحها واخربها وانتقم منهم وكانوا بعد واقعته وقد طمعوا في بلاد الاسلام فكف عاديتهم وقطع اطماعهم وعاد فبلغه أن طائفة من التتر بلغوا الدامغان قريبا من الرى فسار إليهم وهزمهم وأثخن فيهم ثم جاء الخبر بأن جموع التتر متلاحقة لحربه فأقام في انتظارهم في الرى اتتهى * (استيلاء حسام الدين نائب خلاط على مدينة خوى) * قد تقدم لنا أن بنت السلطان طغرل زوجة ازبك بن البهلوان لما ملك السلطان جلال الدين تبريز من يدها أقطعها مدينة خوى ثم تزوجها بعد ذلك ما قدمناه وتركها لما هو فيه من أشغال ملكه فوجدت لذلك ما فقدته من العز والنحكم قال النسائي الكاتب وأضاف لها السلطان مدينتي سلماس وارمينية وعين رجلا لقبض أقطاعها فتنكر لها وأغرى بها الوزير فكاتب السلطان بأنها تداخل الاتابك ازبك وتكاتبه ثم وصل الوزير إلى خوى فنزل بدارها واستصفى وكانت مقيمة بقلعة طلع فحاصرها(5/130)
وسألت المضى إلى السلطان فأبى الا نزولها على حكمه انتهى وكان أهل خوى مع ذلك قد ضجروا من ملكة جلال الدين وجوره وتسلط عساكره فاتفقت الملكة معهم وكاتبوا حسام الدين الحاجب النائب عن الاشرف بخلاط فسار إليهم في مغيب السلطان جلال الدين بالعراق واستولى على مدينة خوى وأعمالها ومدينة وكاتبه أهل نقجوان وسلموها له وعاد إلى خلاط واحتمل الملكة بنت طغرل زوجة جلال
الدين إلى خلاط إلى ان كان ما نذكره * (واقعة السلطان مع التتر على اصبهان) * ثم بلغ الخبر إلى السلطان بأن التتر زحفوا من بلادهم فيما وراء النهر إلى العراق فسار من تبريز للقائهم وجرد أربعة آلاف فارس إلى الرى والدامغان طليعة فرجعوا وأخبروه بوصولهم إلى اصبهان فنهض للقائهم واستخلف العساكر على الاستماتة وأمر القاضى باصبهان باستنفار العامة وبعث التتر عسكرا إلى الرى فبعث السلطان عسكر الاعتراضهم فأوقعوا بالتتر فنالوا منهم ثم التقى الفريقان في رمضان سنة خمس وعشرين لرابعة وصولهم إلى اصبهان وانتقض عنه أخوه غياث الدين وجهان بهلوان الكجى في طائفة من العسكر وانهزمت مسيرة التتر والسلطان في اتباعهم وكانوا قد أكمنوا له فخرجوا من ورائه وثبت واستشهد جماعة من الامراء وأسر آخرون وفيهم علاء الدولة صاحب يزد ثم صدق السلطان عليهم الحملة فافرجوا له وسار على وجهه وانهزمت العساكر فبلغوا فارس وكرمان ورجعت ميمنة السلطان من قاشان فوجدوه قد انهزم فتفرقوا أشتاتا وفقد السلطان ثمانيا وكان بقاطى بستى مقيما باصبهان فاعتزم أهل اصبهان على بيعته ثم وصل السلطان فاقصروا عن ذلك وتراجع بعض العسكر وسار السلطان فيهم إلى الرى وكان التتر قد حاصروأ اصبهان بعد الهزيمة فلما وصل السلطان خرج معه أهل اصبهان فقاتلوا التتر وهزموهم وسار السلطان في اتباعهم إلى الرى وبعث العساكر وراءهم إلى خراسان وعند ابن الاثير أن صاحب بلاد فارس وهو ابن الاتابك سعد الذى ملك بعد أبيه حضر مع للسلطان في هده الواقعة وأن التتر انهزموا أولا فاتبعهم صاحب فارس حتى إذا أبعدوا انفرد عن العسكر ورجع عنهم فوجد جلال الدين قد انهزم لانحراف أخيه غياث الدين وأمرائه عنه ومضى إلى شهرم تلك الايام ثم عاد إلى اصبهان كما ذكرناه * (الوحشة بين السلطان جلال الدين وأخيه غياث الدين) *
كان ابتداؤها ان الحسن بن حرميل نائب الغوية بهراة لما قتلته عساكر خوارزم شاه(5/131)
محمد بن تتش وحاصروا وزيره الممتنع بها حتى اقتحموها عليه عنوة وقتلوه محمد بن الحسن بن حرميل إلى بلاد الهند فلما سار السلطان جلال الدين وحظي لديه وأقامه شحنة بأصبهان فلما سار السلطان إلى اصبهان للقاء التتر انحرف جماعة من غلمان غياث الدين عنه فصاروا إلى نصرة الدين بن حرميل واسترجعهم منه غياث الدين في بيته وطعنه فأشواه ومات لليال وأحفظ ذلك السلطان وأقام غياث الدين مستوحشا فلما كان يوم اللقاء انحرف عن أخيه ولحق بخوزستان وخاطب الخليفة فبعث إليه بثلاثين ألف دينار وسار من هنالك إلى قلعة الموت عند صلاح الدين شيخ الاسماعيلية فلما رجع السلطان من وقعة التتر إلى الرى سار إلى قلعة الموت وحاصرها فاستأمن علاء الدين إلى السلطان لغياث الدين فأمنه وبعث من يأتيه به فامتنع غياث الدين وفارق القلعة واعترضه عساكر السلطان بنواحي همذان وأوقعوا به وأسروا جماعة من أصحابه ونجا إلى براق الحاجب بكرمان فتزوج بأمه كرها ونمى إليه أنها تحاول سمه فقتلها وقتل معها جهان بهلوان الكجى وحبس غياث الدين ببعض القلاع ثم قتله بمحبسه ويقال بل هرب من محبسه ولحق باصبهان وقتل بأمر السلطان قال النسائي وقفت على كتاب براق الحاجب إلى الوزير شرف الملك والسلطان بتبريز وهو يعدد سوابقه فعد منها قتله أعدى عدو السلطان والله تعالى ولى التوفيق * (انتقاض البهلوانية) * لما ارتحل السلطان والوزير شرف الملك معه وانتهى إلى همذان بلغه أن الامراء البهلوانية اجتمعوا بظاهر تبريز يرومون الانتقاض واتبعه خاموش بن الاتابك ازبك من قلعة قوطور وكان مقيما بها فرجع السلطان إليهم وقدم بين يديه الوزير شرف الملك فلقيهم قريبا من تبريز وهزمهم وقبض على الذين تولوا اكبر الفتنة منهم ودخل تبريز
افصبهم وقبض على القاضى المعزول فصادمه قوام الدين الحرادى ابن أخت الطغرائي وصادره وسار السلطان للقاء التتر وأقام الوزير نائبا للبلاد * (ايقاع نائب خلاط بالوزير) * ولما كان ما ذكرناه من مسير حسام الدين نائب خلاط إلى اذربيجان واحتماله زوجة السلطان جلال الدين إلى خلاط امتعض الوزير لذلك فسار إلى موقان من بلاد اران وجمع التركمان وفرق العمال للجباية وطلب الحمل من شروان شاه وهو خمسون ألف دينار فتوقف وأغار على بلاده فلم يظفر بشئ ورجع إلى اذربيجان وكانت بنت الاتابك بهلوان في بقجان فارقها مولانا ايدغمش وجاء إلى الوزير فأطمعه فيها وصار الوزير(5/132)
مضمر الغدر بها وامتنعت عليه ونزل بالمرج فأكرمته وقربته ورحل إلى حورس من أعمالها وكانت للاشرف صاحب خلاط من أيام ازبك فانتشرت أيدى العسكر في تلك الضياع وقاتلها الوزير وجاء الحاجب صاحب خلاط في عساكره فانهزم الوزير وترك أثقاله وذلك سنة أربع وعشرين وكان مع الحاجب فخر الدين سام صاحب حلب وحسام الدين خضر صاحب تبريز برموكلن الوزير وتكاليفه فظهر الآن بمخلفه وخلص الوزير إلى اران وسار الحاجب على في اتباعه ثم عاد إلى تبريز ومر بخوى فنهبهائم وسار إلى بقجان فملكها ثم إلى تدمر كذلك وأقام الوزير بتبريز وكان بها الاتابك ازبك متنسكا منعه أهل تبريز من الدخول وحملوا إليه النفقة ثم جاء الخبر برجوع السلطان إلى اصبهان بعد الهزيمة كما مر فسار الوزير إلى اذربيجان ولقى ثلاثة من الامراء جاؤا مددا له من عند السلطان وأمره بحصار خوى فسار إليها وبها نائب الحاجب حسام الدين صاحب خلاط وهو بدر الدين بن صرهنك والحاجب حسام الدين على منوشهر فنهض إليه الوزير من خوى فتأخر إلى تركرى والتقيا هنالك فانهزم الحاجب ودخل تركرى فاعتصم بها وحاصره الوزير وطلب فلم يسعفه ورجع الامراء
الذين كانوا معه بعساكرهم إلى اذربيجان وأفرج الوزير عن حصار تركرى ومر بخوى وقد فارقها ابن صرهنك إلى قلعة قوطور واستأمن للسلطان من بعد ذلك ودخل الوزير مدينة خوى وصادر أهلها وسار إلى ترمذ ونقجوان ففعل فيهما مثل ذلك انقطعت ايالة الحاجب صاحب خلاط والله أعلم * (فتوحات الوزير باذربيجان واران) * ولما تخلف الوزير عن السلطان صرف همته إلى تمهيد البلاد ومدافعة صاحب خلاط وارتجاع البلاد التى ملك من اذربيجان واران وفتح القلاع العاصية فكان بينه وبين الحاجب حسام الدين صاحب خلاط ما ذكرناه وهو خلال ذلك يستميل أصحاب القلاع ويفيض فيهم الاموال والخلع حتى أجاب أكثرهم ثم قبض على ناصر الدين محمد من أمراء البهلوانية وكان معتزلا عند نصرة الدين محمد بن سبكتكين فصادره على مال وتسلم من نائبه قلعة كانت بيده ثم مات نائب السلطان بكنجة اقسنقر الاتابكى فنهض إليها وقبض على نائبه شمس الدين كرشاسف وصادره وتسلم منه قلعة هردوجاربرد من أعمال اران ثم جمر العساكر لحصار قلعة زونين وبها زوجة السلطان خاموش فأطال حصارها وعرضت عليه نكاحها فأبى ولما رجع السلطان من العراق تزوجها وولى خادمه سعد الدين على القلعة فأساء إليها وانتزع أملاكها فأخرجوه وعادوا إلى الانتقاض ولما خلص الوزير من واقعته مع الحاجب نائب خلاط قصد أران فجبى الاموال وجمع واحتشد(5/133)
وقصد قلعة مردانقين وكانت لصهر الوزير ركبة الدين فصانعه بأربعة آلاف دينار حملها إليه ثم سار إلى قلعة حاجين وبها جلال الدولة ابن أخت أبوانى أمير الكرج فصالحه على عشرين ألف دينار وسبعمائة أسير من المسلمين ثم كانت فتنة البهلوانية فسكنها وسرح الجند عنها وشرح الخبر عنها ان بعض مماليك اتابك ازبك كان قد أفحش في قتل الخوارزمية باذربيجان عند زحفهم إليها أيام فرارهم من
التتر فلما ملك السلطان جلال الدين اذربيجان ومحا ملك البهلوانية منها لحق الامير مقدى هذا بالاشرف بن العادل بن أيوب صاحب الشأم وأقام عنده فلما بلغه انهزام الوزير شرف الملك أمام الحاجب حسام الدين نائب الاشرف بخلاط فر من الشأم إلى اذربيجان ليقيم مع الاتابكية ومر بالحاجب في خوى فاتبعه وعبر النهر وخاطب من عدوته معتذرا فرجع عنه ودخل مقدى بلاد قبار وفيها قلاع استولى عليها المنتقضون والعصاة فراسلهم في اقامة الدعوة الاتابكية والبيعة لابن خاموش بن ازبك يستدعونه من قلعة قوطور واتصل ذلك بالوزير فأقلقه ثم جاء خبر هزيمة السلطان بأصبهان فازداد قلقا وسار الامير مقدى إلى نصرة الدين محمد بن سبكتكين يدعوه لذلك فلاطفه في القول وكتب للوزير بالخبر فأجابه بأن يضمن لمقدى ما أحب في مراجعة الطاعة ففعل وجاء به إلى الوزير فأكرمه وخلع عليه وعلى من جاء معه وعاهده على العفو عن دماء الخوارزمية وجاء الخبر برجوع السلطان من اصبهان فارتحل الوزير للقائه ومعه الامير مقدى وابن سبكتكين واكرمهما السلطان * (أخبار الوزير بخراسان) * كان صفى الدين محمد الطغرائي وزيرا بخراسان وأصل خبره انه كان من قرية كلاجرد وأبوه رئيسها وكان هو حسن الخط ورتبة الاطوار ثم لحق بالسلطان في الهند وخدم الوزير شرف الملك فلما عادوا إلى العراق ولاه الطغرائي ولما ملك السلطان تفليس من يد الكرج ولى عليها اقسنقر مملوك الاتابك ازبك وأقام صفى الدين في وزارتها فلما حاصرها الكرج هرب اقسنقر وأقام صفى الدين فحاصروه أياما ثم أفرجوا ووقع ذلك من السلطان أحسن المواقع وولاه وزارة خراسان فأقام بها سنة وضجر منه أهلها فلما جاء السلطان إلى الرى وأقام بها كثرت به الشكايات ونكبه السلطان واستصفى أمواله وقبض على مواليه وحاشيته وقيدت خيله إلى مرابط السلطان وكانت ثلثمائة وخلص من مواليه على الكرماني إلى قلعة كان حصنها فامتنع بها واستوزر السلطان مكانه تاج الدين البلخى المستوفى وسلم إليه الصفى ليستصفيه ويقلع القلعة من مولاه
وشدد في امتحانه وكان عدوه فلم يظفر منه بشئ وكان لما نكب طالبه خاتون السلطان(5/134)
باحضار الجواهر وما ساقه لخدمة الوزير وغيره فاحضر أربعة آلاف دينار وسبعين فصامن ياقوت وبلخش واستأثر الخازن بها لظنه أنه مقتول ثم كاتب الصفى أرباب الدولة ووعدهم بالاموال فشفعوا فيه وخلصوه وكتب السلطان بخطه بسراحه فجاء واستخلص ماله من الخازن الا الفصوص فانه تعذر عليه ردها وولى السلطان على وزارة نسا محمد بن مودود النسوي العارض من بيت رياسة بها ورمت به الحادثة إلى غزنة فلما جاء السلطان من الهند ولاه الانشاء والحبس وعظم أمره وغص به الوزير شرف الملك فلما ورد أحمد بن محمد المنشى الكاتب رسولا عن نصرة الدين محمد بن حمزة صاحب نسا كما مر ولاه السلطان الانشاء فارتمض لذلك ضياء الدين وطلب وزارة نسا فولاه السلطان اباها وأقطع له عشرة آلاف دينار في السنة زيادة على أرزاق الوزارة وذهب إليها لاقامة وظيفته واستناب في ديوان العرض مجد الملك النيسابوري ثم قطع الحمل فعزله السلطان وولى مكانه الكاتب أحمد بن محمد المنشئ وتعرض للسعاية فيه فطرده السلطان وهلك في طرده * (خبر بلبان صاحب خلخال) * كان من أتابكية ازبك ولما كانت فتنة التتر وخلاء خراسان واستيلاء السلطان جلال الدين على اذربيجان لحق بمدينة خلخال فاستولى عليها وعلى قلاعها وشغل عنه السلطان بأمر العراق وصاحب خلاط فلما انصرف المسلمون من واقعة التتر بالعراق حاصروه بقلعة فيروز اباذ حتى استأمن وملكها السلطان وولى عليها حسام الدين بكتاش مولى سعد اتابك فارس ثم خلف السلطان أثقاله بمرقان وتجرد لخلاط وعاقه البرد بار جيش فنهب بعض قلاع وكان عز الدين الخلخالي في كفر طاب قريبا من أرجيش فلحق بخلاط وجهزه الحاجب إلى اذربيجان يشغلهم باثارة الفتنة فيها فلم
يتم قصده من ذلك فلحق بجبال زنجان وأقام يخيف السابلة وكتب له السلطان بالامان ونزل إلى اصبهان فبعث نائبها شرف الدولة برأسه إلى السلطان ثم رجع السلطان من كفر طاب إلى خرت برت فنهبها وخربها ووصله خلال ذلك الخبر بوفاة الخليفة الظاهر منتصف ثلاث وعشرين وولاية ابنه المنتصر وجاءه كتابه بأخذ البيعة وأن يبعث إليه بالخلع والله تعالى ولى التوفيق لا رب غيره * (تنكر السلطان للوزير شرف الملك) * لما رجعت العساكر إلى موقان وأقام السلطان بخوى شكا إليه أهلها بكثرة مصادرة الوزير لهم واطلع على اساءته للملكة بنت طغرل واستصفائه مالها مع براءتها مما نسب إليها ثم جاء إلى تبريز فبلغه عنه أكثر من ذلك وهو بقرية كورتان من اعمالها(5/135)
فافتقد رئيسها وكان يخدمه فقيل ان الوزير صادره على ألف دينار لمملوكين له فلما وصل إلى تبريز حبس من أخذها حتى ردها على صاحبها وأسقط عن أهل تبريز خراج ثلاث سنين وكتب لهم بذلك وكثرت الشناعات على الوزير بما فعله في مغيب السلطان هذا مع ما كان منه في محاربة الاسماعيلية بأن السلطان كاتبه من بغداد بأن يفتش فلول الشأم من أجل رسول من عند التتر بعثوه إلى الشأم وقصد بذلك معاتبة الخليفة ان عثر على الرسول فمر به فل الاسماعيلية فقتلهم واستولى على أموالهم فلما عاد السلطان إلى اذربيجان وصله رسول علاء الدين ملك الاسماعيلية يعاتبه على ذلك ويطلب المال فنكر السلطان على الوزير ما فعله ووكل به أميرين حتى رد ما أخذ من أموالهم وكانت ثلاثين ألف دينار وعشرة أفراس فانطوى السلطان للوزير من ذلك كله على سخط وأعرض عن خطابه وكان يكاتب فلا يجاب وعجزت تبريز عن علوفة السلطان فأمر بفتح اهراء الوزير والتصرف فيها ورجع السلطان إلى موقان فلم يغير عليه شيأ ووقع له بتناول عشر الخاص فكان يأخذ من عشر العراق سبعين ألف دينار
في كل سنة والله أعلم * (وصول القفجاق لخدمة السلطان) * كان للقفجاق على قديم العهد هوى مع قوم هذا السلطان وأهل بيته وكانوا يصهرون إليهم غالبا ببناتهم ومن أجل ذلك استأصلهم جنكز خان واشتد في طلبهم فلما عاد السلطان من واقعة اصبهان وقد هاله أمر التتر رأى أن يستظهر عليهم بقبائل قفجاق وكان في جملته سبيرجنكش منهم فبعثه إليهم يدعوهم لذلك ويرغبهم فيه فأجابوا وجاءت قبائلهم ارسالا وركب البحر كوركان من ملوكهم في ثلثمائة من قرابته ووصل إلى الوزير بموقان فشتى بها ثم جاء السلطان فخلع عليه ورده بوعد جميل في فتح درنبد وهو باب الابواب ثم أرسل السلطان لصاحب درنبد وكان طفلا وأتابكه يلقب بالاسد يدبر أمره فقدم على السلطان فخلع عليه وأقطع له وملكه العمل على أن يفتح له الدرنبد وجهز عساكر وأمراء فلما فصلوا من عنده قبضوا على الاسد وشنوا الغارة على نواحى الباب وأعمل الاسد الحيلة وتخلص من أيديهم وتعذر عليهم ما أرادوه * (استيلاء السلطان على أعمال كستاسفى) * كان علم الوزير بشكر أن السلطان أراد أن ينتصح له ببعض مذاهب الخدمة فسار في العساكر وعبر تهرازس فاستولى على أعمال كستاسفى من يدشروان شاه فلما عاد السلطان إلى موقان أقطعها لجلال الدين سلطان شاه بن شروان شاه وكان أسيرا عند الكرج أسلمه أبوه إليهم على أن يزوجوه بنت الملك رسودان بنت تاماد فلما فتح(5/136)
السلطان بلاد الكرج استخلصه من الاسر ورباه وبقى عنده وأقطعه الآن كستاسفى وكان أيضا عند الكرج ابن صاحب ارزن الروم وكان تنصر فزوجوه رسودان بنت تاماد فأخرجه السلطان لما فتح بلاد الكرج ثم رجع إلى ردنه ولحق بالكرج فوجد رسودان قد تزوجت
* (قدوم شروان شاه) * كان السلطان ملك شاه بن البارسلان لما ملك اران أطلق الغارة على بلاد شروان فوفد عليه ملكها افريدون بن فر تبريز وضمن حمل مائة ألف دينار في السنة فلما ملك السلطان جلال الدين اران سنة ثنتين وعشرين وستمائة طلب شروان شاه افريدون بالحمل فاعتل بتغلب الكرج وضعف البلاد فأسقط عنه نصف الحمل فلما عاد الان قدم عليه شروان شاه وأهدى له خمسمائة فرس وللوزير خمسين فاستقلها وأشار على السلطان بحبسه فلم يقبل اشارته ورده بالخلع والتشريف وأسقط عنه من الحمل عشرين ألفا فبقى ثلاثون قال النسائي الكاتب وأعطاني في التوقيع ألف دينار والله تعالى أعلم * (مسير السلطان إلى بلاد الكرج وحصاره قلاع بهرام) * لما كان السلطان مقيما بموقان منصرفه من اذربيجان بعث عساكره مع ايلك خان فأغار على بلاد الكرج واكتسحها ومر ببحيرة بتاج فكبسه الكرج وأوقعوا به وفقد اريطانى وامتعض السلطان لما وقع بعسكره وارتحل لوقته وقد جمع له الكرج فهزمت مقدمته مقدمتهم وجئ بالاسرى منهم فقتلهم وسار في اتباعهم ونازل كورى وطالبهم باطلاق أسرى البحيرة فأطلقوهم وأخبر أن اريطانى خلص تلك الليلة إلى اذربيجان ثم وجده السلطان في نقجوان ثم سار إلى بهران الكرجى وقد كان أغار على نواحى كنجة فعاث في أعماله وحاصر قلعة سكان ففتحها عنوة وكذلك قلعة عليا ثم حاصر قلعة كاك وبعث الوزير لحصار كوزانى فحاصرها ثلاثة أشهر حتى طلبوا الصلح على مال حملوه فرحل عنهم إلى خلاط والله أعلم * (مسير السلطان إلى خلاط وحصارها) * ولما فرغ السلطان من شأن الكرج قدم أثقاله إلى خلاط على طريق قاقروان وسار هو إلى نقجوان وصبح الكرج واستاق مواشيهم ثم أقام اياما وقضى أشغال أهل خراسان والعراق ليفرغ لحصار خلاط قال النسائي الكاتب وحصال لى منهم تلك
الايام ألف دينار ثم ارتحل إلى خلاط ولحق بعساكره ولقيه رسول من عز الدين انبك نائب الاشرف بخلاط وقد كان الاشرف بعثه وأمره بالقبض على نائبها حسام(5/137)
الدين على ابن حماد فقبض عليه ثم قتله غيلة وبعث إلى السلطان يستخدم إليه بذلك وان سلطانه الاشرف أمره بطاعة السلطان جلال الدين وبالغ في الملاطفة فأبى السلطان الا امضاء ما عزم عليه وقال ان كان هذا حقا فابعث إلى بالحاجب فلما سمع هذا الجواب قتله وسار السلطان إلى خلاط ونزل عليها بعد عيد الفطر من سنة ست وعشرين وجاءه ركن جهان بن طغرل صاحب ارزن الروم فكان معه وحاصرها ونصب عليها المجانيق وأخذ بمخنقها حتى فر أهلها عنها من الجوع وتفرقوا في البلاد ثم داخله بعض أهلها في أن يمكنهم من بقيتها على أن يؤمنوه ويقطعوه في اذربيجان فأقطعه السلطان سلماس وعدة ضياغ هنالك وأصعد الرجال ليلا إلى الاسوار فقاتلوا الجند بالمدينة وهزموهم وملكوها وأسروا من كان بها وأسروا النصارى وأسد بن عبد الله وتحصن النائب عز الدين انبك بالقلعة فامنه وحبسه بقلعة درقان فلما وقعت المراسلة في الصلح قفل لئلا يشترط وقال ابن الاثير ان مولى من موالى حسام الدين كان هرب إلى السلطان فلما ملك خلاط طلب أن يثأر منه بمولاه فدفعه إليه وقتله ونهب البلد ثلاثا وسرح السلطان صاحب ارزن وهرب القمهرى من محبسه فقتل أسد بن عبد الله المهرانى بجزيرته وأقطع السلطان خلاط للامراء وعاد والله تعالى ولى التوفيق * (واقعة السلطان جلال الدين مع الاشرف وكيقياد وانهزامه أمامهما) * ولما استولى السلطان جلال الدين على خلاط تجهز الاشرف من دمشق وقد كان ملكها وسار لقتال السلطان جلال الدين في عساكر الجزيرة والشأم وذلك في سنة تسع وعشرين ولقيه علاء الدين كيقياد صاحب بلاد الروم على سيراس وكان
كيقياد قد خشى من انصال جهان شاه ابن عمه طغرل صاحب ارزن الروم بالسلطان جلال الدين لما بينهما من العداوة فسار الاشرف وكيقياد من سراس وفي مقدمة الاشرف عز الدين عمر بن على من أمراء حلب من الاكراد الهكارية وله صيت في الشجاعة وجاء السلطان علاء الدين للقائهم فلما تراءى الجمعان حمل عز الدين صاحب المقدمة عليهم فهزمهم وعاد السلطان إلى خلاط وكان الوزير على ملاركرد يحاصرها فلحق به وارتحلوا جميعا إلى اذربيجان وأسر ركن الدين جهان شاه بن طغرل وجئ به إلى ابن عمه علاء الدين كيقياد فجاء به إلى ارزن فسلمها وسائر أعمالها ووصل الاشرف إلى خلاط فوجدها خاوية ولما رجع السلطان إلى اذربيجان ترك العساكر مع الوزير سكمان وأقام بخوى وخلص الترك في الهزيمة إلى موقان وتردد شمس الدين التكريتي رسول الاشرف بينه وبين السلطان جلال الدين في الصلح بينهم ودخل فيه علاء الدين(5/138)
صاحب الروم وانعقد بينهم جميعا وسلم لهم السلطان سر من رأى مع خلاط والله تعالى أعلم * (الحوادت أيام حصار خلاط) * منها وفادة نصر الدين اصبهبد صاحب الجبل مع ارخا من امراء السلطان يصهره على أخيه فقبض السلطان عليه إلى أن عاد من بلاد الروم منهزما فأقطعه وأعاده إلى بلاده * ومنها رسالة أخت السلطان وكانت عند دوشى خان أخذها من العيال الذين جاؤا معه وتركمان خاتون من خوارزم وأولدها وكانت تكاتب أخاها بالاخبار فبعثت إليه الآن في الصلح مع خاقان والمصاهرة وأن يسلم له فيما وراء جيحون فلم يجبها * ومنها وفادة ركن الدين شاه ابن طغرل صاحب ارزن الروم وكان في طاعة الاشرف ومظاهرا للحاجب نائب خلاط على عداوة السلطان منافرة لابن عمه علاء الدين كيقياد ابن كنحسر صاحب الروم وكان قتل رسول السلطان منقلبا من الروم ومنع
الميرة عن العسكر فلما طال حصار السلطان بخلاط استأمن وقدم عليه السلطان فاحتفل لقدومه واركب الوزير للقائه ثم خلع عليه ورده إلى بلاده واستدعى منه آلات الحصار فبعث بها ثم حضر بعد ذلك واقعة الاشرف مع السلطان كما مر * (ومنها وصول سعد الدين الحاجب برسالة الخليفة إلى السلطان بالخطبة في أعمالها وان لا يتعرض لمظفر الدين كوكبرون صاحب اربل ولا للولد صاحب الموصل ولا لشهاب الدين سليمان شاه ملك ولا لعماد الدين بهلوان بن هرارست ملك الجبال ويعدهم في أولياء الديوان فامتثل مراسله وبعث نائب العراق شرف الدين على بأن ملك العراق لا يتم الا بطاعة ملك الجبال عماد الدين بهلوان وملك سليمان شاه فبعث اليهما السلطان من لاطفهما حتى كانت طاعتهما اختيارا منهما وبعث السلطان الحاجب بدر الدين طوطو بن ابنايخ خان فأحسن في تأدية رسالته وجاء بهدية حافلة من عند الخليفة خلعتان للسلطان احداهما جبة وعمامة وسيف هندي مرصع الحلية والاخرى قنع وكمة وفرجية وسيف محلى بالذهب وقلادة مرصعة ثمينة وفرسان رائعان بعدتين كاملتين ونعال لكل واحدة من أربعمائة دينار وترس ذهب مرصع بالجوهر وفيه احد وأربعون فصا من الياقوت وبندخستانى في وسطه فيروزجة كبيرة وثلاثون فرسا عربية مجللة بالاطلس الرومي المبطن بالاطلس البغدادي بمقاود الحرير ونعال الذهب لكل واحدة منها ستون دينارا وعشرون مملوكا بالعدة والمركوب وعشرة فهود بجلال الاطلس وقلائد الذهب وعشرة صفور بالاكمام المكللة ومائة وخمسون بقجة في كل واحدة عشرة ثياب وخمس أكرمن العنبر مضلعة بالذهب(5/139)
وشجرة من العود الهندي طولها خمسة أذرع وأربع عشرة خلعة نسوانية للخانات من خوالص الذهب وكنائس للخيل تفليسية وللامراء ثلثمائة خلعة لكل أمير خلعة قباء وكمة وللوزير عمامة سوداء وقباء وفرجية وسيف هندي واكرتان من العنبر وخمسون
ثوبا وبغلة ولاصحاب الديوان عشرون خلعة في كل خلعة جبة وعمامة وعشرون ثوبا أكثرها اطلس رومى وبغدادي وعشرون بغلة شهباء ورفعت للسلطان خباء فدخلها ولبس الخلعتين وشفع الرسول في أهل خلاط فاعتذر له السلطان * ومنها وصول هدية من صاحب الروم ثلاثون بغلا مجللة بثياب الاطلس الخطائى وفرو القندسى والسمور وثلاثون مملوكا بالخيل والعدة ومائة فرس وخمسون بغلا ولما مروا باذربيجان اعترضهم ركن الدين جهان شاه بن طغرل صاحب ارزن وكان في طاعة الاشرف فأمسك الهدية عنده إلى أن وفد على السلطان بطاعته فأحضرها * ومنها اسار وزير المورخا خاء إلى الجبل المطل على قزوين لحصاد الحشيش على عادته وكان السلطان قد تغير على علاء الدين صاحبهم بسبب أخيه غياث الدين ولحاقه بهم في الموت فسار مقطع ساوة إلى ذلك الجبل وأكمن لهم وأسر الوزير وبعث به إلى السلطان وهو يحاصر خلاط فحبسه بقلعة رزمان وهلك لاشهر قلائل ثم بعث السلطان كاتبه محمد بن أحمد النسائي إلى علاء الدين صاحب قلعة الموت بطلب الخوارج وطلب الخطبة فامتنع منها أولا واحتج عليه بأن أباه جلال الدين الحسن خطب لخوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش والد السلطان فأنكر والتزم أن يبعث إلى الديوان مائة ألف في كل سنة * (وصول جهان بهلوان ازبك من الهند) * كان السلطان لما فصل من الهند بقصد العراق واستخلف على البلاد التى ملكها هنالك جهان بهلوان ازبك فأقام هنالك إلى أن قصده عسكر شمس الدين ايتماش صاحب لهاوون ففارق مكانه وسار إلى بلاد قشمير فزاحموه وطردوه عن البلاد فقصد العراق وتخلف عنه أصحابه وعادوا إلى ايتماش وفيهم الحسن برلق الملقب رجا ملك وكاتب جهان عليها ملك العراق بوصوله في سبعمائة فارس فأجاب الحسن رأى السلطان فيه وبعث إليه بعشرة آلاف دينار للنفقة ووصل توقيع السلطان بأن تحمل إليه عشرون ألفا وأن يشتى بالعراق يستريح بها من التعب فصادف عود السلطان
من بلاد الروم وزحف السلطان إلى اذربيجان فحال قدر الله بينه وبين مرامه وقتل هناك سنة ثمان وعشرين * (وصول التتر إلى اذربيجان) * كان التتر عندما ملكوا ما وراء النهر وزحفوا إلى خراسان فضعضعوا ملك بنى(5/140)
خوارزم شاه وانتهوا إلى قاصية البلاد وخربوا ما مروا عليه واكتسحوا ونهبوا وقتلوا ثم استقر ملكهم بما وراء النهر وعمروا تلك البلاد واختطوا قرب خوارزم مدينة عظيمة تعوض منها وبقيت خراسان خالية واستبد بالمدن فيها أمراء شبه الملوك يعطون الطاعة للسلطان جلال الدين لما جاء من الهند وانفرد جلال الدين بملك العراق وفارس وكرمان واذربيجان واران وما وراء ذلك وبقيت خراسان مجالات لغارات التتر وحروبهم ثم سارت طائفة منهم سنة خمس وعشرين فكان بينهم وبين جلال الدين لما جاء من الهند المواقعة على اصبهان كما مر ثم كان بين جلال الدين وبين الاشرف صاحب الشأم وعلاء الدين كيقياد صاحب الروم المواقعة سنة سبع وعشرين كما مر وأوهنت من جلال الدين وحلت عرى ملكه وكان علاء الدين مقدم الاسماعيلية في قلعة الموت فعادى جلال الدين لما أثخن في بلاده وقرر عليه وظائف الاموال فبعث إلى التتر يخبرهم بالهزيمة الكائنة عليه وانها أوهننه ويحثهم على قصده فساروا إلى أذربيجان أول سنة ثمان وعشرين وبلغ الخبر إلى السلطان بمسيرهم فبعث بوغر من أمرائه طليعة لاستكشاف خبرهم فلقى مقدمتهم فانهزم ولم ينج من أصحابه غيره وجاء بالخبر فرحل من تبريز إلى موقان وخلف عياله بتبريز لنظر الوزير وأعجله الحال عن أن يبعثهم إلى بعض الحصون ثم ورد كتاب من حدود زنجان بأن المقدمة التى لقيها بوغرباهرا قاموا بمرج الخان وانهم سبعمائة فارس فظن السلطان أنهم لا يجاوزونهما فسرى عنه ورحل إلى موقان فأقام بها وبعث في احشاد العساكر
الاميرين بغان شحنة خراسان وأوسمان بهلوان شحنة مازندان وشغل بالصيد وبينما هو كذلك كبسه التتر بمكانه ونهبوا معسكره وخلص إلى نهراوس ثم ورى بقصد كنجة وعطف إلى اذربيجان فتنكر لماهان وكان عز الدين صاحب قلعة شاهن غاضبا منذ سنين لاغارة الوزير على بلده فلما نزل السلطان ماهان كان يخدمه بالميرة وباخبار التتر ثم أنذره آخر الشتاء بمسير التتر إليه من ارجان وأشار عليه بالعود إلى اران لكثرة ما فيها من العساكر وأجناد التركمان متحصنين بها فلما فارقها وكان الوزير فوق بيوت السلطان وخزائنه في قلاع حسام الدين منهم ارسلان كبير أمراء التركمان باران وكان قد عمر هنالك قلعة سنك سراخ من أحصن القلاع فأنزل عياله بها وكان مستوحشا من السلطان فجاهر بالعصيان وكانت وحشته من السلطان لامور منها تبذير أمواله في العطاء والنفقة ومنها أنه ظن أن السلطان مجفل إلى الهند فكاتب الاشرف صاحب الشأم وكيقياد صاحب الروم فوعدهم من نفسه الطاعة وهما عدوا السلطان ومنها أنه كاتب فليح ارسلان التركماني فأمره بحفظ حرم السلطان وخزائنه(5/141)
ولا يسلمها إليه وبعث في الكتاب والكباس قبله ليغزو الروم فلما مر السلطان بقلعته بعث إليه يستدعيه فوصل وحمل كفنه في يده فلاطفه السلطان وكايده فظنها مخالصة فاطمأن والله تعالى ولى التوفيق * (استيلاء التتر على تبريز وكنجة) * ولما اجفل السلطان بعد الكبسة من موقان إلى اران بلغ الخبر إلى أهل تبريز فثاروا بالخوارزمية وأرادوا قتلهم ووافقهم بهاء الدين محمد بن بشير فاربك الوزير بعد الطغريانى وكان الطغريانى رئيس البلد كما مر فمنعهم من ذلك وعدوا على واحد من الخوارزمية وقتلوه فقتل به اثنين من العامة واجتهد في تحصين تبريز وحراستها وشحنها بالرجال ولم تنقطع كتبه عن السلطان ثم هلك فسلمها العوام إلى التتر ثم ثار أهل كنجة وسلموا بلدهم للتتر وكذا أهل ببلغازة والله أعلم
* (نكبة الوزير ومقتله) * لما وصل السلطان إلى قلعة جاربرد بلغه استيحاش الوزير وخشى أن يفر إلى بعض الجهات فركب إلى القلعة موريا بالنظر في أحوالها والوزير معه وأسر إلى وإلى القلعة أن يمسك الوزير ويقيده هنالك ففعل ونزل السلطان فجمع مماليك الوزير وكبيرهم الناصر قشتمر وضمهم إلى أوتر خان ثم نمى إلى وإلى القلعة أن السلطان مستبدل منه فاستوحش وبعث بخاتم الوزير إلى قشتمر كبير المماليك يقول نحن وصاحبكم متوازرون فمن أحب خدمته فليأت القلعة فسقط في يد السلطان وكان ابن الوالى في جملته وحاشيته فأمره السلطان أن يكاتب أباه ويعاتبه ففعل وأجابه بالتنصل من ذلك فقال له السلطان فليبعث إلي برأس الوزير فبعث به وكان الوزير مكرما للعلماء والادباء مواصلا لهم كثيرا لخشية والبكاء متواضعا منبسطا في العطاء حتى استفرق أموال الديوان لو لا أن السلطان جذب من عنانه وكان فصيحا في لغة الترك وكانت عمالته على التواقيع السلطانية الحمد لله العظيم وعلى التواقيع الديوانية يعتمد ذلك وعلى تواقيعه إلى بلاده أبو المكارم على ابن ابى القاسم خالصة أمير المؤمنين * (ارتجاع السلطان كنجة) * لما ثار أهل كنجة بالخوارزمية كان القائم بأمرهم رجل منهم اسمه بندار وبعث السلطان إليهم رسوله يدعوهم إلى الطاعة فوصلوا قريبا منه وأقاموا وخرج إليهم الرئيس جمال الدين القمى بأولاده وامتنع الباقون ثم وصل السلطان وردد إليهم فلم تغن وبرزوا بعض الايام للقتال ورموا على خيمته فركب وحمل عليهم فانهزموا(5/142)
وازدحموا في الباب فمنعهم الزحام من اغلاقه فاقتحم السلطان المدينة وقبض على ثلاثين من أهل الفتنة فقتلهم وجئ ببندار وكان بالغا في الفساد وكسر سرير الملك الذى نصبه بها محمد بن ملك شاه فمثل به وفصل أعضاءه بين يديه وأقام السلطان بكنجة نحوا
من شهر ثم سار إلى خلاط مستمد اللاشرف فارتحل الاشرف إلى مصر وعلل بالمواعيد ووصل السلطان في وجهته إلى قلعة شمس وبها اراك بن ايوان الكرجى فخرج وقبل الارض على البعد ثم بعث إلى السلطان ما أمرى وبعث السلطان إلى جيرانه من الملوك مثل صاحب حلب وآمد وماردين يستنجدهم بعد يأسه من الاشرف وجرد عسكرا إلى خرت برت وملطية واذربيجان فأغاروا في تلك النواحى واستاقوا نعمها لما بين ملكها كيقياد وبين الاشرف من الموالاة فاستوحش جميعهم من ذلك وقعدوا عن نصرته والله تعالى ولى التوفيق * (واقعة التتر على السلطان بآمد ومهلكه) * كان السلطان بلغه وهو بخلاط أن التتر ساروا إليه فبعث السلطان الامير أوترخان في أربعة آلاف فارس طليعة فرجع وأخبر أن التتر رجعوا من حدود ملازكرد وكان الامراء أشاروا على السلطان الانتقال بديار بكر وينجرون إلى اصبهان ثم جاءه رسول صاحب آمد وزين له قصد بلاد الروم وأطمعه في الاستيلاء عليها ليتصل بالقفجاق ويستظهر بهم على التتر وأنه يمده بنفسه في أربعة آلاف فارس وكان صاحب آمد يروم الانتقام من صاحب الروم بما ملك من قلاعه فجنح السلطان إلى كلامه وعدل عن اصبهان إلى آمد فنزل بها وبعث إليه التركمان بالنذير وانهم رأوا نيران التتر بالمنزل الذى كانوا به أمس فاتهم خبرهم وصبحه التتر على آمد وأحاطوا بخيمته قبل أن يركب فحمل عليهم اوتر خان حتى كشفهم عن الحركات وركب السلطان وركض وأسلم زوجته بنت الاتابك سعد إلى أميرين يحملانها إلى حيث تنتهى الجفلة ثم رد اوتر خان والعساكر عنه ليتوارى بانفراده عن عين العدو وسار اوتر خان في أربعة آلاف فارس فخلص إلى اصبهان واستولى عليها إلى أن ملكها التتر عليه سنة تسع وثلاثين وذهب السلطان مستخفيا إلى باشورة آمد والناس يظنون أن عسكره غدروا به فوقفوا يردونهم فذهب إلى حدود الدربندات وقد ملئت
المضايق بالمفسدين فأشار عليه أوتر خان بالرجوع فرجع وانتهى إلى قرية من قرى ميافارقين فنزل في بيدرها وفارقه أوتر خان لى شهاب الدين غازى صاحب حلب لمكاتبات كانت بينهما فحبسه ثم طلبه الكامل فبعث به إليه محبوسا ثم سقط من سطح فمات وهجم التتر على السلطان بالبيدر فهرب وقتل الذين كانوا معه وأخبر التتر أنه(5/143)
السلطان فاتبعوه وأدركه اثنان منهم فقتلهما ويئس منه الباقون فرجعوا عنه وصعد جبل الاكراد فوجدهم مترصدين في الطرق للنهب فسلبوه وهموا بقتله وأسر إلى بعضهم أنه السلطان فمضى به إلى بيته ليخلصه إلى بعض النواحى ودخل البيت في غيبه بعض سفلتهم وبيده حربة وهو يطلب الثار من الخوارزمية بأخ له قتل بخلاط فقتله ولم يغن عنه البيت وكانت الوقعة منتصف شوال سنة ثمان وعشرين هذه سياقة الخبر من كتاب النسائي كاتب السلطان جلال الدين وأما ابن الاثير فذكر الواقعة وانه فقد فيها وبقوا أياما في انتظار خبره ولم يذكر مقتله وانتهى به التأليف ولم يزد على ذلك قال النسائي وكان السلطان جلال الدين أسمر قصيرا تركيا شجاعا حليما وقورا لا يضحك الا تبسما ولا يكثر الكلام مؤثرا للعدل الا أنه مغلوب من أجل الفتنة وكان يكتب للخليفة والوحشة قائمة بينهما كما كان أبوه يكتب خادمه المطواع فلان فلما بعث إليه بالخلع عن خلاط كما مر كتب إليه عبده فلان والخطاب بعد ذلك سيدنا ومولانا أمير المؤمنين وامام المسلمين وخليفة رب العالمين قدوة المشارق والمغارب المنيف على الذروة العليا ابن لؤى بن غالب ويكتب لملوك الروم ومصر والشأم السلطان فلان بن فلان ليس معها أخوه ولا محبه وعلامته على تواقيعه النصرة من الله وحده وعلامته لصاحب الموصل بأحسن خط وشق القلم شقين ليغلظ ولما وصل من الهند كاتبه الخليفة الجناب الرفيع الخاقانى فطلب الخطاب بالسلطان فأجيب بأنه لم تجربه عادة مع أكابر الملوك فألح في ذلك حين حملت له الخلع فخوطب بالجناب العالي الشاهستانى ثم انتشر التتر
بعد هذه الواقعة في سواد آمد وأرزن وميافارقين وسائر ديار بكر فاكتسحوها وخربوها وملكوا مدينة اسعرد عنوة فاستباحوها بعد حصار خمسة أيام ومروا بماردين فامتنعت ثم وصلوا إلى نصيبين فاكتسحوا نواحيها ثم إلى سنجار وجبالها والخابور ثم ساروا إلى تدليس فأحرقوها ثم إلى أعمال خلاط فاستباحوا أباكرى وارتجيس وجاءت طائفة أخرى من اذربيجان إلى أعمال اربل ومروا في طريقهم بالتركمان الاموامية والاكراد الجوزقان فنهبوا وقتلوا وخرج مظفر الدين صاحب اربل بعد ان استمد صاحب الموصل فلم يدركهم وعادوا وبقيت البلاد قاعا صفصفا والله وارث الارض ومن عليها وهو خير الوارثين وافترق عسكر جلال الدين منكبرس وساروا إلى كيقياد ملك الروم فأثبتهم في ديوانه واستخدمهم ثم هلك سنة أربع وثلاثين وولى ابنه غياث الدين كتحسرق فارتاب بهم وقبض على كبيرهم وفر الباقون واكتسحوا ما مروا به وأقاموا مستبدين بأطراف البلاد ثم استمالهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل وكان نائبا لابيه بالبلاد الشرقية حران وكيفا وآمد واستأذن أباه(5/144)
في استخدامهم فأذن له كما يأتي في أخباره والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق بمنه وفضله [ الخبر عن دولة بنى تتش بن البارسلان ببلاد الشأم دمشق وحلب وأعمالهما وكيف تناوبوا فيها القيام بالدعوة العباسية والدعوة العلوية إلى حين انقراض أمرهم ] قد تقدم لنا استيلاء السلجوقية على الشأم لاول دولتهم وكيف سار أتسز بن أتق الخوارزمي من أمراء السلطان ملك شاه إلى فلسطين ففتح الرملة وبيت المقدس وأقام فيهما الدعوة العباسية ومحا الدعوة العلوية ثم حاصر دمشق وذلك سنة ثلاث وستين(5/145)
وأربعمائة ثم أقام يردد الحصار على دمشق حتى ملكها سنة ثمان وستين وسار الى مصر سنة تسع وستين وحاصرها وعاد منها وولى السلطان ملك شاه بعد أبيه البارسلان سنة خمس
وستين فأقطع أخاه تتش بلاد الشأم وما يفتحه من تلك النواحى سنة سبعين وأربعمائة فسار إلى حلب وحاصرها وكان أمير الجيوش بدر الجمالى قد بعث العساكر لحصار دمشق وبها أتسز فبعث بالصريخ إلى تاج الدولة تتش فسار لنصرته وأجفلت عساكر مصر وخرج أتسز لتلقيه فتعلل عليه ببطئه عن تلقيه وقتله واستولى على دمشق وقد تقدم ذلك كله ثم استولى سليمان بن قطلمش على انطاكية وقتل بن قريش وسار إلى حلب فملكها وسمع بذلك تتش فسار إليها واقتتلا سنة تسع وسبعين وقتل سليمان بن قطلمش في الحرب وسار السلطان ملك شاه إلى حلب فملكها وولى عليها قسيم الدولة اقسنقر جد نور الدين العادل ثم جاء السلطان إلى بغداد سنة أربع وثمانين وسار إليه أخوه تاج الدين تتش من دمشق وقسيم الدولة اقسنقر صاحب حلب وبوزان صاحب الرها وحضروا معه صنيع المولد النبوى ببغداد فلما وعدوه العود إلى بلادهم أمر قسيم الدولة وبوزان بأن يسيرا بعسكرهما مع تاج الدولة تتش لفتح البلاد بساحل الشأم وفتح مصر من يد المستنصر العلوى ومحوا الدولة العلوية منها فساروا لذلك وملك تتش حمص من يد ابن ملاعب وغزة عنوة وأماسية من يد خادم العلوى بالامان وحاصر طرابلس وبها جلال الدين بن عمار فداخل قسيم الدولة اقسنقر وصانعه بالمال في أن يشفع له عند تتش فلم يشفعه فرحل مغاضبا وأجفلوا إلى جبلة وانتقض أمرهم وهلك السلطان ملك شاه سنة خمس وثمانين ببغداد وقد كان سار إلى بغداد وسار تتش أخوه من دمشق للقائه وبلغه في طريقه خبر وفاته وتنازع ولده محمود وبركيارق الملك فاعتزم على طلب الامر لنفسه ورجع إلى دمشق فجمع العساكر وقسم العطاء وسار إلى حلب فأعطاه اقسنقر الطاعة لصغر أولاد ملك شاه والتنازع الذى بينهم وحمل صاحب انطاكية وبوزان صاحب الرها وحران على طاعته وساروا جميعا في محرم سنة ست وثمانين فحاصروا الرحبة وملكوها وخطب فيها تتش لنفسه ثم ملك نصيبين عنوة واستباحها وأقطعها لمحمد بن مسلم بن قريش ثم سار إلى الموصل وبها ابراهيم بن قريش بن بدران وبعث إليه
في الخطبة على منابره فامتنع وبرز للقائه في ثلاثين ألفا وكان تتش في عشرة آلاف والتقوا بالمضيع من نواحى الموصل فانهزم ابراهيم وقتل واستبيحت أحياء العرب وقتل أمراؤهم وأرسل إلى بغداد في طلب الخطبة فلم يسعف الا بالوعد ثم سار إلى ديار بكر فملكها في ربيع الآخر وسار منها إلى اذربيجان وكان بركيارق بن ملك شاه قد استولى على الرى وهمذان وكثير من بلاد الجبل فسار في العساكر لمدافعته فلما تقاربا نزع(5/146)
اقسنقر وبوزان إلى بركيارق وعاد تتش منهزما إلى الشام وجمع العساكر واستوعب في الحشد وسار إلى اقسنقر في حلب فبرز إليه ومعه بوزان صاحب الرها وكربوقا الذى ملك الموصل فيما بعد ولقيهم تتش على ستة فراسخ من حلب فانهزموا وجئ باقسنقر أسيرا فقتله صبرا ولحق كربوقا وبوزان بحلب فحاصرها تتش وملكها وأخذهما أسيرين وبعث إلى حران والرها في الطاعة فامتنعوا فقتل بوزان وملكهما وحبس كربوقا بحمص ثم سار إلى الجزيرة فملكها جميعا ثم إلى ديار بكر وخلاط ثم اذربيجان ثم همذان وبعث إلى بغداد في الخطبة وكان بركيارق يومئذ بنصيبين فعبر دجلة إلى اربل ثم منها إلى بلد سرحاب بن بدر وسار الامير يعقوب بن ارتق من عسكر تتش فكبسه وهزمه ونجا إلى اصبهان فكان من خبره ما تقدم وبعث تتش يوسف بن اتق التركماني شحنة إلى بغداد فمنع منها فعاث في نواحيها ثم بلغه مهلك تتش فعاد إلى حلب وهذه الاخبار كلها قد تقدمت في أول دولة السلجوقية وانما ذكرنا هاهنا توطئة لدولة بنى تتش بدمشق وحلب والله أعلم * (مقتل تتش) * ولما انهزم بركيارق أمام عمه تتش لحق باصبهان وبها محمود وأهل دولته فأدخلوه وتشاوروا في قتله ثم أبقوه إلى ابلال محمود من مرضه فقدر هلاك محمود وبايعوا لبركيارق فبادر إلى اصبهان وقدم أميرا آخر بين يديه لاعداد الزاد والعلوفة وسار هو إلى
اصبهان ورجع تتش إلى الرى وأرسل إلى الامراء باصبهان يدعوهم ويرغبهم فأجابوه باستبراء أمر بركيارق ثم ابل بركيارق من مرضه وسار في العساكر إلى الرى فانهزم تتش وانهزم عسكره وثبت هو فقتله بعض أصحاب اقسنقر بثار صاحبه واستقام الامر لبركيارق والله تعالى أعلم * (استيلاء رضوان بن تتش على حلب) * كان تتش لما انفصل من حلب استخلف عليها أبا القاسم الحسن بن على الخوارزمي وأمكنه من القلعة ثم أوصى أصحابه قبل المصاف بطاعة ابنه رضوان وكتب إليه بالمسير إلى بغداد ونزول دار السلطنة فسار لذلك وسار معه أبو الغازى بن ارتق وكان أبوه تتش تركه عنده وسار معه ومعه محمد بن صالح بن مرداس وغيرهما وبلغه مقتل أبيه عند هيت فعاد إلى حلب ومعه الاميران الصغيران أبو طالب وبهرام وأمه وزوجها جناح الدولة الحسن بن افتكين لحق بهم من المعركة فلما انتهوا إلى حلب امتنع أبو القاسم بالقلعة ومعه جماعة من المغاربة وهم أكثر جندها فاستمالهم جناح(5/147)
الدولة فثاروا بالقلعة من الليل ونادوا بشعار الملك رضوان واحتاطوا على أبى القاسم فبعث إليه رضوان بالامان وخطب له على منابر حلب وأعمالها وأقام بتدبير دولته جناح الدولة وأحسن السيرة وخالف عليهم الامير باغيسيان بن محمد بن ايه التركماني صاحب انطاكية ثم أطاع وأشار على رضوان بقصد ديار بكر وسار معه لذلك وجاءهم أمراء الاطراف الذين كان تتش رأسهم فيها وقصدوا سروج فسبقهم إليها سلمان بن ارتق وملكها فساروا إلى الرها وبها الفارقليط من الروم كان يضمن البلاد من بوزان فتحصن بالقلعة ودافعهم ثم غلبوه عليها وملكها رضوان وطلبها منه باغيسيان وخشى جناح الدولة على نفسه فلحق بحلب ورجع رضوان والامراء على أثره فسار باغيسيان فأقطعها له ثم سار إلى حران وأميرها قراجا فدس إليهم بعض أهلها بالطاعة واتهم قراجا
بذلك ابن المعنى من أعيانها كان تتش يعتمد عليه في حفظ البلد فقتله وقتل بنى أخيه ثم فسد ما بين جناح الدولة وباغيسيان وخشى جناح الدولة على نفسه فلحق بحلب ورجع رضوان والامراء على أثره فسار باغيسيان إلى بلده انطاكية وسار معه أبو القاسم الخوارزمي ودخل رضوان إلى حلب دار ملكه وكان من أهل دولته يوسف ابن اتق الخوارزمي الذى بعثه تتش إلى بغداد شحنة وكان من الفتيان بحلب وكان قنوعا وكان يعادى يوسف بن اتق فجاء إلى جناح الدولة القائم بأمر رضوان ورمى يوسف بن اتق عنده بأنه يكاتب باغيسيان ويداخله في الثورة واستأذنه في قتله فأذن له وأمده بجماعة من الجند وكبس يوسف في داره فقتله ونهب فيها واستطال على الدولة وطمع في الاستبداد على رضوان ودس لجناح الدولة أن رضوان أمره بقتله فهرب إلى حمص وكانت اقطاعا له واستبد على رضوان ثم تنكر له رضوان سنة تسع وثمانين وأمر بالقبض عليه فاختفى ونهبت دوره وأمواله ودوابه ثم قبض عليه فامتحن وقتل هو وأولاده * (استيلاء دقاق بن تتش على دمشق) * كان تتش قد بعث ابنه دقاقا إلى أخيه السلطان ملك شاه ببغداد فاقام هنالك إلى أن توفى ملك شاه فسار معه ابنه محمود وأمه خاتون الجلالية إلى اصبهان ثم ذهب عنهم سرا إلى بركيارق ثم لحق بأبيه وحضر معه الواقعة التى قتل فيها ولما قتل تتش أبوه سار به مولاه تكين إلى حلب فأقام عند أخيه رضوان وكان بقلعة ساوتكين الخادم من موالى تتش ولاه عليها قبل موته فبعث إلى دقاق يستدعيه للملك فسار إليه وبعث رضوان في طلبه فلم يدركه ووصل دمشق وكتب إليه باغيسيان صاحب انطاكية يشير عليه بالاستبداد بدمشق على أخيه رضوان ووصل معتمد الدولة(5/148)
طغتكين مع جماعة من خواص تتش وكان قد حضر المعركة وأسر فخلص الآن من
الاسار وجاء إلى دمشق فلقيه دقاق ومال إليه وحكمه في أمره وداخله في مثل ساوتكين الخادم فقتلوه ووفد عليهم باغيسيان من انطاكية ومعه أبو القاسم الخوارزمي فأكرمهما واستوزر الخوارزمي وحكمه في دولته * (الفتنة بين دقاق وأخيه رضوان) * ثم سار رضوان إلى دمشق سنة تسعين وأربعمائة قاصدا انتزاعها من يد دقاق فامتنعت عليه فعاد إلى مالس وقصد الورس فامتنعت عليه فعاد إلى حلب وفارقه باغيسيان صاحب انطاكية إلى أخيه دقاق وحض على المسير إلى أخيه بحلب فسار لذلك واستنجد رضوان سكمان من سروج في أمم من التركمان ثم كان اللقاء بقنسرين فانهزمت عساكر دقاق ونهب سوادهم وعاد رضوان إلى حلب ثم سعى بينهما في الصلح على أن يخطب لرضوان بدمشق وانطاكية قبل دقاق فانعقد ذلك بينهما ثم لحق جناح الدولة بحمص عندما عظمت فيه سعاية المحركما ذكرناه وكان باغيسيان منافرا له فلما فصل من حلب جاء باغيسيان إلى رضوان وصالحه ثم بعث إلى رضوان المستعلى خليفة العلويين بمصر يعده بالامداد على أخيه على أن يخطب له على منابره وزين له بعض أصحابه صحة مذهبهم فخطب له في جميع أعماله سوى انطاكية والمعرة وقلعة حلب ثم وفد عليه بعد شهرين من هذه الخطبة سكمان بن ارتق صاحب سروج وباغيسيان صاحب انطاكية فلم يقم بها غير ثلاث حتى وصل الفرنج فحاصروه وغلبوه على انطاكية وقتلوه كما مر في خبره * (استيلاء دقاق على الرحبة) * كانت الرحبة بيد كربوقا صاحب الموصل فلما قتل كما مر في خبره استولى عليها قانمار من موالى السلطان البارسلان فسار دقاق بن تتش ملك دمشق وأتابكه طغركين إليها سنة خمس وتسعين وحاصروها فامتنعت عليهم فعادوا عنها وتوفى قانمار صاحبها في صفر سنة ست وتسعين وقام بأمرها حسن من موالى الاتراك فطمع في الاستبداد وقتل
جماعة من أعيان البلد وحبس آخرين واستخدم جماعة من الجند وطرد آخرين وخطب لنفسه فسار دقاق إليه وحاصره في القلعة حتى استأمن وخرج إليه وأقطعه بالشأم اقطاعات كثيرة وملك الرحبة وأحسن إلى أهلها وولى عليهم ورجع إلى دمشق والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق لا رب غيره * (وفاة دقاق وولاية أخيه تلتاش ثم خلعه) *(5/149)
ثم توفى دقاق صاحب دمشق سنة سبع وتسعين واستقل أتابكه طغركين بالملك وخطب لنفسه سنة ثم قطع خطبته وخطب لتلتاش أخى دقاق صبيا مراهقا وخوفته أمه من طغركين بزواجه أم دقاق وأنه يميل إلى ابن دقاق من أجل جدته فاستوحش وفارق دمشق إلى بعلبك في صفر سنة ثمان وتسعين ولحقه ايتكين الحلبي صاحب بصرى وكان ممن حسن له ذلك فعاث في نواحى خوارزم ولحق به أهل الفساد وراسلا هدويل ملك الفرنج فأجابهما بالوعد ولم يوف لهما فسار إلى الرحبة واستولى عليها تلتاش وقيل ان تلتاش لما استوحش منه طغركين من دخول البلد مضى إلى حصون له وأقام بها ونصب طغركين الطفل ابن دقاق وخطب واستبد عليه وأحسن إلى الناس واستقام أمره والله تعالى ولى التوفيق وهو نعم الرفيق * (الحرب بين طغركين والفرنج أشهرا) * كان قمص من قمامصة الفرنج على مرحلتين من دمشق فلج بالغارات على دمشق فجمع طغركين العساكر وسار إليه وجاء معرون ملك القدس وعكا من الفرنج بانجاد القمص فأظهر العينة عليه وعاد إلى عكا وقاتل طغركين القمص فهزمه وأحجزه بحصنه ثم حاصره حتى ملك الحصن عنوة وقتل أهله وأسر جماعته وعاد إلى دمشق ظافرا غانما ثم سار إلى حصن رمسة من حصون الشأم وقد ملكه الفرنج وبه ابن أخت سميل المقيم على طرابلس يحاصرها فحاصر طغركين حصن رمسة حتى ملكه وقتل
أهله من الفرنج وخربه والله أعلم * (مسير رضوان صاحب حلب لحصار نصيبين) * ثم ان رضوان صاحب حلب اعتزم على غزو الفرنج واستدعى الامراء من النواحى لذلك فجاءه أبو الغازى بن ارتق الذى كان شحنة ببغداد وأصبهان وصباوو وألبى بن ارسلان ماش صاحب سنجر وهو صهر جكرمس صاحب الموصل وأشار أبو الغازى بالمسير إلى بلاد جكرمس للاستكثار بعسكرها وأموالها ووافقه البى وساروا إلى نصيبين في رمضان سنة تسع وتسعين وأربعمائة فحاصروها وفيها أميران من قبل جكرمس واشتد الحصار وجرح البى بن ارسلان بسهم أصابه فعاد إلى سنجر وأجفل أهل السواد إلى الموصل وعسكر جكرمس بظاهرها معتزما على الحرب ثم كاتب أعيان العسكر وحثهم على رضوان وأمر أصحابه بنصيبين باظهار طاعته وطلب الصلح معه وبعث إلى رضوان بذلك والامداد بما يشاؤه على أن يقبض على أبى الغازى فمال إلى ذلك واستدعى أبا الغازى فخبره أن المصلحة في صلح جكرمس ليستعينوا به في غزو(5/150)
الفرنج وجمع شمل المسلمين فجاوبه أبو الغازى بالمنع من ذلك ثم قبض عليه وقيده فانتقض التركمان ولجؤا إلى سور المدينة وقاتلوا رضوان وبعث رضوان بأبى الغازى إلى نصيبين فخرجت منها العساكر لامداده فافترق منها التركمان ونهبوا ما قدروا عليه ورحل رضوان من وقته إلى حلب وانتهى الخبر إلى جكرمس بتل أعفر وهو قاصد حرب القوم فرحل عند ذلك إلى سنجار وبعث إليه رضوان في الوفاء بما وعده من النجدة فلم يف له ونازل صهره البى بن ارسلان بسنجر وهو جريح من السهم الذى أصابه على نصيبين فخرج إليه البى محمولا واعتذر إليه فأعتبه وأعاده إلى بلده فمات وامتنع أصحابه بسنجار رمضان وشوالا ثم خرج إليه عم البى وصالح جكرمس وعاد إلى الموصل والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق بمنه
* (استيلاء الفرنج على افامية) * كان خلف بن ملاعب الكلابي في حمص وملكها تاج الدولة تتش فسار إلى مصر وأقام بها ثم بعث صاحب افامية من جهة رخوانين تتش بطاعته إلى صاحب مصر العلوى فبعث إليها ابن ملاعب وملكها وخلع طاعة العلوية وأقام يخيف السبيل كما كان في حمص فلما ملك الافرنج سرمير لحق به قاضيها وكان على مذهب الرافضة فكتب إلى ابن الطاهر الصانع من أكابر الغلاة ومن أصحاب رضوان وداخلهم في الفتك بابن ملاعب ونمى الخبر إليه من أولاده فحلف له القاضى بما اطمأن إليه وتحيل مع ابن الصانع في جند من قبلهم يستأمنون إلى ابن ملاعب ويعطونه خيلهم وسلاحهم ويقيمون للجهاد معه ففعلوا وأنزلهم بربض افامية ثم بيته القاضى ليلا بمن معه من أهل سرمير ورفع أولئك الجند من الربض بالحبال وقتلوا ابن ملاعب في بيته وقتلوا معه ابنه وفر الآخر إلى أبى الحسن بن منقذ صاحب شيرز وجاء الصانع من حلب إلى القاضى فطرده واستبد بافامية وكان بعض أولاد ابن ملاعب عند طغركين وولاه حماية بعض الحصون فعظم ضرره فطلب طغركين فهرب إلى الافرنج وأغراهم بافامية ودلهم على عورتها وعدم الاقوات فيها فحاصروها شهرا وملكوها عنوة وقتلوا القاضى والصانع وذلك سنة تسع وتسعين وقد ذكرنا قبل أن الصانع قتله ابن بديع وتتش صاحب حلب مهلك رضوان فالله أعلم أيهما الصحيح ثم ملك صاحب انطاكية من الافرنج حصن الامارة بعد حصار طويل فملكه عنوة واستلحم أهله وفعل في ذريته مثل ذلك ورحل أهل منبج وبالس وتركوهما خاويين وملكوا حيد بالامان وطلب الفرنج من أهل الحصون الاسلامية الجزية فأعطوهم ذلك على ضريبة فرضوها عليهم فكان على رضوان في حلب وأعمالها ثلاثون ألف دينار وعلى صور سبعة آلاف وعلى ابن منقذ في شيرز(5/151)
أربعة آلاف وعلى حماة ألفا دينار وذلك سنة خمس وخمسمائة
* (استيلاء طغركين على بصرى) * قد تقدم لنا سنة سبع وتسعين حال تلتاش بن تتش والخطبة له بعد أخيه دقاق وخروجه من دمشق واستنجاده الفرنج وان الذى تولى كبر ذلك كله اسكين الحملى صاحب بصرى فسار طغركين سنة المائة الخامسة إلى بصرى وحاصرها حتى أذعنوا وضربوا له أجلا للفرنج فعاد إلى دمشق حتى انقضى الاجل فأتوه طاعتهم وملك البلد وأحسن إليهم والله تعالى ولى التوفيق لا رب غيره * (غزو طغركين وهزيمته) * ثم سار طغركين سنة اثنتين وخمسمائة إلى طبرية ووصل إليها ابن أخت بقدوين ملك الفرس من الفرنج فاقتتلوا فانهزم المسلمون أولا فنزل طغركين ونادى بالمسلمين فكروا وانهزم الفرنج وأسر ابن أخت بقدوين وعرض طغركين عليه الاسلام فامتنع فقتله بيده وبعث بالاسرى إلى بغداد ثم انعقد الصلح بين طغركين وبقدوين بعد أربع سنين وسار بعدها طغركين إلى حصن غزة في شعبان من السنة وكان نيد مولى القاضى فخر الملك بن على بن عمار صاحب طرابلس فعصى عليه وحاصره الافرنج وانقطعت عنه الميرة فأرسل إلى طغركين صاحب دمشق أن يمكنه من الحصن فأرسل إليه اسرائيل من أصحابه فملك الحصن وقتل صاحبه مولى بن عمار غيلة ليستأثر بمخلفه فانتظر طغركين دخول الشتاء وسار إلى الحصن لينظر في أمره وكان اسردانى من الافرنج يحاصر طرابلس فلما سمع بوصول طغركين حصن الاكمة أغذ السير إليه فهزمه وغنم سواده ولحق طغركين بحمص ونازل أسردانى غرة فاستأمنوا إليه وملكها وقبض على اسرائيل فادى به أسيرا كان لهم بدمشق منذ سبع سنين ووصل طغركين إلى دمشق ثم قصد ملك الافرنج رمسة من أعماله دمشق فملكها وشحنها بالاقوات والحامية فقصدها طغركين بعد أن نمى إليه الخبر بضعف الحامية الذين بها فكبسها عنوة وأسر الافرنج الذين بها والله سبحانه وتعالى أعلم
* (انتقاض طغركين على السلطان محمد) * كان السلطان محمد بن ملك شاه قد أمر مودود بن بوشكين صاحب الموصل بالمسير لغزو الافرنج لان ملك القدس تابع الغارات على دمشق سنة ست وخمسمائة واستصرخ طغركين بمودود فجمع العساكر وسار سنة تسع ولقيه طغركين بسهلة وقصدوا القدس وانتهوا إلى الانحوانة على الاردن وجاء بقدوين فنزل قبالتهما على النهر ومعه جوسكين(5/152)
صاحب جيشه واقتتلوا منتصف محرم سنة عشر على بحيرة طبرية فانهزم الافرنج وقتل منهم كثير وغرق كثير في بحيرة طبرية ونهر الاردن ولقيتهم عساكر طرابلس وانطاكية فاشتدوا وأقاموا بجبل قرب طبرية وحاصرهم المسلمون فيه ثم يئسوا من الظفر به فساحوا في بلادهم واكتسحوها وخربوها ونزلوا مرج الصفر وأذن مودود للعساكر في العود والراحة ليتهيؤا للغزو سلخ الشتاء ودخل دمشق آخر ربيع من سنة ليقيم عند طغركين تلك المدة وصلى معه أول جمعة ووثب عليه باطني بعد الصلاة فطعنه ومات آخر يومه واتهم طغركين بقتله وولى السلطان مكانه على الموصل اقسنقر البرسقى فقبض على اياز بن أبى الغازى وأبيه صاحب حصن كيفا فسار بنو أرتق إلى البرسقى وهزموه وتخلص اياز من أسره فلحق أبو الغازى أبوه بطغركين صاحب دمشق وأقام عنده وكان مستوحشا من السلطان محمد لاتهامه بقتل مودود فبعث إلى صاحب انطاكية من الفرنج وتحالفوا على المظاهرة وقصد أبو الغازى ديار بكر فظفر به قيرجان ابن قراجا صاحب حمص وأسره وجاء طغركين لاستنقاذه فحلف قيرجان ليقتلنه ان لم يرجع طغركين إلى بلاده وانتظر وصول العساكر من بغداد تحمله فأبطأت فأجاب طغركين إلى اطلاقه ثم بعث السلطان محمد العساكر لجهاد الافرنج والبداءة بقتال طغركين وأبى الغازى فساروا في رمضان سنة ثمان وخمسمائة ومقدمهم برسق ابن برسق صاحب همذان وانتهوا إلى حلب وبعثوا إلى متوليها لؤلؤ الخادم ومقدم
عسكرها شمس الخواص يأمرونهما بالنزول عنها وعرضوا عليهما كتب السلطان بذلك فدافعا بالوعد واستحثا طغركين وأبا الغازى في الوصول فوصلا في العساكر وامتنعت حلب على العساكر وأظهروا العصيان فسار برسق إلى حماة وهى لطغركين فملكها عنوة ونهبها ثلاثا وسألهما الامير قيرجان صاحب حمص وكان جميع ما يفتحه من البلاد له بأمر السلطان فانتقض الامراء من ذلك وكسلوا عن الغزو وسار أبو الغازى وطغركين وشمس الخواص إلى انطاكية يستنجدون صاحبها دجيل من الافرنج ثم توادعوا إلى انصرام الشتاء ورجع أبو الغازى إلى ماردين وطغركين إلى دمشق ثم كان في اثر ذلك هزيمة المسلمين واستشهد برسق وأخوه زنكى وقد تقدم خبر هذه الهزيمة في أخبار البرسقى ثم قدم السلطان محمد بغداد فوفد عليه اتابك طغركين صاحب دمشق في ذى القعدة من سنة تسع مستعينا فأعانه وأعاده إلى بلده والله سبحانه وتعالى أعلم * (وفاة رضوان بن تتش صاحب حلب وولاية ابنه البارسلان) * ثم توفى رضوان بن تتش صاحب حلب سنة تسع وخمسمائة وقد كان قتل أخويه(5/153)
أبا طالب وبهرام وكان يستعين بالباطنية في أموره ويداخلهم ولما توفى بايع مولاه لؤلؤ الخادم لابنه البارسلان صبيا مغتلما وكانت في لسانه حبسة فكان يلقب الاخرس وكان لؤلؤ مستبدا عليه ولاول ملكه قتل أخويه وكل ملك شاه منهما شقيقه وكانت الباطنية كثيرا في حلب في أيام رضوان حتى خافهم ابن بديع وأعيانها فلما توفى أذن لهم البارسلان في الايقاع بهم فقبضوا على مقدمهم ابن طاهر الصابغ وجماعة من أصحابهم فقتلوهم وافترق الباقون [ مهلك لؤلؤ الخادم واستيلاء أبى الغازى ثم مقتل البارسلان وولاية أخيه السلطان شاه ]
كان لؤلؤ الخادم قد استولى على قلعة حلب وولى أتابكية البارسلان ابن مولاه رضوان ثم تنكر له فقتله لؤلؤ ونصب في الملك أخاه سلطان شاه واستبد عليه فلما كان سنة احدى عشرة سار إلى قلعة جعفر للاجتماع بصاحبها سالم بن مالك فغدر به مماليكه الاتراك وقتلوه عند خرتبرت وأخذوا خزائنه واعترضهم أهل حلب فاستعادوا منهم ما أخذوه وولى أتابكية سلطان شاه بن رضوان شمس الخواص بارقياس وعزل لشهر وولى بعده أبو المعالى بن الملحى الدمشقي ثم عزل وصودر واضطربت الدولة وخاف أهل حلب من الافرنج فاستدعوا أبا الغازى بن أتق وحكموه على أنفسهم ولم يجد فيها مالا فصادر جماعة الخدم وصانع بمالهم الافرنج حتى صار إلى ماردين بنية العود إلى حمايتها واستخلف عليها ابنه حسام الدين مرتاش وانقرض ملك رضوان بن تتش من حلب والله سبحانه وتعالى أعلم * (هزيمة طغركين أمام الافرنج) * كان ملك الافرنج بقدوين صاحب القدس قد توفى سنة ثنتى عشرة وقام بملكهم بعده القمص صاحب الرها الذى كان أسره جكرمس وأطلقه جاولى كما تقدم في أخبارهم وبعث إلى طغركين في المهادنة وكان قد سار من دمشق لغزوهم فأبى من اجابته وسار إلى طبرية فنهبها واجتمع بقواد المصريين في عسقلان وقد أمرهم صاحبهم بالرجوع إلى رأى طغركين ثم عاد إلى دمشق وقصد الافرنج حصنا من أعماله فاستأمن إليهم أهله وملكوه ثم قصدوا أذرعات فبعث طغركين ابنه بورى لمدافعتهم فتنحوا عن أذرعات إلى جبل هناك وحاصرهم بورى وجاء إليه أبو طغركين فراسلوه ليفرج عنهم فأبى طمعا في أخذهم فاستماتوا وحملوا على المسلمين حملة صادقة فهزموهم ونالوا منهم ورجع الفل إلى دمشق وسار طغركين إلى أبى الغازى بحلب يستنجده فوعده بالنجدة وسار إلى(5/154)
ماردين للحشد ورجع طغركين إلى دمشق كذلك وتواعدوا للجبال وسبقى الافرنج إلى
حلب وكان بينه وبين أبى الغازى ما نذكره في موضعه من دولة بنى ارتق والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق لا رب غيره * (منازلة الافرنج دمشق) * ثم اجتمع الافرنج سنة عشرين وخمسمائة ملوكهم وقمامصتهم وساروا إلى دمشق ونزلوا مرج الصفر وبعث أتابك طغركين بالصريخ إلى تركمان بديار بكر وغيرها وخيم قبالة الافرنج واستخلف ابنه بورى على دمشق ثم ناجزهم الحرب آخر السنة فاشتد القتال وصرع طغركين عن فرسه فانهزم المسلمون وركب طغركين واتبعهم ومضت خيالة الافرنج في اتباعهم وبقى رجالة التركمان في المعركة فلما خلص إليهم رجالة الافرنج اجتمعوا واستماتوا وحملوا على رجالة الافرنج فقتلوهم ونهبوا معسكرهم وعادوا غانمين ظافرين إلى دمشق ورجعت خيالة الافرنج من اتباعهم منهزمين فوجدوا معسكرهم منهوبا ورجالتهم قتلى وكان ذلك من الصنع الغريب * (وفاة طغركين وولاية ابنه بورى) * ثم توفى أتابك طغركين صاحب دمشق في صفر سنة ثنتين وعشرين وكان من موالى تاج الدولة تتش وكان حسن السيرة مؤثرا للعدل محبا في الجهاد ولقبه ظهير الدين ولما توفى ملك بعده ابنه تاج الدولة بورى أكبر أولاده بعهده إليه بذلك واقر وزير أبيه ابى على طاهر بن سعد المزدغانى على وزارته وكان المزدغانى يرى رأى الرافضية الاسماعيلية وكان بهرام ابن أخى ابراهيم الاستراباذى لما قتل عمه ابراهيم ببغداد على هذا المذهب لحق بالشأم وملك قلعة بانياس ثم سار إلى دمشق وأقام بها خليفة يدعو إلى مذهبه ثم فارقها وملك القرموس وغيره من حصون الجبال وقابل البصرية والدرزة بوادي اليتم من أعمال بعلبك سنة ثنتين وعشرين وغلبهم الضحاك وقتل بهرام وكان المزدغانى قد أقام له خليفة بدمشق يسمى أبا الوفاء فكثر اتباعه وتحكم في البلد وجاء الخبر إلى بورى بأن وزيره المزدغانى والاسماعيلية قد راسلوا الافرنج بأن يملكوهم دمشق فجاء إليها وقتل
المزدغانى ونادى بقتل الاسماعيلية وبلغ الخبر إلى الافرنج فاجتمع صاحب القدس وصاحب انطاكية وصاحب طرابلس وسائر ملوك الافرنج وساروا لحصار دمشق واستصرخ تاج الملك بالعرب والتركمان وجاء الافرنج في ذى الحجة من السنة وبثوا سراياهم للنهب والاغارة ومضت منها سرية إلى خوارزم فبعث تاج الدولة بورى سرية من المسلمين مع شمس الخواص من أمرائه لمدافعتهم فلقوهم وظفروا بهم واستلحموهم(5/155)
وبلغ الخبر إلى الافرنج فأجفلوا منهزمين وأحرقوا مخلفه واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون والله تعالى ولى التوفيق * (أسر تاج الملك لدبيس بن صدقة وتمكين عماد الدين زنكى منه) * كان بصرخد من أرض الشأم أميرا عليها فتوفى سنة خمس وعشرين وخلف سريته واستولت على القلعة وعلمت أنه لا يتم لها استيلاؤها الا بتزويج رجل من أهل العصابة فوصف لها دبيس فكتبت إليه تستدعيه وهو على البصرة منابذا للسلطان عندما رجع من عند سنجر فاتخذ الادلاء وسار إلى صرخد فضل به الدليل بنواحي دمشق ونزل على قوم من بنى كلاب شرقي الغوطة فحملوه إلى تاج الملك فحبسه وبعث به إلى عماد الدين زنكى يستدعيه ويتهدده على منعه وأطلق سريج بن تاج الملوك والامراء الذين كانوا مأسورين معه فبعث تاج الملك بدبيس إليه وأشفق على نفسه فلما وصل إلى زنكى خالف ظنه وأحسن إليه وسد خلته وبسط أمله وبعث فيه المسترشد أيضا يطلبه وجاء فيه الانباري وسمع في طريقه باحسان زنكى إليه فرجع ثم أرسل المسترشد يشفع فيه فأطلق * (وفاة تاج الملوك بورى صاحب دمشق وولاية ابنه شمس الملوك اسمعيل) * كان تاج الملوك بورى قد ثار به جماعة من الباطنية سنة خمس وعشرين وطعنوه فأصابته جراحة واندملت ثم انتقضت عليه في رجب من سنة ست وعشرين لاربع
سنين ونصف من امارته وولى بعده ابنه شمس الملوك اسمعيل بعهده إليه بذلك وكان عهد بمدينة بعلبك وأعمالها لابنه الآخر شمس الدولة وقام بتدبير أمره الحاجب يوسف ابن فيروز شحنة دمشق وأحسن إلى الرعية وبسط العدل فيهم والله سبحانه وتعالى أعلم * (استيلاء شمس الملوك على الحصون) * ولما تولى شمس الملوك اسمعيل وسار أخوه محمد إلى بعلبك خرج إليها وحاصر أخاه محمدا بها وملك البلد واعتصم محمد بالحصن وسأل الابقاء فأبقى عليه ورجع إلى دمشق ثم سار إلى باشاش وقد كان الافرنج الذين بها نقضوا الصلح وأخذوا جماعة من تجار دمشق في بيروت فسار إليها طاويا وجه مذهبه حتى وصلها في صفر سنة سبع وعشرين وقاتلها ونقب أسوارها وملكها عنوة ومثل بالافرنج الذين بها واعتصم فلهم بالقلعة حتى استأمنوا وملكها ورجع إلى دمشق ثم بلغه ان المسترشد زحف إلى الموصل فطمع هو في حماة وسار آخر رمضان وملكها يوم الفطر من غده فاستأمنوا إليه وملكها واستولى على ما فيها ثم سار إلى قلعة شيرز وبها صاحبها من بنى منقذ فحاصرها وصانعه(5/156)
صاحبها بمال حمله إليه فأفرج عنه وسار إلى دمشق في ذى القعدة من السنة ثم سار في محرم سنة ثمان وعشرين إلى حصن شقيق في الجبل المطل على بيروت وصيدا وبه الضحاك بن جندل رئيس وادى اليتم قد تغلب عليه وامتنع به وتحاماه المسلمون والافرنج يحتمى من كل طائفة بالاخرى فسار إليه وملكه من وقته وعظم ذلك على الافرنج فساروا إلى حوران وعاثوا في نواحيها فاحتشد هو واستنجد بالتركمان وسار حتى نزل قبالتهم وجهز العسكر هنالك وخرج في البر وأناخ على طبرية وعكا فاكتسح نواحيها وامتلات أيدى عسكره بالغنائم والسبي وانتهى الخبر إلى الافرنج بمكانهم من بلاد حوران فأجفلوا إلى بلادهم وعاد هو إلى دمشق وراسله الافرنج في تجديد الهدنة فهادنهم
* (مقتل شمس الملوك وولاية أخيه شهاب الدين محمود) * كان شمس الملوك سيئ السيرة كثير الظلم والعدوان على رعيته مرهف الحد لاهله وأصحابه حتى انه وثب عليه بعض مماليك جده سنة سبع وعشرين وعلاه بالسيف ليقتله فأخذ وضرب فأقر على جماعة داخلوه فقتلهم وقتل معهم أخاه سونج فتنكر الناس له وأشيع عنه بأنه كاتب عماد الدين زنكى ليملكه دمشق واستحثه في الوصول لئلا يسلم البلد إلى الافرنج فسار زنكى فصدق الناس الاشاعة وانتقض أصحاب أبيه لذلك وشكوا لامه فأشفقت ثم تقدمت إلى غلمانه بقتله فقتلوه في ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وقيل انه اتهم أمه بالحاجب يوسف بن فيروز فاعتزم على قتلها فهرب يوسف وقتلته أمه ولما قتل ولى أخوه شهاب الدين محمود من بعده ووصل أتابك زنكى بعد مقتله فحاصر دمشق من ميدان الحصار وجدوا في مدافعته والامتناع عليه وقام في ذلك معين الدين أنز مملوك جده طغراكين مقاما محمودا وجلا في المدافعة والحصار ثم وصل رسول المسترشد أبو بكر بن بهثر الجزرى إلى أتابك زنكى يأمره بمسالمة صاحب دمشق الملك البارسلان شهاب الدين محمود وصلحه معه فرحل عن دمشق منتصف السنة * (استيلاء شهاب الدين محمود على حمص) * كانت حمص لقيرجان بن قراجا ولولده من بعده والموالي بها من قبلهما وطالبهم عماد الدين زنكى في تسليمها وضايقهم في نواحيها فراسلوا شهاب الدين صاحب دمشق في أن يملكها ويعوضهم عنها بتدمر فأجاب واستولى على حمص وسار إليها سنة ثلاثين وأقطعها لمملوك جده معين الدين أنز وأنزل معه حامية من عسكره ورجع إلى(5/157)
دمشق واستأذنه الحاجب يوسف بن فيروز في العود من تدمر إلى دمشق وقد كان هرب إليها كما قدمناه وكان جماعة من الموالى منحرفين عنه بسبب ما تقدم في مقتل
سونج فنكروا ذلك فلاطفهم ابن فيروز واسترضاهم وحلف لهم انه لا يتولى شيأ من الامور ولما دخل رجع إلى حاله فوثبوا عليه وقتلوه وخيموا بظاهر دمشق واشتطوا في الطلب فلم يسعفوا بكلمة فلحقوا بشمس الدولة محمد بن تاج الملوك في بعلبك وبثوا السرايا إلى دمشق فعاثت في نواحيها حتى أسعفهم شهاب الدين بكل ما طلبوه فرجعوا إلى ظاهر دمشق وخرج لهم شهاب الدين وتحالفوا ودخلوا إلى البلد وولى مرواش كبيرهم على العساكر وجعل إليه الحل والعقد في دولته والله أعلم * (استيلاء عماد الدين زنكى على حمص وغيرها من أعمال دمشق) * ثم سار أتابك زنكى إلى حمص في شعبان سنة احدى وثلاثين وقدم إليه حاجبه صلاح الدين الباغيسيانى وهو أكبر أمرائه مخاطبا واليها معين الدين أنز في تسليمها فلم يفعل وحاصرها فامتنعت عليه فرحل عنها آخر شوال منه السنة ثم سار سنة ثنتين وثلاثين إلى نواحى بعلبك فملك حصن المحولى على الامان وهو لصاحب دمشق ثم سار إلى حمص وحاصرها وعاد ملك الروم إلى حلب فاستدعى الفرنج وملك كثيرا من الحصون مثل عين زربة وتل حمدون وحصر انطاكية ثم رجع وأفرج أتابك زنكى خلال ذلك عن حمص ثم عاود منازلتها بعد مسير الروم وبعث إلى شهاب الدين صاحب دمشق يخطب إليه امه مرد خاتون ابنة جاولى طمعا في الاستيلاء على دمشق فزوجها له ولم يظفر بما أمله من دمشق وسلموا له حمص وقلعتها وحملت إليه خاتون في رمضان من السنة والله أعلم * (مقتل شهاب الدين محمود وولاية أخيه محمد) * لما قتل شهاب الدين محمود في شوال سنة ثلاث وثلاثين اغتاله ثلاثة من مواليه في مضجعه بخلوته وهربوا فنجا واحد منهم وأصيب الآخران كتب معين الدين أنز إلى أخيه شمس الدين محمد بن بورى صاحب بعلبك بالخبر فسارع ودخل دمشق وتبعه الجند والاعيان وفوض أمر دولته إلى معين الدين أنز مملوك جده وأقطعه بعلبك واستقامت
أموره * (استيلاء زنكى على بعلبك وحصاره دمشق) * ولما قتل شهاب الدين محمود وبلغ خبره إلى أمه خاتون زوجة أتابك زنكى بحلب عظم جزعها عليه وأرسلت إلى زنكى بالخبر وكان بالجزيرة وسألت منه الطلب بثار ابنها فسار(5/158)
إلى دمشق واستعدوا للحصار فعدل إلى بعلبك وكانت لمعين الدين أنز كما قلناه وكان أتابك زنكى دس إليه الاموال ليمكنه من دمشق فلم يفعل فسار إلى بلده بعلبك وجد في حربها ونصب عليها المجانيق حتى استأمنوا إليه وملكها في ذى الحجة آخر سنة ثلاث وثلاثين واعتصم جماعة من الجند بقلعتها ثم استأمنوا فقتلهم وأرهب الناس بهم ثم سار إلى دمشق وبعث إلى صاحبها في تسليمها والنزول عنها على أن يعوضه عنها فلم يجب إلى ذلك فزحف إليها ونزل داريا منتصف ربيع الاول سنة أربع وثلاثين وبرزت إليه عساكر دمشق فظفر بهم وهزمهم ونزل المصلى وقاتلهم فهزمهم ثانيا ثم امسك عن قتالهم عشرة أيام وتابع الرسل إليه بأن يعوضه عن دمشق ببعلبك أو حمص أو ما يختاره فمنعه أصحابه فعاد زنكى إلى القتال واشتد في الحصار والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق * (وفاة جمال الدين محمد بن بورى وولاية ابنه مجير الدين أنز) * ثم توفى جمال الدين محمد بن بورى صاحب دمشق رابع شعبان سنة أربع وثلاثين وزنكى محاصر به وهو معه في مراوضة الصلح وجمع زنكى فيما عساه أن يقع بين الامراء من الخلاف فاشتد في الزحف فما وهنوا لذلك وولوا من بعد جمال الدين محمدا ابنه مجير الدين أنز وقام بتربيته وتدبير دولته معين الدين أنز مدبر دولته وأرسل إلى الافرنج يستنجدهم على مدافعة زنكى على أن يحاصر قاشاش فإذا فتحها أعطاهم اياها فأجابوا إلى ذلك حذرا من استطالة زنكى بملك دمشق فسار زنكى للقائهم قبل اتصالهم بعسكر دمشق
ونزل حوران في رمضان من السنة فخام الافرنج عن لقائه وأقاموا ببلادهم فعاد زنكى إلى حصار دمشق في شوال من السنة ثم أحرق قرى المرج والغوطة ورحل عائدا إلى بلده ثم وصل الافرنج إلى دمشق بعد رحيله فسار معهم معين الدين أنز إلى قاشاش من ولاية زنكى ليفتحها ويعطيها للافرنج كما عاهدهم عليه وقد كان واليها أغار على مدينة صور ولقيه في طريقه صاحب انطاكية وهو قاصد إلى دمشق لانجاد صاحبها على زنكى فقتل الوالى ومن معه من العسكر ولجأ الباقون إلى قاشاش وجاء معين الدين أنز اثر ذلك في العساكر فملكها وسلمها للافرنج وبلغ الخبر إلى أتابك زنكى فسار إلى دمشق بعد ان فرق سراياه وبعوثه على حوران وأعمال دمشق وسار هو متجردا إليها فصبحها وخرج العسكر لقتاله فقاتلهم عامة يومه ثم تأخر إلى مرج راهط وانتظر بعوثه حتى وصلوا إليه وقد امتلات أيديهم بالغنائم ورحل عائدا إلى بلده * (مسير الافرنج لحصار دمشق) *(5/159)
كان الافرنج منذ ملكوا سواحل الشأم ومدنه تسير إليهم أمم الافرنج من كل ناحية من بلادهم مددا لهم على المسلمين لما يرونه من تفرد هؤلاء بالشأم بين عدوهم وسار في سنة ثلاث وأربعين ملك الالمان من أمراء الافرنج من بلاده في جموع عظيمة قاصدا بلاد الاسلام لا يشك في الغلب والاستيلاء لكثرة عساكره وتوفر عدده وأمواله فلما وصل الشأم اجتمع عليه عساكر الافرنج الذين له ممتثلين أمره فأمرهم بالمسير معه إلى دمشق فساروا لذلك سنة ثلاث وأربعين وحاصروها فقام معين الدين أنز في مدافعتهم المقام المحمود ثم قاتلهم الافرنج سادس ربيع الاول من السنة فنالوا من المسلمين بعد الشدة والمصابرة واستشهد ذلك اليوم الفقيه حجة الدين يوسف العندلاوى المغربي وكان عالما زاهدا وسأله معين الدين يومئذ في الرجوع لضعفه وسنه فقال له قد بعت واشترى منى فلا أقيل ولا أستقيل يشير إلى آية الجهاد وتقدم حتى استشهد عند
اسرت على نصف فرسخ من دمشق واستشهد معه خلق وقوى الافرنج ونزل ملك الالمان الميدان الاخضر وكان عماد الدين زنكى صاحب الموصل قد توفى سنة احدى وأربعين وولى ابنه سيف الدين غازى الموصل وابنه نور الدين محمود حلب فبعث معين الدين أنز إلى سيف الدين غازى صاحب الموصل يستنجده فجاء لانجاده ومعه أخوه نور الدين وانتهوا إلى مدينة حمص وبعث إلى الافرنج يتهددهم فاضطروا إلى قتاله وانقسمت مؤنتهم بين الفريقين وأرسل معين الدين إلى الالمان يتهددهم بتسليم البلد إلى ملك المشرق يعنى صاحب الموصل وأرسل إلى فرنج الشأم يحذرهم من استيلاء ملك الالمان على دمشق فانه لا يبقى لكم معه مقام في الشأم ووعدهم بحصن قاشاش فاجتمعوا إلى ملك الالمان وخوفوه من صاحب الموصل أن يملك دمشق فرحل عن البلد وأعطاهم معين الدين قلعة قاشاش وعاد ملك الالمان إلى بلاده على البحر المحيط في أقصى الشمال والمغرب ثم توفى معين الدين أنز مدبر دولة اتق والمتغلب عليه سنة أربع وأربعين لسنة من حصار ملك الالمان والله أعلم * (استيلاء نور الدين محمود العادل على دمشق وانقراض دولة بنى تتش من الشأم) * كان سيف الدين غازى بن زنكى صاحب الموصل قد توفى سنة أربع وأربعين وملك أخوه قطب الدين وانفرد أخوه الآخر نور الدين محمود بحلب وما يليها وتجرد لطلب دمشق ولجهاد الافرنج واتفق أن الافرنج سنة ثمان وأربعين ملكوا عسقلان من يد خلفاء العلوية لضعفهم كما مر في أخبار دولتهم ولم يجد نور الدين سبيلا إلى ارتجاعها منهم لاعتراض دمشق بينه وبينهم ثم طمعوا في ملك دمشق بعد عسقلان وكان أهل دمشق يؤدون إليهم الضريبة فيدخلون لقبضها ويتحكمون فيهم ويطلقون من(5/160)
أسرى الافرنج الذين بها كل من أراد الرجوع إلى أهله فخشى نور الدين عليها من الافرنج ورأى انه ان قصدها استنصر صاحبها عليه بالافرنج فراسل صاحبها مجير الدين
واستماله بالهدايا حتى وثق به فكان يغريه بأمرائه الذين يجد بهم القوة على المدافعة واحدا واحدا ويقول له ان فلانا كاتبني بتسليم دمشق فيقتله مجير الدين حتى كان آخرهم عطاء بن حافظ السلمى الخادم وكان شديدا في مدافعة نور الدين فأرسل إلى مجير الدين بمثلها فيه فقبض عليه وقتله فسار حينئذ نور الدين إلى دمشق بعد ان كاتب الاحداث الذين بها واستمالهم فوعدوه وأرسل مجير الدين إلى الافرنج من نور الدين على أن يعطيهم بعلبك فأجابوه وشرعوا في الحشد وسبقهم نور الدين إلى دمشق فثار الاحداث الذين كاتبهم وفتحوا له الباب الشرقي فدخل منه وملكها واعتصم مجير الدين بالقلعة فراسله في النزول عنها وعوضه مدينة حمص فسار إليها ثم عوضه عن حمص بالس فلم يرضها وسار إلى بغداد واختط بها دار اقرب النظامية وتوفى بها واستولى نور الدين على دمشق وأعمالها واستضافها إلى ملكه فجلب وانقرض ملك بنى تتش من الشأم والبلاد الفارسية أجمع والبقاء لله وحده والله مالك الملك لا رب غيره سبحانه وتعالى(5/161)
[ الخبر عن دولة قطلمش وبنيه ملوك قونية وبلاد الروم من السجلوقية ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم ] كان قطلمش هذا من عظماء أهل هذا البيت ونسبه فيهم مختلف فقيل قطلمش بن بيقو وابن الاثير تارة يقول قطلمش ابن عم طغرلبك وتارة يقول قطلمش بن اسرائيل من سلجوق ولعله بيان ذلك الاجمال ولما انتشر السلجوقية في البلاد طالبين للملك دخل قطلمش هذا إلى بلاد الروم وملك قونية وأقصرا ونواحيها وبعثه السلطان طغرلبك بالعساكر مع قريش بن بدران صاحب الموصل في طلب دبيس بن مزيد عندما أظهر الدولة العلوية في الحلة وأعمالها فهزمهم دبيس والبساسيرى كما تقدم في أخبارهم ثم(5/162)
