أبواب بداية نبينا صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في ذكر التنويه بذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من زمن آدم عليه السلام
عن العِرْباض بن سارِيَة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنّي عِنْدَ الله لَخَاتِمُ النَّبِيِّينَ وإِنَّ آدَمَ لمُنْجَدِلٌ فِي طِيْنَتِه» .
عن مَيْسَرة الفَجْر قال: قلت يا رسول الله متى كنت نبيًّا؟.
قال: «وآدَمُ بَيْنَ الرُّوْحِ وَالجَسَدِ».
عن ميسرة قال: قلت يا رسول الله، متى كنت نبياً؟.
قال: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعالى الأَرْضَ، واسْتَوَى إلى السَّمَاءِ، فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَواتٍ، وخَلَقَ العَرْشَ، كَتَبَ عَلى سَاقِ العَرْشِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله خَاتِمُ الأنْبِيَاءِ، وخَلَقَ اللَّهُ تَعَالى الجَنَّةَ التي أَسْكَنَهَا آدَمَ وَحَوَّاءَ، فكَتَبَ اسْمِي على الأبْوَابِ والأَوْرَاقِ والقِبَابِ والخِيَام، وآدمُ بَيْنَ الرُّوْحِ وَالجَسَدِ، فَلمَّا أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعالى نَظَرَ إلى العَرْشِ فَرَأى اسْمِي، فأخْبَرَهُ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِكَ. فَلمَّا غَرَّهُمَا الشَيْطَانُ تَابَا واسْتَشْفَعَا باسْمِي إِليه» .(1/1)
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمَّا أصَابَ آدمُ الخَطِيْئَةَ، رَفَعَ رَأْسَهُ فَقال: رَبِّ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ إلاّ غَفَرْتَ لِي. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالى إِليه: وَمَا مُحَمَّدُ، وَمَنْ مُحَمَّدُ؟ فَقال: رَبِّ، إنَّك لمَّا أتْمَمْتَ خَلْقِي رَفَعْتُ رَأسِي إلى عَرْشِكَ، فإذا عَليه مَكْتُوبٌ لا اله إلاّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسولُ الله. فَعَلِمْتُ أنَّه أكْرَمُ خَلْقِكَ عَلَيك، إذ قَرَنْتَ اسْمَهُ مع اسْمِكَ. قال: نَعَمْ قَدْ غَفَرْتُ لكَ، وَهو آخِرُ الأنْبِيَاءِ من ذُرِّيَّتِكَ، وَلوْلاَه ما خَلَقْتُكَ» .
وقال سعيد بن جبير: اختصمَ ولد آدم: أيُّ الخلْق أكرمُ على الله تعالى؟.
فقال بعضهم: آدمُ، خلقه الله بيده، وأسْجد له ملائكته.
وقال آخرون: بل الملائكة الذين لم يعصوا الله.
فذكروا ذلك لآدم، فقال آدم: لمَّا نفخ فيَّ الروحُ لم تبلغ قدميَّ، فاستويت جالساً، فبرق لي العرش، فنظرت فيه: محمد رسول الله. فذاك أكرمُ الخلق على الله عز وجل.
عن وهب قال: أوحى الله تعالى إلى آدم: أنا الله ذو بكَّة، أهلُها خيرتي، وزوارها وفدي وفي كنفي، (وفيها بيتي) أعمره بأهل السماء وأهل الأرض، يأتونه أفواجاً شُعْثاً غُبراً، يَعُجُّون بالتكبير عجيجاً، ويزجون بالتلبية زجيجاً، ويثجون بالبكاء ثجيجاً، فمن اعتمده لا يريد غيره فقد زارني، وضافني، ووفد إليَّ، ونزل بي، وحقَّ لي أن أتحفه بكرامتي، أجعل ذلك البيت وذِكره وشرفه ومجده وسناءَه لنبيَ من ولدك يقال له: إبراهيم، أرفع له قواعده وأقضي على يديه عمارته، وأنْبِط له سقايته، وأريه حِلَّه وحَرَمه، وأعلِّمُه مشاعره، ثم تَعْمُره الأمم والقرون حتى ينتهي إلى نبي من ولدك يقال له: محمد صلى الله عليه وسلم، وهو خاتم النبيين، أجعله من سكانه وولاته وحجابه وسقاته، فمن سأل عني يومئذ فأنا مع الشُّعْث الغُبْر الموفين بنذرهم المقبلين إلى ربهم.(1/2)
عن ابن عباس: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: لولا محمد ما خلقت آدم، ولقد خلقت العرش فاضطرب، فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسَكَن.
الباب الثاني
في ذكر الطينة التي خلق منها محمد صلى الله عليه وسلم
عن كعب الأحبار قال: لما أراد الله تعالى أن يخلق محمداً صلى الله عليه وسلم أمر جبريل عليه السلام أن يأتيه فأتاه بالقبضة البيضاء التي هي موضع قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعجنت بماء التَّسْنيم، ثم غمست في أنهار الجنة، وطيف بها في السموات والأرض، فعرفت الملائكة محمداً وفَضْله قبل أن تعرف آدم، ثم كان نور محمد صلى الله عليه وسلم يُرى في غُرَّة جبهة آدم. وقيل له: يا آدم هذا سيد ولدك من الأنبياء والمرسلين.
فلما حملت حواء بشيت انتقل عن آدم إلى حواء، وكانت تلد في كل بطن ولدين إلا شيتاً، فإنها ولدته وحده، كرامة لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ثم لم يزل ينتقل من طاهر إلى طاهر إلى أن ولد صلى الله عليه وسلم.
عن ابن عباس قال: قلت: يا رسول الله، أين كنت وآدم في الجنة؟.
قال: «كُنْتُ في صُلْبِه، وأُهْبِطَ إلى الأَرْضِ وَأنا فِي صُلْبِهِ، وَرَكِبْتُ السَّفِيْنَةَ فِي صُلْبِ أَبي نوحٍ، وقُذِفْتُ في النَّارِ في صُلْبِ أبي إِبْرَاهِيم، لم يَلْتَقِ لي أبَوَانِ قَطُّ على سِفَاحٍ، لم يَزَلْ يَنْقُلُني من الأصْلابِ الطَّاهِرَةِ إلى الأَرْحَامِ النَّقِيَّةِ مُهَذَّبًا لا تَتَشَعَّبُ شُعْبَتَانِ إلاّ كُنْتُ في خَيْرِهِما، أخَذَ اللَّهُ لي بالنُّبوَّةِ مِيْثَاقِي، وفي التَّوْرَاةِ بَشَّرَ بِي، وفي الإِنْجِيلِ شَهَرَ اسْمِي، تُشْرِقُ الأرْضُ لِوَجْهِي والسَّماءُ لِرُؤْيَتِي» .
وقال العباس: يا رسول الله، إني أريد أن أمتدحك.
فقال له: «قُلْ لاَ يَفْضُض اللَّهُ فَاكَ» .
فأنشأ يقول:
منْ قبلها طِبت في الظلال وفي
مستودع حيث يُخْصف الوَرَقُ
ثم هبطتَ البلادَ لا بشرٌ أنت
ولا مضغةٌ ولا عَلقُ(1/3)
بل نطفةٌ تركب السفين وقد
ألجم نسْراً وأهلَه الغرَق
وردْتَ نار الخليل مُكتتماً
تجولُ فيها ولست تحترقُ
تُنقل من صُلبٍ إلى رحم
إذا مضى عالَمٌ بدا طبقُ
حتى احتوى بيتك المهيمن من
خِندف علياء تحتها النُّطقُ
وأنت لما وردت أشرقت الأر
ضُ وضاءَتْ بنورك الأفق
فنحن في ذاك الضياء وفي النو
ر وسُبل الرشاد تخترقُ
الباب الثالث
في دعاء إبراهيم الخليل بإيجاد محمد صلى الله عليه وسلم
لما بنى الخليل عليه السلام الكعبة دعا لأهل مكة فقال: {س2ش129رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ }
(البقرة: 129).
قال السدي عن أشياخه: هو محمد صلى الله عليه وسلم.
عن العِرْباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنّي عِنْدَ الله لَخَاتِمُ النَّبِيّينَ، وإنَّ آدَمُ لمُنْجَدِلٌ في طِيْنَتِه وسأُخْبِرُكُم بأوَّلِ ذلك:
أنَا دَعْوَةُ أبي إِبْرَاهِيم، وبِشَارَةُ عِيْسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي التي رَأَتْ، وكذلكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّين يُرَيْنَ» .
ورواه ليث عن معاوية فقال: وإن أمه رأت حين وضعته نوراً أضاءت منه قصور الشام.
الباب الرابع
في بيان ذكره في التوراة والإِنجيلوذكر أمته، واعتراف علماء الكتاب بذلك(1/4)
قال الله تعالى: {س7ش157الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأٌّغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى? أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(الأعراف: 157)
والمراد: أنهم يجدون نَعْته.
{س7ش157الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأٌّغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى? أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
(الأعراف: 157)
وهو: مكارم الأخلاق، وصلة الأرحام.
{وينهاهم عن المنكر} وهو: الشرك.
ويُحِل لهم الطيبات} وهو: ما كانت العرب تستطيبه، وقيل: هي الشحوم التي حرمت على بني إسرائيل، والبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي.
{ويحرِّم عليهم الخبائثَ} وهي: ما كانت العرب تستخبثه، وما كانوا يستحلون من الميتة، والدم، ولحم الخنزير.
{ويَضعُ عنهم إصْرهم} وهي: الأثقال التي كانت على بني إسرائيل من تحريم السبت، والشحوم، والعروق.
{والأغلال التي كانت عليهم} .
قال أبو إسحاق الزجاج: ذِكر الأغلال تمثيلٌ، وكان عليهم أن لا يُقبل في القتل دية، وأن لا يعملوا في السبت، وأن يقرضوا ما أصابهم من أموال.(1/5)
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في قوله تعالى: {ع49س3ش81} الآية
(آل عمران: 81).
قال: لم يبعث الله تعالى نبياً، آدم ومَن بعده، إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم: لئن بعث وهو حَي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ العهد على قومه.
عن قتادة: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} .
قال: هذا ميثاقٌ أخذه الله تعالى على النبيين، أن يصدق بعضهم بعضاً، وأخذ مواثيق أهل الكتاب فيما بلغتهم رسلهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدقوه.
عن عطاء بن يسار: لقيت عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة.
قال: أَجَلْ، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن:
{س33ش45ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً }(الأحزاب: 45) ، وحرزاً للأميّين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، لست بفظ، ولا غليظ، ولا صَخاب في الأسواق، ولا تجزي بالسيئة السيئة ولكن تعفو وتغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأَن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صمّاً، وقلوباً غُلفاً.
انفرد بإخراجه البخاري.
عن عبدالله بن سَلام قال: صفةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة:
{إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً} وحرزاً للأميّين، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أتوفاه حتى أقيم به الملة العوجاء وأفتح به آذاناً صُمّاً، وقلوباً غُلفاً، وأعيناً عمياً، بأن يقولوا: لا إله إلا الله.
عن ابن عباس أنه سأل كعباً: كيف تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟.
قال: نجده: محمدٌ رسول الله، مولده بمكة، ومهاجَرُه إلى طابَة، ويكون مُلكه بالشام، ليس بفحاش، ولا صخاب في الأسواق، ولا يكافىء بالسيئة السيئة، ولكن يعفو.(1/6)
وقال كعب: نجد مكتوباً: محمد رسول الله، لا فظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، وأمته الحمادون، يكبرون الله على كل نَجد ويحمدونه في كل منزلة، يأتزرون على أنصافهم، ويتوضئون على أطرافهم بهم ينادَى في جو السماء، صفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواءٌ، لهم بالليل دوي كدوي النحل، مولده بمكة ومهاجرهُ بطابة.
عن كعب قال في الشطر الأول: محمد رسول الله عبدي المختار، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته بطَيبة، ومُلكه بالشام.
في الشطر الثاني: محمدٌ رسول الله أمته الحمادون، يحمدون الله في السراء والضراء، يحمدون الله في كل منزلة، ويكبّرونه على كل شَرف، رعاةُ الشمس، يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كناسة، ويأتزرون على أوساطهم ويوضئون أطرافهم، وأصواتهم بالليل (في) جو السماء أصوات النحل.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مُوسَى لمَّا نَزَلَت التَّوْرَاةَ وقَرَأَهَا وَجَدَ فِيها ذِكْرَ هذِه الأُمَّةِ» .
قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون المشفوع لهم، فاجعلها أمتي.
قال: تلك أمة محمد.
قال: رب إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون المستجاب لهم، فاجعلها أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم، يقرءونه ظاهراً، فاجعلها أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب إني أجد في الألواح أمة يجعلون الصدقة في بطونهم يؤجرون عليها. فاجعلها أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب إني أجد في الألواح أمة إذا همَّ أحدهم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة، فاجعلها أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب إني أجد في الألواح أمة يؤتَون العلم الأول والعلم الآخر، يقتلون قرن الضلالة المسيح الدجال، فاجعلها أمتي.(1/7)
قال: تلك أمة أحمد.
قال: رب فاجعلني من أمة أحمد، فأُعطيَ عند ذلك خصلتين.
قال: يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين.
قال: قد رضيت رب.
وروي أن كعب الأحبار رأى حَبراً من اليهود يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت بعض الأمر.
فقال كعب: أنشدك الله لئن أخبرتك ما أبكاك لتَصْدُقنِّي؟.
قال: نعم.
قال: أنشدك الله هل تجد في كتاب الله المنزل، أن موسى عليه السلام نظر في التوراة، فقال: رب: إني أجد أمةً خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر، ويقاتلون أهل الضلالة، حتى يقاتلون الأعور الدجال، فاجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد.
قال الحبر: نعم.
قال: أنشدك الله هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال: رب إني أجد أمة هم الحمَّادون رعاة الشمس المحكَّمون، إذا أرادوا أمراً قالوا: نفعله إن شاء الله. فاجعلهم أمتي.
قال: هم أمة أحمد؟.
قال الحبر: نعم.
قال: فأنشدك الله، هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة؟.
فقال: رب، إني أجد أمة إذا أشْرف أحدهم على شرف كبرَّ الله، وإذا هبط وادياً حمد الله، الصعيدُ لهم طهُور، والأرض لهم مسجد حيث ما كانوا، مطهَّرون من الجنابة، طهُورهم بالصَّعِيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء، غُرٌّ محجَّلُون من آثار الوضوء، فاجعلهم أمتي.
قال: هم أمة أحمد يا موسى؟.
قال الحبر: نعم.
قال: أنشدك الله هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة.
فقال: رب إني أجد أمةً مرحومة ضعفاء، يرثون الكتاب الذين اصطفيتهم، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مُقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، فلا أجد أحداً منهم إلاَّ مرحوماً، فاجعلهم أمتي.
قال: هم أمة أحمد يا موسى.
قال الحبر: نعم.(1/8)
قال: أنشدك الله، هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال: رب إني أجد في التوراة أمةً مصاحفهم في صدورهم، يصَفُّون في صلاتهم كصفوف الملائكة، أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل، لا يدخل النار منهم أحد، إلا من برىء من الحسنات مثل ما برىء الحرج من الشجر، فاجعلهم أمتي.
قال: هم أمة أحمد يا موسى؟.
قال الحبر: نعم.
فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمداً وأمته قال ليتني من أصحاب محمد: فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن: {س7ش144/ش145قَالَ يَامُوسَى إِن?ى اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَآ ءاتَيْتُكَ وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الأٌّلْوَاحِ مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَىْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } الآية
(الأعراف: 144، 145)
وقال تعالى: {س7ش159وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ }(الأعراف: 159)
فرضي موسى كلَّ الرضا.
عن كعب أنه سمع رجلاً يقول: إني رأيت في المنام كأن الناس جمعوا للحساب، فدُعي الأنبياء، فجاء مع كل نبي أمته، ورأى لكل نبي نورين، ولكلِّ من اتبعه نوراً يمشي به، فدعي محمد صلى الله عليه وسلم فإذا لكل شعرة في رأسه ووجهه نور، ولكل من اتبعه نوران يمشي بهما.
فقال كعب، وهو لا يشعر أنها رؤيا: من حدَّثك هذا؟.
قال: أنا والله الذي لا إله إلا هو رأيتُ هذا المنام.
فقال: بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيتَ هذا في منامك؟.
قال: نعم.
قال: والذي نفس كعب بيده، أو والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده، إنها لصفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته وصفة الأنبياء وأممها في كتاب الله، لكأنما قرأه من التوراة.(1/9)
وقال ابن أبي نملة: كانت يهود بني قريظة يدرسون ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم ويُعْلمون الولدان بصفته واسمه، ومُهاجره المدينة فلما ظهر حسدوا وبغوا وأنكروا.
وقال أبو سعيد الخدري: سمعت أبي مالك بن سنان يقول: جئت بني عبد الأشهل يوماً لأتحدث فيهم، ونحن يومئذ في هدنة من الحرب، فسمعت يوشع اليهودي يقول: أظلَّ خروجُ نبي يقال له أحمد: يخرج من الحرم.
فقال له خليفة بن ثعلبة الأشهلي، كالمستهزىء به: ما صفته؟.
قال: رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حمرة، يلبس الشَّمْلة ويركب الحمار، وهذا البلد مُهاجره.
قال: فرجعت إلى قومي بني خدرة وأنا يومئذ أتعجب مما يقول يوشع، فأسمع رجلاً منا يقول: ويوشع يقول هذا وحده؟ كل يهود يثرب تقول هذا.
قال أبي مالك بن سنان: فخرجت حتى جئت بني قريظة فأخذوا جميعاً فتذاكروا النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال الزبير بن باطا: قد طلع الكوكب الأحمر الذي لم يطلع إلا لخروج نبي وظهوره، ولم يبق أحد إلا أحمد، وهذه مهاجره.
قال أبو سعيد: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخبره أبي هذا الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَسْلَمَ الزُّبَيْرُ وذَوُوه من رُؤَسَاءِ يَهُودَ لأَسْلَمَتْ يَهودُ كُلُّهَا، إنَّمَا هُم لَه تَبَعُ» .
وقال محمد بن مسلمة: لم يكن في بني عبد الأشهل إلا يهودي واحد يقال له: يوشع، فسمعته يقول وأنا غلام: قد أظلكم خروج نبي يبعث من نحو هذا البيت، ثم أشار بيده إلى بيت الله تعالى، فمن أدركه فليصدقه.
فبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا، وهو بين أظْهُرنا ولم يُسلم، حسداً وبغياً.(1/10)
عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: ما كان في الأوس والخزرج رجل أوْصف لمَحمد صلى الله عليه وسلم من أبي عامر الراهب، كان يألف اليهود ويسائلهم عن الدين ويخبرونه بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذه دار هجرته، ثم خرج إلى يهود تيماء فأخبروه بمثل ذاك، ثم خرج إلى الشام فسأل النصارى فأخبروه بصفة النبي صلى الله عليه وسلم. وأن مهاجره يثرب، فرجع أبو عامر وهو يقول: أنا ديِّن على دين الحنيفية. وأقام مترهباً ولبس المسوح، وزعم أنه على دين إبراهيم عليه السلام وأنه ينتظر خروج النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة لم يخرج إليه، وأقام على ما كان عليه، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة حسد وبغَى ونافق، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، بم بعثت؟.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بالحَنِيْفِيَّةِ دِيْنِ إبْرَاهِيم» .
(قال: فأنا عليها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّكَ لَسْتَ عَلَيها) .
فقال: أنت تخلطها بغيرها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَتَيْتُ بِها بَيْضَاءَ نَقِيَّةٌ، أيْنَ مَا كَان يُخْبِرُكَ الأحْبَارُ منَ اليهَودِ والنَّصَارَى مِن صِفَتِي؟» .
فقال: لستَ بالذي وصفوا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَذَبْتَ» .
فقال: ما كذبتُ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكَاذِبُ أَمَاتَه اللَّهُ وَحِيْدًا طَرِيدًا» .
فقال: آمين.
ثم رجع إلى مكة فكان مع قريش يتبع دينهم، وترك ما كان عليه.
وفي رواية أخرى: فلما أسْلم أهلُ الطائف لحق بالشام فمات بها طريداً وحيداً غريباً.
وقال ابن عباس: إن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبْعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه.(1/11)
فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البرَاء يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، قد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنا أهل شرك، وتخبرونا أنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته.
فقال سلام بن مشكم: ما هو بالذي كنا نذكر لكم، ما جاءنا بشيء نعرفه.
فأنزل الله تعالى في ذلك منْ قولهم: {س2ش89وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } (البقرة: 89)
.
يقول يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب. يعني بذلك أهل الكتاب، فلما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه.
عن قتادة {وكانوا يستفتحون على الذين كفروا} .
قال: كانت يهود تستفتح بمحمد صلى الله عليه وسلم على كفار العرب، كانوا يقولون: اللهم ابعث النبيَّ الذي نجدُه في التوراة، نعذبهم ونقتلهم.
فلما بُعثَ منْ غيرهم كفروا به حسداً للعرب.
وقال المغيرة بن شعبة: إنه دخل على المقوْقس، وإنه قال له: إن محمداً نبي مُرْسل، ولو أصاب القبط والروم اتبعوه.
قال المغيرة: فأقمت بالإِسكندرية لا أعد كنيسة إلا دخلتُها وسألت أساقفها من قبطها ورومها عمَّا يجدون من صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان أسْقُف من القبط هو رأسُ كنيسة أبي يحنس، كانوا يأتونه بمرضاهم فيدعو لهم، لم أر أحداً قط يصلي الصلوات الخمس أشدَّ اجتهاداً منه.
فقلت: أخبرني هل بقي أحدٌ من الأنبياء؟.(1/12)
قال: نعم، وهو آخر الأنبياء، ليس بيْنه وبين عيسى بن مريم أحدٌ، وهو نبي قد أمرنا عيسى باتباعه، وهو النبي الأميُّ العربي، اسمه أحمد، ليس بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حُمْرة وليس بالأبيض ولا بالآدم، سيفه على عاتقه ولا يُبالي من لاقى، يباشر القتال بنفسه. ومعه أصحابُه يَفْدونه بأنفسهم، هم له أشد حُبًّا من أولادهم وآبائهم، يخرج من أرض القَرظ ومن حرم يأتي إلى حرم، ويهاجر إلى أرضٍ ذات سباخ ونخل، يدين بدين إبراهيم عليه السلام،
قال المغيرة بن شعبة: زدني في صفته.
قال: يأتزر على وسطه، ويغسل أطرافه، ويُخص بما لا يُخصُّ به الأنبياء قبله.
كان النبي يبعث إلى قومه وبُعث إلى الناس كافة، وجُعلت له الأرض مسجداً وطهُوراً أينما أدركتْه الصلاة تيمم ويصلي، ومن كان قبْله مشدَّدٌ عليه لا يُصلون إلا في الكنائس والبيع.
ثم إن المغيرة جاء فأسلم وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع ذلك، فأعجبه أن يسمعه أصحابه. قال: فكنت أحدثهم ذلك في اليومين والثلاثة.
وروي: أن ورقة بن نوفل، وزيد بن سعيد خرجا يلتمسان الدين، حتى انتهيا إلى راهب بالموْصل، فقال لزيد: من أين أقبلت؟.
فقال: منْ بيت إبراهيم.
قال: وما تلتمس؟
قال: ألتمس الدين.
قال: ارجع، فإنه يوشك أن يظهر الذي تطلب في أرضك.
فرجع وهو يقول:
لبَّيْك حقَّا حقاً، تعبُّداً ورِقًّا.
عن خليفة بن عبدة المنقري قال: سألت محمدَ بن عديَ كيف سمَّاك أبوك محمداً.
قال: أمَا إني سألتُ أبي عما سألتني عنه، فقال: خرجتُ رابع أربعة من بني تميم، أنا أحدهم، وسفيان بن مُجاشع بن دارم، ويزيد بن عمرو بن ربيعة، وأسامة بن مالك بن جنْدب، نريد ابن جفْنة الغسَّاني.
فلما قدمنا الشام: نزلنا على غدير فيه شجيرات، وقُرْبه ديرٌ وفيه ديراني، فأشرف علينا وقال: إن هذه اللغة ما هي لأهل هذا البلد.
قلنا: نعم نحن قومٌ من مُضر.
قال: من أيِّ المضرين.
قلنا: من خنْدف.(1/13)
قال: أما إنه سيبعث فيكم وشيكاً نبيٌّ فسارعوا إليه، وخذوا بحظكم منه ترْشدوا، فإنه خاتم النبيين واسمه محمد.
فلما انصرفنا من عند ابن جفْنة وصرنا إلى أهلنا، ولد لكلِّ رجل منا غلام فسماه محمداً.
عن سلمة بن سلامة بن وقش قال: كان لنا جارٌ من يهود في بني عبد الأشهل.
قال: فخرج علينا يوماً من بيته قبل مَبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل.
قال سلمة: وأنا يومئذ أحدَث من فيه سناً، عليّ بُرْدة مضطجع فيها بفناء أهلي.
فذكر البعث، والقيامة، والحساب، والميزان، والجنة، والنار.
فقال ذلك لقومٍ أهل شرك أصحاب أوثان، لا يروْن أن بعثاً كائن بعد الموت.
فقالوا: ويحك يا فلان ترى هذا كائناً، أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دارٍ فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم.
قال: نعم، والذي يحلف به، لودَّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تَنوُّر يُحْمونه في الدار ثُمّ يدخلونه إياه فيطبقونه عليه، وأن ينجو من تلك النار غداً.
قالوا له: ويحك وما آية ذلك؟.
قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد. وأشار بيده نحو مكة واليمن.
قالوا: ومتى نراه؟.
قال: فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سناً، قال: إن يستنفد هذا الغلام عُمْره يُدْركه.
قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حيٌّ بين أظهرنا، فآمنَّا به وكفر به حسداً وبغياً.
فقلنا له: ويلك يا فلان ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت؟.
قال: بلى، وليس به.
عن ابن مسعود: أن الله تعالى ابتعث نبيه لإدخال رجل الجنة، وذلك أنه دخل الكنيسة فإذا هو بيهود. وإذا يهودي يقرأ عليهم التوراة فلما أتوا على صفة النبي صلى الله عليه وسلم أمسكوا، وفي ناحيتها رجل مريض.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا لَكُمْ أَمْسَكْتُم؟» .(1/14)
قال المريض: إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا. حتى جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة فقرأ حتى أتى على صفة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: هذه صفتك، وصفة أمتك أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. ثم مات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ادْفِنوا أخَاكُم» .
عن أبيَّ بن كعب قال: لمَّا قدم تُبَّعٌ المدينة ونزل بقناة، بعث إلى أحبار يهود فقال: إني مُخْرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهوديةٌ ويرجع الأمر إلى دين العرب.
فقال له ساموكُ اليهوديُّ، وهو أعلمهم يومئذ:
أيها الملك، إن هذا بلدٌ يكون إليه مهاجرُ نبي من ولد إسماعيل، مولدُه مكة، اسمه أحمد، وهذه دار هجرته، وإن منزلك هذا الذي أنت به يكون به من القتل والجراح أمرٌ كثير في أصحابه وفي عدوهم.
قال تُبَّع: ومَنْ يقاتله يومئذ وهو نبي كما يزعمون؟.
قال: يسير إليه قومُه فيقتتلون ها هنا.
قال: فأين قبرُه؟.
قال: بهذا البلد.
قال: فإذا قوتل لمن تكون الدائرة.
قال: تكون له مرة وعليه مرة، وبهذا المكان الذي أنت به تكون عليه، ويُقْتل به أصحابه قتلاً لم يقتلوه في مَوْطن، ثم تكون له العاقبة، ثم يظهر فلا ينازعه هذا الأمر أحد.
قال: وما صفته؟.
قال: رجلٌ ليس بالقصير ولا بالطويل، في عينيه حمرة، يركب البعير ويلبس الشَّملة، سيفُهُ على عاتقه، لا يبالي بمن لاقاه من أخ، أو ابن عم، أو عم حتى يظهر أمره.
قال تُبع: ما لي إلى هذه البلد من سبيل، وما كان ليكون خرابها على يدي.
فخرج تُبَّع منصرفاً إلى اليمن.
قال عبدالله بن سلام: لم يمت تُبع حتى صدق بالنبي صلى الله عليه وسلم لمَا كان يهود يثرب يخبرونه، وإن تبعاً مات مُسْلماً.
عن الزبير بن باطا وكان أعلم اليهود قال: إني وجدت سِفْراً كان أبي يختمه عليَّ، فيه: ذكر أحمد: نبي يخرج بأرض القَرظ، صفته كذا وكذا.
فيحدث به الزبير بعد أبيه والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ لم يبعث.(1/15)
فما هو إلا أن سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج بمكة عمد إلى ذلك السِّفر فمحاه، وكتم شأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وقال: ليس به.
عن ابن عباس قال: كانت يهود قريظة والنضير وفَدَك وخيبر يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وأن دار هجرته المدينة.
فلما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت أحبار يهود: ولد أحمد الليلة، هذا الكوكب قد طلع.
فلما تنبأ قالوا: تنبأ أحمد، قد طلع الكوكب.
كانوا يعرفون ذلك ويقرُّون به ويصفونه، إلا الحسد والبغي.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سكن يهودي بمكة يبيع بمنى تجارات، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مجلس من مجالس قريش: هل كان فيكم من مولود هذه الليلة؟.
قالوا: لا نعلمه.
قال: انظروا يا معاشر قريش، أحصوا ما أقول لكم: ولد الليلة نبي هذه الأمة أحمد، وبه شامة بين كتفيه فيها شعرات.
فتصدع القوم من مجالسهم وهم يتعجبون من حديثه، فلما صاروا في منازلهم ذكروا ذلك لأهاليهم، فقيل لبعضهم: ولد لعبدالله بن عبد المطلب الليلة غلام وسماه محمداً.
وأتوا اليهودي في منزله، فقالوا: علمنا أنه ولد فينا مولود.
قال: أبعد خبري أم قبله؟.
قالوا: قبله واسمه أحمد.
قال: فاذهبوا بنا إليه.
فخرجوا معه حتى دخلوا على آمنة رضي الله عنها، فأخرجته إليهم فرأى الشامة بظهره، فغشي على اليهودي ثم أفاق. قالوا: ما لك ويلك.
قال: ذهبت النبوة من بني إسرائيل، وخرج الكتاب من أيديهم، وهذا مكتوب أنه يقتلهم ويبيد أحبارهم، فازت العرب بالنبوة، أفرحتم به يا معشر قريش؟ أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج نبؤها من المشرق والمغرب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس فقال: «أخْرِجُوا إليَّ أَعْلَمَكم» .(1/16)
فقالوا: عبدالله بن صوريا. فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فناشده بدينه، وبما أنعم الله عليهم وأطعمهم من المن والسّلوى، وظللهم من الغمام، أتعلم أني رسول الله؟.
قال: اللهم نعم، وإن القوم ليعرفون ما أعرف، وإن صفتك ونعتك لمبين في التوراة ولكن حسدوك.
قال: «فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْتَ؟» .
قال: أكره خلافَ قومي، عسى أن يتبعوك ويسلموا فأسلم.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كنت آتي اليهود عند دراستهم التوراة، فأعجب من موافقة التوراة القرآن.
فقالوا: يا عمر ما أحدٌ أحب إلينا منك، لأنك تغشانا.
قلت: إنما أجيء لأعجب من تصديق كتاب الله بعضه بعضاً.
فبينا أنا عندهم ذات يوم إذ مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا صاحبك.
فقلت: أنشدكم الله، وما أنزل عليكم من الكتاب أتعلمون أنه رسول الله؟.
قال سيدهم: نشدكم الله فأخبروه.
قالوا: أنت سيدنا فأخبرْه.
فقال: إنا نعلم أنه رسول الله.
قلت: فما أهلككم إن كنتم تعلمون أنه رسول الله ثم لم تتبعوه.
قالوا: إن لنا عدواً من الملائكة وسلْماً من الملائكة، عدوُّنا جبريل، وهو ملك الفظاظة والغلظة، وسِلْمنا ميكائيل، وهو ملك الرأفة واللين.
قلت: فإني أشهد ما يحل لجبريل أن يعادي سِلم ميكائيل، ولا لميكائيل أن يسالم عدو جبريل.
ثم قمت، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أَلاَ أقْرَأَتُكَ آيَاتٍ نَزَلَتْ عَلَيَّ قَبْلُ؟ فتلا: {س2ش97قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }(البقرة: 97).
فقلت: والذي بعثك بالحق، ما جئت إلا لأخبرك بقول يهود، فإذا اللطيف الخبير قد سبقني.
قال عمر: فلقد رأيتني في دين الله أصلبَ من الحجَر.(1/17)
عن أبي سفيان بن حرب قال: خرجت أنا وأمية بن أبي الصَّلت تجاراً إلى الشام، فكنا كلما نزلنا منزلاً أخرج من رحله سِفْراً يقرؤه علينا.
فكنا كذلك حتى نزلنا بقرية من قرى النصارى، فرأوه وعرفوه وأهدوا له وذهب معهم إلى بَيْعتهم، ثم رجع في وسط النهار فطرح ثوبيه واستخرج ثوبين أسودين فلبسهما، ثم قال: يا أبا سفيان، هل لك في عالِم من علماء النصارى إليه تناهى علم الكتب تسأله عما بدا لك؟.
قلت: لا.
فمضى هو وحده، وجاءنا بعد هَدْأة من الليل، فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح.
وأصبح كئيباً حزيناً ما يكلمنا ولا نكلمه، فسرنا ليلتين على ما به من الهم، فقلت له: ما رأيت مثل الذي رجعتَ به من عند صاحبك.
قال: لمُنْقَلبي.
قلت: وهل لك من مُنْقَلب؟.
قال: إي والله لأموتن ولأحاسبن.
قلت: فهل أنت قابلٌ أمانِي؟.
قال: علَى ماذا؟.
قلت: على أنك لا تُبعث ولا تحاسَب.
فضحك وقال: بلى والله لنبعثن ولنحاسبن، وليدخلن فريق في الجنة وفريق في النار.
قلت: ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك؟.
قال: لا علم لصاحبي بذلك فيَّ ولا في نفسه.
فكنا في ذلك ليلتنا، يعجب منا ونضحك منه، حتى قدمنا غوطة دمشق، فبعنا متاعنا وأقمنا شهرين.
ثم ارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى، فلما رأوه جاؤوه وأهدوا له وذهب معهم إلى بيعتهم، حتى جاءنا مع نصف النهار، فلبس ثوبيه الأسودين فذهب حتى جاءنا بعد هَدأة من الليل، فطرح ثوبيه ثم رمى بنفسه على فراشه، فوالله ما نام ولا قام، فأصبح مبثوثاً حزيناً لا يكلمنا ولا نكلمه.
فرحلنا فسرنا ليالي، ثم قال: يا صخر، حدِّثني عن عُتبة بن ربيعة: أيجتنب المحارم والمظالم؟
قلت: إي والله.
قال: ويصل الرحم ويأمر بصلتها؟
قلت: نعم.
قال: وكريم الطرفين وسط في العشيرة؟
قلت: نعم.
قال: فهل تعلم قُرشياً أشرف منه.
قلت: لا والله.
قال: أمُحْوجٌ هو؟
قلت: لا، بل ذو مالٍ كثيرٍ.
قال: كم أتى له من السنين؟(1/18)
قلت: هو ابن سبعين قد قاربها.
قال: فالسن والشرف أزْرَيا به.
قلت: لا والله بل زاداه خيراً.
قال: هو ذاك.
ثم إن الذي رأيتَ بي أني جئت هذا العالِم فسألته عن هذا الذي يُنتظر.
فقال: هو رجل من العرب من أهل بيت تحجه العرب.
فقلت: فينا بيت تحجُّه العرب.
قال: هو من إخوانكم وجيرانكم من قريش. فأصابني شيء ما أصابني مثله، إذ خرج من يدي فوز الدنيا والآخرة، وكنت أرجو أن أكون أنا هو.
قلت: فصِفْه لي.
قال: رجل شابٌّ حين دخل في الكهولة، بدءُ أمره أنه يجتنب المحارم والمظالم، ويصل الرحم ويأمر بصلتها، وهو مُحْوج كريم الطرفين متوسط في العشيرة، أكثر جنده من الملائكة.
قلت: وما آية ذلك؟
قال: قد رجفت الشام منذ رفع عيسى بن مريم ثمانين رجفة كلها فيها مصيبة، وبقيت رجفة عامة فيها مصيبة، يخرج على أثرها.
فقلت: هذا هو الباطل، لئن بعث الله رسولاً لا يأخذه إلا مسنًّا شريفاً.
قال أمية: والذي يحلف به إنه لهكذا.
فخرجنا حتى إذا كان بيننا وبين مكة ليلتان أدركَنا راكب من خلفنا، فإذا هو يقول: أصابت الشام بعدكم رجفة دمِّر أهلها فيها وأصابتهم مصائب عظيمة.
فقال أمية: كيف ترى يا أبا سفيان؟
فقلت: والله ما أظن صاحبك إلا صادقاً.
وقدمنا مكة، ثم انطلقت حتى جئت أرض الحبشة تاجراً، فمكثت فيها خمسة أشهر، ثم قدمت مكة فجاء الناس يسلِّمون عليَّ وفي آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهندٌ تلاعب صبيانها، فسلم علي ورحب بي وسألني عن سَفري ومقدَمي، ثم انطلق.
فقلت: والله إن هذا الفتى لعجب ما جاءني أحد من قريش له معي بضاعة إلا سألني عنها وما بلَغَتْ، ووالله إن له معي لبضاعة ما هو بأغناهم عنها ثم ما سألني عنها.
فقالت: أوما علمتَ بشأنه؟
فقلت وفزعت: وما شأنه؟
قالت: يزعم أنه رسول الله
فذكرتُ قول النصارى ووجمتُ.
ثم قدمتُ الطائفَ فنزلتُ على أمية، فقلت: هل تذكر حديث النصارى؟
قال: نعم.
قلت: قد كان.
قال: ومن؟(1/19)
قلت: محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، فتصبب عرقاً وقال: إن ظهر وأنا حيٌّ لأُبلين الله في نصره عذراً.
فعدت من اليمن، فنزلت على أمية، فقلت: قد كان من أمر الرجل ما بلغك، فأين أنت منه؟
قال: والله ما كنت لأومن برسول من غير ثقيف أبداً
عن عاصم بن عمر بن قَتادة عن رجال من قومه قالوا: إن مما دعانا إلى الإِسلام مع رحمة الله وهداه لَمَا كنا نسمع من يهود.
كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه تقاربَ زمان نبي يبعث الآن، نتبعه فنقتلكم معه قتلَ عاد وإرم.
فكنا كثيراً ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتواعدوننا به فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا، ففينا وفيهم نزلت هذه الآيات: {ولمَّا جاءهم كتابٌ مِنْ عندِ الله مُصَدّق لما معهم} إلى قوله: {س2ش89وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }(البقرة: 89)
قال عاصم: وقال لي شيخ من بني قريظة: هل تدرون عما كان إسلام ثعلبة وأسد ابني سعية وأسدُ بن عبيد نفر من بني ذهل إخوة بني قريظة، كانوا معهم في جاهليتهم ثم كانوا سادتهم في الإِسلام؟
قلت: لا أدري.
قال: فإن رجلاً من يهود أهل الشام يقال له ابن الهَيِّبان قدم علينا قبل الإِسلام فحلَّ بين أظهرنا، فما رأينا رجلاً لا يصلي الخمس أفضل منه، وكان إذا قحط المطر استسقى لنا فنسقى، فلما حضرته الوفاة قال: يا معشر يهود ما ترون أخرجني إلى أرض الجوع والبؤس؟
قلنا: أنت أعلم.(1/20)
قال: فإني قدمت هذه البلدة أتوكَّفُ خروج نبي قد أظل زمانه، هذه البلدة مهاجره، وكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه فلا تُسبقن إليه يا معشر اليهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وسَبْي الذراري والنساء مما خالفه، فلا يمنعنكم ذلك منه.
فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وحاصر بني قُريظة قال هؤلاء الفتية، وكانوا شباناً أحداثاً: يا بني قريظة، والله إنه النبي الذي عهد إليكم فيه ابن الهيِّبان قالوا: ليس به.
قالوا: بلى والله إنه لهو. فنزلوا فأسلموا وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهْليهم.
عن سَلمان الفارسي رضي الله عنه أنه صحب الرهبان في طلب الدين، إلى أن قال له آخر من صحبه: أي بني: والله ما أعلمه أصبح على مثل ما كنا عليه أحد من الناس بمكان تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مُهاجره إلى أرض بين حرَّتين بينهما نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة.
وقال طلحة بن عبيدالله: حضرت سوق بُصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل الموسم هل فيكم أحد من أهل الحرم؟
قال طلحة: فقلت نعم أنا.
قال لي: ظهر بمكة بعدُ أحمد؟
قلت: ومن أحمد؟
قال: ابن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه وهو آخر الأنبياء، ومَخرجه من الحرم ومهاجره إلى نخل وحَرة وسباخ.
قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال الراهب، فخرجت حتى قدمت مكة، فقلت: هل كان من حديث؟
قالوا: نعم محمد بن عبدالله الأمين تنبَّأ وتابَعه ابن أبي قُحَافة.
فخرجت حتى أتيت أبا بكر فأخبرته وقلت له اتبعت هذا الرجل؟
قال: نعم انطلق فتابعْه فإنه يدعو إلى الحق. وذهب أبو بكر معه.
قال طلحة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبر الراهب وما قال لي.
عن جُبَير بن مُطْعم: لما بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فظهر أمره بمكة خرجتُ إلى الشام، فلما كنت ببُصرى أتاني جماعة من النصارى فقالوا لي: أمن أهل الحرم أنت؟(1/21)
قلت: نعم.
قالوا: فتعرف هذا الذي تنبأ فيكم؟
قلت: نعم. فأخذوا بيدي وأدخلوني ديراً لهم فيه تماثيل وصور.
فقالوا: انظر هل ترى صورة هذا النبي الذي بعث فيكم، فنظرت فلم أر صورته.
قلت: لا أرى صورته. فأدخلوني ديراً أكبر من ذاك، فإذا فيه تماثيل وصور أكثر مما في ذلك الدير، فقالوا لي: انظر هل ترى صورته؟ فنظرت فإذا أنا بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصورته، وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته آخذٌ بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لي: هل ترى صفته؟
قلت: نعم.
قلت: لا أخبرهم حتى أعرف ما يقولون.
قالوا: هل هو هذا؟
قلت: نعم. فأشاروا إلى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: اللهم نعم، أشهد أنه هو.
قالوا: تعرف هذا الذي آخذٌ بعقبه؟
قلت: نعم.
قالوا: نشهد أن هذا صاحبكم، وأن هذا الخليفة من بعده.
عن جبير بن مطعم قال: كنت أكره أذى قريش رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلما ظننت أنهم سيقتلونه خرجت حتى لحقت بدير من الديارات، فذهب أهل الدير إلى رئيسهم فأخبروه، فقال: أقيموا له حقه الذي ينبغي له ثلاثاً.
فلما مرت ثلاث أحضروه الصورة.
قال: قلت ما رأيت شيئاً أشبه بشيء من هذه الصورة.
قال: فتخاف أن يقتلوه؟
قلت: أظنهم قد فرغوا منه.
قال: والله لا يقتلونه وليقتلن من يريد قتله، وإنه لنبي، وليظهرنه الله تعالى.
عن صفية بنت حُييّ قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي حييُّ بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين.
قالت: فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس، فأتيا كالَّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا، فهششت إليهما فما التفت إليَّ أحد منهما مع ما بهما من الهم، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟
قال: نعم والله.
قال: أتثبته وتعرفه؟
قال: نعم.
قال: فما في نفسك منه.
قال: عداوته والله ما بقيتُ أبداً.(1/22)
ومن حديث مُخَيْريق وكان حَبراً عالماً كثير المال من النخل، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وغلب عليه إلْف دينه، فلم يزل على ذلك حتى كان يوم أُحد، وكان يوم السبت.
فقال: يا معشر اليهود والله إنكم لتعلمون أن نصْر محمد عليكم لحقٌّ.
قالوا: فإن اليوم يوم السبت.
قال: لا سبت.
ثم أخذ سلاحه وخرج حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأُحد، وكان يوم السبت، وعهد إلى من ورائه من قومه: إن قُتِلتُ هذا اليوم فمالي لمحمد يصنع فيه ما أراه الله تعالى. فقاتل حتى قُتل فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يقول: «مُخَيْريْقُ خَيْرُ يَهُود» . وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله فعامة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم منها.
عن ابن عباس: أن قريشاً اجتمعوا فيهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل، وأبو جهل، وأمية وأبيّ ابنا خلف، والأسود بن المطلب، وسائر قريش، فبعثوا منهم خمسة رهط، منهم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث إلى المدينة، يسألون اليهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صفته ومبعثه، وقالوا: يزعم أنه نبي واسمه محمد وهو يتيم فقير، وإنا نزعم أنه يتعلم من مسيلمة الكذاب.
فقالوا: نجد نعته وصفته في التوراة وخاتم النبوة بين كتفيه.
قالوا: إن كان كما وصفتم فهو نبي مرسل وأمره حق فاتبعوه، ولكن سلُوه عن ثلاث خصال، فإنه يخبركم بخصلتين ولا يخبركم بالثالثة إن كان نبياً، فإنا قد سألنا مسيلمة عن هؤلاء الثلاث خصال فلم يدر ما هي، وقد زعمتم أنه يتعلم من مسيلمة.
فرجعت الرسل إلى قريش بالخبر من اليهود، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد أخبرنا عن خصال ثلاث: أخبرنا عن ذي القرنين، وعن الروح، وعن أصحاب الكهف.
فقال: «أخبركم بذلك غداً» . ولم يقل إن شاء الله.
فأبطأ عليه جبريل خمسة عشر يوماً لترك الاستثناء، فشق ذلك عليه، فجاء جبريل فقال: «أبطأت عليَّ» .(1/23)
فقال: لتركك الاستثناء، {س18ش23/ش24وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى لأًّقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَدًا } (الكهف: 23 ــــ 24)
ثم أخبره بخبر ذي القرنين، وأصحاب الكهف، وقال: الروح من أمر ربي لا علم لي به.
فقالوا: ساحران تظاهرا. يعنون التوراة والفرقان.
عن عمرو بن عبسة: رَغِبْتُ عن آلهة قومي في الجاهلية ورأيت أنها الباطل، يعبدون الحجارة وهي لا تضر ولا تنفع، فلقيت رجلاً من أهل الكتاب، فسألته عن أفضل الدين فقال: يخرج رجل من مكة ويرغب عن آلهة قومه ويأتي بأفضل الدين، فإذا سمعت به فاتبعه.
فلم يكن لي همٌّ إلا مكة آتيها فأسأل هل حدث فيها أمر؟
فيقولون: لا.
فأنصرف إلى أهلي، وأعترض الركبان فأسألهم فيقولون: لا. فإني لقاعد إذ مر بي راكب فقلت: من أين جئت؟
قال: من مكة.
قلت: هل حدث فيها حدث؟
قال: نعم، رجل رغب عن آلهة قومه ودعا إلى غيرها.
قلت: هذا صاحبي الذي أريد.
فشددت راحلتي وجئت فأسلمت.
عن ابن عباس قال: إن ثمانية من أساقفة نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم السيد والعاقب، فأنزل الله تعالى فيهم: {س3ش61فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }الآية
(آل عمران: 61)
.
قالوا: فأخرنا ثلاثة أيام. فذهبوا إلى بني قريظة والنضير وبني قينقاع فاستشاروهم، فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، فهو النبي الذي نجده في التوراة والإِنجيل.
فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألف حلة في صفر وألف حلة في رجب ودراهم.(1/24)
عن عكرمة: أنَّ ناساً من أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، فلما بعث كفروا به، فذلك قوله تعالى: {س3ش106يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }(آل عمران: 106)
.
عن سهل مولى عثيمة قال: إنه كان نصرانياً وكان يتيماً في حجر أبيه وعمه، وكان يقرأ الإِنجيل.
قال: فأخذت مصحفاً لعمي فقرأته، حتى مرت بي ورقة فأنكرت كثافتها فإذا هي ملصقة، ففتفتها فوجدت فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم: أنه لا قصير ولا طويل، أبيض، بين كتفيه خاتم النبوة، يكثر الاحتباء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحتلب الشاة، ويلبس قميصاً مرقوعاً، وهو من ذرية إسماعيل، اسمه أحمد.
قال: فجاء عمي فرأى الورقة فضربني، وقال: ما لك وفتْح هذه الورقة؟
فقلت: فيها نعت النبي أحمد.
قال: إنه لم يأت بعد.
عن عمر بن حفص، وكان من خيار الناس، قال: كان عند أبي أو عند جدي ورقة يتوارثونها قبل الإِسلام بزمان، فيها: بسم الله وقوله الحق وقول الظالمين في تباب، هذا الذكر لأمة تأتي في آخر الزمان، يأتزرون على أوساطهم ويغسلون أطرافهم، ويخوضون البحار على أعدائهم، فيهم صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان، أو في ثمود ما أهلكوا بالصيحة.
فأخبرني أنهم جاؤوا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأوها عليه وأخبروه خبرها، فأمرهم أن يضعوها في أضعاف المصحف.
عن ابن عباس قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام فيما أوحى إليه: أن صدِّق بمحمد، ومُر أمتك من أدركه منهم أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن.(1/25)
وقال وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إلى شعيا: إني مبتعث نبيًّا أمياً أفتح به أذاناً صماً وقلوباً غلفاً، أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحق شريعته، والهدى إمامه، والإِسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأكثر به بعد القلة، (وأغني به بعد العَيْلة) وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين قلوب وأهواء متشتتة وأمم مختلفة، وأجعل أمته خير أمة، وهم رعاة الشمس طوبى لتلك القلوب.
وقال أشعياء لإيلياء، وهي قرية ببيت المقدس، واسمها «أوراشليم»: أبشري أوراشليم، يأتيك الآن راكب الحمار، يعني عيسى، ويأتيك بعده راكب البعير، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم.
وروي أن رجلاً من أهل الشام من النصارى قدم مكة، فأتى على نسوة قد اجتمعن في يوم عيد من أعيادهم، وقد غاب أزواجهن في بعض أمورهن فقال: يا نساء قريش إنه سيكون فيكم نبي يقال له أحمد فأيتما امرأة منكن استطاعت أن تكون له فراشاً فلتفعل.
ومضى الرجل فحفظت خديجة حديثه.
(ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة)
ومن أعلام نبينا صلى الله عليه وسلم الموجودة في كتب الله القديمة. قول الله تعالى في السِّفر الأول من «التوراة» لإبراهيم عليه السلام:
«قد أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه، وكثَّرته وعظَّمته جداً جداً، وسيلد اثني عشر عظيماً، وأجعله لأمة عظيمة».
ثم أخبر موسى بمثل ذلك في السفر وزاد شيئاً.
يقال فلما خرجت هاجر من سارة تراءى لها ملك الله وقال: يا هاجر أمة سَارة، ارجعي إلى سيدتك واخضعي لها، فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصوا كثرة، وها أنت تحبلين وتلدين ابناً وتسمينه إسماعيل، لأن الله تعالى قد سمع خشوعك، وتكون يده فوق يد الجميع، ويدُ الجميع مبسوطة إليه بالخضوع.(1/26)
قال ابن قتيبة: فتدبر هذا القول، فإن فيه دليلاً بيّناً على أن المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لأن إسماعيل لم تكن يده فوق يد إسحاق، ولا كانت يد إسحاق مبسوطة إليه بالخضوع، وكيف يكون ذلك والملك والنبوة في ولد إسرائيل والعيص، وهما أبناء إسحاق، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقلت النبوة إلى ولد إسماعيل فدانت له الملوك وخضعت له الأمم، ونسخ الله به كل شريعة، وختم به النبيين، وجعل لهم الخلافة والملك في آخر الزمان، فصارت أيديهم فوق أيدي الجميع، وأيدي الجميع بالرغبة إليهم مبسوطة بالخضوع.
ومن أعلامه في «التوراة» قال: «جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران».
وليس بهذا خفاء على من تدبره ولا غموض؛ لأن مجيء الله من سيناء إنزاله التوراة على موسى بطور سيناء، هكذا هو عند أهل الكتاب وعندنا وكذلك يجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله على المسيح الإِنجيل، وكان المسيح يسكن ساعير بأرض الخليل بقرية تدعى ناصرة، وباسمها سمي من اتبعه نصارى، وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير بالمسيح فكذلك يجب أن يكون استعلانه من جبال فاران بإنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم في جبال فاران، وهي جبال مكة، وليس بين المسلمين وأهل الكتاب خلاف في أن فاران هي مكة. فإن ادعوا أنها غير مكة وليس بنكير من تحريفهم وإفكهم قلنا: أليس في التوراة أن إبراهيم أسكن هاجَر وإسماعيل فاران؟
وقلنا: دُلُّونا على الموضع الذي استعلن الله منه واسمه فاران، والنبيِّ الذي أنزل عليه كتاباً بعد المسيح.
أو ليس استعْلنَ وعَلَن بمعنىً واحد وهما ظهر وانكشف؟
فهل تعلمون دِيناً ظهر ظهورَ الإِسلام وفشا في مشارق الأرض ومغاربها فشُوَّه.
ومن أعلامه في «التوراة» : قال الله تعالى لموسى في «السِّفْر الخامس»: إني أقيم لبني إسرائيل نبياً من إخوتهم مثلَك، أجعل كلامي على فمه.(1/27)
فَمن (مِن) إخوة بني إسرائيل إلا هو (ابن) إسماعيل، كما تقول: بكرٌ وتَغْلب أبناء وائل، ثم تقول تغلب أخو بكر، وبنو تغلب إخوة بني بكر. يُرْجع في ذلك إلى أخوَّة الأبوين.
فإن قالوا: هذا النبي الذي وعد الله أن يقيمه لهم هو أيضاً من بني إسرائيل، لأن بني إسرائيل إخوة بني إسرائيل، أكْذَبتهم التوراة وأكذبهم النظر؛ لأن في التوراة أنه لم يقم في بني إسرائيل مثل موسى.
وأما النظر: فإنه لو أراد أني أقيم لهم نبياً من بني إسرائيل مثل موسى، لقال: أقيم لهم من أنْفُسهم مثل موسى. ولم يقل من إخوتهم. كما لو أن رجلاً قال لرسوله: ائتني، برجل من بني تَغْلب بن وائل. فلا يجب أن يأتيه برجل من بني بكر.
قال ابن قتيبة: ومن قول حبقون المتنبىء في زمان دانيال قال حبقون: جاء الله من التيمن والقديسُ من جبال فاران، فامتلأت الأرض من تحميد أحمد وتقديسه، وملَك الأرضَ بيمينه ورقابَ الأمم.
قال: وقال أيضاً: تضيء لنوره الأرض وتُحْمَل خيلُه في البحر.
وزاد في بعض أهل الكتاب: أنه قيل في كلام حبقون: وستُتْرِع في قسيك إتراعاً وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواءً.
وهذا إفصاح باسمه وصفاته.
فإن ادَّعوا أنه غير نبينا ـ وليس ذلك بنُكرٍ من جحْدهم وتحريفهم: فَمنْ أحمدُ الذي امتلأت الأرض من تحميده، والذي جاء من جبال فاران فملَك الأرض ورقاب الأمم.
قال ابن قتيبة: ومن ذكر شَعْيا له عن الله عز وجل: عبدي الذي سُرَّت به نفسي.
وترجمه آخر فقال: عبدي، خِيرتي، رضى نَفْسي، أُفيض عليه روحي.
وترجمه آخر فقال: أنزل عليه وحيي، فَيظهر في الأمم عدْله، ويوصي الأمم بالوصايا، لا يضحك ولا يُسْمع صوته في الأسواق، يفتح العيون العور، ويُسْمع الآذانَ الصُّمَّ، ويحيي القلوب الغُلْف، وما أعطيته لا أعطي أحداً غيرَه، أحمدُ يحمد الله حمداً حديثاً، يأتي من أقصى الأرض، يُفْرح البَرِّيَّةَ وسكانَها، يهللون الله على كل شَرَف، ويكبرونه على كل رابية.(1/28)
وزاد آخر في الترجمة: لا يضْعُف ولا يُغْلَب، ولا يميل إلى الهوى، ولا يُسْمع في الأسواق صوتُه، ولا يُذل الصالحين الذين هم كالقصبة الضعيفة، بل يقوِّي الصِّديقين، وهو ركنُ المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يُطْفأ ولا يخصم حتى يثبِّت في الأرض حُجَّتي وينقطع به العُذْر، وإلى تَوْراته تنقاد الجن.
وهذا إفصاح باسمه وبصفاته.
فإن قالوا: أي توراة له؟
قلنا: أراد أنه يأتي بكتاب يقوم مقام التوراة لكم.
ومنه قول كعب: شكا بيتُ المقدس إلى الله تعالى الخرابَ، فقيل له: لأَبْدِلنَّك توراةً مُحدثة، وعمَّالاً مُحْدَثين، يزفون بالليل زفيفَ النسور، ويتحننون عليك كما تتحنن الحمامة على بيْضها، ويملأونك خدوداً سُجَّداً.
قال ابن قتيبة: ومن ذكر شعيا له قال: «أنا الله، عظَّمتُك بالحق، وجعلتك نور الأمم وعهدَ الصيْفون، لتفتح أعين العميان، وتُنْقذ الأسْرى من الظلمات إلى النور».
قال: وقال في الفصل الخامس: «إيليا من سلطانُه على كتفه».
يريد: علامة نبوته على كتفه هذا في التفسير السرياني. فأما في العبراني فإنه يقول: على كتفه علامة النبوة.
قال ابن قتيبة: ومِن ذكر داود له في الزَّبُور: «سبِّحوا الربَّ تسبيحاً حديثاً، سبحوا الذي هيكله الصالحون، ليفرح إسرائيل بخالقه وبيوت صهيون، من أجل أن الله اصطفى له أمَّته وأعطاه النصر وشدَّد الصالحين منه بالكرامة، يسبِّحونه على مضاجعهم ويكبِّرون الله بأصوات مرتفعة، بأيديهم سيوف ذات شفْرتين، لينتقموا (لله) من الأمم الذين لا يعبدونه، يوثقون ملوكهم بالقيود وأشرافهم بالأغلال».
قال ابن قتيبة: فمن هذه الأمة التي سيوفها ذات شفْرتين من غير العرب؟
ومن المنتقِم بها من الأمم الذين لا يعبدونه؟
ومن المبعوث بالسيف من الأنبياء غير نبينا صلى الله عليه وسلم؟
قال ابن قتيبة: وفي مزمور آخر: «تقلَّدْ أيها الجبار السيف، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك، وسِهامُك مسنونة، والأمم يخرُّون تحتك».(1/29)
فمَنْ متقلِّدُ السيف من الأنبياء غيرُ نبينا صلى الله عليه وسلم؟
ومَنْ خرَّت الأمم تحته غيره صلى الله عليه وسلم؟
ومَنْ قُرِنت شرائعه بالهيْبة، فإما القبول أو الجزية أو السيف؟
ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم: «ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ» .
قال: وفي مزمور آخر: «أن الله أظهره من صيفون إكليلاً محموداً.
ضرب الإِكليل مثلاً للرياسة والإِمامة ومحمود: هو محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: وفي مزمور آخر: «أنه يحوز من البحر (إلى النهر) ومن لدن الأنهار (إلى الأنهار) إلى منقطع الأرض، وأن تخر أهل الجزائر بين يديه على رُكبهم ويلحس أعداؤه التراب، تأتيه الملوك بالقرابين وتسجد له، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، لأنه يخلِّص المضطهد البائس ممن هو أقوى منه، وينقذ الضعيف الذي لا ناصر له، ويرأف بالضعفاء والمساكين، وأنه يُعْطَى من ذهب بلاد سَبَأ، ويصلى عليه في كل وقت، ويبارك في كل يوم، ويدوم ذِكْرُه إلى الأبد».
قال ابن قتيبة: فمن هذا الذي ملك ما بين البحر والنهر وما بين دِجْلة والفرات إلى منقطع الأرض، ومن ذا الذي يصلَّى عليه ويُبارك في كل وقت من الأنبياء غيره؟
قال: وفي موضع آخر من «الزبور» قال داود: «اللهم ابعث حامل السُّنة، حتى يَعْلم الناس أنه بشر».
وهذا إخبار عن المسيح وعن محمد صلى الله عليه وسلم قبلهما بأحقاب. يريد: ابعث محمداً حتى يَعلم الناس أن المسيح بشرٌ.
يُعْلم داود أنهم سيدَّعون للمسيح ما ادَّعوا.
قال: وفي شعيا: «قيل لي: قمْ نظارا فانظر ما ترى فخبِّر به قلت: أرى راكبيْن مُقْبلين، أحدهما على حمار والآخر على جمل، يقول أحدهما للآخر: سقطتْ بابل وأصنامها المنجرَّة».
قال: فصاحبُ الحمار عندنا وعند النصارى هو المسيح، فإذا كان صاحب الحمار المسيح فلمَ لا يكون محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الجمل؟(1/30)
أو ليس سقوط بابل والأصنام المنجرَّة به وعلى يديه، لا بالمسيح؟ ولم يزلْ في إقليم بابل ملوك يعبدون الأوثان من لدن إبراهيم عليه السلام. أو ليس هو بركوب الجمل أشهرُ من المسيح بركوب الحمار؟
(ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في «الإِنجيل»)
قال ابن قتيبة: فأما ذكْر النبي صلى الله عليه وسلم في «الإِنجيل»:
قال المسيح للحواريين: «أنا أذهب وسيأتيكم الفار قليط روح الحق الذي لا يتكلَّم منْ قِبل نفسه، إنما هو كما يقال له، وهو يشْهد عليَّ وأنتم تشهدون لأنكم مع من قَبل الناس، وكلُّ شيء أعده الله لكم يخبركم به».
قال: وفي حكاية يوحنا عن المسيح أنه قال: «الفار قليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبَّخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه مما يسمع به يكلمكم، ويسوسكم بالحق، ويخبركم بالغيوب والحوادث».
قال: حكاية أخرى: «إن الفار قليط روح الحق الذي يرسله أبي باسمي، هو يعلمكم كلَّ شيء».
وقال: «إني سائلٌ أبي أن يبعث إليكم فاراقليطاً آخر، يكون معكم إلى الأبد، يعلمكم كل شيء».
وفي حكاية أخرى: «إن البشير ذاهب، والفار قليط من بعده يجيء لكم بالأسرار ويفسر لكم كلَّ شيء، وهو يشهد لي كما شهدت له، فإني أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل».
قال ابن قتيبة: وهذه الأشياء على اختلافها متقاربة.
وإنما اختلفت لأن مَنْ نقل الإِنجيل عن المسيح عدَّةٌ.
فمنْ هذا الذي هو روح الحق لا يتكلم إلا بما يوحى إليه؟
ومن العاقب للمسيح والشاهد له بأنه قد بلَّغ؟
ومن الذي أخبر بالحوادث في الأزمنة، مثل خروج الدجال وظهور الدابة وطلوع الشمس من مغربها وأشباه هذا، وبالغيوب من أمر القيامة والحساب والجنة والنار وأشباه ذلك، مما لم يُذْكر في التوراة والإِنجيل، غير نبينا صلى الله عليه وسلم؟
قال ابن قتيبة: وفي «إنجيل متَّى»: أنه لما حبس يحيى بن زكريا ليُقْتل بعث تلاميذه إلى المسيح وقال: قولوا له أنت هو الآتي أو نتوقع غيرك؟(1/31)
فأجابه المسيح وقال: «الحق اليقين أقول لكم، إنه لم تقُم النساءُ عن أفضل من يحيى بن زكريا، وإن التوراة وكتب الأنبياء يتلو بعضها بعضاً بالنبوة والوحي حتى جاء يحيى، فأما الآن فإن شئتم فاقتلوا، فإن الياهو مُزْمع أن يأتي، فمن كانت له أذن سامعة فليسمع».
قال ابن قتيبة: وليس يخلو هذا الاسم من إحدى خلال:
إما أن يكون قال: «إن أحمد مُزْمع أن يأتي» فغيروا الاسم، كما قال الله تعالى: {س5ش51يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
(المائدة: 51)
جعلوه إيليا.
وإما أن يكون قال: «إن إيل مزمع أن يأتي» وإيل هو الله عز وجل، ومجيء الله هو مجيء رسوله بكتابه، كما قال في التوراة: «جاء الله من سيناء» أراد جاء موسى من سيناء بكتاب الله، ولم يأت كتابٌ بعد المسيح إلا القرآن.
وإما يكون أراد النبيَّ المسمى بهذا الاسم، وهذا لا يجوز عندهم لأنهم مجمعون على أنه لا نبيَّ بعد المسيح.
(ذكر مكة والحرم والبيت في الكتب المتقدمة)
قال ابن قتيبة: ذكر مكة والحرم والبيت في الكتب المتقدمة:
وفي كتاب «شعيا»: «إنه ستملؤ البادية والمدن قصورُ آل قيدار، يسبّحون، ومن رؤوس الجبال ينادون، هم الذين يجعلون لله الكرامة، ويبثُون تسبيحه في البر والبحر».
وقال: «أرفع علماً لجميع الأمم من بعيد فيُصْفر بهم من أقاصي الأرض فإذا هم سراع يأتون».
قال ابن قتيبة: وبنو قيدار هم العرب، لأن قيدار هو ابن إسماعيل بإجماع الناس.
والعلمَ الذي يُرفع هو النبوة.
والصفير بهم: دعاؤهم من أقاصي الأرض للحج فإذا هم سراع يأتون. وهو نحو قول الله تعالى: {س22ش27وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } (الحج: 27)(1/32)
وفي موضع آخر من كتاب «شعيا»: «سيَبْعث من الصَّبا قوماً فيأتون من المشرق مجيبين أفواجاً كالصعيد كثرةً، ومثل الطيَّان الذي يدوس برجليه الطين» والصبا يأتي من مطلع الشمس، يبعث الله من هناك قوماً من أهل خراسان وما ضاهاها.
فمن الذي هو نازل بمهبِّ الصَّبا فيأتون مجيبين بالتلبية أفواجاً كالتراب كثرة و(من) مثل الطيان الذي يدوس برجليه الطين؟
يريد أن منهم رجالاً كالِّين، وقد يجوز أن يكون أراد الهرْولة إذا طافوا بالبيت.
قال ابن قتيبة: وقال في ذكر الحجَر المسْتَلم: قال شعيا: «قال الرب السيد: هأنا ذا مؤسس بصهيون وهو بيت الله حجراً في زاوية مكرَّمة».
والحجر في زاوية البيت، والكرامة أن يسْتلم ويُلثم.
وقال شعيا في ذكر مكة:
«سيري واهتزّي أيتها العاقر لم تلد، وانطقي بالتسبيح وافرحي إذ لم تحبلي، فإن أهلك يكونون أكثر من أهلي».
يعني بأهله أهلَ بيت المقْدس من بني إسرائيل.
أراد أن أهل مكة يكونون بمن يأتيهم من الحجاج والعمَّار أكثر من أهل بيت المقدس.
فشبه مكة بامرأة عاقر لم تلدْ، لأنه لم يكن فيها قبلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إسماعيل وحده، ولم ينزل بها كتاب.
ولا يجوز أن يكون أراد بالعاقر بيتَ المقدس، لأنه بيت الأنبياء ومهبط الوحي، ولا يشبَّه بالعاقر من النساء.
وفي «شعيا» أيضاً منْ ذكر مكة:
«قد أقسمتُ بنفسي كقسمي أيام نوح الا أغرق الأرضَ بالطوفان، كذلك أقسمتُ أن لا أسخط عليك ولا أرفضك، فإن الجبال تزول والقلاع تنحط، ونعمتي عليك لا تزول».
ثم قال: «يا مسكينة يا مضطهدَة هأنا ذا بانٍ بالحسن حجارتك، ومزيِّنك بالجواهر، ومكلِّلٌ باللؤلؤ سقفك، وبالزَّبرْجد أبوابك، وتبعدين من الظلم فلا تخافي، ومن الضعف فلا تضعفي، وكل سلاح يصنعه صانعٌ فلا يعمل فيك، وكل لسان وكل لغة تقوم معك بالخصومة تفلحين معها».
ثم قال: «وسيسمِّيك الله اسماً جديداً».
يريد أنه سمي المسجد الحرام وكان قبل ذلك يسمى الكعبة.
«(1/33)
فقومي فأشرقي، فإنه قد دنا نورك ووقار الله عليك».
«انظري بعينك حولك، فإنهم مجتمعون، يأتيك بنوك وبناتك غدوّاً فحينئذ تسرِّين وتزْهرين، ويخاف عدوك ويشبع قلبك، وكل غنم قيدار مجتمعةٌ إليك، وسادات بناوت يخدمونك».
وبناوت هو ابن إسماعيل.
وقيدار هو أبو النبي صلى الله عليه وسلم وهو أخو بناوت.
ثم قال: «وتفتح أبوابك دائماً الليل والنهار، لا تغلق، ويتخذونك قبلةً، وتُدْعين بعد ذلك مدينةَ الرَّب».
أي: بيت الله عز وجل.
وفي موضع آخر من «شعيا»:
«ارفعي بصرك إلى ما حولك تستبهجين وتفرحين، من أجل أنه يصل إليك ذخائر البحر، ويحج إليك عساكر الأمم، حتى تعمرك قطر الإِبل المؤبَّلة، وتضيق أرضك عن القطرات التي تجمع إليك، وتساق إليك كباش مدْين، ويأتيك أهل سبأ وتسير إليك بأغنام قيدار، ويخدمك رجالات بناوت».
يعني سدنة البيت، إنما هم من ولد بناوت بن إسماعيل.
(ذكر طريق مكة في شعيا)
قال ابن قتيبة: ذكرُ طريق مكة في «شعيا»:
وفي «شعيا» عن الله تعالى:
«إني أعْطي البادية كرامة لبنان وبها الكرمال».
والكرمال ولبنان: الشام وبيت المقدس.
يريد أجعل الكرامة التي كانت بالوحي هناك وظهور الأنبياء، للبادية بالحج وبالنبي صلى الله عليه وسلم.
«وتشق في البادية مياه وسواق في أرض الفلاة، وتكون الفيافي والأماكن العطاش ينابيع ومياهاً، ويصير هناك محجَّة، وطريق الحرم لا يمرُّ به أنجاس الأمم، والجاهل به لا يصل هناك، ولا يكون به سباع ولا أسد، ويكون هناك ممر المخلصين».
وفي كتاب «حزقيل»: أنه ذكر معاصي بني إسرائيل وشبَّههم بكَرْمة عداها فقال: «ما تلبث تلك الكرمة أن قلعت بالسخطة، ورمي بها على الأرض، وأحرقت السَّمائم ثمارها، فعند ذلك غُرس غرْسٌ في البدْو في الأرض المهملة العطشى، وخرجت من أغصانها العاضلة نارٌ أكلت ثمار تلك، حتى لم توجد فيها عصا قوية ولا قضيب».
(ذكر الحرم في كتاب شعيا)
قال ابن قتيبة: ذكر الحرم في كتاب «شعيا»:(1/34)
قال: «إن الذئب والجمل فيه يرعيان معاً» وكذلك جميع السباع لا تؤذي ولا تفسد في كل حَرَمي، ثم ترى تلك الوحوش إذا خرجت من الحرم عاودت الذُّعر وهربت من السباع، وكان السبع في الطلب والحرص في الصيد كما كان قبل دخوله الحرم.
(ذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر يوم بدر)
قال ابن قتيبة: ذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر يوم بدر:
قال شعيا: وذكر قصة العرب يوم بدر: «يدوسون الأمم كدياس البيادر، وينزل البلاء بمشركي العرب ويهزمون».
ثم قال: «ينهزمون بين يدَيْ سيوف مسلولة وقسيَ موتورة ومن شدة الملحمة».
قال ابن قتيبة: فهذا ما في كتب الله المتقدمة الباقية في أيدي أهل الكتاب، يتلونه ولا يجحدون ظاهره، خلا اسم نبينا عليه السلام، فإنهم لا يسمحون بالإِقرار به تصريحاً، ولن يعبأ ذلك عنهم، لأن اسم النبي صلى الله عليه وسلم بالسريانية عندهم «مشقَّح» فمشقح هو محمد صلى الله عليه وسلم بغير شك.
واعتباره أنهم يقولون: «شقحاً لإلهنا» إذا أرادوا أن يقولوا: «الحمد لله» فإذا كان الحمد «شقحاً» «فمشقح» محمد صلى الله عليه وسلم.
ولأن الصفات التي أقروا بها هي وفاقٌ لأحواله وزمانه ومَخرَجه ومبعثه وشرْعته.
فليدلُّونا على من له هذه الصفات، ومنْ خرَّت الأمم بين يديه وانقادت لطاعته واستجابت لدعوته، ومن صاحبُ الجمل الذي هلكت بابل وأصنامها به، وأين هذه الأمة من ولد قيدار بن إسماعيل الذي ينادون من رؤوس الجبال بالتلبية والأذان، والذين بثوا تسبيحه في البر والبحر؟
هيهات أن يجدوا ذلك إلا في محمد وأمته.
قال ابن قتيبة: ولو لم تكن هذه الأخبار في كتبهم لم يكن فيما أودع في القرآن من ذكر ما في كتبهم دليل.
كقوله تعالى: {س7ش70قَالُو?اْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }(الأعراف: 70)
.(1/35)
وقوله: {س3ش70ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ }(آل عمران: 70)
وقال: {س2ش146الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
(البقرة: 146)
.
وقال: {س13ش43وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ }
(الرعد: 43)
.
فكيف جاز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتج عليهم بما ليس عندهم ويقول: من علامة نبوتي أنكم تجدوني مكتوباً عندكم. وهم لا يجدونه، وقد كان غنيًّا أن يدعوهم بما ينفرهم.
ولما تيقن بالحال عبدالله بن سلامَ ومنْ أسلم أسلموا.