عصى على السلطان البارسلان بعد طغرلبك وقصد الرى ليملكه وقاتله البارسلان سنة ست وخمسين فانهزم عسكر قطلمش ووجد بين القتلى فتجمع له البارسلان وقعد للعزاء فيه كما تقدم في أخبارهم وقام بأمره ابنه سليمان وملك قونية وأقصرا وغيرهما من الولاية التى كانت بيد أبيه وافتتح انطاكية من يد الروم سنة سبع وسبعين وأربعمائة وقد كانوا ملكوها منذ خمس وخمسين وأربعمائة فأخذها منهم وأضافها إلى ملكه وقد تقدم خبر ملكه اياها في دولتهم وكان لمسلم بن قريش صاحب الموصل ضريبة على الروم بانطاكية فطالب بها سليمان بن قطلمش فامتعض لذلك وأنف منه فجمع مسلم العرب والتركمان لحصار انطاكية ومعه جق أمير التركمان والتقيا سنة ثمان وسبعين وانحاز جق إلى سليمان فانهزم العرب وسار سليمان بن قطلمش لحصار حلب فامتنعت عليه وسألوه الامهال حتى يكاتب السلطان ملك شاه ودسوا إلى تاج الدولة تتش صاحب دمشق يستدعونه فأغذ السير واعترضه سليمان بن قطلمش على غير تعبية فانهزم وطعن نفسه بخنجر فمات وغنم تتش معسكره وملك بعده ابنه قليج ارسلان وأقام في سلطانه ولما زحف الافرنج إلى سواحل الشأم سنة تسعين وأربعمائة جعلوا طريقهم على القسطنطينية فمنعهم من ذلك ملك الروم حتى شرط عليهم أن يعطوه انطاكية إذا ملكوها فأجابوا لذلك وعبروا خليج القسطنطينية ومروا ببلاد قليج ارسلان بن سليمان ابن قطلمش فلقيهم في جموعه قريبا من قونية فهزموه وانتهوا إلى بلاد بن ليون الارمني فمروا منها إلى انطاكية وبها باغيسيان من أمراء السلجوقية فاستعد للحصار وأمر بحفر الخندق فعمل فيه المسلمون يوما ثم عمل فيه النصارى الذين كانوا بالبلد من الغد فلما جاؤا للدخول منعهم وقال أنا لكم في مخلفكم حتى ينصرف هؤلاء الافرنج وزحفوا إليه فحاصروه تسعة أشهر ثم عدا بعض الحامية من سور البلد عليهم فادخلوهم من بعض مسارب الوادي وأصبحوا في البلد فاستباحوه وركب باغيسيان للصلح فهرب ولقيه حطاب من الارمن فجاء برأسه إلى الافرنج وولى عليها بيمشد من زعماء
الافرنج وكان صاحب حلب وصاحب دمشق قد عزما على النفير إلى انطاكية لمدافعتهم فبكاتبهم الافرنج بالمسالمة وانهم لا يعرضون لغير انطاكية فأوهن ذلك من عزائمهم وأقصروا عن انجاد باغيسيان وكان التركمان قد انتشروا في نواحى العراق وكان كمستكين بن طبلق المعروف أبوه بالوانشمند ومعناه المعلم عندهم قد ملك سيواس من بلاد الروم مما يلى انطاكية وكان بملطية مما يجاورها متغلب آخر من التركمان وبينه وبين الوانشمند حروب فاستنجد صاحب ملطية عليه الافرنج وجاء بيضل من انطاكية سنة ثلاث وتسعين في خمسة آلاف فلقيه ابن الوانشمند(5/163)
وهزمه وأخذه أسيرا وجاء الافرنج لتخليصه فنازلوا قلعة انكورية وهى أنقرة فأخذوها عنوة ثم ساروا إلى أخرى فيها اسمعيل بن الوانشمند وحاصروها فجمع ابن الوانشمند وقاتلهم وأكمن لهم وكانوا في عدد كثير فلما قاتلهم استطرد لهم حتى خرج عليهم الكمين وكر عليهم فلم يفلت منهم أحد وسار إلى ملطية فملكها وأسر صاحبها وجاءه الافرنج من انطاكية فهزمهم * (استيلاء قليج ارسلان على الموصل) * كانت الموصل وديار بكر والجزيرة بيد جكرمس من قواد السلجوقية فمنع الحمل وهم بالانتقاض فأقطع السلطان الموصل وما معها لجاولى من سكاوو والكل من قوادهم وأمرهم بالمسير لقتال الافرنج فسار جاولى وبلغ الخبر لجكرمس فسار من الموصل إلى اربل وتعاقد مع أبى الهيجاء بن موسك الكردى الهدباى صاحب اربل وانتهى إلى البوازيح فعبر إليه جكرمس دجلة وقاتله فانهزمت عساكر جكرمس وبقى جكرمس واقفا لفالج كان به فأسره جاولى ولحق الفل بالموصل فنصبوا مكانه ابنه زنكى صبيا صغيرا وأقام بأمره غرغلى مولى أبيه وكانت القلعة بيده وفرق الاموال والخيول واستعد لمدافعة جاولى وكاتب صدقة بن مزيد والبرسقى شحنة
بغداد وقليج ارسلان صاحب بلاد الروم يستنجدهم ويعد كلا منهم بملك الموصل إذا دافعوا عنه جاولى فأعرض صدقة عنه ولم يحتفل بذلك ثم سار جاولى إلى الموصل وحاصرها وعرض جكرمس للقتل أو يسلموا إليه البلد فامتنعوا وأصبح جكرمس في بعض أيام حصارها وسمع جاولى بأن ارسلان سار في عساكره إلى نصيبين فأفرج عن الموصل وسار إلى سنجار وسبق البرسقى إليها بعد رحيل جاولى وأرسل إلى أهلها فلم يجيبوه بشئ وعاد إلى بغداد واستدعى رضوان صاحب دمشق جاولى سكاوو لمدافعة الافرنج عنه فساروا إليه وخرج من الموصل عسكر جكرمس إلى قلبج ارسلان بنصيبين فتحالفوا معه وجاؤا به إلى الموصل فملكها آخر رجب من سنة خمسمائة وخرج إليه ابن جكرمس وأصحابه وملك القلعة من غرغلى وجلس على التخت وخطب لنفسه بعد الخليفة وأحسن إلى العسكر وسار في الناس بالعدل وكان في جملته ابراهيم ابن نيال التركماني صاحب آمد ومحمد بن جق التركماني صاحب حصن زياد وهوخرت برت وكان ابراهيم بن نيال قد ولى تتش على آمد حين ولى ديار بكر وكانت بيده وأما خرت برت فكانت بيد القلادروس ترجمان الروم والرها وانطاكية من أعماله فملك سليمان بن قطلمش انطاكية وملك فخر الدولة بن جهير(5/164)
ديار بكر فضعف الفلادروس وملك جق خرت برت من يده وآسلم القلادروس على يد السلطان ملك شاه وأمره على الرها فأقام بها حتى مات وملكها جق هي وما جاورها من الحصون وأورثها ابنه محمدا بعد موته والله تعالى ولى التوفيق * (الحرب بين قليج ارسلان وبين الافرنج) * كان سمند صاحب انطاكية من الافرنج قد وقعت بينه وبين ملك الروم بالقسطنطينية وحشة واستحكمت وسارسمند فنهب بلاد الروم وعزم على قصد انطاكية فاستنجد ملك الروم بقليج ارسلان فأمده بعساكره وسار مع ذلك الروم
فهزموا الافرنج وأسروهم ورجع الفل إلى بلادهم بالشأم فاعتزموا على قصد قليج ارسلان بالجزيرة فأتاهم خبر مقتله فأقصروا والله تعالى ولى التوفيق * (مقتل قليج ارسلان وولاية ابنه مسعود) * قد تقدم لنا استيلاء قليج ارسلان على الموصل وديار بكر وأعمالها وجلوسه على التخت وان جاولى سكاوو سار إلى سنجار ثم سار منها إلى الرحبة وكان قليج ارسلان خطب له بها صاحبها محمد بن السباق من بنى شيبان بعد مهلك دقاق وانتقاضه على أبيه فلما حاصرها جاولى بعث إليه رضوان بن تتش صاحب حلب في النجدة على الافرنج لما ساروا إلى بلاده فوعده لانقضاء الحصار وجاء رضوان فحضر عنده واشتد الحصار على أهل الرحبة وغدر بعضهم فأدخل أصحاب جاولى ليلا ونهبوها إلى الظهر وخرج إليه صاحبها محمد الشيباني فأطاعه ورجع عنه وبلغ الخبر إلى قليج ارسلان فسار من الموصل لحرب جاولى واستخلف عليها ابنه ملك شاه صبيا صغيرا مع أمير يدبره فلما انتهى إلى الخابور هرب عنه ابراهيم بن نيال صاحب آمد ولحق ببلده واعتزم قليج ارسلان على المطاولة واستدعى عسكره الذين أنجدهم ملك الروم على الافرنج فجاؤا إليه واغتنم جاولى قلة عسكره فلقيه آخر ذى القعدة من السنة واشتدت الحرب وحمل قليج ارسلان على جاولى بنفسه وصرح صاحب الراية وضرب جاولى بسيفه ثم حمل أصحاب جاولى عليه فهزموه وألقى نفسه في الخابور فغرق وسار جاولى إلى الموصل فملكها وأعاد خطبة السلطان محمد وبعث إليه ملك شاه بن قليج ارسلان وولى مكان قليج ارسلان في قونية وأقصرا وسائر بلاد الروم ابنه مسعود واستقام له ملكها * (استيلاء مسعود بن قليج ارسلان على ملطية وأعمالها) * كانت ملطية وأعمالها وسيواس لابن الوانشمند من التركمان كما مر وكانت بينه وبينهم حروب وهلك كمستكين بن الوانشمند وولى مكانه ابنه محمد واتصلت حروبه مع الافرنج(5/165)
كما كان ابوه معهم ثم هلك سنة سبع وثلاثين فاستولى مسعود بن قليج ارسلان على الكثير منها وبقى الباقي بيد أخيه باغى ارسلان بن محمد * (وفاة مسعود بن قليج وولاية ابنه قليج ارسلان) * ثم توفى مسعود بن قليح ارسلان سنة احدى وخمسين وخمسمائة وملك مكانه ابنه قليح ارسلان فكانت بينه وبين باغى ارسلان ابن الوانشمند وصاحب ملطية وما جاورها من ملك الروم حروب بسبب ان قليج ارسلان تزوج بنت الملك طليق بن على بن أبى القاسم فزوجها إليه بجهاز عظيم وأغار عليه باغى ارسلان صاحب ملطية فأخذها بما معها وزوجها بابن أخيه ذى النون بن محمد بن الوانشمند بعد ان أشار عليها بالردة لينفسخ النكاح ثم عادت إلى الاسلام وزوجها بابن أخيه فجمع قليج ارسلان عساكره وسار إلى باغى ارسلان بن الوانشمند فهزمه باغى ارسلان واستنجد ملك الروم فأمده بعسكر وسار باغى ارسلان خلال ذلك وولى ابراهيم ابن أخيه محمد وملك قليج ارسلان بعض بلاده واستولى أخوه ذو النون بن محمد بن الوانشمند على قيسارية وانفرد شاه بن مسعود أخو قليج ارسلان بمدينة انكورية وهى انقرة واستقرت الحال على ذلك ثم وقعت الفتنة بين قليج ارسلان وبين نور الدين محمود بن زنكى وتراجعوا للحرب وكتب الصالح بن زربك المتغلب على العلوى بمصر إلى قليج ارسلان ينهاه عن ذلك ثم هلك ابراهيم بن محمد ابن الوانشمند وملك مكانه أخوه ذو النون وانتقض قليج ارسلان عليه وملك ملطية من يده والله تعالى أعلم * (مسير نور الدين العادل إلى بلاد قليج ارسلان) * ثم سار نور الدين محمود بن زنكى سنة ثمان وستين إلى ولاية قليج ارسلان بن مسعود ببلاد الروم وهى ملطية وسيواس وأقصرا فجاءه قليج ارسلان متنصلا معتذرا فأكرمه وثنى عزمه عن قصد بلاده ثم أرسل إليه شفيعا في ذى النون بن الوانشمند يرد عليه بلاده فلم بشفعه فسار إليه وملك مرعش ونهسنا وما بينهما في ذى القعدة من السنة
وبعث عسكرا إلى سيواس فملكوها فمال قليج ارسلان إلى الصلح وبعث إلى نور الدين يستعطفه وقد بلغه عن الفرنج ما أزعجه فأجابه على أن يمده بالعساكر للغزو وعلى أن يبقى سيواس بيد نواب نور الدين وهى لذى النون بن الوانشمند ثم جاءه كتاب الخليفة باقطاع البلاد ومن جملتها بلاد قليج ارسلان وخلاط وديار بكر ولما مات نور الدين عادت سيواس لقليج ارسلان وطرد عنها نواب ذى النون * (مسير صلاح الدين لحرب قليج ارسلان) *(5/166)
كان قليج ارسلان بن مسعود صاحب بلاد الروم قد زوج بنته من نور الدين محمود بن قليج ارسلان بن داود بن سقمان صاحب حصن كيفا وغيره من ديار بكر وأعطاه عدة حصون فلم يحسن عشرتها وتزوج عليها وهجر مضجعها وامتعض أبوها قليج ارسلان لذلك واعتزم على غزو نور الدين في ديار بكر وأخذ بلاده فاستجار نور الدين بصلاح الدين بن أيوب واستشفع به فلم يشفعه وتعلل بطلب البلاد التى أعطاه عند المصاهرة فامتعض صلاح الدين لذلك وكان يحارب الافرنج بالشأم فصالحهم وسار في عساكره إلى بلاد الروم وكان الصالح اسمعيل بن نور الدين محمود بالشأم فعدل عنه ومر على تل ناشز إلى زعبان ولقى بها نور الدين محمد صاحب كيفا وبعث إليه قليج ارسلان رسولا يقرر غدره بابنته فاغتاظ على الرسول وتوغده بأخذ بلادهم فتلطف له الرسول وخلص معه نجيا فقبح له ما ارتكبه من أجل هذه المرأة من ترك الغزو ومصالحة العدو وجمع العساكر وخساره وان بنت قليج ارسلان لو بعثت إليه بعد وفاة أبيها تسأل منه النصفة بينها وبين زوجها لكان أحق ما تقصده فامتنعت وعلم أن على نفسه الحق فأمر الرسول أن يصلح بينهم ويكون هو عونا له على ذلك فداخلهم ذلك الرسول في الصلح على أن يطلق هذه المرأة بعد سنة ويعقد بينهم ذلك ورجع كل إلى بلده ووفى نور الدين بما عقد على نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم
* (قسمة قليج ارسلان أعماله بين ولده وتغلبهم عليه) * ثم قسم قليج ارسلان سنة سبع وثمانين اعماله بين ولده فاعطى قونية باعمالها لغياث الدين كسنجر واقصرا وسبواس لقطب الدين ودوقاط لركن الدين سليمان وانقرة وهى أنكوريه لمحيى الدين وملطية لعز الدين قيصر شاه ولمغيث الدين وقيسارية لنور الدين محمود وأعطى تكسار واما سالا بنى أخيه وتغلب عليه ابنه قطب الدين وحمله على انتزاع ملطية من يد قيصر شاه فانتزعها ولحق قيصر شاه بصلاح الدين بن أيوب مستشفعا به فأكرمه وزوجه ابنة أخيه العادل وشفع له عند أبيه وأخيه فشفعوه وردوا عليه ملطية ثم زاد تغلب ركن الدين وحجر عليه وقتل دائبة في مدينته وهو اختيار الدين حسن فخرج سائر بنيه عن طاعته وأخذ قطب الدين أباه وسار به إليه قيسارية ليملكها من أخيه فهرب قليج ارسلان ودخل قيسارية وعاد قطب الدين إلى قونية واقصرا فملكهما وبقى قليج ارسلان ينتقل بين ولده من واحد إلى آخر وهم معرضون عنه حتى استنجد بغياث الدين كسنجر صاحب منهم فأنجده وسار معه إلى قونية فملكها ثم سار إلى اقصرا وحاصرها ثم مرض قليج ارسلان وعاد إلى قونية فتوفى فيها وقيل انما اختلف ولده عليه لانه ندم على قسمة أعماله بينهم وأراد ايثار ابنه قطب الدين(5/167)
بجميعها وانتقضوا عليه لذلك وخرجوا عن طاعته وبقى يتردد بينهم وقصد كسنجر وصاحب قونية فأطاعه وخرج معه بالعساكر لحصار محمود أخيه في قيسارية وتوفى قليج ارسلان وهو محاصر لقيسارية ورجع غياث الدين إلى قونية * (وفاة قليج ارسلان وولاية ابنه غياث الدين) * ثم توفى قليج ارسلان بمدينة قونية أو على قيسارية كما مر من الخلاف منتصف ثمان وثمانين لسبع وعشرين سنة من ملكه وكان مهيبا عادلا حسن السياسة كثبر الجهاد ولما توفى واستقل ابنه غياث الدين كسنجر بقونية وما إليها وكان قطب الدين أخوه
صاحب اقصرا وسيواس وكان كلما سار من احداهما إلى الاخرى يجعل طريقه على قيسارية وبها أخوه نور الدين محمود يتلقاه بظاهرها حتى استنام إليه مدة فغدر به وقتله وامتنع أصحابه بقيسارية وكان كبيرهم حسن فقتله مع أخيه ثم أطاعوه وأمكنوه من البلد ومات قطب الدين اثر ذلك * (استيلاء ركن الدين سليمان على قونية وأكثر بلاد الروم وفرار غياث الدين) * ولما توفى قليج ارسلان وولى بعده في قونية ابنه غياث الدين كسنجر وبنوه يومئذ على حالتهم في ولايتهم التى قسمها بينهم أبوهم وملك قطب الدين منهم قيسارية بعد أن غدر بأخيه محمود صاحبها ومات قطب الدين اثر ذلك فسار ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى التغلب على أعمال سلفه ببلاد الروم فسار إلى سيواس واقصرا وقيسارية أعمال قطب الدين فملكها ثم سار إلى قونية فحاصر بها غياث الدين وملكها ولحق غياث الدين بالشأم كما يأتي خبره ثم سار إلى نكساروا ماسا فملكهما وسار إلى ملطية سنة سبع وتسعين فملكها من يد معز الدين قيصر شاه ولحق معز الدين بالعادل أبى بكر بن أيوب ثم سار إلى أرزن الروم وكانت لولد الملك محمد بن حليق من بيت ملك قديم وخرج إليه صاحبها ليقرر معه صلحا فقبض عليه وملك البلد فاجتمع لركن الدين سائر أعمال اخوته ما عدا انقرة لحصانتها فجمر عليها الكتائب وحاصرها ثلاثا ثم دس من قتل أخاه وملك البلد سنة احدى وستمائة وتوفى هو عقب ذلك والله تعالى أعلم * (وفاة ركن الدين وولاية ابنه قليج ارسلان) * ثم توفى ركن الدين سليمان بن قليج ارسلان أوائل ذى القعدة من تمام سنة احدى وستمائة وولى بعده ابنه قليج ارسلان فلم تطل مدته وكان ركن الدين ملكا حازما شديدا على الاعداء الا أنه ينسب إلى التزين بالفلسفة والله تعالى أعلم * (استيلاء غياث الدين كسنجر على بلاد الروم من أخيه ركن الدين) *(5/168)
كان غياث الدين كسنجر بن قليج ارسلان لما ملك أخوه ركن الدين قونية من يده لحق بحلب وفيها الظاهرى غازى بن صلاح الدين فلم يجد عنده قبولا فسار إلى القسطنطينية وأكرمه ملك الروم وأصهر إليه بعض البطارقة في ابنته وكانت له قرية حصينة في أعمال قسطنطينية فلما استولى الافرنج على القسطنطينية سنة ستمائة لحق غياث الدين بقلعة صهره البطريق وبلغ إليه خبر أخيه تلك السنة وبعث إليه بعض الامراء من قونية يستدعيه للملك فسار إليه واجتمعوا على حصار قونية وخرجت إليهم العساكر منها فهزموه ولحق ببعض البلاد فتحصن بها ثم قام أهل اقصرا بدعوته وطردوا واليهم وبلغ الخبر إلى أهل قونية فثاروا بقليج ارسلان بن ركن الدين وقبضوا عليه واستدعوا غياث الدين فملكوه وأمكنوه من ابن أخيه وكان أخوه قيصر شاه قد لحق بصهره العادل أبى بكر بن أيوب فاستنصر به على أخيه ركن الدين عندما ملك ملطية من يده فأمر له بالرها واستفحل ملك غياث الدين وقصده على بن يوسف صاحب شميشاط ونظام الدين بن أرسلان صاحب خرت برت وغيرهما وعظم شأنه إلى أن قتله أشكر صاحب قسطنطينية سنة سبع وستمائة والله تعالى ولى التوفيق * (مقتل غياث الدين كسنجر وولاية ابنه كيكاوس) * ولما قتل غياث الدين كسنجر وولى بعده ابنه كيكاوس ولقبوه الغالب بالله وكان عمه طغرك شاه بن قليج ارسلان صاحب ارزن الروم وطلب الامر لنفسه وسار إلى قتال كيكاوس ابن أخيه وحاصره في سيواس وقصد أخوه كيغباد بن كسنجر بلد انكورية من أعماله فاستولى عليها وبعث كيكاوس صريخه إلى الملك العادل صاحب دمشق فانفذ إليه العساكر وأفرج طغرك عن سيواس قبل وصولهم فسار كيكاوس إلى انكورية وملكها من يد أخيه كيغباد وحبسه وقتل امراءه وسار إلى عمه طغرك في ارزن الروم فظفر به سنة عشر وقتله وملك بلاده [ مسير كيكاوس إلى حلب واستيلاؤه على
بعض أعمالها ثم هزيمته وارتجاع البلد من يده ] كان الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب قد توفى وملك بعده ابنه طفلا صغيرا وكان بعض أهل حلب قد لحق بكيكاوس فرارا من الظاهر وأغراه بملك حلب وهون عليه أمرها وملك ما بعدها ولما مات الظاهر قوى عزمه وطمعه في ذلك واستدعى الافضل بن صلاح الدين ابن شميشاط للمسير معه على أن تكون الخطبة لكيكاوس والولاية للافضل في جميع ما يفتحونه من حلب وأعمالها فإذا فتحوا بلاد الجزيرة مثل(5/169)
حران والرها من يد الاشرف تكون ولايتها لكيكاوس وتعاقدوا على ذلك وساروا سنة خمس عشرة فملكوا قلعة رغبان وتسلمها الافضل على الشرط ثم ملكوا قلعة تل ناشر فاستأثر بها كيكاوس وارتاب الافضل ثم بعث ابن الظاهر صاحب حلب إلى الاشرف بن العادل صاحب الجزيرة وخلاط يستنجده على أن يخطب له بحلب وينقش اسمه على السكة فسار لانجاده ومعه احياء طيئ من العرب فنزل بظاهر حلب وسار كيكاوس والافضل إلى منبج ولقيت طليعتهم طليعة الظاهر فاقتتلوا وعاد عسكر كيكاوس منهزمين إليه فأجفل وسار الاشرف إلى رغبان وتل ناشر وبهما أصحاب كيكاوس فغلبهم عليهما وأطلقهم إلى صاحبهم فأحرقهم بالنار وسلم الاشرف الحصنين إلى شهاب الدين بن الظاهر صاحب حلب وبلغه الخبر بوفاة أبيه الملك العادل بمصر فرجع عن قصد بلاد الروم * (وفاة كيكاوس وملك أخيه كيغباد) * كان كيكاوس بعد الواقعة بينه وبين الاشرف قد اعتزم على قصد بلاد الاشرف بالجزيرة واتفق مع صاحب آمد وصاحب اربل على ذلك وكانا يخطبان له ثم سار إلى ملطية يشغل الاشرف عن الموصل حتى ينال منها صاحب اربل ومرض في طريقه فعاد ومات سنة ست عشرة وخلف بنيه صغارا وكان أخوه كيغباد محبوسا منذ أخذه
من انكورية فأخرجه الجند من محبسه وملكوه وقيل بل أخرجه هو من محبسه وعهد إليه ولما ملك خالف عليه عمه صاحب ارزن الروم فوصل يده بالاشرف وعقد معد صلحا * (الفتنة بين كيغباد وصاحب آمد من بنى ارتق وفتح عدة من حصونه) * كانت الفتنة قد حدثت بين الاشرف صاحب الجزيرة والمعظم صاحب دمشق وجاء جلال الدين خوارزم من الهند سنة ثلاث وعشرين بعد هروبه أمام التتر فملك اذربيجان واعتضد به المعظم صاحب دمشق على الاشرف وظاهرهما الملك مسعود صاحب آمد من بنى ارتق فأرسل الاشرف إلى كيغباد ملك الروم يستنجده على صاحب آمد والاشرف يومئذ محاصر لماردين فسار كيغباد وأقام على ملطية وجهز العساكر من هناك إلى آمد ففتح حصونا عدة وعاد صاحب آمد إلى موافقة الاشرف فكتب إلى كيغباد أن يرد عليه ما أخذه فامتنع فبعث عساكره إلى صاحب آمد مددا على كيغباد وكان محاصرا لقلعة الكحنا فلقيهم وهزمهم وأثخن فيهم وعاد ففتح القلعة والله أعلم(5/170)
* (استيلاء كيغباد على مدينة ارزنكان) * كان صاحب ارزنكان هذه بهرام شاه من بنى الاحدب بيت قديم في الملك وملكها ستين سنة ولم يزل في طاعة قليج ارسلان وولده وتوفى فملك بعده ابنه علاء الدين داود شاه وأرسل عنه كيغباد سنة خمس وعشرين ليعسكر معه فسار إليه وقبض عليه وملك مدينة ارزنكان وكان من حصونه كماح فامتنع نائبه فيه وتهدد داود شاه فبعث إلى نائبه فسلم له الحصن ثم قصد ارزن الروم وبها ابن عمر طغرك شاه بن قليج ارسلان فبعث ابن طغرك شاه بطاعته إلى الاشرف واستنجد نائبه بخلاط حسام الدين على فسار إليه فخام كيغباد عن لقائة وعاد من ارزنكان إلى بلاده فوجد العدو من الافرنج قد ملك
قلعة منها تسمى صنوبا مطلة على بحر الخزر فحاصرها برا وبحرا وارتجعها المسلمون والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق * (فتنة كيغباد مع جلال الدين) * كان صاحب ارزن الروم وهو ابن عم كيغباد صار إلى طاعة جلال الدين خوارزم شاه وحاصر معه خلاط وفيها ايبك مولى الاشرف فملكها جلال الدين وقتل ايبك كما يأتي في أخباره فخافهما كيغباد صاحب الروم فاستنجد الملك الكامل وهو بحران فأمده بأخيه الاشرف من دمشق فجمع عساكر الجزيرة والشأم وسار إلى كيغباد فلقيه بسيواس واجتمعوا في خمسة وعشرين ألفا وساروا من سيواس إلى خلاط فلقيهم جلال الدين في نواحى ارزنكان فهاله منظرهم ومضى منهزما إلى خلاط ثم سار منها لى اذربيجان فنزلوا عند خوى وسار الاشرف إلى خلاط فوجد جلال الدين قد خربها فعادوا إلى بلادهم وترددت الرسل إلى الصلح فاصطلحوا * (مسير بنى أيوب إلى كيغباد وهزيمتهم) * كان علاء الدين كيغباد قد استفحل ملكه ببلاد الروم ومديده إلى ما يجاوره من البلاد فملك خلاط بعد أن دافع عنها مع الاشرف بن العادل جلال الدين خوارزم شاه فنازعه الاشرف في ذلك واستصرخ بأخيه الكامل فسار في العساكر من مصر سنة احدى وثلاثين وسار معه الملوك من أهل بيته وانتهى إلى النهر الازرق من تخوم الروم وبعث في مقدمته المظفر صاحب حماة من أهل بيته فلقيه كيغباد وهزمه وحصره في خرت برت وكانت لبنى ارتق ورجع الكامل بالعساكر إلى مصر سنة ثنتين وثلاثين وكيغباد في اتباعهم ثم سار إلى حران والرها فملكهما من يد نواب الكامل وولى عليهما من قبله وسار الكامل سنة ثلاث وثلاثين فارتجعهما(5/171)
* (وفاة كيغباد وملك ابنه كنجسرو) *
ثم توفى علاء الدين كيغباد سنة أربع وثلاثين وستمائة وملك بعده ابنه غياث الدين كنجسرو وقارن ذلك انقراض الدولة السلجوقية من ممالك الاسلام واختلال دولة بنى خوارزم شاه وخروج التتر من مفازة الترك وراء النهر واستيلاء جنكز خان سلطانهم على الممالك وانتزاعها من يد بنى خوارزم شاه وفر جلال الدين آخرهم إلى الهند ثم رجع واستولى على اذربيجان وعراق العجم وكان بنو أيوب يومئذ بممالك الشأم وأرمينية كما نذكر ذلك كله في أماكنه ان شاء الله تعالى وانتشر التتر في سائر النواحى وعاثوا فيها وتغلبوا عليها واستفحل ملكهم فسارت منهم طوائف إلى بلاد الروم سنة احدى وأربعين فبعث غياث الدين كنجسرو بالصريخ إلى بنى أيوب وغيرهم من الترك في جواره وجاء المدد من كل جانب فسار للقائهم ولقيتهم المقدمة على قشمير زنجان فانهزمت المقدمة ووصلوا إليه فانهزم ونجا بعياله وذخيرته إلى مدينة على مسيرة شهر من المعترك ونهبوا سواده ومخلفه وانتشروا في نواحى بلاد الروم وعاثوا فيها وتحصن غياث الدين بهذه المدينة واستولى التتر على خلاط وآمد ثم استأمن لهم غياث الدين ودخل في طاعتهم واستقامت أموره معهم إلى أن مات قريبا من رجوعه وملك التتر قيسارية والله أعلم * (وفاة غياث الدين وولاية ابنه كيغباد) * ثم توفى غياث الدين كنجسرو سنة أربع وخمسين وترك ثلاثا من الولد أكبرهم علاء الدين كيغباد وعز الدين كيكاوس وركن الدين قليج ارسلان وولى علاء الدين كيغباد بعهده إليه وكان يخطب لهم جميعا وأمرهم واحد وكان جنكزخان ملك التتر قد هلك وكان كرسى سلطانهم بقراقروم وولى مكانه ابنه طلوخان وجلس على كرسيه وهو الخان الاعظم عندهم وحكمه ماض في ملوك الشمال والعراق من أهل بيته وسائر عشيرته ثم هلك طلوخان وولى مكانه في كرسيه ابنه منكوخان فبعث أخاه هلاكو لفتح العراق وبلاد الاسماعيلية سنة خمسين وستمائة فسار لذلك وملك العراقين وبغداد ثم جرد الخان
الأعظم منكوخان إلى بلاد الروم سنة أربع وخمسين أميرا من أمراء المغل اسمه بيكو في العساكر فسار إلى ارزن الروم وبها سنان الدين ياقوت موسى السلطان علاء الدين فحاصرها شهرين ونصب عليها المجانيق ثم ملكها عنوه وأسر ياقوت واستلحم الجند بأسرهم واستبقى الباعة والصناع ثم سار إلى بلاد الروم فملك قيسارية ومسيرة شهر معها ورجع ثم عاد سنة خمس وخمسين وعاث في البلاد واستولى على أكثر من الاولى والله تعالى أعلم(5/172)
* (وفاة كيغباد وملك أخيه كيكاوس) * ولما كثر عيث التتر الذين مع بيكو في مملكة علاء الدين كيغباد واعتزم على المسير إلى الخان الاعظم منكو خان يؤكد الدخول في طاعته ويقتضى مراسمه إلى بيكو ومن معه من المغل بالكف عن البلاد سار من قونية سنة خمس وخمسين ومعه سيف الدين طرنطاى من موالى أبيه واحتمل معه الاموال والهدايا وسار ووثب أخوه عز الدين كيكاوس على أخيه الآخر قليج ارسلان فاعتقله بقونية واستولى على الملك وكتب في اثر أخيه إلى سيف الدين طرنطاى مع بعض الاكابر من أصحابه أن يمكنوه من الهدايا التى معهم يتوجه بها إلى الخان ويردوا علاء الدين فلم يدركوه حتى دخل بلاد الخان ونزل على بعض أمرائه فسعى ذلك الرسول في علاء الدين وطرنطاى بأن معهم سما فكبسهم الامير فوجد شيأ من المحمودة فعرض عليهم أكلها فامتنعوا فتخيل تحقيق السعاية فسألوه احضار الاطباء فأزالوا عنه الشك وبعث بهم إلى الخان ومات علاء الدين أثناء طريقه ولما اجتمعوا عند الخان اتفقوا على ولاية عز الدين كيكاوس وأنه أكبر وعقدوا له الصلح مع الخان فكتب له وخلع عليهم ثم كتب بيكو إلى الخان بأن أهل بلاد الروم قاتلوه ومنعوه العبور فأحضر الرسل وعرفهم الخبر فقالوا إذا بلغناهم كتاب السلطان اذعنوا فكتب الخان بتشريك الاميرين عز الدين كيكاوس وأخيه
ركن الدين قليج ارسلان على أن تكون البلاد قسمة بينهما فمن سيواس إلى القسطنطينية غربا لعز الدين ومن سيواس إلى ارزن الروم شرقا المتصلة ببلاد التتر ركن الدين وعلى الطاعة وحمل الاتارة لمنكوخان ملكهم صاحب الكرسي بقراقروم ورجعوا إلى بلاد الروم وحملوا معه شلوكيغباد إلى أن دفنوه * (استيلاء التتر على قونية) * ثم سار بيكو في عساكر المغل إلى بلاد الروم ثالثة فبعث عز الدين كيكاوس العساكر للقائه مع ارسلان ايدغمش من أمرائه فهزمه بيكو وجاء في اتباعه إلى قونية فهرب عز الدين كيكاوس إلى العلايا بساحل البحر فنزل بيكو على قونية وحاصرها حتى استأمنوا إليه على يد خطيبهم ولما حضر إليه أكرمه ورفع منزلته وأسلمت امرأته على يده وأمن أهل البلد ثم سار هلاكو إلى بغداد سنة خمس وستين وبعث عن بيكو وعساكره من بلاد الروم بالحضور معه فاعتذر بالاكراد الذين في طريقه من الفراسلية والياروقية فبعث إليهم هلاكو العساكر فأجفلوا وانتهت العساكر إلى اذربيجان وقد أجفل أهلها أمام الاكراد فاستولوا عليها ورجعوا صحبة بيكو إلى هلاكو فحضر(5/173)
معه فتح بغداد وقد مر خبرها في أخبار الخلفاء ويأتى في أخبار هلاكو ونيال أن بيكو لما بعث عنه هلاكو لم يحضر معه فتح بغداد واستمر على غدره فلما انقضى أمر بغداد بعث إليه هلاكو من سقاه السم فمات لانه اتهمه بالاستبداد ثم سار هلاكو بعد فتح بغداد إلى الشأم سنة ثمان وخمسين وحاصر حلب وبعث عن عز الدين كيكاوس وركن الدين قليج ارسلان وعن معين الدين سليمان البرنواه صاحب دولتهم وكان من خبره أن أباه مهذب الدين على كان من الديلم وطلب العلم ونبغ فيه ثم تعرص للوزير سعد الدين المستوفى أيام علاء الدين كيغباد يسأله اجراء رزقه وكان وصافا فاستحسنه وزوجه ابنته فولدت سليمان ونشأ في الدولة ومات سعد الدين المستوفى فرقى السلطان مهذب
الدين إلى الوزارة وألقى إليه بالمقاليد وتوفى مهذب الدين وترقى ابنه سليمان مهذب الدولة وكان يلقب معين الدين وترقى في الرتب إلى أن ولى الحجابة وكان يدعى البر نواه ومعناه الحاجب بلغتهم وكان مختصا بركن الدين فلما حضر معهما عند هلاكو كما قلناه حلا بعينه وقال لركن الدين لا يأتيني في أموركم الا هذا فرقت حاله إلى أن ملك بلاد الروم أجمع [ الفتنة بين عز الدين كيكاوس وأخيه قليج ارسلان واستيلاء قليج ارسلان على الملك ] ثم وقعت الفتنة سنة تسع وخمسين بين عز الدين كيكاوس وأخيه ركن الدين قليج ارسلان وسار ركن الدين ومعه البر نواه إلى هلاكو يستمده على أخيه فأمده بالعساكر وحارب أخاه فهزمه عز الدين أولا ثم أمده هلاكو فانهزم عز الدين ولحق بالقسطنطينية واستولى ركن الدين على سائر الاعمال وهرب التركمان إلى أطراف الجبال والثغور والسواحل وبعثوا إلى هلاكو يطلبون الولاية منه على احيائهم فولاهم وأذن لهم في اتخاذ الآلة فصاروا ملوكا من حينئذ وكان محمد بك أميرهم وأخوه على بك رديفه فاستدعى على هلاكو محمدا بك فلم يأته فأمر قليج ارسلان وعساكر التتر الذين معه بقتاله فساروا وقاتلوه فانهزم ثم استأمن إلى السلطان ركن الدين فأمنه وجاء به إلى قونية فقتله واستقر على بك أميرا على التركمان وأورثها بنيه واستولى التتر على البلاد إلى * (خبر عز الدين كيكاوس) * ولما انهزم عز الدين كيكاوس ولحق بالقسطنطينية أحسن إليه مخاييل الشكرى صاحب قسطنطينية وأجرى عليه الرزق وكان معه جماعة من الروم أخواله فحدثتهم أنفسهم بالثورة وتملك القسطنطينية ونمى ذلك عنهم فقبض الشكرى عليه وعلى(5/174)
من معه واعتقله ببعض القلاع ثم وقعت بين الشكرى وبين منكو تمر بن طغان ملك
الشمال من بنى دوشى خان بن جنكز خان فتنة وغزا منكوتمر القسطنطينية وعاث في نواحيها فهرب إليه كيكاوس من محبسه فمضى معه إلى كرسيه بصراى فمات هنالك سنة سبع وسبعين وخلف ابنه مسعودا وخطب منكوتمر ملك صراى أمه فمنعها وهرب عنه ولحق بابق بن هلاكو ملك العراق فأحسن إليه وأقطعه سيواس وارزن الروم وارزنكان فاستقر بها * (مقتل ركن الدين قليج ارسلان وولاية ابنه كنجسرو) * كان معين الدين سليمان البرنواه قد استبد على ركن الدين قليج ارسلان ثم تنكر له ركن الدين البرنواه على مكان أخيه عز الدين كيكاوس بالقسطنطينية أن يحدث فيه أمرا فلما بلغه خبر كيكاوس واعتقاله بالقسطنطينية أحكم تدبيره في ركن الدولة فقتله غيلة ونصب للملك ابنه غياث الدين في كفالته وتحت حجره واستقل بملك بلاد الروم واستقامت أموره والله سبحانه وتعالى أعلم * (استيلاء الظاهر ملك مصر على قيسارية ومقتل البرنواه) * كان هلاكو قد زحف إلى الشأم سنة ثمان وخمسين مرارا وزحف ابنه ابقا كذلك وقاتلهم الملك الظاهر صاحب مصر والشأم وكان كثيرا ما يخالفهم إلى بلادهم فدخل سنة خمس وسبعين إلى بلاد الروم وأميرها يومئذ من التتر طغا وأمده ابقا بأميرين من التتر وهما كداون وترقو لحماية بلاد الروم من الظاهر فزحفوا إلى الشأم وسار إليهم الظاهر من مصر في مقدمته سقر الاسقر فلقيت مقدمته مقدمتهم على كوكصو فانهزم التتر وتبعهم الظاهر والتقى الجمعان على ابليش فانهزموا ثانية وأثخن فيهم الظاهر بالقتل والاسر إلى قيسارية فملكها وكان البرنواه قد دس إليه واستحثه للوصول إلى بلاده فأقام الظاهر على قيسارية ينتظره وبلغ ملك التتر ابقا خبر الواقعة فزحف في جموع المغل إلى قيسارية بعد منصرف الظاهر إلى بلاده فلما وقف على مصارع قومه وجد على البرنواه وصدقت عنه السعاية فيه وأنه الذى استحث الظاهر لانه لم ير
في المعركة مصرع أحد من بلاد الروم ورجع إلى معسكره ومعه سليمان البرنواه واستبد بملكه والله تعالى ولى التوفيق وهو نعم الرفيق لا رب سواه ولا معبود الا اياه سبحانه * (خلع كنجسرو ثم مقتله وولاية مسعود ابن عمه كيكاوس) * كان قنطغرطاى بن هلاكو مقيما ببلاد الروم مع غياث الدين كنجسرو ملك بلاد الروم وصار أمير المغل بها منذ عهد ابقا ولما ولى أحمد تكرار بن هلاكو بعد أخيه ابقا(5/175)
بعث عن أخيه قنطغرطاى فامتنع من الوصول إليه خشية على نفسه ثم حمله غياث الدين على اجابة أخيه وسار معه فقتل تكرار أخاه قنطغرطاى واتهم المغل غياث الدين بأنه علم برأى تكرار فيه واعتمد فلما ولى ارغون بن ابقا بعد تكرار عزل غياث الدين عن بلاد الروم وحبسه بارزنكاى وولى مكانه على المغل ببلاد الروم أولاكو وذلك سنة ثنتين وثمانين وأقام مسعود ملكا ببلاد الروم سنة ثمان عشرة وسبعمائة وأصابه الفقر وانحل أمره وبقى الملك بها للتتر ثم فشل أمرهم واضمحلت دولتهم لابقايا بسيواس من بنى ارثا مملوك دمرداش بن جومان واستولى التركمان على تلك البلاد أجمع وأصبح ملكها لهم والله غالب على أمره يؤتى الملك من يشاء وهو العزيز الحكيم(5/176)
* (ملوك قونية من بلاد الروم وملكها من أيديهم التتر) *(5/177)
[ الخبر عن بنى سكمان موالى السلجوقية ملوك خلاط وبلاد أرمينية ومصير الملك إلى مواليهم من بعدهم ومبادي أمرهم وتصاريف أموالهم ] كان صاحب مزيد من اذربيجان اسمعيل بن ياقوتي بن داود أخو البارسلان وداود أخو طغرلبك كما مر ولقب اسمعيل قطب الدولة وكان له مولى تركي اسمه سكمان بالكاف والقاف وكان ينسب إليه فيقال سكمان القطبى وكان شهما عادلا في أحكامه
وكانت خلاط وارمينية لبنى مروان ملوك ديار بكر وكانوا في آخر دولتهم قد اشتد عسفهم وظلمهم وساء حال أهل البلد معهم فاجتمع أهل خلاط وكاتبوا سكمان واستدعوه ليملكوه عليهم فسار إليهم سنة ثتين وخمسمائة إلى ميافارقين من ديار بكر فحاصرها حتى استأمنوا إليه وملكها ثم أمر السلطان محمد شاه بن ملك شاه الامير مودود بن زيد بن صدقة صاحب الموصل بغز والافرنج وانتزاع البلاد من أيديهم وأمر أمراء الثغور بالمسير مع فسار معه برسق صاحب همذان وأحمد بك صاحب مراغة وأبو الهيجاء صاحب اربل وابو الغازى صاحب ماردين وسقمان القطبى صاحب ديار بكر فساروا لذلك وفتحوا عدة حصون وحاصروا الرها فامتنعت عليهم ثم تل ناشر كذلك واستدعاهم رضوان بن تتش صاحب حلب فلما ساروا إليه امتنع من لقائهم ومرض سكمان القطبى هنالك فرجع عنهم وتوفى في طريقه ببالس وافترقت العساكر وملك خلاط وبلاد ارمينية بعد مهلكه ابنه ظهير الدين ابراهيم وسار فيهم بسيرة أبيه إلى أن هلك سنة احدى وعشرين وملك بعده أخوه أحمد بن سكمان عشرة أشهر ثم توفى فنصب أصحابه للملك بارمينية وخلاط شاه أرمن سكمان ابن أخيه ابراهيم بن سكمان صبيا دارجا واستبدت عليه جدته أم ابراهيم ثم أزمعت قتله فقتلها أهل الدولة وعمد سنة ثمان وعشرين واستبد شاه أرمن وكانت بينه وبين الكرج وقائع وساروا سنة ست وخمسمائة إلى مدينة انى من اعمال اران فاستباحوها وسار إليهم في العساكر فهزموه ونالوا منه وكانت عنده أخت طليق بن على صاحب ارزن الروم ووقعت بينه وبين الكرج حرب فانهزم طليق وأسر وبعث شاه ارمن إلى ملك الكرج وفادى طليقا ورده إلى ملكه بارزن ثم استولى صلاح الدين بن أيوب على مصر والشأم واستفحل ملكه وكاتبه مظفر الدين كوكبرى وأغراه بملك الجزيرة ووعده بخمسين ألف دينار وسار صلاح الدين إلى سنجار فحاصرها وهو مجمع المسير إلى الموصل وبها يومئذ عز الدين مودود بن زنكى فاستنجد بشاه ارمن صاحب
خلاط فبعث شاه ارمن مولاه مكتمر إلى صلاح الدين شفيعا في صاحب الموصل ووفد عليه وهو محاصر لسنجار ولم يشفعه صلاح الدين فرجع عنه مغاضبا وسار شاه ارمن(5/178)
لقتاله واستدعى قطب الدين نجم الدين إلى صاحب ماردين وهو ابن أخيه وابن خال عز الدين وحضر معه دولة شاه بن طغرك شاه بن قليج ارسلان صاحب وسار سنة ثمان وسبعين وقد ملك صلاح الدين سنجار وافترقت العساكر فلما بلغه مسيرهم بعث عن تقى الدين ابن أخيه شاه من حماة فوافاه سريعا ورحل إلى رأس عين وافترقت جموعهم وسار صلاح الدين إلى ماردين فعاث في نواحيها ورجع ثم سار إلى الموصل آخر احدى وثلاثين وعبر إلى الجزيرة وانتهى إلى حران ولقيه مظفر الدين كوكبرى بن زين الدين ولم يف له بالخمسين ألفا التى وعده بها وأخذ منه حران والرها ثم أطلقه بما نفذه من مكاتبته وأعاد عليه بلدته وسار من حران فحضر عنده عساكر الحصن ودارا ولقيه سنجر شاه صاحب الجزيرة ابن أخى عز الدين مودود مفارقا لطاعة عمه وسار معه إلى الموصل ولما انتهى إلى مدينة بله بعث إليه عز الدين ابن عمه نور الدين محمود وجماعة من أعيان الدولة راغبين في الصلح فأكرمهم واستشار أصحابه من أعيان الدولة فأشار على بن أحمد المشطوب كبير الهكارية بالامتناع من ذلك فردهم صلاح الدين واعتذر وسار فنزل على فرسخين من الموصل واشتدوا في مدافعته فامتنعوا عليه فندم على عدم الصلح ورجع على على المشطوب ومن وافقه باللائمة وخاطبه القاضى الفاضل البيسانى من مصر وعزله في ذلك وجاء زين الدين يوسف بن زين الدين صاحب اربل وأخوه مظفر الدين كوكبرى فتلقاهما بالتكرمة وأنزلهما مع الحشود الوافدة بالجانب الشرقي وبعث على بن أحمد المشطوب الهكارى إلى قلعة الجزيرة من بلاد الهكارية فحاصرها واجتمع عليه الاكراد ولم يزل محاصرا لها حتى عاد صلاح الدين من الموصل وأقام صلاح الدين على حصارها مدة وبلغ عز الدين أن نائبه بالقلعة يكاتبه
فمنعه من الصعود إليها وكان يقتدى برأى مجاهد الدين وبعثه في الصلح فسعى فيه إلى أن تحمله ووصل صلاح الدين إلى ميافارقين * (وفاة شاه ارمن سكمان وولاية مكتمر مولى أبيه) * ثم توفى شاه ارمن سقمان بن ابراهيم بن سكمان صاحب خلاط سنة ست وسبعين وكان مكتمر مولى أبيه بميافارقين فأسرع الوصول بمن معه من المماليك واستولى على كرسى بنى سكمان وولى على ميافارقين أسد الدين برتقش من موالى شاه ارمن وكان البهلوان ابن ايلدكز صاحب اذربيجان وهمذان مر بقائد ملوك السلجوقية وقد زوج ابنته من شاه ارمن طمعا في ملك خلاط فلما توفى شاه ارمن سار إليها في عساكره فكاتب أهل خلاط صلاح الدين بن أيوب ودافعوا كلا منهما بالآخر وسار صلاح الدين في مقدمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهما ونزلوا قريبا من خلاط(5/179)
فتردد الرسل من صلاح الدين ومن شمس الدين البهلوان إلى أهل خلاط وهم يدافعون الفريقين وكان قد بلغه وفاة صاحبها قطب الدين وان برتقش نصب ابنه طفلا صغيرا واستبد عليه فسار صلاح الدين إليها وحاصرها حتى تسلمها على الامان وأقام مكتمر أميرا بخلاط وطالت مدته وجرت بينه وبين صلاح الدين فتن وحروب إلى أن توفى صلاح الدين سنة تسع وثمانين فأظهر الشماتة به ونسمى عبد العزيز وتلقب سيف الدين وتوفى اثر ذلك والله تعالى أعلم * (وفاة مكتمر وولاية اقسنقر) * كان مكتمر لاول ولايته قد اختص اقسنقر من موالى شاه ارمن وتلقب هزار ديناري وزوجه بنته وجعله اتابكه فأقام على ذلك مدة ثم استوحش من مكتمر وتربص به حتى إذا توفى صلاح الدين تجهز مكتمر من ميافارقين فأمكنته فيه الفرصة فقتله لعشر سنين من ولايته وذلك بعد وفاة صلاح الدين بشهرين واستبد بملك خلاط وارمينية واعتقل
ابن مكتمر وأمه في بعض القلاع والله سبحانه وتعالى أعلم * (وفاة اقسنقر وولاية محمد بن مكتمر) * ثم هلك اقسنقر صاحب خلاط وارمينية سنة أربع وتسعين لخمس سنين من ملكه وقام بملك خلاط بعده حجر اشتد قطلغ الارمني ولم يرضه أهل خلاط فوثبوا به لسبعة أيام من ولايته وقتلوه واستدعوا محمد بن مكتمر من محبسه وملكوه ولقبوه الملك المنصور وقام بدولته شجاع الدين قطلغ القفجاقى دوادارشاه ارمن وأقام تحت استبداده إلى سنة ثلاث وستمائة ثم دبر على الدوادار وقبض عليه وكان حسن السيرة فاستوحش لذلك الجند والعامة وعكف بعد نكبة الدوادار على لذاته فاجتمع أهل خلاط والجند وكبيرهم بلبان مملوك شاه ارمن وكتبوا إلى ارتق بن أبى الغازى بن البى صاحب ماردين يستدعونه للملك بما كان ابن أخت شاه ارمن وجاهر بلبان بالعصيان إلى ملازكرد واجتمع الجند عليه * (نكبة ابن مكتمر واستيلاء بلبان على خلاط وأعمالها) * ولما ملك بلبان مدينة ملازكرد وأعمالها واجتمع عليه الجند وسار يريد خلاط ووصل ارتق بن أبى الغازى صاحب ماردين لموعدهم ونزل قريبا من خلاط فبعث إليه بلبان أن الجند والرعية اتهموني فيك فارجع وإذا ملكت البلد سلمته اليك فتنحى قليلا فبعث إليه يتوعده على مقالته وبطئه فعاد إلى ماردين وكان الاشرف موسى بن العادل(5/180)
ابن أيوب صاحب الجزيرة وحران لما سمع بمسير ارتق إلى خلاط طمع فيها لنفسه وخشى أن يزداد بملكها قوة عليهم فخالفه إلى ماردين وأقام بتدليس وجبى ديار بكر حتى استوعبها وعاد إلى حران ثم جمع بلبان العساكر وسار إلى خلاط فحاصرها وبرز ابن مكتمر فيمن عنده فانهزم بلبان وعاد إلى ولايته بملاركرد وارجيش وغيرها ثم جمع ورجع إلى خلاط فحاصرها وضيق عليها وابن مكتمر عاكف على لذاته فلما جهدهم
الحصار ثاروا به وقبضوه ومكنوا بلبان منه ودخل إلى خلاط واستولى عليها وعلى سائر أعمالها وحبس ابن مكتمر في قلعة هناك واستبد بملكها وكان الاوحد نجم الدين أيوب ابن العادل بن أيوب قد ولى على ميافارقين من قبل أبيه إلى خلاط سنة أربع وستمائة وقصد مدينة سوس وحاصرها وملك ما يجاورها وعجز بلبان عنه ثم ملك سوس وقصد خلاط فبرز له بلبان وهزمه فعاد إلى ميافارقين وجمع واستمد أباه العادل فأمده بالعساكر ونهض إلى خلاط فبرز له بلبان ثانية وهزمه الاوحد وحاصره في خلاط فبعث بلبان إلى طغرك يستنجده فانهزم الاوحد امامهما وسار بلبان مع طغرك إلى مراش فحاصراها وغدر به طغرك هناك وقتله وسار إلى خلاط فمنعه أهلها فسار إلى ملازكرد فمنعوه كذلك فعاد إلى ارزن وأرسل أهل خلاط بطاعتهم إلى الاوحد نجم الدين فجاء وملك خلاط واستولى على أعمالها وزحف الكرج فأغاروا على خلاط وعاثوا في نواحيها والاوحد مقيم بخلاط لم يفارقها وانتقض عليه جماعة من العسكر بحصن رام وساروا إلى مدينة ارجيش فملكوها واجتمع إليهم المفسدون وبعث نجم الدين إلى أبيه العادل يستنجده فأمده بابنه الآخر شرف الدين موسى فحاصر حصن رام حتى استأمن إليه من كان به من الجند ورجع الاشرف إلى عمله بحران والرها واستقر نجم الدين بخلاط ثم سار إلى ملازكرد ليطالع أمورها ويمهدها فثار أهل خلاط بعسكره فاخرجوهم وحصروا أصحاب نجم الدين بالقلعة ونادوا بشعار شاه ارمن وقومه فرجع الاوحد ولاقاه عسكر الجزيرة وحاصر خلاط ثم اختلف أهلها فدخلها عليهم عنوة واستباحها ونقل جماعة من أعيانها إلى ميافارقين وقتل كثيرا منهم هنالك واستكان أهل خلاط بعدها وانمحى منها حكم المماليك بعد أن كانوا متسحكمين فيها يولون ملوكها و يخلعونهم وانقرضت دولة بنى سكمان من خلاط وصارت لبنى أيوب والبقاء لله وحده والله وارث الارض ومن عليها وهو خير الوارثين واليه المرجع(5/181)
* (آخر دولة السلجوقية بخلاط وارمينية وملكها منهم بنو أيوب) * [ أخبار الافرنج فيما ملكوه من سواحل الشأم وثغوره وكيف تغلبوا عليه وبداية أمرهم في ذلك ومصايره ] قد تقدم لنا اول الكتاب الكلام في أنساب هده الامة عند ذكر أنساب الامم وانهم من ولد يافث بن نوح ثم من ولد ريفات بن كومر بن يافث اخوة الصقالبة والخزر والترك وقال هروشوش انهم من عصر ما بن غومر وأما مواطنهم من بلاد المعمورة فانهم في شمالي البحر الرومي من خليج رومة إلى ما وراء النهر غربا وشمالا وكانوا أولا يدينون لليونان والروم بالطاعة عند استفحال أمرهم فلما انقرضت دولة أولئك استقل هؤلاء(5/182)
الافرنج بملكهم وافترقوا دولا مثل دولة القوط بالاندلس والجلالقة بعدهم وملك اللمانين بالتفخيم من جزيره انكلطره بالبحر المحيط الغربي الشمالي وما يحاذيه ويقابله من المعمور ومثل ملوك افرنسة وهو عندهم اسم افرنجة بعينه ينطقون بها سينا وهم ما وراء خليج رومة غربا إلى الثنايا المفضية إلى جزيرة الاندلس في الجبل المحيط بها من شرقيها وتسمى تلك الثنايا البردت وكانت دولة هؤلاء الافرنس منهم من أعظم دولهم واستفحل أمرهم بعد الروم وصدرا من دولة الاسلام العربية فسموا إلى ملك بلاد المشرق من ناحيتها وتغلبوا على جزر البحر الرومي في آخر المائة الخامسة وكان ملكهم لذلك العهد بردويل فبعث رجالا من ملوكهم إلى صقلية وملكها من يد المسلمين سنة ثمانين وأربعمائة ثم سموا إلى ملك ما وراء النهر من افريقية وبلاد الشأم والاستيلاء على بيت المقدس وطال ترددهم في ذلك ثم استحثهم وحرضهم عليه فيما يقال خلفاء العبيديين بمصر لما استفحل ملك السلجوقية وانتزعوا الشأم من أيديهم وحاصروهم في مصر فيقال ان المستنصر منهم دس إلى الافرنج بالخروج وتسهيل أمرهم عليه ليحولوا بين السلجوقية وبين مرامهم فتجهز الافرنج لذلك وجعلوا
طريقهم في البر على القسطنطينية ومنعهم ملك الروم من العبور عليه من الخليج حتى شرط عليهم أن يسلموا له انطاكية لكون السملمين كانوا أخذوها من مماليكهم فقبلوا شرطه وسهل لهم العبور في خليجه فأجازوا سنة تسعين وأربعمائة في العدد والعدة وانتهوا إلى بلاد قليج ارسلان وجمع للقائهم فهزموه وفر بلاد ابن اليون الارمني ووصلوا انطاكية وبها باغيسيان من أمراء السلجوقية فحاصروه بها وخذلوا صاحب حلب ودمشق على صريخه بأن لا يقصدوا غير انطاكية فأسلموه حتى ضاق به الحصار وغدر به بعض الحامية فملك الافرنج البلاد وهرب باغيسيان فقتل وحمل إليهم رأسه وكان ملوكهم الحاضرون لذلك خمسة بردويل وصنجيل وكبريرى والقمص واسمند وهو مقدم العساكر فردوا إليه أمر انطاكية وبلغ الخبر إلى المسلمين فسافروا إليهم شرقا وغربا وسار قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل وجمع عساكر الشأم وسار إلى دمشق فخرج إليهم دقاق بن تتش وطغتكين أتابك وجناج الدولة صاحب حمص وارسلان صاحب سنجر وسكمان ارتق وغيرهم من الامراء وزحفوا إلى انطاكية فحاصروها ثلاثة عشر يوما ووهن الافرنج واشتد عليهم الحصار لما جاءهم على غير استعداد وطلبوا الخروج على الامان فلم يسعفوا ثم اضطرب أمر عساكر المسلمين وأساء كربوقا السيرة فيهم وأزمعوا من استكثاره عليهم فخرج الافرنج إليهم واستماتوا فتخاذل المسلمون وانهزموا من(5/183)
غير قتال حتى ظنها الافرنج مكيدة فتقاعدوا عن اتباعهم واستشهد من المسلمين ألوف والله تعالى أعلم * (استيلاء الافرنج على معرة النعمان ثم على بيت المقدس) * ولما حصلت للافرنج هذه النكاية في المسلمين طمعوا في البلاد وساروا إلى معرة النعمان وحاصروها واشتد القتال في أسوارها حتى داخل أهلها الجزع فتحصنوا
بالدور وتركوا السور فملكه الافرنج ودخلوا عليهم فاستباحوها ثلاثا وأقاموا بها أربعين يوما ثم ساروا إلى غزة وحاصروها أربعة أشهر وامتنعت عليهم فصالحهم ابن منقذ عليها وساروا إلى حمص وحاصروها فصالحهم عليها جناح الدولة وساروا إلى عكا فامتنعت عليهم وكان بيت المقدس قد ملكه السلجوقية وصار لتاج الدولة تتش وأقطعه لسكمان بن ارتق من التركمان فلما كانت واقعة الافرنج بانطاكية طمع أهل مصر فيهم وسار الافضل بن بدر الجمالى المستولي على العلويين بمصر إلى بيت المقدس وبها سكمان وابو الغازى ابنا ارتق وابن عمهما سوع وابن أخيهما ياقوتي فحاصروه نيفا وأربعين يوما ونصبوا عليه ينفا وأربعين منجنيقا وملكوه بالامان سنة احدى وتسعين وأربعمائة وأحسن الافضل إلى سكمان وابى الغازى وأصحابهما وسرحهم إلى دمشق وعبروا الفرات وأقام سكمان بالرها وسار أبو الغازى إلى العراق واستناب الافضل عليها افتخار الدولة الذى كان بدمشق فقصده الافرنج بعد ان حاصروا عكا وامتنعت عليهم فحاصروه أربعين ليلة وافترقوا على جوانب البلد فملكوها من الجانب الشمالي آخر شعبان من السنة واستباحوها وأقاموا فيها أسبوعا واعتصم بعض المسلمين بمحراب داود وقاتلوا فيه ثلاثا حتى استأمنوا ولحقوا بعسقلان وأحصى القتلى من الائمة والعلماء والعباد والزهاد المجاورين بالمسجد فكانوا سبعين ألقا أو يزيدون وأخذ من المناور المعلقة عند الصخرة أربعون قنديلا من الفضة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة وستون درهما من الفضة زنته أربعون رطلا بالشامى ومائة وخمسون قنديلا من الصغار وما لا يحصى من غير ذلك وجاء الصريخ إلى بغداد صحبة القاضى أبى سعيد الهروي ووصف في الديوان صورة الواقعة فكثر البكاء والاسف ووسم الخليفة بمسير جماعة من الاعيان والعلماء فيهم القاضى أبو محمد الدامغاني وأبو بكر الشاشى وأبو الوفاء بن عقيل إلى السلطان بركيارق يستصرخونه للاسلام فساروا إلى حلوان وبلغهم اضطراب الدولة السلجوقية وقتل محمد الملك
البارسلان المتحكم في الدولة واختلاف السلاطين فعادوا وتمكن الافرنج من البلاد وولوا على بيت المقدس كندفرى من ملوكهم(5/184)
* (مسير العساكر من مصر لحرب الافرنج) * لما بلغ خبر الواقعة إلى مصر جمع لافضل الجيوش والعساكر واحتشد وسار إلى عسقلان وأرسل إلى الافرنج بالنكير والتهديد فأعادوا الجواب ورحلوا مسرعين فكبسوه بعسقلان على غير أهبة فهزموه واستلحموا المسلمين ونهبوا سوادهم ودخل الافضل عسقلان وافترق المنهزمون واستبدوا بنحر الحمير ووصل الافضل من عسقلان إلى مصر ونازلها الافرنج حتى صانع أهلها الافرنج بعشرين ألف دينار وعادوا إلى القدس * (ايقاع ابن الدانشمند بالافرنج) * كان كمستكين بن الدانشمند من التركمان ويعرف بطابلوا ومعنى الدانشمند المعلم كان أبوه يعلم التركمان وتقلبت به الاحوال حتى ملك سيواس وغيرها وكان صاحب ملطية بعاديه فاستنجد عليه اسمند صاحب انطاكية فجاءه في خمسة الاف وسار إليه ابن الدانشمند وأسره ثم جاء الافرنج إلى قلعة أنكورية فملكوها وقتلوا من بها من المسلمين ثم حاصروا اسمعيل بن الدانشمند فلقيهم كمستكين وهزمهم واستلحمهم وكانوا ثلثمائة ألف ثم ساروا إلى ملطية فملكوها وأسروا صاحبها وزحف إليه اسمند من انطاكية في الافرنج فهم بهم ابن الدانشمند فأتاح الله للمسلمين على يده هذا الظهور في مدد منقاربة حتى خلص اسمند من الاسر وجاء إلى انطاكية والافرنج بها وبعث إلى قيس العواصم وما جاورها يطلب الامارة فامتعض المسلمون لذلك وقلدوه بعد العهد الذى التزمه * (حصار الافرنج قلعة جبلة) *
كانت جبلة من أعمال طرابلس وكان الروم قد ملكوهاو ولوا على المسلمين بها ابن رئيسهم منصور بن صليحة يحكم بينهم فلما صارت للمسلمين رجع أمرها لجمال الملك أبى الحسن على بن عمار المستبد بطرابلس وبقى منصور بن صليحة على عادته فيها ثم توفى منصور فقام إليه أبو محمد عبد الله مقامه وأظهر الشماتة فارتاب به ابن عمار وأراد القبض عليه فعصى هو في جبلة وأقام بها الخطبة العباسية واستنجد عليه ابن عمار دقاق بن تتش فجاءه ومعه أتابك طغركين فامتنع عليهم ورجعوا ثم جاء الافرنج فحاصروها فامتنع عليهم أيضا وشاع أن بركيارق جاء إلى الشأم فرحلوا ثم عادوا وأظهروا ان المصريين جاؤا لانجاده فرحلوا ثم عادوا فتقدم للنصارى الذين عنده أن يداخلوا الافرنج في نقب البلد من بعض أسواره فجهزوا إليهم ثلثمائة من أعيانهم(5/185)
فرفعهم بالحبال واحدا بعد واحد وهو فاعد على السور حتى قتلهم اجمعين فرحلوا عنه ثم عادوا إليه فهزمهم وأسر ملكهم كبرانيطل وفادى نفسه منه بمال عظيم ثم ابن صليحة وجهده الحصار فأرسل إلى طغركين صاحب دمشق وبعث ابن عمار في طلبه إلى الملك دقاق على أن يدفعه إليه بنفسه دون ماله ويعطيه ثلاثين ألف دينار فلم يفعل وسار ابن صليحة إلى بغداد فوعده إلى وصول رحله من الانبار فبعث الوزير من استولى عليها فوجد فيها ما لا يحصى من الملابس والعمائم والمتاع وانتزع ذلك كله ولما ملك تاج الملوك جبلة أساء فيها السيرة فراسلوا فخر الملك أبا على بن عمار صاحب طرابلس واستدعوه لملكها فعبث إليهم عسكرا وقاتلوا تاج الملك ومن معه فهزموه وأخذوه أسيرا وملكوا جبلة بدعوة ابن عمار وحملوا تاج الملك إلى ابن عمار فأحسن إليه وبعث إلى أبيه بدمشق واعتذر له بأنه خاف على جبلة من الافرنج * (استيلاء الافرنج على سروج وقيسارية وغيرهما) * ثم سار كبريرى ملك الافرنج من بيت المقدس سنة أربع وتسعين لحصارها فأصابه منهم
سهم فقتله فسار أخو مبقدوين في خمسمائة فارس إلى القدس ونهض دقاق صاحب دمشق ومعه جناج الدولة صاحب حمص لاعتراضه فهزموا الافرنج وأثخنوا فيهم ثم كاتب أهل مدينة الافرنج وكان أكبرهم ودخل في طاعتهم وكان سقمان بن ارتو صاحب سروج جمع جموعه من التركمان وسار إلى الرها فلقيه الافرنج وهزموه في ربيع سنة أربع وتسعين وساروا إلى سروج فحاصروهم حتى ملكوها عنوة واستباحوها ثم ملكوا حصن كيفا بقرب عكا عنوة وملكوا ارسوف بالامان ثم ساروا في رحب إلى قيسارية فملكوها عنوة واستباحوها والله تعالى ولى التوفيق بمنه وكرمنا * (حصار الافرنج طرابلس وغيرها) * كان صنجيل من ملوك الافرنج المذكورين قبل قد لازم حصار طرابلس وزحف إليه قليج ارسلان صاحب بلاد الروم فظفر به وعاد صنجيل مهزوما فأرسل فخر الدولة بن عمار صاحب طرابلس إلى أمير آخر نائب جناح الدولة بحمص إلى دقاق بن تتش يدعوه إلى معالجته فجاء تاج الدولة بنفسه وجاء العسكر مددا من عند دقاق واجتمعوا على طرابلس وفرق صنجيل الفل الذين معه على قتالهم فانهزموا كلهم وفتك هو في أهل طرابلس وشد حصارها وأعانه أهل الجبل والنصارى من أهل سوادها ثم صالحوه على مال وخيل ورحل نهم إلى طرسوس من أعمال طرابلس فحاصرها وملكها عنوة واستباحها إلى حصن الطومار ومقدمه ابن العريض فامتنع عليهم وقاتلهم صنجيل(5/186)
فهزموا عسكره وأسروا زعيما من زعماء الافرنج بدل صنجيل فيه عشرة آلاف دينار وألف أسير ولم يعاوده وذلك كله سنة خمس وتسعين وأربعمائة ثم سار صنجيل إلى حصن الاكراد وحاصره جناح الدولة لغزوه فوثب عليه باطني بالمسجد وقتله ويقال ان رضوان بن تتش وضعه عليه فسار صنجيل إلى حمص وحاصرها وملك أعمالها ثم نزل القمص على عكا في جمادى الاخيرة من السنة فنفر المسلمون من جميع
السواحل لقتاله وهزموه وأحرقوا اهله والمنجنيقات التى نضبت للحرب ثم سار القمص صاحب الرها إلى سروت وحاصرها فامتنعت عليه وزحف عساكر مصر إلى عسقلان للمدافعة عن سواحلهم فزحف إليهم بردويل صاحب القدس فهزمه المسلمون ونجا إلى الرملة وهم في اتباعه فحاصروه وخلص إلى يافا وفشا القتل والاسر في الافرنج والله تعالى ولى التوفيق * (حصار الافرنج عسقلان وحروبهم مع عساكر مصر) * لما طمع الافرنج في عسقلان واستفحل أمرهم بالشأم حهز الافضل أمير الجيوش عساكره من مصر لحربهم سنة ست وتسعين مع سعد الدولة القواسى مولى أبيه وزحف بقدوين ملك الافرنج من القدس فلقيهم بين الرملة ويافا وهزمهم ومات سعد الدولة مترديا عن فرسه واستولى الافرنج على سواده وبعث الافضل بعده ابنه شرف المعالى فلقيهم في العساكر على بازور قرب الرملة فهزمهم ونال منهم ونجا كثير من أعيانهم إلى بعض الحصون هنالك فحاصرهم شرف المعالى خمس عشرة ليلة وملك الحصن فقتل وأسر ونجا بقدوين إلى يافا ثم إلى القدس فصادف وصول جمع كثير من الافرنج لزيارة القدس فندبهم للغزو فساروا إلى عسقلان وبها شرف المعالى فامتنعت ورجعوا وبعث شرف المعالى إلى أبيه فبعث العساكر في البر مع تاج العجم مولى أبيه والاسطول في البحر لحصار يافا مع القاضى ابن دقاوس فلما وصل الاسطول إلى يافا بعث عن تاج العجم ليأتيه بالعساكر فامتنع فأرسل الافضل من قبض عليه وولى على العساكر وعلى عسقلان جمال الملك من مواليهم فانصرمت السنة وبيد الافرنج بيت المقدس غير عسقلان ولهم أيضا من الشأم يافا وارسوف وقيسارية وصيفا وطبرية والاردن واللاذقية وانطاكية ولهم بالجزيرة الرها وسروج وصنجيل محاصر فخر الملك بن عمار بمدينة طرابلس وهو يرسل اسطوله للاغارة بلاد الافرنج في كل ناحية ثم دخلت سنة سبع وتسعين فخرج الافرنج الذين بالرها فأغاروا على الرقة وقلعة جعفر واكتسحوا نواحيها وكانت لسالم
ابن مالك بن بدران بن المقلد منذ ملكه السلطان ملك شاه اياها سنة تسع وسبعين كما مر والله أعلم(5/187)
* (استيلاء الافرنج على جبيل وعكا) * وفي سنة سبع وتسعين وصلت مراكب من بلاد الافرنج تحمل خلقا كثيرا من التجار والحجاج فاستعان بهم صنجيل على حصار طرابلس فحاصروها حتى يئسوا منها فارتحلوا الى جبيل وملكوها بالامان ثم غدروا بأهلها وأفحشوا في استباحتها ثم استنجدهم بقدوين ملك القدس على حصار عكا فحاصروها برا وبحرا وبها الدولة الجيوشى من قبل ملك الحيوش الافضل صاحب مصر فدافعهم حتى عجزوا وهرب عنها إلى دمشق وملك الافرنج عكا عنوة وأفحشوا في استباحتها والله تعالى أعلم * (عز وأمراء السلجوقية بالجزيرة الفرنج) * كان المسلمون أيام تغلب الافرنج على الشأم في فتنة واختلاف تمكن فيها الافرنج واستطالوا وكانت حران وحمص لمولى من موالى ملك شاه اسمه قراجا والموصل لجكرمس وحصن كيفا لسقمان بن ارتق وعصى في حران على قراجا باشه فيها فاغتاله جاولى مولى من موالى الترك وقتله فطمع الافرنج في حران وحاصروها وكان بين جكرمس وسقمان فتنة وحرب فوضعوا أوزارها لتلافي حران واجتمعا على الخابور وتحالفا ومع سقمان سبعة آلاف من قومه التركمان ومع جكرمس ثلاثة آلاف من قومه الترك ومن العرب والاكراد وسار إليهم الافرنج من حران فاقتتلوا واستطرد لهم المسلمون بعبدا ثم كروا عليهم فأثخنوا فيهم واستباحوا أموالهم وكان اسمند صاحب انطاكية وسكرى صاحب الساحل قد أكمنوا للمسلمين وراء الجبل فلم يظهر لهم انهم اصحابهم وأقاموا هنالك إلى الليل ثم هربوا وشعر بهم المسلمون فاتبعوهم وأثخنوا فيهم وأسر في تلك الواقعة القمص بردويل صاحب الرها أسره بعض التركمان من أصحاب سقمان فشق ذلك على أصحاب جكرمس لكثرة ما امتان التربن من الغنائم وحسنوا له
أخذ القمص من سقمان فأخذه وأراد التركمان محاربة جكرمس وأصحابه عليه فمنعهم سقمان حذرا من اختلاف المسلمين وسار مفارقا لهم وكان يمر بحصون الافرنج فيخرجون إليه ظنا بنصر أصحابهم فملكها عليهم وسار جكرمس إلى حران فملكها وولى عليها من قبله ثم سار إلى الرها وحاصرها أياما وعاد إلى الموصل وفادى القمص بردويل بخمسة وثلاثين ألف دينار ومائة وستين اسيرا والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق بمنه وكرمه * (حرب الافرنج مع رضوان بن تتش صاحب حلب) * ثم سار سكرى صاحب انطاكية من الافرنج سنة ثمان وتسعين إلى حصن اريام من(5/188)
حصون رضوان صاحب حلب فضاقت حالهم واستنجدوا برضوان فسار إليهم وخرج الافرنج للقائه ثم طلب الصلح من رضوان فمنعه اصبهبد صباوو من أمراء السلجوقية كان نزع إليه بعد قتل صاحبه اياز ولقيهم الافرنج فانهزموا أولا ثم استمالوا وكروا على المسلمين فهزموهم وأفحشوا في قتلهم وقتل الرجالة الذين دخلوا عسكرهم في الحلة الاولى ونجا رضوان وأصحابه إلى حلب ولحق صباوو بطغركين أتابك دمشق ورجع الافرنج الى حصار الحصن فهرب أهله إلى حلب وملكه الافرنج والله تعالى ولى التوفيق * (حرب الافرنج مع عساكر مصر) * كان الافضل صاحب مصر قد بعث سنة ثمان وتسعين ابنه شرف المعالى في العساكر إلى الرملة فملكها رقهر الافرنج ثم اختلف العسكر في ادعاء الظفر وكادوا يقتتلون وأغار عليهم الافرنج فعاد شرف المعالى إلى مصر فبعث الافضل ابنه الآخر سناء الملك حسينا مكانه في العساكر وخرج معه جمال الدين صاحب عسقلان واستمدوا طغركين أتابك دمشق فجهز إليهم أصبهبد صباوو من أمراء السلجوقية وقصدهم بقدوين صاحب
القدس وعكا فاقتتلوا وكثرت بينهم القتلى واستشهد جمال الملك نائب عسقلان وتحاجزوا وعاد كل إلى بلده وكان مع الافرنج جماعة من المسلمين منهم بكياش بن تتش ذهب مغاضبا عن دمشق لما عدل عنه طغركين الاتابك بالملك إلى ابن أخيه دقاق وأقام عند الافرنج والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق بمنه * (حرب الافرنج مع طغركين) * كان قمص من قمامصة الافرنج بالقرب من دمشق وكان كثيرا ما يغير عليها ويحارب عساكرها فسار إليه طغركين في العساكر وجاء بقدوين ملك القدس لانجاده على المسلمين فرده ذلك القمص ثقة بكفائه فرجع إلى عكا وسار طغركين إلى الافرنج فقاتلهم وحجزهم في حصنهم ثم خرب الحصن وألقى حجارته في الوادي وأسر الحامية الذين به وقتل من سواهم من أهله وعاد إلى دمشق ظافرا ثم سار بعد أسبوع إلى وبه ابن أخت صنجيل فمسكه وقتل حاميته * (استيلاء الافرنج على حصن افامية) * كان خلف بن ملاعب الكلابي متغلبا على حمص وملكها منه تتش كما مر وانتقلت الاحوال إلى مصر ثم ان رضوان صاحب حلب انتقض عليه واليه بحصن افامية وكان من الرافضة فبعث بطاعته إلى صاحب مصر واستدعى منهم واليا فبعثوا خلف بن(5/189)
ملاعب لايثاره الجهاد وأخذوا رهنه فعصى في افامية واستبدبها واجتمع عليه المفسدون ثم ملك الافرنج من اعمال حلب وأهله رافضة ولحق قاضيها بابن ملاعب في افامية ثم أعمل التدبير عليه وبعث إلى أبى طاهر الصائغ من اصحاب رضوان وأعيان الرافضة ودعاتهم وداخله في الفتك بابن ملاعب وتسليم الحصن إلى رضوان وشعر بذلك ابنا ابن ملاعب وحذرا أباهما من تدبير القاضى عليه وجاء القاضى فحلف له على كذبه وصدقه وعاد القاضى إلى مداخلة أبى طاهر ورضوان في ذلك
التدبير وبعثوا جماعة من أهل سرمين بخيول وسلاح يقصدون الخدمة عند ابن ملاعب فأنزلهم بربض افامية حتى ثم التدبير وأصعدهم القاضى وأصحابه ليلا إلى القلعة فملكوها وقتلوا ابن ملاعب وهرب ابناه فلحق أحدهما بأبى الحسن بن منقذ صاحب شيرز وقتل الآخر وجاء أبو طاهر الصائغ إلى القاضى يعتقد ان الحصن له فلم يمكنه القاضى وأقام عنده وكان بعض بنى خلف بن ملاعب عند طغركين بدمشق مغاضبا لابيه فولاه حصنا من حصونه فأظهر الفساد والعيث فطلبه طغركين فهرب إلى الافرنج واستحثهم لملك افامية فحاصروه حتى جهد أهله الجوع وقتلوا القاضى المتغلب فيه والصائغ وذلك سنة تسع وتسعين وخمسمائة * (خبر الافرنج في حصار طرابلس) * كان صنجيل من ملوك الافرنج ملازما لحصار طرابلس وملك جبلة من يد ابن صليحة وبنى على طرابلس حصنا وأقام عليها ثم هلك وحمل إلى القدس ودفن بأمر ملك الروم أهل اللاذقية أن يحملوا الميرة إلى الافرنج المحاصرين طرابلس فحملوها في السفن وظفر أصحاب ابن عمار ببعضها فقتلوا وأسروا واستمر الحصن خمس سنين فعدمت الاقوات واستنفد أهل الثروة مكسو بهم في الانفاق وضاقت أحوالهم وجاءتهم سنة خمسمائة ميرة في البحر من جزيرة قبرص وانطاكية وجزائر البنادقة فحفظت أرماقهم ثم بلغ ابن عمار انتظام الامر للسلطان محمد بن ملك شاه بعد أخيه بركيارق فارتحل إليه صريخا واستخلف على طرابلس ابن عمه ذا المناقب في طرابلس وخيم ابن عمار على دمشق وأكرمه طغركين ثم سار إلى بغداد فأكرمه السلطان محمد وأمر بتبليغه والاحتفال لقدومه ووعده بالانجاد ولما رحل عن بغداد أحضره عنده بالنهروان وأمر الامير حسين بن أتابك قطلغتكين بالمسير معه وان يستصحب العساكر التى بعثها مع الامير مودود إلى الموصل لقتال جاولى بسكاوو وأمره باصلاح جاولى والمسير مع ابن عمار حسبما مر في أخبارهم ثم وقعت الحرب بين السلطان محمد وبين صدقة بن مزيد
واصطلحوا وودعه ابن عمار بعدان خلع عليه وسار معه الامير حسين فلم يصل إلى قصده(5/190)
من عساكر الموصل مودود وانتقاض فعاد فخر الدين بن عمار لى دمشق في محرم سنة ثنتين وخمسمائة وسار منها إلى فملكها وبعث أهل طرابلس لى الافضل أمير الجيوش بمصر يستمدونه ويسألون الوالى عليهم فبعث إليهم شرف الدولة بن أبى الطيب بالمدد والاقوات والسلاح وعدة الحصار واستولى على ذخائر ابن عمار وقبض على جماعة من أهله وحمل الجميع في البحر إلى مصر * (خبر القمص صاحب الرها مع جاولى ومع صاحب انطاكية) * كان جاولى قد ملك الموصل من يد أصحاب جكرمس ثم انتقض فبعث السلطان إليه مودود في العساكر فسار جاولى عن الموصل وحمل معه القمص بردويل صاحب الرها الذى كان أسره سقمان وأخذه منه جكرمس وأصحابه وترك الموصل ثم أطلق جاولى هذا القمص في سنة ثلاث وخمسمائة بعد خمس سنين من أسره على مال قرره عليه وأسرى من المسلمين عنده يطلقهم وعلى أن يمده بنفسه وعساكره وماله متى احتاج إلى ذلك ولما انبرم العقد بينهما بعث بوالى سالم بن مالك بقلعة جعفر حتى جاءه هناك ابن خاله جوسكين تل ناشر فأقام رهينة مكانه ثم أطلقه جاولى ورهن مكانه أخا زوجته وزوجة القمص فلما وصل جوسكين إلى فنج أغار عليها ونهبها وسبى حماعة من أصحاب جاولى إلى الغدر فاعتذر بأن هذه البلاد ليست لكم ولما أطلق القمص سار إلى انطاكية ليسترد الرها من يد سكرى لانه اخذها بعد أسره فلم يردها وأعطاه ثلاثين ألف دينار ثم سار القمص إلى تل ناشر وقدم عليه أخوه جوسكين الذى وضعه رهينة عند جاولى وسار سكرى صاحب انطاكية لحربهما قبل أن يستفحل أمرهما وينجدهما جاولى فقاتلوه ورجع إلى انطاكية وأطلق القمص مائة وستين من أسرى المسلمين ثم سار القمص وأخوه جوسكين وأغاروا على حصون انطاكية وأمدهم صاحب رعيان وكيسوم
وغيرهما من القلاع شمال حلب وهو من الارمن بألف فارس وألفى راجل وخرج إليهم سكرى وتراجعوا للحرب ثم حملهم الترك على الصلح وحكم على سكرى برد الرها على القمص صاحبها بعد ان شهد عنده جماعة من البطارقة ولاساقفة بأن اسمند خال سكرى لما انصرف إلى بلاده أوصاه برد الرها على صاحبها إذا خلص من الاسر فردها سكرى على القمص في صفر سنة ثلاث ووفى القمص لحاولي بما كان بينهما ثم قصد جاولى الشأم ليملكه وتنقل في نواحيه كما مر في أخباره وكتب رضوان صاحب حلب إلى سكرى صاحب انطاكية يحذره من جاولى ويستنجده عليه فأجابه وبرز من انطاكية وبعث إليه رضوان بالعساكر واستنجد جاولى القمص صاحب الرها فأنجده بنفسه ولحق به على منبج وجاءه الخبر هنالك باستيلاء عسكر السلطان على بلده الموصل وعلى خزائنه بها(5/191)
وفارقه كثير من أصحابه منهم زنكى بن اقسنقر فنزل جاولى تل ناشر وتزاحف مع سكرى هنالك واشتد القتال واستمر أصحاب انطاكية فتخاذل أصحاب جاولى وانهزموا وذهب الافرنج بسوادهم فجاء القمص وجوسكين إلى تل ناشر والله تعالى أعلم * (حروب الافرنج مع طغركين) * كان طغركين قد سار إلى طبرية سنة ثنتين وخمسمائة فسار إليه ابن أخت بقدوين ملك القدس واقتتلوا فانكشف المسلمون ثم استماتوا وهزموا الافرنج وأسروا ابن أخت الملك فقتله طغركين بيده بعد ان فادى نفسه بثلاثين ألف دينار وخمسمائة أمير فلم يقبل منه الا الاسلام أو القتل ثم اصطلح طغركين وبقدوين لمدة أربع سنين وكان حصن غربة من أعمال طرابلس بيد مولى ابن عمار فعصى عليه وانقطعت عنه الميرة بعبث الافرنج في نواحيه فارسل إلى طغركين بطاعته فبعث اسرائيل من أصحابه ليتملك الحصن ونزل منه مولى ابن عمار فرماه اسرائيل في الزحام بسهم فقتله حذرا أن يطلع الاتابك على مخلفه وقصد طغركين الحصن لمشارفة أحواله فمنعه نزول الثلج حتى إذا نقشع وانجلى
سار في أربعة آلاف فارس وفتح حصونا للافرنج منها حصن الاكمة وكان السردانى من الافرنج يحاصر طرابلس فسار للقائه فلما أشرف عليه انهزم طغركين وأصحابه إلى حمص وملك السردانى حصن غربة بالامان ووصل طغركين إلى دمشق فبعث إليه بقدوين من القدس بالبقاء على الصلح وذلك في شعبان سنة اثنين * (استيلاء الافرنج على طرابلس وبيروت وصيدا وجبيل وباقياس) * ولما عادت طرابلس إلى صاحب مصر من يد ابن عمار وولى عليها نائبه والافرنج يحاصرونها وزعيمهم السردانى ابن أخت صنجيل فلما كانت سنة ثلاث وخمسمائة في شعبان ووصل القمص والد صنجيل وليس صنجيل الاول وانما هو قمص آخر بمراكب عديدة مشحونة بالرجال والسلاح والميرة وجرت بينه وبين السردانى فتنة واقتتلوا وجاء سكرى صاحب انطاكية مددا للسردانى ثم جاء بقدوين ملك لقدس وأصلح بينهم وحاصروا طرابلس ونصبوا عليها الابراج فاشتد بهم الحصار وعدموا القوت لتأحر الاسطول المصرى بالميرة ثم زحفوا إلى قتالها بالابراج وملكوها عنوة ثانى الاضحى واستباحوها وأثخنوا فيها وكان النائب بها قد استأمن إلى الافرنج قبل ذلك بليال وملكها بالامان ونزل على مدينة جبيل وبها فخر الملك بن عمار فاستأمنوا لى سكرى وملكها ولحق ابن عمار بشيرز فنزل على صاحبها سلطان بن على بن منقذ الكقانى ولحق منها بدمشق فأكرمه طغركين وأقطعه الزبدانى من أعمال دمشق(5/192)
في محرم سنة أربع ووصل اسطول مصر بالميرة بعد أخذ طرابلس بثمانية أيام فارسي بساحل صور وفرقت الغلال في جهاتها في صور وصيدا وبيروت ثم استولى الافرنج على صيدا في ربيع الآخر سنة أربع وخمسمائة وذلك انه وصل اسطول للافرنج من ستين مركبا مشحونة بالرجال والذخائر وبها ملوكهم بقصد الحج والعزو فاجتمع مع القدوين صاحب القدس ونازلوا صيدا براوبحراو أسطول مصر يعجز عن انجادهم
ثم زحفوا إلى الصور في ابراج الخشب المصفحة فضعفت نفوسهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت فاستأمنوا فأمنهم الافرنج في جمادى الاولى ولحقوا بدمشق بعد سبعة وأربعين يوما من الحصار وأقام بالبلد خلق كثير تحت الامان وعاد بقدوين إلى القدس * (استيلاء أهل مصر على عسقلان) * كانت عسقلان لخلفا العلوية بمصر وقد ذكرنا حروب الافرنج مع عساكرهم عليها وآخر من استشهد منهم جمال الملك نائبها كما مر آنفا وولى عليها شمس الخلافة فراسل بقدوين ملك القدس وهاداه ليمتنع به من الخليفة بمصر وبعث الافضل بن أمير الجيوش العساكر إليه سنة أربع وخمسمائة مع قائد من قوادهم موريا بالغزو وأسر إليه بالقبض على شمس الخلافة والولاية مكانه بعسقلان وشعر شمس الخلافة بذلك فجاهر بالعصيان فحشى أن يملكها الافرنج فراسله وأقره على عمله وعزل شمس الخلافة جند عسقلان واستنجد جماعة من الارمن فاستوحش منه أهل البلد ووثبوا به فقتلوه وبعثوا إلى الامير الافضل صاحب مصر المستولي عليها بطاعتهم فجاءهم الوالى من قبله واستقامت أمورهم * (استيلاء الافرنج على حصن الاقارب وغيره) * ثم جمع سكرى صاحب انطاكية واحتشد وسار إلى حصن الاقارب على ثلاثة فراسخ من حلب فحاصره وملكه عنوة وأثخن فيهم بالقتل والسبي ثم سار إلى حصن وزدناد ففعل فيه مثل ذلك وهرب أهله منه ومارس على بلديهما ثم سار عسكر من الافرنج إلى مدينة صيدا فملكوها على الامان وأشفق المسلمون من استيلاء الافرنج على الشأم وراسلوهم في الهدنة فامتنعوا الا على الضريبة فصالحهم رضوان صاحب حلب على اثنين وثلاثين ألف دينار وعدة من الخيول والثياب وصاحب صور على سبعة آلاف دينار وابن منقذ صاحب شيرز على أربعة آلاف دينار وعلى الكردى صاحب حماة
على ألفى دينار ومدة الهدنة إلى حصاد الشعير ثم اعترضت مراكب الافرنج مراكب(5/193)
التجار من مصر فأخذوها وأسروهم وسار جماعة من أهل حلب إلى بغداد للنفير فدخلوها مستغيثين ومعهم خلق من الفقهاء والغوغاء وقصدوا جامع السلطان يوم الجمعة فمنعوا الناس من الصلاة بضجيجهم وكسروا المنبر فوعدهم السلطان بانفاذ العساكر للجهاد وبعث من دار الخلافة منبرا للجامع ثم قصدوا في الجمعة الثانية جامع القصر في مثل جمعهم ومنعهم صاحب الباب فدفعوا ودخلوا الجامع وكسروا شبابيك المقصورة والمنبر وبطلت الجمعة وأرسل الخليفة إلى السلطان في رفع هذا الحزن فأمر الامراء بالتجهز للجهاد وأرسل ابنه الملك مسعودا مع الامير مودود صاحب الموصل ليلحق به الامراء ويسيروا جميعا إلى قتال الافرنج * (مسير الامراء السلجوقية إلى قتال الافرنج) * ولما سار مسعود ابن السلطان مع الامير مودود إلى الموصل اجتمع معهم الامراء سقمان القطبى صاحب ديار بكرو ابنا برسق ابلتكى وزنكى اصحاب همذان والامير أحمد بك صاحب مراغة وأبو الهيجاء صاحب اربل واياز بن أبى الغازى بعثه أخوه صاحب ماردين وساروا جميعا إلى سنجار وفتحوا عدة حصون للافرنج ونزلوا على مدينة الرها وحاصروا واجتمعوا مع الافرنج على الفرات وخام الطائفتان عن اللقاء وتأخر المسلمون إلى حران يستطردون للافرنج لعلهم يعبرون الفرات فخالفهم الافرنج إلى الرها وشحنوها أقواتا وعدة وأخرجوا الضعفاء منها ثم عبروا الفرات إلى نواحى حلب لان الملك رضوان صاحبها لما عبروا إلى الجزيرة ارتجع بعض الحصون التى كان الافرنج أخذوها بأعمال حلب فطرقوها الآن فاكتسحوا نواحيها وجاءت عساكر السلطان إلى الرها وقاتلوها فامتنعت عليهم فعبروا الفرات وحاصروا قلعة تل ناشر شهرا ونصفا فامتنعت فرحلوا إلى حلب فقعد الملك رضوان عن لقائهم ومرض هنالك
سقمان القطبى ورجعوا فتوفى في بالس وحمل شلوه إلى بلده ونزلت العساكر السلطانية على معرة النعمان فخرج طغركين صاحب دمشق إلى مودود ونزل عليه ثم ارتاب لما رأى من الامراء في حقه فدس للافرنج بالمهادنة ثم افترقت العساكر كما ذكرنا في أخبارهم وبقى مودود مع طغركين على نهر العاصى وطمع الافرنج بافتراقهم فساروا إلى فامية وخرج سلطان بن منقذ صاحب شيرز إلى مودود وطغركين فرحل بهم إلى شيرز وهون عليهم أمر الافرنج وضاقت الميرة على الافرنج فرحلوا واتبعهم المسلمون يتخطفون من أعقابهم حتى أبعدوا والله تعالى أعلم * (حصار الافرنج مدينة صور) * ولما افترقت العساكر السلطانية خرج بقدوين ملك القدس وجمع الافرنج ونزلوا على(5/194)
مدينة صور في جمادى الاولى من سنة خمس وهى للامير الافضل صاحب مصر ونائبه بها عز الملك الاغر ونصبوا عليها الابراج والمجانيق وانتدب بعض الشجعان من أهل طرابلس كان عندهم في ألف رجل وصدقوا الحملة حتى وصلوا البرج المتصل بالسور فأحرقوه ورموا الآخرين بالنفط فأحرقوهم واشتد القتال بينهم وبعث أهل صور إلى طغركين صاحب دمشق يستنجدونه على أن يمكنوه من البلد فجاء إلى بانياس وبعث إليهم بمائتي فرس واشتد القتال وبعث نائب البلد إلى طغركين بالاستحثاث للوصول ليمكنه من البلد وكان طغركين يغير على أعمال الافرنج في نواحيها وملك لهم حصنا من اعمال دمشق وقطع الميرة عنهم فساروا يحملونها في البحر ثم سار إلى صيدا وأغار عليها ونال منها ثم أزهت الثمرة وخشى الافرنج من طغركين على بلادهم فأفرجوا عن صور إلى عكا وجاء طغركين إلى صور فأعطى الاموال واشتغلوا باصلاح سورهم وخندقهم والله أعلم * (أخبار مودود مع الافرنج ومقتله ووفاة صاحب انطاكية) *
ثم سار الأمير مودود صاحب الموصل سنة ست إلى سروج وعاث في نواحيها فخرج جكرمس صاحب تل ناشر وأغار على دوابهم فاستاقها من راعيها وقتل كثيرا من العسكر ورجع ثم توفى الامير الارمني صاحب الدورب ببلاد ابن كاور فسار سكرى صاحب انطاكية من الافرنج إلى بلاده ليملكها فمرض وعاد إلى انطاكية ومات منتصف سنة ست وملكها بعده ابن أخته سرجان واستقام أمره ثم جمع الامير مودود صاحب الموصل العساكر واحتشد وجاءه صاحب سنجار واياز بن أبى الغازى صاحب ماردين وطغركين صاحب دمشق ودخلوا في محرم سنة سبع إلى بلاد الافرنج وخرج بقدوين ملك القدس وجوسكين صاحب القدس يغير على دمشق فعبروا الفرات وقصدوا القدس ونزلوا على الاردن والافرنج عدوتهم واقتتلوا منتصف المحرم فانهزم الافرنج وهلك منهم كثير في بحيرة طبرية والاردن وغنم المسلمون سوادهم وساروا منهزمين فلقيهم عسكر طرابلس وانطاكية فشردوا معهم وأقاموا على جبل طبرية وحاصرهم المسلمون نحوا من شهر فلم يظفروا بهم فتركوهم وانساحوا في بلاد الافرنج ما بين عكا والقدس واكتسحوها ثم انقطعت المواد عنهم للبعد عن بلادهم فعادوا إلى مرج الصفر على نية العود للغزاة في فضل الربيع وأذنوا للعساكر في الانطلاق ودخل مودود إلى دمشق يقيم بها إلى أوان اجتماعهم فطعنه باطني في الجامع منصرفه من صلاة الجمعة اخر ربيع الاول من السنة ومات من يومه واتهم طغركين بقتله والله تعالى أعلم(5/195)
* (أخبار البرسقى مع الافرنج) * ولما قتل مودود بعث السلطان محمد مكانه اقسنقر البرسقى ومعه ابنه السلطان مسعود في العساكر لقتال الافرنج وبعث إلى الامراء بطاعته فجاءه عماد الدين زنكى بن اقسنقر وغبرك صاحب سنجار وسار إلى جزيرة ابن عمر وملكها من يد نائب مودود ثم سار إلى
ماردين فحاصرها إلى أن أذعن أبو الغازى صاحبها وبعث معه ابنه ايازا في العساكر فساروا إلى الرها وحاصروها في ذى الحجة سنة ثمان مدة سبعين يوما فامتنعت وضاقت الميرة على المسلمين فرحلوا إلى شمشاط وسروج وعاثوا في تلك النواحى وهلك في خلال ذلك تحواسل صاحب مرعش وكيسوم ورغيان من الافرنج وملكت زوجته بعده وامتنعت من الافرنج وأرسلت إلى البرسقى على الرها بطاعته فبعث إليها صاحب الخابور فردتة بالاموال والهدايا وبطاعتها فعاد من كان عندها من الافرنج إلى انطاكية والله أعلم * (الحرب بين العساكر السلطانية والفرنج) * كان السلطان محمد قد تنكر لطغركين صاحب دمشق لاتهامه اياه بقتل مودود فعصى وأظهر الخلاف وتابعه أبو الغازى صاحب ماردين لما كان بينه وبين البرسقى فاهم السلطان شأنهما وشأن الافرنج وقوتهم وجهز العساكر مع الامير برسق صاحب همذان وبعث معه الامير حيوس بك والامير كسقرى وعساكر الموصل والجزيرة وأمرهم بغزو الافرنج بعد الفراغ من شان أبى الغازى وطغركين فساروا في رمضان سنة ثمان وعبروا الفرات عند الرملة وجاؤا إلى حلب وبها لؤلؤ الخادم بعد رضوان ومقدم العساكر شمس الخواص وعرضوا عليهما كتب السلطان بتسليم البلد فدافعا بالجواب واستنجدا أبا الغازى وطغركين فوصلا اليهما في ألفى فارس وامتعا بها على العسكر فسار الامير برسق إلى حماة من أعمال طغركين فملكها عنوة ونهبها ثلاثا وسلمها للامير قرجان صاحب حمص بأمر السلطان بذلك في كل بلد يفتحونه فنفس عليه الامراء ذلك وفسدت ضمائرهم وكان أبو الغازى وطغركين وشمس الخواص قد ساروا إلى انطاكية مستنجدين بصاحبها روميل على مدافعتهم عن حماة فلغهم فتحها ووصل إليهم بانطاكية بقدوين ملك القدس وطرابلس وغيره من شياطين الافرنج واجتمعوا على افامية واتفقوا على مطاولة المسلمين إلى فصل الشتاء ليتفرقوا فلما أظل الشتاء
والمسلمون مقيمون عاد أبو الغازى إلى ماردين وطغركين إلى دمشق والافرنج إلى بلادهم وقصد المسلمون كفر طاب وكانت هي وافامية للافرنج فملكوها عنوة وفتكوا بالافرنج فيها وأسروا صاحبها ثم ساروا إلى قلعة افامية فاستصعبت عليهم فعادوا إلى(5/196)
المعرة وهى للافرنج وفارقهم الامير حيوس بك إلى وادى مراغة فملكه وسارت العساكر من المعرة إلى حلب وأثقالهم ودوابهم وهم متلاصقون فوصلت مقدمتهم إلى الشأم وخربوا الابنية وكان روميل صاحب انطاكية قد سار في خمسمائة فارس وألفى راجل للمدافعة عن كفر طاب وأظل على خيام المسلمين قبل وصولهم فقتل من وجد بها من السوقة والغلمان وأقام الافرنج بين الخيام يقتلون كل من لحق بها حتى وصل الامير برسق وأخوه زنكى فصعدا ربوة هناك وأحاط الفل من المسلمين به وعزم برسق على الاستماتة ثم غلبه اخوه زنكى على النجاة فنجا فيمن معه واتبعهم الافرنج فرسحا ورجعوا عنه وافترقت العساكر الاسلامية منهزمة إلى بلادها وأشفق أهل حلب وغيرها من بلاد الشأم من الافرنج بعد هذه الواقعة وسار الافرنج إلى رميلة من أعمال دمشق فملكوها وبالغوا في تحصينها واعتزم طغركين على تخريب بلاد الافرنج ثم بلغه الخبر عن خلو رميلة من الحامية فبادر إليها سنة تسع وملكها عنوة وقاتل وأسر وغنم وعاد إلى دمشق ولم تزل رميلة بين المسلمين إلى أن حاصرها الافرنج سنة عشرين وخمسمائة وملكوها والله أعلم * (وفاة ملك الافرنج وأخبارهم بعده مع المسلمين) * ثم توفى بقدوين ملك الافرنج بالقدس آخر سنة احدى عشرة وخمسمائة وكان قد زحف إلى ديار بكر طامعا في ملكها فانتهى إلى تنيس وشج في الليل فانتقض عليه جرحه وعاد إلى القدس فمات وعاد القمص صاحب الرها الذى كان أسره وأطلقه جاولى وكان حاضرا عنده لزيارة قمامة وكان أتابك
طغركين قد سار لقتال الافرنج ونزل اليرموك فبعث إليه قمص في المهادنة فاشترط طغركين ترك المناصفة من جبل عردة إلى العور فلم يقبل القمص فسار طغركين إلى طبرية ونهب نواحيها وسار منها إلى عسقلان ولقى سبعة آلاف من عساكر مصر قد جاؤا في أثر بقدوين عندما ارتحل عن ديار بكر فاعلموا أن صاحبهم تقدم إليهم بالوقوف عند أمر طغركين فشكر لهم ذلك وعاد إلى دمشق وأتاه الخبر بأن الافرنج قصدوا أذرعات ونهبوها بعد ان ملكوا حصنا من أعماله فارسل إليهم تاج الملك بورى في أثرهم فحاصرهم في جبل هناك حتى يئسوا من أنفسهم وصدقوا الحملة عليهم فهزموهم وأفحشوا في القتل وعاد الفل إلى دمشق وسار طغركين إلى حلب يستنجد أبا الغازى فوعده بالمسير معه ثم جاء الخبر بأن الافرنج قصدوا أعمال دمشق فنهبوا حوران واكتسحوها فرجع طغركين إلى دمشق وأبو الغازى إلى ماردين إلى حشد العساكر وقصدوا الاجتماع على حرب الافرنج ثم سار الافرنج سنة ثلاثة عشر إلى نواحى حلب(5/197)
فملكوا مراغة ونازلوا المدينة فصانعهم أهلها بمقاسمتهم أملاكهم وزحف أبو الغازى من ماردين في عشرين ألفا من العساكر والمتطوعة ومعه أسامة بن مالك بن شيرز الكنانى والامير طغان ارسلان بن افتكين بن جناح صاحب ارزن وسار الافرنج إلى صنبيل عرمس قرب الاثاوب فنزلوا به في موضع منقطع المسالك وعزموا على المطاولة فناجزهم أبو الغازى وسار إليهم ودخل عليهم في مجتمعهم وقاتلوه أشد القتال فلم يقاوموه وفتك فيهم فتكة شنعاء وقتل فيهم سرحان صاحب انطاكية وأسر سبعون من زعمائهم وذلك منتصف ربيع من السنة ثم اجتمع فل الافرنج وعاودوا الحرب فهزمهم أبو الغازى وملك عليهم حصن آلات رب وزدناد وجاء إلى حلب فأصلح أحوالها وعاد إلى ماردين ثم سار جوسكين صاحب تل ناشر في مائتين من الافرنج ليكبس حلة من احياء طيئ يعرفون ببنى خالد فأغار عليهم وغنم أموالهم ودلوه على بقية قومهم من بنى
ربيعة فيما بين دمشق وطبرية فبعث أصحابه إليهم وسار هو من طريق آخر فضل عن الطريق ووصل أصحابه إليهم وأميرهم مر من ربيعة فقاتلهم وغلبهم وقتل منهم سبعين وأسر اثنى عشر ففاداهم بمال جزيل وأصناف عدتهم من الاسرى وبلغ إلى جوسكين في طريقه فعاد إلى طرابلس وجمع جمعا وأغار على عسقلان فهزمه المسلمون وعاد مفلولا والله أعلم * (ارتجاع الرها من الافرنج) * ثم سار بهرام أخو أبى الغازى إلى مدينة الرها وحاصرها مدة فلم يظفر بها فرحل عنها ولقيه النذير بأن جوسكين صاحب الرها وسرود قد سار لاعتراضه وقد تفرق عن مالك أصحابه فاستجاب لما وصل إليه الافرنج ودفعهم لارض سنجة فوصلت فيها خيولهم فلم يفلت منهم أحد وأسر جوسكين وخاط عليه جلد جمل وفادى نفسه بأموال جليلة فأبى مالك من فديته الا أن يسلم حصن الرها فلم يفعل وحبسه في خرت برت ومعه كلمام ابن خالته وكان من شياطينهم وجماعة من زعمائهم والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق * (استيلاء الافرنج على خرت برت وارتجاعها منهم) * كان مالك بن بهرام صاحب خرت برت وكان في جواره الافرنج في قلعة كركر فحاصرهم بها وسار بقدوين إليه في جموعه فلقيه في صفر سنة سبعة عشر فهزم الافرنج وأسر ملكهم وجماعة من زعمائهم وحبسهم مالك في قلعة خرت برت مع جوسكين صاحب الرها وأصحابه وسار مالك إلى حران في ربيع الاول وملكها ولما غاب من خرت برت تحيل الافرنج وخرجوا من محبسهم بمداخلة بعض الجند وسار بقدوين إلى بلده وملك(5/198)
الآخرون القلعة فعاد مالك إليهم وحاصرها وارتجعها من أيديهم ورتب فيها الحامية والله تعالى ولى التوفيق * (استيلاء الافرنج على مدينة صور) *
كانت مدينة صور لخلفاء العلوية بمصر وكان بها عز الملك من قبل الافضل بن أمير الجيوش المستبد على الامر بمصر وتجهز الافرنج لحصارها سنة ست فاستمدوا طغركين صاحب دمشق فأمدهم بعسكر ومال مع وال من قبله اسمه مسعود فجاء إليها ولم يغير دعوة العلوية بها في خطبة ولا سكة وكتب إلى الافضل بذلك وسأله تردد الاسطول إليه بالمدد فأجابه وشكره ثم قتل الافضل وجاء الاسطول إليها من مصر على عادته وقد أمر مقدمه أن يعمل الحيلة في القبض على مسعود الوالى بصور من قبل طغركين لشكوى أهل مصر منه فقبض عليه مقدم الاسطول وحمله إلى مصر وبعثوا به إلى دمشق وأقام الوالى من قبل أهل مصر في مدينة صور وكتب إلى طغركين بالعذر عن القبض على مسعود واليه وكان ذلك سنة ستة عشر ولما بلغ الافرنج انصراف مسعود عن صور قوى طمعهم فيها وتجهزوا لحصارها وبعث الوالى الامير بذلك وبعجزه عن مقاومة حصارهم لها وسار طغركين إلى بانياس ليكون قريبا من صريخها وبعث إلى أهل مصر يستنجدهم فراسل الافرنج في تسليم البلد وخروج من فيها فدخلها الافرنج آخر جمادى الاولى من السنة بعدان حمل أهلها ما أطاقوا وتركوا ما عجزوا عنه والله سبحانه وتعالى أعلم * (فتح البرسقى كفرطاب وانهزامه من الافرنج) * ثم جمع البرسقى عساكره وسار سنة تسعة عشر إلى كفرطاب وحاصرها فملكها من الافرنج ثم سار إلى قلعة غزر شمالى حلب وبها جوسكين فحاصرها واجتمع الافرنج وساروا لمدافعته فلقيهم وقاتلهم شديدا فمحص الله المسلمين وانهزموا وفتك النصارى فيهم ولحق البرسقى بحلب فاستخلف بها ابنه مسعودا وعبر الفرات إلى الموصل ليستمد العساكر ويعود لغزوهم فقضى الله بمقتله وولى ابنه عز الدين بعده قليلا ثم مات سنة احدى وعشرين وولى السلطان محمود عماد الدين زنكى بن اقسنقر مكانه على الموصل والجزيرة وديار بكر كما مر في أخبار دولة السلجوقية ثم استولى منها على الشأم وأورث
ملكها بنيه فكانت لهم دولة عظيمة بهذه الاعمال نذكرها ان شاء الله تعالى ونشأت عن دولتهم دولة بنى أيوب وتفرعت منها كما نذكره ونحن الآن نترك من أخبار الافرنج هنا جميع ما يتعلق بدولة بنى زنكى وبنى أيوب حتى نوردها في أخبار تينك الدولتين لئلا(5/199)
تتكرر الاخبار ونذكر في هذا الموضع من أخبار الافرنج ما ليس له تعلق بالدولتين فإذا طالعه المتأمل علم كيف يرد كل خبر إلى مكانه بجودة قريحته وحسن تأنيه * (الحرب بين طغركين والافرنج) * ثم اجتمعت الافرنج سنة عشرين وخمسمائة وساروا إلى دمشق ونزلوا مرج الصفر واستنجد طغركين صاحبها أمراء التركمان من ديار بكر وغيرها فجاؤا إليه وكان هو قد سار إلى جهة الافرنج آخر سنة عشرين وقاتلهم وسقط في المعترك فظن أصحابه انه قتل فانهزموا وركب فرسه وسار معهم منهزما والافرنج في اتباعهم وقد أثخنوا في رجالة التركمان فلما اتبعوا المنهزمين خالف الرجالة إلى معسكرهم فنهبوا سوادهم وقتلوا من وجدوا فيه ولحقوا بدمشق ورجع الافرنج عن المنهزمين فوجدوا خيامهم منهوبة فساروا منهزمين ثم كان سنة ثلاث وعشرين واقعة المزدغانى والاسماعيلية بدمشق بعد أن طمع الافرنج في ملكها فأسف ملوك الافرنج على قتله وسار صاحب القدس وصاحب انطاكية وصاحب طرابلس وغيرهم من القمامصة ومن وصل في البحر للتجارة أو الزيارة وساروا إلى دمشق في ألفى فارس ومن الرجال ما لا يحصى وجمع طغركين من العرب والتركمان ثمانية الاف فارس وجاء الافرنج آخر السنة ونازلوا دمشق وبثوا سراياهم للاغارة بالنواحي وجمع الميرة وسمع تاج الملك بسرية في حوران فبعث شمس الخواص من أمرائه ولقوا سرية الافرنج وظفروا بهم وغنموا ما معهم وجاؤا إلى دمشق وبلغ الخبر إلى الافرنج فأجفلوا عن دمشق بعد أن أحرقوا ما تعذر عليهم حمله وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ثم ان اسمند صاحب انطاكية سار
إلى حصن القدموس وملكه والله تعالى يؤيد من يشاء * (هزيمة صاحب طرابلس) * ثم اجتمع سنة سبع وعشرين جمع كثير من تركمان الجزيرة وأغاروا على بلاد طرابلس وقتلوا وغنموا فخرج إليهم القمص صاحبها فاستطردوا له ثم كروا عليه فهزموه ونالو منه ونجا إلى قلعة بقوين فتحصن بها وحاصره التركمان فيها فخرج من القلعة ليلا في عشرين من أعيان أصحابه ونجا إلى طرابلس واستصرخ الافرنج من كل ناحية وسار بهم إلى بقوين لمدافعة التركمان فقاتلهم حتى أشرف الافرنج على الهزيمة ثم تحيزوا إلى ارمينية وتعذر على التركمان اتباعهم فرجعوا عنهم انتهى * (فتح صاحب دمشق بانياس) * كان بورى بن طغركين صاحب دمشق لما توفى سنة ست وعشرين وخمسمائة وولى(5/200)
مكانه ابنه شمس الملوك اسمعيل فاستضعفه الافرنج وتعرضو النقض الهدنة ودخل بعض تجار المسلمين إلى سروب فأخذوا أموالهم وراسلهم شمس الملوك في ردها عليهم فلم يفعلوا فتجهز وسار إلى بانياس في صفر سنة سبع وعشرين فنازلها وسدد حصارها ونقب المسلمون سورها وملكوها عنوة واستلحموا الافرنج بها واعتصم فلهم بالقلعة حتى استأمنوا بعد يومين وكان الافرنج قد جمعوا لمدافعة شمس الملوك فجاءهم خبر فتحها فأقصروا * (استيلاء شمس الملوك على الشقيف) * ثم سار شمس الملوك اسمعيل صاحب دمشق إلى شقيف بيروت وهو في الجبل المطل على بيروت وصيدا وكان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادى البتم وهو ممتنع به وقد تحاماه المسلمون والافرنج وهو يحتمى من كل منهما بالآخر فسار إليه شمس الملوك وملكه في المحرم سنة ثمان وعشرين وعظم ذلك على الافرنج وخافوا شمس الملوك فساروا إلى
بلد حوران وعاثوا في جهاتها ونهض شمس الملوك ببعض عساكره وجمر الباقي قبالة الافرنج وقصد طبرية والناصرة وعكا فاكتسح نواحيها وجاء الخبر إلى الافرنج فأجفلوا إلى بلادهم وعظم عليهم خرابها وراسلوا شمس الملوك في تجديد الهدنة فجددها لهم انتهى والله أعلم * (استيلاء الافرنج على جزيرة جربة من افريقية) * كانت جزيرة جربة من أعمال افريقية ما بين طرابلس وقابس وكان أهلها من قبائل البربر قد استبدوا بجزيرتهم عندما دخل العرب الهلاليون افريقية ومزقوا ملك صنهاجة بها وقارن ذلك استفحال ملك الافرنج برومة وما إليها من البلاد الشمالية وتطاولوا إلى ملك بلاد المسلمين فسار ملكهم بردويل فيمن معه من زعمائهم وأقماصهم إلى الشأم فملكوا مدنه وحصونه كما ذكرناه آنفا وكان من ملوكهم القمص رجار ابن نيعر بن خميرة وكان كرسيه مدينة ميلكوا مقابل جزيرة صقلية ولما ضعف أمر المسلمين بها وانقرضت دولة بنى أبى الحسين الكلبى منها سمار جار هذا إلى ملكها وأغراه المتغلبون بها على بعض نواحيها فأجاز إليها عساكره في الاسطول في سبيل التضريب بينهم ثم ملكها من أيديهم معقلا معقلا إلى أن كان آخرها فتحاطر ابنة وما زرعة من يد عبد الله بن الجواس أحد الثوار بها فملكها من يده صلحا سنة أربع وستين وأربعمائة وانقطعت كلمة الاسلام بها ثم مات رجار سنة أربع وتسعين فولى ابنه رجار مكانه وطالت أيامه واستفحل ملكه وذلك عندما هبت ريح الافرنج بالشأم وجاسوا خلالها وصاروا(5/201)
يتغلبون على ما يقدرون عليه من بلاد المسلمين وكان رجار بن رجار يتعاهد سواحل افريقية بالغزو فبعث سنة ثلاث وخمسين اسطول صقلية إلى جزيرة جربة وقد تقلص عنها ظل الدولة الصنهاجية فأحاطوا بها واشتد القتال ثم اقتحمو الجزيرة عليهم عنوة وغنموا وسبوا واستأمن الباقون وأقرهم الافرنج في جزيرتهم على جزية وملكوا عليهم
أمرهم والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده * (فتح صاحب دمشق بعض حصون الافرنج) * ثم بعث شمس الملوك اسمعيل صاحب دمشق عساكره مع الامير خزواش سنة احدى وثلاثين إلى طرابلس الشأم ومعه جمع كثير من التركمان والمتطوعة وسار إليه القمص صاحب طرابلس فقاتلوه وهزموه وأثخنوا في عساكره وأحجزه بطرابلس وعاثوا في أعماله وفتحوا حصن وادى ابن الاحمر من حصونه عنوة واستباحوه واستلحموا من فيه من الافرنج ثم سار الافرنج سنة خمس وثلاثين إلى عسقلان وأغاروا في نواحيها وخرج إليهم عسكر مصر الذين بها فهزموا الافرنج وظفروا بهم وعادوا منهزمين وكفى الله شرهم بمنه وكرمه * (استيلاء الافرنج على طرابلس الغرب) * كان أهل طرابلس الغرب لما انحل نطام الدولة الصنهاجية بافريقية وتقلص ظلها عنهم قد استبدوا بأنفسهم وكان بالمهدية آخر الملوك من بنى باديس وهو الحسن بن على ابن يحيى بن تميم بن المعز فاستبد لعهده في طرابلس أبو يحيى بن مطروح ورفضوا دعوة الحسن وقومه وذلك عندما تكالب الافرنج على الجهات فطمع رجار في ملكها وبعث اسطوله في البحر فنازلها آخر سنة سبع وثلاثين وخمسمائة فنقبوا سورها واستنجد أهلها بالعرب فأنجدوهم وخرجوا إلى الافرنج فهزموهم وغنموا أسلحتهم ودوابهم ورجع الافرنج إلى صقلية فتجهزوا إلى المغرب وطرقوا جيجيل من سواحل بجاية وهرب أهلها إلى الجبل ودخلوها فنهبوها وخربوا القصر الذى بناه بها يحيى بن العزيز بن حماد ويسمى النزهة ورجعوا إلى بلادهم ثم بعث رجار اسطوله إلى طرابلس سنة احدى وأربعين فأرسى عليها ونزل المقاتلة وأحاطوا بها برا وبحرا وقاتلوها ثلاثا وكان أهل البلد قد اختلفوا قبل وصول الافرنج وأخرجوا بنى مطروح وولوا عليهم رجلا من أمراء لمتونة قام حاجا في قومه فولوه أمرهم فلما شغل أهل البلد بقتال الافرنج
اجتمعت شيعة بنى مطروح وأدخلوهم للبلد ووقع بينهم القتال فلما شعر الافرنج بأمرهم بادروا إلى الاسوار فنصبوا عليها السلالم وتسنموها وفتحوا البلد عنوة وأفحشوا(5/202)
في القتل والسبي والنهب ونجا كثير من أهلها إلى البربر والعرب في نواحيها ثم رفعوا السيف ونادوا بالامان فتراجع المسلمون إلى البلد وأقروهم على الجزية وأقاموا بها ستة أشهر حتى أصلحوا أسوارها وفنادقها وولوا عليها ابن مطروح وأخذوا رهنه على الطاعة ونادوا في صقلبة بالمسير إلى طرابلس فسار إليها الناس وحسنت عمارتها * (استيلاء الافرنج على المهدية) * كانت قابس عندما اختل نظام الدولة الصنهاجية واستبد بها ابن كامل بن جامع من قبائل رياح احدى بطون هلال الذين بعثهم الجرجرائى وزير المستنصر بمصر على المعز بن باديس وقومه فأضرعوا الدولة وأفسدوا نظامها وملكوا بعض أعمالها واستبد آخرون من أهل البلاد بمواضعهم فكانت قابس هذه في قسمة بنى دهمان هؤلاء وكان لهذا العهد رشيد أميرا بها كما ذكرنا ذلك في أخبار الدولة الصنهاجية من أخبار البربر وتوفى رشيد سنة ثنتين وأربعين وخمسمائة ونصب مولاه يوسف ابنه الصغير محمد بن رشيد وأخرج ابنه الكبير معمرا واستبد على محمد وتعرض لحرمه سرا وكان فيهن امرأة رشيد وساروا إلى التمحض بصاحب المهدية يشكون فعله وكاتبه الحسن في ذلك فلم يجبه وتهدده بادخال الافرنج إلى قابس فجهز إليه العساكر وبعث يوسف إلى رجار صاحب طرابلس بطاعته وأن يوليه على قابس كما ولى ابن مطروح على طرابلس وشعر أهل البلد بمداخلته للافرنج فلما وصل عساكر الحسن ثاروا به معهم وتحصن يوسف بالقصر فملكوه عنوة وأخذ يوسف أسيرا وملك معمر قابس مكان أخيه محمد وامتحن يوسف بأنواع العذاب إلى أن هلك وأخذ
بنو قرة أختهم ولحق عيسى أخو يوسف وولد يوسف برجار صاحب صقلية واستجاروا به وكان الغلاء قد اشتد بافريقية سنة سبع وثلاثين ولحق أكثر أهلها بصقلية وأكل بعضهم بعضا وكثر الموتان فاغتنم رجار الفرصة ونقض الصلح الذى كان بينه وبين الحسن بن على صاحب المهدية لسنين وجهز أسطوله مائتين وخمسين من الشوانى وشحنها بالمقاتلة والسلاح ومقدم الاسطول جرجى بن ميخاييل أصله من المتنصرة وقد ذكرنا خبره في أخبار صنهاجة والموحدين فقصد قوصرة وصادف بها مركبا من المهدية فغنمه ووجد عندهم حمام البطاقة فبعث الخبر إلى المهدية على أجنحتها بأن أسطول الافرنج أقلع إلى القسطنطينية ثم أقلع فأصبح قريبا من المرسى في ثامن صفر سنة ثلاث وأربعين وقد بعث الله الريح فعاقتهم عن دخول المرسى ففاته غرضه وكتب إلى الحسن بأنه باق على الصلح وانما جاء طالبا بثار محمد بن رشيد ورده إلى بلده قابس فجمع(5/203)
الحسن الناس واستشارهم فاشاروا بالقتال فخام عنه واعتذر بقلة الاقوات وارتحل من البلد وقد حمل ما خف حمله وخرج الناس بأهاليهم وما خف من أموالهم واختفى كثير من المسلمين في الكنائس ثم ساعد الريح أسطول الافرنج ووصلوا إلى المرسى ونزلوا إلى البلد من غير مدافع ودخل جرجى القصر فوجده على حاله مملوأ بالذخائر النفيسة التى يعز وجود مثلها وبعث بالامان إلى كل من شرد من أهلها فرجعوا وأقرهم على الجزية وسار الحسن بأهله وولده إلى المعلقة وبها محرز بن زياد من أمراء الهلاليين ولقبه في طريقه حسن بن ثعلب من أمراء الهلاليين بمال انكسر له في ديوانه فأخذ ابنه يحيى رهينة به ولما وصل محرز بن زياد أكرم لقاءه وبر مقدمه جزاء بما كان يؤثره على العرب ويرفع محله وأقام عنده شهرا ثم عزم على المسير إلى مصر وبها يومئذ الحافظ فأرصد له جرجى الشوانى في البحر فرجع عن ذلك واعتزم على قصد عبد المومن من ملوك الموحدين بالمغرب وفي طريقه يحيى بن عبد العزيز ببجاية من بنى عمه حماد
فأرسل إليه أبناءه يحيى وتميما وعليا يستأذنه في الوصول فأذن له وبعث إليه من أوصله إلى جزائر بنى مذغنة ووكل به وبولده حتى ملك عبد المؤمن بجاية سنة أربع وأربعين وخبرهم مشروح هنالك ثم جهز جرجى اسطولا آخر إلى صفاقس وجاء العرب لانجادهم فلما توافوا للقتال استطرد لهم الافرنج غير بعيد فهزموهم ومضى العرب عنهم وملك الافرنج المدينة عنوة ثالث عشرى صفر وفتكوا فيها ثم أمنوهم وفادوا أسراءهم وأقروهم على الجزية وكذا أهل سوسة وكتب رجار صاحب صقلية إلى أهل سواحل افريقية بالامان والمواعد ثم سار جرجى إلى اقليبية من سواحل تونس واجتمع إليها العرب فقاتلوا الافرنج وهزموهم ورجعوا خائبين إلى المهدية وحدثت الفتنة بين رجار صاحب صقلية وبين ملك الروم بالقسطنطينية فشغل رجار بها عن افريقة وكان متولى كبرها جرحى بن ميخاييل صاحب المهدية ثم مات سنة ست وأربعين فسكنت تلك الفتنة ولم يقم لرجار بعده أحد يقامه والله تعالى أعلم * (استيلاء الافرنج على بونة ووفاة رجار صاحب صقلية وملك ابنه غليالم) * ثم سار اسطول رجار من صقلية سنة ثمان وأربعين إلى مدينة بونة وقائد الاسطول بها وفقات المهدوى فحاصرها واستعان عليها بالعرب فملكها واستباحها وأغضى عن جماعة من أهل العلم والدين فخرجوا بأموالهم وأهاليهم إلى القرى وأقام بها عشرا ورجع إلى المهدية ثم إلى صقلية فنكر عليه رجار رفقه بالمسلمين في بونة وحبسه ثم اتهم في دينة فاجتمع الاساقفة والقسوس وأحرقوه ومات رجار آخر هذه السنة لعشرين سنة من ملكه وولى ابنه غليالم مكانه وكان حسن السيرة واستوزر مائق البرقيانى(5/204)
فأساء التدبير واختلفت عليه حصون من صقلية وبلاد قلورية وتعدى الامراء على افريقية على ما سيأتي ان شاء الله تعالى والله تعالى أعلم * (استيلاء الافرنج على عسقلان) *
كانت عسقلان في طاعة الظافر العلوى ومن جملة ممالكه وكان الافرنج يتغاهدونها بالحصار مرة بعد مرة وكان الوزراء يمدونها بالاموال والرجال والاسلحة وكان لهم التحكم في الدولة على الخلفاء العلوية فلما قتل ابن السلار سنة ثمان وأربعين اضطرب الحال بمصر حتى ولى عباس الوزارة فسار الافرنج خلال ذلك من بلادهم بالشأم وحاصروا عسقلان وامتنعت عليهم ثم اختلف أهل البلد وآل أمرهم إلى القتال فاغتنم الافرنج الفرصة وملكوا البلد وعاثوا فيها والله يؤيد بنصره من يشاء من عباده * (ثورة المسلمين بسواحل افريقية على الافرنج المتغلبين فيها) * قد تقدم لنا وفاة رجار وملك ابنه غليالم وانه ساء تدبير وزيره فاختلف عليه الناس وبلغ ذلك المسلمين الذين تغلبوا عليهم بافريقية وكان رجار قد ولى على المسلمين بمدينة صفاقس لما تغلب عليها أبو الحسين الفريانى منهم وكان من أهل العلم والدين ثم عجز عن ذلك وطلب ولاية ابنه عمر فولاه رجار وحمل أبا الحسين إلى صقلية رهينة وأوصى ابنه عمر وقال يا بنى أنا كبير السن وقد قرب أجلى فمتى امكنتك الفرصة في انقاذ المسلمين من ملكة العدو فافعل ولا تخش علي واحسبني قدمت فلما اختل أمر غليالم دعا عمر أهل صفاقس إلى الثورة بالافرنج فثاروا بهم وقتلوهم سنة احدى وخمسين واتبعه أبو يحيى بن مطروح بطرابلس ومحمد بن رشيد بقابس وسار عسكر عبد المؤمن إلى بونة فملكها وذهب حكم الافرنج عن افريقية ما عدا المهدية وسوسة وارسل عمر الفريانى إلى زويلة قريبا من المهدية يغريهم بالوثوب على الافرنج الذين معهم فوثبوا وأعانهم أهل ضاحيتهم وقاتلوا الافرنج بالمهدية وقطعوا الميرة عنهم وبلغ الخبر إلى غليالم فبعث إلى عمر الفريانى بصفاقس وأعذر إليه في أبيه فأظهر للرسول جنازة ودفنها وقال هذا قد دفنته فلما رجع الرسول بذلك صلب أبا الحسين ومات شهيدا رحمه الله تعالى وسار أهل صفاقس والعرب إلى زويلة واجتمعوا مع أهلها على حصار
المهدية وأمدهم غليالم بالاقوات والاسلحة وصانعوا العرب بالمال على أن يخذلوا أصحابهم ثم خرجوا للقتال فانهزم العرب وركب أهل صفاقس البحر إلى بلدهم أيضا وانبعهم الافرنج فعاجلوهم عن زويلة وقتلوهم ثم اقتحموا البلد فقتلوا مخلفهم بها(5/205)
واستباحوهم * (ارتجاع عبد المؤمن المهدية من يد الافرنج) * ولما وقع بأهل زويلة من الافرنج ما وقع لحقوا بعبد المؤمن ملك المغرب يستصرخونه فأجاب صريخهم ووعدهم وأقاموا في نزله وكرامته وتجهز للمسير وتقدم إلى ولاته وعماله بتحصيل الغلات وحفر الآبار ثم سار في صفر سنة أربع وخمسين في مائة ألف مقاتل وفي مقدمته الحسن بن علي صاحب المهدية ونازل تونس منتصف السنة وبها صاحبها أحمد بن خراسان من بقية دولة صنهاجة وجاء أسطول عبد المؤمن فحاصرها من البحر ثم نزل إليه من سورها عشرة رجال من أعيانها في السلالم مستأمنين لاهل البلد ولانفسهم فأمنهم على مقاسمتهم في أموالهم وعلى أن يخرج إليه ابن خراسان فتم ذلك كله وسار عنها إلى المهدية وأسطوله محاذيه في البحر فوصلها منتصف رجب من السنة وبها أولاد الملوك والزعماء من الافرنج وقد أخلوا زويلة وهى على غلوة من المهدية فعمرها عبد المؤمن لوقتها وامتلا فضاء المهدية بالعساكر وحاصرها اياما وضاق موضع القتال من البر لاستدارة البحر عليها لانها صورة يد في البحر وذراعها في البر واحاط الاسطول بها في البحر وركب عبد المؤمن البحر في الشوانى ومعه الحسن بن على فرأى حصانتها في البحر وأخذ في المطاولة وجمع الاقوات حتى كانت في ساحة معسكره كالتلال وبعث إليه أهل صفاقس وطرابلس وجبال نفوسة بطاعتهم وبعث عسكرا إلى قابس فملكها عنوة وبعث ابنه عبد الله ففتح كثيرا من البلاد ثم وفد عليه يحيى بن تميم بن المقر بن الرند صاحب قفصة في جماعة من أعيانها فبذل طاعته
ووصله عبد المؤمن بألف دينار ولما كان آخر شعبان وصل أسطول صقلية في مائة وخمسين من الشوانى غير الطرائد كان في جزيرة يابسة فاستباحها وبعث إليه صاحب صقلية بقصد المهدية فلما أشرفوا على المرسى قذفت إليهم أساطيل عبد المؤمن ووقف عسكره على جانب البر وعبد المؤمن ساجد يعفر وجهه بالتراب ويجأر بالدعاء فانهزم اسطول الافرنج وأقلعوا إلى بلادهم وعاد اسطول المسلمين ظافرا وأيس أهل المهدية من الانجاد ثم صابروا إلى آخر السنة حتى جهدهم الحصار ثم استأمنوا إلى عبد المؤمن فعرض عليهم الاسلام فأبوا ولم يزالوا يخضعون له بالقول حتى أمنهم وأعطاهم السفن فركبوا فيها وكان فصل شتاء فمال عليهم البحر وغرقوا ولم يفلت منهم الا الاقل ودخل عبد المؤمن المهدية في محرم سنة خمس وخمسين لثنتى عشرة سنة من ملك الافرنج وأقام بها عشرين يوما فأصلح أمورها وشحنها بالحامية والاقوات واستعمل عليها بعض أصحابه وأنزل معه الحسن بن على وأقطعه بأرضها له ولا ولاده وأمر الوالى أن يقتدى(5/206)
برأيه ورجع إلى المغرب والله أعلم * (حصار الافرنج أسد الدين شيركوه في بلبيس) * كان أسد الدين شيركوه بن شادى عم صلاح الدين قد بعثه نور الدين العادل سنة تسع وخمسمائة منجد الشاور وزير العاضد صاحب مصر على قريعه الضرغام كما سيأتي في أخبارهم ان شاء الله تعالى وسار نور الدين من دمشق في عساكره إلى بلاد الافرنج ليشغلهم عن أسد الدين شيركوه وخرج ناصر الدين أخو الضرغام في عساكر مصر فهزمه أسد الدين على تنيس واتبعه إلى القاهرة ونزلها منتصف السنة وأعاد شاور إلى الوزارة ونقض ما بينه وبين أسد الدين وتأخر إلى تنيس وخشى منه ودس إلى الافرنج بغريهم به وبذل لهم المال فطمعوا بذلك في ملك الديار المصرية وسار ملك القدس في عساكر الافرنج واجتمعت معه عساكر المسلمين وساروا إلى
أسد الدين فحاصروه في يلبيس ثلاثة ولم يظفروا منه بشئ ثم جاءهم الخبر بأن نور الدين العادل هزم أصحابهم على خارد وفتحها ثم سار إلى بانياس فسقط في أيديهم وطلبوا الصلح من أسد الدين ليعودوا إلى بلادهم لذلك وخرج من بلبيس سائرا إلى الشأم ثم عاد إلى مصر سنة ثنتين وستين وعبر النيل من اطفيح ونزل الجزيرة واستمد شاور الافرنج فساروا إليه بجموعهم وكان أسد الدين قد سار إلى الصعيد وانتهى إلى فسار الافرنج والعساكر المصرية في اثره فأدركوه منتصف السنة واستشار أصحابه فاتفقوا على القتال وأدركته عساكر الافرنج ومصر وهو على تعبيته وقد أقام مقامه في القلب راشد حذرا من حملة الافرنج وانحاز فيمن يثق به من شجعان أصحابه إلى الميمنة فحمل الافرنج على القلب فهزموهم واتبعوهم وخالفهم أسد الدين إلى من تركوا وراءهم من العساكر فهزمهم وأثخن فيهم ورجع الافرنج من اثناء القلب فانهزموا وانهزم أصحابهم ولحقوا بمصر ولحق أسد الدين بالاسكندرية فملكها صلحا وأنزل بها صلاح الدين ابن أخيه وحاصرته عساكر الافرنج ومصر وزحف إليهم عمه أسد الدين من الصعيد فبعثوا إليه في الصلح فأجابهم على خمسين ألف دينار يعطونها اياه ولا يقيم في البلد أحد من الافرنج ولا يملكون منها شيأ فقبلوا ذلك وعادوا إلى الشأم وملك أهل مصر الاسكندرية واستقر بينهم وبين الافرنج أن ينزلوا بالقاهرة شحنة وأن يكون أبوابها في غلقها وفتحها بأيديهم وان لهم من خراج مصر مائة ألف دينار في كل سنة ولم ذلك منه وعاد الافرنج إلى بلادهم بالسواحل الشامية والله تعالى أعلم * (حصار الافرنج القاهرة) *(5/207)
ثم كان مسير اسد الدين إلى مصر وقتله شاه ور سنة أربع وستين باستدعاء العاضد لما رأى من تغلب الافرنج كما نذكر في أخبار أسد الدين وأرسل إلى الافرنج أصحابهم الذين بالقاهرة يستدعونهم لملكها ويهونونها عليهم وملك الافرنج يومئذ بالشأم مرى ولم
يكن ظهر فيهم مثله شجاعة ورأيا فأشار بأن جبايتها لنا خير من ملكها وقد يضطرون فيملكون نور الدين منها وان ملكها قبلنا احتاج إلى مصانعتنا فأبوا عليه وقالوا انما نزداد بها قوة فرجع إلى رأيهم وساروا جميعا إلى مصر وانتهوا إلى تنيس في صفر سنة أربع وستين فملكوها عنوة واستباحوها ثم ساروا إلى القاهرة وحاصروها وأمر شاور باحراق مصر وانتقال أهلها إلى القاهرة فنهبت المدينة ونهب أموال أهلها وبغتهم قبل نزول الافرنج عليهم بيوم فلم تخمد النار مدة شهرين وبعث العاضد بالصريخ إلى نور الدين واشتد عليه الحصار وبعث شاور إلى ملك الافرنج يشير بالصلح على ألف ألف دينار مصرية ويهدده بعساكر نور الدين فأجابوا إلى ذلك ودفع إليهم مائة ألف دينار وتأخروا قريبا حتى يصل إليهم بقية المال وعجز عن تحصيله والافرنج يستحثونه فبعثوا خلال ذلك إلى نور الدين يستنجدونه على الافرنج بأن يرسل إليهم أسد الدين شيركوه في عسكر يقيمون عندهم على أن لنور الدين ثلث بلاد مصر ولاسد الدين اقطاعه وعطاء العساكر فاستدعى أسد الدين من حمص وكانت اقطاعه وأمره بالتجهز إلى مصر وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الدواب والاسلحة وحكمه في العساكر والخزائن وما يحتاج إليه وسار في ستة آلاف وأزاح علل جنده وأعانهم أسد الدين بعشرين دينار الكل فارس وبعت معه جماعة من الامراء منهم خرديك مولاه وعز الدين قليج وشرف الدين بن بخش وعين الدولة الياروقى وقطب الدين نيال بن حسان وصلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب وسار إلى مصر فلما قاربها ارتحل الافرنج راجعين إلى بلادهم ودخل هو إليها منتصف السنة وخلع عليه العاضد وأجرى عليه وعلى عسكره الجرايات الوافرة ثم شرع شاور في مماطلة أسد الدين بما وقع اتفاقهم معه عليه وحدث نفسه بالقبض عليه واستخدام جنده لمدافعة الافرنج ولم يتم له ذلك وشعر به أسد الدين فاعترضه صلاح الدين ابن أخيه وعز الدين خرديك مولاه عند قبر الامام الشافعي رضى الله تعالى عنه وقتلاه وفوض العاضد أمور دولته إلى أسد الدين
وتقاصر الافرنج عنها ومات أسد الدين واستولى صلاح الدين بعد ذلك على البلاد وارتجع البلاد الاسلامية من يد الافرنج كما نذكر في أخبار دولته والله أعلم * (حصار الافرنج دمياط) * ولما ملك أسد الدين شيركوه مصر خشيه الافرنج على ما بايديهم من مدن الشأم(5/208)
وسواحله وكاتبوا أهل ملتهم ونسبهم بصقلية وافرنسة يستنجدونهم على مصر ليملكوها وبعثوا الاقسة والرهبان من بيت المقدس يستنفرونهم لحمايتها وواعدوهم بدمياط طمعا في أن يملكوها ويتخذوها ركابا للاستيلاء على مصر فاجتمعوا عليها وحاصروها لاول أيام صلاح الدين وأمدهم صلاح الدين بالعساكر والاموال وجاء بنفسه وبعث إلى نور الدين يستنجده ويخوفه على مصر فتابع إليه الامداد وسار بنفسه إلى بلاد الافرنج بالشأم واكتسحها وخربها فعاد الفرنج إلى دمياط بعد حصار خمسين يوما نفس الله عليهم ومن هذه القصة بقية أخبار الافرنج متعلقة بالدولتين دولة بنى زنكى بالشأم ودولة بنى أيوب بمصر فأخرت بقية أخبارهم إلى أن نسردها في الدولتين على مواقعها في مواضعها حسبما تراه ولم يبق الا استيلاؤهم على القسطنطينية من يد الروم فأوردناه ههنا * (استيلاء الافرنج على القسطنطينية) * كان هؤلاء الافرنج بعدما ملكوه من بلاد الشأم اختلفت أحوالهم في الفتنة والمهادنة مع الروم بالقسطنطينية لاستيلائهم على الثغور من بلاد المسلمين التى تجاور الروم التى كانت بأيديهم من قبل وظاهرهم الروم على المسلمين في بعض المرات ثم غلبوا عليهم آخرا وملكوا القسطنطينية من أيديهم فأقامت في أيديهم مدة ثم ارتجعها الروم على يد شكرى من بطارقتهم وكيفية الخبر عن ذلك أن ملوك الروم أصهروا إلى ملوك الافرنج وتزوجوا منهم بنتا لملك الروم فولدت ذكرا خاله الافرنسيس وثب عليه أخوه
فانتزع الملك من يده وحبسه ولحق الولد بملك الافرنج خاله مستصرخا به فوصل إليه وقد تجهز الافرنج لاستنقاذ القدس من يد المسلمين وكان صلاح الدين قد ارتجعها منهم كما يأتي في أخباره ان شاء الله تعالى وانتدب لذلك ثلاثة من ملوكهم دموس البنادقة وهو صاحب الاسطول الذى ركبوا فيه وكان شيخا أعمى لا يركب ولا يمشى الا بقائد ومقدم الفرنسيس ويسمى المركيش والثالث يسمى كبداقليد وهو أكثرهم عددا فجعل الملك ابن أخته معهم وأوصاهم بمظاهرته على ملكه بالقسطنطينية ووصلوا إليها في ذى القعدة سنة تسع وتسعين وخمسمائة فخرج عم الصبى وقاتلهم واضرم شيعة الصبى النار في نواحى البلاد فاضطرب العكسر ورجعوا وفتح شيعة الصبى باب المدينة وأدخلوا الافرنج وخرج عمه هاربا ونصب الافرنج الصبى في الملك وأطلقوا أباه من السجن واستبدوا بالحكم وصادروا الناس وأخذوا مال البيع وما على الصلبان من الذهب وما على تماثيل المسيح والحواريين وما على الانجيل فعظم ذلك على الروم ووثبوا بالصبى فقتلوه وأخرجوا الافرنج من البلد وذلك منتصف سنة ستمائة وأقام الافرنج(5/209)
بظاهرها محاصرين لهم وبعث الروم صريخا إلى صاحب قونية ركن الدين سليمان بن قليج ارسلان فلم ينهض لذلك وكان بالمدينة متخلفون من الافرنج يناهزون ثلاثين ألفا فثاروا بالبلد عند شغل الروم بقتال أصحابهم وأضرموا النار ثانيا فاقتحم الافرنج وأفحشوا في النهب والقتل ونجا كثير من الروم إلى الكنائس وأعظمها كنيسة سوميا فلم تغن عنهم وخرج القسيسون والاساقفة في أيديهم الانجيل والصلبان فقتلوهم ثم تنازع الملوك الثلاثة على الملك بها وتقارعوا فخرجت القرعة على كبداقليد فملكها على أن يكون لدموس البنادقة الجزائر البحرية اقريطش ورودس وغيرهما ويكون لمركيش الافرنسيس شرقي الخليج ولم يحصل أحد منهم شيأ الا ملك القسطنطينية كبد اقليد وتغلب على شرقي الخليج بطريق من بطارقة الروم اسمه شكرى فلم يزل بيده
إلى أن مات ثم غلب بعد ذلك على القسطنطينية وملكها من يد الافرنج والله غالب على أمره [ الخبر عن دولة بنى ارتق وملكهم لماردين وديار بكر ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم ] كان ارتق بن اكسك ويقال اكست والاول أصح كلمة أولها همزة ثم كافان الاولى ساكنة بينهما سين من مماليك السلطان ملك شاه بن البارسلان ملك السلجوقية وله مقام محمود في دولتهم وكان على حلوان وما إليها من أعمال العراق ولما بعث السلطان ملك شاه عساكره إلى حصار الموصل مع فخر الدولة بن جهير سنة سبع وسبعين وأربعمائة أردفه بعسكر آخر مع أرتق فهزمه مسلم بن قريش فحاصره بآمد ثم داخله في الخروج من هذا الحصار على مال اشترطه ونجا إلى الرقة ثم خشى ارتق من فعلته تلك فلحق بتتش حتى سار إلى حلب طامعا في ملكها فلقيه تتش وهزمه وكان لارتق في تلك الواقعة المقام المحمود ثم سار تتش إلى حلب وملكها واستجار مقدمها ابن الحسين بارتق فأجاره من السلطان تتش ثم هلك ارتق سنة ثلاث وثمانين بالقدس وملكه من بعد ارتق ابناه أبو الغازى وسقمان وكان لهما معه الرها وسروج ولما ملك الافرنج انطاكية سنة احدى وتسعين وأربعمائة اجتمعت الامراء بالشأم والجزيرة وديار بكر وحاصروها وكان لسقمان في ذلك المقام المحمود ثم تخاذلوا وافترقوا وطمع أهل مصر في ارتجاع القدس منهم وسار إليها الملك الافضل المستولي على دولتهم فحاصرها أربعين يوما وملكها بالامان وخرج سقمان وأبو الغازى ابنا ارتق وابن أخيهما ياقوتي وابن عمهما سونج وأحسن إليهم الافضل وولى على بيت المقدس ورجع إلى مصر وجاء الافرنج فملكوها كما تقدم في أخبار الدولة السلجوقية ولحق أبو الغازى بالعراق فولى شحنة بغداد وسار(5/210)
سقمان إلى الرها فأقام بها وكان بينه وبين كربوقا صاحب الموصل فتن وحروب أسر
في بعضها ياقوتي ابن أخيه ثم توفى كربوقا سنة خمس وتسعين وولى الموصل بعده موسى التركماني وكان نائبا بحصن كبيفا فزحف إليه جكرمس صاحب حزيرة ابن عمر وحاصره بالموصل واستنجد موسى سقمان على أن يعطيه حصن كبيفا فأنجده وسار إليه وأفرج عنه جكرمس وخرج موسى للقاء سقمان فقتله مواليه غدرا ورجع سقمان إلى حصن كبيفا فملكه ثم كانت الفتنة بين أبى الغازى وكمستكين القيصري لما بعثه بركيارق شحنة على بغداد وكان هو شحنة من قبل السلطان محمد فمنع القيصري من الدخول واستنجد أخاه سقمان فجاء إليه من حصن كبيفا في عساكره ونهب تكريت وخرج إليه أبو الغازى واجتمع معهم صدقة بن مزيد صاحب الحلة وعاثوا في نواحى بغداد وفتكوا بنفر من أهل البلد وبعث إليهم الخليفة في الصلح على أن يسير القيصري إلى واسط فسار إليها ودخل أبو الغازى بغداد ورجع سقمان إلى بلده وقد مر ذلك في أخبارهم ثم استولى مالك بن بهرام أخى سقمان على عامة الخرمية سنة سبع وتسعين وكان له مدينة سروج فملكها منه الافرنج وسار إلى غانة فملكها من بنى يعيش بن عيسى بن خلاط واستصرخوا بصدقة بن مزيد وارتجعها لهم منه وعاد إلى الحلة فعاد مالك فملكها واستقرت في ملكه ثم اجتمع سقمان وجكرمس صاحب الموصل على جهاد الافرنج سنة سبع وتسعين وهم محاصرون حران فتركوا المنافسة بينهم وقصدوهم وسقمان في سبعة آلاف من التركمان فهزموا الافرنج وأسروا القمص بردويل صاحب الرها أسره أصحاب سقمان فتغلب عليهم أصحاب جكرمس وأخذوه وافترقوا بسبب ذلك وعادوا إلى ما كان بينهم من الفتن والله أعلم * (استيلاء سقمان بن ارتق على ماردين) * كان هذا الحصن ماردين من ديار بكر وأقطعه السلطان بركيارق بجميع أعماله لمغن كان عنده وكان في ولاية الموصل وكان ينجر إليه خلق كثير من الاكراد يفسدون السابلة واتفق ان كربوقا صاحب الموصل سار لحصار آمد وهى لبعض التركمان
فاستنجد صاحبها بسقمان فسار لانجاده وقاتل كربوقا قتالا شديدا ثم هزمه وأسر ابن أخيه ياقوتي بن ارتق وحبسه بقلعة ماردين عند المغنى فبقى محبوسا مدة طويلة وكثر ضرر الاكراد فبعث ياقوتي إلى المغنى صاحب الحصن في أن يطلقه ويقيم عنده بالربض لدفاع الاكراد ففعل وصار يغير عليهم في سائر النواحى إلى خلاط وصار بعض أجناد القلعة يخرجون للاغارة معه فلا يهيجهم ثم حدثته نفسه بالتوثب على القلعة فقبض عليهم بعض الايام مرجعه من الاغارة ودنا من القلعة وعرضهم على القتل ان لم(5/211)
يفتحوا له ففتحها أهلوهم وملكها وجمع الجموع وسار إلى نصيبين وأغار على جزيرة ابن عمر وهى لجكرمس فكبسه جكرمس وأصحابه في الحرب بينهم فقتله وبكاه جكرمس وكان تحت ياقوتي ابنة عمه سقمان فمضت إلى أبيها وجمعت التركمان وجاء سقمان بهم إلى نصيبين فترك طلب الثار فبعث إليه جكرمس ما أرضاه من المال في ديته ورجع وقدم بماردين بعد ياقوتي أخوه على بطاعة جكرمس وخرج منها لبعض المذاهب وكتب نائبه بها إلى عمه سقمان بأنه يملك ماردين لجكرمس فسار إليها سقمان وعوض عليا ابن أخته جبل جور وأقامت ماردين في ملكه مع حصن كبيفا واستضاف اليهما نصيبين والله أعلم * (وفاة سقمان بن ارتق وولاية أخيه أبى الغازى مكانه بماردين) * ثم بعث فخر الدين بن عمار صاحب طرابلس يستنجد سقمان بن ارتق على الافرنج وكان استبد بها على الخلفاء العلويين أهل مصر ونازله الافرنج عندما ملكوا سواحل الشأم فبعث بالصريخ إلى سقمان بن ارتق سنة ثمان وتسعين وأجابه وبينما هو يتجهز للمسير وافاه كتاب طغركين صاحب دمشق المستبد بها من موالى بنى تتش يستدعيه لحضور وفاته خوفا على دمشق من الافرنج فأسرع المسير إليه معتزما على قصد طرابلس وبعدها دمشق فانتهى إلى القريتين وندم طغركين على استدعانه وجعل يدبر الرأى مع
أصحابه في صرفه ومات هو بالقدس فكفاهم الله أمره وقد كان أصحابه عندما أشفى على الموت أشاروا عليه بالرجوع إلى كبيفا فامتنع وقال هذا جهاد وان مت كان لى ثواب شهيد فلما مات حمله ابنه ابراهيم إلى حصن كبيفا فدفنه بها وكان أبو الغازى بن ارتق شحنة بغداد كما قدمناه ولاه السلطان محمد أيام الفتنة بينه وبين أخيه بركيارق فلما اصطلح بركيارق وأخوه سنة تسع وتسعين على أن تكون بغداد له وممالك أخرى من الممالك الاسلامية ومن جملتها حلوان وهى أقطاع أبى الغازى فبادر وخطب لبركيارق ببغداد فنكر عليه ذلك صدقة بن مزيد وكان من شيعة السلطان محمد فجاء إلى بغداد ليزعج أبا الغازى عنها ففارقها إلى يعقوب وبعث إلى صدقة يعتذر بأنه صار في ولاية بركيارق ويحكم الصلح في اقطاعه وولايته فلم يمكنه غير ذلك ومات بركيارق على اثر ذلك فخطب أبو الغازى لابنه ملك شاه فنكر ذلك السلطان محمد منه فلما استولى على الامر عزله عن شحنة بغداد فلحق بالشام وحمل رضوان بن تتش صاحب حلب على حصار نصيبين من بلاد جكرمس فحاصروها وبعث جكرمس إلى رضوان وأغراه بأبى الغازى ففسد ما بينهما ورحلوا مفترقين على نصيبين وسار أبو الغازى إلى ماردين وقد مات أخوه سقمان كما قلناه فاستولى عليها والله تعالى أعلم(5/212)
* (اضطراب أبى الغازى في طاعته وأسره ثم خلاصه) * لما ولى السلطان محمد على الموصل والجزيرة وديار بكر سنة ثنتين وخمسمائة مودود بن افتكين مكان جاولى سكاوو الذى ملكها من يد جكرمس كما مر في أخبارهم فوصل مودود إلى الموصل وسار جاولى إلى نصيبين وهى يومئذ لابي الغازى وراسله في المظاهرة والانجاد فوصل إليه بماردين على حين غفلة مستنجدا به فلم يسعه الا اسعافه وسار معه إلى سنجار والرحبة وحاصرهما وشق عليهما فلما نزل الخابور هرب أبو الغازى راجعا إلى نصيبين ثم إلى بلده وبقى مضطربا ثم بعث السلطان محمد سنة خمس وخمسمائة إلى الامير
مودود بالمسير إلى قتال الافرنج وأن يسير الامراء معه من كل جهة مثل سقمان القطبى صاحب ديار بكر وأحمد بك صاحب مراغة وأبى الهيجاء صاحب اربل وأبى الغازى صاحب ماردين فحضروا كلهم الا أبا الغازى فانه بعث ولده اياز في عسكر فسارت العساكر إلى الرها وحاصروها وامتنعت عليهم ثم ساروا سنة ست وخمسمائة إلى سروج كذلك ثم ساروا سنة سبع إلى بلاد الافرنج فهزموهم على طبرية ودوخوا بلادهم وعاد مودود إلى دمشق وافترقت العساكر ودخل دمشق ليشتى بها عند طغركين صاحبها فقتل غيلة بها واتهم طغركين في أمره وبعث السلطان مكانه على العساكر والموصل اقسنقر البرسقى وأمره بقصد الافرنج وقتالهم وكتب إلى الامراء بطاعته وبعث ابنه الملك مسعودا في عسكر كثيف ليكونوا معه فسار اقسنقر سنة ثمان وخمسمائة وفر أبو الغازى وحاصره بماردين حتى استقام وبعث معه ابنه اياز في عسكر فحاصروا الرها وعاثوا في نواحيها ثم سروج وشمشاط وأطاعه صاحب مرعش وكيسوم ورجع فقبض على اياز بن أبى الغازى ونهب سواد ماردين فسار أبو الغازى من وقته إلى ركن الدولة داود ابن أخيه سقمان وهو بحصن كبيفا مستنجدا به فأنجده ساروا إلى البرسقى آخر ثمان وخمسمائة فهزموهم وخلصوا ابنه اياز من الاسر وأرسل السلطان إلى أبى الغازى يتهدده فلحق بطغركين صاحب دمشق صريخا وكان طغركين مستوحشا لاتهامه بأمر مودود فاتفقا على الاستنجاد وبعثا بذلك إلى صاحب انطاكية فجاء اليهما قرب حمص وتحالفا وعاد إلى انطاكية وسار أبو الغازى إلى ديار بكر في خف من أصحابه فاعترضه قيرجان صاحب حمص فظفر به وأسره وبعث إلى السلطان بخبره وأبطأ عليه وصول جوابه فيه وجاء طغركين إلى حمص فدخل على قيرجان وألح عليه بقتل أبى الغازى ثم أطلقه قيرجان وأخذ عليا وسار أبو الغازى إلى حلب وبعث السلطان العساكر مع يوسف بن برسق صاحب همذان وغيره من الامراء لقتال أبى الغازى وقتال الافرنج بعده فساروا إلى حلب(5/213)
وبها لؤلؤ الخادم مولى رضوان بن تتش كفل ابنه البارسلان بعد موته ومعه مقدم العساكر شمس الخواص فطالبوهما بتسليم حلب بكتاب السلطان اليهما في ذلك وبادر أبو الغازى وطغركين فدخلا اليهما فامتنعت عليهما فساروا إلى حماة من أعمال طغركين وبها ذخائره ففتحوها عنوة ونهبوها وسلموها إلى الامير قيرجان صاحب حمص فأعطاهم اياز بن أبى الغازى وكان أبو الغازى وطغركين وشمس الخواص ساروا إلى روجيل صاحب انطاكية يستنجدونه على حفظ حماة وجاءهم هنالك بقدوين صاحب القدس والقمص صاحب طرابلس وغيرهما واتفقوا على مطاولة العساكر ليتفرقوا عند هجوم الشتاء واجتمعوا عند قلعة افامية فلم تبرح العساكر مكانها فافترقوا وعاد طغركين إلى دمشق وأبو الغازى إلى ماردين والافرنج إلى بلادهم ثم كان اثر ذلك فتح كفر طاب على المسلمين واعتزموا على معاودة حلب فاعترضهم روجيل صاحب انطاكية وقد جاء في خمسمائة فارس مددا للافرنج في كفرطاب فانهزم المسلمون وكان تمحيصهم ورجع برسق أمير العساكر وأخوه منهزمين إلى بلادهم وكان اياز بن أبى الغارى أسيرا عندهم فقتله الموكلون به يوم المعركة سنة تسع وخمسمائة والله تعالى أعلم * (استيلاء أبى الغازى على حلب) * كان رضوان بن تتش صاحب حلب لما توفى سنة سبع وخمسمائة قام بأمر دولته لؤلؤ الخادم ونصب ابنه البارسلان في ملكه ثم استوحش منه ونصب مكانه أخاه سلطان شاه واستبد عليه ثم سار لؤلؤ الخادم إلى قلعة جعفر سنة احدى عشرة بينه وبين مالك بن سالم بن مالك بن بدران فغدر به مماليك الاتراك وقتلوه عند خرت برت واستولوا على خزائنه واعترضهم أهل حلب واستنقذوا منهم ما أخذوه وولى شمس الخواص أتابك مكان لؤلؤ ثم عزل لشهر وولى أبو المعالى بن الدمشقي ثم عزل وصودر واضطربت الدولة وخشى أهل حلب على بلدهم من الافرنج
فاستدعوا أبا الغازي بن ارتق من ماردين وسلموا له البلد وانقرض ملك آل رضوان ابن تتش منها فلم يملكها بعد واحد منهم ولما ملكها لم يجد فيها مالا فصادر جماعة من الخدم وصانع الافرنج بمالهم ثم سار إلى ماردين بنية العود إلى حمايتها واستخلف عليها ابنه حسام الدين تمرتاش * (واقعة أبى الغازى مع الافرنج) * ولما استولى أبو الغازى على حلب وسار عنها طمع فيها الافرنج وساروا إليها فملكوا مراغة وغيرها من أعمالها وحاصروها فلم يكن لاهلها بد من مدافعتهم بقتال أو بمال(5/214)
فقاسموهم أملاكهم التى بضاحيتها في سبيل المصانعة وبعثوا إلى بغداد يستغيثون فلم يغاثوا وجمع أبو الغازى من العساكر والمتطوعة نحوا من عشرين ألفا وسار بهم إلى الشأم سنة ثلاث عشرة ومعه أسامة بن مبارك بن منقذ الكنانى وطغان ارسلان ابن اسكين بن جناح صاحب ارزن الروم ونزل الافرنج قريبا من حصون الامارى في ثلاثة آلاف فارس وتسعة آلاف راجل ونزلوا في تل عفرين حيث كان مقتل مسلم بن قريش وتحصنوا بالجبال من كل جهة الا ثلاث مسارب فقصدهم أبو الغازى ودخل عليهم من تلك المسارب وهم غارون فركبوا وصدقوا الحملة فلقوا عساكر المسلمين متتابعة فولوا منهزمين وأخذهم السيف من كل جهة فلم يفلت الا القليل وأسر من زعمائهم سبعون فاداهم أهل حلب بثلثمائة ألف دينار وقتل سرجان صاحب انطاكية ونجا فلهم من المعركة فاجتمع جماعة من الافرنج وعاودوا اللقاء فهزمهم أبو الغازى وفتح حصن الاربات ورزدنا وعاد إلى حلب فأصلح أمورها وعبر الفرات إلى ماردين وولى على حلب ابنه سليمان ثم وصل دبيس بن صدقة إلى أبى الغازى مستجيرا به فكتب إليه المسترشد مع سرير الدولة عبد أبى الغازى بايعاد دبيس ثم وقع بينه وبين السلطان محمود الاتفاق ورهن ولده على الطاعة ورجع وسار
أبو الغازى إلى الافرنج عقب ذلك سنة أربع عشرة فقاتلهم بأعمال حلب وظفر بهم ثم سار هو وطغركين صاحب دمشق فحاصروا الافرنج بالمثيرة وخشوا من استماتتهم فأفرج لهم أبو الغازى حق خرجوا من الحصن وكان لا يطيل المقام بدار الحرب لان أكثر الغزاة معه التركمان يأتون بجراب دقيق وقديد شاه فيستعجل العودان فنيت ازوادهم والله أعلم * (انتقاض سليمان بن أبى الغازى بحلب) * كان أبو الغازى قد ولى على حلب ابنه سليمان فحمله بطانته على الخلاف على أبيه وسار إليه أبوه تلقاه ابنه سليمان بالمعاذير فأمسك عنه وقبض على بطانته الذين داخلوه في ذلك وكان متولى كبرها أمير كان لقيطا لابيه ونشأ في بيته فسمله وقطع لسانه وكان منهم آخر من أهل حماه قدمه أبو الغازى على أهل حلب فقطعه وسمله فمات وأراد قتل ابنه ثم ثنته الشفقة عليه وهرب إلى دمشق وشفع فيه طغركين فلم يشفعه ثم استخلف على حلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار ولقبه بدر الدولة وعاد إلى ماردين وذلك سنة خمس عشرة ثم ابنه حسام الدين تمرتاش مع القاضى بهاء الدولة أبى الحسن الشهرزورى شافعا في دبيس وضامنا في طاعته فلم يتم ذلك فلما انصرف تمرتاش إلى أبيه أقطع السلطان أباه أبا الغازى مدينة ميافارقين وكانت لسقمان القطبى صاحب(5/215)
خلاط فتسلمها أبو الغازى ولم تزل في يده إلى أن ملكها صلاح الدين بن أيوب سنة ثمانين وخمسمائة والله تعالى أعلم * (واقعة مالك بن بهرام مع جوسكين صاحب الرها) * قد تقدم لنا أن جوسكين من الافرنج كان صاحب الرها وسروج وأن مالك بن بهرام كان قد ملك مدينة غانة فسار سنة خمس عشرة إلى الرها وحاصرها أياما فامتنعت عليه وسار جوسكين في اتباعه بعد أن جمع الافرنج وقد تفرق عن مالك أصحابه ولم يبق معه
الا اربعمائة فلحقوه في أرض رخوة قد نضب عنها الماء فوحلت فيها خيولهم ولم يقدروا على التخلص فظفر بهم أصحاب مالك وأسروهم وجعل جوسكين في اهاب جمل وخيط عليه وطلبوا منه تسليم الرها فلم يفعل وحبسه في خرت برت بعد أن بذل في فديته أموالا فلم يفادوه والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده * (وفاة أبى الغازى وملك بنيه من بعده) * ثم توفى أبو الغازى بن ارتق صاحب ماردين في رمضان سنة ست عشرة وخمسمائة فولى بعده بماردين ابنه حسام الدين تمرتاش وملك سليمان ميافارقين وكان بحلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار فاستولى عليها ثم سار مالك بن بهرام بن ارنق إلى مدينة حران فحاصرها وملكها وبلغه ان سليمان ابن عمه عبد الجبار صاحب حلب قد عجز عن مدافعة الافرنج وأعطاهم حصن الامارى فطمع في ملك بلاده وسار إليها في ربيع سنة ست عشرة وملكها من يده على الامان ثم سار سنة ثمان عشرة إلى منبج وحاصرها وملك المدينة وحبس صاحبها حسان التغلبي وامتنع أهلها بالقلعة فحاصرها وسمع الافرنج بذلك فساروا إليه فترك على القلعة من يحاصرها ونهض إليهم فهزمهم وأثخن فيهم وعاد إلى منبج فحاصرها وأصابه بعض الايام سهم غرب فقتله فاضطرب العسكر وافترقوا وخلص حسان من محبسه وكان تمرتاش بن أبى الغازى صاحب ماردين معه على منيج فلما قتل حمل شلوه إلى حلب ودفنه بها واستولى عليها ثم استخلف عليها وعاد إلى ماردين وجاء الافرنج إلى مدينة صور فملكوها وطمعوا في غيرها من بلاد المسلمين ولحق بهم دبيس بن صدقة ناجيا من واقعته مع المسترشد فأطمعهم في ملك حلب وساروا معه فحاصروها وبنوا عليها المساكن وطال الحصار وقلت الاقوات واضطرب أهل البلد وظهر لهم العجز من صاحبهم ولم يكن في الوقت أظهر من البرسقى صاحب الموصل ولا أكثر قوة وجمعا منه فاستدعوه ليدافع عنهم ويملكوه وشرط عليهم أن يمكنوه من القلعة قبل وصوله ونزل فيها بوابه وسار فلما أشرف على الافرنج ارتحلوا عائدين إلى(5/216)
بلادهم وخرج أهل حلب فتلقوا البرسقى فدخل واستولى على حلب وأعمالها ولم تزل بيده إلى ان هلك وملكها ابنه عز الدين ثم هلك فولى السلطان محمود عليها اتابك زنكى حسبما يأتي في أخبار دولته ورجع تمرتاش إلى ماردين واستمر ملكه بها وكان مستوليا على كثير من قلاع ديار بكر ثم استولى سنة ثنتين وثلاثين على قلعة الساج من ديار بكر وكانت بيد بعض بنى مروان من بقايا ملوك الاولين وكان هذا آخرهم بهذه القلعة وكان ملك ميافارقين قد سار لحسام الدين تمرتاش وملكها من يد أخيه سليمان ولم يزل تمرتاش ملكا بماردين إلى أن هلك سنة سبع وأربعين وخمسمائة لاحدى وثلاثين سنة من ملكه والله تعالى ولى التوفيق * (وفاة تمرتاش وولاية ابنه البى بعده) * ثم توفى حسام الدين تمرتاش سنة سبع واربعين وخمسمائة كما قلناه فملك بعده ابنه بماردين البى بن تمرتاش وبقى ملكا عليها إلى أن مات وولى بعده ابنه أبو الغازى بن البى إلى أن مات ولم يذكر ابن الاثير تاريخ وفاتهما وقال مؤرخ حماة لم يقع إلى تاريخ وفاتهما * (ولاية حسام الدين بولق ارسلان بن أبى الغازى بن البى) * ولما توفى أبو الغازى بن البى قام بأمر ملكه نظام الملك النقش ونصب للملك مكانه ابنه بولق ارسلان طفلا واستبد عليه وكان النقش غالبا على هواه حيث صار أمر الطفل في يده ولم تزل حالهم على ذلك إلى أن هلك حسام الدين في سنة خمس وتسعين وخمسمائة على عهد بولق هذا وكناه ابن الاثير حسام الدين ناصر الملك قصد العادل أبو بكر ابن أيوب ماردين وخشيت ملوك الجزيرة ولم يقدروا على منعه ثم توفى العزيز بن صلاح الدين صاحب مصر وولى أخوه الافضل فاستنفر العادل أهل مصر ودمشق وأهل سنجار وبعثهم مع ابنه الكامل وحاصروا ماردين فبعث إليه النقش المستولي على بولق بالطاعة وتسليم القلعة لاجل معلوم على أن يدخل إليهم الاقوات ووضع العادل ابنه
على بابها أن لا يدخلها زائد على القوت فصانعوا الولد بالمال وشحنوها بالاقوات وبينما هم في ذلك جاء نور الدين صاحب الموصل لانجادهم وقاتلهم فانهزم عساكر العادل وخرج أهل القلعة فأوقعوا بعسكر الكامل ابنه فرحلوا جميعا منهزمين ونزل حسام الدين بولق إلى نور الدين ولقيه وشكر وعاد ونزل نور الدين على دبيس ثم رحل عنها قاصدا حوران كما نذكره في أخبار دولته ان شاء الله تعالى والله أعلم * (وفاة بولو وولاية أخيه ارتق) * ولما هلك بولو ارسلان نصب لؤلؤ الخادم بعده للملك أخاه الاصغر ناصر الدين ارتق(5/217)
ارسلان بن قطب الدين أبى الغازى ولم يذكر ابن الاثير خبر وفاته أيضا وبقى مملكا في كفالة النقش إلى سنة احدى وستمائة والله أعلم * (مقتل النقش واستبداد ارتق المنصور واتصال الملك في عقبه) * ثم استنكف ارتق من الححر ومرض النقش سنة احدى وستمائة فجاء ارتق لعيادته وقتل لؤلؤا خادمه في بعض زوايا بيته ورجع إلى النقش فقتله في فراشه واستقل بملك ماردين وتلقب المنصور وتوفى سنة ست وثلاثين وثلثمائة وملك بعده ابنه السعيد نجم الدين غازى بن ارتق وتوفى سنة ثمان أو ثلاث وخمسين وملك بعده أخوه المظفر قرا ارسلان بن ارتق فأقام سنة أو بعضها ثم هلك سنة ثلاث وتسعين وستمائة وملك بعده أخوه المنصور نجم الدين غازى بن قرا ارسلان إلى أن توفى سنة ثنتى عشرة وسبعمائة لاربع وخمسين سنة من ولايته وملك بعده ابنه المنصور أحمد إلى أن توفى سنة تسع وستين لثلاث سنين من ولايته ثم ملك بعده ابنه الصالح محمود أربعة أشهر وخلعه عمه المظفر فخر الدين داود بن المنصور أحمد إلى أن توفى سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وملك بعده ابنه مجد الدين عيسى وهو السلطان بماردين لهذا العهد والملك لله يؤتيه من يشاء من عباده (ولما) ملك هلاكو بن طلوخان بن جنكز خان مدينة بغداد وأعمالها أعطاه المظفر
قرا ارسلان طاعته وخطب له في أعماله ولم يزالوا يدينون بطاعة بنيه إلى أن هلك أبو سعيد ابن خربهرا آخر ملوك التتر ببغداد سنة سبع وثلاثين فقطعوا الخطبة لهم واستبد أحمد المنصور منهم وهو الثاني عشر من لدن ابى الغازى جدهم الاول (وأما) داود بن سقمان فانه ملك حصن كيفا من بعد سقمان ابيه وابراهيم أخيه ولم أقف على خبر وفاته (وملك بعده) ابنه فخر الدين قرا ارسلان بن داود وملك أكثر ديار بكر مع حصن كيفا وتوفى سنة ثنتين وستين وخمسمائة (وملك بعده) ابنه نور الدين محمد بعهده إليه بذلك وكانت بينه وبين صلاح الدين مواصلة ومظاهرة ظاهر صلاح الدين على الموصل على أن يظاهره على آمد فظاهره صلاح الدين وحاصرها من صاحبها ابن سان سنة تسع وستين وصارت من أعمال نور الدين كما نذكر في دولة صلاح الدين ثم توفى نور الدين محمد سنة احدى وثمانين وخلف ولدين (فملك الاكبر) منهما قطب الدين سقمان وقام بتدبير دولته العوام ابن سماق الاسعد وزير أبيه وكان عماد الدين أخو نور الدين هو المرشح للامارة الا أنه سار في العساكر مددا لصلاح الدين على حصار الموصل فلما بلغه الخبر بوفاة أخيه سار لملك البلد لصغر أولاد أخيه نور الدين فلم يظفر واستولى على خرت برت فانتزعها منهم وملكها وأورثها بنيه فلما أفرج صلاح الدين عن الموصل لقيه قطب الدين سقمان(5/218)
وأقره على ملك أبيه بكيفا وأبقى بيده آمد التى كان ملكها لابيه وشرط عليه مراجعته في أحواله والوقوف عند أوامره وأقام أميرا من أصحاب ابنه قرا ارسلان اسمه صلاح الدين فقام بأمور دولته واستقر ملكه بكيفا وآمد وما اليهما إلى أن توفى سنة سبع وتسعين وخمسمائة تردى من جوسق له بحصن كيفا فمات وكان أخوه محمود مرشحا لمكانه الا أن قطب الدين سقمان كان شديد البغضاء له واشخصه إلى حصن منصور من آخر عملهم واصطفى مملوكه اياسا وزوجه باخته وجعله ولى عهده (ولما توفى) ملك بعده مملوكه وشخص أهل الدولة فدسوا إلى محمود
فسار إلى آمد وسبقه اياس إليها ليدافعه فلم يطق وملك محمود آمد واستولى على البلد كلها وحبس اياسا إلى أن أطلقه بشفاعة صاحب بلاد الروم ولحق به وانتظم في امرائه واستقل محمود بملك كيفا وآمد وأعمالهما ولقب ناصر الدين وكان ظالما قبيح السيرة وكان ينتحل العلوم الفلسفية وتوفى سنة تسعة عشر وستمائة وولى مكانه المسعود وحدثت بينه وبين الافضل بن عادل فتنة واستنجد عليه أخاه الكامل فسار في العساكر من مصر ومعه داود صاحب الكرك والمظفر صاحب حماة فحاصروه بآمد إلى أن نزل عنها وجاء إلى الكامل فاعتقله فلم يزل عنده حبيسا إلى أن مات الكامل فذهب إلى التتر فمات عندهم (وأما) عماد الدين بن قرا ارسلان الذى ملك خرت برت من يد قطب الدين سقمان ابن أخيه نور الدين فلم تزل في يده إلى أن توفى سنة احدى وستمائة لعشرين سنة من ملكه اياها (وملكها بعده) ابنه نظام الدين أبو بكر وكانت بينه وبين ناصر الدين محمود ابن عمه نور الدين صاحب آمد وكيفا عداوة ودخل محمود في طاعة العادل بن أيوب وحضر مع ابنه الاشرف في حصار الموصل على أن يسير معه بعدها إلى خرت برت فيملكها له وكان نظام الدين مستنجدا الدين قليج ارسلان صاحب بلاد الروم فمات وسار الاشرف مع محمود بعساكره وحاصروا خرت برت في شعبان سنة احدى وستين وملكوا ربضها وبعثوا غياث الدين صاحب الروم إلى نظام الدين المدد بالعساكر مع الافضل بن صلاح الدين صاحب سميساط فلما انتهوا إلى ملطية أفرج الاشرف ومحمود عن خرت برت إلى بعض حصون نظام الدين بالصحراء ببحيرة سهنين وفتحت في ذى الحجة سنة احدى وستين فلما وصل الافضل بعساكر غياث الدين ووصل الاشرف عن البحيرة راجعا جاء نظام الدين بالعساكر إلى الحصن فامتنع عليه وبقى لصاحب آمد ثم ملك كيفباد صاحب الروم حصن خرت برت من أيديهم سنة احدى وثلاثين وانقرض منها ملك بنى سقمان والله وارث الارض ومن عليها واليه يرجعون(5/219)
[ الخبر عن دولة بنى زنكى بن اقسنقر من موالى السلجوقية بالجزيرة والشأم ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم ] قد تقدم لنا ذكر اقسنقر مولى السلطان ملك شاه وأنه كان يلقب قسيم الدولة وأن السلطان ملك شاه لما بعث الوزير فخر الدولة بن جهير سنة سبع وسبعين وأربعمائة بفتح ديار بكر من يد ابن مروان واستنجد ابن مروان صاحب الموصل شرف الدولة مسلم بن عقيل وهزمته العساكر وانحصر بآمد فبعث السلطان عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير ليخالف شرف الدولة إلى السلطان فلقيه في الرحبة وأهدى له فرضى عنه ورده إلى بلده الموصل واستولى بنو جهير بعد ذلك على ديار بكر كما مر في موضعه من دولة بنى مروان ثم كان بعد ذلك شان حلب واستبد بها أهلها بعد انقراض دولة بنى صالح بن مرداس الكلابي وطمع فيها شرف الدولة مسلم بن قريش وسليمان بن قطلمش صاحب بلاد الروم وتتش ابن السلطان البارسلان وقتل سليمان بن قطلمش مسلم ابن قريش ثم قتل تتش سليمان بن قطلمش وجاء إلى حلب فملكها وامتنعت عليه القلعة فحاصرها وقد كانوا بعثوا إلى السلطان ملك شاه واستدعوه لملكها فوصل إليهم سنة تسع وسبعين ورحل تتش عن القلعة ودخل البرية واستولى السلطان على حلب وولى عليها قسيم الدولة اقسنقر وعاد إلى العراق فعمرها اقسنقر وأحسن السيرة فيها وسار معه تتش حين عهد له أخوه السلطان ملك شاه بفتح بلاد العلوية بمصر والشأم ففتح الكثير منها وهو معه كما مر وزحف قبل ذلك سنة ثمانين إلى بنى منقذ بشيرز فحاصره وضيق عليه ثم رجع عنه صلح وأقام بحلب ولم يزل واليا عليها إلى أن هلك السلطان سنة خمس وثمانين واختلف ولده من بعده وكان أخوه تتش قد استولى على الشأم منذ سنة احدى وسبعين فلما هلك أخوه طمع في ملك السلجوقية من بعده فجمع العساكر وسار لاقتضاء الطاعة من الامراء معه بالشأم وقصد حلب فأطاعه قسيم الدولة اقسنقر
وحمل باغيسيان صاحب انطاكية وتيران صاحب الرها وحران على طاعته حتى يظهر مآل الامر في ولد سيدهم ملك شاه وساروا مع تتش إلى الرحبة فملكها وخطب لنفسه فيها ثم إلى نصيبين ففتحها عنوة ثم إلى الموصل فهزم صاحبها ابراهيم بن قريش بن بدران وتولى كبر هزيمته اقسنقر وقتل قريش بن ابراهيم وملك الموصل من يده وولى تتش عليها ابن عمته على بن مسلم بن قريش وسار إلى ديار بكر فملكها ثم إلى اذربيجان وكان بركيارق ابن ملك شاه قد استولى على الرى وهمذان وكثير من البلاد فسار لمدافعته وجنح قسيم الدولة اقسنقر وبوزان صاحب الرها إلى بركيارق ابن سيدهم فلحقوا به وتركوا تتش فانقلب عائدا إلى الشأم ساخطا على اقسنقر وبوزان ما فعلوه فجمع العساكر(5/221)
وسار إلى حلب سنة سبع وثمانين لقتال قسيم الدولة وأمده بركيارق بالامير كربوقا في العساكر فبرزوا إلى لقائهم والتقوا على ست فراسخ من حلب ونزع بعض عساكر اقسنقر إلى تتش فاختل مصافه وتمت الهزيمة عليه وجئ أسيرا إلى تتش فقتله صبرا ولحق كربوقا وبوزان بحلب وتبعهما فحاصرهما وملكها وأخذهما أسيرين كما مر في أخبار الدولة وكان قسيم الدولة حسن السياسة كثير العدل وكانت بلاده آمنة ولما مات نشأ ولده في ظل الدولة السلجوقية وكان أكبرهم زنكى فنشأ مرموقا بعين التحلة ولما ولى كربوقا الموصل من قبل بركيارق أيام الفتنة بين بركيارق وأخيه محمد كان زنكى في جملته لانه كان صاحب أبيه وسار كربوقا أيام ولايته لحصار آمد وصاحبها يومئذ بعض أمراء التركمان وأنجده سقمان بن ارتق وكان زنكى بن اقسنقر يومئذ صبيا وهو في جملة رجال كربوقا ومعه جماعة من أصحاب أبيه فجلا في تلك الحرب وانهزم سقمان وظهر كربوقا وفى هذه الحرب أسر ابن ياقوتي ابن ارتق وسجنه كربوقا بقلعة ماردين فكان ذلك سببا لملك بنى ارتق فيها كما مر في أخبار دولتهم ثم تتابعت الولاة على الموصل فوليها جكرمس بعد كربوقا وبعده جاولى سكاوو وبعده مودود بن ايتكين وبعده اقسنقر البرسقى كما تقدم في أخبار
السلجوقية وولاه السلطان محمد بن ملك شاه سنة ثمان وخمسين وبعث معه ابنه مسعودا وكتب إلى سائر الامراء هناك بطاعته ومنهم يومئذ عماد الدين زنكى بن اقسنقر فاختص به ولما ملك السلطان محمود بعد أبيه محمد سنة احدى عشرة كان أخوه مسعود بالموصل كما تقدم أتابكه حيوس بك ونقل البرسقى من الموصل إلى شحنة بغداد وانتقض دبيس ابن صدقة صاحب الحلة على المسترشد والسلطان محمود وجمع البرسقى العساكر وقصد الحلة فكاتب دبيس السلطان مسعود وأتابكه حيوس بك بالموصل وأغراهما بالمسير إلى بغداد فسار لذلك مع السلطان مسعود وزيره فخر الملك أبو على بن عمار صاحب طرابلس وزنكى بن قسيم الدولة اقسنقر وجماعة من أمراء الجزيرة ووصلوا إلى بغداد وصالحهم البرسقى وسار معهم ودخل مسعود إلى بغداد وجاء منكبرس إلى بغداد ونزع إليه دبيس بن صدقة ووقعت الحرب بينهما على بغداد كما تقدم في أخبار الدولة وأفام منكبرس ببغداد ثم كان له في خدمة السلطان محمود عند حربه مع أخيه مسعود مقامات جليلة وغلب السلطان أخاه مسعودا وأخذه عنده واستنزل اتابكه حيوس بك من الموصل وأعاد إليها البرسقى سنة خمسة عشر فعاد زنكى إلى الاختصاص به كما مر ثم أضاف إليه السلطان محمود شحنة بغداد وولاية واسط مضافة إلى ولاية الموصل سنة ستة عشر فولى عليها عماد الدين زنكى فحسن أثره في ولايتهما ولما كانت الحرب بين دبيس بن صدقة وبين الخليفة المسترشد وبرز المسترشد لقتاله من بغداد وحضر البرسقى من الموصل وعماد الدين زنكى فانهزم دبيس عماد الدين في ذلك المقام ثم(5/222)
ذهب دبيس إلى البصرة وجمع السقق من بنى عقيل فدخلوا البصرة ونهبوها وقتلوا أميرها وبعث المسترشد إلى البرسقى فعذله في اهماله أمر دبيس حتى فعل في البصرة ما فعل فبادر إلى قصره وهرب دبيس واستولى على البصرة وولى عليها عماد الدين زنكى بن اقسنقر فأحسن حمايتها والدفاع عنها وكبس العرب في حللهم بضواحيها وأجفلوا
ثم عزل البرسقى سنة ثمان عشرة عن شحنة بغداد وعاد إلى الموصل فاستدعى عماد الدين زنكى من البصرة فضجر من ذلك وقال كل يوم للموصل جديد يستنجدنا وسار إلى السلطان ليكون في جملته فلما قدم عليه باصبهان أقطعه البصرة وأعاده عليها من قبله ثم ملك البرسقى مدينة حلب سنة ثمان عشرة وقتل بها سنة تسع عشرة وكان ابنه عز الدين مسعود بحلب فبادر إلى الموصل وأقام ملك أبيه بها ووقع الخلاف بين المسترشد والسلطان محمود وبعث الخليفة عفيفا الخادم إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان محمود فسار إليه عماد الدين زنكى من البصرة وقاتله فهزمه ونمى عفيف إلى المسترشد وأقام عماد الدين في واسط وأمره أن يحضر بالعساكر في السفن وفي البر فجمع السفن من البصرة وشحنها بالمقاتلة شاكى السلاح وأصعد في البر وقدم على السلطان وقد تسلحت العساكر فهاله منظرهم ووهن المسترشد لما رأى فأجابه إلى الصلح * (ولاية زنكى شحنة بغداد والعراق) * ولما ظهر من عماد الدين زنكى من الكفاءة والغناء في ولاية البصرة وواسط ما ظهر ثم كان له المقام المحمود مع السلطان محمود على بغداد كما مر ولاه شحنة بغداد والعراق لما رأى انه يستقيم إليه في أمور الخليفة بعد أن شاور أصحابه فأشاروا به وذلك سنة احدى وعشرين وسار عن بغداد بعد ان ولاه على كرسى ملكه باصبهان والله تعالى أعلم * (ولاية عماد الدين زنكى على الموصل وأعمالها) * قد قدمنا ان عز الدين مسعود بن البرسقى لما قتل الباطنية أباه بالموصل وكان نائبه بحلب فبادر إلى الموصل وضبط أمورها وخاطب السلطان محمودا فولاه مكان أبيه وكان شجاعا قرما فطمع في ملك الشأم فسار وبدأ بالرحبة فحاصرها حتى استأمن إليه أهل القلعة وطرقه مرض فمات وتفرقت عساكره ونهب بعضهم بعضا حتى شغلوا عن دفنه وكان جاولى مولى أبيه مقدم العساكر عنده فنصب مكانه أخاه الاصغر
وكاتب السلطان في تقرير ولايته وأرسل في ذلك الحاجب صلاح الدين محمد الباغيسيانى والقاضى أبا الحسن على بن القاسم الشهرزورى فأوصى صلاح الدين(5/223)
صهره جقرى فيما جاء فيه وكان شيعة لعماد الدين زنكى فخوف الحاجب وحذره مغبة حاله معه وأشار عليه وعلى القاضى بطلب عماد الدين زنكى وضمن لهما عنده الولابات والاقطاع وركب القاضى مع الحاجب إلى الوزير شرف الدين أنوشروان ابن خالد وذكر له حال الجزيرة والشأم واستيلاء الافرنج على أكثرها من ماردين إلى العريش وأنها تحتاج إلى من يكف طغيانهم وابن البرسقى المنصوب بالموصل صغير لا يقوى على مدافعتهم وحماية البلاد منهم ونحن قد خرجنا عن العهدة وأنهينا الامر اليكم فرفع الوزير قولهما إلى السلطان فشكرهما واستدعاهما واستشارهما فيمن يصلح للولاية فذكرا جماعة وأدرجا فيهم عماد الدين زنكى وبذلا عنه مالا جزيلا لخزانة السلطان فأجابهما إليه لما يعلم من كيفياته وولاه البلاد كلها وكتب منشوره بها وشافهه بالولاية وسار إلى ولايته فبدأ بالفوارع وملكها ثم سار إلى الموصل وخرج جاولى والعساكر للقائه ودخل الموصل في رمضان سنة احدى وعشرين وبعث جاولى واليا على الرحبة وولى على القلعة نصير الدين جقرى وولى على حجابته صلاح الدين الباغيسيانى وعلى القضاء ببلاده جميعا بهاء الدين الشهرزورى وزاد في اقطاعه وكان لا يصدر الا عن رأيه ثم خرج إلى جزيرة ابن عمر وبها موالى البرسقى فامتنعوا عليه وحاصرهم وكان بينه وبين البلد دجلة فعبرها وبين دجلة والبلد فسيح من الارض فعبر دجلة وقاتلهم في ذلك الفسيح وهزمهم فتحصنوا بالاسوار ثم استأمنوا فدخل البلد وملكه وسار لنصيبين وكانت لحسام الدين تمرتاش بن أبى الغازى صاحب ماردين فاستنجد عليه ابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان صاحب كيفا فوعده بالنجدة وبعث حسام الدين بذلك إلى أهل نصيبين يأمرهم بالمصابرة عشرين يوما إلى حين
وصوله فسقط أيديهم لعجزهم عن ذلك واستأمنوا لعماد الدين فأمنهم وملكها وسار عنها لسنجار فامتنعوا عليه أولا ثم استأمنوا وملكها وبعث منها إلى الخابور فملك جميعه ثم سار إلى حران وكانت الرها وسروج البيرة في جوارها للافرنج وكانوا معهم في ضيقة فبادر أهل حران إلى طاعته وأرسل إلى جوسكين وهادنه حتى يتفرغ له فاستقر بينهما الصلح والله تعالى أعلم * (استيلاء الاتابك زنكى على مدينة حلب) * كان البرسقى قد ملك حلب وقلعتها سنة ثمانية عشر واستخلف عليها ابنه مسعودا ثم قتل الباطنية البرسقى بالموصل فبادر ابنه مسعود إلى الموصل واستخلف على حلب الامير قزمان ثم عزله وبعث بولايتها إلى الامير قطلغ آيه فمنعه قزمان وقال بينى وبينه علامة لم أرها في التوقيع فرجع إلى مسعود فوجده قد الرحبة فعاد إلى حلب(5/224)
مسرعا ومال إليه أهل البلد ورئيسها مضايل بن ربيع وأدخلوه وملكوه واستنزلوا قزمان من القلعة وأعطوه ألف دينار وبلغوه مأمنه وملك قطلغ القلعة والبلد منتصف احدى وعشرين ثم ساءت سيرته وفحش ظلمه واشتمل عليه الاشرار فاستوحش الناس منه وثاروا به في عيد الفطر من السنة وقبضوا على أصحابه وولوا عليهم بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن ارتق الذى كان ملكها من قبل وحاصروا قطلغ بالقلعة ووصل حسان صاحب منبج وحسن صاحب مراغة لاصلاح الامر فلم يتم وزحف جوسكين صاحب الرها من الافرنج إلى حلب فصانعوه بالمال ورجع فزحف صاحب انطاكية وحاصر البلد وهم يحاصرون القلعة إلى منتصف ذى القعدة من آخر السنة وانتهى عماد الدين زنكى إلى صاحب حران كما ذكرناه فبعث إلى أهل حلب أميرين من أصحابه بتوقيع السلطان له بالموصل والجزيرة والشأم فبادروا إلى الطاعة وسار إليه بدر الدولة ابن عبد الجبار وقطلغ آيه وأقام أحد الاميرين بحلب ولما وصلا إلى عماد الدين أصلح
بينهما وأقاما عنده وبعث الحاجب صلاح الدين محمدا الباغيسيانى في عسكر اليهما فملك القلعة ورتب الامور وولى ثم وصل عماد الدين بعده في محرم سنة ثنتين وعشرين وملك في طريقه منبج من يد حسان ومراغة من يد حسن وثلقاه أهل حلب فاستولى وأقطع أعمالها للامراء والاجناد ثم قبض على قطلغ آيه وأسلمه إلى ابن بديع فكحله ومات واستوحش ابن بديع فلحق بقلعة جعفر مستنجدا بصاحبها وأقام عماد الدين مكانه في رياسة حلب على بن عبد الرزاق وعاد إلى الموصل والله أعلم * (استيلاء الاتابك زنكى على مدينة حماة) * ثم سار عماد الدين زنكى لجهاد الافرنج وعبر الفرات إلى الشأم واستنجد تاج الملوك بورى بن طغركين صاحب دمشق فأنجده بعد التوثق باستحلافه وبعث عسكره من دمشق إلى ابنه سونج وأمره بالمسير إلى زنكى فلما وصلوا إليه أكرمهم ثم غدر بهم بعد أيام وقبض على سونج والامراء الذين معه فاعتقلهم بحلب ونهب خيامهم وبادر إلى حماة وهى خلو من الحامية فملكها وسار عنها إلى حمص وصاحبها قيرجان بن قراجا معه في عساكره وهو الذى أشار بحبس سونج وأصحابه فقبض عليه يظن أهل حمص يسلمون بلادهم إليه فامتنعوا وبعث إليهم قيرجان بذلك فلحق إليها فحاصرها مدة وامتنعت عليه فعاد إلى الموصل ومعه سونج بن بورى والله أعلم * (فتح عماد الدين حصن الاثارب وهزيمة الافرنج) * (1) ولما عاد عماد الدين إلى الموصل أراح عساكره أياما ثم تجهز سنة أربع وعشرين إلى الغزو(5/225)
وعاد إلى الشأم فقصد حلب واعتزم على قصد حصن الاثارب وهو على ثلاثة فراسخ من حلب وكان الافرنج الذين به قد ضيقوا على حلب فسار إليه وحاصره وجاء الافرنج من انطاكية لدفاعه واستفرغوا فتبعهم وترك الحصن وسار إليهم واستماتت المسلمون فانهزم الافرنج وأسر كثير من زعمائهم وقتل كثير حتى بقيت عظامهم ماثلة بذلك
الموضع أكثر من ستين سنة ثم عاد إلى حصن الاثارب فملكه عنوة وخربه وتقسم جميع من فيه بين القتل والاسر وسار إلى قلعة حارم (1) قرب انطاكية وهى للافرنج فحاصرها حتى صالحوه على نصف خراجها فرجع عنها وملئ الافرنج رعبا منه ومن استبداد المسلمين به وذهب ما كان عندهم من الطمع * (واقعة عماد الدين مع بنى ارتق) * ولما فرغ عماد الدين من غزو الافرنج وفتح الاثارب وقلعة حارم عاد إلى الجزيرة وحاصر مدينة سرخس وهى لصاحب ماردين بينها وبين نصيبين فاجتمع حسام الدين صاحب ماردين وركن الدولة صاحب آمد وهما لابي الغازى صاحب مارين بن حسام الدين تمرتاش بن أبى الغازى وصاحب كيفا ركن الدولة داود بن سقمان وتمرتاش بن ارتق وجمعوا من التركمان نحوا من عشرين ألفا وساروا لمدافعة زنكى فهزمهم وملك سرخس وسار ركن الدولة إلى الجزيرة ابن عمر لينهبها فاتبعه عماد الدين فرجع إلى بلده فعاد عنه لضيق مسالكه وملك من قلاعه همرد ورجع إلى الموصل إلى آخره * (حصول دبيس بن صدقة في أسر الاتابك زنكى) * قد تقدم لنا أن دبيس بن صدقة لما فارق البصرة سار إلى سرخد من قلاع الشأم سنة خمس وعشرين باستدعاء الجارية التى خلفها الحسن هنالك ليتزوج بها وأنه مر في الغوطة مجى من أحياء كلب فأسروه وحملوه إلى تاج الملوك صاحب دمشق وبلغ الخبر إلى الاتابك زنكى وكان عدوا له فبعث فيه إلى تاج الملوك بورى وفادى من ابنه سونج والامراء الذين معه عنده فأطلقهم وبعث بورى إليه بدبيس وهو مستيقن الهلاك فلما وصله أكرمه وأحسن إليه وأزاح علله وبعث المسترشد فيه إلى بورى ابن طغركين صاحب دمشق فوجده قد فات بتسلمه إلى زنكى فذم الرسل زنكى فيما فعله فأرصد لهم في طريقهم وسيقوا إليه وهم سديد الدولة بن الانباري وأبو بكر ابن نشر الجزرى فحبسهما حتى شفع فيهما المسترشد وبقى دبيس عنده حتى انحدر معه
إلى العراق * (مسير الاتابك زنكى إلى العراق ولمظاهرة السلطان مسعود وانهزامه) *(5/226)
ولما توفى السلطان محمود سنة خمس وعشرين واختلف ولده داود وأخوه مسعود وسار داود إلى مسعود وحاصره بتبريز في محرم سنة ست وعشرين ثم صالحه وخرج مسعود من تبريز واجتمعت عليه العساكر وسار إلى همذان وبعث يطلب الخطبة من المسترشد فمنعه وكتب الاتابك عماد الدين زنكى يستنجده وسار إلى بغداد فحاصرها وكان قد سبق إليها أخوه سلجوق شاه صاحب فارس وخوزستان مع أتابك قراجا الشامي في عسكر كثير وأنزله المسترشد بدار السلطان فلما جاء مسعود ونزل عباسة وبرز عسكر المسترشد وعسكر سلجوق شاه وقراجا الشامي لمحاربة مسعود فأتاهم الخبر بوصول عماد الدين زنكى من ورائهم وأنه وصل إلى المعشوب فرجع قراجا الشامي إلى محاربته وسار سلجوق شاه بالعساكر إلى محاربة أخيه مسعود وأغذ قراجا السير وصبح عماد الدين بعد يوم وليلة على المعشوب وقاتله وهزمه وأسر كثيرا من أصحابه وسار زنكى منهزما إلى والنائب بها نجم الدين أيوب بن شادى والد السلطان صلاح فتأخر ثم اصطلح مع الخليفة على أن يكون العراق له والسلطنة لمسعود وولاية العهد لسلجوق شاه وذلك منتصف سنة ست وعشرين * (مسير الاتابك عماد الدين إلى بغداد بابنه وانهزامه) * قد قدمنا ما كان بعد وفاة السلطان محمود من الخلاف بين ابنه داود وأخويه مسعود وسلجوق شاه ثم استقر مسعود في السلطنة وصلحه مع أخيه سلجوق على أن يكون ولى عهده ثم ان السلطان سنجر سار من خراسان يطلب السلطنة لطغرل ابن أخيه السلطان محمود وكان عنده مقيما فبلغ همذان وخرج السلطان مسعود وسلجوق شاه للقائه وساروا متباطئين ينتظرون لحاق المسترشد بهم وخرج المسترشد إلى فجاءته