قلت: وما زال أهل الكتاب يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفاته، ويقرُّون به، ويعِدون بظهوره، ويوصون أهاليهم بالإِيمان به، فلما ظهر آمن عقلاؤهم، وحمل الحسدُ آخرين على العناد كحُييِّ ابن أخطب، وأبي عامر الراهب، وأمية بن أبي الصَّلْت.
وقد أسلم جماعة من علماء متأخري أهل الكتاب، وصنفوا كتباً يذكرون فيها صفاته التي في التوراة والإِنجيل.
فالعجبُ ممن يتيقَّن وجود الحق ثم يحمله الحسد على الرضا بالخلود في النار.
الباب الخامس
في إعلام كعب بن لؤي بن كعب بن غالب ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلملما كان يسمع من أهل الكتاب
عن عبد الرحمن بن عوف قال: كان كعب بن لُؤيّ بن غالب بن فهْر بن مالك، يجمع قومه يوم الجمعة، وكانت قريش تسمي الجمعة: «عَرُوبة»، فيخطبهم فيقول: أما بعد، فاسمعوا وتعلَّموا، وافهموا واعلموا، ليلٌ ساجٍ ونهار ضاح، والأرض مهادٌ، والسماء بناء، والجبال أوتاد، والنجوم أعلام والأولون كالآخرين، والأنثى والذَّكر، والزوج وما يهيج إلى بلىً صائرون. فصلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وثمِّروا أموالكم.(1/36)
فهل رأيتم منْ هالك رَجَع، أو ميت نُشر؟ الدار أمامَكم، والظنُّ غير ما تقولون، حرَمَكم زينوه وعظموه وتمسَّكوا به، فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم. ثم يقول:
نهارٌ وليلٌ كلَّ أوْبٍ بحادثٍ
سواءٌ علينا ليلُها ونهارُها
يؤوبان بالأحداث حين تأوَّبا
وبالنِّعم الضافي علينا ستورُها
على غفلةٍ يأتي النبيُّ محمدٌ
فيُخْبر أخباراً صَدُوقٌ خبيرها
ثم يقول: والله لو كنتُ فيها ذا سمْع وبصر ويد ورجل لتنصَّبْتُ فيها تَنصُّبَ الجمَل، ولأرْقلْت فيها إرقال الفحل.
يا ليتني شاهد فحواء دَعْوته
حينَ العشيرة تَبْغي الحقَّ خُذْلانا
وكان بين موت كعب بن لؤي وبين مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وستون سنة.
الباب السادس
في ذكر منام رآه نَصْرُ بن ربيعة اللَّخْمي يدل على وجود نبينا صلى الله عليه وسلم
قال أهل السَّير:
رأى نَصْرُ بن ربيعة رؤيا هالته، فلم يدَعْ كاهناً ولا منجِّماً إلا جمعه إليه، وقال لهم: إني رأيت رؤيا هالَتْني، فأخبروني بتأويلها.
فقالوا: اقصُصْها علينا.
فقال: إنه لا يَعْرف تأويلها إلا من عَرَفها قَبْل أن أخبره بها.
قالوا: فإن كنت تريد ذلك فابعث إلى سَطيح وشقَ. وهما اسم كاهنين.
فبعث إليهما فقدم سطيح فقال (له): إني رأيت رؤيا هالتني فإن أصبتها أصبتَ تأويلها.
فقال: رأيت حُمَمَةً خرجت من ظُلمة، فوقعت بأرضٍ تَهِمة فأكلت منها كلَّ ذات جُمْجمة.
فقال الملك: ما أخطأتَ منها شيئاً يا سطيح، فما عندك فيها؟
قال: أحلف بما بين الحَرَّتين من حَنش، لتهبطن أرضكم الحَبَش، فليملكن ما بين أبْين إلى جُرَش،
فقال له الملك: وأبيك إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو؟ أفي زماني أم بعده؟
قال: لا، بل بعده بحين، الحينُ من ستين إلى سبعين.
قال: فهل يدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟
قال: لا بل ينقطع لبضع وتسعين يمضين من السنين، ثم يخرجون منها هاربين.
قال: ومن يلي ذلك؟(1/37)
قال: إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عَدن، فلا يترك أحداً منهم باليمن.
قال: أفيدوم ذلك؟
قال: لا بل ينقطع.
قال: ومن يقطعه.
قال: نبيٌّ زكي، يأتيه الوحي من (قِبَل) العليِّ.
قال: ومن هذا النبي؟
قال: رجل منْ ولد غالب بن فهر بن مالك بن النَّضْر، يكون المُلك في قومه إلى آخر الدهر.
قال: وهل للدهر من آخر؟
قال: نعم، يوم يُجمع فيه الأولون والآخرون، ويسْعد فيه المحسنون ويشقى به المسيئون.
قال: أحق ما تخبرني به؟
قال: نعم، والشَّفق، والغسق، والفلق، إن ما أنبأتك به لحق.
فلما فرغ قدم شقٌّ فقال له: إني رأيت رؤيا فأخبرني بها. فأخبره كما قال سطيح، وأخبره بتقلب الممالك على نحو ما قال سطيح، إلى أن قال:
ثم يأتي رسولٌ يأتي بالحق والعدل، يكون المُلك في قومه إلى يوم الفصْل.
قال: وما يوم الفصْل؟
قال: يوم تجزى فيه الولادة، ويجمع الناس للميقات.
الباب السابع
في ذكر نسَب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
هو: محمد، بن عبدالله، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قُصي، بن كلاب، بن مُرَّة، بن كعب، بن لؤيّ، بن فهر، بن مالك، بن النَّضر، بن كنانة، بن خزيمة، بنُ مُدْركة، بن الياس، بن مُضر، بن نزار، بن مَعد، بن عدنان.
ولا يختلف النسابون إلى: عدنان.
ثم يختلفون فيما بعده، فبعضهم يقول: عدنان بن أدّ، بن الهميسع، بن حمل بن قيدار، ابن إسماعيل بن إبراهيم.
وبعضهم يقول: عدنان من غير ذكر: أد بن أدد.
وفي حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عدْنانُ بنُ أُدَدِ بنِ لُؤيِّ بنِ أعْرَاقِ الثَّرَى» .
قالت أم سلمة: فزيد هو: الهميسع. ويرى هو: نبْت. وأعراق الثرى هو: إسماعيل. كذلك حكى الزبير بن بكار.
وحكى أيضاً أن أعراق الثرى: إبراهيم، لأنهم لما رأوه لم يحترق بالنار قالوا: ما هو إلا أعراق الثرى.
وهكذا ضبط لنا زيد. وقد حدَّثنا عن أبي أحمد العسكري أنه قال: إنما هو زيد مثل اسم أبي دلامة.(1/38)
عن عروة قال: ما وجدنا أحداً يعرف ما وراء عدنان.
وقال ابن أبي خيثمة:
ما وجدنا في علم عالِم ولا شعْر شاعر أحداً يعرف ما وراء معدِّ بن عدنان بثَبت.
الباب الثامن
في ذكر طهارة آبائه وشرفهم
عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِن وَلَدِ إبْرَاهِيم إسْمَاعِيْلُ، واصْطَفَى منْ بَنِي إسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، واصْطَفَى مِن بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، واصْطَفَى من قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِم، واصْطَفَانِي من بَنِي هَاشِم» .
انفرد بإخراجه مسلم.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«قَالَ جِبْرِيْلَ: قَلَبْتُ مَشَارِقَ الأرْضِ ومغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ رَجُلاً أفْضَلَ مِن مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وقَلَبْتُ مَشَارِقَ الأرْضِ ومَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ بَيْتًا أفْضَلَ من بَيْتِ بَنِي هَاشِمٍ» .
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«بُعِثْتُ من خَيْرِ قُرونِ بَنِي آدَمَ قَرْنَاً فَقَرْناً، حَتَّى بُعِثْتُ منَ القَرْنِ الذي كُنْتُ فِيه» .
عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله، إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم، فجعلوك مثل نخلة تنبت في كَبْوة من الأرض.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ عزَّ وجَلَّ يومَ خَلَقَ الخَلْقَ جَعَلَنِي في خَيْرِهِم، ثمَّ حينَ فَرَقَهُم جَعَلَني في خَيْرِ الفَرِيقَيْن، ثمَّ حِينَ جَعَلَ القَبَائِلَ جَعَلَنِي في خَيرِ قَبِيْلَةٍ، ثمَّ حينَ جَعَلَ البُيوتَ جَعَلَنِي من خَيرِ بيُوتِهم، فأَنا خَيْرُهُم بَيْتاً وخَيْرُهُم نَفْسًا» .
وقال ربيعة: إن ناساً من الأنصار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نسمع من قومك حين يقول القائل منهم: إنما مثل محمد مثل نخلة تنبت في كِبا.(1/39)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلا إنَّ الله خَلَقَ خَلْقَهُ، ثُمَّ فَرقَهَمَ فِرْقَتَين، فَجَعَلنِي من خَيرِ الفَريقَين، ثمَّ جَعَلَهُم قَبَائِلَ فَجَعَلِني في خَيرِهِم قَبيِلةً، فأنا خيرُكمُ بيَتْاً وخيَرُكم نَفسَاً» .
الكبا: مقصور، وهو الكناسة.
قال الأصمعي: فإذا مدَّ فهو البحر.
قال شَمّر: ولم يسمع الكبوة.
الباب التاسع
في بيان أن جميع العرب ولدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة، فنزلت: {س42ش23ذَلِكَ الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ }
(الشورى: 23)
.
أي: إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم.
وقال الشعبي: أكثر الناسُ علينا في هذه الآية: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} .
أي: إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم.
فكتبت إلى ابن عباس، فكتب ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسط النسب في قريش، لم يكن حيٌّ من أحياء قريش إلا وقد ولدوه، فقال الله تعالى: { قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القُرْبى} .
أي: تودُّوا قرابتي منكم وتحفظوني في ذلك.
عن ابن عباس في قوله تعالى: {س9ش128لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }(التوبة: 128)
.
قال: ليس من العرب قبيلة إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريَّها، وربيعيَّها، ويمانيَّها.
الباب العاشر
في قوله عليه السلام: «وُلدْتُ مِن نِكَاحٍ لا مِن سِفَاحٍ»(1/40)
عن علي بن أبي طالب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خَرَجْتُ من نِكَاحٍ، ولمْ أخْرُجْ مِن سِفَاحٍ، من لَدُنْ آدَمَ إلى أنْ وَلَدَنِي أبِي وأُمِيّ، ولمْ يُصِبْنِي مِن سِفَاحِ الجَاهِلِيَّةِ شَيْءٌ» .
عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَمْ يَلْتَقِ أبَوَايَ قَطُّ عَلى سِفَاحٍ، لمْ يَزَل اللَّهُ يَنْقُلُنِي من الأصْلابِ الطَّيِّبَةِ إلى الأرْحَامِ الطَّاهِرَةِ مُصَفَّى مُهَذَّباً، ولا تتَشَعَّبُ شُعْبَتَانِ إلا كُنتُ في خَيرِهِما» .
الباب الحادي عشر
في ذكر منام رآه عبد المطلب يدل على وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال عبد المطلب: بينا أنا نائم في الحجر رأيت رؤيا هالتني، ففزعت منها فزعاً شديداً، فأتيت كاهنة قريش وعليَّ مطرف خزَ وجَمتي تضرب منكبي.
فلما نظرت إلي عرفت في وجهي التغير، وأنا يومئذ سيد قومي فقالت: ما بال سيدنا قد أتانا متغير اللون؟ هل رابه من حدثان الدهر شيء؟
فقلت لها: بلى، وكان لا يكلمها أحد من الناس حتى يقبل يدها اليمنى، ثم يضع يدها على أم رأسه، ثم يبدو بحاجته، ولم أفعل لأني كنت كبير قومي.
فجلست فقلت: إني رأيت الليلة وأنا نائم كأن شجرة نبتت، قد نال رأسُها السماء، فضربت بأغصانها المشرق والمغرب وما رأيت نوراً أزهر منها، أعظم من نور الشمس بتسعين ضعفاً. ورأيت العرب والعجم ساجدين لها، وهي تزداد كل ساعة عظماً ونوراً وارتفاعاً، ساعة تخفى وساعة تزهر، ورأيت رهطاً من قريش قد تعلقوا بأغصانها، ورأيت قوماً من قريش يريدون قطعها، فإذا دنوا منها أخَّرهم شاب، لم أر قط أحسن منه وجهاً ولا أطيب منه ريحاً، فيكسر أظهرهم ويقلع أعينهم، فرفعت يدي لأتناول منها قسماً فقال لي: لا نصيب لك فيها.
فقلت: ومن له نصيب؟
فقال: النصيب لها وللذين تعلقوا بها وسبقوك إليها. فانتبهت فزعاً مرعوباً.(1/41)
فرأيت وجه الكاهنة قد تغير، ثم قالت: لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبك رجل يملك المشرق والمغرب وتدين له الناس.
ثم قالت لأبي طالب: لعلك أن تكون عم هذا المولود.
فكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث، والنبي صلى الله عليه وسلم قد خرج ويقول: كانت الشجرة والله أعلم أبا القاسم الأمين.
فيقال له: ألا تؤمن به؟
فيقول: السبة والعار
الباب الثاني عشر
في ذكر منام رآه خالد بن سعيد بن العاص يدل على رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن خالد بن سعيد: قال: كنت ذات ليلة نائماً قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: رأيت كأنه غشيت مكة ظلمة حتى لا يبصر امرؤ كفَّه فبينا هو كذلك إذ خرج نور (من زمزم)، ثم علا في السماء فأضاء في البيت، ثم أضاءت مكة كلها، ثم إلى نخل يثرب فأضاء بها حتى كأني أنظر البُسر في النخل، فاستيقظت فقصصتها على أخي عمرو بن سعيد وكان جَزل الرأي، فقال: يا أخي إن هذا الأمر يكون في بني عبد المطلب، ألا ترى أنه خرج من حفيرة أبيهم.
قال خالد: فإنه لمِمَّا هداني الله (به) للإسلام. قالت أم خالد: فأول من أسلم ابني. وذلك أنه ذكر رؤياه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«يا خالد أنا والله ذلك النور، وأنا رسول الله» .
فقص عليه ما بعثه الله به، فأسلم خالد وأسلم عمرو بعده.
الباب الثالث عشر
في ذكر منام رآه عمرو بن مرة يدل على رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن عمرو بن مُرة الجهني: أنه كان يحدث قال: خرجت حاجَّاً في جماعة من قومي في الجاهلية، فرأيت في المنام وأنا بمكة نوراً ساطعاً خرج من الكعبة حتى أضاء لي من الكعبة إلى جبل يثرب وأشعر جهينة، فسمعت صوتاً في النور وهو يقول: انقشعت الظلماء وسطع الضياء، وبعث خاتم الأنبياء.
ثم أضاء إضاءة أخرى حتى نظرت إلى قصور الحيرة وأبيض المدائن، فسمعت صوتاً في النور وهو يقول: ظهر الإِسلام، وكسرت الأصنام، ووصلت الأرحام.(1/42)
فانتبهت فزعاً، فقلت لقومي: والله ليحدثن في هذا الحي من قريش حدث. وأخبرتهم بما رأيت.
فلما انتهينا إلى بلادنا جاءنا الخبر أن رجلاً يقال له: أحمد قد بعث.
فخرجت حتى أتيته، فأخبرته بما رأيت فقال لي: «يَا عَمْروَ بنَ مُرَّة، أنا النَّبِيُّ المُرْسَلُ إلى العِبَادِ كَافَّةٍ، أدْعوهُم إلى الإِسْلامِ، وآمُرُهُم بِحَقْنِ الدِّمَاءِ، وصِلَةِ الأرْحَامِ وعِبَادَةِ الله، ورَفْضِ الأصْنَامِ، وحَجِّ البَيْتِ، وصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرٌ من اثنَي عَشَرَ شَهْراً، فَمَنْ أجَابَ دَخَلَ الجَنَّةَ ومَن عَصَى فلهُ النَّارُ، فَآمِنْ بالله يا عَمْروَ بنَ مُرَّةَ يُؤَمِّنُكَ اللَّهُ من هَوْلِ جَهَنَّمَ» .
فقلت: يا رسول الله، آمنتُ بكل ما جئت به من حلال وحرام، وإن أرغم ذلك كثيراً من الأقوام.
ثم أنشدته أبياتاً قلتها حين سمعت به، وكان لنا صنم وكان أبي سادنا له فقمت إليه فكسرته ثم لحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم:
شهدتُ بأن الله حقٌّ وأنني
لآلهة الأحجار أول تاركِ
وشمَّرت عن ساقي الإِزارَ مهاجراً
أجوب إليك الدَّعثَ بعد الدَّكادكِ
لأصحب خير الناس نفساً ووالداً
رسول مليك الناس فوق الحبائكِ
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَرْحَبًا بِكَ يَا عَمْروَ بنَ مُرَّة» .
فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، ابعث بي إلى قومي لعل الله عزّ وجلّ يمنُّ عليهم بي كما منَّ بك علي.
فبعثني إليهم وقال: «عَلَيْكَ بالرِّفْقِ والقَوْلِ السَّدِيدِ، ولا تَكُ فَظًّا ولا مُتَكَبِّرًا وَلا حَسوداً» .(1/43)
فأتيت قومي، فقلت: يا بني رفاعة، بل يا معاشر جهينة إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، أدعوكم إلى الجنة وأحذركم النار، وآمركم بحقن الدماء، وصلة الأرحام وعبادة الله، ورفض الأصنام، وحج البيت، وصيام شهر رمضان شهر من اثني عشر شهراً، فمن أجاب فله الجنة ومن عصى فله النار. يا معشر جهينة إن الله وله الحمد جعلكم خيار من أنتم منه، وبغض إليكم في الجاهلية ما حبب إلى غيركم من العرب، كانوا يجمعون بين الأختين، ويخلف الرجل على امرأة أبيه، والغَزَاة في الشهر الحرام، فأجيبوا هذا النبي المرسل من بني لؤي بن غالب، تنالوا شرف الدنيا وكرامة الآخرة وسارعوا في ذلك تكن لكم فضيلة عند الله عزّ وجلّ.
فأجابوا إلا رجلاً منهم، فقام فقال: يا عمرو بن مرة أمرَّ الله عيشك أتأمرنا أن نرفض آلهتنا ونفرق جماعتنا ونخالف دين آبائنا إلى ما يدعو إليه هذا القرشي من أهل تهامة؟ لا حباً ولا كرامة.
ثم أنشأ الخبيث يقول:
هذا ابن مرَّة قد أتى بمقالة
ليست مقالةَ من يريد صلاحا
إني لأحسب قوله وفعاله
يوماً، وإن طال الزمان رِياحَا
أنُسَفِّهُ الأشياخ فيمن قد مضى
من رام ذاك فلا أصاب فلاحا
فقال عمرو بن مرة: الكاذب بيني وبينك أمرَّ الله عيشه وأبكمَ لسانه وأكمه أسنانه.
قال عمرو: فوالله ما مات حتى سقط فوه، فكان لا يجد طعم الطعام، وعَمي وخرس.
فخرج عمرو بن مُرَّة ومن أسلم من قومه معه حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فرحب بهم وحياهم وكتب لهم كتاباً هذه نسخته:(1/44)
بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتابُ أمانٍ من الله تعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بكتاب صادق وحق ناطق، مع عمرو بن مرة الجُهني: أجهينة بن زيد، إن لكم بطونَ الأرض وظهورها، وقِلاَع الأودية وسهولها، ترعَوْن نباته وتشربون صافِيه، على أن تُقرُّوا بالخُمس وتصلُّوا صلاة الخَمس، وفي التَّبعة والصريمةَ شاتان إذا اجتمعا وإن افترقا فشاة شاة، ليس على أهل المِيرة صدقة، والله يشهد على ما بيننا ومَنْ حضر من المسلمين.
فذلك حين يقول عمرو بن مُرَّة:
ألم تر أن الله أظْهَرَ دينه
وبَين بُرهان القُران لعامِر
كتابٌ من الرحمن نورٌ لجمعنا
وأخلافنا في كل بادٍ وحاضر
إلى خير من يمشي على الأرض كلها
وأفضلِهَا عند اعتكار الضرائر
أطَعْنَا رسول الله لمَّا تقطعت
بطون الأعادي بالظُّبا والخواصِر
فنحن قَبيلٌ قد بَنَى المجْدُ حوْلنا
إذا اجتلبت في الحرب هامُ الأكابر
بنو الحرب نَقْريها بأيدٍ طويلةٍ
وبيضٍ تلاَلاَ في أكفِّ المغاوِرِ
ترى حَوْله الأنصار يحْمون سربه
بسُمْر العوالي والصَّفاح البواتِر
إذا الحرب دارت عند كل عظيمة
ودارت رحاها بالليوث الهواصِرِ
تبلَّج منه اللونُ وازداد وجهُه
كمثل ضياء البَدْر بَيْنَ الهَواصر
وذكر ياسر بن سُويد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَّهه في خيل أو سَرية وامرأته حامل، فولد له مولود، فحملته أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، قد ولدت هذا المولود وأبوه في الخَيْل.
فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فأمَرَّ يده عليه وقال: «اللهُّم أكْثِرْ رجَالَهُم وأَقِلَّ نِسَاءَهُم ولا تَحوجَهُم، ولا تُرِ أحْدَاثَهُم خَصَاصَةً». ثم قال: «سَمِّيْه مُسْرِعاً فَهو إسْرَاعٌ فِي الإِسْلامِ» .
الباب الرابع عشر
في ذكر تزويج عبد المطلب وابنه عبدالله إلى بني زهرة(1/45)
عن عبد المطلب: خرجتُ إلى اليمن في رحلتي الإِيلاف، فنزلت على رجل من اليهود يقرأ الزَّبُور، فقال: يا عبد المطلب أتأذن لي أن أنظر إلى بعض جسدك؟
قلت: نعم، ما لم يكن عورة.
فنظر في منخري، فقال: أجد في أحد منخريك مُلْكاً، وفي الآخر نُبَوَّة، فهل لك من شاعة؟
قلت: وما الشاعة؟
قال: الزوجة.
قلت: أمَّا اليوم فلا.
قال: فإذا قدمت مكة فتزوج.
فقدم عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فولدت له حمزة وصفية.
ثم تزوج عبدالله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب فولدت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكانت قريش: تقول فلج عبدالله على أبيه.
وفي رواية أخرى أنه قال: وفي الآخر نبوة، وإنا نجد ذلك في بني زُهْرة، فإذا رجعت فتزوج فيهم.
الباب الخامس عشر
في ذكر عبدالله أبي نبينا صلى الله عليه وسلم
كان عبدالله وأبو طالب والزبير لأم واحدة، واسمها فاطمة بنت عمرو.
وكان عبد المطلب قد رأى في المنام قائلاً يقول له: احفر زمزم. ونعت له موضعها.
فقام يحفر، وليس له ولد يومئذ إلا الحارث، فنازعته قريش، فَنَذر لئن ولد له عشرة من الولد ثم بلغوا أن يمنعوه لينحرنَّ أحدهم لله عند الكعبة.
فلما تموا عشرة وعرف أنهم سيمنعونه أخبرهم بنذره، فأطاعوه وكتب كلٌّ منهم اسمه في قِدْح، وجمعها وأعطاها قيِّم هُبَل وقال: اضرب بقداح هؤلاء.
فخرج القدح على عبدالله، فأخذه وأخذ الشَّفرة ليذبحه، فقامت إليه قريش من أنديتها وقالوا: لا تفعل حتى تُعْذر فيه. فانطلق به إلى عَرَّافة.
فقالت له: كم الدية فيكم؟ قال عَشْر من الإِبل. قالت: قرِّبوا صاحبكم، وقربوا عشراً من الإِبل، ثم اضربوا عليه وعلى (الإِبل) القِدْحَ، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإِبل حتى يرضى ربكم، فإذا خرجت على الإِبل فقد رضي ونجا صاحبكم.(1/46)
فقرَّبوا عبدالله وعَشْراً، فخرجت على عبدالله، فزادوا عشراً فخرجت عليه، فزادوا فلم يزالوا كذلك حتى جعلوها مائة، فخرج القِدْح على الإِبل فنُحرت ثم تركت لا يُصَدُّ عنها إنسان ولا سَبُع.
الباب السادس عشر
في ذكر تزوُّج عبدالله آمنة بنت وَهب
لما نحرت الإِبل فداء لعبدالله مرَّ مع أبيه على أمِّ قتّال بنت نوفل بن أسد بن عبد العُزَّى، وهي أخت ورقة، فقالت: يا عبدالله أين تذهب؟
قال: مع أبي.
قالت: لك عندي مثل الإِبل التي نُحرت عنك وقَعْ عليَّ.
قال: إني مع أبي لا أستطيع فراقه.
فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهبَ بن عبد مناف بن زُهرة، فزوَّجه آمنة، فدخل عليها فوقع عليها مكانه. فحملت برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم خرج من عندها حتى أتى المرأة التي كانت عَرَضت عليه نفسها، قال لها: ما لك لا تعرضين عليَّ اليوم ما كنت عرضت عليّ بالأمس؟
قالت له: فارقك النورُ الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة.
وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل وكان قد تنصر وقرأ الكتب، وكان فيما أدرك أنه كائن في هذه الأمة نبيٌّ من ولد إسماعيل.
عن ابن عباس قال: لما خرج عبد المطلب بعبدالله ليزوجه مرَّ به على كاهنة يقال لها فاطمة بنت مر من أهل تبالة، قد قرأت الكتب فرأت على وجهه نوراً، فقالت: يا فتى، هل لك أن تقع عليَّ وأعطيك مائةً من الإِبل؟ فأنشأ يقول:
أما الحرامُ فالمماتُ دُونه
والحِلُّ لا حِلَّ فأسْتَبِينَه
فكيف بالأمر الذي تبغينه
ثم تركها ومضى.
عن أبي الفياض قال: مر عبدالله بامرأة من خثعم يقال لها فاطمة بنت مر، وكانت من أجمل النساء وأشبههن وأعفهن، وكانت قد قرأت الكتب، وكان شبان قريش يتحدثون إليها، فرأت نور النبوة في وجه عبدالله، فقالت: يا فتى مَنْ أنت؟ فأخبرها، قالت: فهل لك أن تقع علي وأعطيك مائة من الإِبل؟ فنظر إليها، وقال:
أما الحرامُ فالممات دونه
والحلّ لا حِلَّ فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تَنْوينه(1/47)
ثم مضى إلى امرأته آمنة بنت وهب فكان معها، ثم ذكر الخثعمية وجمالها وما عرضت عليه، فأقبل عليها فلم ير منها من الإِقبال عليه آخراً كما رآه منها أولاً، فقال: هل لك فيما قلت؟
فقالت: قد كان ذلك مرة فاليوم لا. فذهبت مثلاً.
وقالت: أي شيء صنعت بعدي؟
قال: وقعت على زوجتي آمنة بنت وهب.
قالت: إني والله لست بصاحبة ريبة، ولكنني رأيت نور النبوة في وجهك، فأردت أن يكون ذلك فيّ وأبَى الله أن يجعله إلا حيث جعله.
وبلغ شبابَ قريش ما عرضت على عبدالله بن عبد المطلب وتأبيِّه عنها، فذكروا ذلك لها فأنشأت تقول:
إني رأيت مَخيلةً بلغت
فتلألات بحناتم القطْرِ
فلمَاتُها نوراً يضيء له
ما حولهَ كإضاءة الفجِر
ورأيته شَرَفاً أبوءُ به
ما كلُّ قادحِ زِندِه يورِي
وقالت أيضاً:
بني هاشمٍ قد غادرت من أخيكمُ
أمينةُ إذ للباه يَعْتلجانِ
كما غادر المصباحُ بعدَ خُبُوِّه
فتائلَ قد مِيثَتْ له بدهان
وما كل ما يحوي الفتَى من تلاده
بحزمٍ ولا ما فاته لتوانِي
فأجملْ إذا طالبتَ أمراً فإنه
سيَكْفيكه جَدَّان يصْطرعان
ستكفيكه إما يَدٌ مُقْفعلَّة
وإما يَدٌ مبسوطةٌ ببنانِ
ولما قضت منه أمينةُ ما قضتْ
نَبَا بَصَري عنه وكَلَّ لساني
الباب السابع عشر
في ذكر ما جرى لآمنة في حملها برسول الله صلى الله عليه وسلم
عن عمة وهب بن ربيعة قالت: كنا نسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حملت به آمنة بنت وهب كانت تقول: ما شعرتُ أني حملت به، ولا وجدت له ثقلاً كما تجد النساء، إلا أني أنكرت رفع حيضتي، فأتاني آت وأنا بين النائم واليقظان فقال: هل شعرت أنك حملت؟ فكأني أقول: ما أدري، فقال: إنك حملت بسيد هذه الأمة ونبيها. وذلك يوم الاثنين.
قالت: فكان ذلك مما يقَّن عندي الحملَ، ثم أمهلني حتى إذا دنت ولادتي أتاني ذلك الآتي فقال:
قولي: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد.
قالت: كنت أقول ذلك فذكرت ذلك بلساني فقلن تعلقي حديداً في عضديك وفي عنقك.(1/48)
قالت: ففعلت فلم يكن يترك (عليَّ) إلا أياماً فأجده قد (قطع) فكنت لا أتعلَّقه. ولقد قالت آمنة: لقد علقت به فما وجدت مشقة حتى وضعته. وأمرتْ أن تسميه أحمد.
الباب الثامن عشر
في ذكر وفاة عبدالله بن عبد المطلب
ولد عبدالله لأربع وعشرين سنة مضت من ملك كسرى أنو شروان، ثم تزوج آمنة، فلما حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم توفي.
عن أيوب بن عبد الرحمن قال: خرج عبدالله بن عبد المطلب إلى الشام في عير من عيارات قريش يحملون تجارات، ففرغوا من تجارتهم ثم انصرفوا، فمروا بالمدينة، وعبدالله يومئذ مريض، فقال: أتخلَّف عند أخوالي بني عديّ بن النجار.
فأقام عندهم مريضاً شهراً، ومضى أصحابه فقدموا مكة.
فسألهم عبد المطلب عن عبدالله فقالوا: خلفناه عند أخواله وهو مريض.
فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث، فوجده قد توفي ودفن في دار النابغة، وهو رجل من بني عدي بن النجار. فرجع فأخبر عبد المطلب فوجد عليه وَجْداً شديداً.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل يومئذ.
ولعبد الله يومَ توفي خمسٌ وعشرون سنة.
قال الواقدي: ترك عبدالله أمَّ أيمن وخمسة أجمال وقطعة غنم، فورث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قيل إن عبدالله توفي بعد ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصح.
الباب التاسع عشر
في ذكر مولد نبينا صلى الله عليه وسلم
ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول عام الفيل.
وقيل: لليلتين خَلَتا منه.
وقيل: لاثنتي عشرة ليلة.
وقال ابن عباس: ولد يوم الفيل.
وكان قدوم الفيل وهلاك أصحابه يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم وكان أول المحرم تلك السنة الجمعة، وذلك لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملك كسرى أنو شروان.
وقيل: إنه ولد صلى الله عليه وسلم في الدار التي تعرف بدار محمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج.(1/49)
وقيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وهبها لعقيل بن أبي طالب، فلم تزل في يد عقيل حتى توفي فباعها ولده من محمد بن يوسف، فبنى داره التي يقال لها دار ابن يوسف، وأدخل ذلك في الدار حتى أخرجته الخيزران وجعلته مسجداً يصلى فيه.
عن أبي قتادة: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الاثنين. فقال: «ذلكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيه وأُنْزِلَ عَلَيَّ فِيه» .
انفرد بإخراجه مسلم.
قال ابن إسحاق: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول .
وقد روي عن الزهري أنه قال: ولد بعد الفيل بعشر سنين ولا يصح.
وقال البرَاء: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاثنين لثمان خَلَون من ربيع الأول يوم العشر من نيسان.
وقال حسان بن ثابت: إني لغلام يفَعة ابن سبع سنين أو ثمان سنين، إذا يهودي بيثرب يصرخ ذات غداة: يا معشر يهود. فلما اجتمعوا قالوا: ما لك ويلك؟ قال: قد طلع نجم أحمد الذي يولد به هذه الليلة.
قال: فأدركه اليهودي فلم يؤمن
عن حسان أيضاً قال: إني لعلى فارع وهو أُطُم، في السَّحر؛ إذ سمعت صوتاً لم أسمع قط صوتاً أنفَذَ منه، فإذا يهودي على أطم من آطام المدينة معه شعلة من نار، فاجتمع الناس إليه فقالوا: ما لك ويلك فقال: هذا كوكب أحمد قد طلع، هذا كوكب لا يطلع إلا بالنبوة، ولم يبق من الأنبياء إلا أحمد.
فجعل الناس يضحكون منه ويعجبون لما يأتي به.
الباب العشرون
في قصة الفيل
قال علماء السير: بنَى أبرهة كنيسةً لم يُرَ مثلها وقال: لست بُمُنْتَه حتى أصرف إليها حجاج العرب.
فلما عرفت العرب ذلك خرج منهم رجل فأحدث فيها.
فغضب أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه.
فخرج ومعه الفيل، فلما انتهى إلى مكة نهبها وقال لبعض أصحابه سَلْ عن سيد أهل مكة، وقل له: إنّا لم نَأتِ لحربكم، إنما جئنا لهدم هذا البيت.(1/50)
فدُلَّ على عبد المطلب، فأخبره ما قال، فقال: والله ما نريد حَرْبه وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم، وإن يمنعه فهو بيته.
ثم حُمِل إليه فأكرمه وأجلَّه وقال: حاجتك؟
قال: أن تردَّ عليّ مائتي بعير أصبتها لي.
فقال لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدْت فيك حين كلمتني أتكلمني في مائتي بعير وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه؟
فقال: أنا رب الإِبل، وإن للبيت رباً سيمنعه.
وخرج عبد المطلب إلى قريش فأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في الجبال والشعاب تخوفاً عليهم من معَرَّة الجيش. ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقال:
يا ربِّ لا أرجو لهم سِوَاكا
يا رب وامنع منهمُ حِمَاكَا
إن عدوَّ البيت من عاداكا
امنعهمُ أن يُخْربوا فِناكا
وقال أيضاً:
لا هُمّ إن المرء يمنْعُ رَحْـ
ـله وحِلاَله فامنع حِلاَلكْ
لا يَغْلبنَّ صَليبهُم
ومِحَالهم غَدْواً مِحَالك
جَرّوا جموعَ بلادهم
والفيلَ كي يَسْبُوا عيالكْ
عمَدُوا حِمَاك بكيدهم
جهلاً وما رَقُبوا جَلاَلكْ
إن كنت تاركَهم وكعبتنا
فأمرٌ مَّا بَدَالك
ثم إن أبرهة تهيأ للدخول وهيأ الفيل، فأقبل نُفَيْل بن حبيب الخَثْعمي وقال بأذن الفيل وقال: ابرك محمود وارجع من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام. فبرك.
ومضى نُفَيل يشتدُّ في الجبل، فضربوا الفيل ليقوم فأبى، فوجهوه إلى اليمن فهرول؛ ووجهوه إلى مكة فبرك.
وأرسل الله تعالى طيراً أمثال الخطاطيف، مع كل طائر منهم ثلاثة أحجار يحملها، حجر في منقاره وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس لا يصيب أحداً إلا هلك.
فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي جاؤوا منه. فهلكوا في كل سهل وجبل.
وأصيب أبرهة بداء في جسده، فسقطت أنامله فقدموا (به) صنعاء وهو مثل الفرخ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه.
وولد في هذا العام رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/51)
قال ابن قتيبة: وقد أجمع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وقد عايَنَ ذلك حكيمُ ابن حزام وحُوَيطب بن عبد العُزَّى وحسان بن ثابت، وكل هؤلاء عاشوا في الجاهلية ستين سنة، وفي الإِسلام ستين سنة وقالت الشعراء في ذلك عن عيان الأمر ومشاهدته.
منهم نُفَيل بن حبيب، وهو جاهلي وكانت الحبشة أخذته ليدلها على الطريق إلى مكة فهرب منهم بحيلة فقال:
ألا رُدِّي ركائبنا رُدَيْنَا
نَعِمْناكم على الهِجْران عَيْنَا
فإنك لو رأيت ولَنْ تَرَيْهِ
لدَى جَنْب المُحصَّب ما رأينا
جمدتُ الله إذ عاينتُ طيراً
وخفتُ حجارة تُلقَى علينا
وكلهمُ يُسَائِل عن نُفيل
كأن عَليَّ للحبشان دَيْنَا
وقال أمية بن أبي الصَّلت:
إن آياتِ ربِّنا بيناتٌ
ما يُمَاري فيهن إلا الكَفُورُ
حَبَس الفيلَ بالمغمِّس حتى
ظلَّ يَحْبُو كأنه مَعْقورُ
قالت عائشة رضي الله عنها: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مُقْعدِين يستطعمان الناس.
قال ابن قتيبة: وفي أمر الفيل أنه بينة على الإِله المسخِّر للطير، وإنما فعل ذلك لنُصرة من ارتضاه وهَلَكة من سخط عليه، لا لنصرة قريش، فإنهم كانوا كفاراً لا كتاب لهم، والحبشة لهم كتاب.
فلا يخفى أن المراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم أنه الداعي إلى التوحيد.
عن عائشة أيضاً أنها قالت: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس.
الباب الحادي والعشرون
في ذكر ما جرى عند وضع آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالت آمنة: لقد رأيت ليلة وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم نوراً أضاءت له قصور الشام حتى رأيتها.
وقالت آمنة أيضاً لما ضربها المخاض قالت: فجعلت أنظر إلى النجوم تدلى حتى قلت لتقعنَّ عليَّ.
فلما وضعته خرج منها نور أضاء له البيت والدار حتى جعلت لا ترى إلا نوراً.
وقالت الشَّفَّاء أم عبد الرحمن: لما ولدت آمنةُ محمداً صلى الله عليه وسلم ووقع على يدي استهل صارخاً فسمعت قائلاً يقول: رحمك ربك.(1/52)
قالت الشَّفَّاء: فأضاء لي ما بين المشرق والمغرب حتى نظرت إلى بعض قصور الشام.
قالت: ثم اضطجعت فلم أنشب أن غشيني ظلمة ورعب وقشعريرة ثم أسفر لي عن يميني، فسمعت قائلاً يقول: أين ذهبت به؟
قال: ذهبتُ به إلى المغرب. ثم عاودني الرعب والظلمة والقشعريرة، ثم أسفر لي عن يساري فسمعت قائلاً يقول: أين ذهبت به؟
قال: ذهبت به إلى المشرق ولن يعود أبداً.
فلم يزل الحديث مني على بال حتى ابتعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم فكنت في أول الناس إسلاماً.
وقالت آمنة: ولدتهُ جاثياً على ركبتيه ينظر إلى السماء، ثم قبض قبضة من الأرض وأهوى ساجداً، وولد وقد قطعت سُرته، وكنت وضعت عليه إناءً فوجدت الإِناء قد انفلق عنه وهو يمصُّ إبهامه يشخب لبناً.
وكان بمكة رجل من اليهود حين ولد، فلما أصبح قال: يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا نعلمه.
قال: ولد الليلة نبي العرَب له شامَة بين منكبيه سوداء ظفراء فيها شعرات، فرجع القوم فسألوا أهليهم هل ولد لعبد المطلب الليلة ولد؟ قالوا: نعم. فأخبروا اليهودي فقال: ذهبت النبوة من بني إسرائيل.
عن أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رَأَتْ أُمِّي كَأَنَّه خَرَجَ مِنْها نُورٌ أضَاءَتْ مِنه قُصُوْرُ الشَّامِ» .
عن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ولدته أمه وضعته تحت برمة فانفلقت عنه. قالت: فنظرت إليه فإذا هو قَد شَقَّ بصره ينظر إلى السماء.
وعن عمة وهب بن زَمعة قالت: لما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى عبد المطلب، فجاءه البشير وهو جالس في الحجْر معه ولده ورجال من قومه، فأخبروه أن آمنة ولدت غلاماً، فسُرَّ بذلك عبد المطلب، وقام هو ومن كان معه فدخل عليها فأخبرتْه بكل ما رأت وما قيل لها، وما أمرت به، فأخذه عبد المطلب فأدخله الكعبة، وقام عندها يدعو الله تعالى ويشكر ما أعطاه.
قال ابن واقد: فأخبرتُ أن عبد المطلب قال يومئذ:
الحمدُ لله الذي أعطاني(1/53)
هذا الغلامَ الطيِّب الأرْدانِ
قد سادَ في المَهْد على الغلمانِ
أعيذه بالبيت ذي الأركانِ
حتى أراه بالغَ البنيان
أعيذه من شرِّ ذي شنآنِ
من حاسدٍ مضطرب العيان وقال العباس: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوناً مسروراً، فأعجب جده عبد المطلب وقال: ليكونن لابني شأن. وكان له شأن.
عن عبد الرحمن بن عوف قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم هتفت الجن على أبي قُبَيس على الحَجُون الذي بأصله المقبرة، وكانت قريش تبل فيه ثيابها فقال:
فأُقْسم ما أنثى من الناس أنجبَتْ
ولا ولدت أنثَى من الناس واحده
كما ولدت زُهْرية ذاتُ مَفْخَر
نَجِيَّة من لؤمِ القبائلِ ماجده
وقد وَلَدت خيرَ البرية أحمداً
فأكرم مولودٌ وأُكْرم والده وقال الذي على أبي قبيس:
يا ساكني البطحاء لا تَغْلطوا
وميّزوا الأمرَ بفعلٍ مَضَى
إن بني زُهْرة مِنْ سِرّكم
في غابر الأمر وعنْد البُدَى
واحدةٌ منكم فهاتوا لنا
فيمن مضى في الناس أو من بقى
واحدةً من غيرهم مثلها
جنينُها مثلَ النبي التُّقِى
الباب الثاني والعشرون
في ولادته مسروراً مختوناً
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كَرَامَتي أَنّي وُلِدْتُ مَخْتوناً ولَمَ يَرَ أحَدٌ سَوْأتِي» .
فإن قيل: فلمَ لم يولد مطهَّر القلب من حظ الشيطان، حتى شُقَّ صدره وأخرج قلبه؟
قال ابن عَقِيل: لأن الله سبحانه أخفى أدْون التطهيريْن الذي جرت العادة أن تفعله القابلة والطبيب، وأظهر أشرَفهما وهو القلب، فأظهر آثار التجمل والعناية بالعصمة في طرقات الوحي.
الباب الثالث والعشرون
في ذكر الحوادث التي كانت ليلة ولادته
عن مخزوم بن هانىء، عن أبيه، وأتت له خمسون ومائة سنة، قال:(1/54)
فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وغاضت بُحيرة ساوة، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى الموبذان إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دِجلة وانتشرت في بلادها.
فلما أصبح كسرى أفزعه ما رأى فصبر عليه تشجُّعاً، ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرَازبته.
فلبس تاجه، وقعد على سريره، وجمعهم إليه، فلما اجتمعوا عنده قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟
قالوا: لا، إلا أن يخبرنا الملك.
فبينا هم كذلك ورد عليهم كتاب بخمود النيران، فازداد غمًّا إلى غمِّه.
فقال المُوْبذَان: وأنا، أصْلَح الله الملك، قد رأيت في هذه الليلة (رؤيا). وقص عليه الرؤيا في الإِبل.
فقال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟
قال: حادث يكون من عند العرب.
فكتب عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، أما بعد، فوجِّه إليَّ رجلاً عالماً بما أريد أن أسأله عنه.
فوجَّه إليه عبد المسيح بن عمرو بن حيَّان بن بُقَيْلة الغساني.
فلما قدم عليه قال له: هل عندك علم بما أريد أن أسألك عنه؟
قال: ليُخْبرْني الملك (عما أحبّ) فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلمه.
فأخبره بما رأى فقال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارفَ الشام يقال له سطِيح.
قال: فأته فاسأله عما سألتك عنه وائتني بجوابه.
فركب عبد المسيح راحلته حتى قدم على سطيح وقد أشْفى على الموت، فسلم عليه وحيَّاه فلم يَحرْ جواباً.
فأنشأ عبد المسيح يقول:
أَصُمَّ أم يسْمَع غِطْرِيفُ اليَمَنْ
أَمْ فَادَ فَازْلَمَّ به شَأْوُ العَنَنْ
يا فاصل الخُطَّةِ أعيتْ مَنْ وَمَنْ
أتاك شيخُ الحيِّ من آل سننْ
وأمه من آل ذئب بن حَجن
أبيضَ فضفاضَ الرداء والبدَن
رسول قيل العجم يسري للوسن
لا يَرهب الوغدَ ولا ريب الزمنْ
تجوب بي الأرض علنداةٌ شزن
ترفعني وجناً وتهوي بي وجَنْ
حتى أتى عاري الجآجي والقطنْ(1/55)
تلفه في الريح بوْغاء الدِّمَنْ فلما سمع سطيح شعره رفع رأسه وقال: عبد المسيح على جمل مشيح، أتى إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملكُ بني ساسان، لارتجاس الإِيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلاً صعاباً، تقود خيلاً عرَاباً، قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلادها.
يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وبُعث صاحبُ الهراوة، وفاض وادي السماوة وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست الشام لسطيح بشام، يمْلك منهم ملوك وملكات على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت.
ثم قضى سطيح مكانه.
فثار عبد المسيح إلى راحلته وهو يقول:
شَمِّرْ فإنك ماضي الهم شِمِّيرُ
لا يفزعنك تفريقٌ وتغييرُ
إن يُمس مُلك بني ساسان أفْرطهم
فإن ذا الدهر أطوار دهاريرُ
فربمَّا ربما أضْحوا بمنزلةٍ
تهاب صولَهم الأسْد المهاصيرُ
منهم أخو الصَّرح بُهْرامٌ وإخوته
والهُرْمزان وسابورٌ وسابورُ
والناسُ أولاد علاَّت فمنْ علموا
أن قَدْ أَقَلَّ فمحقورٌ ومَهْجُورُ
وهم بنو الأم إما إن رأوا نشباً
فذاك بالغَيْبِ محفوظٌ ومنصورُ
والخيرُ والشرُّ مقرونان في قَرَنٍ
فالخيرُ متبَعٌ والشرُّ محذور
فلما قدِم عبدُ المسيح على كسرى أخبره بقول سَطِيح، فقال: إلى أن يَمْلك منا أربعة عشر قد كانت أمورٌ.
فملكَ منهم عشرةٌ أربعَ سنين، وملكَ الباقون إلى خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وكان سَطيح لحماً على وَضم، لم يكن فيه عظم ولا عصب إلا الجمجمة والكفين، ويطْوى من ترقوته إلى رجليه كما يُطوى الثوب، ولم يكن منه شيء يتحرك إلا لسانه، وكان يُحْمَل على وضمة.
الباب الرابع والعشرون
في ذكر أمهات الحوادث في سِنيه صلى الله عليه وسلم
وكان من أعظم الحوادث في السنة الأولى من مولده انشقاقُ الإِيوان، وقصة الفيل، ويوم جَبَلة.
قال أبو عبيدة: أعظمُ آيات العرب يوم جَبَلة، وكان عام ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لعامرٍ وعَبْس على ذبيان وتميم.
وقد قال الرَّضِيّ:(1/56)
فمِن إباء الأذى خَلَّت جماجمَها
على مَنَاصلها عَبْسٌ وذِبْيَانُ
1 وفي سنة سبع من مولده أصابه رمد شديد، فعولج بمكة فلم تغن عنه، فقيل لعبد المطلب: إن في ناحية عكاظ راهباً يعالج العين.
فركب إليه فناداه وديره مغلق فلم يجبْه، فتزلزل به ديره حتى خاف أن يسقط عليه فخرج مبادراً.
فقال: يا عبد المطلب إن هذا الغلام نبي هذه الأمة، ولو لم أخرج إليك لخَرَّ على دِيري، فارجع به واحفظه لا يغتاله بعضُ أهل الكتاب.
ثم عالجه وأعطاه ما يعالج به.
وألقى الله له المحبة في قلوب قومه وكل من يراه.
1 وفي سنة ثمان من مولده مات عبد المطلب وكفله أبو طالب، ومات كسرى أنو شروان وولِي ابنه هُرْمز.
1 وفي سنة عَشرٍ من مولده صلى الله عليه وسلم كان الفِجَار الأول.
فلما أتتْ له بضعُ عشرة سنة خرج في سَفَر مع عمه الزُّبير، فمرُّوا بوادٍ فيه فَحْل من الإِبل يمنع من يَجْتَاز، فأرادوا الانحراف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أكفيكموه، فدخل أمام الرّكب، فلما رآه البعير برك وحك الأرض بكَلْكلته، فنزل عن بعيره وركبه فسار حتى جاوز الوادي ثم خلَّى عنه. فلما رجعوا من سَفرهم مروا بواد مملوء ماء يتدفق، فوقفوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتبعوني. ثم اقتحمه واتبعوه فأيبسَ الله الماء. فلما وصلوا إلى مكة تحدثوا بذلك فقال الناس: إن لهذا الغلام لشأناً.
وكان يُفْرش لعبد المطلب في ظل الكعبة وبنوه يجلسون حوله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جَفْر فيجلس في مكانه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه، فيقول: دعوا بُنيَّ فوالله إن له لشأناً.
1 وفي سنة أربع عشرة من مولده كان الفجار الآخر.
1 وفي سنة خمس عشرة من مولده قامت سوق عُكاظ.
1 وفي سنة تسع عشرة من مولده هلك هُرْمز بن كسرى وولِي ابنه أبرويز.
1 وفي سنة عشرين من مولده كان حِلف الفضول.
1 وفي سنة خمس وثلاثين من مولده هُدِمت الكعبة وبنيت.(1/57)
1 فلما تمت له أربعون سنة نُبِّىء فجاءه الوحي.
1 وبعد عشرين يوماً من مبعثه رميت الشياطين بالشهب.
1 واستتر بالنبوة ثلاث سنين ثم نزل: {س15ش94فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ }(الحجر: 94)
.
1 وكانت قريش لا تُنكر عليه حتى سَبَّ آلهتهم فآذَوْه وآذوا أصحابه.
1 فأمر أصحابَه في سنة خمس من النبوة بالهجرة إلى الحبشة.
1 وكانت وقعة بُعاث في سنة سبع من النبوة.
1 وفي سنة عشر من النبوة مات أبو طالب وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام.
1 وفي سنة إحدى عشرة خرج يَعرْض نفسه على القبائل.
1 وفي سنة اثنتي عشرة كان المعراج.
1 وفي سنة ثلاث عشرة بايعه الأنصار في العقبة.
1 وفي السنة الأولى من سني الهجرة خرج إلى الغار. وفيها آخى بين المهاجرين والأنصار.
1 وفي سنة اثنتين حوّلت القبلة إلى الكعبة، ونزلت فريضة رمضان، وكانت غَزَاة بدر.
1 وفي السنة الثالثة كانت غزاة أحُد وفي السابعة غزاة خيبر.
1 وفي الثامنة كانت غزاة الفتح.
1 وفي العاشرة حجَّ صلى الله عليه وسلم.
1 وفي الحادية عشرة توفي صلى الله عليه وسلم.
الباب الخامس والعشرون
في ذكر أسماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
عن محمد بن جُبير بن مطعم، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لي خَمْسَةُ أسْمَاءَ: أنا مُحَمَّدُ، وأَنا أحْمَدُ، وأنا المَاحِي الذي يَمْحُو اللَّهُ بِه الكُفْرَ، وأنا الحَاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وأنا العَاقِبُ» .
وعنه أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«لي أسْمَاءَ: أنا مُحَمَّدُ، وأنا أحْمَدُ، وأنا الحَاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاسُ على قَدَمِي، وأنا المَاحِي الذي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الكُفْرَ، وأنا العَاقِبُ الذي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ» .
عن أبي موسى قال: سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء منها ما حفظناه ومنها ما لم يحفظ قال:
«(1/58)
أنا مُحَمَّدُ، وأنا أحْمَدُ، والمُقَفِّي، والحَاشِرُ، ونَبيُّ التَّوْبَةِ، ونَبِيُّ المَلاَحِم» .
وعنه أيضاً قال: سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء منها ما حفظناه فقال:
«أنا مُحَمَّدُ، وأحْمَدُ، والمُقَفِّي، والحَاشِرُ، ونَبِيُّ التَّوْبَةِ، ونَبِيُّ المَلْحَمَة» .
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ما أُطْعِمَ طَعَامٌ على مائِدةٍ، ولا جُلِسَ عَلَيها، وفيها اسْمِي إلا قُدِرَ أكْلُ مرَّتَين» .
عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ قَطُّ فِي مَشُورَةٍ وَفِيهِم رَجُلٌ اسْمُه مُحَمَّدُ لم يُدْخِلوه في مَشُورَتِهِم إلا لمْ يُبَارَكْ لَهُم فِيه» .
عن ابن فارس اللغوي: أن لنبينا صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين اسماً: محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب، والمقفي، ونبي الرحمة، ونبي التوبة، ونبي الملاحم، والشاهد، والمبشر، والبدر، والضحوك، والقتّال، والمتوكل، والفالج، والأمين، والخاتم، والمصطفى، والرسول، والنبي، والأمي، والقُثَم.
والحاشر: الذي يحشر الناس على قدميه يقدمهم وهم خلفه.
والمقفي: آخر الأنبياء، وكذلك العاقب.
والملاحم: الحروب.
والضحوك: اسمه في التوراة، وذلك أنه كان طيب النفس فكهاً.
والقثم: من القثْم وهو الإِعطاء، وكان أجود الناس.
وفي الماحي: إشارة إلى ظهور دينه على الملْك ومحْوه الكفر وكثرة الفتوح.
قال ابن قتيبة: ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أنه لم يسمَّ أحد قبله باسمه، صيانة من الله لهذا الاسم، كما فعل بيحيى بن زكريا، إذ لم يجعل له من قبل سمياً.
وذلك أنه سماه في الكتب المتقدمة، وبشرت به الأنبياء، فلو جعل الاسم مشتركاً فيه شاعت الدعاوى ووقعت الشبهة، إلا أنه لما قرب زمنه وبشر أهل الكتاب بقربه حضر أربعة أنفس عند راهب، وأخبرهم، باسمه وقرب زمنه، فسموا أولادهم بذلك، ولا يعرف غيرهم.(1/59)
الباب السادس والعشرون
في ذكر كنيته صلى الله عليه وسلم
كان صلى الله عليه وسلم يكنى أبا القاسم، لأنه أول ولد ولدته أمه.
عن أنس بن مالك قال: لما ولد إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية كاد يقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم منه، حتى أتاه جبريل عليه السلام فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم. وقد نهى أن يكنى بكنيته.
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبقيع، فنادى رجل رجلاً: يا أبا القاسم.
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: لم أعِنك يا رسول الله، إنما عنيت فلاناً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَسَمَّوْا باسْمِي ولا تُكَنُّوا بِكُنْيَتِي» .
عن جابر أن رجلاً من الأنصار ولد له غلام، فأراد أن يسميه محمداً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: «تَسَمَّوْا باسْمِي ولا تُكَنُّوا بِكُنْيَتِي» .
عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تَسَمَّى بِاسْمِي فلا يُكَنِّي بِكُنْيَتِي، ومن اكتَنَى بِكُنْيَتِي فلا يَتَسَمَّى باسْمِي» .
وقد اختلفت الرواية عن أحمد، فروي عنه أنه يكره أن يجمع بين اسم النبي صلى الله عليه وسلم وكنيته، فإن أفرد الكنية عن اسمه لم يكره.
وروي عنه كراهية في الجملة في الجمع والإِفراد.
وروي عنه نفي الكراهة في الجملة، لما روي في حديث عائشة أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني ولدت غلاماً فسميته محمداً وكنيته أبا القاسم، فذكر لي أنك تكره ذلك.
فقال: «مَا الذي أحَلَّ اسْمِي وحَرَّمَ كُنْيَتِي»؟ أو: «مَاالذي حَرَّمَ كُنْيَتِي وأحَلَّ اسْمِي» .
قلت: وقد أجاب ذلك لعلي في ولد يأتيه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال علي: يا رسول الله أرأيت إن ولد لي بعدك ولد أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال: «نعم» .
فكانت رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي.(1/60)
قلت: والذي يقتضيه النظر في الأحاديث أنه قد كان يكره أن يكتنى بكنيته، لأن الخطاب لمثله بالكنية، فأما بعده فلا تكره الكنية ولا يجمع بينها وبين الاسم.
الباب السابع والعشرون
في ذكر أول من أرضعه صلى الله عليه وسلم
1 أول من أرضعه ثويبة مولاة أبي لهب أياماً.
1 ثم قدمت حليمة.
وكان عبد المطلب قد تزوج هالة بنت وهب بن عبد مناف، وزوج ابنه عبدالله آمنة بنت وهب بن عبد مناف في مجلس واحد، فولد حمزة، ثم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرضعتهما ثويبة بلبن ابنها مسروح أياماً، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عرضت عليه ابنة حمزة ليتزوجها: «إنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِي، إنَّها بِنْتُ أَخِي أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَة» .
وكانت ثويبة تدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما تزوج خديجة فيكرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكرمها خديجة، وهي يومئذ أمَة، ثم أعتقها أبو لهب.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها بعد الهجرة بكسوة وصلة حتى ماتت بعد فتح خيبر، ولا يعلم أنها أسلمت.
بل قد قال أبو نعيم الأصبهاني: حكى بعض العلماء أنه اختلف في إسلامها.
عن عروة قال: كانت ثويبة مولاة لأبي لهب فأعتقها. فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله في النوم، فقال: ماذا لقيت يا أبا لهب؟ فقال: ما رأيت بعدكم رَوحاً، غير أني سقيت في هذه ـ وأشار إلى النقرة التي فوق الإِبهام ـ بعتقي ثويبة.
قال: وكانت أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا سلمة.
الباب الثامن والعشرون
في ذكر حليمة وهي التي أرضعته بعد ثويبة
وهي: حليمة بنت أبي ذؤيب، واسمه عبدالله بن الحارث بن شجنة. وزوجها الحارث بن عبد العُزى بن رفاعة.(1/61)
واسم إخوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من رضاعة حليمة: عبدالله، وأنيسة وخِدَامة بنو الحارث؛ وخِدامة هي: الشَّيماء غلب ذلك على اسمها فلا تعرف إلا به. ويزعمون أن الشيماء سبيت يوم حُنين فقالت: اعلموا أني أخت نبيكم. فلما أتي بها عرفها فأغناها.
وكانت حليمة من بني سعد بن بكر.
قالت حليمة: خرجت على أتان لي قَمراء قد أذمَّت بالرَّكب.
قالت؛ وخرجنا في سنة شهباء لم تُبْق شيئاً، أنا وزوجي الحارث بن عبد العُزَّى.
قالت: ومعنا شارف لنا، والله إنْ تبضُّ بقطرة لبن، ومعي صبي لنا والله ما ننام ليلَنا من بكائه، ما في ثديي لبن يُغْنيه، ولا في شارفنا من لبن يغذيه، إلا أنا نرجو الفرج.
فلما قدمنا مكة لم تبْق منا امرأة إلا عُرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، وإنما كنا نرجو الكرامة في رضاعة من نرضع له من أبي المولود، وكان يتيماً صلى الله عليه وسلم، فقلنا: ما عسى أن تصنع بنا أمه فكنا نأبى.
حتى لم يبق من صواحباتي امرأة إلا أخذت رضيعاً غيري، فقلت أرجع ولم آخذ أحداً فكرهت ذلك، وقد أخذ صواحباتي، فقلت لزوجي: والله لأرجعن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه.
قالت: فأتيته فأخذته، ثم رجعت به إلى رَحلي، فقال لي زوجي: قد أخذتيه؟ قلت: نعم. وذاك أني لم أجد غيره. قال: قد أصبتِ عسى الله أن يجعل فيه خيراً.
قالت: والله ما هو إلا أن وضعته في حجري فأقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب حتى روي، وشرب أخوه حتى روي، وقام زوجي الحارث إلى شارفنا من الليل فإذا هي ثَجَّاء فحلب علينا ما شئنا فشرب حتى روي وشربت حتى رويت.
قالت: فمكثنا بخير ليلة شباعاً رواء. فقال زوجي: والله يا حليمة ما أراك إلا قد أصبت نسَمة مباركة، قد نام صبياننا وقد روينا.(1/62)
قالت: ثم خرجنا، فوالله لقد خرجت أتاني أمام الركب قد قطعتهم حتى ما يتعلق بها منهم أحد، حتى إنهم ليقولون: ويحك يا بنت الحارث كفي علينا النصَب، أهذه أتانك التي خرجت عليها؟ فأقول: بلى والله. فيقولون: إن لها لشأنا.
حتى قدمنا منازلنا من حاضر منازل بني سعد بن بكر.
قالت: فقدمنا على أجدَب أرض الله. قالت: فوالذي نفس حليمة بيده إن كانوا ليسرحون أغنامهم إذا أصبحوا وأسرح راعي غُنيمتي، وتروح غنمي حُفَّلا بطاناً، وتروح أغنامهم جياعاً هلاكاً، ما بها من لبن لشربة، فنشرب ما شئنا من لبن، وما من الحاضر من أحد يحْلب قطرة ولا يجدها. قالت: فيقولون لرعاتهم: ويلكم ألا تسرحون حيث يسرح راعي حليمة. فيسرحون في الشعب الذي يسرح فيه، وتروح غنمهم جياعاً ما بها من لبن، وتروح غنمي حُفَّلا لبناً.
قالت: وكان يشب في اليوم شبابَ الصبي في الشهر ويشب في الشهر شباب الصبي في سنة.
قالت: فبلغ سنتين وهو غلام جَفر. قالت: فقدمْنا به على أمه فقلت لها وقال لها زوجي: دعي ابني فلنرجع به، فإنا نخاف عليه وباء مكة. قالت: ونحن أضن شيء به لما رأينا من بركته صلى الله عليه وسلم.
فلم نزل بها حتى قالت ارجعي به.
قالت: فمكث عندنا شهرين.
قالت: فبينما هو يوماً مع إخوته خلف البيت إذ جاء أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه: أدْركا أخي القرشي، فقد جاءه رجلان فأضجعاه فشقا بطنه. قالت: فخرجت وخرج أبوه نشتد نحوه، فانتهينا إليه وهو نائم ممتقع لونه، فاعتنقه واعتنقته، وقال: ما لك يا بني؟
قال: أتاني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني، فوالله ما أدري ما صنعا.
قالت: فاحتملناه فرجعنا به. قالت يقول زوجي: يا حليمة والله ما أرى الغلام إلا قد أصيب. فانطلقي فلنرده إلى أمه قبل أن يظهر به ما نتخوف عليه.(1/63)
قالت: فرجعنا به إلى أمه: قالت ما ردّكما به؟ فقد كنتما حريصين عليه؟ فقلنا: لا والله، إلا أنا قد كفلناه وأدَّينا الذي علينا من الحق فيه، وتخوفنا عليه الأحداث، فقلنا يكون عند أمه.
قالت: والله ما ذاك بكما، فأخبراني خبركما وخبره. قالت: فوالله ما زالت بنا حتى أخبرناها خبره.
قالت: أتخافين عليه؟ لا والله إن لابني هذا شأنا. ألا أخبركما عنه؟
إني لما حملت به، فلم أحمل حملاً قط هو أخف منه ولا أعظم بركة منه. ولقد وضعته فلم يقع كما تقع الصبيان، لقد وقع واضعاً يده في الأرض رافعاً رأسه إلى السماء. دعاه وألحقا بشأنكما.
الباب التاسع والعشرون
في ذكر شرْح صدره في صغره صلى الله عليه وسلم
قال محمد بن سعد:
مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند حليمة أربع سنين، وكان يعدو مع أخيه وأخته في البَهم قريباً من الحي، فأتاه ملكان هناك فشقا بطنه واستخرجا علقة سوداء فطرحاها وغسلا بطنه بماء الثلج في طست من ذهب، ثم وزن بألف من أمته فوزنهم.
ثم قال أحدهما للآخر: دَعه، فلو وزنته بأمته كلها لرجحها.
وجاء أخوه يصيح: يا أماه أدركي أخي القرشي. فخرجت أمه تعدو ومعها أبوه، فيجدان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتقع اللون، فذهبت به إلى آمنة بنت وهب فأخبرتها خبره وقالت: إنا لا نرده إلا على جدع أنفنا.
ثم رجعت به أيضاً، فكان عندها سنة أو نحوها لا تدعه يذهب مكاناً بعيداً. ثم رأت غمامة تظله إذا وقف وقفت وإذا سار سارت، فأفزعها ذلك من أمره، فقدمت به إلى أمه لترده وهو ابن خمس سنين.
وروي أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أول شأنك يا رسول الله؟
قال: كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهْم لنا ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت: يا أخي اذهب فأتنا بزاد من عند أمنا. فانطلق أخي ومكثت عند البهم، فأقبل طائران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم.(1/64)
فأقبلا يبتدران فأخذاني فبطحاني إلى القفا، فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: أيتني بماء ثلج. فغسلا به جوفي، ثم قال: أيتني بماء برَد. فغسلا به قلبي. ثم قال: ايتني بالسَّكينة. فذرَّاها في قلبي. ثم قال أحدهما لصاحبه: خطْه. فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة. وقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفة واجعل ألفاً من أمته في كفة. فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي أشفق أن يخرَّ عليَّ بعضُهم. فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم.
ثم انطلقا وتركاني وقد فرقتُ فرقاً شديداً، ثم انطلقت إلى أمي، فأخبرتها بالذي لقيت فأشفقت على أن يكون التبس بي. فقالت: أعيذك بالله. فحملتني على الرحل وركبت خلفي، حتى بلغت إلى أمي فقالت: أديتُ أمانتي وذمتي وحدثتها بالذي لقيت.
فلم يرُعها ذلك وقالت: إني رأيت حين خرج مني نوراً أضاءت منه قصور الشام.
عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه وشقَّ عن قلبه فاستخرج القلب، ثم شق القلب فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظُّ الشيطان منك. فغسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه.
وجاء الغلماء يسعون إلى أمه ــــ يعني ظئره ــــ فقالوا: إن محمداً قد قتل. فاستقبلوه وهو ممتقع.
قال أنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم.
عن شداد بن أوس قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل شيخ من بني عامر فقال: يا محمد أنبئني ببدء شأنك.(1/65)
قال: «أَنا دَعْوَةُ أبي إبْرَاهِيمَ، وبُشْرَى أخِي عِيْسَى ابنَ مَرْيَمَ، وذلكَ أنَّ أُمِّي لمَّا وَضَعَتْنِي كُنْتُ مُسْتَرْضَعَاً في بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، فَبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٌ مُنْتَبِذٌ من أهْلِي في بَطْنِ وادٍ مع أتْرابٍ لي من الصِّبْيَانِ، إذَا أنا بِرَهْطٍ ثَلاثةٍ مَعَهُم طِسْتٌ من ذَهَبٍ مَلِيءٌ ثَلْجًا، فَأَخَذَنِي من بينِ أصْحَابِي، فَخَرَجَ أصْحَابِي هَرَاباً حتى انْتَهَوْا إلى شَفِيرِ الوَادِي ثم أقْبَلوا عَلى الرَّهْطِ فَقَالوا: مَا أَرْبُكُم إلى هذا الغُلامِ؟ فَإنَّه لَيْسَ منَّا، هذا ابنُ سَيِّدِ قُرَيْشٍ، فإن كُنْتُم لا بُدَّ قَاتِلِيه فَاخْتَارُوا مِنَّا أَيُّنَا شِئْتُمْ فَاقْتُلوه» .
«فَعَمَدَ أحَدُهُم فأضْجَعَني، ثُم شَقَّ صَدْرِي ثُم أخَرَجَ أحْشَاءَ بَطْنِي ثم غَسَلَها بذلكَ الثَّلْجِ فَأَنْعَمَ غَسْلَها، ثمَ أعَادَها مَكانَها. ثمَ قَامَ الثَّانِي منهُم فقالَ لِصَاحِبِه: تَنَحَّ. فَتَنَحَّى عَنِّي، ثُمَ أدْخَلَ يَدَهُ فِي جَوْفِي وأخْرَجَ قَلْبِي وأَنا أنْظُرُ إليهِ فَصَدَعَه ثمَ أخْرَجَ مِنْ مُضْغَةً سَوْدَاءَ فرَمَى بِها، ثمَ قَال بِيَدِه مِنه كَأَنَّه يَتَنَاوَلُ شَيْئَاً، فإذا أنا بَخَاتِمٌ فِي يَدِه من نُورٍ يَحَارُ النَّاظِرونَ دونَه. فَخَتَمَ به قَلْبِي فَامْتَلأَ نوراً، ثم أعادَه مَكانَه فوَجَدْتُ بَرْدَ الخَاتَمِ في قَلْبِي دَهْراً. ثمَ قَال الثالثُ: تَنَحَّ. فَأمَرَّ يَدَه من مَفْرِقِ صَدْرِي إلى مُنْتَهَى عَانَتي، فَالتَأَم ذلكَ الشِّقُّ بإذنِ الله تَعَالى، ثُم أخَذَ بِيَدِي فَأنْهَضَنِي من مَكَاني إنهَاضَاً لطِيفَاً. ثم ضَمُّوني إلى صُدورِهِم وقَبَّلوا ما بيْنَ رأسِي وبينَ عَينَيَّ وقالوا: يا حَبِيْبَ الله لِمَ تُزع إنكَ لو تَدرِي ما يُرادُ بكَ من الخَيْرِ لقَرَّتَ عَيْنَاكَ» .(1/66)
قال: «فبينَا نَحنُ كَذَلكَ إذا أنا بالحَيِّ قَدْ جَاؤوا بحَذَافِيْرِهِم، وإذا أُمِّي، وهي ظِئْرِي أمَامَ الحيِّ تَهتِفُ بأعْلَى صَوْتِها: يا ضَعِيفَاه، يا حَبَّذَاه يا سُماه» .
«فَأكَبُّوا عليَّ فَقَبَّلوا رأْسِي وما بَينَ عَينَيَّ وقَالوا: حَبَّذا أنتَ من ضَعِيفٍ. ثم قَالتْ ظِئْرى: أَمُسْتَضْعَفٌ أنتَ مِن بَين أصْحَابِكَ فُقُتِلتَ لضَعْفِكَ. ثم ضَمَّتْنِي إلى صَدْرِهَا» .
«فَوَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَفِيْ حِجْرِها وإنَّ يَدِي لَفِي يَدِ بَعْضِهِم، وظَنَنْتُ أنَّ القَوْمَ يُبْصِرونَهُم فإذا هُم لا يُبْصِرونَ» .
«فقالَ بَعْضُ القَومِ: إنَّ هذَا الغُلامُ بِهِ لَمَمٌ أو طَائِفٌ منَ الجِنِّ» .
«فَذَهَبوا بي إلى الكَاهِنِ فَقَصُّوا عَلَيه قِصَّتِي، فَقَال: اسْكُتُوا حتَّى أسْمَعَ منَ الغُلامِ فَإنَّه أَعْلَمُ بأَمْرِه مِنْكُم» .
«فَسَأَلَني فَقَصَصْتُ عَلَيه قِصَّتِي، فَوَثَبَ إليَّ فَضَمَّنِي إلى صَدْرِه ثُمَ نَادَى بأعْلَى صَوْتِه: يا لَلْعَرَبْ اقتُّلوا هذا الغلامَ واقْتُلونِي مَعَه، فواللاتِ والعُزَّى إنْ تَرَكْتُموهُ وأدْرَك لَيُبَدِّلنَّ دينَكُم» .
«ثمَ احْتَمَلونِي. فَهَذا بَدْءُ شَأَنِي» .
وقال زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما قامت سوقُ عكاظ انطلقت حليمة برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عرّاف من هُذيل يريه الناسُ صبيانهم.
فلما نظر إليه صاح وقال: يا معشر هذيل يا معشر العرب.
فاجتمع إليه الناس من أهل الموسم فقال: اقتلوا هذا الصبيَّ.
وانسلت به حليمة.
فجعل الناس يقولون أي صبي؟ فيقول: هذا الصبي. فلا يرون شيئاً. قد انطلقت به أمه. فيقال له ما هو؟ فيقول: رأيت غلاماً، وآلهته، ليقتلن أهل دينكم، وليكسرن آلهتكم، وليظهرون أمره عليكم.
فطُلب بعُكاظ فلم يوجد.(1/67)
قال محمد بن عمر: وجعل الشيخ الهذلي يصيح: يا هذيل، وآلهته، إن هذا لينتظر أمراً من السماء. وجعل يُغْري بالنبي صلى الله عليه وسلم. فلم ينشب أن وله وذهب عقلُهُ، حتى مات كافراً.
عن ابن عباس قال: خرجت حليمة تطلب النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته مع أخته، فقالت أبني ما هذا الحر الذي أنت فيه؟ فقالت أخته: يا أماه ما وجد أخي حرَّا، رأيت غمامة تظل عليه، فإذا وقف وقفت، وإذا سار سارت معه حتى انتهى إلى هذا الموضع.
وقد روينا أن حليمة قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقد زوِّج خديجة، فشكت إليه جَدْبَ البلاد وهلاك الماشية.
فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة فيها فأعطتها أربعين شاة وبعيراً موقعاً للظعينة. فانصرفت إلى أهلها.
ثم قدمت عليه بعد الإِسلام فأسلمت هي وزوجها وبايعا.
عن محمد بن المُنكَدر قال: استأذنت امرأةٌ على النبي صلى الله عليه وسلم كانت أرضعته، فلما دخلت عليه قال: أمي أمي. وعمد إلى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه.
وقد روي أنها جاءت إلى أبي بكر بعده فأكرمها وإلى عمر ففعل مثل ذلك.
وقد روي أنه أعيد شرحُ صدره بعد أن تم له عشر سنين.
عن أُبي بن كعب: كان أبو هريرة جريئاً على سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره، فقال: يا رسول الله ما أولُ ما رأيت من أمر النبوة؟
فاستوى جالساً وقال: «لَقَدْ سَأَلْتَ يا أبَا هُرَيْرَةَ» .