الاخبار بوصول الاتابك زنكى ودبيس بن صدقة إلى بغداد فذكر دبيس ان السلطان سنجر أقطعه الحلة وبعث يسترضى فلم يشفعه وذكر الاتابك زنكى ان السلطان سنجر ولاه شحنة بغداد واستمر السلطان مسعود وأخوه سلجوق على المسير للقاء سنجر وكانت الهزيمة على مسعود كما مر فعاد المسترشد إلى بغداد ونزل العباسة من الجانب الغربي ولقى الاتابك زنكى ودبيس على حصن البرامكة فهزمهما آخر رجب سنة ست وعشرين ولحق الاتابك بالموصل * (واقعة الافرنج على أهل حلب) * وفي غيبة الاتابك زنكى سار ملك الافرنج من القدس إلى حلب فخرج نائبها عن الاتابك زنكى وهو الامير اسوار وجمع التركمان مع عساكره وقاتل الافرنج عند(5/227)
قنسرين وصابرهم ومحص الله المسلمين وانهزموا إلى حلب وسار ملك الافرنج في أعمال حلب ظافرا ثم سار بعض الافرنج من الرها للغارة في أعمال حلب فخرج إليهم الامير اسوار ومعه حسان التغلبي الذى كان صاحب منبج فأوقعوا بهم واستلحموهم وأسروا من بقى منهم وعادوا ظافرين * (حصار المسترشد الموصل) * ولما وقع ما قدمناه من وصول زنكى إلى بغداد وانهزامه أمام المسترشد حفد عليه المسترشد ذلك وأقام يتربص ثم كثر الخلاف بين سلاطين السلجوقية واعتزلهم جماعة من أمرائهم فرارا من الفتنة ولحقوا بالخليفة وأقاموا في ظله فأراد الخليفة المسترشد أن ينتصف بهم من الاتابك زنكى فقدم إليه بهاء الدين أبا الفتوح الاسفراينى الواعظ وحمله عتابا أغلظ فيه وزاده الواعظ غلظة حفظا على ناموس الخلافة في معتقده فامتعض الاتابك لما شافهه به وأهانه وحبسه وأرسل المسترشد إلى السلطان مسعود على قصد الموصل وحاصرها لما وقع من زنكى ثم سار في شعبان سنة
سبع وعشرين إلى الموصل في ثلاثين ألف مقاتل فلما قارب الموصل فارقها الاتابك زنكى إلى سنجار وترك نائبه بها نصر الدين جقرى وجاء المسترشد فحاصرها والاتابك زنكى قد قطع الميرة عن معسكره فتعذرت الاقوات وضاقت عليهم الاحوال وأرادت جماعة من أهل البلد الوثوب بها وسعى بهم فأخذوا وصلبوا ودام الحصار ثلاثة أشهر وامتنعت عليه فأفرج عنها وعاد إلى بغداد وقيل ان مطرا الخادم جاءه من بغداد وأخبره أن السلطان مسعودا عازم على قصد العراق فعاد مسرعا * (ارتجاع صاحب دمشق مدينة حماة) * قد كنا قدمنا أن الاتابك زنكى تغلب على حماة من يد تاج الملوك بورى بن طغركين صاحب دمشق سنة ثلاث وعشرين وأقامت في ملكه أربع سنين وتوفى تاج الملوك بورى في رحب سنة ست وعشرين وولى بعده ابنه شمس الملوك اسمعيل وملك بانياس من الافرنج في صفر سنة سبع وعشرين ثم بلغه أن المسترشد بالله حاصر الموصل فسار هو إلى حماة وحاصرها وقاتلها يوم الفطر ويومين بعده فملكها عنوة واستأمنوا فأمنهم ثم حصر الوالى ومن معه بالقلعة فاستأمنوا أيضا واستولى على ما فيها من الذخائر والسلاح وسار منها إلى قلعة شيرز فحاصرها ابن منقذ فحمل إليه مالا صانعه به وعاد إلى دمشق في ذى الحجة من السنة(5/228)
[ حصار الاتابك زنكى قلعة آمد واستيلاؤه على قلعة النسور ثم حصار قلاع الحميدية ] وفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة اجتمع الاتابك زنكى صاحب الموصل وصاحب ماردين على حصار آمد واستنجد صاحبها بداود بن سقمان صاحب كيفا فجمع العساكر وسار اليهما ليدافعهما عنه وقاتلاه فهزماه وقتل كثير من عسكره وأطالا حصار آمد وقطعا شجرها وكرومها وامتنعت عليهما فرحلا عنها وسار زنكى إلى قلعة النسور من
ديار بكر فحاصرها وملكها منتصف رجب من السنة ووفد عليه ضياء الدين أبو سعيد ابن الكفرتونى فاستوزره الاتابك وكان حسن الطريقة عظيم الرياسة والكفاية محببا في الجند وتوفى سنة ست وثلاثين بعدها ثم استولى الاتابك على سائر قلاع الاكراد الحميدية مثل قلعة العقر وقلعة سوس وغيرهما وكان لما ملك الموصل أمر صاحب هذه القلاع الامير عيسى الحميرى على ولايتها فلما حاصر المسترشد الموصل قام في خدمته أحسن القيام وجمع له الاكراد فلما عاد المسترشد إلى بغداد من قتال الاتابك زنكى فحاصر قلاعهم وحاصرتها العساكر وقاتلوها قتالا شديدا حتى ملكوها في هذه السنة ورفع الله شرهم عن أهل السواد المحاربين لهم فقد كانوا منهم في ضيقة من كثرة عيثهم في البلاد وتخريبهم والله تعالى أعلم * (استيلاء الاتابك على قلاع الهكارية وقلعة كواشى) * حدث ابن الاثير عن الجنيبى أن الاتابك زنكى لما ملك قلاع الحميدية وأجلاهم عنها خاف أبو الهيجاء من عبد الله على قلعة أشب والجزيرة وكواشى فاستأمن الاتابك واستحلفه وحمل له مالا ثم وفد عليه بالموصل بعد أن اخرج ابنه أحمد من أشب خشية أن يغلب عليها وأعطاه قلعة كواشى وولى على أشب رجلا من الكرد واسمه باد الارمني وابنه أحمد هذا هو أبو على بن أحمد المشطوب من أمراء السلطان صلاح الدين ولما مات أبو الهيجاء واسمه موسى وسار أحمد إلى أشب ليملكها فامتنع عليه باد وأراد حفظها لعلى الصغير من بنى أبى الهيجاء فسار الاتابك زنكى في عساكره ونزل على اشب وبرز أهلها لقتاله واستجرهم حتى أبعد واثم كر عليهم فأفناهم قتلا وأسرا وملك القلعة في الحال وسيق إليه باد في جماعة من مقدمى الاكراد وقتلهم وعاد إلى الموصل ثم سار غازيا في بعض مذاهبه فبعث نائبه نصر الدين جقرى عسكرا وخلى كنجاورسى قلعة العمادية وحاصروا قلعة الشغبان وفرح وكواشى والزعفراني والغى وسرق وسفروه وهى حصون الهكارية فحصرها وملكها جميعا واستقام أمر الجبل والزوزان(5/229)
وأمنت الرعية من الاكراد وأما باقى قلاع الهكارية وهى حل وصورا وهزور والملابسي ويامر ماومانرحا وباكرا ونسرفان قراجا صاحب العمادية فتحها بعد قتل زنكى بمدة طويلة كان أميرا على تلك الحصون الهكارية من قبل زين الدين على على ما قال ابن الاثير ولم أعلم تاريخ فتح هذه القلاع فلهذا ذكرته هنا قال وحدثني بخلاف هذا الحديث بعض فضلاء الاكراد أن أبا بكر زنكى لما فتح قلعة اسب وحرساني قلعة العمادية ولم يبق في الهكارية الا صاحب جبل صورا وصاحب هزور لم يكن لهما شوكة يخشى منهما ثم عاد إلى الموصل وخافه أهل القلاع الجليلة ثم توفى عبد الله بن عيسى ابن ابراهيم صاحب الريبة والغى وفرح وملكها بعده ابنه على وكانت أمه خديجة ابنة الحسن أخت ابراهيم وعيسى وهما من الامراء مع زنكى بالموصل فأرسلها ابنها على إلى أخويها المذكورين وهما خالاه ليستأمنا له من الاتابك فاستحلفاه وقدم عليه فأقره على قلاعه واستقل بفتح قلاع الهكارية وكان الشغبان هذا الامير من المهرانية اسمه الحسن بن عمر فأخذه منه وخربه لكبره وقلة أعماله وكان نصر الدين جقرى يكره عليا صاحب الريبة والغى وفرح فسعى عند الاتابك في حبسه فأمره بحبسه ثم ندم وكتب إليه أن يطلقه فوجده قد مات فاتهم نصر الدين بقتله ثم بعث العساكر إلى قلعة الرحبية فنازلوها بغتة وملكوها عنوة وأسروا ولد على واخوته ونجت أمه خديجة لمغيبها وجاء البشير إلى الاتابك بفتح الريبة فسره ذلك وبعث العساكر إلى ما بقى من قلاع على فابى الا أن يزيدوه قلعة كواشى فمضت خديجة أم على إلى صاحب كواشى من المهرانية واسمه جرك راهروا وسألته النزول عن كواشى لاطلاق اسراهم ففعل ذلك وتسلم زنكى القلاع وأطلق الاسرى واستقامت له جبال الاكراد والله تعالى أعلم * (حصار الاتابك زنكى مدينة دمشق) *
كان شمس الملوك اسمعيل بن بورى قد انحل أمره وضعفت دولته واستطال عليه الافرنج وخشى عاقبة أمرهم فاستدعى الاتابك زنكى سرا ليملكه دمشق ويريح نفسه وشعر بذلك أهل دولته فشكوا إلى أمه فوعدتهم الراحة منه ثم اغتالته فقتلته وجاء الاتابك زنكى فقدم رسله من الفرات فألفوا شمس الملوك قد مات وولى مكانه أخوه محمود واشتمل أهل الدولة عليه ورجعوا الخبر إلى الاتابك فلم يحفل به وسار حتى نزل بظاهر دمشق واشتد أهل الدولة على مدافعته ومقدمهم معين الدين أبربوه أتابك طغركين ثم بعث المسترشد أبا بكر بن بشر الجزرى إلى الاتابك زنكى فأمره بصلح صاحب دمشق فصالحه ورحل عنه منتصف السنة والله سبحانه وتعالى أعلم(5/230)
* (فتنة الراشد مع السلطان مسعود ومسيره إلى الموصل وخلعه) * كان كثير من أمراء السلجوقية قد اجتمعوا على الانتقاض على السلطان مسعود والخروج عليه ولحق داود ابن السلطان محمود من اذربيجان ببغداد في صفر سنة اثنين وثلاثين فأنزل بدار السلطنة وراسله أولئك الامراء وقدم عليه بعضهم مثل صاحب قزوين وصاحب اصبهان وصاحب الاهواز وصاحب الجبلة وصاحب الموصل الاتابك زنكى وخرجت إليهم العساكر من بغداد وولى داود شحنية بغداد وخرج موكب الخليفة مع الوزير جلال الدين الرضى وكان الخليفة قد تغير عليه وعلى قاضى القضاة الزينبي فسمع بهم الاتابك ثم وقعت العزيمة من الراشد والسلطان داود والاتابك زنكى وحلف كل منهم لصاحبه وبعث الراشد إلى الاتابك بمأتى ألف دينار ووصل سلجوق شاه إلى واسط وقبض على الامير بك آيه ونهب ماله فانحدر الاتابك زنكى لمدافعته فاصطلحا وعاد زنكى إلى بغداد ومر على جميع العساكر لقتال السلطان مسعود وخرج على طريق خراسان وبلغهم أن السلطان مسعود اسار إلى بغداد فعاد إليها ثم عاد الملك داود وجاء السلطان مسعود فنزل على بغداد وحاصرهم نيفا وخمسين يوما
وارتحل إلى النهروان ثم قدم عليه طرنطاى صاحب واسط بالسفن فرجع إلى بغداد وعبر إلى الجانب الغربي ثم اختلف العسكر ببغداد ورجع الملك داود إلى ولايته باذربيجان وافترق الامراء الذين معه ولحق الراشد بالاتابك زنكى في نفر من أصحابه وهو بالجانب الغربي وسار معه إلى الموصل ودخل السلطان مسعود إلى بغداد منتصف ذى القعدة سنة ثلاثين واستقر بها وسكن الناس وجمع القضاة والفقهاء وعرض عليهم يمين الراشد بخطه بأنه متى جمع أو خرج لحرب السلطان فقد خلع نفسه فأفتوا بخلعه ثم وقعت الشهادات من أهل الدولة وغيرهم إلى الراشد بموجبات العزل وكتبت وأفتى الفقهاء عقبها باستحقاق العزل وحكم به القاضى المعين حينئذ لغيبة قاضى القضاة بالموصل مع الراشد ونصب للخلافة ابن المستظهر وجاء رسول الاتابك زنكى إلى بغداد وهو القاضى كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزورى وبايع بعد أن ثبت عنده الخلع وانصرف إلى الاتابك باقطاع من خاص الخليفة ولم يكن ذلك لاحد قبله وعاد كمال الدين إلى الاتابك وحمل كتب الخلع فحكم بها قاضى القضاة بالموصل وانصرف الراشد عن الموصل إلى اذربيجان كما مر في أخبار الخلفاء والسلجوقية والله تعالى ولى التوفيق * (غزاة العساكر حلب إلى الافرنج) * ثم اجتمعت عساكر حلب مع الامير اسوار نائب الاتابك زنكى بحلب(5/231)
في شعبان سنة ثلاثين وساروا غازين إلى بلاد الافرنج وقصدوا اللاذقية على غرة فنالوا منها وانساحوا في بسائطها واكتسحوها وامتلات أيديهم من الغنائم وخربوا بلاد اللاذقية وما جاورها وخرجوا على شيرز وملؤا الشأم بالاتراك والظهر ووهن الافرنج لذلك والله سبحانه وتعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده [ حصار الاتابك زنكى مدينة حمص واستيلاؤه على
بعدوين وهزيمة الافرنج واستيلاؤه على حمص ] ثم سار الاتابك في العساكر في شعبان سنة احدى وثلاثين إلى مدينة حمص وبها يومئذ معين الدين ابن القائم بدولة صاحب دمشق وحمص من أقطاعه فقدم إليه صاحبه صلاح الدين الباغيسيانى في تسليمها فاعتذر بأن ذلك ليس من الاصابة فحاصرها والرسل تردد بينهما وامتنعت عليه فرحل عنها إلى بعدوين من حصون الافرنج في شوال من السنة فجمع الافرنج وأوعبوا وزحفوا إليه واشتد القتال بينهم ثم هزم الله العدو ونجا المسلمين منهم ودخل ملوكهم إلى حصن بعدوين فامتنعوا به وشد الاتابك حصاره وذهب القسوس والرهبان إلى بلاد النصرانية من الروم والافرنج يستنجدونهم على المسلمين ويخوفونهم استيلاء الاتابك على قلعة بعدوين وما يخشى بعد ذلك من ارتجاعهم بيت المقدس وجد الاتابك بعد ذلك في حصارها والتضييق عليها حتى جهدهم الحصار ومنع عنهم الاخبار ثم استأمنوا على أن يحملوا إليه خمسين ألف دينار فأجابهم وملك القلعة ثم سمعوا بمسير الروم والافرنج لانجادهم وكان الاتابك خلال الحصار قد فتح المعرة وكفر طاب في الولايات التى بين حلب وحماة ووهن الافرنج ثم سار الاتابك زنكى في محرم سنة اثنين وثلاثين إلى بعلبك وملك حصن الممدل من أعمال صاحب دمشق وبعث إليه نائب باساس بالطاعة كذلك ثم كانت حادثة ملك الروم ومنازلته حلب كما نذكره فسار إلى سليمة ولما انجلت حادثة الروم رجع إلى حصار حمص وبعث إلى محمود صاحب دمشق في خطبة أمه مردخان بنت جاولى التى قتلت ابنها فتزوجها وملك حمص وقلعتها وحملت الخاتون إليه في رمضان وظن أنه يملك دمشق بزواجها فلم يحصل على شئ من ذلك والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده * (مسير الروم إلى الشأم وملكهم مراغة) * ولما استنجد الافرنج ببعدوين ملك أمم النصرانية كما مر جمع ملك الروم بالقسطنطينية وركب البحر سنة احدى وثلاثين ولحقته أساطيله وسار إلى مدينة قيقية
فحاصرها وصالحوه بالمال وسار عنها إلى ادمة والمصيصة وهما لابن لميون الارمني(5/232)
صاحب قلاع الدروب فحاصرهما وملكهما وسار إلى عين زربة فملكها عنوة وملك تل حمدون ونقل أهله إلى جزيرة قبرص ثم ملك مدينة انطاكية في ذى القعدة من السنة وبهار غيد من ملوك الافرنج فصالحه ورجع إلى بقراس ودخل منها بلاد ابن ليون فصالحه بالاموال ودخل في طاعته ثم خرج إلى الشأم أول سنة ثنتين وثلاثين وحاصر مراغة على ستة فراسخ من حلب وبعثوا بالصريخ إلى الاتابك زنكى فبعث بالعساكر إلى حلب لحمايتها وقاتل ملك الروم مراغة فملكها بالامان منتصف السنة ثم غدر بهم واستباحهم ورحل إلى حلب فنزل بريق ومعه الافرنج ورجعوا من الغد إلى حلب وحاصروها ثلاثا فامتنعت عليهم وقتل عليها بطريق كبير منهم ورحل عنها إلى قلعة الاتاود في شعبان من السنة فهرب عنها أهلها ووضع الروم بها الاسرى والسبي وأنزلو بها حامية وبعث إليهم أسوار نائب حلب عسكرا فقتلوا الحامية وخلصوا الاسرى والسبي ورحل الاتابك من حصن بعد فتحه إلى سليمة وقطع الفرات إلى الرقة واتبع الروم فقطع عنهم الميرة وقصد الروم قلعة شيزر وبها سلطان ابن على بن مقلد بن نصر بن منقذ الكنانى فحاصروها ونصبوا المجانيق عليها واستصرخ صاحبها بالاتابك زنكى فسار إليه ونزل نهر العاصى بين شيزر وحماة وبعث السرايا تختطف من حول معسكر الروم وبعث إلى الروم يدعوهم إلى المناجزة والنزول إلى البسيط فخاموا عن ذلك فرجع إلى التضريب بين الروم والافرنج يحذر أحد الفريقين من الآخر حتى استراب كل بصاحبه فرحل ملك الروم في رمضان من السنة بعد حصار شيزر أربعين يوما واتبعه الاتابك فلحقهم واستلحمهم واستباحهم ثم أرسل القاضى كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزورى إلى السلطان مسعود يستنجده على العدو ويحذره الروم واستيلاءهم على حلب وينحدرون من الفرات إلى بغداد فوضع القاضى كمال
الدين في جامع القصر من ينادى بصريخ المسلمين والخطيب على المنبر وكذا في جامع السلطان فعظم الصراخ والبكاء وتسايلت العوام من كل جانب وجاؤا إلى دار السلطان في تلك الحالة وقد وقع العويل والصراخ فعظم الهول على السلطان مسعود وجهز عسكرا عظيما وخاف القاضى كمال الدين غائلته ثم وصل الخبر برحيل ملك الروم فاخبر القاضى السلطان مسعود بذلك ومن مسير العسكر والله تعالى أعلم * (استيلاء الاتابك زنكى على بعلبك) * ثم قتل محمود صاحب دمشق سنة ثلاث وثلاثين في شوال كما مر في أخبار دولتهم وكانت أمه زمردخان متزوجة بالاتابك كما مر فبعثت إليه وهو بالجزيرة تعرفه بالخبر وتطلب(5/233)
منه أن يسير إلى دمشق ويثآر بولدها من أهل دولته فسار لذلك واستعد أهل دمشق للحصار ثم قصد الاتابك مدينة بعلبك ونزلها وكان ابن القائم بالدولة قد نصب كمال الدين محمد بن بورى بدمشق وتزوج أمه وبعث بجاريته إلى بعلبك فلما سار الاتابك إلى دمشق قدم رسله إلى انز في تسليم البلد على أن يبذل له ما يريد فأبى من ذلك وسار الاتابك إلى بعلبك فنازلها آخر ذى الحجة من السنة ونصب عليها المجانيق وشد حصارها حتى استأمنوا فملكها واعتصم الحامية بالقلعة حتى يئسوا من أنز فاستأمنوا إلى الاتابك فلما ملكها قبض عليهم وصلبهم وتزوج جارية انز ونقلها إلى حلب إلى أن بعثها ابنه نور الدين محمود إلى صاحبها بعد موت الاتابك والله تعالى أعلم * (حصار الاتابك زنكى مدينة دمشق) * ثم سار الاتابك زنكى إلى حصار دمشق في ربيع الاول من سنة أربع وثلاثين بعد الفراغ من بعلبك فنزل بالبقاع وأرسل إلى جمال الدين محمد صاحبها في أن يسلمها إليه ويعوضه عنها بما شاء فلم يجب إلى ذلك فزحف إليه ونزل داريا والتقت الطلائع فكان الظفر
لاصحاب الاتابك ثم تقدم إلى المصلى فنزل بها وقاتله أهل دمشق بالغوطة فظفر بهم وأثخن فيهم ثم أمسك عن القتال عشر ايراود فيها صاحب دمشق وبذل له بعلبك وحمص وما يختاره من البلاد فجنح إلى ذلك ولم يوافقه أصحابه فعادت الحرب ثم توفى صاحب دمشق جمال الدين محمد في شعبان من السنة ونصب معين الدين انز مكانه ابنه محيى الدين أمو وقام بأمره وطمع زنكى في ملك البلد فامتنعت عليه وبعث معز الدين انز إلى الافرنج يستدعيهم إلى النصر على الاتابك ويبذل لهم ويخوفهم غائلته ويشترط لهم اعانتهم على بانياس حتى يملكوها فأجاب الافرنج لذلك وأجفل زنكى إلى حوران خامس رمضان من السنة معتزما على لقائهم فلم يصلوا فعاد إلى حصار دمشق وأحرق قراها وارتحل إلى بلاده ثم وصل الافرنج وارتحل معين الدين انز في عساكر دمشق إلى بانياس وهى للاتابك زنكى ليوفى للافرنج بشرطه لهم فيها وقد كان نائبها سار للاغارة مدينة صور ولقيه في طريقه صاحب انطاكية ذاهبا إلى دمشق منجدا فهزم عسكر بانياس وقتلوا ولحق فلهم بالبلد وقد وهنوا وحاصرهم معين الدين انز والافرنج وملكها عنوة وسلمها للافرنج وأحفظه ذلك وفرق العسكر في حوران وأعمال دمشق وسار هو فصابح دمشق ولم يعلموا بمكانه فبرزوا إليه وقاتلوه وقتل منهم جماعة ثم احجم عنهم لقلة من معه وارتحل إلى مرج راهط في انتظار عساكره فلما توافوا عنده عاد إلى بلاده * (استيلاء الاتابك على شهرزور وأعمالها) *(5/234)
كان شهرزور بيد قفجاق بن ارسلان شاه أمير التركمان وصالحهم وكانت الملوك تتجافى عن أعماله لامتناعها ومضايقها فعظم شأنه واشتمل عليه التركمان وسار إليه الاتابك زنكى سنة أربع وثلاثين فجمع ولقيه فظفر به الاتابك واستباح معسكره وسار في اتباعه فحاصر قلاعه وحصونه وملك جميعها واستأمن إليه قفجاق فأمنه وسار
في خدمته وخدمة بنيه بعده إلى آخر المائة ثم كان في سنة خمس وثلاثين بين الاتابك زنكى وبين داود بن سقمان صاحب كيفا فتنة وحروب وانهزم داود وملك الاتابك من بلاده قلعة همردوا دركه فعاد إلى الموصل ثم سار الاتابك إلى مدينة الحرمية فملكها سنة ست وثلاثين ونقل آل مهارش الذين كانوا بها إلى الموصل ورتب أصحابه مكانهم ثم خطب له صاحب آمد وصار في طاعته بعد أن كان مع داود عليه ثم بعث الاتابك لسنة سبع وثلاثين عسكرا إلى قلعة أشهب وهى أعظم من حصون الاكراد الهكارية وأمنعها وفيها أهلوهم وذخائرهم فحاصرها وملكها وأمره الاتابك بتخريبها وبنى قلعة العمادية عوضا عنها وكانت خربت قبل ذلك لاتساعها وعجزهم عن حمايتها فأعيدت الآن وكان نصير الدين نائب الموصل قد فتح أكثر القلاع الحربية والله تعالى أعلم * (صلح الاتابك مع السلطان مسعود واستيلاؤه على أكثر ديار بكر) * كان السلطان مسعود ملك السلجوقية قد حقد على الاتابك زنكى شان الخارجين على طاعته من أهل الاطراف وينسب ذلك إليه وكان يفعل ذلك مشغلة للسلطان عنه فلما فرغ السلطان مسعود من شواغله سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة سار إلى بغداد عازما على قصد الاتابك وحاصر الموصل فأرسل الاتابك يستعطفه ويستميله على أن يدفع إليه مائة ألف دينار ويعود عنه فشرع في ذلك وحمل منها عشرين ألفا ثم حدثت الفتنة على السلطان فاحتاج إلى مداراته وترك له الباقي وبالغ هو في مخالصة السلطان بحيث ان ابنه غازى كان عند السلطان فهرب إلى الموصل فبعث إلى نائبها نصير الدين جقرى يمنعه من دخولها وبعث إلى ابنه بالرجوع إلى خدمة السلطان وكتب إلى السلطان بان ابني هرب للخوف من تغيير السلطان عليه وقد أعدته إلى الخدمة ولم ألفه وأنا مملوكك والبلاد لك فوقع ذلك من السلطان أحسن المواقع ثم سار الاتابك إلى ديار بكر ففتح طره واسعرد وحران وحصن الرزق وحصن تطليت وحصن ياسنه وحصن دى القرنين
وغير هذه وملك أيضا من بلاد ماردين الافرنج حملين والمودن وتل موزر وغيرها من بلاد حصون سجستان وأنزل بها الحامية وقصد أمد فحصرها وسير عسكرا إلى مدينة غانة من أعمال الفرات فملكها والله تعالى أعلم(5/235)
* (فتح الرها وغيرها من أعمال الافرنج) * كان الافرنج بالرها وسروج والبيرة قد أضروا بالمسلمين جوارهم مثل آمد ونصيبين ورأس عين والرقة وكان زعيمهم ومقدمهم بتلك البلاد جوسكين الزعيم ورأى الاتابك أنه بورى عن قصدهم بغيره لئلا يجمعوا له فورى بغز وديار بكر كما قلناه و جوسكين وعبر الفرات من الرها إلى غزنة وجاء الخبر بذلك إلى الاتابك فارتحل منتصف جمادى الاخيرة سنة تسع وثلاثين وحرض المسلمين وحثهم على عدوهم ووصل إلى الرها وجوسكين غائب عنها فانحجز الافرنج بالبلد وحاصرهم شهرا وشد في حصارهم وقتالهم ولج في ذلك قبل اجتماع الافرنج ومسيرهم إليه ثم ضعف سورها فسقطت ثلمة منه وملك البلد عنوة ثم حاصر القلعة وملكها كذلك ثم رد على أهل البلد ما أخذ منهم وأنزل فيه حامية وسار إلى سروج وجميع البلاد التى بيد الافرنج شرقيا فملكها جميعا الا البيرة لامتناعها فأقام يحاصرها حتى امتنعت ورحل عنها والله سبحانه وتعالى أعلم [ مقتل نصير الدين جقرى نائب الموصل وولاية زين الدين على كجك مكانه بالقلعة ] كان استقر عند الاتابك زنكى بالموصل الملك البارسلان ابن السلطان محمد ويلقب الخمفاجى وكان شبيها به وتوهم السلطان ان البلاد له وأنه نائبه وينتظر وفاة السلطان مسعود فيخطب له ويملك البلد باسمه وكان يتردد له ويسعى في خدمته فداخله بعض المفسدين في غيبة الاتابك وزين له قتل نصير الدين النائب والاستيلاء على الموصل
فلما دخل إليه أغرى به أجناد الاتابك ومواليه فوثبوا به وقتلوه في ذى القعدة سنة تسع وثلاثين ثم ألقوا برأسه إلى أصحابه يحسبون أنهم يفترقون فاعصوصبوا واقتحموا عليه الدار ودخل عليه القاضى تاج الدين يحيى ابن الشهرزورى فأوهمه بطاعته وأشار عليه بالصعود إلى القلعة ليستولي على المال والسلاح فركب وصعد معه وتقدم إلى حافظ القلعة وأشار عليه بأن يمكنه من الدخول ثم يقبض عليه فدخل ودخل معه الذين قتلوا نصير الدين فحبسهم وإلى القلعة وعاد القاضى إلى البلد وطار الخبر إلى الاتابك زنكى بحصار البيرة فخشى اختلاف البلد وعاد إلى الموصل وقدم زين الدين على ابن كجك وولاه القلعة مكان نصير الدين وأقام ينتظر الخبر وخاف الافرنج الذين بالبيرة من عودته إليهم فبعثوا إلى نجم الدين صاحب ماردين وسلموها له فملكها المسلمون(5/236)
* (حصار زنكى حصن جعبر وفنك) * ثم سار الاتابك زنكى سنة احدى وأربعين في المحرم إلى حصن جعبر ويسمى دوس وهو مطل على الفرات وكان لسالم بن مالك العقيلى أقطعه السلطان ملك شاه لابيه حين أخذ منه حلب وبعث جيشا إلى قلعة فنك على فرسخين من جزيرة ابن عمر فحاصروهما وصاحبها يومئذ حسام الدين الكردى فحاصر قلعة جعبر حتى توسط الحال بينهما حسان المنجبى ورغبه ورهبه وقال في كلامه من يمنعك منه فقال الذى منعك أنت من مالك بن بهرام وقد حاصر حسان منبج فأصابه في بعض الايام سهم فقتله وأفرج عن حسان وقدر قتل الاتابك كذلك والله تعالى أعلم * (مقتل الاتابك عماد الدين زنكى) * كان الاتابك عماد الدين زنكى بن اقسنقر صاحب الموصل والشأم محاصر القلعة جعبر كما ذكرنا واجتمع جماعة من مواليه اغتالوه ليلا وقتلوه على فراشه ولحقوا بجعبر وأخبروا
أهلها فنادوا من السور بقتله فدخل أصحابه إليه وألفوه يجود بنفسه وكان قتله لخمس من ربيع الآخر سنة احدى وأربعين عن ستين سنة من عمره ودفن بالرقة وكان يوم قتل أبوه ابن سبع سنين ولما قتل دفن بالرقة وكان حسن السياسة كثير العدل مهيبا عند جنده عمر البلاد وأمنها وأنصف المظلوم من الظالم وكان شجاعا شديد الغيرة كثير الجهاد ولما قتل رحل العسكر عن قلعة فنك وصاحبها غفار قال ابن الاثير سمعتهم يزعمون أن لهم فيها نحو ثلثمائة سنة وفيهم رفادة وعصبية ويجيرون كل من يلجأ إليهم والله أعلم * (استيلاء ابنه غازى على الموصل وابنه الآخر محمود على حلب) * ولما قتل الاتابك زنكى نزع ابنه نور الدين محمود خاتمه من يده وسار به إلى حلب فاستولى عليها وخرج الملك البارسلان ابن السلطان محمود واجتمعت عليه العساكر وطمع في الاستقلال بملك الموصل وحضر ابنه جمال الدين محمد بن على بن متولى الديوان وصلاح الدين محمد بن الباغيسيانى الحاجب وقد اتفقا فيما بينهما على حفظ الدولة لاصحابهما وحسنا للبارسلان ما هو فيه من الاشتغال بلذاته وأدخلاه الرقة فانغمس بها وهما يأخذان العهود على الامراء لسيف الدين غازى ويبعثانهم إلى الموصل وكان سيف الدين غازى في مدينة شهرزور وهى أقطاعه وبعث إليه زين الدين على كوجك نائب القلعة بالموصل يستدعيه ليحضر عنده وسار البارسلان إلى سنجار والحاجب وصاحبه معه ودسوا إلى نائبها بأن يعتذر للملك البارسلان بتأخره حتى يملك الموصل فساروا إلى الموصل ومروا بمدينة وقد وقف العسكر فأشاروا على البارسلان(5/237)
بعبور دجلة إلى الشرق وبعثوا إلى سيف الدين غازى بخبره وقلة عسكره فأرسل إليه عسكرا فقبضوه وجاؤا به فحبسه بقلعة الموصل واستولى سيف الدين غازى على الموصل والجزيرة وأخوه نور الدين محمود على حلب ولحق به صلاح الدين الباغيسيانى فقام بدولته والله سبحانه وتعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده
* (عصيان الرها) * ولما قتل الاتابك زنكى ملك الرها جوسكين كان جوسكين مقيما في ولايته بتل باشر وما جاورها فراسل أهل الرها وعامتهم من الارمن وحملهم على العصيان على المسلمين وتسليم البلد له فأجابوه وواعدوه ليوم عينوه فسار في عساكره وملك البلد وامتنعت القلعة وبلغ الخبر إلى نور الدين محمود وهو بحلب فأغذ السير إليها وأجفل جوسكين إلى بلده ونهب نور الدين المدينة وسبا أهلها وارتحلوا عنها وبعث سيف الدين غازى العساكر إليها فبلغهم في طريقهم ما فعله نور الدين فعادوا وذلك سنة احدى وأربعين ثم قصد صاحب دمشق بعد قتل الاتابك حصن بعلبك وبه نجم الدين أيوب بن شادى نائب الاتابك فابطأ عليه انجاد بنيه فصالح صاحب دمشق وسلم له بعلبك على اقطاع ومال أعطاه اياه وعشر قرى من بلاد دمشق وانتقل معه إلى دمشق فسكنها وأقام بها ثم سار نور الدين محمود سنة ثنتين وأربعين من حلب إلى الافرنج ففتح مدينة ارتاج عنوة وحاصر حصونا أخرى وكان الافرنج بعد قتل الاتابك يظنون أنهم يستردون ما أخذه منهم فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون ولما قتل الاتابك زنكى طمع صاحب ماردين وصاحب كيفا أن يستردوا ما أخذ من بلادهم فلما تمكن سيف الدين غازى سار إلى أعمال ديار بكر فملك دارا وغيرها وتقدم إلى ماردين وحاصرها وعاث في نواحيها حتى ترحم صاحبها حسام الدين تمرتاش على الاتابك مع عداوته ثم أرسل إلى سيف الدين غازى وصالحه وزوجه بنته فعاد إلى الموصل وزفت إليه وهو مريض فهلك قبل زفافها وتزوجها أخوه قطب الدين من بعده والله أعلم * (مصاهرة سيف الدين غازى لصاحب دمشق وهزيمة نور الدين محمود للافرنج) * كان تقدم لنا في دولة بني طغركين موالى دقاق بن تتش أن ملك اللمان من الافرنج سار سنة ثلاث وأربعين وحاصر دمشق بجموع الافرنج وبها محيى الدين ارتق بن بورى بن محمد بن طغركين في كفالة معين الدين أنز مولى
فبعث معين الدين إلى سيف الدين غازى بن أتابك زنكى بالموصل يدعوه إلى نصرة المسلمين فجمع عساكره وسار إلى الشأم واستدعى أخاه نور الدين من حلب ونزلوا على(5/238)
حمص فأخذوا بحجزة الافرنج عن الحصار وقوى المسلمون بدمشق عليهم وبعث معين الدين إلى طائفتي الافرنج من سكان الشأم واللمان الواردين فلم يزل يضرب بينهم وجعل لافرنج الشأم حصن بانياس طعمة على أن يرحلوا بملك اللمانيين ففتلوا له في الذروة والغارب حتى رحل عن دمشق ورجع إلى بلاده وراء قسطنطينية بالشمال وحسن أمر سيف الدين غازى وأخيه في الدفاع عن المسلمين وكان مع ملك اللمان حين خرج إلى الشأم ابن ادفونش ملك الجلالقة بالاندلس وكان جده هو الذى ملك طرابلس الشأم من المسلمين حين خروج الافرنج إلى الشأم فلما جاء الآن مع ملك اللمان ملك حصن العريمة وأخذ في منازلة طرابلس ليملكها من القمص فأرسل القمص إلى نور الدين محمود ومعين الدين أنز وهما مجتمعان ببعلبك بعد رحيل ملك اللمانيين عن دمشق وأغراهما بابن ادفونش ملك الجلالقة واستخلاص حصن العريمة من يده فسارا لذلك سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وبعث إلى سيف الدين وهو بحمص فأمدهما بعسكر مع الامير عز الدين أبى بكر الديسى صاحب جزيرة ابن عمر وحاصروا حصن العريمة أياما ثم نقضوا سوره وملكوه على الافرنج وأسروا من كان به من الافرنج ومعهم ابن ادفونش وعاد إلى سيف الدين عسكره ثم بلغ نور الدين ان الافرنج تجمعوا في بيقو من أرض الشأم للاغارة على أعمال حلب فسار إليهم وقتلهم وهزمهم وأثخن فيهم قتلا وأسرا وبعث من غنائمهم وأسراهم إلى أخيه سيف الدين غازى والى المقتفى الخليفة انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم * (وفاة سيف الدين غازى وملك أخيه قطب الدين مودود) * ثم توفى سيف الدين غازى بن الاتابك زنكى صاحب الموصل منتصف أربع وأربعين
وخمسمائة لثلاث سنين وشهرين من ولايته وخلف ولدا صغيرا ربى عند عمه نور الدين محمود وهلك صغيرا فانقرض عقبه وكان كريما شجاعا متسع المائدة يطعم بكرة وعشية مائة رأس من الغنم في كل نوبة وهو أول من حمل الصنجق على رأسه وأمر بتعليق السيوف بالمناطق وترك التوشح بها وحمل الدبوس في حلقة السرج وبنى المدارس للفقهاء والربط للفقراء ولما أنشده حيص بيص الشاعر يمدحه الام يراك المجد في زى شاعر * وقد نحلت شوقا اليك المنابر فوصله بألف مثقال سوى الخلع وغيرها ولما توفى سيف الدين غازى انتقض الوزير جمال الدين وأمير الجيوش زين الدين على وجاؤا بقطب الدين مودود وبادروا إلى تمليكه واستخلفوه وحلفوا له وركب إلى دار السلطنة وزين الدين في ركابه فبايعوا له(5/239)
وأطاعه جميع من في أعمال أخيه بالموصل والجزيرة وتزوج الخاتون بنت حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين التى هلك أخوه قبل زفافها فكان ولده كلهم منها والله سبحانه وتعالى أعلم * (استيلاء السلطان محمود على سنجار) * ولما ملك قطب الدين مودود الموصل وكان أخوه نور الدين محمود بالشأم وكان أكبر منه وله حلب وحماة كاتبه جماعة من الامراء بعد أخيه غازى وفيمن كاتبه نائب سنجار المقدم عبد الملك فبادر إليه في سبعين فارسا من أمرائه وسبق أصحابه في يوم مطير إلى مساكن ودخل البلد ولم يعرفوا منه الا أنه أمير من جند التركمان ثم دخل على الشحنة بيته فقبل يده وأطاعه ولحق به أصحابه وساروا جميعا إلى سنجار وأغذ السير فقطع عنه أصحابه وتوصل إلى سنجار في فارسين ونزل بظاهر البلد وبعث إلى المقدم فوصله وكان قد سار إلى الموصل وترك ابنه شمس الدين محمدا بالقلعة فبعث في اثر أبيه وعاد من طريقه وسلم سنجار إلى نور الدين محمود فملكها واستدعى فخر الدين قرى ارسلان صاحب كبفالمودة بينهما
فوصل في عساكره وبلغ الخبر إلى قطب الدين صاحب الموصل ووزيره جمال الدين وأمير جيشه زين الدين فساروا إلى سنجار للقاء نور الدين محمود وانتهوا إلى تل اعفر ثم خاموا عن لقائه وأشار الوزير جمال الدين بمصالحته وسار إليه بنفسه فعقد معه الصلح وأعاد سنجار على أخيه قطب الدين وسلم له أخوه مدينة حمص والرحبة والشأم فانفره بملك الشأم وانفرد أخوه قطب الدين بالجزيرة واتفقا وعاد نور الدين إلى حلب وحمل ما كان لابيهم الاتابك زنكى من الذخيرة لسنجار وكانت لا يعبر عنها والله تعالى أعلم * (غزو نور الدين إلى انطاكية وقتل صاحبها وفتح فاميا) * ثم غزا نور الدين سنة أربع وأربعين إلى انطاكية فعاث فيها وخرب كثيرا من حصونها وبينما هو يحاصر بعض الحصون اجتمع الافرنج وزحفوا إليه فلقيهم وحاربهم وأبلى في ذلك الموقف فهزم الافرنج وقتل البرلس صاحب انطاكية وكان من عتاة الافرنج وملك بعده ابنه سمند طفلا وتزوجت أمه برلس آخر بكفل ولدها ويدبر ملكها فغزاه نور الدين ولقوه فهزمهم وأسر ذلك البرلس الثاني وتمكن الطفل سمند من ملكه بانطاكية ثم سار نور الدين سنة خمس وأربعين إلى حصن فاميا بين شيزر وحماة وهو من أحسن القلاع فحاصره وملكه وشحنه حامية وسلاحا وأقواتا ولم يفرغ من أمره الا والافرنج الذى بالشام جمعوا وزحفوا إليه وبلغهم الخبر فخاموا عن اللقاء وصالحوه في المهادنة فعقد لهم انتهى(5/240)
* (هزيمة نور الدين جوسكين وأسر جوسكين) * ثم جمع نور الدين بعد ذلك وسار غازيا إلى بلاد زعيم الافرنج وهى تل باشر وعنتاب وعذار وغيرها من حصون شمالى حلب فجمع جوسكين لمدافعته عنها ولقيه فاقتتلوا ومحص الله المسلمين واستشهد كثير منهم وأسر آخرون وفيهم صاحب صلاح نور الدين فبعثه جوسكين إلى الملك مسعود بن قليج ارسلان يعيره به لمكان صهره نور الدين على
ابنته فعظم ذلك عليه وأعمل الحيلة في جوسكين وبذل المال لاحياء التركمان البادين بضواحيه أن يحتالوا في القبض عليه ففعلوا وظفر به بعضهم فشاركهم في اطلاقه على مال وبعث من يأتي به وشعر بذلك وإلى حلب أبو بكر بن الرامة فبعث عسكرا ليسوا من ذلك الحى جاؤا بجوسكين أسيرا إلى حلب وثار نور الدين إلى القلاع فملكها وهى تل باشر وعنتاب وعذار وتل خالد وقورص وداوندار ومرج الرصاص وحصن النادة وكفرشود وكفر لات ودلوكا ومرعش ونهر الجود وشحنها بالاقوات وزحف إليه الافرنج ليدافعوه فلقيهم على حصن جلدك وانهزم الافرنج وأثخن المسلمون فيهم بالقتل والاسر ورجع نور الدين إلى دلوكا ففتحها وتأخر فتح تل باشر منها إلى أن ملك نور الدين دمشق واستأمنوا إليه وبعث إليهم حسان المنبجى فتسلمها منهم وحصنها وذلك في سنة تسع وأربعين وخمسمائة والله سبحانه وتعالى أعلم * (استيلاء نور الدين على دمشق) * كان الافرنج سنة ثمان وأربعين قد ملكوا عسقلان من يد العلوية خلفاء مصر واعترضت دمشق بين نور الدين وبينهما فلم يجد سبيلا إلى المدافعة عنها واستطال الافرنج على دمشق بعد ملكهم عسقلان ووضعوا عليها الجزية واشترطوا عليهم تخيير الاسرى الذين بأيديهم في الرجوع إلى وطنهم وكان بها يومئذ مجير الدين انز بن محمد ابن بورى بن طغركين الاتابك واهن القوى مستضعف القوة فخشى نور الدين عليها من الافرنج وربما ضايق مجير الدين بعض الملوك من جيرانه فيفزع إلى الافرنج فيغلبون عليه وأمعن النظر في ذلك وبدأ أمره بمواصلة مجير الدين وملاطفته حتى استحكمت المودة بينهما حتى صار يداخله في أهل دولته ويرميهم عنده أنهم كاتبوه فيوقع الآخر بهم حتى هدم أركان دولته ولم يبق من أمرائه الا الخادم عطاء بن حفاظ وكان هو القائم بدولته فغص به نور الدين وحال بينه وبين دمشق فأغرى به صاحبه مجير الدين حتى نكبه وقتله وخلت دمشق من الحامية فسار حينئذ نور الدين مجاهرا بعداوة مجير
الدولة ومتجنيا عليه واستنجد بالافرنج على أن يعطيهم الاموال ويسلم لهم بعلبك(5/241)
فجمعوا واحتشدوا وفى خلال ذلك عمد نور الدين إلى دمشق سنة سبع وأربعين وكاتب جماعة من احداثها ووعدهم من أنفسهم فلما وصل ثاروا بمجير الدين ولجأ إلى القلعة وملك نور الدين المدينة وحاصره بالقلعة وبذل له اقطاعا منها مدينة حمص فسار إليها مجبر الدين وملك نور الدين القلعة ثم عوضه عن حمص ببالس فلم يرضها ولحق ببغداد وابتنى بها دارا وأقام بها إلى أن توفى والله سبحانه وتعالى أعلم * (استيلاء نور الدين على تل باشر وحصاره قلعة حارم) * ولما فرغ نور الدين من أمر دمشق بعث إليه الافرنج الذين في تل باشر في شمالى حلب واستأمنوا إليه ومكنوه من حصنهم فتسلمه حسان المنبجى من كبراء أمراء نور الدين سنة تسع وأربعين ثم سار سنة احدى وخمسين إلى قلعة بهرام بالقرب من انطاكية وهى لسمند أمير انطاكية من الافرنج فحاصرها واجتمع الافرنج لمدافعته ثم خاموا عن لقائه وصالحوه على نصف أعمال حارم فقبل صلحهم ورحل عنها والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق بمنه وكرمه * (استيلاء نور الدين على شيزر) * شيزر هذه حصن قريب من حماة على نصف مرحلة منها على جبل منيع عال لا يسلك إليه الا من طريق واحدة وكانت لبنى منقذ الكنانيين يتوارثون ذلك من أيام صالح ابن مرداس صاحب حلب من أعوام عشرين وأربعمائة إلى أن انتهى ملكه إلى المرهف نصر بن على بن نصير بن منقذ بعد أبيه أبى الحسن على فلما حضره الموت سنة تسعين وأربعمائة عهد لاخيه أبى سلمة بن مرشد وكان عالما بالقراآت والادب وولى مرشد أخاه الاصغر سلطان بن على وكان بينهما من الاتفاق والملاءمة ما لم يكن بين اثنين ونشأ لمرشد بنون كثيرون وفي السودد منهم عز الدولة أبو الحسن على ومؤيد
الدولة أسامة وولده على وتعدد ولده ونافسوا بنى عمهم وفشت بينهم السعايات فتماسكوا لمكان مرشد والتئامه بأخيه فلما مات مرشد سنة احدى وثلاثين وخمسمائة تنكر اخوه سلطان لولده وأخرجهم من شيزر فتفرقوا وقصد بعضهم نور الدين فامتعض لهم وكان مشتغلا عنهم بالافرنج ثم توفى سلطان وقام بأمر شيزر أولاده وراسلوا الافرنج فحنق نور الدين عليهم لذلك ثم وقعت الزلازل بالشأم وخرب أكثر مدنه مثل حماة وحمص وكفر طاب والمعرة وافامية وحصن الاكراد وعرقة ولاذقية وطرابلس وانطاكية هذه سقطت جميعها وتهدمت سنة ثنتين وخمسين وما سقط بعضه وتهدمت أسواره فأكثر بلاد الشأم وخشى نور الدين عليها من الافرنج فوقف بعساكره(5/242)
في أطراف البلاد حتى رم ما تثلم من أسوارها وكان بنو منقذ أمراء شيزر قد اجتمعوا عند صاحبها منهم في دعوة فأصابتهم الزلزلة مجتمعين فسقطت عليهم القلعة ولم ينج منهم أحد وكان بالقرب منها بعض أمراء نور الدين فبادر وصعد إليها وملكها منه نور الدين ورم ما تثلم من أسوارها وجدد بناءها فعادت كما كانت هكذا قال ابن الاثير وقال ابن خلكان وفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة استولى بنو منقذ على شيزر من يد الروم والذى تولى فتحها منهم على بن منقذ بن نصر بن سعد وكتب إلى بغداد بشرح الحال ما نصه كتابي من حصن شيزر حماه الله وقد رزقني الله من الاستيلاء على هذا المعقل العظيم ما لم يتأت لمخلوق في هذا الزمان وإذا عرف الامر على حقيقته علم أنى هزبر هذه الامة وسليمان الجن والمردة وأنا أفرق بين المرء وزوجه وأستنزل القمر من محله أنا أبو النجم وشعرى شعرى نظرت إلى هذا الحصن فرأيت أمرا يذهل الالباب يسع ثلاثة آلاف رجل بالاهل والمال وتمسكه خمس نسوة فعمدت إلى تل بينه وبين حصن الروم يعرف بالحواص ويسمى هذا التل بالحصن فعمرته حصنا وجمعت فيه أهلى وعشيرتي ونفرت نفرة على حصن الحواص فأخذته بالسيف من الروم ومع ذلك فلما أخذت من به من
الروم أحسنت إليهم وأكرمتهم ومزجتهم بأهلى وعشيرتي وخلطت خنازيرهم بغنمي ونواقيسهم بصوت الاذان ورأى أهل شيزر فعلى ذلك فأنسوا بى ووصل إلي منهم قريب من نصفهم فبالغت في اكرامهم ووصل إليهم مسلم بن قريش العقيلى فقتل من أهل شيزر نحو عشرين رجلا فلما انصرف مسلم عنهم سلموا إلي الحصن انتهى كتاب على بن منقذ وبين هذا الذى ذكره ابن خلكان والذى ذكره ابن الاثير نحو خمسين سنة وما ذكره ابن الاثير أولى لان الافرنج لم يملكوا من الشأم شيأ في أوائل المائة الخامسة والله سبحانه وتعالى أعلم * (استيلاء نور الدين على بعلبك) * كانت بعلبك في يد الضحاك البقاعي نسبة إلى بقاعة والآن عليها صاحب دمشق فلما ملك نور الدين دمشق امتنع ضحاك ببعلبك وشغل نور الدين عنه بالافرنج فلما كانت سنة ثنتين وخمسين استنزله نور الدين عنها وملكها والله أعلم * (استيلاء أخى نور الدين على حران ثم ارتجاعها) * كان نور الدين سنة أربع وخمسين وخمسمائة بحلب ومعه أخوه الاصغر أمير أميران فمرض نور الدين بالقلعة واشتد مرضه فجمع أخوه وحاصر قلعة حلب وكان شيركوه ابن شادى أكبر أمرائه بحمص فلما بلغه الازحاف سار إلى دمشق ليملكها وعليها(5/243)
أخوه نجم الدين أيوب فنكر عليه وأمره بالمسير إلى حلب حتى يتبين حياة نور الدين من موته فأغذ السير الى حلب وصعد القلعة وأظهر نور الدين للناس من سطح مشرف فافترقوا عن أخيه أمير أميران فسار إلى حران فملكها فلما أفاق نور الدين سلمها إلى زين الدين على كچك نائب أخيه قطب الدين بالموصل وسار إلى الرقة فحاصرها والله تعالى ولى التوفيق * (خبر سليمان شاه وحبسه بالموصل ثم مسيره منها إلى السلطنة بهمذان) *
كان الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملك شاه عند عمه السلطان سنجر بخراسان وقد عهد له بملكه وخطب باسمه على منابر خراسان فلما حصل سنجر في أسر العدو سنة ثمان وأربعين وخمسمائة كما مر في أخبار دولتهم واجتمعت العساكر على سليمان شاه هذا وقدموه فلم يطق مقاومة العدو فمضى إلى خوارزم شاه وزوجه ابنة أخيه ثم بلغه عنه ما ارتاب له فأخرجه من خوارزم وقصد اصبهان فمنعه الشحنة من الدخول فقصد قاشان فبعث إليه محمد شاه ابن أخيه محمود عسكرا دافعوه عنها فسار إلى خراسان فمنعه ملك شاه منها فقصد النجف ونزل وأرسل للخليفة المستنصر وبعث أهله وولده رهنا بالطاعة واستأذن في دخول بغداد فأكرمهم الخليفة وأذن له وخرج ابن الوزير ابن هبيرة لتلقيه في الموكب وفيه قاضى القضاة والتقيا ودخل بغداد وخلع عليه آخر سنة خمسين وبعد أيام أحضر بالقصر واستخلف بحضرة قاضى القضاة والاعيان وخطب له ببغداد ولقب ألقاب أبيه وأمر بثلاثة آلاف فارس وسار نحو بلاد الجبل في ربيع سنة احدى وخمسين ونزل الخليفة حلوان واستنفر له ابن أخيه ملك شاه صاحب همذان فقدم إليه في ألفى فارس وجعله سليمان شاه ولى عهده وأمدهما الخليفة بالمال والسلاح ولحق بهما ابلدكز صاحب الرى فكثرت جموعهم وبعث السلطان محمد إلى قطب الدين مودود صاحب الموصل وزين الدين كچك على نائبه في المظاهرة والانجاد وسار إلى لقاء سليمان شاه فانهزم وتمزق عسكره وفارقه ابلدكز فذهب إلى بغداد على طريق شهرزور وبلغ خبر الهزيمة إلى زين الدين على كچك فخرج في جماعة من عسكر الموصل وقعد له بشهرزور ومعه الامير ايراق حتى مر بهم سليمان شاه فقبض عليه زين الدين وحمله إلى الموصل فحبسه بها مكرما وطير إلى السلطان محمود بالخبر فلما هلك السلطان محمود بن محمد سنة خمس وخمسين أرسل أكابر الامراء من همذان إلى قطب الدين اتابك وزيره وزيرا له وتعاهدوا على ذلك وجهزه قطب الدين جهاز الملك وسار معه زين الدين على كچك في عسكر الموصل إلى همذان
فلما قاربوا بلاد الجبل تتابعت العساكر والامداد للقائهم ارسالا واجتمعوا على سليمان(5/244)
شاه وجروا معه على مذاهب الدولة فخشيهم زين الدين على نفسه وفارقهم إلى الموصل وسار سليمان شاه إلى همذان فكان من أمرهم ما تقدم في أخبار الدولة السلجوقية * (حصار قلعة حارم وانهزام نور الدين امام الافرنج ثم هزيمتهم وفتحها) * ثم جمع نور الدين محمود عساكر حلب وحاصر الافرنج بقلعة حارم وجمعوا لمدافعته ثم خاموا عن لقائه ولم يناجزوه وطال عليه أمرها فعاد عنها ثم جمع عساكره وسار سنة ثمان وخمسين معتزما على غزو طرابلس وانتهى إلى البقيعة تحت حصن الاكراد فكبسهم الافرنج هنالك وأثخنوا فيهم ونجا نور الدين في الفل إلى بحيرة مرس قريبا من حمص ولحق به المنهزمون وبعث إلى دمشق وحلب في الاموال والخيام والظهر وأزاح علل العسكر وعلم الافرنج بمكان نور الدين من حمص فنكبوا عن قصدها وسألوه الصلح فامتنع فأنزلوا حاميتهم بحصن الاكراد ورجعوا وفى هذه الغزاة عزل نور الدين رجلا يعرف بابن نصرى تنصح له بكثرة خرجه بصلاته وصدقاته على الفقراء والفقهاء والصوفية والقراء إلى مصارف الجهاد فغضب وقال والله لا أرجو النصر الا بأولئك فانهم يقاتلون عنى بسهام الدعاء في الليل وكيف أصرفها عنهم وهى من حقوقهم في بيت المال ذلك شئ لا يحل لى ثم أخذ في الاستعداد للاخذ بثاره من الافرنج وسار بعضهم إلى ملك مصر فأراد ان يخالفهم إلى بلادهم فبعث إلى أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل وإلى فخر الدين قرا ارسلان صاحب كيفا وإلى نجم الدين والى صاحب ماردين بالنجدة فسار من بينهم أخوه قطب الدين وفي مقدمته زين الدين على كچك صاحب جيشه ثم تبعه صاحب كيفا وبعث نجم الدين عسكره فلما توافت الامداد سار نور الدين نحو حارم سنة تسع وخمسين فحاصرها ونصب عليها المجانيق واجتمع من بقى بالساحل من ملوك الافرنج ومقدمهم البرنس سمند صاحب انطاكية والقمص صاحب طرابلس
وابن جوسكين واستنفر لهم أمم النصرانية وقصدوه فأفرج عن حارم إلى ارتاج ثم خاموا عن لقائه وعادوا إلى حصن حارم وسار في اتباعهم وناوشهم الحرب فحملوا على عساكر حلب وصاحب كيفا في ميمنة المسلمين فهزموها ومروا في اتباعهم وحمل زين الدين في عساكر الموصل على الصف فلقيه الرجل فأثخن فيهم واستلحمهم وعاد الافرنج من اتباع الميمنة فسقط في أيديهم ودارت رحا الحرب على الافرنج فانهزموا ورجع المسلمون من القتل إلى الاسر فأسروا منهم أمما فيهم سمند صاحب انطاكية والقمص صاحب طرابلس وبعث السرايا في تلك الاعمال بقصد انطاكية لخلوها من الحامية فأبى وفال أخشى أن يسلمها أصحابها لملك الروم فان سمند ابن أخته ومجاورته أحق إلي من مجاورة ملك الروم ثم عاج على قلعة حارم فحاصرها وافتتحها ورجع مظفرا والله(5/245)
يؤيد بنصره من يشاء من عباده * (فتح نور الدين قلعة بانياس) * ولما افتتح نور الدين قلعة حارم أذن لعسكر الموصل وحصن كيفا بالانطلاق إلى بلادهم وعزم على منازلة بانياس وكانت بيد الافرنج من سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ثم ورى عنها بقصد طبرية فصرف الافرنج همتهم إلى حمايتها وخالف هو إلى بانياس لقلة حاميتها فحاصرها وضيق عليها في ذى الحجة من سنة تسع وخمسين وكان معه أخوه نصير الدين أمير أميران فأصيب بسهم في احدى عينيه وأخذ الافرنج في الجمع لمدافعته فلم يستكملوا أمرهم حتى فتحها وشحن قلعتها بالمقاتلة والسلاح وخافه الافرنج فشاطروه في أعمال طبرية وضرب عليهم الجزية في الباقي ووصل الخبر بفتح حارم وبانياس إلى ملوكهم الذين ساروا إلى مصر فسبقهم بالفتح وعاد إلى دمشق ثم سار سنة احدى وستين متجردا إلى حصن المنيطرة فنازلهم على غرة وملكه عنوة ولم يجتمع الافرنج الا وقد ملكه فافترقوا ويئسوا من ارتجاعه والله تعالى أعلم
[ وفادة شاور وزير العاضد بمصر على نور الدين العادل صريخا وانجاده بالعسكر مع أسد الدين شيركوه ] كانت دولة العلويين بمصر قد أخذت في التلاشى وصارت إلى استبداد وزرائها على خلفائها وكان من آخر المسلمين بها شاور السعدى استعمله الصالح بن زربك على قوص وندم فلما هلك الصالح بن زربك وكان مستبدا على الدولة قام ابنه زربك مقامه فعزل شاور عن قوص فم يرض بعزله وجمع وزحف إلى القاهرة فملكها وقتل زربك واستبد على العاضد ولقبه أمير الجيوش وكانت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ثم نازعه الضرغام وكان صاحب الباب ومقدم البرقية فثار عليه لسبعة أشهر من وزارتا وأخرجه من القاهرة فلحق بالشأم وقصد نور الدين محمود بن زنكى مستنجدا به على أن يكون له ثلث الجباية بمصر ويقيم عسكر نور الدين بها مددا له فاختار من أمرائه لذلك أسد الدين شيركوه بن شادى الكردى وكان بحمص وجهزه بالعساكر فسار لذلك في جمادى سنة تسع وخمسين واتبعه نور الدين إلى أطراف بلاد الافرنج فشغلهم عن التعرض للعساكر وسار أسد الدين مع شاور وسار معه صلاح الدين ابن أخيه نجم الدين أيوب وانتهوا إلى بلبيس فلقيهم ناصر الدين أخو الضرغام في عساكر مصر فانهزم ورجع إلى القاهرة واتبعه أسد الدين فقتله عند مشهد السيدة نفيسة رضى الله تعالى عنها وقتل أخوه وعاد شاور إلى وزارته وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة ينتظر(5/246)
الوفاء بالعهد من شاور بما عاهد عليه نور الدين فنكث شاور العهد وبعث إليه بالرجوع إلى بلده فلج في طلب ضريبته ورحل إلى بلبيس والبلاد الشرقية فاستولى عليها واستمد شاور عليه بالافرنج فبادروا إلى ذلك لما كان في نفوسهم من تخوف غائلته وطمعوا في ملك مصر وسار نور الدين من دمشق ليأخذ بحجرتهم على المسير فلم يثنهم ذلك وتركوا ببلادهم حامية فلما قاربوا مصر فارقها أسد الدين واجتمع الافرنج وعساكر
مصر فحاصروه ثلاثة أشهر يغاديهم القتال ويراوحهم وجاءهم الخبر بهزيمة الافرنج على حارم وما هيأ الله لنور الدين في ذلك فراسلوا أسد الدين شيركوه في الصلح وطووا عنه الخبر فصالحهم وخرج ولحق بالشأم ووضع له الافرنج المراصد بالطريق فعدل عنها ثم أعاده نور الدين إلى مصر سنة ثنتين وستين فسار بالعساكر في ربيع ونزل اطفيح وعبر النيل وجاء إلى القاهرة من جانبها الغربي ونزل الجيزة في عدوة النيل وحاصرها خمسين يوما واستمد شاور بالافرنج وعبر إلى أسد الدين فتأخر إلى الصعيد ولقيهم منتصف السنة فهزمهم وسار إلى ثغر الاسكندرية فملكها وولى عليها صلاح الدين ابن أخيه ورجع فدوخ بلاد الصعيد وسارت عساكر مصر والافرنج إلى الاسكندرية وحاصروا بها صلاح الدين فسار إليه أسد الدين فتلقوه بطلب الصلح فتم ذلك بينهم وعاد إلى الشأم وترك لهم الاسكندرية وكاتب شجاع بن شاور نور الدين بالطاعة عنه وعن طائفة من الامراء ثم استطال الافرنج على أهل مصر وفرضوا عليهم الجزية وأنزلوا بالقاهرة الشحنة وتسلموا أبوابها واستدعوا ملكهم بالشأم إلى الاستيلاء عليها فبادر نور الدين وأعاد أسد الدين في العساكر إليها في ربيع سنة أربع وستين فملكها وقتل شاور وطرد الافرنج عنها وقدمه العاضد لوزارته والاستبداد عليه كما كان من قبله ثم هلك أسد الدين وقام صلاح الدين ابن أخيه مكانه وهو مع ذلك في طاعة نور الدين محمود وهلك العاضد فكتب نور الدين إلى صلاح الدين يأمره باقامة الدعوة العباسية بمصر والخطبة للمستضئ ويقال انه كتب له بذلك في حياة العاضد وبين يدى وفاته وهلك لخمسين يوما أو نحوها فخطب للمستضئ العباسي وانقرضت الدولة العلوية بمصر وذلك سنة سبع وستين كما نأتى على شرحه وتفصيله في دولة بني أيوب ان شاء الله تعالى ووقعت خلال ذلك فتنة بين نور الدين محمود وبين صاحب الروم قليج ارسلان بن مسعود بن قليج ارسلان سنة ستين وخمسمائة وكتب الصالح بن زربك إلى قليج ارسلان ينهاه عن الفتنة الله تعالى ولى التوفيق
* (فتح نور الدين صافيتا وعريمة ومنبج وجعبر) * ثم جمع نور الدين عساكره سنة ثنتين وستين واستدعى أخاه قطب الدين من الموصل فقدم(5/247)
عليه بحمص ودخلوا جميعا بلاد الافرنج ومروا بحصن الاكراد واكتسحوا نواحيه ثم حاصروا عرقة وخربوا جكة وفتحوا العريمة وصافيتا وبعثوا سراياهم فعاثت في البلاد ورجعوا إلى حمص فأقاموا بها إلى رمضان وانتقلوا إلى بانياس وقصدوا حصن حموص فهرب عنه الافرنج فهدم نور الدين سوره وأحرقه واعتزم على بيروت فرجع عنه أخوه قطب الدين إلى الموصل وأعطاه نور الدين من عمله الرقة على الفرات ثم انتقض بمدينة منبج غازى بن حسان وبعث إليها العساكر فملكها عنوة وأقطعها أخاه قطب الدين نيال بن حسان وبقيت بيده إلى ان أخذها منه صلاح الدين بن أيوب ثم قبض بنو كلاب على شهاب الدين ملك بن على بن مالك العقيلى صاحب قلعة جعبر وكانت تسمى دوس ثم سميت باسم جعبر بانيها وكان السلطان ملك شاه أعطاها لجده عندما ملك حلب كما مر في أخباره ولم تزل بيده ويد عقبه إلى أن هلك هذا فخرج يتصيد سنة ثلاث وستين وقد أرصد له بنو كلاب فأسروه وحملوه إلى نور الدين محمود صاحب دمشق فاعتقله مكرما وحاوله في النزول عن جعبر بالترغيب تارة وبالترهيب أخرى فأبى وبعث بالعساكر مع الامير فخر الدين محمود بن أبى على الزعفراني وحاصرها مدة فامتنعت فبعث عسكرا آخر وقدم على الجميع الامير فخر الدين أبا بكر ابن الداية رضيعه وأكبر أمرائه فحاصرها فامتنعت ورجع إلى ملاطفة صاحبها فأجاب وعوضه نور الدين عنها سروج وأعمالها وساحة حلب ومراغة وعشرين ألف دينار وملك قلعة جعبر سنة أربع وستين وانقرض أمر بني مالك منها والبقاء لله وحده * (رحلة زين الدين نائب الموصل إلى اربل واستبداد قطب الدين بملكه) * قد كان تقدم لنا أن نصير الدين جقرى كان نائب الاتابك زنكى بالموصل وقتل البارسلان
ابن السلطان محمود آخر سنة تسع وثلاثين وخمسمائة طمعا في الملك لغيبة الاتابك فرجع من غيبته في حصار البيرة وقدم مكانه زين الدين على بن كمستكين بقلعة الموصل فلم يزل بها بقية أيام الاتابك وأيام ابنه غازى وابنه الآخر قطب الدين سنة ثمان وخمسين على وزيرهم جمال الدين محمد بن على بن منصور الاصبهاني فاعتقله وهلك لسنة من الاعتقال وحمل إلى المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم فدفن بها في رباط هناك أعده لذلك وكانت وفاته أيام سيف الدين غازى بن قطب الدين فولى مكانه جلال الدين أبا الحسن ابنه وكان زين الدين على بن كمستكين ويعرف بكچك قد استبد في دولة قطب الدين واستغل بحكم الدولة وصارت بيده أكثر البلاد اقطاع مثل اربل وشهرزور والقلاع التى في تلك البلاد الهكارية منها العمادية وغيرها والحميدية وتكريت وسنجار وقد كان نقل أهله وولده وذخائره إلى اربل وأقام بمحل(5/248)
نيابته من قلعة الموصل فأصابه الكبر وطرقه العمى والصمم فعزم على مفارقة الموصل إلى كسر بيته باربل فسلم جميع البلاد التى بيده إلى قطب الدين ما عدا اربل وسار إليها سنة أربع وستين وأقام قطب الدين مكانه فخر الدين عبد المسيح خصيا من موالى جده الاتابك زنكى وحكمه في دولته فنزل بالقلعة وعمرها وكان الخراب قد لحقها باهمال زين الدين أمر البناء والله تعالى أعلم * (حصار نور الدين قلعة الكرك) * ثم بعث صلاح الدين سنة خمس وستين إلى نور الدين محمود يطلب انفاذ أبيه نجم الدين أيوب إليه فبعثه في عسكر واجتمع إليه خلق من التجار ومن أصحاب صلاح الدين وخشى عليهم نور الدين في طريقهم من الافرنج فسارت العساكر إلى الكرك وهو حصن اختطه من الافرنج البرلس ارقاط واختط له قلعة فحاصره نور الدين وجمع له الافرنج فرحل إلى مقدمتهم قبل أن يتلاحقوا فخاموا عن لقائه ونكصوا على أعقابهم
وسار في بلادهم فاكتسحها وخرب ما مر به من القلاع وانتهى إلى بلاد المسلمين حتى نزل حوشب وبعث نجم الدين من هنالك إلى مصر فوصلها منتصف خمس وستين وركب العاضد للقائه ولما كان نور الدين بعشيرا سار للقاء شهاب الدين محمد بن الياس بن أبى الغازى بن ارتق صاحب قلعة أكبره فلما انتهى إلى نواحى بعلبك لقى سرية من الافرنج فقاتلهم وهزمهم واستلحمهم وجاء بالاسرى ورؤس القتلى إلى نور الدين وعرف الرؤس مقدم الاستبان صاحب حصن الاكراد وكان شحى في قلوب المسلمين وبلغه وهو بهذا المنزل خبر الزلازل التى عمت البلاد بالشأم والموصل والجزيرة والعراق وخربت أكثر البلاد بعمله فسار إليها وشغل في اصلاحها من واحدة إلى أخرى حتى أكملها بمبلغ جهده واشتغل الافرنج بعمارة بلادهم أيضا خوفا من غائلته والله تعالى أعلم * (وفاة قطب الدين صاحب الموصل وملك ابنه سيف الدين غازى) * ثم توفى قطب الدين مودود بن الاتابك زنكى صاحب الموصل في ذى الحجة سنة خمس وستين لاحدى وعشرين سنة ونصف من ملكه وعهد لابنه الاكبر عماد الدين بالملك وكان القائم بدولته فخر الدين عبد المسيح وكان شديد الطواعية لنور الدين محمود ويعلم ميله عن عماد الدين زنكى بن مودود فعدل عنه إلى أخيه سيف الدين غازى بن مودود بموافقة أمه خاتون بنت حسام الدين تمرتاش بن أبى الغازى ولحق عماد الدين بعمه نور الدين منتصرا به وقام فخر الدين عبد المسيح بتدبير الدولة بالموصل واستبد بها والله(5/249)
تعالى أعلم * (استيلاء نور الدين على الموصل واقراره ابن أخيه سيف الدين عليها) * ولما ولى سيف الدين غازى بالموصل بعد أبيه قطب الدين واستبد عليه فخر الدين عبد المسيح كما تقدم وبلغ الخبر إلى نور الدين باستبداده أنف من ذلك وسار في خف من
العسكر وعبر الفرات عند جعفر أول سنة ست وستين وقصد الرقة فملكها ثم الخابور فملك جميعه ثم نصيبين وكلها من أعمال الموصل وجاءه هناك نور الدين محمد بن قرا ارسلان ابن داود بن سقمان صاحب كيفا مددا ثم سار إلى سنجار فحاصرها وملكها وسلمها لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين ثم جاءته كتب الامراء بالموصل فاستحثوه فأغذ السير إلى مدينة كلك ثم عبر الدجلة ونزل شرقي الموصل على حصن نينوى ودجلة بينه وبين الموصل وسقطت ذلك اليوم ثلمة كبيرة من سور الموصل وكان سيف الدين غازى قد بعث أخاه عز الدين مسعود إلى الاتابك شمس الدين صاحب همذان وبلاد الجبل واذربيجان واصبهان والرى يستنجده على عمه نور الدين فأرسل ابلدكز إلى نور الدين ينهاه عن الموصل فأساء جوابه وتوعده وأقام يحاصر الموصل ثم اجتمع أمراؤها على طاعة نور الدين ولما استحث فخر الدين عبد المسيح استأمن إلى نور الدين على أن يبقى سيف الدين ابن أخيه على ملكها فأجابه على أن يخرج هو عنه ويكون معه بالشأم وتم ذلك بينهما وملك نور الدين منتصف جمادى الاولى من سنة ست وستين ودخل المدينة واستناب بالقلعة خصيا اسمه كمستكين ولقبه سعد الدين فأقر سيف الدين ابن أخيه على ملكه وخلع عليه خلعة وردت عليه من الخليفة المستضئ وهو يحاصرها وأمر ببناء جامع بالموصل فبنى وشهر باسمه وأمر سيف الدين أن يشاور كمستكين في جميع أموره وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين وعاد إلى الشأم والله تعالى أعلم * (الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين) * ثم سار صلاح الدين في صفر سنة تسع وستين من مصر إلى بلاد الافرنج غازيا ونازل حصن الشويك من أعمال واستأمن إليه أهله على أن يمهلهم عشرة أيام فأجابهم وسمع نور الدين بذلك فسار من دمشق غازيا أيضا بلاد الافرنج من جانب آخر وتنصح لصلاح الدين أصحابه بأنك ان ظاهرته على الافرنج اضمحل أمرهم فاستطال عليك نور الدين ولا تقدر على الامتناع منه فترك الشريك وكر راجعا إلى
مصر وكتب لنور الدين يعتذر له بأنه بلغه عن بعض سفلة العلويين بمصر أنهم معتزمون على الوثوب فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك واعتزم على عزله عن مصر فاستشار صلاح(5/250)
الدين أباه وخاله شهاب الدين الحارمى وقرابتهم فأشار عليه تقى الدين عمر بن أخيه بالامتناع والعصيان فنكر عليه نجم الدين أبوه وقال له ليس منا من يقوم بعصيان نور الدين لو حضر أو بعث وأشار عليه بأن يكاتبه بالطاعة وأنه ان عزم على أخذ البلاد منك فسلمها ويصل بنفسه وافترق المجلس فخلا به أبوه وقال مالك توجد بهذا الكلام السبيل للامراء في استطالتهم عليك ولو فعلتم ما فعلتم كنت أول الممتنعين عليه ولكن ملاطفته أولى وكتب صلاح الدين إلى نور الدين بما أشار به أبوه من الملاطفة فتركهم نور الدين وأعرض عن قصدهم ثم توفى واشتغل صلاح الدين بملك البلاد ثم جمع نور الدين العساكر وسار لغزو الافرنج بسبب ما أخذوه لاهل البلاد من مراكب التجار ونكثوا فيها العهد مغالطين بأنها تكسرت فلم يقبل مغالطتهم وسار إليهم وبث السرايا في بلادهم نحو انطاكية وطرابلس وحاصر هو حصن عرقة وخرب ربضه وأرسل عسكرا إلى حصن صافيتا وعريمة ففتحهما عنوة وخربهما ثم سار من عرقة إلى طرابلس واكتسح كل ما مر عليه حتى رجع الافرنج إلى الانصاف من أنفسهم وردوا ما أخذوا من المكرمين الاعزين وسألوا تجديد الهدنة فأجابهم بعد أن خربت بلادهم وقتلت رجالهم وغنمت أموالهم ثم اتخذ نور الدين في هذه السنة الحمام بالشأم تطيرا إلى أو عارها من لاتساع بلاده ووصول الاخبار بسرعة فبادر إلى القيام بواجبه وأجرى الجرايات على المرتبين لحفظها لتصل الكتب في أجنحتها ثم أغار الافرنج على حوران من أعمال دمشق وكان نور الدين بمنزل الكسوة فرحل إليهم ورحلوا أمامه إلى السواد وتبعهم المسلمون ونالوا منهم ونزل نور الدين على عشيرا وبعث منها سرية إلى أعمال طبرية فاكتسحها وسار الافرنج لمدافعتهم فرجعوا عنها
واتبعهم الافرنج فعبروا النهر وطمعوا في استنقاذ غنائمهم فقاتلهم المسلمون دونها أشد قتال إلى أن استنقذت وتحاجزوا ورجع الافرنج خائبين والله تعالى ينصر المسلمين على الكافرين بمنه وكرمه * (واقعة ابن ليون ملك الارمن بالروم) * كان مليح بن ليون صاحب دروب حلب أطاع نور الدين محمود بن زنكى وأمره على الحمالة وأقطعه ببلاد الشأم وكان يسير في خدمته ويشهد حروبه مع الافرنج أهل ملته وكان الارمني أيضا يستظهر به على أعدائه وكانت أذنة والمصيصة وطرسوس مجاورة لابن ليون وهى بيد ملك الروم صاحب القسطنطينية فتغلب عليها ابن ليون وملكها وبعث صاحب القسطنطينية منتصف سنة ثمان وستين وخمسمائة جيشا كثيفا مع عظيم من بطارقته فلقيه ابن ليون بعد أن استنجد نور الدين فأنجده بالعساكر وقاتلهم(5/251)
فهزمهم وبعث بغنائمهم وأسراهم إلى نور الدين وقويت شوكة ابن ليون ويئس الروم من تلك البلاد والله تعالى أعلم * (مسير نور الدين إلى بلاد الروم) * كان ذو النون بن محمد بن الدانشمند صاحب ملطية وسيواس واخصرى وقيسارية ملكها بعد عمه باغى ارسلان وأخيه ابراهيم بن محمد فلم يزل قليج ارسلان بن محمد بن قليج ارسلان يتخيف بلاده إلى أن استولى عليها ولحق ذو النون بنور الدين صريخا وأرسل إلى قليج ارسلان بالشفاعة في رد بلاده فلم يشفعه فسار إليه وملك من بلاده بكسور ومهنسا ومرعش ومرزبان وما بينهما في ذى القعدة سنة ثمان وستين ثم بعث عسكرا إلى سيواس فملكوها ثم أرسل قليج ارسلان إلى نور الدين يستعطفه وقد كان يجيز امامه إلى قاصية بلاده فأجابه نور الدين إلى الصلح على أن ينجده بعسكر الافرنج ويبقى سيواس بيد ذى النون وعسكر نور الدين الذى معه فيها ورجع نور الدين إلى بلاده وبقيت
سيواس بيد ذى النون حتى مات نور الدين وعاد قليج ارسلان ثم وصل رسول نور الدين من بغداد كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله الشهرزورى ومعه منشور من الخليفة المستضئ لنور الدين بالموصل والجزيرة واربل وخلاط والشأم وبلاد الروم وديار مصر والله سبحانه وتعالى أعلم * (مسير صلاح الدين إلى الكرك ورجوعه) * ولما كانت الوحشة بين نور الدين وصلاح الدين كما قدمناه واعتزم نور الدين على عزله عن مصر واستعطفه صلاح الدين كان فيما تقرر بينهما أنهما يجتمعان على الكرك وأيهما سبق انتظر صاحبه فسار صلاح الدين من مصر في شوال سنة ثمان وستين وسبق إلى الكرك وحاصره وخرج نور الدين بعد أن بلغه مسير صلاح الدين من مصر وأزاح علل العساكر وانتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك فخافه صلاح الدين على نفسه وخشى أن يعزله عند لقائه وكان استخلف أباه نجم الدين أيوب على مصر فبلغه أنه طرقه مرض شديد فوجد فيه عذر النور الدين وكر راجعا إلى مصر وبعث الفقيه عيسى بذلك العذر وان حفظه مصر أهم عليه فلما وصل مصر وجد أباه قد توفى من سقطة سقطها عن مركوبه هزه المرح فرماه وحمل إلى بيته وقيذا ومات لايام قريبة آخر ذى الحجة من السنة ورجع نور الدين إلى دمشق وكان قد بعث رسوله كمال الدين الشهرزورى القاضى ببلاده وصاحب الوقوف والديوان لطلب التقليد للبلاد التى بيده مثل مصر والشأم والجزيرة والموصل والتى دخلت في طاعته كديار بكر وخلاط(5/252)
وبلاد الروم وأن يعادله ما كان لابيه زنكى من الاقطاع بالعراق وهى صربفين ودرب هرون وأن يسوغ قطعة أرض على شاطئ دجلة بظاهر الموصل يبنى فيها مدرسة للشافعية فأسعف بذلك كله * (وفاة نور الدين محمود وولاية ابنه اسمعيل الصالح) *
ثم توفى نور الدين محمود بن الاتابك زنكى حادى عشر شوال سنة تسع وستين وخمسمائة لسبع عشرة سنة من ولايته وكان قد شرع في التجهز لاخذ مصر من صلاح الدين ابن أيوب واستنفر سيف الدين ابن أخيه في العساكر موريا بغزو الافرنج وكان قد انسع ملكه وخطب له بالحرمين الشريفين وباليمن لما ملكها سيف الدولة بن أيوب وكان معتنيا بمصالح المسلمين مواظبا على الصلاة والجهاد وكان عارفا بمذهب أبى حنيفة ومتحريا للعدل ومتجافيا عن أخذ المكوس في جميع أعماله وهو الذى حصن قلاع الشأم وبنى الاسوار على مدنها مثل دمشق وحمص وحماة وشيزر وبعلبك وحلب وبنى مدارس كثيرة للحنفية والشافعية وبنى الجامع النوري بالموصل والمارستانات والخانات في الطريق والخوانق للصوفية في البلاد واستكثر من الاوقاف عليها يقال بلغ ريع أوقافه في كل شهر تسعة آلاف دينار صوري وكان يكرم العلماء وأهل الدين ويعظمهم ويتمثل لهم قائما ويؤنسهم في المجالسة ولا يرد لهم قولا وكان متواضعا مهيبا وقورا ولما توفى اجتمع الامراء والمقدمون وأهل الدولة بدمشق وبايعوا ابنه الملك الصالح اسمعيل وهو ابن احدى عشرة سنة وحلفوا له وأطاعه الناس بالشأم وصلاح الدين بمصر وخطب له هنالك وضرب السكة باسمه وقام بكفالته وتدبير دولته الامير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم واشار عليه القاضى كمال الدين الشهرزورى بأن يرجعوا في جميع أمورهم إلى صلاح الدين لئلا ينبذ طاعتهم فأعرضوا عن ذلك والله تعالى ولى التوفيق * (استيلاء سيف الدين غازى على بلاد الجزيرة) * قد كنا قدمنا أن نور الدين استولى على بلاد الجزيرة وأقر سيف الدين ابن أخيه قطب الدين على الموصل واحتمل معه فخر الدين عبد المسيح الذى ولى سيف الدين واستبد عليه بأمره وولى على قلعة الموصل سعد الدين كمستكين ولما استنفرهم نور الدين بين يدى موته سار إليه سيف الدين غازى وكمستكين الخادم في العساكر وبلغهم في طريقهم خبر وفاته
وكان كمستكين في المقدمة فهرب إلى حلب واستولى سيف الدين على مخلفه وسواده وعاد إلى نصيبين فملكها وبعث العساكر إلى الخابور فاستولى عليها وعلى أقطاعها ثم سار(5/253)
إلى حران وبها قايمان الحرانى مولى نور الدين فحاصرها أياما ثم استنزله على أن يقطعه حران فلما نزل قبض عليه وملكها ثم سار إلى الرها وبها خادم لنور الدين فتسلمها وعوضه عنها قلعة الزعفراني من جزيرة ابن عمر وانتزعها منه بعد ذلك ثم سار إلى الرقة وسروج فملكها واستوعب بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر لامتناعها وسوى راس عين كانت لقطب الدين صاحب ماردين وهو ابن خاله وكان شمس الدين على بن الداية بحلب وهو من أكبر أمراء نور الدين ومعه العساكر ولم يقدر على مدافعة سيف الدين فخر الدين عبد المسيح وكان نور الدين تركه قبل موته بسيواس مع ذى النون بن الدانشمند فلما مات نور الدين رجع إلى صاحبه سيف الدين غازى وهو الذى كان ملكه فوجده بالجزيرة وقد ملكها فأشار عليه بالعبور إلى الشأم وعارضه آخر من أكبر الامراء في ذلك فرجع سيف الدين إلى قوله وعاد إلى الموصل وأرشد صلاح الدين إلى الملك الصالح وأهل دولته يعاتبهم حيث لم يستدعوه لمدافعة سيف الدين عن الجزيرة ويتهدد ابن المقدم وأهل الدولة على انفرادهم بأمر الملك الصالح دونه وعلى قعودهم عن مدافعة سيف الدين غازى ثم أرسل شمس الدين بن الداية إلى الملك الصالح يستدعيه من دمشق إلى حلب ليدافع شمس الدين ابن عمه قطب الدين عن الجزيرة فمنعه أمراؤه عن ذلك مخافة أن يستولى عليه ابن الداية والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه * (حصار الافرنج بانياس) * ولما مات نور الدين محمود اجتمع الافرنج وحاصروا قلعة بانياس من أعمال دمشق وجمع شمس الدين بن المقدم العساكر وسار عن دمشق وراسل الافرنج وتهددهم بسيف الدين صاحب الموصل وصلاح الدين صاحب مصر فصالحوه على مال يبعثه إليهم واشترى من
الافرنج وأطلعهم وتقررت الهدنة وبلغ ذلك صلاح الدين فنكره واستعظمه وكتب إلى الصالح وأهل دولته يقبح مرتكبهم ويعدهم بغزوة الافرنج وقصده انما هو طريقه إلى الشأم ليتملك البلاد وانما صالح ابن المقدم الافرنج خوفا منه ومن سيف الدين والله تعالى أعلم * (استيلاء صلاح الدين على دمشق) * ولما كان ما ذكرناه من استيلاء سيف الدين غازى على بلاد الجزيرة خاف شمس الدين ابن الداية منه على حلب وكان سعد الدين كمستكين قد هرب من سيف الدين غازى إليه فأرسله إلى دمشق ليستدعى الملك الصالح للمدافعة فلما قارب دمشق أنفذ ابن المقدم إليه عسكرا فنهبوه وعاد إلى حلب ثم رأى ابن المقدم وأهل الدولة بدمشق ان مسير(5/254)
الصالح إلى حلب أصلح فبعثوا إلى كمستكين وبعثوا معه الملك الصالح فلما وصل إلى حلب قبض كمستكين على ابن الدابة واخونه وعلى رئيس حلب ابن الخشاب وعلى مقدم الاحداث بها واستبد بأمر الصالح وخشى ابن المقدم وأمراؤه بدمشق غائلته فكاتبوا سيف الدين غازى صاحب الموصل أن يملكوه فأحجم عن المسير إليهم وظنها مكيدة وبعث بخبرهم إلى كمستكين وصالحه على مال أخذه من البلاد فكثر ارتياب القوم في دمشق فكاتبوا صلاح الدين بن أيوب فطار إليهم ونكب عن الافرنج في طريقه وقصد بصرى واطاعه صاحبها ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج إلى أهل الدولة بمقدمهم شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم وهو الذى كان أبوه سلم سنجار لنور الدين سنة أربع وأربعين كما مر ودخل صلاح الدين دمشق آخر ربيع سنة سبعين ونزل دار أبيه المعروفة بدار العفيفى وكان في القلعة ريحان خديم نور الدين فبعث إليه صلاح الدين القاضى كمال الدين الشهرزورى بأنه على طاعة الصالح والخطبة له في بلاده وانه انما جاء ليرتجع البلاد التى أخذت له فسلم إليه ريحان القلعة واستولى على ما فيها
من الاموال وهو في ذلك كله يظهر طاعة الملك الصالح ويخطب له وينقش السكة باسمه انتهى والله أعلم * (استيلاء صلاح الدين على حمص وحماة ثم حصاره حلب ثم ملكه بعلبك) * ولما ملك صلاح الدين دمشق من ايالة الملك الصالح استخلف عليها أخاه سيف الاسلام طغركين بن أيوب وكانت حمص وحماة وقلعة مرعش وسليمية وتل خالد والرها من بلاد الجزيرة في اقطاع فخر الدين مسعود الزعفراني من أمراء نور الدين ما عدا القلاع منها ولما مات نور الدين أجفل الزعفراني عنها لسوء سيرته ولما ملك صلاح الدين دمشق سار إلى حمص فملك البلد وامتنعت القلعة بالوالى الذى بها فجهز عسكرا لحصارها وسار إلى حماة فنازلها منتصف شعبان وبقلعتها الامير خرديك فبعث إليه صلاح الدين بأنه في طاعة الملك الصالح وانما جاء لمدافعة الافرنج عنه وارتجاع بلاده بالجزيرة من ابن عمه سيف الدين غازى صاحب الموصل واستخلفه على ذلك عز الدين ثم بعثه صلاح الدين إلى الملك الصالح بحلب في الاتفاق واطلاق شمس الدين على حسن وعثمان تقى الدين من الاعتقال فسار عز الدين لذلك واستخلف بالقلعة أخاه ولما وصل إلى حلب قبض عليه كمستكين وحبسه فسلم أخوه قلعة حماة لصلاح الدين وملكها ثم سار صلاح الدين من وقته إلى حلب وحاصرها وركب الملك الصالح وهو صبى مناهز فسار في البلد واستعان بالناس وذكر حقوق أبيه فبكى الناس رحمة له واستماتوا دونه وخرجوا فدافعوا عسكر صلاح الدين ودس كمستكين إلى مقدم الاسماعيلية في الفتك(5/255)
بصلاح الدين فبعث لذلك فداوية منهم وشعر بذلك بعض أصحاب صلاح الدين وجماعة منهم معه وقتلوا عن آخرهم وأقام صلاح الدين محاصرا لحلب وبعث كمستكين إلى الافرنج يستنجدهم على منازلة بلاد صلاح الدين ليرحل عنهم وكان القمص سمند السنجيلى صاحب طرابلس أسره نور الدين في حارم سنة تسع وخمسين وبقى معتقلا بحلب
فأطلقه الآن كمستكين بمائة وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير وكان متغلبا على ابن مرى ملك الافرنج لكونه محذوفا لا يصدر الا عن رأيه فسار بجموع الافرنج إلى حصن سابع رجب وصالحهم صلاح الدين من الغد فأجفلوا وحاصر هو القلعة وملكها آخر شعبان واستولى على أكثر الشأم ثم سار إلى بعلبك وبها يمن الخادم من موالى نور الدين فحاصرها حتى استأمنوا إليه فملكها منتصف رمضان من السنة وأقطعها شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم بما تولى له من اظهار طاعته بدمشق وتسليمها له والله تعالى أعلم [ حروب صلاح الدين مع سيف الدين غازى صاحب الموصل وغلبه اياه واستيلاؤه على بعدوين وغيرها من أعمال الملك الصالح ثم مصالحته على حلب ] لما ملك صلاح الدين حمص وحماة وحاصر حلب كاتب الملك الصالح اسمعيل من حلب إلى ابن عمه سيف الدين غازى صاحب الموصل يستنجده فجمع عساكره واستنجد أخاه عماد الدين زنكى صاحب سنجار فلم يجبه لما كان بينه وبين صلاح الدين وأنه ولاه سنجار ويطمعه في الملك فبعث سيف الدين غازى بالعساكر لمدافعته صلاح الدين عن الشأم في رمضان سنة سبعين وخمسمائة مع أخيه عز الدين مسعود وأمير جيوش عز الدين القندار وجعل التدبير إليه وسار هو إلى سنجار فحاصر بها أخاه عماد الدين وامتنع عليه وبينما هو يحاصره جاءه الخبر بأن صلاح الدين هزم أخاه عز الدين وعساكره فصالح عماد الدين على سنجار وعاد إلى الموصل ثم جهز أخاه عز الدين في العساكر ثانية ومعه القندار وساروا إلى حلب فانضمت إليهم عساكره وساروا جميعا إلى صلاح الدين فأرسل إلى عماد الدين بالموصل في الصلح بينه وبين الملك الصالح على أن يرد عليه حمص وحماة ويسوغه الصالح دمشق فأبى الا ارتجاع جميع بلاد الشأم واقتصاره على مصر سار صلاح الدين إلى عساكرهم ولقيها قريبا من حماة فانهزمت وثبت عز الدين ليلا ثم صدق عليه صلاح الدين الحملة فانهزم وغنم سوادهم ومخلفهم واتبع عساكر
حلب حتى أخرجهم منها وحاصرها وقطع خطبة الملك الصالح وبعث بالخطبة للسلطان جميع بلاده ولما طال عليهم الحصار صالحوه على اقراره على جميع ما ملك من الشأم رحل عن حلب عاشر شوال من السنة وعاد إلى حماة ثم سار منها إلى بعدوين وكانت لفخر(5/256)
الدين مسعود بن الزعفراني من أمراء نور الدين وكان قد اتصل بالسلطان صلاح الدين واستخدم له ثم فارقه حيث لم يحصل على غرضه عنده فلحق ببقدوين وبها نائب الزعفراني فحاصرها حتى استأمنوا إليه وأقطعها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمى وأقطع حمص ناصر الدين بن عمه شيركوه وعاد إلى دمشق آخر سنة سبعين وكان سيف الدين غازى صاحب الموصل بعد هزيمة أخيه وعساكره عاد من حصار أخيه بسنجار كما قلناه إلى الموصل فجمع العساكر وفرق الاموال واستنجد صاحب كيفا وصاحب ماردين وسار في ستة آلاف فارس وانتهى إلى نصيبين في ربيع سنة احدى وسبعين فأقام إلى انسلاخ فصل الشتاء وسار إلى حلب فبرز إليه سعد الدين كمستكين الخادم مدبر الصالح في عساكر حلب وبعث صلاح الدين عن عساكره من مصر وقد كان أذن لهم في الانطلاق فجأوا إليه وسار من دمشق إلى سيف الدين وكمستكين فلقيهم بتل الفحول وانهزموا راجعين إلى حلب وترك سيف الدين أخاه عز الدين بها في جمع من العساكر وعبر الفرات إلى الموصل يظن أن صلاح الدين في اتباعه وشاور الصالح وزيره جلال الدين ومجاهد الدين قايمان في مفارقة الموصل إلى قلعة الحميدية فعارضاه في ذلك ثم عزل القندار عن امارة الجيوش لانه كان جر الهزيمة برأيه ومفارقته وولى مكانه مجاهد الدين قايمان ولما انهزمت العساكر أمام صلاح الدين وغنم مخلفها سار إلى مراغة وملكها وولى عليها سار إلى منبج وبها صاحبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجى وكان شديد العداوة لصلاح الدين فملك المدينة وحاصره بالقلعة وضيق مخنقه ثم نقب أسوارها وملكها عليه عنوة وأسره ثم أطلقه سليبا فلحق بالموصل وأقطعه سيف الدين الرقة
ولما فرغ صلاح الدين من منبج سار إلى قلعة عزاز وهى في غاية المنعة فحاصرها أربعين يوما حتى استأمنوا إليه فتسلمها في الاضحى ثم رحل إلى حلب فحاصرها وبها الملك الصالح واشتد أهلها في قتاله فعدل إلى المطاولة ثم سعى بينهما في الصلح وعلى أن يدخل فيه سيف الدين صاحب الموصل وصاحب كيفا وصاحب ماردين فاستقر الامر على ذلك وخرجت أخت الملك الصالح إلى صلاح الدين فأكرمها وأفاض عليها العطاء وطلبت منه قلعة عزاز فأعطاها اياها ورحل إلى بلاد الاسماعيلية والله سبحانه وتعالى أعلم * (عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين صاحب الموصل ورجوعه) * كان مجاهد الدين قايمان متولى مدينة اربل وكان بينه وبين شهاب الدين محمد بن بدران صاحب شهرزور عداوة فلما ولى سيف الدين مجاهد الدين قايمان نيابة الموصل تعاف شهاب الدين غائلته عن تعاهد الخدمة بالموصل وأظهر الامتناع وذلك سنة ثنتين(5/257)
وسبعين فخاطبه جلال الدين الوزير في ذلك مخاطبة بليغة وحذره ورغبه فعاود الطاعة وبادر إلى الحضور بالموصل والله تعالى ينصر من يشاء من عباده * (نكبة كمستكين الخادم ومقتله) * كان سعد الدين كمستكين الخادم قائما بدولة الملك الصالح في حلب وكان يناهضه فيها أبو صالح العجمي فقدم عند نور الدين وعند ابن الملك الصالح وتجاوز مراتب الوزير فعدا عليه بعض الباطنية فقتله وخلا الجو لكمستكين وانفرد بالاستبداد على الصالح وكثرت السعاية فيه بحجر السلطان والاستبداد عليه وأنه قتل وزيره فقبض عليه وامتحنه وكان قد أقطعه قلعة حارم فامتنع بها أصحابه وأرادهم الصالح على تسليمها فامتنعوا وهلك كمستكين في المحنة وطمع فيها وساروا إليها وحاصروها وصانعهم الصالح بالمال فرجعوا عنها وبعث هو عساكره إليها وقد جهدهم الحصار
فسلموها له وولى عليها والله تعالى أعلم * (وفاة الصالح اسمعيل واستيلاء ابن عمه عز الدين مسعود على حلب) * ثم توفى الملك الصالح اسمعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب في منتصف سنة سبع وسبعين لثمان سنين من ولايته وعهد بملكه لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل واستحلف أهل دولته على ذلك بعضهم بعماد الدين صاحب سنجار أخى عز الدين الاكبر لمكان صهره على أخت الصالح وأن أباه نور الدين كان يميل إليه فأبى وقال عز الدين أنا أقدر على مدافعة صلاح الدين عن حلب فلما قضى نحبه أرسل الامراء بحلب إلى عز الدين مسعود يستدعونه هو ومجاهد الدين قايمان إلى الفرات ولقى هنالك أمراء حلب وجأوا معه فدخلها آخر شعبان من السنة وصلاح الدين يومئذ بمصر بعيدا عنهم وتقى الدين عمر بن أخيه في منبج فلما أحسن بهم فارقها إلى حماة وثار به أهل حماة ونادوا بشعار عز الدين وأشار أهل حلب عليه بقصد دمشق وبلاد الشأم وأطمعوه فيها فأبى من أجل العهد الذى بينه وبين صلاح الدين ثم أقام بحلب شهورا وسار عنها إلى الرقة والله تعالى أعلم * (استيلاء عماد الدين على حلب ونزوله عن سنجار لاخيه عز الدين) * ولما انتهى عز الدين إلى الرقة منقلبا من حلب وافقه هنالك رسل أخيه عماد الدين صاحب سنجار يطلب منه أن يملكه مدينة سنجار وينزل هو له عن حلب فلم يجبه إلى ذلك فبعث عماد الدين إليه بأنه يسلم سنجار إلى صلاح الدين فحمل الامراء حينئذ على(5/258)
معاوضته على سنجار وتحميهم له ولم يكن لعز الدين مخالفا لتمكنه في الدولة وكثرة بلاده وعساكره فأخذ سنجار من أخيه عماد الدين وأعطاه حلب وسار إليها عماد الدين وملكها وسهل أمره على صلاح الدين بعد ان كان متخوفا من عز الدين على دمشق والله سبحانه وتعالى أعلم
[ مسير صلاح الدين إلى بلاد الجزيرة وحصاره الموصل واستيلاؤه على كثير من بلادها ثم على سنجار ] كان عز الدين صاحب الموصل قد أقطع مظفر الدين كرجكرى زين الدين كجك مدينة حران وقلعتها ولما سار صلاح الدين لحصار البيرة جنح إليه مظفر الدين ووعده النصر واستحثه للقدوم على الجزيرة فسار إلى الفرات موريا بقصد وعبر إليه مظفر الدين فلقيه وجاء معه إلى البيرة وهى قلعة منيعة على الفرات من عدوة الجزيرة وكان صاحبها من بنى ارتق أهل ماردين قد أطاع صلاح الدين فعبر من جسرها وعز الدين صاحب الموصل يومئذ قد سار ومعه مجاهد الدين إلى نصيبين لمدافعة صلاح الدين عن حلب فلما بلغهما عبوره الفرات عادا إلى الموصل وبعثا حامية إلى الرها وكاتب صلاح الدين ملوك النواحى بالنجدة والوعد على ذلك وكان تقدم العهد بينه وبين نور الدين محمد بن قرى ارسلان صاحب كيفا على أن صلاح الدين يفتح آمد ويسلمها إليه فلما كاتبهم الآن كان صاحب كيفا أول مجيب وسار صلاح الدين إلى الرها فحاصرها في جمادى سنة ثمان وسبعين وبها يومئذ فخر الدين مسعود الزعفراني فلما اشتد به الحصار استأمن إلى صلاح الدين وحاصر معه القلعة حتى سلمها نائبها على مال أخذه وأقطعها صلاح الدين مظفر الدين كوكبرى صاحب حران وسار عنها إلى الرقة وبها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجى فاجفل عنها إلى الموصل وملكها صلاح الدين وسار إلى الخابور وهو قرقيسيا وماكسين وعرمان فاستولى على جميعها وسار إلى نصيبين فملكها لوقتها وحاصر القلعة اياما وملكها وأقطعها أبا الهيجاء السمين من أكبر أمرائه وسار عنها وملكها ومعه صاحب كيفا وجاءه الخبر بأن الافرنج أغاروا على أعمال دمشق ووصلوا داريا فلم يحفل بخبرهم واستمر على شأنه وأغراه مظفر الدين كوكبرى وناصر الدين محمد بن شيركوه بالموصل ورجحا قصدها على سنجار وجزيرة ابن عمر كما أشار عليهما فسار صلاح الدين وصاحبها عز الدين ونائبه مجاهد الدين وقد
جمعوا العساكر وأفاضوا العطاء وشحنوا البلاد التى بأيديهم كالجزيرة وسنجار والموصل واربل وسار صلاح الدين حتى قاربها وسار هو ومظفر الدين وابن شيركوه في أعيان دولته إلى السور فرآه مخايل الامتناع وقال لمظفر الدين ولناصر الدين(5/259)
ابن عمه قد أغررتماني ثم صبح البلد وناشبه وركب أصحابه في المقاعد للقتال ونصب منجنيقا فلم يغن ونصب إليه من البلد تسعة ثم خرج إليه جماعة من البلد وأخذوه وكانوا يخرجون ليلا من البلد بالمشاعل يوهمون الحركة فخشى صلاح الدين من البيات وتأخر عن القصد وكان صدر الدين شيخ الشيوخ قد وصل من قبل الخليفة الناصر مع بشير الخادم من خواصه في الصلح بين الفريقين على اعادة صلاح الدين بلاد الجزيرة فأجاب على اعادة الآخرين حلب فامتنعوا ثم رجع عن شرط حلب إلى ترك مظاهرة صاحبها فاعتذروا عن ذلك ووصلت رسل صاحب اذربيجان قرا ارسلان وأرسل صاحب خلاط شاهرين فلم ينتظم بينهما أمر ورحل صلاح الدين عن الموصل إلى سنجار فحاصرها وبها أمير أميران وأخوه عز الدين صاحب الموصل في عسكر ولقيه شرف الدين وجاءها المدد من الموصل فخال بينهم وبينها وداخله بعض أمراء الاكراد من الدوادية من داخلها فكبسها صلاح الدين من ناحيته واستأمن شرف الدين لوقته فأمنه صلاح الدين ولحق بالموصل وملك صلاح الدين سنجار وصارت سياجا على جميع ما ملكه بالجزيرة وولى عليها سعد الدين ابن معين الدين انز الذى كان متغلبا بدمشق على آخر طغركين وعاد فمر بنصيبين وشكا إليه أهلها من أبى الهيجاء السمين فعزله وسار إلى حران بلد مظفر الدين كوكبرى فوصلها في القلعة من سنة سبع وثمانين فأراح بها وأذن لعساكره في الانطلاق وكان عز الدين قد بعث إلى شاهرين صاحب خلاط يستنجده وأرسل شاهرين إلى صلاح الدين بالشفاعة في ذلك رسلا عديدة آخرهم مولاه سكرجاه وهو على سنجار فلم يشفعه
أخاه من ذلك وفارقه مغاضبا وسار شاهرين إلى قطب الدين صاحب ماردين وهو ابن أخته وابن خال عز الدين وصهره على بنته فاستنجده وسار معه وجاءهم عز الدين من الموصل في عساكره واعتزموا على قصد صلاح الدين وبلغه الخبر وهو مريح بحران فبعث عن تقى الدين ابن أخيه صاحب حمص وحماة وارتحل للقائهم ونزل رأس عين فخاموا عن لقائه ولحق كل ببلده وسار صلاح الدين إلى ماردين فأقام عليها اياما ورجع والله تعالى أعلم * (استيلاء صلاح الدين على حلب وأعمالها) * ولما ارتحل صلاح الدين عن ماردين قصد آمد فحاصرها سنة تسع وسبعين وملكها وسلمها لنور الدين محمد بن قرا ارسلان كما كان العهد بينهما وقد أشرنا إليه ثم سار إلى الشأم فحاصر تل خالد من أعمال حلب حتى استأمنوا إليه وملكها في محرم سنة تسع وسبعين وسار منها لى عتاب وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ اسمعيل خازن نور الدين محمود(5/260)
وصاحبه ولاه عليها نور الدين فلم يزل بها فاستأمن إلى صلاح الدين على أن يقره على الحصن ويكون في خدمته فأقره وأطاعه ورحل صلاح الدين إلى حلب وبها عماد الدين زنكى بن مودود ونزل عليها بالميلان الاخضر اياما ثم انتقل إلى جبل حوشن أياما أخرى وأظهر أنه أبنى عليها وعجز عماد الدين عن عطاء الجند فراسل صلاح الدين أن يعوضه عنها سنجار ونصيبين والخابور والرقة وسروج فأجاب إلى ذلك وأعطاه عنها تلك البلاد وملكها وكان في شرط صلاح الدين عليه انه يبادر إلى الخدمة متى دعاه إليها وسار عماد الدين إلى بلاده تلك ودخل صلاح الدين حلب في آخر سنة تسع وسبعين ومات عليها أخوه الاصغر تاج الملوك بورى بضربة في ركبته تصدعت لها ومات بعد فتح حلب ثم ارتحل صلاح الدين إلى قلعة حارم وبها سرجك من موالى نور الدين ولاه عليها عماد الدين فلما سلم حلب لصلاح الدين امتنع سرجك في قلعة حارم
فحاصره صلاح الدين وترددت الرسل بينهما وقد دس إلى الافرنج ودعاهم وخشى الجند الذين معه أن يسلمها إليهم فحبسوه واستأمنوا إلى صلاح الدين فملكها وولى عليها بعض خواصه وعلى تل خالد الامير داروم الياروقى صاحب تل باشر وأقطع قلعة عزاز الامير سليمان بن جندر فعمرها بعدان كان عماد الدين خربها وأقطع صلاح الدين أعمال حلب لامرائه وعساكره والله تعالى أعلم * (نكبة مجاهد الدين قايمان) * كان مجاهد الدين قايمان قائما بدولة الموصل ومتحكما فيها كما قلناه وكان عز الدين محمود الملقب زلقندار صاحب الجيش وشرف الدين أحمد بن أبى الخير الذى كان صاحب العراق كان من أكابر الامراء عند السلطان عز الدين مسعود صاحب الموصل وكانا يغريانه بمجاهد الدين ويكثران السعاية عنده فيه حتى اعتزم على نكبته ولم يقدر على ذلك في مجلسه لاستبداد مجاهد الدين وقوة شوكته فانقطع في بيته لعارض مرض وكان مجاهد الدين خصيا لا يحتجب منه النساء فدخل عليه يعوده فقبض عليه وركب إلى القلعة فاحتوى على أمواله وذخائره وولى بها زلقندار نائبا وجعل ابن صاحب العراق أمير حاجبا وحكمهما في دولته وكان في يد مجاهد الدين اربل وأعمالها فيها زين الدين يوسف بن زبن الدين على كجك صبيا صغيرا تحت استبداده وبيده أيضا جزيرة ابن عمر لمعز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازى وهو صبى تحت استبداده وبيده أيضا شهرزور وأعمالها ودقوقا وقلعة عقر الحميدية ونوابه في جميعها ولم يكن لعز الدين مسعود بعد استيلاء صلاح الدين على الجزيرة سوى الموصل وقلعتها لمجاهد الدين وهو الملك في الحقيقة فلما قبض عز الدين عليه امتنع صاحب اربل واستبد(5/261)
بنفسه وكان صاحب جزيرة ابن عمر وبعث بطاعته إلى صلاح الدين وبعث الخليفة الناصر شيخ الشيوخ وبشير الخادم بالصلح بين عز الدين وصلاح الدين على أن
تكون الجزيرة واربل من أعماله وامتنع عز الدين وقال هما من أعمالي وطمع صلاح الدين في الموصل فتنكر عز الدين لزلقندار ولابن صاحب العراق لما حملاه عليه من الفساد لنكبة مجاهد الدين فبدأ أولا بعزل صاحب اذربيجان فقال له أنا أكفيكه وجهز له عسكرا نحو ثلاثة آلاف فارس وساروا نحو اربل فاكتسحوا البلد وخربوها وسار إليهم زين الدين يوسف باربل فوجدهم مفترقين في النهب فهزمهم وما كان معهم وعاد مظفرا ولحق العجم ببلادهم وعاد مجاهد الدين إلى الموصل والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق * (حصار صلاح الدين الموصل وصلحه مع عز الدين صاحبها) * ثم سار صلاح الدين من دمشق في ذى القعدة سنة احدى وثمانين فلما انتهى إلى حران قبض على صاحبها مظفر الدين كوكبرى لانه كان لذلك وعده بخمسين ألف دينار حتى إذا وصل لم يف له بها فقبض عليه لانحراف أهل الجزيرة عنه فأطلقه ورد عليه عمله بحران والرها وسار عن حران وجاء معه عساكر كيفا ودارى وعساكر جزيرة ابن عمر مع صاحبها معز الدين سنجر شاه ابن أخى معز الدين صاحب الموصل وقد كان استبد بأمره وفارق طاعة عمه بعد نكبة مجاهد الدين كما قلناه فساروا مع صلاح الدين إلى الموصل ولما انتهو إلى مدينة بله وفدت عليه أم عز الدين وابن عمه نور الدين محمود وجماعة من أعيان الدولة ظنا بانه لا يردهم وأشار عليه الفقيه عيسى وعلى بن أحمد المشطوب بردهم ورحل إلى الموصل فقاتلها وامتنعت عليه وندم على رد الوفد وجاءه كتاب القاضى الفاضل بالائمة ثم قدم عليه زين الدين يوسف صاحب اربل فأنزله مع أخيه مظفر الدين كوكبرى وغيره من الامراء ثم بعث الامير على بن أحمد المشطوب إلى قلعة الجزيرة من بلاد الهكارية فاجتمع عليه الاكراد الهكارية وأقام يحاصرها وكاتب نائب القلعة زلقندار ونمى خبر مكاتبته إلى عز الدين فمنعه واطرحه من المشورة وعدل إلى مجاهد الدين قايمان وكان يقتدى برأيه فضبط الامور وأصلحها ثم بلغه في آخر
ربيع من سنة ثنتين وثمانين وقد ضجر من حصار الموصل ان شاهرين صاحب خلاط توفى تاسع ربيع واستولى عليها مولاه بكتمر فرحل عن الموصل وملك ميافارقين كما يأتي في أخبار دولته ولما فرغ منها عاد إلى الموصل ومر بنصيبين ونزل الموصل في رمضان سنة ثنتين وثمانين وترددت الرسل بينهما في الصلح على أن يسلم إليه عز الدين شهرزور وأعمالها وولاية الفراثلى وما وراء الزاب ويخطب له على منابرها وينقش اسمه على(5/262)
سكته ومرض صلاح الدين اثناء ذلك ووصل إلى حران ولحقته الرسل بالاجابة إلى الصلح وتحالفا عليه وبعث من يسلم البلاد وأقام ممرضا بحران وعنده أخوه العادل وناصر الدولة ابن عمه شيركوه وامنت بلاد الموصل ثم حدثت بعد ذلك فتنة بين التركمان والا كراد بالجزيرة والموصل وديار بكر وخلاط والشأم وشهرزور واذربيجان وقتل فيها ما لا يحصى من الامم واتصلت أعواما وسببها أن عروسا من التركمان أهديت إلى زوجها ومروا بقلعة الزوزان والاكراد وطلبو امنهم الوليمة على عادة الفتيان فأغلظوا في الرد فقتل صاحب القلعة الزوج وثار التركمان بجماعة من الاكراد فقتلوهم ثم أصلح مجاهد الدين بينهم وأفاض فيهم العطاء فعادوا إلى الوفاق وذهبت بينهم الفتنة والله تعالى أعلم * (وفاة نور الدين يوسف صاحب اربل وولاية أخيه مظفر الدين اقتهى) * كان زين الدين يوسف بن على كجك قد صار في طاعة صلاح الدين كما ذكرناه قبل واربل من أعماله ووقع الصلح على ذلك بينه وبين عز الدين صاحب الموصل سنة ست وثمانين للعسكر معه فمات عنده أخريات رمضان من السنة واستولى أخوه على بوجوده وقبض على جماعة من أمرائه مثل بلداحى صاحب قلعة حقبير كان وغيره وطلب من صلاح الدين أن يقطعه اربل مكان أخيه وينزل عن حران والرها فأقطعه اربل وأضاف إليها شهرزور وأعمالها ودوقبر قرابلى وبنى قفجاق وراسل أهل اربل مجاهد الدين قايمان
واستدعوه ليملكوه وهو بالموصل فلم يتطاول لذلك خوفا من صلاح الدين ولان عز الدين لما كان ولاه نيابته بعد ان أطلقه من الاعتقال لم يمكنه كما كان أول مرة وجعل معه رديفا في الحكم كان من بعض غلمانه فكان أسفا لذلك فلما راسله أهل اربل قال والله لا أفعل لئلا يحكم معى فيها فلان وسار مظفر الدين إليها وملكها * (حصار عز الدين صاحب الموصل جزيرة ابن عمر) * كان سنجر شاه بن سيف الدين غازى بن مودود قد ملك جزيرة ابن عمر بوصية أبيه وخرج عن طاعة عمه عز الدين عند نكبة مجاهد الدين كما قلناه وصار عينا على عمه يكاتب صلاح الدين بأخباره ويغريه به ويسعى في القطيعة بينهما ثم حاصر صلاح الدين قلعة عكا سنة ست وثمانين واستنفر لها أصحاب الاطراف المتشبثين بدعوته مثل عز الدين صاحب الموصل وأخيه عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين وسنجار شاه هذا ابن عمه وصاحب كيفا وغيرهم واجتمعوا عنده على عكا وجاء جماعة من جزيرة ابن عمر يتظلمون من سنجر شاه فخاف واستأذن في الانطلاق فاعتذر صلاح الدين بأن في ذلك افتراق(5/263)
هذه العساكر فالح عليه في ذلك وغدا عليه يوم الفطر مسلما فوعده وانصرف وكان تقى الدين عمر بن شاه أخى صلاح الدين مقبلا من حماة في عسكر فأرسل إليه صلاح الدين باعتراضه ورده طوعا أو كرها فلقيه بقلعة فيك ورده كرها وكتب صلاح الدين إلى عز الدين صاحب الموصل بحصار جزيرة ابن عمر يظنها مكيدة فتلقاها بالمراجعة وطلب اقطاع الجزيرة فأسعفه وسار إليها وحاصرها أربعة أشهر فامتنعت عليه ثم صالحه على نصف أعماله ورجع الموصل والله تعالى أعلم * (مسير عز الدين صاحب الموصل إلى بلاد العادل بالجزيرة ورجوعه عنها) * كان صلاح الدين قد ملك من بلاد الجزيرة حران والرها وسميساط وميافارقين وكانت بيد ابن أخيه تقى الدين عمر بن شاه ثم توفى تقى الدين فأقطعها أخاه العادل
أبا بكر بن أيوب ثم توفى صلاح الدين سنة تسع وثمانين فطمع عز الدين صاحب الموصل في ارتجاعها واستشار أصحابه فأشار عليه بعضهم بمعالجتها وأن تستنفر أصحاب الاطراف لها مثل صاحب اربل وصاحب جزيرة ابن عمر وصاحب سنجار ونصيبين ومن امتنع يعاجله حربا ويعاجل البلد قبل أن يستعد أهله للمدافعة وأشار مجاهد الدين قايمان بمشاورة هؤلاء الملوك والعمل باشارتهم فقبل من مجاهد الدين وكاتبهم فأشاروا بانتظار أولاد صلاح الدين وأن البلد في طاعته وأنه القائم بدولته وأنه بلغه أن صاحب ماردين تعرض لبعض بلاده فجهز جيشا كثيفا لقصد ماردين فوجموا الكتابة وتركوا الحركة ثم بلغهم أنه بظاهر حران في خف من العسكر فتجهز للحركة عليه ولما وقع الاتفاق مع صاحب سنجار جاءت عساكر الشأم إلى العادل من الافضل فامتنع وسار عز الدين في عساكره من الموصل إلى نصيبين واجتمع بأخيه عماد الدين وساروا إلى الرها وقد عسكر العادل قريبا منهم بمرج الريحان وخافهم فأقاموا أياما كذلك ثم طرق عز الدين المرض فترك العساكر مع أخيه عماد الدين وسار إلى الموصل والله تعالى أعلم * (وفاة عز الدين صاحب الموصل وولاية ابنه نور الدين) * ولما رجع عز الدين إلى الموصل أقام بها مدة شهرين واشتد مرضه فتوفى آخر شعبان سنة تسع وثمانين وولى ابنه نور الدين ارسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن الاتابك زنكى وقام بتدبير دولته مجاهد الدين قايمان مدبر دولة أبيه والله سبحانه وتعالى أعلم * (وفاة عماد الدين صاحب سنجار وولاية ابنه قطب الدين) *(5/264)
ثم توفى عماد الدين زنكى بن مودود بن الاتابك زنكى صاحب سنجار والخابور ونصيبين والرقة وسروج وهى التى عوضه صلاح الدين عن حلب لما أخذها منه توفى في محرم سنة أربع وتسعين وملك بعده ابنه قطب الدين وتولى تدبير دولته مجاهد الدين برتقش
مولى أبيه وكان دينا خيرا عاد لا متواضعا محبا لاهل العلم والدين معظما لهم وكان متعصبا على الشافعية حتى انه بنى مدرسة للحنفية بسنجار وكان حسن السيرة والله تعالى أعلم * (استيلاء نور الدين صاحب الموصل نصيبين) * كان عماد الدين صاحب سنجار ونصيبين قد امتدت أيدى نوابه بنصيبين إلى قرى من أعمال الموصل تجاورهم وبعث إليه في ذلك مجاهد الدين قايمان صاحب دولة الموصل يشكو إليه نوابه سرا من سلطانه نور الدين فلج عماد الدين في ادعاء انها من أعماله واساء الرد فأعاد نور الدين الرسالة إليه مع بعض مشايخ دولته وقد طرقه المرض فأجاب مثل الاول فنصح الرسول وكان من بقية الاتابك زنكى وعاد إلى فأغلظ له في القول واعتزم نور الدين على المسير إلى نصيبين ووصل الخبر اثر ذلك بوفاة عماد الدين وولاية ابنه قطب الدين فقوى طمع نور الدين في نصيبين وتجهز لها في جمادى سنة أربع وتسعين وسار قطب الدين بن سنجر في عسكره فسبقه نور الدين إلى نصيبين فلما وصل لقيه فهزمه نور الدين ودخل إلى قلعة نصيبين مهزوما ثم أسرى منها إلى حران ومعه نائبه مجاهد الدين برتقش وكاتبوا العادل أبا بكر بن أيوب يستحثونه من دمشق وأقام نور الدين بنصيبين حتى وصل العادل إلى الجزيرة ففارقها إلى الموصل في رمضان من السنة وعاد قطب الدين إليها وكان الموتان قد وقع في عسكر نور الدين فمات كثير من أمراء الموصل ومات مجاهد الدين قايمان القائم بالدولة ولما عاد نور الدين إلى الموصل وعاد قطب الدين إلى نصيبين سار العادل إلى ماردين فحاصرها اياما وضيق عليها ثم انصرف والله تعالى أعلم [ هزيمة الكامل بن العادل على ماردين أمام نور الدين صاحب الموصل وبنى عمه ملوك الجزيرة ] لما رحل العادل عن ماردين كما قدمناه جمر العساكر عليها للحصار مع ابنه الكامل
وعظم ذلك على ملوك الجزيرة وديار بكر وخافوا ان ملكها يغلبهم على أمرهم ولم يكن سار من سار معه منهم عند اشتغاله بحرب نور الدين الا تقية لكثرة عساكره فلما رجع إلى دمشق وبقى الكامل على ماردين استهانوا بأمره وطمعوا في مدافعته وأغراهم بذلك(5/265)
الظاهر والافضل ابنا صلاح الدين لفتنتهم مع عمهم العادل فتجهز نور الدين ارسلان شاه صاحب الموصل وسار أول شعبان سنة خمس وتسعين وانتهى إلى بيس فأقام بها ولحق به ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكى صاحب سنجار وابن عمه الآخر سنجار شاه ابن غازى صاحب جزيرة ابن عمر حتى إذا انقضى عيد الفطر ارتحلوا وتقدموا إلى مزاحمة الكامل على ماردين وكان أهل ماردين خلال ذلك قد ضاق مخنقهم وجهدهم الحصار وبعث النظام المستولي على دولة صاحبها إلى الكامل يراوده في الصلح وتسليم القلعة له إلى أجل سماه على أن يبيح لهم ما يقوتهم من الميرة فأسعفهم بذلك وبينماهم في ذلك جاءهم خبر العساكر فامتنعوا وزحف الكامل مهزوما إلى معسكره بالربض فخرج أهل القلعة إليهم وقاتلوهم إلى المساء ثم أجفل الكامل من ليلته منتصف شوال وعاد إلى بلاده ونهبت أهل القلعة مخلفه وخرج صاحب ماردين وهو بولو ارسلان ابن أبى الغازى فلقى نور الدين وشكره وعاد إلى حصنه ورجع نور الدين وأصحابه إلى تستر ثم سار منها إلى رأس عين فقدم عليها هنالك رسول الظاهر بن صلاح الدين من حلب يطلب له منه السكة والخطبة فوجم لذلك وثنى عزمه عن مظاهرتهم ثم طرقه المرض فبعث إليهم بالعذر وعاد إلى الموصل في ذى الحجة آخر السنة والله تعالى أعلم * (مسير نور الدين صاحب الموصل إلى بلاد العادل بالجزيرة) * ثم ان الملك العادل ملك مصر سنة ست وتسعين من يد الافضل ابن أخيه فخشيه الظاهر صاحب حلب وصاحب ماردين وراسلوا نور الدين صاحب الموصل في الاتفاق وأن يسير إلى بلاد العادل بالجزيرة حران والرها والرقة وسنجار فسار نور الدين لملكها
في شعبان سنة سبع وتسعين وسار معه ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار وحسام الدين صاحب ماردين وانتهوا إلى رأس عين وكان بحران الفائز بن العادل في عسكر فأرسل إلى نور الدين في الصلح فبادر إلى الاجابة لما وقع في عسكره من الموتان واستحلفهم وحلف لهم وبعثوا إلى العادل فحلف وعاد نور الدين إلى الموصل في ذى القعدة من السنة والله تعالى أعلم * (هزيمة نور الدين صاحب الموصل أمام عسكر العادل) * لم يزل الملك العادل يراسل قطب الدين صاحب سنجار ويستميله إلى أن خطب له في أعماله سنة ستمائة فسار نور الدين صاحب الموصل إلى نصيبين من أعمال قطب الدين فحاصرها وملك المدينة وأقام يحاصر القلعة فبينما هو قد قارب فتحها بلغه الخبر من نائبه بالموصل بأن مظفر الدين كوكبرى صاحب اربل من أعمال الموصل(5/266)
فرحل عن نصيبين معتزما على قصد اربل فلم يجد كل الخبر صحيحا فسار إلى تل اعفر من أعمال سنجار فحاصرها وملكها وكان الاشرف موسى بن العادل قد سار من حران إلى رأس عين نجدة لصاحب سنجار وقد اتفق معه على ذلك مظفر الدين صاحب اربل وصاحب كيفا وآمد وصاحب جزيرة ابن عمر وتراسلوا وتراعدوا للاجتماع فلما ارتحل نور الدين عن نصيبين اجتمعوا عليها وجاءهم أخو الاشرف نجم الدين صاحب ميافارقين وساروا إلى البقعا من تل اعفرالى كفررقان وقصده المطاولة حتى جاءه بعض عيونه فقللهم في عينه وأطمعه فيهم وكان من مواليه فوثق بقوله ورحل إلى نوشرى قريبا منهم وتراءى الجمعان فالتقوا وانهزم نور الدين ونجا في فل قليل ونزلت العساكر كفررقان ونهبوا مدينة فيدوما إليها وأقاموا هنالك وترددت الرسل في الصلح على أن يعيد نور الدين تل اعفر لقطب الدين صاحب سنجار فأعادها واصطلحوا سنة احدى وستمائة ورجع كل إلى بلده والله تعالى ولى التوفيق
* (مقتل سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر وولاية ابنه محمود بعده) * كان سنجر شاه بن غازى بن مودود ابن الاتابك زنكى صاحب جزيرة ابن عمر وأعمالها أوصى له بها أبوه عند وفاته كما مر وكان سيئ السيرة غشوما ظلوما مرهف الحد على رعيته وجنده وحرمه وولده كثير القهر لهم والانتقام منهم فاقد الشفقة على بنيه حتى غرب ابنيه محمودا ومودودا إلى قلعة فرح من بلاد الزوزان لتوهم توهمه فيهما وأخرج ابنه غازى إلى دار بالمدينة ووكل به فساءت حاله وكانت الدار كثيرة الخشاش فضجر من حاله وتناول حية وبعثها إلى أبيه فلم بعطف عليه فتسلل من الدار واستخفى في المدينة وبعث إلى نور الدين صاحب الموصل من أوهمه بوصوله إليه فبعث إليه بنفقة ورده خوفا من أبيه وترك أبوه طلبه لما شاع انه بالشأم فلم يزل غازى يعمل الحيلة حتى دخل دار أبيه واختفى عند بعض حظاياه وطرق عليه الخلاء في بعض الليالى وهو سكران فطعنه أربع عشرة طعنة ثم ذبحه وأقام مع الحرم وعلم أستاذ الدولة من خارج بالخبر فأحضر أعيان الدولة وأغلق أبواب القصر وبايع الناس لمحمود بن سنجر شاه واستدعاه وأخاه مودودا من قلعة فرح ثم دخلوا إلى غازى وقتلوه ووصل محمود فملكوه ولقبوه معز الدين لقب أبيه وعمد إلى الجوارى التى واطأت على قتل أبيه فغرقهن في الدجلة والله تعالى أعلم * (استيلاء العادل على الخابور ونصيبين من أعمال صاحب سنجار وحصاره اياه) * كان بين قطب الدين محمود بن زنكى بن مودود وبين ابن عمه نور الدين ارسلان شاه(5/267)
ابن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة قد مر كثير من أخبارها ولما كانت سنة خمس وستمائة أصهر العادل بن أيوب صاحب مصر والشأم إلى نور الدين في ابنته فزوجها نور الدين من ابنه واستكثر به وطمح إلى الاستيلاء على جزيرة ابن عمر فأغرى العادل بأن يظاهره على ولاية ابن عمه قطب الدين سنجر وتكون ولاية
قطب الدين وهى سنجار ونصيبين والخابور للعادل وتكون ولاية غازى بن سنجر شاه لنور الدين صاحب الموصل فأجاب إلى ذلك العادل وأطمع نور الدين في أنه يقطع ولاية قطب الدين إذا ملكها لابنه الذى هو صهره على ابنته وتحالفا على ذلك وسار العادل سنة ست وستمائة من دمشق لملك الخابور وراجع نور الدين رأيه فإذا هو قد تورط وانه يملك البلاد كما يحب دونه ان وفي له وسار نور الدين إلى الجزيرة فربما حال بنو العادل بينه وبين الموصل وان انتقض نور الدين عليه سار إليه فاضطرب في أمره وملك العادل الخابور ونصيبين واعتزم قطب الدين على أن يعتاض منه عن سنجبار ببعض البلاد فمنعه من ذلك أحمد بن برتقش مولى أبيه وجهز نور الدين عسكرا مع ابنه القاهر مددا للعادل كما اتفقا عليه وفي خلال ذلك بعث قطب الدين سنجر ابنه إلى مظفر الدين صاحب اربل يستنجده فأرسل إلى العادل شافعا في أمره فلم يشفعه لمظاهرة نور الدين اياه فغضب مظفر الدين وأرسل إلى نور الدين في المساعدة على دفاع العدو فأجاب نور الدين إلى ذلك ورجع عن مظاهرة العادل وأرسل هو ومظفر الدين إلى الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب وإلى كسنجر بن قليج ارسلان صاحب الروم يستنجد انهما فأجابا هما وتداعوا إلى قصد بلاد العادل ان لم يرحل عن سنجار وبعث الخليفة الناصر أستاذ الدار أبا نصر هبة الله بن المبارك بن الضحاك والامير اقناش من خواص مواليه في الافراج عن سنجار وتخاذل أصحابه عن مضايقة سنجار معه وسيما أسد الدين شيركوه صاحب حمص والرحبة فانه جاهر بخلافه في ذلك فأجاب العادل في الصلح على ان تكون نصيبين والخابور اللذان ملكهما له وتبقى سنجار لقطب الدين وتحالفوا على ذلك ورجع العادل إلى حران ومظفر الدين إلى اربل والله تعالى أعلم * (وفاة نور الدين صاحب الموصل وولاية ابنه القاهر) * ثم توفى نور الدين ارسلان شاه بن مسعود بن مودود بن الاتابك زنكى منتصف سنة سبع وستمائة لثمان عشرة سنة من ولايته وكان شهما شجاعا مهيبا عند أصحابه حسن
السياسة لرعيته وجدد ملك آبائه بعد أن أشفى على الذهاب ولما احتضر عهد بالملك لابنه عز الدين مسعود وهو ابن عشرين سنة وأوصاه أن يتولى تدبير ملكه مولاه بدر الدين لؤلؤ لما فيه من حسن السياسة وكان قائما بأمره منذ توفى مجاهد الدين قايمان(5/268)
وأوصى لولده الاصغر عماد الدين بقلعة عقر الحميدية وقلعة شوش وولايتها ولفته إلى العقر فلما توفى نور الدين بايع الناس ابنه عز الدين مسعودا ولقبوه القاهر واستقر ملك الموصل وأعمالها له وقام بدر الدين لؤلؤ بتدبير دولته والبقاء لله وحده * (وفاة القاهر وولاية ابنه نور الدين ارسلان شاه في كفالة بدر الدين لؤلؤ) لما توفى الملك القاهر عز الدين مسعود بن ارسلان شاه بن مسعود بن مودود بن الاتابك زنكى صاحب الموصل آخر ربيع الاول سنة خمس عشرة وخمسمائة لثمان سنين من ولايته بعد أن عهد بالملك لابنه الاكبر نور الدين ارسلان شاه وعمره عشرون سنة وجعل الوصي عليه والمدبر لدولته لؤلؤا كما كان في دولة القاهر وابنه نور الدين فبايع له وقام بملكه وأرسل إلى الخليفة في التقليد والخلع على العادة فوصلت وبعث إلى الملوك في الاطراف في تجديد العهد كما كان بينهم وبين سلفه وضبط أموره وكان عمه نور الدين زنكى ارسلان شاه بقلعة عقر الحميدية لا يشك في مصير السلطان له فدفعه عن ذلك واستقامت أموره وأحسن السيرة وسمع شكوى المتظلمين وأنصفهم ووصل في تقليد الخليفة لنور الدين اسناد المترفي أموره لبدر الدين لؤلؤ والله أعلم * (استيلاء عماد الدين صاحب عقر على قلاع الهكارية والزوزان) * كان عماد الدين زنكى قد ولاه أبوه قلعتي العقر والشوش قريبا من الموصل وأوصى له بهما وعهد بالملك لابنه الاكبر القاهر فلما توفى القاهر كما ذكرنا طمح زنكى إلى الملك وكان يحدث به نفسه فلم يحصل له وكان بالعمادية نائب من موالى جده مسعود فداخله في الطاعة له وشعر بذلك بدر الدين لؤلؤ فعزل ذلك النائب وبعث إليها أميرا أنزله بها
وجعل فيها نائبا من قبله واستبد بالنواب في غيرها وكان نور الدين بن القاهر لا يزال عليلا لضعف مزاجه وتوالى الامراض عليه فبقى محتجبا طول المدة فأرسل زنكى إلى نور الدين بالعمادية يشيع موته ويقول أنا أحق بملك سلفى فتوهموا صدقه وقبضوا على نائب لؤلؤ ومن معه وسلموا البلد لعماد الدين زنكى منتصف رمضان سنة خمس عشرة وجهز لؤلؤ العساكر وحاصروه بالعمادية في فصل الشتاء وكلب البرد وتراكم الثلج ولم يتمكنوا من قتاله وظاهره مظفر الدين صاحب اربل على شأنه وذكر لؤلؤا بالعهد الذى بينهما أن لا يتعرض لاعمال الموصل والنص فيها على قلاع الهكارية والزوزان وانه مظاهر لهم على من يتعرض لها فلج مظاهرته واعتمد نقض العهد وأقام العسكر محاصر الزنكى بالعمادية وتقدموا بعض الليالى وركبو الاوعار إليه فبرز إليهم أهل العمادية وهزموهم في المضايق والشعاب فعادوا إلى الموصل وراسل عماد الدين(5/269)
قلاع الهكارية والزوزان في الطاعة له فأجابوه وملكها وولى عليها والله أعلم * (مظاهرة الاشرف بن العادل للؤلؤ صاحب الموصل) * ولما استولى عماد الدين زنكى على قلاع الهكارية والزوزان وظاهره مظفر الدين صاحب اربل خاف لؤلؤ غائلته فبعث بطاعته إلى الاشرف موسى بن العادل وقد ملك أكثر بلاد الجزيرة وخلاط وأعمالها ويسأله المعاضدة فأجابه وكان يومئذ بحلب في مدافعة كيكاوس صاحب بلاد الروم عن أعمالها فأرسل إلى مظفر الدين بالنكير عليه فيما فعل من نقضه العهد الذى كان بينهم جميعا كما مر ويعزم عليه في اعادة ما أخذ من بلاد الموصل ويتوعده ان أصر على مظاهرة زنكى بقصد بلاده فلم يجب مظفر الدين إلى ذلك واستألف على أمره صاحب ماردين وناصر الدين محمودا صاحب كيفا وآمد فوافقوه وفارقوا طاعة الاشرف في ذلك فبعث الاشرف عساكره إلى نصيبين لانجاد لؤلؤ متى احتاج إليه والله تعالى أعلم
* (واقعة عساكر لؤلؤ بعماد الدين) * ولما عاد عسكر الموصل عن حصار العمادية خرج زنكى إلى قلعة العقر ليتمكن من أعمال الموصل الصحراوية إذ كان قد فرغ من أعمالها الجبلية وأمده مظفر الدين صاحب اربل بالعساكر وعسكر جند الموصل على أربع فراسخ من البلد من ناحية العقر ثم اتفقوا على المسير إلى زنكى وصبحوه آخر المحرم ستة ست عشرة وستمائة وهزموه فلحق باربل وعاد العسكر إلى مكانهم ووصل رسل الخليفة الناصر والاشرف ابن العادل في الصلح بينهما فاصطلحوا وتحالفوا والله تعالى أعلم * (وفاة نور الدين صاحب الموصل وولاية أخيه ناصر الدين) * لما توفى نور الدين ارسلان شاه بن الملك القاهر كما قدمناه من سوء مزاجه واختلاف الاسقام عليه فتوفى قبل كمال الحول ونصب لؤلؤ مكانه أخاه ناصر الدين محمد بن القاهر في سن الثلاث واستحلف له الجند وأركبه في الموكب فرضى به الناس لما بلوا من عجز أخيه عن الركوب لمرضه والله تعالى ولى التوفيق * (هزيمة لؤلؤ صاحب الموصل من مظفر الدين صاحب اربل) * ولما توفى نور الدين ونصب لؤلؤ أخاه ناصر الدين محمدا على صغر سنه تجدد الطمع لعماد الدين عمه ولمظفر الدين صاحب اربل في الاستيلاء على الموصل وتجهزوا لذلك وعاثت سراياه في نواحى الموصل وكذا لؤلؤ قد بعث ابنه الاكبر في العساكر نجدة للملك الاشرف وهو يقصد بلاد الافرنج بالسواحل ليأخذ بحجزتهم عن امداد اخوانهم(5/270)
بدمياط عن أبيه الكامل بمصر فبادر لؤلؤ إلى عسكر الاشرف الذين بنصيبين واستدعاهم فجاؤا إلى الموصل منتصف سنة عشر وستمائة وعليهم ايبك مولى الاشرف فاستقلهم لؤلؤ ورآهم مثل عسكره الذين بالشأم أر دونهم وألح ايبك على عبور دجلة إلى اربل فمنعه أياما فلما أصر عبر لؤلؤ معه ونزلوا على فرسخين من الموصل شرقي دجلة
وجمع مظفر الدين زنكى وعبروا الزاب وتقدم إليهم ايبك في عسكره وأصحاب لؤلؤ وسار منتصف الليل من رجب وأشار عليه لؤلؤ بانتظار الصباح فلم يفعل ولقيهم بالليل وحمل ايبك على زنكى في الميسرة فهزمه وانهزمت ميسرة لؤلؤ فبقى في نفر قليل فتقدم إليه مظفر الدين فهزمه وعبر دجلة إلى الموصل وظهر مظفر الدين على تبريز ثلاثا ثم بلغه أن لؤلؤا يريد تبييته فأجفل راجعا وترددت الرسل بينهما فاصطلحا على كل ما بيده والله أعلم * (وفاة صاحب سنجار وولاية ابنه ثم مقتله وولاية أخيه) * ثم توفي قطب الدين محمد بن زنكى بن مودود بن الاتابك زنكى صاحب سنجار في ثامن صفر سنة ست عشرة وستمائة وكان حسن السيرة مسلما إلى نوابه وملك بعده ابنه عماد الدين شاهين شاه واشتمل الناس عليه فملك شهورا ثم سار إلى تل اعفر فاغتاله أخوه عمر ودخل إليه في جماعة فقتلوه وملك بعده وبقى مدة إلى أن تسلم منها الاشرف بن العادل مدينة سنجار في جمادى سنة سبع عشرة وستمائة والله أعلم * (استيلاء عماد الدين على قلعة كواشى ولؤلؤ على تل اعفر والاشرف على سنجار) * كانت كواشى من أحسن قلاع الموصل وأمنعه وأعلاه ولما رأى الجند الذين بها بعد أهل العمادية واستبدادهم بأنفسهم طمعوا في مثل ذلك وأخرجوا نواب لؤلؤ عنهم وتمسكوا باظهار الطاعة على البعد خوفا على رهائنهم بالموصل ثم استدعوا عماد الدين زنكى وسلموا له القلعة وأقام عندهم وبعث لؤلؤ إلى مظفر الدين يذكره العهود التى لم يجز ثلمها بعد فأعرض وأرسل إلى الاشرف بحلب يستنجده فسار وعبر الفرات إلى حران وكان مظفر الدين صاحب اربل يراسل الملوك بالاطراف ويغريهم بالاشرف ويخوفهم غائلته ولما كان بين كيكاوس بن كنجسر وصاحب الروم من الفتنة ما نذكره في أخباره وسار كيكاوس إلى حلب دعا مظفر الدين الملوك بناحيته إلى وفاق كيكاوس مثل صاحب كيفا وآمد وصاحب ماردين فأطاعوه وخطبوا له في أعمالهم ومات
كيكاوس وفي نفس الاشرف منه ومن مظفر الدين ما في نفسه ولما سار الاشرف إلى حران لمظاهرة لؤلؤ راسل مظفر الدين جماعة من أمرائه مثل أحمد بن على المشطوب(5/271)
وعز الدين محمد بن بدر الحميدى وغيرهما واستمالهم ففارقوا الاشرف ونازلوا دبيس تحت ماردين ليجتمعوا مع ملوك الاطراف لمدافعة الاشرف واستمال الاشرف صاحب آمد وأعطاه مدينة حالى وجبل جودى ووعده بدارا إذا ملكها فأجاب وفارقهم إليه واضطر آخرون منهم إلى طاعة الاشرف فانحل أمرهم وانفرد ابن المشطوب بمشاقة الاشرف فقصد اربل ومر بنصيبين فقاتله شيخ بها فانهزم إلى سنجار فأسره صاحبها وكان هواه مع الاشرف ولؤلؤ فصده ابن المشطوب عن رأيه فيهم حتى أجمع خلافه وأطلقه فجمع المفسدين وقصد البقعا من أعمال الموصل فاكتسح نواحيها وعاد ثم سار من سنجار ثانية إلى الموصل وأرصد له لؤلؤ عسكرا فاعترضوه فهزمه واجتاز بنل اعفر من أعمال صاحب سنجار فأقاموا عليها وبعثوا إلى لؤلؤ فسار وحاصرها وملكها في ربيع سنة سبع عشرة وستمائة وأسر ابن المشطوب وجاء به إلى الموصل ثم بعث به إلى الاشرف فحبسه بحران سنين وهلك في محبسه ولما أطاع صاحب آمد الاشرف رحل من حران إلى ماردين ونزل دبيس وحاصر ماردين ومعه صاحب آمد وترددت الرسل بينه وبين صاحب ماردين على أن يرد عليه رأس عين وكان الاشرف قد أقطعها له على أن يحمل إليه ثلاثين ألف دينار وأن يعطى لصاحب آمد الورزنى بلد وانعقد الصلح بينهما وارتحل الاشرف من دبيس إلى نصيبين يريد الموصل فلقيه رسل صاحب سنجار يطلب من يتسلمها منه على أن يعوضه الاشرف منها بالرقة بما أدركه من الخوف عند استيلاء لؤلؤ على تل اعفر ونفرة أهل دولته عنه لقتله أخاه كما ذكرناه فأجابه الاشرف وأعطاه الرقة وملك سنجار في جمادى سنة سبع عشرة وستمائة ورحل عنها بأهله وعشيرته وانقرض أمر بنى زنكى منها بعد أربع وتسعين سنة والبقاء لله وحده
* (صلح الاشرف مع مظفر الدين) * ولما ملك الاشرف سنجار سار إلى الموصل ووافاه بها رسل الخليفة الناصر ومظفر الدين صاحب اربل في الصلح ورد القلاع المأخوذة من ايالة الموصل على صاحبها لؤلؤ ما عدى العمادية فتبقى بيد زنكي وتردد الحديت في ذلك شهرين ولم يتم فرحل الاشرف بقصد اربل حتى قارب نهر الزاب وكان العسكر قد ضجروا سوء صاحب آمد مع مظفر الدين فأشار يا جايئه إلى ما سأل ووافق على ذلك أصحاب الاشرف فانعقد الصلح وساق زنكى إلى الاشرف رهيته على ذلك وسلمت قلعة العقر وشوش لنواب الاشرف وهما لزنكى رهنا أيضا وعاد الاشرف إلى سنجار في رمضان سنة سبع عشرة وبعثوا إلى القلاع فلم يسلمها جندها وامتنعوا بها واستجار عماد الدين زنكى بشهاب بن العادل فاستعطف له أخاه الاشرف فأطلقه ورد عليه قلعتي العقر وشوش وصرف نوابه عنهما وسمع لؤلؤ(5/272)
الاشرف يميل إلى قلعة تل اعفر وانها لم تزل لسنجار قديما فبعث إليه بتسليمها والله تعالى أعلم * (رجوع قلاع الهكارية والزوزان إلى طاعة صاحب الموصل) * لما رأى زنكى أنه ملك قلاع الهكارية والزوزان وبلوه فلم يروا عنده ما ظنوه من حسن السيرة كما يفعله لؤلؤ مع جنده ورعاياه اعتزموا على مراجعة طاعة لؤلؤ وطلبوه في الاقطاع فأجابهم واستأذن الاشرف فلم يأذن له وجاء زنكى من عند الاشرف فحاصر العمادية ولم يبلغ منها غرضا فأعادوا مراسلة لؤلؤ فاستأذن الاشرف وأعطاه قلعة جديدة ونصيبين وولاية بين النهرين وأذن له في تملك القلاع وأرسل نوابه إليها ووفى لهم بما عاهدهم عليه وتبعهم بقية القلاع من أعمال الموصل فدخلوا كلهم في طاعة لؤلؤ وانتظم له ملكها والله تعالى أعلم * (استيلاء صاحب الموصل على قلعة سوس) *
كانت قلعة سوس وقلعة العقر متجاورتين على اثنى عشر فرسخا من الموصل وكانتا لعماد الدين زنكى بن نور الدين ارسلان شاه بوصية أبيه كما مر وملك معها قلاع الهكارية والزوزان ورجعت إلى الموصل وسار هو سنة تسعة عشر إلى ازبك بن البهلوان صاحب اذربيجان من بقية السلجوقية فسار معه وأقطع له الاقطاعات وأقام عنده فسار لؤلؤ من الموصل إلى قلعة سوس فحاصرها وضيق عليها وامتنعت عليه فجمر العساكر لحصارها وعاد إلى الموصل ثم اشتد الحصار بأهلها وانقطعت عنهم الاسباب فاستأمنوا إلى لؤلؤ ونزلوا له عنها على شروط اشترطوها وقبلها وبعث نوابه عليها والله تعالى أعلم * (حصار مظفر الدين الموصل) * كان الاشرف بن العادل بن أيوب قد استولى على الموصل ودخل لؤلؤ في طاعته واستولى على خلاط وسائر ارمينية وأقطعها أخاه شهاب الدين غازى ثم جعله ولى عهده في سائر أعماله ثم نشأت الفتنة بينهما فاستظهر غازى بأخيه المعظم صاحب دمشق وبمظفر الدين كوكبرى وتداعوا لحصار الموصل فجمع أخوهما الكامل عساكره وسار إلى خلاط فحاصرها بعد ان بعث إلى المعظم صاحب دمشق وتهدده فأقصر عن مظاهرة أخيه واستنجد غازى مظفر الدين كوكبرى صاحب اربل فسار إلى الموصل وحاصرها ليأخذ بحجزة الاشرف عن خلاط ونهض المعظم صاحب دمشق لانجاد أخيه غازى وكان لؤلؤ صاحب الموصل قد استعد للحصار فأقام عليها مظفر الدين(5/273)
عشرا ثم رحل منتصف احدى وعشرين لامتناعها عليه ولقيه الخبر بأن الاشرف قد ملك خلاط من يد أخيه فندم على ما كان منه * (انتقاض أهل العمادية على لؤلؤ ثم استيلاؤه عليها) * قد تقدم لنا انتقاض أهل قلعة العمادية من أعمال الموصل سنة خمس عشرة ورجوعه
إلى عماد الدين زنكى ثم عودهم إلى طاعة لؤلؤ فأقاموا على ذلك مدة ثم عادوا إلى ديدنهم من التمريض في الطاعة وتجنوا على لؤلؤ بعزل نوابه فعزلهم مرة بعد أخرى ثم استبد بها أولاد خواجا ابراهيم وأخوه فيمن تبعهم وأخرجوا من خالفهم وأظهروا العصيان على لؤلؤ فسار إليهم سنة ثنتين وعشرين وحاصرهم وقطع الميرة عنهم وبعث عسكرا إلى قلعة هزوران وقد كانوا تبعوا أهل العمادية في العصيان فحاصرهم حتى استأمنوا وملكها ثم جهز العساكر إلى العمادية مع نائبه أمين الدين وعاد الى الموصل واستمر الحصار إلى ذى القعدة من السنة ثم راسلوا أمين الدين في الصلح على مال وأقطاع وعوض عن القلعة وأجاب لؤلؤ إلى ذلك وكان أمين الدين قد وليها قبل ذلك فكان له فيها بطانة مستمدون على عهده ومكاتبته وسخط كثير من أهل البلد فعل أولاد خواجا ابراهيم واستئثارهم بالصلح دونهم فوجد أولئك البطانة سبيلا إلى التسلط عليهم ودسوا لامين الدين أن يبيت البلد ويصالحها فصالحهم فوثبوا بأولاد خواجا ونادوا بشعار لؤلؤ فصعد العسكر القلعة وملكها أمين الدين وبعث بالخبر إلى لؤلؤ قبل أن ينعقد اليمين مع وفد أولاد خواجا والله سبحانه وتعالى ولى التوفيق * (مسير مظفر الدين صاحب اربل إلى أعمال الموصل وعوده عنها) * كان جلال الدين شكرى بن خوارزم شاه قد غلبه التتر أول خروجهم سنة سبع عشرة وستمائة على خوارزم وخراسان وغزنة وفر أمامهم إلى الهند ثم رجع عنها لسنة ثنتين وعشرين واستولى على العراق ثم على اذربيجان وجاور الاشرف بن العادل في ولايته بخلاط والجزيرة وحدثت بينهما الفتنة وراسله أعيان الاشرف في الاغراء به مثل مظفر الدين صاحب اربل ومسعود صاحب آمد وأخيه المعظم صاحب دمشق واتفقوا على ذلك وسار جلال الدين إلى خلاط وسار مظفر الدين إلى الموصل وانتهى إلى الزاب ينتظر الخبر عن جلال الدين وسار المعظم صاحب دمشق إلى حمص وحماة وبعث لؤلؤ من الموصل يستنجد الاشرف فسار إلى حران ثم إلى دبيس فاكتسح أعمال
ماردين وكان جلال الدين قد بلغه انتقاض نائبه بكرمان فاغذ السير إليه وترك خلاط(5/274)
بعد ان عاث في أعمالها وفت ذلك في أعضاد الآخرين وعظمت سطوة الاشرف بهم وبعث إليه أخوه المعظم وقد نازل حمص وحماة يتوعده بمحاصرتهما ومحاصرة مظفر الدين الموصل فرجع عن ماردين ورجع الآخران عن حمص وحماة والموصل ولحق كل ببلده والله تعالى أعلم * (مسير التتر في بلاد الموصل واربل) * ولما أوقع التتر بجلال الدين خوارزم شاه على آمد سنة ثمان وعشرين وقتلوه ولم يبق لهم مدافع من الملوك ولا ممانع انساحوا في البلاد طولا وعرضا ودخلوا ديار بكر واكتسحوا سواد آمد وارزن وميافارقين وحاصروا وملكوها بالامان ثم استباحوها وساروا إلى ماردين فعاثوا في نواحيها ثم دخلوا الجزيرة واكتسحوا أعمال نصيبين ثم مروا إلى سنجار فنهبوها ودخلوا الخابور واستباحوه وسارت طائفة منهم إلى الموصل فاستباحوا أعمالهم ثم أعمال اربل وأفحشوا فيها وبرز مظفر الدين في عساكره واستمد عساكر الموصل فبعث بها لؤلؤ إليه ثم عاد التتر عنهم إلى اذربيجان فعاد كل إلى بلاده والله أعلم * (وفاة مظفر الدين صاحب اربل وعودها إلى الخليفة) * ثم توفى مظفر الدين كوكبرى بن زين الدين كجك صاحب اربل سنة تسع وعشرين لاربع وأربعين سنة من ولايته عليها أيام صلاح الدين بعد أخيه يوسف ولم يكن له ولد فأوصى باربل للخليفة المستنصر فبعث إليها نوابه واستولى عليها وصارت من أعماله والله تعالى أعلم * (بقية أخبار لؤلؤ صاحب الموصل) * كان عسكر خوارزم شاه بعد مهلكه سنة ثمان وعشرين على آمد لحقوا بصاحب
الروم كيفباد فاستنجدهم وهلك سنة أربع وثلاثين وستمائة وولى ابنه كنجسروا فقبض على أميرهم ومر الباقون وانتبذوا بأطراف البلاد وكان الصالح نجم الدين أيوب في حران وكيفا وآمد نائبا عن أبيه الملك العادل فرأى المصلحة في استضافتهم إليه فاستمالهم واستخدمهم بعد ان اذن أبوه له في ذلك فلما مات أبوه سنة خمس انتقضوا ولحقوا بالموصل واشتمل عليهم لؤلؤ وسار معهم فحاصر الصالح بسنجار ثم بعث الصالح إلى الخوارزمية واستمالهم فرجعوا إلى طاعته على أن يعطيهم حران والرها ينزلون بها فاعطاهما اياهم وملكوهما ثم ملكوا نصيبين من أعمال لؤلؤ وبنو أيوب يومئذ(5/275)
متفرقون على كراسي الشأم وبينهم من الانفة والفرقة ما نتلو عليك قصصه في دولتهم ثم استقر ملك سنجار للجواد يونس منهم وهو ابن مودود بن العادل أخذها من الصالح نجم الدين أيوب عوضا عن دمشق واستولى لؤلؤ على سنجار من يده سنة سبع وثلاثين ثم حدثت بين صاحب حلب وبين الخوارزمية فتنة ولجؤا يومئذ لصفيتهم خاتون بنت العادل فبعثت العساكر إليهم مع المعظم بوران شاه بن صلاح الدين فهزموا عساكره وأسروا ابن أخيه الافضل ودخلوا حلب واستباحوها ثم فتحوا منبج وعاثوا فيها وقطعوا الفرات من الرقة وهم يذهبون وتبعهم عسكر دمشق وحمص فهزموهم وأثخنوا فيهم ولحقوا ببلدهم حران فسارت إليهم عساكر حلب واستولوا على حران ولحق الخوارزمية بغانة وبادر لؤلؤ صاحب الموصل إلى نصيبين فملكها من أيديهم ثم توفيت صفية بنت العادل سنة أربعين في حلب وكانت ولايتها بعد وفاة أبيها العزيز محمد بن الظاهر غازى بن صلاح الدين فولى بعدها ابنه الناصر يوسف ابن العزيز في كفالة مولاه احيال الخاتونى فلما كانت سنة ثمان وأربعين وستمائة وقع بين عسكره وبين بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل حرب انهزم فيها لؤلؤ وملك الناصر نصيبين ودارا وقرقيسيا ولؤلؤ بحلب ثم زحف هلاكو ملك التتر إلى
بغداد سنة وملكها وقتل الخليفة المستعصم واستلحم العلية من بغداد كما مر في أخبار الخلفاء ويأتى في أخبار التتر وتخطى منها إلى اذربيجان فبادر لؤلؤ ووصل إليه باذربيجان وآتاه طاعته وعاد إلى الموصل والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده * (وفاة صاحب الموصل وولاية ابنه الصالح) * ثم توفى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل سنة سبع وخمسين وستمائة وكان يلقب الملك الرحيم وملك بعده على الموصل ابنه الصالح اسمعيل وعلى سنجار ابنه المظفر علاء الدين على وعلى جزيرة ابن عمر ابنه المجاهد اسحق وأبقاهم هلاكو عليها مدة ثم أخذها منهم ولحقوا بمصر فنزلوا على الملك الظاهر بيبرس كما نذكر في أخباره وسار هلاكو إلى الشأم فملكها وانقرضت دولة الاتابك زنكى وبنيه ومواليه من الشأم والجزيرة اجمع كان لم تكن والله وارث الارض ومن عليها وهو خير الوارثين والبقاء لله تعالى وحده والله تعالى أعلم(5/276)
[ الخبر عن دولة بنى أيوب القائمين بالدولة العباسية وما كان لهم من الملك بمصر والشأم واليمن والمغرب وأولية ذلك ومصايره ] هذه الدولة من فروع دولة بنى زنكى كما تراه وجدهم هو أيوب بن شادى بن مروان بن على بن عشرة بن الحسن بن على بن أحمد بن على بن عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحرث بن سنان بن عمر بن مرة بن عوف الحميرى الدوسى هكذا نسبه بعض المؤرخين لدولتهم قال ابن الاثير انهم من الاكراد الروادية وقال ابن خلكان شادى أبوهم من أعيان درين وكان صاحبه بها بهروز فأصابه خصى من بعض أمرائه وفرحياء من المثلة فلحق بدولة السلطان مسعود بن محمد بن ملك شاه وتعلق بخدمة داية بنيه حتى إذا هلك الداية أقامه السلطان لبنيه مقامه فظهرت كفايته وعلا في الدولة محله فبعث
عن شادى بن مروان صاحبه لما بينهما من الالفة وأكيد الصحبة فقدم عليه ثم ولى السلطان بهروز شحنة بغداد فسار إليها واستصحب شادى معه ثم أقطعه السلطان قلعة تكريت فولى عليها شادى فهلك وهو وال عليها وولى بهروز مكانه ابنه نجم الدين أيوب وهو أكبر من أسد الدين شيركوه فلم يزل واليا عليها ولما زحف عماد الدين زنكى صاحب الموصل لمظاهرة مسعود على الخليفة المسترشد سنة عشرين وخمسمائة وانهزم الاتابك وانكفأ راجعا إلى الموصل ومر بتكريت قام نجم الدين بعلوفته وازواده وعقد له الجسور على دجلة وسهل له عبورها ثم ان شيركوه أصاب دما في تكريت ولم يفده منه أخوه أيوب فعزله بهروز وأخرجهما من تكريت فلحقا بعماد الدين بالموصل فأحسن اليهما وأقطعهما ثم ملك بعلبك سنة ثنتين وثلاثين جعله نائبا بها ولم يزل بها ايوب ولما مات عماد الدين زنكى سنة احدى وأربعين زحف صاحب دمشق فخر الدين طغركين إلى بعلبك وحاصرها واستنزل أيوب منها على ما شرط لنفسه من الاقطاع وأقام معه بدمشق وبقى شيركوه مع نور الدين محمود بن زنكى وأقطعه حمص والرحبة لاستطلاعه وكفايته وجعله مقدم عساكره ولما صرف نظره إلى الاستيلاء على دمشق واعتزم على مداخلة أهلها كان ذلك على يد شيركوه وبمكاتبته لاخيه أيوب وهو بدمشق فتم ذلك على أيديهما وبمحاولتهما وملكها سنة تسع وأربعين وخمسمائة وكانت دولة العلويين بمصر قد أخلقت جدتها وذهب استفحالها واستبد وزراؤها على خلفائها فلم يكن الخلفاء يملكون معهم وطمع الافرنج في سواحلهم وأمصارهم لما نالهم من الهرم والوهن فمالوا عليهم وانتزعوا البلاد من أيديهم وكانوا يردون عليهم كرسى خلافتهم بالقاهرة ووضعوا عليهم الجزية وهم يتجرعون المصاب من ذلك ويتحملونه مع بقاء أمرهم كاد الاتابك زنكى وقومه السلجوقية من قبله أن بمحو دعوتهم ويذهبوا(5/278)
بدولتهم وأقاموا من ذلك على مضض وقلق وجاء الله بدعوة العاضد آخرهم وتغلب عليه
بعد الصالح بن زريك شاور السعدى وقتل زريك بن صالح سنة ثمان وخمسين واستبد على العاضد ثم نازعه الضرغام لتسعة أشهر من ولايته وغلبه وأخرجه من القاهرة فلحق بالشأم ولحق بنور الدين صريخا سنة تسع وخمسين وشرط له على نفسه ثلث الجباية بأعمال مصر على أن يبعث معه عسكرا يقيمون بها فأجابه إلى ذلك وبعث أسد الدين شيركوه في العساكر فقتل الضرغام ورد شاور إلى رتبته وآل أمرهم إلى محو الدولة العلوية وانتظام مصر وأعمالها في ملكة ابن أيوب بدعوة نور الدين محمود بن زنكى ويخطب للخلفاء العباسيين لما هلك نور الدين محمود واستبد صلاح الدين بأمره في مصر ثم غلب على بنى نور الدين محمود وملك الشأم من أيديهم وكثير ابن عمهم مودود واستفحل ملكه وعظمت دولة بنيه من بعده إلى أن انقرضوا والبقاء لله وحده * (مسير أسد الدين شيركوه إلى مصر واعادة شاور إلى وزارته) * لما اعتزم نور الدين محمود صاحب الشأم على صريخ شاور وارسال العساكر معه واختار لذلك أسد الدين شيركوه بن شادى وكان من أكبر أمرائه فاستدعاه من حمص وكان أميرا عليها وهى أقطاعه وجمع له العساكر وأزاح عللهم وفصل بهم شيركوه من دمشق في جمادى سنة تسع وخمسين وسار نور الدين بالعساكر إلى بلاد الافرنج ليأخذ بحجزتهم عن اعتراضه أوصده لما كان بينهم وبين صاحب مصر من الالفة والتظاهر ولما وصل أسد الدين بلبيس لقيه هنالك ناصر الدين أخو الضرغام وقاتله فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزوما وخرج الضرغام منسلخ جمادى الاخيرة فقتل عند مشهد السيدة نفيسة رضى الله عنها وقتل أخوه وأعاد شاور إلى ووراته وتمكن فيها وصرف أسد الدين إلى بلده وأعرض عما كان بينهما فطالبه أسد الدين بالوفاء فلم يجب إليه فتغلب أسد الدين على بلبيس والبلاد الشرقية وبعث شاور إلى الافرنج يستنجدهم ويعدهم فبادروا إلى اجابته وسار بهم ملكهم مرى لخوفهم أن يملك أسد الدين مصر واستعانوا بجمع من الافرنج جاؤا لزيارة القدس وسار نور الدين إليهم ليشغلهم فلم يثنهم ذلك
وطمعوا لعزمهم ورزأ أسد الدين إلى بلبيس واجتمعت العساكر المصرية والافرنج عليه وحاصروه ثلاثة أشهر وهو يغاديهم القتال ويراوحهم وامتنع عليهم وقصاراهم منع الاخبار عنه واستنفر نور الدين ملوك الجزيرة وديار بكر وقصر حارم وسار الافرنج لمدافعته فهزمهم وأثخن فيهم وأسر صاحب انطاكية وطرابلس وفتح حارم قريبا من حلب ثم سار إلى بانياس قريبا من دمشق ففتحها كما مر في أخبار نور الدين وبلغ الخبر بذلك إلى الافرنج وهم محاصرون أسد الدين في بلبيس ففت في عزائمهم وطووا الخبر(5/279)
عنه وراسلوه في الصلح على أن يعود إلى الشأم فصالحهم وعاد إلى الشأم في ذى الحجة من السنة والله تعالى أعلم * (مسير أسد الدين ثانيا إلى مصر وملكه لاسكندرية ثم صلحه عليها وعوده) * ولما رجع أسد الدين إلى الشأم لم يزل في نفسه مما كان من غدر شاور وبقى يشحن لغزوهم إلى سنة ثنتين وستين فجمع العساكر وبعث معه نور الدين جماعة من الامراء واكثف له العسكر خوفا على حامية الاسلام وسار أسد الدين إلى مصر وانتهى إلى اطفيح وعبر منها إلى العدوة الغربية ونزل الجيزه وأقام تحوا من خمسين يوما وبعث شاور إلى الافرنج يستمدهم على العادة وعلى مالهم من التخوف من استفحال ملك نور الدين وشيركوه فسارعوا إلى مصر وعبروا مع عساكرها إلى الجيزه وقد ارتحل عنها أسد الدين إلى الصعيد وانتهى منها إلى واتبعوه وأدركوه بها منتصف ثنتين وستين ولما رأى كثرة عددهم واستعدادهم مع تخاذل أصحابه فاستشارهم فاشار بعضهم بعبور النيل إلى العدوة الشرقية والعود إلى الشأم وأبى زعماؤهم الا الاستماتة سيما مع خشية العتب من نور الدين وتقدم صلاح الدين بذلك وأدركهم القوم على تعبية وجعل صلاح الدين في القلب وأوصاه أن يندفع أمامهم ووقف هو في الميمنة مع من وثق باستماتته وحمل القوم على صلاح الدين فسار بين أيديهم على تعبيته وخالفهم
أسد الدين إلى مخلفهم فوضع السيف فيهم وأثخن قتلا وأسرا ورجعوا عن صلاح الدين يظنون أنهم ساروا منهزمين فوجدوا أسد الدين قد استولى على مخلفهم واستباحه فانهزموا إلى مصر وسار أسد الدين إلى الاسكندرية فتلقاه أهلها بالطاعة واستخلف بها صلاح الدين ابن أخيه وعاد إلى الصعيد فاستولى عليه وفرق العمال على جباية أمواله ووصلت عساكر مصر والافرنج إلى القاهرة وأزاحوا عللهم وساروا إلى الاسكندرية فحاصروا بها صلاح الدين وجهده الحصار وسار أسد الدين من الصعيد لامداده وقد انتقض عليه طائفة من التركمان من عسكره وبينما هو في ذلك جاءته رسل القوم في الصلح على أن يرد عليهم الاسكندرية ويعطوه خمسين ألف دينار سوى ما جباه من أموال الصعيد فأجابهم إلى ذلك على أن يرجع الافرنج إلى بلادهم ولا يملكوا من البلاد قرية فانعقد ذلك بينهم منتصف شوال وعاد أسد الدين وأصحابه إلى الشأم منتصف ذى القعدة ثم شرط الافرنج على شاور أن ينزلوا بالقاهرة شحنة وتكون أبوابها بأيديهم ليتمكنوا من مدافعة نور الدين فضربوا عليه مائة ألف دينار في كل سنة جزية فقبل ذلك وعاد الافرنج إلى بلادهم بسواحل الشأم وتركوا بمصر جماعة من زعمائهم وبعث الكامل أبا شجاع شاور إلى نور الدين(5/280)
بطاعته وآن يبث بمصر دعوته وقرر على نفسه ما لا يحمل كل سنة إلى نور الدين فأجابه إلى ذلك وبقى شيعة له بمصر والله تعالى أعلم * (استيلاء أسد الدين على مصر ومقتل شاور) * ولما ضرب الافرنج الجزية على القاهرة ومصر وأنزلوا بها الشحنة وملكوا أبوابها تمكنوا من البلاد وأقاموا فيها جماعة من زعمائهم فتحكموا واطلعوا على عورات الدولة فطمعوا فيما وراء ذلك من الاستيلاء وراسلوا بذلك ملكهم بالشأم واسمه مرى ولم يكن ظهر بالشأم من الافرنج مثله فاستدعوه لذلك وأغروه فلم يجبهم واستحثه أصحابه
لملكها وما زالوا يقتلون له في الذروة والغارب ويوهمونه القوة بتملكها على نور الدين ويريهم هو أن ذلك يؤل إلى خروج أصحابها عنها لنور الدين فبقى بها إلى أن غلبوا عليه فرجع إلى رأيهم وتجهز وبلغ الخبر نور الدين فجمع عساكره واستنفر من في ثغوره وسار الافرنج إلى مصر مفتتح أربع وستين فملكوا بلبيس عنوة في صفر واستباحوها وكاتبهم جماعة من أعداء شاور فأنسوا مكاتبتهم وساروا إلى مصر ونازلوا القاهرة وأمر شاور باحراق مدينة مصر لينتقل أهلها إلى القاهرة فيضبط الحصار فانتقلوا وأخذهم الحريق وامتدت الايدى وانتهبت أموالهم واتصل الحريق فيها شهرين وبعث العاضد إلى نور الدين يستغيث به فأجاب وأخذ في تجهيز العساكر فاشتد الحصار على القاهرة وضاق الامر بشاور فبعث إلى ملك الافرنج يذكره بقديمه وان هواه معه دون العاضد ونور الدين ويسأل في الصلح على المال لنفور المسلمين مما سوى ذلك فأجابه ملك الافرنج على ألف ألف دينار لما رأى من امتناع القاهرة وبعث إليهم شاور بمائة الف منها وسألهم في الافراج فارتحلوا وشرع في جمع المال فعجز الناس عنه ورسل العاضد خلال ذلك تردد إلى نور الدين في أن يكون أسد الدين وعساكره حامية عنده وعطاؤهم عليه وثلث الجباية خالصة لنور الدين فاستدعى نور الدين أسد الدين من حمص وأعطاه مائتي ألف دينار وجهزه بما يحتاجه من الثياب والدواب والاسلحة وحكمه في العساكر والخزائن ونفل العسكر عشرين دينارا لكل فارس وبعث معه من أمرائه مولاه عز الدين خردك وعز الدين قليج وشرف الدين ترعش وعز الدولة الياروقي وقطب الدين نيال بن حسان المنبجى وأمد صلاح الدين يوسف بن أيوب مع عمه أسد الدين فتعلل عليه واعتزم عليه فأجاب وسار أسد الدين منتصف ربيع فلما قارب مصر رجع الافرنج إلى بلادهم فسر بذلك نور الدين وأقام عليه البشائر في الشأم ووصل أسد الدين القاهرة ودخلها منتصف جمادى الاخيرة ونزل بظاهرها ولقى العاضد وخلع عليه وأجرى عليه وعلى عساكره الجرايات والاتاوات وأقام أسد الدين ينتظر شرطهم وشاور(5/281)
يماطله ويعلله بالمواعيد ثم فاوض أصحابه في القبض على أسد الدين واستخدام جنده فمنعه ابنه الكامل من ذلك فأقصر ثم أشرف أصحاب أسد الدين على اليأس من شاور وتفاوض أمراؤه في ذلك فاتفق صلاح الدين ابن أخيه وعز الدين خردك على قتل شاور وأسد الدين ينهاهم وغدا شاور يوما على أسد الدين في خيامه فألفاه قد ركب لزيارة تربة الامام الشافعي رضى الله تعالى عنه فتلقاه صلاح الدين وخردك وركبوا معه لقصد أسد الدين فقبضوا عليه في طريقهم وطيروا بالخبر إلى أسد الدين وبعث العاضد لوقته يحرضهم على قتله فبعثوا إليه برأسه وامر العاضد بنهب دوره فنهبها الغامة وجاء أسد الدين لقصر العاضد فخلع عليه الوزارة ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش وخرج له من القصر منشور من انشاء القاضى الفاضل البيسانى وعليه مكتوب بخط الخليفة ما نصه هذا عهد لا عهد لوزير بمثله فتقلد ما رآك الله وأمير المؤمنين أهلا لحمله وعليك الحجة من الله فيما أوضح لك من مراشد سبله فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبوة واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلا ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ثم ركب أسد الدين إلى دار الوزارة التى كان فيها شاور وجلس مجلس الامر والنهى وولى على الاعمال وأقطع البلاد للعساكر وأمن أهل مصر بالرجوع إلى بلادهم ورمها وعمارتها وكاتب نور الدين بالواقع مفصلا وانتصب للامور ثم دخل للعاضد وخطب الاستاذ جوهر الخصى عنه وهو يومئذ أكبر الاساتيذ فقال يقول لك مولانا نؤثر مقامك عندنا من أول قدومك وأنت تعلم الواقع من ذلك وقد تيقنا أن الله عز وجل اد خرك لنا نصرة على أعدائنا فحلف له اسد الدين على النصيحة واظهار الدولة فقال الاستاذ عن العاضد الامر بيدك هذا وأكثر ثم جددت الخلع واستخلص أسد الدين الجليس عبد القوى وكان قاضى القضاة وداعي الدعاة واستحسنه واختصه وأما الكامل بن شاور فدخل القصر مع
اخوته معتصمين به وكان آخر العهد به وأسف أسد الدين عليه لما كان منه في رد أبيه وذهب كل بما كسب والله تعالى أعلم * (وفاة أسد الدين وولاية ابن أخيه صلاح الدين) * ثم توفى أسد الدين شيركوه آخر جمادى الاخيرة من سنة أربع وستين لشهرين من وزارته ولما احتضر أوصى حواشيه بهاء الدين قراقوش فقال له الحمد لله الذى بلغنا من هذه الديار ما أردنا وصار أهلها راضين عنا فلا تفارقوا سور القاهرة ولا تفرطوا في الاسطول ولما توفى تشوف الامراء الذين معه إلى رتبة الوزارة مكانه مثل عز الدولة الباروقى وشرف الدين المشطوب الهكارى وقطب الدين نيال بن حسان المنبجى(5/282)
وشهاب الدين الحارمى وهو خال صلاح الدين وجمع كل لمغالبة صاحبه وكان أهل القصر وخواص الدولة قد تشاوروا فأشار جوهر باخلاء رتبة الوزارة واصطفاء ثلاثة آلاف من عسكر الغز يقودهم قراقوش ويعطى لهم الشرقية اقطاعا ينزلون بها حشدا دون الافرنج من يستبد على الخليفة بل يقيم واسطة بينه وبين الناس على العادة وأشار آخرون باقامة صلاح الدين مقام عمه والناس تبع له ومال القاضى لذلك حياء من صلاح الدين وجنوحا إلى صغر سنه وأنه لا يتوهم فيه من الاستبداد ما يتوهم في غيره من أصحابه وأنهم في سعة من رأيهم مع ولايته فاستدعاه وخلع عليه ولقبه الملك الناصر واختلف عليه أصحابه فلم يطيعوه وكان عيسى الهكارى شيعة له واستمالهم إليه الا الياروقى فانه امتنع وعاد إلى نور الدين بالشأم وثبتت قدم صلاح الدين في مصر وكان نائبا عن نور الدين ونور الدين يكاتبه بالامير الاسفهسار ويجمعه في الخطاب مع كافة الامراء بالديار المصرية وما زال صلاح الدين يحسن المباشرة ويستميل الناس ويفيض العطاء حتى غلب على أفئدة الناس وضعف أمر العاضد ثم أرسل يطلب اخوته وأهله من نور الدين فبعث بهم إليه من الشأم واستقامت أموره واطردت سعادته والله
تعالى ولى التوفيق * (واقعة السودان بمصر) * كان بقصر العاضد خصى حاكم على أهل القصر يدعى مؤتمن الخلافة فلما غص أهل الدولة بوزارة صلاح الدين داخل جماعة منهم وكاتب الافرنج يستدعيهم ليبرز صلاح الدين لمدافعتهم فيثوروا بمخلفه ثم يتبعونه وقد ناشب الافرنج فيأتون عليه وبعثوا الكتاب مع ذى طمرين حمله في نعاله فاعترضه بعض التركمان واستلبه ورأوا النعال جديدة فاسترابوا بها فجاؤا به إلى صلاح الدين فقرأ الكتاب ودخل على كاتبه فأخبره بحقيقة الامر فطوى ذلك وانتظر مؤتمن الخلافة حتى خرج إلى بعض قراه متنزها وبعث من جاء برأسه ومنع الخصيين بالقصر عن ولاية أموره وقدم عليهم بهاء الدين قراقوش خصيا أبيض من خدمه وجعل إليه جميع الامور بالقصر وامتعض السودان بمصر لمؤتمن الخلافة واجتمعوا لحرب صلاح الدين وبلغوا خمسة آلاف وناجزوا عسكره من القصر في ذى القعدة من السنة وبعث إلى محلتهم بالمنصورة من أحرقها على أهليهم واولادهم فلما سمعوا بذلك انهزموا وأخذهم السيف في السكك فاستأمنوا وعبروا إلى الجيزة فسار إليهم شمس الدولة أخوه صلاح الدين في طائفة من العسكر فاستلحمهم وأبادهم والله أعلم * (منازلة الافرنج دمياط وفتح ايلة) *(5/283)
ولما استولى صلاح الدين على دولة مصر وقد كان الافرنج أسفوا على ما فاتهم من صده وصد عمه عن مصر وتوقعوا الهلاك من استطالة نور الدين عليهم بملك مصر فبعثوا الرهبان والاقسة إلى بلاد القرانية يدعونهم إلى المدافعة عن بيت المقدس وكاتبوا الافرنج بصقلية والاندلس يستنجدونهم فنفروا واستعدوا لامدادهم واجتمع الذين بسواحل الشأم في فاتح خمس وستين وثلثمائة وركبوا في ألف من الاساطيل وأرسلوا
لدمياط ليملكوها ويقربوا من مصر وكان صلاح الدين قد ولاها شمس الخواص منكبرس فبعث إليه بالخبر فجهز إليها بهاء الدين قراقوش وأمراء الغز في البر متتابعين وواصل المراكب بالاسلحة والاتاوات وخاطب نور الدين يستمده لدمياط لانه لا يقدر على المسير إليها خشية من أهل الدولة بمصر فبعث نور الدين إليها العساكر ارسالا ثم سار بنفسه وخالف الافرنج إلى بلادهم بسواحل الشأم فاستباحها وخربها وبلغهم الخبر بذلك على دمياط وقد امتنعت عليهم ووقع فيهم الموتان فأقلعوا عنها لخمسين يوما من حصارها ورجع أهل سواحل الشأم لبلادهم فوجدوها خرابا وكان جملة ما بعثه نور الدين في المدد لصلاح الدين في شأن دمياط هذة ألف ألف دينار سوى الثياب والاسلحة وغيرها ثم أرسل صلاح الدين إلى نور الدين في منتصف السنة يستدعى منه أباه نجم الدين أيوب فجهزه إليه مع عسكر واجتمع معهم من التجار جماعة وخشى عليهم نور الدين في طريقهم من الافرنج الذين بالكرك فسار إلى الكرك وحاصرهم بها وجمع الافرنج الآخرون فصمد للقائهم فخاموا عنه وسار في وسط بلادهم وسار إلى عشيرا ووصل نجم الدين أيوب إلى مصر وركب العاضد لتلقيه ثم سار صلاح الدين سنة ست وستين لغزو بلاد الافرنج وأغار على أعمال عسقلان والرملة ونهب ربط غزة ولقى ملك الافرنج فهزمه وعاد إلى مصر ثم أنشأ مراكب وحملها مفصلة على الجمال إلى أيلة فألفها وألقاها في البحر وحاصر أيلة برا وبحرا وفتحها عنوة في شهر ربيع من السنة واستباحها وعاد إلى مصر فعزل قضاة الشيعة وأقام قاضيا شافعيا فيها وولى في جميع البلاد كذلك ثم بعث أخاه شمس الدولة توران شاه إلى الصعيد فأغار على العرب وكانوا قد عاتوا وأفسدوا فكفهم عن ذلك والله تعالى أعلم * (اقامة الخطبة العباسية بمصر) * ثم كتب نور الدين باقامة الخطبة للمستضئ العباسي وترك الخطبة للعاضد بمصر فاعتذر عن ذلك بميل أهل مصر للعلويين وفي باطن الامر خشى من نور الدين فلم
يقبل نور الدين عذره في ذلك ولم تسعه مخالفته وأحجم عن القيام بذلك وورد على صلاح الدين شخص من علماء الاعاجم يعرف بالخبشانى ويلقب بالامير العالم فلما رآهم(5/284)
محجمين عن ذلك صعد المنبر يوم الجمعة قبل الخطيب ودعى للمستضئ فلما كانت الجمعة القابلة أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد والخطبة للمستضئ فتراسلوا بذلك ثانى جمعة من المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة وكان المستضئ قد ولى الخلافة بعد أبيه المستنجد في ربيع من السنة قبلها ولما خطب له بمصر كان العاضد مريضا فلم يشعروه بذلك وتوفى يوم عاشوراء من السنة ولما خطب له على منابر مصر جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصره ووكل به بهاء الدين قراقوش وكان فيه من الذخائر ما يعز وجوده مثل حبل الياقوت الذى وزن كل حصاة منه سبعة عشر مثقالا ومصاف الزمرذ الذى طوله أربعة أصابع طولا في عرض ومثل طبل القولنج الذى يضربه ضاربه فيعافي بذلك من داء القولنج وكسروه لما وجدوا ذلك منه فلما ذكرت لهم منفعته ندموا عليه ووجدوا من الكتب النفيسة ما لا يعدو نقل أهل العاضد إلى بعض حجر القصر ووكل بهم واخرج الاماء والعبيد وقسمهم بين البيع والهبة والعتق وكان العاضد لما اشتد مرضه استدعاه فلم يجب داعيه وظنها خديعة فلما توفى ندم وكان يصفه بالكرم ولين الجانب وغلبة الخير على طبعه والانقياد ولما وصل الخبر إلى بغداد بالخطبة للمستضئ ضربت البشائر وزينت بغداد أياما وبعثت الخلع لنور الدين وصلاح الدين مع صندل الخادم من خواص المقتفى فوصل إلى نور الدين وبعث بخلعة صلاح الدين وخلع الخطباء بمصر والاعلام السود والله تعالى أعلم * (الوحشة بين صلاح الدين ونور الدين) * قد كان تقدم لنا ذكر هذه الوحشة في أخبار نور الدين مسثوفاة وأن صلاح الدين غزا بلاد الافرنج سنة سبع وستين وحاصر حصن الشوبك على مرحلة من الكرك حتى
استأمنوا إليه فبلغ ذلك نور الدين فاعتزم على قصد بلاد الافرنج من ناحية أخرى فارتاب صلاح الدين في أمره وفي لقاء نور الدين واظهار طاعته وما ينشأ عن ذلك من تحكمه فيه فأسرع العود إلى مصر واعتذر لنور الدين بشئ بلغه عن شيعة العلويين ليعتزله نور الدين وأخذ في الاستعداد لعزله وبلغ ذلك صلاح الدين وأصحابه فتفاوضوا في مدافعته ونهاهم أبوه نجم الدين أيوب وأشار بمكاتبته والتلطف له مخافة أن يبلغه غير ذلك فيقوى عزمه على العمل به ففعل ذلك صلاح الدين فسالمه نور الدين وعادت المخالطة بينهما كما كانت واتفقا على اجتماعهما لحصار الكرك فسار صلاح الدين لذلك سنة ثمان وستين وخرج نور الدين من دمشق بعد ان تجهز فلما انتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك وبلغ صلاح الدين خبره ارتابه ثانيا وجاءه الخبر بمرض نجم الدين أبيه بمصر فكر راجعا وأرسل إلى نور الدين الفقيه عيسى الهكارى بما وقع من حديث(5/285)
المرض بأبيه وانه رجع من أجله فأظهر نور الدين القبول وعاد إلى دمشق والله تعالى أعلم * (وفاة نجم الدين أيوب) * كان نجم الدين أيوب بعد انصراف ابنه صلاح الدين إلى مصر أقام بدمشق عند نور الدين ثم بعث عنه ابنه صلاح الدين عندما استوسق له ملك مصر فجهزه نور الدين سنة خمس وستين في عسكره وسار لحصار الكرك ليشغل الافرنج عن اعتراضه كما مر ذكره ووصل إلى مصر وخرج العاضد لتلقيه وأقام مكرما ثم سار صلاح الدين إلى الكرك سنة ثمان وستين المرة الثانية في مواعدة نور الدين وأقام نجم الدين بمصر وركب يوما في مركب وسار ظاهر البلد والفرس في غلواء مراحه وملاعبة ظله فسقط عنه وحمل وقيذا إلى بيته فهلك لايام منها آخر ذى الحجة من السنة وكان خيرا جوادا محسنا للعلماء والفقراء وقد تقدم ذكر أوليته والله ولى التوفيق
* (استيلاء قراقوش على طرابلس الغرب) * كان قراقوش من موالى تقى الدين عمر بن شاه بن نجم الدين أيوب وهو ابن أخى صلاح الدين فغضب مولاه في بعض النزعات وذهب مغاضبا إلى المغرب ولحق بجبل نفوسه من ضواحي طرابلس الغرب وأقام هنالك دعوة مواليه وكان في بسائط تلك الجبال مسعود اين زمام المعروف بالبلط في احيائه من رياح من عرب هلال بن عامر كان منحرفا عن طاعة عبد المؤمن شيخ الموحدين وخليفة المهدى فيهم فانتبذ مسعود بقومه عن المغرب وافريقية إلى تلك القاصية فدعاه قراقوش إلى اظهار دعوة مواليه بنى أيوب فأجابه ونزل معه باحيائه على طرابلس فحاصرها قراقوش وافتتحها ونزل بأهله وعياله في قصرها ثم استولى على قابس من ورائها وعلى توزر ونفطة وبلاد نفراوة من افريقية وجمع أموالا جمة وجعل ذخيرته بمدينة قابس وخربت تلك البلاد أثناء ذلك باستيلاء العرب عليها ولم يكن لهم قدرة على منعهم ثم طمع في الاستيلاء على جميع افريقية ووصل يده بيحيى بن غانية اللمتونى الثائر بتلك الناحية بدعوة لمتونة من بقية الامراء في دولتهم فكانت لهما بتلك الناحية آثار مذكورة في أخبار دولة الموحدين إلى أن غلبه ابن غانية على ما ملك من تلك البلاد وقتله كما هو مذكور في أخبارهم والله أعلم * (استيلاء نور الدين توران شاه بن أيوب على بلاد النوبة ثم على بلاد اليمن) * كان صلاح الدين وقومه على كثرة ارتيابهم من نور الدين وظنهم به الظنون يحاولون ملك القاصية عن مصر ليمتنعوا بها ان طرقهم منه حادث أو عزم على المسير إليهم في مصر(5/286)
فصرفوا عزمهم في ذلك إلى بلاد النوبة أو بلاد اليمن وتجهز شمس الدولة توران شاه ابن أيوب وهو اخو صلاح الدين الاكبر إلى ملك النوبة وسار إليها في العساكر سنة ثمان وستين وحاصر قلعة من ثغورهم ففتحها واختبرها فلم يجد فيها خرجا ولا في البلاد باسرها جباية وأقواتهم الذرة وهم في شظف من العيش ومعاناة للفتن فاقتصر على ما فتحه من
ثغورهم وعاد في غنيته بالعبدى والجوارى فلما وصل إلى مصر أقام بها قليلا وبعثه صلاح الدين إلى اليمن وقد كان غلب عليه على بن مهدى الخارجي سنة أربع وخمسين وصار أمره إلى ابنه عبد النبي وكرسي ملكه زبيد منها وفي عدد ياسر بن بلال بقية ملوك بنى الربيع وكان عمارة اليمنى شاعر العبيدي وصاحب بنى زربك من أمرائهم وكان أصله من اليمن وكان في خدمة شمس الدولة ويغريه به فسار إليه شمس الدولة بعد ان تجهز وأزاح العلل واستعد للمال والعيال وسار من مصر منتصف سنة تسع وستين ومر بمكة وانتهى إلى زبيد وبها ملك اليمن عبد النبي بن على بن مهدى فبرز إليه وقاتله فانهزم وانحجر بالبلد وزحفت عساكر شمس الدولة فتسنموا أسوارها وملكوها عنوة واستباحوها وأسروا عبد النبي وزوجته وولى شمس الدولة على زبيد مبارك بن كامل ابن منقذ من أمراء شيزر كان في جملته ودفع إليه عبد النبي ليستخلص منه الاموال فاستخرج من قرابته دفائن كانت فيها أموال جليلة ودلتهم زوجته الحرة على ودائع استولوا منها على أموال جمة وأقيمت الخطبة العباسية في زبيد وسار شمس الدولة توران شاه إلى عدن وبها ياسر بن بلال كان أبوه بلال بن جرير مستبدا بها على مواليه بنى الزريع وورثها عنه ابنه ياسر فسار ياسر للقائه فهزمه شمس الدولة وسارت عساكره إلى البلد فملكوها وجاؤا بياسر أسيرا إلى شمس الدولة فدخل عدن وعبد النبي معه في الاعتقال واستولى على نواحيها وعاد إلى زبيد ثم سار إلى حصون الجبال فملك تعز وهى من أحصن القلاع وحصن التعكر والجند وغيرها من المعاقل والحصون وولى على عدن عز الدولة عثمان بن الزنجبيلى واتخذ زبيد سببا لملكه ثم استوخمها وسار في الجبال ومعه الاطباء يتخير مكانا صحيح الهواء للسكنى فوقع اختيارهم على تعز فاختط هنالك مدينة واتخذها كرسيا لملكه وبقيت لبنيه ومواليهم بنى رسول كما نذكره في أخبارهم والله تعالى ولى التوفيق * (واقعة عمارة ومقتله) *
كان جماعة من شيعة العلويين بمصر منهم عمارة بن أبى الحسن اليمنى الشاعر وعبد الصمد الكاتب والقاضى العويدس وابن كامل وداعي الدعاة وجماعة من الجند وحاشية القصر اتفقوا على استدعاء الافرنج من صقلية وسواحل الشأم وبذلوا لهم(5/287)
الاموال على أن يقصدوا مصر فان خرج صلاح الدين للقائهم بالعساكر ثار هؤلاء بالقاهرة وأعادوا الدولة العبيدية والا فلا بد له ان أقام من بعث عساكره لمدافعة الافرنج فينفردون به ويقبضون عليه وواطأهم على ذلك جماعة من أمراء صلاح الدين وتحينوا لذلك غيبة أخيه توران شاه باليمن وثقوا بأنفسهم وصدقوا توهماتهم ورتبوا وظائف الدولة وخططها وتنازع في الوزارة بنو زربك وبنو شاور وكان على ابن نجى الواعظ ممن داخلهم في ذلك فأطلع صلاح الدين هو في الباطن إليهم ونمى الخبر إلى صلاح الدين من عيونه ببلاد الافرنج فوضع على الرسول عنده عيونا جاؤه بحلية خبره فقبض حينئذ عليهم وقيل ان على بن نجى أنمى خبرهم إلى القاضى فأوصله إلى صلاح الدين ولما قبض عليهم صلاح الدين أمر بصلبهم ومر عمارة ببيت القاضى وطلب لقاءه فلم يسعفه وأنشد البيت المشهور عبد الرحيم قد احتجب * ان الخلاص هو العجب ثم صلبوا جميعا ونودى في شيعة العلويين بالخروج من ديار مصر إلى الصعيد واحتيط على سلالة العاضد بالقصر وجاء الافرنج بعد ذلك من صقلية إلى الاسكندرية كما يأتي خبره ان شاء الله تعالى والله أعلم * (وصول الافرنج من صقلية إلى الاسكندرية) * لما وصلت رسل هؤلاء الشيعة إلى الافرنج بصقلية تجهزوا وبعثوا مراكبهم مائتي اسطول للمقاتلة فيها خمسون ألف رجل وألفان وخمسمائة فارس وثلاثون مركبا للخيول وستة مراكب لآلة الحرب وأربعون للازواد وتقدم عليهم ابن عم الملك صاحب