«(1/68)
إنِّي لَفِي صَحْرَاءَ ابنُ عَشْرِ سِنينَ وأَشْهُرٍ، وإذَا بَكَلامٍ فَوْقَ رَأْسِي، وإذَا رَجُلٌ يَقولُ لِرَجُل: أهُوَ هُوَ؟ فَاسْتَقْبلانِي بِوُجُوهٍ مَا رأَيْتُهَا عَلَى أحَدٍ قَطَّ، فأقْبَلا إليَّ يَمْشِيَانِ حَتَّى أخَذَ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمَا بعَضُدِي لا أجِدُ لأخْذِهِمَا مَسًّا. فقَالَ أحَدُهُمَا لِصَاحِبِه: أضْجِعْهُ. فأضْجَعَانِي بِلاَ قَصْرٍ ولا هَضرٍ. فقالَ أحَدُهُمَا لصَاحِبِه: أفْلُقْ صَدْرَه. فَهوَى أحَدُهُمَا إلى صَدْرِي فَفَلَقَه فِيْمَا أرَى بِلاَ دَمٍ ولا وَجَعٍ فقالَ لَه: أخْرِجْ الغِلَّ والحَسَدَ. فأخْرَجَ شَيْئًا كَهَيْئَةِ العَلَقَةِ. ثم نَبَذهَا فَطَرَحَهَا. فقَال له: أدْخِلِ الرَّأفَةَ والرَّحْمَةَ. فَإذا مِثْلُ الذي أَخْرَجَ شِبْهَ الفِضَّةِ. ثمَ هَزَّ إبْهَامَ رجْلِي اليُمْنَى فَقَال: أعْدُ وسَلِّم. فَرَجَعْتُ بهَا أعْدُوا رَأفَةً على الصَّغِير ورَحْمَةً للكَبِيْرِ» .
الباب الثلاثون
في ذكر ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تمام خمس سنين من مولده صلى الله عليه وسلم
عن كعب قال: قالت حليمة: ركبت أتاني وحملت محمداً بين يدي أسير به، حتى أتيت الباب الأعظم من أبواب مكة وعليه جماعة مجتمعة، فوضعته لأقضي حاجة وأصلح شأني، فسمعت هدة شديدة، فالتفت فلم أره فقلت: معاشر الناس أين الصبيّ؟
قالوا: أي الصبيان؟
قلت: محمد بن عبدالله بن عبد المطلب الذي نضَّر الله به وجهي وأشبع جوعي، ربيته حتى إذا أدركت سروري أتيت به لأرده إلى أمه وأخرج من أمانتي، اختلس من بين يدي، واللات والعُزَّى لئن لم أره لأرمين نفسي من شاهق هذا الجبل.
قالوا: ما رأينا شيئاً.
فلما أيأسوني وضعت يدي على رأسي وقلت: وامحمداه واولداه. فأبكيت الجواري الأبكار لبكائي، وضج الناس معي بالبكاء.
فأتيت عبد المطلب فأخبرته فسلَّ سيفه ونادى: يا آل غالب. وكانت دعوتهم في الجاهلية. فأجابته قريش.(1/69)
فقال: فقد ابني محمد.
فقالوا قريش: اركب نركب معك، فلو خضت بحراً خضناه معك. فركب وركبوا فأخذ على أعلا مكة وانحدر على أسفلها، فلم ير شيئاً، فترك الناسَ وأقبل إلى البيت الحرام، فطاف أسبوعاً ثم أنشأ يقول:
يا ربّ رُدَّ راكبي محمدا
رُدَّه لي واتخذ عندي يَدَا
فسمعوا منادياً ينادي في الهواء يقول: معاشر الناس لا تضجوا، إن لمحمد رَبًّا لا يضيعه. قال عبد المطلب: أيها الهاتف ومن لنا به وأين هو؟ قال: هو بوادي تهامة، عند شجرة اليمن.
فمضى عبد المطلب، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يجذب الأغصان ويعبث بالورق، فحمله إلى مكة وجهز حليمة أحسن الجهاز.
وفي رواية أخرى أن حليمة لما قدمت به ضاع في الناس، فأخبرت عبد المطلب فأتى الكعبة فقال:
لا همَّ رد راكبي محمدا
رده رب واتخذ عندي يَدا
أنت الذي جعلته لي عضُداً
وفي رواية أن عبد المطلب بعث به في حاجة فقال هذا.
عن أبي حازم قال: قدم كاهن مكة، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابن خمس سنين، وقد قدمت به ظئره إلى عبد المطلب فقال: يا معشر قريش اقتلوا هذا الفتى فإنه يفرّقكم ويقتلكم. فهرب به عبد المطلب.
ولم تزل قريش تخشى من أمره ما كان الكاهن حذرهم.
الباب الحادي والثلاثون
في ذكر وفاة أمه آمنة
عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب، فلما بلغ ستَّ سنين خرجت به إلى أخواله بني عدي بن النَّجار بالمدينة تزورهم به، ومعه أم أيمن تحضنه، وهم على بعيرين، فنزلت به دار النابغة، فأقامت به عندهم شهراً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أموراً كانت في مقامه ذلك.
1 لما نظر إلى أطُم بني عدي بن النجار بالمدينة عرفه فقال: كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذه الآطام، وكنت مع غلمان من أخوالي نطير طائراً كان عليه يقع.(1/70)
ونظر إلى الدار فقال: ها هنا نزلت بي أمي، وفي هذه الدار قبر أبي عبدالله بن المطلب، وأحسنتُ العوْم في بئر بني عدي بن النجار.
1 وكان قوم من اليهود يختلفون ينظرون إليه. قالت أم أيمن: فسمعت أحدهم يقول: هو نبي هذه الأمة وهذه دار هجرته. فوعيت ذلك.
ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانوا بالأبواء توفيت أمه آمنة بنت وهب، فقبرها هناك.
فرجعت به أم أيمن إلى مكة وكانت تحضنه.
1 فلما مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عُمرة الحديبية بالأبواء قال: «إن اللَّهَ قَدْ أُذِنَ لمُحَمَّدٍ فِي زيَارَةِ قَبْرِ أُمِّه» . فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكائه، فقيل له، فقال: «أدْرَكَتْنِي رَحْمَةٌ رَحِمْتُها فَبَكَيْتُ» .
عن أبي مرثد قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتى جذم قبر فجلس إليه وجلس الناس حوله، فوقف كهيئة المخاطب، ثم قام وهو يبكي فاستقبله عمر وكان من أجْرأ الناس عليه، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما الذي أبكاك؟ قال: «هذا قَبْرُ أُمِّي، سأَلْتُ رَبِّي الزِّيَارَةَ فأَذِنَ لِي، وسَأَلْتُه الاسْتِغْفَارَ فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، فَذَكَرْتُهَا فَوَقَفْتُ فَبَكَيْتُ» .
فلم يُرَ يوم كان أكثر باكياً من يومئذ.
قال ابن سعد: هذا غلط، ليس قبرها بمكة إنما قبرها بالأبواء.
عن أبي هريرة قال: زار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استَأذَنْتُ رَبِّي عزَّ وجَلَّ في أنْ أسْتَغْفِرَ لَهَا فلَمْ يُؤْذَنْ لِي، واستَأذَنْتُه في أَنْ أزُوْرَ قَبْرَهَا فَأذِنَ لِي، فَزُوْرُوا القُبُورَ فَإنَّها تُذَّكِرَّكُمُ المَوْتَ» .
انفرد بإخراجه مسلم.
عن أبي بُريدة عن أبيه قال: أتيت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف على عسفان فنظر يميناً وشمالاً، وأبصر قبر أمه، فورد الماء، فتوضأ ثم صلى ركعتين، فلم يفجأنا إلا ببكائه.(1/71)
فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم انصرف إلينا فقال: «مَا الذي أبْكَاكُم؟» قالوا: بكيت فبكينا يا رسول الله.
قال: «وما ظَنَنْتُم؟» .
قالوا: ظننا أن العذاب نازل علينا.
قال: «لمْ يَكُن مِن ذَلكَ شَيْءٌ» .
فقالوا: فظننا أن أمتك كلِّفت من الأعمال ما لا تطيق.
قال: «لمْ يكُن مِن ذَلكَ شَيْءٌ، ولَكِنَّنِي مَرَرْتُ بِقَبْرِ أُمِّي، فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ واستَأْذَنْتُ رَبِّي في أنْ أسْتَغْفِرَ لَهَا فَنُهِيْتُ، فَبَكَيْتُ؛ ثُمَ عُدْتُ فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ واسْتَأذَنْتُ رَبِّي في أنْ أسْتَغْفِرَ لَهَا فَزُجِرْتُ زَجْرًا، فَعَلا بُكَائِي» .
ثم دعا براحلته فركبها، فما سار إلا هُنَيَّة حتى قامت الراحلة بثقل الوحي؛ فأنزل الله تعالى: {س9ش113مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُو?اْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُو?اْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }(التوبة: 113)
.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أشْهِدُكُم أنِّي بَريءٌ من آمِنَةَ كَمَا تَبَرَّأ إبْراهِيمُ مِن أَبِيهِ» .
عن الحسن بن جابر، وكان من المجاورين بمكة قال: رُفع إلى المأمون أن السَّيل يدخل قبر أمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. لموضع معروف هناك، فأمر المأمون بإحكامه.
قال ابن البراء: قد وصف لي وأنا بمكة وضعه.
فيجوز أن يكون توفيت بالأبواء ثم حملت إلى مكة فدفنت بها.
الباب الثاني والثلاثون
في ذكر كفالة عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أمه آمنة
عن نافع بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون مع أمه آمنة بنت وهب، فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب وضمه ورقَّ عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه ويُدْنيه ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام، وكان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك: دعوا ابني إنه ليؤتين ملْكاً.(1/72)
1 وقال قوم من بني مُدْلج لعبد المطلب: احتفظ به، فإنا لم نر قدماً أشبه بالقدم التي في المقام منه. فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء. فكان أبو طالب يحتفظ به.
1 وقال عبد المطلب لأم أيمن، وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بركة لا تغفلي عن ابني، فإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة.
1 وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلا قال: عليَّ بإبني. فيؤتى به إليه.
فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياطته.
عن ابن عباس قال: سمعت أبي يقول: كان لعبد المطلب مَفرش في الحجْر لا يجلس عليه غيره، وكان حربُ بن أمية فمَنْ دونه يجلسون حوله دون المَفْرش، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وهو غلام لم يبلغ، فجلس على المفرش فجذبه رجل، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد المطلب، وذلك ما بعد كُفَّ بصره: ما لابني يبكي؟ قالوا له: أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه. فقال عبد المطلب: دعوا ابني يجلس عليه فإنه يحسُّ من نفسه شرَفاً، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربيٌّ قبله ولا بعدَه.
الباب الثالث والثلاثون
في ذكر خروج عبد المطلب برسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقون عند منام رقيقة
عن رقيقة، وهي لِدة عبد المطلب قالت: تتابعت على قريش سنون أمحَلت الضَّرْع وأدقَّت العظم.(1/73)
فبَيْنا أنا نائمة أو مهومة إذا هاتف يصرخ بصوت صَحِل يقول: يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث فيكم قد أظلتكم أيامه، وهذا إبَّان نجومه فحيهلاً بالحَيَا والخصب، ألا فانظروا رجلاً منكم وسيطاً عظاماً جسَاماً، أبيض بَضَّا أوطفَ الأهداب، سهل الخدين، أشمَّ العرنَين له فخر يكظم عليه، وسُنة تُهدى إليه، فليَخْلص هو وولده، وليهبط إليه من كل بطن رجل، فليستَنُّوا من الماء وليمسُّوا من الطيِّب، ثم يستلموا الركن ثم ليرتقوا أبا قُبَيس، فليَسْتسق الرجل وليؤمِّن من القوم، فغِثْتم ما شئتم.
فأصبحتُ عَلم الله مذعورة قد اقشعر جلدْي وولَه عقلي، واقتصَصَت رؤياي، فوالحرمة والحَرَم ما بقي (بها) أبْطحي إلا قال: هذا شَيْبة الحمد.
فتتامَّت إليه رجالات قريش، وهبط إليه من كل بطن رجل، فسنوا ومسُّوا واستلموا، ثم ارتقوا أبا قُبَيس، وطبقوا جانبيه ما يَبلغ سعيهم مُهْلةً، حتى إذا استووا بذروة الجبل قام عبد المطلب ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام قد أيفع أو كَرب، فقال: اللهم سادَّ الخَلَّة وكاشف الكُرْبة أنت معلِّمٌ غير مُعلَّمٍ، ومسؤول غير مُبخَل، وهؤلاء عبادك وإماؤك بعُدرات حرمك يشكون إليك سنتهم، أذهبت الخُفَّ والظلف، اللهم فأمطرنا غيثاً مُغدقاً ممرعاً.
فوالكعبة ما راحوا حتى تفجرت السماء بمائها واكتظ الوادي بثجيجه، فلسمعت شيخان قريش وجلتها: عبدَالله بن جُدْعان، وحرب بن أمية، وهشام بن المغيرة، يقولون لعبد المطلب: هنيئاً لك أبا البطحاء. أي عاش بك أهل البطحاء.
وفي ذلك تقول رقيقة:
بشَيبة الحمد أسقى الله بلدتنا
لما فقدْنا الحيا واجلوَّذَ المطرُ
فجاد بالماء جَوْنيٌّ له سَبل
سحًّا فعاشت به الأنعام والشجرُ
مُبَارَكُ الأمرُ يُسْتسقى الغمام به
ما في الأنام له عِدْلٌ ولا خطر
منَّا من الله بالميمون طائره
وخَيْر مَنْ بشرَت يوماً به مُضرُ
الباب الرابع والثلاثون(1/74)
في ذكر خروج عبد المطلب لتهنئة سَيْف بن ذي يَزَن بالمُلكوتبشير سيفٍ عبدَ المطلب بأنه سيظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسْله
عن ابن الكلبي قال: لمَّا ملك سيفُ بن ذي يَزَن أرضَ اليمن وقتل الحَبَش وأبادهم وفدت إليه أشرافُ العرب ورؤساؤهم ليهنئوه بما ساق الله من الظَّفر.
ووفِد وفدُ قريش، وكانوا خمسة من عظمائهم: عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبدالله بن جُدعان، وخُويلد بن أسيد، ووهب بن عبد مناف بن زهرة.
فساروا حتى وافَوْا مدينة صنعاء، وسيف بن ذي يزن نازل بقصر يقال له غُمْدان، وكان أحد القصور التي بنتها الشياطين لبلقيس بأمر سليمان، فأناخ عبد المطلب وأصحابه واستأذنوا على سيف فأذن لهم.
فدخلوا وهو جالس على سرير من ذهب، وحوله أشراف اليمن على كراسي من الذهب، وهو متضمخ بالعنبر وبصيصُ المسك يلوح من مَفْرقه، فحيَّوه بتحية الملك، ووضعت لهم كراسي الذهب فجلسوا عليها إلا عبد المطلب فإنه قام ماثلاً بين يديه واستأذنه في الكلام.
فقيل له: إن كنت ممن تتكلم بين يدي الملوك فتكلم.
فقال: أيها الملك إن الله قد أحلك مَحِلاً رفيعاً شامخاً منيعاً، وأنْبَتك مَنْبتاً طابت أرومته وعزَّت جرثومته، وثبت أصله وبَسق فَرْعه، في أطيب مغرس وأعذب منبت، فأنت أيها الملك ربيعُ العرب الذي إليه مَلاذها، وورْدها الذي إليه مَعادها، سلفُك خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، ولن يهلك الله من أنت خلفه، ولن يَخْمل من أنت سلفه.
نحن أيها الملك أهل حَرَم الله وسدنة بيت الله، أوفدنا إليك الذي أبْهَجنا مِن كَشْف الضر الذي فَدَحنا، فنحن وفد التّهنئة لا وفد الترزئة.
فقال سيف: أنتم قريش الأباطح؟
قالوا: نعم.
قال: مرحباً وأهلاً وناقة ورحلاً ومُناخاً سهلاً، وملكاً سَمحلاً يعطي عطاءً جزلاً، قد سمع الملك مقالتكم وعرف فضلكم، فأنتم أهل الشرف والحمد والثناء والمجد، فلكم الكرامة ما أقمتم والحباء الواسع إذا انصرفتم.(1/75)
ثم قال لعبد المطلب: أيهم أنت؟
قال: أنا عبدُ المطَّلب بن هاشم.
قال: إياك أردت ولك حشدت، فأنت ربيع الأنام وسيد الأقوام، انطلقوا وانزلوا حتى أدعو بكم.
ثم أمر بإنزالهم وإكرامهم.
فأقاموا شهراً لا يدعوهم، حتى انتبه ذات يوم فأرسل إلى عبد المطلب: ايتني وحدَك مِن بين أصحابك.
فأتاه فوجده مستخلياً لا أحدَ عنده، فقرَّبه حتى أجلسه معه على سريره، ثم قال: يا عبد المطلب إني أريد أن ألقي إليك من علمي سراً لو غيرك يكون لم أبحْ به إليه، غير أني رأيتك معدنه، فليكن عندك مصوناً حتى يأذن الله فيه بأمره، فإن الله منجز وعده وبالغُ أمره.
قال عبد المطلب: أرشدَك الله أيها الملك.
قال سيف: إني أجد في الكتب الصادقة والعلوم السابقة التي اختزنَّاها لأنفسنا، وسترْناها عن غيرنا خبراً عظيماً وخطراً جسيماً فيه شرف الحياة وفخر الممات، للعرب عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة.
فقال عبد المطلب: أيها الملك لقد أبتُ بخير ما آب به وافد، ولولا هيبة الملك وإعظامه لسألته أن يزيدني من سروره إياي سروراً.
فقال سيف: نبي يبعث من عقبك، ورسولٌ من قرنك، اسمه أحمد ومحمد وهذا زمانه الذي يولد فيه أو لعله قد ولد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه (قد ولدناه مراراً) والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً، يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه، تخمد عند مولده النيران، ويعبد الواحد المنان ويزجر الكفر والطغيان، ويكسر اللات والأوثان، قوله فصل وحكمه عَدْل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
قال عبد المطلب: علا كعبك ودام فضلك وطال عمرك، فهل الملك سارِّي بإفصاح وتفسير وإيضاح؟
قال سيف: والبيت ذي الحُجُب، والآيات والكتب، إنك يا عبد المطلب لجدُّه غير كذب.
فخرَّ عبد المطلب ساجداً.
قال سيف: ارفع رأسك، ثلج صدرُك وطال عمرك، وعلا أمرك، فهل أحسست بشيء مما ذكرت لك؟(1/76)
قال عبد المطلب: نعم أيها الملك، كان لي ابن كنت به معجباً، فزوَّجته كريمة من كرائم قومي يقال لها آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام سميته محمداً وأحمد، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه.
قال: هو هو لله أبوك، فاحذر عليه أعداءه، وإن الله لم يجعل لهم عليه سبيلاً، ولولا علمي بأن الموت مجتاحي قبل ظهوره لسرْت إليه بخيلي ورجلي حتى أجعل مدينة يثرب دار ملكي، فإني أجد في كتب آبائي أن بيثرب استتباب أمره، وهم أهل دعوته ونصرته، وفيها موضع قبره، ولولا ما أجد من بلوغه الغايات وأن أقيه الآفات وأن أدفع عنه العاهات، لأظهرت اسمه وأوطأت العرب عقِبه، وإن أعش فسأصرف ذلك إليه. قم فانصرف بمن معك من أصحابك. ثم أمر لكل رجل منهم بمائتي بعير وعشرة أعبد من الحبش وعشرة أرطال من الذهب وحلتين من البرود. وأمر لعبد المطلب بمثل جميع ما أمر لهم، وقال له: يا عبد المطلب إذا شبَّ محمد وترعرع فاقدم عليّ بخبره. ثم ودعوه وانصرفوا إلى مكة.
فكان عبد المطلب يقول: لا تغبطوني بكرامة الملك إياي دونكم وإن كان ذلك جزيلاً وفضل إحسانه إليّ وإن كان كثيراً، اغبطوني بأمر ألقاه إليّ من شرفٍ لي ولعقبي من بعدي. فكانوا يقولون له: ما هو؟
فيقول: ستعرفونه بعد حين.
فمكث سيف باليمن ملكاً عدة أحوال، وإنه ركب يوماً كنحو ما كان يركب للصيد وقد كان قد اتخذ من السودان نفراً يجهزون بين يديه بحرابهم، فعطفوا عليه يوماً فقتلوه وبلغ كسرى أنوشروان فرد إليهم هُرْمز وأمره أن لا يدع أسودَ إلا قتله.
عن ابن عباس قال: لما ظهر ابن ذي يزن على الحبشة بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم أتت وفود العرب وشعراؤها تهنيه وتمدحه، فأتاه فيمن أتاه وفد من قريش فيهم عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبدالله بن جدْعان، وخويلد بن أسد في ناس من وفود قريش، فقدموا عليه صنعاء، فإذا هو في رأس غمدان الذي ذكره أمية بن أبي الصلت:
اشرب هنيئاً عليك التاجُ مرتفعاً(1/77)
في رأس غُمدان داراً منك محلالا
فدخل عليه الإِذن فأخبره بمكانهم، فأذن لهم.
فدنا عبد المطلب واستأذنه في الكلام فقال له: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك.
فقال: إن الله أحلك أيها الملك محلاً رفيعاً صعباً منيعاً شامخاً باذخاً، وأنبتك منبتاً طابت أرومته وعزَّت جرثومته، وثبت أصله وبسق فرعه، في أكرم موطن وأطيب معدن، فأنت ملك العرب وربيعها الذي يخصب، وأمير العرب الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد ومَعقلها الذي تلجأ إليه العباد، سلفك (لك) خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن يخمل من أنت سلفه، ولن يهلك من أنت خلفه. نحن أيها الملك أهلُ حرم الله عز وجل وَسَدَنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجنا من كشفك الكربَ الذي فدَحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة.
قال: وأيهم أنت أيها المتكلم؟
قال: أنا عبد المطلب بن هاشم.
قال: ابن أختنا؟ يعني الأنصار.
قال: نعم.
قال: أدنه. فأدناه ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: مرحباً وأهلاً، وناقة ورحلاً، ومستناخاً سهلاً، وملكاً سَمَحْلاً يعطي عطاءً جزلاً، قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم، وأنتم أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم والحباء إذا ظعنتم.
ثم نهضوا إلى دار الضيافة والرفد، فأقاموا شهراً لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف، ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطلب فأدنى مجلسه وأخلاه وقال: يا عبد المطلب إني مفوِّض إليك من سرِّ علمي ما لو لم يكن غيرك لم أبحْ به، ولكني رأيتك معدنه فأطلعتك عليه، فليكن عندك مطوياً حتى يأذن الله فيه، فإن الله بالغ أمره، فإني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اختزناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبراً عظيماً وخطراً جسيماً، فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة.
قال عبد المطلب: أيها الملك مثلك سَرَّ وبرَّ فما هو؟ فدا لك أهل الوبر زُمراً بعد زُمر.(1/78)
قال: إذا ولد مولود بتهامة، غلام بين كتفيه شامة، كانت له الإِمامة ولكم به الزعامة، إلى يوم القيامة.
فقال عبد المطلب: أبيتَ اللعن، لقد أبتُ بخير ما آب به وافد، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألت من سارِّه إياي ما أزداد به سروراً.
قال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد، واسمه محمد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، قد ولدناه مراراً والله باعثه جهاراً وجاعل له منا أنصاراً يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه، يضرب بهم الناس عن عَرْض ويمسح بهم كرائمَ الأرض، يكسر الأوثان، ويخمد النيران ويعبد الرحمن، ويَدْحر الشيطان، قوله فَصْل وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهي عن المنكر ويبطله.
قال عبد المطلب: عز جدك وعلا كعبك ودام مُلكك وطال عُمرك فهل الملك سارِّي بإفصاح فقد أوضح لي بعض الإِيضاح؟
قال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب والعلامات على النصب إنك يا عبد المطلب لجدُّه غير كذب.
فخرَّ عبد المطلب ساجداً، فقال له: ارفع رأسك ثلُج صدرُك وعلا أمرك، فهل أحسست شيئاً مما ذكرت لك؟
قال: أيها الملك كان لي ابن وكنت به معجَباً وعليه رفيقاً، زوجته كريمةً من كرائم قومي آمنة بنت وهب، فولدت غلاماً فسميته محمداً، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه.(1/79)
قال ابن ذي يزن: إن الذي قلتُ لك كما قلتَ، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً، واطوِ ما ذكرتُ لك عن هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تَدخلهم النفاسة من أن يكون لكم الرياسة؛ فيطلبون لك الغوائل ويَنْصبون لك الحبائل، وهم فاعلون أو أبناؤهم، ولولا أعلم أن الموت مجتاحي قبل مَبْعثه لسِرْت بخيلي ورحلي حتى أصيِّر يثرب دار ملكي، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن بيثرب استحكام أمره وأهلُ نصرته وموضع قبره، ولولا أني أقِيه الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه أمرَه ولأوطأت أسنان العرب عقِبه، ولكني سأصرف ذلك إليك من غير تقصير بمن معك. وأمر لكل واحد منهم بعشرة أعْبد، وعشرة إماء، ومائة من الإِبل، وحلتين من البرود، وخمسة أرطال ذهباً وعشرة أرطال فضة وكرش مملوءة عنبراً، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال: إذا جاء الحول فائتني. فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول.
وكان عبد المطلب كثيراً ما يقول: يا معشر قريش لا يغْبطني أحد بجزيل عطاء الملك وإن كثر فإنه إلى نفاد، ولكن ليغبطني مما يَبْقى لي ولعقبي من بعدي ذكره ومجده وشرفه فإذا قيل: ومتى ذلك؟ قال: سيعلم ولو بعد حين.
وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس:
جلَبْنَا النصحَ تَحْقُبُهُ المطايا
على أكوارِ أجمالٍ ونُوقِ
مُغلغلةً مَرَابعُها ثقالا
إلى صنعاءَ مِنْ فَجَ عميقِ
نَؤمُّ بنا ابن ذي يزن وتَقْرى
ذواتَ بطونها أمَّ الطريق
فلما وافقَتْ صنعاء حلت
بدارِ المُلك والحسبِ العريق
الباب الثاني والثلاثون
في ذكر كفالة عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أمه آمنة(1/80)
عن نافع بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون مع أمه آمنة بنت وهب، فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب وضمه ورقَّ عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه ويُدْنيه ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام، وكان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك: دعوا ابني إنه ليؤتين ملْكاً.
1 وقال قوم من بني مُدْلج لعبد المطلب: احتفظ به، فإنا لم نر قدماً أشبه بالقدم التي في المقام منه. فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء. فكان أبو طالب يحتفظ به.
1 وقال عبد المطلب لأم أيمن، وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بركة لا تغفلي عن ابني، فإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة.
1 وكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلا قال: عليَّ بإبني. فيؤتى به إليه.
فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياطته.
عن ابن عباس قال: سمعت أبي يقول: كان لعبد المطلب مَفرش في الحجْر لا يجلس عليه غيره، وكان حربُ بن أمية فمَنْ دونه يجلسون حوله دون المَفْرش، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وهو غلام لم يبلغ، فجلس على المفرش فجذبه رجل، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد المطلب، وذلك ما بعد كُفَّ بصره: ما لابني يبكي؟ قالوا له: أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه. فقال عبد المطلب: دعوا ابني يجلس عليه فإنه يحسُّ من نفسه شرَفاً، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربيٌّ قبله ولا بعدَه.
الباب الثالث والثلاثون
في ذكر خروج عبد المطلب برسول الله صلى الله عليه وسلم يستسقون عند منام رقيقة
عن رقيقة، وهي لِدة عبد المطلب قالت: تتابعت على قريش سنون أمحَلت الضَّرْع وأدقَّت العظم.(1/81)
فبَيْنا أنا نائمة أو مهومة إذا هاتف يصرخ بصوت صَحِل يقول: يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث فيكم قد أظلتكم أيامه، وهذا إبَّان نجومه فحيهلاً بالحَيَا والخصب، ألا فانظروا رجلاً منكم وسيطاً عظاماً جسَاماً، أبيض بَضَّا أوطفَ الأهداب، سهل الخدين، أشمَّ العرنَين له فخر يكظم عليه، وسُنة تُهدى إليه، فليَخْلص هو وولده، وليهبط إليه من كل بطن رجل، فليستَنُّوا من الماء وليمسُّوا من الطيِّب، ثم يستلموا الركن ثم ليرتقوا أبا قُبَيس، فليَسْتسق الرجل وليؤمِّن من القوم، فغِثْتم ما شئتم.
فأصبحتُ عَلم الله مذعورة قد اقشعر جلدْي وولَه عقلي، واقتصَصَت رؤياي، فوالحرمة والحَرَم ما بقي (بها) أبْطحي إلا قال: هذا شَيْبة الحمد.
فتتامَّت إليه رجالات قريش، وهبط إليه من كل بطن رجل، فسنوا ومسُّوا واستلموا، ثم ارتقوا أبا قُبَيس، وطبقوا جانبيه ما يَبلغ سعيهم مُهْلةً، حتى إذا استووا بذروة الجبل قام عبد المطلب ومعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام قد أيفع أو كَرب، فقال: اللهم سادَّ الخَلَّة وكاشف الكُرْبة أنت معلِّمٌ غير مُعلَّمٍ، ومسؤول غير مُبخَل، وهؤلاء عبادك وإماؤك بعُدرات حرمك يشكون إليك سنتهم، أذهبت الخُفَّ والظلف، اللهم فأمطرنا غيثاً مُغدقاً ممرعاً.
فوالكعبة ما راحوا حتى تفجرت السماء بمائها واكتظ الوادي بثجيجه، فلسمعت شيخان قريش وجلتها: عبدَالله بن جُدْعان، وحرب بن أمية، وهشام بن المغيرة، يقولون لعبد المطلب: هنيئاً لك أبا البطحاء. أي عاش بك أهل البطحاء.
وفي ذلك تقول رقيقة:
بشَيبة الحمد أسقى الله بلدتنا
لما فقدْنا الحيا واجلوَّذَ المطرُ
فجاد بالماء جَوْنيٌّ له سَبل
سحًّا فعاشت به الأنعام والشجرُ
مُبَارَكُ الأمرُ يُسْتسقى الغمام به
ما في الأنام له عِدْلٌ ولا خطر
منَّا من الله بالميمون طائره
وخَيْر مَنْ بشرَت يوماً به مُضرُ
الباب الرابع والثلاثون(1/82)
في ذكر خروج عبد المطلب لتهنئة سَيْف بن ذي يَزَن بالمُلكوتبشير سيفٍ عبدَ المطلب بأنه سيظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسْله
عن ابن الكلبي قال: لمَّا ملك سيفُ بن ذي يَزَن أرضَ اليمن وقتل الحَبَش وأبادهم وفدت إليه أشرافُ العرب ورؤساؤهم ليهنئوه بما ساق الله من الظَّفر.
ووفِد وفدُ قريش، وكانوا خمسة من عظمائهم: عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبدالله بن جُدعان، وخُويلد بن أسيد، ووهب بن عبد مناف بن زهرة.
فساروا حتى وافَوْا مدينة صنعاء، وسيف بن ذي يزن نازل بقصر يقال له غُمْدان، وكان أحد القصور التي بنتها الشياطين لبلقيس بأمر سليمان، فأناخ عبد المطلب وأصحابه واستأذنوا على سيف فأذن لهم.
فدخلوا وهو جالس على سرير من ذهب، وحوله أشراف اليمن على كراسي من الذهب، وهو متضمخ بالعنبر وبصيصُ المسك يلوح من مَفْرقه، فحيَّوه بتحية الملك، ووضعت لهم كراسي الذهب فجلسوا عليها إلا عبد المطلب فإنه قام ماثلاً بين يديه واستأذنه في الكلام.
فقيل له: إن كنت ممن تتكلم بين يدي الملوك فتكلم.
فقال: أيها الملك إن الله قد أحلك مَحِلاً رفيعاً شامخاً منيعاً، وأنْبَتك مَنْبتاً طابت أرومته وعزَّت جرثومته، وثبت أصله وبَسق فَرْعه، في أطيب مغرس وأعذب منبت، فأنت أيها الملك ربيعُ العرب الذي إليه مَلاذها، وورْدها الذي إليه مَعادها، سلفُك خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، ولن يهلك الله من أنت خلفه، ولن يَخْمل من أنت سلفه.
نحن أيها الملك أهل حَرَم الله وسدنة بيت الله، أوفدنا إليك الذي أبْهَجنا مِن كَشْف الضر الذي فَدَحنا، فنحن وفد التّهنئة لا وفد الترزئة.
فقال سيف: أنتم قريش الأباطح؟
قالوا: نعم.
قال: مرحباً وأهلاً وناقة ورحلاً ومُناخاً سهلاً، وملكاً سَمحلاً يعطي عطاءً جزلاً، قد سمع الملك مقالتكم وعرف فضلكم، فأنتم أهل الشرف والحمد والثناء والمجد، فلكم الكرامة ما أقمتم والحباء الواسع إذا انصرفتم.(1/83)
ثم قال لعبد المطلب: أيهم أنت؟
قال: أنا عبدُ المطَّلب بن هاشم.
قال: إياك أردت ولك حشدت، فأنت ربيع الأنام وسيد الأقوام، انطلقوا وانزلوا حتى أدعو بكم.
ثم أمر بإنزالهم وإكرامهم.
فأقاموا شهراً لا يدعوهم، حتى انتبه ذات يوم فأرسل إلى عبد المطلب: ايتني وحدَك مِن بين أصحابك.
فأتاه فوجده مستخلياً لا أحدَ عنده، فقرَّبه حتى أجلسه معه على سريره، ثم قال: يا عبد المطلب إني أريد أن ألقي إليك من علمي سراً لو غيرك يكون لم أبحْ به إليه، غير أني رأيتك معدنه، فليكن عندك مصوناً حتى يأذن الله فيه بأمره، فإن الله منجز وعده وبالغُ أمره.
قال عبد المطلب: أرشدَك الله أيها الملك.
قال سيف: إني أجد في الكتب الصادقة والعلوم السابقة التي اختزنَّاها لأنفسنا، وسترْناها عن غيرنا خبراً عظيماً وخطراً جسيماً فيه شرف الحياة وفخر الممات، للعرب عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة.
فقال عبد المطلب: أيها الملك لقد أبتُ بخير ما آب به وافد، ولولا هيبة الملك وإعظامه لسألته أن يزيدني من سروره إياي سروراً.
فقال سيف: نبي يبعث من عقبك، ورسولٌ من قرنك، اسمه أحمد ومحمد وهذا زمانه الذي يولد فيه أو لعله قد ولد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه (قد ولدناه مراراً) والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً، يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه، تخمد عند مولده النيران، ويعبد الواحد المنان ويزجر الكفر والطغيان، ويكسر اللات والأوثان، قوله فصل وحكمه عَدْل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
قال عبد المطلب: علا كعبك ودام فضلك وطال عمرك، فهل الملك سارِّي بإفصاح وتفسير وإيضاح؟
قال سيف: والبيت ذي الحُجُب، والآيات والكتب، إنك يا عبد المطلب لجدُّه غير كذب.
فخرَّ عبد المطلب ساجداً.
قال سيف: ارفع رأسك، ثلج صدرُك وطال عمرك، وعلا أمرك، فهل أحسست بشيء مما ذكرت لك؟(1/84)
قال عبد المطلب: نعم أيها الملك، كان لي ابن كنت به معجباً، فزوَّجته كريمة من كرائم قومي يقال لها آمنة بنت وهب، فجاءت بغلام سميته محمداً وأحمد، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه.
قال: هو هو لله أبوك، فاحذر عليه أعداءه، وإن الله لم يجعل لهم عليه سبيلاً، ولولا علمي بأن الموت مجتاحي قبل ظهوره لسرْت إليه بخيلي ورجلي حتى أجعل مدينة يثرب دار ملكي، فإني أجد في كتب آبائي أن بيثرب استتباب أمره، وهم أهل دعوته ونصرته، وفيها موضع قبره، ولولا ما أجد من بلوغه الغايات وأن أقيه الآفات وأن أدفع عنه العاهات، لأظهرت اسمه وأوطأت العرب عقِبه، وإن أعش فسأصرف ذلك إليه. قم فانصرف بمن معك من أصحابك. ثم أمر لكل رجل منهم بمائتي بعير وعشرة أعبد من الحبش وعشرة أرطال من الذهب وحلتين من البرود. وأمر لعبد المطلب بمثل جميع ما أمر لهم، وقال له: يا عبد المطلب إذا شبَّ محمد وترعرع فاقدم عليّ بخبره. ثم ودعوه وانصرفوا إلى مكة.
فكان عبد المطلب يقول: لا تغبطوني بكرامة الملك إياي دونكم وإن كان ذلك جزيلاً وفضل إحسانه إليّ وإن كان كثيراً، اغبطوني بأمر ألقاه إليّ من شرفٍ لي ولعقبي من بعدي. فكانوا يقولون له: ما هو؟
فيقول: ستعرفونه بعد حين.
فمكث سيف باليمن ملكاً عدة أحوال، وإنه ركب يوماً كنحو ما كان يركب للصيد وقد كان قد اتخذ من السودان نفراً يجهزون بين يديه بحرابهم، فعطفوا عليه يوماً فقتلوه وبلغ كسرى أنوشروان فرد إليهم هُرْمز وأمره أن لا يدع أسودَ إلا قتله.
عن ابن عباس قال: لما ظهر ابن ذي يزن على الحبشة بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم أتت وفود العرب وشعراؤها تهنيه وتمدحه، فأتاه فيمن أتاه وفد من قريش فيهم عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وعبدالله بن جدْعان، وخويلد بن أسد في ناس من وفود قريش، فقدموا عليه صنعاء، فإذا هو في رأس غمدان الذي ذكره أمية بن أبي الصلت:
اشرب هنيئاً عليك التاجُ مرتفعاً(1/85)
في رأس غُمدان داراً منك محلالا
فدخل عليه الإِذن فأخبره بمكانهم، فأذن لهم.
فدنا عبد المطلب واستأذنه في الكلام فقال له: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك.
فقال: إن الله أحلك أيها الملك محلاً رفيعاً صعباً منيعاً شامخاً باذخاً، وأنبتك منبتاً طابت أرومته وعزَّت جرثومته، وثبت أصله وبسق فرعه، في أكرم موطن وأطيب معدن، فأنت ملك العرب وربيعها الذي يخصب، وأمير العرب الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد ومَعقلها الذي تلجأ إليه العباد، سلفك (لك) خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن يخمل من أنت سلفه، ولن يهلك من أنت خلفه. نحن أيها الملك أهلُ حرم الله عز وجل وَسَدَنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجنا من كشفك الكربَ الذي فدَحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة.
قال: وأيهم أنت أيها المتكلم؟
قال: أنا عبد المطلب بن هاشم.
قال: ابن أختنا؟ يعني الأنصار.
قال: نعم.
قال: أدنه. فأدناه ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: مرحباً وأهلاً، وناقة ورحلاً، ومستناخاً سهلاً، وملكاً سَمَحْلاً يعطي عطاءً جزلاً، قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم، وأنتم أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم والحباء إذا ظعنتم.
ثم نهضوا إلى دار الضيافة والرفد، فأقاموا شهراً لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف، ثم انتبه لهم انتباهة فأرسل إلى عبد المطلب فأدنى مجلسه وأخلاه وقال: يا عبد المطلب إني مفوِّض إليك من سرِّ علمي ما لو لم يكن غيرك لم أبحْ به، ولكني رأيتك معدنه فأطلعتك عليه، فليكن عندك مطوياً حتى يأذن الله فيه، فإن الله بالغ أمره، فإني أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الذي اختزناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبراً عظيماً وخطراً جسيماً، فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة.
قال عبد المطلب: أيها الملك مثلك سَرَّ وبرَّ فما هو؟ فدا لك أهل الوبر زُمراً بعد زُمر.(1/86)
قال: إذا ولد مولود بتهامة، غلام بين كتفيه شامة، كانت له الإِمامة ولكم به الزعامة، إلى يوم القيامة.
فقال عبد المطلب: أبيتَ اللعن، لقد أبتُ بخير ما آب به وافد، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألت من سارِّه إياي ما أزداد به سروراً.
قال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد، واسمه محمد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، قد ولدناه مراراً والله باعثه جهاراً وجاعل له منا أنصاراً يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه، يضرب بهم الناس عن عَرْض ويمسح بهم كرائمَ الأرض، يكسر الأوثان، ويخمد النيران ويعبد الرحمن، ويَدْحر الشيطان، قوله فَصْل وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهي عن المنكر ويبطله.
قال عبد المطلب: عز جدك وعلا كعبك ودام مُلكك وطال عُمرك فهل الملك سارِّي بإفصاح فقد أوضح لي بعض الإِيضاح؟
قال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب والعلامات على النصب إنك يا عبد المطلب لجدُّه غير كذب.
فخرَّ عبد المطلب ساجداً، فقال له: ارفع رأسك ثلُج صدرُك وعلا أمرك، فهل أحسست شيئاً مما ذكرت لك؟
قال: أيها الملك كان لي ابن وكنت به معجَباً وعليه رفيقاً، زوجته كريمةً من كرائم قومي آمنة بنت وهب، فولدت غلاماً فسميته محمداً، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه.(1/87)
قال ابن ذي يزن: إن الذي قلتُ لك كما قلتَ، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً، واطوِ ما ذكرتُ لك عن هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تَدخلهم النفاسة من أن يكون لكم الرياسة؛ فيطلبون لك الغوائل ويَنْصبون لك الحبائل، وهم فاعلون أو أبناؤهم، ولولا أعلم أن الموت مجتاحي قبل مَبْعثه لسِرْت بخيلي ورحلي حتى أصيِّر يثرب دار ملكي، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن بيثرب استحكام أمره وأهلُ نصرته وموضع قبره، ولولا أني أقِيه الآفات وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه أمرَه ولأوطأت أسنان العرب عقِبه، ولكني سأصرف ذلك إليك من غير تقصير بمن معك. وأمر لكل واحد منهم بعشرة أعْبد، وعشرة إماء، ومائة من الإِبل، وحلتين من البرود، وخمسة أرطال ذهباً وعشرة أرطال فضة وكرش مملوءة عنبراً، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال: إذا جاء الحول فائتني. فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول.
وكان عبد المطلب كثيراً ما يقول: يا معشر قريش لا يغْبطني أحد بجزيل عطاء الملك وإن كثر فإنه إلى نفاد، ولكن ليغبطني مما يَبْقى لي ولعقبي من بعدي ذكره ومجده وشرفه فإذا قيل: ومتى ذلك؟ قال: سيعلم ولو بعد حين.
وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس:
جلَبْنَا النصحَ تَحْقُبُهُ المطايا
على أكوارِ أجمالٍ ونُوقِ
مُغلغلةً مَرَابعُها ثقالا
إلى صنعاءَ مِنْ فَجَ عميقِ
نَؤمُّ بنا ابن ذي يزن وتَقْرى
ذواتَ بطونها أمَّ الطريق
فلما وافقَتْ صنعاء حلت
بدارِ المُلك والحسبِ العريق
الباب الخامس والثلاثون
في ذكر موت عبد المطلب
قالوا: لما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياطته، وقال لبناته: ابكينني وأنا أسمع. فبكته كل واحدة منهن بشعر، فلما سمع قول أُمَيْمة وقد أمسك لسانه جعل يحرك رأسه: أي قد صدقت. وقد كنت لذلك وهو قولها:
أعينيَّ جودي بدمع دَرِر(1/88)
على طيِّب الخِيم والمُعْتَصرْ
على ماجد الجَدِّ واري الزنادِ
جميل المُحيَّا عظيم الخطر
على شيبَة الحمد ذي المكرمات
وذي المجد والعز والمفتخر
وذي المجد والفضل في النائبات
كثير المكارم جَم الفحَرْ
أتته المنايا فلم تُشْوه
بَصرْف الليالي وريب القدر
قال: ومات عبد المطلب وهو ابن اثنتين وثمانين سنة. ويقال: ابن مائة وعشر سنين. ويقال: ابن مائة وعشرين سنة.
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتذكر موت عبد المطلب؟ قال: «نَعَمْ، وَأَنا يَوْمَئِذٍ ابنُ ثَمَانِ سِنِيْنَ» .
قالت: أم أيمن: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف سرير عبد المطلب يبكي.
عن ابن جريج قال: كنا جلوساً مع عطاء بن أبي رباح في المسجد الحرام فتذاكرنا ابن عباس وفضله، وعلي بن عبدالله في الطواف خلفه، فتعجبنا من تمام قامتهما وحسن وجوههما.
قال عطاء: وأين حسنهما من حسن عبدالله بن عباس ما رأيت القمر ليلة أربع عشرة وأنا في المسجد الحرام طالعاً من جبل أبي قبيس إلا تذكرت وجه عبدالله بن عباس، ولقد رأيتنا جلوساً معه في الحجر إذا أتاه شيخ قديم بدوي من هذيل يعتمد على عصاه، فسأله عن مسألة فأجابه، فقال الشيخ لبعض من في المسجد: من هذا الفتى.
قالوا: هذا عبد الله بن عباس بن عبد المطلب.
فقال الشيخ: سبحان الله، غير حسن عبدالله بن عباس بن عبد المطلب إلى ما أرى.
قال عطاء: سمعت ابن عباس يقول: سمعت أبي يقول: كان عبد المطلب أطول الناس قامة وأحسن الناس وجهاً، ما رآه أحد إلا أحبه، كان له مفرش في الحجر ما يجلس عليه غيره، ولا يجلس عليه أحد، وكان النَّدْوَي من قريش حرب بن أمية فمن دونه يجلسون دون الفرش، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وهو غلام لم يبلغ فجلس على الفرش، فجذبه رجل فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد المطلب وذلك بعد ما كفَّ بصره: ما لابني يبكي؟
فقالوا: أراد أن يجلس على الفرش فمنعوه.(1/89)
فقال عبد المطلب: دعوا ابني يجلس عليه، فإنه يحسُّ من نفسه بشرَف، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده.
قال: ومات عبد المطلب والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن ثمان سنين، وكان خلف جنازة عبد المطلب يبكي حتى دفن بالحجون.
قال: ودفن عبد المطلب بالحجون.
وإنما أوصى برسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طالب؛ لأن أبا طالب وعبدالله كانا أخوين لأم، وقد كان الزبير لأمهما، غير أن في سبب تقديم أبي طالب ثلاثة أقوال:
أحدها: وصية عبد المطلب إليه.
والثاني: أنهما اقترعا فخرجت القرعة لأبي طالب.
والثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اختاره.
الباب السادس والثلاثون
في ذكر كفالة أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: لما توفي عبد المطلب قبض أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فكان يكون معه وكان أبو طالب لا مال له، إن كان يحبه حباً شديداً لا يحبه ولده، وكان لا ينام إلاَّ إلى جنبه، ويخرج فيخرج معه وصبَّ به أبو طالب صبابة لم يصبَّ مثلها بشيء قط، وقد كان يخصه بالطعام، وإذا أكل عيال أبي طالب جميعاً أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شبعوا، فكان إذا أراد أن يغذيهم قال: كما أنتم حتى يحضر ابني، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم، فكانوا يفضلون من طعامهم، وإذا لم يكن معهم لم يشبعوا فيقول أبو طالب: إنك لمبارك
وكان الصبيان يصبحون رمصاً شعثاً ويصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم دهيناً كحيلاً.
عن عمرو بن سعيد قال: كان أبو طالب يلقي له وسادة يقعد عليها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام يقعد عليها فقال أبو طالب: وآلهة ربيعة إن ابن أخي ليحس بنعيم.(1/90)
عن عمرو بن سعيد أنا أبا طالب قال: كنت بذي المجاز ومعي ابن أخي، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، فأدركني العطش فشكوت إليه فقلت يا ابن أخي قد عطشت، وما قلت له وأنا أرى أن عنده شيئاً إلا الجوع، قال: فثنى وركه ثم نزل فقال: يا عم أعطشت؟ قال: قلت نعم. فأهوى بعقبه إلى الأرض فإذا بالماء، فقال: اشرب يا عم فشربت.
الباب السابع والثلاثون
في ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام مع عمه أبي طالب ولقائه بحيرى
عن داود بن الحسين قال: لما خرج أبو طالب إلى الشام خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فلما نزل الركبُ بصرى من الشام وبها راهب في صومعة له، وكان علماء النصارى يكونون في تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يدرسونه.
فلما نزلوا بدير بحيرى وكانوا كثيراً ما يمرون به لا يكلمهم، حتى إذا كان ذلك العام ونزلوا منزلاً قريباً من صومعته قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مروا صنع لهم طعاماً ودعاهم، وإنما حمله على دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم من دون القوم حتى نزلوا تحت الشجرة، ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت تلك الشجرة فاخضلت أغصان الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظل تحتها، فلما رأى بحيرى ذلك نزل عن صومعته وأمر بذلك الطعام فأتي به، وأرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروه كلكم ولا تخلفوا منكم صغيراً ولا كبيراً حراً ولا عبداً، فإن هذا شيء تكرموني به.
فقال له رجل: إن لك لشأناً يا بحيرى، ما كنت تصنع هذا، فما شأنك اليوم؟
قال: إني أحب أن أكرمكم ولكم حق.(1/91)
فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه ليس في القوم أصغر منه، في رحالهم تحت الشجرة، فلما نظر بحيرى إلى القوم ولم ير الصفة التي يعرف ويجدها عنده، وجعل ينظر فلا يرى الغمامة على أحد من القوم ويراها متخلفة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بحيرى: يا معشر قريش لا يتخلفن منكم أحد عن طعامي.
قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام وهو أحدث القوم سناً في رحالهم.
فقال: ادعوه ليحضر طعامي فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد مع أني أراه من أنفسكم.
فقال القوم: هو والله أوسطنا نسباً، وهو ابن أخي هذا الرجل، يعنون أبا طالب، وهو من ولد عبد المطلب.
فقال الحرث بن عبد المطلب: والله إن بنا للؤم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا. ثم قام إليه واحتضنه وأقبل به حتى أجلسه على الطعام والغمامة تسير على رأسه.
وجعل بحيرى يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء في جسده قد كان يجدها عنده في صفته.
فلما تفرقوا عن الطعام قام إليه الراهب وقال: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسْأَلْنِي بِاللاتِ والعُزَّى، فَوَالله مَا أبْغَضْتُ شَيْئاً بُغْضَهُمَا» .
قال: فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه.
قال: «سَلْنِي عَمَّا بَدَا لَكَ» .
قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فيوافق ذلك ما عنده، ثم جعل ينظر بين عينيه، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضع الصفة التي عنده، فقبَّل موضع الخاتم.
فقالت قريش: إن لمحمد عند الراهب قدراً.
وجعل أبو طالب لما يرى من الراهب يخاف على ابن أخيه.
فقال الراهب لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟
قال أبو طالب: هو ابني.
قال: ما هو ابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً.
قال: فابن أخي.
قال: فما فعل أبوه؟
قال: هلك وأمه حامل به.
قال: ما فعلت أمه؟
قال: توفيت قريباً.(1/92)
قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف ليبغنه عنتاً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم، نجده في كتابنا وما روينا عن آبائنا، وأعلم أني قد أديت إليك النصيحة.
فلما فرغوا من تجارتهم خرج به سريعاً. وكان رجال من يهود قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفوا صفته، فأرادوا أن يغتالوه فذهبوا إلى بحيرى فذاكروه أمره، فنهاهم أشد النهي وقال لهم أتجدون صفته؟
قالوا: نعم.
قال: فما لكم إليه سبيل. فصدقوه وتركوه.
ورجع أبو طالب، فما خرج به سفراً بعد ذلك خوفاً عليه.
عن أبي بكر بن أبي موسى قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت. قال: فهم يحلون رحالهم، فخرج إليهم فجعل يتخللهم حتى جاء، فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين.
فقال له أشياخ من قريش: ما علمك به؟
قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرّ ساجداً، ولا يسجدون إلاَّ لنبي، وأنا أعرف خاتم النبوة (في أسفل) من غضروف كتفه مثل التفاحة.
ثم رجع فصنع لهم طعاماً فلما أتاهم به وكان هو في رعية للإِبل، فقال: أرسلوا إليه.
فأقبل وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم إذا هم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس مال فيء الشجرة عليه فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه.
فبينما هو قائم عليهم وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إذا رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه، فالتفت فإذا هو بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم فقال: ما جاء بكم؟
قالوا: أخبرنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس وإنا أُخبرنا خبره فبُعثنا إلى طريقك هذه.
فقال: هل خلفكم أحدٌ هو خير منكم؟
قالوا: لا.(1/93)
قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟
قالوا: لا. (فبايَعوه وأقاموا معه) ثم قال: أنشدكم الله أيكم وليه؟
قال أبو طالب: أنا. فلم يزل يناشده حتى رده فزوده الراهب من الكعك.
الباب الثامن والثلاثون
في ذكر حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم حرب الفجار
الفجار اثنان: الفجار الأول، والفجار الثاني.
أما الأول فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وكانت الحرب فيه ثلاث مرات:
أما المرة الأولى: فسببها أن بدر بن معشر الغفاري كان يفتخر على الناس فبسط يوماً رجله وقال: أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف.
فوثب رجل من بني نصر بن معاوية يقال له الأحمر بن مازن فضربه بالسيف على ركبته فأندرها فاقتتلوا.
وأما المرة الثاني: فكان سببها أن امرأة من بني عامر كانت جالسة بسوق عكاظ، فأطاف بها شباب من قريش من بني كنانة فسألوها أن تسْفر فأبتْ، فقام أحدهم فجلس خلفها وحلّ طرف درعها إلى ما فوق عجزها بشوكة، فلما قامت انكشف دبرها فضحكوا وقالوا: منعتينا النظر إلى وجهك وجُدتي لنا بالنظر إلى دبرك
فنادت: يا آل عامر. فتنادوا بالسلاح واقتتلوا مع بني كنانة، ووقعت بينهما دماء فتوسطها حرب بن أمية وأرضى بني عامر من مُثلة صاحبتهم.
وأما المرة الثالثة: فكان سببها أنه كان لرجل من بني جشم بن عامر دين على رجل من بني كنانة فلواه به، فجرت بينهما خصومة واقتتل الحيَّان، وحمل ابن جدعان ذلك من ماله.
وهذه الأيام لم يحضرها صلى الله عليه وسلم.
وأما الفجار الثاني فكان بين هوازن وقريش، وإنما سمي الفجار لأن بني كنانة وهوازن استحلوا الحَرَم ففجروا، فاقتتل الفريقان.
وحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «كُنْتُ أُنَبِّلُ عَلى أعْمَامِي يَوْمَ الفِجَارِ» .
أي: أناولهم النبل.
وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أربع عشرة سنة، ويقال: عشرون سنة.
الباب التاسع والثلاثون(1/94)
في ذكر حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم حِلفَ الفُضُول
وسببُ هذا الحلف أن قريشاً كانت تتظالم في الحَرَم.
فقال عبدالله بن جدْعان والزبير بن عبد المطلب: فدعوا إلى التحالف على التناصر من الأخذ للمظلوم من الظالم، فأجابوهما وتحالفوا في دار ابن جُدْعان.
عن أبي عبيدة قال: كان سبب حلف الفضول أن رجلاً من اليمن قدم مكة ببضاعة فاشتراها رجل من بني سهم، فلوى الرجل بحقه، فسأله ماله فأبى عليه، فسأله متاعه فأبى عليه، فقام على الحجْر، وقال:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
ببْطن مكة نائي الدار والنَّفر
أقائمٌ من بني سهْم بذمتهم
أمْ ذاهبٌ في ضلال مال مُعْتمر قال: وقال بعض العلماء: إن قيس بن شبة السلمي باع متاعاً من أبيّ بن خلف فلواه وذهب بحقه، فاستجار برجل من جُمح فلم يقم بجواره، فقال قيس:
يا قصيّ هذا في الحرمْ
وحرمة البيت وأخلاق الكرمْ
أظْلم لا يُمنْع مني من ظلمْ†
فقام العباس وأبو سفيان حتى ردوا عليه حقه.
واجتمعت رجال من قيس في دار عبدالله بن جدعان، فتحالفوا على رد الظلم بمكة، وأن لا يظلم أحد إلا منعوه وأخذوا له بحقه، وكان حلفهم في دار عبد الله بن جدعان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ شَهِدْتُ حِلْفاً في دَارِ ابْنِ جُدْعَانٍ، مَا أُحِبُّ أنَّ لِي بِه حُمْرُ النَّعَمْ. وَلَوْ دُعِيْتُ بِه فِي الإِسْلاَم لأَجَبْتُ» . فقال قوم من قريش: هذا والله فضْل من الحلف، فسمي: حلف الفضول.
قال الزبير: وقال آخر: وتحالفوا على مثال حلف تحالف عليه قوم من جُرْهم في هذا الأمر، أن لا يقروا ظلماً ببطن مكة إلا غيَّروه. وأسماؤهم الفضْل بن شراعة، والفضل بن بضاعة، والفضل بن قضاعة.(1/95)
قال الزبير: وحدثني عبد العزيز بن عمر العنسي قال: أهل حلف الفضول: بنو هاشم، وبنو المطَّلب، وبنو أسد بن عبد العُزَّى، وبنو زهرة، وبنو تيم، تحالفوا بالله أن لا يُظلم أحد إلا كنا جميعاً مع المظلوم على الظالم حتى نأخذ له مظلمته ممن ظلمه شريفاً ووضيعاً.
قال الزبير: وحدثني إبراهيم بن حمزة، عن جدي عبدالله بن مصعب عن أبيه، قال: إنما سمي حلف الفضول: أنه كان في جرهم رجال يردون المظالم يقال لهم فضيل وفضال ومفضل وفضل، فلذلك سمي حلف الفضول.
قال: وحدثني محمد بن حسين، عن نوفل بن عمارة، عن إسحاق بن الفضل قال: إنما سمَّت قريش هذا الحلف حلف الفضول: أن نفراً من جرهم يقال لهم: الفضل، وفضال، والفضل تحالفوا على مثل ما تحالفت عليه هذه الفصائل.
عن معروف بن خربوذ قال: تداعت بنو هاشم وبنو المطلب وأسد وتيم وتحالفوا على أن لا يدعوا بمكة كلها ولا في الأحابيش مظلوماً يدعوهم إلى نصرته إلا أنجدوه حتى يردوا عليه مظْلمته، أو يُبْلوا في ذلك عذراً، وكره ذلك المطيبون والأحلاف بأسرهم وسمَّوه حلف الفضول عيباً له، وقالوا: هذا من فضول القوم. فسمي حلف الفضول.
عن حكيم بن حزام أنه قال: كان حلف الفضول مُنْصرف قريش من الفجار، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن عشرين سنة.
وأخبرني غير الضحاك قال: كان الفجار في شوال، وهذا الحلف في ذي القعدة، وكان أشرف حلف كان قط، وأول من دعا إليه الزبير بن عبد المطلب، فاجتمعت بنو هاشم وبنو زهرة وتيم في دار عبدالله بن جدعان فصنع لهم طعاماً، فتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقُّه ما بل بحرٌ صوفة (وعلى) التآسي في المعاش، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.
عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أُحِبُّ أنَّ لِي بِحِلْفٍ حَضَرْتُه فِي دَارِ ابْنِ جُدْعَانٍ حُمْرُ النَّعَمِ، وَلَو دُعِيْتُ لَه لأَجَبْتُ» وهو حلف الفضول.(1/96)
قال محمد بن عمرو: لا يعلم أحد سبق من بني هاشم بهذا الحلف.
عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «شَهِدْتُ حِلْفَ الفُضُولَ مَع عُمومَتِي وَأَنا غُلاَمٌ، فَمَا أُحِبُّ أنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ وَأنِّي نَكَثْتُه» .
وقد ذكر محمد بن حبيب الهاشمي أن هذا الحلف كان قبل أن يوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين.
الباب الأربعون
في ذكر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد به قبل النبوة
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن الصبا يبْغض الأصنام، ولا يلتفت إليها، وكان أهله يسألونه أن يخرج معهم إلى ناحيتها فلا يفعل ولا يقرب منها ويعيبها.
عن ابن عباس قال: حدثتني أم أيمن قالت: كانت بوانة صنماً تحضره قريش وتعظمه، وتنسك له المناسك، ويحلقون رؤوسهم عنده، ويعكفون عنده يوماً إلى الليل، وذلك يومٌ في السنة، وكان أبو طالب يحضره مع قومه، وكان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحضر ذلك العيد مع قومه فيأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن عليه أشد الغضب، وجعلن يقلن: إنا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا وجعلن يقلن: ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيداً ولا تكثر لهم جمعاً.
فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله، ثم رجع فزعاً مرعوباً، فقلن له عماته: ما دهاك؟
قال: «إنِّي أخْشَى أنْ يَكُونَ بِيْ لَمَمٌ» .
فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيت؟
قال: «إنِّي كُلَّمَا دَنَوْتُ مِن صَنَمٍ مِنْهَا تَمَثَّلَ لي رَجُلٌ أبْيَضٌ طَويْلٌ يَصِيحُ بِي: وَرَاءَكَ يا مُحَمَّدُ لا تَمَسَّه» .
قالت: فما عاد إلى عيدهم حتى نبىء صلى الله عليه وسلم.(1/97)
عن محمد بن عمرو عن أشياخه قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبحيرى: «لا تَسْأَلْنِي بِاللاتِ والعُزَّى، فَوَالله ما أبْغَضْتُ شَيْئًا بُغْضُهُمَا» .
قال أحمد بن حنبل: من قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه فهو قول سوء، أليس كان لا يأكل ما ذبح على النصب.
قال أبو الوفا علي بن عقيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متديناً قبل بعثه ونزول الوحي عليه بما يصح عنده أنه من شريعة إبراهيم.
فأما بعد مبعثه فهل كان يتعبد بشريعة من قبله؟
فيه روايتان:
أحدهما: أنه كان متعبداً بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي إليه لا من جهتهم ولا بعلمهم ولا كتبهم المنزلة. واختاره أبو الحسن التميمي وهو قول أصحاب أبي حنيفة.
والرواية الثانية: أنه لم يكن يتعبد بشيء من الشرائع إلا ما أوحي إليه في شريعته، وهو قول المعتزلة والأشعرية.
ولأصحاب الشافعي قولان كالروايتين.
قال: واختلف القائلون بأنه متعبد بشرع من قبله، بأي شريعة كان متعبداً فقال بعضهم: بشريعة إبراهيم خاصة. وإليه ذهب أصحاب الشافعي.
وذهب قوم منهم إلى أنه كان متعبداً بشريعة موسى إلا ما نسخ في شرعنا.
وظاهر كلام أحمد أنه كان يتعبد بكل ما صح أنه شريعة النبي قبله ما لم يثبْت نسْخه. يدل عليه قوله تعالى: {س6ش90أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ }(الأنعام: 90)
.
وقال ابن قتيبة: لم تزَل العربُ على بقايا من دين إسماعيل.
من ذلك: حج البيت، والختان، وإيقاع الطلاق إذا كان ثلاثاً، وأن للزوج الرجعة في الواحدة والاثنين، ودية النفس مائة من الإِبل، والغسل من الجنابة، وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه من الإِيمان بالله والعمل بشرائعهم في الختان والغسل والحج.(1/98)
قال: وقوله تعالى: {حم? * ع?س?ق? * كَذَلِكَ يُوحِى? إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ وَهُوَ الْعَلِىُّ العَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأٌّرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ * وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَاكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِىُّ وَهُوَ يُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأٌّرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأٌّنْعَامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ(1/99)
الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَلِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأٌّرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ * شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى? أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى? إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى? إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُو?اْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأًّعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِى اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * اللَّهُ الَّذِى? أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فَى السَّاعَةِ لَفِى ضَلَالَ بَعِيدٍ * اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ * مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الأٌّخِرَةِ نَزِدْ لَهُ(1/100)
فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الأٌّخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ(1/101)
الصَّالِحَاتِ فِى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * ذَلِكَ الَّذِى يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الأٌّرْضِ وَلَاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ * وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِىُّ الْحَمِيدُ * وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ * وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ * وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأٌّرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَمِنْ ءَايَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالأٌّعْلَامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأّيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا(1/102)
وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ * وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى? ءَايَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ * فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَىْءٍ فَمَتَاعُ الْحياةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَائِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِى الأٌّرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاٍّمُورِ * وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىٍّ وَقَالَ الَّذِينَ ءَامَنُو?اْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُو?اْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ * اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ(1/103)
وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأٌّرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ * وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى? إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الاٍّمُورُ }
(
الشورى: 52)
يعني به: شرائع الإِسلام، ولم يرد به الإِيمان الذي هو الإِقرار بالله، لأن آباءه الذين ماتوا في الشرك كانوا يؤمنون بالله ويحجون له مع شركهم.
الباب الحادي والأربعون
في ذكر حالة جرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع الملائكةوهو ابن عشرين سنة وأخبر بها عمه أبا طالب(1/104)
سأل عبدالله بن الزبير عُبَيد بن عُمَير عن مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحدثك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا وهو يومئذ ابن عشرين سنة إلى عمه أبي طالب فقال: «أَعَمِّ، إِنِّي مُنْذُ لَيَالٍ يَأَتِيْنِي آتٍ مَعَه صَاحِبَانِ لَه، فَيَنْظُرونَ إليَّ ويَقُولونَ: هُوَ هُوَ ولَمَ يأنِ لَه. فإذا كَانَ رأيُكَ كرَجُلٍ منْهُم سَاكِتٍ فَقَدْ هَالَنِي ذَلكَ» .
فقال: يا بن أخي ليس بشيء حلمت.
ثم رجع إليه بعد ذلك فقال: «يَا عَمِّ سَطَا بي الرَّجُلُ الذي ذَكَرْتُ لَكَ فَأَدْخَلَ يَدَه فِي جَوْفِي حَتَّى إنِّي لأَجِدُ بَرْدَها» .
فرجع به عمه إلى رجل من أهل الكتاب يتطبَّب بمكة، فحدثه حديثه، فقال: عالجَه.
فصوَّب به وصعَّد وكشف عن قدميه، ونظر بين كتفيه، وقال: يا بن عبد مناف ابنك هذا طيب طبيب، للخير فيه علامات، إن ظفرت به يهود قتلته، وليس الرائي من الشيطان، ولكنه من النواميس الذين يتجسسون القلوب للنبوة.
فرجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أحْسَسْتُ حِسًّا مَا شَاءَ اللَّهُ، حَتَّى رَأيْتُ فِي مَنَامِي رَجُلاً وَضَعَ يَدَهُ عَلى مَنْكِبِي، ثُمَ أدْخَلَ يَدَهُ فَأَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَ قَال: قَلبٌ طَيِّبٌ فِي جَسَدٍ طَيِّبٍ، ثُمَ رَدَّهُ فَاسْتَيْقَظْتُ» .
ثم قال: «رَأَيْتُ وأَنا نَائِمٌ سَقْفَ البَيْتَ الذي أنَا فِيه نُزِعَتْ خَشَبَهُ وأُدْخِلَ سُلَّمٌ فِضَةً، ونَزَلَ إليَّ مِنْه رَجُلاَن، فَجَلَس أحَدُهُمُا جَانِبًا والآخَرُ إلَى جَنْبِي، فَنَزَعَ ضِلْعَ جَنْبِي ثُمَ اسْتَخْرَجَ قَلْبِي، فَقَالَ: نِعْمَ القَلْبُ قَلْبُه، قَلْبُ رَجُلٍ صَالِحٍ وَنَبِيَ مُبَلَّغٍ، ثُمَ رَدَّا قَلْبِي مَكَانَه وضِلْعِي ثُمَ صَعِدَا» .
«(1/105)
فَاسْتَيْقَظْتُ والسَّقْفُ عَلَى حَالِه، فَشَكَوْتُ إِلَى خَدِيْجَةَ فَقَالَتْ: لاَ يَصْنَعُ اللَّهُ بِكَ إِلاَّ خَيْراً» .
الباب الثاني والأربعون
في ذكر رَعْيه الغنم
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم» .
فقال أصحابه: وأنت؟
قال: «نَعَمْ، كُنْتُ أرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيْطَ لاِءَهْلِ مَكَّةَ» .
انفرد بإخراجه البخاري.
قال سُويد بن سعيد: يعني كل شاة بقيراط.
وقال إبراهيم الحرْبي: قراريط: موضع ولم يرد بذلك القراريط من الفضة.
قال ابن عقيل: لما كان الراعي يحتاج إلى سِعَة خلق وانشراح صدر للمداراة، وكان الأنبياء مُعَدِّين لإِصلاح الأمم حَسُن هذا في حقهم.
الباب الثالث والأربعون
في ذكر اشتغاله بالتجارة قبل النبوة
أنبأنا ابن الحصين، أنبأنا ابن الراهب، أنبأنا القطيعي، حدثنا عبدالله بن أحمد، حدثنا أبي، حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا عبدالله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن السائب بن أبي السائب: أنه كان يشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإِسلام في التجارة.
فلما كان يومُ الفتح جاءه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَرْحَبَاً بِأَخِي وَشَرِيْكِي، كَانَ لاَ يُدَارِيءُ وَلاَ يُمَارِي» .
يدارىء: مهموز، بمعنى يشاغب ويخاصم صاحبَه.
الباب الرابع والأربعون
في ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام مرة أخرى في تجارة خديجة
عن نفيسة بنت مُنَية أخت يَعْلى بن منية قالت: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين سنة قال له أبو طالب: أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خُوَيلد تبعث رجالاً من قومك في عيراتها، فلو جئتَها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك.
وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له، فأرسلت إليه في ذلك وقالت: أنا أعطيك ضِعْف ما أعطي رجلاً من قومك.
فقال أبو طالب: هذا رزقٌ ساقه الله لك.(1/106)
فخرج مع غلامها ميسرة وجعل عمومته يوصون به أهلَ العير.
حتى قدموا بُصْرى من أرض الشام، فنزلا في ظل شجرة، فقال نسطورا الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي.
ثم قال لميسرة: أفي عينيه حمرة لا تفارقه؟
قال: نعم.
قال: هذا نبي وهو آخر الأنبياء.
ثم باع سلعته، فوقع بينه وبين رجل تلاحٍ، فقال له: احلف باللات والعزى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا حَلَفْتُ بِهِمَا قَطُّ، وَإنِّي لأَمُرُّ بِهِمَا فَلا ألتَفِتُ إِليْهِمَا» .
فقال الرجل: القَولُ قولك. ثم قال لميسرة: هذا والله نبي تجده أحبارنا منعوتاً في كتابهم.
وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس، فوعى ذلك كله ميسرة.
وباعوا تجارتهم وربحوا ضعفَ ما كانوا يربحون.
ودخل مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في عُلية لها، فرأت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو على بعيره وملكَان يظلان عليه، فأرته نساءَها فعجبن لذلك.
ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبَّرها بما ربحوا في وجوههم. فسرَّت بذلك.
فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، فقال: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام. وأخبرها بما قال الراهب نسطورا وبما قال الآخر الذي خالفه في البيع.
الباب الخامس والأربعون
في تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة
عن نفيسة بنت مُنَيّة قالت:
لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشام دخل مكة وخديجة في عُلِّية لها فرأت مَلكين يظلانه، وكانت جَلدة حازمة، وهي أوسط قريش نسباً وأكثرهم مالاً، وكلُّ قومها حريص على نكاحها لو قدروا على ذلك، قد طلبوها وبذلوا لها الأموال.
فأرسلتني دسيساً إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع من الشام، فقلت: يا محمد ما يمنعك أن تتزوج؟
قال: «مَا بِيَدِي مَا أَتَزَوَّجُ» .
قلت: فإن كنت ذلك، ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة، أفلا تجيب؟
قال: «فَمَنْ هِيَ؟» .
قلت: خديجة.(1/107)
قال: «وَكَيْفَ لِي بِذَلكَ؟» .
قلت: عليَّ.
قال: «فَأَنا أَفْعلَ» .
فذهبت فأخبرتها وأرسلت إليه أن إيت ساعة كذا وكذا. وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها.
فحضر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته فتزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة وخديجة يومئذٍ بنت أربعين سنة.
وقد روي أن أباها زوَّجها، وليس بصحيح لأن أباها مات قبل الفجار.
وذكر أبو الحسين بن فارس أن أبا طالب خطب يومئذ فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد، وعنصر مضر، وجعلنا سدنة بيته وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوجاً وحرماً آمناً، وجعلنا الحكام على الناس.
ثم إنَّ ابن أخي هذا محمد بن عبدالله لا يوزن به رجل إلا رجحه، وإن كان في المال قلاًّ فإن المال ظلٌّ زائل وحال حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما آجلُه وعاجله من مالي.
وهو والله بعدَ هذا له نبأ عظيم وخطر جليل.
فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت خديجة قد ذُكرت لورقة بن نوفل، فلم يقضَ بينهما نكاح، فتزوجها أبو هالة واسمه: هند، وقيل: مالك بن النباش، فولدت له هنداً وهالة وهما ذكران، ثم خلف عليها عتيق ابن عائذ المخزومي فولدت له جارية اسمها هند.
وبعضهم يقدم عتيقاً على أبي هالة.
ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل أولاده منها إلا إبراهيم.
الباب السادس والأربعون
في ذكر شهود رسول الله صلى الله عليه وسلم بنيان الكعبة ووضعه الحجر بيده
أول وضع البيت أن الله تعالى أنزل البيت المعمور فجعله مكان الكعبة وكان ياقوتة حمراء، ثم رفع وبنى آدم مكانه البيت، ثم بناه أولاده بالطين والحجارة، ثم غرق في زمن نوح وبقي مكانه أكمة لا يعلوها السيول، إلى أن بناه الخليل، ثم بنته العمالقة، ثم بنته جرهم، ثم بنته قريش.(1/108)
عن طلحة قال: وجد في البيت حجر منقور في الهدمة الأولى، فدعي رجل فقرأه فإذا فيه: عبدي المتحبب المتمكن المثبت المختار، مولده بمكة ومهاجره طَيبة، لا يذهب حتى يقيم الملة العوجاء، ويشهد أن لا إله إلا الله، أمته الحمادون يحمدون الله تعالى بكل أكمة، يأتزرون على أوساطهم ويطهرون أطرافهم.