صقلية ووصلوا إلى ساحل الاسكندرية سنة سبعين وركب أهل البلد الاسوار وقاتلهم الافرنج ونصبوا الآلات عليها وطار الخبر إلى صلاح الدين بمصر ووصلت الامراء إلى الاسكندرية من كل جانب من نواحيها وخرجوا في اليوم الثالث فقاتلوا الافرنج فظفروا عليهم ثم جاءهم البشير آخر النهار بمجئ صلاح الدين فاهتاجو اللحرب وخرجوا عند اختلاط الظلام فكبسوا الافرنج في خيامهم بالسواحل وتبادروا إلى ركوب البحر فتقسموا بين القتل والغرق ولم ينج الا القليل واعتصم منهم نحو من ثلثمائة برأس رابية هنالك إلى أن أصبحوا فقتل بعضهم وأسر الباقون وأقلعوا بأساطيلهم راجعين والله تعالى أعلم * (واقعة كنز الدولة بالصعيد) * كان أمير العرب بنواحي اسوان يلقب كنز الدولة وكان شيعة للعلوية بمصر وطالت(5/288)
أيامه واشتهر ولما ملك صلاح الدين قسم الصعيد اقطاعا بين أمرائه وكان أخو أبى الهيجاء السمين من أمرائه واقطاعه في نواحيهم فعصى كنز الدولة سنة سبعين واجتمع إليه العرب والسودان وهجم على أخى أبى الهيجاء السمين في اقطاعه فقتله وكان أبو الهيجاء من أكبر الامراء فبعثه صلاح الدين لقتال الكنز وبعث معه جماعة من الامراء والتف له الجند فساروا إلى اسوان ومروا بصدد فحاصروا بها جماعة وظفروا بهم فاستلحموهم ثم ساروا إلى الكنز فقاتلوه وهزموه وقتل واستلحم جميع أصحابه وأمنت بلاد اسوان والصعيد والله تعالى ولى التوفيق * (استيلاء صلاح الدين على قواعد الشأم بعد وفاة العادل نور الدين) * كان صلاح الدين كما قدمناه قائما في مصر بطاعة العادل نور الدين محمود بن زنكى ولما توفى سنة تسع وستين ونصب ابنه الصالح اسمعيل في كفالة شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم وبعث إليه صلاح الدين بطاعة ونقم عليهم انهم لم يردوا الامر إليه وسار
غازى صاحب الموصل بن قطب الدين مودود بن زنكى إلى بلاد نور الدين التى بالجزيرة وهى نصيبين والخابور وحران والرها والرقة فملكها ونقم عليه صلاح الدين أنهم لم يخبروه حتى بدافعه عن بلادهم وكان الخادم سعد الدين كمستكين الذى ولاه نور الدين قلعة الموصل وأمر سيف الدين غازى بمطالعته بأموره قد لحق عند وفاة نور الدين بحلب وأقام بها عند شمس الدين على بن الداية المستبد بها بعد نور الدين فبعثه ابن الداية إلى دمشق في عسكر ليجئ بالملك الصالح إلى حلب لمدافعة سيف الدين غازى فنكروه أولا وطردوه ثم رجعوا إلى هذا الرأى وبعثوا عنه فسار مع الملك الصالح إلى حلب ولحين دخوله قبض على ابن الداية وعلى مقدمى حلب واستبد بكفالة الصالح وخاف الامراء بدمشق وبعثوا إلى سيف الدين غازى ليملكوه فظنها مكيدة من ابن عمه وامتنع عليهم وصالح ابن عمه على ما أخذ من البلاد فبعث أمراء دمشق إلى صلاح الدين وتولى كبر ذلك ابن المقدم فبادر إلى الشأم وملك بصرى ثم سار إلى دمشق فدخلها في منسلخ ربيع سنة سبعين وخمسمائة ونزل دار أبيه المعروفة بالعفيفى وبعث القاضى كمال الدين ابن الشهرزورى إلى ريحان الخادم بالقلعة انه على طاعة الملك الصالح وفي خدمته وما جاء الا لنصرته فسلم إليه القلعة وملكها واستخلف على دمشق أخاه سيف الاسلام طغركين وسار إلى حمص وبها وال من قبل الامير مسعود الزعفراني وكانت من أعماله فقاتلها وملكها وجمر عسكر القتال قلعتها وسار إلى حماة مظهرا لطاعة الملك الصالح وارتجاع ما أخذ من بلاده بالجزيرة وبعث بذلك إلى صاحب(5/289)
قلعتها خرديك واستخلفه وسار إلى الملك الصالح ليجمع الكلمة ويطلق أولاد الداية واستخلف على قلعة حماة أخاه ولما وصل إلى حلب حبسه كمستكين الخادم ووصل الخبر إلى أخيه بقلعة حماة فسلمها لصلاح الدين وسار إلى حلب فحاصرها ثالث جمادى الاخيرة واستمات أهلها في المدافعة عن الصالح وكان بحلب سمند صاحب
طرابلس من الافرنج محبوسا منذ أسره نور الدين على حارم سنة تسع وخمسين فأطلقه كمستكين على مال وأسرى ببلده وتوفى نور الدين أول السنة وخلف ابنا مجذوما فكفله سمند واستولى على ملكهم فلما حاصر صلاح الدين حلب بعث كمستكين إلى سمند يستنجده فسار إلى حمص ونزلها فسار إليه صلاح الدين وترك حلب وسمع الافرنج بمسيره فرحلوا عن حمص ووصل هو إليها عاشر رجب فحاصر قلعتها وملكها آخر شعبان من السنة ثم سار إلى بعلبك وبها يمن الخادم من أيام نور الدين فحاصره حتى استأمن إليه وملكها رابع رمضان من السنة وصار ببده من الشأم دمشق وحماة وبعلبك ولما استولى صلاح الدين على هذه البلاد من أعمال الملك الصالح كتب الصالح إلى ابن عمه سيف الدين غازى صاحب الموصل يستنجده على صلاح الدين فأنجده بعساكره مع أخيه عز الدين مسعود وصاحب جيشه عز الدين زلقندار وسارت معهم عساكر حلب وساروا جميعا لمحاربة صلاح الدين وبعث صلاح الدين إلى سيف الدين غازى أن يسلم لهم حمص وحماة ويبقى بدمشق نائبا عن الصالح فأبى الا رد جميعها فسار صلاح الدين إلى العساكر ولقيهم آخر رمضان بنواحي حماة فهزمهم وغنم ما معهم واتبعهم إلى حلب وحاصرها وقطع خطبة الصالح ثم صالحوه على ما بيده من الشأم فأجابهم ورحل عن حلب لعشرين من شوال وعاد إلى حماة وكان فخر الدين مسعود بن الزعفراني من الامراء النورية وكانت ماردين من أعماله مع حمص وحماة وسلمية وتل خالد والرها فلما ملك أقطاعه هذه اتصل به فلم ير نفسه عنده كما ظن ففارقه فلما عاد صلاح الدين من حصار حلب إلى حماة سار إلى بعوص واستأمن إليه واليها فملكها وعاد إلى حماة فأقطعها خاله شهاب الدين محمود وأقطع حمص ناصر الدولة بن شيركوه وأقطع بعلبك شمس الدين ابن المقدم ودمشق إلى عماد والله تعالى ولى التوفيق بمنه وكرمه [ واقعة صلاح الدين مع الملك الصالح وصاحب الموصل وما ملك من الشأم بعد انهزامهما ]
ثم سار سيف الدين غازى صاحب الموصل في سنة احدى وسبعين بعد انهزام أخيه وعساكره واستقدم صاحب كيفا وصاحب ماردين وسار في سنة آلاف فارس وانتهى(5/290)
إلى نصيبين في ربيع من السنة فشتى بها حتى ضجرت العساكر من طول المقام وسار إلى حلب فخرجت إليه عساكر الملك الصالح مع كمستكين الخادم وسار صلاح الدين من دمشق للقائهم فلقيهم قبل السلطان فهزمهم واتبعهم إلى حلب وعبر سيف الدين الفرات منهزما إلى الموصل وترك أخاه عز الدين بحلب واستولى صلاح الدين على مخلفهم وسار إلى مراغة فملكها وولى عليها ثم إلى منبج وبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجى وكان حنقا عليه لقبح آثاره في عداوته فلحق بالموصل وولاه غازى مدينة الرقة ثم سار صلاح الدين إلى قلعة عزاز فحاصرها أوائل ذى القعدة من السنة أربعين يوما وشد حصارها فاستأمنوا إليه فملكها ثانى الاضحى من السنة وثب عليه في بعض أيام حصارها باطني من الفداوية فضربه وكان مسلحا فأمسك يد الفداوى حتى قتل وقتل جماعة كانوا معه لذلك ورحل صلاح الدين بعد الاستيلاء على قلعة عزاز إلى حلب فحاصرها وبها الملك الصالح واعصوصب عليه أهل البلد واستماتوا في المدافعة عنه ثم ترددت الرسل في الصلح بينهما وبين صاحب الموصل وكيفا وصاحب ماردين فانعقد بينهم في محرم سنة ثنتين وتسعين وعاد صلاح الدين إلى دمشق بعد أن رد قلعة عزاز إلى الملك الصالح بوسيلة أخته الصغيرة خرجت إلى صلاح الدين ثائرة فاستوهبته قلعة عزاز فوهبها لها والله تعالى أعلم * (مسير صلاح الدين إلى بلاد الاسماعيلية) * ولما رحل صلاح الدين عن حلب وقد وقع من الاسماعيلية على حصن عزاز ما وقع قصد بلادهم في محرم سنة ثنتين وتسعين ونهبها وخربها وحاصر قلعة باميان ونصب عليها المجانيق وبعث سنان مقدم الاسماعيلية بالشأم إلى شهاب الدين الحارمى خال صلاح
الدين بحماة يسأله الشفاعة فيهم ويتوعده بالقتل فشفع فيهم وأرحل العساكر عنهم وقدم عليه أخوه توران شاه من اليمن بعد فتحه واظهار دعوتهم فيه وولى على مدنه وامصاره فاستخلفه صلاح الدين على دمشق وسار إلى مصر لطول عهده بها أبو الحسن ابن سنان بن سقمان بن محمد ولما وصل إليها أمر بادارة سور على مصر القاهرة والقلعة التى بالجبل دوره تسعة وعشرون ألف ذراع ثلثمائة ذراع بالهاشمي واتصل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين وكان متولى النظر فيه مولاه قراقوش والله تعالى ولى التوفيق * (غزوات بين المسلمين والافرنج) * كان شمس الدين محمد بن المقدم صاحب بعلبك وأغار جمع من الافرنج على البقاع من(5/291)
أعمال حلب فسار إليهم وأكمن لهم في الغياض حتى نال منهم وفتك فيهم وبعث إلى صلاح الدين بمائتي أسير منهم وقارن ذلك وصول شمس الدولة توران شاه بن أيوب من اليمن فبلغه أن جمعا من الافرنج أغاروا على أعمال دمشق فسار إليهم ولقيهم بالمروج فلم يثبت وهزموه وأسر سيف الدين أبو بكر بن السلار من أعيان الجند بدمشق وتجاسر الافرنج على تلك الولاية ثم اعتزم صلاح الدين على غزو بلاد الافرنج فبعثوا في الهدنة وأجابهم إليها وعقد لهم والله تعالى ولى التوفيق * (هزيمة صلاح الدين بالرملة أمام الافرنج) * ثم سار صلاح الدين من مصر في جمادى الاولى سنة ثلاث وسبعين إلى ساحل الشأم لغزو بلاد الافرنج وانتهى إلى عسقلان فاكتسح أعمالها ولم يروا للافرنج خبرا فانساحوا في البلاد وانقلبوا إلى الرملة فما راعهم الا الافرنج مقبلين في جموعهم وابطالهم وقد افترق أصحاب صلاح الدين في السرايا فثبت في موقفه واشتد القتال وأبلى يومئذ محمد ابن أخيه في المدافعة عنه وقتل من أصحابه جماعة وكان لتقى الدين بن شاه ابن اسمه أحمد متكامل الخلال لم يطر شاربه فابلى يومئذ واستشهد وتمت الهزيمة على المسلمين وكان
بعض الافرنج تخلصوا إلى صلاح الدين فقتل بين يديه وعاد منهزما واسر الفقيه عيسى الهكارى بعدان أبلى يومئذ بلاء شديدا وسار صلاح الدين حتى غشيه الليل ثم دخل البرية في فل قليل إلى مصر ولحقهم الجهد والعطش ودخل إلى القاهرة منتصف جمادى الاخيرة قال ابن الاثير ورأيت كتابه إلى أخيه توران شاه بدمشق يذكر الواقعة ذكرتك والخطى يخطر بيننا * وقد فتكت فينا المثقفة السمر ومن فصوله لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة وما نجانا الله سبحانه منه الا لامر يريده وما ثبتت الا وفى نفسها أمر انتهى وأما السرايا التى دخلت بلاد الافرنج فتقسمهم القتل والاسر وأما الفقيه عيسى الهكارى فلما ولى منهزما ومعه أخوه الظهير ضل عن الطريق ومعهما جماعة من أصحابهما فأسروا وفداه صلاح الدين بعد ذلك بستين ألف دينار والله تعالى أعلم * (حصار الافرنج مدينة حماة) * ثم وصل جمادى الاولى إلى ساحل الشأم زعيم من طواغيت الافرنج وقارن وصوله هزيمة صلاح الدين وعاد إلى دمشق يومئذ توران شاه بن أيوب في قلة من العسكر وهو مع ذلك منهمك في لذاته فسار ذلك الزعيم بعد ان جمع فرنج الشأم وبذل لهم العطاء فحاصر مدينة حماة وبها شهاب الدين محمود الحارمى خال صلاح الدين مريضا وشد(5/292)
حصارها وقتالها حتى أشرف على أخذها وهجموا يوما على البلد وملكوا ناحية منه فدافعهم المسلمون وأخرجوهم ومنعوا حماة منهم فأفرجوا عنها بعد أربعة أيام وساروا إلى حارم فحاصروها ولما رحلوا عن حماة مات شهاب الدين الحارمى ولم يزل الافرنج على حارم يحاصرونها وأطمعهم فيها ما كان من نكبة الصالح صاحب حلب لكمستكين الخادم كافل دولته ثم صانعهم بالمال فرحلوا عنها ثم عاد الافرنج إلى مدينة حماه في ربيع سنة أربع وسبعين فعاثوا في نواحيها واكتسحوا أعمالها وخرج العسكر حامية البلد
إليهم فهزموهم واستردوا ما أخذوا من السواد وبعثوا بالرؤس والاسرى إلى صلاح الدين وهو بظاهر حمص منقلبا من الشأم فأمر بقتل الاسرى والله تعالى ولى التوفيق * (انتقاض ابن المقدم ببعلبك وفتحها كان صلاح الدين لما ملك بعلبك استخلف فيها شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم جزاء بما فعله في تسليم دمشق وكان شمس الدولة محمد أخو صلاح الدين ناشئا في ظل أخيه وكفالته فكان يميل إليه وطلب منه أقطاع بعلبك فأمر ابن المقدم بتمكينه منها فابى وذكره عهده في أمر دمشق فسار ابن المقدم إلى بعلبك وامتنع فيها ونازلته العساكر فامتنع وطاولوه حتى بعث إلى صلاح الدين يطلب العوض فعوضه عنها وسار أخوه شمس الدين إليها فملكها والله تعالى ولى التوفيق * (وقائع مع الافرنج) * وفي سنة أربع وسبعين سار ملك الافرنج في عسكر عظيم فاغار على أعمال دمشق واكتسحها وأثخن فيها قتلا وسبيا وأرسل صلاح الدين فرخشاه ابن أخيه في العساكر لمدافعته فسار يطلبهم ولقيهم على غير استعداد فقاتل أشد القتال ونصر الله المسلمين وقتل جماعة من زعماء الافرنج منهم هنعرى وكان يضرب به المثل ثم أغار البرنس صاحب انطاكية واللاذقية على صرح المسلمين بشيزر وكان صلاح الدين على بانياس لتخريب حصن الافرنج بمخاضة الاضرار فبعث تقى الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه وناصر الدين محمد إلى حمص لحماية البلد من العدو كما نذكره ان شاء الله تعالى * (تخريب حصن الافرنج) * كان الافرنج قد اتخذوا حصنا منيعا بقرب بانياس عند بيت يعقوب عليه السلام ويسمى مكانه مخاضة الاضرار فسار صلاح الدين من دمشق إلى بانياس سنة خمس وسبعين وأقام بها وبث فيها الغارات على بلادهم ثم سار إلى الحصن فحاصره ليختبره وعاد عنه إلى اجتماع العساكر وبث السرايا في بلاد الافرنج للغارة وجاء ملك الافرنج للغارة(5/293)
على سريته ومعه جماعة من عساكره فبعثوا إلى صلاح الدين بالخبر فوافاهم وهم يقتتلون فهزم الافرنج وأثخن فيهم ونجا ملكهم في فل وأسر صاحب الرملة ونابلس منهم وكان رديف ملكهم وأسر أخوه صاحب جبيل وطبرية ومقدم الفداوية ومقدم الاساتارية وغيرهم من طواغيتهم وفادى صاحب الرملة نفسه وهو ارتيرزان بمائة وخمسين ألف دينار هورية وألف أسير من المسلمين وأبلى في هذا اليوم عز الدين فرخشاه ابن أخى صلاح الدين بلاء حسنا ثم عاد صلاح الدين إلى بانياس وبث السرايا في بلاد الافرنج وسار لحصار الحصن فقاتله قتالا شديدا وتسنم المسلمون سوره حتى ملكوا برجا منه وكان مدد الافرنج بطبرية والمسلمون يرتقبون وصولهم فأصبحوا من الغد ونقبوا السور وأضرموا فيه النار فسقط وملك المسلمون الحصن عنوة آخر ربيع سنة خمس وسبعين وأسروا كل من فيه وأمر صلاح الدين بهدم الحصن فالحق بالارض وبلغ الخبر إلى الافرنج وهم مجتمعون بطبرية لامداده فافترقوا وانهزم الافرنج والله سبحانه وتعالى أعلم * (الفتنة بين صلاح الدين وقليج ارسلان صاحب الروم) * كان حصن رعبان من شمالى حلب قد ملكه نور الدين العادل بن قليج ارسلان صاحب بلاد الروم وهو بيد شمس الدين ابن المقدم فلما انقطع حصن رعبان عن ايالة صلاح الدين وراء حلب طمع قليج ارسلان في استرجاعه فبعث إليه عسكرا يحاصرونه وبعث صلاح الدين تقى الدين ابن أخيه في عسكر لمدافعتهم فلقيهم وهزمهم وعاد إلى عمه صلاح الدين ولم يحضر معه تخريب حصن الاضرار وكان نور الدين محمود بن قليج ارسلان بن داود صاحب حصن كيفا وآمد وغيرهما من ديار بكر قد فسد ما بينه وبين قليج ارسلان صاحب بلاد الروم بسبب اضراره ببنته وزواجه عليها واعتزم قليج ارسلان على حربه وأخذ بلاده فاستنجد نور الدين بصلاح الدين وبعث إلى قليج ارسلان يشفع في شأنه فطلب
استرجاع حصونه التى أعطاها لنور الدين عند المصاهرة ولج في ذلك صلاح الدين على قليج وسار إلى رعبان ومر بحلب فتركها ذات الشمال وسلك على تل باشر ولما نتهى إلى رعبان جاءه نور الدين محمود واقام عنده وارسل إليه قليج ارسلان يصف فعل نور الدين واضراره ببنته فلما ادى الرسول رسالته امتعض صلاح الدين وتوعدهم بالمسير إلى بلده فتركه الرسول حتى سكن وغدا عليه فطلب الخلوة وتلطف له في فسخ ما هو فيه من ترك الغزو ونفقة الاموال في هذا الغرض الحقير وان بنت قليج ارسلان يجب على مثلك من الملوك الامتعاض لها ولا تترك لمضارة من دونها فعلم صلاح الدين الحق فيما قاله وقال للرسول ان نور الدين استند إلى فعلك فاصلح الامر بينهما وأنا معين على ما تحبونه(5/294)
جميعا ففعل الرسول ذلك وأصلح بينهما وعاد صلاح الدين إلى الشأم ونور الدين محمود إلى ديار بكر وطلق ضرة بنت قليج ارسلان للاجل الذى أجله للرسول والله تعالى أعلم * (مسير صلاح الدين إلى بلاد ابن اليون) * كان قليج بن اليون من ملوك الارض صاحب الدروب المجاورة لحلب وكان نور الدين محمود قد استخدمه وأقطع له في الشأم وكان يعسكر معه وكان جريأ على صاحب القسطنطينية وملك وادقة والمصيصة وطرسوس من يد الروم وكانت بينهما من أجل ذلك حروب ولما توفى نور الدين وانتقضت دولته أقام ابن اليون في بلاده وكان التركمان يحتاجون إلى رعى مواشيهم بارضه على حصانتها وصعوبة مضايقها وكان بأذن لهم فيدخلونها وغدر بهم في بعض السنين واستباحهم واستاق مواشيهم وبلغ الخبر إلى صلاح الدين منصرفه من رعيان فقصد بلده ونزل النهر الاسود وبث الغارات في بلادهم واكتسحها وكان لابن اليون حصن وفيه ذخيرته فخشى عليه فقصد تخريبه وسابقه إليه صلاح الدين فغنم ما فيه وبعث إليه ابن اليون برد ما أخذ من التركمان واطلاق أسراهم على الصلح والرجوع عنه فاجابه إلى ذلك وعاد عنه في منتصف سنة
خمس وسبعين والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده * (غزوة صلاح الدين إلى الكرك) * كان البرنس ارناط صاحب الكرك من مردة الافرنج وشياطينهم وهو الذى اختط مدينة الكرك وقلعتها ولم تكن هنالك واعتزم على غزو المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام وسمع عز الدين فرخشاه بذلك وهو بدمشق فجمع وسار إلى الكرك سنة سبع وسبعين واكتسح نواحيه وأقام ليشغله عن ذلك الغرض حتى انقطع أمله وعاد إلى الكرك فعاد فرخشاه إلى دمشق والله تعالى أعلم بغيبه * (مسير سيف الاسلام طغركين بن أيوب إلى اليمن واليا عليها) * قد كان تقدم لنا فتح شمس الدولة توران شاه لليمن واستيلاؤه عليه سنة ثمان وستين وأنه ولى على زبيد مبارك بن كامل بن منقذ من أمراء شيزر وعلى عدن عز الدولة عثمان الزنجيلي واختط مدينة تعز في بلاد اليمن واتخذها كرسيا لملكه ثم عاد إلى أخيه سنة اثنتين وسبعين وأدركه منصرفا من حصار حلب فولاه على دمشق وسار إلى مصر ثم ولاه أخوه صلاح الدين بعد ذلك مدينة الاسكندرية وأقطعه اياها مضافة إلى أعمال اليمن وكانت الاموال تحمل إليه من زبيد وعدن وسائر ولايات اليمن ومع ذلك فكان عليه دين قريب من مائتي ألف دينار مصرية وتوفى سنة ست وسبعين فقضاها عنه(5/295)
صلاح الدين ولما بلغه خبر وفاته سار إلى مصر واستخلف على دمشق عز الدين فرخشاه ابن شاهنشاه وكان سيف الدين مبارك بن كامل بن منقذ الكنانى نائبه بزبيد قد تغلب في ولايته وتحكم في الاموال فنزع إلى وطنه واستأذن شمس الدولة قبل موته فأذن له في المجئ واستأذن أخاه عطاف بن زبيد وأقام مع شمس الدولة حتى إذا مات بقى في خدمة صلاح الدين وكان محشدا فسعى فيه عنده أنه احتجر أموال اليمن ولم يعرض له فتحيل اعداؤه عليه وكان ينزل بالعدوية قرب مصر فصنع في بعض الايام صنيعا
دعى إليه أعيان الدولة واختلف مواليه وخدامه إلى مصر في شراء حاجتهم فتحيلوا لصلاح الدين انه هارب إلى اليمن فتمت حيلتهم فقبض عليه ثم ضاق عليه الحال وصابره على ثمانين ألف دينار مصرية سوى ما أعطى لاهل الدولة فأطلقه وأعاده إلى منزلته فلما بلغ شمس الدين إلى اليمن اختلف نوابه بها حطان بن منقذ وعثمان بن الزنجبيلى وخشى صلاح الدين أن تخرج اليمن عن طاعته فجهز جماعة من امرائه إلى اليمن مع صارم الدين قطلغ أبيه والى مصر من أمرائه فساروا لذلك سنة سبع وسبعين واستولى قطلغ أبيه على زبيد من حطان بن منقذ ثم مات قريبا فعاد حطان إلى زبيد وأطاعه الناس وقوى على عثمان الزنجبيلى فكتب عثمان إلى صلاح الدين أن يبعث بعض قرابته فجهز صلاح الدين أخاه سيف الاسلام طغركين فسار إلى اليمن وخرج حطان بن منقذ من زبيد وتحصن في بعض القلاع ونزل سيف الاسلام زبيد وبعث إلى حطان بالامان فنزل إليه وأولاه الاحسان ثم طلب اللحاق بالشأم فمنعه ثم الح عليه فأذن له حتى إذا خرج واحتمل رواحله وجاء ليودعه قبض عليه واستولى على ما معه ثم حبسه في بعض القلاع فكان آخر العهد به ويقال كان فيما أخذه سبعون حملا من الذهب ولما سمع عثمان الزنجيلي خبر حطان خشى على نفسه وحمل أمواله في البحر ولحق بالشام وبقيت مراكبه مراكب لسيف الاسلام فاستولى عليها ولم يخلص الا بما كان معه في طريقه وصفا اليمن لسيف الاسلام والله تعالى أعلم [ دخول قلعة البيرة في ايالة صلاح الدين وغزوه الافرنج وفتح بعض حصونهم مثل السقيف والغرر وبيروت ] كانت قلعة البيرة من قلاع العراق لشهاب الدين بن ارتق وهو ابن عم قطب الدين أبى الغازى بن ارتق صاحب ماردين وكان في طاعة نور الدين محمود بن زنكى صاحب الشأم ثم مات وملك البيرة بعده ابنه ومات نور الدين فسار إلى طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل ثم وقع بين صاحب ماردين وصاحب الموصل من المخالصة والاتفاق
ما وقع وطلب من عز الدين أن يأذن له في أخذ البيرة فأذن له فسار قطب الدين في عسكره(5/296)
إلى قلعة شميشاط وأقام بها وبعث العسكر إلى البيرة وحاصروها وبعث صاحبها يستنجد صلاح الدين ويكون له كما كان أبوه لنور الدين فشفع صلاح الدين إلى قطب الدين صاحب ماردين ولم يشفعه وشغل عنه بأمر الافرنج ورحلت عساكر قطب الدين عنها فرجع صاحبها إلى صلاح الدين وأعصاه طاعته وعاد في ايالته ثم خرج صلاح الدين من مصر في محرم سنة ثمان وسبعين قاصدا الشأم ومر بايلة وجمع الافرنج لاعتراضه فبعث أثقاله مع أخيه تاج الملوك إلى دمشق ومال على بلادهم فاكتسح نواحى الكرك والشويك وعاد إلى دمشق منتصف صفر وكان الافرنج لما اجتمعوا على الكرك دخلوا بلادهم من نواحى الشأم فخالفهم عز الدين فرخشاه نائب دمشق إليها واكتسح نواخيها وخرب قراها وأثخن فيهم قتلا وسبيا وفتح السقيف من حصونهم عنوة وكان له نكاية في المسلمين فبعث إلى صلاح الدين بفتحه فسر بذلك ثم أراح صلاح الدين بدمشق أياما وسار في ربيع الاول من السنة وقصد طبرية وخيم بالاردن واجتمعت الافرنج على طبرية فسير صلاح الدين فرخشاه ابن أخيه إلى بيسان فملكها عنوة واستباحها وأغار على الغور فأثخن فيها قتلا وسبيا وسار الافرنج من طبرية إلى جبل كوكب وتقدم صلاح الدين إليهم بعساكره فتحصنوا بالجبل فأمر ابني أخيه تقى الدين عمر وعز الدين فرخشاه ابني شاهنشاه فقاتلوا الافرنج قتالا شديدا ثم تحاجزوا وعاد صلاح الدين إلى دمشق ثم سار إلى بيروت فاكتسح نواحيها وكان قد استدعى الاسطول من مصر لحصارها فوافاه بها وحاصرها أياما ثم بلغه ان البحر قد قذف بدمياط مركبا للافرنج فيه جماعة منهم جاؤا لزيارة القدس فالقتهم الريح بدمياط وأسر منهم ألف وستمائة أسير ثم ارتحل عن بيروت إلى الجزيرة كما نذكره ان شاء الله تعالى [ مسير صلاح الدين إلى الجزيرة واستيلاؤه على حران
والرها والرقة والخابور ونصيبين وسنجار وحصار الموصل ] كان مظفر الدين كوكبرى بن زين الدين كچك الذى كان أبوه نائب القلعة بالموصل مستوليا في دولة مودود وبنيه وانتقل آخرا إلى اربل ومات بها وأقطعه عز الدين صاحب الموصل ابنه مظفر الدين وكان هواه مع صلاح الدين ويؤمله ملكه بلاد الجزيرة فراسله وهو محاصر لبيروت وأطمعه في البلاد واستحثه للوصول فسار صلاح الدين عن بيروت موريا بحلب وقصد الفرات ولقيه مظفر الدين وساروا إلى البيرة وقد دخل طاعة عز الدين وكان عز الدين صاحب الموصل ومجاهد الدين لما بلغهما مسير صلاح الدين إلى الشأم ظنوا أنه يريد حلب فساروا لمدافعته فلما عبر الفرات عادوا إلى الموصل وبعثوا حامية إلى الرها وكاتب صلاح الدين ملوك الاطراف بديار بكر وغيرها(5/297)
بالوعد ومعاربة ووعد نور الدين محمودا صاحب كيفا أنه يملكه آمد ووصل إليه فساروا إلى مدينة الرها فحاصروها وبها يومئذ الامير فخر الدين بن مسعود الزعفراني واشتد عليه القتال فاستأمن إلى صلاح الدين وملكه المدينة وحاصر معه القلعة حتى سلمها النائب الذى بها على مال شرطه فأضافها صلاح الدين إلى مظفر الدين مع حران وساروا إلى الرقة وبها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجى ففارقها إلى الموصل وملكها صلاح الدين ثم سار إلى قرقيسيا وماسكين وعربان وهى بلاد الخابور فاستولى على جميعها وسار إلى نصيبين فملك المدينة لوقتها وحاصر القلعة أياما ثم ملكها وأقطعها للامير أبى الهيجاء السمين ثم رحل عنها ونور الدين صاحب كيفا معه معتزما على قصد الموصل وجاءه الخبر بأن الافرنج أغاروا على نواحى دمشق واكتسحوا قراها وأرادوا تخريب جامع داريا فتوعدهم نائب دمشق بتخريب بيعهم وكنائسهم فتركوه فلم يثن ذلك من عزمه وقصد الموصل وقد جمع صاحبها العساكر واستعد للحصار وخلى نائبه في الاستعداد وبعث إلى سنجار واربل وجزيرة ابن عمر فشحنها بالامداد من الرجال
والسلاح والاموال وأنزل صاحب الدار عساكره بقربها وتقدم هو ومظفر الدين وابن شيركوه فهالهم استعداد صاحب البلد وأيقنوا بامتناعه وعذل صاحبيه هذين فانهما كانا أشارا بالبداءة بالموصل ثم أصبح صلاح الدين من الغد في عسكره ونزل عليه أول رجب على باب كندة وأنزل صاحب الحصن باب الجسر وأخاه تاج الملوك بالباب العمادى وقاتلهم فلم يظفر وخرج بعض الرجال فنالوا منه ونصب منجنيقا فنصبوا عليه من البلد تسعة ثم خرجوا إليه من البلد فأخذوه بعد قتال كثير وخشى صلاح الدين من البيات فتأخر لانه رآهم في بعض الليالى يخرجون من باب الجسر بالمشاعل ويرجعون وكان صدر الدين شيخ الشيوخ ومشير الخادم قد وصلا من عند الخليفة الناصر في الصلح وترددت الرسل بينهم فطلب عز الدين من صلاح الدين رد ما أخذه من بلادهم فأجاب على أن يمكنوه من حلب فامتنع فرجع إلى ترك مظاهرة صاحبها فامتنع أيضا ثم وصلت أبضا رسل صاحب اذربيجان ورسل شاهرين صاحب خلاط في الصلح فلم يتم وسار أهل سنجار يعترضون من يقصده من عساكره واصحابه فأفرج عن الموصل وسار إليها وبها شرف الدين أمير أميران هند وأخو عز الدين صاحب الموصل في عسكر وبعث إليه مجاهد الدين النائب بعسكر آخر مددا وحاصرها صلاح الدين وضيق عليها واستمال بعض أمراء الاكراد الذين بها من الزوزاوية فواعده من ناحيته وطرقه صلاح الدين فملكه البرج الذى في ناحيته فاستأمن أمير أميران وخرج وعسكره معه إلى الموصل وملك صلاح الدين سنجار وولى عليها سعد الدين(5/298)
ابن معين الذى كان أبوه كامل بن طغركين بدمشق وصارت سنجار من سائر البلاد التى ملكها من الجزيرة وسار صلاح الدين إلى نصيبين فشكا إليه أهلها من أبى الهيجاء السمين فعزله عنهم واستصحبه معه وسار إلى حران في ذى القعدة من سنة ثمان وسبعين وفرق عساكره ليستريحوا وأقام في خواصه وكبار أصحابه والله أعلم
* (مسير شاهرين صاحب خلاط لنجدة صاحب الموصل) * كان عز الدين قد أرسل إلى شاهرين يستنجده على صلاح الدين فبعث إليه عدة رسل شافعا في أمره فلم يشفعه وغالطه فبعث إليه مولاه آخرا سيف الدين بكتمر وهو على سنجار يسأله في الافراج عنها فلم يجبه إلى ذلك وسوفه رجاء أن يفتحها فأبلغه بكتمر الوعيد عن مولاه وفارقه مغاضبا ولم يقبل صلته وأغراه بصلاح الدين فسار شاهرين من مخيمه بظاهر خلاط إلى ماردين وصاحبها يومئذ ابن أخته وابن خال عز الدين وصهره على بنته وهو قطب الدين بن نجم الدين وسار إليهم أتابك عز الدين صاحب الموصل وكان صلاح الدين في حران منصرفه من سنجار وفرق عساكره فلما سمع باجتماعهم استدعى تقى الدين ابن أخيه شاهنشاه من حماة ورحل إلى رأس عين فافترق القوم وعاد كل إلى بلده وقصد صلاح الدين ماردين فأقام عليها عدة أيام ورجع والله تعالى ولى التوفيق بمنه وكرمه * (واقعة الافرنج في بحر السويس) * كان البرنس ارناط صاحب الكرك قد أنشأ اسطولا مفصلا وحمل أجزاء إلى صاحب ايلة وركبه على ما تقتضيه صناعة النشابة وقذفه في السويس وشحنه بالمقاتلة وأقلعوا في البحر ففرقة أقاموا على حصن ايلة يحاصرونه وفرقة ساروا نحو عيذاب وأغاروا على سواحل الحجاز وأخذوا ما وجدوا بها من مراكب التجار وطرق الناس منهم بلية لم يعرفوها لانه لم يعهد ببحر السويس افرنجي محارب ولا تاجر وكان بمصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب نائبا عن أخيه صلاح الدين فعمر اسطولا وشحنه بالمقاتلة وسار به حسام الدين لؤلؤ الحاجب قائد الاساطيل بديار مصر فبدأ باسطول الافرنج الذى يحاصر ايلة فمزقهم كل ممزق وبعد الظفر بهم اقلع في طلب الآخرين وانتهى إلى عيذاب فلم يجدهم فرجع إلى رابغ وأدركهم بساحل الحوراء وكانوا عازمين على طروق الحرمين واليمن والاغارة على الحاج فلما أظل عليهم لؤلؤ بالاسطول أيقنوا بالتغلب
وتراموا على الحوراء وأسنموا إليها واعتصموا بشعابها ونزل لؤلؤ من مراكبه وجمع خيل الاعراب هنالك وقاتلهم فظفر بهم وقتل أكثرهم وأسر الباقين فأرسل بعضهم(5/299)
إلى منى فقتلوا بها أيام النحر وعاد بالباقين إلى مصر والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء * (وفاة فرخشاه) * ثم توفى عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه أخو صلاح الدين النائب عنه بدمشق وكان خليفته في أهله ووثوقه به أكثر من جميع أصحابه وخرج من دمشق غازيا الافرنج وطرقه المرض وعاد فتوفى في جمادى سنة ثمان وسبعين وبلغ خبره صلاح الدين وقد عبر الفرات إلى الجزيرة والموصل فأعاد شمس الدين محمد بن المقدم إلى دمشق وجعله نائبا فيها واستمر لشأنه والله تعالى يورث الملك لمن يشاء من عباده * (استيلاء صلاح الدين على آمد وتسليمها لصاحب كيفا) * قد تقدم لنا مسير صلاح الدين إلى ماردين واقامته عليها أياما من نواحيها ثم ارتحل عنها إلى آمد كما كان العهد بينه وبين نور الدين صاحب كيفا فنازلها منتصف ذى الحجة وبها بهاء الدين بن بيسان فحاصرها وكانت غاية في المنعة وأساء ابن بيسان التدبير وقبض يده عن العطاء وكان أهلها قد ضجروا منه لسوء سيرته وتضييقه عليهم في مكابسهم وكتب إليهم صلاح الدين بالترغيب والترهيب فتخاذلوا عن ابن بيسان وتركوا القتال معه ونقب السور من خارج بيت ابن بيسان وأخرج نساءه مع القاضى الفاضل يستميل إليه صلاح الدين ويؤجله ثلاثة أيام للرحلة فأجابه صلاح الدين وملك البلد في عاشوراء سنة تسع وسبعين وبنى خيمة بظاهر البلد ينقل إليها ذخيرته فلم يلتفت الناس إليه وتعذر عليه أمره فبعث إلى صلاح الدين يسأله الاعانة فامر له بالدواب والرجال فنقل في الايام الثلاثة كثيرا من موجوده ومنع بعد انقضاء الاجل عن نقل ما بقى ولما ملكها صلاح الدين سلمها لنور الدين صاحب كيفا وأخبر صلاح الدين بما فيها
من الدخائر لينقلها لنفسه فأبى وقال ما كنت لاعطى الاصل وأبخل بالفرع ودخل نور الدين البلد ودعا صلاح الدين وأمراءه إلى صنيع صنعه لهم وقدم لهم من التحف والهدايا ما يليق بهم وعاد صلاح الدين والله تعالى أعلم * (استيلاء صلاح الدين على تل خالد وعنتاب) * ولما فرغ صلاح الدين من آمد سار إلى أعمال حلب فحاصر تل خالد ونصب عليه المجانيق حتى تسلمه بالامان في محرم سنة تسع وسبعين ثم سار إلى عنتاب فحاصرها وبها ناصر الدين محمد أخو الشيخ اسمعيل الذى كان خازن نور الدين العادل وصاحبه وهو الذى ولاه عليها فطلب من صلاح الدين أن يقرها بيده ويكون في طاعته فأجابه إلى ذلك وحلف له وسار في خدمته وغنم المسلمون خلال ذلك مغانم فمنها في البحر سار اسطول(5/300)
مصر فلقى في البحر مركبا فيها نحو ستمائة من الافرنج بالسلاح والاموال قاصدون لافرنج بالشأم فظفروا بهم وغنموا ما معهم وعادوا إلى مصر سالمين ومنها في البر أغار الدارون جماعة من الافرنج ولحقهم المسلمون بايلة واتبعوهم إلى العسيلة وعطش لمسلمون فانزل الله تعالى عليهم المطر حتى رووا وقاتلوا الافرنج فظفروا بهم هنالك واستلحموهم واستقاموا معهم وعادوا سالمين إلى مصر والله أعلم * (استيلاء صلاح الدين على حلب وقلعة حارم) * كان الملك الصالح اسمعيل بن نور الدين العادل صاحب حلب لم يبق من الشأم غيرها وهو يدافع صلاح الدين عنها فتوفي منتصف سنة سبع وسبعين وعهد لابن عمه عز الدين صاحب الموصل وسار عز الدين صاحب الموصل مع نائبه مجاهد الدين قايمان إليها فملكها ثم طلبها منه أخوه عماد الدين صاحب سنجار على أن يأخذ عنها سنجار فأجابه إلى ذلك وأخذ عز الدين سنجار وعاد إلى الموصل وسار عماد الدين إلى حلب فملكها وعظم ذلك على صلاح الدين وخشى أن يسيره منها إلى دمشق وكان بمصر فسار إلى الشأم وسار
منها إلى الجزيرة وملك ما ملك منها وحاصر الموصل ثم حاصر آمد وملكها ثم سار إلى أعمال حلب كما ذكرناه فملك تل خالد وعنتاب ثم سار إلى حلب وحاصرها في محرم سنة تسع وسبعين ونزل الميدان الاخضر أياما ثم انتقل إلى جبل جوشق وأظهر البقاء عليها وهو يغاديها القتال ويراوحها وطلب عماد الدين جنده في العطاء وضايقوه في تسليم حلب لصلاح الدين وأرسل إليه في ذلك الامر طومان الياروقى وكان يميل إلى صلاح الدين فشارطه على سنجار ونصيبين والرقة والخابور وينزل له عن حلب وتحالفوا على ذلك وخرج عنها عماد الدين ثامن عشر صفر من السنة إلى هذه البلاد ودخل صلاح الدين حلب بعد ان شرط على عماد الدين أن يعسكر معه متى عاد ولما خرج عماد الدين إلى صلاح الدين صنع له دعوة احتفل فيها وانصرف وكان فيمن هلك في حصار حلب تاج الملوك نور الدين أخو صلاح الدين الاصغر أصابته جراحة فمات منها بعد الصلح وقبل أن يدخل صلاح الدين البلد ولما ملك صلاح الدين حلب سار إلى قلعة حارم وبها الامير طرخك من موالى نور الدين العادل وكان عليها ابنه الملك الصالح فحاصره صلاح الدين ووعده وترددت الرسل بينهم وهو يمتنع وقد أرسل إلى الافرنج يدعوهم للانجاد وسمع بذلك الجند الذين معه فوثبوا به وحبسوه واستأمنوا إلى صلاح الدين فملك الحصن وولى عليه بعض خواصه وقطع تل خالد الياروقى صاحب تل باشر وأما قلعة عزاز فان عماد الدين اسمعيل كان خربها فأقطعها صلاح الدين سليمان بن جسار وأقام بحلب إلى أن قضى جميع أشغالها وأقطع أعمالها وسار إلى(5/301)
دمشق والله تعالى أعلم * (غزوة بيسان) * ولما فرغ صلاح الدين من أمر حلب ولى عليها ابنه الظاهر غازى ومعه الامير سيف الدين تاوكج كافلا له لصغره وهو أكبر الامراء الاسدية وسار إلى دمشق فتجهز للغزا
وجمع عساكر الشأم والجزيرة وديار بكر وقصد بلاد الافرنج فعبر الاردن منتصف سبع وسبعين وأجفل أهل تلك الاعمال أمامه فقصد بيسان وخربها وحرقها وأغار على نواحيها واجتمع الافرنج له فلما رأوه خاموا عن لقائه واستندوا إلى جبل وخندقو عليهم وأقام يحاصرهم خمسة أيام ويستدرجهم للنزول فلم يفعلوا فرجع المسلمون عنهم وأغاروا على تلك النواحى وامتلات أيديهم بالغنائم وعادوا إلى بلادهم والله تعالى ينصر من يشاء من عباده * (غزو الكرك وولاية العادل على حلب) * ولما عاد صلاح الدين من غزوة بيسان تجهز لغزو الكرك وسار في العساكر واستدعى أخا العادل أبا بكر بن أيوب من مصر وهو نائبها ليلحق به على الكرك وكان قد سأله في ولاية حلب وقلعتها فأجابه إلى ذلك وأمره أن يجئ بأهله وماله فوافاه على الكرك وحاصرو أياما وملكوا أرباضه ونصبوا عليها المجانيق ولم يكن بالغ في استعداد لحصاره لظنا أن الافرنج يدافعون عنه فأفرج عنه منتصف شعبان وبعث تقى الدين ابن أخيه شا على نيابة مصر مكان أخيه العادل واستصحب العادل معه إلى دمشق فوفاه مدينة حلب ومدينة منبج وما إليها وبعثه بذلك في شهر رمضان من السنة واستدعى ولد الظاهر غازى من حلب إلى دمشق ثم سار في ربيع الآخر من سنة ثمانين لحصا الكرك بعد ان جمع العساكر واستدعى نور الدين صاحب كيفا وعساكر مصر واستعا لحصاره ونصب المجانيق على ربضه فملكه المسلمون وبقى الحصن وراء خندق بينه وبين الربض عمقه ستون ذراعا وراموا طمه فنضحوهم بالسهام ورموهم بالحجارة فأمر برقي السقف ليمشى المقاتلة تحتها إلى الخندق وأرسل أهل الحصن إلى ملكهم يستمدونه ويخبرونه بما نزل بهم فاجتمع الافرنج وأوعبوا وساروا إليهم فرحل صلاح الدين للقائهم حتى انتهى إلى حزونة الارض فأقام ينتظر خروجهم إلى البسيط فخاموا عن ذلك فتأخر عنهم فراسخ ومروا إلى الكرك وعلم صلاح الدين أن الكرك قد امتنع
بهؤلاء فتركه وسار إلى نابلس فخربها وحرقها وسار إلى سنطية وبها مشهد زكرياء عليه السلام فاستنقذ من وجد بها من أسارى المسلمين ورحل إلى جينين فنهبها وخرج(5/302)
وسار إلى دمشق بعد ان بث السرايا في كل ناحية ونهب كل ما مر به وامتلات الايدى من الغنائم وعاد إلى دمشق مظفرا والله تعالى أعلم * (حصار صلاح الدين الموصل) * ثم سار صلاح الدين من دمشق إلى الجزيرة في ذى القعدة من سنة ثمان وعبر الفرات وكان مظفر الدين كوكبرى على كچك يستحثه للمسير إلى الموصل في كل وقت وربما وعده بخمسين وألف دينار إذا وصل فلما وصل إلى حران لم يف له فقبض عليه ثم خشى معيرة أهل الجزيرة فأطلقه وأعاد عليهم حران والرها وسار في ربيع الاول ولقيه نور الدين صاحب كيفا ومعز الدين سنجار شاه صاحب جزيرة ابن عمر وقد انحرف عن عمه عز الدين صاحب الموصل بعد نكبة مجاهد الدين نائبه وساروا كلهم مع صلاح الدين إلى الموصل وانتهوا إلى مدينة بلد فلقيه هنالك أم عز الدين وابنة عمه نور الدين وجماعة من أهل بيته يسألونه الصلح ظنا بأنه لا يردهن وسيما بنت نور الدين واستشار صلاح الدين أصحابه فأشار الفقيه عيسى وعلى بن أحمد المشطوب بردهن وساروا إلى الموصل وقاتلوها واستمات أهلها وامتعضوا لرد النساء فامتنعت عليهم وعاد على أصحابه باللوم في اشارتهم وجاء زين الدين يوسف صاحب اربل وأخوه مظفر الدين كوكبرى فانزلهما بالجانب الشرقي وبعث على بن أحمد المشطوب الهكارى إلى قلعة الجزيرة ليحاصرها فاجتمع عليه الاكراد الهكارية إلى أن عاد صلاح الدين عن الموصل وبلغ عز الدين أن نائبه بالقلعة زلقندار يكاتب صلاح الدين فمنعه منها وانحرف عنه إلى الاقتداء برأى مجاهد الدين وتصدر عنه ثم بلغه خبر وفاة شاهرين صاحب خلاط فطمع صلاح الدين في ملكها وانه يستعين بها على أموره ثم جاءته كتب أهلها يستدعونه
فسار عن الموصل إليها وكان أهل خلاط انما كاتبوه مكر الان شمس الدين البهلوان ابن ايلدكز صاحب اذربيجان وهمذان قصده تملكهم بعدان كان زوج ابنته من شاهرين على كبره وجعل ذلك ذريعة إلى ملك خلاط فلما سار إليهم كاتبوا صلاح الدين ودافعوا كلا منهما بالآخر فسار صلاح الدين وفي مقدمته ناصر الدين محمد بن شيركوه ومظفر الدين صاحب اربل وغيرهما وتقدموا إلى خلاط وتقدم صاحب اذربيجان فنزل قريبا من خلاط وترددت رسل أهل خلاط بينه وبين البهلوان ثم خطبوا للبهلوان والله تعالى ينصر من يشاء من عباده * (استيلاء صلاح الدين على ميافارقين) * ولما خطب أهل خلاط للبهلوان وصلاح الدين على ميافارقين وكانت لقطب الدين(5/303)
صاحب ماردين فتوفى وملك ابنه طفلا صغيرا بعده ورد أمرها إلى شاهرين صاحب خلاط وأنزل بها عسكره فطمع فيها صلاح الدين بعد وفاة شاهرين وحاصرها من أول جمادى سنة احدى وثمانين وعلى أجنادها الامير أسد الدين برينقش فأحسن الدفاع وكان بالبلد زوجة قطب الدين المتوفى ومعها بناتها منه وهى أخت نور الدين صاحب كيفا فراسلها صلاح الدين بأن برينقش قد مال إليها في تسليم البلد ونحن ندعى حق أخيك نور الدين فأزوج بناتك من أبنائى وتكون البلد لنا ووضع على برنيقش من أخبره بأن الخاتون مالت إلى صلاح الدين وان أهل خلاط كاتبوه وكان خبر أهل خلاط صحيحا فسقط في يده وبعث في التسليم على شروط اشترطها من اقطاع ومال وسلم البلد فملكها صلاح الدين وعقد النكاح لبعض ولده على بعض بنات خاتون وأنزلها وبناتها بقلعة هقناج وعاد إلى الموصل ومر بنصيبين وانتهى إلى كفر أرمان واعتزم على أن يشتوابه ويقطع جميع ضياع الموصل ويجبى أعمالها ويكتسح غلاتها وجنح مجاهد الدين إلى مصالحته وترددت الرسل في ذلك على أن يسلم إليه عز الدين شهر زور وأعمالها
وولاية الغرابلى وما وراء الزاب من الاعمال ثم طرقه المرض فعاد إلى حران وأدركه الرسل بالاجابة إلى ما طلب فانعقد هنالك وتحالفوا وتسلم البلاد وطال مرضه بحران وكان عنده أخوه العادل وبيده حلب وبها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين واشتد به المرض فقسم البلاد بين أولاده وأوصى أخاه العادل على الجميع وعاد إلى دمشق في محرم سنة ثنتين وثمانين وكان عنده بحران ناصر الدين محمد بن عمه شيركوه ومن اقطاعه حمص والرحبة فعاد قبله إلى حمص ومر بحلب وصانع جماعة من أمرائها على أن يقوموا بدعوته ان حدث بصلاح الدين أمر وبلغ إلى حمص فبعث إلى أهل دمشق بمثل ذلك وأفاق صلاح الدين من مرضه ومات ناصر الدين ليلة الاضحى ويقال دس عليه من سمه وورث أعماله ابنه شيركوه وهو ابن اثنتى عشرة سنة والله تعالى أعلم * (قسمة صلاح الدين الاعمال بين ولده وأخيه) * كان ابنه العزيز عثمان بحلب في كفالة أخيه العادل وابنه الاكبر الافضل على بمصر في كفالة تقى الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه بعثه إليها عندما استدعى العادل منها كما مر فلما مرض بحران أسف على كونه لم يول أحدا من ولده استقلالا وسعى إليه بذلك بعض بطانته فبعث ابنه عثمان العزيز إلى مصر في كفالة أخيه العادل كما كان بحلب ثم اقطع العادل حران والرها وميافارقين من بلاد الجزيرة وترك عثمان ابنه بمصر ثم بعث عن ابنه الافضل وتقى الدين ابن أخيه فامتنع تقى الدين من الحضور واعتزم على المسير إلى المغرب واللحاق بمولاه قراقوش في ولايته التى حصلت له بطرابلس والجريد(5/304)
من افريقية فراسله صلاح الدين ولاطفه ولما وصل اقطعه حماة ومنبج والمعرة وكفرطاب وجبل جوز وسائر أعمالها وقيل ان تقى الدين لما أرجف بمرض صلاح الدين وموته تحرك في طلب الامر لنفسه وبلغ ذلك صلاح الدين فأرسل الفقيه عيسى الهكارى وكان مطاعا فيهم وأمره باخراج تقى الدين من مصر والمقام بها فسار
ودخلها على حين غفلة وأمر تقى الدين بالخروج فأقام خارج البلد وتجهز للمغرب فراسله صلاح الدين إلى آخر الخبر والله تعالى أعلم [ اتفاق القمص صاحب طرابلس مع صلاح الدين ومنابذة البرنس صاحب الكرك له وحصاره اياه والاغارة على عكا ] كان القمص صاحب طرابلس وهو ريمند بن ريمند بن صنجيل تزوج بالقومصة صاحبة طبرية وانتقل إليها فأقام عندها ومات ملك الافرنج بالشأم وكان مجذوما كما مر وأوصى بالملك لابن أخيه صغيرا فكفله هذا القمص وقام بتدبير ملكه لعظمه فيهم وطمع أن تكون كفالته ذريعة إلى الملك ثم مات الصغير فانتقل الملك إلى أبيه ويئس القمص عندها مما كان يحدث به نفسه ثم ان الملكة تزوجت ابن غتم من الافرنج القادمين من المغرب وتوجته وأحضرت البطرك والقسوس والرهبان والاستبارية والدواوية واليارونة وأشهدتهم خروجها له عن الملك ثم طولب القمص بالجباية أيام كفالته الصبى فأنف وغضب وجاهر بالشقاق لهم وراسل صلاح الدين وسار إلى ولايته وخلف له على مصره من أهل ملته وأطلق له صلاح الدين جماعة من زعماء النصارى كانوا أسارى عنده فازداد غبطة بمظاهرته وكان ذلك ذريعة لفتح بلادهم وارتجاع القدس منهم وبث صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية في سائر بلاد الافرنج فاكتسحوها وعادوا غانمين وذلك كله سنة ثتين وثمانين وكان البرنس ارناط صاحب الكرك من أعظم الافرنج مكرا وأشدهم ضررا وكان صلاح الدين قد سلط الغارة والحصار على بلده حتى سأل في الصلح فصالحه فصلحت السابلة بين الآمين ثم مرت في هذه السنة قافلة كثيرة التجار والجند فغدر بهم وأسر وأخذ ما معهم وبعث إليه صلاح الدين فأصر على غدرته فنذر أنه يقتله ان ظفر به واستنفر الناس للجهاد من سائر الاعمال من الموصل والجزيرة واربل ومصر والشأم وخرج من دمشق في محرم سنة ثلاث وثمانين وانتهى إلى رأس الماء وبلغه ان البرنس ارناط صاحب الكرك يريد
أن يتعرض للحاج من الشأم وكان معهم ابن أخيه محمد بن لاجين وغيره فترك من العساكر مع ابنه الافضل على وسار إلى بصرى وسمع البرنس بمسيره فأحجم عن الخروج ووصل الحاج سالمين وسار صلاح الدين إلى الكرك وبث السرايا في أعمالها وأعمال(5/305)
الشوبك فاكتسحوهما والبرنس محصور بالكرك وقد عجز الافرنج عن امداده لمكان العساكر مع الافضل بن صلاح الدين ثم بعث صلاح الدين إلى ابنه الافضل فأمره بارسال بعث إلى عكا ليكتسحوا نواحيها فبعث مظفر الدين كوكبرى صاحب حران والرها وقايماز النجمى وداروم الياروقى وساروا في آخر صفر فصبحوا صفورية وبها جمع من الفداوية والاستبارية فبرزوا إليهم وكانت بينهم حروب شديدة تولى الله النصر فيها للمسلمين وانهزم الافرنج وقتل مقدمهم وامتلات أيدى المسلمين من الغنائم وانقلبوا ظافرين ومروا بطبرية وبها القمص فلم يهجهم لما تقدم بينه وبين صلاح الدين من الولاية وعظم هذا الفتح وسار البشير به في البلاد والله تعالى أعلم * (هزيمة الافرنج وفتح طبرية ثم عكا) * ولما انهزم الفداوية والاستبارية بصفورية ومر المسلمون بالغنائم على القمص ريمند بطبرية ووصلت البشائر بذلك إلى صلاح الدين عاد إلى معسكره الذى مع ابنه ومر بالكرك واعتزم على غزو بلاد الافرنج فاعترض عساكره وبلغه ان القمص ريمند قد راجع أهل ملته ونقض عهده معه وان البطرك والقسيس والرهبان أنكروا عليه مظاهرته للمسلمين ومرور عساكرهم به باسرى النصارى وغنائمهم ولم يعترضهم مع ايقاعهم بالفداوية والاستبارية أعيان الملة وتهددوه بالحاق كلمة الكفر به فتنصل وراجع رأيه واعتذر إليهم فقبلوا عذره وخلص لكفره وطواغيته فجددوا الحلف والاجتماع وساروا من عكا إلى صفورية وبلغ الخبر إلى صلاح الدين وشاور أصحابه فمنهم من أشار بترك اللقاء وثن الغارات عليهم حتى يضعفوا ومنهم من أشار باللقاء لنزول
عكا واستيفاء ما فعلوه في المسلمين بالجزيرة فاستصوبه صلاح الدين واستعجل لقاءهم ثم رحل من الاقحوانة أواخر رمضان فسار حتى خلف طبرية وتقدم إلى معسكر الافرنج فلم يفارقوا خيامهم فلما كان الليل أقام طائفة من العسكر فسار إلى طبرية فملكها من ليلته عنوة ونهبها وأحرقها وامتنع أهلها بالقلعة ومعهم الملكة وأولادها فبلغ الخبر إلى الافرنج فضبح القمص وعمد إلى الصلح وأطال القول في تعظيم الخطب وكثرة المسلمين فنكر عليه البرنس صاحب الكرك واتهمه ببقائه على ولاية صلاح الدين واعتزموا على اللقاء ووصلوا من مكانهم لقصد المعسكر وعاد صلاح الدين إلى معسكره وبعدت المياه من حوالى الافرنج وعطشوا ولم يتمكنوا من الرجوع فركبهم صلاح الدين دون قصدهم واشتدت الحرب وصلاح الدين يجول بين الصفوف يتفقد أحوال المسلمين ثم حمل القمص على ناحية تقى الدين عمر بن شاه حملة استمات فيها هو وأصحابه فأفرج له الصف وخلص من تلك الناحية إلى منجاته واختل مصاف الافرنج وتابعوا الحملات(5/306)
وكان بالارض هشيم أصابه شرر فاضطرم نارا فجهدهم لفحها ومات جلهم من العطش فوهنوا وأحاط بهم المسلمون من كل ناحية فارتفعوا إلى تل بناحية حطين لينصبوا خيامهم به فلم يتمكنوا الا من خيمة الملك فقط والسيف يجول فيهم مجاله حتى فنى أكثرهم ولم يبق الا نحو المائة والخمسين من خلاصة زعمائهم مع ملكهم والمسلمون يكرون عليهم مرة بعد أخرى حتى ألقوا ما بأيديهم وأسروا الملك وأخاه البرنس ارناط صاحب الكرك وصاحب جبيل وابن هنفرى ومقدم الفداوية وجماعة من الفداوية والاستبارية ولم يصابوا منذ ملكوا هذه البلاد أعوام التسعين والاربعمائة بمثل هذه الوقعة ثم جلس صلاح الدين في خيمته وأحضر هؤلاء الاسرى فقرع الملك ووبخه بعد ان أجلسه إلى جانبه وفاء بمنصب الملك وقام إلى البرنس فتولى قتله بيده حرصا على الوفاء بنذره بعد ان عرفه بغدرته وبجسارته على ما كان يرومه في الحرمين وحبس الباقين
وأما القمص صاحب طرابلس فنجا كما ذكرناه إلى بلده ثم مات لايام قلائل أسفا ولما فرغ صلاح الدين من هزيمتهم نهض إلى طبرية فنازلها واستأمنت إليه الملكة بها فأمنها في ولدها وأصحابها ومالها وخرجت إليه فوفى لها وبعث الملك وأعيان الاسرى إلى دمشق فحبسوا بها وجمع أسرى الفداوية والاستبارية بعد ان بذل لمن يجده منهم من المقاتلة خمسين دينارا مصرية لكل واحد وقتلهم أجمعين قال ابن الاثير ولقد اجتزت بمكان الوقعة بعد سنة فرأيت عظامهم ماثلة على البعد أجحفتها السيول ومزقتها السباع ولما فرغ صلاح الدين من طبرية سار عنها إلى عكا فنازلها واعتصم الافرنج الذين بها بالاسوار وشادوا بالاستئمان فأمنهم وخيرهم فاختاروا الرحيل فحملوا ما أقلته رحالهم ودخلها صلاح الدين غرة جمادى سنة ثلاث وثمانين وصلوا في جامعها القديم الجمعة يوم دخولهم فكانت أول جمعة أقيمت بساحل الشأم بعد استيلاء الافرنج عليه وأقطع صلاح الدين بلد عكا لابنه الافضل وجميع ما كان فيه للفداوية من أقطاع وضياع ووهب للفقيه عيسى الهكارى كثيرا مما عجز الافرنج عن حمله وقسم الباقي على أصحابه ثم قسم الافضل ما بقى في أصحابه بعد مسير صلاح الدين ثم أقام صلاح الدين أياما حتى أصلح أحوالها ورحل عنها والله تعالى أعلم * (فتح يافا وصيدا وجبيل وبيروت وحصون عكا) * لما هزم صلاح الدين الافرنج كتب إلى أخيه العادل بمصر يسيره ويأمره بالمسير إلى جهات الافرنج من جهات مصر فنازل حصن مجدل وفتحه وغنم ما فيه ثم سار إلى مدينة يافا ففتحها عنوة واستباحها وكان صلاح الدين أيام مقامه بعكا بعث بعوثه إلى قيسارية وحيفا وسطوريه وبعليا وسقف وغيرها في نواحى عكا فملكوها واستباحوها(5/307)
وامتلات أيديهم من غنائمها وبعث حسام الدين عمر بن الاصعن في عسكر إلى نابلس فملك سبطية مدينة الاسباط وبها قبر زكريا عليه السلام ثم سار إلى مدينة نابلس
فملكها واعتصم الافرنج الذين بها بالقلعة فأقرهم على أموالهم وبعث تقى الدين عمر ابن شاهنشاه إلى تبنين ليقطع الميرة عنها وعن صور فوصل إليها وحاصرها وضيق عليها حتى استأمنوا فأمنهم وملكها ومر إلى صيدا ومر في طريقه بصرخد فملكها بعد قتال وجاء الخبر بفرار صاحب صيدا فسار وملكها آخر جمادى الاولى من السنة ثم سار من يومه إلى بيروت وقاتلها من احد جوانبها فتوهموا أن المسلمين دخلوا عليهم من الجانب الآخر فاهتاجوا لذلك فلم يستقروا ولا قدروا على تسكين الهيعة لكثرة ما معهم من أخلاط السواد فاستأمنوا إليه وملكها آخر يوم من جمادى لثمانية أيام من حصارها وكان صاحب جبيل أسيرا بدمشق فضمن لنائبها تسليم جبيل لصلاح الدين على أن يطلقه فاستدعاه وهو محاصر لبيروت وسلم الحصن وأطلقه وكان من أعيان الافرنج وأولى الرأى منهم والله تعالى أعلم * (وصول المركيش إلى صور وامتناعه بها) * كان القمص صاحب طرابلس لما نجا من هزيمة لحق بمدينة صور وأقام بها يريد حمايتها ومنعها من المسلمين فلما ملك صلاح الدين نسيس وصيدا وبيروت ضعف عزمه عن ذلك ولحق ببلده طرابلس وبقيت صيدا وصور بدون حامية وجاء المركيش من تجار الافرنج من المغرب في كثرة وقوة فأرسى بعكا ولم يشعر بفتحها وخرج إليه الرائد فأخبره بمكان الافضل بن صلاح الدين فيها وان صور وعسقلان باقية للافرنج فلم يطق الاقلاع اليهما لركود الريح فشغلهم بطلب الامان ليدخل المرسى ثم طابت ريحه وجرت به إلى صور وأمر الافضل بخروج الشوانى في طلبه فلم يدركوه حتى دخل مرسى صور فوجد بها أخلاطا كثيرة من فل الحصون المفتتحة فجاؤا إليه وضمن لهم حفظ المدينة وبذل أمواله في الانفاق عليها على أن تكون هي وأعمالها له دون غيره واستحلفهم على ذلك ثم قام بتدبير أحوالها وشرع في تحصينها فحفر الخنادق ورم الاسوار واستبد بها والله سبحانه وتعالى أعلم
* (فتح عسقلان وما جاورها) * ولما ملك صلاح الدين بيروت وجبيل وتلك الحصون صرف همته إلى عسقلان والقدس لعظم شأن القدس ولان عسقلان مقطع بين الشأم ومصر فسار عن بيروت إلى عسقلان ولحق به أخوه العادل في عساكر مصر ونازلها أوائل جمادى الاخبرة(5/308)
واستدعى ملك الافرنج ومقدم الراية وكانا أسيرين بدمشق فأحضرهما وأمرهما بالاذن للافرنج بعسقلان في تسليمها فلم يجيبوا إلى ذلك وأساؤا الرد عليهما فاشتد في قتالهم ونصب المجانيق عليهم وملكهم يردد الرسائل إليهم في التسليم عساه ينطلق ويأخذ بالثار من المسلمين فلم يجيبوه ثم جهدهم الحصار وبعد عليهم الصريخ فاستأمنوا إلى صلاح الدين على شروط اشترطوها كان أهمها عندهم أن يمنعهم من الهراسة فاقتلوا أميرهم في الحصار فأجابهم إلى جميع ما اشترطوه وملك المدينة منتصف السنة لاربعة عشر يوما من حصارها وخرجوا بأهليهم وأموالهم وأولادهم إلى القدس ثم بعث السرايا في تلك الاعمال ففتحوا الرملة والداروم وغزة ومدن الخليل وبيت لحم البطرون وكل ما كان للفداوية وكان أيام حصار عسقلان قد بعث عن اسطول مصر فجاء به حسام الدين لؤلؤ الحاجب وأقام يغير على مرسى عسقلان والقدس ويغنم جميع ما يقصده من النواحى والله سبحانه وتعالى يؤيد من يشاء بنصره * (فتح القدس) * لما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها سار إلى بيت المقدس وبها البطرك لاعظم وبليان بن نيزران صاحب الرملة وربيسة قريبة الملك ومن نجا من زعمائهم من خطين وأهل البلد المفتتحة عليهم وقد اجتمعوا كلهم بالقدس واستماتوا للدين وبعد لصريخ وأكثروا الاستعداد ونصبوا المجانيق من داخله وتقدم إليه أمير من المسلمين فخرج إليه الافرنج فأوقعوا به وقتلوه في جماعة ممن معه وفجع المسلمون بقتله وساروا
ينزلوا على القدس منتصف رجب وهالهم كثرة حاميته وطاف بهم صلاح الدين خمسة ايام فتحيز متبوأ عليه للقتال حتى اختار جهة الشمال نحو باب العمود وكنيسة صهيون يتحول إليه ونصب المجانيق عليها واشتد القتال وكان كل يوم يقتل بين الفريقين خلق وكان ممن استشهد عز الدين عيسى بن مالك من أكابر أمراء بنى بدران وأبوه صاحب لمعة جعبر فأسف المسلمون لقتله وحملوا عليهم حتى أزالوهم عن مواقفهم وأحجروهم البلد وملكوا عليهم الخندق ونقبوا السور فوهن الافرنج واستأمنوا لصلاح الدين أبى الا العنوة كما ملكه الافرنج أول الامر سنة احدى وسبعين وأربعمائة فاستأمن له بالباب ابن نيزران صاحب الرملة وخرج إليه وشافهه بالاستئمان واستعطفه فأصر على الامتناع فتهدده بالاستماتة وقتل النساء والابناء وحرق الامتعة وتخريب المشاعر المعظمة واستلحام أسرى المسلمين وكانوا خمسة آلاف أسير واستهلاك جميع الحيوانات الداجنة بالقدس من الظهر وغيره فحينئذ استشار صلاح الدين صحابه فجنحوا إلى تأمينهم فشارطهم على عشرة دنانير للرجل وخمسة للمرأة ودينارين(5/309)
للولد صبى أو صبية وعلى أجل أربعين يوما فمن تأخر أدأوه عنها فهو أسير وبذل بليان ابن نيزران عن فقراء أهل ملته ثلاثين ألف دينار وملك صلاح الدين المدينة يوم الجمعة لتسع وعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين ورفعت الاعلام الاسلامية على أسواره وكان يوما مشهودا ورتب على أبواب القدس الامناء لقبض هذا المال ولم يبن الامر فيه على المشاحة فذهب أكثرهم دون شئ وعجز آخر الامر ستة عشر ألف نسمة فأخذوا أسارى وكان فيه على التحقيق ستون ألف مقاتل غير النساء والولدان فان الافرنج أزروا إليه من كل جانب لما افتتحت عليهم حصونهم وقلاعهم ومن الدليل على مقاربة هذا العدد ان بليان صاحب الرملة أعطى ثلاثين ألف دينار على ثمانية عشر ألفا وعجز منهم ستة عشر ألفا وأخرج جميع الامراء خلقا لا تحصى في زى
المسلمين بعد أن يشارطوهم على بعض القطيعة واستوهب آخرون جموعا منهم يأخذون قطيعتهم فوهبهم اياهم وأطلق بعض نساء الملوك من الروم كانوا مترهبات فأطلقهم بعبيدهم وحشمهم وأموالهم وكذا ملكة القدس التى أسر صلاح الدين زوجها ملك الافرنج بسببها وكان محبوسا بقلعة نابلس فأطلقها بجميع ما معها ولم يحصل من القطيعة على خراج وخرج البطرك الاعظم بما معه من ماله وأموال البيع ولم يتعرض له وجاءته امرأة البرنس صاحب الكرك الذى قتله يوم حطين تشفع في ولدها وكان أسيرا فبعثها إلى الكرك لتأذن الافرنج في النزول عنه للمسلمين وكان على رأسه قبة خضراء لها صليب عظيم مذهب وتسلق جماعة من المسلمين إليه واقتلعوه وارتجت الارض بالتكبير والعويل ولما خلا القدس من العدو أمر صلاح الدين برد مشاعره إلى أوضاعها القديمة وكانوا قد غيروها فأعيدت إلى حالها الاول وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الاقذار فطهرا ثم صلى المسلمون الجمعة الاخرى في قبة الصخرة وخطب محيى الدين بن زنكى قاضى دمشق بأمر صلاح الدين وأتى فيه خطبته بعجائب من البلاغة في وصف الحال وعظة الاسلام اقشعرت لها الجلود وتناقلها الرواة وتحدثت بها السمار أحوالا ثم أقام صلاح الدين بالمسجد للصلوات الخمس اماما وخطيبا وأمر بعمل المنبر له فتحدثوا عنده بأن نور الدين محمودا اتخذ له منبرا منذ عشرين سنة وجمع الصناع بحلب فأحسنوا صنعته في عدد سنين فأمر بحمله ونصبه بالمسجد الاقصى ثم أمر بعمارة المسجد واقتلاع الرخام الذى فوق الصخرة لان القسيسين كانوا يبيعون الحجر من الصخرة ينحتونها نحتا ويبيعونها بالذهب وزنا بوزن فتنافس الافرنج فيها التماس البركة منها ويدعونها في النكائس فخشى ملوكهم أن تفنى الصخرة فعالوا عليها بفرش الرخام فأمر صلاح الدين بقلعه ثم استكثر في المسجد من المصاحف ورتب فيه القراء ووفر لهم(5/310)
الجرايات وتقدم ببناء الربط والمدارس فكانت من مكارمه رحمه الله تعالى وارتحل
الافرنج بعد ان باعوا جميع ما يملكونه من العقار بأرخص ثمن واشتراه أهل العسكر ونصارى القدس الاقدمون بعد أن ضربت عليهم الجزية كما كانوا والله تعالى أعلم * (حصار صور ثم صفد وكوكب والكرك) * لما فتح صلاح الدين القدس أقام بظاهره إلى آخر شعبان من السنة حتى فرغ من جميع أشغاله ثم رحل إلى مدينة صور وقد اجتمع فيها من الافرنج عوالم وقد نزل بها المركيش وضبطها ولما انتهى صلاح الدين إلى عكا أقام بها أياما فبالغ المركيش في الاستعداد وتعميق الخنادق واصلاح الاسوار وكان البحر يحيط بها من ثلاث جهاتها فوصل جانب اليمين بالشمال وسارت كالجزيرة وسار إليها فنزل عليها لتسع بقين من رمضان على تل يشرف منه على مكان القتال وجعل القتال على أقيال عسكره نوبا بين ابنه الافضل وابنه الظاهر وأخيه العادل وابن أخيه تقى الدين ونصب عليها المجانيق والعرادات وكان الافرنج يركبون في الشوانى والحراقات ويأتون المسلمين من ورائهم فيرمون عليهم من البحر ويقاتلونهم ويمنعونهم من الدنو إلى السور فبعث صلاح الدين عن أسطول مصر من مرسى عكا فجاء ودافع الافرنج وتمكن المسلمون من قتال الاسوار وحاصروها برا وبحرا ثم كبس اسطول الافرنج خمسة من أساطيل المسلمين ففتكوا بهم ورد صلاح الدين الباقي إلى بيروت لقلتها فاتبعها أساطيل الافرنج فلما أرهقوهم في الطلب ألقوا بأنفسهم إلى الساحل وتركوها فحكمها صلاح الدين ونقضها وجد في حصار صور فلم يفد وامتنعت عليه لما كان فيها من كثرة الافرنج الذين أمنهم بعكا وعسقلان والقدس فنزلوا إليها بأموالهم وأمدوا صاحبها واستدعوا الافرنج وراء البحر فوعدوهم بالنصر وأقاموا في انتظارهم ولما رأى صلاح الدين امتناعها شاور أصحابه في الرحيل فترددوا وتخاذلوا في القتال فرحل آخر شوال إلى عكا وأذن للعساكر في المشى إلى أوطانهم إلى فصل الربيع وعادت عساكر الشرق والشأم ومصر وأقام بقلعة عكا في خواصه ورد أحكام البلد إلى خرديك من أمراء نور الدين وكان
صلاح الدين عندما اشتغل بحصار عسقلان بعث عسكر الحصار صور فشددوا حصارها وقطعوا عنها الميرة وبعثوا إلى صلاح الدين وهو يحاصر صور فاستأمنوا له ونزلوا عنها فملكها وكان أيضا صلاح الدين لما سار إلى عسقلان جهز عسكرا لحصار قلعة كوكب يحرسون السابلة في طريقها من الافرنج الذين فيها وهى مطلة على الاردن وهى للاستبارية وجهز عسكر الحصار صفد وهى للفداوية مطلة على طبرية ولجأ إلى هدين الحصنين من سلم من وقعة حطين وامتنعوا بهما فلما جهز العساكر اليهما صلحت الطريق(5/311)
وارتفع منها الفساد فلما كان آخر ليلة من شوال غفل الموكلون بالحصار على قلعة كوكب وكانت ليلة شاتية باردة فكبسهم الافرنج ونهبوا ما عندهم من طعام وسلاح وعادوا إلى قلعتهم وبلغ ذلك صلاح الدين وهو يعتزم على الرحيل عن صور فشحذ من عزيمته ثم جهز عسكرا على صور مع الامير قايماز النجمى وارتحل إلى عكا فلما نصرم فصل الشتاء سار من عكا في محرم سنة أربع وثمانين إلى قلعة كوكب فحاصرها وامتنعت عليه ولم يكن بقى في البلاد الساحلية من عكا إلى الجنوب غيرها وغير صفد والكرك فلما امتنعت عليه جهز العسكر لحصارها مع قايماز النجمى ورحل عنها في ربيع الاول إلى دمشق ووافته رسل ارسلان وفرح الناس بقدومه والله تعالى ولى التوفيق [ غزو صلاح الدين إلى سواحل الشأم وما فتحه من حصونها وصلحه آخرا مع صاحب انطاكية ] لما رجع صلاح الدين من فتح القدس وحاصر صور وصفد وكوكب عاد إلى دمشق ثم تجهز للغزو إلى سواحل الشأم وأعمال انطاكية وسار عن دمشق في ربيع سنة أربع وثمانين فنزل على حمص واستدعى عساكر الجزيرة وملوك الاطراف فاجتمعوا إليه وسار إلى حصن الاكراد فضرب عسكره هنالك ودخل متجردا إلى القلاع بنواحي
انطاكية فنقص طرفها وأغار على ولايتها إلى طرابلس حتى شفى نفسه من ارتيادها وعاد إلى معسكره فجرت الارض بالغنائم فأقام عند حصن الاكراد ووفد عليه هنالك منصور بن نبيل صاحب جبلة وكان من يوم استيلاء الافرنج على جبلة عند صاحب انطاكية حاكما على جميع المسلمين فيها ومتوليا أمورسمند فلما هبت ريح الاسلام بصلاح الدين وظهوره نزل إليه ليكشف الغماء ودله على عورة جبلة واللاذقية واستحثه لهما فسار أول جمادى ونزل بطرسوس وقد اعتصم الافرنج منها ببرجين حصينين واخلوا المدينة فخربوها واستباحوها وكان أحد الحصنين للفداوية وفيه مقدمهم الذى أسره صلاح الدين يوم المصاف وأطلقه عند فتح القدس واستأمن إليه أهل البرج الآخر ونزلوا له عنه فخربه صلاح الدين والقى حجارته في البحر وامتنع عليه برج الفداوية فسار إلى المرقب وهو للاستبارية ولا يرام لعلوه وارتفاعه وامتناعه والطريق في الجبل إلى جبلة عليه فهو عن يمين الطريق والبحر عن يساره في مسلك ضيق انما يمر به الواحد فالواحد * (فتح جبلة) *(5/312)
وكان وصل اسطول من صاحب صقلية مددا للافرنج في تلك السواحل في ستين قطعة فأرسوا بطرابلس فلما سمعوا بصلاح الدين اقلعوا إلى المغرب ووقفوا قبالتها ينضحون بسهامهم المارة بتلك الطريق فضرب صلاح الدين على ذلك الطريق سورا من جهة البحر من الممارس ووقف وراءه الرماة حتى سلك العسكر المضيق إلى جبلة ووصلها آخر جمادى وسبق إليها القاضى وملكها صلاح الدين لحينه ورفع أعلام الاسلام على سورها ونفى حاميتها إلى القلعة فاستنزلهم القاضى على الامان واستمر منهم جماعة في رهن القاضى والمسلمين عند صاحب انطاكية حتى أطلقهم وجاء رؤساء أهل البلد إلى طاعة صلاح الدين وهو بجبل ما بين جبلة وحماة وكان الطريق عليه بينهما صعبا ففتحه
صلاح الدين من ذلك الوقت واستناب بجبلة سابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر وسار عنها للاذقية والله تعالى أعلم بغيبه وأحكم (فتح اللاذقية) ولما فرغ صلاح الدين من أمر جبلة سار إلى اللاذقية فوصلها آخر جمادى الاولى وامتنع حاميتها بحصنين لها في أعلى الجبل وملك المسلمون المدينة وحصروا الافرنج في القلعتين وحفروا تحت الاسوار وأيقن الافرنج بالهلكة ودخل إليهم قاضى جبلة ثالث نزولها فاستأمنوا معه وامنهم صلاح الدين ورفعوا أعلام الاسلام في الحصنين وخرب المسلمون المدينة وكانت مبانيها في غاية الوثاقة والضخامة واقطعها لتقى الدين ابن أخيه فأعادها إلى أحسن ما كانت من العمارة والنحصين وكان عظيم الهمة في ذلك وكان اسطول صقلية في مرسى اللاذقية وسخطوا ما فعله أهلها ومنعوهم من الخروج منها وجاء مقدمهم إلى صلاح الدين فرغب منه اقامتهم على الجزية وعرض في كلامه بالتهديد بامداد الافرنج من وراء البحر فاجابه صلاح الدين باستهانة أمر الافرنج وهدده فانصرف إلى أصحابه ورحل صلاح الدين إلى صهيون والله تعالى أعلم * (فتح صهيون) * ولما فرغ صلاح الدين من فتح اللاذقية سار إلى قلعة صهيون وهى على جبل صعبة المرتقى بعيدة المهوى يحيط بجبلها واد عميق ضيق ويتصل بالجبل من جهة الشمال وعليها خمسة أسوار وخندق عميق فنزل صلاح الدين على الجبل لضيقها وقدم ولده الظاهر صاحب حلب فنزل مضيق الوادي ونصب المنجنيقات هنالك فرمى بها على الحصن ونضحهم بالسهام من سائر أصناف القسى وصابروا قليلا ثم زحف المسلمون ثانى جمادى(5/313)
الاخرى وسلكوا بين الصخور حتى ملكوا أحدا سوارها وقاتلوهم منه فملكوا عليهم
سورين آخرين وغنموا جميع ما كان في البلد من الدواب والبقر والذخائر ولجأ الحامية إلى القلعة وقاتلهم المسلمون عليها فنادوا بالامان فشرط عليهم مثل قطيعة القدس وملك المسلمون الحصن وولى عليه ناصر الدين بن كورس صاحب قلعة بوفلس فحصنه وافترق المسلمون في تلك النواحى فوجدوا الافرنج قد فروا من حصونها فملكوها جميعا وهيؤا إليها طريقا على عقبة صعبة لعفاء طريقها السهلة بالافرنج والاسماعيلية والله تعالى أعلم * (فتح بكاس والشغر) * ثم سار صلاح الدين عن صهيون ثالث جمادى إلى قلعة بكاس وقد فارقها الافرنج وتحصنوا بقلعة شغر فملك بكاس وحاصر قلعة الشغر والطريق منها مسلوك إلى اللاذقية وجبلة وصهيون فقاتلهم ونصب المنجنيقات عليها فقصرت حجارتها عن الوصول وكانوا تمنعوا وبعثوا خلال ذلك إلى صاحب انطاكية وكان الحصن من ايالته فاستمدوه والا اعطوا الحصن بما قذف الله في قلوبهم من الرعب فلما قعد عن نصرهم فاستأمنوا إلى صلاح الدين وسألوه انظار ثلاث للفتح فانظرهم وأخذ رهنهم ثم سلموه بعد الثلاث في منتصف جمادى من السنة والله تعالى أعلم * (فتح سرمينية) * كان صلاح الدين عند اشتغاله بفتح هذه الحصون بعث ابنه الظاهر غازيا صاحب حلب إلى سرميتية وحاصرها واستنزل الافرنج الذين بها على قطيعة اعطوها وهدم الحصن وكان فتحه آخر جمادى الاخيرة فانطلق جماعة من الاسارى كانوا بهذا الحصن وكانت هذه الفتوحات كلها في مقدار شهر وجميعها من أعمال انطاكية والله تعالى أعلم * (فتح برزية) * ولما فرغ صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية قبالة افامية وتقاسمها في
اعمالها وبينهما بحيرة من ماء العاصى والعيون التى تجرى وكانوا أشد شئ في الاذى للمسلمين فنازلها في الرابع والعشرين من جمادى الاخيرة وهى متعذرة المصعد من الشمال والجنوب وصعبته من الشرق وبجهة الغرب مسلك إليها فنزل هنالك صلاح الدين ونصب المجانيق فلم تصل حجارتها لبعد القلعة وعلوها فرجع إلى المزاحفة وقسم عساكره على أمرائها وجعل القتال بينهم نوبا فقاتلهم أولا عماد(5/314)
الدين زنكى بن مودود صاحب سنجار واصعدهم إلى قلعتهم حتى صعب المرتقى على المسلمين وبلغوا مواقع سهامهم وحجارتهم من الحصن وكانوا يدحرجون الحجارة على المقاتلة فلا يقوم لها شئ فلما تعب أهل هذه النوبة عادوا وصعد خاصة صلاح الدين فقاتلوا قتالا شديدا وصلاح الدين وتقى الدين ابن أخيه يحرضانهم حتى أعيوا وهموا بالرجوع فصاح فيهم صلاح الدين وفي أهل النوبة الثانية فتلاحقوا بهم وجاء أهل نوبة عماد الدين على اثرهم وحمى الوطيس وردوا الافرنج على أعقابهم إلى حصنهم فدخلوه ودخل المسلمون معهم وكان بقية المسلمين في الخيام شرقي الحصن وقد أهمله الافرنج فعمد أهل الخيام من تلك الناحية واجتمعوا مع المسلمين في أعقاب الافرنج عند الحصن فملكوه عنوة وجاء الافرنج إلى قبة الحصن ومعهم جماعة من أسارى المسلمين في القيود فلما سمعوا تكبير اخوانهم خارج القبة كبروا فدهش الافرنج وظنوا أن المسلمين خالطوهم فألقوا باليد واسرهم المسلمون واستباحوهم واحرقوا البلد وأسروا صاحبها وأهله وولده وافترقوا في أسراهم فجمعهم صلاح الدين حتى إذا قارب انطاكية بعثهم إليها لان زوجة صاحب انطاكية كانت تراسل صلاح الدين بالاخبار وتهاديه فرعى لها ذلك والله تعالى ولى التوفيق * (فتح دربساك) * ولما فرغ صلاح الدين من حصن برزية دخل من الغد إلى الجسر الجديد على نهر
العاصى قرب انطاكية فأقام عليه فلحق به فخلف العسكر ثم سار إلى قلعة دربساك ونزل عليها في رجب من السنة وهى معاقل الفداوية التى يلجؤن إلى الاعتصام بها ونصب عليها لمجانيق حتى هدم من سورها ثم هجمها بالمزاحفة وكشف المقاتلة عن سورها ونقبوا منها برجا من أسفله فسقط ثم باكروا الزحف من الغد وصابرهم الافرنج ينتظرون المدد من صاحبهم سمند صاحب انطاكية فلما تبينوا عجزه استأمنوا صلاح الدين فأمنهم في أنفسهم فقط وخرجوا إلى انطاكية وملك الحصن في عشرين من رجب من السنة والله تعالى أعلم * (فتح بغراس) * ثم سار عماد الدين عن دربساك إلى قلعة بغراس على تعددها وقربها من انطاكية فيحتاج مع قتالها إلى ردء من العسكر بينه وبين انطاكية فحاصرها ونصب عليها المجانيق فقصرت عنها لعلوها وشق عليهم حمل الماء إلى أعلى الجبل وبينما هم في ذلك إذ جاء رسولهم بستأمن لهم فأمنهم في أنفسهم فقط كما أمن أهل در بساك وتسليم القلعة بما(5/315)
فيها وخربها فجددها ابن اليون صاحب الارمن وحصنها وصارت في ايالته والله أعلم * (صلح انطاكية) * ولما فتح حصن بغراس خاف سمند صاحب انطاكية وأرسل إلى صلاح الدين في الصلح على أن يطلق أسرى المسلمين الذين عنده وتحامل عليه أصحابه في ذلك ليريح الناس ويستعدوا فأجابه صلاح الدين إلى ذلك لثمانية أشهر من يوم عقد الهدنة وبعث إليه من استحلفه وأطلق الاسرى وكان سمند في هذا الوقت عظيم الافرنج متسع المملكة وطرابلس وأعمالها قد صارت إليه بعد القمص واستخلف فيها ابنه الاكبر وعاد صلاح الدين إلى حلب فدخلها ثالث شعبان من السنة وانطلق ملوك الاطراف بالجزيرة وغيرها إلى بلادهم ثم رحل إلى دمشق وكان معه أبو فليتة قاسم بن مهنا
أمير المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم قد عسكر معه وشهد فتوحه وكان يتيمن بصحبته ويتبرك برؤيته ويجتهد في تأنيسه وتكرمته ويرجع إلى مشورته ودخل دمشق أول رمضان من السنة وأشير عليه بتفريق العساكر فأبى وقال هذه الحصون كوكب وصفد والكرك في وسط بلاد الاسلام فلا بد من البدار إلى فتحها والله سبحانه وتعالى أعلم * (فتح الكرك) * كان صلاح الدين قد جهز العساكر على الكرك مع أخيه العادل حتى سار إلى دربساك وبغراس وأبعد في تلك الناحية فشد العادل حصارها حتى جهدوا وفنيت أقواتهم فراسلوه في الامان فأجابهم وسلموا العلقة فملكها وملك الحصون التى حواليها وأعظمها الشوبك وأمنت تلك الناحية واتصلت ايالة المسلمين من مصر إلى القدس والله تعالى أعلم * (فتح صفد) * لما عاد صلاح الدين إلى دمشق أقام بها نصف رمضان ثم تجهز لحصار صفد فنزل عليها ونصب المجانيق وكانت أقواتهم قد تسلط عليها الحصار الاول فخافوا من نفادها فاستأمنوا فأمنهم وملكها ولحقوا بمدينة صور والله تعالى أعلم * (فتح كوكب) * لما كان صلاح الدين على صفد خافه الافرنج على حصن كوكب فبعثوا إليه نجدة وكان قايماز النجمى يحاصره فشعر بتلك النجدة وركب إليهم وهم مختفون ببعض(5/316)
الشعاب فكبسهم ولم يفلت منهم أحد وكان فيهم مقدمان من الاستبارية فحملهما إلى صلاح الدين على صفد فاحضرهما للقتل على عادته في الفداوية والاستبارية فاستعطفه واحد منهما فعفا عنهما وحبسهما ولما فتح صفد سار إلى كوكب وحاصره وارسل إليهم
بالامان فاصروا على الامتناع عليه فنصب عليهم المجانيق وتابع المزاحفة ثم عاقه المطر عن القتال وطال مقامه فلما انقضى المطر عاود المزاحفة وضايقهم بالسور ونقب منه برجا فسقط فارتاعوا واستأمنوا وملك الحصن منتصف ذى القعدة من السنة ولحق الافرنج بصور واجتمع الزعماء وتابعوا الرسل إلى اخوانهم وراء البحر في حوزة يستصرخونهم فتابعوا إليهم المدد واتصل المسلمون في الساحل من ايلة إلى بيروت لا يفصل بينهم الا مدينة صور ولما فرغ صلاح الدين من صفد وكوكب سار إلى القدس فقضى فيه نسك الاضحى ثم سار إلى عكا فاقام بها إلى انسلاخ الشتاء والله تعالى أعلم * (فتح الشقيف) * ثم سار صلاح الدين في ربيع سنة خمس وثمانين إلى محاصرة الشقيف وكان لارناط صاحب صيدا وهو من أعظم الناس مكرا ودهاء فلما نزل صلاح الدين بمرج العيون جاء إليه وأظهر له المحبة والميل وطلب المهلة إلى جمادى الاخيرة ليتخلص أهله وولده من المركيش بصور ويسلم له حصن الشقيف فأقام صلاح الدين هنالك لوعده وانقضت مدة الهدنة ب بينه وبين سمند صاحب انطاكية فبعث تقى الدين ابن أخيه مسلحة في العساكر إلى البلاد التى قرب انطاكية ثم بلغه اجتماع الافرنج بصور عند المركيش وأن الامداد وافتهم من أهل ملتهم وراء البحر وأن ملك الافرنج بالشام الذى أطلقه صلاح الدين بعد فتح القدس قد اتفق مع المركيش ووصل يده به واجتمعوا في أمم لا تحصى وخشى أن يتقدم إليهم ويترك الشقيف وراءه فتنقطع عنه الميرة فأقام بمكانه فلما انقضى الاجل تقدم إلى الشقيف واستدعى ارناط فجاء واعتذر بأن المركيش لم يمكنه من أهله وولده وطلب الامهال مرة أخرى فتبين صلاح الدين مكره فحبسه وأمره أن يبعث إلى أهل الشقيف بالتسليم فلم يجب فبعث به إلى دمشق فحبس بها وتقدم إلى الشقيف فحاصره بعد أن أقام مسلحة قبالة الافرنج الذين بظاهر صور فجاءه الخبر بأنهم فارقوا صور لحصار صيدا فلقيتهم المسلحة وقاتلوهم فنلبوهم وأسروا سبعة من فرسانهم وقتلوا آخرين وقتل مولى لصلاح
الدين من أشجع الناس وردوهم على أعقابهم إلى معسكرهم بظاهر صور وجاء صلاح الدين بعد انقضاء الوقعة فأقام في المسلحة رجاء أن يصادف أحدا من الافرنج فينتقم منهم وركب في بعض الايام ليشارف معسكر الافرنج فظن عسكره أنه يريد القتال فنجعوا وأوغلوا إلى العدو وبعث صلاح الدين الامراء في أثرهم يردونهم فلم يرجعوا ورآهم(5/317)
الافرنج فظنوا أن وراءهم كمينا فارسلوا من يكشف خبرهم فوجدوهم منقطعين فحملوا عليهم وأناموهم جميعا وذلك تاسع جمادى الاولى من السنة ثم انحدر إليهم صلاح الدين في عساكره من الجبل فهزمهم إلى الجسر وغرق منهم في البحر نحو من مائة دارع سوى من قتل وعزم السلطان على حصارهم واجتمع إليه الناس ثم عاد الافرنج إلى صور وعاد السلطان إلى بليس ليشارف عكا ويرجع إلى محيمه ولما وصل إلى المعسكر جاء الخبير بأن الافرنج يتعدون عن صدور مذاهبهم لحاجاتهم فكتب إلى المعسكر بعكا ووعدهم ثامن جمادى الاخيرة يوافونه من ناحيتهم للاغارة عليهم وأكمن لهم في الاودية والشعاب من سائر النواحى واختار جماعة من فرسان عسكره وتقدم إليهم بأن يتعرضوا للافرنج ثم يستطردوا لهم إلى مواضع الكمناء ففعلوا وناشبوا الافرنج وانفوا من الاستطراد وطال على الكمناء الانتظار فخرجوا خشية على أصحابهم فوافوهم في شدة الحرب فانهزم المسلمون ووقع التمحيص وكان أربعة في الكمين من امرا طيئ فعدلوا عن طريق أصحابهم وملكوا الوادي وتبعهم بعض العسكر من موالى صلاح الدين ورآهم الافرنج في الوادي فعلموا أنهم أضلوا الطريق فاتبعوهم وقتلوهم والله تعالى أعلم * (محاصرة الافرنج أهل صور لعكا والحروب عليها) * كانت صور كما قدمنا ضبطها المركيش من الافرنج الواصل من وراء البحر وقام بها وكان كلما فتح صلاح الدين مدينة أو حصنا على الامان لحق أهلها بصور فاجتمع بها