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من العمر خمساً وثلاثين سنة هدمت قريش الكعبة وبنتها، لأنها كانت قد تضعضعت بالسيل.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة.
فلما بلغ البنيان موضع الركن اختصموا، فكل قبيلة تريد أن ترفعه، حتى تواعدوا للقتال، وقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً، وأدخلوا أيديهم في الدم وتعاقدوا على الموت. فسموا لعقة الدم.
فمكثوا على ذلك ليالي ثم تشاوروا. فقال أبو أمية بن المغيرة، وهو رأس قريش: اجعلوا بينكم أول من يدخل من باب هذا المسجد.
فكان أول من دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا به.
فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال: «هَلُمُّوا ثَوْباً» . فأتي به، فأخذ الركن فوضعه فيه بيده، ثم قال: «لِتَأْخُذَ كُلُّ قَبِيْلَةٍ بِنَاحِيَةٍ منَ الثَّوْبِ ثُمَ ارْفَعُوه جَمِيعاً» . حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه بيده ثم بنى عليه.
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يُنزَل عليه: الأمين.
أبواب ذكر نبوته صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في ذكر الهواتف بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم
عن النَّضْر بن سفيان الهذَلي عن أبيه قال: خرجنا في عير لنا إلى الشام، فلما كنا بين الزرقاء ومَعَان، وقد عرَّسنا من الليل، إذا بفارس يقول (وهو بين السماء والأرض): أيها النيَّام هُبوا فليس هذا بحين رقاد، قد خرج أحمد، وطردت الجن كل مطْرد.(1/109)
ففزعنا ونحن رفقةٌ (حزَاورة) كلهم قد سمع هذا، فرجعنا إلى أهلنا فإذا هم يذكرون اختلافاً بمكة بين قريش ونبي خرج فيهم من بني عبد المطلب اسمه أحمد.
عن محمد بن كعب القُرَظي قال: بينما عمر بن الخطاب قاعد في المسجد إذ مرَّ به رجل في مؤخر المسجد، فقال رجل: يا أمير المؤمنين أتعرف المارَّ؟
قال: من هو؟
(قال هذا) سواد بن قارب، وهو رجل من أهل اليمن له شرَف وموْضع، وهو الذي أتاه رئيه يخبره بظهور النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال عمر: عليَّ به.
فدعا به فقال: أنت سواد بن قارب؟
قال: نعم.
(قال: فأنت الذي أتاك رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: نعم)
قال: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك؟
(فغضب غضباً شديداً وقال: يا أمير المؤمنين ما استقبلني بهذا أحد منذ أسلمت.
فقال عمر: سبحان الله، والله ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك) أخبرني بإتيان رئيك بظهور النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: نعم يا أمير المؤمنين.
بينا أنا نائم ذات ليلة إذ أتاني آت فضربني برجله.
وقال: قمْ يا سوادَ بنَ قارب فافهم واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:
عجبتُ للجن وتجْساسها
وشدَها العيسَ بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدَى
ما خيِّر الجنِّ كأرجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشمٍ
واسمُ بعينيك إلى رأسها قال: فلم أرفع لقوله رأساً، وقلت: دعني أنام فإني أمسيت ناعساً.
فلما كان في الليلة الثانية أتاني فضربني برجله، وقال: ألم أقل لك يا سواد بن قارب قم فافهم، واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث نبي من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته، ثم أنشأ الجني يقول:
عجبتُ للجن وتَطْلابها
وشدِّها العيسَ بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدَى
ما صادقُ الجن ككذَّابها
فارحل إلى الصفوة من هاشمٍ
ليس قُدَاماها كأذنابها قال: فلم أرفع لقوله رأساً، وقلت: دعني أنام فإني أمسيت ناعساً.(1/110)
فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله، وقال: ألم أقل لك يا سواد بن قارب، قم فافهم واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله وإلى عبادته ثم أنشأ الجني يقول:
عجبتُ للجن وأخبارها
وشدَها العيسَ بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدَى
ما مؤمن الجنِّ ككفارها
فارحل إلى الصفوة من هاشم
بين روابيها وأحجارها
قال: فوقع في قلبي حب الإِسلام ورغبت فيه، فلما أصبحت شددت على راحلتي وانطلقت متوجهاً إلى مكة.
فلما كنت ببعض الطريق أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر إلى المدينة.
فقدمت المدينة فسألت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لي في المسجد، فانتهيت إلى المسجد فعقلت ناقتي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس حوله، فقلت: تسمع مقالتي يا رسول الله.
فقال لأبي بكر: أدنه أدنه. فلم يزل بي حتى صرت بين يديه.
فقلت: اسمع مقالتي يا رسول الله.
فقال: هات. فأخبرني بإتيانك رئيك. فقلت:
أتاني نجيِّ بعد هَدْءٍ ورَقْدة
ولم أكُ فيما قد بلوتُ بكاذِبِ
ثلاثَ ليالٍ قولهُ كل ليلة
أتاك رسولٌ من لؤيِّ بن غالبِ
فشمَّرت عن ذيلي الإِزارَ ووسَّطت
بيَ الذِّعْلبُ الوَجْناء بَيْن السَّبَاسبِ
فأشهد أن الله لا رب غَيْره
وأنك مأمونٌ على كل غائبِ
وأنك أدْنى المرسلين وسيلةً
إلى الله يا بن الأكرمين الأطايبِ
فمرْنا بما يأتيك يا خيَرَ مُرْسل
وإن كان فيما جاء شيبُ الذوائب
وكنْ لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة
سواك بمغن عن سواد بن قارِب
قال: ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي وأصحابه فرحاً شديداً حتى رئي الفرح في وجوههم.
قال: فوثب إليه عمر بن الخطاب فالتزمه، وقال: كنت أحب أن أسمع هذا منك (فهل يأتيك رئِيُّك اليوم؟
فقال: مذ قرأت القرآن فلا، ونَعْم العوضُ كتاب الله من الجن).(1/111)
عن جابر قال: إن أول خبر قدم المدينة أن امرأة كان لها تابع من الجن في صورة طائر، فسقط على الحائط، فقالت: ما لك لم تأتِ تحدثنا ونحدثك؟ قال: إنه قد ظهر مَنْ منع القرار وحرم الزنى علينا.
عن علي بن حسين قال: كانت امرأة من بني النجار يقال لها فاطمة بنت النعمان، ولها تابع من الجن.
قال: فكان يأتيها، فأتاها حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وانقض على الحائط، فقالت: ما لك لم تأت كما كنت تأتي؟
قال: قد جاء الذي يحرم الزنى والخمر.
عن أبي هريرة قال: قال خريم بن فاتك لعمر بن الخطاب: ألا أخبرك ببدء إسلامي؟
بينا أنا في طلب نَعَم لي إذ جَنَّني الليل بأبْرق العزاف فناديت بأعلى صوتي: أعوذ بعزيز هذا الوادي من سفهائه.
وإذا هاتف يهتف بي:
عُذْ يا فتى بالله ذي الجَلال
والمجدِ والنَّعماء والإِفضال
واقرأ بآياتٍ من الأنفال
ووحِّد الله ولا تبال
فقلت:
يا أيها الهاتف ما تقول
أرشدٌ عندك أم تضليل
بيِّن لنا هُديتَ ما السبيلُ†
فقال:
هذا رسولُ الله ذو الخيراتِ
يدعو إلى الجنات والنجاةِ
يأمرُ بالصوم وبالصلاة
وينزع الناس عن الهِنَات
عن عبدالله العُمَاني قال: كان فينا رجل يقال له مازن بن الغَضُوبة يَسْدن صنماً (بقرية يقال لها سمايا من عمان) وكانت تعظمه قبائل.
قال مازن: فعترنا ذات يوم عند صنم عتيرة (وهي الذبيحة) فسمعت صوتاً من الصنم يقول:
يا مازن اسمع تُسَرّ، ظهر خير وبطن شر، بُعث نبي من مضر، (بدين الله الأكبر)، فدع نحيتاً من حجر، تسلم من حَرّ سقر.
قال: ففزعت لذلك. ثم عترنا بعد أيام عتيرة أخرى، فسمعت صوتاً من الصنم يقول: أقبل إليَّ أقبل، تسمع ما لا تجهل، هذا نبي مرسل، جاء بحق منزل فآمن به كي تعدل، عن حر نار تشْعل، وقودها بالجندل.
قال مازن: فقلت إن هذا لعجب وإنه لخير يراد بي.
وقدم علينا رجل من أهل الحجاز فقلنا: ما الخبر وراءك؟
قال: ظهر رجل يقال له محمد، يقول لمن أتاه أجيبوا داعي الله.
فقلت: هذا نبأ ما سمعت.(1/112)
فثرت إلى الصنم فكسرته وركبت راحلتي حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرح لي الإِسلام فأسلمت.
عن رجل من خثعم قال: كانت العرب تتحاكم إلى الأصنام، فبينا نحن ليلة عند وثن وقد تقاضينا إليه في شيء قد وقع بيننا (أن يفرق بيننا) إذ هتف هاتف وهو يقول:
يا أيها الناس ذوو الأجسام
ومسند الحكم إلى الأصنام
ما أنتمُ وطائشُ الأحلامِ
هذا نبيٌّ سيدُ الأنام
أعْدَل في الحُكْم من الحكامِ
يَصْدع بالنور وبالإِسلام
ويَنْزِع الناسَ عن الآثام
مستعلنٌ في البلد الحرام
ففزعنا وتفرقنا من عنده وصار ذلك الشعر حديثاً، حتى بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من مكة ثم قدم المدينة فجئت فأسلمت.
عن تميم الداري قال: كنت بالشام حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت إلى بعض حاجتي، فأدركني الليل، فقلت: أنا في جوار عظيم هذا الوادي الليلة.
قال: فلما أخذت مضجعي إذا أنا بمناد ينادي لا أراه: عُذْ بالله، فإن الجن لا تجير أحداً على الله تعالى، قد خرج الرسول الأمين رسول الله، وصلينا خلفه بالحَجُون وأسلمنا واتبعناه، وذهب كيد الجن ورميت بالشهب، فانطلقْ إلى محمد رسول رب العالمين فأسلم.
قال تميم: فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب فسألت راهباً وأخبرته الخبر، فقال الراهب قد صدقوك، يخرج من الحرم، وهو خير الأنبياء فلا تُسْبق إليه.
قال تميم: فتكلفت الشخوصَ حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن خويلد الضمري قال: كنا عند صنم جلوساً، إذ سمعنا من جوفه صائحاً يصيح: ذهب استراق الوحي، ورمي بالشهب لنبي مكة، اسمه أحمد، مهاجَره إلى يثرب، يأمر بالصلاة والصيام والبر والصلات للأرحام.
فقمنا من عند الصنم فسألنا فقالوا: خرج نبي مكة اسمه أحمد.(1/113)
عن جبير بن مطعم قال: كنا جلوساً عند صنم ببوانة قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهر، نحرنا جزوراً فإذا صائح يصيح من جوفه: اسمعوا العجب ذهب استراق الوحي ورمي بالشهب لنبي بمكة اسمه أحمد مُهَاجَره إلى يثرب. فأمسكنا وعجبنا. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن العباس بن مرْداس قال: لما حضرت أبي الوفاة أوصاني بصنم له يقال له ضَمَار. فجعلته في بيت. وكنت آتيه كل يوم مرة.
فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم سمعت صوتاً من جوف الليل راعني، فوثبت إلى ضمار مستغيثاً، فإذا بالصوت من جوفه وهو يقول:
قُلْ للقبيلة من سُليم كلها
هلك الأنيسُ وعاش أهل المسجدِ
أودى ضمارُ وكان يُعْبَدُ مرَّة
قبْل الكتاب إلى النبي محمد
إن الذي ورث النبوة والهُدَى
بَعْد ابن مريم من قريشٍ مُهْتدِي
فكتمتُه الناس. فلما رجع الناس من الأحزاب سمعت صوتاً في منامي يقول: النور الذي وقع ليلة الثلاثاء مع صاحب الناقة العضباء.
فرحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت.
عن راشد بن عبد ربه قال: كان الصنم الذي يقال له سواع بالمعلات تدين له هذيل وبنو ظُفَر من سُلَيم، فأرسلت بنو ظفر راشد بن عبد ربه بهدية بني سُليم إلى سواع.
قال: فأتيته فألقيته مع الفَجْر إلى صنم قبل سُوَاع، فإذا صارخ يصرخ من جوفه: العجَبُ كلَّ العجب، من خروج نبي عبد المطلب، يحرِّم الزنى والربا والذبح للأصنام، وحرست السماء ورمينا بالشهب.
ثم هتف صنم آخر من جوفه: ترك الضمار، وكان يُعْبد، خرج النبي محمد، نبي يصلي الصلاة ويأمر بالزكاة والصيام والبر والصلات للأرحام.
ثم هتف من جوف صنم آخر هاتف:
إن الذي ورث النبوة والهُدَى
بَعْد ابن مريمَ منْ قريشٍ مهتدي
نبي يخبر بما سبق وبما يكون في غد.†
قال راشد: فألفيت عند سُوَاع ثعلبين مع الفجر يلحسان ما حوله ويأكلان ما يهْدَى، ثم يعرجان عليه ببولهما. فعند ذلك يقول راشد بن عبد ربه:
أربٌّ يبولُ الثَّعلبان برأسه(1/114)
لقد ذَلَّ من بالت عليه الثعالبُ
وذلك عند مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الباب الثاني
في ذكر إعلام الوحش بنبوته
عن أبي عمرو الهُذَلي قال: حضرت مع رجال من قومي صنماً يقال له: سوَاع، وقد سُقْنا إليه الذبائح.
فكنت أولَ من قرَّب إليه بقرة سمينة، فذبحتها على الصنم، فسمعنا صوتاً من جوفها (يقول): العجبُ كُلَّ العجب خروجُ نبي بين الأخاشب، يحرّم الزنى ويحرم الذبح للأصنام. وحرست السماء ورُمينا بالشُّهب.
فتفرقنا فقدمنا مكة فسألنا فلم نجد أحداً يخبرنا بخروج محمد صلى الله عليه وسلم، حتى لقينا أبا بكر الصديق. فقلت: يا أبا بكر أخرج أحد بمكة يدعو إلى الله تعالى يقال له أحمد؟
قال: وما ذاك؟ فأخبرته الخبر.
فقال: نعم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم دعانا إلى الإِسلام، فقلنا: حتى ننظر ما يصنع قومنا.
ويا ليت أنا أسلمنا يومئذٍ. فأسلمنا بعده.
عن مجاهد قال: حدثني شيخ أدرك الجاهلية ونحن في غزوة رودس يقال له ابن عنبس قال: كنت أسوق بقرة لآل لنا فسمعت من جوفها: يا آل ذريح: قول فصيح، رجل يصيح، يقول لا إله إلا الله.
قال: فقدِمْنا مكة. فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم وقد خرج بمكة.
عن أبي هريرة قال: جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه، فصعد الذئب على تل فأقعى واستثْغر وقال: عمدت إلى رزق رزقنيه الله تعالى انتزعته مني؟
فقال الرجل: بالله إن رأيتُ كاليوم، ذئبٌ يتكلم
قال الذئب: أعجبُ من هذا رجل في النخلات بين الحرَّتين يخبركم بما مضى وما هو كائن من بعدكم.
وكان الرجل يهودياً فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره وصدقه النبي، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهَا أَمَارَةٌ مِن أَمَارَاتِ السَّاعَةِ، أوْشَكَ الرَّجُلُ أن يَخْرُجَ فَلاَ يَرْجِعَ حَتَّى تُحَدِّثُه نَعْلاَه وَسَوْطُه بِمَا أحْدَثَ أهْلُه بَعْدَه» .
الباب الثالث(1/115)
في ذكر أمارات النبوة التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثه
عن ابن عباس قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة؛ سبعاً يرى الضوء والنور ويسمع الصوت، وثمان سنين يوحى إليه.
عن عائشة قالت: أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه حتى فجأه الحق وجاءه الملك.
عن أبي ميسرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا برز سمع من يناديه: يا محمد. فإذا سمع الصوت انطلق هارباً، فأتى خديجة فذكر لها ذلك فقال: «يَا خَديْجَةَ قَدْ خَشِيْتُ أنْ يَكُونَ خَالَطَ عَقْلِي شَيْءٌ، إنِّي إذَا بَرَزْتُ أسْمَعُ شَيْئاً يُنَادِي فَلاَ أَرَى شَيْئاً، فأَنْطَلِقُ هَارِباً» .
فقالت: ما كان الله ليفعل ذلك بك.
فأسرَّت ذلك إلى أبي بكر، وكان نديماً له في الجاهلية، فأخذ أبو بكر بيده فقال: انطلق بنا إلى ورقة، فقال: وما ذاك؟ فحدثه بما حدثته به خديجة.
فأتى ورقة فذكر ذلك له فقال له ورقة: هل ترى شيئاً؟
قال: «لاَ، وَلَكِنِّي إذَا بَرَزْتُ سَمِعْتُ النِّدَاءَ وَلاَ أَرَى شَيْئاً فَأَنْطَلِقُ هَارِباً فَإِذَا هُوَ عِنْدِي يُنَادِي» .
قال: فلا تفعل، إذا سمعت النداء، فأثبت له حتى تسمع ما يقول لك.
فلما برز سمع: يا محمد.
قال: «لبيك».
قال: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم قال: قل: الحمد لله رب العالمين حتى فرغ من فاتحة الكتاب.
ثم أتى ورقة فذكر ذلك له فقال: أبشر؛ ثم أبشر، ثم أبشر، أشهد أنك أنت أحمد، وأنا أشهد أنك محمد، وأنا أشهد أنك رسول الله، يوشك يوشك أن تؤمر بالقتال، وإن أمرت بالقتال وأنا حي فلأقاتلن معك.
فمات ورقة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت القَس في الجنة عليه ثياب خضر» .
الباب الرابع
في ذكر تسليم الأحجار والأشجار عليه(1/116)
عن جابر بن شَمُرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنِّي لأَعْرِفُ حَجَرَاً بِمَكَّة كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لأَعْرِفُه الآن» .
عن علي بن أبي طالب قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها خارجاً من مكة بين الجبال والشجر، فلم يمر بشجر ولا حجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لمَّا كَانَتْ لَيَالِي بُعِثْتُ ما مَرَرْتُ بِشَجَرٍ وَلاَ حَجَرٍ إلا قال: السَّلامُ عَلَيكَ يَا رَسُول الله» .
عن برّة قالت: لما ابتدأ الله تعالى محمداً بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتاً ويفضي إلى الشعاب والأودية، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله فكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحداً.
الباب الخامس
في ذكر بدء الوحي
عن عائشة قالت: أول ما بدىء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.
ثم حُبب إليه الخلاء فكان يأتي غار حراء يتحنَّث فيه وهو التعبد؛ الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها.
حتى فجأه الحق وهو غائر.
فجاءه الملك فيه فقال: إقرأ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بقارىء» .
«فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَ أرْسَلنِي فَقَال: إقْرَأ. فَقُلتُ: مَا أنَا بقَارِىءٍ» .
«فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَ أرْسَلَنِي فَقَال: إقْرَأ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِىءٍ» .
«فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثُمَ أَرْسَلَنِي فَقَال: {إقرأ باسم ربك الذي خلق} حتى بلغ {ما لم يعلم} » .(1/117)
فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال: «زَمِّلونِي زَمِّلونِي» . فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: «يَا خَدِيْجَةَ مَا لِي؟» .
وأخبرها الخبر، قال: «قَدْ خَشِيْتَ عَلَى نَفْسِي» .
فقالت له: كلاَّ أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتَصْدق الحديث، وَتَحْمل الكَلَّ، وتَقْري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقةَ بن نوفل، وهو ابن عم خديجة وكان امرءاً تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك.
فقال ورقة: يا أخي ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيه جَذعا، ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قومك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟» .
قال: نعم، ولم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودِي وإن يدركني يومك أنصرْك نصراً مؤزَّراً.
ثم لم يَنْشَب ورقة أن توفي.
وفتر الوحي حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزناً غَدَا منه مراراً كي يتردَّى من رؤوس شواهق الجبال.
فكلما أَوْفَى بِذرْوة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدَّى له جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقاً. فيسكن بذلك جأشه وتقرُّ نفسه فيرجع.
فإذا طال عليه فترة الوحي غَدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال مثل ذلك.
أخرجاه.
عن جابر بن عبدالله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «فَبَيْنَا أنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتاً منَ السَّماءِ، فَرَفَعْتُ رَأسِي فَإذا المَلَكُ الذي جَاءَ في حِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍ بَينَ السَّمَاءِ والأرْضِ فَجَثَيْتُ مِنْه رُعْباً فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلوُنِي. فَدَثِّرونِي فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالى { يا أيها المدثر}» .
أخرجاه.(1/118)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال ورقة: لما ذكرت له خديجة أنه ذكر لها جبريل: سبوح سبوح، وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي تعبد فيها الأوثان، جبريل أمين الله بينه وبين رسله، اذهبي به إلى المكان الذي رأى فيه ما رأى، فإذا أتاه فتحسَّري، فإن يكن من عند الله لا يراه. ففعلت.
قالت: فلما تحسَّرت تغيَّب جبريل فلم يره، فرجعت فأخبرت ورقة قال: إنه ليأتيه الناموس الأكبر الذي لا يعلِّمه بنو إسرائيل أبناءهم إلا بالثمن.
ثم قام ورقة ينتظر الدعوة.
عن خديجة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن عم تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟
فقال: «نَعَمْ» .
فقالت: إذا جاءك فأخبرني.
قالت: خديجة: فجاءه جبريل ذات يوم وأنا عنده.
فقال: «يَا خَدِيْجَةَ، هَذَا صَاحِبِي الذِي يَأْتِيْنِي قَدْ جَاءَ» .
فقلت: قم فاجلس على فخذي. فجلس عليها. فقلت: هل تراه؟
قال: «نَعَمْ» .
فقلت: تحوَّل فاجلس على فخذي اليسرى. فجلس عليها، فقلت: هل تراه؟
قال: «نَعَمْ» .
قالت خديجة: فطرحت خماري. فقلت: هل تراه؟
فقال: «لاَ» .
فقلت: هذا والله ملك كريم ما هو شيطان لا والله.
عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نذر أن يعتكف شهراً بحراء، فوافق ذلك شهر رمضان. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فسمع: السلام عليك. قال: «فَظَنَنْتُهَا فَجْأَةُ الجِنِّ فَجِئْتُ مُسْرِعاً حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى خَدِيْجَةَ فَسَجَّتْنِي ثَوْباً وَقَالت: مَا شَأْنُكَ؟ فَأَخْبَرْتُهَا: فَقَالت: أَبْشِرْ، فإن السَّلاَمَ خَيْرٌ» .(1/119)
قال: «ثُمَّ خَرَجْتُ مَرَّةً أُخْرَى فَإِذَا بِجِبْرِيْلَ عَلَى الشَّمْسِ جَنَاحٌ لَه بِالمَشْرِقِ وَجَنَاحٌ له بالمَغْرِبِ، قال: فهِلْتُ مِنه فَجِئْتُ مُسْرِعاً، فإذا هو بَيْنِي وبَينَ البَابِ، فَكَلَّمَني حَتَّى أَنِسْتُ بِه، ثُمَ وعَدَنِي مَوْعِداً فَجِئْتُ لَه، فَأَبْطَأَ عَلَيَّ فَرَأَيْتُ أنْ أَرْجِع، فَإذا أنَا به وميْكَائِيْلَ قَدْ سَدَّ الأُفُقَ، فَهَبَطَ جِبْرِيْلُ فَسَلَقَنِي لَحَلاوَةِ القَفَا ثُمَ شَقَّ عَلَى قَلْبِي فَاسْتَخْرَجَهُ، ثُمَ اسْتَخْرَجَ مِنْه مَا يَشَاءُ أن يَسْتَخْرِجَ، ثُمَ غَسَلَه فِي طِسْتٍ من ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَ أَعَادَه مَكَانَه ثُمَ لأَمُه، ثُمَ خَتَمَ فِي ظَهْرِي. فَقَال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. فَجَعَلْتُ لا يَلْقَانِي حَجَرٌ وَلاَ شَجَرٌ إلا قَال: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله. حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى خَدِيْجَةَ. فَقَالت: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله» .
عن عبيد قال: كيف (كان) بدء (ما) ابتدأ الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من النبوة حتى جاءه جبريل؟
فقال عبيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء كل سنة شهراً، وإن ذلك مما تحنَّث به قريش في الجاهلية.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور الشهر من كل سنة يُطْعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره من ذلك الشهر كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة قبل أن يدخل بيته، يطوف بها سبعاً أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله (به) فيه (ما أراد) من كرامته برسالته، والسَّنة التي بعثه الله فيها نبياً، وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته جاءه جبريل من الله تعالى.(1/120)
قال ابن إسحاق: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَجَاءَنِي وَأَنا نَائِمٌ بِنَمَطٍ مِن دِيْبَاجٍ فيه كِتَابٌ، فقال: اقْرَأْ، قُلْتُ: وَمَا أَقْرَأُ؟ فَغَطَّنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّه المَوْتُ، قَالَ ذَلك ثَلاَثاً، ثُمَ أَرْسَلَنِي فَقَال: اِقْرَأ. قُلْتُ: مَاذَا أَقْرَأُ؟ مَا أَقُولُ ذَلكَ إلاَّ افْتِدَاءً مِنه أن يَعُودَ، فَقَال: {س96ش1اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ }(العلق: 1)
».
عن ابن البراء قال: بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وله يومئذ أربعون سنة ويوم، فأتاه جبريل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له بالرسالة يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان في حراء، وهو أول موضع نزل فيه القرآن نزل: { اقرأ باسم ربك} إلى قوله: { ما لم يَعْلم} . فقط ثم فحص بعقبه الأرض فنبع منها ماء فعلمه الوضوء والصلاة ركعتين.
الباب السادس
في ذكر تعليم جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء والصلاة
عن أسامة بن زيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن جبريل أتاه في أول ما أوحي إليه فعلمه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه.
قلت: لم يذكر كيفية الصلاة في هذا الحديث، وقد ذكرنا عن ابن البراء أنه قال: «ركعتين».
وقال مقاتل بن سليمان: فرض الله على المسلمين في أول الإِسلام صلاة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشيّ، ثم فرض الخمس في ليلة المعراج.
وقد جاء في حديث: أنه صلى عند زوال الشمس في أول النبوة.(1/121)
وقال علماء التفسير: نزلت سورة «المزمل» بمكة، فكان قيام الليل فرضاً عليه. فكان يقوم ومعه طائفة من المؤمنين، فشق ذلك عليه وعليهم، فنسخ ذلك عنه وعنهم بقوله تعالى: {س73ش20إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأٌّرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصلاةَ وَءَاتُواْ الزكاةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأًّنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(المزمل: 20)
.
وقال عطاء بن يسار، ومقاتل بن سليمان: نزل قوله: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل} بالمدينة. والأول أصح.
وقال قوم: نُسخ قيام الليل في حقه بقوله تعالى: {س17ش79وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا }(الإسراء: 79)
ونسخ في حق المؤمنين بالصلوات الخمس.
وقيل: نسخ عن الأمة وبقي فَرْضه عليه.
وقيل: إنما كان مفروضاً عليه دونهم.
قال ابن عباس: كان بَيْن نزول أول المزمل وآخرها سنةٌ.
الباب السابع
في ذكر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية النبوة بخديجة وعلي عليهما السلام
عن ابن عفيف الكندي عن أبيه، عن جده قال: كنت امرءاً تاجراً، فقدمت للحج، فأتيت العباس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التجارة.(1/122)
قال: إني فوالله لعنده بمنى إذا رجل خرج من خباء قريب منه ينظر إلى الشمس، فلما رآها قام يصلي. ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل فقامت خلفه تصلي. ثم خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء فقام معه يصلي.
قال: فقلت للعباس: يا عباس، ما هذا؟
قال: محمد بن عبدالله بن عبد المطلب ابن أخي.
قلت: من هذه المرأة؟
قال: امرأته خديجة بنت خويلد.
فقلت: مَنْ هذا الفتى؟
قال: علي بن أبي طالب ابن عمه.
قلت: فما هذا الذي يصنع؟
قال: يصلي، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه تفتح عليه كنوز كسرى وقيصر
وكان عفيف، وهو ابن عم الأشعث بن قيس يقول ــــ وأسلم بعد ذلك فحسُن إسلامه ــــ: لو أن الله رزقني الإِسلام يومئذ فأكون ثانياً مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه
الباب الثامن
في صفة نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم
عن عائشة: أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَحْيَاناً يَأْتِيْنِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وَهُو أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَال، وأحْيَاناً يَتَمَثَّلُ لِي المَلَكُ رَجُلاً فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» .
قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً.
عن يَعْلى بن أمية: أنه كان يقول لعمر بن الخطاب: ليتني أرى نبي الله حين يوحى إليه، فلما كان بالجِعْرانة وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به، ومعه ناس من أصحابه منهم عمر، إذ جاءه رجل عليه جبة متضمخة بطيب، فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمَّخ بطيب؟
فنظر النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم سكت فجاءه الوحي، فأشار عمر إلى يعلى: تعال.(1/123)
فجاءه يعلى فأدخل رأسه، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغطَّ كذلك فمكث كذلك ساعة.
ثم سري عنه، فقال: «أَيْنَ الذِي سَأَلَنِي عَن العُمْرَةِ آنِفاً؟» .
فالتُمس الرجل فأتي به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا الطِّيْبُ الذِي بِكَ فَاغسِلْه ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وأمَّا الجُّبَةَ فَانْزَعْهَا، ثُمَ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ» .
هذا والذي قبله في الصحيحين.
عن خارجة بن زيد قال: قال زيد بن ثابت: إني قاعد إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إذ أوحي إليه.
قال: وغشيته السكينة، فوقع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة.
قال زيد: فلا والله ما وجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم سري عنه قال: «اكتب يا زيد» .
عن زيد بن ثابت قال: كان إذا نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم السورة الشديدة أخذه من الشدة والكرب على قَدْر شدة السورة، وإذا أنزلت عليه السورة اللينة أصابه من ذلك على قَدْر لينها.
عن زيد بن ثابت قال: كان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثَقُل لذلك وتحدَّر جبينه عرقاً كأنه الجُمان، وإن كان في البرد.
عن عمر بن الخطاب قال: كان إذا نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسمع عند وجهه كدوي النحل.
عن عبدالله بن عمرو قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، هل تحس بالوحي؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسْمَعُ صَلاَصِلَ ثُمَ أَسْكُتُ عِنْدَ ذَلك. فَمَا مِن مَرَّةٍ يوحَى إِليَّ (إلا) وَظَنَنْتُ أَنَّ نَفْسِي تُقْبَضُ» .
عن عبدالله بن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته بمكة جالس إذ مرَّ به عثمان بن مَظْون، فكشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ تَجْلِسُ؟» .
قال: بلى.(1/124)
فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْتقبله فبَيْنما هو يحدثه، إذ شَخَصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء، فنظر ساعة إلى السماء فأخذ بعضُ بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض، فتحرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عن عثمان إلى جنب وضْع بصره، فأخذ ينفض رأسه كأنه يستفهم ما يقال له، وابن مظعون ينظر.
فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة وأتبعه بصره حتى توارى في السماء.
فأقبل على عثمان بجلسته الأولى، قال: يا محمد، فيما كنت أجالسك وآتيك؟ ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة؟
قال: «وَمَا الذِي رَأَيْتَنِي فَعَلْتُ؟» .
قال: رأيتك شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته حيث وضعته على يمينك فتحرفت إليه وتركتني، فأخذت تنفض رأسك كأنك تستفقه شيئاً يقال لك.
قال: «وَفَطِنْتُ لِذَلِك؟» .
قال عثمان: نعم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتَانِي رَسُولُ الله آنفاً وأنْتَ جَالِسٌ» .
قال: رسول الله؟
قال: «نَعَمْ» .
قال: فما قال لك؟
قال: إنَّ الله يأمُر بالعَدْل والإِحسان وإيتاء ذِي القُرْبَى ويَنْهى عن الفَحْشاء والمُنْكر والبَغْي يعِظكم لعلكم تذكَّرون}
(الأنفال: 41)
.
قال عثمان: فذلك حين استقرّ الإِيمان في قلبي وأحببت محمداً صلى الله عليه وسلم.
عن أسماء بنت يزيد قالت: إني لآخذةٌ بزمام العَضْباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة.
عن عُبَادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي كرب له وتربَّد وجهه.
عن أبي أَرْوَى الدّوسي قال: رأيت الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه على راحلته، فترغو وتفتل يديها حتى أظن أن ذراعها ينقصم، فربما بركت وربما قامت مؤبدة يديها، حتى يسرّي عنه من ثقل الوحي وإنه ليتحدر منه مثل الجمان.(1/125)
عن عكرمة قال: كان إذا أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقد لذلك ساعة كهيئة السكران.
عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي صدِع فغلف رأسه بالحناء.
قال ابن عقيل: إنما نسبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجنون لما كان يعتاده عند نزول الملك من الإِغماء والشدة.
ثم أغفلوا ما وراء الصورة من المعنى بترك الفرق بين ذلك بين إغماء الجنون، فإن أثر ما كان يجري له بيان الصواب والحق، بخلاف إغماء الجنون.
وهذا الذي تلمَّحته خديجة فقالت: والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتَصْدُق الحديث وتعين على نوائب الحق.
قال ابن عقيل: فإن قال قائل: ما كان يجري عليه من البرحاء حين نزول الوحي هل ينقض وضوءه؟
فالجواب: لا، لأنه كان محفوظاً في منامه، تنام عيناه ولا ينام قلبه، فإذا كان النوم الذي يستطلق فيه الوكاء، لا ينقض وضوءه، فالحالة التي أكرم فيها بالمسارّة والإِلقاء إلى قلبه الهُدى أولى أن تكون طباعه فيها معصومة من الأذى.
الباب التاسع
في ذكر الخلاف فيمن قُرِن برسول الله صلى الله عليه وسلم من الملائكة في نبوته
عن عامر قال: نزلت عليه النبوة صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة فقُرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل من القرآن على لسانه.
فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل القرآن على لسانه.
عن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، وكان معه إسرافيل ثلاث سنين، ثم عزل عنه إسرافيل، وقرن به جبريل عليه السلام عشر سنين بمكة وعشر سنين مهَاجره بالمدينة.
قال ابن سعد: فذكرت هذا الحديث لمحمد بن عمر، فقال: ليس يَعْرف أهل العلم ببلدتنا أن إسرافيل قرن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإن علماءهم وأهل السيرة منهم يقولون: لم يُقْرن به إلا جبريل من حين أنزل عليه الوحي إلى أن قبض صلى الله عليه وسلم.
الباب العاشر(1/126)
في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يريه آية تقوّي ما عنده
عن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بالحجُون فقال: «اللهُمَّ أَرِنِي آيَةً لاَ أُبَالِي مَنْ كَذَّبَنِي بَعْدَهَا مِنْ قُرَيْشٍ» .
فقيل له: ادع هذه الشجرة.
فدعاها فأقبلت على عروقها فقطعها، ثم أقبلت تخدُّ الأرض، حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالت: ما تشاء ما تريد؟
قال: «ارْجِعِي إِلَى مَكَانَكِ» . فرجعت إلى مكانها فقال: «وَالله مَا أُبَالِي مَن كَذَّبَنِي مِن قُرَيْشٍ» .
عن أنس بن مالك قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو جالس حزين قد خضب بالدماء، ضربه بعض أهل مكة، فقال له: ما لك؟
قال: «فَعَلَ بِي هَؤلاءِ وَفَعَلُوا» .
فقال له جبريل: أتحب أن أريك آية؟
قال: «نَعَمْ» .
قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال: ادع تلك الشجرة. فدعاها فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه. فقال: مُرْها فلترجع. فأمرها فرجعت إلى مكانها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حَسْبِي» .
الباب الحادي عشر
في رَمْي الشياطين بالشُّهُب حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وتنكيس الأصنام
عن ابن عباس قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟
قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب.
قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث.
فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء.(1/127)
قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِنَخْلة وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمَّعوا له فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء.
فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا {س72ش1/ش2قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُو?اْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً * يَهْدِى? إِلَى الرُّشْدِ فَئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً }(الجن: 1، 2)
.
وأنزل الله تعالى على نبيه: {س72ش1قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُو?اْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً }(الجن: 1)
.
عن ابن عباس قال: لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم زجِر الجن ورُمُوا بالكواكب. وكانوا قبل ذلك يسمعون، ولكل قبيل من الجن مَقْعد يستمعون فيه. فأول ما فزع لذلك أهل الطائف فجعلوا يذبحون لآلهتهم، من كان له إبل أو غنم كل يوم، حتى كادت أموالهم تذهب ثم تناهوا وقال بعضهم لبعض: أما ترون معالم السماء كيف هي، لم يذهب منها شيء؟ وقال إبليس: هذا أمر حدث في الأرض، ايتوني من كل أرض بتربة. فكان يؤتى بالتربة فيشمها ويلقيها حتى أتِي بتربة تهامة فشمها وقال: ها هنا الحدث.
عن يعقوب بن الأخنس قال: إن أول العرب فزع لِرَمْي النجوم ثقيف وأتوا عمرو بن أمية فقالوا: ألم تر ما حدث؟
قال: بلى فانظروا، فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها ويعرف بها أنواء الصيف والشتاء فهو طَيُّ الدنيا وذهاب هذا الخَلْق الذي فيها، وإن كانت نجوماً غيرها فأمرٌ أراد الله بهذا الخلق ونبي يبعث في العرب. فقد تحدِّث بذلك.
عن أبي بن كعب قال: لم يُرْمَ بنجم منذ رفع عيسى بن مريم حتى تنبَّأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما تنبأ رمي بها، فرأت قريش أمراً لم تكن تراه، فجعلوا يسيِّبُون أنعامهم ويعتقون أرقاءهم يظنون أنه الفناء.(1/128)
فبلغ ذلك من فعلهم أهلَ الطائف ففعلت ثقيف مثل ذلك، فبلغ عبدَ ياليل بن عمرو ما صنعت ثقيف قال: ولِم فعلتم ما أرى؟
قالوا: رمي بالنجوم فرأينا أنها تهافت من السماء.
قال: إن إفادة المال بعد ذهابه شديد، فلا تعْجَلوا وانظروا، فإن تكن نجوماً تعرف فهو عند فناء الناس، وإن تكن نجوماً لا تعرف فهو عند أمر حدث.
فنظروا فإذا هي لا تُعْرف، فأخبروه فقال: الأمر فيه مُهْلة بعدُ، هذا عند ظهور نبي.
فما مكثوا إلا يسيراً حتى قدم الطائف أبو سفيان بن حرب إلى أمواله، فجاء عبد ياليل فتذاكروا أمر النجوم، فقال أبو سفيان: ظهر محمد بن عبدالله يدعي أنه مرسل.
قال عبد ياليل: فعند ذلك رمي بها.
عن ابن عباس قال: لم تكن السماء تُحْرسُ في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، كانوا يقعدون منها (مقاعد) للسمع.
فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حرست السماء حرساً شديداً، ورجمت الشياطين، وأنكروا ذلك فقالوا: {س72ش10وَأَنَّا لاَ نَدْرِى? أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأٌّرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً }(الجن: 10)
.
فقال إبليس: لقد حدث في الأرض حدث. واجتمعت إليه الجن، فقال: تفرقوا في الأرض وأخبروني ما هذا الذي حدث في السماء.
وكان أول ركب بعث من أهل نصيبين وهم أشراف الجن، فبعثهم إلى تهامة فاندفعوا حتى بلغوا وادي نَخْلة، فوجدوا نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة فلما سمعوه يتلو القرآن قالوا: أنصتوا.
قال وهب بن منبِّه: كان إبليس يصعد إلى السموات كلهن ويتقلب فيهن كيف شاء لا يُمْنع منذ أخرج آدم من الجنة إلى أن رفع عيسى، فحينئذ حجب من أربع سموات، فصار يتردد في ثلاث سموات. فلما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم حجب من الثلاث فصار هو وجنوده يسترقون السمع ويقذفون بالكواكب.(1/129)
عن أبي هريرة قال: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح كل صنم منكساً، فأتت الشياطين إبليس، فقالت: ما على الأرض من صنم إلا وقد أصبح نكوساً. قال: هذا نبي قد بُعِث فالتمسوه في قرى الأرياف. فالتمسوه فقالوا: لم نجده. قال: أنا صاحبه.
فخرج يلتمسه فنودي: عليك بحبة القلب مكة. فالتمسه فوجده عند قرن الثعالب. فخرج إلى الشياطين فقال: قد وجدته معه جبريل فما عندكم؟
قالوا: نُزَيِّن الشهوات في أعين أصحابه ونحبِّبها إليهم.
قال: فلا آسَى إذن.
الباب الثاني عشر
في ذكر ما وقع من التغير في أحوال كسرىالمسمى أبرويز عند مَبْعث نبينا عليه السلام
كانت دجلة تجري قديماً في أرض خوجى في مسالك محفوظة إلى أن تصب في بحر فارس، ثم غُورِّت وجرَتْ صَوْب واسط، فأنفق الأكاسرة على سدها وإعادتها إلى مجراها القديم أموالاً كثيرة ولم يثبت السد.
فلما ولي قباذ بن فيروز انبثق في أسافل كسكر بثق عظيم، وغلب الماء فأغرق عمارات كثيرة، فلما ولي أنو شروان بنى مُسَنيَّات، فعاد بعض تلك العمارة وبقيت على ذلك إلى أن ملك أبرويز بن هرمز بن أنو شروان، وكان من أشد القوم بطشاً وتهيأ له ما لم يتهيأ لغيره. فسكر دجلة العوراء وأنفق عليها ما لا يحصى، وبنى طاق مجلسه، وكان يعلق فيه تاجه ويجلس والتاج فوق رأسه معلق من غير أن يكون له على رأسه ثقل.
قال وهب بن منبه: وكان عنده ثلثمائة وستون رجلاً من الحزاة، والحزاة: العلماء من بين كاهن، وساحر، ومنجم، وكان فيهم رجل من العرب يقال له السائب يعتاف اعتياف العرب قلَّما يخطىء. بعث (به) إليه باذان من اليمن.
فكان كسرى إذا حزبه أمر جمع كهانه وسحرته ومنجميه فقال: انظروا في هذا الأمر ما هو.
فلما أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أصبح كسرى ذات غداة وقد انفصمت طاق ملكه من وسطها، فلما رأى ذلك أحزنه وقال: انفصم طاق ملكي وانخرقت دجلة العوراء «شاه بشكست» يقول: الملك انكسر.(1/130)
ثم دعا كهانه وسحرته ومنجميه ودعا السائب معهم، فأخبرهم، بذلك وقال: انظروا في ذلك الأمر.
فنظروا فأظلمت عليهم الأرض وتسكعوا في علمهم، ولم يمض لساحر سحره ولا لكاهن كهانته، ولا لمنجم علم نجومه.
وبات السائب في ليلة ظلماء على ربوة من الأرض يرمق برقاً نشأ من أرض الحجاز ثم استطار حتى بلغ المشرق. فلما أصبح ذهب ينظر إلى ما تحت قدميه فإذا روضة خضراء. فقال فيما يعتاف: لئن صدق ما أرى ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ الشرق والغرب تخْصب عنه الأرض كأفضل ما أخصبت عن ملك كان قبله.
فلما اجتمعت الحزاة قال بعضهم لبعض: والله ما حيل بينكم وبين علمكم إلا لأمر جاء من السماء، وإنه لنبي قد بعث أو هو مبعوث يَسْلب هذا الملك ويكسره، ولئن نعيتم لكسرى ملكه ليقتلنكم، فأقيموا بينكم أمراً تقولونه.
فجاؤوا كسرى فقالوا له: إنا نظرنا في هذا فوجدنا حُسابك الذين وضعت على حِسابهم طاق ملكك وسَكرت دجلة العوراء وضعوه على النحوس، وإنا سنحسب لك حساباً تضع عليه بنيانك فلا يزول.
قال: فاحسبوا. فحسبوا له ثم قالوا له: ابنه فبناه.
فعمل في دجلة ثمانية أشهر، وأنفق فيها من الأموال ما لا يُدرى ما هو، حتى إذا فرغ قال لهم: أجلس على سورها؟
قالوا: نعم. فأمر بالبسط والفرش والرياحين فوضعت عليها وأمر بالمرازبة فجمعوا له، وجمع اللعَّابون ثم خرج حتى جلس عليها، فبينا هو هنالك انتسفت دجلة البنيان من تحته، فلم يستخرج إلا بآخر رمق، فلما أخرجوه قتل من الحزاة قريباً من مائة وقال: تلعبون بي؟
قالوا: أيها الملك أخطأنا كما أخطأ من قبلنا، ولكنا سنحسب لك حساباً حتى تضعها على الوفاق من السعود.
قال: انظروا ما تقولون.
قالوا: فإنا نفعل.
فحسبوا له ثم قالوا له ابنه. فبنى وأنفق من الأموال ما لا يدرى ما هو ثمانية أشهر ثم قال: أفأخرج فأقعد؟(1/131)
قالوا: نعم. فركب برذوناً له وخرج يسير عليها إذ انتسفته دجلة بالبنيان فلم يدرك إلا بآخر رمق، فدعاهم فقال: والله لأمرنَّ على آخركم ولأتْرعنَّ أكتافكم ولأطرحنكم بين أيدي الفيلة، أو لتَصْدُقنِّي ما هذا الأمر الذي تلفقون علي؟
قالوا: لا نكذبك، أيها الملك أمرتنا حين انخرقت عليك دجلة وانفصمت طاق مجلسك أن ننظر في علمنا، فنظرنا فأظلمت علينا الأرض وأخذ علينا بأقطار السماء فلم يستقم لعالمنا علمه، فعرفنا أن هذا لأمر حدث من السماء، وأنه قد بعث نبي أو هو مبعوث، فلذلك حيل بيننا وبين علمنا، فخشينا إن نَعَيْنا مُلْكَكَ أن تقتلنا فعللناك على أنفسنا بما رأيت. فتركهم ولهى عنهم وعن دجلة حين غلبته.
وقال ابن إسحاق: كان من حديث كسرى قبل أن يأتيه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني أنه كان سَكَر دجلة العوارء وأنفق فيها من الأموال ما لا يدرى ما هو. وذكر الحديث الذي سقناه بعينه.
وقال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن الحسن البصري أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، ما حجة الله على كسرى فيك؟
قال: «بَعَثَ اللَّهُ إِليْهِ مَلَكَاً فَأَخْرَجَ يَدَه مِن سُورِ بَيْتِه الذِي هُوَ فِيه تَلألأَ نُورًا. فَلَمَّا رَآها فَزِعَ» .
قال: «لِمَ تَفْزَعْ يَا كِسْرَى؟ إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولاً وأنْزَلَ عَلَيه كِتَابَاً فَاتَّبِعْهُ لِتَسْلَمَ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ. قَال: سَأنْظُر» .
وقال ابن إسحاق: بعث الله ملكاً إلى كسرى وهو في بيت من بعض بيوت إيوانه الذي لا يدخل عليه فيه، فلم يرعه إلا هو قائماً على فراشه في يده عصا بالهاجرة في الساعة التي كان يقيل فيها، فقال: يا كسرى أتسلم أو أكسر هذه العصا؟
فقال: بَهَلَ بَهَلَ.
فانصرف عنه ثم دعا حراسه وحجابه فتغيظ عليهم، وقال: من أدخل هذا الرجل علي؟ قالوا: ما دخل عليك أحد ولا رأيناه.(1/132)
حتى إذا كان العام القابل أتاه الساعة التي أتاه فيها فقال له كما قال له. ثم قال: أتُسْلم أو أكسر هذه العصا؟
قال: بهل بهل.
فخرج عنه فدعا كسرى حُجَّابه وبوَّابيه، فتغيظ عليهم وقال لهم كما قال أول مرة.
قالوا: ما رأينا أحداً دخل عليك.
حتى إذا كان في العام الثالث أتاه في الساعة التي جاءه فيها، وقال كما قال له ثم قال له: أتسلم أو أكسر هذه العصا؟
قال: بهل بهل.
قال: فكسر العصا ثم خرج. فلم يكن إلا أن تهوَّر ملكه.
قال الزهري: حدثت عمر بن عبد العزيز هذا الحديث عن أبي سلمة قال: ذكر لي أن الملك إنما دخل عليه بقارورتين في يديه ثم قال: أسلم.
فلم يفعل فضرب إحداهما بالأخرى فرضَّهما ثم خرج. فكان من هلاكه ما كان.
عن خالد بن ويدة، وكان رأساً في المجوس ثم أسلم، قال: كان كسرى إذا ركب ركب أمامه رجلان فيقولان له ساعة بساعة: أنت عبد ولست برب. فيشير برأسه: أي نعم.
قال: فركب يوماً فقالا له ذلك فلم يُشِرْ برأسه، فعلم ذلك صاحب شرطته فأتاه ليعاتبه، وكان كسرى قد نام، فلما وقع صوت حوافر الدواب في سمعه استيقظ فدخل عليه صاحب شرطته، فقال: أيقظتموني ولم تَدَعوني أنام، إني رأيت أنه رقي بي فوق سبع سموات فوقفت بين يدي الله تعالى، فإذا رجل بين يديه عليه إزار ورداء، فقال لي سلِّم بحر مفاتيح خزائن أرضي إلى هذا ألست المأمور بكذا؟
قال: وصاحب الإِزار والرداء يعني به النبي صلى الله عليه وسلم.
عن ابن قتيبة: أن أبرويز قال: رأيت في المنام قائلاً يقول لي: إنكم غيَّرتم فغيَّر ما بكم ونقل المكان إلى أحمد.
وكانوا يتوقعون حادثة تحدث، حتى كتب النعمان إليه: أن خارجاً نَجم بتهامة يخبر أنه رسول إله السماء والأرض.
فانزعج لذلك وعلم أنه الذي كان يتوقعه.(1/133)
قال ابن قتيبة: فانقضت ممالك الأمم عند مَبْعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا الروم، لِمَا سبق من دعوة إسحاق بن إبراهيم، فإن يعقوب لما سبق إلى دعوة ابنه إسحاق صارت النبوة في ولده، فدعا إسحاق للعيص بالنماء والكثرة، فالروم كلهم من ولده.
وانتقضت مملكة فارس، وكان أول انتقاضها قتل شيرويه أباه، ثم ظهر الطاعون في ملكه فهلك فيه، ثم تعاوروا الملك ولم يلبثوا.
وانتقض ملك أهل اليمن، وكان أول ذلك قتل الحبشة سيف بن ذي يزن، وانتشر الأمر بعده. فكل أهل ناحية ملَّكوا رجلاً حتى جاء الإِسلام.
وانتقضت مملكة الحيرة بعد النعمان بن المنذر.
وانتقض ملك أبي جَفْنة وكان آخر من ملك منهم جَبَلة بن الأيهم الذي تنصَّر في خلافة عمر رضي الله عنه.
الباب الثالث عشر
في ذكر دعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإِسلام
كان صلى الله عليه وسلم في أول نبوته يدعو الناس إلى الإِسلام سرًّا.
وكان أبو بكر يدعو أيضاً مَنْ يثق به من قومه.
فلما مضت من النبوة ثلاث سنين: نزل عليه {س15ش94فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } (الحجر: 94)
فأظهر الدعوة.
عن أبي عبد الرحمن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو من أول ما أنزلت عليه النبوة ثلاث سنين مستخفياً، إلى أن أمر أن يصدع بما جاءه من عند الله وأن يظهر الدعوة.
عن الزهري قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِسلام سراً وجهراً، فاستجاب لله من شاء من أحداث الرجال وضعفاء الناس، حتى كثر من آمن به، وكفار قريش غير منكرين لما يقول. فكان إذا مرَّ عليهم في مجالسهم يشيرون إليه: إن غلام بني عبد المطلب ليكلَّم من السماء.
فكان كذلك حتى عاب آلهتهم التي كانوا يعبدونها، وذكرَ هلاك آبائهم الذين ماتوا على الكفر، فشاقَقُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعادوه.(1/134)
عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُنْتُ بَيْنَ شَرِّ جَارَيْنِ، بَيْنَ أَبِي لَهَبٍ وَعُقْبَةَ ابْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، كَانَا يَأْتِيَانِ بالفُروثِ فَيَطْرَحُونَهَا» . فيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أيُّ جِوَارٍ هَذا؟» ثم يلقيه بالطريق.
الباب الرابع عشر
في ذكر إنذار رسول الله صلى الله عليه وسلم في المواسم
عن طارق بن عبدالله المحاربي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة بسوق المَجاز وأنا في بياعة لي، فمرَّ وعليه حلة حمراء وهو ينادي بأعلى صوته: «يَا أيُّها النَّاس قُولوا لاَ اله إلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا» .
ورجل يتبعه بالحجارة قد أدمى كعبيه وعرقوبيه وهو يقول: يا أيها الناس لا تطيعوه فإنه كذاب.
قلت: مَنْ هذا؟
قالوا: هذا غلام من بني عبد المطلب.
قلت: فمن ذا الذي يتبعه يرميه؟
قالوا: هذا عمه عبد العزى؛ وهو أبو لهب.
عن جابر قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنّة وفي المواسم بمنى: «مَنْ يُؤوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُونِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلُه الجَنَّةَ؟» حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك.
الباب الخامس عشر
في ذكر إنذاره عشيرته(1/135)
عن أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه {وأنْذِرْ عشيرتَك الأقربين} فقال: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: اشتَروُا أنْفُسَكُم مِنَ الله تَعَالَى، لا أُغْنِي عَنْكُم منَ الله شَيْئَاً، يَا بَنِي عَبْدَ المُطَّلِبِ، لا أُغْنِي عَنْكُم منَ الله شَيْئاً، يَا عَبَّاس بنَ عبْدِ المُطَّلِبِ، لا أغْنِي عَنْكَ منَ الله شَيْئاً، يا صَفِيَّةَ عَمَّةَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم، لا أُغْنِي عَنْكِ منَ الله شَيْئاً، يا فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ من مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئاً» .
عن ابن عباس: لما أنزل الله تعالى {وأنْذِرْ عشيرتَك الأقربين} أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصَّفا فصعد عليه ثم نادى: «يا صباحاه» .
فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بَنِي عَبْدَ المُطَّلِبِ، يَا بَنِي فَهْرٍ، يَا بَنِي يَا بَنِي، أَرَأَيْتُم لَو أخْبَرْتُكُم أنَّ خَيْلاً بِسَفْحِ هَذَا الجَبَلِ تُريْدُ أن تُغِيْرَ عَلَيْكُم صَدَّقْتُمُونِي؟ قَالوْا: نَعَمْ. قَال: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» .
فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ما دعوتنا إلاَّ لهذا؟ فأنزل الله تعالى {س111ش1تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ } (المسد: 1)
عن قبيصة بن مخارق وزهير بن عمر قالا: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قمة من جبل على أعلاها حجراً فجعل ينادي: «يَا بَنِي عَبْدَ مَنَافٍ إِنَّمَا أَنا نَذِيْرٌ، إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُم كَرَجُلٍ رَأَى العَدُوَّ فَذَهَبَ يُنْذِرُ أَهْلَه فَخَشِيَ أَن يُشْقُوه فَجَعَلَ يُنَادِي وَيَهْتِفُ يَا صَبَاحَاه» .
انفرد بإخراج هذا الحديث مسلم، واتفقا على الحديثين قبله.(1/136)
عن ابن عباس قال: لما نزلت { وأنْذرْ عشيرتك الأقْرَبين} صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا فقال: «يا معشر قريش» .
فقالت قريش: محمد على الصَّفا يهتف. فأقبلوا واجتمعوا، قالوا: ما لك يا محمد.
قال: «أرَأَيْتكُمُ لو أخْبَرْتُكُم أن خَيْلاً بِسَفْحِ هذا الجَبَلِ كُنْتُم تُصَدِّقُونِي؟» .
قالوا: نعم، أنت عندنا غيرُ متَّهَم، وما جرَّبنا عليك كذباً قط.
قال: «فَإني نَذِيرٌ لَكُم بَيْنَ عَذَابٍ شَدِيْدٍ، يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، يَا بَنِي زُهْرةٍ، حَتَّى عدَّ الأفْخَاذَ من قُرَيْشٍ، إن الله عزَّ وجَلَّ أمَرَنِي أن أُنْذِرَ عَشِيرَتي الأَقْرَبِينَ، إنِي لا أمْلِكُ لَكُم منَ الدُّنْيَا مَنْفَعَةً ولاَ مِنَ الآخِرَةِ نَصِيْباً إلاَّ أن تَقُولوُا لاَ اله إلاَّ اللَّهُ» .
قال: يقول أبو لهب: تبَّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا
فأنزل الله تعالى { تَبَّتْ يَدَا أبي لَهَبٍ} السورة كلها.
عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم {س26ش214وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأٌّقْرَبِينَ }(الشعراء: 214)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَضِقْتُ بذَلك ذَرْعاً وَعَرَفْتُ أَنِّي مَتَى أُبَاديْهِم بِهَذا أَرَى مِنْهُم مَا أَكْرَهُ. فَصَمَتُّ حَتَّى جَاءَنِي جِبْريِلَ فَقَال: يَا مُحَمَّدُ، إنَّكَ إنْ لاَ تَفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ بِه يُعَذِّبُكَ رَبُّكَ» .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا عَلِيُّ اصْنَعْ لِي صَاعًا من طَعَامٍ، واجْعَلْ عَلَيْهِ رِجْلَ شَاةٍ، وَامْلأَ لنا عَسًّا مِن لَبَنٍ، ثُمَّ اجْمَعْ لِي بَنِي المُطَّلِبِ حَتَّى أكَلِّمَهُمْ مَا أُمِرْتُ» .
ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له وهم أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو يَنْقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب.(1/137)
فلما اجتمعوا دعا بالطعام الذي صنعتُ، فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم جرة، فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة، ثم قال: «خذوا باسم الله» . فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة، وما أرى إلا موضع أيديهم، وأيم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد ليأكل جميع ما قدمتُ لجميعهم.
ثم قال: «اسقِ القوم» فجئت بذلك العُسّ فشربوا منه، حتى رووا جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بَدَره أبو لهب إلى الكلام فقال: سحركم صاحبكم.
فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الغد: «يَا عَلِيُّ إن هذا الرَّجُلَ سَبَقَنِي إلى ما سَمِعْتَ منَ القَوْلِ؛ فَأعِدَّ لنا مِنَ الطَّعَامِ مثْلَ مَا صَنَعْتَ ثُمَّ أجْمَعْهُمْ لِي» .
فقمت وجمعتهم فأكلوا وشربوا، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، إني واللَّهُ مَا أعْلَمُ شَابًّا منَ العَرَبِ جَاءَ قَوْمَه بأفْضَلَ مِمَّا قَدْ جِئْتُكُم بِه، إنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وقَدْ أَمَرَنِي رَبِّي أنْ أُدْعُوكُم إليْهِ، فأيُّكُم يُؤَازِرُنِي عَلَى هَذا الأَمْرِ عَلَى أن يَكُونَ أَخِي» .
فأحجم القوم فقلت، وأنا أحدثهم سنًّا: أنا يا نبي الله.
فقام القوم يضحكون.
الباب السادس عشر
في ذكر عموم رسالته
عن جابر بن عبدالله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةَ» .
وفي الباب عن علي، وأبي ذر، وأبي موسى، وأبي أمامة، وأبي هريرة، وعبدالله بن عمرو. وستأتي هذه الأحاديث.
الباب السابع عشر
في ذكر إرساله إلى الجن صلى الله عليه وسلم†(1/138)
عن جابر قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمن فلما فرغ قال: «مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوْتًا؟ لَلْجِنُّ كَانُوا أحْسَنَ مِنْكُم رَدًّا، مَا قَرأَتُ عَلَيْهِم {فبأيِّ آلاء ربّكما تكذِّبان} إلا قَالُوا: ولاَ بِشَيْءٍ من نِعْمَتِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الحَمْدُ» .
عن ابن مسعود قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وانطلق بي معه حتى أتى بي إلى البراز، ثم خطَّ لي خطاً ثم قال: «لاَ تَبْرَحْ حَتَّى أَرْجِعَ إِليْكَ» فما جاء حتى السَّحَرَ، فقال: «أُرْسِلْتُ إلى الجِنِّ» .
قلت: فما هذه الأصوات التي أسمعها؟
قال: «هَذه أَصْوَاتُهُم حينَ وَدَّعونِي وسَلَّمُوا عَلَيَّ» .
الباب الثامن عشر
في كونه خاتم النبيين
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ» .
عن سعد بن أبي وقاص قال: خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب في غزاة تبوك، فقال: يا رسول الله تخلِّفني في النساء والصبيان؟
قال: «أَمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَاروُنَ منْ مُوسَى، إِلاَّ أَنَّه لاَ نَبِيَّ بَعْدِي» .
أخرجاه.
عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا خَاتِمُ النَّبِييِّنَ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي» .
انفرد بإخراجه مسلم.
الباب التاسع عشر
في ذكر ما لاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى الكفار وهو صابر
عن ابن عباس: أن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجْر، فتعاقدوا باللات، والعزى، ومناة الثالثة الأخرى؛ لو قد رأينا محمداً قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقلته.
قال: فأقبلت فاطمة عليها السلام تبكي حتى دخلت على أبيها صلى الله عليه وسلم، فقالت: هؤلاء الملأ من قومك في الحجْر قد تعاقدوا أن لو رأوك قاموا إليك، فليس منهم رجل إلا عرف نصيبه من دمك.
فقال: «يَا بُنَيَّةَ أرِنِي وَضُوءًا» .
فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد، فلما رأوه قالوا: هو هذا هذا هو.(1/139)
فخفضوا أبصارهم وعقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه أبصارهم ولم يقم منهم رجل، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من تراب فحصبهم بها. وقال: «شَاهَت الوُجوهُ» .
قال: فما أصاب رجلاً منهم حصاة إلا قتل يوم بدر كافراً.
عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ فَعَلَ لأَخَذَتْهُ المَلاَئِكَةُ عَيَاناً» .
عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قيل له: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما كانت تظهر من عداوته؟
قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحِجْر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صَبَرْنا عليه من هذا الرجل قط، سفّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرَّق جماعتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على عظيم.
فبينما هم على ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض ما يقول.
قال: فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فقال: «تَسْمَعونَ يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَمَا والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه لَقَدْ جِئْتُكُم بالذَّبْحِ» .
فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك يترضاه بأحسن ما يجد من القوم حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشداً، فوالله ما كنت جهولاً.
قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه(1/140)
فبينا هم على ذلك طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ لما كان يبلغهم عنه من عيْب آلهتهم ودينهم. قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ أنا الذي قُلْتُ ذَلِكَ» .
قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجامع ردائه.
قال: وقام أبو بكر الصديق دونه يقول وهو يبكي: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ثم انصرفوا عنه.
فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً بلغوا منه قط.
عن عمرو، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: أكثر ما نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عمرو: فرأيت عيني عثمان ذرفتا من تذكُّر ذلك
قال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويده في يد أبي بكر، وفي الحجْر ثلاثة نفر جلوس عقبة بن أبي مُعَيط، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف.
فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حاذاهم أسمعوه بعضَ ما يكره، فعرفت ذلك في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فدنوت منه حتى كان بيني وبين أبي بكر، فأدخل أصابعه في أصابعي حتى طفنا جميعاً.
فلما حاذاهم قال أبو جهل: والله لا نصالحك ما بَلَّ بحرٌ صوفة وأنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا ذلك» . ثم مضى عنهم فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك.
حتى إذا كان الشوط الرابع ناهضوه، فوثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجمع ثوبه، فدفعت في صدره فوقع على استه، ودفع أبو بكر أمية بن خلف، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط، ثم انفرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف ثم قال لهم: «أمَا وَالله لا تَنْتَهُونَ حَتَّى يَحِلَّ عِقَابُه عَاجِلاً» .
قال عثمان: فوالله ما منهم رجل إلا وقد أخذه الخوف وجعل يرتعد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بِئْسَ القَوْمُ أنْتُم لنَبِيِّكُم» .(1/141)
ثم انصرف إلى بيته وتبعناه حتى انتهى إلى باب بيته، فوقف على السدة، ثم أقبل علينا بوجهه ثم قال: «أبْشِروا، فَإنَّ اللَّهَ عزَّ وَجَلَّ مُظْهرٌ دِيْنَه ومُتَمِّمٌ كَلِمَتَه ونَاصِرٌ نَبِيَّه، إنَّ هَؤلاء الذين تَرَوْنَ مِمَّا يَذْبَحُ اللَّهُ بأيْدِيكُم عَاجِلاً» . ثم انصرفنا إلى بيوتنا.
فوالله لقد رأيتهم قد ذبحهم الله عزّ وجلّ بأيدينا
عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال لي الزبير بن العوام: لقد رأيتُ اليوم عَجباً
رأيت نفراً من المشركين جلوساً حول الكعبة ورئيسهم أبو جهل بن هشام، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يتآمرون بمناهضته، فوقف عليهم وقال: «قُبِّحْتُم وقُبِّح صَاحِبُكُم» . فكأنهم خرسوا ما فيهم أحد يتكلم ولا يقوم.
ولقد نظرت إلى أخبثهم وأنجسهم وهو يعدو في أثره يعتذر إليه ويقول: كف عنا ونكف عنك.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا أكُفُّ عنْكَ حتَّى تُؤْمِنَ بِالله أوْ أقْتُلُكَ» .
قال: وأنت تقدر على قتلي؟
قال: «اللَّهُ يَقْتُلُكَ ويَقْتُلُ هَؤلاءِ» .
فانصرف أبو جهل وأولئك منكسرين.
عن عروة بن الزبير قال: قلت لعبدالله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشدّ شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة، إذ أقبل عُقْبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وقد جاءكم البينات من ربكم؟
عن عبدالله قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد.
فإنه كان يصلي ورهطٌ من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه، فقالوا: مَنْ يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره.
قال: فقال عقبة بن أبي معيص: أنا. فأخذه فألقاه على ظهره، فلم يزل ساجداً حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره.(1/142)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ عليْكَ المَلأَ من قُرَيْشٍ، اللهُمَّ عَليْكَ بِعُقْبَةَ، اللهُمَّ عَليْكَ بِشَيْبَةَ، اللهُمَّ عَليْكَ بِأبِي جَهْلٍ بْنِ هِشَامٍ، اللهُمَّ عَليْكَ بِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، اللهُمَّ عَلَيْكَ بأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ أَوْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ» .
قال عبدالله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعاً ثم سحبوا إلى القليب، غير أبيّ أو أمية فإنه كان رجلاً ضخماً فتقطع.
عن ابن إسحاق: لما أجمع المشركون على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه عمه أبو طالب، فمشى جماعة من أشرافهم كعقبة، وشيبة، وأبي جهل إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفَّه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيه.
فقال لهم أبو طالب قولاً رقيقاً، وردهم رداً جميلاً فانصرفوا.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، فَشَرِي الأمرُ بينه وبينهم، فحضَّ بعضهم بعضاً عليه، ثم عادوا إلى أبي طالب فقالوا: لا نصبر على هذا.
فقال له: يا ابن أخي، إنّ قومك قد جاؤوني وقالوا كذا وكذا، فلا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق.
فقال: «يَا عَمَّاهُ، والله لَو وَضَعُوا الشَّمْسَ في يَمِينِّي وَالقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أنْ أَتْرُكَ هذا الأمْرُ مَا تَرَكْتُه حتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أو أهْلَكَ فِيه» .
ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام، فلما ولَّى ناداه أبو طالب: أقبل إليَّ يا ابن أخي. فأقبل.
فقال: اذهب فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.
فبدأت الحرب، ووثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، وقام أبو طالب في بني هاشم وبني المطلب فدعاهم إلى المنع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/143)
وكانوا إذا صلوا ذهبوا إلى الشعاب يستخفون من قومهم فقاتلوهم، فضرب سعد ابن أبي وقاص رجلاً من المشركين بلَحْي جمل فشجه.
فكان أول دم أريق في الإِسلام.
عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، وعند رأسه مقعد رجل، فقام أبو جهل وقعد فيه.
قالوا: إن ابن أخيك يقع في آلهتنا.
قال: ما شأن قومك يشكونك؟
قال: «يَا عَمِّ، أرَدْتُهُم عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَدِينُ لَهُم العَرَبُ، ويَؤدِّي العَجَمُ إليْهِم الجِزْيَةَ» .
قال: ما هي؟
قال: «لاَ اله إلاَّ اللَّهُ» .
فقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً.
ونزل: {ص والقرآن ذِي الذكر} فقرأ حتى بلغ {ص? وَالْقُرْءَانِ ذِى الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُو?اْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَاذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الأٌّلِهَةَ الهاً وَاحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَاذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِى الْمِلَّةِ الأٌّخِرَةِ إِنْ هَاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ * أَءَنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بْل هُمْ فَى شَكٍّ مِّن ذِكْرِى بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ * أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأٌّسْبَابِ * جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأٌّحَزَابِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأٌّوْتَادِ * وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لئَيْكَةِ أُوْلَائِكَ الأٌّحْزَابُ * إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ *(1/144)
وَمَا يَنظُرُ هؤلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ * وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ * اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأٌّيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِىِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ * وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَآ أَخِى لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِى فِى الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى? بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَالِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئَابٍ * يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأٌّرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ * وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأٌّرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ(1/145)
ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الأٌّرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُو?اْ ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأٌّلْبَابِ * وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِىِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّى? أَحْبَبْتُ(1/146)
حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِى حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَىَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأٌّعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لأًّحَدٍ مِّن بَعْدِى? إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَءَاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى الأٌّصْفَادِ * هَاذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئَابٍ * وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَاذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لاٌّوْلِى الأٌّلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِى الأٌّيْدِى وَالأٌّبْصَارِ * إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأٌّخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الأٌّخْيَارِ * هَاذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَئَابٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأٌّبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَاذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ * هَاذَا وَإِنَّ(1/147)
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَئَابٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ * هَاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَءَاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النَّارِ * وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأٌّشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ * قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ وَمَا مِنْ اله إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمََلإِ الأٌّعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِن يُوحَى إِلَىَّ إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى? إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى? إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى(1/148)
يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لائغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأّمْلأّنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ * قُلْ مَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ }(ص: 1، 5).
الباب العشرون
في ذكر ما روي عن إيمان أكثم بن صيفي برسول الله صلى الله عليه وسلم: لمَّا بلغه خروجه
عن ابن عمير قال: بلغ أكثم بن صيفي مَخْرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يَدَعوه، فقال: مَنْ يبلِّغه عني ويبلغني عنه؟
فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك، مَنْ أنت، وما أنت، وبم جئت؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنَا محَمَّدُ بنُ عَبْدِالله، وأَنَا عَبْدُ الله وَرَسُولُه» ثم تلا عليهما {س16ش90إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
(النحل: 90)
الآية.
فقالا: ردَّ علينا هذا القول. فرده عليهم حتى حفظوه.
وأتيا أكثم فقالا: سألناه عن نسبه، فوجدناه واسط النسب في مضر، وقد رمى إلينا كلمات. فلما سمعهن أكثم قال: يا قوم، أراه يأمر بمكارمِ الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في الأمر رؤوساً، ولا تكونوا أذناباً، وكونوا فيه أولاً، ولا تكونوا آخراً. فلم يلبث أن حضرته الوفاة.
فقال أكثم: ويلٌ للشجيِّ من الخلِّي، يا لَهْف نفسي على أمر لم أدركه ولم يَفُتْني، ما آسَى عليك بل على العامة، يا مالك، إن الحق إذا قام دفع الباطل.(1/149)
فتبعه مائة نفس، وخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان في بعض الطريق عمد حُبيش إلى رواحلهم، فنحرها وشقَّ ما كان معهم من مزادة وهرب، فجهد أكثمَ العطشُ، فمات وأوصى مَنْ معه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهدهم أنه أسلم.
فأنزل فيه: {س4ش100وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأٌّرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }
(النساء: 100)
.
الباب الحادي والعشرون
في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه بالخروج إلى أرض الحبشة
وقال: «إنَّ بِهَا مَلِكًا لا يُظْلَمُ النَّاسُ بِبلاَدِه، فَتَحَرَّزُوا عِنْدَه حَتَّى يَأتيكُم اللَّهُ بِفَرَجٍ مِنْه» .
فخرج جماعة واستخفى آخرون بإسلامهم.
والذين خرجوا إلى الحبشة كانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة.
وكان خروجهم في رجب من السنة الخامسة من حيث نُبِّىء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
وخرجت قريش في آثارهم ففاتوهم.
فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم وسمعوا: (تلك الغرانيق العُلَى) وإنما قالها بعض الشياطين لا أنها جرَتْ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سجد في السورة سجد المشركون معه، ورفع الوليد كفّاً من تراب إلى جبهته.
فبلغ ذلك أهلَ الحبشة، فقالوا: إذا كانوا قد آمنوا فلنرجع إلى عشائرنا.
فرجعوا، فلقيهم رَكب فسألوهم، فقالوا: ذكَر محمد آلهتكم فبايعوه، ثم عاد عن ذكرها فعادوا له بالشر.
فلم يدخل أحد منهم إلا بجِوارٍ إلا ابن مسعود، فإنه مكث قليلاً ثم رجع إلى أرض الحبشة.
فسَطَتْ بهم عشائرهم وآذوهم، فأذِن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج مرة أخرى، فخرجوا، وخرج معهم خَلْق كثير.(1/150)
قال ابن إسحاق: جميع مَنْ لحقَ بأرض الحبشة سوى أبنائهم الذين خرجوا معهم صغاراً أو ولدوا بها: نيِّفٌ وثمانون رجلاً، إن كان عمار بن ياسر منهم.
وقال الواقدي: كانوا ثلاثة وثمانين رجلاً، ومن النساء إحدى عشرة قُرَشية وسبع غرائب.
عن عمرو بن العاص قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعتُ رجالاً من قريش كانوا يرون مكاني ويسمعون منِّي، فقلت لهم: تعلمون والله إني لأَرى أمرَ محمد يعلو الأمورَ علوّاً مُنْكراً، وإني قد رأيت رأياً فما ترون فيه؟
قالوا: وما رأيتَ؟
قال: رأيتُ أن نَلْحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يده أحبُّ إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا فنحن ممَّن عَرَفْنا فلن يأتينا منهم إلا خير.
فقالوا: إن هذا الرأيُ.
قلت: فاجمَعوا ما نُهْدِي له، وكان أحبَّ ما يُهْدَى إليه من أرضنا الأدَم فجمعنا له أدَماً كثيراً.
ثم خرجنا حتى قدِمْنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضَّمْري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه، قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده.
قال: قلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية، لو قد دخلتُ على النجاشي لسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلتُ ذلك رأت قريش أني قد أجَزَأْتُ عنها حين قتلتُ رسولَ محمد.
قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقي، أهديتَ لي من بلادك شيئاً؟
قال: قلت: نعم أيها الملك، قد أهديت لك أدَما كثيراً.
قال: ثم قدَّمته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت: أيها الملك إني قد رأيت رجلاً قد خرج من عندك، وهو رسولُ رجلٍ عدوَ لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.
قال: فغضب ثم مدَّ يده فضرب أنفه ضربةً ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فَرَقا منه.
فقلت: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه.(1/151)
فقال: أتسألني أن أعطيك رسولَ رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لقتله؟
قلت: أيها الملك أكذلك هو؟
قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلَى الحق، وليَظْهرن على ما خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده.
قلت: أفتبايعني له على الإِسلام؟ قال: نعم.
فبسط يده فبايعته على الإِسلام.
ثم خرجت إلى أصحابي وقد حالَ رأيي عما كان عليه، وكتمتُ أصحابي إسلامي ثم خرجت عامداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت.
عن ابن مسعود قال: بَعَثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحوٌ من ثمانين رجلاً، وبعثت قريش عمرو بن العاص وعُمَارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سَجَدا له ثم قالا: إن نفراً من بني عمنا نزلوا بأرضك ورَغِبوا عنا وعن ملتنا.
قال: فأين هم؟
قالا: في أرضك.
فبعث إليهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم. فاتبعوه.
فسلم ولم يسجد، فقالوا له: مالك لا تسجد للملك؟
قال: إنا لا نسجد إلا لله عزّ وجلّ، إن الله تعالى بعث إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم، فأمرنا ألاَّ نسجد لأحد إلا لله عزّ وجلّ، وأمرنا بالصلاة والزكاة.
قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم.
قال: ما تقولون في عيسى بن مريم وأمه؟
قالوا: نقول كما قال الله: هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البَتُول التي لم يمسّها بشر ولم يَقْرعها ذكر.
قال: فرفع عوداً من الأرض، ثم قال: يا معشر الحبشة، والقسيسين، والرهبان، والله ما تزيدون على الذي يقول فيه ما يساوي هذا.
مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، فإنه الذي نجد في الإِنجيل، وإنه الذي بشَّر به عيسى بن مريم، انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من المُلْك لأتيته حتى أكون أنا أَحْمل نعليه وأمر بهدايا الآخرين فردَّت إليهم.
الباب الثاني والعشرون
في ذكر ما كتبه المشركون من التبرِّي من بني هاشم وبني المطلب(1/152)
لمَّا دفع بنو هاشم وبنو المطلب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعت قريش وكتبوا كتاباً تعاقدوا فيه ألاَّ يَنْكحوا إلى بني هاشم وبني المطلب ولا يُنْكحوهم، ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم.
وكان ذلك في سنة سبع من النبوة.
وعلَّقوا ذلك الكتاب في جوف الكعبة توكيداً للأمر.
فلما فعلوا ذلك انحاز بنو هاشم، وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا عليه في شِعبه، وخرج منهم أبو لهب وظاهَرَ المشركين.
فأقاموا على ذلك ثلاث سنين وقطعوا الميرة والمادة عنهم، فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم، حتى بلغهم الجَهْد.
وكان هشام بن عمرو بن ربيعة يُدْخل إليهم أحمالَ طعام ويكتم ذلك.
ثم نُقِض حُكم الصحيفة المكتوبة، وفي سبب نقضه قولان:
أحدهما: أن الله تعالى أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على أمر صحيفتهم، وأن الأرَضة قد أكلت ما كان فيها من جَوْر وظلم، وبقي ما كان من ذِكر الله، فذكر ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب، فقال أبو طالب: أحقٌّ ما تخبرني به يا بن أخي؟
قال: نعم والله يا عم.
فذكر ذلك أبو طالب لأخويه، وقال: والله ما كذَبني قط.
قالوا: فما ترى؟
قال: أرى أن تلبسوا أحسنَ ثيابكم وتخرجوا إلى قريش فنذكر لهم ذلك مِن قَبْل أن يَبْلغهم الخبر.
فخرجوا حتى دخلوا المسجد، فقال أبو طالب: إنا قد جئنا في أمر فأجيبوا فيه، قالوا: مرحباً بكم وأهلاً.
قال: إن ابن أخي قد أخبرني ولم يَكْذبني قط أن الله تعالى سلَّط على صحيفتكم الأرَضةَ فلحست كلَّ ما كان فيها من جَوْر أو ظلم أو قطيعة رحم، وبقي فيها كلُّ ما ذُكر به الله تعالى، فإن كان ابن أخي صادقاً نزعتم عن سوء رأيكم، وإن كان كاذباً دفعتُه إليكم فقتلتموه أو استحييتموه إن شئتم.
قالوا: قد أنصفتنا.(1/153)
فأرسلوا إلى الصحيفة، فلما فتحوها إذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسُقِط في أيدي القوم، ثم نُكِسوا على رؤوسهم، فقال أبو طالب: هل تبيَّن لكم أنكم أَوْلى بالظلم والقطيعة.
فلم يراجعه أحد منهم. ثم انصرفوا.
رواه محمد بن سعد عن أشياخ له.
والثاني: أن هشام بن عمرو بن الحارث العمري مشى إلى زُهَير بن أبي أمية بن المغيرة، فقال: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمتَ لا يبتاعون ولا يُبْتَاع منهم، ولا يَنْكحون ولا يُنْكح إليهم أمَا إني أحلف بالله لو كان أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً.
قال: ويحك يا هشام، فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي آخر لقمتُ في نَقْضها.
قال: قد وجدتَ رجلاً.
قال: مَنْ هو؟
قال: أنا.
قال: ابغنا ثالثاً.
فذهب إلى المُطْعم بن عديّ، فقال له: يا مطعم، أرضيتَ أن تهلك بَطْنان من بني عبد مناف، وأنت موافق لقريش في ذلك
قال: ويحك ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد.
قال: قد وجدتُ ثالثاً.
قال: مَنْ هو؟
قال: زهير بن أمية.
قال: ابغِنا رابعاً.
فذهب إلى أبي البَخْتَرِيّ بن هشام فقال له نحواً مما قال للمُطْعم بن عدي، فقال: وهل من أحد يُعِين على هذا؟
قال: نعم، زُهَير، والمطعم، وأنا معك.
قال: ابغنا خامساً.
فذهب إلى زَمْعة بن الأسود فكلمه. فقال: وهل على هذا الأمر أحد؟
قال: نعم. فسمَّى له القومَ.
فاتّعدوا واجتمعوا، وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها.
فغدا زُهير فطاف ثم قال: يا أهل مكة، إنا نأكل الطعام، ونشرب الشراب، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هَلْكَى، والله لا أقعد حتى تُشَقَّ هذه الصحيفة الظالمة القاطعة.
فقال أبو جهل: كذبت والله لا تُشق.
فقال زَمْعة: أنت والله أكْذَبُ، ما رضينا كتابتها حين كُتبت.
فقال أبو البَخْتَريّ: صدق زَمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقرُّ به.(1/154)
فقال: المطعم: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نَبْرأ إلى الله منها ومما كُتب فيها.
وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك.
فقال أبو جهل: هذا أمرٌ قُضِي بليل وتُشُووِرَ فيه بغير هذا المكان.
فقام مطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلاَّ ما كان من «باسمك اللهم».
وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن هاشم فشْلّت يده.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر وهو بمنًى: «نَحْنُ نَازِلُونَ غَداً بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الكُفْرِ» .
يعني بذلك: المحصَّب. وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفوا على بني هاشم وبني المطلب ألاّ يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
الباب الثالث والعشرون
في ذكر ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع ضَماد الأزْدي الوافد
عن ابن عباس: أن ضماداً قِدم مكة، وكان من أَزْد شنوءة، وكان يَرْقِي من الريح، فسمع سفهاءَ أهل مكة يقولون: إن محمداً مجنون.
فقال: لو أني رأيتُ هذا الرجل، لعل الله أن يشفيه على يدي
قال: فأتيته فقلت: يا محمد، إني أرقي من الريح وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الحَمْدَ دِ نَحْمَدُه ونَسْتَعِيْنُه، مَنْ يَهْدِه اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ له، وَمَن يُضْلِلْ فلا هَادِيَ لَه، وأشْهَدُ أنْ لاَ اله إلاَّ اللَّهُ وحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه. أمَّا بَعْدُ» .
فقال: أعِدْ عَلَيَّ كلماتك هؤلاء.
فأعادهن عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال: لقد سمعتُ قولَ الكهنة والسَّحرة والشعراء، فما سمعت مثلَ كلماتك هؤلاء ولقد بلغتُ قاموس البحر، هات يدك أبايعك على الإِسلام. فبايعه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعَلَى قَوْمِكَ؟» .
قال: وعلى قومي.(1/155)
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرِيةً فمروا بقومه، فقال صاحب الجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئاً؟
قال رجل: أصبت منهم مُظهرةً.
قال: رُدَّها فإن هؤلاء قوم ضِمَاد.
الباب الرابع والعشرون
في ذكر ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع عتبة بن ربيعة
عن جابر بن عبدالله قال: اجتمعت قريش يوماً فقالوا: انظروا أَعْلَمكم بالسِّحر، والكهانة، والشعر، فلْيَأت هذا الرجل الذي قد فرَّق جماعتنا، وشّتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلِّمه فلينظر ماذا يردُّ عليه.
فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة.
فقالوا: ائته يا أبا الوليد.
فأتاه عُتبة، فقال: يا محمد، أنت خيرٌ أم عبدالله؟ فسكت.
ثم قال: أنت خيرٌ أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خيرٌ منك فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتها، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، ما رأينا سَخْلة أشأمَ على قومه منك، فرَّقت جماعتنا، وشتَّت أمرَنا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا لبعض بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل إن كان إنما بك الباه فاختر أيَّ نساء قريش فلنزوجك عشراً، وإن كان إنَّما بك الحاجة جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أغنى قريش رجلاً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فرغت؟» .
قال: نعم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حم تنزيلٌ من الرحمن الرحيم. كتابٌ فُصِّلت آياته قُرْآناً عربيّاً لقومٍ يعلمون. بشيراً ونذيراً} حتى قرأ: {س41ش13فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ }(فصلت:13)
فقال له عتبة: حسبك، فما عندك غير هذا؟
قال: «لا» .
فرجع إلى قريش، فقالوا له: ما وراءك؟
قال: ما تركتُ شيئاً أرى أن تكلموه به إلا وقد كلمته.
قالوا: فهل أجابك؟
قال: نعم.(1/156)
قال: لا والذي نَصَبها بنِيَّة ما فهمت مما قال غير أنه قال: «أنذرتكم صاعقة مثل صاعقةٍ عاد وثمود».
قالوا: ويلك يكلِّمك بالعربية ولا تدري ما يقول
قال: والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة.
الباب الخامس والعشرون
في ذكر ما أشار به الوليد على قريش في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن سعيد بن جُبَير: أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفرٌ من قريش، وكان ذا سنَ فيهم، وقد حضر الموسمُ.
فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستَقْدُم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيُكَذِّب بعضكم بعضاً ويرد قولكم بعضه بعضاً.
قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقِمْ لنا رأياً نقل به.
قال: بل أنتم فقولوا واسمعوا.
قالوا: نقول إنه كاهن.
قال: ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو بزَمْزَمتهم ولا سَجْعهم.
قالوا: نقول إنه مجنون.
قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هم بخنقه، ولا تخالُجه، ولا وسوسته.
قالوا: فنقول إنه شاعر.
قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه، وهزجه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشاعر.
قالوا: فنقول: ساحر.
قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسِحرهم، فما هو بنَفْثه، ولا عَقْده.
قالوا: فما نقول؟
قال: والله إن لقوله حلاوة، وإن أصله لعَذْق وإن فرعه لَجَناة وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: هذا ساحر، يفرِّق بين المرء وابنه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرَّقوا عنه بذلك.
عن عمرو: أن الوليد بن المغيرة قال: قد سمعت الشعر رجزه وقريضه فما سمعت مثل هذا؛ يعني: القرآن، ما هو بشعر، إن عليه لطلاوة وإن له لنوراً، وإنه يعلو وما يُعْلَى.(1/157)
عن عكرمة: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رَقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: أي عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً.
قال: ولم؟
قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمداً تتعرض لما نقوله.
قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً.
قال: فقل له قولاً يَبْلغ قومَك أنك مِنْكر لما قال وأنك كاره له.
قال: وماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم أعلم بالأشعار مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه لمُثْمر أعلاه مُغْدِقٌ أسفله، وإنه ليَحْطِم ما تحته، وإنه لَيْعلو وما يُعْلَى.
فقال: والله ما يرضى قومك حتى تقول فيه.
قال: فدعني حتى انظر إليه.
قال: فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر. أي: يَأثره عن غيره. فنزل فيه: {س74ش11ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً }
(المدثر: 11)
الباب السادس والعشرون
في ذكر ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع الطُّفيل بن عمرو
قال محمد بن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يرَى من قومه يَبْذل لهم النصيحة، ويدعوهم إلى النجاة (مما هم فيه) وجعلت قريش حين منعه الله منهم يحذِّرونه الناسَ ومَنْ قدم عليهم من العرب.
وكان الطُّفَيل بن عمرو الدَّوْسي يحدِّث: أنه قدم مكة ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً، فقالوا له: يا طُفَيل، إنك قدِمْت بلادَنا وهذا الرجل الذي بين أَظْهُرنا قد أَعْضَلَ بنا، وفَرَّق جماعتنا، وإنما قوله كالسِّحر، يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وزوجته، وإنما نَخْشَى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلِّمه ولا تسمع منه.(1/158)
قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعتُ على ألاّ أسمع منه شيئاً ولا أكلِّمه، حتى حشوتُ أُذنيّ حين غَدوت إلى المسجد كُرْسُفاً، فَرَقاً من أن يَبْلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه.
قال: فغدوتُ إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلِّي عند الكعبة.
قال: فقمت قريباً منه، فأبَى الله إلا أن يُسْمعني بعضَ قوله.
قال: فسمعت كلاماً حَسَناً، فقلت في نفسي: واثُكْل أمي والله إني لرجل لبيب شاعر ما يَخْفَى عليَّ الحَسَنُ من القبيح، فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسناً قَبِلْتُهُ، وإن كان قبيحاً تركته.
قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فاتبعته حتى دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إن قومك قالوا لي كذا وكذا. للذي قالوا، فوالله ما برحوا يخوِّفونني أمرَك حتى سَدَدْتُ أذني بكُرْسُف لئلا أسمع قولَك، ثم أبَى الله إلا أن يُسْمعنيه، فسمعتُ قولاً حسناً، فأعرض عليَّ أمرَك.
قال: فعرض عليَّ الإِسلام، وتلا عليَّ القرآن، فوالله ما سمعت قولاً قط أحسنَ ولا أمراً أعدلَ منه.
قال: فأسلمتُ وشهدتُ شهادة الحق، وقلت: يا نبي الله، إني أمرؤ مُطاع في قومي، وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإِسلام، فادعُ الله أن يجعل لي آية لتكون لي عَوناً عليهم فيما أدعوهم إليه.
قال: فقال: «اللهُمَّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً» .
قال: فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثَنِيَّة تُطْلِعني على الحاضر وقع نورٌ بين عينيَّ مثل المصباح.
قال: فقلت: اللهم اجعله في غير وجهي فإني أخشى أن يظنوا أنها مُثْلةٌ وقعت في وجهي لفراقي دِينَهم.
قال: فتحوَّل فوقع في رأس سَوْطي. فجعل الحاضرون يتراءَوْن ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلَّق وأنا أَنْهبطُ إليهم من الثَّنية.
قال: حتى جئتهم فأصبحتُ فيهم، فلما نزلتُ أتاني أبي وكان شيخاً كبيراً.
قال: فقلت: إليك عني يا أبت، فلستُ منك ولستَ منِّي.(1/159)
قال: ولِم أي بنيُّ؟
قال: قلت: أسلمتُ وبايعت محمداً صلى الله عليه وسلم.
قال: أي بني، فديني دينك.
(قال: فقلت: فاذهب فاغتسل وطهِّر ثيابك، ثم تعال حتى أعلمك ما علمت.
قال: فذهب) فاغتسلَ وطهَّر ثيابه، ثم جاء فعرضت عليه الإِسلام فأسلم.
قال: ثم أتتني صاحبتي، فقلت لها: إليك عني فلستُ منك ولست مني.
قالت: ولم بأبي أنت وأمي؟
قال: قلت: فرَّق بيني وبينك الإِسلام. فأسلمتْ.
ثم دعوت دوساً إلى الإِسلام، فأبطأوا عليَّ ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فقلت: يا نبي الله، إنه قد غلبتني دَوْس فادع الله عليهم.
قال: «اللهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، ارْجِعْ إلى قَوْمِكَ فَادْعُهُمْ وارْفُقْ بِهِم» .
قال: فرجعت فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإِسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقضى بدراً وأحداً والخندق، ثم قَدِمْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن أسلم معي من قومي ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، حتى نزلتُ المدينة بسبعين أو ثمانين بيتاً من دوس.
الباب السابع والعشرون
في ذكر ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب عند موته
عن سعيد بن المسيَّب قال: لما احتضِر أبو طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبدالله ابن أبي أُمية، وأبو جهل بن هشام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا عَمِّ، إنَّك أعَظَمُ النَّاسَ عَلَيَّ حَقًّا وأحْسَنُهُم عِنْدِي يَدًا، ولأَنْتَ أَعْظَمُ عَلَيَّ حَقاً من وَالِدِي، فَقُلْ كَلِمَةً تَجِبُ لَكَ بهَا الشَّفَاعَةَ يَوْمَ القِيَامَةِ، قُل: لا اله إلاَّ اللَّهُ» .
فقالا له: أتَرْغَب عن ملة عبد المطلب؟
فقال: أنا على ملة عبد المطلب ومات.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لأءَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» .(1/160)
فأنزل الله تعالى: { ما كان للنبيِّ والذين آمَنُوا أن يَسْتَغْفروا للمشركين ولو كانوا أولي قُرْبَى} إلى قوله: {س9ش113/ش114مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُو?اْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُو?اْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأًّبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ }(التوبة: 113 ـ 114)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه: «قُلْ: لاَ اله إلا اللَّهُ أشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ» .
فقال: لولا أن تعيِّرني قريشٌ فيقولون إنما حَمَله على ذلك الجَزَع لأقرَرْتُ بها عَيْنك.
فأنزل الله عز وجل: {س28ش56إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }
(القصص: 56)
.
انفرد بإخراجه مسلم.
وهكذا رُوي لنا الجَزَع ـ بالجيم والزاي ـ وأهل اللغة ينكرون ذلك. قال ثعلب: إنما هو الخَرَع ـ بالخاء والراء ـ وهو الضعف والخوَر.
عن عبدالله بن ثعلبة بن صُعَير العُذْري قال: قال أبو طالب: يا ابن أخي، لولا رهبة أن تقول قريش وهرني الجَزَع فتكون سُبَّةً عليك وعلى بني أبيك، لفعلت الذي تقول، وأقررت بها عينك لِمَا أرى من شكرك وَوَجْدك بي ونصيحتك لي.
ثم إن أبا طالب دعا بني عبد المطلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد صلى الله عليه وسلم، وما اتبعتم أمرَه فاتَّبِعوه وأعينوه تَرْشدوا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لِمَ تَأمُرْهُمْ بِهَا وتَدَعُهَا لِنَفْسِكَ؟» .(1/161)
فقال أبو طالب: أما إنك لو سألتني الكلمة وأنا صحيح لبايعتك على الذي تقول، ولكن أكره أن أَجْزَع عند الموت فترى قريش أني أخذتها جَزَعاً وردَدْتها في صحتي.
عن علي قال: أخبرتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بموتِ أبي طالب فبكى، ثم قال: «اذْهَبْ فَاغْسِلْهُ وكَفِّنْهُ وَادْفِنْهُ غَفَرَ اللَّهُ لهُ وَرَحِمَه» .
قال: ففعلت.
قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له أياماً ولا يخرج من بيته، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية:{س9ش113مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُو?اْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُو?اْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }
(التوبة: 113)
الآية.
قال علي: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلت.
عن علي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن عمك الشيخ الضال مات.
قال: «اذهب فواره ولا تُحْدث شيئاً حتى تأتيني» .
فأتيته فقلت له، فأمرني فاغتسلت، ثم دعا لي بدعوات ما يسرُّني ما عُرِض بهن من شيء.
عن ابن عباس قال: عارضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جنازة أبي طالب فقال: «وصَلَتْكَ رَحِمٌ، وجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا يَا عَمِّ» .
عن العباس بن عبد المطلب قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، عمُّك أبو طالب، كان يغضب لك ويمنعك، هل ينفعه ذلك؟
قال: «نَعَمْ، هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ منْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ منَ النَّارِ» .
أخرجاه في الصحيحين.
عن محمد بن كعب القُرَظي قال: بلغني أنه لما اشتكى أبو طالب شكواه الذي قبض فيه قالت قريش: يا أبا طالب، أرسل إلى ابن أخيك فيرسل إليك من هذه الجَنَّة التي يذكر بشيء يكون لك شفاء.(1/162)
قال: فخرج الرسول حتى وجد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر معه جالس، فقال: يا محمد، عمُّك يقول لك: يا ابن أخي إني كبير ضعيف سقيم، فأرسل إليَّ من جَنَّتك هذه التي تَذْكر من طعامها وشرابها بشيء يكون لي فيه شفاء.
قال أبو بكر: إن الله حَرَّمها على الكافرين.
فرجع إليهم فأخبرهم. فقال: قد بلَّغت محمداً الذي أرسلتموني فلم يُجِزْ لي شيئاً، فقال أبو بكر: إن الله حرمها على الكافرين. فسكت محمد.
فحملوا أنفسهم عليه حتى يرسل رسولاً من عنده، فوجدت الرسول في مجلسه.
قال: فقال له مثل ذلك، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا عَلَى الكَافِرِينَ طَعَامَهَا وَشَرَابَهَا» .
ثم قام في أثر الرسول حتى دخل معه البيت فوجده مملوءًا رجالاً فقال: «خلُّوا عن عمي» .
فقالوا: ما نحن بفاعلين، وما أنت بأحق به منا، إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك.
فجلس إليه فقال: «يَا عَمِّ، جُزِيْتَ خَيْراً، كَفَلْتَنِي صَغِيْراً وحضَنْتَنِي كَبِيراً، فَجُزيْتَ عَنِّي خَيْراً يا عَمَّاهُ، أعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، أشْفَعُ لَكَ بِهَا عنْدَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ» .
قال: وما هي يا بن أخي؟
قال: «قُلْ لاَ اله إِلاَّ اللَّهُ وحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ» .
قال: إنك لي لَنَاصح، والله لولا تُعيَّر بها بعدي فيقال: جَزِع عمُّك عند الموت. لأقرَرْتُ بها عينَك.
قال: فصاح القوم: يا أبا طالب، أنت رأسُ الحنيفية ملة الأشياخ.
فقال: أنا على ملة الأشياخ، لا تحدِّث قريشٌ أن عمك جَزِع عند الموت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ أزَالُ أسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي حَتَّى يَرُدَّنِي» .(1/163)
فاستغفر له بعدما مات. فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قرابتنا، وقد استغفر إبراهيمُ لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه؟ فاستغفروا للمشركين حتى نزلت الآية: {س9ش113مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ وَالَّذِينَ ءَامَنُو?اْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُو?اْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } (التوبة: 113)
حتى فرغ من الآية.
الباب الثامن والعشرون
في ذكر ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب وخديجة
عن (عبدالله بن) ثعلبة بن صُقَير قال: لما توفي أبو طالب وخديجة، وكان بينهما شهر وخمسة أيام، اجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان، فلزم بيتَه وأقلَّ الخروجَ، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع (به).
فبلغ ذلك أبا لهب فجاء فقال: يا محمد، امضِ لما أردتَ، وما كنتَ صانعاً إذ كان أبو طالب حيًّا فاصنعه، لا واللات لا يُوصل إليك حتى أموت.
وسبَّ ابنُ الغَيْطلة النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه أبو لهب فنال منه، فولَّى يصيح: يا معشر قريش، صَبَأَ أبو عتبة.
فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب، فقال: ما فارقتُ دينَ عبد المطلب، ولكن أمنع ابنَ أخي أن يُضَام حتى يمضي لما يريد.
فقالوا: قد أحسنتَ وأَجْمَلت ووصَلْت الرَّحم.
فمكث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أياماً كذلك، يذهب ويأتي، ولا يعترض له أحد من قريش، وهابُوا أبا لهب، إذ جاء عُقْبة بن أبي مُعَيط وأبو جهل إلى أبي لهب فقالا له: أخبرك ابنُ أخيك أيْنَ مُدْخل أبيك؟
فقال له أبو لهب: يا محمد، أين مدخل عبد المطلب؟
قال: «مَعْ قَوْمِهِ» .
قال: فخرج أبو لهب إليهما، فقال: قد سألتُه فقال: مع قومه.
فقالا: يزعم أنه في النار
فقال: يا محمد، أيدخل عبد المطلب النار؟(1/164)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ، ومَنْ مَاتَ عَلَى مِثْلِ مَا مَاتَ عَلَيْه عَبْدُ المُطَّلِبِ دَخَلَ النَّارَ» .
فقال أبو لهب: والله لا بَرِحْتُ لك عدوّاً أبداً وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار. فاشتد عليه وسائرُ قريش.
عن محمد بن جبير بن مُطْعم قال: لما توفي أبو طالب تناولت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف.
الباب التاسع والعشرون
في ذكر ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في خروجه إلى الطائف
عن محمد بن جبير بن مطعم قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة، وذلك في ليال (بَقِين) من شوال سنة عشر.
قال محمد بن عمر، بغير هذا الإِسناد: فأقام بالطائف عشرة أيام. وقال غيره: شهراً. لا يَدَع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلَّمه.
فلم يجيبوه وخافوا على أحداثهم، فقالوا: يا محمد، اخرج من بلدنا والحقْ بمَحَابِّك من الأرض.
وأغْرَوا به سفهاءهم فجعلوا يرجمونه بالحجارة، حتى إن رجليه لتَدْميان، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى لقد شُجَّ في رأسه شجاجاً.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وهو محزون.
فلما نزل نخلةَ قام يصلي من الليل، فانصرف إليه سبعة نفر من الجن أهل نَصِيبين فاستمعوا، فأقام بنخلة أياماً ثم أراد الدخول.
فقال له زيد: وكيف تدخل عليهم وهم قد أخرجوك. فأخرجَ رجلاً من خزاعة إلى مطعم ابن عدي: أدخلُ في جوارك؟
قال: نعم.
وقال محمد بن كعب القُرظي: لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثَقِيف، هم سادة ثقيف وأشرافهم يومئذ، وهم إخوة ثلاثة عَبْد يالَيْل، ومسعود، وحبيب، أولاد عمرو بن عمير، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله تعالى وكلمهم بما جاء له من نصرته على الإِسلام والقيام معه على من خالفه من قومه.
فقال أحدهم: هو يَمْرُط ثيابَ الكعبة إن كان الله أرسلك.(1/165)
وقال الآخر: أمَا وجد الله رسولاً يرسله غيرك
وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً، إن كنت رسولاً كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أردَّ عليك الكلام، وإن كنت تكْذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خَير ثقيف، وأغرَوا به سفهاءهم وعبيدهم يسبُّونه ويصيحون به، حتى اجتمعت عليه الناس، وألجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة (وشيبة بن ربيعة) وهما فيه، ورجَع عنه من سفهاء ثقيف مَن كان يتبعه.
فعمد إلى حُبْلةٍ من عنب فجلس في ظلها، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف،
فلما اطمأن قال، فيما ذكر لي: «اللهُمَّ إنِّي أشْكُو إليْكَ ضَعْفَ قَوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وهَوَانِي عَلى النَّاسِ».
يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أنْتَ رَبُّ المُسْتَضْعَفِينَ، وأنْتَ رَبِّي، إلى مَن تَكِلُني؟ إلَى بَعِيدٍ يُتَجَهَّمُنِي أو إلى عَدُوَ مَلَّكْتَه أمْرِي، وإن لمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلاَ أُبَالِي، ولكِن عَافِيَتَكَ هي أوْسَعُ لِي أَعوُذُ بِنُورِ وجْهِكَ الذِي أشْرَقَتْ بِه الظُلُمَاتُ وصَلُحَ عَلَيهِ أمْرُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ من أنْ تُنْزِلَ بي غَضَبَك، أو تُحِلَّ عَلَيَّ سَخَطَكَ، لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، لاَ حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ» .
فلما رأى ابنا ربيعة عتبة وشيبة ما لقِي، دَعَوَا غلاماً لهما نصرانياً يقال له عَدَّاس فقالا له: خذ قطفا من هذا العنب فضعه في ذلك الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه.
ففعل ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال: «بِسْمِ الله» . ثم أكل.
فنظر عَدَّاس إلى وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلد. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومِنْ أيِّ البِلاَدِ أنْتَ وَمَا دِيْنُكَ؟» .(1/166)
قال: أنا نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنَ مَتَّى؟» .
قال له: وما يدريك ما يونس بن مَتَّى؟
قال: «ذَاكَ أَخِيْ كَانَ نَبِيَّاً وَأَنَا نَبِيٌّ» .
فأكبَّ عَدَّاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبَّل رأسه ويديه ورجليه.
قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أمَّا غلامُك فقد أفسدَه عليك.
فلما جاءهما عدَّاس قالا له: ويلك يا عداس، ما لك تقبِّل رأسَ هذا الرجل ويديه وقدميه؟
قال: يا سيدي، ما في الأرض خير من هذا الرجل لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي.
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ أُخِفْتُ في الله وَمَا يَخَافُ أحَدٌ، ولَقَدْ أوْذِيتُ فِي الله وما يُؤذَى أحَدٌ، وَلقَدْ أتَتْ عَلَيَّ ثَلاثُونَ مِنْ بَيْن يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ومَا لِي طَعَامٌ يأكُلُه ذُو كَبِدٍ إلا شَيْءٌ يُوارِيهِ إبْطُ بِلاَلٍ» .
قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
ومعناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج فارّاً من مكة ومعه بلال، إنما كان مع بلال من الطعام ما يُحمل تحت إبطه.
الباب الثلاثون
في دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة لمّا رجع من الطائف
لمَّا رجع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الطائف أرسل إلى الأخْنَس بن شَرِيق، فقال: «هَلْ أنتَ مُجِيْرِي حَتَّى أبلِّغَ رَسَالَةَ رَبِّي؟» .
فقال الأخنس: إن الحليف لا يجير على الصَّريح.
فقال للرسول: أيت سُهَيل بن عمرو فقل له: إن محمداً يقول لك: هل أنت مُجِيري حتى أبلِّغ رسالةَ ربي؟ فأتاه، فقال له ذلك (فقال): إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب.
قال: فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: أيت المُطْعِم بن عَديّ. فقل له: إن محمداً يقول لك: هل أنت مُجيري حتى أبلِّغ رسالةَ ربي؟.
قال: نعم فليَدْخل.
فرجع إليه فأخبره.(1/167)
وأصبح المطعم بن عدي قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه، فدخل المسجد، فلما رآه أبو جهل قال: أمجيرٌ أم تابع؟
قال: بل مجير.
قال: أجَرْنا من أجرتَ.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهى إلى الركن فاستلمه وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته، ومطعم وأولاده مُطيفون به.
عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَان المُطْعَمُ ابنِ عَدِيِّ حيًّا فَكَلَّمَنِي في هَؤلاِء النَّتْنَى، يَعْنِي أَسَارَى بَدْرٍ، لأَطْلَقْتُهُم لَهُ» .
الباب الحادي والثلاثون
في عَرْض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسَه على القبائل في المواسم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقفُ في الموسم على القبائل فيقول: «يَا بَنِي فُلان، إنِّي رَسُولُ الله إليْكُمْ، يَأْمُرُكُمْ أن تَعْبُدوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِه شَيْئاً» .
فكان يمشي خلفَه أبو لهب ويقول: لا تطيعوه.
وأتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كِنْدَةَ في منازلهم فلم يقبلوا منه.
وأتى بني حَنيفة في منازلهم فردُّوا عليه أقبحَ رَدَ.
وأتى عامرَ بن صَعْصعة.
وكان لا يدَعُ من العرب من له اسمٌ وشرَف إلا دعاه وعرَض عليه ما عنده.
وقال جابر بن عبدالله: مكث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يتَّبع الناسَ في منازلهم بعكاظ ومِجَنَّة وفي المواسم يقول: «مَن يُؤوِينِي مَن يَنْصُرُنِي؟» .
عن جابر بن عبدالله قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه بالموقف ويقول: «ألاَ رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِه، فإنَّ قُرَيْشَاً قَدْ مَنَعوُنِي أَنْ أبَلِّغَ كَلاَمَ رَبِّي» .
فصل
ربما عَرَض لملحد أو قليل الإِيمان فقال: ما وَجْه احتياج الرسول أن يدخل في خفارة كافر، وأن يقول في المواسم: من يؤويني؟
فلو كان أمره حقّاً كان مُرْسلُه ينصره.
فيقال له: قد ثبت أن الإِله القادر لا يفعل شيئاً إلا لحكمة.
فإذا خفيت حكمةُ فِعْله عنا وجب علينا التسليم له.(1/168)
وما جرى للرسول إنما صدَر عن الحكيم الذي أقام قوانينَ الكلِّيات، وأدار الأفلاك، وأجرى المياه وأرسل الرياح، بتدبير مُحْكَمٍ لا خلل فيه.
فإذا رأينا رسوله يشدُّ الحَجَر من الجوع ويُقْهر ويُؤذَى، علمنا أن تحت ذلك حِكَما، إن تلمَّحْنا بعضَها لاحت من خلال سُجُف البلاء حكمتان:
إحداهما: اختبار المبتَلَى ليَسْكن قلبُه إلى الرضا بالبلاء، فيؤدِّي القلبُ ما كلِّف من ذلك.
والثانية: بثُّ الشبهة من خِلاَل الحجج ليُثَاب المجتهد في دفع الشبه.
الباب الثاني والثلاثون
في ذكر ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأنصارسنة إحدى عشرة من النبوة
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم يَعْرض نفسَه على القبائل كما كان يصنع في كل موسم.
فبَيْنا هو عند العَقَبة لقي رهطاً من الخزرج، فقال: «مَنْ أنْتُم؟»
قالوا: من الخزرج.
قال: «أفَلاَ تَجْلِسُونَ حَتَّى أكَلِّمَكُم؟»
قالوا: بلى.
قال: فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله تعالى وعرض عليهم الإِسلام، وتلا عليهم القرآن.
وكان قدماؤهم يسمعون أنه سيظهر نبي من بني غالب.
عن ابن جُميع قال: لما حضرت أوسَ بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر الوفاة قالوا له: قد كنا نأمرك بالتزويج في شبابك فتأبى، وهذا أخوك الخزرج له خمس بنين، وليس لك غير مالك.
فقال: لن يهلك هالك تَرك مثلَ مالك.
وأنشد:
ألمْ يَأْتِ قَوْمي أنَّ لله دَعْوةً
يفوزُ بها أهلُ السعادةِ والبِرِّ
إذا بُعِث المبعوثُ مِنْ آلِ غالبٍ
بمكةَ فيما بَيْنَ زَمزمَ والحِجْرِ
هنالك فابغُوا نصرَه ببلادكم
بني عامرٍ إِنَّ السعادة في النصرِ
وكان أولئك الذين عرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعون من اليهود أنه قد أظلَّ زمانُ نبي.
فلما كلّمهم قال بعضهم لبعض: والله إنه للنبي الذي تَعِدكم يهودُ فلا يسبقنكم إليه.
فأجابوه وانصرفوا راجعين إلى بلادهم قد آمنوا.(1/169)
وكانوا ستة نفر: أسعد بن زُرَارة، وعوف بن عَفْراء، ورافع بن مالك، وقُطْبة بنِ عامر، (وعُقْبة بن عامر)، وجابر بن عبدالله بن رِئاب.
فلما قدموا المدينةَ على قومهم ذكروا لهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإِسلام حتى فشا فيهم.
فلما كان من العام المقبل قدم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه بالعقَبة، منهم الستة الذين تقدم ذِكرهم سوى جابر، ومُعاذ بن عَفْراء، وذَكْوَان بن عبد قيس، وعُبَادة بن الصامت، ويزيد بن ثَعْلبة، وعباس بن عبادة، وعُوَيم بن ساعدة، وأبو الهيثم بن التَّيِّهان.
فبايعهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
قال عُبَادة بن الصامت: بايعنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ العقَبة ونحن اثنا عشر رجلاً أنا أحدُهم، فبايعناه بيعةَ النساء على أن لا نُشْرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادَنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، وذلك قبل أن تُفْرض الحرب، فإن وفيتم بذلك فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئاً فأمرُكم إلى الله، فإن شاء غفر وإن شاء عذَّب.
فلما انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معهم مُصْعَبَ بن عُمَير إلى المدينة يفقِّه أهلها ويقرئهم القرآن.
فأسلم خَلْقٌ كثير.
الباب الثالث والثلاثون
في ذكر معراج رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الواقدي عن رجاله: كان المَسْرَى ليلة السبت لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان في السنة الثانية عشرة من المبعث، قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً.
ورَوى أيضاً عن أشياخ له قالوا: أُسْري برسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة سبع عشرة من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة.
وهذا قول ابن عباس وعائشة.
وسمعتُ شيخنا أبا الفضل بن ناصر يقول: قال قوم: كان الإِسراء قبل الهجرة بسنة. وقال آخرون: قبل الهجرة بستة أشهر.(1/170)
فمن قال لِسَنة فيكون ذلك في ربيع الأول. ومن قال لثمانية أشهر فيكون ذلك في رجب. ومن قال لستة أشهر فيكون ذلك في رمضان.
قلت: وقد كان في ليلة سبع وعشرين من رجب.
عن أنس بن مالك أن مالك بن صَعْصعة حدَّثه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال:
«بَيْنَمَا أَنَا في الحَطِيْمِ» ، وربما قال قتادة: في الحجر. «مُضْطَجِعٌ إذْ أتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَقُولُ لصَاحِبِه: الأوْسَطُ بينَ الثَلاثَةِ» . قال: «فَأَتانِي فَقَدَّ» ، وسمعت قتادة يقول: «فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذه إِلى هذه» .
قال قتادة: فقلت للجارود وهو إلى جنبي: ما يعني به؟
قال: من ثغرة نَحْره إلى شعرته.
وقد سمعته يقول: من قَصِّه إلى شعرته.
قال: «فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي» . قال: «فأُتِيْتُ بِطِسْتٍ منْ ذَهَبٍ مَمْلوءَةً إيْمَاناً وحِكْمَةً، فَغَسَلَ قَلْبِي ثُمَ حُشِيَ ثُمَ أُعيدَ، ثُمَ أُتيْتُ بِدابَّة دُونَ البَغْلِ وَفَوْقَ الحِمَارِ أبْيَضَ» .
قال الجارود: أهو البراق يا أبا حمزة؟
قال: نعم، يضع خطوَه عند أقصى طرفه.
قال: «فَحُمِلْتُ عَلَيهِ» .
قال: «فَانْطَلَقَ بينَ جِبْرِيلَ حتَّى أتَى السَّماءَ الدُّنيَا، فاسْتَفْتَحَ فَقِيل: مَنْ هَذا؟ قَال: جِبْرِيلُ. قِيْل: وَمَن مَعَك؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيل: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْه؟ قالَ: نَعَم. قِيلَ: مَرْحَباً بِه ونِعْمَ المَجِيءِ جَاءَ» .
قال: «فَفَتَحَ، فَلمَّا خَلُصْتُ إذا فِيها آدَمُ. قَالَ: هَذا أبوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيه، فَرَدَّ السَّلامَ ثمَ قَال: مَرْحَباً بِالاِبنِ الصَّالِحِ والنَّبِيِّ الصَّالِحِ» .
«ثُمَ صَعَدَ حَتَّى أتَى السَّماءَ الثَّانِيَة، فَاسْتَفْتَحَ فَقِيل: مَنْ هَذا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيل: ومَنْ مَعَك؟ قَالَ: مُحَمَّد. قِيل: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِليه؟ (قَالَ: نَعَمَ) قِيل: مَرْحَباً به ونِعْمَ المَجِيء جَاءَ. قَال: فَفَتَحَ» .
«(1/171)
فَلمَّا خَلُصْتُ إذا بِيَحْيَى وعِيْسَى وَهُما ابْنَا الخَالَةِ، قَال: هذا يَحْيَى وعِيْسَى، فَسَلِّمْ عَلَيهِمَا. قَالَ: فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا السَّلامَ ثُمَ قَالاَ: مَرْحَبَاً بالأخِ الصَّالِحِ والنَّبِيِّ الصَّالِحِ» .
«ثُمَ صَعَدَ حَتَّى أَتَى السَّماءَ الثَّالِثَة فَاسْتَفْتَحَ فَقِيل: مَنْ هذا؟ قَال: جِبْرِيلُ. قيل: ومَنْ مَعَك؟ قَال: مُحَمَّد. قِيل: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِليْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيْلَ: مَرْحَباً بِه وَنِعْمَ المَجِيءِ جَاءَ. قَال: فَفَتَحَ» .
«فَلَمَّا خَلُصْتُ إذا يُوسُفَ، قَالَ: هَذا يوسُفَ فَسَلِّمْ عَلَيهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيهِ فَرَدَّ السَّلامَ، ثُمَ قَال: مَرْحَباً بالأَخِ الصَّالِحِ والنَّبيِّ الصَّالِحِ» .
«ثُمَ صَعَدَ حَتَّى أتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ فَقِيل: مَنْ هذا؟ قَال: جِبْرِيلُ. قِيل: ومَنْ مَعَك؟ قَال: مُحَمَّد. قيل: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْه؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيل مَرْحَباً بِه وَنِعْمَ المَجِيءِ جَاءَ. قَال: فَفَتَح» .
«فَلمَّا خَلُصْتُ إذا إدْرِيْسَ عَلَيهِ السَّلامُ، قَالَ: هاذا إِدْرِيْسُ فَسَلِّمْ عَلَيهِ قَال: فَسَلَّمْتُ عَلَيه فَرَدَّ السَّلامَ، ثُمَ قَال: مَرْحَباً بالنَّبِيِّ الصَّالِحِ والأَخِ الصَّالِحِ» .
قال: «ثُمَ صَعَدَ حَتَّى أتَى السَّمَاءَ الخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ فَقِيلَ: مَنْ هَذا؟ قَالَ: جِبْرِيْلُ. قِيل: ومَنْ مَعَك؟ قال: مُحَمَّدٌ. قِيل: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيْلَ: مَرْحَبَاً بِه ونِعْمَ المَجِيءِ جَاءَ. قَال: فَفَتَحَ فَلَمَّا خَلُصْتُ فإِذَا هَارُونَ. قَالَ: هَذا هَارُونُ فَسَلِّم عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيهِ، فَرَدَّ السَّلامُ وقَالَ: مَرْحَباً بالنَّبِيِّ الصَّالِحِ والأَخِ الصَّالِحِ» .(1/172)
قال: «ثُمَ صَعَدَ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ فَقِيل: مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبْرِيْل. قِيل: ومَنْ مَعَك؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيل: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِليْه؟ قَالَ: نَعَم. قِيل: مَرْحَباً بِه ونِعْمَ المَجِيءِ جَاءَ» .
«فَلَمَّا خَلُصْتُ إذَا مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ قِيل: هَذا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيهِ، فَقَال: مَرْحَباً بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ والأَخِ الصَّالِحِ» .
«فَلمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى، فَقِيلَ لَه: ما يُبْكِيْكَ؟ قَالَ: غُلامٌ بُعِثَ بَعْدي يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتِه أَكْثرُ مِمَّا يَدْخُلُ من أُمَّتِي» .
قال: «ثُمَ صَعَدَ حَتَّى أَتَى السَّماءَ السَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ. فَقِيل: مَنْ هاذا؟ قَالَ: جِبْريْل. قِيل: ومَنْ مَعَك؟ قِيل: مُحَمَّدٌ. قِيل: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِليْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيْلَ: مَرْحَباً بِه، ونِعْمَ المَجِيءِ جَاءَ. قَال: فَفَتَحَ» .
«فَلَمَّا خَلُصْتُ إذَا إبْرَاهِيمُ، فَقَال: هَذا إبْرَاهِيمُ فَسَلِّمْ عَلَيهِ. فَسَلَّمْتُ عَلَيه فَرَدَّ السَّلامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَباً بالابْنِ الصَّالِحِ والنَّبِيِّ الصَّالِحِ» .
قال: «ثُمَ رُفِعَتَ لي سِدْرةُ المُنْتَهَى، فَإذَا نَبْقُها مِثْلُ قِلاَل هَجَر، وإذا وَرَقُها مِثْلُ آذانِ الفِيَلَةِ. قَال: هذه سِدْرَةُ المُنْتَهَى. قَالَ: وإذَا أَربَعَةُ أنْهَارٍ، نَهْرَانِ بَاطِنَانِ ونَهْرَانِ ظَاهِرَانِ (فَقُلْتُ: مَا هذانِ يَا جِبْرِيْلُ قال:) أمَّا البَاطِنَان فَنَهْرَانِ في الجَنَّةِ، وأما الظَّاهِرانِ فالنِّيْلُ والفُرَاتُ» .
قال: «ثُمَ رُفِعَ لِيَ البَيْتُ المَعْمُورُ» .
قال قَتادة: وحدثنا الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى البيتَ المعمور يدخله كلَّ يوم سبعون أَلف ملك ثم لا يعودون فيه.(1/173)
ثم رجع إلى حديث أنس قال: «ثُمَ أُتِيْتُ بِإنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِناءٍ مِنْ لَبَنٍ، وإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، قَالَ: فأَخَذْتُ الَّلبَنَ، قَالَ: هذِه الفِطْرَةُ أنْتَ عَلَيْهَا وأُمَّتُك» .
قال: «ثُمَ فُرِضَتْ عَلَيَّ خَمْسُونَ صَلاَةٍ كُلَّ يَوْمٍ» .
قال: «فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاَةٍ كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيْعُ خَمْسِينَ صَلاَةً، وإنِّي قَدْ خَبِرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وعَالَجْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ أشَدَّ المُعَالَجَةِ فَارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ» .
قال: «فَرَجَعْتُ فَوُضِعَ عَنِّي عَشْراً آخَر، فرَجَعْتُ إلى مُوسَى قَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلتُ: بِأَرْبَعِينَ صَلاَةٍ كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ أرْبَعينَ صَلاَةٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ خَبِرْتُ النَّاسَ قَبَلَكَ، وعَالَجْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ أشَدَّ المُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ» .
قال: «فَرَجَعْتُ فَوُضِعَ عَنِّي عَشْراً آخَر، فَرَجَعْتُ إلَى مُوسَى فَقَال: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلتُ: أُمِرْتُ بِثَلاثِينَ صَلاَةٍ كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إنَّ أمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ لثَلاثِينَ صَلاَةٍ كُلَّ يَوْمٍ، وإنِّي قَدْ خَبِرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وعَالَجْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ أشَدَّ المُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ» .(1/174)
قال: «فَرَجَعْتُ فَوُضِعَ عَنِّي عَشْراً آخَر، فَرَجَعْتُ إلَى مُوسَى قَال: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلتُ: أُمِرْتُ بِعِشْرينَ صَلاَةٍ كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إنَّ أمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ لِعِشْرِينَ صَلاَةٍ كُلَّ يَوْمٍ، وإنِّي قَدْ خَبِرْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وعَالَجْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ أشَدَّ المُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إلى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ» .
قال: «فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إن أمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ لِعَشْرِ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وإنِّي قَد خَبِرتُ النّاسَ قَبْلَكَ وعَالَجْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ أشَدَّ المُعَالَجَةِ، فارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ» .
قال: «فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَواتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَواتٍ كلَّ يَوْمٍ. قالَ: إنّ أمّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ لِخَمْسِ صَلوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وإنِّي قَدْ خَبِرْتُ النّاسَ قَبْلَكَ، وعالَجْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ أشَدَّ المُعَالَجَةِ فارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ» .
قال: «قُلتُ: قَدْ سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحَيْتُ، ولكنِّي أرْضَى وأُسَلِّمُ. فَلَمَّا نَفَذَتْ نَادَى مُنَادٍ: قَدْ أمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي» .
عن جابر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لمَّا كذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بي (قُمْتُ فِي الحِجْرِ فَجَلا اللَّهُ لِي بَيْتَ المَقْدِسِ) فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُم عَنْ آياتِه وأنا أنْظُرُ إِلَيْه» .
أخرجاهما.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمَّا كانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي فَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ بِأَمْرِي، وعَرَفْتُ أنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ» .
قال: «فَقَعَدْتُ مُعْتَزِلاً حَزِيْناً» .(1/175)
فمرَّ به أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزىء: هل كان من شيء؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَعَم» .
قال: وما هو؟
قال: «إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللّيْلَةَ» .
قال: إلى أين؟
قال: «إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ» .
قال: ثم أصبحتَ بين ظهرانينا؟
قال: «نَعَمْ» .
قال: فلم يُرِه أنه مكذِّبُه مخافَةَ أن يَجْحدْ الحديثَ إن دعا قومَه إليه، قال: أرأيتَ إن دعوتُ قومك أتحدثهم ما حدثتني؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ» .
قال: هيا معشر بني كعب بن لؤي. حتى انتفضت إليه المجالس، وجاؤوا حتى جلسوا إليهما، فقال: حدِّث قومَك بما حدثتني.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ» .
قالوا: «إلى أين؟».
قال: «إلَى بَيْتِ المَقْدِسِ» .
قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟
قال: «نَعَمْ» .
قال: فمِنْ بَيْن مصفِّق، ومن بين واضح يده على رأسه متعجباً للكذب.
ثم قالوا: أو تستطيع أن تَنْعت لنا المسجدَ؟ وفي القوم مَنْ قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى التَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ» . قال: «فَجِيءَ بالمَسْجِدِ وأَنَا أنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارَ عُقَيْلٍ أو عُقَالٍ، فَنَعَتُّه وأَنا أنْظُرُ إِليْه» .
فقال القوم: أمَّا النعت فقد والله أصاب.
وقد رَوى حديثَ المعراج والإِسراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة منهم: ابن مسعود، وعلي، وأبو ذر، وأُبيّ، وحذيفة، وأبو سعيد، وجابر، وأبو هريرة، وابن عباس، وأم هانىء.
وقد ذكرنا في حديث أنس بن مالك، من رواية شريك عنه، وفي رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس أنه قال: «رَجَعْتُ إلَى رَبِّي فَحَطَّ عَنِّي خَمْساً ولَمَ أُزَلْ أُرَاجِعُ بَينَ رَبِّي وبَيْنَ مُوسَى وَيَحُطُّ عَنِّي خَمْساً خَمْساً» .(1/176)
وهذا من أفراد مسلم، والأول أصح؛ لأنه قد اتفق البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك، ومن حديث أنس عن نفسه أنه حط عشراً. فهذه الرواية التي فيها «فَحَطَّ خَمْساً خَمْساً» غلط من الراوي.
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي أتَانِي جِبْرِيْلُ بِالبُرَاقِ مُسْرَجاً مُلْجَمًا، فَذَهَبْتُ لأرْكَبَهُ فَاسْتَصْعَبَ عَلَيَّ، فَقالَ جِبْرِيْلُ: أَبِمُحَمَّدٍ تَفْعَلُ هَذا؟ والله مَا رَكِبَكَ نَبِيٌّ أَكْرَمُ مِنْه عَلَى الله تَعَالَى. فَارْفَضَّ البُرَاقُ عَرَقاً» .
الباب الرابع والثلاثون
في ذكر لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصارفي العقبة الثانية في سنة ثلاث عشرة من النبوة
عن كعب بن مالك قال: خرجنا في حجاج قومنا حتى قدمنا مكة، وواعَدْنَا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم العَقَبة من أوسط أيام التشريق.
وكان معنا عبدالله بن عمرو بن حرام، أبو جابر، وكنا نكتم مَنْ معنا مِن قومنا من المشركين أمرَنا، فكلمناه وقلنا: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريفٌ من أشرافنا، وإنّا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حَطباً للنار غداً.
ثم دعوناه إلى الإِسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأَثْلَم وشهد معنا العقبة، وكان نقيباً.
فنِمْنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نَتَسلَّلُ مُسْتَخْفين تَسَلُّلَ القَطَا.
حتى اجتمعنا في الشِّعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلاً ومعهم امرأتان: نُسَيْبة بنت كعب أم عُمارة، وأسماء بنت عمرو بن عدِي.
فاجتمعنا في الشِّعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس، وهو على دين قومه يومئذ، إلا أنه أحبّ أن يحضر أمرَ ابن أخيه ويتوثق له.(1/177)
فلما جلس (قال: يا معشر الخزرج، قال: وكانت العرب إنما يُسمون) هذا الحيَّ من الأنصار الخزرج، أوسها وخزرجها: إن محمداً منَّا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عزَ من قومه ومَنَعة في بلده، وقد أَبَى إلا الانقطاع إليكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحمَّلتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلموه خاذلوه فمن الآن فدَعُوه في عزَ ومنعة من قومه.
فقلنا: قد سمعنا ما قلت، فتكلَّمْ يا رسول الله، وخُذْ لنفسك وربك ما أحببت.
فتلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعا إلى الإِسلام، ثم قال: «أُبَايِعُكُم عَلَى أن تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُم وأبْنَاءَكُم» .
فأخذ البَراءُ بن مَعْرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيَّا لنمنعك مما نمنع منه أُزُرَنا.
فبايعْنَا يا رسول الله، فنحن أهل الحرب وأهل الحَلْقة ورثناها كابراً عن كابر.
فاعترض القومَ أبو الهيثم بن التَّيِّهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الناس حبالاً وإنا قاطعوها يعني: العهود فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتَدَعنا.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «بَلِ الدَّمَ الدَّمَ، والهَدْمَ الهَدْمَ، أنْتُم مِنِّي وأنَا مِنْكُم، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ» .
وقال: «أخْرِجُوا إِليَّ مِنْكُم اثْنَي عَشَرَ نَقِيْباً يَكوُنوُنَ عَلَى قَوْمِهِم» .
فأخرجوا اثني عشر نقيباً، تسعةً من الخزرج وثلاثةً من الأوس.
قال ابن إسحاق: فحدثني مَعْبد في حديثه عن أبيه كعب قال: كان أولَ مَن ضَرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم: البَرَاءُ بن مَعْرور، ثم تتابع الناس.(1/178)
فلما بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خرج الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قط: يا أهل الجَبَاجب ـ والجباجب: المنازل ـ هل لكم في مُذَمَّم والصُّباة معه قد أجمعوا على حربكم.
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «هَذا أَزَبُّ العَقَبةِ. أيْ عَدُوَّ الله. أمَا وَالله لأَفرُغَنَّ لَكَ» .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارْجِعُوا إلى رِحَالِكُمْ» .
فقال له العباس بن عُبادة: والذي بعثك بالحق إن شئتَ لنميلنَّ غداً على أهل منًى بأسيافنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَمْ أُوْمَرْ بِذَلِكَ» .
فرجعنا فنمنا حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدَتْ علينا جِلَّةُ قريش، حتى جاؤونا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، والله إنه ما من العرب أحدٌ أبغض إلينا أن تَنْشَب الحربُ بيننا وبينهم منكم.
قال: فانبعث مَنْ هنالك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه.
وقد صَدَقوا لم يعلموا ما كان منا. قال: فبعضنا ينظر إلى بعض.
عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الموسم: «مَنْ يؤويني» . حتى بعثنا الله من يثرب فآويناه وصدقناه، ثم قلنا: حتى متى نترك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يُطرد في جبال مكة ويخاف؟
فرحل منا سبعون حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شِعب العقبة، فاجتمعنا عنده فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟(1/179)
فقال: «تُبَايعُونِي عَلَى السَّمْع وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ والكَسَلِ، والنَّفَقَةِ في العُسْرِ واليُسْرِ، وعَلَى الأَمْرِ بالمَعْرُوفِ والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ؛ وأنَ تَقَوُلوا فِي الله لا تَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وعَلَى أنْ تُنْصُرونِي فَتَمْنَعُونِي إذا قَدِمْتُ عَلَيْكُم مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنه أنْفُسَكُمْ وأزْوَاجَكُمْ وأوْلاَدَكُمْ، ولَكُمْ الجَنَّةَ» .
فقمنا إليه فبايعناه.
وأخذ بيده أسعد بن زُرَارة، وهو مِن أصغرهم وقال: رويداً يا أهل يثرب، إنا لم نضرب أكبادَ الإِبل إلا ونحن نَعْلم أنه رسولُ الله، وإن إخراجَه اليوم مفارَقةُ العرب كافةً، وقَتْلُ خياركم وأن تَعَضّكم السيوفُ، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجرُكم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جُبْنَةً فثبِّتوا فهو أعذَرُ لكم عند الله.
فقالوا: أمِطْ عنا يا أسعد، فوالله لا نَدعُ هذه البيعة أبداً ولا نَسْلُبها أبداً. فقمنا فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة.
الباب الخامس والثلاثون
في عِلْم قريش ما جرى للأنصار، وما تشاوروا أن يفعلوا في ذلك
قال كعب بن مالك: لما تفرَّق الناس من منًى وتنطَّس القومُ الخبر وجدوه قد كان.
فخرجوا في طلب القوم، فأدركوا سعدَ بن عبادة في أَذَاخِر والمنذرَ بن عمرو.
فأما المنذر فأعجزَ القومَ، وأخذوا سعداً فربطوا يديه إلى عنقه ثم أقبلوا به إلى مكة، فجاء جبير بن مطعم والحارث بن أمية. فقالا: قد كان يُجِيز تجارتنا. فخلصاه.
قال ابن إسحاق: وأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج إلى المدينة، فخرجوا أرسالاً، وأقام ينتظر أن يُؤذَن له، ولم يتخلف عنه أحد من المهاجرين إلا (من) أُخذ وفتن سوى أبي بكر وعليّ.
وكان أبو بكر يستأذنه في الخروج فيقول لا تَعْجل.(1/180)
فلما علم المشركون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلوا داراً تَمنع علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيخرج إليهم.
فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمره، ودار النَّدوة هي دار قُصَي بن كلاب، وكانت قريش لا تقضي أمراً إلاَّ فيها، فدخلوا يتشاورون ما يصنعون.
قال ابن إسحاق: وحدثني (من لا أتّهم من أصحابنا، عن عبدالله) بن أبي نَجِيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: لما اجتمعوا لذلك اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل فوقف على باب الدار، فقالوا: مَنْ الشيخ؟
قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذي اتَّعَدْتم له فحضر معكم، وعسى أن لا يَعْدمكم منه رأي ونصح.
فقالوا: ادخل. فدخل معهم وقد اجتمع أشراف قريش من كل قبيلة.
فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما كان، وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن تبعه، فأجمِعوا فيه رأياً.
فقال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهَهَ من الشعراء.
فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا برأي، والله لو حبستموه لخرج أمرُه من وراء الباب إلى أصحابه، فوثبوا فانتزعوه من أيديكم.
فقال قائل: نخرجه من بين أظهرنا.
فقال النجدي: والله ما هذا برأي، ألم تروا حُسْنَ حديثه وحلاوةَ منطقه وغَلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، ولو فعلتم ذلك ما أمنتُ أن يَحُلَّ على حي من العرب فيتغلب عليهم بقوله حتى يبايعوه، ثم يسير بهم إليكم.
فقال أبو جهل: والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعدُ.
قالوا: ما هو؟
قال: أرى أن نأخذ من كل قبلة فتًى شابّاً جَلْداً نَسِيباً وسيطاً، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يَعْمدون فيضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه، فنستريح، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرَّق دمه في القبائل كلها، فلم تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً ورضوا منا بالعَقْل فعقلناه لهم.
فقال الشيخ النجدي: القولُ ما قال هذا الرجل لا أرى لكم غيره.(1/181)
فتفرق القوم على ذلك.
فأتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: لا تَبِتْ هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه.
فلما كانت العَتمةُ اجتمعوا على بابه، ثم ترصَّدوه متى ينام فَيَثِبُون عليه.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: «نَمْ عَلَى فِرَاشِي وتَسَبحَّ ببُرْدي الحَضْرَمِيِّ الأخْضَرِ، فإنَّه لا يَخْلُصُ إليْكَ شَيءٌ تَكْرَهُه مِنْهُم» . وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك.
عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (الأنفال: 30)
.
قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق.
وقال بعضهم: بل اقتلوه.
وقال بعضهم: بل أخرجوه.
فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات عليٌّ عليه السلام على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوه عليًّا ردَّ الله مكرهم فقالوا: أين صاحبك؟
قال: لا أدري.
فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت.
فمكث فيه ثلاث ليال.
وقال محمد بن كعب القرظي: اجتمعوا على بابه، فخرج فأخذ حفنةً من تراب فنثرها على رؤوسهم فلم يروه وقرأ: {س36ش9وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ }(يس: 9)
ثم انصرف حيث أراد.
فأتاهم آتٍ ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ههنا؟
قالوا: محمداً.(1/182)
قال: والله قد خرج عليكم محمد. فجعلوا يطَّلعون فيرون عليًّا عليه السلام عليه بُرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون: هذا محمد عليه بُرْده. فأقام إلى الصباح.
قال علي: فقمت عن الفراش فرأوني.
قال الواقدي عن أشياخه: إن الذين كانوا ينتظرونه: أبو جهل، والحكم بن أبي العاص، وعُقبة بن أبي مُعَيط، والنَّضر بن الحارث، وأمية بن خَلَف، وابن الغَيْطلة، وزَمعة بن الأسود، وطعمة بن عدي، وأبو لهب، وأبيّ بن خلَف، ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج.
أبواب هجرته صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في ذكر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: بَيْنا نحن جلوسٌ في بيت أبي بكر في حَرِّ الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنِّعاً في ساعة لم يكن يأتينا فيها.
قال أبو بكر: فداءٌ له أبي وأمي، ما جاء به في هذه الساعة إلا أمرٌ.
قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنَ فأذِن له.
فدخل فقال لأبي بكر: «أَخْرِجْ مَنْ عندك» .
فقال أبو بكر: إنما هم أهلُك يا رسول الله.
قال: «فَإنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الخُرُوجِ» .
فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله
قال: «نعم» .
قال: فخُذ إحدى راحلتيَّ هاتين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بالثَّمَنِ» .
قالت عائشة: فجهزناهما أحبَّ الجهاز، ووضعنا لهما سُفْرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به فم الجراب، فبذلك سمِّيت ذات النطاقين.
قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغارٍ في جبل ثَوْر فمكثا فيه ثلاثَ ليالٍ.
يبيت عندهما عبدُالله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثَقِفٌ لَقِنٌ، فيُدْلج مِن عندهما بسَحَر، فيصبح مع قريش كبائتٍ، فلا يسمع أمراً يُكَادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام.(1/183)
ويرعَى عليهما عمرُ بن فُهَيرة مَوْلى أبي بكر مِنْحَةً من غَنَم فيُرِيحها عليهما، حتى تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْل وهو لبن مِنْحتهما، حتى يَنْعق بها عامر بن فُهَيره بغلَس، يفعل ذلك في كل ليلة من الليالي الثلاث.
واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر (رجلاً) من بني الدِّيل، وهو على دين كفار قريش فأمّناه، ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غارَ ثور بعدَ ثلاث ليال براحلتيهما.
وقد روينا عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى أبا بكر لمَّا أراد أن يخرج، فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى جبل ثور.
وروي الواقدي، عن أشياخه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمنزل أبي بكر إلى الليل، ثم خرجا إلى الغار.
وكان خروجهما وقد بقي من صفر ثلاث ليال.
الباب الثاني
في ذكر ما جرى في الغار
عن أنس أن أبا بكر حدَّثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا.
فقال: «يَا أبَا بَكْرٍ، مَا ظنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» .
أخرجاه في الصحيحين.
عن أنس قال: لما كانت ليلةُ الغار قال أبو بكر: يا رسولَ الله، دَعْني أدخل قَبْلك، فإن كان فيه (شيء) كان بي قَبْلك.
قال: «أدخل» .
فدخل أبو بكر، فجعل يلتمس بيديه، فكلما رأى جُحراً قال بثوبه فشقَّهُ ثم ألقمه الجُحر، حتى فعل ذلك بثوبه أجمع. قال: فبقي جُحر فوضع عَقِبه عليه.
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أيْنَ ثَوْبُكَ يَا أبَا بَكْرٍ؟» .
فأخبره بالذي صنع، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه فقال: «اللهُمَّ اجْعَلْ أبَا بَكْرٍ مَعِيَ فِي دَرَجَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ» . فأوحى الله تعالى إليه: قد استجيب لك.
عن عمر بن الخطاب أنه قال: والله للَيلة من أبي بكر ويوم خير من آل عمر.
هل لك بأن أحدثك بليلته ويومه؟
قال: قلت: يا أمير المؤمنين حدِّثني.(1/184)
قال: أمَّا ليلته لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مختفياً من أهل مكة خرج ليلاً، فتبعه أبو بكر، فجعل يمشي مرةً أمامه، ومرة خَلْفه، ومرة عن يمينه، ومرة عن شماله.
فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا هذا يَا أبَا بَكْرٍ؟ مَا أعْرِفُ هذا مِن فِعْلِكَ» .
فقال: يا رسول الله، أذكر الرَّصَد فأكون أمامك، وأذكر الطلَب فأكون خَلْفك، ومن عن يمينك وعن يسارك، لا آمن عليك.
قال: فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حَفيت رجلاه، فلما رآها أبو بكر أنها قد حفيت حمله على كاهله، وجعل يشتد به حتى أتى به الغار فأنزله.
ثم قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلَك، ففعل ولم ير شيئاً، فحمله وأدخله.
وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع، فخشي أبو بكر أن يخرج منهن شيء فيؤذي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فألقمه قدَمه، فجَعَلْن يضربنه ويلسعنه الحيات والأفاعي، وجعلت دموعه تتحدر، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَا أبَا بَكْرٍ، لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» . فأنزل الله سَكِينته ـ أي طمأنينته ـ لأبي بكر. فهذه ليلته.
وقال الواقدي، عن أشياخه: طلبت قريش رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ الطلَب، حتى انتهت إلى باب الغار، قالت: إن عليه لعنكبوتاً قبل ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم. فانصرفوا.
وقالت أسماء بنت أبي بكر: لم نَدْر بالحال، حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يغني غناءَ العرب والناس يتبعونه، يسمعون صوته ولا يرونه، حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول:
جَزَى الله ربُّ الناس خيرَ جزائه
رفيقين حَلاَّ خيمتَيْ أُمِّ مَعْبدِ
وسيأتي ذكر القصة إن شاء الله تعالى.
الباب الثالث
في ذكر ما جرى له في طريقه إلى المدينة
قال أبو الحسن البراء: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار ليلة الخميس لغرة شهر ربيع الأول.(1/185)
وذكر محمد بن سعد: أنه خرج من الغار ليلة الاثنين لأربع خَلَوْن من ربيع الأول.
قلت: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثاً، وخرج معه أبو بكر، وعامر بن فُهَيرة، ودليلهم عبدالله بن أُرَيقط الليثي، وكان على دين قومه، فأخذ بهم طريقَ السواحل.
عن البَرَاء بن عازب قال: اشترى أبو بكر مِن عازبٍ سرجاً، فقال: مُرِ البَرَاءَ فليَحْمله إلى منزلي.
قال: لا، حتى تحدثنا كيف صنعتَ حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت معه؟
قال أبو بكر: خرجنا فأَدْلَجْنا فَأَحْثَثْنا يومَنا وليلتنا حتى أَظْهَرْنا وقام قائمُ الظهيرة، فضربتُ ببصري هل أرى ظلاًّ آوِي إليه، فإذا أنا بصخرة، فأهويت إليها، فإذا هو بقية ظلها، فسوَّيته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرشت له فروةً وقلت: اضطجع يا رسول الله. فاضطجع.
ثم خرجتُ أنظر هل أرى أحداً من الطَّلَب، فإذا أنا براعي غنم، فقلت: لمَنْ أنت يا غلام؟
فقال: لرجل من قريش. فسماه فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟
قال: نعم.
قلت: هل أنت حالب لي؟
قال: نعم. فأمرتُه فاعتقل شاةً منها، ثم أمرته فنفض ضرعَها من الغبار، ثم أمرته فنفض كفَّه من الغبار، ومعي إداوة على فمها خرقة، فحلب لي كُثْبة من اللبن فصببت على القَدَح حتى بَرد أسفله.
ثم أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت: اشرب يا رسول الله. فشرب حتى رضيت.
ثم قلت: قد آن الرحيل.
فارتحَلْنَا والقومُ يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم إلا سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم على فرس له، فقلت: يا رسول الله، هذا الطلبُ قد لَحَقَنَا.
فقال: «لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا» .
حتى إذا دنا منا وكان بيننا وبينه قيدُ رمح أو رمحين أو ثلاثة قلت: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا. وبكيت.
قال: «لِمَ تَبْكِي؟» .
قلت: أمَا والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك.
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ» .(1/186)
فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد، فوثب عنها، وقال: يا محمد، قد علمتُ أن هذا عملك، فادع الله عز وجل أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمهنَّ على مَنْ ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهماً، فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا، فخذ منها حاجتك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ حَاجَةَ لِي فِيْهَا» . ودعا له، فانطلق ورجع إلى أصحابه.
عن عبد الرحمن بن مالك المُدْلجيّ (أن أباه أخبره أنه) سمع سُرَاقَةَ يقول: جاءنا رُسُل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ديةَ كلِّ واحد منهما لمن قتله أو أسَره.
فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي أقبل رجل منهم حتى قام علينا فقال: يا سراقة، إني رأيت آنفاً أَسْودةً بالساحل أراها محمداً وأصحابه.
قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعييننا (يبتغون ضالةً لهم)، ثم لبثتُ في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها عليَّ، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزُجِّه الأرضَ وخفَضْت عاليه، حتى أتيت فرسي، فركبتها فرفعتُها تقرِّب بي، حتى دنوت منه، فعثرت بي فرسي فخرَرْت عنها، فقمت فأهْوَيت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمتُ بها: أضرُّهم أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبتُ فرسي وعصيت الأزلام، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخَتْ يَدَا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخرَرْتُ عنها، ثم زجرتها فنهضت ولم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبارٌ ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم الأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم.
ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحَبْس عنهم أَنْ سيظهر أمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/187)
فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الديةَ. وأخبرتهم أخبارَ ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزادَ والمتاع، فلم يَرْزآني ولم يَسْألاني (شيئاً) إلا أن قال: أَخْفِ عنا.
فسألته أن يكتب لي كتابَ أمن، فأمر عامرَ بن فُهَيرة فكتب في رقعة من أدَم. ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الزهري: وأخبرني عروة بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبيرَ في رَكْب من المسلمين كانوا تجاراً قافلين من الشام، فكسَا الزبيرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابَ بياض.
الباب الرابع
في ذكر حديث أم مَعْبد
عن أبي مَعْبد الخُزَاعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر، وعامر بن فُهَيرة، ودليلهم عبدالله بن أُرَيْقط، فمرُّوا بخيمتي أم مَعْبد الخُزَاعية، وكانت امرأة جَلْدة بَرْزة تَحْتبي وتقعد بفناء الخيمة، ثم تسقي وتطعم.
فسألوها تمراً ولحماً يشترونه، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، فإذا القوم مُرْملون مُسْنتون، فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أَعْوَزكم القِرَى.
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كِسْر الخيمة، فقال: «مَا هذه الشَّاةَ يَا أُمَّ مَعْبَد؟» .
فقالت: هذه شاة خَلَّفها الجَهْدُ عن الغنم.
قال: «هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ؟» .
قالت: هي أَجْهَدُ مِن ذلك.
قال: «أتَأْذَنِينَ لِي أنَ أحْلِبَهَا؟» .
قالت: نعم بأبي أنت وأمي إن كان رأيت بها حَلَباً.
فدعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الشاة، فمسح ضرعها، وذكر اسم الله وقال: «اللهُمَّ بَارِكْ لَهَا فِي شَاتِها» .
قالت: فتفاجَّت ودَرَّت واجتَرَّت، فدعا بإناء يُرْبض الرهطَ فحلب فيه ثَجًّا حتى علاه الثُّمَال.
فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب صلى الله عليه وسلم آخرهم، وشربوا جميعاً عَلَلا بعد نهل حتى أراضوا.
ثم حلب فيه ثانية عَوْداً على بَدْء فغادره عندها ثم ارتحلوا عنها.(1/188)
فقلَّ ما لبث أن جاء زوجُها أبو مَعْبد يسوق أعتراً حُيَّلا عجافاً يتساوَكْنَ هُزْلاً مُخُّهن قليل لا نِقى بهن.
فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين لكم هذا، والشاة عازبة ولا حَلُوبة في البيت؟
قالت: لا والله، إلا أنه مرَّ بنا رجل مُبارك، كان من حديثه كيت وكيت.
قال: والله إني لأراه صاحبَ قريش الذي تطلب، صفيه لي يا أم معبد.
قالت: رأيت رجلاً ظاهرَ الوضاءة، متبلِّج الوجه، حسن الخَلْق، لم تَعِبْه ثُجْلة، ولم تُزْر به صُعْلة، قَسِيمٌ وسيم، في عينيه دَعَج، وفي أشفاره وطَف، وفي صوته صَحَل، أَحْوَر، أكحل، أزجُّ، أقرن، شديد سواد الشعر، في عنقه سَطَع، وفي لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سمَا وعلاه البهاء، كأَنَّ مَنْطقه خرزاتٌ نُظِمْن يتحدَّرْن، حلو المَنْطق فَصْل لا نَزْر ولا هَذَر، أَجْهَر الناس وأجمله مِن بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تَشْنَؤه عَيْن من طُول، ولا تقتحمه عين من قِصر، غُصْنٌ بَيْن غُصْنين، فهو أَبْهَى الثلاثة منظراً وأحسنهم قدًّا، له رفقاء يحفَّون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا لأمره، مَحْفُود مَحْشُود، لا عابس ولا مُفْنِد.
قال: هذا والله صاحب قريش الذي ذُكر له من أمره ما ذكر، ولو كنت وافيته لالتمستُ أَنْ أَصْحبه، ولأفعلنَّ إن وجدتُ إلى ذلك سبيلاً.
وأصبح صوتٌ بمكة عالياً بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون من يقوله وهو يقول:
جَزَى الله ربُّ الناس خيرَ جزائه
رفيقَيْن حَلاَّ خيمَتيْ أمِّ مَعْبَدِ
هما نَزَلا بالبِرِّ وارتحلا به
فأفْلَح من أمْسَى رفيقَ محمدِ
فيالَ قُصَيَ ما زَوَى الله عنكمُ
به من فِعالٍ لا تُجَازَى وسُؤْدَدِ
سَلُوا أختكم عن شاتِها وإنائها
فإنكمُ إنْ تَسْأَلوا الشاة تَشْهدِ
دعاها بشاةٍ حائلٍ فتحلَّبَتْ
له بصريح ضَرَّةُ الشاةِ مُزْبِدِ
فغادَره رَهناً لديها لحالبٍ
بَدرَّتها في مَصْدرٍ ثم مَوْرِدِ(1/189)
فأصبح القوم قد فقدوا نبيهم وأجدوا على خيمتي أم معبد. فأَجابه حسان بن ثابت فقال:
لقد خاب قومٌ زالَ عنهم نبيُّهم
وقُدِّس من يَسْري إليه ويَغْتدي
ترحَّلَ عن قومٍ فزالت عقولُهم
وحلَّ على قوم بنورٍ مجدَّدِ
وهل يَسْتوي ضُلاَّلُ قوم تسفَّهوا
عمًى وهداةٌ يقتدون بمهتدِي
نبيٌّ يرى ما لا يرَى الناسُ حولَه
ويتلو كتابَ الله في كل مَشْهدِ
وإنْ قال في يومٍ مقالةَ غائِبٍ
فتصديقُها في ضحوة اليوم أو غدِ
ليَهْنِ أبا بكر سعادةُ جَدِّه
بصُحْبته، مَنْ يُسْعِد الله يَسْعَدِ
ويهْنِ بني كعب مكانُ فتاتهم
ومقعدُها للمسلمين بمَرْصَدِ
البرزة: الكبيرة.
والمُرْملون: الذين نفد زادهم.
والمُسْنتون: من السَّنَة وهي الجَدْب.
وكِسْر الخيمة: جانبها.
والجهد: المشقة.
وتفاجَّت: فتحت ما بين رجليها لتحلب.
ويُرْبض الرهط: يثقلهم فيربضوا.
والثُّمَال: الرغوة.
والعَلَل: مرة بعد أخرى.
وأراضوا: أي رووا.
والحُيَّل: اللاتي لَسْن بحوامل.
والعازب: البعيد في المرعى.
والمتبلِّج: المشرق.
والثجْلْة: عظم البطن واسترخاء أسفله.
والصُّعْلة: صغر الرأس.
والوسيم: الحسن، وكذلك القسيم.
والدَّعج: سواد العين.
والوطف: الطول.
والصَّحَل: كالبحَّة.
والأحور: الشديدُ سوادِ أصول الأهداب خلقةً.
والسَّطَع: الطول.
وقولها: «إذا تكلم سمَا»: أي علا برأسه ويده.
وقولها: لا تقتحمه عين: أي تحتقره.
والمُفْنِد: الهَرِم.
والصريح: الخالص.
والضرة: لحم الضرع.
عن أم معبد قالت: طلع علينا أربعةٌ على راحلتين، فنزلوا بي فجئت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بشاة أريد أن أذبحها له، فإذا هي ذات دَرَ، فأدنيتها منه فلمس ضرعها ثم قال: لا تذبحيها.
فأرسلتها وجئت بأخرى فذبحتها وطبختها لهم، فأكل هو وأصحابه، فتغدى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأصحابه، وزودتهم منها ما وسعت سُفْرتهم، وبقي عندنا لحمها أو أكثره.(1/190)
وبقيت الشاة التي لمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرعها، حتى كان عام الرمادة زمن عمر، وهي سنة ثماني عشرة من الهجرة.
قالت: وكنا نحلبها صَبُوحاً وغَبُوقاً، وما في الأرض قليل ولا كثير.
الباب الخامس
في تورية أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقهم إلى المدينة
عن أنس قال: لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب وأبو بكر رَدِيفه.
وكان أبو بكر يُعرف في الطريق لاختلافه إلى الشام، وكان يمر بالقوم فيقولون: مَنْ هذا بين يديك يا أبا بكر؟ فيقول: هادٍ يهديني إلى الطريق.
فلما دنَوْا من المدينة بعث إلى القوم الذين أسلموا من الأنصار، إلى أبي أمامة وأصحابه، فخرجوا إليهما فقالوا: ادخلا آمنَيْن مطاعَيْن. (فدخلا).
قال أنس: فما رأيت يوماً قط أنورَ ولا أحسنَ من يوم دخلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر المدينة.
وشهدت وفاته، فما رأيت يوماً قط أظلَم ولا أقبح من اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الباب السادس
في لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق المدينةبُرَيدة الأسلمي، وتفاؤله باسمه وخدمة بريدة إياه
عن عبدالله بن بُرَيدة، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطيَّر، وكان يتفاءل، وكانت قريش جعلت مائة من الإِبل فيمن يأخذ نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم فيرده عليهم حين توجه إلى المدينة.
فركب بُرَيدة في سبعين راكباً من أهل بيته من بني سَهْم، فتلقى نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أنْتَ؟» .
فقال: أنا بُرَيدة.
فالتفت إلى أبي بكر الصِّديق فقال: «يَا أبَا بَكْرٍ، بَرُدَ أمْرُنَا وَصَلُحَ» ، ثم قال: «مِمَّنْ أنْتَ؟» .
قال: مِنْ أَسلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «سَلِمْنَا» .
قال: «ممَنْ؟» .
قال: من بني سهم.
قال: «خَرَجَ سَهْمُكَ (يَا أبَا بَكْرٍ)» .(1/191)
فقال بريدة للنبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ أنت؟
قال: «أَنا مُحَمَّدُ بنِ عبْدِالله رَسُولُ الله» .
فقال بريدة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
فأسلم بُريدة وأسلم مَنْ كان معه جميعاً.
فلما أصبح قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَدْخُلْ المَدِيْنَةَ إلاَّ وَمَعَكَ لِوَاءٌ» . فحلَّ عمامته ثم شدَّها في رمح، ثم مشى بين يديه. فقال: يا نبي الله، تَنْزل عليَّ.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ نَاقَتِي هذه مَأْمُورَةٌ» .
فقال بُريدة: الحمد لله الذي أسلمتْ بنو سَهْم طائعين غير مُكْرهين.
الباب السابع
في ذكر تلقي أهل المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخوله إليها
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع المسلمون بالمدينة بمَخْرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة.
وكانوا يَغْدون كل غداة إلى الحَرَّة ينتظرونه حتى يردهم حرُّ الظهيرة.
فأقبلوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أوَوْا إلى بيوتهم أَوْفَى رجلٌ من اليهود على أُطُمٍ من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبَصُر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبْيِضين يزولُ بهم السرابُ.
فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جَدُّكم الذي تنتظرونه.
فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقَّوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظَهْر الحَرَّة، فعَدَل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف.
فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً.
الباب الثامن
في ذكر اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة
قال الزُّهري: قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.(1/192)
وروى حَنَش الصنعاني، عن ابن عباس، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ونبِّىء يوم الاثنين، ورفَعَ الحَجَر يوم الاثنين، وخرج مهاجراً من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، وقُبض يوم الاثنين، صلى الله عليه وسلم.
الباب التاسع
في ذكر المكان الذي نزل به صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة
عن أبي بكر الصديق قال: مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى قَدِمْنا المدينة، فتلقاه الناس فخرجوا في الطرق وعلى الأباعر، واشتد الخدم والصبيان في الطريق يقولون: الله أكبر جاء رسول الله، جاء محمد.
قال: وتنازع القوم أيهم ينزل عليه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزلُ اللَّيْلَةَ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ، أَخْوَالِ عَبْدِ المُطَّلِبِ لأُكْرِمَهُمْ بِذَلِكَ» .
فلما أصبح غدا حيث أُمِر.
قلت: بيان الخؤولة أن هاشماً تزوج امرأةً من بني عدي بن النجار، فولدت له عبد المطلب.
وقد ذكرنا في حديث عائشة آنفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل في بني عمرو بن عوف وهم أهل قِبَاء.
قال ابن إسحاق: فنزل على كلثوم بن الهَدْم أخي بني عمرو بن عوف، وقيل: نزل على سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزَباً لا أهل له.
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين، ويوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء، ويوم الخميس، وأسَّس مسجدهم، ثم خرج عنهم يوم الجمعة.
وقيل: مكث فيهم بضعة عشر يوماً.
ثم ركب ناقته، وأرخى لها الزمام، فجعلت لا تمرُّ بدار من دور الأنصار إلا دعاه أهلُها إلى النزول عندهم وقالوا: هلمَّ يا رسول الله إلى العَدد والعُدَّة، فيقول لهم: «خَلُّوا زِمَامَهَا فإِنَّها مَأْمُورَةٌ» .(1/193)
حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، فبركت على باب المسجد، وهو يومئذ مَرْبد، فلم ينزل عنها، فوثبت فسارت غير بعيد، ثم رجعت إلى مَبْركها الأول فبركت فيه، ووضعت جِرَانها، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتمل أبو أيوب رَحْلَه.
فنزل على أبي أيوب فأقام عنده حتى بنى مسجده ومساكنه.
وقال الواقدي عن أشياخه: لما قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام ببني عمرو بن عوف، فلما كان يوم الجمعة ارتفاعَ النهار دعا براحلته، وركب والناس معه عن يمينه ويساره، فاعترضتْهُ الأنصار لا يمرُّ إلا قالوا: هلمَّ يا نبي الله إلى القوة والمنعة، فيقول لهم خيراً ويقول: «إنَّها مَأْمُورَةٌ» .
فبركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو أيوب فحطّ رحلَه وأدخله منزلَه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المَرْءُ مَعْ رَحْلِه» .
وجاء أسعدُ بن زُرارة فأخذ بزمام راحلته فكانت عنده.
وما كان من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثةُ والأربعة يتناوبون، حتى تحوَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل أبي أيوب.
وكان مقامه فيه سبعة أشهر.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدَ بن حارثة، وأبا رافع إلى مكة وأعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين، فقدِما بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسَوْدة زوجته وأسامة بن زيد.
وخرج عبدالله بن أبي بكر معهم بعيال أبي بكر فيهم عائشة.
فلما قدموا المدينة أنزلهم في بيت جارية بن النعمان.
قال محمد بن حبيب الهاشمي: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل قباء على كلثوم، وكان يتحدث في منزل سعد بن خيثمة وسمي منزلَ العزاب، وركب من قباء يوم الجمعة يؤم المدينة فجمع في بني سالم، وكانت أول جمعة جمعها في الإِسلام.
الباب العاشر
في ذكر فرح أهل المدينة بقدومه
عن أنس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة لعبت الحبشة بحرابها فرحاً بذلك.(1/194)
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بجوارٍ من الأنصار، وهن يتغنَّين يَقُلْن:
نحن جَوارٍ من بني النجارِ
وحَبَّذا محمدٌ مِنْ جارِ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكُم» .
عن عائشة قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن:
طَلَعَ البدُر عَلينا
من ثَنِيَّات الوداعِ
وجب الشكْرُ عَلَيْنَا
مَا دَعَا لله داعِ
الباب الحادي عشر
في ذكر لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدَالله بن سلاَم حين دخل المدينة
عن عبدالله بن سَلاَم، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس، وكنت فيمن أتى، فلما رأيت وجهه عرفت أنه غير وجه كذاب، فسمعته يقول: «أيُّهَا النَّاسُ، أفْشُوا السَّلاَمَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وأطْعِمُوا الطَّعَامَ، وصَلّوا باللَّيْل والنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلاَمٍ» .
الباب الثاني عشر
في فضل المدينة
عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهُمَّ اجْعَلْ بالمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ البَرَكَةِ» .
وأخرجاه.
وفي أفراد مسلم: من حديث سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ يَثْبُتُ أحدٌ عَلَى لأْوَائِهَا وشِدَّتِهَا إلاَّ كُنْتُ لَه شَفِيْعًا يَوْمَ القِيَامَةِ» .
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن اسْتَطَاعَ أنْ يَمُوتَ بالمَدِيْنَةِ فَليَمُتْ، فَإنَّ منْ مَاتَ بالمَدِيْنَةِ شَفِعْتُ لَه يَوْمَ القِيَامَةِ» .
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بالمَدِيْنَةِ كَصِيَامِ أَلفِ شَهْرٍ فِيْمَا سِوَاهَا، وَصَلاةُ الجُمُعَةِ بالمَدِيْنَةِ كَأَلفِ صَلاَةٍ بِمَا سِوَاهَا» .
عن أبي ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غُبَارُ المَدِينَةِ شِفَاءٌ مِنَ الجُذَامِ» .(1/195)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المَدينَةُ قُبَّةُ الإِسْلاَمِ وَقَلْبُ الإِيْمَانِ، وَمَا بَيْنَ الحَلاَلِ والحَرَامِ» .
الباب الثالث عشر
في ذكر بناء مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته وسار يمشي معه الناس، حتى بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يصلي فيه رجال من المسلمين، وكان مربداً للتمر لسَهل وسُهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت به: «هذا المنزل إن شاء الله» . ثم دعا الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا: بل نهبُه لك يا رسول الله. ثم بناه مسجداً، وطفق ينقل معهم اللبِن في بنائه، ويقول:
هذا الْحِمَال لا حِمَال خَيْبره
هذا أبرُّ رَبَّنا وأَطْهَره
اللهم إن الخيرَ خيرُ الآخره
فارحم الأنصار والمُهَاجره
عن أنس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة) فنزل في حي يقال لهم بنو عمرو بن عوف.
فأقام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم أربع عشرة ليلة، ثم أرسل إلى بني النجار، فجاؤوا بالسيوف، وكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر رِدفه، وملأُ بني النجار حوله، حتى ألقى بفناء أبي أيوب، وكان يحب أن يصلي حيث أدركته الصلاة، ويصلي في مرابض الغنم، وإنه أمر ببناء المسجد، فأرسل إلى بني النجار فقال: «يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا» .
قالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله.(1/196)
قال أنس: فكان فيه ما أقول لكم، كان فيه قبور المشركين وخَرِبٌ، وفيه نخل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنبشت، ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطع، فصفوا النخل قبلةَ المسجد، وجعلوا عضادتيه حجارة، وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون، والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول:
اللهم لا خير إلا خير الآخره
فاغفر للأنصار والمهاجره
عن ابن عمر قال: كان المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً باللبن، وسقفه الجريد، وعمده الخشب من النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئاً، وزاد فيه عمر، وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد، وأعاد عمده خشباً. ثم غيَّره عثمان وزاد فيه زيادة كثيرة، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقَصَّة، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج.
انفرد بإخراجه البخاري.
الباب الرابع عشر
في فضل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ إلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ؛ وَمَسْجِدِي؛ والمَسْجِدُ الأقْصَى، وَصَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنَ أَلفِ صَلاَةٍ فِيْمَا سِوَاهُ إلا المَسْجِدُ الحَرَامُ» .
عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أفْضَلُ مِن ألفِ صَلاَةٍ فِيْمَا سِوَاهُ إلاَّ المَسْجِدُ الحَرَامُ» .
قال ابن عقيل: قوله: «صلاة في مسجدي» إشارة إلى ما كان مسجداً في زمانه لا إلى ما أدخل في المسجد من الزيادة.
عن أبي سعيد قال: تمارَى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء. وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هُوَ مَسْجِدِي» .
أخرجه مسلم.
الباب الخامس عشر
في ذكر ما بين بيته ومنبره صلى الله عليه وسلم(1/197)
عن عبدالله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنَ رِيَاضِ الجَنَّةِ» .
أخرجاه.
عن أبي هريرة وأبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنَ رِيَاضِ الجَنَّةِ، ومِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» .
أخرجاه.
عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا بَيْنَ حُجْرَتِي ومِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الجَنَّةِ، وإنَّ مِنْبَرِي عَلَى تِرْعَةٍ مِن تِرَعِ الجَنَّةِ، وَمَا بَيْنَ المِنْبَرِ وَبَيْتِ عَائِشَةَ رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الجَنَّةِ» .
والترعة: الروضة على المكان المرتفع.
الباب السادس عشر
في ذكر بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنازل أزواجه
عن محمد بن عمر قال: سألت مالك بن أبي الرجاء: أين كانت منازل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؟
فأخبرني عن أبيه عن أمه، أنها كانت كلها في الشق الأيسر إذا قمتَ إلى الصلاة إلى وجه الإِمام في وجه المنبر، هذا أبعدُه.
ولما توفيت زينب بنت خزيمة أدخلَ أمَّ سلمة بيتها.
قال محمد بن عمر: كانت لحارثة بن النعمان منازل قريبة من المسجد وحوله، فكلما أحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلاً تحوَّل له حارثة عن منزله، حتى صارت منازله كلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه.
قال ابن سعد: وأوصت سَوْدة ببيتها لعائشة.
وباع أولياء صفية بنت حُيَي بيتها من معاوية بمائة ألف وثمانين ألف درهم.
واشترى معاوية من عائشة منزلها بمائة ألف وثمانين ألف، وقيل ثمانين ألف. وشرط لها سكناها حياتَها، وحمل إليها المال، فما قامت من مجلسها حتى قسمته.
وقيل: بل اشتراه ابنُ الزبير من عائشة، بعث إليها خمسة أجمال تحمل المال وشرط لها سكناها حياتها، ففرَّقت المال، فقيل لها: لو خبأتِ منه درهماً؟ فقالت: لو ذكَّرتموني فعلتُ.(1/198)
وتركت حفصة بيتها فورثه ابن عمر فلم يأخذ له ثمناً، فأدخل في المسجد.
قال ابن سعد: قال عبدالله بن يزيد الهُذَلي: رأيت منازلَ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حين هدمها عمرُ ابن عبد العزيز وهو أمير المدينة في خلافة الوليد بن عبد الملك وزادها في المسجد، كانت بيوتاً مبنية باللبنِ ولها حُجَر من جريد، عدَدْتُ تسعةَ أبيات بحُجَرها، ورأيت بيتَ أمِّ سلمة وحجرتها من لبن.
قال ابن شهاب: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم دُومَة الجندل؛ بَنَتْ أمُّ سلمة حجرتها بلبن، فلما قدم قال: «مَا هَذا البِنَاء؟» .
فقالت: أردت أن أكفَّ أبصارَ الناس.
فقال: «إنَّ شَرَّ مَا ذَهَبَ فِيهِ مَالُ المَرْءِ المُسْلِمِ البُنْيَانُ» .
وقال عطاء الخراساني: أدركت حُجَر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرتُ كتابَ الوليد يُقْرأ؛ يأمر بإدخال حُجَر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما رأيت يوماً أكثر باكياً من ذلك اليوم
فسمعت سعيد بن المسيَّب يقول يومئذ: والله لودِدْتُ أنهم تركوها على حالها حتى ينشأ أناس من أهل المدينة ويَقْدَم القادم، فيكون ذلك مما يزهِّد الناس في التكاثر والتفاخر
الباب السابع عشر
في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحبِّب الله إلى أصحابه المدينة
عن عائشة قالت: قَدِم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهي وبيئة، فمرض أبو بكر، فكان إذا أخذته الحمَّى يقول:
كلُّ امرىءٍ مُصَبّحٌ في أهله
والموتُ أَدْنَى من شِرَاكِ نَعْلِه
وكان بلال إذا أخذته الحمَّى يقول:
ألا ليت شِعْري هل أبيتنَّ ليلةً
بوادٍ وحَوْلي إذْخرٌ وَجلِيل
وهل أرِدَنْ يوماً مياه مَجَنَّةٍ
وهل يَبْدُوَنْ لي شامةٌ وطَفِيلُ
اللهم العن عتبةَ بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأُمية بن خلف، كما أخرجونا من مكة.(1/199)
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقُوا قال: «اللهُمَّ حَبِّبْ إليْنَا المَدِيْنَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أَشَدُّ، اللهُمَّ صَحِّحْهَا وبَارِك لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا وانْقُل حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالجُحْفَةِ» .
الباب الثامن عشر
في صلاته صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وتحويل القبلة
عن البراء قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوَ بيت المقدس ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً، ثم صُرِفنا إلى الكعبة.
الباب التاسع عشر
في ذكر الوقت الذي حولت فيه
قال محمد بن حَبيب الهاشمي: زار رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ بشر بن البراء بن معرور في بني سَلَمة، وذلك في يوم الثلاثاء للنصف من شعبان، فتغدى هو وأصحابه، وجاءت الظهيرة فصلى بأصحابه ركعتين من الظهر إلى الشام.
ثم أمر أن يستقبل الكعبة، ودارت الصفوف خلفه، ثم أتم الصلاة فسمِّي مسجد القبلتين.
قال الواقدي: كان هذا يوم الاثنين للنصف من رجب على رأس السبعة عشر شهراً.
وقال السُّدِّي: حوِّلت على رأس ثمانية عشر شهراً.
الباب العشرون
في نزول فرض رمضان
عن أبي سعيد الخدري قال: أُنزل فرضُ رمضان بعدما صُرفت القبلة إلى الكعبة بشهر، وأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر قَبْل أن تُفْرضَ الزكاة في الأموال.
الباب الحادي والعشرون
في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُحْرس بالمدينة
عن عائشة قالت: أَرِق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ثم قال: اللهم آتني رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة. إذ سمعتُ صوتَ السلاح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من هذا؟» .
قال سعدُ بن أبي وقاص: أنا يا رسول الله أتيتُ أحرسك.
قالت عائشة: فنام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه.(1/200)
وفي رواية عن عائشة: فنزلت: {س5ش67يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } (المائدة: 67). فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قُبَّة أَدَم وقال: «انْصَرِفُوا أيُّهَا النَّاسُ، فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ تَعَالَى» .
أبواب معجزاته صلى الله عليه وسلم
كانت صورة نبينا صلى الله عليه وسلم وهيئته وسِمَته تدلُّ العقلاء على صِدْقه.
ولهذا قال عبدالله بن سَلاَم: فلما رأيت وجْهَه عرفت أنه ليس بوجه كذاب.
ومَنْ سمع كلامَه ورأى آدابه لم يَدْخله شك.
وكان في صِغره يُعرف بالأمانة، والصدق، وجميل الأخلاق.
وقد قال قيصر في حديث أبي سفيان: لم يكن ليَذَر الكَذِبَ على الناس ويكذب على الله تعالى.
وسنذكر أمهات معجزاته أبواباً إن شاء الله تعالى.
الباب الأول
في ذكر معجزه الأكبر وهو القرآن العزيز
لمَّا غلب السِّحْرُ في زمن موسى عليه السلام جاءهم بجنسه في معجزاته، ففَلَقَ البحر، وألقى العصا.
ولمَّا غلب الطبُّ في زمن عيسى عليه السلام جاءهم بجنسه، فأحيا الموتى، وأَبْرَأَ الأكمة.
ولمَّا غلبت الفصاحة، وقولْ الشعر، والنظم، والنثر في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم جاءهم بالقرآن.
وهو مُعْجزٌ من أوجه:
أحدها: ما اشتمل عليه من الفصاحة والبلاغة في الإِيجاز والإِطالة. فتارةً يأتي بالقصة باللفظ الطويل، ثم يعيدها باللفظ الوجيز، فلا يُخلُّ بمقصود الأولى.
والثاني: مفارقته لأساليب الكلام وأوزان الأشعار.
وبهذين المعنَيَيْن تحدثت العرب، فعجزوا وتحيَّروا وأَقَرُّوا بفضله، حتى قال الوليد بن المغيرة: والله إن له لحلاوةً وإن عليه لطلاوة.(1/201)
عن ابن عباس: أن الوليد بن المغيرة اجتمع هو ونفر من قريش، وكان ذا سنَ فيهم، وقد حضر الموسمُ، فقال: إن وفود العرب ستَقْدَم عليكم وقد سمعوا بصاحبكم هذا، فأَجْمِعُوا فيه رأياً، ولا تختلفوا فيكذِّب بعضكم بعضاً، ويردَّ قول بعضكم بعضاً.
قالوا: أنت فقُلْ وأقم لنا رأياً نقول به.
قال: بل أنتم فقولوا أسمع.
فقالوا: نقول: كاهن.
فقال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان، فما هو بزَمْزَمة الكاهن وسحره.
فقالوا: نقول مجنون.
فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تَخَالجه ولا وسوسته.
فقالوا: نقول شاعر.
قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه، وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.
قالوا: نقول ساحر.
قال: ما هو بساحر، قد رأينا السُّحّار وسحرهم، فما هو بنَفْثه ولا عَقْده.
قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟
قال: والله إن لقوله حلاوة، وإن أصله لمُغْدق وإن فرعه لمثمر، فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول أن تقولوا ساحر. فقولوا هو ساحر يفرِّق بين المرء وزوجه وأخيه.
فتفرقوا عنه بذلك.
وكان النضر بن الحارث بن كَلْدة يقول: يا معشر قريش، لقد نزل بكم أمرٌ ما ابتُلِيتم بمثله، والله ما هو بساحر ولا كاهن ولا شاعر ولا مجنون.
ولما حضر عتبةُ بن ربيعة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه: {حم تَنزيلٌ من الرحمن الرحيم} إلى أن بلغ فقال: {س41ش13فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ }(فصلت: 13)
. فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرَّحِم أن يَكُفَّ، وقال لأصحابه: خِفْتُ أن يَنْزل بكم العذابُ.(1/202)
قال المصنف رحمه الله: فلما تحيَّروا عند سماع القرآن وأدهشهم وسكتوا نودي عليهم بالعجز عن مماثلته، بقوله تعالى: { فَأتوا بسورةٍ مِنْ مثله} ، ثم قال: {س2ش24فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }
(البقرة: 24)
ومعلوم أن النفوس الأبيَّة إذا قُرعت بمثل هذا استفرغت الوُسْع.
فلما عَدَلوا إلى المحاربَة والقتال، ورضوا بسَبْي الذراري وأَخْذ الأموال، عُلم عَجْزهم، وهم معدن البلاغة والفصاحة، والقرآنُ من جنس كلامهم.
ولما أقدم مُقْدِمهم على معارضته نظر إلى السُّورَ القصار فعارضها، لأن تأليف الطوال تبين به الفصاحة الزائدة على الحد.
فعارض سورة الفيل فقال: الفيل وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل وخرطوم طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل. وقال: يا ضفدع تأنيث ضفدعين نُقي كم تنقِّين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الماء تكدِّرين ولا الشراب تمنعين. قال: ومن العجائب شاة سوداء تحلب لبناً أبيض.
فظهرت فضائحهم بمثل هذا، ولو سكتوا كان أصلح لهم.
وممن طُمِس على قلبه أبو العلاء المَعَرِّي، فإنه جمع كلاماً سماه: «الفصول والغايات» يعارض بزعمه السور والآيات، وقد رأيته فما رأيت أبردَ من ذلك الكلام ولا أسمجَ
وقد جعله على حروف المُعْجم في آخر كلماته، فمن حرف الألف: «كان النعال على عصى الطَّلح يعارضون الركائب في الهوادج والظلماء تستغفر لهم، فخَبَّ القمر وضياء الشمس، وهنيئاً لتاركي النُّوق طلائح في غيطان الفلاة يحوم عليها ابن داية، ويطيف بها السرحان، وسنان أوراك، ترد الألبان لبنها أقعد من الغطاء».
وكله من هذا الجنس البارد.
قال ابن عقيل: وحكى لي أبو محمد بن مسلم النحوي قال: كنا نتذاكر إعجازَ القرآن، وكان ثمَّ شيخ كبير الفضل، فقال: ما فيه يَعْجز الفضلاء عنه.(1/203)
ثم ترقى إلى غرفة ومعه صحيفة ومحبرة، ووعد أنه سيناديهم بعد ثلاث أيام بما يَعْلمه مما يضاهي القرآن.
فلما انقضت الأيام الثلاثة، صعد واحد فوجده مستنداً يابساً وقد جفت يده على القلم.
قلت: وقد كان المرتضَى العَلَوي يقول بالصِّرْفة، وأن الله تعالى صرف العرب عن الإِتيان بمثله، لا أنهم عجزوا.
قال ابن عقيل: الصَّرْفُ عن الإِتيان بمثله دالٌّ على أن القدرة لهم حاصلة، فإن كان في الصَّرْف نوعُ إعجاز، إلا أن كونَ القرآن في نفسه ممتنعاً على الإِتيان بمثله لمعنىً نعود إليه أكبرُ في الدلالة وأعلَمُ لفضيلة القرآن.
وما قولُ مَنْ قال بالصِّرْفة إلا بمثابة مَنْ قال: إن عيون الناظرين إلى عصى موسى تخيَّل لهم أنها حية وثعبان، لا أنها في نفسها انقلبت.
قال: والتحدِّي للمصروف عن الشيء لا يَحْسُن، كما لا يُتَحدَّى العَجم بالعربية.
هذا قول ابن عقيل.
وأنا أقول: إنما يُصْرفون عن الشيء بتغيير طباعهم عند نزوله أن يقدروا على مثله.
فهل وجِد لأحد منهم قَبْل الصِّرْفة منذ وجد العرب كلامٌ يقاربه مع اعتمادهم الفصاحة؟
والثالث في معجز القرآن: ما تضمن من أخبار الأمم السالفة وسير الأنبياء التي عرفها أهل الكتب، مع كون الآتي بها أميًّا لا يكتب ولا يقرأ، ولا عُلِم بمجالسة الأحبار ولا الكهان، ومن كان من العرب يكتب ويقرأ ويجالس علماء الأحبار لم يُدْرِك ما أخبر به القرآن.
والرابع: إخباره عن الغيوب المستقبلَة الدالة على صدقه قطعاً لوقوعها على ما أخبر، كقوله: {فتمنَّوا الموت} ثم قال: {س2ش94/ش95قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الأٌّخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ }
(البقرة: 94، 95)(1/204)
وقوله: {فَأْتُوا بسورة مثله} ثم قال: {س2ش23وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }
(البقرة: 23)
فما فعلوا.
وقوله: {س3ش12قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }(آل عمران: 12)
.
وغُلبوا:
وقوله: {س48ش27لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } }
(الفتح: 27)
ودخلوا.
وقوله في أبي لهب: {س111ش3سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ }
(المسد: 3)
وهذا دليل على أنهما يموتان على الكفر، وكذلك كان.
والخامس: أنه محفوظ من الاختلاف والتناقض.
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً. وقال تعالى: {س15ش9إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }
(الحجر: 9)
.
قال ابن عقيل: حفظ جميعه وآياته وسوره التي لا يدخل عليها تبديل، من حيث عجز الخلائق عن مثلها، فكان القرآن حافظ نفسه، من حيث عجز الخلائق عن مثله.
عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنَ الأنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيَ إلاَّ وقَدْ أُعْطِيَ مِنْ الآياتِ مَا آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وإنَّما كَانَ الذي أُوتِيْتُ وَحْياً أوْحَى اللَّهُ عزَّ وَجَلَّ إليَّ، فَأَرْجُوا أنْ أكُونَ أكْثَرُهُمْ تَابِعاً يَوْمَ القِيَامَةِ» .(1/205)
قال أبو الوفا علي بن عقيل: إذا أردت أن تَعْلم أن القرآن ليس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو مُلْقًى إليه، فانظر إلى كلامه كيف يمتاز عن القرآن، وتلمَّح ما بَيْن الكلامين والأسلوبين، ومعلوم أن كلام الإِنسان يتشابه وما للنبي صلى الله عليه وسلم كلمةٌ تُشَاكر نَمَط القرآن.
قال ابن عقيل: ومن إعجاز القرآن أنه لا يمكن أحداً أن يَسْتخرج منه آيةً قد أخذ معناها من كلام قد سبق، فإنه ما زال الناس يَكْشف بعضهم عن بعض فيقال: المتنبي أخذ من البحتري.
قال: وقد سئل علي بن عيسى فقيل له: لو كان هذا الكتاب العزيز يترجم ما الذي كان ينبغي (أن) يترجم به؟
فقال: كان ينبغي أن يترجَم بآية منه لا بشيء من كلامنا.
قالوا: وما هذه الآية التي يترجم بها؟
قال: قوله تعالى: {س14ش52هَاذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُو?اْ أَنَّمَا هُوَ اله وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }(إبراهيم: 52)
قال ابن عقيل: ما أصاب ابنُ عيسى عندي، لأنه إنما يترجم الكتاب تعريفاً لئلا يختلط كتاب بكتاب، فإذا كان هذا الكتاب ممتنع النظير سيوجد النظر في نفسه لا يختلط به غيره، فلماذا يترجم؟
ولو جاز أن يترجم كما تترجم الكتب مع تمييزه بإعجازه وعدم اختلاطه بغيره، وليُعْلم كلام من هو، وتأليف من هو، كعادة آيات الكتب جاز أن يُكتب على جبهة الحيوانات: كالفرس، والبعير، وعلى جبهة الآدمي: هذا صنعة الله
فلمَّا لم يحسن ذلك للعلة التي بيَّنتها بطل أن الترجمة سائغة.
وأنا لا أسوِّغ له ترجمة.
ولو وجدنا هذا المصحف العزيز ملقًى في بَرِّية، ما جاء به أحد، أخبرَنا بما فيه من الدليل أنه من عند الله.
فكيف وقد جاء به المعصوم مؤيداً بالمعجزات؟
قال المصنف رحمه الله: وقد استخرجت معنيين عجيبين:
أحدهما: أن معجزات الأنبياء ذهبت بموتهم، فلو قال ملحدٌ اليوم: أي دليل على صدق محمد وموسى؟(1/206)
فقيل له: محمد شُقَّ له القمر، وموسى شق له البحر.
لقال: هذا محال.
فجعل الله سبحانه هذا القرآن معجزاً لمحمد صلى الله عليه وسلم يَبْقى أبداً، ليظهر دليلُ صِدْقه بعد وفاته، وجعلَه دليلاً على صدق الأنبياء، إذ هو مصدِّق لهم ومخبر حالهم.
والثاني: أنه أخبر أهلَ الكتاب بأن صفة محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبة عندهم في التوراة والإِنجيل، وشهد لحاطب بالإِيمان، ولعائشة بالبراءة، وهذه شهاداتٌ على غيبٍ.
فلو لم يكن في التوراة والإِنجيل صفته كان ذلك منفِّراً لهم عن الإِيمان به، ولو علم حاطب وعائشة من أنفسهما خلافَ ما شهد لهما به نَفَرا عن الإِيمان.
الباب الثاني
في معجزه بشق القمر
قال ابن عباس: اجتمعت المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن كنت صادقاً فشُقَّ لنا القمر فرقتين.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن فعلتُ تؤمنون؟» .
قالوا: نعم.
فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربَّه أن يعطيه ما قالوا.
فانشق القمر فرقتين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي: «يَا فُلاَنُ، يَا فُلاَنُ اشْهَدُوا» .
وذلك بمكة قبل الهجرة.
قال مجاهد: انشق القمر، فوقعت فرقةٌ فوقَ الجبل، وذهبت فرقة من وراء الجبل.
وقال ابن زيد: لما انشق كان يُرى نصفه على قيعان، والنصف الآخر على أبي قبيس.
عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين حتى نظروا إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشْهَدُوا» .
أخرجاه.
وفي لفظ: انشق القمر شقة فوق الجبل وشقة يسترها الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا» .
عن أنس بن مالك: أن أهل مكة سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراءَ بَيْنهما.
قال البخاري: عن ابن عباس: انشق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
أخرجاهما.(1/207)
عن عبدالله قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قوم: هذا سحرٌ سحرهم ابنُ أبي كبشة، فاسألوا الذين يَقْدمون عليكم، فإن كان مثل ما رأيتم فقد صدق، وإلا فهو سحر. فقدموا السُّفار فسألوهم فقالوا: نعم قد رأيناه، قد انشق القمر.
عن ابن عمر في قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْاْ ءَايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُو?اْ أَهْوَآءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأٌّنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِى النُّذُرُ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَىْءٍ نُّكُرٍ * خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأٌّجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنُّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ * فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأٌّرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ * تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن(1/208)
مُّدَّكِرٍ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُو?اْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ
الأٌّشِرُ * إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ * فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ * وَلَقَد يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ * نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ * فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ * وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ * أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا(1/209)
كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَىْءٍ فَعَلُوهُ فِى الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ * إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ }(القمر: 1)
قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين.
الباب الثالث
في إظهار معجزاته صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام
عن جابر بن عبدالله قال: عملنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وكانت عندي شويهة عنز جذعة سمينة فقلت: لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأمرتُ امرأتي فطحنت لنا شيئاً من شعير، وصنعت لنا منه خبزاً، وذبحت تلك الشاة، فشويناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصرافَ عن الخندق، قال: وكنا نعمل فيه نهاراً فإذا أمسينا رجعنا إلى أهلنا، قال: قلت: يا رسول الله، إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، وصنعنا معها شيئاً من خبز الشعير، فأحبُّ أن ينصرف معي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزلي. وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده.
فلما قلت له ذلك قال: «نعم».
ثم أمر صارخاً فصرخ: أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر. قال: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل الناس معه، فجلس فأخرجناها إليه. قال: فبارك وسمَّى ثم أكل. وتواردها الناسُ كلما فرغ قوم قاموا وجاء ناس حتى صَدَر أهلُ الخندق عنها.
أخرجاه.
عن جابر بن عبدالله قال: توفي عبدالله بن عمرو بن حرام، يعني أباه، أو استشهد، وعليه دَين.
فاستعنت برسول الله صلى الله عليه وسلم على غرمائه أن يَضَعُوا من دَيْنه شيئاً، فطلب إليهم فأبوْا.(1/210)
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أصْنَافًا العَجْوَةُ عَلى حِدَةٍ وعَذَقُ (ابنُ) زَيدٍ عَلَى حِدةٍ وأصْنَافَه ثُمَ ابْعَثْ إليَّ» .
ففعلت، فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فجلس في أعلاه أو في وسطه، ثم قال: «كِلْ للقَوْمِ» .
قال: فكِلْت لهم حتى أَوْفَيْتهم، وبقي تمري كأنْ لم ينقص منه شيء.
انفرد بإخراجه البخاري.
عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فأصاب الناس مَخْمصةٌ، فاستأذن الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في نَحْر بعض ظَهْرهم وقالوا: يبلِّغنا الله به.
فلما رأى عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هَمَّ أن يأذن لهم في نحر بعض ظهرهم قال: يا رسول الله، كيف بنا إذا نحن لقينا القوم غداً جياعاً رجالاً؟ ولكن إن رأيت يا رسول الله أن ندعو الناس ببقايا أزوادهم نجمعها لهم، ثم تدعو الله فيها بالبركة، فإن الله تعالى سيبلّغنا بدعوتك. أو قال: سيبارك لنا في دعوتك.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ببقايا أزوادهم، فجعل الناس يَحْثُون بالحثوة من الطعام وفوق ذلك، وكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر.
فجمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: فدعا ما شاء الله أن يدعو، ثم دعا الجيشَ بأوعيتهم، وأمرَهم أن يَحْثوا، فما بقي في الجيش وعاء إلا مملوءة وبقي مثله.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: «أشَهَدُ أنْ لاَ اله إلاَّ اللَّهُ وأَنِّي رَسُولُ الله، لاَ يَلْقَى اللَّهَ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ بِهِمَا إلاَّ حُجِبَتْ عَنْهُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» .
عن عمر بن الخطاب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقلت: يا رسول الله، خرج إلينا الروم وهم شباع ونحن جياع، وأرادت الأنصار أن ينحروا نواضحهم.(1/211)
فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس: «مَنْ كَانَ عِنْدَه فَضْلُ زَادِ فَليَأْتِنَا» .
فحزَرْنا جميعَ ما جاؤوا به فوجدوه سبعاً وعشرين صاعاً.
فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه فدعا فيه ثم قال: «أيُها النَّاسُ، خُذُوا ولا تَنْتَهِبُوا» .
فأخذوه في الجرُب والغرائرِ حتى جعل الرجل يقدُّ قميصه فيأخذ فيه، حتى صَدروا وإنه نحو ما كانوا يحزرون.
عن أبي إياس قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فأصابنا جهد حتى هممنا ننحر بعض ظهرنا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعنا مزاودنا، فبسط له نطعاً، فاجتمع زاد القوم على النطع، فتطاولتُ لأحزره فإذا هو كربضة العنز ونحن أربع عشرة مائة.
قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعاً ثم حشونا جُربنا.
انفرد بإخراجه مسلم.
عن أنس بن مالك قال: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعتُ صوتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء (قالت: نعم). فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها، فلفَّت الخبز ببعضه، ثم دسَّته تحت ثوبي وردَّتني بعضَه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فذهبت به، فوجدت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرْسَلَكَ أبو طَلْحَةَ؟» .
فقلت: نعم.
قال: «بِطَعَامٍ؟» .
فقلت: نعم.
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لمن معه: «قُومُوا» .
فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته. فقال أبو طلحة: يا أم سليم، قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، وليس عندنا من الطعام ما يطعمهم.
فقالت: الله ورسوله أعلم.
قال: فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو طلحة ورسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلُمِّي يَا أمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ» .(1/212)
فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففُتَّ، وعصرت أم سليم عُكَّة لها فآدَمَتْه. ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول: ثم قال: «إئذَنْ لِعَشَرَةٍ» .
فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا فأكل القوم وشبعوا، والقوم ثمانون رجلاً.
أخرجاه.
عن أنس بن مالك قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله، قال: فصنعت أمي أم سليم حَيْسا، فجعلته في تَوْر فقالت: يا أنس، اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام وتقول لك: إن هذا لك منا قليل.
قال: فذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي تقرئك السلام، وتقول لك: إن هذا لك منا قليل.
فقال: «ضَعْهُ» .
ثم قال: «اذْهَبْ فَادْعُ فُلاَناً وفُلاَناً، أو مَنْ لَقِيْتَ» . وسمَّى رجالاً.
قال: فدعوت مَنْ سمَّى ومن لقيت.
قال: قلت لأنس: كما كانوا؟
قال: زهاء ثلاثمائة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أنَسْ، هَاتِ التَّوْرَ» . فدخلوا حتى امتلأت الصُّفة والحجرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لِيَتَخَلَّفْ عَشَرَةٌ عَشَرَةٌ، لِيَأْكُلْ كُلُّ إنْسَانٍ ممَّا يَلِيهِ» .
قال: فأكلوا حتى شبعوا، وخرجت طائفة، ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم.
ثم قال: «يَا أَنَسْ، ارْفَعْ» . فما أدري حين وُضعت (كان) أكثَرَ أم حين رُفِعت؟.
عن عبد الرحمن بن أبي بكر أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هَلْ مَعْ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ؟» فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعُجْن.
ثم جاء رجل مشرك مُشعانٌّ طويل بغنم يسوقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبَيْعًا أم عَطِيَّةً؟» أو قال: «هِبَةً» .
قال: بل بيع.
فاشترى منه شاةً فصُنعت، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يُشْوَى.(1/213)
قال: وايم الله ما من الثلاثين والمائة إلا قد حَزَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَزَّةً من سواد بطنها، إن كان شاهداً أعطاه (إياه) وإن كان غائباً خبأ له. قال: وجعل منها قصعتين.
قال: فأكلنا أجمعون وشبعنا، وفضل في القصعتين، فحملناه على بعير. أو كما قال.
أخرجاه.
عن علي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بني عبد المطلب، ثم دعا بُعس فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كأنه لم يُمسَّ أولُه بشرب، فقال: «يَا بَنِي عَبْدَ المُطَّلِبِ، إنِّي بُعثْتُ إليْكُمْ خَاصَّةً، وإلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَقَدْ رَأيْتُمْ مِنِّي هَذه الآيَةِ، فأيُّكُم يُبَايِعُنِي عَلَى أنْ يَكُونَ أَخِي وَصَاحِبِي؟» .
قال: فلم يقم إليه أحد.
قال: فقمت إليه، وكنت أصغر القوم.
قال: فقال: «اجْلِسْ» . ثم قال: ثلاث مرات، كلُّ ذلك أقوم إليه، فيقول لي: «اجلس» . حتى إذا كانت الثالثة ضرب بيده على يدي.
عن سَمُرة بن جُندب قال: بيْنا نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بقصعة فيها ثريد.
قال: فأكل وأكل القوم، فلم يزالوا يتداولونها إلى قريب من الظُّهر يأكل كل قوم، ثم يجيء قوم فيتعاقبونه.
قال: قال له رجل: هل كانت تُمدُّ بطعام؟
قال: «أمَّا مِنَ الأرْضِ فَلاَ، (إلاَّ) أنْ تَكُونَ كَانَتْ تُمَدُّ مِنَ السَماءِ» .
عن أبي أيوب الأنصاري قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر طعاماً قدرَ ما يكفيهما، فأتيتهما به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذْهَبْ فَادْعُ لِي ثَلاَثِينَ منْ أشْرَافِ الأنْصَارِ» .
قال: فشقَّ ذلك عليَّ، ما عندي ما أزيده.
قال: وكأني تثاقلت.
فقال: «اذْهَبْ فَادْعُ لِي ثَلاَثِينَ منْ أَشْرَافِ الأنْصَارِ» .
فدعوتهم فجاؤوا فقال: اطعَموا، فأكلوا حتى صدَروا، ثم شهدوا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بايعوه قبل أن يخرجوا.
ثم قال: «اذْهَبْ فَادْعُ لِي تِسْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ» .(1/214)
قال: فأنا أخْوفُ بالتسعين والستين منِّي بالثلاثين.
قال: فدعوتهم فأكلوا حتى صَدَرُوا، ثم شهدوا أنه رسول الله وبايعوه قبل أن يخرجوا. قال: فأكل من طعامي ذلك مائةٌ وثمانون رجلاً، كلهم من الأنصار.
عن أبي هريرة قال: نزل بالنبي صلى الله عليه وسلم ضيف، فالتمس له شيئاً يطعمه، فلم يجد له شيئاً، ثم وجد لقمة فجزَّأها أجزاء، ثم أتاه بها فقال: «سَمِّ وَكُلْ» . فأكل وفضلت فضلة، فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لرجل صالح.
الباب الرابع
في ذكر معجزه صلى الله عليه وسلم في تكثير السمن
عن أم أنس بن مالك قالت: كانت لي شاة فجمعت من سمنها ما ملأت به عُكَّة، فقالت: يا زبيبة، امضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه العكة يأتدم بها.
فمضت بها إليه فقالت: يا رسول الله، إن أم سُلَيم أرسلت إليك بهذه العكة لتَأْتَدم بها.
فقال: «خُذُوهَا فَفَرِّغُوهَا وَرُدُّوهَا عَلَيْهَا» .
فانصرفت بها وأمُّ سُلَيم غائبة عن المنزل، فعلقتها على وتد، فلما رجعت أم سُلَيم رأت العكة مملوءة سمناً تَقْطر، فقالت: يا زبيبة، ألم أتقدم إليك بحَمْل العكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت: قد حملتها وإن لم تصدقيني فاسأليه.
فمضت فقالت: يا رسول الله، كنت وجَّهت إليك بعكة سَمْن لتأتدم بها.
قال: «قَدْ وَصَلَتْ» .
قالت: والذي بعثك بالهدى ودين الحق، لقد وجدتها مملوءة سمناً تقطر.
قال: «أفَتَعْجَبِينَ أنْ أَطْعَمَكِ اللَّهُ كَمَا أطْعَمْتِ نِبِيَّه؟ اذْهَبِي فَكُلِي وأطْعَمِي» .
فانصرفتُ ففرغت منها في عكة لنا، وأبقيت ما تأَدَّمنا به شهراً أو شهرين.
عن جابر: أن أم مالك الفِهْرية كانت تهدي في عكة لها سمناً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبَيْنا بنوها يسألونها الإِدامَ وليس عندها شيء، عمدت إلى عُكَّتها التي كانت تُهدي فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدت فيها سمناً، فما زال يَأْدم لها أُدْمَ بيتها حتى عصَرَتْه.(1/215)
فأتت النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعْصَرْتِيه؟» .
قالت: نعم.
قال: «لو تَرَكْتِيه مَا زَالَ ذَلِكَ لَكِ مُقِيْمًا» .
انفرد بإخراجه مسلم.
الباب الخامس
في معجزه صلى الله عليه وسلم في تكثير التمر
عن أبي هريرة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بتمرات فقلت: ادع الله لي فيهن بالبركة.
قال: فصفَّهن بين يديه ثم دعا، وقال لي: «اجْعَلهُنَّ فِي مِزْودِكَ وأدْخِلَ يَدَك ولا تَنْثُرْهُ» .
قال: فحملتُ منه كذا وكذا وسَقاً في سبيل الله، وآكل وأطعم، وكان لا يفارق حِقْوي، فلما قتل عثمان انقطع حقوي فسقط.
عن أبي هريرة قال: أُصبتُ بثلاث: موت النبي صلى الله عليه وسلم وكنت صُويحبه وخويدمه، ومَقْتل عثمان، وبالمِزْود.
قالوا: وما الزود؟
قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابت الناس مَخْمصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أبَا هُرَيْرَةَ، هَلْ مِنْ شَيْءٍ؟» .
قلت: نعم شيء من تمر في مزود.
قال: «فَأْتِني بِه» .
فأتيته به، فأدخل يده، فأخرج قبضةً فبسطها، ثم قال: «ادْعُ لِي عَشَرَةً» .
فدعوت له عشرة، فأكلوا حتى شبعوا. ثم أدخل يده فأخرج قبضةً فبسطها، ثم قال: «ادْعُ لِي عَشَرَةً» فدعوت له عشرة، فأكلوا حتى شبعوا.
فما زال يصنع ذلك حتى أطعم الجيش كله وشبعوا.
ثم قال لي: «خُذْ مَا جِئْتَ بِه، وأدْخِلْ يَدَكَ وَاقْتَصِرْ وَلاَ تَكُبَّهُ» .
قال أبو هريرة: فقبضت على أكثر ما جئت به، أكلت منه حياةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمت، وحياة أبي بكر وأطعمت، وحياة عمر وأطعمت، وحياة عثمان وأطعمت، فلما قتل عثمان انتُهب بيتي فذهب المزود.
عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة وأصابهم عَوَز من الطعام، فقال: «يَا أبَا هُرَيْرَةَ، عِنْدَكَ شَيْءٌ؟» .
قلت: نعم شيء من تمر في مِزْود لي.
قال: «جِيءْ بِه» .(1/216)
فجئت به على النطع فبسطته، فأدخل يده فقبض على التمر، فإذا هو واحد وعشرون تمرة، ثم قال: «بسم الله» . فجعل يضع كل تمرة ويسمِّي حتى أتى على التمر، فقال به هكذا فجمعه.
فقال: «ادْعُ فُلاَناً وأصْحَابَه» . فدعوت فلاناً وأصحابه فأكلوا، وشبعوا، وخرجوا. ثم قال: «ادْعُ فُلاَناً وأصْحَابَه» . فأكلوا وشبعوا وخرجوا.
وفضل تمر، فقال لي: «اقْعُدْ» .
فقعدت، فقال: «كُلْ» . فأكلت وأكل.
وفضل تمر فأدخله في المزود فقال: «يَا أبَا هُرَيْرَةَ، إذَا أرَدْتَ شَيْئاً فَأَدْخِلْ يَدَكَ وَلاَ تَكْفَأ فَيُكْفَأُ عَلَيْكَ» .
قال: فما كنت أريد تمراً إلا أدخلت يدي فأخَذت، ولقد جهزت منه خمسين وسَقاً في سبيل الله، وكان معلقاً خلف رحلي فوقع زمن عثمان فذهب.
عن ابنة بشير بن سعد أخت النعمان بن بشير قالت: بعثتني أمي عَمْرة بنت رواحة، فأعطتني تمراً في ثوبي فقالت: أي بنية، اذهبي إلى أبيك وخالك عبدالله بن رواحة بغدائهما.
فانطلقت بذلك، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألتمس أبي وخالي، فقال: «تَعَالَيْ يَا بُنَيَّةِ مَا هَذَا مَعَكِ؟» .
قلت: يا رسول الله، هذا تمر بعثت به أمي إلى أبي بشير بن سعد وخالي عبدالله بن رواحة يتغدَّيان به.
قال: «هَاتِيْه» .
قالت: فصببته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأهما، وأمر بثوب فبسط ثم دحى التمر عليه، ثم قال لإِنسان: «اصْرُخْ فِي أهَلِ الخَنْدَقِ: هَلُمُّوا إلَى الغَدَاءِ» .
فاجتمع أهل الخندق فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد، حتى صدر عنه أهل الخندق وإنه ليسقط من أطراف الثوب.
الباب السادس
في معجزته صلى الله عليه وسلم في تكثير الماء
عن عِمْران بن حُصَين قال: كنا في سفَر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنا أسْرَينا حتى إذا كنا في آخر الليل وقَعْنا وقعةً، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها، فما أيقظنا إلا حَرُّ الشمس.(1/217)
فكان أول مَنْ استيقظ فلان ثم فلان، كان يسمِّيهم أبو رجاء ونسِيهم عوف، ثم عمر بن الخطاب الرابع.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نام لم يُوقَظ حتى يكون هو يستيقظ لأنا لا ندري ما يَحْدث له في نومه.
فلما استيقظ عمر ورأى ما أصاب الناسَ، وكان رجلاً أجوف جليداً، قال: فكبَّر ورفع صوته بالتكبير، حتى استيقظ بصوته رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوْا إليه الذي أصابهم، فقال: «لاَ ضَيْر أَوْ لاَ تَضَيُّر، ارْتَحِلُوا» .
فارتحلوا فسار غيرَ بعيد، ثم نزل فدعا بالوَضوء، فتوضأ ونودي بالصلاة فصلى بالناس.
فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصلِّ مع القوم، قال: «مَا مَنَعَكَ يَا فُلاَنَ أَنْ تُصَلِّي مَعَ القَوْمِ؟» .
فقال: يا رسول الله، أصابتني جنابة ولا ماء.
قال: «عَلَيْكَ بِالصَّعِيد» .
ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشكا إليه الناسُ العطش، فنزل فدعا فلاناً، كان يسمِّيه أبو رجاءَ ونسيه عَوف، ودعا عليّاً فقال: اذهبا فابغيا لنا الماء.
قال: فانطلقا فلقيا امرأة بين مَزَادتين أو سَطِيحَتَيْن من ماء على بعير، فقالا لها: أين الماء؟
فقالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة ونفرُنا خُلُوف.
فقالا لها: انطلقي إذن.
قالت: إلى أين؟
قالا: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: هذا الذي يقال له الصابىء؟
قالا: هو الذي تَعْنين، فانطلقي.
فجاءا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدَّثاه الحديث، فاستنزلوها عن بعيرها، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء، فأفرغ منه من أفواه المزادتين أو السطيحتين وأَوْكأ أفواههما، وأطلق العَزَالِي، ونودي في الناس: أن اسقوا واستقوا.
فسقَى مَنْ شاء واستقى مَنْ شاء، وكان آخر ذلك أن أعطى الذي أصابته الجنابة إناءً من ماء، فقال: «اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ» .
قال: وهي قائمة تنظر ما يُفعَل بمائها.(1/218)
قال: وأيم الله، لقد أَقْلَع عنها وإنه ليخيَّل إلينا أنها أشدُّ مِلْئةً منها حين ابتدأ فيها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجْمَعُوا لها» .
فجمعوا لها من بين عجوة ودقيقة وسَويقة، حتى جمعوا لها طعاماً كثيراً، وجعلوه في ثوب وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها.
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَعْلمين وَالله ما رَزِئْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئاً، ولكَّنَ الله عزَّ وجَلَّ هو الذي سَقَانَا» .
قال: فأتت أهلها وقد احتبست عنهم، فقالوا: ما حبسك يا فلانة؟
قالت: العجب لقيني رجلان فذهبا بي إلى هذا الذي يقال له الصابىء، ففعل بمائي كذا وكذا، فوالله إنه لأسْحَرُ مَنْ بَيْن هذه وهذه. وقالت بإصبعيها السبابة والوسطى فرفعتهما إلى السماء؛ تعني: السماء والأرض، أو إنه لرسول الله حقاً.
قال: فكان المسلمون يُغيرون على مَنْ حولها من المشركين ولا يصيبون الصِّرْمَ الذي هي منه، فقالت يوماً لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يَدَعونكم عَمْداً، فهل لكم في الإِسلام؟
فأطاعوها فدخلوا في الإِسلام.
أخرجاه.
عن البراء قال: انتهينا إلى الحُدَيبية، وهي بئر قد نُزحت، ونحن أربع عشرة مائة.
قال: فنزع منها دلواً، فتمضمض النبي صلى الله عليه وسلم منه ثم مجَّه فيه ودعا. قال: فروَيْنا وأَرْوَيْنا.
عن المِسْوَر بن مَخْرمة، ومروان بن الحكم قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمان الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، حتى إذا كانوا بذي الحُلَيفة قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهَدْي وأَشْعره وأَحْرم بالعُمرة، فسار يَعْدِل بهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمَد قليل الماء يتبرَّضه الناس تبرُّضاً، فلم يُلْبثه الناسُ أن نزحوه.
فشكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطشَ، فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه.
قال: فوالله ما زال يجيش لهم بالرِّي حتى صدَروا عنه.(1/219)
عن البراء قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير، فأتينا على ركًى زمَّة، يعني قليلة الماء فنزل فيها ستة أنا سادسهم، فأُدليت إلينا دلو ورسول الله صلى الله عليه وسلم على شقة الركَى، فجعلنا فيها نصفها أو قريب ثلثها، فرُفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغمس يده فيها وقال ما شاء الله أن يقول، فعادت إلينا الدلو بماءٍ فيها.
قال: فلقد رأيت أحدنا أخرج بثوب خشية الغرق.
قال: ثم ساحت حتى جرت نهراً.
عن زياد بن الحارث الصُّدائي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإِسلام، ثم أتى وفدٌ من قومي بإسلامهم، فقالوا يا رسول الله، إن لنا بئراً إذا كان الشتاء وسَعنا ماؤها فاجتمعنا إليه، فإذا كان الصيف قلَّ ماؤها فتفرقنا على مياه حولنا، وإنا لا نستطيع أن نتفرق اليوم، كلُّ من حولنا لنا عدُو، فادع الله أن يسعنا ماؤها، فدعا بسبع حصيات ففرقهن في يده ودعا ثم قال: «إذَا أَتَيْتُمُوهَا فَأَلْقُوهَا وَاحِدَةً وَاذْكُرْوا اسْمَ الله تَعَالَى» . فما استطاعوا أن ينظروا إلى قعرها بعد.
عن أبي إياس قال: جاء رجل بإداوة فيها نقطة من ماء، فأفرغها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدح، فتوضأنا كلنا نُدَغْفِقه دَغْفَقَةً أربع عشر مائة، ثم جاء بعدُ ثمانية، فقالوا: هل من طهُور؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَدْ فَرَغَ الوَضُوءُ» .
انفرد بإخراجه مسلم.
عن أبي قتادة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إِنَّكُمْ تَسِيْرُونَ عَشِيَّتَكُم وَلَيْلَتَكُمْ، وَتَأْتُونَ المَاءَ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ» .
فانطلق الناسُ لا يَلْوي أحد على أحد، فَبَيْنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابْهارَّ الليل وأنا إلى جَنْبه، فنعس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فمال عن راحلته، فأتيت فدَعَمْته قبل أن أوقظه حتى اعتدل على راحلته.(1/220)
ثم سار حتى تهوَّر الليلُ، فمال عن راحلته فدَعَمْته من غير أن أوقظه حتى اعتدل.
ثم سار حتى كان من آخر السَّحَر مال مَيْلةً أشد من (الميلتَيْن) الأولتين حتى كاد يَنْجفل، فأتيته فدعَمْته.
فرفع رأسه فقال: «مَنْ هَذا؟» .
قلت: أبو قتادة.
قال: «مَتَى كَانَ هَذا مَسِيرُكَ مِنِّي؟» .
قال: ما زال هذا مسيري منذ الليلة.
قال: «حَفِظَكَ (اللَّهُ) بِمَا حَفِظْتَ بِه نَبِيَّه» .
ثم قال: «هَلْ تَرَانَا نَخْفَى عَلَى النَّاسِ؟» ثم قال: «هَلْ تَرَى مِنْ أَحَدٍ؟» .
قلتُ: هذا راكب. ثم قلت: هذا راكب آخر حتى اجتمعنا فكنا سبعة رَكْب.
فمالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الطريق، فوضع رأسه (ثم) قال: «احْفَظْ عَلَيْنَا صَلاَتَنَا» .
فكان أول مَنْ استيقظ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والشمسُ في ظَهْره، فقُمْنا فَزِعين، ثم قال: «اركبوا» .
فركبنا فسِرْنا حتى إذا ارتفعت الشمس نزل فدعا بمِيضأة كانت معي فيها شيء من ماء، فتوضأ منها، وبقي فيها شيء من ماء، ثم قال لأبي قتادة: «احْفَظْ عَلَيْنَا مِيضَأَتِكَ فَسَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ» .
ثم أذَّن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، ثم صلى الغداة فصنع كما (كان) يصنع كل يوم وركب وركبنا معه.
فجعل بعضنا يهمس إلى بعض: ما كفارةُ ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟
فقال: «أمَا لَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ؟» ثم قال: «أَمَا إِنَّه لَيْسَ التَّفْريْطُ فِي النَّوْم، إنَّمَا التَّفْرِيْطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلاَةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلاَةِ الأُخْرَى، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيَصَلِّهَا حينَ يَنْتَبِه لَهَا» .
فانتهينا إلى الناس وهم يقولون: يا رسول الله، هلكنا عطشاً.
فقال: «لاَ هُلْكَ عَلَيْكُم» .(1/221)
ثم قال: «أطْلِقُوا لِي غُمَرِي» . ودعا بالميضأة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب، وأبو قتادة يسقيهم، فلم يعْدُ أن رأى الناس ماءً في الميضأة فتكابُّوا عليها، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَحْسِنُوا المَلأَ كُلُّكُم سَيَرْوَى» .
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبُّ وأسقيهم، حتى ما بقي غيري وغيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم صبَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: «اشْرَبْ» .
قلت: لا أشرب حتى يشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: «إنَّ سَاقِي القَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْباً» .
فشربتُ وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى الناس (الماءَ) جامِّين رِوَاءً.
الباب السابع
في ذكر نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان بالزَّوراء، فأتي بإناء فيه ماء لا يَغمْر أصابعه، فأمر أصحابه أن يتوضؤوا، فوضع كفه في الماء، فجعل الماء يَنْبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه، حتى توضأ القوم.
فقلت لأنس: كم كنتم؟ قال: كنا ثلاثمائة.
أخرجاه.
عن عبدالله قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس معنا ماء، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اطْلُبُوا مَنْ مَعَه مَاءٌ» .
ففعلنا، فأتي بماء، فصبه في إناء، ثم وضع كفه فيه، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه. ثم قال: «حَيِّ عَلَى الطَّهُورِ المُبَارَكِ، وَالبَرَكَةُ مِنَ الله» . فملأتُ بطني منه واستقى الناس.
أخرجه البخاري.
عن ابن عباس قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في العسكر ماء، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، ليس في العسكر ماء.
قال: «هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ؟» .
قال: نعم.
قال: «فَأْتِنِي بِه» .
قال: فأتاه بإناء فيه شيء من ماء قليل.(1/222)
قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في فم الإِناء وفتح أصابعه، فانفجرت من أصابعه عيون، وأمر بلالاً فقال: «نَادِ فِي النَّاسِ الوَضُوءُ المُبَارَكُ» .
عن عبدالله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفَر، فلم يجدوا ماء فأتي بتَوْر من ماء، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم فيه يده وفرَّج بين أصابعه قال: فرأيت الماء يتفجر من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: «حَيِّ عَلَى الوَضُوءِ والبَرَكَةُ مِنَ الله تَعَالَى» .
قال الأعمش: فأخبرني سالم بن أبي الجَعْد قال: قلت لجابر بن عبدالله: كم كان الناس يومئذ؟ قال:
قال: كنا ألفاً وخمسمائة.
أخرجه البخاري.
عن جابر قال: عطش الناس يوم الحديبية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه رَكْوة، فتوضأ منها ثم أقبل على الناس نحوه فقال: «مَا لَكُم؟» .
قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ما يتوضأ به ولا نشرب إلا ما في ركوتك.
فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون.
قال: فشربنا وتوضأَنا، فقلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟
قال: لو كنا مائة (ألف) لكفانا، كنا خمس عشرة مائة.
أخرجاه.
عن جابر قال: أتينا العسكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا جَابِرْ، نَادِ تَوَضَّؤُوا» .
فقال: «ألا وَضُوء ألا وضوء».
فقلت: يا رسول الله، ما وجدت في الركب من قَطْرة، وكان رجل من الأنصار يُبْرد لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماءَ في أَشْجَاب له، فقال لي: «انْطَلِقْ إِلَيْه» .
فانطلقت فلم أجد إلا قطرة في عزلاءَ شَجْبٍ لو أني أفرغه لشربه يابسه، فقال: «اذْهَبْ فَأتِنِي بِه» .
فأخذه بيده فجعل يتكلم بشيء ما أدري ما هو ويغمزه بيده، ثم أعطانيه، وقال: «يَا جَابِر، نَادِ بِجَفْنَةٍ» .(1/223)
فقلت: يا جفنةَ الرَّكبِ. فأتيت بها تُحْمل، فوضعها بين يديه، فقال بيده في الجفنة، فبسطها وفرَّق بين أصابعي، ثم وضعها في قعر الجفنة وقال: «يَا جَابِرْ، صُبَّ عَلَيَّ وَقُلْ بِسْمِ الله» . فصببت عليه وقلت: بسم الله.
فرأيت الماء يفور من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، ثم فارق الجفنة ودارت حتى امتلأت فقال: «يَا جَابِرْ، نَادِ مَنْ كَانَ لَه حَاجَةٌ بِمَاءٍ» .
فأتى الناس فسقوا حتى رووا، ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه من الجفنة.
الباب الثامن
في معجزه صلى الله عليه وسلم في تكثير اللبن
عن أبي هريرة قال: والله إني كنت لأعتمد على كبدي بالأرض من الجوع، ولقد قعدت على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرَّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليَسْتَتْبعني، فلم يفعل. فمرَّ عمر فسألته فلم يفعل.
فمر أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فعرف ما بوجهي وما في نفسي، فقال: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» .
فقلت: لبَّيك يا رسول الله.
قال: «إلحقْ» . فاتَّبعته، فاستأذنت فأذن لي، فوجد لبناً في قدح فقال: «مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا اللَّبَنُ؟» .
فقالوا: أهداه فلان وآل فلان.
قال: «أَبَا هِرَ» .
قلت: لبَّيك يا رسول الله.
قال: «انْطَلِقْ إلَى أَهْلِ الصُّفَّة» .
قال: وأهلُ الصُّفة أضياف الإِسلام، لم يأووا إلى أهل ولا مال، إذا جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم هديةٌ أصاب منها وبعث إليهم منها، وإذا جاءته الصدقة أرسل بها إليهم ولم يُصِبْ منها.
قال: فأحْزنني ذلك، وكنت أرجو أن أصيب من اللبن شربةً أتقوَّى بها بقيةَ يومي وليلتي، فقلت: أنا الرسول إذا جاء القوم كنت أنا الذي أعطيهم، فما يبقى لي من هذا اللبن.(1/224)
ولم يكن بدٌّ من طاعة الله وطاعة رسوله، فانطلقت فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت، ثم قال: «أَبَا هِرَ، خُذْ فَأَعْطِهِم» . فأخذت القدح فجعلت أعطيهم، فيأخذ الرجل القدح فيشرب حتى يروي ثم يردُّ القدح، وأعطيه الآخر فيشرب حتى يروي ثم يرد القدح، حتى أتيت على آخرهم.
ودفعته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ القدح، فوضعه في يده وبقي فيه فضلة، ثم رفع رأسه فنظر وتبسم وقال: «أَبَا هِرَ» .
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: «بَقِيْتُ أَنَا وَأَنْتَ» .
فقلت: صدقت يا رسول الله.
قال: «اقْعُدْ وَاشْرَبْ» .
قال: فقعدت فشربت. ثم قال لي: «اشْرَبْ» . فشربت. فما زال يقول اشربْ وأشربُ حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد لها فيَّ مسلكاً.
قال: «نَاوِلْنِي القَدَحَ» . فرددت إليه القدح فشرب الفضلة.
عن نافع وكانت له صُحْبة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكنا زُهَاء أربعمائة رجل، فنزلنا في موضع ليس فيه ماء، فشقَّ ذلك على أصحابه، فقالوا: يا رسول الله، العطش.
قال: فجاءت شُوَيهة لها قرنان، فقامت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلبها، فشرب حتى رُوي وسقى أصحابه حتى رُووا، ثم قال: «يَا نَافِعُ، امْلِكْهَا اللَّيْلَةَ وَمَا أَرَاكَ تَمْلِكُهَا» .
قال: فأخذتُهَا فوتدت لها وتداً، ثم ربطتها بحبل، ثم قمت في بعض الليل فلم أر الشاة، ورأيت الحبل مطروحاً، فجئت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته من قبل أن يسألني، فقال لي: «يَا نَافِعُ، ذَهَبَ بِهَا الذي جَاءَ بِهَا» .
الباب التاسع
في ظهور معجزته صلى الله عليه وسلم بمجيء الشجر إليه
عن يَعْلى بن مُرَّة الثقفي قال: بَيْنَا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنزلنا منزلاً فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيَتْه، ثم رجعت إلى مكانها.(1/225)
فلما استيقظ ذكرت ذلك له فقال: «هِيَ شَجَرةٌ اسْتَأذَنَتْ رَبَّها عَزَّ وَجَلَّ في أَنَّ تُسَلِّمَ عَلَيَّ فَأَذِنَ لَهَا» .
عن يعلى بن مرَّة قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إلى الجبانة حتى أبَرزْنا.
قال: «وَيْحَكَ، انْظُرْ هَلْ تَرَى من شَيْءٍ يُوَارِيْنِي؟» .
قلت: ما أرى شيئاً يواريك إلا شجرة ما أراها تواريك.
قال: «فَمَا قُرْبُها؟» .
قلت: شجرة مثلها أو قريباً منها.
قال: «فَاذْهَبْ إليْهِمَا فَقُل: إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَأمُرَكُمَا أنْ تَجْتَمِعَا بِإذْنِ الله تَعَالَى» .
قال: فاجتمعتا، فبرز لحاجته، ثم رجع فقال: «اذْهَبْ إليْهِمَا فَقُل لَهُمَا: إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَأْمُرَكُمَا أنْ تَرْجِع كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا إلَى مَكَانِهَا» فرجعت.
عن جابر بن عبدالله قال: سِرْنَا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا وادياً أفْيَحَ، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير شيئاً يستتر به، وإذا شجرتان بشاطىء الوادي، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها فقال: «انْقَادِي مَعِي بِإذْنِ الله تَعَالَى» . فانقادت معه كالبعير المَخْشوش الذي يصانع قائدَه، حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال: «انْقَادِي عَلَيَّ بِإذْنِ الله تَعَالَى» . فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما لام بينهما فقال: «إلتَئِمَا بِإذْنِ الله تَعَالَى عَلَيَّ» . فالتأمتا.
قال جابر: فخرجت أَحْضر مخافة أن يحسَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقُرْبي فيبتعد، فجلست فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً وإذا الشجرتان قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق.(1/226)
عن جابر قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئنا حتى نزلنا موضعاً ليس فيه شجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا جَابِرُ، اتْبَعْنِي بِمَاءٍ» .
فاتبعته حتى انتهينا إلى موضع فيه شجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا جَابِرُ، ايْتِ هَاتَيْنِ الشَجَرَتَيْنِ فَقُلْ لَهُمَا: إنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقولُ لَكُمَا انْضَمَّا» .
فأقبلتا تَخُدَّان الأرضَ خدّاً حتى انضمَّتا، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «يَا جَابِرُ، ايْتِهِمَا فَقُل لَهُمَا يَعُودَانِ إلَى مَوْضِعِهِمَا» .
عن ابن بُرَيْدَة عن أبيه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قد أسلمتُ فأرني شيئاً أزدد به يقيناً.
قال: «فَمَا الذي تُريْدُ؟» .