عدد عظيم من الافرنج وأموال جمة ولما فتح القدس لبس كثير من رهبانهم وقسيسيهم وزعمائهم السواد حزنا على البيت المقدس وارتحل بطرك من القدس وهم معه يستصرخون أهل الملة النصرانية من وراء البحر للاخذ بثأر القدس فخرجوا للجهاد من كل بلد حتى النساء اللواتى يجدن القوة على الحرب ومن لم يستطع الخروج استأجر مكانه وبذلوا الاموال لهم وجاء الافرنج من كل مكان ونزلوا بصور ومدد الرجال والاقوات والاسلحة متداركة لهم في كل وقت واتفقوا على الرحيل إلى عكا ومحاصرتها فخرجوا ثامن رجب من سنة خمس وثمانين وسلكوا على طريق الساحل وأساطيلهم تحاذيهم في البحر ومسلحة المسلمين تتخطفهم من جوانبهم حتى وصلوا إلى عكا منتصف رجب وكان رأى صلاح الدين أن يحاذيهم في مسيرهم لينال منهم فخالفه أصحابه واعتذروا بضيق الطريق ووعره فسلك طريقا آخر ووافاهم على عكا وقد نزلوا عليها وأحاطوا بها من البحر إلى البحر فليس للمسلمين إليها طريق ونزل صلاح الدين قبالتهم وبعث إلى الاطراف يستنفر الناس فجاءت عساكر الموصل وديار بكر وسنجار وسائر(5/318)
بلاد الجزيرة وجاء تقى الدين ابن أخيه من حماة ومظفر الدين كوكبرى من حران والرها وكان أمداد المسلمين تصل في البر وامداد الافرنج في لبحر وهم محصورون في صورة محاصرين وكانت بينهم أيام مذكورة ووقائع مشهورة وأقام السلطان بقية رجب لم يقاتلهم فلما استهل شعبان قاتلهم يوما بكماله وبات الناس على تعبية ثم صبحهم بالقتال ونزل الصبر وحمل عليهم تقى الدين ابن أخيه منتصف النهار من الميمنة حمله أزالتهم عن مواقفهم وملك مكانهم واتصل بالبلد فدخلها المسلمون وشحنها صلاح الدين بالمدد من كل شئ وبعث إليهم الامير حسام الدين أبا الهيجاء السمين من أكابر امرائه من الاكراد الخطية من اربل ثم نهض المسلمون من الغد فوجدوا الافرنج قد أداروا عليهم خندقا يمتنعون به ومنعوهم القتال يومهم واقاموا كذلك ومع
السلطان أحياء من العرب فكمنوا في معاطف النهر من ناحية الافرنج على الساحل للخطف منهم وكبسوهم منتصف شعبان وقتلوهم وجاؤا برؤوسهم إلى صلاح الدين فأحسن إليهم والله تعالى أعلم * (الوقعة على عكا) * كان صلاح الدين قد بعث عن عسكر مصر وبلغ الخبر الافرنج فارادوا معاجلته قبل وصولهم وكانت عساكره متفرقة في المسالح على الجهات فمسلحة تقابل انطاكية وسمند من أعمال حلب ومسلحة بحمص تحفظها من أهل طرابلس ومسلحة تقابل صور ومسلحة بدمياط والاسكندرية واعتزم الافرنج على مهاجمتهم بالقتال ولم يشعروا بهم وصبحوهم لعشرين من شعبان وركب صلاح الدين وعبى عساكره وقصدوا الميمنة وعليها تقى الدين ابن أخيه فتزحزح بعض الشئ وأمده صلاح الدين بالرجال من عنده فحطوا على صلاح الدين في القلب فتضعضع واستشهد جماعة منهم الامير على ابن مردان والظهير أخو الفقيه عيسى والى القدس والحاجب خليل الهكارى وغيرهم وقصدوا خيمة صلاح الدين فقتلوا من وزرائه ونهبوا واستشهد جمال الدين بن رواحة من العلماء ووضعوا السيف في المسلمين وانهزم الذين كانوا حوالى الخيمة ولم تسقط وانقطع الذين ولوها من الافرنج عن أصحابهم وراءهم وحملت ميسرة المسلمين عليهم فاحجمتم وراء الخنادق وعادوا إلى خيمة صلاح الدين فقتلوا كل من وجدوا عندها من الافرنج وصلاح الدين قد عاد من اتباع أصحابه يردهم للقتال وقد اجتمعوا عليهم فلم يفلت منهم أحد وأسروا مقدم الفداوية فأمر بقتله وكان أطلقه مرة أخرى وبلغت عدة القتلى عشرة آلاف فألقوا في النهر واما المنهزمون من المسلمين فمنهم من رجع من طبرية ومنهم من جاوز الاردن ورجع ومنهم من بلغ دمشق واتصل قتال(5/319)
المسلمين للافرنج وكادوا يلجون عليهم معسكرهم ثم جاءهم الصريخ بنهب اموالهم وكان
المنهزمون قد حملوا اثقالهم فامتدت إليها أيدى الاوباش ونهبوها فكان ذلك مما شغل المسلمين عن استئصال الافرنج وأقاموا في ذلك يوما وليلة يستردون النهب من أيدى المسلمين ونفس بذلك عن الافرنج بعض الشئ والله تعالى أعلم * (رحيل صلاح الدين عن الافرنج بعكا) * ولما انقضت هذه الواقعة وامتلات الارض من جيف الافرنج تغير الهواء وأنتن وحدث بصلاح الدين قولنج كان يعاوده فأشار عليه أصحابه بالانتقال عسى الافرنج ينتقلون وان أقاموا عدنا إليهم وحمله الاطباء على ذلك فرحل رابع رمضان من السنة وتقدم إلى أهل عكا بحياطتها وأعلمهم سبب رحيله فلما ارتحل اشتد الافرنج في حصار عكا وأحاطوا بها دائرة مع اسطولهم في البحر وحفروا خندقا على معسكرهم وأداروا عليهم سورا من ترابه حصنا من صلاح الدين أن يعود إليهم ومسلحة المسلمين قبالتهم يناوشوهم القتال فلا يقاتلونهم وبلغ ذلك صلاح الدين وأشار أصحابه بارسال العساكر ليمنع من التحصين فامتنع من ذلك لمرضه فتم للافرنج ما أرادوه وأهل عكا يخرجون إليهم في كل يوم ويقاتلونهم والله تعالى أعلم * (معاودة صلاح الدين حصار الافرنج على عكا) * ثم وصل العادل أبو بكر بن أيوب منتصف شوال في عساكر مصر ومعه الجم الغفير من المقاتلة والاصناف الكثيرة من آلات الحصار ووصل على اثره اسطول مصر مع الامير لؤلؤ وكبس مركبا فغنم ما فيه ودخل به إلى عكا وبرئ صلاح الدين من مرضه وأقام بمكانه بالجزيرة إلى انسلاخ الشتاء وسمع الافرنج أن صلاح الدين سار إليهم واستقلوا مسلحة المسلمين عندهم فزحفوا إليهم في صفر سنة ست وثمانين واستمات المسلمون وقتل بين الفريقين خلق وبلغ الخبر بذلك صلاح الدين وجاءته العساكر من دمشق وحمص وحماة فتقدم من الجزيرة إلى تل كيسان وتابع القتال على الافرنج يشغلهم عن المسلمين فكانوا يقاتلون الفريقين وكان الافرنج مدة مقامهم على عكا
قد صنعوا ثلاثة أبراج من الخشب ارتفاع كل برج ستون ذراعا وفيه خمس طبقات وغشوها بالجلود وطلوها بالادوية التى لا تعلق النار بها وشحنوها بالمقاتلة ودنوها إلى البلد من ثلاث جهات في العشرين من ربيع الاول سنة ست وثمانين وأشرفوا بها على السور فكشف من عليه من المقاتلة وشرع الافرنج في طم الخندق وبعث أهل عكا سابحا في البحر يصف لهم حالهم فركب في عساكره واشتد في قتال الافرنج(5/320)
فخف على أهل البلد ما كانوا فيه وأقاموا كذلك ثلاثة أيام يقاتلون الجهتين وعجزوا عن دفع الابراج ورموها بالنفط فلم يؤثر فيها وكان عندهم رجل من أهل دمشق يعانى أحوال النفط فأخذ عقاقير وصنعها وحضر عند قراقوش حاكم البلد وأعطاه دواء وقال ارم بهذا في المنجنيق المقابل لاحدى الابراج فيحترق فحرد عليه ثم وافق ورمى به في قدر ثم رمى بعده بقدر أخرى مملوأة نارا فاضطرمت النار واحترق البرج بمن فيه ثم فعل بالثاني والثالث كذلك وفرح أهل البلد وتخلصوا من تلك الورطة فأمر صلاح الدين بالاحسان إلى ذلك الرجل فلم يقبل وقال انما فعلته لله ولا أريد الجزاء الا منه ثم بعث صلاح الدين إلى ملوك الاطراف ليستنفرهم فجاء عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار ثم علاء الدين بن طالب صاحب الموصل ثم عز الدين مسعود بن مودود وبعثه أبوه بالعساكر ثم زين الدين صاحب اربل وكان كل واحد منهم إذا وصل يتقدم بعسكره فيقاتلون الافرنج ثم يضربون أبنيتهم وجاء الخبر بوصول الاسطول من مصر فجهز الافرنج اسطولا لقتاله وشغلهم صلاح الدين بالقتال ليتمكن الاسطول من دخول عكا فلم يشغلوا عنه وقاتلوا الفريقين برا وبحرا ودخل الاسطول إلى مرسى عكا سالما والله تعالى أعلم بغيبه * (وصول ملك الالمان إلى الشأم ومهلكه) * هؤلاء الالمان شعب من شعوب الافرنج كثير العدد موصوف بالبأس والشدة وهم
موطنون بجزيرة انكلطيرة في الجهة الشمالية الغربية من البحر المحيط وهم حديثو عهد بالنصرانية ولما سار القسس والرهبان بخبر بيت المقدس واستنفار النصرانية لها قام ملكهم لها وقعد وجمع عساكره وسار للجهاد بزعمه وفسح النصارى له الطريق وقصد القسطنطينية فعجز ملك الروم عن منعه بعد ان كان يعد بذلك نفسه وكتب بها إلى صلاح الدين لكنه منع عنهم الميرة فضاقت عليهم الاقوات وعبروا خليج القسطنطينية ومروا بمملكة قليج ارسلان وتبعهم التركمان يحفون بهم ويتخطفون منهم وكان الفصل شتاء والبلاد باردة فهلك أكثرهم من البرد والجوع ومروا بقونية وبها قطب الدين ملك شاه بن قليج ارسلان قد غلب عليه أولاده وافترقوا في النواحى فخرج ليصدهم فلم يطق ذلك ورجع فساروا في أثره إلى قونية وبعثوا إليه بهدية على أن يأذن لهم في الميرة فاذن لهم واسترهنوا عشرين من أمرائه وتكاثر عليهم اللصوص فقيدوا أولئك الامراء وحبسوهم وساروا إلى بلاد الارمن وصاحبها كاقولى بن حطفاى بن اليون فأمدهم بالازواد والعلوفات وأظهر طاعتهم وسار إلى(5/321)
انطاكية ودخل ملكهم ليغتسل في نهر هنالك فغرق وملك بعده ابنه ولما بلغوا انطاكية اختلفوا فبعضهم مال إلى تمليك أخيه وبعضهم مال إلى العود فعادوا كلهم وسار ابن الملك فيمن ثبت معه يزيدون على أربعين ألفا وأصلبهم الموتان وحسن إليهم صاحب انطاكية المسير إلى الافرنج على عكا فساروا على جبلة واللاذقية ومروا بحلب وتخطف أهلها منهم خلقا وبلغوا طرابلس وقد أفناهم الموتان ولم يبق منهم الا نحو ألف رجل فركبوا البحر إلى عكا ثم رأوا ما هم فيه من الوهن والخلاف فركبوا البحر إلى بلدهم وغرقت بهم المراكب ولم ينج منهم أحد وكان الملك قليج أرسلان يكاتب صلاح الدين بأخبارهم ويعده بمنعهم من العبور عليه فلما عبروا اعتذر بالعجز عنهم وافتراق أولاده واستبدادهم عليه وأما صلاح الدين فانه استشار أصحابه عند وصول خبرهم فأشار
بعضهم إلى لقائهم في طريقهم ومحاربتهم وأشار آخرون بالمقام لئلا يأخذ الافرنج عكا ومال صلاح الدين إلى هذا الرأى وبعث العساكر من جبلة واللاذقية وشيزر إلى حلب ليحفظوها من عاديتهم والله تعالى ولى التوفيق * (واقعة المسلمين مع الافرنج على عكا) * ثم زحف الافرنج على عكا في عشر من جمادى الاخيرة من سنة ست وثمانين وخرجوا من خنادقهم إلى عساكر صلاح الدين وقصد العادل أبو بكر بن أيوب في عساكر مصر فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كشفهم الافرنج عن الخيام وملكوها ثم كر عليهم المصريون فكشفوهم عن خيامهم وخالفهم بعض عساكر مصر إلى الخنادق فقطعوا عنهم بعض مدد أصحابهم فأخذتهم السيوف وقتل منهم ما يزيد على عشرين ألفا وكانت عساكر الموصل قريبا من عسكر مصر ومقدمهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل فعدمت جرتهم وأمر صلاح الدين بمناجزتهم على هذا الحال وبلغه الخبر بموت الالمان وما أصاب قومه من الشتات فسر المسلمون بذلك وظنوا وهن الافرنج به ثم بعد يومين لحقت بالافرنج امداد في البحر مع كند من الكنود يقال له الكند هرى ابن أخى الاقرسيس لابيه وابن أخى ملك انكلطيرة لامه ففرق في الافرنج أموالا وجند لهم أجنادا ووعدهم بوصول الامداد على أثره فاعتزموا على الخروج لقتال المسلمين فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الحزونة لثلاث بقين من جمادى الاخيرة لضيق المجال ونتن المكان من جيف القتلى ثم نصب الكند هرى على عكا مجانيق وذبابات فأخذها أهل عكا وقتلوا عندها جموعا من الافرنج فلم يتمكن من ذلك ولا من الستائر عليها لان أهل البلاد كانوا يصيبونها فعمل تلا عاليا من التراب ونصب المجانيق من ورائه وضاقت الاحوال وقلت الميرة(5/322)
وأرسل صلاح الدين إلى الاسكندرية ببعث الاقوات في المراكب إلى عكا وبعث إلى
بيروت بمثل ذلك فبعثوا مركبا ونصبوا فيها الصلبان يوهمون انه للافرنج حتى دخلوا إلى المرسى وجاءت بعد الميرة من الاسكندرية ثم جاءت مكلة من الافرنج من وراء البحر في نحو ألف مقاتل للجهاد بزعمها فأخذت ببحر الاسكندرية هي وجميع ما معها ثم كتب البابا كبير الملة النصرانية من كنيسة برومة يأمرهم بالصبر والجهاد ويخبرهم بوصول الامداد وأنه راسل ملوك الافرنج يحثهم على امدادهم فازدادوا بذلك قوة واعتزموا على مناجزة المسلمين وجمروا عسكرا لحصار وعكا وارتحلوا حادى عشر شوال من السنة فنقل صلاح الدين اثقال العسكر إلى على ثلاثة فراسخ من عكا ولقى الافرنج على التعبية وكان أولاده الافضل على والظاهر غازى والظافر خضر في القلب وأخوه العادل أبو بكر في الميمنة بعساكر مصر ومن انضم إليهم وعماد الدين صاحب سنجار وتقى الدين صاحب حماة ومعز الدين سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر في الميسرة وصلاح الدين في خيمة صغيرة على تل مشرف نصب له من أجل موضعه فلما وصل الافرنج وعاينوا كثرة المسلمين ندموا على مفارقة خنادقهم وباتوا ليلتهم وعادوا من الغد إلى معسكرهم فاتبعوهم أهل المقدمة وتخطفوهم من كل ناحية وأحجروهم وراء خنادقهم ثم ناوشوهم القتال في الثالث والعشرين من شوال بعد ان أكمنوا لهم عسكرا فخرج لهم الافرنج في نحو أربعمائة فارس واستطرد لهم المسلمون إلى أن وصلوا كمينهم فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم أحد واشتد الغلاء على الافرنج وبلغت الغرارة مائة دينار صوري مع ما كان يحمل إليهم من البلدان من بيروت على يد صاحبها أسامة ومن صيدا على يد نائبها سيف الدين على ابن أحمد المشطوب ومن عسقلان وغيرها ثم اشتد الحال عليهم عند هيجان البحر وانقطاع المراكب في فصل الشتاء ثم هجم الشتاء وأرسى الافرنج مراكبهم بصور خوفا عليها على عادتهم في صور في فصل الشتاء ووجد الطريق إلى عكا في البحر فأرسل أهلها إلى صلاح الدين يشكون ما نزل بهم وكان بها الامير حسام الدين أبو الهيجاء
السمين فشكى من ضجره بطول المقام والحرب فأمر صلاح الدين بانفاذ نائب وعسكر إليها بدلا منهم وأمر أخاه العادل بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبل حيفا وجمع المراكب والشوانى وبعث العساكر إليها شيأ فشيأ كلما دخلت طائفة خرج بدلها فدخل عشرون أميرا بدلا من ستين كانوا وأهملوا أهل الرجل وتعينت دواوين صاحب صلاح الدين وكانوا نصارى على الجند في اثباتهم واطلاق نفقاتهم فبلغ الحامية بعكا وضعفت وعادت مراكب الافرنج بعد انحسار الشتاء فانقطعت(5/323)
الاخبار عن عكا وعنها وكان من الامراء الذين دخلوا عكا سيف الدين على بن أحمد المشطوب وعز الدين ارسلان مقدم الاسرية وابن جاولى وغيرهم وكان دخولهم عكا أول سنة سبع وثمانين والله سبحانه وتعالى أعلم * (وفاة زين الدين صاحب اربل وولاية أخيه كوكبرى) * كان زين الدين يوسف بن زين الدين قد دخل في طاعة صلاح الدين وكانت له اربل كما مر لابيه وحران والرها لاخيه مظفر الدين كوكبرى وكان يعسكر مع صلاح الدين في غزواته وحضر عنده على عكا فأصابه المرض وتوفى في ثامن عشر رمضان سنة أربع وثمانين فقبض أخوه مظفر الدين كوكبرى على بلد أمير من أمرائه وبعث إلى صلاح الدين يطلب اربل وينزل عن حران والرها فأجابه وأقطعه اياهما وأضاف اليهما شهرزور وأعمالها وداربند العرابلى وهى قفجاق وكاتب أهل اربل مجاهد الدين صاحب الموصل خوفا من صلاح الدين مع أن مجاهد الدين كان عز الدين قد حبسه كما مر ثم اطلقه وولاه نائبه وجعل بعض غلمانه عينا عليه فكان يناقضه في كثير من الاحوال فقصد مجاهد الدين أن يفعل معه مثل ذلك في اربل فامتنع منها وولاها مظفر الدين واستفحل أمره فيها ولما نزل مظفر الدين عن حران والرها ولاها صلاح الدين لابن أخيه تقى الدين عمر بن شاهنشاه مضافة إلى ميافارقين بديار بكر وحماة وأعمالها بالشأم
وتقدم له أن يقطع أعمالها للجند فيتقوى بهم على الافرنج فسار تقى الدين إليها وقرر أمورها ثم انتهى إلى ميافارقين وتجدد له طمع فيما يجاورها من البلاد فقصد مدينة حال من ديار بكر وسار إليه سيف الدين بكتمر صاحب خلاط في عساكره وقاتله فهزمه تقى الدين ووطئ بلاده وكان بكتمر قد قبض على مجد الدين بن رستق وزير سلطان شاكرين وحبسه في قلعة هنالك فلما انهزم كتب إلى والى القلعة بقتله فوافاه الكتاب وتقى الدين محاصر له فلما ملك القلعة أطلق ابن رستق وسار إلى خلاط وحاصرها فامتنعت عليه فعاد عنها إلى ملاذكرد فضيق عليها حتى استأمنوا له وضرب لهم أجلا في تسليم البلد ثم مرض ومات قبل ذلك الاجل بيومين وحمله ابنه إلى ميافارقين فدفنه بها واستفحلت دولة بكتمر في خلاط والله تعالى أعلم * (وصول امداد الافرنج من الغرب إلى عكا) * ثم تتابعت امداد الافرنج من وراء البحر لاخوانهم المحاصرين لعكا وأول من وصل منهم الملك ملك افرنسة وهوذ ونصب فيهم وملكه ليس بالقوى هكذا قال ابن الاثير وعنى انه كان مستفحلا في ذلك العصر لانه في الحقيقة ملك الافرنج وهو في ذلك(5/324)
العصر أشد من كانوا قوة واستفحالا فوصل ثانى عشر ربيع الاول سنة أربع وثمانين في ستة مراكب عظيمة مشحونة بالمقاتلة والسلاح فقوى الافرنج على عكا بمكانه وولى حرب المسلمين فيها وكان صلاح الدين على معمر عمر قريبا من معسكر الافرنج فكان يصابحهم كل يوم عن مزاحفة البلد وتقدم إلى أسامة في بيروت بتجهيز ما عنده من المراكب والشوانى إلى مرسى عكا ليشغل الافرنج أيضا فبعثها ولقيت خمسة مراكب في البحر وكان ملك الانكلطيرة أقدمها وأقام على جزيرة قبرص طامعا في ملكها فغنم أسطول المسلمين الخمسة مراكب بما فيها ونفذت كلمة صلاح الدين إلى سائر النواب بأعماله بمثل ذلك فجهزوا الشوانى وملؤا بها مرسى عكا وواصل
الافرنج قتال البلد ونصبوا عليها المنجنيقات رابع جمادى وتحول صلاح الدين لمعسكره قريبا منهم ليشغلهم عن البلد فخف قتالهم عن أهل البلد ثم فرغ ملك انكلطيرة من جزيرة قبرص وملكها وعزل صاحبها وبلغ إلى عكا في خمس وعشرين مركبا مشحونة بالرجال والاموال ووصل منتصف رجب ولقى في طريقه مركبا جهز من بيروت إلى عكا وفيه سبعمائة مقاتل فقاتله فلما يئس المسلمون الذين به من الخلاص نزل مقدمهم وهو يعقوب الحلى غلام ابن شفنين فخرق المركب خوفا من أن يظفر الافرنج برجاله وذخائره فغرق ثم عمل الافرنج ذبابات وكباشا وزحفوا بها فأحرق المسلمون بعضها وأخذوا بعضها فرجع الافرنج إلى نصب التلال من التراب يقاتلون من ورائها فامتنعت من نفوذ الحيلة فيها وضاق حال أهل عكا * (استيلاء الافرنج على عكا) * ولما جهد المسلمين بعكا الحصار خرج الامير سيف الدين على بن أحمد الهكارى المشطوب من أكبر أمرائها إلى ملك افرنسة يستأمنه لاهل عكا فلم يجبه وضعفت نفوس أهل البلد لذلك ووهنوا ثم هرب من الامراء عز الدين ارسل الاسدي وابن عز الدين جاولى وسنقر الارجانى في جماعة منهم ولحقوا بالعسكر فازداد أهل عكا وهنا وبعث الافرنج إلى صلاح الدين في تسليمها فأجاب على أن يؤمنوا أهل البلد ويطلق لهم من أسراهم بعدد أهل البلد ويعطيهم الصليب الذى أخذه من القدس فلم يرضوا بما فعل فبعث إلى المسلمين بعكا أن يخرجوا بجمعهم ويتركوا البلد ويسيروا مع البحر ويحملوا على العد وحملة مستميتين ويجئ المسلمون من وراء العدو فعساهم يخلصون بذلك فلما أصبحوا زحف الافرنج إلى البلد ورفع المسلمون اعلامهم وارسل المشطوب من البلد إلى الافرنج فصالحهم على الامان على أن يعطيهم مائتي ألف دينار ويطلق لهم خمسمائة أسير ويعيد لهم الصليب ويعطى للمركيش صاحب صور أربعة عشر ألف(5/325)
دينار فأجابوا إلى ذلك وضربوا المدة للمال والاسرى شهرين وسلموا لهم البلد فلما ملكوها غدروا بهم وحبسوهم رهنا بزعمهم في المال والاسرى والصليب ولم يكن لصلاح الدين ذخيرة من المال لكثرة انفاقه في المصالح فشرع في جمع المال حتى اجتمع مائة ألف دينار وبعث نائبا يستحلفهم على أن يضمن الفداوية من الخلف والضمان خوفا من غدر أصحابه وقال ملوكهم إذا سلمتم المال والاسرى والصليب تعطونا رهنا في بقية المال وتطلق أصحابكم وطلب صلاح الدين أن يضمن الفداوية الرهن ويحلفوا فامتنعوا ايضا وقالوا ترسلون المائة ألف دينار والاسرى والصليب فنطلق من نراه ونبقى الباقي إلى مجئ بقية المال فتبين المسلمون غدرهم وانهم يطلقون من لا يعبأ به ويمسكون الامراء والاعيان حتى يفادوهم فلم يجبهم صلاح الدين إلى شئ ولما كان آخر رجب ركب الافرنج إلى ظاهر البلد في احتفال وركب المسلمون فشدوا عليهم وكشفوهم عن مواقفهم فإذا المسلمون الذين كانوا عندهم قتلى بين الصفين قد استلحموا ضعفاءهم وتمسكوا بالاعيان للمفاداة فسقط في يد صلاح الدين وتمسك بالمال الذى جمعه لغيرها من المصالح والله تعالى أعلم * (تخريب صلاح الدين عسقلان) * ولما استولى الافرنج على عكا استوحش المركيش صاحب صور من ملك انكلطيرة وأحس منه بالغدر فلحق ببلده صور ثم سار الافرنج مستهل شعبان لقصد عسقلان وساروا مع ساحل البحر لا يفارقونه ونادى صلاح الدين باتباعهم مع ابنه الافضل وسيف الدين أبى زكوش وعز الدين خرديك فاتبعوهم يقاتلونهم ويتخطفونهم من كل ناحية ففتكوا فيهم بالقتل والاسر وبعث الافضل إلى أبيه يستمده فلم يجد العساكر مستعدة وسار ملك انكلطيرة في ساقة الافرنج فحملهم وانتهوا إلى يافا فأقاموا بها والمسلمون قبالتهم مقيمون ولحق بهم من عكا من احتاجوا إليه ثم ساروا إلى قيسارية والمسلمون يتبعونهم ويقتلون من ظفروا به منهم وزاحموهم عند قيسارية فنالوا منهم
وباتوا بها مثاورين واختطف المسلمون منهم بالليل فقتلوا وأسروا وساروا من الغد إلى أرسوف وسبقهم المسلمون إليها لضيق الطريق فحملوا عليهم عندها حتى اضطروهم إلى البحر فحينئذ استمات الافرنج وحملوا على المسلمين فهزموهم وأثخنوا في تابعهم وألحقوهم بالقلب وفيه صلاح الدين وتستر المسلمون المنهزمون بخمر الشعراء فرجع الافرنج عنهم وانفرج ما كانوا فيه من الضيق المذكور وساروا إلى يافا فوجدوها خالية وملكوها وكان صلاح الدين قد سار من مكان الهزيمة إلى الرملة وجمع مخلفه وأثقاله واعتزم على مسابقة الافرنج إلى عسقلان فمنعه أصحابه وقالوا(5/326)
نخشى أن تزاحمنا الافرنج عليها ويغلبونا على حصارها كما غلبونا على حصار عكا ويملكوها آخرا ويقووا بما فيها من الذخائر والاسلحة فندبهم إلى المسير إليها وحمايتها من الافرنج فلجوا في الامتناع من ذلك فسار وترك العساكر مع أخيه العادل قبالة الافرنج ووصل إلى عسقلان وخربها تاسع عشر شعبان وألقيت حجارتها في البحر وبقى أثرها وهلك فيها من الاموال والذخائر ما لا يحصى فلما بلغ الافرنج ذلك أقاموا بيافا وبعث المركيش إلى ملك انكلطيرة يعذله حيث لم يناجز صلاح الدين على عسقلان ويمنعه من تخريبها فما خربها حتى عجز عن حمايتها ثم رحل صلاح الدين من عسقلان ثاني شهر رمضان إلى الرملة فخرب حصنها ثم سار إلى القدس من شدة البرد والمطر لينظر في مصالح القدس وترتبهم في الاستعداد للحصار وأذن للعساكر في العود إلى بلادهم للاراحة وعاد إلى مخيمه ثامن رمضان وأقام الافرنج بيافا وشرعوا في عمارتها فرحل صلاح الدين إلى نطرون وخيم به منتصف رمضان وتردد الرسل بين ملك انكلطيرة وبين العادل على أن يزوجه ملك انكلطيرة أخته ويكون القدس وبلاد المسلمين بالساحل للعادل وعكا وبلاد الافرنج بالساحل لها إلى مملكتها وراء البحر بشرط رضا الفداوية وأجاب صلاح الدين إلى ذلك ومنع الاقسة والرهبان أخت ملك انكلطيرة من ذلك
ونكروا عليها فلم يتم وانما كان ملك انكلطيرة يخادع بذلك ثم اعتزم الافرنج على القدس ورحلوا من يافا إلى الرملة ثالث ذى القعدة وسار صلاح الدين إلى القدس وقدم عليه عسكر مصر مع أبى الهيجاء السمين فقويت به نفوس المسلمين وسار الافرنج من الرملة إلى النطرون ثالث ذى الحجة والمسلمون يحاذونهم وكانت بينهم وقعات اسروا في واحدة منها وخمسين من مقاتلة الافرنج واهتم صلاح الدين بعمارة اسوار القدس ورم ما ثلم منها وضبط المكان الذى ملك القدس منه وسد فروجه وامر بحفر الخندق خارج الفصيل وقسم ولاية هذه الاعمال بين ولده وأصحابه وقلت الحجارة للبنيان وكان صلاح الدين يركب إلى الاماكن البعيدة وينقلها على مركوبه فيقتدى به العسكر ثم ان الافرنج ضاقت أحوالهم بالنطرون وقطع المسلمون عنهم الميرة من ساحلهم فلم يكن كما عهدوه بالرملة وسأل ملك انكلطيرة عن صورة القدس ليعلم كيفية ترتيب حصارها فصورت له ورأى الوادي محيطا بها الا قليلا من جهة الشمال مع عمقه ووعرة مسالكه فقال هذه لا يمكن حصارها لانا إذا اجتمعنا عليها من جانب بقيت الجوانب الاخرى وان افترقنا على جانب الوادي والجانب الآخر كبس المسلمون احدى الطائفتين ولم تصل الاخرى لانجادهم خوفا من المسلمين على معسكرهم وان تركوا من أصحابه حامية المعسكر فالمدى بعيد لا يصلون للانجاد الا بعد الوفاة هذا إلى ما يلحقنا من(5/327)
تعذر القوت بانقطاع الميرة فعلموا صدقه وارتحلوا عائدين إلى الرملة ثم ارتحلوا في محرم سنة ثمان وثمانين إلى عسقلان وشرعوا في عمارتها وسار ملك انكلطيرة إلى مسلح المسلمين فواقعوهم وجرت بينهم حروب شديدة وصلاح الدين يبعث سراياه من القدس إلى الافرنج للاغارة وقطع الميرة فيغنمون ويعودون والله تعالى أعلم * (مقتل المركيش وملك الكند هرى مكانه) * ثم ارتحل صلاح الدين إلى سنان مقدم الاسماعيلية بالشأم في قتل ملك انكلطيرة
والمركيش وجعل له على ذلك عشرة آلاف دينار فلم يمكنهم قتل ملك انكلطيرة لما رأوه من المصلحة لئلا يتفرغ لهم صلاح الدين وبعث رجلين لقتل المركيش في زى الرهبان فاتصلا بصاحب صيدا وابن بازران صاحب واقاما عندهما بصور ستة أشهر مقبلين على رهبانيتهما حتى أنس بهما المركيش ثم دعاه الاسقف بصور دعوى فوثبا عليه فجرحاه ولجا أحدهما إلى كنيسة واختفى فيها وحمل إليها المركيش لشدة جراحه فأجهز عليه ذلك الباطني وقتله ونسب ذلك إلى ملك انكلطيرة رجاء ان ينفرد بملك الافرنج بالشأم ولما قتل المركيش ملك المدينة زعيم من الافرنج الواردين من وراء البحر يعرف بالكندهرى ابن أخت ملك افرنسة وابن أخى ملك انكلطيرة من أبيه وتزوج بالملكة في ليلته وبنى بها وملك عكا وسائر البلاد بعد عود ملك انكلطيرة وعاش إلى سنة أربع وتسعين وسقط من سطح ولما رحل ملك انكلطيرة إلى بلاده أرسل هذا الكندهرى إلى صلاح الدين واستماله للصلح والتمس منه الخلعة فبعث إليه بها ولبسها بعكا والله تعالى أعلم * (مسير الافرنج إلى القدس) * ولما قدم صلاح الدين القدس وكان قد بلغه مهلك تقى الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه وان ابنه ناصر الدين استولى على أعماله بالجزيرة وهى حران والرها وسميساط وميافارقين وجان وبعث إلى صلاح الدين يسأل ابقاءها في يده مضافة إلى ما كان لابيه من الاعمال بالشأم فاستقصره صلاح الدين لصغره وطلب منه ابنه الافضل أن يعطيها له وينزل عن دمشق فجابه إلى ذلك وأمره أن يسير إليها وكاتب ملوك البلاد الشرقية بالموصل وسنجار والجزيرة واربل وسار لانجاده بالعساكر وعلم ناصر الدين انه لا قبل له بذلك فبعث للملك العادل يستشفع له عند صلاح الدين على أن يبقى بيده له ما كان لابيه بالشأم فقط وينزل عن بلاد الجزيرة فأقطعها صلاح الدين أخاه الملك العادل وبعثه يتسلمها ويرد ابنه الافضل فلحق بالافضل بحلب وأعاده وعبر(5/328)
نفرات وتسلم البلاد من ناصر الدين بن تقى الدين وأنزل بها عماله واستصحبه وساير لعساكر الجزرية إلى صلاح الدين بالقدس ولما بلغ الافرنج أن صلاح الدين ابنه الافضل وأخاه العادل وفرق العساكر عليهما ولم يبق معه بالقدس الا بعض لخاصة فطمعوا فيه وأغاروا على عسكر مصر وهو قاصد إليه ومقدمهم سليمان أخو لعادل لامه فأخذوه بنواحي الخليل وقتلوا وغنموا ونجا فلهم إلى جبل الخليل وساروا لى الداروم فخربوه ثم ساروا إلى القدس وانتهوا إلى بيت قوجة على فرسخين من لقدس تاسع جمادى الاولى من سنة ثمان وثمانين واستعد صلاح الدين للحصار وفرق براج السور على أمرائه وسلط السرايا والبعوث عليهم فرأوا ما لا قبل لهم به فتأخروا عن منازلتهم بيافا وأصبحت بقولهم وميرتهم غنائم للمسلمين وبلغهم أن العساكر لشرقية التى مع العادل والافضل عادت إلى دمشق فعادوا إلى عكا وعزموا على محاصرة بيروت فأمر صلاح الدين ابنه الافضل أن يسير في العساكر الشرقية إليها فسار وانتهى إلى مرج العيون فلم يبرح الافرنج من عكا واجتمع عند صلاح الدين خلال ذلك العساكر من حلب وغيرها فسار إلى يافا فحاصرها وملكها عنوة في عشرى رجب من السنة ثم حاصر القلعة بقية يومه وأشرفوا على فتحها وكانوا ينتظرون المدد من عكا فشغلوا المسلمين يطلب الامان إلى الغد فأجابوهم إليه وجاءهم ملك انكلطيرة ليلا وتبعه مدد عكا وبرز من الغد فلم يتقدم إليه أحد من المسلمين ثم نزل بين السماطين وجلس للاكل وأمر صلاح الدين بالحملة عليهم فتقدم أخ المشطوب وكان يلقب بالجناح وقال لصلاح الدين نحن نتقدم للقتال ومماليكك للغنيمة فغضب صلاح الدين وعاد عن الافرنج إلى خيامه حتى جاء ابنه الافضل وأخوه العادل فرحل إلى الرملة ينتظر مآل أمره مع الافرنج وأقاموا بيافا والله تعالى أعلم * (الصلح بين صلاح الدين والافرنج ومسير ملك انكلطيرة إلى بلاده) *
كان ملك انكلطيرة إلى هذه المدة قد طال مغيبه عن بلاده ويئس من بلاد الساحل لان المسلمين استولوا عليه فأرسل إلى صلاح الدين يسأله في الصلح وظن صلاح الدين أن ذلك مكر فلم يجبه وطلب الحرب فألح ملك انكلطيرة في السؤال وظهر صدق ذلك منه فترك ما كان فيه من عمارة عسقلان وغزة والداروم والرملة وبعث إلى الملك العادل بأن بتوسط في ذلك فأشار على صلاح الدين بالاجابة هو وساتر الامراء لما حدث عند العسكر من الضجر ونفاد النفقات وهلاك الدواب والاسلحة وما بلغهم أن ملك انكلطيرة عائد إلى بلاده وان لم تقع الاجابة آخر فصل الشتاء امتنع ركوب البحر فيقيم إلى قابل فلما وعى ذلك صلاح الدين وعلم صحته أجاب إلى الصلح وعقد الهدنة مع رسل الافرنج في(5/329)
عشرين من شعبان سنة ثمان وثمانين لمدة أربعة وأربعين شهرا فتحالفوا على ذلك وأذن صلاح الدين للافرنج في زيارة القدس وارتحل ملك انكلطيرة في البحر عائدا إلى بلده وأقام الكندهرى صاحب صور بعد المركيش ملكا على الافرنج بسواحل الشأم وتزوج الملكة التى كانت تملكهم قبله وقبل صلاح الدين كما مر وسار صلاح الدين إلى القدس فأصلح اسواره وأدخل كنيسة صهيون في البلد وكانت خارج السور واختص المدارس والربط والمارستان ووقف عليها الاوقاف واعتزم على الاحرام منه للحج فاعترضته القواطع دون ذلك فسار إلى دمشق خامس شوال واستخلف عليه الامير جرديك من موالى نور الدين ومر بكفور المسلمين نابلس وطبرية وصفد وبيروت ولما انتهى إلى بيروت أتاه بها سمند صاحب انطاكية وطرابلس وأعمالها فالتزم طاعة صلاح الدين وعاد ودخل صلاح الدين دمشق في الخامس والعشرين من شوال وسر الناس بقدومه ووهن العدو والله سبحانه وتعالى أعلم * (وفاة صلاح الدين وحال ولده وأخيه من بعده) * ولما وصل صلاح الدين إلى دمشق وقد خف من شواغل الافرنج بوهنهم وما عقد من
الهدنة فأراح قليلا ثم اعتزم على احداث الغزو فاستشار ابنه الافضل وأخاه العادل في مذهبه فأشار العادل بخلاط لانه كان وعده أن يقطعه اياها إذا ملكها وأشار الافضل ببلاد الروم ايالة بنى قليج ارسلان لسهولة أمرها واعتراض الافرنج فيها إذا قصدوا الشأم لانها طريقهم فقال لاخيه تذهب أنت لخلاط في بعض ولدى وبعض العسكر وأذهب أنا إلى بلاد الروم فإذا فرغت منها لحقت بكم فسرنا إلى اذربيجان ثم إلى بلاد العجم وأمره بالمسير إلى الكرك وهى من أقطاعه ليتجهز منها ويعود لشأنه فسار إلى الكرك ومرض صلاح الدين بعده ومات في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة لخمس وعشرين سنة من ملكه مصر رحمه الله تعالى وكان معه بدمشق ابنه الافضل نور الدين والعساكر عنده فملك دمشق والساحل وبعلبك وصرخد وبصرى وبانياس وشوش وجميع الاعمال إلى الداروم وكان بمصر ابنه العزيز عثمان فاستولى عليها وكان بحلب ابنه الظاهر غازى فاستولى عليها وعلى أعمالها مثل حارم وتل باشر وعزاز وبرزية ودربساك وغيرها وأطاعه صاحب حماة ناصر الدين محمد بن تقى الدين عمر بن شيركوه وله مع حماة سلمية والمعرة ومنبج وابن محمد بن شيركوه وله مع الرحبة حمص وتدمر وببعلبك بهرام شاه بن فرخشاه ابن شاهنشاه ولقيه الامجد وببصري الظافر بن صلاح الدين ولقبه الامجد مع أخيه لافضل وشيرز سابق الدين عثمان بن الداية وبالكرك والشوبك الملك العادل وبلغ الخبر(5/330)
لى العادل فأقام بالكرك واستدعاه الافضل من دمشق فلم يجبه فخوفه ابن أخيه العزيز صاحب مصر من عز الدين صاحب الموصل وقد كان سار من الموصل إلى بلاد العادل بالجزيرة فوعده بالنصر منه وأوهمه الرسول ان لم يسر إلى الافضل بدمشق انه متوجه إلى العزيز بمصر ليحالفه عليه فحينئذ ارتاب العادل وسار إلى الافضل بدمشق فتلقاه بالميرة وجهز له العساكر لمدافعة عز الدين صاحب الموصل عن بلاد
الجزيرة وأرسل إلى صاحب حمص وصاحب حماة يحضهم على انفاذ العساكر معه وعبر بها الفرات وأقام بنواحي الرها وكان عز الدين مسعود بن مودود صاحب الموصل لما بلغه وفاة صلاح الدين اعتزم على المسير إلى بلاد العادل بالجزيرة حران والرها وسائرها ليرتجعها من يده ومجاهد الدين قايماز اتابك دولته يثنيه عن ذلك ويعذله فيه فتبين حال العادل مع ابن أخيه وبينما هو في ذلك إذ جاءت الاخبار بأن العادل بحران ثم وافاهم كتابه بأن الافضل ملك بعد أبيه صلاح الدين وأطاعه الناس فكاتب عز الدين جيرانه من الملوك مثل صاحب سنجار وصاحب ماردين يستنجدهم وجاء إليه أخوه على نصيبين وسار معه إلى الرها فأصابه المرض في طريقه ورجع إلى الموصل فمات أول رجب من السنة واستقرت ايالة العادل في ملكه من الجزيرة فلم يهجه منها أحد والله تعالى ينصر من يشاء من عباده * (مسير العزيز من مصر إلى حصار الافضل بدمشق وما استقر بينهم في الولايات) * كان العزيز عثمان بن صلاح الدين قد استقر بمصر كما ذكرناه وكان موالى أبيه منحرفين عن الافضل ورؤساؤهم يومئذ جهاركس وقراجا وقد استقر بهم عدو الافضل والاكراد وموالى شيركوه شيعة له فكان العدو يعدون العزيز بهؤلاء الشيع ويخوفونه من أخيه الافضل ويغرونه بانتزاع دمشق من يده فسار لذلك سنة تسعين وخمسمائة ونزل على دمشق واستنزل الافضل وهو بأعماله بالجزيرة وسار لعمه العادل بنفسه وسار معه الظاهر غازى بن صلاح الدين صاحب حلب وناصر الدين محمد بن تقى الدين عمر بن شاهنشاه صاحب حماة وشيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص وعساكر الموصل من قبل عز الدين مسعود بن مودود وساروا كلهم إلى الافضل بدمشق لانجاده فامتنع على العزيز مرامه وتراسلوا في الصلح على أن يكون القدس وأعمال فلسطين للعزيز وجبلة واللاذقية للظاهر صاحب حلب وتبقى دمشق وطبرية والغور للافضل وأن يستقر العادل بمصر مدبرا دولة العزيز على اقطاعه الاول وانعقد الصلح على
ذلك ورجع العزيز إلى مصر وعاد كل إلى بلده والله تعالى أعلم(5/331)
* (حصار العزيز ثانيا دمشق وهزيمته) * ولما عاد العزيز إلى مصر عاد موالى صلاح الدين إلى اغرائه بأخيه الافضل فتجهد لحصاره بدمشق سنة احدى وتسعين وسار الافضل من دمشق إلى عمه العادل بقلعة جعبر ثم إلى أخيه الظاهر غازى بحلب مستنجدا لهما وعاد إلى دمشق فوجد العادل قد سبقه إليها واتفقا على أن تكون مصر للافضل ودمشق للعادل ووصل العزيز إلى قرب دمشق وكان الاكراد وموالى شيركوه منحرفين عنه كما قدمناه وشيعة للافضل ومقدمهم سيف الدين أبو ركوش من الموالى وأبو الهيجاء السمين من الاكراد فدلسا للافضل بالخروج إلى العزيز وواعداه الهزيمة عنه فخرجا في العساكر وانحاز اليهما الموالى والاكراد وانهزم العزيز إلى مصر وبعث الافضل العادل إلى القدس فتسلمه من نائب العزيز وساروا في اتباعه إلى مصر والعساكر ملتفة على الافضل فارتاب العادل وخشى أن لا يفى له الافضل بما اتفقا عليه ولا يمكنه من دمشق فراسل العزيز بالثبان وأن ينزل حامية ووعد من نفسه المظاهرة على أخيه وتكفل له منعه من مقاتلته بلبيس فترك العزيز بها فخر الدين جهاركس في عسكر من موالى أبيه وأراد الافضل مناجزتهم فمنعه العادل فأراد الرحيل إلى مصر فمنعه أيضا وقال له ان أخذت مصر عنوة انخرقت الهيبة وطمع فيها الاعداء والمطاولة أولى ودس إلى العزيز بارسال القاضي الفاضل وكان مطاعا فيهم لمنزلته عند صلاح الدين فجاء اليهما وعقد الصلح بينهم على أن يكون للافضل القدس وفلسطين وطبرية والاردن مضافة إلى دمشق ويكون للعادل كما كان القديم ويقيم بمصر عند العزيز يدبر أمره وتحالفوا على ذلك وعاد الافضل إلى دمشق وأقام العادل عند العزيز بمصر انتهى والله أعلم * (استيلاء العادل على دمشق) *
ثم ان العزيز استمال العادل وأطمعه في دمشق أن يأخذها من أخيه ويسلمها إليه وكان الظاهر صاحب حلب يعذل الافضل في موالاة عمه العادل ويحرضه على ابعاده فيلج في ذلك ثم ان العادل والعزيز ساروا من مصر وحاصروا دمشق واستمالوا من أمراء الافضل أبا غالب الحمصى على وثوق الافضل به واحسانه إليه ففتح لهم الباب الشرقي عشى السابع والعشرين من رجب سنة اثنتين وتسعين فدخل العادل منه إلى دمشق ووقف العزيز بالميدان الاخضر وخرج إليه أخوه الافضل ثم دخل الافضل دار شيركوه وأظهروا مصالحة الافضل خشية من جموعه وأعادوه إلى القلعة وأقاموا بظاهر البلد والافضل يغاديهم كل يوم ويراوحهم حتى استفحل أمرهم فأمروه بالخروج من دمشق وتسليم أعمالها وأعطوه قلعة صرخد وملك العزيز(5/332)
القلعة ونقل للعادل أن العزيز يريد أن يتردد إلى دمشق فجاء إليه وحمله على تسليم القلعة فسلمها وخرج الافضل إلى رستاق له خارج البلد فأقام به وسار منه إلى صرخد وعاد العزيز إلى مصر وأقام العادل بدمشق والله سبحانه وتعالى أعلم بغيبه وأحكم * (فتح العادل يافا من الافرنج واستيلاء الافرنج على بيروت وحصارهم تبنين) * ولما توفى صلاح الدين وملك أولاده بعده جدد العزيز الهدنة مع الكندهرى ملك الافرنج كما عقد أبوه معه وكان الامير أسامة يقطع بيروت فكان يبعث الشوانى للاغارة على الافرنج وشكوا ذلك إلى العادل بدمشق والعزيز بمصر فلم يشكياهم فأرسلوا إلى ملوكهم وراء البحر يستنجدونهم فأمدوهم بالعساكر وأكثرهم من الالمان ونزلوا بعكا واستنجد العادل بالعزيز فبعث إليه بالعساكر وجاءته عساكر الجزيرة والموصل واجتمعوا بعين جالوت وأقاموا رمضان وبعض شوال من سنة ثنتين وتسعين ثم ساروا إلى يافا فملكوا المدينة أولا وخربوها وامتنع الحامية بالقلعة فحاصروها وفتحوها عنوة واستباحوها وجاء الافرنج من عكا لصريخ اخوانهم وانتهوا إلى
قيسارية فبلغهم خبر وفادتهم وخبر وفادة الكندهرى ملكهم بعكا فرجعوا ثم اعتزموا على قصد بيروت فسار العادل لتخريبها حذرا عليها من الافرنج فتكفل له اسامة عاملها بحمايتها وعاد ووصل إليها الافرنج يوم عرفة من السنة وهرب منها اسامة وملكوها وفرق العادل العساكر فخربوا ما كان بقى من صيدا بعد تخريب صلاح الدين وعاثوا في نواحى صور فعاد الافرنج إلى صور ونزل المسلمون على قلعة هوين ثم نازل الافرنج حصن تبنين في صفر سنة أربع وتسعين وبعث العادل عسكر الحمايته فلم يغنوا عنه ونقب الافرنج أسواره فبعث العادل بالصريخ إلى العزيز صاحب مصر فأغذ السير بعساكره وانتهى إلى عسقلان في ربيع من السنة وكان المسلمون في تبنين قد بعثوا إلى الافرنج من يستأمن لهم ويسلمون لهم فأنذرهم بعض الافرنج بأنهم يغدرون بهم فعادوا إلى حصنهم وأصروا على الامتناع حتى وصل العزيز إلى عسقلان فاضطرب الافرنج لوصوله ولم يكن لهم ملك وانما كان معهم الجنصكير القسيس من أصحاب ملك الالمان والمرأة زوجة الكندهرى فاستدعوا ملك قبرص واسمه هبرى وهو أخ الملك الذى أسر بحطين فجاءهم وزوجوه بملكتهم فلما جاء العزيز وسار من عسقلان إلى جبل الخليل وأطل على الافرنج وناوشهم القتال رجع الافرنج إلى صور ثم إلى عكا ونزلت عساكر المسلمين بالبحور فاضطرب أمراء العزيز واجتمع جماعة منهم وهم ميمون القصرى وقراسنقر والحجاب وابن المشطوب على الغدر بالعزيز ومدبر دولته فخر الدين جهاركس فأغذ السير إلى مصر وتراسل العادل والافرنج في(5/333)
الصلح وانعقد بينهم في شعبان من السنة ورجع العادل إلى دمشق وسار منها إلى ماردين كما يأتي خبره والله تعالى أعلم * (وفاة طغتكين بن أيوب باليمن وملك ابنه اسمعيل ثم سليمان بن تقى الدين شاهنشاه) * قد كان تقدم لنا أن سيف الاسلام طغتكين بن أيوب سار إلى المدينة سنة ثمان
وسبعين بعد وفاة أخيه شمس الدولة توران شاه واختلاف نوابه باليمن واستولى عليها ونزل زبيد وأقام بها إلى أن توفى في شوال سنة ثلاث وتسعين وكان سيئ السبرة كثير الظلم للرعية جماعا للاموال ولما استفحل بها أراد الاستيلاء على مكة فبعث الخليفة الناصر إلى أخيه صلاح الدين يمنعه من ذلك فمنعه ولما توفى ملك مكانه ابنه اسمعيل وبلغ المعز وكان أهوج فانتسب في بنى أمية وادعى الخلافة وتلقب بالهادي ولبس الخضرة وبعث إليه عمه العادل بالملامة والتوبيخ فلم يقبل وأساء السيرة في رعيته وأهل دولته فوثبوا به وقتلوه وتولى ذلك سيف الدين سنقر مولى أبيه ونصب أخاه الناصر سنة ثمان وتسعين فأقام بأمره ثم هلك سنقر لاربع سنين من دولته وقام مكانه غازى بن جبريل من أمرائهم وتزوج أم الناصر ثم قتل الناصر مسموما وثأر العرب منه بغازى المذكور وبقى أهل اليمن فوضى واستولى على طغان وبلاد حضرموت محمد بن محمد الحميرى واستبدت ام الناصر وملكت زبيد وبعثت في طلب أحد من بنى أيوب تملكه على اليمن وكان للمظفر تقى الدين عمر بن شاهنشاه وقيل لابنه سعد الدين شاهنشاه ابن اسمه سليمان ترهب ولبس المسوح ولقيه بالموسم بعض غلمانها وجاءته فتزوجته وملكته اليمن والله سبحانه وتعالى أعلم * (مسير العادل إلى الجزيرة وحصاره ماردين) * كان نور الدين ارسلان شاه مسعود صاحب الموصل قد وقع بينه وبين قطب الدين محمد ابن عمه عماد الدين زنكى صاحب نصيبين والخابور والرقة وبين أبيه عماد الدين قبله فتنة بسبب الحدود في تخوم أعمالهم فسار نور الدين إليه في عساكره وملك منه نصيبين ولحق قطب الدين بحران والرها ايالة العادل بن أيوب وبعث إليه بالصريخ وهو بدمشق وبذل له الاموال في انجاده فسار العادل إلى حران وارتحل نور الدين من نصيبين إلى الموصل وسار قطب الدين إليها فملكها وسار العادل إلى ماردين في رمضان من السنة فحاصرها وكان صاحبها حسام الدين بولو ارسلان بن أبى الغازى بن ألبا بن
تمرتاش ابى الغازى بن ارتق وهو صبى وكافله مولى النظام برتقش مولى أبيه والحكم له ودام حصاره عليها وملك الربض وقطع الميرة عنها ثم رحل عنها في العام القابل(5/334)
كما تقدم في أخبار دولة زنكى والله تعالى ينصر من يشاء من عباده * (وفاة العزيز صاحب مصر وولاية أخيه الافضل) * ثم توفى العزيز عثمان بن صلاح الدين آخر محرم سنة خمس وتسعين وكان فخر الدين اياس چهاركس مولى أبيه مستبدا عليه فأرسل العادل بمكانه من حصار ماردين يستدعيه للملك وكان چهاركس هذا مقدم موالى صلاح الدين وكانوا منحرفين عن الافضل وكان موالى صلاح الدين شيركوه والاكراد شيعة له وجمعهم چهاركس لينظر في الولاية وأشار بتولية ابن العزيز فقال له سيف الدين ايازكوش مقدم موالى شيركوه لا يصلح لذلك لصغره الا أن يكفله أحد من ولد صلاح الدين لان رياسة العساكر صنعة واتفقوا على الافضل ثم مضوا إلى القاضى الفاضل فاشار بذلك أيضا وأرسل ايازكوش يستدعيه من صرخد فسار آخر صفر من السنة ولقيه الخبر في طريقه بطاعة القدس له وخرج أمراء مصر فلقوه ببلبيس وأضافه أخوه المؤيد مسعود وفخر الدين چهاركس ودولة العزيز فقدم أخاه وارتاب چهاركس واستأذنه في المسير ليصلح بين طائفتين من العرب اقتتلا فأذنه فسار فخر الدين إلى القدس وتملكه ولحقه جماعة من موالى صلاح الدين منهم قراجا الدكرمس وقراسنقر وجاءهم ميمون القصري فقويت شوكتهم به واتفقوا على عصيان الافضل وأرسلوا إلى الملك العادل يستدعونه فلم يعجل لاجابتهم لطمعه في أخذ ماردين وارتاب الافضل بموالي صلاح الدين وهو شقيرة وانبك مطيش والبكى ولحق جماعة منهم بأصحابهم بالقدس وأرسل الافضل إليهم في العود على ما يختارونه فامتنعوا وأقام هو بالقاهرة وقرر دولته وقدم فيها سيف الدين ايازكوش والملك لابن أخيه العزيز عثمان وهو كافل له لصغره وانتظمت أمورهم على ذلك انتهى
والله سبحانه وتعالى أعلم * (حصار الافضل دمشق وعوده عنها) * ولما انتظمت الامور للافضل بعث إليه الظاهر غازى صاحب حلب وابن عمه شيركوه ابن محمد بن شيركوه صاحب حمص يغريانه بملك دمشق لغيبة العادل عنها في حصار ماردين ويعدانه المظاهرة فسار من منتصف السنة ووصل إلى دمشق منتصف شعبان وسبقه العادل إليها وترك العساكر مع ابنه الكامل على ماردين ولما نزل الافضل على دمشق وكان معه الامير مجد الدين أخو عيسى الهكارى فداخل قوما من الاجناد في دمشق في أن يفتحوا له باب السلامة ودخل منه هو والافضل سرا وانتهوا إلى باب البريد ففطن عسكر العادل لقلتهم وانقطاع مددهم فتراجعوا وأخرجوهم ونزل(5/335)
الافضل بميدان الحصار وضعف أمره واعصوصب الاكراد من عساكره فارتاب بهم الآخرون وانحازوا عنهم في المعسكر ووصل شيركوه صاحب حمص ثم الظاهر صاحب حلب اخر شعبان وأول رمضان لمظاهرة الافضل وارسل العادل إلى موالى صلاح الدين بالقدس فساروا إليه وقوى بهم ويئس الافضل وأصحابه وخرج عساكر دمشق ليبيتوهم فوجدوهم حذرين فرجعوا وجاء الخبر إلى العادل بوصول ابنه محمد الكامل إلى حران فاستدعاه ووصل منتصف صفر سنة ست وتسعين فعند ذلك رحلت العساكر عن دمشق وعاد كل منهم إلى بلاده انتهى والله أعلم * (افراج الكامل عن ماردين) * قد كان تقدم لنا مسير العادل إلى ماردين وسار معه صاحب الموصل وغيره من ملوك الجزيرة وديار بكر وفي نفوسهم غصص من تغلب العادل على ماردين وغلبهم فلما عاد العادل إلى دمشق لمدافعة الافضل وترك ابنه الكامل على حصار ماردين واجتمع ملوك الجزيرة وديار بكر على مدافعته عنها
وسار نور الدين ارسلان شاه صاحب الموصل وابن عمه قطب الدين محمد بن زنكى صاحب سنجار وابن عمه قطب الدين سنجار شاه بن غازى صاحب جزيرة ابن عمر واجتمعوا كلهم ببدليس حتى قضوا عيد الفطر وارتحلوا سادس شوال وقاربوا جبل ماردين وكان أهل ماردين قد اشتد عليهم الحصار وبعث النظام برتقش صاحبها إلى الكامل بتسليم القلعة على شروط اشترطها إلى أجل ضربه وأذن لهم الكامل في ادخال الاقوات في تلك المدة ثم جاءه الخبر بوصول صاحب الموصل ومن معه فنزل القائم للقائهم وترك عسكرا بالربض وبعث قطب الدين صاحب سنجار إلى الكامل ووعده بالانهزام فلم يغن ولما التقى الفريقان حمل صاحب الموصل عليهم مستميتا فانهزم الكامل وصعد إلى الربض فوجد أهل ماردين قد غلبوا عسكره الذى هنالك ونهبوا مخلفهم فارتحل الكامل منتصف شوال مجفلا ولحق بميافارقين وانتهب أهل ماردين مخلفه ونزل صاحبها فلقى صاحب الموصل وعاد إلى قلعته وارتحل صاحب الموصل إلى رأس عين لقصد حلوان والرها وبلاد الجزيرة من بلاد العادل فلقيه هنالك رسول الظاهر صاحب حلب يطلبه في السكة والخطبة فارتاب لذلك وكان عازما على نصرتهم فقعد عنهم وعاد إلى الموصل وأرسل إلى الافضل والظاهر يعتذر بمرض طرقه وهم يومئذ على دمشق ووصل الكامل من ميافارقين إلى حران فاستدعاه أبوه من دمشق وسار إليه في العساكر فأفرج عنه الافضل والظاهر والله سبحانه وتعالى أعلم * (استيلاء العادل على مصر) *(5/336)
ولما رحل الافضل والظاهر إلى بلادهم تجهز العادل إلى مصر وأغراه موالى صلاح الدين بذلك واستحلفوه على أن يكون ابن العزيز ملكا وهو كافله وبلغت الاخبار بذلك إلى الافضل وهو في بلبيس فسار منها ولقيهم فانهزم لسبع خلون من ربيع الآخر سنة
ست وتسعين ودخل القاهرة ليلا وحضر الصلاة على القاضى الفاضل عبد الرحيم البيسانى توفى تلك الليلة وسار العادل لحصار القاهرة وتخاذل أصحاب الافضل عنه فأرسل إلى عمه في الصلح وتسليم الديار المصرية له على أن يعوضه دمشق أو بلاد الجزيرة وهى حران والرها وسروج فلم يجبه وعوضه ميافارقين وجبال نور وتحالفوا على ذلك وخرج الافضل من القاهرة ثامن عشر ربيع واجتمع بالعادل وسار إلى بلده صرخد ودخل العادل القاهرة من يومه ولما وصل الافضل صرخد بعث من يتسلم البلاد التى عوضه العادل وكان بها ابنه نجم الدين أيوب فامتنع من تسليم ميافارقين وسلم ما عداها وردد الافضل رسله في ذلك إلى العادل فزعم أن ابنه عصاه فعلم الافضل أنه أمره واستفحل العادل في مصر وقطع خطبة المنصور بن العزيز وخطب لنفسه واعترض الجند ومحصهم بالمحو والاثبات فاستوحشوا لذلك وبعث العادل فخر الدين جهاركس مقدم موالى صلاح الدين في عسكر إلى بانياس ليحاصرها ويملكها لنفسه ففصل من مصر للشأم في جماعة الموالى الصلاحية وكان بها الامير بشارة من أمراء الترك ارتاب العادل بطاعته فبعث العساكر إليه مع جهاركس والله تعالى أعلم * (مسير الظاهر والافضل إلى حصار دمشق) * ولما قطع العادل خطبة المنصور بن العزيز بمصر استوحش الامراء لذلك ولما كان منه في اعتراض الجند فراسلوا الظاهر بحلب والافضل بصرخد ان يحاصرا دمشق فيسير اليهما الملك العادل فيتأخرون عنه بمصر ويقومون بدعوتهما ونمى الخبر إلى العادل وكتب به إليه الامير عز الدين أسامة جاء من الحج ومر بصرخد فلقيه الافضل ودعاه إلى أمرهم وأطلعه على ما عنده فكتب به إلى العادل وأرسل العادل إلى ابنه المعظم عيسى بدمشق يأمره بحصار الافضل بصرخد وكتب إلى جهاركس بمكانه من حصار بانياس والى ميمون القصرى صاحب نابلس بالمسير معه إلى صرخد ففر منها الافضل إلى أخيه الظاهر بحلب فوجده يتجهز لانه بعث أميرا من أمرائه إلى العادل فرده من طريقه
فسار إلى منبج فملكها ثم قلعة نجم كذلك وذلك سلخ رجب من سنة سبع وتسعين وسار المعظم بقصد صرخد وانتهى إلى بصرى وبعث عن جهاركس والذين معه على بانياس فغالطوه ولم يجيبوه فعاد إلى دمشق وبعث إليهم الامير أسامة يستحثهم فأغلظوا له في القول وتناوله البكاء منهم وثاروا به جميعا فتذمم لميمون القصرى منهم فأمنه وعاد إلى(5/337)
دمشق ثم ساروا إلى الظاهر حضر به صلاح الدين وأنزله من صرخد واستحثوا الظاهر والافضل للوصول فتباطأ الظاهر عنهم وسار من منبج إلى حماة فحاصرها حتى صالحه صاحبها ناصر الدين محمد على ثلاثين ألف دينار صورية فارتحل عنها تاسع رمضان إلى حمص ومعه أخوه الافضل ومنها إلى بعلبك إلى دمشق ووافاه هنالك الموالى الصلاحية مع الظاهر خضر بن مولاهم وكان الوفاق بينهم إذا فتحوا دمشق أن تكون بيد الافضل فإذا ملكوا مصر سار إليها وبقيت للظاهر وأقطع الافضل صرخد لمولى أبيه زين الدين قراجا وأخرج أهله منها إلى حمص عند شيركوه بن محمد بن شيركوه وكان العادل قد سار من مصر إلى الشأم فانتهى إلى نابلس وبعث عسكرا إلى دمشق ووصلوا قبل وصول هذه العساكر فلما وصلوها قاتلوها يوما وثانيه منتصف ذى القعدة وأشرفوا على أخذها فبعث الظاهر إلى الافضل بأن دمشق تكون له فاعتذر بأن أهله في غير مستقر ولعلهم يأوون إلى دمشق في خلال ما يملك مصر فلج الظاهر في دلك وكان الموالى الصلاحية مشتملين على الافضل وشيعة ليه فخيرهم بين المقام والانصراف ولحق فخر الدين جهاركس وقراجا بدمشق فامتنعت عليهم وعادوا إلى تجديد الصلح مع العادل على أن يكون للظاهر منبج وافامية وكفرطاب وبعض قرى المعرة والافضل له سميساط وسروج ورأس عين وحملين فتم ذلك بينهم ورحلوا عن دمشق في محرم سنة ثمان وتسعين وسار الظاهر إلى حلب والافضل إلى حمص فأقام بها عند أهله ووصل العادل إلى دمشق في تاسوعاء وجاءه الافضل فلقيه بظاهر دمشق وعاد إلى بلاده فتسلمها وكان
الظاهر والافضل لما فصلا من منبج إلى دمشق بعثا إلى نور الدين صاحب الموصل أن يقصد بلاد العادل بالجزيرة وكانت بينه وبينهما وبين صاحب ماردين يمين واتفاق على العادل منذ ملك مصر مخافة أن يطرق أعمالهم فسار نور الدين عن الموصل في شعبان ومعه ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار وعسكر ماردين ونزلوا رأس عين وكان بحران الفائز بن العادل في عسكر يحفظ أعمالهم بالجزيرة فبعث إلى نور الدين في الصلح ووصل الخبر بصلح العادل مع الظاهر والافضل فأجابهم نور الدين إلى الصلح واستحلفوا وبعث ارسلان من عنده إلى العادل فاستحلفوه أيضا وصحت الحال والله تعالى ولى التوفيق * (حصار ماردين ثم الصلح بين العادل والاشرف) * ثم بعث الملك العادل ابنه الاشرف موسى في العساكر لحصار ماردين فسار إليها ومعه عساكر الموصل وسنجار ونزلوا بالحريم تحت ماردين وسار عسكر من قلعة البازغية من أعمال ماردين لقطع الميرة عن عسكر الاشرف فلقيهم جماعة من عسكر الاشرف(5/338)
وهزموهم وأفسد التركمان السابلة في تلك النواحى وامتنع على الاشرف قصده فتوسط الظاهر غازى في الاصلاح بينهم على أن يحمل صاحب ماردين للعادل مائة وخمسين ألف دينار والدينار أحد عشر قيراطا من الاميري ويخطب له ببلاده ويضرب السكة باسمه وتعسكر طائفة من جنده معه متى دعاهم لذلك فأجاب العادل وتم الصلح بينهما ورحل الاشرف عن ماردين والله أعلم * (أخذ البلاد من يد الافضل) * قد كان تقدم أن الظاهر والافضل لما صالحا العادل سنة سبع وتسعين أخذ الافضل سميساط وسروج ورأس عين وحملين وكانت بيده معها قلعة نجم التى ملكها الظاهر بين يدى الحصار قبل الصلح ثم استرد العادل البلاد من يد الافضل سنة تسع وتسعين وأبقى له
سميساط وقلعة نجم فطلب الظاهر قلعة نجم على أن يشفع له عند العادل في رد ما أخذ منه فلم يجب فتهدده ولم تزل الرسل تتردد بينهما حتى سلمها إليه في شعبان من السنة وبعث الافضل أمه إلى العادل في رد سروج ورأس عين عليهم فلم يشفعها فبعث الافضل إلى ركن الدين سليمان بن قليج ارسلان صاحب بلاد الروم بطاعته وأن يخطب له فبعث إليه بالخلعة وخطب له الافضل في سميساط سنة ستمائة وسار من جملة نوابه في أعماله وفي سنة تسع وتسعين هذه خاف على مصر محمود بن العزيز صاحب مصر بعث العساكر إلى الرها لانه لما قطع خطبته من مصر سنة ست وتسعين خاف على مصر من شيعة أبيه فأخرجه سنة ثمان وتسعين إلى دمشق ثم نقله في هذه السنة إلى الرها ومعه اخواته وأمه وأهله فأقاموا بها والله أعلم * (واقعة الاشرف مع صاحب الموصل) * كانت الفتنة متصلة بين نور الدين ارسلان شاه صاحب الموصل وبين ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار واستمال العادل بن أيوب قطب الدين فخطب له بأعماله وسار إليه نور الدين غيرة من ذلك فحاصر نصيبين في شعبان من سنة ستمائة وبعث قطب الدين يستمد الاشرف موسى بن العادل وهو بحران فسار إلى رأس عين لامداده ومدافعة نور الدين عنه بعد أن اتفق على ذلك مع مظفر الدين صاحب اربل وصاحب جزيرة ابن عمر وصاحب كيفا وآمد ففارق نور الدين نصيبين وسار إليها الاشرف وجاءه أخوه نجم الدين صاحب ميافارقين وصاحب كيفا وصاحب الجزيرة وساروا جميعا إلى بلد البقعا ونور الدين صاحب الموصل قد انصرف من تل اعفر وقد ملكها إلى كفر زمان معتزما على مطاولتهم إلى أن يفترقوا ثم أغراه بعض مواليه كان بعثه عينا عليهم فقللهم في عينه(5/339)
وحرضه على معاجلتهم باللقاء فسار إلى نوشرا ونزل قريبا منهم ثم ركب لقتالهم واقتتلوا فانهزم نور الدين ولحق بالموصل ونزل الاشرف وأصحابه كفر زمان وعاثوا في البلاد
واكتسحوها وترددت الرسل بينهم في الصلح على أن يعيد نور الدين على قطب الدين قلعة تل اعفر التى أخذها له فتم ذلك سنة احدى وستمائة وعاد إلى بلده والله تعالى أعلم * (وصول الافرنج إلى الشأم والصلح معهم) * ولما ملك الافرنج القسطنطينية من يد الروم سنة احدى وستمائة تكالبوا على البلاد ووصل جمع منهم إلى الشأم وأرسوا بعكا عازمين على ارتجاع القدس من المسلمين ثم ساروا في نواحى الاردن فاكتسحوها وكان العادل بدمشق استنفر العساكر من الشأم ومصر وسار فنزل بالطور قريبا من عكا لمدافعتهم وهم قبالته بمرج عكا وساروا إلى كفركنا فاستباحوه ثم انقضت سنة احدى وستمائة وتراسلوا في المهادنة على أن ينزل لهم العادل عن كثير من مناصف الرملة وغيرها ويعطيهم وغيرها وتم ذلك بينهم وسار العادل إلى مصر فقصد الافرنج حماة وقاتلهم صاحبها ناصر الدين محمد فهزموه وأقاموا أياما عليها ثم رجعوا والله تعالى أعلم * (غارة ابن ليون على أعمال حلب) * قد تقدم لنا ذكر ابن ليون ملك الارمن وصاحب الدروب فأغار سنة ثنتين وستمائة على أعمال حلب واكتسحها واتصل ذلك منه فجمع الظاهر غازى صاحب حلب ونزل على خمسة فراسخ من حلب وفي مقدمته ميمون القصرى من موالى أبيه منسوبا إلى قصر الخلفاء بمصر ومنه كان أبوه وكان الطريق إلى بلاد الارمن متعذرا من حلب لتوعر الجبال وصعوبة المضايق وكان ابن ليون قد نزل في طرف بلاده لما يلى حلب ومن ثغورها قلعة دربساك فخشى الظاهر عليها منه وبعث إليها مددا وأمر ميمون القصرى أن يشيعه بطائفة من عسكره ففعل وبقى في خف من الجند ووصل خبره إلى ابن ليون فكبس القصرى ونال منه ومن المسلمين وانهزموا أمامه فظفر بمخلفهم ورجع فلقى في طريقه المدد الذى بعث إلى دربساك فهزمهم وظفر بما كان معهم وعاد الارمن إلى بلادهم فاعتصموا بحصونهم والله تعالى أعلم
* (استيلاء نجم الدين بن العادل على خلاط) * كان العادل قد استولى على ميافارقين وأنزل بها ابنه الاوحد نجم الدين ثم استولى نجم الدين على حصون من أعمال خلاط وزحف إليها سنة ثلاث وستمائة وقد استولى عليها بليان مولى شاهرين فقاتله وهزمه وعاد إلى ميافارقين فهزمهم ثم دخلت سنة أربع(5/340)
وستمائة وملك مدينة سوس وغيرها وأمده أبوه العادل بالعساكر فقصد خلاط وسار إليه بليان فهزمه نجم الدين وحاصره بخلاط وبعث بليان لى مغيث الدين طغرل شاه ابن قليج ارسلان صاحب ارزن الروم يستنجده فجاء في عساكره وجتمع مع بلبان وانهزم نجم الدين ونزلا على مدينة تلبوس فحاصراها ثم غدر طغرل شاه بليان وقتله وسار إلى خلاط ليملكها فطرده أهلها فسار إلى ملازكرد فامتنعت عليه فعاد إلى بلاده وأرسل أهل خلاط إلى نجم الدين فملكوه خلاط وأعمالها وخافه الملوك المجاورون له وملك الكرك وتابعوا الغارات على بلاده فلم يخرج إليهم خشية على خلاط واعتزل جماعة من عسكر خلاط فاستولوا على حصن وان من أعظم الحصون وأمنعها فعصوا على نجم الدين واجتمع إليهم جمع كثير وملكوا مدينة ارجيش واستمد نجم الدين على خلاط وأعمالها وعاد أخوه الاشرف إلى أعماله بحران والرها ثم سار الاوحد نجم الدين إلى ملازكرد ليرتب أحوالها فوثب أهل خلاط على عسكره فأخرجوهم وحصروا أصحابه بالقلعة ونادوا بشعار بنى شاهرين وعاد نجم الدين إليهم وقد وافاه عسكر من الجزيرة فقوى بهم وحاصر خلاط واختلف أهلها فملكها واستلحم أهلها وحبس كثيرا من أعيانها كانوا فارين وذل أهل خلاط لبنى أيوب بعد هذه الوقعة إلى آخر الدولة والله تعالى أعلم * (غارات الافرنج بالشأم) * كان الافرنج بالشأم قد أكثروا الغارات سنة أربع وستمائة بحسد ثان ما ملكوا
القسطنطينية واستفحل ملكهم فيها فأغار أهل طرابلس وحصن الاكراد منهم على حمص وأعمالها وعجز صاحبها شيركوه بن محمد بن شيركوه عن دفاعهم واستنجد عليهم فانجده الظاهر صاحب حلب بعسكر أقاموا عنده للمدافعة عنه وأغار أهل قبرص في البحر على اسطول مصر فظفروا منه بعدة قطع وأسروا من وجدوا فيها وبعث العادل إلى صاحب عكا يحتج عليه بالصلح فاعتذر بأن أهل قبرص في طاعة الافرنج الذين بالقسطنطينية وأنه لا حكم له عليهم فخرج العادل في العساكر إلى عكا حتى صالحه صاحبها على اطلاق أسرى من المسلمين ثم سار إلى حمص ونازل القلعتين عند بحيرة قدس ففتحه وأطلق صاحبه وغنم ما فيه وخربه وتقدم إلى طرابلس فاكتسح نواحيها اثنى عشر يوما وعاد إلى بحيرة قدس وراسله الافرنج في الصلح فلم يجيهم وأظله الشتاء فأذن لعساكر الجزيرة في العود إلى بلادهم وترك عند صاحب حمص عسكرا أنجده بهم وعاد إلى دمشق فشتى بها والله أعلم(5/341)
* (غارات الكرج على خلاط وأعمالها وملكهم ارجيش) * ولما ملك الاوحد نجم الدين خلاط كما مر ردد الكرج الغارات على أعمالها وعاثوا فيها ثم ساروا سنة خمس وستمائة إلى مدينة ارجيش فحاصروها وملكوها عنوة واستباحوها وخربوها وخام نجم الدين عن لقائهم ومدافعتهم إلى أن انتقض عليه أهل خلاط لما فارقها ووقع بينه وبينهم ما مر ثم سار الكرج سنة تسع إلى خلاط وحاصروها وحاربهم الاوحد وهزمهم وأسر ملكهم ثم فاداه بمائة ألف دينار وخمسة آلاف أسير وعلى الهدنة مع المسلمين وأن يزوج بنته من الاوحد فانعقد ذلك والله تعالى أعلم بغيبه * (استيلاء العادل على الخابور ونصيبين من عمل سنجار وحصارها) * قد تقدم لنا أن قطب الدين زنكى بن محمود بن مودود صاحب سنجار والخابور ونصيبين
وما إليها كانت بينه وبين ابن عمه نور الدين ارسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة وفتنة متصلة وزوج نور الدين صاحب الموصل بنته من ابن العادل بن أيوب سنة خمس وستمائة واتصل بهما لذلك فزين له وزراؤه وأهل دولته أن يستنجد بالعادل على جزيرة ابن عمر وأعمالها التى لابن عمه سنجار شاه ابن غازى ابن مودود فتكون الجزيرة بكمالها مضافة إلى الموصل وملك العادل سنجار وما إليها وهى ولاية قطب الدين فتكون له فأجاب العادل إلى ذلك ورآه ذريعة إلى ملك الموصل وأطمع نور الدين في ايالة قطب الدين إذا ملكها تكون لابنه الذى هو صهره على ابنته وتكون عنده بالموصل وسار العادل بعساكره سنة ست وستمائة وقصد الخابور فملكه فتبين لنور الدين صاحب الموصل حينئذ انه لا مانع منه وندم على ما فرط في رأيه من وفادته ورجع إلى الاستعداد للحصار وخوفه الوزراء والحاشية أن ينتقض على العادل فيبدأ به وسار العادل من الخابور إلى نصيبين فملكها وقام بمدافعته عن قطب الدين وحماية البلد من الامير أحمد بن برتقش موالى أبيه وشرع نور الدين في تجهيز العساكر مع ابنه القاهر مددا للعادل وبعث قطب الدين صاحب سنجار ابنه مظلفر الدين يستشفع به إلى العادل لمكانه منه وأثره في موالاته فشفع ولم يشفعه العادل فراسل نور الدين صاحب الموصل في الاتفاق على العادل فأجابه وسار بعساكره من الموصل واجتمع مع نور الدين بظاهرها واستنجد بصاحب حلب الظاهر وصاحب بلاد الروم كنجسرو وتداعوا على الحركة إلى بلاد العادل ان امتنع من الصلح والابقاء على صاحب سنجار وبعثوا إلى الخليفة الناصر أن يأمر العادل فبعث إليه أستاذ داره أبا نصر هبة الله بن المبارك بن الضحاك والامير اقباش من خواص مواليه فأجاب إلى(5/342)
ذلك ثم غالطهم وذهب إلى المطاولة ثم صالحهم على سنجار فقط وله ما أخذ وتحالفوا على ذلك وعاد كل إلى بلده ثم قبض المعظم عيسى سنة عشر وستمائة على الامير أسامة
بأمر أبيه العادل وأخذ منه حصن كوكب وعجلون وكانا من أعماله فخربهما وحصن اردن بالكوكب وبنى مكانه حصنا قرب عكا على جبل الطور وشحنه بالرجال والاقوات والله تعالى أعلم * (وفاة الظاهر صاحب حلب وولاية ابنه العزيز) * لما توفى الملك الظاهر غازى بن صلاح الدين بن أيوب صاحب حلب ومنبج وغيرهما من بلاد الشأم في جمادى الاخيرة سنة ثلاث عشرة وكان مرهف الحد ضابطا جماعة للاموال شديد الانتقام محسنا للقضاة وعهد بالملك لابنه الصغير محمد بن الظاهر وهو ابن ثلاث سنين وعدل عن الكبير لان أمه بنت عمه العادل ولقبه العزيز غياث الدين وجعل أتابكه وكافله وخادمه طغرلبك ولقبه شهاب الدين وكان خيرا صاحب احسان ومعروف فأحسن كفالة الولد وعدل في سيرته وضبط الايالة بجميل نظره والله أعلم * (ولاية مسعود بن الكامل على اليمن) * ولما ملك سليمان بن المظفر على اليمن سنة تسع وتسعين وخمسمائة أساء إلى زوجته أم الناصر التى ملكته وضارها وأعرض عنها واستبد بملكه وملأ الدنيا ظلما وأقام على ذلك ثلاث عشرة سنة ثم انتقض على العادل وأساء معاملته وكتب إليه بعض الاحيان انه من سليمان وانه بسم الله الرحمن الرحيم فكتب العادل إلى ابنه الكامل أن يبعث العساكر إلى اليمن مع وال من قبله فبعث ابنه المسعود يوسف واسمه بالتركي اقسنس في العساكر سنة ثنتى عشرة وستمائة فملك اليمن وقبض على سليمان شاه وبعث به معتقلا إلى مصر فلم يزل بها إلى أن استشهد في حروب دمياط مع الافرنج أعوام تسع وأربعين وطالت أيام مسعود باليمن وحج سنة تسع عشرة وقدم أعلام أبيه على أعلام الخليفة الناصر فكتب الناصر يشكوه إلى أبيه فكتب إليه أبوه الكامل برئت من العادل يا أخس ان لم أقطع يمينك فقد نبذت وراء ظهرك دنياك ودينك ولا حول ولا قوة الا بالله فاستعتب إلى أبيه وأعتبه ثم غلب سنة ست وعشرين على مكة من يد
الحسن بن قتادة سيد بنى ادريس بن مطاعن من بنى حسن وولى عليها وعاد إلى اليمن فهلك بقية السنة وغلب على أمر اليمن بعده على بن رسول أستاذ داره ونصب للملك ابنه الاشرف موسى وكفله ثم هلك موسى واستبد ابن رسول باليمن وأورثه بنيه فكانت لهم دولة اتصلت لهذا العهد كما نذكره في أخبارها ان شاء الله تعالى(5/343)
[ وصول الافرنج من وراء البحر إلى سواحل الشأم ومسيرهم إلى دمياط وحصارها واستيلاؤهم عليها ] كان صاحب رومة أعظم ملوك الافرنج بالعدوة الشمالية من البحر الرومي وكانوا كلهم يدينون بطاعته وبلغه اختلاف أموال الافرنج بساحل الشأم وظهور المسلمين عليهم فانتدب إلى امدادهم وجهز إليهم العساكر فامتثلوا أمره من ايالته وتقدم إلى ملوك الافرنج أن يسيروا بأنفسهم أو يرسلوا العساكر فامتثلوا أمره وتوافت الامداد إلى عكا من سواحل الشأم سنة أربع عشرة وسار العادل من مصر إلى الرملة وبرز الافرنج من عكا ليصدوه فسار إلى نابلس يسابقهم إلى أطراف البلاد ويدافعهم عنها فسبقوه ونزل هو على بيسان من الاردن وزحف الافرنج لحربه في شعبان من السنة وكان في خف من العساكر فخام عن لقائهم ورجع إلى دمشق ونزل مرج الصفد واستدعى العساكر ليجمعها وانتهب الفرنج مخلفه في بيسان واكتسحوا ما بينها وبين بانياس ونازلوا بانياس ثلاثا ثم عادوا إلى مرج عكا بعد أن خربوا تلك الاعمال وامتلات أيديهم من نهبها وسباياها ثم ساروا إلى صور ونهبوا صيدا والشقيف على فرسخين من بانياس وعادوا إلى عكا بعد عيد الفطر ثم حاصروا حصن الطور على جبل قريب من عكا كان العادل اختطها فحاصروها سبعة عشر يوما وقتل عليها بعض ملوكهم فرجعوا عنها وبعث العادل ابنه المعظم عيسى إلى حصن الطور فخربها لئلا يملكها الافرنج ثم سار الافرنج من عكا في البحر إلى دمياط وأرسوا بسواحلها
في صفر والنيل بينهم وبينها وكان على النيل برج حصين تمر منه إلى سور دمياط سلاسل من حديد محكمة تمنع السفن من البحر الملح أن تصعد في النيل إلى مصر فلما نزل الافرنج بذلك الساحل خندقوا عليهم وبنوا سورا بينهم وبين الخندق وشرعوا في حصار دمياط واستكثروا من آلات الحصار وبعث العادل إلى ابنه الكامل بمصر أن يخرج في العساكر ويقف قبالتهم ففعل وخرج من مصر في عساكر المسلمين فنزل قريبا من دمياط بالعادلية وألح الافرنج على قتال ذلك البرج أربعة أشهر حتى ملكوه ووجدوا السبيل إلى دخول النيل ليتمكنوا من النزول على دمياط فبنى الكامل عوض السلاسل جسرا عظيما يمانع الداخلين إلى النيل فقاتلوا عليه قتالا شديدا حتى قطعوه فأمر الكامل بمراكب مملوأة بالحجارة وخرقوها وغرقوها وراء الجسر تمنع المراكب من الدخول إلى النيل فعدل الافرنج إلى خليج الازرق وكان النيل يجرى فيه قديما فحفروه فوق الجسر وأجروا فيه الماء إلى البحر وأصعدوا مراكبهم إلى قبالة معسكر المسلمين ليتمكنوا من قتالهم لان دمياط كانت حاجزة بينهم فاقتتلوا معهم(5/344)
وهم في مراكيهم فلم يظفروا والميرة والامداد متصلة إلى دمياط والنيل حاجز بينهم وبين الافرنج فلا يحصل لهم من الحصار ضيق ثم بلغ الخبر بموت العادل فاختلف العسكر وسعى مقدم الامراء عماد الدين أحمد بن سيف الدين على بن المشطوب الهكارى في خلع الكامل وولاية أخيه الاصغر الفائز ونمى الخبر إلى الكامل فأسرى من ليلته إلى اشمون طناح وتفقده المسلمون من الغد فأجفلوا ولحقوا بالكامل وخلفوا سوادهم بما فيه فاستولى عليه الافرنج وعبروا النيل إلى البر المتصل بدمياط وجالوا بينها وبين أرض مصر وفسدت السابلة بالاعراب وانقطعت الميرة عن دمياط واشتد الافرنج في قتالها وهى في قلة من الحامية لاجفال المسلمين عنها بغتة ولما جهدهم الحصار وتعذر عليهم القوت استأمنوا إلى الافرنج فملكوها آخر شعبان سنة ست عشرة
وبنوا سراياهم فيما جاورها فأقفروه ورجعوا إلى عمارة دمياط وتحصينها وأفام الكامل قريبا منهم لحماية البلاد وبنى المنصورة بقرب مصر عند مفترق البحر من جهة دمياط والله تعالى أعلم * (وفاة العادل واقتسام الملك بين بنيه) * قد ذكرنا خبر العادل مع الافرنج الذين جاؤا من وراء البحر إلى سواحل الشأم سنة أربع عشرة وما وقع بينه وبينهم بعكا وبيسان وانه عاد إلى مرج الصفر قريبا من دمشق فأقام به فلما سار الافرنج إلى دمياط انتقل هو إلى خانقين فأقام بها ثم مرض وتوفى سابع جمادى الاخيرة سنة خمس عشرة وستمائة لثلات وعشرين سنة من ملكه دمشق وخمس وسبعين من عمره وكان ابنه المعظم عيسى بنابلس فجاء ودفنه بدمشق وقام بملكها واستأثر بمخلفه من المال والسلاح وكان لا يعبر عنه يقال كان المال العين في سترته سبعمائة ألف دينار وكان ملكا حليما صبورا مسددا صاحب افادة وخديعة منجمة في أحواله وكان قد قسم البلاد في حياته بين بنيه فمصر للكامل ودمشق والقدس وطبرية والكرك وما إليها للمعظم عيسى وخلاط وما إليها وبلاد الجزيرة غير الرها ونصيبين وميافارقين للاشرف موسى والرها وميافارقين لشهاب الدين غازى وقلعة جعبر للخضر ارسلان شاه فلما توفى استقل كل منهم بعمله وبلغ الخبر بذلك إلى الملك الكامل بمكانه قبالة الافرنج بدمياط فاضطرب عسكره وسعى المشطوب كما تقدم في ولاية أخيه الفائز ووصل الخبر بذلك إلى أخيه المعظم عيسى فأغذ السير من دمشق إليه بمصر وأخرج المشطوب إلى الشأم فلحق بأخيهما الاشرف وصار في جملته واستقام للكامل ملكه بمصر ورجع المعظم من مصر فقصد القدس في ذى القعدة من السنة وخرب أسواره حذرا عليه من الافرنج وملك الافرنج دمياط كما ذكرناه وأقام(5/345)
الكامل قبالتهم والله تعالى ينصر من يشا من عباده
* (وفاة المنصوب صاحب حماة وولاية ابنه الناصر) * قد تقدم لنا أن صلاح الدين كان قد أقطع تقى الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه مدينة حماة وأعمالها ثم بعثه إلى الجزيرة سنة سبع وثمانين فملك حران والرها وسروج وميافارقين وما إليها من بلاد الجزيرة فأقطعه اياها صلاح الدين ثم سار إلى بلاد ارمينية بكتمر صاحب خلاط وحاصرها ثم انتقل إلى حصار ملازكرد وهلك عليها تلك السنة وتولى ابنه ناصر الدين محمد ويلقب المنصور على أعماله ثم انتزع صلاح الدين منه بلاد الجزيرة وأقطعها أخاه العادل وأبقى حماة وأعمالها بيد ناصر الدين محمد المذكور فلم تزل بيده إلى أن توفى سنة سبع عشرة وستمائة لثمان وعشرين سنة من ولايته عليها بعد مهلك عم أبيه صلاح الدين والعادل وكان ابنه ولى عهده المظفر عند العادل بمصر وابنه الآخر قليج ارسلان عند خاله المعظم عيسى بمكانه من حصاره فاستدعاه أهل دولته بحماة واشترط المعظم عليه ما لا يحمله وأطلقه إليهم فملك حماة وتلقب الناصر وجاءه أخوه ولى العهد من مصر فدافعه أهل حماة فرجع إلى دمشق عند المعظم وكاتبهم واستمالهم فلم يجيبوه ورجع إلى مصر والله تعالى أعلم * (مسير صاحب بلاد الروم إلى حلب وانهزامه ودخولها في طاعة الاشرف) * قد كنا قدمنا وفاة الظاهر غازى بن صلاح الدين صاحب حلب ومنبج سنة ثلاث عشرة وولاية ابنه الاصغر محمد العزيز غياث الدين في كفالة طغرل الخادم مولى أبيه الظاهر وان شهاب الدين هذا الكامل أحسن السيرة وأفاض العدل وعف عن أموال الرعية ورد السعاية فيهم بعضهم على بعض وكان بحلب رجلان من الاشرار يكثران السعاية عند الظاهر ويغريانه بالناس ولقى الناس منهما شدة فأبعدهما شهاب الدين فيمن أبعد من أهل الشر ورد عليهما السعاية فكسدت سوقهما وتناولهما الناس بالالسنة والوعيد فلحقا ببلاد الروم وأطمعا صاحبها كيكاوس في ملك حلب وما بعدها ثم رأى ان ذلك لا يتم الا أن يكون معه بعض بنى أيوب لينقاد أهل البلاد إليه وكان الافضل بن
صلاح الدين بسميساط وقد دخل في طاعة كيكاوس غضبا من أخيه الظاهر وعمه العادل بما انتزعا من أعماله فاستدعاه كيكاوس وطلبه في المسير على ان يكون ما يفتحه من حلب وأعمالها للافضل والخطبة والسكة لكيكاوس ثم يقصدون بلاد الاشرف بالجزيرة حران والرها وما اليهما على هذا لحكم وتحالفوا على ذلك وجمعوا العساكر وساروا سنة خمس عشرة فملكوا قلعة رعبان فتسلمها الافضل ثم قلعة باشر من صاحبها(5/346)
ابن بدر الدين ارزم الياروقى بعد ان كانوا حاصروها وضيقوا عليها وملكها كيكاوس لنفسه فاستوحش الافضل وأهل البلدان يفعل مثل ذلك في حلب وكان شهاب الدين كافل العزيز بن الظاهر مقيما بقلعة حلب لا يفارقها خشية عليها فطير الخبر إلى الملك الاشرف صاحب الجزيرة وخلاط لتكون طاعتهم وخطبتهم له والسكة باسمه ويأخذ من أعمال حلب ما اختار فجمع العساكر وسار إليهم سنة خمس عشرة ومعه وأميرهم نافع من خدمه وغيرهم من العرب ونزل بظاهر حلب وتوجه كيكاوس والافضل من تل باشر إلى منبج وسار الاشرف نحوهم وفي مقدمته العرب فلقوا مقدمة كيكاوس فهزموها فلما عادوا إلى كيكاوس منهزمين أجفل إلى بلاده وسار الاشرف فملك رعبان وتل باشر وأخذ من كان بها من عساكر كيكاوس وأطلقهم فلحقوا بكيكاوس فجمعهم في دار وأحرقها عليهم فهلكوا وسلم الاشرف ما ملكه من قلاع حلب لشهاب الدين الخادم كافل العزيز بحلب واعتزم على اتباع كيكاوس إلى بلاده فأدركه الخبر بوفاة أبيه العادل فرجع انتهى والله تعالى أعلم * (دخول الموصل في طاعة الاشرف وملكه سنجار) * قد ذكرنا في دولة بنى زنكى ان القاهر عز الدين مسعود صاحب الموصل توفى في ربيع سنة خمس عشرة وستمائة وولى ابنه نور الدين ارسلان شاه في كفالة مولى أبيه نور الدين لؤلؤ مولاه ومدبر دولته وكان أخوه عماد الدين زنكى في قلعة الصغد والسوس من
أعمال الموصل بوصية أبيهما إليه بذلك وانه بعد وفاة أخيه عز الدين طلب الامر لنفسه وملك العمادية وظاهره مظفر الدين كوكبرى صاحب اربل على شأنه فبعث نور الدين لؤلؤ إلى الاشرف موسى بن العادل والجزيرة كلها وخلاط وأعمالها في طاعته فأرسل إليه بالطاعة وكان على حلب مدافعا لكيكاوس صاحب بلاد الروم كما نذكره بعد فأجابه الاشرف بالقبول ووعده النصر على أعدائه وكتب إلى مظفر الدين يقبح عليه ما وقع من نكث العهد في اليمين التى كانت بينهم جميعا ويأمره باعادة عماد الدين زنكى ما أخذه من بلاد الموصل والا فيسير بنفسه ويسترجعها ممن أخذها ويدعوه إلى ترك الفتنة والاشتغال معه بما هو فيه من جهاد الافرنج فصمم مظفر الدين عن ندبته ووافقه صاحب ماردين وصاحب كيفا وآمد يجهز إلى الاشرف عسكرا إلى نصيبين للؤلؤ صاحب الموصل ثم جهز لؤلؤ العساكر إلى عماد الدين فهزموه ولحق باربل عند المظفر وجاءت الرسل من الخليفة الناصر والملك الاشرف فأصلحوا بينهما وتحالفا ثم وثب عماد الدين زنكى إلى قلعة كواشى فملكها وبعث لؤلؤ إلى الاشرف وهو على حلب يستنجده فعبر الفرات إلى حران واستمال مظفر الدين ملوك الاطراف وحملهم(5/347)
على طاعة كيكاوس والخطبة له وكان عدو الاشرف ومنازعا له في منبج كما نذكره وبعث أيضا إلى الامراء الذين مع الاشرف واستمالهم فأجابه منهم أحمد بن على المشطوب صاحب الفعلة مع الكامل على دمياط وعز الدين محمد بن نور الدين الحميدى وفارقوا الاشرف إلى دبيس تحت ماردين ليجتمعوا على منع الاشرف من العبور إلى الموصل ثم استمال الاشرف صاحب كيفا وآمد وأعطاه مدينة جانين وجبل الجودى ووعده بدارا إذا ملكها ولحق به صاحب كيفا وفارق أصحابه الملوك واقتدى به بعضهم في طاعة الاشرف والنزوع إليه فافترق ذلك الجمع وسار كل ملك إلى عمله وسار ابن المشطوب إلى اربل ومر بنصيبين فقاتله عساكرها وهزموه وافترق جمعه ومضى منهزما