قال: ادع تلك الشجرة فلتأتك.
قال: «اذْهَبْ فَادْعُهَا» .
فأتاها الأعرابي فقال: أجيبي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. فمالت على جانب من جوانبها فقَطعت عروقَها، ثم مالت على الجنب الآخر فقطعت عروقها، حتى أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: السلام عليك يا رسول الله.
فقال الأعرابي: حسبي حسبي.
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «ارْجِعِي» . فرجعت فجلست على عروقها.
عن ابن عمر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأقبل أعرابي، فلما دنا منه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ تُريْدُ؟» .
قال: إلى أهلي.
قال: «فَهَلْ لَكَ في خَيْرٍ؟» .
قال: وما هو؟
قال: «تَشْهَدُ أنْ لاَ اله إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه» .
قال: ومن يشهد (على) ما تقول؟
قال: «هَذِهِ الشَّجَرَةُ» .(1/227)
فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بشاطىء الوادي، فأقبلت تخدُّ الأرضَ خدًّا، حتى قامت بين يديه فاستشهدها ثلاثاً أنه كما قال. ثم رجعت إلى منبتها. ورجع الأعربي إلى قومه وقال: إن اتَّبعوني أتيتُك بهم، وإلا رجعت فكنت معك.
عن ابن عباس، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، بم أعرف أنك رسول الله؟
قال: «أَرَأيْتَ إنْ دَعَوْتُ هَذا العِذْقَ مِن هَذِهِ النَّخْلَةِ فَجَاءَ، تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ الله؟» .
قال: نعم.
فدعاه فجعل ينزل من النخلة حتى سقط في الأرض ثم جعل يَنْقزُ حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: «عُدْ» . فعاد إلى مكانه.
قال: أشهد أنك رسول الله. وآمن.
عن أبي عبيدة بن عبدالله قال لي مسروق: أخبرني أبوك أن شجرة أنذرت النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالجن.
فإن قال أهل الإِلحاد: هذا سحر.
قلنا: السحر خيال وشعبذة لا حقيقة.
قال الله تعالى: {س20ش66قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى }
(طه: 66)
قال ابن عقيل: لو كان السحر قَلْباً للأعيان لساوَى الإِعجازَ وتعذر علينا العلمُ بصدق الصادق، لأن الله سبحانه لم يجعل لنا طريقاً إلى العلم إلا كون المعجز دالاًّ على الصدق بكونه معجزاً عنه، فمتى قلنا إن الساحر يَقْلب الأعيان كما نقول في حق النبي صلى الله عليه وسلم لم تَبْق ميزة، وانسدَّ الطريق إلى حصول التحقيق.
قال: فإن قال قائل: فأيُّ ثقة تبقى لنا بالمدرَكات مع قوله: {س4ش157وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً }(النساء: 157)
. وقد أخبر عز وجل أن المقتول غيره؟(1/228)
فالجواب: أن القادر سَلَب حينئذ المداركَ حسبَ الأصلح، على ما اقتضت الحكمة صيانته، وتعجيز الكفار عما عزموا عليه، ولو عُدمت الثقة بالمدارك جاز عدم الثقة بحلاوة العسل، لمَا يتطرَّق من الغرض من المطاعم والأمزجة، فيدْرَك في حالٍ مُرًّا.
فإن قال قائل: فما فائدة وقوع ما يجانس المعجزةَ من السَّحر، والكهانة، وغير ذلك.
فالجواب: أن المراد التكليف، لتخليص المعجزة من الشعبذة ليَحْظَى الفارقُ بثواب الاجتهاد، وما يزال السحرة يطعن بعضهم في بعض، والرسلُ متساعدون.
الباب العاشر
في تحرُّك الجبل لأجله وسكونه لأمره صلى الله عليه وسلم
عن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حِرَاء، فتحرك الجبلُ فضربه برجله، ثم قال: «اسْكُنْ حِرَاءُ، فَإنَّه ليْسَ عَلَيْكَ إلا نَبيٌّ، أو صِدِّيقٌ، أوْ شَهِيدٌ» .
ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطَلْحَة، والزُّبيرَ، وسعد، وعبد الرحمن، ولو شئت أن أسمي التاسع لسمَّيْتُ.
فأكثروا عليه: أخبرْنا.
فقال: أنا.
الباب الحادي عشر
في ذكر شكوى البهائم إليه وذل المستصعب منها له صلى الله عليه وسلم
عن (عبدالله بن) جعفر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً حائطاً من حيطان الأنصار وإذا جمل، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حنَّ وذرفت عيناه، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم سراته وذِفراه، فسكن، فقال: «مَنْ صَاحِبُ الجَمَلِ؟» .
فجاء فتًى من الأنصار، فقال: هو لي يا رسول الله.
قال: «ألا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ البَهِيْمَةِ التِي مَلَّكَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، إنَّه شَكَى إليَّ أنَّكَ تُجِيْعُه وتُدْئبُهُ» .
انفرد بإخراجه مسلم.
عن يَعْلى بن مرَّة قال: كنت جالساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ جاء جمل فخبت حتى ضرب بجرانه بين يديه، ثم ذرفت عيناه، فقال: «وَيْحَكَ، انْظُرْ لِمَنْ هَذا الجَمَلُ، إنَّ لَه لَشَأْنًا» .(1/229)
فخرجت ألتمس صاحبَه، فوجدته لرجل من الأنصار فدعوته إليه.
فقال: «مَا شَأْنُ جَمَلِكَ هَذا؟» .
قال: لا أدري والله ما شأنه، عملْنا عليه حتى عجز عن السقاية، فائتمرنا البارحةَ أن ننحره ونقسِّم لحمه.
قال: «فَلاَ تَفْعَلْ، هَبْهُ لِي أو بِعْنِيْه» .
قال: بل هو لك يا رسول الله.
قال: فوسَّمه بميسم الصدقة، ثم بعث (به) إليه.
عن أنس قال: كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يَسْنُون عليه، وإن الجمل استصعب عليهم فمنعهم ظهره، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه استصعابه، وقالوا: قد عطش الزرع.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «قُوْمُوا» .
فقاموا فدخلوا الحائط والجمل في ناحيته. فمشى النبي صلى الله عليه وسلم نحوه فقالت الأنصارية: إنه يا نبي الله قد صار مثل الكلب، وإنا نخاف عليك صولتَه.
فقال: «لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ» .
فلما نظر الجمل إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أقبل نحوه حتى خرَّ ساجداً بين يديه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بناصيته أذلَّ ما كان حتى أدخله في العمل.
فقال له أصحابه: يا نبي الله، هذا بهيمة لا يعقل يسجد لك، ونحن نعقل فنحن أحق أن نسجد لك.
قال: «لاَ يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلُحَ أنْ يَسْجُدَ بَشَرٌ لِبَشَرٍ؛ لأَمَرْتُ المَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عُظْمِ حَقِّه عَلَيْهَا» .
عن جابر بن عبدالله قال: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من سفر حتى إذا دفعنا إلى حائط من حيطان الأنصار، وإذا فيه جمل لا يدخل الحائط أحد إلا شدّ عليه.
قال: فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فجاء حتى أتى الحائط، فرغا البعير وجاء واضعاً شَفْره إلى الأرض، حتى برك بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَاتُوا خِطَامًا» فخطمه، ودفعه إلى صاحبه.(1/230)
قال: ثم التفت إلى الناس فقال: «إنَّه لَيْسَ شَيْءٌ بينَ السَّمَاءِ والأَرْضِ إلاَّ يَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ عَاصِي الجِنِّ والإِنْسِ » .
عن جابر قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فإذا جمل بادٍ حتى إذا كان بين السماطين خرَّ ساجداً.
فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للناس: «مَنْ صَاحِبُ الجَمَلِ؟» .
فإذا فِتْية من الأنصار قالوا: هذا لنا يا رسول الله.
قال: «فَمَا شَأْنُه؟» .
قالوا: سنَيْنا عليه منذ عشرين سنة، وكانت به شحمة، فأردنا أن ننحره فنقسمه بين غلماننا فانفلت منا.
قال: «تَبِيْعوُنِيْه؟» .
قالوا: لا، بل هو لك يا رسول الله.
قال: «أَمَا لاَ فَأَحْسِنُوا إِليْهِ حَتَّى يَأْتِيه أَجَلُه» .
فقال المسلمون عند ذلك: يا رسول الله، نحن أحق بالسجود لك من البهائم.
قال: «لا يَنْبَغِي أنْ يُسْجَدَ لِشَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ النِّسَاءُ لأَزْوَاجِهِنَّ» .
وفي رواية أخرى، أنه قال: «إنَّ بَعِيرَكُمْ هَذَا يَشْكُوكُمْ، يَزْعُمُ أنَّكُمْ اسْتَعْمَلْتُمُوهُ شَابًّا حتَّى إذَا كَبِرَ أرَدْتُمْ نَحْرَهُ» .
الباب الثاني عشر
في ذكر معجزته صلى الله عليه وسلم التي ظهرت في المركوب
عن أنس قال: فزع أهل المدينة ليلةً، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل الصوت على فرس عُرْيٍ لأبي طلحة، ورجع وهو يقول: «لَنْ تُرَاعُوا» .
قال أنس: وكان الفرس يُبَطَّأَ، فما سُبق بعد ذلك.
عن جابر قال: كنت أسير على جمل فأعْيَا، فأردت أن أسيبَّه، فلحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربه برجله ودعا له، فسار سيراً لم يَسِرْ مثلَه.
أخرجاهما.
الباب الثالث عشر
في رميه صلى الله عليه وسلم في وجوه المشركين بكفَ من تراب فملأ أعينهم(1/231)
عن أنس قال: انهزم المسلمون بحنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء وكان يسميها «دُلدُل»، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دُلدُل البَدِي» . فألزقت بطنها بالأرض، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من تراب، فرمى بها في وجوههم، وقال: «حم لا يُنْصَرُون» فانهزمَ القومُ، وما رمَيْنا بسهم ولا طعنَّا برمح.
وفي رواية: فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينه تراباً.
وسنذكر طرق هذا الحديث في غزاة حنين إن شاء الله تعالى.
الباب الرابع عشر
في إشارته صلى الله عليه وسلم إلى الأصنام فوقعت
عن عبدالله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم (مكة يوم الفتح) وحولَ الكعبة ستون وثلاث مائة صنم، فجعل يطعنها بعودٍ في يده ويقول: «جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِل كَانَ زَهُوقًا» .
أخرجاه.
عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وحول البيت ثلاث مائة وستون صنماً، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيب، فجعل يشير إليها ويقول: «جَاءَ الحَقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ، إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً، جَاءَ الحَقُّ وما يُبْدِىءُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيْدُ» . فجعلت تستلقي من غير أن يمسَّها.
الباب الخامس عشر
في إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغائبات
قال المصنف رحمه الله: قد سبق ذكر أشياء منها: أنه أخبر بأن الأرضة أكلت ما في الصحيفة التي كتبها المشركون بالبراءة من بني هاشم من ظلم وجَوْر.
عن جابر بن سَمُرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لتَفْتَحَنَّ عِصَابَةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ كَنْزَ آلِ كِسْرَى الذي فِي القَصْرِ الأبْيَضِ» .(1/232)
عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَه، وإذا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَه، والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه لتُنْفَقَنَّ كُنُوزِهِمَا فِي سَبِيْلِ الله» .
عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله: «إذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلاَ كِسْرَى بَعْدَه، وإذا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَه، وَايْمُ الله لتُنْفَقَنَّ كَنْزَهُمَا فِي سَبِيْلِ الله» .
أخرجاهما في الصحيحين.
قال المصنف رحمه الله: وربما أشكل هذا الحديث وقال قائل: فقد مَلَك بعد كسرى وقيصر جماعة سُمُّوا بهذا الاسم، فإنَّ كلَّ ملِك كان لفارس يسمَّى كسرى، وكل ملك كان للروم يسمى قيصر.
فالجواب: أنه ما مَلَك مَن كان لمِلْكه طائل ولا ثبوت، وما زال مُلْكهم متزلزلاً حتى انمحق.
عن أنس قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة، فتراءينا الهلال وكنت حديدَ البصر فرأيته، فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟
قال: سأراه وأنا مستلقٍ على فراشي.
ثم أخذ يحدثنا عن أهل بدر، قال: إنْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيُرينا مصارعهم بالأمس يقول: «هذا مَصْرَعُ فُلانٌ غَدَاً إنْ شَاءَ اللَّهُ، وهَذا مَصْرَعُ فُلاَنٌ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ» .
قال: فجعلوا يُصْرعون عليها.
قال: قلت: والذي بعثك بالحق ما أخطؤوا تيك، كانوا يصرعون عليها.
انفرد بإخراجه مسلم.
عن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال لرجل ممن يدَّعي الإِسلام: «هَذا مِنْ أَهْلِ النَّارِ» .
فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً، فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله، الرجلُ الذي قلتَ إنه من أهل النار فإنه قاتل اليوم قتالاً شديداً وقد مات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إلَى النَّارِ» .(1/233)
فكاد بعض القوم أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت ولكن به جراح شديد. فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «اللَّهُ أكْبَرُ، أشْهَدُ أنِّي عَبْدُ الله وَرَسُولُه» . ثم أمر بلالاً فنادى في الناس: «إنَّه لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، فإنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذا الدِّيْنَ، بالرَّجُلِ الفَاجِرِ» .
أخرجاه من حديث سهل بن سعد.
عن أبي حُميد الساعِدي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ تبوك فقال: «إنَّهَا سَتَهِبُّ عَلَيْكُمْ رِيْحٌ شَدِيْدَةٌ، فَلا يَقُومَنَّ فِيهَا رَجُلٌ، ومَنْ لَه بَعيْرٌ فَلْيُوثِقْ عِقَالَه» .
قال أبو حميد: فعقلناها، فلما كان من الليل هبَّت علينا ريح شديدة، فقام فيها رجل فألقته في جبل طيىء.
أخرجاه.
عن ثَوْبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا ومَغَارِبَهَا، وإنَّ مُلْكَ أمَتِّي سَيَبْلُغُ مَا زُوِيَ لِيْ مِنْهَا، وإنِّي أُعْطِيْتُ الكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ والأَبْيَضَ» .
قال المصنف رحمه الله: هذا قاله وهو محسورٌ ولا سلطان له على بلد، فكان كما قال، وقد بلغ ملكُ أمته من أول المشرق من بلاد الترك إلى آخر المغرب من بلاد البربر وبحر الأندلس.
عن أبي سعيد الخدري قال: أخبرني أبو قتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: «تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ» .
انفرد بإخراجه مسلم.
عن أبي ذر قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع في المسجد، فغمزني برجله، فاستويت جالساً فقال لي: «يَا أبَا ذَرٍ، كَيْفَ تَصْنَعُ إذَا أُخْرِجْتَ مِنْهَا؟» .
فقلت: أرجع إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى بيتي.
قال: «فَكَيْفَ تَصْنَعُ إذَا أُخْرِجْتَ مِنْهُمَا» .(1/234)
فقلت: إذن آخذ سيفي أضرب به مَنْ يخرجني.
فقال: «عَقْراً بَلْ تُقَادُ مَعَهُم حَيْثُ قَادُوكَ، وتُسَاقُ مَعَهُمْ حَيْثُ سَاقُوكَ وَلَوْ عَبْدٌ أَسْوَدٌ» .
قال أبو ذر: فلما نُفِيت إلى الربذة أقمت الصلاة، فتقدم رجل أسود كان على نعَمَ الصدقة، فلما رآني أخذ ليرجع وليقدِّمني، فقلت: كما أنت، بل أنْقاد لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن أبي هريرة قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: «مَنْ يُبْسُطُ ثَوْبَه حتَّى أَفْرَغَ مِنْ حَدِيثِي ثُمَّ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ، فَإنَّه لَيْسَ يَنْسَى شَيْئاً سَمِعَه مِنِّي أبَداً» .
قال: فبسطت ثوبي، أو قال: نَمرتي، ثم حدَّثنا، فقبضته إليّ، فوالله ما نسيت شيئاً سمعته منه.
أخرجاه.
عن عبدالله بن رافع أنه سمع علياً يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، والزبير، والمقداد فقال: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَأتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإنَّ بِهَا ظَعِيْنَةٌ مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوه مِنْهَا» .
فانطلقنا تعادي بنا خيلُنا، حتى أتينا الروضةَ، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب.
قالت: ما معي من كتاب.
فقلنا: لتخرجِنَّ الكتاب أو لتلقين الثياب.
فأخرجت الكتابَ، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن بَلْعتة إلى ناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا حَاطِبُ، مَا هَذا؟» .
قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله، إني كنت امرأ مُلْصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان مَنْ كان من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النَّسب فيهم أن اتخذ فيهم يداً يَحْمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني، ولا أَرْضَى بالكفر بعد الإِسلام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّه قَدْ صَدَقَكُم» .
فقال عمر: دَعْني أضرب عنق هذا المنافق.(1/235)
فقال: «إنَّه قَدْ شَهِدَ بَدْرَاً، وَمَا يُدْرِيْكَ أنَّ اللَّهَ أطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَال: اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فَقَد غَفَرْتُ لَكُم» .
أخرجاه.
عن أبي بَكْرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وكان الحسن بن علي يثِبُ على ظهره إذا سجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ ابْنِي هَذا سَيِّدٌ، وسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِه بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمينَ» .
عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِم من سَفَرَ، فلما كان قُرْب المدينة هاجت ريح تكاد تدفع الراكب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَبَّتْ هَذه الرِّيْحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ مَاتَ بالمَدِيْنَةِ» .
فقدم المدينة، فإذا منافق عظيم من المنافقين مات ذلك اليوم..
عن عديِّ بن حاتم قال: بَيْنا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قَطْعَ السبيل.
فقال: «يَا عَدِيُّ، هَلْ رَأَيْتَ الحِيْرَةَ؟» .
قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها.
فقال: «إنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ منَ الحِيْرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بالكَعْبَةِ لا تَخَافُ (أَحَداً) إلا اللَّهُ» .
قلت، بيني وبين نفسي: فأين دُعَّار طيء الذين قد سَعَّروا البلاد؟.
قال: «وإنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لتَفْتَحَنَّ كُنوزُ كِسْرَى» .
قلت: كسرى بن هُرْمز؟.
قال: «كِسْرَى بنُ هُرْمُزْ» .
«وإنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَينَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كفِّه ذَهَباً وفِضَّةً، يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُه مِنْه، فَلاَ يَجِدُ أحَداً يَقْبَلُه مِنْه» .
قال عدي: فرأيت الظَّعينة ترتحل من الحِيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هُرمز.
وإن طالت بكم حياة لتروُنَّ ما قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم يُخْرج مِلْء كفه.
أخرجاه.(1/236)
عن أبي موسى: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة فجاء رجل يستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «افْتَحْ لَه وبَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ» فإذا هو أبو بكر رضي الله عنه، ثم استفتح رجل آخر فقال: «افْتَحْ لَه وبَشِّرْهُ بِالجَنَّة» فإذا عمر، ففتحت له وبشَّرته بالجنة، ثم استفتح رجل آخر، وكان متكئاً فجلس، فقال: «افْتَحْ لَه وبَشِّرْهُ بِالجَنَّةِ عَلَى بَلوَى تُصِيْبُه» . فإذا عثمان، ففتحت له وبشَّرته بالجنة، فأخبرته بالذي قال: فقال الله المستعان.
أخرجاه.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَقُومُ السَّاَعةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْماً نِعَالُهُم الشَّعْرُ، وحتَّى تُقَاتِلوُا التُّركَ صِغَارَ الأَعْيُنِ (حُمْرُ الوُجُوهِ)، ذُلْفُ الأُنوفِ، كأنَّ وجُوهَهُم المَجَانُّ المُطْرقة» .
عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً إذ جاءه ذو الخُوَيصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله، اعدل.
قال: «وَيْلَكَ، ومَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ فَقَد خِبْتُ وخَسِرْتُ إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» .
فقال عمر: ائذن لي فيه فأضرب عنقه.(1/237)
فقال: «دَعْه، فإنَّ لَه أصْحَاباً، يَحْقِرُ أحَدُكُم صَلاَتَه مَعَ صَلاَتِهِم، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِم، يَقْرَؤونَ القُرآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُم، يَمْرُقُونَ منَ الدِّيْنِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِن الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إلَى نَضْلِه فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثم يُنْظَرُ إلى رِضَافِه فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَ يُنْظَرُ إلَى نَضِيِّه وَهُوَ قِدْحُهُ فَلا يُوجَدُ فِيه شَيْءٌ، ثُمَ يُنْظَرُ إلَى قُذَذِه فَلاَ يُوجَدُ فِيه شَيْءٌ قَدْ سَبَقَ الفَرْثَ والدَّمَ، آيتُهُم رجُلٌ أسَوْدُ إحْدَى عَضُدَيْه مِثْلُ ثَدْيِ المَرْأَةِ، أو مِثْلُ البَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِيْنِ فُرْقَةٍ منَ النَّاسِ» .
قال أبو سعيد: وَأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتُمسِ، فأُتي به حتى نظرت إليه على نَعْت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نَعته.
والرضاف: جمع رضفة، وهي عَقَبة تُلْوَى على مَدْخَل النصل في السهم.
والنَّضيّ: القِدْح قبل أن يبحث.
والقُذَذ: ريش السهم.
والمعنى: أنه مَرَق عاجلاً فلم يَعْلق به دم.
عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بصفية يوم خيبر، وأتي بزوجها وأخيها، وكان قد أعطاهما الأمان على أن لا يكتما شيئاً فإن كتماه استحلَّ دماءهما، فأما أحدهما فصدقه ولم يَكْتمه، وأما كنانة وهو زوج صفية فكتمه مَسك الجمل، وكان فيه حلي كثير، فقال: «يَا كِنَانَةَ، إنَّكَ قَدْ أعْطَيْتَنِي أنْ لاَ تَكْتُمَنِي شَيْئاً، فأيْنَ مُسِكَ الجَمَلُ؟» .
فقال: ما كتمتك شيئاً.
فأتاه جبريل فأخبره بمكانه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «اذْهَبُوا فَإنَّه فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا» .
فلما أُتي به أمر بهما، فضربت أعناقهما، وقال لبلال: «خُذْ بِيَدِ صَفِيَّةَ» .(1/238)
فأخذ بيدها فمر بها بين القبيلتين، فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رؤي في وجهه، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخيرها بين أن يعتقها فترجع إلى مَنْ بقي من أهلها، أو تسلم فيتخذها لنفسه.
فقالت: أختار الله ورسوله.
فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس: «انْصَرِفُوا عَنْ أُمِّكُم» . حتى إذا كان على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرس بها، فأبت فوجد عليها في نفسه، فلما كان بالصهباء مال إلى هناك فطاوعته، فقال: «مَا حَمَلَكِ عَلَى إِبَائِكِ؟» .
قالت: خشيت عليك قربَ يهود.
فأعرَس بها، وبات أبو أيوب يحرس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يدور حول خبائه، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الوطء قال: «مَنْ هَذا؟» .
قال: خالد بن زيد.
قال: «مَا لَكَ؟» .
فقال: ما نمت هذه الليلة مخافة هذه الجارية عليك.
فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع.
عن عبدالله بن عباس قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان في الطواف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبا سُفْيَانَ، أَمَا كَانَ بَيْنَكَ وبَيْنَ هِنْدٌ كَذَا وَكَذَا» .
فقال أبو سفيان في نفسه: أفشَتْ عليَّ هند سِرِّي، لأفعلن بها ولأفعلن.
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من طوافه لحق أبا سفيان فقال: «يَا أَبَا سُفْيَانَ، لاَ تَظْلِمْ هِنْدَاً، فإنَّهَا لَمْ تُفْشِ إليَّ مِنْ سِرِّكَ شَيْئاً» .
فقال أبو سفيان: أشهد أنك رسول الله، فمن أنبأك بما في نفسي
عن عاصم بن كليب قال: حدثني أبي قال: حدثني رجل من الأنصار قال: خرجت مع أبي وأنا غلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقانا رجل فقال: يا رسول الله، فلانة تدعوك وأصحابك إلى طعام.(1/239)
فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم ومَنْ معه، فقعدنا مقاعد الغلمان من آبائهم، فجيء بالطعام، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وضعوا أيديهم، فنظر القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك أكلةً فكفوا أيديهم.
قال: فلاك الأكلة ثم لفظها، وقال: «لَحْمُ شَاةٍ أُخِذَتْ بِغَيْرِ إذْنِ أهْلِهَا» .
فقامت المرأة فقالت: يا رسول (الله)، أردت أن أجمعك وأصحابك على طعام، فبعثت إلى البقيع، فلم أجد شيئاً يباع، فبعثتُ إلى أخي أن ابعث إليَّ شاتك، فلم يكن أخي ثَمَّ فدفع أهلُه إليَّ الشاةَ.
عن أنس قال: نعى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَ مُؤْتة على المنبر، فبدأ بزيد، ثم بجعفر، ثم ابن رَوَاحة.
ثم قال: وأخذ اللواء خالد بن الوليد، وهو سيف من سيوف الله تعالى.
عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عائشة إلى امرأة فقالت: ما رأيت طائلاً.
قال: «لَقَدْ رَأَيْتِ خَالاً بِخَدِّهَا اقْشَعَرَّتْ مِنْه ذَؤُابَتُكِ» .
فقالت: ما دونك سِرٌّ، ومَنْ يستطيع أن يَكْتُمك
عن سليمان بن صُرَد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «نَغْزُوهُم وَلاَ يَغْزُونَا» .
قال أبو نعيم: فحقق الله ذلك فغزاهم، ولم يُغْزَ بعد ذلك.
عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَظْهَرُ الدِّينُ حَتَّى يُجَاوِزَ البِحَارِ، وحَتَّى تُخَاضُ البِحَارُ بالخَيْلِ فِي سَبيلِ الله» .
عن عثمان بن صهيب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوماً لعليَ: «مَنْ أَشْقَى الناس؟» .
قال: الذي عقَر الناقة يا رسول الله.
قال: «صَدَقْتَ، فَمَنْ أَشْقَى الآخِرِيْنَ؟» .
قال: لا علم لي يا رسول الله.
قال: «الذي يَضْرِبُ عَلَى هَذِه» وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى يافوخه.
فكان عليّ رضي الله عنه يقول لأهل العراق: أما والله لوددت أنه انبعث أشقاها فخضب هذه ـ يعني لحيته ـ من هذه، ووضع يده على مُقَدَّم رأسه.(1/240)
عن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف فمررنا بقبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَذا قَبْرُ أَبي رِغَال، وَهُوَ أبُو ثَقِيْفٍ؛ وكَانَ منْ ثَمُودَ، وكانَ بِهَذا الحَرَم يَدْفَعُ عَنه، فلمَّا خَرَجَ منه أصَابَتْهُ النِّقْمَةُ التي أصَابَتْ قَوْمَه بهذا المَكَان، فَدُفِنَ فِيه، وآيةُ ذَلِكَ أَنَّه دُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ منْ ذَهَبٍ، إنْ أَنْتُم نَبَشْتُم عَنْه أصَبْتُمُوه مَعَه» .
فابتدره الناسُ فاستخرجوا منه الغصن.
عن ابن عمر قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من السماء في الليلة (التي) قتل فيها العَنْسي ليبشِّرنا، فقال: «قُتِلَ الأَسْوَدُ البَارِحَةَ، قَتَلَهُ رَجُلٌ مُبَارَكٌ» .
قيل: مَنْ؟
قال: «فيروز بان فيروز» .
عن أم ذر قالت: لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيت فقال: لا تبكي وابشري فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُم بِفَلاةِ مِنَ الأرْضِ يَشْهَدُه عِصَابَةٌ مِنَ المُؤمِنينَ» . وليس من أولئك النفر أحدٌ إلا وقد مات في قرية أو جماعة، وأنا الذي أموت بالفلاة، والله ما كَذَبتُ ولا كُذِبتُ فأبصري الطريق.
قالت: فقلت: إنه قد ذهب الحاج وتقطعت الطريق.
قالت: فكنت أشتد إلى الكثيب، ثم أرجع إليه فأمرضه، فإذا أنا برجال على رواحلهم، فأَلَحْتُ بثوبي فأسرعوا وقالوا: ما لك؟
قلت: رجل من المسلمين يموت.
قالوا: ومن هو؟
قلت: أبو ذر.
قالوا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قلت: نعم. فَفَدَّوه بآبائهم وأمهاتهم، فكفنه أحدهم ودفنوه.(1/241)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ البَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مَائِلاَتٌ مُمِيْلاَتٌ، رؤوسِهنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المَائِلةِ، لا يَدْخُلْنَ الجَنَّةَ وَلاَ يَجِدْنَ رِيْحَهَا، وإنَّ رِيْحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيْرَةِ كَذَا وكَذَا» .
عن أبي نوفل قال: لما قتل ابنُ الزبير أرسل الحجاج إلى أمه أسماء فقالت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذَّاباً ومُبِيراً، فأما الكذَّاب فرأيناه، وأما المُبِير فلا أخالك إلا إياه.
انفرد بإخراجه مسلم.
والكذاب هو: المختار بن عبيد.
عن أبي هارون العبدي قال: كنا إذا دخلنا على أبي سعيد الخدري قال: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّه سَيَأْتِيْكُم رِجَالٌ مِنْ أَقْطَارِ الأَرْضِ ليَتَفَقَّهُوا فَإِذَا أتَوْكُمْ فَاسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْراً» .
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَسْمعُونَ ويُسْمَعُ مِنْكُمْ، ويُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ» .
عن أم ورقة بنت عبدالله بن الحارث: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يزورها كل جمعة، وإنها قالت يوم بدر: أتأذن لي فأخرج معك، أُمرِّض مرضاكم، وأداوي جرحاكم، لعل الله يُهْدي لي شهادة؟
قال: «قَرِّي، فإنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يُهْدِي لَكِ شَهَادَةً» .
وكانت أعتقت جارية لها وغلاماً عن دَبر منها، فطال عليهما، فغمَّاها في قطيفة حتى ماتت، وهربا.
فأتى عمر فقيل له: إن ورقة قتلها غلامُها وجاريتها وهربا.
فقام عمر في الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور أمَّ ورقة ويقول: «انْطَلِقُوا نَزُورُ الشَّهيدَةَ» وأُتي بهما فَصُلِبا.(1/242)
عن ابن عباس قال: لما أُسر العباس وطلب منه الفداء قال: ليس لي مال.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَأَيْنَ المَالُ الذي وَضَعْتَه بِمَكَّةَ حِيْنَ خَرَجْتَ عِنْدَ أمِّ الفَضْلِ وَلَيْسَ مَعَكُمَا أحَدٌ، وقُلْتَ: إن أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذا فَلِلفَضْلِ كَذَا وأنْتُم كَذَا ولِعَبْدِالله كَذَا» .
قال: والذي بعثك بالحق ما عَلم بهذا أحدٌ من الناس غيري وغيرك، وإني أعلم أنك رسول الله.
وقد روى محمد بن إسحاق: أن عمير بن وهب جلس مع صفوان بن أمية بعد مصاب أهل بدر بيسير وهو في الحجر.
وكان عمير من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة، وكان ابنه وهب ابن عمير في أسارى بدر، فذكر أصحاب القليب ومصابهم فقال صفوان: والله ما في العيش بعده من خير.
فقال له عمير: صدقت والله، أما والله لولا دَينٌ عليَّ ليس له عندي قضاء، وعيال أخشى عليهم الضَّيعة بعدي لركبت إلى محمد حتى أقتله، فإن لي فيهم علة، ابني أسير في أيديهم.
فقال صفوان: فعليَّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أسوتهم كأسوتهم.
قال عمير: فاكتم عليَّ شأني وشأنك.
قال: أفعل.
ثم إن عميراً أمر بسيفه فشُحذ وسُمّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فرآه عمر قد أناخ بعيره على باب المسجد متوشحاً السيف، فقال: هذا عدو الله عمير قد جاء ما جاء إلاّ لشر، وهو الذي حَرّش بيننا وحزَرنا للقوم يوم بدر.
ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا عدو الله عمير قد جاء متوشحاً سيفه.
قال: «فَأَدْخِلْهُ عَلَيَّ» . فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبَّبَه بها وقال لرجال من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجلسوا عنده، واحذروا هذا الخبيث عليه، فإنه غير مأمون.
ثم دخل به عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: «أَرْسِلْهُ يَا عُمَر، ادْنُ يَا عُمَيْر» .(1/243)
فدنا ثم قال: انعم صباحاً، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم.
فقال رسول الله: «قَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِتَحِيَّةً خَيْرٌ مِنْ تَحِيَّتَكَ يَا عُمَيْرُ، السَّلاَمُ تَحِيَّةُ أَهْلِ الجَنَّةِ، مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَيْرُ؟» .
قال: جئتُ في فداء أسير لي في أيديكم فأحسنوا إليه.
قال: «فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي عُنُقِكَ؟» .
قال: قبحها الله من سيوف وهل أغنَتْ شيئاً.
قال: «اصْدُقْنِي فِي الذي جِئْتَ لَهُ» .
قال: ما جئت إلا لذلك.
فقال: «بَلْ قَعَدْتَ أنْتَ وَصَفْوَانَ فِي الحِجْرِ، فَذَكَرْتُمَا أصْحَابَ القَلِيْبِ مِن قُرَيْشٍ، ثُمَّ قُلتَ: لَوْلاَ دَيْنٌ عَلَيَّ وَلِي عِيَالٌ لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمَّدًا، فَتَحَمَّلَ لَكَ صَفْوَانُ بنُ أمَيَّةَ بِدَيْنِكَ وَعِيَالِكَ عَلَى أنْ تَقْتُلَنِي، واللَّهُ حَائِلٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ» .
فقال عمير: أشهد أنك رسول الله قد كنا نكذِّبك، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا صفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإِسلام وساقني هذا المساق. ثم تشهد شهادة الحق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقَّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وعَلِّمُوهُ القُرْآنَ، وأطْلِقُوا لَهُ أَسِيْرَهُ» . ففعلوا.
ثم قال: يا رسول الله، إني كنت جاهداً في إطفاء نور الله شديد الأذى لمن كان على دين الله، وإني أحب أن تأذن لي فأقدَم مكة، فأدعوهم إلى الله وإلى دين الإِسلام، لعل الله أن يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أؤذي أصحابك.
فأذن له، فلحق بمكة، وكان صفوان حين خرج عمير يقول لقريش: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام تنسيكم وقعة بدر.
وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره بإسلامه، فحلف أن لا يكلمه أبداً، ولا ينفعه بنفع أبداً.
فلما قدم مكة أقام بها يدعو إلى الإِسلام ويؤذي من خالفه، فأسلم على يديه ناس.
قال المصنف:(1/244)
قال أبو الوفا بن عقيل: إقدامُ الرسول صلى الله عليه وسلم على الإِعلام بالغائبات والمستقبلاَت فيه مخاطرة عظيمة، لأن الأسود ومسيلمة فضحهما تخمينهما، فخرج الخبر على خلاف ما أَخبرا به.
ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: {س111ش3سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ }
(المسد: 3)
فلو أنه أَسْلَم كان في هذا ما فيه، وإنما طالع العواقب، وذلك دليل على أنه كان شديد الثقة، فالحمد لله الذي ثبته على ذلك، وأنه بانٍ لا يخاف أن ينهدم بأمور توجب التهم، وإنما هو صادر عن قادر على الإِتمام.
الباب السادس عشر
في إلانة الصخر له صلى الله عليه وسلم
عن جابر قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يحفرون الخندق ثلاثاً لم يذوقوا طعاماً، فقالوا: يا رسول الله، إن ههنا كُدْيةً من الجبل.
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «رُشُّوهَا بِالمَاءِ» .
ثم أخذ المِعْول وقال: «بِسْمِ الله» . فضربها ثلاثاً فصارت كثيباً تنهال.
قال جابر: فحانت مني التفاتة، فإذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قد شَدَّ على بطنه حجراً.
أخرجاه.
عن البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، فعرضت لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول، فشكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المِعول وقال: «بِسْمِ الله» . وضرب ضربة، فكسر ثلثَ الحجر، وقال: «اللَّهُ أكْبَرُ، أُعْطِيْتُ مَفَاتِيْحَ الشَّامِ، واللَّهُ إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُوْرَهَا الحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذا» .
ثم قال: «بِسْمِ الله» . وضرب ضربة أخرى، فكسر ثلث الحجر وقال: «اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيْتُ مَفَاتِيْحَ فَارِسٍ، واللَّهُ إِنِّي لأَنْظُرُ المَدَائِنَ وأُبْصِرُ قُصُوْرَهَا البِيْضَ مِنْ مَكَانِي هَذا» .(1/245)
ثم قال: «بِسْمِ الله» وضرب ضربة أخرى، فقطع بقية الحجر فقال: «اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيْتُ مَفَاتِيْحَ اليَمَنِ، والله إِنِّي لأَنْظُرُ إِيْوَانَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذا» .
الباب السابع عشر
في ذكر حنين الجذع إليه صلى الله عليه وسلم
عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع نخلة، فقالت امرأة من الأنصار كان لها غلام نجار: يا رسول الله، إن لي غلاماً نجاراً، أفلا آمره يتخذ لك منبراً تخطب عليه؟
قال: «بلى» .
قال: فاتخذ له منبراً، فلما كان يوم الجمعة خطب على المنبر.
قال: فأنَّ الجذعُ الذي كان يقوم عليه كما يئنُّ الصبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ هَذا بَكَى لِمَا فَقَدَ مِنَ الذِّكْرِ» .
عن الطفيل بن أُبي بن كعب، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، هل لك أن أعمل لك منبراً تقوم عليه يومَ الجمعة حتى يراك الناس وتُسْمعهم خطبتك؟
قال: «نَعَمْ» .
فصنع له ثلاثَ درجات، فلما صنع المنبر ووضع في موضعه، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم على المنبر، فمرَّ إليه، خارَ الجذعُ حتى كاد أن ينشقَّ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسحه بيده حتى سكن، ثم رجع إلى المنبر. فلما هدم المسجد وغُيّر؛ أخذ ذلك الجذعَ أبيُّ بن كعب، فكان عنده في داره حتى بَلي وأكلته الأرضة، وعاد رُفاتاً.
عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة يُسند ظهره إليها، فلما كثر الناس قال: «ابْنُوا لِيْ مِنْبرًا» .
فبنوا له منبراً له عتبتان، فلما قام على المنبر يخطب حَنَّت الخشبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أنس: وأنا في المسجد، فسمعت الخشبة تحنُّ حنين الواله، فما زالت تحن حتى نزل إليها فاحتضنها فسكتت.(1/246)
فكان الحسن إذا حدَّث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الله، الخشبةُ تحنُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقاً إليه، لمكانه من الله عزّ وجلّ، فأنتم أحقُّ أن تشتاقوا إلى لقائه.
عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحنَّ الجذع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فمسحه.
أخرجه البخاري.
عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع، فأتاه رجل رومي فقال: «اصْنَعْ لِيْ مِنْبَراً أَخْطُبُ عَلَيْهِ» .
فصنع له منبره هذا الذي ترون، فلما قام عليه يخطب حنَّ الجذع حنين الناقة إلى ولدها، فنزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضمَّه إليه فسكت، فأمر به أن يُدْفَن ويحفر له.
عن ابن بُريدة، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب قام فأطال القيام، فكان يشق عليه قيامه، فأتى بجذع نخلة، فحفر له وأقيم إلى جنبه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب، وطال القيام عليه استند إليه فاتكأ عليه، فبصر به رجل كان ورد المدينة، فقال لمن يليه من الناس: لو أعلم أن محمداً يَحْمدَني في شيء يرفُق به لصنعت له مجلساً يقوم عليه، فإن شاء جلس ما شاء، وإن شاء قام.
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ايْتُونِي به» . فأُتي به فأمره أن يصنع له هذه المراقي، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك راحةً.
فلما فارق النبي صلى الله عليه وسلم الجذعَ، وعمد إلى الذي صُنع له، جَزع الجذع فحنَّ كما تحن النافة حين فارقه النبي صلى الله عليه وسلم.(1/247)
فسمع بريدة عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الجذع رجع إليه فوضع يده عليه وقال: «اخْتَرْ أَنْ أَغْرُسَكَ فِي المَكَانِ الذي كُنْتَ فِيهِ فَتَكُونَ كَمَا كُنْتَ، وَإنْ شِئْتَ فَأَغْرِسُكَ فِي الجَنَّةِ فَتَشْرَبُ مِنْ أنْهَارِهَا وَعُيُونِهَا، فَيَحْسُنُ نَبْتُكَ، وتُثْمِرُ، فَيَأْكُلُ أوْلِيَاءُ الله مِنْ ثَمَرَتِكَ ـ فَعَلْتُ» .
فزعم أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «نَعَمْ فَعَلْتُ» . مرتين.
فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أَحَبَّ أَنْ أَغْرُسَهُ فِي الجَنَّةِ» .
عن أبيّ بن كعب، عن أبيه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع وكان عريشاً، وكان يخطب إلى ذلك الجذع.
فقال رجل من أصحابه: ألا نجعل لك شيئاً تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس ويسمع الناس خطبتك؟
قال: «نَعَمْ» .
فصنع له ثلاث درجات فقام عليها كما كان يقوم فأصغى إليه الجذع فقال له «اسْكُنْ» .
ثم التفت، فقال: «إنْ تَشَأْ أَغْرِسْكَ فِي الجَنَّةِ فَيَأْكُلُ مِنْكَ الصَّالِحُونَ، وإنْ تَشَأْ أعِدْكَ رَطْبًا كَمَا كُنْتَ» . فأختار الآخرة على الدنيا، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم دُفع إلى أبي فلم يزل عنده إلى أن أكلته الأرضة.
قال ابن عقيل: لا ينبغي أن يُتعجَّب من حنين الجذع ومجيء الأشجار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مَنْ جَعل في المغناطيس خاصيةً تجذب الحديد إليه، يجوز أن يجعل في الرسول خاصية تجذب إليه.
الباب الثامن عشر
في تسبيح الحصى في يده
عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس في مكان هو وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فتناول النبي صلى الله عليه وسلم سبع حَصَيَات فسبَّحْن، حتى سمعت لهن حَنيناً كحنين النحل، ثم وضعهن فخرسْن.
ثم أخذهن فوضعهن في يد أبي بكر فسبَّحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النحل. ثم وضعهن فخرسْن.(1/248)
ثم تناولهن فوضعهن في يد عمر حتى سمع لهن حنيناً كحنين النحل ثم وضعهن فخرسن.
ثم تناولهن فوضعهن في يد عثمان فسبَّحن حتى سمعت لهن حنيناً كحنين النخل، ثم وضعهن فخرسْن.
الباب التاسع عشر
في ستره عمن قصد أذاه من المشركين
عن ابن عباس قال: {س111ش1تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ }
(المسد: 1)
جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر، فلما رآها قال: يا رسول الله، إنها امرأة بَذِيَّة فلو قمتَ لا تؤذيك.
قال: «إِنَّهَا لَنْ تَرَانِي» .
فجاءت فقالت: يا أبا بكر، صاحبُك هَجَاني بشِعره.
قال: لا، ما يقول الشعر.
قالت: أنت عندي مصدَّق وانصرفت.
فقال: يا رسول الله، إنها لم ترك.
قال: «لاَ، لَمْ يَزَلْ مَلَكٌ يَسْتُرُنِي مِنْهَا بِجَنَاحِهِ» .
امرأة أبي لهب هي: أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان.
الباب العشرون
في دفع من أراد أذاه صلى الله عليه وسلم من الإِنس
عن جابر بن عبدالله قال: غَزَوْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نَجْد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفلتُ معهم، فأدركَتْه القائلة في وادٍ كثير العِضَاه، فنزل أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سَمُرَة فعلَّق بها سَيفه.
قال جابر: فنِمْنا نومةً، ثم إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، فجئناه فإذا أعرابي عنده جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ هَذا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ، وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتاً فَقَال لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ. هَوُ ذَا جَالِسٌ» .
ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرجاه.(1/249)
عن جابر بن عبدالله قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزاة بني محارب، جاءه رجل يقال له غورث بن الحارث، حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مَنْ يمنعك منِّي؟ قال: «الله» . فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ كُن خَيْرَ آخِذٍ» . قال: «أَتَشْهَدُ أنْ لاَ اله إِلاَّ اللَّهُ؟؟» .
قال: لا، ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله.
عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفِّر محمد وجهه فيكم بين أظهركم؟
قال: فقيل: نعم.
فقال: واللات والعزى، إنْ رأيته يفعل ذاك لأطأنَّ على رقبته ولأعفرنّ وجهه في التراب.
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي زعم ليطأ عنقه.
قال: فما فجأهم منه إلا وهو يَنْكص على عقبيه ويتقي بيده، فقالوا له: ما لك؟
قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهَوْلاً وأجنحة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ دَنَا مِنِّي لاخْتَطَفْتُه عُضْوًا عُضْوًا» .
انفرد بإخراجه مسلم.
حكى الواقدي عن أشياخه قال: جاء الظهر يوم الفتح، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يؤذن بالظهر فوق الكعبة، وقريش فوق الجبال وقد فرَّ وجوههم وتغيبوا.
فلما قال: أشهد أن محمداً رسول الله. يقول جويرية بن أبي جهل: لعمري، لقد رفع لك ذِكرك، أما الصلاة فنصلي، ووالله ما نحب مَن قَتل الأحبة.
وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع بهذا اليوم.
وقال الحارث بن هشام: واثكلاه ليتني متُّ قبل أن أسمع بلالاً ينهق فوق الكعبة
وقال الحكم بن أبي العاص: هذا واللات الحادث الجليل، يصيح عبدُ بني جَمَح ينهق على بَنِيَّة أبي طلحة.
وقال سهيل بن عمرو: إن كان هذا سخطاً لله فسيغيره.
وقال أبو سفيان بن حرب: أما أنا فلا أقول شيئاً، ولو قلت شيئاً لأخبَرتْه هذه الحصاة.(1/250)
فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرهم، فأقبل حتى وقف عليهم فقال: «أَمَّا أنْتَ يَا فُلاَنُ فَقُلْتَ كَذَا، وأَنْتَ يَا فُلاَنُ فَقُلْتَ كَذَا» .
فقال أبو سفيان: أما أنا يا رسول الله فما قلتُ شيئاً.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن عكرمة قال: قال شيبة بن عثمان: لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم حُنَيناً: فذكرت أبي وعمي قتلَهما عليٌّ وحمزة، فقلت: اليومَ أُدْرك ثأري من محمد.
فجئته مِن خَلْفه، فدنوت منه ودنوت حتى لم يَبْق إلا أن أُسوره بالسيف سورة رُفع إليَّ شُوَاظ من نار كأنه البرق، فنكصت القهقرى، فالتفت إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «تَعَالَ يَا شَيْبَةَ» . فوضع يده على صدري، واستخرج الله الشيطانَ من قلبي، فرفعت إليه بصري وهو أحبُّ إليَّ من سمعي وبصري.
عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه، أن رجلاً من بني مخزوم قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده فِهْر يرمي به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتاه وهو ساجد رفع يده وفيها الفهر ليدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبست يده فرجع إلى أصحابه فقالوا: جَبُنْتَ عن الرجل؟
قال: لا، ولكن هذا في يدي لا أستطيع أُرسلَه. فتعجبوا من ذلك ووجدوا أصابعه قد يبست على الفِهر فعالجوا أصابعه حتى خلصوها وقالوا هذا شيء يراد.
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا في حديث الحكم قالوا له: ما رأينا أعجزَ منك في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: لا تلومونا لقد تواعدنا له، فلما دنونا منه سمعنا صوتاً خلْفنا ظننَّا أنه ما بقي بتهامة جبال إلا ألقيت، ثم تواعدنا ليلة أخرى فرأيت الصَّفا والمروة التقتا فحالتا بيننا وبينه.
الباب الحادي والعشرون
في كيفية هلاك بعض من آذاه صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: كان رجل نصراني فأسلم، وكان يقرأ البقرة وآل عمران. وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانياً وكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له.(1/251)
فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعلُ محمد وأصحابه لمّا هرب منه نبشوا عن صاحبنا. فألقوه فحفروا له وأعمقوا فأصبح وقد لفظته الأرض. فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا على صاحبنا. فحفروا له وأعمقوا ما استطاعوا، فأصبحوا وقد لفظته الأرض فعلموا أنه ليس من الناس فألقوه.
قال المفسرون قوله تعالى: {س15ش95إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ }
(الحجر: 95)
بيّن أنهم قوم كانوا يستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، فأتى جبريل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوماً والمستهزئون يطوفون بالبيت، فمرَّ بهم الوليد بن المغيرة. فقال جبريل: كيف تجد هذا؟
قال: «بِئْسَ عَبْدُ الله» .
قال: قد كُفيت.
وأومأ إلى ساقه فمرَّ برجل يريش نَبلاَ، فتعلقت شظية من نبله بإزاره، فمنعه الكبْر أن يُطَامن لينزعها فمرض فمات.
ومرَّ العاص بن وائل، فقال جبريل: كيف تجد هذا؟
قال: «بِئْسَ عَبْدُ الله» . فأشار إلى أخمص قدمه فمات.
ومرَّ الأسود بن عبد يغوث فقال: كيف تجد هذا؟
قال: «بئس عبد الله» . فأشار إلى بطنه فمات حَبَناً.
ومرَّ الحارث بن قيس فقال: كيف تجد هذا؟
قال: «بِئْسَ عَبْدُ الله» . فأومأ إلى رأسه فانتفخ رأسه فمات.
قال عكرمة: هلك المستهزئون قبل بدر.
قال ابن السائب: هلكوا في يوم وليلة.
الباب الثاني والعشرون
في دفع من قصد أذاه صلى الله عليه وسلم من الشياطين(1/252)
عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ عِفْرِيْتاً مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ البَارِحَةَ فَقَطَعَ عَلَيَّ صَلاَتِي، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَذَعَتُّهُ وَأَرَدْتُ أنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا فَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ أَجْمَعُونَ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي سُلَيْمَانَ {س38ش35قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لأًّحَدٍ مِّن بَعْدِى? إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ }
(ص: 35)
». قال: «فَرَدَدْتُهُ خَاسِئاً» .
ومعنى فذَعَتُّه: خنقته.
عن أبي التَّياح قال: قلت لعبد الرحمن بن حُبَيش: كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة كادَتْه الشياطين؟
قال: تحدَّرت عليه الشياطين تلك الليلة من الجبال والأودية يريدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم شيطان بيده شعلة من نار يريد أن يحرق بها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه جبريل فقال: يا محمد، قل.
فقال: «مَا أَقُولُ» .
قال: «قُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ الله التَّامَّاتِ كُلِّهَا مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ، ومِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَمَاءِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرِّجُ فِيْهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ (إلاَّ طَارِقاً) يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمانُ» .
قال: فطفئت نارهم وهزمهم الله تعالى.
الباب الثالث والعشرون
في بيان أنه كان له صلى الله عليه وسلم شيطان
عن عائشة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً فغِرْت عليه، فجاء فعرف ما أصنع فقال: «مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ، أَغِرْتِ؟» .
قالت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك.
قال: «أَفَأَخَذَكِ شَيْطَانُكِ؟» .
قلت: أومعي شيطان؟
قال: «نَعَمْ» .
قلت: ومع كل إنسان؟
قال: «نَعَمْ» .
قلت: ومعك يا رسول الله؟(1/253)
قال: «نَعَمْ، لَكِنَّ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ» .
انفرد بإخراجه مسلم.
وأكثر الرواة يقولون: «أسلمَ» بفتح الميم، إلا سفيان بن عُيَينة قال: فأسلم، بضمها وليس بصحيح؛ لأنه في بعض الألفاظ قال: «فلا يأمرني إلا بخير».
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فُضِّلْتُ عَلَى آدَمَ بِخَصْلَتَيْنِ: كَانَ شَيْطَانِي كَافِراً فَأَعَانَنِي اللَّهُ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، وَكُنَّ أزْوَاجِي عَوْنَاً لِي. وكَانَ شَيْطَانُ آدَمَ كَافِراً وكَانَتْ زَوْجَتُهُ عَوْناً عَلَيْه» .
الباب الرابع والعشرون
في دفع أذى الهوام عنه صلى الله عليه وسلم
عن أبي أمامة قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخفَّيه يلبسهما، فلبس إحداهما ثم جاء غراب، فاحتمل الأخرى، فرمى بها فخرجت منها حَيَّة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله واليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَلْبِسْ خُفَّيْه حتَّى يَنْفُضَهُمَا» .
الباب الخامس والعشرون
في إعادته عين بعض أصحابه صلى الله عليه وسلم وقد خرجت فاستقامت
عن الهيثم بن عديّ، عن أبيه قال: أصيبت عينُ أبي قَتَادة بن النعمان الظُّفري يوم أُحد، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهي في يده فقال: «مَا هَذا يَا أَبَا قَتَادَة؟» .
قال: هذا ما ترى يا رسول الله.
قال: «إن شِئْتَ صَبَرْتَ وَلَكَ الجَنَّةَ، وإنْ شِئْتَ رَدَدْتُهَا وَدَعَوْتُ اللَّهَ لَكَ فَلَمْ تَفْقِدْ مِنْهَا شَيْئاً» .
قال: يا رسول الله، إن الجنة لجزاء جزيل وعطاء جليل، ولكني رجل مُبْتلى بحب النساء، إن يقلن أعور فلا يُردْنني، ولكن تردها لي وتسأل الله لي الجنة.
فقال: «أَفْعَلُ يَا أَبَا قَتَادَةَ» . ثم أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فأعادها إلى موضعها، فكانت أحسن عينيه إلى أن مات، ودعا الله له بالجنة.
قال: فدخل ابنهُ على عمر بن عبد العزيز فقال له عمر: مَنْ أنت يا فتى؟
فقال:(1/254)
أنا ابنُ الذي سالت على الخد عينُه
فرُدَّت بكفِّ المصطفى أحسن الرَّد
فعادت كما كانت لأحسن حالها
فيا حُسنَ ما عيْنٍ ويا طيبَ ما يَدِّ
فقال عمر: بمثل هذا فليتوسل إلينا المتوسلون.
ثم قال:
تلك المكارم لا قَعْبَان من لبنٍ
شِيبَا بماءٍ فعادَا بعدُ أبوالاَ
الباب السادس والعشرون
في كلام الجدار بحضرته صلى الله عليه وسلم
عن أبي أسيد (الساعدي) البَدْري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب: «يَا أَبَا الفَضْلِ، لاَ تَرِمْ مَنْزِلَكَ غَدًا أنْتَ وَبَنُوكَ، فَإِنَّ لِيْ فِيْكُمْ حَاجَةً» .
فانتظروه فجاء فقال: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ» .
قالوا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
قال: «كَيْفَ أصْبَحْتُمْ؟» .
قالوا: بخير.
قالوا: كيف أصبحت يا رسول الله؟
قال: «بِخَيْرٍ أَحْمَدُ اللَّهَ» .
فقال: «تَقَارَبُوا لِيَزْحَفْ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ» . ثلاثاً.
فلما أَمْكَنوه اشتمل عليهم بملاءته وقال: «هَذا العَبَّاسُ عَمِّي وَصِنْو أَبِي، وهَؤُلاَءِ أَهْلُ بَيْتِي، اللهُمَّ اسْتُرْهُمْ مِنَ النَّارِ كَسَتْرِي إيَّاهُمْ بِمَلاَءَتِي هَذه» .
قال: فأمَّنت أُسْكُفَّة الباب وحوائط البيت آمين ثلاثاً.
الباب السابع والعشرون
في تكليم الظبية له صلى الله عليه وسلم
عن أبي سعيد الخدري قال: مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بظبية مربوطة إلى خباء فقالت: يا رسول الله، حُلَّني حتى أذهب فأرضع خشْفيّ ثم أرجع فتربطني.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صَيْدُ قَوْمٍ وَرَبِيْطَةُ قَوْمٍ» . فأخذ عليها فحلفت له، فحلَّها، فما مكثت إلا قليلاً حتى جاءت وقد نفضت ما في ضرعها، فربطها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى خباءَ أصحابها فاستوهبها منهم، فوهبوها له، فحلها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/255)
عن ابن عباس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في بعض شأنه، فإذا هو بظبية في رحل قوم، فنادته: يا رسول الله. فوقف، وقال: «مَا شَأْنُكِ؟» .
قالت: إن لي خِشْفين، وهما جياع فأطلقْني لأنطلق فأرويهما وأرجع إليك فتشدَّني.
قال: «أَتَفْعَلِيْنَ؟» .
قالت: نعم، وإلا يعذبني الله عذاب العَشَّار.
فحلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلس مكانه، فما لبث أن جاءت وضرعها فارغ من اللبن، فرقَّ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوهبها من الرجل فوهبها له فأطلقها.
عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحراء، فإذا مناد ينادي: يا رسول الله. فالتفت فلم ير شيئاً. ثم التفت فإذا ظبية موثوقة فقالت: يا رسول الله، أدنُ مني.
فدنا منها فقال: «هَلْ لَكِ مِنْ حَاجَةٍ؟» .
قالت: نعم، إن لي خِشْفين في ذلك الجبل، فحلَّني حتى أذهب فأرضعهما ثم أرجع إليك.
قال: «وَتَفْعَلِيْنَ؟» .
قالت: عذبني الله عذاب العشَّار إن لم أفعل.
فأَطلقها فذهبت فأرضعت خشفيها ثم رجعت، فأوثقها النبي صلى الله عليه وسلم، وانتبه الأعرابي فقال: ألك حاجة يا رسول الله؟
قال: «نَعَمْ نُطْلِقُ هَذِه» . فأطلقها فذهبت تعدو وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
الباب الثامن والعشرون
في كلام الضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم
عن ابن عمر: أن أعرابياً صاد ضَبَّا فجعله في كُمِّه يريد أن يجيء إلى أهله فيذبحه ويشويه ويأكله، فإذا هو بجماعة، فقال: ما هذه الجماعة؟
قالوا: على رجل يذكر أنه نبي، وهو محمد بن عبدالله.
فجاء حتى شقّ الناس، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: واللات والعزى، ما سلّمتُ على ذي مُهْجة أبغض إليَّ منك، ولولا أن يُسمِّيني قومي العَجُول لعجلْت عليك فقتلتك، فسَرَرْت بقتلك الأسودَ والأبيض، وأرجتُ بني هاشم وغيرهم، إذ تسبُّ آلهتنا.(1/256)
فعرفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يَا أَخَا بَنِي سُلَيْمٍ، مَا حَمَلَكَ عَلَى الذي قُلْتَ وَلَمْ تُكْرِمْنِي في مَجْلِسِي؟» .
قال: وثَكَلَتْني أيضاً اللات والعزى، لا آمنت بك حتى يؤمن بك هذا الضب. فطرح الضب بين يديه.
فقال عمر: ايذن لي أضرب عنقه.
فقال: «أَما عَلِمْتَ أنَّ الحَلِيْمَ كَادَ يَكُونُ نَبِياً» .
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الضب، فقال له: «يَا ضَبُّ» .
قال: لبَّيك وسَعْديك. لسان عربي مبين يُفْهم القوم جميعاً.
فقال له: «يَا ضَبُّ مَنْ تَعْبُدُ؟» .
قال: الذي في السماء عرشُه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عقابه.
قال: «فَمَنْ أَنَا؟» .
قال: رسول رب العالمين، وخاتم النبيين، قد أفلح من صدَّقك، وخاب من كذبك.
قال الأعرابي: لا أبتغي أثراً بعد عين أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله بشَعْري، وبَشَري، وسرِّي، وعلانيتي، والله لقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد هو أبغضُ إليَّ منك، ولأنت الآن أحب إلي من سمعي، وبصري، ووالدي، وولدي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحَمْدُ دِ الذي هَدَاكَ بِيْ» .
عن ابن عباس قال: خرج أعرابي من بني سُلَيم يتبدَّى في البرِّية، فإذا هو بضب، فاصطاده ثم جعله في كمه، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناداه: يا محمد، أنت الساحر، ولولا أني أخاف أن قومي يسموني العَجُول لضربتك بسيفي هذا.
فوثب له عمر ليبطش به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اجْلِسْ أَبَا حَفْصٍ، فَقَدْ كَادَ الحَلِيْمُ يكونُ نَبِيّاً» .
ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأعرابي، فقال له: «أسْلِمْ تَسْلَمُ مِنَ النَّارِ» .(1/257)
فقال: واللات والعزى لا أومن حتى يؤمن بك هذا الضب. ثم رمى الضبَّ من كمه. فولّى الضب هارباً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيُّهَا الضَبُّ أَقْبِلْ» . فأقبل، فقال له: «مَنْ أَنَا؟».
قال: أنت محمد بن عبدالله بن عبد المطلب، ثم أنشأَ الضب يقول:
ألا يا رسولَ الله إنك صادقٌ
فبوركتَ مَهْدياً وبوركتَ هادِيَا
شَهَرْتَ لنا دينَ الحنيفةِ بعدما
عبَدْنا كأمثال الحَمِير الطواغيا
فيا خيرَ مَدْعوَ ويا خيرَ مُرْسل
إلى الجن ثم الإِنس لبَّيْك داعيَا
أتيتَ ببرهانٍ من الله واضحٍ
فأَصبحتَ فينا صادقَ القول واعيَا
فبوركت في الأحوال حيًّا ومَيِّتاً
وبوركت مولوداً وبوركت ناشيَا
ثم سكت الضب، فقال الأعرابي: واعجباً ضبٌّ اصطدته من البرِّية ثم أتيت به في كمّي، يكلم محمداً بهذا الكلام ويشهد له بهذه الشهادة أنا لا أطلب أثراً بعد عين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. فأسلم وحسن إسلامه. ثم التفت إلى أصحابه. فقال: «عَلِّمُوا الأَعْرَابِيَّ سُوَرًا مِنَ القُرْآنِ» .
فصل
فإن قال قائل: ما رويتم من المعجزات لم يُنْقل نقلَ التواتر.
قلنا: مجموع الوقائع يورث علماً ضرورياً كشجاعة عليَ وجُود حاتم.
ثم عندنا القرآن الذي لا يُرْتاب فيه، فمعجزه قائم أبداً ينادِي على منار التحدي: { فَأْتوا بسورة من مثله} .
ثم إذعان الملك لنبينا صلى الله عليه وسلم مع فقره وضعفه، وإقرار أهل الكتاب بصفته من أكبر الأدلة.
الباب التاسع والعشرون
في إجابته صلى الله عليه وسلم اليهود على مسائل لا يعلمها إلا نبي
عن أنس أن عبدالله بن سلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مَقْدمه المدينة، فقال: يا رسول الله، إني سائلك عن ثلاث خصال لا يعلمهن إلا نبي.
قال: «سَلْ» .
قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول ما يأكل منه أهل الجنة؟ ومن أين يُشْبه الولدُ أباه وأمه؟(1/258)
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيْلُ آنِفاً» .
قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة.
قال: «أَمَّا أوَّلُ أشْرَاطُ السَّاعَةِ: فَنَارٌ تَحْشُرُهُمْ إلى المَشْرِقِ تَخْرُجُ مِنَ المَغْرِبِ. وَأَمَّا أَوَّلُ مَا يَأْكُلُ مِنْه أهْلُ الجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ الحُوْتِ» .
«وأما شَبَهُ الوَلَدِ أبَاه وَأمَّه: فَإِذا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلُ مَاءَ المَرْأَةِ نَزَعَ إليْهِ الوَلَدُ، وإذا سَبَقَ مَاءُ المَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَ الوَلَدُ إليْهَا» .
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قومٌ بُهْت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي يَبْهتوني عندك، فأرسل إليهم فاسألْهم عن أيِّ رجل ابنُ سلام فيكم.
فأرسل إليهم فقال: «أيُّ رَجُلٍ ابنُ سَلاَمَ فِيْكُم؟» .
قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وعالمنا وابن عالمنا، وأفَقَهنا وابن أفقهنا.
قال: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُالله؟» .
قالوا: أعاذه الله من ذلك
قال: فخرج ابنُ سَلاَم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فقالوا: شرُّنا، وابن شرنا، وجاهلنا، وابن جاهلنا.
فقال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.
انفرد بإخراجه البخاري.
عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، نحن نسألك عن خمسة أشياء، فإن أنت أنبأتنا بها عرفنا أنك نبي واتبعناك.
قال: فأخذ عليهن ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قالوا: {س28ش28قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأٌّجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ }
(القصص: 28)
.
قالوا: حدِّثنا عن علامة النبي.
قال: «تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُه» .
قالوا: أخبرنا كيف تؤنِّث المرأة، وكيف تُذكر؟(1/259)
قال: «يَلْتَقِي المَاءَانِ فَإِنْ عَلاَ مَاءُ المَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ أُنِثَّتْ، وإِنْ عَلاَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المَرْأَةِ أُذكَرَتْ» .
قالوا: صدقت.
قالوا: ما حرَّم إسرائيل على نفسه.
قال: «كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَاءِ، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئاً يُلائِمُهُ إلاَّ ألبَانَ الإِبْلِ، فَحَرَّمَ لُحُوْمَهَا» .
قالوا: صدقت.
قالوا: أخبرنا ما هو الرعد.
قال: «مَلَكٌ مِنَ المَلاَئِكَةِ مُوَكَّلٌ بالسَّحَابِ بِيَدِه أَوْ فِي يَدِه مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُرُ بِه السَّحَابَ ويُصَرِّفُه حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى» .
قالوا: فما هذا الصوت الذي يُسمع؟
قال: «صَوْتُهُ» .
قالوا: صدقت.
إنما بقيت واحدة وهي التي إن أخبرتنا بها اتبعناك، إنه ليس من نبي إلا يأتيه ملك بالخبر من السماء، فمن يأتيك بالخبر من صاحبك؟
قال: «جِبْرِيْلُ» .
قالوا: جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال، ذاك عدوُّنا من الملائكة، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر
فأنزل الله تعالى: {س2ش97قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }
(البقرة: 97)
الآية.
عن عبدالله قال: مرَّ يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه. فقالت قريش: يا يهودي، إن هذا يزعم أنه نبي.
قال: لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي.
قال: فجاء حتى جلس، ثم قال: يا محمد، مم يخلق الإِنسان؟
قال: «يَا يَهُودِيُّ، مِنَ كُلَ يُخْلَقُ، مِنْ نُطْفَةِ الرَّجُلِ ومِنْ نُطْفَةِ المَرْأَةِ، فأَمَّا نُطْفَةُ الرَّجُلِ فَنُطْفَةٌ غَلِيْظَةٌ مِنْهَا العَظْمُ والعَصَبُ، وأمَّا نُطْفَةُ المَرْأَةِ فَنُطْفَةٌ رَقِيْقَةٌ مِنْهَا الدَّمُ واللَّحْمُ» .
فقام اليهودي فقال: هكذا كان يقول مَنْ قَبْلك.(1/260)
عن ثَوْبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حَبْر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد. فدفعته دفعة كاد يُصْرع منها، فقال: لِمَ تدفعني؟
فقلت: ألا تقول يا رسول الله
فقال اليهودي: إنما أدعوه باسمه الذي سماه به أهله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الذي سَمَّانِي بِه أهْلِي» .
فقال اليهودي: جئت أسألك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ يَنْفَعُكَ شَيْءٌ إنْ حَدَّثْتُكَ؟» .
قال: أسمع بأذني.
فنكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعودٍ معه. فقال: «سَلْ» .
فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في الظُّلْمَةِ دُوْنَ الجِسْرِ» .
قال: فمَنْ أول الناس إجازةً؟
قال: «فُقَرَاءُ المُهَاجِرِيْنَ» .
قال اليهودي: فما تُحْفتهم حين يدخلون الجنة.
قال: «زِيَادَةُ كَبِدِ النُّوْنِ» .
قال: فما غذاؤهم في أثرها.
قال: «يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الجَنَّةِ الذي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أطْرَافِهَا» .
قال: فما شرابهم عليه؟
قال: «مِنْ عَيْنٍ فِيْهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيْلاً» .
قال: صدقتَ.
قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان.
قال: «يَنْفَعُكَ إنْ حَدَّثْتُكَ؟» .
قال: أسمع بأذني، جئت أسألك عن الولد.
قال: «مَاءُ الرَّجُلِ أبْيَضُ وَمَاءُ المَرْأَةِ أصْفَرُ، فَإذَا اجْتَمَعَا فَعَلاَ مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ المَرْأَةِ أذْكَرَ بِإذْنِ الله، وإذا عَلاَ مَنِيُّ المَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ أنَّثا بِإذْنِ الله» .
فقال اليهودي: لقد صدقتَ، وإنك لنبي. ثم انصرف.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ سَأَلَنِي هَذا عَنْ الذي سَأَلَنِي عَنْه وَمَا لِيْ عِلْمٌ بِشَيءٍ مِنْه، ثُمَّ أَتَانِي اللَّهُ بِه» .
انفرد بإخراجه مسلم.(1/261)
الباب الثلاثون
في رؤيته الأشياء من وراء ظهره صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقْبل علينا بوجهه قبل أن يكبِّر، فيقول: «تَرَاصُّوْا واعْتَدِلُوا، فإِنِّي أرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» .
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا، فَوَالله مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعَكُمْ وَلاَ رَكُوعَكُمْ، إِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» .
الحديثان في الصحيحين.
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَقِيْمُوا الصُّفُوفَ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِي» .
الباب الحادي والثلاثون
في أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى في الظلمة كما يرى في الضوء
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في الظلْمة كما يرى في الضوء.
الباب الثاني والثلاثون
في إجابة دعائه صلى الله عليه وسلم
عن سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: «أيْنَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ؟» .
فقيل: هو يشتكي عينيه.
قال: «فَأَرْسِلُوا إِلَيْه» فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له، فبرىء كأن لم يكن به وجع.
أخرجاه.
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: كان أبي يَسْمُر مع علي، وكان علي يلبس ثياب الصيف في الشتاء وثياب الشتاء في الصيف. فقيل: لو سألتَه فسأله، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليَّ وأنا أَرْمَدُ العين يومَ خيبر، فقلت: يا رسول الله، إني أرمدُ العين. فتفل في عيني وقال: «اللهم أذهِبْ عنه الحرَّ والبردَ» . فما وجدتُ حَرَّا ولا برداً منذ يومئذ.
عن يَعْلى بن مُرَّة قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة معها صبي لها، فقالت: يا رسول الله، هذا أصابه داء يؤخذ في النوم ما أدري كم مرة.(1/262)
قال: «نَاوِلِيْنِيْهِ» . فدفعته إليه. فجعله بينه وبين واسطة الرَّحل، ثم فغر فاه فتفل فيه ثلاثاً، وقال: «بِسْمِ الله يَا عَبْدَالله، اخْسَأْ يَا عَدُوَّ الله، ثُمَ نَاوَلَهَا إِيَّاهُ، وَقَالَ: القِيْنَا فِي الرَّجْعَةِ فِي هَذا المَكَانِ فَأَخْبِرِيْنَا مَا فَعَلَ» .
قال: فذهبنا ورجعنا، فوجدناها في ذلك المكان معها شياه ثلاث. فقال: «مَا فَعَلَ صَبِيُّكِ؟» .
قالت: والذي بعثك بالحق ما حسَسْنا منه شيئاً حتى الساعة، فاجترِرْ هذه الغنم.
قال: «انْزِلْ فَخُذْ مِنْهَا وَاحِدَةً وَرُدَّ البَقِيَّةَ» .
عن ابن عباس أن امرأة جاءت بولدها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: يا رسول الله، إن به لَمَماً، وإنه يأخذه عند طعامنا.
قال: فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره ودعا، فثَعَّ ثعَّة، فخرج مِن فيه مثلُ الجَرْو الأسود. فسعى.
عن أنس بن مالك قال: أصابت الناسَ سَنةٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يوم الجمعة إذ قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المالُ، وجاع العيال، فادعُ الله أن يسقينا.
فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وما في السماء قَزَعَةٌ، فثار السحابُ أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادَرُ على لحيته.
قال: فمُطِرْنا يومَنا، ومِن الغد، وبعدَ الغد، والذي يليه إلى الجمعة الأخرى.
فقام ذلك الأعرابي أو رجل غيره فقال: يا رسول الله، تهدَّم البناء وغرق المال فادع الله لنا.
فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَه وقال: «اللهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا» .
قال: فما جعل يشير بيديه إلى ناحية من السماء إلا انفرجت، حتى صارت المدينة في مثل الحَوْبَة حتى سال الوادي قناة شهراً.
قال: ولم يجىء أحد إلا حدَّث بالجَوْد.
أخرجاه.
عن أنس بن مالك أنه سئل: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في الدعاء؟(1/263)
قال: نعم، بينا هو في جمعة يخطب الناس، فقيل له: يا رسول الله، قحط المطر، وأَجْدَبت الأرضُ، فادع الله عز وجل.
فرفع يديه حتى رأينا بياض إبطيه، فاستسقى وما في السماء سحابة، فما قضينا الصلاة حتى إن الشاب القريب الدار ليُهمُّه الرجوعُ إلى أهله، فدامت جمعة، فلما كانت الجمعة الأخرى قالوا: يا رسول الله، تهدَّمت البيوت، واحتبس الرُّكبان، وهلك المال.
فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال بيده هذا، ففرَّق بين يديه: «اللهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا» .
قال: فتكشَّطت عن المدينة.
عن عائشة بنت سعد: أن أباها حدّثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل وادياً دَهْساً لا ماء به، وسبقه المشركون إلى القُلب فنزلوا عليها، وأصاب المسلمين العطش، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجمَ النفاقُ، وقال بعض المنافقين: لو كان نبيّاً كما يزعم لاستسقى لقومه كما استسقى موسى.
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أَوَ قَاْلُوْهَا عَسَى أَنْ يَسْقِيَكُمْ» .
ثم بسط كفيه وقال: «اللهُمَّ جَلِّلْنَا سَحَاباً كَثِيْفاً مُغْدَوْدِقاً تَضْحَكُ مِنْهُ الأَرْجَاءُ تُمْطِرُنَا مِنْهُ رَذَاذاً قَدْ قُطِعَ سَجْلاً نَعَّاقاً، يَا ذَا الجَلاَلِ والإِكْرَامِ» .