واجتاز بسنجار وبها فروخ شاه عمر بن زنكى بن مودود فبعث إليه عسكرا فجاؤا به أسيرا وكان في طاعة الاشرف فحبس له ابن المشطوب فأطلقه وسار في جماعة من المفسدين إلى البقعاء من أعمال الموصل فاكتسحها وعاد إلى سنجار ثم سار ثانيا للاغارة على أعمال الموصل فأرصد له لؤلؤ عسكرا بتل اعفر من أعمال سنجار فلما مر بهم قاتلوه وصعد إلى تل اعفر منهزما وجاء لؤلؤ من الموصل فحاصره بها شهرا أو بعضه وملكها منتصف ربيع الآخر من سنة سبع عشرة وحبس ابن المشطوب بالموصل ثم بعث به إلى الاشرف فحبسه بحران إلى أن توفى في ربيع الآخر من سنة سبعة عشر ولما افترق جمع الملوك سار الاشرف من حران محاصرا لماردين ثم صالحه على أن يرد عليه رأس عين وكان الاشرف أقطعه له وعلى أن يأخذ منه ثلاثين ألف دينار وعلى أن يعطى صاحب كيفا وآمد قلعة المور ومن بلده ورجع الاشرف من دبيس إلى نصيبين يريد الموصل وكان عمر صاحب سنجار لما أخذ منه لؤلؤ تل اعفر تخاذل عنه أصحابه وساءت ظنونهم بنفسه لما ساء فعله في أخيه وفي غيره فاعتزم على الالقاء باليد للاشرف وتسليم سنجار له والاعتياض عنها بالرقة وبعث رسله إليه بذلك فلحقوه في طريقه من دبيس إلى نصيبين فأجاب إلى ذلك وسلم إليه الرقة وسلم سنجار في مستهل حمادى الاولى سنة سبعة عشر وفارقها عمر فروخ شاه واخوته بأهليهم وأموالهم وسار الاشرف من سنجار إلى الموصل فوصلها تاسع عشر جمادى الاولى من السنة وجاءته رسل الخليفة ومظفر الدين في الصلح ورد ما أخذه عماد الدين من قلاع الموصل إلى لؤلؤ ما عدا العمادية وطال الحديث في ذلك ورحل الاشرف يريد اربل ثم شفع عنده صاحب كيفا وغيره من بطانته وأنهوا إليه العساكر فأجاب إلى هذا الصلح وفسح لهم في تسليم القلاع إلى مدة ضربوها وسار عماد الدين مع الاشرف حتى يتم تسليم الباقي ورحل الاشرف عن الموصل ثانى رمضان وبعث لؤلؤ نوابه إلى(5/348)
القلاع فامتنع جندها من تسليمها إليهم وانقضى الاجل واستمال عماد الدين زنكى شهاب الدين غازى أخا الاشرف فاستعطف له أخاه فأطلقه ورد عليه قلعة العقر وسوس وسلم لؤلؤ قلعة تل اعفر كما كانت من أعمال سنجار والله تعالى أعلم * (ارتحاع دمياط من يد الافرنج) * ولما ملك الافرنج دمياط أقبلوا على تحصينها ورجع الكامل إلى مصر وعسكر بأطراف الديار المصرية مسلحة عليها منهم وبنى المنصورة بعد المنزلة وأقام كذلك سنين وبلغ الافرنج وراء البحر فتحها واستيلاء اخوانهم عليها فلهجوا بذلك وتوالت امدادهم في كل وقت إليها والكامل مقيم بمكانه وتواترت الاخبار بظهور التتر ووصولهم إلى اذربيجان واران وأصبح المسلمون بمصر والشأم على تخوف من سائر جهاتهم واستنجد الكامل بأخيه المعظم صاحب دمشق وأخيه الاشرف صاحب الجزيرة وارمينية وسار المعظم إلى الاشرف يستحثه للوصول فوجده في شغل بالفتنة التى ذكرناها فعاد عنه إلى أن انقضت تلك الفتنة ثم تقدم الافرنج من دمياط بعساكرهم إلى جهة مصر وأعاد الكامل خطابه اليهما سنة ثمانى عشرة يستنجدهما وسار المعظم إلى الاشرف يستحثه فجاء معه إلى دمشق وسار منها إلى مصر ومعه عساكر حلب والناصر صاحب حماة وشيركوه صاحب حمص والامجد صاحب بعلبك فوجدوا الكامل على بحر اشمون وقد سار الافرنج من دمياط بجموعهم ونزلوا قبالته بعدوة النيل وهم يرمون على معسكره بالمجانيق والناس قد أشفقوا من الافرنج على الديار المصرية فسار الكامل وبقى أخوه الاشرف بمصر وجاء المعظم بعد الاشرف وقصد دمياط يسابق الافرنج ونزل الكامل والاشرف وظفرت شوانى المسلمين بثلاث قطع من شوانى الافرنج فغنموها بما فيها ثم ترددت الرسل بينهم في تسليم دمياط على أن يأخذوا القدس وعسقلان وطبرية وصيدا وجبلة واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين غير الكرك فاشتطوا واشترطوا اعادة الكرك والشويك وزيادة ثلثمائة ألف دينار لرم أسوار القدس التى خربها
المعظم والكامل فرجع المسلمون إلى قتالهم وافتقد الافرنج الاقوات لانهم لم يحملوها من دمياط ظنا بأنهم غالبون على السواد وميرته بأيديهم فبدا لهم ما لم يحتسبوا ثم فجر المسلمون النيل إلى العدوة التى كانوا عليها فركبها الماء ولم يبق لهم الا مسلك ضيق ونصب الكامل الجسور عند اشمون فعبرت العساكر عليها وملكوا ذلك المسلك وحالوا بين الافرنج وبين دمياط ووصل إليهم مركب مشحون بالمدد من الميرة والسلاح ومعه حراقات فخرجت عليها شوانى المسلمين وهى في تلك الحال فغنموها بما فيها واشتد الحال عليهم في معسكرهم وأحاطت بهم عساكر المسلمين وهم في تلك الحال يقاتلونهم(5/349)
ويتخطفونهم من كل جانب فأحرقوا خيامهم ومجانيقهم وأرادوا الاستماتة في العود فرأوا ما حال بينهم وبينها من الرجل فاستأمنوا إلى الكامل والاشرف على تسليم دمياط من غير عوض وبينما هم في ذلك وصل المعظم صاحب دمشق من جهة دمياط كما مر فازدادوا وهنا وخذلانا وسلموا دمياط منتصف سنة ثمان عشرة وأعطوا عشرين ملكا منهم رهنا عليها وأرسلوا الاقسة والرهبان منهم إلى دمياط فسلموها للمسلمين وكان يوما مشهودا ووصلهم بعد تسليمها مدد من وراء البحر فلم يغن عنهم ودخلها المسلمون وقد حصنها الافرنج فأصبحت من أمنع حصون الاسلام والله تعالى أعلم * (وفاة الاوحد نجم الدين بن العادل صاحب خلاط وولاية أخيه الظاهر غازى عليها) * قد تقدم لنا أن الاوحد نجم الدين بن العادل ملك ميافارقين وبعدها خلاط وارمينية سنة ثلاث وستمائة ثم توفى سنة سبع فأقطع العادل ما كان بيده من الاعمال لاخيه الاشرف ثم أقطع العادل ابنه الظاهر غازى سنة ست عشرة سروج والرها وما إليها ولما توفى العادل واستقل ولده الاشرف بالبلاد الشرقية عقد لاخيه غازى على خلاط وميافارقين مضافا إلى ولايته من أبيه العادل وهو سروج والرها وجعله ولى عهده لانه كان عاقرا لا يولد له وأقام على ذلك إلى أن انتقض على الاشرف عندما حدثت
الفتنة بين بنى العادل فانتزع أكثر الاعمال منه كما نذكره ان شاء الله تعالى * (فتنة المعظم مع أخويه الكامل والاشرف وما دعت إليه من الاحوال) * كان بنو العادل الكامل والاشرف والمعظم لما توفى أبوهم قد اشتغل كل واحد منهم بأعماله التى عهد له أبوه وكان الاشرف والمعظم يرجعان إلى الكامل وفي طاعته ثم تغلب المعظم عيسى على صاحب حماة الناصر بن المنصور بن المظفر وزحف سنة تسع عشرة إلى حماة فحاصرها وامتنعت عليه فسار إلى سلمية والمعرة من أعمالها فملكهما وبعث إليه الكامل صاحب مصر بالنكير والافرنج عن البلد فامتثل وأضغن ذلك عليه وأقطع الكامل سلمية لنزيله المظفر بن المنصور أخى صاحب حماة وكشف المعظم قناعه في فتنة أخويه الكامل والاشرف وأرسل إلى ملوك الشرق يدعوهم إلى المظاهرة عليهما وكان جلال الدين منكبرى بن علاء الدين خوارزم شاه قد رجع من الهند بعد ما غلبه التتر على خوارزم وخراسان وغزنة وعراق العجم وجاز إلى الهند ثم رجع سنة احدى وعشرين وستمائة فاستولى على فارس وغزنة وعراق العجم واذربيجان ونزل توريز وجاور بنى أيوب في أعمالهم فراسله المعظم صاحب دمشق وصالحه واستنجده على أخويه فأجابه ودعا المعظم الظاهر أخا الاشرف وعامله على خلاط والمظفر كوكبرى(5/350)
صاحب إلى ذلك فأجابوه كلهم وانتقض الظاهر غازى على أخيه الاشرف في خلاط وارمينية وأظهر عصيانه في ولايته التى بيده فسار إليه الاشرف سنة احدى وعشرين وغلبه على خلاط فملكها وولى عليها حسام الدين أبا على الموصلي كان أصله من الموصل واستخدم للاشرف وترقى في خدمته إلى أن ولاه خلاط وعفا الاشرف عن أخيه الظاهر غازى وأقره على ميافارقين وسار المظفر صاحب اربل ولؤلؤ صاحبها في طاعة الاشرف فحاصرها وامتنعت عليه ورجع عنها وسار المعظم بنفسه من دمشق إلى حمص وصاحبها شيركوه بن محمد بن شيركوه في طاعة الكامل فحاصرها وامتنعت
عليه ورجع إلى دمشق ثم سار الاشرف إلى المعظم طالبا للصلح فأمسكه عنده على أن ينحرف عن طاعة الكامل وانطلق إلى بلده فاستمر على شأنه ثم زحف جلال الدين صاحب اذربيجان سنة أربع وعشرين إلى خلاط فحاصرها مرة بعد مرة وأفرج عنها فسار حسام الدين نائبها إلى بلاد جلال الدين وملك حصونها واضطرب الحال بينهم وخشى الكامل مغبة الامر مع المعظم بممالاته لجلال الدين والخوارزمية فاستنجد هو بالافرنج وكاتب الانبراطور ملكهم من وراء البحر يستحثه للقدوم على عكا في صريخه على أن ينزل له عن القدس وبلغ ذلك إلى المعظم فخشى العواقب وأقصر عن فتنته وكتب إليه يستعطفه والله تعالى أعلم [ وفاة المعظم صاحب دمشق وولاية ابنه الناصر ثم استيلاء الاشرف عليها واعتياض الناصر بالكرك ] ثم توفى المعظم بن العادل صاحب دمشق سنة أربع وعشرين وولى مكانه ابنه داود ولقب بالناصر وقام بتدبير ملكه عز الدين اتابك خادم أبيه وجرى على سنن المعظم أولا في طاعة الكامل والخطبة له ثم انتقض سنة خمس وعشرين عندما طالبه الكامل بالنزول له عن حصن الشويك فامتنع وانتقض وسار الكامل إليه في العساكر فانتهى إلى غزة وانتزع القدس ونابلس من أيديهم وولى عليها من قبله واستنجد الناصر عمه الاشرف فجاءه إلى دمشق وخرج منها إلى نابلس ثم تقدم منها إلى الكامل ليصلح أمر الناصر معه فدعاه الكامل إلى انتزاع دمشق من الناصر له وأقطعه اياها فلم يجب الناصر إلى ذلك وعاد إلى دمشق فحاصره الاشرف ثم صالح الكامل ملك الافرنج ليفرغ لامر دمشق عن الشواغل وأمكنهم من القدس على أن يخرب سورها فاستولوا عليها كذلك وزحف الكامل إلى دمشق سنة ست وعشرين فحاصرها مع الاشرف وخاف الحصار بالناصر فنزل لهما عنها على أن يستقل بالكرك والشويك والبلقاء فسلموا له في ذلك وسار إليها واستولى الاشرف على دمشق ونزل للكامل عن أعماله وهى(5/351)
حران والرها وما اليهما وبمكانهما من حصار دمشق ووصل الخبر إلى الكامل بوفاة ابنه المسعود صاحب اليمن وقد مر خبره والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده * (استيلاء المظفر بن المنصور على حماة من يد أخيه الناصر) * ولما ملك لكامل دمشق شرع في انجاد نزيله المظفر محمود بن المنصور صاحب حماة وبها أخوه الناصر وقد كاتبه بعض أهل البلد يستدعونه لملكها فجهزه بالعساكر وسار إليها فحاصرها ودس لمن كاتبه من أهلها فأجابوه وواعدوه ليلا فطرقها وتسورها وملكها وكتب إليه الكامل أن يقطع الناصر قلعة ماردين فأقطعه اياها وانتزع الكامل منه سلمية وأقطعها لصاحب حمص شيركوه بن محمد بن شيركوه واستقل المظفر محمود بملك حماة وفوض أمور دولته إلى حسام الدين على بن أبى على الهدبانى فقام بها ثم استوحش منه فلحق بأبيه نجم الدين أيوب ولم تزل ماردين بيد الناصر أخى المظفر إلى سنة ثلاثين فهم الناصر بأن يملكها للافرنج وشكا المظفر بذلك للكامل فأمره بانتزاعها منه ثم اعتقله الكامل إلى أن هلك سنة خمس وثلاثين انتهى والله أعلم * (استيلاء الاشرف على بعلبك من يد الامجد واقطاعها لاخيه اسمعيل بن العادل) * كان السلطان صلاح الدين قد أقطع الامجد بهرام شاه بن فرخنشاه أخى تقى الدين عمر ابن شاهنشاه بن أيوب قلعة بعلبك وكانت بصرى لخضر ثم صارت بعد وفاة العادل لابنه الاشرف وعليها أخوه اسمعيل بن العادل فجهزه سنة ست وعشرين إلى بعلبك وحاصر بها الامجد حتى تسلمها منه على اقطاع أقطعه اياه وسار اسمعيل إلى دمشق فنزلها إلى أن قتلته مواليه والله سبحانه وتعالى أعلم * (فتنة جلال الدين خوارزم شاه مع الاشرف واستيلاؤه على خلاط) * قد كنا قدمنا أن جلال الدين خوارزم شاه ملك اذربيجان وجاور أعمال بنى أيوب وكان الاشرف قد ولى على خلاط لما انتزعها من يد أخيه غازى الدين سنة اثنتين وعشرين
حسام الدين أبا على الموصلي ثم صالح المعظم جلال الدين خوارزم شاه ودعاه إلى الفتنة مع أخويه كما قدمناه فزحف جلال الدين خوارزم شاه إلى خلاط وحاصرها مرتين ورجع عنها فسار حسام الدين إلى بلده وملك بعض حصونه وداخل زوجته التى كانت زوجة ازبك بن البهلوان وكانت مقيمة بخوا وهجرها جلال الدين وقطع عنها ما كانت تعتاده من التحكم في الدولة مع زوجها قبله فدست إلى حسام الدين نائب خلاط واستدعته هي وأهل خوا ليملكوه البلاد فسار وملك خوا وما فيها من الحصون ومدينة قرند وكاتبه أهل بقجوان وملكوه بلدهم وعاد إلى خلاط ونقل معه(5/352)
زوجة جلال الدين وهى بنت السلطان طغرل فامتعض جلال الدين لذلك ثم ارتاب الاشرف بحسام الدين نائب خلاط وأرسل أكبر أمرائه عز الدين ايبك فقبض على حسام الدين وكان عدوا له وقتله غيلة وهرب مولاه فلحق بجلال الدين ثم زحف جلال الدين في شوال سنة ست وعشرين إلى خلاط فحاصرها ونصب عليها المجانيق وقطع عنها الميرة مدة ثمانية أشهر ثم ألح عليها بالقتال وملكها عنوة آخر جمادى الاولى من سنة سبع وعشرين وامتنع ايبك وحاميتها بالقلعة واستماتوا واستباح جلال الدين مدينة خلاط وعاث فيها بما لم يسمع بمثله ثم تغلب على القلعة وأسرايبك نائب خلاط فدفعه إلى مولى حسام الدين نائبها قبله فقتله بيده والله تعالى أعلم * (مسير الكامل في انجاد الاشرف وهزيمة جلال الدين أمام الاشرف ولما استولى جلال الدين على خلاط سار الاشرف من دمشق إلى أخيه الكامل بمصر يستنجده فسار معه وولى على مصر ابنه العادل ولقيه في طريقه صاحب الكرك الناصر بن المعظم وصاحب حماة المظفر بن المنصور وسائر بنى أيوب وانتهى إلى سلمية وكلهم في طاعته ثم سار إلى آمد فملكها من يد مسعود بن محمد بن الصالح بن محمد بن قرا ارسلان بن سقمان بن ارتق وكان صلاح الدين أقطعه اياها عندما ملكها من ابن
نعشان فلما نزل إليه اعتقله وملك آمد ثم انطلق بعد وفاة الكامل من الاعتقال ولحق بالتتر ثم استولى الكامل على البلاد الشرقية التى نزل له عنها الاشرف عوضا عن دمشق وهى حران والرها وما اليهما ولما تسلمها ولى عليها ابنه الصالح نجم الدين أيوب وكان جلال الدين لما ملك خلاط حضر معه صاحب ارزن الروم فاغتم لذلك علاء الدين كيقباد ملك بلاد الروم لما بينه وبين صاحب ارزن من العداوة والقرابة وخشيهما على ملكه فبعث إلى الكامل والاشرف بحران يستنجدهما ويستحث الاشرف للوصول فجمع عساكر الجزيرة والشأم وسار إلى علاء الدين فاجتمع معه بسيواس وسار نحو خلاط وسار جلال الدين للقائهما والتقوا بأعمال ارزنكان وتقدم عسكر حلب للقتال ومقدمهم عز الدين عمر بن على الهكارى من أعظم الشجعان فلم يثبت لهم مصاف جلال الدين وانهزم إلى خلاط فأخرج حاميته منها ولحق باذربيجان ووقف الاشرف على خلاط وهى خاوية وكان صاحب ارزن الروم مع جلال الدين فجى به أسيرا إلى ابن عمه علاء الدين صاحب بلاد الروم فسار به إلى ارزن وسلمها له وما يتبعها من القلاع ثم ترددت الرسل بينهم وبين جلال الدين في الصلح فاصطلحوا كل على ما بيده وتحالفوا وعاد الاشرف إلى سنجار وسار أخوه غازى صاحب ميافارقين فحاصر مدينة ارزن من ديار بكر وكان حاضرا مع الاشرف في هذه الحروب وأسره جلال الدين ثم أطلقه بعد(5/353)
ان أخذ عليه العهد في طاعته فسار إليه شهاب الدين غازى وحاصره وملك منه ارزن صلحا وأعطاه عنها مدينة جانى من ديار بكر وكان اسمه حسام الدين وكان من بيت عريق في الملك يعرفون ببنى الاحدب أقطعها لهم السلطان ملك شاه والله تعالى أعلم * (استيلاء العزيز صاحب حلب على شيزر ثم وفاته وولاية ابنه الناصر بعده) * كان سابق الدين عثمان بن الداية من أمراء الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي واعتقله ابنه الصالح اسمعيل فنكر عليه صلاح الدين ذلك وسار ببنيه إلى دمشق
فملكها وأقطع سابق الدين شيزر فلم تزل له ولبنيه إلى أن استقرت لشهاب الدين يوسف ابن مسعود بن سابق الدين فسار إليه صاحب حلب محمد بن العزيز بن الغازى الظاهر بأمر الكامل سنة ثلاثين وستمائة وملكها من يده ثم هلك سنة أربع وثلاثين وملك في حلب مكانه ابنه الناصر يوسف في كفالة جدته لابيه صفية خاتون بنت العادل واستولى على الدولة شمس الدين لؤلؤ الارمني وعز الدين المجلى واقبال الخاتونى وكلهم في تصريفها والله تعالى ينصر من يشاء من عباده * (فتنة كيقباد صاحب بلاد الروم واستيلاؤه على خلاط) * كان كيقباد بن كيكاوس صاحب بلاد الروم قد استفحل ملكه بها ومديده إلى ما يجاورها من البلاد فملك خلاط بعد ان دفع عنها مع الاشرف جلال الدين شاه كما قدمناه ونازعه الاشرف في ذلك واستنجد بأخيه الكامل فسار بالعساكر من مصر سنة احدى وثلاثين وسار معه الملوك من أهل بيته وانتهى إلى النهر الازرق من تخوم الروم وبعث في مقدمته المظفر صاحب حماة من أهل بيته فلقيه كيقباد وهزمه وحصره في خرت برت وتخاذل عن الحرب ثم أستأمن المظفر صاحب حماة إلى كيقباد فامنه وملك خرت برت وكان لبنى ارتق ورجع الكامل بالعساكر إلى مصر سنة ثنتين وثلاثين وكيقباد في اتباعهم ثم سار إلى حران والرها فملكها من يد نواب الكامل وولى عليها من قبله وسار الكامل سنة ثلاث وثلاثين والله أعلم * (وفاة الاشرف بن العادل واستيلاء الكامل على ممالكه) * كان الاشرف سنة أربع وثلاثين قد استوحش من أخيه الكامل ونقض طاعته ومالاه على ذلك أهل حلب وكنجسر وصاحب بلاد الروم وجميع ملوك الشأم من قرابتهما غير الناصر بن المعظم صاحب الكرك فانه أقام على طاعة الكامل وسار إليه بمصر فتلقاه بالمبرة والتكرمة ثم هلك الاشرف خلال ذلك سنة خمس وثلاثين وعهد(5/354)
بملك دمشق لاخيه الصالح اسمعيل صاحب بصرى فسار ليها وملكها وبقى الملوك في وفاقه على الكامل كما كانوا على عهد الاشرف الا المظفر صاحب حماة فانه عدل عنهم إلى الكامل وسار الكامل إلى دمشق فحاصرها وضيق عليها حتى تسلمها صلحا من الصالح وعوضه عنها بعلبك واستولى على سائر أعمال الاشرف ودخل سائر بنى أيوب في طاعته والله أعلم [ وفاة الكامل وولاية ابنه العادل بمصر واستيلاء ابنه الآخر نجم الدين أيوب على دمشق ] ثم توفى الكامل بن العادل صاحب دمشق ومصر والجزيرة سنة خمس وثلاثين بدمشق لستة أشهر من وفاة أخيه الاشرف فانفض الملوك راجعين كل إلى بلاده المظفر إلى حماة والناصر إلى الكرك وبويع بمصر ابنه العادل أبو بكر فنصب العساكر بدمشق الجواد يونس ابن عمه مودود بن العادل نائبا عنه وسار للناصر داود إلى دمشق ليملكها فبرز إليه الجواد يونس وهزمه وتمكن في ملك دمشق وخلع طاعة العادل بن الكامل وراسل الصالح أيوب في أن يملكه دمشق وينزل له الصالح عن البلاد الشرقية التى ولاه أبوه عليها فسار الصالح لذلك سنة ست وثلاثين وملك دمشق وسار يونس إلى البلاد الشرقية فاستولى عليها ولم تزل بيده إلى ان زحف إليه لؤلؤ صاحب الموصل وغلبه عليها واستقرت دمشق في يد الصالح ولما أخذ لؤلؤ البلاد من يونس الجواد سار عن القفر إلى غزة فمنعه الصالح من الدخول إليها فدخل إلى الافرنج بعكا وباعوه من الصالح اسمعيل صاحب دمشق فاعتقله وقتله انتهى والله أعلم * (أخبار الخوارزميه) * ثم زحف التتر إلى اذربيجان واستولوا على جلال الدين وقتلوه سنة ثمان وعشرين وانفض أصحابه وذهبوا في كل ناحية وسار جمهورهم إلى بلاد الروم فنزلوا على علاء الدين كيقباد ملكها حتى إذا مات وملك ابنه كنجسرو ارتاب بهم وقبض على أمرائهم
وانفض الباقون عنه وعاثوا في الجهات فاستأذن الصالح أيوب صاحب سنجار وما إليها أباه الكامل صاحب مصر في استخدامهم ليحسم عن البلاد ضررهم فاجتمعوا عنده وأفاض فيهم الارزاق ولما توفى الكامل سنة خمس وثلاثين انتقضوا عن الصلح وخرجوا فاكتسحوا لنواحي وسار لؤلؤ إلى سنجار فحاصر الصالح فبعث الصالح الخوارزمية فاستمالهم وأقطعهم حران والرها ولقى بهم لؤلؤا فهزمه وغنم معسكره والله تعالى أعلم(5/355)
* (مسير الصالح إلى مصر واعتقال الناصر له بالكرك) * لما ملك العادل بمصر بعد أبيه اضطرب عليه أهل الدولة وبلغهم استيلاء أخيه الصالح على دمشق فاستدعوه ليملكوه فبعث عن عمه الصالح اسمعيل من بعلبك ليسير معه فاعتذر عن الوصول وسار الصالح أيوب وولى على دمشق ابنه المغيث فتح الدين عمر ولما فصل عن دمشق خالفه إليها عمه الصالح اسمعيل فملكها ومعه شيركوه صاحب حمص وقبض على المغيث فتح الدين بن الصالح أيوب وبلغ الخبر إليه وهو بنابلس فانفضت عنه العساكر ودخل نابلس وجاءه الناصر داود من الكرك فقبض عليه واعتقله وبعث فيه أخوه العادل فامتنع من تسليمه إليه ثم قصد داود القدس فملكها من يد الافرنج وخرب القلعة والله تعالى ولى التوفيق * (وفاة شيركوه صاحب مصر وولاية ابنه ابراهيم المنصور) * ثم توفى المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص سنة ست وثلاثين وكانت ولايته أول المائة السابعة وولى من بعده ابنه ابراهيم ويلقب بالمنصور والله أعلم * (خلع العادل واعتقاله واستيلاء أخيه الصالح أيوب على مصر) * ولما رجع الناصر داود من فتح القدس أطلق الصالح نجم الدين أيوب من الاعتقال فاجتمعت إليه مواليه واتصل اضطراب أهل الدولة بمصر على أخيه العادل فكاتبوا الصالح واستدعوه ليملكوه فسار معه الناصر داود وانتهى إلى غزة وبرز العادل
إلى بلبيس وكتب إلى عمه الصالح بدمشق يستنجده على أخيه أيوب فسار من دمشق وانتهى إلى الغور ثم وثب بالعادل في معسكره مواليه ومقدمهم ايبك الاسمر وقبضوا عليه وبعثوا إلى الملك الصالح فجاء ومعه الناصر داود صاحب الكرك فدخل القلعة سنة سبع وثلاثين واستقر في ملكه وارتاب منه الناصر داود فلحق بالكرك واستوحش من الامراء الذين وثبوا بأخيه فاعتقلهم وفيهم ايبك الاسمر وذلك سنة ثمان وثلاثين وحبس أخاه العادل إلى أن هلك في محبسه سنة خمس وأربعين ثم اختط قلعة بين سعى النيل ازاء المقياس واتخذها مسكنا وأنزل بها حامية من مواليه فكانوا يعرفون بالبحرية آخر أيامهم انتهى والله أعلم * (فتنة الخوارزمية) * ثم كثر عيث الخوارزمية بالبلاد المشرقية وعبروا الفرات وقصدوا حلب فبرزت إليهم عساكرها مع المعظم تورانشاه بن صلاح الدين فهزموه وأسروه وقتلوا الصالح بن(5/356)
الافضل صاحب سميساط وكان في جملته وملكوا منبج عنوة ورجعوا ثم ساروا من حران وعبروا من ناحية الرقة وعاثوا في البلاد وجمع أهل حلب العساكر وأمدهم الصالح اسمعيل من دمشق بعسكر مع المنصور ابراهيم صاحب حمص وقصدوا الخوارزمية فانقلبوا إلى حران ثم تواقعوا مع العساكر فانهزموا واستولى عسكر حلب على حران والرها وسروج والرقة وراس عين وما إليها وخلص المعظم تورانشاه فبعث به لؤلؤ صاحب الموصل إلى عسكر حلب ثم سار عسكر حلب إلى آمد وحاصروا المعظم تورانشاه وغلبوه على آمد وأقام بحصن كيفا إلى أن هلك أبوه بمصر واستدعى هو لملكها فسار لذلك وولى ابنه الموحد عبد الله بكيفا إلى أن غلب التتر على بلاد الشأم ثم سار الخوارزمية سنة أربعين مع المظفر غازى صاحب ميافارقين من أقتال صاحب حلب ومعهم المنصور ابراهيم صاحب حمص فانهزموا وغنمت العساكر سوادهم والله سبحانه وتعالى أعلم
* (أخبار حلب) * قد كان تقدم لنا ولاية الظاهر غازى على حلب بعد وفاة أبيه ثم توفى سنة أربع وثلاثين ونصب أهل الدولة ابنه الناصر يوسف في كفالة جدته أم العزيز صفية خاتون بنت العادل ولؤلؤ الارمني واقبال الخاتونى وعز الدين بن مجلى قائمون بالدولة في تصريفها وما زالت تجهز العساكر لدفاع الخوارزمية وتفتح البلاد إلى أن توفيت سنة أربعين واستقل الناصر بتدبير ملكه وصرف النظر في اموره لجمال الدين اقبال الخاتونى والله أعلم * (فتنة الصالح أيوب مع عمه الصالح اسمعيل على دمشق واستيلاء أيوب آخرا عليها) * قد كان تقدم لنا أن الصالح اسمعيل بن العادل خالف الصالح أيوب على دمشق عند مسيره إلى مصر فملك دمشق سنة ست وثلاثين وكان بعد ذلك اعتقال الصالح بالكرك ثم استيلاؤه على مصر سنة سبع وثلاثين وبقبت الفتنة متصلة بينهما وطلب الصالح اسمعيل صاحب دمشق من الافرنج المظاهرة على أيوب صاحب مصر على أن يعطيهم حصن الشقيف وصفد فأمضى ذلك ونكره مشيخة العلماء بعصره وخرج من دمشق عز الدين بن عبد السلام الشافعي ولحق بمصر فولاه الصالح خطة القضاء بها ثم خرج بعده جمال الدين بن الحاجب المالكى إلى الكرك ولحق بالاسكندرية فمات بها ثم تداعى ملوك الشأم لفتنة الصالح أيوب واتفق عليها اسمعيل الصالح صاحب دمشق والناصر يوسف صاحب حلب وجدته صفية خاتون وابراهيم المنصور بن شيركوه صاحب حمص وخالفهم المظفر صاحب حماة وجنح إلى ولاية نجم الدين أيوب وأقام حالهم(5/357)
في الفتنة على ذلك ثم جنحوا إلى الصلح على أن يطلق صاحب دمشق فتح الدين عمر بن نجم الدين أيوب الذى اعتقله بدمشق فلم يحب إلى ذلك واستجدت الفتنة وسار الناصر داود صاحب الكرك مع اسمعيل الصالح صاحب دمشق واستظهروا بالافرنج
وأعطاهم اسمعيل القدس على ذلك واستنجد بالخوارزمية أيضا فأجابوه واجتمعوا بغزة وبعث نجم الدين العساكر مع مولاه بيبرس وكانت له ذمة باعتقاله معه فتلاقوا مع الخوارزمية وجاءت عساكر مصر مع المنصور ابراهيم بن شيركوه ولاقوا الافرنج من عكا فكان الظفر لعساكر مصر والخوارزمية واتبعوهم إلى دمشق وحاصروا بها الصالح اسمعيل إلى أن جهده الحصار وسأل في الصلح على أن يعوض عن دمشق ببعلبك وبصرى والسواد فأجابه أيوب إلى ذلك وخرج اسمعيل من دمشق إلى بعلبك سنة ثمان وأربعين وبعث نجم الدين إلى حسام الدين على بن أبى على الهدبانى وكان معتقلا عند اسمعيل بدمشق فشرط نجم الدين اطلاقه في الصلح الاول فأطلقه وبعث إليه بالنيابة عنه بدمشق فقام بها وانصرف ابراهيم المنصور إلى حمص وانتزع صاحب حماة منه سلمية فملكها واشتط الخوارزمية على الهدبانى في دمشق في الولايات والاقطاعات وامتعضوا لذلك فسار بهم الصالح اسماعيل إلى دمشق موصلا لكرة ومعه الناصر صاحب الكرك فقام الهدباني في دفاعهم أحسن قيام وبعث نجم الدين من مصر إلى يوسف الناصر يستنجده على دفع الخوارزمية عن دمشق فسار في عساكره ومعه ابراهيم بن شيركوه صاحب حمص فهزموا الخوارزمية على دمشق سنة أربع وأربعين وقتل مقدمهم حسام الدين بركت خان وذهب بقيتهم مع مقدمهم الآخر كشلوخان فلحقوا بالنتر واندرجوا في جملتهم وذهب أثرهم من الشأم واستجار اسمعيل الصالح وكان معهم بالناصر صاحب حلب فأجاره من نجم الدين أيوب وسار حسام الدين الهدبانى بعساكر دمشق إلى بعلبك وتسلمها بالامان وبعث بأولاد اسمعيل ووزيره ناصر الدين يغمور إلى نجم الدين أيوب فاعتقلهم بمصر وسارت عساكر الناصر يوسف صاحب حلب إلى الجزيرة فتواقعوا مع لؤلؤ صاحب الموصل فانهزم لؤلؤ وملك الناصر نصيبين ودارا وقرقيسيا وعاد عسكره إلى حلب والله تعالى أعلم [ مسير الصالح أيوب إلى دمشق أولا وثانيا وحصار
حمص وما كان مع ذلك من الاحداث ] ثم بعث الصالح عن حسام الدين الهدبانى من دمشق وولى مكانه عليها جمال الدين بن مطروح ثم سار إلى دمشق سنة خمس وأربعين واستخلف الهدبانى على مصر ولما وصل إلى دمشق جهز فخر الدين بن الشيخ بالعساكر إلى عسقلان وطبرية فحاصرهما مدة(5/358)
وفتحهما من يد الافرنج ووفد على الصالح بدمشق المنصور صاحب حماة وكان أبوه المظفر توفى سنة ثلاث وأربعين وولى المنصور ابنه هذا واسمه محمد ووفد أيضا الاشرف موسى صاحب حمص وقد كان أبوه ابراهيم المنصور توفى سنة أربع وأربعين قبلها بدمشق وهو ذاهب إلى مصر وافدا على الصالح أيوب واقام بحمص ابنه مظفر الدين موسى ولقب الاشرف وجاءت عساكر حلب سنة ست وأربعين مع لؤلؤ الارمني وحصروا مصر شهرين وملكوها من يد موسى الاشرف وأعاضوه عنها تل باشر من قلاع حلب مضافة إلى الرحبة وتدمر وكانتا بيده مع حمص وغضب لذلك الصالح فسار من مصر إلى دمشق وجهز العساكر إلى حصار حمص مع حسام الدين الهدبانى وفخر الدين بن الشيخ فحاصروا مصر مدة وجاء رسول الخليفة المستعصم إلى الصالح أيوب شافعا فافرج العساكر عنها وولى على دمشق جمال الدين يغمور وعزل ابن مطروح والله تعالى أعلم * (استيلاء الافرنج على دمياط) * كانت افرنسة أمة عظيمة من الافرنج والظاهر أنهم أصل الافرنج وان افرنسة هي فرنجة انقلبت السين بها جيما عندما عربتها العرب وكان ملكها من أعظم ملوكهم لذلك العصر ويسمونه رى الافرنس ومعنى رى في لغتهم ملك افرنس فاعتزم هذا الملك على سواحل الشأم وسار لدلك كما سار من قبله من ملوكهم وكان ملكه قد استفحل فركب لبحر إلى قبرس في خمسين الف مقاتل وشتى بها ثم عبر سنة سبع وأربعين إلى دمياط وبها
بنو كنانة أنزلهم الصالح بها حامية فلما رأوا ما لا قبل لهم به اجفلوا عنها فملكها رى افرنس وبلغ الخبر إلى الصالح وهو بدمشق وعساكره نازلة بحمص فكر راجعا إلى مصر وقدم فخر الدين ابن الشيخ أتابك عساكره ووصل بعده فنزل المنصورة وقد أصابه بالطريق واشتد عليه والله تعالى أعلم * (استيلاء الصالح على الكرك) * كان بين الصالح أيوب وبين الناصر داود ابن عمه المعظم من العداوة ما تقدم وقد كرنا اعتقال الناصر له بالكرك فلما ملك الصالح دمشق بعث العساكر مع اتابكه فخر الدين يوسف ابن الشيخ لحصار الكرك وكان أخوه العادل اعتقله وأطلقه الصالح ألزمه بيته ثم جهزه لحصار الكرك فسار إليها سنة أربع وأربعين وحاصرها وملك سائر أعمالها وخرب نواحيها وسار الناصر من الكرك إلى الناصر يوسف صاحب طب مستجيرا به بعد أن بعث بذخيرته إلى المستعصم وكتب له خطه بوصولها وكان(5/359)
قد استخلف على الكرك عندما سار إلى حلب ابنه الاصغر عيسى ولقبه المعظم فغضب أخواه الاكبر ان الامجد حسن والظاهر شادى فقبضا على أخيهما عيسى ووفدا على الصالح سنة ست وأربعين وهو بالمنصورة قبالة الافرنج فملك الكرك والشوبك منهما وولى عليهما بدرا الصواى واقطعهما بالديار المصرية والله سبحانه وتعالى أعلم [ وفاة الصالح أيوب صاحب مصر والشأم وسيد ملوك الترك بمصر وولاية ابنه تورانشاه وهزيمة الافرنج وأسر ملكهم ] ثم توفى الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل سنة سبع وأربعين بمكانه من المنصور قبالة الافرنج وخشى أهل الدولة من الافرنج فكتموا موته وقامت أم ولده شجر الدن بالامر وجمعت الامراء وسيروا بالخبر إلى حسام الدين الهدبانى بمصر فجمع الامرا وقوى جاشهم واستحلفهم وارسل الاتابك فخر الدين بن الشيخ بالخبر إلى المعظم
تورانشاه بن الصالح واستدعاه من مكان امارته بحصن كيفا ثم انتشر خبر الوفاة وبلغ الافرنج فشرهوا إلى قتال المسلمين ودلفوا إلى المعسكر فانكشف المسلمون وقتل الاتابك فخر الدين ثم أناح الله الكرة للمسلمين وانهزم الافرنج ووصل المعظم تورانشاه من مكانه بحصن كيفا لثلاثة أشهر أو تزيد فبايعه المسلمون واجتمعوا عليه واشتدوا في قتال الافرنج وغلبت أساطيلهم أساطيل العدو وسأل الافرنج في الافراج عن دمياه على أن يعاضوا بالقدس فلم يجبهم المسلمون إلى ذلك وسارت سرايا المسلمين من حولها وفيما بين معسكرهم وبين دمياط فرحلوا راجعين إليها واتبعهم المسلمون فأدركهم الدهش وانهزموا وأسر ملكهم رى افرنس وهو المعروف بالفرنسيس وقتل منهم أكثر من ثلاثين ألفا واعتقل الفرنسيس بالدار المعروفة بفخر الدين بن لقمان ووكل الخادم صبيح المعظمى ثم رحل المعظم بعساكر المسلمين راجعا إلى مصر والله تعالى أعلم * (مقتل المعظم تورانشاه وولاية شجر الدر وفداء الفرنسيس بدمياط) * ولما بويع المعظم تورانشاه وكانت له بطانة من المماليك جاء بهم من كيفا فتسلطوا على موالى أبيه وتقسموهم بين النكبة والاهمال وكان للصالح جماعة من الموالى وهم البحرية الذين كان ينزلهم بالدار التى بناها ازاء المقياس وكانوا بطانته وخالصته وكان كبيرهم بيبرس وهو الذى كان الصالح بعثه بالعساكر لقتال الخوارزمية عندما زحفوا مع عمه الصالح اسمعيل صاحب دمشق وقد مر ذكر ذلك فصارت طاغيته معهم استمالهم الصالح قصاروا معه وزحفوا مع عساكره إلى عساكر دمشق والافرنج(5/360)
فهزموهم وحاصروا دمشق وملكوها بدعوة الصالح كما مر واستوحش بيبرس حتى بعث إليه الصالح بالامان سنة أربع واربعين ولحقه بمصر فحبسه على ما كان منه ثم أطلقه وكان من خواص الصالح أيضا قلاون الصالحي كان من موالى علاء الدين قراسنقر مملوك
العادل وتوفى سنة خمس وأربعين وورثه الصالح بحكم الولاء ومنهم اقطاى الجامدار وايبك التركماني وغيرهم فأنفوا من استعلاء بطانة المعظم تورانشاه عليهم وتحكمهم فيهم فاعصو صبووا واعتزموا على الفتك بالمعظم ورحل من المنصورة بعد هزيمة الافرنج راجعا إلى مصر فلما قربت له الحراقة عند البرج ليركب البحر كبسوه بمجلسه وتناوله بيبرس بالسيف فهرب إلى البرج فاضرموه نارا فهرب إلى البحر فرموه بالسهام فألقى نفسه في الماء وهلك بين السيف والماء لشهرين من وصوله وملكه ثم اجتمع هؤلاء الامراء المتولون قتل تورنشاه ونصبوا للملك أم خليل شجر الدر زوجة الصالح وأم ولده خليل المتوفى في حياته وبه كانت تلقب وخطب لها على المنابر وضربت السكة باسمها ووضعت علامتها على المراسم وكان نص علامتها أم خليل وقدم أتابك على العساكر عز الدين الجاشنكيرايبك التركماني فلما استقرت الدولة طلبهم الفرنسيس في الفداء على تسليم دمياط للمسلمين فاستولوا عليها سنة ثمان وأربعين وركب الفرنسيس البحر إلى عكا وعظم الفتح وأنشد الشعراء في ذلك وتساجلوا ولجمال الدين بن مطروح نائب دمشق أبيات في الواقعة يتداولها الناس لهذا العصر والله تعالى ولى التوفيق وهى قل للفرنسيس إذا جئته * مقال صدق عن قوول فصيح آجرك الله على ما جرى * من قتل عباد يسوع المسيح أتيت مصرا تبتغى ملكها * تحسب أن الزمر بالطبل ريح فساقك الحين إلى ادهم * ضاق بهم في ناظريك الفسيح وكل أصحابك أودعتهم * بسوء تدبيرك بطن الضريح خمسون ألفا لا يرى منهم * الا قتيل أو أسير جريح وفقك الله لامثالها * لعلنا من شركم نستريح ان كان باباكم بذار راضيا * فرب غش قداتى من نصيح
أوصيكم خيرا به انه * لطف من الله اليكم أتيح لو كان ذا رشد على زعمكم * ما كان يستحسن هذا القبيح فقل لهم ان اضمروا عودة * لاخذ ثار أو لقصد قبيح دار ابن لقمان على حالها * والقيد باق والطواشي صبيح(5/361)
والطواشي في لغة أهل المشرق هو الخصى ويسمونه الخادم أيضا والله أعلم [ استيلاء الناصر صاحب حلب على دمشق وبيعة الترك بمصر لموسى الاشرف بن أطسز بن المسعود صاحب اليمن وتراجعهما ثم صلحهما ] ولما قتل المعظم تورانشاه ونصب الامراء بعده شجر الدر زوجة الصالح امتعض لذلك امراء بني أيوب بالشام وكان بدر الصوابى بالكرك والشويك ولاه الصالح عليهما وحبس عنده فتح الدين عمر بن أخيه العادل فاطلقه من محبسه وبايع له وقام بتدبير دولته جمال الدين بن يغمور بدمشق واجتمع مع الامراء القصرية بها على استدعاء الناصر صاحب حلب وتمليكه فسار وملك دمشق واعتقل جماعة من موالى الصالح وبلغ الخبر إلى مصر فخلعوا شجر الدر ونصبوا موسى الاشرف بن مسعود أخي الصالح بن الكامل وهو الذى ملك أخوه أطسز واسمه يوسف باليمن بعد ابيهما مسعود وبايعوا له وأجلسوه على التخت وجعلوا أيبك اتابكه ثم انتقض الترك بغزة ونادوا بطاعة المغيث صاحب الكرك فنادى الترك بمصر بطاعة المستعصم وجددوا البيعة للاشرف واتابكه ثم سار الناصر يوسف بعسكره من دمشق إلى مصر فجهز الامراء العساكر إلى الشام مع اقطاي الجامدار كبير البحرية ويلقب فارس الدين فاجفلت عساكر الشام بين يديه ثم قبض الناصر يوسف صاحب دمشق على الناصر داود لشئ بلغه عنه وحبسه بحمص وبعث عن ملوك بنى أيوب فجاءه موسى الاشرف صاحب حمص والرحبة وتدمر والصالح اسمعيل ابن العادل من بعلبك والمعظم تورانشاة وأخوه نصر الدين ابنا صلاح الدين والامجد
حسام الدين والظاهر شادى ابنا الناصر وداود صاحب الكرك وتقى الدين عباس بن العادل واجتمعوا بدمشق وبعث في مقدمته مولاه لؤلؤ الارمني وخرج ايبك التركماني في العساكر من مصر للقائهم وأفرج عن ولدى الصالح اسمعيل المعتقلين منذ أخذهم الهذبانى من بعلبك ليتهم الناس اباهم ويستريبوا به والتقى الجمعان في العباسية فانكشفت عساكر مصر وسارت عساكر الشأم في اتباعهم وثبت ايبك وهرب إليه جماعة من عساكر الناصر ثم صدق ايبك الحملة على الناصر وسار منهزما وجئ لايبك بلؤلؤ الارمني أسيرا فقتله وأسر اسمعيل الصالح وموسى الاشرف وتورانشاه المعظم وأخوه ولحق المنهزمون من عسكر مصر بالبلد وشعر المتبعون لهم من عساكر الشأم بهزيمة الناصر وراءهم فرجعوا ودخل ايبك إلى القاهرة وحبس بنى أيوب بالقلعة ثم قتل يغمور وزير الصالح اسمعيل المعتقل ببعلبك مع بنيه وقتل الصالح اسمعيل في محبسه ثم جهز الناصر العساكر من دمشق إلى غزة فتواقعوا مع فارس الدين اقطاى مقدم عساكر فهزموهم واستولوا عليها وترددت الرسل(5/362)
بين الناصر وبين الامراء بمصر واصطلحوا سنة خمسين وجعلوا التخم بينهم نهر الاردن ثم اطلق ايبك حسام الدين الهذبانى فسار إلى دمشق وسار في خدمة الناصر وجاءت إلى الناصر شفاعة المستعصم في الناصر داود صاحب الكرك الذى حبس بحمص فافرج عنه ولحق ببغداد ومعه ابناه الامجد والظاهر فمنعه الخليفة من دخولها فطلب وديعته فلم يسعف بها وأقام في أحياء عرية ثم رجع إلى دمشق بشفاعة من المستعصم للناصر وسكن عنده والله تعالى ينصر من يشاء من عباده * (خلع الاشرف بن أطسز واستبداد ايبك وامراء الترك بمصر) * قد تقدم لنا آنفا بيعة امراء التركمان بمصر للاشرف موسى بن يوسف أطسز بن الكامل وانهم خطبوا له وأجلسوه على التخت بعد ان نصبوا للملك ايبك وكان طموحا إلى
الاستبداد وكان اقطاى الجامدار من أمراء البحرية يدافعه عن ذلك ويغض من عنانه منافسة وغيرة فارصد له ايبك ثلاثة من المماليك اغتالوه في بعض سكك القصر وقتلوه سنة اثنتين وخمسين وكانت جماعة البحرية ملتفة عليه فانفضوا ولحقوا بالناصر في دمشق واستبد ايبك بمصر وخلع الاشرف وقطع الخطبة له فكان آخر امراء بنى أيوب بمصر وخطب ايبك لنفسه ثم تزوج شجر الدر أم خليل الملكة قبله فلما وصل البحرية إلى الناصر بدمشق أطمعوه في ملك مصر واستحثوه فتجهز وسار إلى غزة وبرز ايبك بعساكره إلى العباسية فنزل بها وانتقض عليه فتوهموا بالثورة به فارتاب بهم ولحقوا بالناصر ثم ترددت الرسل بين الناصر وايبك فاصطلحوا على أن يكون النخم بينهم العريش وبعث الناصر إلى المستعصم مع وزيره كمال الدين ابن العديم في طلب الخلعة وكان ايبك قد بعث بالهدية والطاعة إلى المستعصم فمطل المستعصم الناصر بالخلعة حتى بعثها إليه سنة خمس وخمسين ثم قتل المعز أيبك قتلته شجر الدر غيلة في الحمام سنة خمس وخمسين غيرة من خطبته بنت لؤلؤ صاحب الموصل فنصبوا مكانه ابنه عليا ولقبوه المنصور وثاروا به من شجر الدر كما نذكره في أخبارهم ان شاء الله تعالى * (مسير المغيث بن العادل صاحب الكرك مع البحرية إلى مصر وانهزامهم) * كان البحرية منذ لحقوا بالناصر بعد مقتل اقطاى الجامدار مقيمين عنده ثم ارتاب بهم وطردهم آخر سنة خمس وخمسين فلحقوا بغزة وكاتبوا المغيث فتح الدين عمر بن العادل بالكرك وقد كنا ذكرنا ان بدرا الصوافى أخرجه من محبسه بالكرك بعد مقتل تورانشاه بمصر وولاه الملك وقام بتدبير دولته وبعث إليه الآن بيبرس البند قدارى(5/363)
مقدم البحرية من غزة يدعوه إلى الملك وبلغ الخبر إلى الناصر بدمشق فجهز العساكر إلى غزة فقاتلوهم وانهزموا إلى الكرك فتلقاهم المغيث وقسم فيهم الاموال واستحثوه
لملك مصر فسار معهم وبرزت عساكر مصر لقتالهم مع قطر مولى ايبك المعز ومواليه فالتقى الفريقان بالعباسية فانهزم المغيث والبحرية إلى الكرك ورجعت العساكر إلى مصر وفي خلال لك أخرج الناصر داود بن المعظم من دمشق حاجا ونادى في الموسم بتوسله إلى المستعصم في وديعته وانصرف مع الحاج إلى العراق فاكرهه المستعصم على براءته من وديعته فكتب وأشهد ولحق بالبرية وبعث إلى الناصر يوسف يستعطفه فأذن له وسكن دمشق ثم رجع مع رسول المستعصم الذى جاء معه إلى الناصر بالخلعة والتقليد فأقام بقرقيسيا حتى يستأذن له الرسول فلم يأذن له فأقام عند أحياء العرب في التيه فقربوا في تقلبهم من الكرك فقبض عليه المغيث صاحب الكرك وحبسه حتى إذا زحف التتر لبغداد بعث عنه المستعصم ليبعثه مع العساكر لمدافعتهم وقد استولى التتر على بغداد فرجع ومات ببعض قرى دمشق بالطاعون سنة ست وخمسين انتهى والله تعالى أعلم * (زحف الناصر صاحب دمشق إلى الكرك وحصارها والقبض على البحرية) * ولما كان من المغيث والبحرية ما قدمناه ورجعوا منهزمين إلى الكرك بعث الناصر عساكره من دمشق إلى البحرية فالتقوا بغزة وانهزمت عساكر الناصر وظفرت البحرية بهم واستفحل أمرهم بالكرك فسار الناصر بنفسه إليهم بالعساكر من دمشق سنة سبع وخمسين وسار معه صاحب حماه المنصور بن المظفر محمود فنزلوا على الكرك وحاصروها وأرسل المغيث إلى الناصر في الصلح فشرط عليه أن يحبس البحرية فأجاب ونمى الخبر إلى بيبرس اميرهم البندقدارى فهرب في جماعة منهم ولحق بالناصر وقبض المغيث على الباقين وبعث بهم إلى الناصر في القيود ورجع الكرك ثم بعث إلى الامراء بمصر وزيره كمال الدين بن العديم يدعوهم إلى الاتفاق إلى مدافعة التتر وفى أيام مقدم ابن العديم مصر خلع الامراء على ابن المعز أيبك وقبض عليه أتابك عسكره وموالى أبيه وجلس على التخت وخطب لنفسه وقبض على الامراء الذين يرتاب
منازعتهم كما نذكره في أخبارهم وأعاد ابن العديم إلى مرسله صاحب دمشق بالاجابة والوعد بالمظاهرة والله تعالى ينصر من يشاء من عباده * (استيلاء التتر على الشام وانقراض ملك بنى أيوب وهلاك من هلك منهم) * ثم زحف التتر وسلطانهم هلاكو إلى بغداد واستولى على كرسى الخلافة وقتلوا المستعصم(5/364)
وطمسوا معالم الملة وكادت تكون من أشراط الساعة وقد شرحناها في أخبار الخلفاء ونذكرها في أخبار التتر فبادر الناصر صاحب دمشق بمصانعته وبعث ابنه العزيز محمدا إلى السلطان هلاكو بالهدايا والالطاف فلم يغن ورده بالوعد ثم بعث هلاكو عساكره إلى ميافارقين وبها الكامل محمد بن المظفر شهاب الدين غازى بن العادل الكبير فحاصروها سنتين ثم ملكوها عنوة سنة ثمان وخمسين وقتلوه وبعث العساكر إلى اربل فحاصروها ستة أشهر وفنحوها وسار ملوك بلاد الروم كيكاوس وقليج ارسلان ابنا كنجسر وإلى هلاكو اثر ما ملك بغداد فدخلوا في طاعته ورجعوا إلى بلادهم وسار هلاكو إلى بلاد اذربيجان ووفد عليه هنالك لؤلؤ صاحب الموصل سنة سبع وخمسين ودخل في طاعته ورده إلى بلده وهلك اثر ذلك وملك الموصل مكانه ابنه الصالح وسنجار ابنه علاء الدين ثم أوفد الناصر ابنه على هلاكو بالهدايا والتحف على سبيل المصانعة واعتذر عن لقائه بالتخوف على سواحل الشام من الافرنج فتلقى ولده بالقبول وعذره وارجعه إلى بلده بالمهادنة والمواعدة الجميلة ثم سار هلاكو إلى حران وبعث ابنه في العساكر إلى حلب وبها المعظم تورانشاه ابن صلاح الدين نائبا عن الناصر يوسف فخرج لقتالهم في العساكر وأكمن له التتر واستجروهم ثم كروا عليهم فاثخنوا فيهم ورحلوا إلى عزاز فملكوها صلحا وبلغ الخبر إلى الناصر وهو بدمشق فعسكر عن ثورة سنة ثمان وخمسين وجاء الناصر بن المظفر صاحب حماة فأقام معه ينتظر أمرهم ثم بلغه ان جماعة من مواليه اعتزموا على الثورة به فكر راجعا إلى دمشق ولحق أولئك الموالى
بغزة ثم اطلع على خبثهم وان قصدهم تمليك أخيه الظاهر فاستوحش منهم ولحق الظاهر بهم فنصبوه للامر واعصوصبوا عليه وكان معهم بيبرس البندقدارى وشعر بتلاشى أحوالهم فكاتب المظفر صاحب مصر واستأمن إليه فأمنه وسار إلى مصر فتلقى بالكرامة وأنزل بدار الوزارة وأقطعه السلطان قطر قليوب باعماله ثم هرب هلاكو إلى الفرات فملك وكان بها اسمعيل أخو الناصر معتقلا فأطلقه وسرحه إلى عمله بالصبينة وبانياس وولاه عليهما وقدم صاحب أرزن إلى تورانشاه نائب حلب يدعوه إلى الطاعة فامتنع فسار إليها وملكها عنوة وأمنها واعتصم تورانشاه والحامية بالقلعة وبعث أهل حماة بطاعتهم إلى هلاكو وأن يبعث عليهم نائبا من قبله ويسمى برطانتهم الشحنة فأرسل إليهم قائدا يسمى خسرو شاه وينسب في العرب إلى خالد بن الوليد رضى الله عنه وبلغ الناصر أخذ حلب فاجفل عن دمشق واستخلف عليها وسار إلى غزة واجتمع عليه مواليه وأخوه وسار التتر إلى نابلس فملكوها وقتلوا من كان بها من العسكر وسار الناصر من غزة إلى العريش وقدم رسله إلى قطر تسأله النصر من عدوهم واجتماع الايدى على المدافعة ثم تقدموا إلى(5/365)
واستراب الناصر بأهل مصر فسار هو وأخوه الظاهر ومعهما الصالح بن الاشرف موسى بن شيركوه إلى التيه فدخلوا إليه وفارقهم المنصور صاحب حماة والعساكر إلى مصر فتلقاهم السلطان قطر بالصالحية وآنسهم ورجع بهم إلى مصر واستولى التتر على دمشق وسائر بلاد الشام إلى غزة وولوا على جميعها أمراءهم ثم افتتحت قلعة حلب وكان بها جماعة من البحرية معتقلين منهم سنقر الاشقر فدفعهم هلاكو إلى السلطان جق من أكابر أمرائه وولى على حلب عماد الدين القزويني ووفد عليه بحلب الاشرف موسى بن منصور بن ابراهيم بن شيركوه صاحب حمص وكان الناصر قد أخذها منعكم قدمناه فأعادها عليه هلاكو ورد جميع ولايته بالشام إلى رأيه وسار إلى قلعة حارم
فملكها واستباحها وأمر بتخريب أسوار حلب وقلعتها وكذلك حماة وحمص وحاصرو قلعة دمشق طويلا ثم تسلموها بالامان ثم ملكوا بعلبك وهدموا قلعتها وساروا إلى الصبينة وبها السعيد بن العزيز بن العادل فملكوها منه على الامان وسار معهم ووفد على هلاكو فخر الدين بن الزكي من أهل دمشق فولاه القضاء بها ثم اعتزم هلاكو على الرجوع إلى العراق فعبروا الفرات وولى على الشام أجمع أميرا اسمه كسعا من أكابر أمرائه واحتمل عماد الدين القزويني من حلب وولى مكانه آخر وأما الناصر فلما دخل في التيه هاله أمره وحسن له أصحابه قصد هلاكو فوصل إلى كسعا نائب الشام يستأذنه ثم وصل فقبض عليه وسار به إلى حتى سلمها إليه أهلها وبعث به إلى هلاكو فمر بدمشق ثم بحماة وبها الاشرف صاحب حمص وخسرو شاه نائبها فخرجا لتلقيه ثم مر بحلب ووصل إلى هلاكو فأقبل عليه ووعده برده إلى ملكه ثم ثار المسلمون بدمشق بالنصارى أهل الذمة وخربوا كنيسة مريم من كنائسهم وكانت من أعظم الكنائس في الجانب الذى فتحه خالد بن الوليد رحمه الله وكانت لهم أخرى في الجانب الذى فتحه أبو عبيدة بالامان ولما ولى الوليد طالبهم في هده الكنيسة ليدخلها في جامع البلد وأعلى لهم في السوم فامتنعوا فهدمها وزادها في الجامع لانها كانت لصقه فلما ولى عمر بن عبد العزيز استعاضوه فعوضهم بالكنيسة التى ملكها المسلمون بالعنوة مع خالد بن الوليد رحمه الله وقد تقدم ذكر هذه القصة فلما ثار المسلمون الآن بالنصارى أهل الذمة خربوا كنيسة مريم هذه ولم يبقوا لها أثرا ثم ان العساكر الاسلامية اجتمعت بمصر وساروا إلى الشام لقتال التتر صحبة السلطان قطر صاحب ومعه المنصور صاحب حماة وأخوه الافضل فسار إليه كسعا نائب الشام ومعه الاشرف صاحب حمص والسعيد صاحب الضبينة ابن العزيز بن العادل والتقوا على عين جالوت بالغور فانهزم التتر وقتل أميرهم النائب كسعا وأسر(5/366)
لسعيد صاحب الضبينة فقتله قطر واستولى على الشام أجمع وأقر المنصور صاحب حماة على بلده ورجع إلى مصر فهلك في طريقه قتله بيبرس البندقدارى وجلس على لتخت مكانه وتلقب بالظاهر حسبما يذكر ذلك كله في دولة الترك ثم جاءت عساكر لتتر إلى الشام وشغل هلاكو عنهم بالفتنة مع قومه واسف على قتل كسعا نائبه وهزيمة عساكره فأحضر الناصر ولامه على ما كان منه من تسهيله عليه أمر الشام وتجنى عليه أنه غره بذلك فاعتذر له الناصر فلم يقبل فرماه بسهم فأنفذه ثم اتبعه بأخيه الظاهر بالصالح بن الاشرف موسى صاحب حمص وشفعت زوجة هلاكو في العزيز بن لناصر وكان مع ذلك يحبه فاستبقاه وانقرض ملك بنى ايوب من الشام كما انقرض قبلها من مصر واجتمعت مصر والشام في مملكة الترك ولم يبق لبنى أيوب بهما ملك لا للمنصور بن المظفر صاحب حماة فان قطرا أقره عليها والظاهر بيبرس من بعده وبقى في امارته هو وبنوه مدة من دولة الترك وطاعتهم حتى أذن الله بانقراضهم وولى عليها غيرهم من أمرائهم كما نذكر في أخبار دولتهم والله وارث الارض ومن عليها والعاقبة للمتقين(5/367)
[ الخبر عن دولة الترك القائمين بالدولة العباسية بمصر والشام من بعد بنى أيوب ولهذا العهد ومبادي أمورهم وتصاريف أحوالهم ] قد تقدم لنا ذكر الترك وانسابهم أول الكتاب عند ذكر أمم العالم ثم في أخبار الامم السلجوقية وانهم من ولد يافث بن نوح باتفاق من أهل الخليفة فعند نسابة العرب انهم من عامور بن سويل بن يافث وعند نسابة الروم انهم من طيراش بن يافث هكذا وقع في التوراة والظاهر ان ما وقع لنسابة العرب غلط وان عامور هو مصحف كومر لان كافه تنقلب عند التعريب غينا معجمة فربما صحفت عينا مهملة أو بقيت بحالها وأما سويل فغلط بالزيادة وأما ما وقع للروم من نسبتهم إلى طيراش فهو منقول في الاسرائليات وهو رأى مرجوح عندهم لمخالفته لما في التوراة وأما شعوبهم
واجناسهم فكثيرة وقد عددنا منهم أول الكتاب التغر غزوهم التتر والخطا وكانوا بأرض طمغاج وهى بلاد ملوكهم في الاسلام تركستان وكاشغر وعددنا منهم أيضا الخزلخية والغز الذين كان منهم السلجوقية والهياطلة الذين منهم الخلج وبلادهم الصغد قريبا من سمرقند ويسمون بها أيضا وعددنا منهم أيضا الغور والخزر والقفجاق ويقال الخفشاخ ويمك والعلان ويقال اللان وشركس واركش وقال صاحب كتاب زجار في الكلام على الجغرافيا اجناس من الترك كلهم وراء النهر إلى البحر المظلم وهى العسسية والتغرغزية والخر خيرية والكيماكية والخزلخية والخزر والحاسان وتركش واركش وخفشاخ والخلخ والغزية وبلغار وخبحاكت ويمناك وبرطاس وسنجرت وخرجان وأنكر وذكر في موضع آخر أنكر من شعوب الترك وانهم في بلاد البنادقة من أرض الروم وأما مواطنهم فانهم ملكوا الجانب الشمالي من المعمور في النصف الشرقي منه قبالة الهند والعراق في ثلاثة أقاليم هي السادس والسابع والخامس كما ملك العرب الجانب الجنوبى من المعمور أيضا في جزيرة العرب وما إليها من أطراف الشام والعراق وهم رحالة مثلهم وأهل حرب وافتراس ومعاش من التغلب والنهب الا في الاقل وقد ذكرنا انهم عند الفتح لم يذعنوا الا بعد طول حرب وممارسة أيام سائر دولة بنى أمية وصدرا من صولة بنى العباس وامتلات أيدى العرب يومئذ من سبيهم فاتخذوهم خولا في المهن والصنائع ونساءهم فرشا للولادة كما فعلوه في سبى الفرس والروم وسائر الامم الذين قاتلوهم على الدين وكان شأنهم أن لا يستعينوا برقيقهم في شئ مما يعانونه من الغزو والفتوح ومحاربة الامم ومن أسلم منهم تركوه لسبيله التى هو عليها من أمر معاشه على طاغية هواه لان عصبية العرب كانت(5/369)
مستفحلة يومئذ وشوكتهم قائمة مرهفة ويدهم ويد سلطانهم في الامر جميعا ومر ما هم إلى العز والمجد واحد وكانوا كأسنان المشط لتزاحم الانساب وغضاضة الدين حتى إذا
ارهف الملك حده ونهج إلى الاستبداد طريقه واحتاج السلطان في القيام بأمره إلى الاستظهار على المنازعين فيه من قومه بالعصبية المدافعة دونه والشوكة المعترض شباها في اذياله حتى تجدع أنوفهم عن التطاول إلى رتبته وتغض أعنتهم عن السير في مضماره اتخذ بنو العباس من لدن المهدى والرشيد بطانة اصطنعوهم من موالى الترك والروم والبربر ملؤا منهم المواكب في الاعياد والمشاهد والحروب والصوائف على السلطان وزينة في أيام السلم واكثافا لعصابة الملك حتى لقد اتخذ المعتصم مدينة سامرا لنزلهم تحرجا من اضرار الرعية باصطدام مراكبهم وتراكم القتام بجوهم وضيق السكك على المارين بزحامهم وكان اسم الترك غالبا على جميعهم فكانوا تبعا لهم ومندرجين فيهم وكانت حروب المسلمين لذلك العهد في القاصية وخصوصا مع الترك متصلة والفتوح فيهم متعاقبة وامواج السبى من كل وجه متداركة وربما رام الخلفاء عند استكمال بغيتهم واستجماع عصابتهم اصطفاء علية منهم للمخالصة وقواد العساكر ورؤساء المراكب فكانوا يأخذون في تدريجهم لذلك بمذاهب الترشيح فينتقون من أجود السبى الغلمان كالدنانير والجوار كاللآلئ ويسلمونهم إلى قهارمة القصور وقرمة الدواوين يأخذونهم بحدود الاسلام والشريعة وآداب الملك والسياسة ومراس النقافة في المران على المناضلة بالسهام والمسالحة بالسيوف والمطاعنة بالرماح والبصر بأمور الحرب والفروسية ومعاناة الخيول والسلاح والوقوف على معاني السياسة حتى إذا تنازعوا في الترشيح وانسلخوا من جلدة الخشونة إلى رقة الحاشية وملكة التهذيب اصطنعوا منهم للمخالصة ورقوهم في المراتب واختاروا منهم لقيادة العساكر في الحروب ورياسة المواكب أيام الزينة ورتق الفتوق الحادثة وسد الثغور القاصية كل على شاكلة غنائه وسابق اصطناعه فلم يزل هذا دأب الخلفاء في اصطناعهم ودعامة سرير الملك بعمدهم وتمهيد الخلافة بمقاماتهم حتى سموا في درج الملك وامتلات جوانجهم من الغزو وطمحت
أبصارهم إلى الاستبداد فتغلبوا على الدولة وحجروا الخلفاء وقعدوا بذلك الملك ومدرج النهى والامر وقادوا الدولة بزمامهم واضافوا اسم السلطان إلى مراتبهم وكان مبدأ ذلك واقعة المتوكل وما حصل بعدها من تغلب الموالى واستبدادهم بالدولة والسلطان ونهج السلف منهم في ذلك السبيل للخلف واقتدى الآخر بالاول فكانت لهم دول في الاسلام متعددة تعقب غالبا دولة أهل العصبية وشوكة النسب كمثل دولة(5/370)
بنى سامان وراء النهر وبنى سبكتكين بعدهم وبنى طولون بمصر وبين طغج وما كان بعد الدولة السلجوقية من دولتهم مثل بنى خوارزم شاه بما وراء النهر وبنى طغرلتكين بدمشق وبنى ارتق بماردين وبنى زنكى بالموصل والشام وغير ذلك من دولهم التى قصصناها عليك في تصانيف الكتاب حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة والترف ولبست اثواب البلاء والعجز ورميت الدولة بكفرة التتر الذين أزالو كرسى الخلافة وطمسوا رونق البلاد وأدالوا بالكفر من الايمان بما أخذ أهلها عند الاستغراق في التنعم والتشاغل في اللذات والاسترسال في الترف من تكاسل الهمم والقعود عن المناصرة والانسلاخ من جلدة البأس وشعار الرجولية فكان من لطف الله سبحانه ان تدارك الايمان باحياء رمقه وتلافي شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه وحماية سياجه بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية وقبائلها العزيزة المتوافرة أمراء حامية وانصارا متوافية يجلبون من دار الحرب إلى دار الاسلام في مقادة الرق الذى كمن اللطف في طيه وتعرفوا العز والخير في مغبته وتعرضوا للعناية الربانية بتلافيه يدخلون في الدين بعزائم ايمانية واخلاق بدوية لم يدنسها لؤم الطباع ولا خالطتها اقذار اللذات ولا دنستها عوائد الحضارة ولا كسر من سورتها غزارة الترف ثم يخرج بهم التجار إلى مصر ارسالا كالقطا نحو الموارد فيستعرضهم أهل الملك منهم ويتنافسون في أثمانهم بما يخرج عن القيمة لا لقصد الاستعباد انما هو اكثاف للعصبية وتغليظ
للشوكة ونزوع إلى العصبية الحامية يصطفون من كل منهم بما يؤنسونه من شيم قومهم وعشائرهم ثم ينزلونهم في غرف الملك ويأخذونهم بالمخالصة ومعاهدة التربية ومدارسة القرآن وممارسة التعليم حتى يشتدوا في ذلك ثم يعرضونهم على الرمى والثقافة وركض الخيل في الميادين والمطاعنة بالرماح والمماصعة بالسيوف حتى تشتد منهم السواعد وتستحكم الملكات ويستيقنوا منهم المدافعة عنهم والاستماتة دونهم فإذا بلغوا إلى هذا الحد ضاعفوا أرزاقهم ووفروا من اقطاهم وفرضوا عليهم استجادة السلاح وارتباط الخيول والاستكثار من أجناسهم لمثل هذا القصد وربما عمروا بهم خطط الملك ودرجوهم في مراتب الدولة فيسترشح من يسترشح منهم لاقتعاد كرسى السلطان والقيام بأمور المسلمين عناية من الله تعالى سابقة ولطائف في خلقه سارية فلا يزال نشومنهم يردف نشوا وجيل يعقب جيلا والاسلام يبتهج بما يحصل به من الغناء والدولة ترف أغصانها من نضرة الشباب وكان صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر والشام وأخوه العادل أبو بكر من بعده ثم بنوهم من بعدهم قد تناغوا في ذلك بما فوق الغاية واختص الصالح نجم الدين أيوب آخر ملوكهم بالمبالغة في ذلك(5/371)
والامعان فيه فكان عامة عسكره منهم فلما انفض عشيره وخذله أنصاره وقعد عنه أولياؤه وجنوده لم يدع سببا في استجلابهم الا اتاه من استجادة المترددين إلى ناحيتهم ومراضاة التجار في أثمانهم بأضعاف ثمنهم وكان رقيقهم قد بلغ الغاية من الكثرة لما كان التتر فد دوخوا الجانب الغربي من ناحية الشمال وأوقعوا بسكانه من الترك وهم شعوب القفجاق والروس والعلان والمولات وما جاورهم من قبائل چركس وكان ملك التتر بالشمال يومئذ دوشى خان بن جنكز خان قد أصابهم بالقتل والسبي فامتلات أيدى أهل نلك النواحى برقيقهم وصاروا عند التجار من أنفس بضائعهم والله تعالى أعلم (ذكر بيبرس البندقدارى) في تاريخه
حكاية غريبة عن سبب دخول التتر لبلادهم بعد ان عد شعوبهم فقال ومن قبائلهم يعنى القفجاق قبيلة طغصبا وستا وبرج اغلا والبولى وقنعرا على وأوغلى ودورت وقلابا اعلى وجرثان وقد كابر كلى وكنن هذه احدى عشرة قبيلة وليس فيها ذكر الشعوب العشرة القديمة الذكر التى عددها النسابة كما قدمناه أول الترجمة وهذه والله أعلم بطون متفرعة من القفجاق فقط وهى التى في ناحية الغرب من بلادهم الشمالية فان سياق كلامه انما هو في الترك المجلوبين من تلك الناحية لا من ناحية خوارزم ولا ما وراء النهر قال بيبرس ولما استولى التتر على بلادهم سنة ست وعشرين والملك يومئذ بكرسى جنكزخان لولده دوشى خان واتفق ان شخصا من قبيلة دورت يسمى منقوش بن كتمر خرج متصيدا فلقيه آخر من قبيلة طغصبا اسمه آقاكبك وبين القبيلتين عداوة مستحكمة فقتله وأبطأ خبره عن أهله فبعثوا طليعة لاستكشاف أمره اسمه جلنقر فرجع إليهم وأخبرهم وأنه قتل وسمى لهم قاتله فجمعوا للحرب وتزاحفت القبيلتان فانهزمت قبيلة طغصبا وخرج اقاكبك القاتل وتفرق جمعه فارسل أخاه اقصر إلى ملكهم دوشى يستعلم ما على ذوى قبيلة دورت القفجاقية وذكره ما فعل كتمر وقومه بأخيه وأغراه بهم وسهل له الشان فيهم وبعث دوشى خان جاسوسه لاستكشاف حالهم واختيار مراسهم وشكيمتهم فعاد إليه بتسهيل المرام فيهم وقال ان رأيت كلابا مكبين على فريستهم متى طردتهم عنها تمكنت منها فاطمعه ذلك في بلاد القفجاق واستحثه أقصر الذى جاء صريخا وقال له ما معناه نحن ألف رأس تجر ذنبا واحدا وأنتم رأس واحد تجر ألف ذنب فزاده ذلك اغراء ونهض بجموع التتر فأوقع بالقفجاق وأثخن فيهم قتلا وسبيا وأسرا وفرقهم في البقاع وامتلات أيدى التجار وجلبوهم إلى مصر فعوضه الله بالدخول في الايمان والاستيلاء(5/372)
على الملك والسلطان انتهى كلام بيبرس ومساق القصة يدل على أن قبيلة دورت من
القفجاق وان قبيلة طغصبا من التتر فيقتضى ذلك أن هذه البطون التى عددت ليست من بطن واحد وكذلك يدل مساقها على ان أكثر هؤلاء الترك الذين بديار مصر من القفجاق والله تعالى أعلم [ الخبر عن استبداد الترك بمصر وانفرادهم بها عن بنى أيوب ودولة المعز ايبك أول ملوكهم ] قد تقدم لنا ان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل بن العادل قد استكثر من المماليك الترك ومن في معناهم من التركمان والارمن والروم وچركس وغيرهم الا أن اسم الترك غالب على جميعهم لكثرتهم ومزيتهم وكانوا طوائف متميزين بسمات من ينسبون إليه من نسب أو سلطان فمنهم العزيزية نسبة إلى العزيز عثمان بن صلاح الدين ومنهم الصالحية نسبة إلى هذا الصالح أيوب ومنهم البحرية نسبة إلى القلعة التى بناها الصالح بين شعبتى النيل ازاء المقياس بما كانوا حاميتها وكان هؤلاء البحرية شوكة دولته وعصابة سلطانه وخواص داره وكان من كبرائهم عز الدين ايبك الجاشنكير التركماني ورديفه فارس الدين اقطاى الجامدار وركن الدين بيبرس البندقدارى ولما كان ما قدمناه ووفاة الصالح بالمنصورة في محاصرة الافرنج بدمياط في سنة سبع وأربعين وكتمانهم موته ورجوعهم في تدبير أمورهم إلى شجر الدر زوجة الصالح وأم ولده خليل وبعثهم إلى ابنه المعظم تورانشاه وانتظاره وان الافرنج شعروا بموت الصالح فدلفوا إلى معسكر المسلمين على حين غفلة فانكشف أوائل العسكر وقتل فخر الدين الاتابك ثم أفرغ الله الصبر وثبت اقدامهم وأبلى أمراء الترك في ذلك اليوم بلاء حسنا ووقفوا مع شجر الدر زوج السلطان تحت الرايات ينوهون بمكانها فكانت لهم الكرة وهزم الله العدو ثم وصل المعظم تورانشاه من كيفا فبايعوا له وأعطوه الصفقة وانتظم الحال واستطال المسلمون على الافرنج برا وبحرا فكان ما قدمناه من هزيمتهم والفتك بهم وأسر ملكهم الفرنسيس ثم رحل المعظم اثر هذا الفتح إلى مصر لشهرين من
وصوله ونزل بفارس كور يريد مصر وكانت بطانته قد استطالوا على موالى أبيه وتقسموهم بين النكبة والاهمال فاتفق كبراء البحرية على قتله وهم ايبك واقطاى وبيبوس فقتلوه كما مر ونصبوا للملك شجر الدر ام خليل وخطب لها على المنابر ونقش اسمها على السكة ووضعت علامتها على المراسم ونصها أم خليل وقام ايبك التركماني باتابكية العسكر ثم فودى الفرنسيس بالنزول عن دمياط وملكها المسلمون سنة ثمان وأربعين وسرحوه في البحر إلى بلاده بعد ان توثقوا منه باليمين أن لا يتعرض لبلاد المسلمين ما بقى(5/373)
واستقلت الدولة بمصر للترك وانقرضت منها دولة بنى أيوب وبلغ الخبر إلى بنى أيوب بقتل المعظم وولاية المرأة وما اكتنف ذلك فامتعضوا له وكان فتح الدين عمر بن العادل قد حبسه عمه الصالح أيوب بالكرك لنظر بدر الصوابى خادمه الذى ولاه على الكرك والشوبك لما ملكهما كما مر فاطلق بدر الدين من محبسه وبايع له وقام بأمره ولقبه المغيث واتصل الخبر بمصر وعلموا أن الناس قد نقموا عليهم ولاية المرأة فاتفقوا على ولاية زعيمهم ايبك لتقدمه عنه الصالح وأخيه العادل قبله فبايعوا له وخلعوا أم خليل ولقبوه بالمعز فقام بالامر وانفرد بملك مصر وولى مولاه سيف الدين قطر نائبا وعمر المراتب والوظائف بأمراء الترك والله تعالى ينصر من يشاء من عباده [ نهوض الناصر صاحب دمشق من بنى أيوب إلى مصر وولاية الاشرف موسى مكان أيبك ] كان الملك الصالح أيوب قبل موته قد استخلف جمال الدين بن يغمور على دمشق مكان ابن مطروح وامراء الدولة الايوبية بها متوافرون فلما بلغهم استبداد الترك بمصر وولاية ايبك وبيعه المغيث بالكرك أمعنوا النظر في تلافى أمورهم وكبراء بنى أيوب يومئذ بالشام الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازى بن صلاح الدين صاحب حلب وحمص وما إليها فاستدعوه وبايعوا له بدمشق وأغروه بطلب مصر واتصل الخبر
للترك في مصر فاعتزموا على أن ينصبوا بعض بنى أيوب فيكفوا به ألسنة النكير عنهم فبايعوا لموسى الذى كان أبوه يوسف صاحب اليمن وهو يوسف اطسز بن المسعود بن الكامل وهو يومئذ ابن ست سنين ولقبوه الاشرف وتزحزح له ايبك عن كرسى السلطان إلى رتبة الاتابكية واستمر الناصر على غلوائه في النهوض إلى مصر واستدعى ملوك الشام من بنى أيوب فأقبل إليه موسى الاشرف الذى كان صاحب حمص واسمعيل الصالح بن العادل صاحب بعلبك والمظعم تورانشاه بن صلاح الدين وأخوه نصر الدين وابنا داود الناصر صاحب الكرك وهما الامجد حسن والظاهر شادى وارتحل من دمشق سنة ثمان وأربعين وفي مقدمته اتابكه لؤلؤ الارمني وبلغ الخبر إلى مصر فاضطرب الامر ونادوا بشعار الخلافة والدعاء للمستعصم وجددوا البيعة على ذلك للاشرف وجهزوا العساكر وخرجوا للقائهم وسار في المقدمة اقطاى الجامدار وجمهور البحرية وتبعهم ايبك ساقة في العساكر والتقى الجمعان بالعباسية فانكشف عسكر مصر أولا وتبعهم أهل الشام وثبت المعز في القلب ودارت عليه رحى الحرب وهرب إليه جماعة من عسكر الناصر فيهم أمراء العزيزية مثل جمال الدين لا يدعون وشمس الدين أتسزا ليرلى وشمس الدين أتسر الحسامى غصبوا من رياسة لؤلؤ عليهم(5/374)
فهربوا وبقى لؤلؤ في ثم حمل المعز على الناصر وأصحابه فانهزموا وانفض عسكرهم وحئ بلؤبلؤ الاتابكى أسيرا فقتله صبرا وبأمراء بنى أيوب فحبسهم ورجع ايبك من الوقعة فوجد عساكر الناصر مجتمعين بالعباسة يظنون الغلب لهم فعدل إلى بلبيس ثم إلى القلعة ورجعت عساكر الشام من اتباع المنهزمين لما شعروا بهزيمة صاحبهم فلحقوا بالناصر بدمشق ودخل ايبك إلى القاهرة وحبس بنى أيوب بالقلعة ثم قتل منهم اسمعيل الصالح ووزيره ابن يغمور الذى كان معتقلا من قبل ولما وصل الناصر إلى دمشق ازاح علل عساكره وعجل لكرة إلى مصر ونزل غزة
سنة خمسين وبرزت عساكر مصر للقائه فتواقفوا مليا ثم وصل نجم الدين البادرانى رسول المستعصم فاصلح بين الطائفتين على أن يكون القدس والساحل إلى نابلس لمعز والتخم بين المملكتين نهر الاردن وانعقد الامر على ذلك ورجع كل إلى بلده وأخرج المعز عن أمراء بنى أيوب الذين حبسهم يوم الوقعة والله سبحانه وتعالى أعلم * (واقعة لعرب بالصعيد مع اقطاى) * لما شغل الصالح بالافرنج وما بعدهم عظم فساد العرب بالصعيد واجتمعوا على الشريف خضر الدين أبى ثعلب بن نجم الدين عمر بن فخر الدين اسمعيل بن حصن الدين ثعلب الجعفري من ولد جعفر بن أبى طالب الذين أجازوا من الحجاز لما غلبهم بنو عمهم بنواحي لمدينة في الحروب التى كانت بينهم وأطاعه أعراب الصعيد كافة ولم يقدر على كفهم عن الراية واتصل ذلك وهلك الصالح واستبد الترك بمصر وشغلوا عنهم بما كان من مطالبة بنى أيوب لهم فلما فرغ المعز ايبك من أمر الناصر وعقد الصلح معه بعث لحربهم فارس الدين اقطاى وعز الدين ايبك الافرم أمير البحرية فساروا إليهم ولقوهم بنواحي اخميم فهزموهم وفر الشريف ناجيا بنفسه ثم قبض عليه بعد ذلك وقتل ورجعت العساكر إلى القاهرة والله تعالى أعلم * (مقتل اقطاى الجامدار وفرار البحرية إلى الناصر ورجوع ايبك إلى كرسيه) * كان اقطاى الجامدار من أمراء البحرية وعظمائهم ويلقب فارس الدين وكان رديفا للمعز ايبك في سلطانه واتابكه وكان يغض من عنانه عن الطموح إلى الكرسي وكان يخفض من جناحه للبحرية يتألفهم بذلك فيميلون له عن ايبك فاعتز في الدولة واستفحل أمره وأخذ من المعز الاسكندرية اقطاعا وتصرف في بيت المال وبعث فخر الدين محمد بن الناصر بهاء الدين بن حياء إلى المظفر صاحب حماة في خطبة ابنته فتزوجها وأطلق يده في العطاء والاقطاع فعم الناس وكثر تابعه وغص به المعز ايبك واجمع(5/375)
قتله فاستدعاه بعض الايام للقصر للشورى سنة ثنتين وخمسين وقد اكمن له ثلاثة من مواليه في ممره بقاعة الاعمدة وهم قطر وبها دل وسنجر فوثبوا عليه عند مروره بهم وبادروه بالسيوف وقتلوه لحينة واتصلت الهيعة بالبحرية فركبوا وطافوا بالقلعة فرمى إليهم برأسه فانفضوا واستراب أمراؤهم فاجتمع ركن الدين بيبرس البندقدارى وسيف الدين قلاون الصالحي وسيف الدين سنقر الاشقر وبدر الدين بنسر الشمسي وسيف الدين بلبان الرشيدى وسيف الدين تنكر واخوه سيف الدين موافق ولحقوا بالشام فيمن انضم إليهم من البحرية واختفى من تخلف منهم واستصفيت أموالهم وذخائرهم وارتجع ما أخذه اقطاى من بيت المال ورد ثغر الاسكندرية إلى أعمال السلطان وانفرد المعز ايبك بتدبير الدولة وخلع موسى الاشرف وقطع خطبته وخطب لنفسه وتزوج شجر الدر زوجة الصالح التى كانوا ملكوها من قبل واستخلص علاء الدين ايد غدى العزيزي وجماعة العزيزية وأقطعه دمياط ولما وصل البحرية وأمراؤهم إلى غزة كاتبوا الناصر يستأذنونه في القدوم وساروا إليه فاحتفل في مبرتهم وأغروه بملك مصر فأجابهم وجهز العساكر وكتب المعز فيهم إلى الناصر وطلبوا منه القدس والبلاد الساحلية فاقطعها لهم ثم سار الناصر إلى الغور وبرز إلى القاهرة في العزيزية ومن إليهم ونزل العباسية وتواقف الفريقان مدة ثم اصطلحوا ورجع كل إلى بلده سنة أربع وخمسين وبعث ايبك رسوله إلى المستعصم بطاعته وطلب الالوية والتقليد ولما رجع إلى مصر قبض على علاء الدين ايدغدى لاسترابته به وأعاد دمياط إلى أعمال السلطان واتصلت أحواله إلى أن هلك في الدولة والله تعالى أعلم * (فرار الافرم إلى الناصر بدمشق) * كان عز الدين ايبك الافرم الصالحي واليا على قوص واخميم وأعمالها فقوى أمره وهم بالاستبداد وأراد المعز عزله فامتنع عليه فبعث بعض الخوارزمية مددا له ودس إليهم الفتك به فلما وصلوا إليه استخدمهم وخلطهم بنفسه فاغتالوه وقبضوا عليه
وتراموا إليه للحين فبطشوا بهم وقتلوهم وخلعوه ثم عزله بعد ذلك الدين الصميرى في خدمته واستدعاه إلى مصر فأقام عنده ثم بعثه مع اقطاى إلى الصعيد وحضر ومعه الشريف أبو ثعلب والعرب كما مر وعاد اقطاى إلى مكانه من الدولة وأوعز المعز ايبك إلى الافرم بالمقام لتمهيد بلاد الصعيد وأن يكون الصيمري في خدمته وبلغه وهو هناك أن المعز عدا على اقطاى وقتله وان أصحابه البحرية فروا إلى الشام فاستوحش وأظهر العصيان واستدعى الشريف أبا ثعلب وتظاهر معه على الفساد وجمعوا الاعراب من كل ناحية ثم بعث المعز سنة ثلاث وخمسين شمس الدين(5/376)
اليرلى في العساكر فهزمهم واعتقل الشريف فلم يزل في محبسه إلى أن قتله الظاهر ونجا الافرم في فل من مواليه إلى الواحات ثم اعتزم على قصد الشام فرجع إلى الصعيد مع جماعة من اعراب جذام مروا به على السويس والطور ورجع عنه مواليه إلى مصر ولما انتهى إلى غزة تولع به الناصر فأذنه بالقدوم عليه بدمشق وركب يوم وصوله فتلقاه بالكسوة وأعطاه خمسة آلاف دينار ولم يزل عنده بدمشق إلى أن هرب البحرية من الكرك إلى مصر كما يذكر فخشى أن يأخذه الناصر وكاتب الاتابك قطز بمصر وسار إليه فقبله أولا ثم قبض عليه بعد ذلك واعتقله بالاسكندرية وكان الصيمري قد بقى بعد الافرم في ولاية الصعيد واستفحل فيه فسولت له نفسه الاستبداد ولم يتم له فهرب إلى الناصر سنة أربع وخمسين انتهى والله تعالى أعلم * (مقتل المعز ايبك وولاية ابنه على المنصور) * كان المعز ايبك عندما استفحل أمره ومهد سلطانه ودفع الاعداء عن حوزته طمحت نفسه إلى مظاهرة المنصور صاحب حماة ولؤلؤ صاحب لموصل ليصل يده بهما وأرسل اليهما في الخطبة وأثار ذلك غيرة من زوجته سنجر الدر وأغرت به جماعة من الخصيان منهم محسن الخزرى وخصى العزيزي ويقال سنجر الخادمان فبيتوه في الحمام
بقصره وقتلوه سنة خمس وخمسين لثلاث سنين من ولايته وسمع مواليه الناعية من جوف الليل فجاؤا مع سيف الدين قطز وسنجر الغتمى وبهادر فدخلوا القصر وقبضوا على الجوجرى فقتلوه وفر سنجر العزيزي إلى الشأم وهموا بقتل شجر الدر وقام الموالى الصالحية دونها فاعتقلوها ونصبوا للملك على بن المعز ايبك ولقبوه المنصور وكان أتابكه علم الدين سنجر الحلى واشتمل موالى المعز على ابنه المنصور فكبسوا علم الدين سنجر واعتقلوه وولوا مكانه اقطاى المعزى الصالحي موالى العزيز على الدولة في نقضها وإبرامها سنة ست وخمسين وأغرته أم المنصور بالصاحب شرف الدين الغازى لان المعز كان يستودعه سراياه عنده فاستصفاه وقتله وفي هذه السنة توفى زهير ابن على المهلى وكان يكتب عن الصالح ويلازمه في سجنه بالكرك ثم صحبه إلى مصر والله تعالى أعلم * (نهوض البحرية بالمغيث صاحب الكرك وانهزامهم) * قد ذكرنا فرار البحرية إلى الناصر ونهوضهم به إلى مصر وخروج ايبك إلى العباسة وما كان بينهما من الصلح فلما انعقد الصلح ورجع الناصر إلى دمشق ورجعوا عنه إلى قلعة ولم يرضوا الصلح فاستراب بهم الناصر وصرفهم عنه فلحقوا بغزة ونابلس وبعثوا إلى المغيث صاحب الكرك بطاعتهم فأرسل الناصر عساكره للايقاع(5/377)
بهم فهزموهم فسار إليهم بنفسه فهزموه إلى البلقاء ولحقوا بالكرك وأطمعوا المغيث في مصر واستمدوه لها فأمدهم بعسكره وقصدوا مصر وكبراؤهم بيبرس البندقدارى وقلاوون الصالحي وبليان الرشيدى وبرز الامير سيف الدين قطز بعساكر مصر إلى الصالحية فهزمهم وقتل بلغار الاشرفى وأسر قلاوون الصالحي وبليان الرشيدى وأطلق قلاوون بعد أيام في كفالة أستاذ الدار فاختفى ثم لحق بأصحابه واستحثوا المغيث إلى مصر فنهض في عساكره سنة ست وخمسين ونزل الصالحية وقدم إليه عز الدين الرومي والكافورى والهواشر ممن كان يكاتبه من
أمراء مصر وبرز سيف الدين قطز في عساكر مصر والتقى الجمعان فانهزم المغيث ولحق في الفل بالكرك وفرت البحرية إلى الغور فوجدوا هنالك احياء من الاكراد فروا من جبال شهرزور أمام التتر فاجتمعوا بهم والتحموا بالصهر معهم وخشى الناصر غائلة اجتماعهم فجهز العساكر من دمشق إليهم والتقوا بالغور فانهزمت عساكره فتجهز ثانيا بنفسه وسار إليهم فخاموا عن لقائه وافترقوا فلحق الاكراد بمصر واعترضهم التركمان في طريقهم بالعريش فأوقعوا بهم وخلصوا إلى مصر ولحق البحرية بالكرك مع عسكر المغيث ووعدهم بالنصر وأرسل إليه من دمشق في اسلامهم إليه وتوعده أنفسهم واضطربوا ففر بيبرس وقلاوون إلى الصحراء وأقاموا بها ثم لحقوا بمصر وأكرمهم الاتابك قطز وأقطعهم وأقاموا عنده ولما فر بيبرس وقلاوون من المغيث قبض على بقية أمراء البحرية سنقر الاشقر وشكر وبرايق وبعث بهم إلى الناصر فحبسهم بقلعة حلب إلى أن استولى التتر عليها ونقلهم هلاكو إلى بلاده والله سبحانه وتعالى أعلم * (خلع المنصور على بن ايبك واستبداد قطز بالملك) * ثم كان ما ذكرناه ونذكره من زحف هلاكو إلى بغداد واستيلائه عليها وما بعدها إلى الفرات وفتحه ميافارقين واربل ومسير لؤلؤ صاحب الموصل إليه ودخوله في طاعته ووفادة ابن الناصر صاحب دمشق إليه رسولا عن أبيه بالهدايا والتحف على سبيل المصانعة والعذر عن الوصول بنفسه خوفا على سواحل الشأم من الافرنج فارتاب الامراء بشأنهم واستصغروا سلطانهم المنصور على بن المعز ايبك عن مدافعة هذا العدو لعدم ممارسته للحروب وقلة دربته بالوقاع واتفقوا على البيعة لسيف الدين قطر المعزى وكان معروفا بالصرامة والاقدام فبايعوا له وأجلسوه على الكرسي سنة ست وخمسين ولقبوه المظفر وخلعوا المنصور لسنتين من ولايته وحبسوه وأخويه بدمياط ثم غربهما الظاهر بعد ذلك إلى القسطنطينية وكان المتولون لذلك الصالحية والعزيزية(5/378)
ومن يرجع إلى قطز من المعزية وكان بهادر وسنجر الغتمى غائبين فلما قدما استراب بهما قطز وخشى من نكيرهما ومزاحمتهما فقبض عليهما وحبسهما وأخذ في تمهيد الدولة فاستوسقت له وكان قطز من أولاد الملوك الخوارزمية يقال انه ابن أخت خوارزم شاه واسمه محمود بن مودود اسره التتر عند الحادثة عليهم وبيع واشتراه ابن الزعيم حكاه النووي عن جماعة من المؤرخين والله تعالى ينصر من يشاء من عباده [ استيلاء التتر على الشأم وانقراض أمر بنى أيوب ثم مسير قطز بالعساكر وارتجاعه الشأم من أيدى التتر وهزيمتهم وحصول الشأم في ملك الترك ] ثم عبر هلاكو الفرات سنة ثمان وخمسين وفر الناصر وأخوه الظاهر إلى التيه ولحق بمصر المنصور صاحب حماة وجماعة البحرية الذين كانوا باحياء العرب في القفر وملك هلاكو بلاد الشأم واحدة واحدة وهدم أسوارها وولى عليها وأطلق المعتقلين من البحرية بحلب مثل سنقر الاشقر وشكر وبرابق واستخدمهم ثم قفل إلى العراق لاختلاف بين اخوته واستخلف على الشأم كسعا من أكبر أمرائه في اثنى عشر ألفا من العساكر وتقدم إليه بمطالعة الاشرف ابراهيم بن شيركوه صاحب حمص بعد ان ولاه على مدينة دمشق وسائر مدن الشأم واحتمل معه الناصر وابنه العزيز بعد ان استشاره في تجهيز العساكر بالشأم لمدافعة أهل مصر عنها فهون عليه الامر وقللهم في عينه فجهز كسعا ومن معه ولما فصل سار كسعا إلى قلعة دمشق وهى ممتنعة بعد فحاصرها وافتتحها عنوة وقتل نائبها بدر الدين بربدك وخيم بمرج دمشق وجاءه من ملوك الافرنج بالساحل ووفد عليه الظاهر أخو الناصر صاحب صرخد فرده إلى عمله وأوفد عليه المغيث صاحب الكرك ابنه العزيز بطاعته فقبله ورده إلى أبيه واجتمعت عساكر مصر واحتشد المظفر العرب والتركمان وبعث إليهم بالعطايا وأزاح العلل وبعث كسعا إلى المظفر قطز بأن يقيم طاعة هلاكو بمصر فضرب أعناق الرسل ونهض إلى الشأم
مصمما للقاء العدو ومعه المنصور صاحب حماة وأخوه الافضل وزحف كسعا وعساكر التتر ومعه الاشرف صاحب حمص والسعيد صاحب الضبينة ابن العزيز بن العادل وبعث اليهما قطز يستميلهما فوعده الاشرف بالانهزام يوم اللقاء وأساء العزيز الرد على رسوله وأوقع به والتقى الفريقان بالغور على عين جالوت وتحيز الاشرف عندما تناشبوا فانهزم التتر وقتل أميرهم كسعا في المعركة وجئ بالسعيد صاحب الضبينة أسيرا فوبخه ثم قتله وجئ بالعزيز بن المغيث وأسر يومئذ الذى ملك مصر بعد ذلك ولقى العادل بيبرس المنهزمين في عسكر من الترك فأثخن فيهم وانتهى إلى حمص فلقى مددا من التتر جاء لكسعا فاستأصلهم ورجع إليه الاشرف صاحب حمص من عسكر التتر فأقره(5/379)