فما ردَّ يديه من ردائه حتى أظلتنا سحابة تتلون في كل صفةٍ وصفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفات السحاب.
قال: ثم أُمطرنا الضروبَ التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفعم السيلُ الوادي، فشرب الناس وارتووا.(1/264)
عن أنس قال: لما كان يوم الحُدَيْيبية، هبط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة في السلاح من قِبَل جبل التنعيم، يريدون غِرَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم، وأخذوا مال عفان فعفا عنهم ونزلت هذه الآية: {س48ش24وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً }
(الفتح: 24)
.
عن عمرو بن أَحْطَب قال: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ماءً، فأتيته بقدح فيه ماء، وكانت فيه شعرة فأخذتُها، فقال: «اللهُمَّ جَمِّلْهُ» .
قال: فرأيته وهو ابن أربع وتسعين سنة ليس في لحيته شعرة بيضاء.
عن أنس قال: دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهُمَّ أكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وأَطِلْ حَيَاتَهُ» . فأكثرَ الله مالي حتى إن كنز مالي يْحمل في السنة مرتين وولدي لصُلْبي مائة وستة.
عن نوفل، عن أبيه قال: كان ابن أبي لهب يسبُّ النبي صلى الله عليه وسلم، واسمه عُتْبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْباً مِنْ كِلاَبِكَ» .
فخرج يريد الشام في قافلة مع أصحابه، فنزلوا منزلاً فقال: والله إني لأخاف دعوة محمد.
قال: فقالوا له كلاَّ.
قال: فحطوا المتاعَ وقعدوا حوله يحرسونه.
قال: فجاء السبع فانتزعه فذهب به.
عن جابر، عن بلال قال: أذَّنتُ بالصبح في ليلة باردة، فلم يأتِ أحد، ثم أذَّنتُ فلم يأتي أحد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا شَأْنُهُمْ يَا بِلاَلُ؟» .
قلت: كَبَدهم البَرْدُ.
فقال: «اللهُمَّ أكْسِرْ عَنْهُم البَرْدَ» .
قال بلال: فلقد رأيتهم يتروَّحون.
عن أنس أن أبا طالب مرض؛ فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا بن أخي، ادعُ ربك الذي تعبده أن يعافيني.(1/265)
قال: «اللهُمَّ اشْفِ عَمِّي» . فقام أبو طالب كأنما أنْشط من عِقَال. قال: يا بن أخي إن ربك الذي تعبده لَيُطيعك. قال: «وأنْتَ يَا عَمَّاهُ لَوْ أَطَعْتَ اللَّهَ لأَطَاعَكَ» .
فصل
ولما ظهرت معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه المؤمنون عملاً بالدليل لا تقليداً.
ولهذا كانوا يتعرضون ليعرفوا السبب، فيقولون: واصلتَ ونهيتنا وفعلت كذا. فيبين لهم سبب ذلك.
فلما أذعنَتْ له القلوبُ وشاع الإِسلام ضَنِيت قلوبُ مكذِّبيه وحاسديه.
فرضي اليهود بالخلود في النار اتباعاً لمقتضى الحسد، ومع علمهم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخذ قوم يقولون بزَعْمهم، مثلَ القرآن: كمسيلمة، فإنه قال: يا ضفدع نُقِّي كم تنقَّين.
وسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على رأس صبي فنبت شعره، فمسح على رأس صبي فقرع.
وبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم بصق في بئر فجاشت بالريّ فبصق هو في بئر فيبست.
فلما فشا الإِسلامُ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفُتحت البلدان، اجتمع جماعة من الملحدين فقالوا: لا طاقة لنا بالمسلمين، فهلموا حتى نظهر الإِسلامَ ونُدحل فيه الآفات.
وهم الباطنية، يظهرون الإِسلام والتعبد ومقصودهم الجهالُ واصطيادهم، فإذا تملَّكوا منهم كاشفُوا بالإِلحاد.
قال ابن عقيل: لو اجتمعتُ برئيس الباطنية سلكتُ معه طريقَ الإِزراء على عقله وعقول أتباعه.
فكنت أقول: للآمال طرق ووجوه، ووَضْعُ الأمل في جهة الإِياس حُمْقٌ.
وقد طبَّقت شريعة الإِسلامُ الأرضَ وتمكنت.
فلها مَجْمَع كلَّ سنة بعرفه، وكل أسبوع في الجمعة، ومجامع في المساجد.
فمتى تحدِّثون أنفسكم بتكدير هذا البحر الزاخر وتَمْحِيق هذا الأمر الظاهر في الآفاق، وكلَّ يوم يؤذَّن على مائتي ألف منار باسم هذا الرسول.
وغاية ما أنتم عليه حديثٌ في خلوة، لو ظهر لم يُؤْمَن هلاك قائله.
فلا أعرفُ أحمقَ منكم
هذا إلى أن يجيء باب المناظرة(1/266)
قال المصنف: وقد اندسَّ جماعة من الملحدين في المسلمين، كأبي العلاء المعَرِّي، وابن الراوَندي قبله، فماتَا على أقبح صفة.
واندسَّ منهم جماعة في المحدِّثين، فوضعوا أحاديث يقصدون بها شَيْنَ الشريعة وتناقضها.
فأظهر الله علماءَ يكشفون فضائحهم، ويبينون الصوابَ من الخطأ.
وأظهر قومٌ التكهن، فأقبلوا يخبرون عن الغيوب، وأخذ قومٌ يتكلمون على ما في القلوب، والمنجِّم عمّا يكون غداً.
كلُّ ذلك ليظهروا أن دين الإِسلام لم يأتِ بمعجزة.
ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
قال ابن عقيل: ومن أكبر الدلائل على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم، أن الباري سبحانه إنما يُمْهل الكذاب يسيراً ثم يستأصله بالعذاب.
فيجوز أن يُمَّهل من يكذب عليه سنين، ثم يثبِّت شريعته بعده؟
وقد أقدم على نسخ شريعتين قبله، وحلَّل السَّبْت، ثم ينصر أتباعه على الأمم ويؤيد حكمته بالإِعجاز؟
حاشاه أن يفعل ذلك، إذ لو فعله لم يُتَبين الصدقُ من المحال.
ألم تسمعه تعالى يقول: {س69ش44وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأٌّقَاوِيلِ }(الحاقة: 44)
.
فمن طعن في صدقه طعن في عدل الباري وحكمته؛ لأن الطعن يتوجه على المعِين.
قال: ولقد فاضت أشعةُ معجزاته على أصحابه، فكتب عمر إلى نيل مصر ونادى ساريةَ فأسمعه، وجيء بكنوز كسرى فقسِّمت في مسجده صلى الله عليه وسلم.
أبواب فضله على الأنبياء عليهم السلام، وخصائصه ومثل ما بعث به، ومثل أمته ووجوب طاعته وتقديم محبته على النفوس صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في ذكر فضله على الأنبياءعليه وعليهم الصلاة والسلام
اعلم أن الله تعالى أنشأ النفوس مختلفة، فمنها الغاية في جودة الجوهرية، ومنها الكَدِر وفي كل رُتْبة درجات.
فالأنبياء هم الغاية، خُلقت أبدانهم سليمةً من العيب، فصَلُحت لحلول النفوس الكاملة، ثم يتفاوتون.
فكان نبينا صلى الله عليه وسلم أصح الأنبياء مزاجاً، وأكملَهم بدناً، وأصفاهم روحاً.(1/267)
وبمعرفة ما نذكره من أخلاقه وصفاته يبين ذلك.
ولذلك قدَّمه الله عزّ وجلّ على الكُلّ.
فمن ذلك خَلْقُ نفسه قبل خَلق نفوسهم.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُنْتُ أوَّلَ النَّبِيِّينَ فِي الخَلْقِ وآخِرَهُمْ فِي البَعْثِ» .
وقد ذكرنا كيف خُلقت طينته في أول الكتاب.
ومن ذلك: أنه أخذ له الميثاق على الأنبياء.
فقال عزّ وجلّ: {س3ش18شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا? اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
(آل عمران: 81)
.
فجَعل الأنبياء كالأتباع له، وألهمهم الانقيادَ، فلو أدركوه وجب عليهم اتباعه.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لَوْ كَانَ مُوْسَى حيًّا مَا وَسِعَهُ إلاَّ اتِّبَاعِي» .
وقدَّم ذكرَه على الأنبياء فقال عزّ وجل: {س4ش163إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأٌّسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }
(النساء: 163)
وخاطب كلَّ نبي باسمه فقال تعالى: {س2ش35وَقُلْنَا يَاءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ }
(البقرة: 35)
، {س11ش48قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ }
(هود: 48)
، {س11ش76يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَاذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ }
(هود: 76)
، {(1/268)
س19ش12يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً }
(مريم: 12)
، {س38ش26يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأٌّرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ } (ص: 26)
{س5ش110إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِى وَتُبْرِىءُ الأٌّكْمَهَ وَالأٌّبْرَصَ بِإِذْنِى وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِى وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى? إِسْرَاءِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }
(المائدة: 110)
، {س19ش7يازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً }
(مريم: 7)
، {س19ش12يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً }
(مريم: 12)
ولم يخاطب نبينا بالاسم تعظيماً له، بل قال: {س33ش1يأَيُّهَا النَّبِىِّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً }
(الأحزاب: 1)
، {س5ش67يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
(المائدة: 67)(1/269)
فلما ذكر اسمه للتعريف قرنه بذكر الرسالة، فقال تعالى: {س3ش144وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ }
(آل عمران: 144)
، {س48ش29مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }
(الفتح: 29)
، {س47ش2وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَءَامَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ }
(محمد: 2)
ولمَّا ذكره مع الخليل ذكر الخليل باسمه وذكره باللَّقب، فقال تعالى: {س3ش68إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَاذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ }
(آل عمران: 68)
.
وأخبر الله تعالى أنَّ الأمم كانوا يخاطبون أنبياءهم بأسمائهم، كقولهم: {س11ش35أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ إِجْرَامِى وَأَنَاْ بَرِى?ءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ }
(هود: 53)
، {(1/270)
س11ش62قَالُواْ ياصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَاذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ }
(هود: 62)
، {س7ش38قَالَ ادْخُلُواْ فِى? أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِى النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاٍّولَاهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ }
(الأعراف: 38)
. {س5ش112إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
(المائدة: 112)
ونهى أمته أن يخاطبوه باسمه، فقال تعالى: {س24ش63لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
(النور: 63)
.
عن ابن عباس في قوله تعالى: {س24ش63لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
(النور: 63)
.
قال: لا تقولوا يا محمد، قولوا يا رسول الله.
وقد كانت الأنبياء يجادلون أممهم عن أنفسهم.
يقول قوم نوح: {س7ش60قَالَ الْمَلائ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }
(الأعراف: 60)
،(1/271)
فقال دافعا عن نفسه: {س7ش61قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }
(الأعراف: 61)
.
وقال قوم هود: {س7ش66قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ }
(الأعراف: 66)
(فقال: {س7ش67قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }
(الأعراف: 67)
.
وقال فرعون لموسى: {س17ش101وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّى لأَظُنُّكَ يامُوسَى مَسْحُورًا }
(الإسراء: 101)
.
فقال موسى: {س17ش102قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأٌّرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّى لأَظُنُّكَ يافِرْعَونُ مَثْبُورًا }
(الإسراء: 102)
فتولَّى الله عزّ وجلّ المجادلة عن نبيه صلى الله عليه وسلم.
فلما قالوا: هو شاعر قال الله تعالى: {س36ش69وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ }
(يس: 69)
وقالوا: كاهن، فقال تعالى: {س69ش42وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }
(الحاقة: 42)
وقالوا: ضال. فقال الله تعالى: {س53ش2مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى }
(النجم: 2)
.
وقالوا: مجنون. فقال الله تعالى: {س68ش2مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ }(القلم: 2)
.
وأقسم الحق سبحانه وتعالى بحياته، وإنما يقع القسم بالمعظَّم.
عن ابن عباس قال: ما خلق الله تعالى وما ذرأ نفساً هي أكرمَ من محمد صلى الله عليه وسلم.
وما سمعتُ الله أقسَم بحياة أحد غيره، فقال: {س15ش72لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } الحجر: 72)
قال ابن عقيل:(1/272)
وأعظمُ من قوله لموسى: {س20ش4تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الأٌّرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى }(طه: 4)
قوله: {س48ش10إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }
(الفتح: 10)
وقوله: {س90ش1/ش2لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ } (البلد: 1، 2)
.
المعنى: أقسم لا بالبلد، فإن أقسمت بالبلد فلأنك فيه.
يا موسى اخلع نعليك ولا تجىء إلا ماشياً.
يا محمد اركب البُراق ولا تجىء إلا راكباً
وقد أشار الله تعالى إلى أحوال الأنبياء ثم ذكر التوبة عليهم.
وقال في حق موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ }
(القصص: 33)
ثم قال: { ربِّ اغفر لي} فغفر له.
وقال في حق داود: {س38ش24قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِى? بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ }
(ص: 24)
ثم قال: {س38ش25فَغَفَرْنَا لَهُ ذَالِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئَابٍ }
(ص: 25)
.
وقال: {س38ش34وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ }
(ص: 34)
، ثم قال: {ثم أنابَ} .
وأخبر تعالى بغفران ذنب نبينا من غير أن يذكر له ذنباً، فقال: {س48ش2لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }
(الفتح: 2)(1/273)
ومن بيان فضله على الأنبياء: أن آدم سأل ربَّه بحرمة محمد أن يتوب عليه، كما ذكرنا.
وأن نوحا دعا على قومه، ونبيُّنا قال: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» .
ثم قد اتخذه خليلاً كما اتَّخذ إبراهيم، فقال عليه السلام: «وَلكنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيْلُ الله» .
عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ صاحِبَكُمْ خَلِيْلُ الله» يعني نفسَه.
ثم جعله حبيباً، وهذه ليست لغيره.
عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ربه: «قد اتخذتك خليلاً، وهو في التوراة مكتوب: محمد حبيب الرحمن» .
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيْمَ خَلِيلاً. وَمُوسَى نَجِيًّا، واتَّخَذَنِي حَبِيْباً، ثُمَ قَالَ: وَعِزَّتِي لأُوثِرَنَّ حَبِيْبِي عَلَى خَلِيْلِي ونَجِيِّي» .
قال المصنف رحمه الله: فإن كان إبراهيم كَسر الأصنام، فقد رمى نبيُّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هُبَلَ من أعلى الكعبة، ثم أشار يوم الفتح إلى ثلاثمائة وستين صنماً فوقعت.
وإن كان هود نُصر على قومه بالدَّبور، فقد نُصر نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصَّبَا.
فمزَّقت أعداءَه يوم الخندق.
وإن كان لصالح ناقة، فقد سجدت الإِبل لنبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن كان يوسف مليح الصورة، فقد كان نبينا كالقمر ليلة البدر.
وإن كان الحجَر انفجر لموسى، فقد نبع الماءُ من بين أصابع نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أَعْجَبُ، لأن الماء ما يزال يخرج من الحجارة.
وخوار النخل وحنينه إلى نبينا أعجبُ من حالات عصا موسى.
وقد دعا نبينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الشجرةَ فشقّت الأرضَ وجاءت إليه.
وإن كانت الجبال سبَّحت مع داود، فقد سبَّح الحصا في كفِّ نبينا صلى الله عليه وسلم.
وإن كان الحديد ليِّن لداود فقد لان الصخر لنبينا صلى الله عليه وسلم.(1/274)
وقال أبو نُعيم الأصبهاني: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الغار مال برأسه إلى الجبل ليخفي شخصه عنهم، فليَّن الله الجبل حتى أدخل فيه رأسه، واستروحَ إلى حجر من جبل أصمَّ فَلان له حتى أثَّر فيه ذراعُه وساعدُه.
وذلك مشهور يقصده الحاج ويرونه.
وعادت صخرة بيت المقدس كهيئة العجين، فربط به دابته، والناس يلتمسون ذلك الموضع إلى اليوم.
قال المصنف رحمه الله: وإن كان سليمان أُعطي ملكَ الدنيا، فقد جيء لنبينا صلى الله عليه وسلم بمفاتيح خزائن الأرض فأباها زُهْداً.
وإن كانت الريح سُخِّرت لسليمان، غدوُّها شهر ورَواحها شهر، فنبينا صلى الله عليه وسلم سار إلى بيت المقدس مسيرة شهر في بعض ليلة.
وسارَ الرُّعْبُ بين يديه مسيرة شهر.
وعرج به مسيرة خمسين ألف سنة إلى العرش.
وإن كان سليمان فهم كلامَ الطير، فقد فهم نبينا صلى الله عليه وسلم كلامَ البعير والذئب والشجر والحجر.
وإن كانت الجن سُخِّرت لسليمان، فقد جاءت إلى نبينا صلى الله عليه وسلم طائفة من الجن مؤمنة به.
وقد كان سليمان يصفِّد مَن عصاه منهم، فلما تفَلَّت عفريت على نبينا صلى الله عليه وسلم (تمكن منه) وأسَره.
وقد كانت الجن أعواناً لسليمان يخدمونه، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم أعوانُه الملائكة يقاتلون بين يديه ويدفعون أعداءه.
وقد ذكرنا فيما تقدم أن أبا جهل لما أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي ليطأ على عنقه نكص على عقبيه وقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهَوْلاً وأجنحة.
وإن كان عيسى يخبر بالغُيوب، فقد شارَكه نبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك.(1/275)
وقد قرَن الله تعالى اسمَ نبينا صلى الله عليه وسلم باسمه عزّ وجلّ عند ذكْر الطاعة والمعصية، فقال تعالى: {س4ش59يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأٌّمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }
(النساء: 59)
.
وقال: {س9ش71وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصلاةَ وَيُؤْتُونَ الزكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
(التوبة: 71)
.
وقال: {س4ش59يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأٌّمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }
(النساء: 59)
.
وقال: {س8ش41وَاعْلَمُو?ا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَىْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ ءَامَنْتُم بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ }
(الأنفال: 41)(1/276)
وقال: {س9ش74يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُو?اْ إِلاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِى الأٌّرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }
(التوبة: 74)
.
وقال: {س33ش57إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً }
(الأحزاب: 57)
وقال: {س9ش36إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأٌّرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُو?اْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }
(التوبة: 63)
وقال: {س9ش29قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }
(التوبة: 29)
وقد ذكرنا أن الله تعالى قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: «لا أُذْكَر إلا ذُكرتَ معي» .
وأما الأحاديث المنقولة في تفضيله على الأنبياء صلوات الله عليهم:(1/277)
عن جابر بن عبدالله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُعْطِيْتُ خَمْسًا لم يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وطَهُورًا، فَأَيَّمَا رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِي أدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وأُعْطِيْتُ الشَفَاعَةَ، وكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِه خَاصَّةُ، وبُعثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً» .
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بُعثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رأَيْتُنِي أُتِيْتُ بَمَفاتِيْحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي» .
الحديثان في الصحيحين.
وجوامع الكلم: أن يَجْمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة.
عن أبي ذَرَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيْتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنُ أَحَدٌ قَبْلِي: بُعِثْتُ إلى الأَحْمَرِ والأَسْوَدِ، وجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ طَهُوْرا وَمَسْجِدًا، وأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ ولَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، فَيُرعَبُ العَدُوُّ وَهو مِنِّي مَسِيْرَةَ شَهْرٍ، وقِيْلَ لِي: سَلْ تُعْطَهُ، فاخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، فَهِي نَائِلةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِالله شَيْئاً» .(1/278)
عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيْتُ خَمْسًا: بُعِثْتُ إلى الأَحْمَرِ والأَسْوَدِ، وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُورًا، وأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ ولَمْ تَحِلَّ لِمَنْ كَانَ قَبْلِي، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ شَهْرًا، وأُعْطِيْتُ الشَفَاعَةَ، ومَا مِن نَبِيَ إلاَّ وقَدْ سَأَلَ شَفَاعَةً، وإنِّي اخْتَبَأْتُ شَفَاعَتِي ثُمَ جَعَلْتُهَا لِمَنْ كَانَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِالله شَيْئاً» .
عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فُضِّلْتُ بَأَرْبَعٍ: جُعِلَتْ الأَرْضُ لأُمَّتِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ..» .
عن ابن الحنفية أنه سمع عليَّ بن أبي طالب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيْتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ» .
فقلنا: يا رسول الله، ما هو؟
قال: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وأُعْطِيْتُ مَفَاتِيْحَ الأَرْضِ، وسُمِّيْتُ أَحْمَدَ، وجُعِلَ التُّرابُ لِي طَهُورًا، وجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرُ الأُمَمِ» .
عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزاة تبوك قام من الليل يصلي، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه، حتى إذا صلى، وانصرف إليهم قال لهم: «لقد أُعْطِيْتُ اللَّيْلَةَ خَمْسًا مَا أُعْطِيَهُنَّ أَحدٌ قَبْلِي.
أَمَّا أَنَا فَأُرْسِلْتُ إلى الناسِ كُلِّهِمْ عَامَة، وكان مَن قَبْلِي إنَّما أُرْسِلَ إلى قَوْمِهِ.
ونُصِرْتُ عَلَى العَدُوِّ بِالرُّعْبِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنِي وبَيْنَهُمْ مَسِيرَةَ شَهْرٍ لَمُلِىءَ مِنِّي رُعْبًا.
وأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ كُلُّهَا، وَكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ أكْلَهَا كَانُوا يُحْرِقُونَها.(1/279)
وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسَاجِدُ وَطَهُورًا، أَيْنَمَا أدْرَكَتْنِي الصَّلاَةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ وَكَانَ مَنْ قَبْلي يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ، إِنَّما كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ.
والخَامِسَةُ: هيَ مَا هِيَ قِيْلَ لِيْ: سَلْ، فإنَّ كُلَّ نَبِيٍ قَدْ سَأَلَ. فَأَخَّرْتُ مَسْأَلَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، فَهِيَ لَكُمْ وَلِمَنْ شَهِدَ أنْ لاَ اله إِلاَّ اللَّهُ» .
عن جابر بن عبدالله: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه مِنْ بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: «أُمُهَوِّلوُنَ فِيْهَا يَا ابْنَ الخَطَّابِ والذي نَفْسِي بِيَدِه لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لاَ تَسْأَلوُهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِروكُمْ بِحَقَ فَتُكَذِّبُوه أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوهُ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مُوسَىْ عَلَيْهِ السَّلامُ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلاَّ أنْ يَتَّبِعُنِي» .
عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بَدَا لَكُمْ مُوسَى فاتَّبَعْتُمُوهُ ثُمَ تَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُم عَنْ سَوَاءِ السَّبِيْلِ، وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيّاً ثُمْ أدْرَكَ نُبوَّتِي لاتَّبَعَنِي» .
عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فُضِّلنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاَثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ المَلاَئِكَةِ، وجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدا، وجُعِلَتْ تُرَبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إذَا لَمْ نَجِد المَاءَ» .(1/280)
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فُضِّلْتُ عَلَى الأنْبِيَاءِ بِسِتَ: أُعْطِيْتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ، ونُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وأُحِلَّتْ لَنَا الغَنَائِمُ، وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ طَهُورًا ومَسْجِدًا، وأُرْسِلْتُ إلَى الخَلْقِ كَافَّة، وخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ» .
عن أبيِّ بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءةً أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءةً سِوَى قراءة صاحبه.
فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إنّ هذا قرأ قراءة أنكرتُها عليه، ودخل آخر فقرأ سِوَى قراءة صاحبه.
فأقرأهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقرآ، فحسَّن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما.
فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غَشِيني ضرب في صدري، ففِضْتُ عرَقاً وكأني أنظر إلى الله فرَقاً، فقال: «يَا أُبَيُّ، أَرْسِلَ إِليَّ: أَنْ اقْرَأ القُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ: أنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي.
فردَّ إليَّ الثَّانِيَةَ: أنْ اقْرَأْهُ عَلَى حَرفٍ فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ: أنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي.
فردَّ إليَّ الثَّالِثَةَ: أنْ اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، ولَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُّكَهَا مَسْأَلَةً تَسَلْنِيْهَا» .
فقلت: «اللهُمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِي، اللهُمَّ اغْفِرْ لأُمَّتِي، وأخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمَ يَرْغُبُ فِيه إليَّ الخَلْقُ كُلُّهُمْ، حَتَّى إِبْرَاهِيْمَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ» .
هذا الحديث وحديثان قبله من أفراد مسلم.(1/281)
عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللَّهَ فَضَّلَنِي عَلَى الأنْبِيَاءِ، وفَضَّل أُمَّتِي عَلَى الأُمَمِ، وأَرْسَلَنِي إلَى النَاسِ كَافَّةً، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ يَسِيْرُ بَيْنَ يَدَيَّ قَذَفَهُ فِي قُلُوبِ أعْدَائِي، وجُعِلَتْ الأَرْضُ كُلُّهَا لِي مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فأيَّمَا عَبْدٌ أدْرَكَتْه الصَّلاَةُ فَعِنْدَه مَسْجِدُه وطَهُورُه، وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمَ» .
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيْتُ خَمْسًا لَم تُعْطَ لأَحَدٍ مِنَ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي: جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، ولَمْ يَكُن نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ يَعْنِي يُصَلِّي حَتَّى يَبْلُغَ مِحْرابَه، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَ المُشْرِكِيْنَ مَسِيْرَةُ شَهْرٍ فَيَقْذِفَ اللَّهُ الرُّعْبَ فِي قُلوبِهِم، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلى خَاصَّةِ قَوْمِهِ، وبُعِثْتُ إلى الجِنِّ والإِنْسِ، وكَانَت الأَنْبِيَاءُ يَعْزِلُونَ الخُمْسَ فَتَجِيءُ النَّارُ فَتَأْكُلُه، وأُمِرْتُ أنْ أَقْسِمَه فِي أُمَّتِي، ولَمْ يَبْقَ نَبِيٌّ إلا وَقَد أُعْطِيَ سُؤلَه وأَخَّرْتُ أنَا الشَّفَاعَةَ لأُمَّتِي» .
فإن قال قائل: قد كان لسليمان سراري، ومعلوم أن العبيد والإِماء أثرُ الغنيمة، فما وجه قول الرسول: «أُحِلَّت لي الغنائم».(1/282)
فالجواب: أنه كان الأنبياء إذا جاهدوا وقدَّموا الغنيمة التي هي أمتعةٌ وأطعمة وأموال نزلت نار فأكلتها كلّها: خُمْس ذلك النبي وسهام الأمَّة. يدل عليه ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غَزَا نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا، فَأَقْبَلَت النَّارُ لِتَأْكُلَه فَأَبَتْ أنْ تُطْعَمَه فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فِيْكُم غُلولٌ. فأخْرَجُوا مِثلَ رَأسِ بَقَرَةٍ فَوَضَعُوه فِي المَالِ، فأقْبَلَت النَّارُ فَأَكَلَتْه» .
«فَلَمْ تَحِلَّ الغَنَائِمَ لأَحَدٍ قَبْلَنا، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَأَى ضَعْفَنَا وعَجْزَنَا فَطَيَّبهَا لَنَا» .
وأما العبيد والإِماء والحيوانات فإنها تكون مِلْكاً للغانمين دون الأنبياء، فلا يجوز للأنبياء أخذُ شيء من ذلك بسبب الغنيمة بل بالابتياع والهدية ونحو ذلك.
ومِنْ هذا تَسرِّي سليمان.
وكان يجوز ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم، وكان يأخذ الخُمْسَ والفَيْءَ ويتصرَّف فيه، وهما من خصائصه دون الأنبياء.
فإن قيل: فالعبيد والإِماء غنيمة أيضاً؟
قلنا: نعم، ولكن ذلك حرِّم على الأنبياء خاصة، وأُحلَّ لنبينا صلى الله عليه وسلم فانفرد بذلك عن الأنبياء.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهَل تَدْرونَ لِمَ ذَلِكَ؟ يَجْمَعُ الله الأوَّلِينَ والآخِرِيْنَ فِي صَعِيْدٍ وَاحِدٍ، وتَدْنو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسُ مِنَ الغَمِّ والكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ألاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَيَأْتُونَ آدَمَ» .
وذكَر حديث الشفاعة، وأنه هو الذي يشفع في الخلق.
وسيأتي هذا الحديث في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى، ويذكر في الأحاديث هناك احتياجَ الخلق كلهم إليه وتقدُّمه عليهم.(1/283)
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنا أوَّلُ النَّاسِ خُروجًا إذا بُعِثُوا، وأَنَا خَطِيْبُهُمْ إذَا وَفَدُوا، وأنَا مُبَشِّرُهُمْ إذَا أَيِسُوا، وأَنا أكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى الله وَلاَ فَخْرَ» .
وفي رواية عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَنا أكْرَمُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ عَلَى الله وَلاَ فَخْرَ» .
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَنا أَوَّلُهُمْ خُروجًا إذَا بُعِثُوا، وأَنا وَافِدُهُمْ إذَا وَفِدُوا، وأَنا خَطِيْبُهُمْ إذَا أنْصَتُوا، وأنا شَفِيْعُهُمْ إذَا حُبِسُوا، وأَنا مُبَشِّرُهم إذَا أَيُسُوا، والمَفَاتِيحُ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي، وأَنَا أكْرَمُ وَلَدِ آدَمُ عَلَى رَبِّي، يَطوُفُ عَلَيَّ ألفُ خَادِمٍ كَأنَّهُمْ بَيْضٌ مَكْنونٌ أو لؤلؤٌ منْثُورٌ» .
عن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه، فخرج حتى دنا منهم فسمعهم يتذاكرون، فإذا بعضهم يقول: عجباً إن الله اتخذ من خلقه خليلاً وإبراهيمُ خليله.
وقال آخر: ماذا بأعجب من أن يكلِّم الله موسى تكليماً.
وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه.
وقال آخر: آدم اصطفاه الله.
فخرج عليهم فسلّم ثم قال: «قَدْ سَمِعْتُ كَلاَمَكُمْ وَعَجَبِكُمْ أنَّ إبْرَاهِيْمَ خَلِيْلُ الله، وهو كَذَلِكَ، ومُوسَى نَجِيُّه، وهُوَ كَذلِكَ، وَعِيْسَى رُوحُه وكَلِمَتُه، وهو كَذلِكَ، ألاَ وأنَا حَبِيْبُ الله وَلا فَخْرَ، وأَنا حَامِلُ لِوَاءَ الحَمْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا فَخْرَ، وأَنا أوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حَلْقَةَ بَابِ الجَنَّةِ وَلاَ فَخْرَ، فَيَفْتَحُ اللَّهُ فَيُدْخِلْنِيْهَا وَمَعِيَ فُقَرَاءُ المُؤْمِنينَ وَلاَ فَخْرَ، وأَنَا أكْرَمُ الأوَّلِينَ والآخِرِيْنَ عَلَى الله وَلاَ فَخْرَ» .
عن ابن عباس قال: «ما خلق الله خَلْقاً ولا برأَه أحب إليه من محمد صلى الله عليه وسلم».(1/284)
عن حذيفة قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إبراهيم خليل الله، وموسى كلمه الله تكليماً، وعيسى كلمة الله وروحه، فما أُعطيتَ يا رسول الله؟.
قال: «وَلَدُ آدَمَ كُلُّهُمْ تَحْتَ لِوائِي، وأَنا أَوَّلُ مَنْ يُفْتَحُ لَه بَابُ الجَنَّةِ» .
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قُلْتُ: يَا رَبِّ إنَّه لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ إلاَّ وَقَدْ أكْرَمْتَه، فَجَعَلْتَ إبْرَاهِيْمَ خَلِيْلاً، ومُوسَى كَلِيْماً، وَسَخَّرْتَ لِدَاوُدَ الجِبَالَ ولسُلَيْمَانَ الرِّيْحَ والشَّيَاطِيْنَ، وأحْيَيْتَ لِعِيْسَى المَوْتَى، فَمَا جَعَلْتَ لِي؟» .
قال: «أَوَ لَيْسَ قَدْ أعْطَيْتُكَ مَا هُوَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّه: لاَ أُذْكَرُ إلاَّ ذُكِرْتَ مَعِي، وَجَعَلْتُ صُدُورَ أمَّتِكَ أنَاجِيْلَ يَقْرَؤوُنَ القُرَآنَ ظَاهِراً، وَلَمْ أُعْطِهَا أُمَّةً» .
عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لمَّا أُسْرِيَ بِي إلى السَّمَاءِ قُلْتُ: يَا ربِّ اتَّخَذْتَ إبْرَاهِيْمَ خَلِيْلاً، وكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيْماً، وَرَفَعْتَ إدْرِيْسَ مَكَانًا عَلِيًّا، وآتَيْتَ دَاوُدَ زَبُوْرًا، وأعْطَيْتَ سُلَيْمَانَ مُلْكًا وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِه، فَمَاذَا لِيْ يَا رَبِّ؟» .(1/285)
قال: «يَا مُحَمَّدُ،اتَّخَذْتُكَ خَلِيْلاً كَمَا اتَّخَذْتُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وكَلَّمْتُكَ كَمَا كَلَّمْتُ مُوسَى تَكْلِيماً، وأَعْطَيْتُكَ فَاتِحَةُ الكِتَابِ وَخَوَاتِيْمَ سُورَةِ البَقَرَةِ وَلَمْ أُعْطِهَا نَبِيًّا قَبْلَكَ، وأرْسَلْتُكَ إِلَى أَسْوَدِ أهَلِ الأرْضِ وأحْمَرِهِمْ وإِنْسِهم وَجِنِّهِمْ، ولَمْ أُرْسِل إلَى جَمَاعِهمْ قَبْلَكَ، وَجَعَلْتُ الأرْضَ لَكَ ولأُمَّتِكَ مَسْجِداً وَطَهُوراً، وأطْعَمْتُ أمَّتُكَ الفَيْءَ وَلَمْ أُحِلَّه لأَمَّةٍ قَبْلَهَا، ونَصَرْتُكَ بِالرُّعبِ، حتَّى إنَّ عَدوَّكَ ليُرْعَبُ مِنْكَ وأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ سَيِّدَ الكُتُبِ، قَالَ قُرآناً عَرَبِيّاً، وَرَفَعْتُ لَكَ ذِكْرَكَ حَتَّى لا أُذْكَرُ إلاَّ ذُكِرْتَ مَعِي» .
عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي عَلَى العَالَمِينَ مِنَ النَّبِيِّينَ والمُرْسَلِينَ» .
عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ اخْتَارَنِي عَلَى جَمِيعِ العَالمِينَ مِنَ النَّبِيِّينَ المُرْسَلينَ» .
عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ أعْطَى مُوسَى الكَلاَمَ، وأعْطَانِي الرُّؤْيَةَ، وَفَضَّلَنِي بِالمَقَامِ المَحْمُودِ وَالحَوْضِ المَوْرُودِ» .
عن ابن عمر قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «فُضِّلْتُ عَلَى آدَمَ بِخَصْلَتَيْنِ: كَانَ شَيْطَانِي كَافِراً فَأَعَانَنِي اللَّهُ عَلَيهِ فَأَسْلَمَ، وَكُنَّ أزْوَاجِي عَوْناً لِي وَكانَ شَيْطَانُ آدَمَ كَافِراً، وكَانَتْ زَوَّجَتُه عَوْناً عَلَى خَطِيئَتِه» .
فصل
فإن قال قائل: كيف قال: «وبعثت إلى الخَلْق كافة» .(1/286)
ومعلوم أن موسى لمَّا بُعث إلى بني إسرائيل لو جاءه غيرهم من الأمم يسألونه تبليغَ ما جاء به عن الله لم يَجُزْ له كَتْمه، بل يجب عليه إظهارُ ذلك لهم؟
ثم قد أُهلك الخَلْق في زمن نوح، وما كان ذلك إلا لعموم رسالته؟
فقد أجاب عن هذا ابنُ عقيل فقال: «إن شريعة نبينا جاءت ناسخة لكل شريعة قَبْلها، وقد كان يجتمع في العصر الواحد نبيَّان وثلاثة يدعو كل واحد إلى شريعة تخصُّه، ولا يدعو غيره من الأنبياء إليها ولا ينسخها».
بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه دعا الكلَّ ونسخ، وقال: «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعُهُ إلاَّ اتِّبَاعِي» وما كان يمكن عيسى أن يقول هذا في حق موسى.
وأما نوح فإنه لم يكن في زمنه نبيٌّ يدعو إلى ملته.
الباب الثاني
في ذكر خصائصه صلى الله عليه وسلم
قد خُصَّ النبي صلى الله عليه وسلم بواجبات، ومحظورات، ومباحات، وتكرُّمات.
فالواجبات: السواك، والوِتْر، والأضْحية، وركعتا الفجر. وفي قيام الليل خلاف.
والمحظورات: الرمزُ بالعين، وأكل الصدقة المفروضة، والتزويج بالإِماء، وخَلْع لأمة الحرب حتى يَلْقى العدوَّ.
وأما قول الشعر والكهانة فقد ذكرت في المحظورات، وإنما مُنِع من ذلك، لا أنه حرِّم عليه.
وأما المباحات: فمنها الوصال في الصوم، وقد مُنِع منه غيره، وأَخْذُ الماء من العطشان، وخُمْس الخُمس، والصَّفِيُّ من المَغْنَم، والتزوج بأي عدد شاء، والنكاح بغير مَهْر ولا وليَ وبلفظ الهِبَة.
وأما التكرُّمات: فتحريم أزواجه على غيره في الدنيا، وجَعْلُ أزواجه في الجنة.
وبُعث إلى الخَلْق كافة، ولا نبيَّ بَعْدَه.
وخلِّدت شريعته فلم تُنْسخ، وجُعل مُعْجِزُه باقياً يُتصفّح إلى يوم القيامة ويُتحدَّى به.
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فُضِّلْتُ عَلَى النَّاسِ بَأَرْبَعٍ: بالسَّخَاءِ، والشَّجَاعَةِ، وكَثْرَةِ الجِمَاعِ، وَشِدَّةِ البَطْشِ» .
الباب الثالث(1/287)
في إنفاذ قطف له صلى الله عليه وسلم من الجنة
عن أنس بن مالك قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله يقرئك السلام، وأرسلني إليك بهذا القطف» فأخذه صلى الله عليه وسلم.
الباب الرابع
في إنفاذ مقاليد الدنيا إليه صلى الله عليه وسلم
عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أُتِيْتُ بِمَقَالِيْدَ الدُّنْيَا عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ عَلَيْه قَطِيْفَةٌ مِنْ سُنْدُسٍ» .
الباب الخامس
في رفع ذكره صلى الله عليه وسلم
عن أبي سعيد الخُدْري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتَانِي جِبْرِيْلَ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ عزّ وَجَلّ يَقُولُ لَكَ: تَدْرِي كَيْفَ رَفَعْتُ لَكَ ذِكْرَكَ؟ إذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي» .
الباب السادس
في ذكر مثله صلى الله عليه وسلم ومثل الأنبياء
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلي ومَثَلُ الأنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَى بُيُوتاً فَأَحْسَنَهَا وأكْمَلَها وأَجْمَلَها، إلاّ مَوْضِعَ لَبِنَةً مِن زَاوِيَةٍ من زَوَايَاهَا، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطوفونَ ويَعْجَبُونَ مِن البُنْيَانِ، فَيَقُولون: ألا وَضَعْتَ هَا هُنَا لِبَنَةً فَيَتِمَّ بُنْيَانُكَ؟» .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَكُنْتُ أنَا اللَّبِنَةَ» .
عن الطُّفَيْل بن أبيِّ بن كعب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «مَثَلي فِي النَّبِيِّينَ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارَاً فأحْسَنَها وأَجْمَلَها وَتَرَكَ فِيهَا مَوْضِعَ لَبِنَةً لَمْ يَضَعْهَا، فَجَعَلَ النَّاسُ يطوفونَ بالبُنْيَانِ ويَعْجَبونَ مِنه ويَقوُلونَ لِمَ لَمْ تُوضَعْ هَذهِ اللبِنَةُ، فأنَا فِي النَّبِييِّنَ مَوْضِعُ تِلكَ اللَّبِنَةَ» .
الباب السابع
في ذكر مثله صلى الله عليه وسلم ومثل ما بعثه الله به(1/288)
عن بُرَيْد (عن) ابن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ به كَمَثَلِ رَجُلٍ أتَى قَومَه فَقَالَ: يَا قَوْمُ إنِّي رَأَيْتُ الجَيْشَ بِعَيْنِي، وأَنا النَّذيرُ العُرْيَانُ فالنَّجَاءَ» .
«فَأَطَاعَتْه طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِه فَأدلَجُوا وانْطَلقُوا عَلَى مَهْلٍ، فنَجوْا، وكذَّبَتْه طَائِفَةٌ مِنْهم، فَأصْبَحوا مكَانَهُم فَصَبَّحَهُمْ الجَيْشُ فأهْلَكَهُمْ واجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أطَاعَنِي واتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِه، ومَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّب مَا جِئْتُ بِه مِنَ الحَقِّ» .
أخرجاه.
الباب الثامن
في فضل أمته صلى الله عليه وسلم على الأمم
عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نَحنُ الآخِروُنَ السَّابِقونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، بَيْدَ أنَّهُم أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِنا وأُوتِيْنَاه مِنْ بَعْدِهم، فَهَذا يَوْمُهُم الذي اخْتَلفُوا فِيه فَهَدَانا اللَّهُ له، النَّاسُ لنَا فِيه تَبَعٌ، لِليَهودِ غَدٌ وللنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» .
عن أبي سعيد قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «والله إنِّي لأَرْجُو أنْ تَكُونُوا رُبْعَ أهْلِ الجَنَّةِ، والله إنِّي لأَرْجُو أنْ تكُونُوا ثُلُثَ أهلِ الجَنَّة، والله إنِّي لأَرْجُو أنْ تكُونُوا نِصْفَ أهْلِ الجَنَّةِ» .
الحديثان في الصحيحين.(1/289)
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَثلُكم ومَثَلُ اليَهُودُ والنَّصَارَى كَرَجُلٍ استَعْمَلَ عُمَّالاً فَقَال: مَنْ يَعْمَلُ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ إلى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيْرَاطٍ؟ أَلاَ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ. ثُمَ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إلَى صَلاَةِ العَصْرِ؟ ألاَ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلاَةِ العَصْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ عَلى قِيرَاطَيْنِ، أَلاَ فَأَنْتُمْ الذينَ عَمِلْتُمْ.
فَغَضِبَ اليَهُودُ والنَّصَارَى فَقَالُوا: نَحْنُ أكْثَرُ عَمَلاً وَأَقلُّ عَطَاءً.
قَالَ: فَهَل ظَلَمْتُكُم مِنْ حَقِّكُم شَيْئاً؟.
قَالُوا: لاَ.
قَالَ: فَإنَّمَا هو فَصْلِي أوتِيْهِ مَنْ أَشَاءُ» .
انفرد بإخراجه البخاري.
عن بَهْز بن حكيم بن معونة، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أَلاَ إِنَّكم تُوفُونَ سَبْعِيْنَ أُمَّةً، أنْتُم خَيْرُهَا وأكْرَمُهَا عَلَى الله عَزّ وَجَلّ» .
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لمَّا أُسْرِي بِي إلَى السَّمَاءِ قَرَّبَنِي رَبِّي تَعَالَى، حَتَّى إذَا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَه كَقَابِ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى قَالَ: يَا حَبِيْبي يَا مُحَمَّدُ. قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا ربِّ. قَالَ: هَل غَمَّكَ أنْ جَعَلْتُكَ آخِرَ النَّبِيِّينَ؟ قُلْتَ: لاَ يَا رَبِّ، قَالَ: أَبْلِغْ أُمَّتَكَ عَنِّي السَّلاَمَ، وأخْبِرْهُم أنِّي جَعَلْتُها آخِرَ الأُمَمِ لأَفْضَحَ الأُمَمَ عِنْدَهُم وَلاَ أفْضَحُهُم عِنْدَ الأُمَمِ» .
الباب التاسع
في ذكر مثله صلى الله عليه وسلم ومثل أمته(1/290)
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلِي كَمَثَلِ اسْتَوْقَدَ نَاراً، فَلمَّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَه جَعَل الفَرَاشُ وهذه الدَّوَابَّ التي يَقَعْنَ فِي النَّارِ يقَعْنَ فِيها، وجَعَلَ يَحْجِزُهُنَّ ويَغْلِبْنَه فَيَتَقَحَّمْنَ فِيها .
أخرجاه.
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ملَكان، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه: اضربْ مَثَلَ هذا ومثل أمته.
قال: إنَّ مثله ومثل أمته كمثل قومٍ سَفْرٍ انتهوا إلى رأس مفازة، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك أتاهم رجل مُرَحَّل في حُلّة، فقال: أرأيتم إن وردتُ به رياضاً مُعْشبةً وحياضاً رِواءً أتتبعوني؟
قالوا: بلى.
قال: فإِنَّ بَيْن أيديكم رياضاً أعْشَبَ من هذه، وحياضاً أَرْوَى من هذه، فاتبعوني. فقالت طائفة: صدق والله، لنَتبعنَّه. وقالت طائفة: لقد رضينا بهذا نقيم عليه.
الباب العاشر
في ذكر مثل من قبل ما جاء به صلى الله عليه وسلم ومن لم يَقْبَل
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِه مِنَ الهُدَى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصَابَ أرْضًا، فَكَانَتْ مِنْها طَائِفَةٌ نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ المَاءَ وأنْبَتَتْ الكَلأَ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أجَادِبُ أمْسَكَت المَاءَ نَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أخْرَى إنَّما هِي قِيْعَانُ لاَ تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلأً.
فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُه فِي دِيْنِ الله ونَفَعَه مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِه فَعَلِمَ وعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعِ بِذَلِك رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الذي أُرْسِلْتُ بِه» .
أخرجاه.(1/291)
عن أبي عثمان النهْدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء ومعه ابن مسعود، فأقعده وخطَّ عليه خطّاً، ثم قال: «لا تَبْرَحَنَّ فَإنَّه سَيَنْتَهِي إليْكَ رِجَالٌ فَلاَ تُكَلِّمَهُم فَإنَّهُم لَنْ يُكَلِّمُوكَ» .
فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراد، ثم جعلوا ينتهون إلى الخط فلا يجاوزونه يَصْدرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
حتى إذا كان من آخر الليل جاء إليّ فتوسَّد فخذي، وكان إذا نام نفخ.
فبَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوسدٌ فخذي راقد أتاني رجالٌ كأنهم الجِمَال، عليهم ثيابٌ بيض الله أعلمُ ما بهم من الجَمَال، حتى قعد طائفة عند رأسي وطائفة عند رجلي، فقالوا بينهم: ما رأينا عبداً أوتي مثل ما أوتيَ هذا النبي، إن عينيه لتنامان وإِنَّ قلبه ليَقْظان، اضربوا له مثلاً: سيد بَنى قصراً ثم جعل مأدبة فدعا الناسَ إلى طعامه وشرابه.
ثم ارتفعوا واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك. فقال لي: «أَتَدْرِي مَا هَؤُلاَءِ؟» .
قلت: الله ورسوله أعلمُ.
قال: «هُم المَلاَئِكَةُ» .
قال: «وهل تدري ما المثلُ الذي ضربوه؟» .
قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: «الرَّحْمانُ، بنَى الجَنَّةَ فَدَعَا إِلَيْهَا عِبَادَه فَمَنْ أجَابَه دَخَل جَنَّتَه، ومَنْ لَمْ يُجِبْه عَاقَبَه أو عَذَّبَه» .
الباب الحادي عشر
في وجوب طاعته صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى: {س4ش59يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأٌّمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }
(النساء: 59)
وقال: {س4ش80مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }
(النساء: 80)(1/292)
عن عروة بن الزبير قال: إن الزبير كان يحدِّث أنه خاصمَ رجلاً من الأنصار، وقد شهد بَدْراً، إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شِراج من الحَرّة كانا يسقيان به النخل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسْقِ ثُمَّ أَرْسِلْ إلَى جَارِكَ» .
فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أنْ كان ابن عمتك
فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال للزبير: «اسْقِ ثُمَّ احْبِسْ المَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلى الجَدْرِ» .
فاستوفَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم للزبير حقَّه في صريح الحُكم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبْل ذلك قد أشار إلى الزبير برأيٍ فيه سعَة له وللأنصاري، فلما أغضب الأنصاريُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استوفَى رسول الله صلى الله عليه وسلم حقَّه في صريح الحكم.
قال عروة: قال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك: {س4ش65فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى? أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } (النساء: 65)
.
أخرجاه.
الباب الثاني عشر
في وجوب تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على الوالد والولد والنفس
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤمِنُ أحَدُكُم حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِنْ وَالِدِه وَوَلَده والنَّاسِ أجْمَعِينَ» .
عن عبدالله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذٌ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا نفسي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ والذي نَفْسِي بِيَدِه حَتَّى أكُونَ أَحَبَّ إليْكَ مِنْ نَفْسِكَ» .
قال عمر: فأنت الآن والله أحبُّ إليَّ من نفسي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآنَ يَا عُمَرَ» .
انفرد بإخراج هذا الحديث البخاري، واتفقا على الذي قبله.
الباب الثالث عشر(1/293)
في وجوب تقديمه صلى الله عليه وسلم في الذكر
عن جابر بن عبدالله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ تَجْعَلُونِي كَقَدَحِ الرَّاكِبِ» .
قال: «إنَّ الرَّجُل يَرْفَعُ مَتَاعَه عَلَى رَاحِلَتِه، فَيَبْتَغِي فِي قَدَحِه مَاءً فَيُعِيْدُه فِي إِدَاوَتهِ» .
قال: «اجْعَلوُنِي فِي أَوَّلِ الحَدِيْثِ وَفِي وَسَطِه وَفِي آخِرِه» .
قال المصنف: موسى بن عبيدة ليس بشيء.
قال يحيى: وتفسير هذا الحديث قد ذُكر فيه.
وقد قيل: إن الراكب إذا فرغ من تعبئة متاعه أخّر القدَح.
والمعنى الآخر: لا تؤخروني في الذِّكر. وهو يرجع إلى المعنى الأول.
أبواب صفات جسده صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في صفة رأسه صلى الله عليه وسلم
عن الحسن بن علي، عن خاله هِنْد بن أبي هالَة، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم الهامَة» .
عن نافع بن جُبير قال: وصَف لنا عليُّ بن أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كان عظيمَ الهامَة» .
الباب الثاني
في صفة جبينه صلى الله عليه وسلم
عن الحسن بن (علي، عن) خاله هند قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم واسعَ الجبين».
الباب الثالث
في صفة حاجبيه صلى الله عليه وسلم
عن الحسن بن علي بن أبي طالب، عن خاله هند بن أبي هالَة، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزَجَّ الحواجب، سَوَابغَ في غير قَرَن، بينها عِرْق يُدرُّه الغضب».
قال المصنف: قوله «أزجَّ الحواجب»: أي طويل امتدادها.
الباب الرابع
في صفة عينيه وأهدابه صلى الله عليه وسلم
عن الحسن بن علي، عن خاله هند بن أبي هالَة، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أدْعَجَ العينين، أزجَّ الحواجِب سوابغَ من غير قرَن، أهدَبَ الأشْفَار».
الدَّعَجُ: سواد العينين.
والأهدب: الطويل الأشفار، وهو الشعر المتعلق بالأجفان.
عن جابر بن سمُرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أَشْكل العينين».(1/294)
ورواه أبو داود عن شُعبة فقال: «أَشْهَلَ العينين».
عن جابر بن سَمُرة قال: «كنت إذا نظرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلتُ أكْحَلَ، وليس بأكحل».
قال المصنف: أمّا قوله: «أشْكل العينين»:
قال أبو عبيدة: «الشُّكْلة: حُمْرة في بياض العين، والشُّهْلة: حمرة في سوادها. والكحَل: سواد هدب العين خِلْقةً».
قال الزَّجَّاج: «الكَحَل: أن يسوَدَّ مواضع الكحل».
الباب الخامس
في صفة خديه صلى الله عليه وسلم
عن الحسن بن علي، عن خاله هند بن أبي هالة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلَ الخدَّين».
الباب السادس
في صفة أنفه صلى الله عليه وسلم
عن هند بن أبي هالة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقْنَى العِرْنِين، له نور يَعْلوه، يحسبه من لم يتأمله أشمَّ».
العِرْنين: الأنف. والقَنَى: أن يكون في عَظْم الأنف احدِوْداب في وسطه.
والأشَمُّ: الذي عَظْمُ أنفِه طويلٌ إلى طرف الأنف.
الباب السابع
في صفة فمه وأسنانه صلى الله عليه وسلم
عن جابر بن سَمُرة قال: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ضَلِيع الفم».
عن جُميع قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليعَ الفم مُفَلّج الأسنان».
عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفْلَجَ الثَّنِيَّتَيْن».
عن هند قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَفْتَرُّ عن مِثْل حبِّ الغَمام».
قوله: «ضليع الفم» أي كبير.
والفَلج: تباعُد ما بين الثنايا والرُّباعيات.
عن أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حسَن الثّغْر».
الباب الثامن
في صفة نكهته صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك قال: صحبت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وشمَمْتُ العطرَ كله فلم أشمَّ نَكْهَةً أطيبَ من نَكْهته.
الباب التاسع
في صفة وجهه صلى الله عليه وسلم(1/295)
عن الحسن، عن خاله هند قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخماً مفخَّماً، يتلألأ وجهه كتلالؤ القمر ليلة البدر».
عن علي قال: «كان في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تَدْوير».
عن جابر بن سَمُرة قال: «كان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مستديراً».
عن أم مَعْبَد: أنها وصفت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: «رأيت رجلاً ظاهرَ الوَضَاءة متبلِّجَ الوجه».
قال المصنف: «متبلِّج الوجه»: يعني مُشْرِق الوجه مضيئه، ومنه: تبلَّج الصُّبح، إذا أَسْفَر.
الباب العاشر
في ذكر اللحية الكريمة صلى الله عليه وسلم
عن الحسن بن علي، عن خاله هند، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كَثَّ اللحية».
عن علي بن أبي طالب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيمَ اللحية».
عن أم مَعْبَد قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيف للحية».
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يأخذ من لحيته من طولها وعَرْضها بالسَّوِيَّة».
الباب الحادي عشر
في صفة شعره صلى الله عليه وسلم
عن البَراء قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم الجُمَّة، جُمَّته إلى شَحْمة أذنيه».
عن البراء قال: «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم شعر يَضْرب مِنْكبيه».
عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجْل الشَّعر، ليس بالسَّبط ولا الجَعْد القَطط».
عن الحسن، عن خاله هند قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجل الشعر، إذا تفرقت عَقِيقته فُرق، وإلاّ فلا يجاوز شَعرُه شحمةً أذنيه إذا هو وَفَّره».
الرَّجْل: الشعر الذي (فيه) تكسيرٌ، فإذا كان منبسطاً قيل: شعر سبط والقطط: الشديد الجُعودة. والعَقِيقة: الشعر المجتمع في الرأس.
عن أنس قال: «كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نصف أذنيه».
عن عائشة قالت: «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم شعرٌ فوقَ الجُمَّة ودُونَ الوَفْرة».(1/296)
عن أم هانىء قالت: «قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وله أربعُ غَدَائر». يعني: ذوائب.
عن أم هانىء بنت أبي طالب قالت: «قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا مكة قَدْمةً وله أربعُ غدائر».
وفي رواية: رأيته وإذا له ضفائر أربع.
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا امتشط بالمشط كأنه حَثك الرمال».
عن ابن عباس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يَسْدل ناصيته سَدْلَ أهل الكتاب، ثم فرق بعد ذلك فَرْقَ العرب».
عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سدَل ناصيته ما شاء الله أن يَسْدل، ثم فرَق بعدُ.
الباب الثاني عشر
في ذكر صفة عنقه صلى الله عليه وسلم
عن أم مَعْبد: أنها وصفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: «في عنقه سَطع».
قال المصنف: السّطَع: الطول.
عن الحسن بن علي، عن خاله هند، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن عنقه جِيدُ دُمْية في صفاء الفضة».
قال المصنف: الدُّمْية الصورة المصوَّرة.
عن عثمان بن عبد الملك، قال: حدثني خالي، وكان من أصحاب علي يوم صِفِّين، عن علي، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن عنقه إبريقُ فضة».
الباب الثالث عشر
في بعد ما بين منكبيه صلى الله عليه وسلم
عن البَرَاء بن عازب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد ما بين المنكبين».
قال المصنف: المنكب: مجتمع رأس العَضْد في الكتف.
الباب الرابع عشر
في غلظ الكتد
عن علي رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جليلَ الكَتَد».
قال المصنف: الكتد، مجتمع الكتفين، وهو الكاهل.
الباب الخامس عشر
في صفة صدره صلى الله عليه وسلم
عن الحسن، عن خاله هند، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عريض الصدر، سواءَ البطن والصدر».
الباب السادس عشر
في صفة بطنه صلى الله عليه وسلم
عن أم معبد أنها وصفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: «لم تعِبْه ثُجْلة».(1/297)
في المصنف: الثُّجلة عظمُ البطن واسترخاء أسفله.
عن أم هانىء. قالت: «ما رأيت بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ذكرتُ القراطيس المثنِيَّ بعضُها على بعض».
عن مُخَرِّش الكعبي، قال: «اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجِعْرانة ليلاً فنظرتُ إلى ظهره كأنه سبيكة فضة».
الباب السابع عشر
في صفة سرته صلى الله عليه وسلم
عن علي قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجردَ ذو مَسْربة».
عن الحسن، عن خاله هند، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنْوَرَ المتجرَّد دقيق المسْربة، موصولَ ما بين اللبَّة والسُّرة بشَعر، يجري كالخيط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أشعرَ الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر».
الباب الثامن عشر
في ذكر أصابعه صلى الله عليه وسلم
عن علي قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شَثْنَ الكفَّين والقدمين سائل الأطراف».
قال المصنف: الشثن: الغليظ الأصابع من الكفين والقدمين.
والسائل الأطراف: الممتد الأصابع.
ورواه بعضهم شائن بالألف والنون. والمعنى فيهما واحد.
الباب التاسع عشر
في صفة كفيه صلى الله عليه وسلم
عن علي رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شَثْن الكفين».
عن الحسن، عن خاله هند، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رَحْب الراحة».
عن أنس قال: «ما مسَسْت قط خزًّا ولا حريراً أَلْيَنَ من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم».
عن مارية قالت: «بايعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فما مسَسْت قط ألينَ من يده صلى الله عليه وسلم».
عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأبطح فركز عَنزَة فصلّى إليها، وجعل أصحابه يأخذون يده فيُمِرُّونها على وجوههم، فجئت وأخذت يده فأمررتها على وجهي، فإذا هي أبردُ من الثلج وأطيب ريحاً من المسك.
الباب العشرون
في صفة زنديه صلى الله عليه وسلم(1/298)
عن هند قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلَ الزندين ضخمَ الكراديس».
عن صالح مولى التَّوْأَمة قال: كان أبو هريرة رضي الله عنه ينعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كان شبح الذراعين. أي طويلهما».
الباب الحادي والعشرون
في ذكر ساقيه صلى الله عليه وسلم
عن جابر بن سَمُرة قال: «كان في ساقَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم حُمُوشة».
قال المصنف: الحموشة: دقة الساقين.
عن عبد الرحمن بن مالك بن جُعشم: أن أباه أخبره أن أخاه سراقة أخبره قال: دنوتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، فرأيت ساقيه في غَرْزها كأنهما جُمَّارة.
قال بعض البلغاء:
يا ربِّ بالقدم التي أوْطَأْتَها
مِنْ قابِ قَوْسَيْن المحَلَّ الأعظمَا
وبُحْرمة القَدَمِ التي جُعلت بها
كتف البَرِيَّة بالرسالة سُلّمَا
ثَبِّتْ على مَتْن الصراط تَكرُّماً
قدمي وكُنْ لي مُنْقِذاً ومُسَلِّمَا
واجعلهما ذُخْري ومَنْ كانا له
أَمِنَ العذابَ ولا يخافُ جهنَّمَا
الباب الثاني والعشرون
في ذكر صفة عقبه صلى الله عليه وسلم
عن جابر بن سَمُرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْهوسَ العَقِب».
أي قليل لحم العقب.
انفرد بإخراجه مسلم.
الباب الثالث والعشرون
في ذكر قدميه صلى الله عليه وسلم
عن الحسن، عن خاله هند، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خَمْصانَ الأخمصين، مسيحَ القدمين، يَنْبوا عنهما الماء».
عن عثمان بن عبد الملك قال: حدثني خالي وكان من أصحاب علي، عن علي قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شَثْن الكف والقدم».
الأخمص: ما ارتفع عن الأرض من باطن الرجل.
والمسيح القدم: الذي ليس بكثير اللحم فيهم.
والشثن: الغليظ.
الباب الرابع والعشرون
في ضخامة كراديسه صلى الله عليه وسلم
عن علي قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضخم الكراديس».
قال المصنف: الكراديس: رؤوس العظام.(1/299)
عن إبراهيم بن محمد، من ولد علي بن أبي طالب قال؛ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جليلَ المُشَاش» .
قال المصنف: المشاش: رؤوس العظام، مثل الركبتين، والمرفقين، والمنكبين.
الباب الخامس والعشرون
في ذكر اعتدال خلقه صلى الله عليه وسلم
عن الحسن، عن خاله هند قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدَل الخلْقة بادن متماسك».
والمعنى: أنه كان تامَّ خَلْق الأعضاء، ليس بمسترخي اللحم ولا كثيره.
الباب السادس والعشرون
في ذكر طوله صلى الله عليه وسلم
عن ربيعة: أنه سمع أنس بن مالك ينعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كان رَبْعةً من القوم، ليس بالطويل البائن ولا القصير».
عن البَراء قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالقصير ولا بالطويل».
عن البراء قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً مربوعاً».
الأحاديث الثلاثة في الصحيحين.
عن إبراهيم بن محمد (من) ولد علي بن أبي طالب قال: كان عليٌّ عليه السلام إذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يكن بالطويل المُمَعَّط ولا بالقصير المتردد، وكان ربعة من القوم».
قال الأصمعي: الممعَّط: الذاهب طُولاً، والمتردد: الداخل بعضه في بعض قِصَراً.
عن الحسن، عن خاله هند، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطولَ مِن المَرْبوع، وَأَقْصَرَ من المشذّب».
المشذّب: الطويل الذي ليس بكثير اللحم.
عن عائشة قالت: «كان من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يماشيه أحدٌ يُنْسب إلى الطول إلا طالَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وربما ماشَى الرجلين الطويلين فطَوَلهما، فإذا فارقاه نُسِبا إلى الطول، ونُسِبَ هو إلى الرَّبْعة».
الباب السابع والعشرون
في رقة بشرته صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أليَنَ الناس كفاً، ما مَسَسْتُ خَزَّةً ولا حريرةً ألينَ من كفه صلى الله عليه وسلم».(1/300)
عن عثمان بن عبد الملك قال: حدثني خالي، وكان من أصحاب علي بن أبي طالب يوم صِفِّين، عن علي عليه السلام قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق البشرة».
الباب الثامن والعشرون
في صفة لونه صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون، ليس بالأديم ولا بالأبيض الأمْهقَ».
قال المصنف: الأمهق: الشديد البياض.
عن أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيضَ كأنما صِيغ من فضة».
عن علي قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض مُشْرَباً».
وفي رواية: مُشْرَباً حُمْرَة».
قال المصنف: المُشْرَب: الذي في بياضه حُمْرَة.
عن أنس قال: «كان لون رسول الله صلى الله عليه وسلم أَسْمَرَ».
قال المصنف: هذا الحديث لا يصح، وهو يخالف الأحاديث كلها.
عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس لوناً».
الباب التاسع والعشرون
في ذكر حسنه صلى الله عليه وسلم
عن البراء قال: «ما رأيت شيئاً قط أحسنَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم».
أخرجاه.
عن أبي إسحاق قال: قيل للبراء: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟
قال: لا، بل مثل القمر.
انفرد بإخراجه البخاري.
عن أبي هريرة قال: «ما رأيتُ أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه».
عن جابر بن سَمُرة قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في حُلّة حمراء، فجعلت أنظر إليه وإلى القمر، فلَهُو أحسنُ في عينيّ من القمر».
عن البراء قال: «ما رأيت أحداً في حُلة حمراء مُرَجَّلاً أحسنَ من رسول الله، وكان له شعر قريب من منكبيه».
أخرجاه.
عن سعيد الجُرَبري قال: سمعت أبا الطفيل يقول: رأيت النبي، وما بقي على وجه الأرض أحد رآه غيري.
قلت: صفْه لي.
قال: كان أبيض مَليحاً مُقْصداً.(1/301)
عن أم معبد: أنها وصفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: «كان أحْلَى الناس وأجمله مِنْ بعيد، وأجهَرَ الناس وأحسنه مِنْ قريب».
عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما صِيغَ من فضة».
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأنورَهم لوناً».
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: «كان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم كدارة القمر».
عن محمد بن عمار قال: قلت للربيع بنت مُعَوِّذ: صفِي لي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: «يا بُني، لو رأيتَه رأيت الشمس طالعةً».
عن ابن عباس قال: «لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظل، ولم يقم مع شمس قط إلا غلب ضوؤه ضوءَ الشمس، ولم يقم مع سراج قط إلا غلب ضوؤه على ضوء السِّراج.
الباب الثلاثون
في ذكر عرقه صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل بيتَ أم سليم فينام على فراشها وليست فيه.
فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأُتيت فقيل لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم نائمٌ على فراشك، فجاءت وقد عَرِق الفراش، ففتحت عَيْبتها فجعلت تنشف ذلك العرَق فتعصره في قواريرها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا تَصْنَعِيْنَ؟» .
قالت: نرجو بركته لصبياننا.
قال: «قد أصَبْتِ» .
انفرد بإخراجه مسلم.
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون، كأنّ عَرَقه اللؤلؤ».
عن عائشة قالت: «كان عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه مثل اللؤلؤ الرطب، أطيبَ من المِسْك الأذْفَر».
عن علي قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم كأن عَرَقه اللؤلؤ، وريح عرقه كالمسك».
عن حبيب بن أبي حردة، حدثني رجل من بني حريش قال: «كنت مع أبي حين رَجَم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ماعزَ بن مالك، فلما أخذته الحجارةُ أُرعبتُ، فضمَّني إليه صلى الله عليه وسلم فسال من عرق إبطه مثلُ ريح المسك».(1/302)
عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله، إني زوَّجت ابنتي، وإني أحب أن تعينني.
قال: «مَا عِنْدِي شَيْءٌ، وَلكِن الْقَنِي غَداً وَجِيءْ مَعَكَ بِقَارُورَةِ وَاسِعَةِ الرَّأْسِ وعُوْدَ شَجَرَةٍ» .
قال: فجاء فجعل يسلت العرَق من ذراعيه حتى ملأ القارورة، وقال: «خُذْهَا وأَخْبِرْ أهْلَكَ إذَا أرَادَت أنْ تَتَطَيَّب أنْ تَغْمِسَ هذا العُودَ فِي القَارُوْرَةِ فَتَطَّيَّبَ بِه» .
فكانت إذا تطيَّبت شمَّ أهل المدينة ريحاً طيبة. فسمُّوا المطيبين.
الباب الواحد والثلاثون
في ذكر خاتم النبوَّة صلى الله عليه وسلم
عن (الجَعْد بن) عبد الرحمن قال: سمعت السائب بن يزيد يقول: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن ابن أختي وَجِعٌ.
فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، وتوضأ فشربتُ من وضوئه وقمت خَلْف ظهره، فنظرت إلى الخاتم بين كتفيه، فإذا هو مثل زِرّ الحَجَلَة.
ورواه البخاري في الصحيح، عن محمد بن عبدالله، عن حاتم، كذا.
والحجلة: بيت كالقبة يستر بالثياب ويجعل له باب من جنسه ويُزَرّ. ومنه قوله: أعِزُّوا النساءَ يلزَمْن الحجال.
وقد رواه إبراهيم عن حمزة، عن حاتم قال: «رز الحجلة» الراء قبل الزاء. ذكره البيهقي.
وقال أبو سليمان، يعني الخطَّابي، عن بعضهم: إن زر الحجلة بيض الحجل، والحجلة على هذا أبيضُ القبج.
عن جابر بن سمرة قال: «رأيت الخاتم بين كتفي رسول الله صلى الله عليه وسلم غُدَّة حمراء مثل بيضة النعام».
عن عمرو بن أخطب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أبَا زَيْدٍ، ادْنُ مِنِّي فَامْسَحْ ظَهْرِي» . فمسحت ظهره، فوقعت أصابعي على الخاتم.
قلت: وما الخاتم؟
قال: شعرات مجتمعات.
عن أبي نَضْرة قال: سألت أبا سعيد الخدري عن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني خاتم النبوة فقال: «كان في ظهره بَضْعةٌ ناشزة».(1/303)
عن عبدالله بن سَرْجس قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أناس من أصحابه، فدُرْتُ من خلفه، فعرف الذي أريده فألقى الرداء عن ظهره، فرأيت موضعَ الخاتم على كتفه مثل الجُمْع حولها خِيلاَن كأنه الثآليل».
عن عبدالله بن سَرْجِس قال: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت معه خبزاً ولحماً، أو قال: ثريداً. ثم دُرْتُ حتى صِرتُ خلفه حتى نظرتُ إلى خاتم النبوة بين كتفيه على نغض كتفه اليسرى جُمْعاً عليه خِيلان».
عن أبي معاوية بن قُرَّة قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنته أن أُدْخل يدي في جُرُبَّانه وإنه ليدعو لي، فما منعه أن دعا لي».
قال: فوجدتُ على نغض كتفه مثل السَّلْعَة.
قال المصنف: الجُرُبَّان: جيب القميص. ونغضُ الكتف: فَرْعه.
أبواب صفاته المعنوية صلى الله عليه وسلم
البابُ الأول
في حسن خلقه صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: لما قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أنساً غلامٌ كَيِّس فليخدمك.
فخدمتهُ في السَفرِ والحضَر، والله ما قال لي لشيء صنعتهُ: لِمَ صنعته؟ ولا لشيء لم أَصْنعه: لم لا صنعتَ هذا؟
أخرجاه.
عن أبي عبد الله الجَدَليّ قال: قلت لعائشة: كيف كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله؟
قالت: «كان أحسنَ الناس خُلقاً، لم يكن فاحشاً ولا متفحِّشاً ولا سخّاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلَها، ولكن يعفو ويَصْفح».
عن أنس بن مالك قال: «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَبَّاباً ولا لعَّاناً ولا فَحَّاشاً، كان يقول لأحدِنا عندَ الَمعْتبة: تَرِبَ جبينهُ».(1/304)
وعن عبد الله بن مسعود قال: «بَيْنَا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً من ثمانين رجلاً من قريش ليس فيهم إلا قُرَشي، لا والله ما رأيت صفحةَ وجوهِ رجالٍ قط أحسنَ من وجوههم يومئذٍ، فذكروا النساء فتحدَّثوا فيهن، فتحدث معهم حتى أحببتُ أن يسكت».
عن سِمَاك قال: قلت لجابر بن سَمُرة: أكنت تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: «نعم، كان طويلَ الصمت قليلَ الضحك، وكان أصحابه يذكرون عنده الشِّعر وأشياءَ من أمورهم، فيضحكون ويتبسَّم».
عن عائشة: أن أبا بَكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام مِنىً يضربون بالدف، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم مسجَّى بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «دَعْهُنَّ يَا أبَا بَكْرٍ، فَإنَّها أيَّامُ عِيْدٍ» .
قالت عائشة: ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا أسأَم فأَقعد، فاقْدُروا قَدْرَ الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو.
أخرجاه.
عن خارجة بن زيد بن ثابت قال: دخل نفرٌ على زيد بن ثابت فقالوا له: حدِّثنا أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: «كنا إذا ذَكْرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا».
عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس خُلقاً».
عن عائشة قالت: «ما كان أحدٌ أحسنَ خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: لبَّيك. فأَنزل الله تعالى: {س68ش4وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }(القلم: 4)
.
عن عائشة قالت: «كنت ألعب بالبنات في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنَّ لي صواحب يأَتينني فيلعبن معي، فينقمعْن إذا رأين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُسَرِّبهن إليَّ فيلعبن معي».(1/305)
عن أنس بن مالك قال: «كان إذا لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واحداً من أصحابه قام معه فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي يَنْزع عنه».
عن أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بصبيان فسلّم عليهم».
عن أنس بن مالك قال: «مرَّ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن صِبيْان فقال: «السَّلاَمُ عَلَيْكُم يَا صِبْيَان» .
البَابُ الثاني
في ذكر حلمه وصفحه صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: سأَل أهلُ مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يَجعْل لهم الصَّفا ذهباً وأن ينحِّي عنهم الجبال فَيزْدرعون.
فقيل له: إن شئت أن تَسْتأَني بهم، وإن شئت أن نُعْطيهم الذي سأَلوا، فإن كفروا أهلكتم من قبلهم. قال: «لاَ بَلْ أَسْتَأني بِهِم» .
عن أبي هريرة قال: جاء الطُّفيل بن عمرو الدَّوسي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ دوساً قد عصَتْ وأبَتْ فادعُ الله عليهم.
فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة ورفع يديه، فقال الناس: هلكوا.
فقال: «اللهُمّ اهْدِ دَوْساً وَائْتِ بِهِم» .
عن عروة أن أسامة أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حماراً عليه إكافٌ تحته قطيفة فَدكيَّة، وأردف وراءه أسامة، وهو يعود سعدَ بن عُبَادة قَبْل وقعة بدر.
حتى مرَّ بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عَبَدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أُبَيّ، وفي المجلس عبدُ الله بن رَوَاحة.
فلما غشيت المجلسَ عَجَاجةُ الدابة خَمَّر عبد الله بن أُبَيّ أنفَه وتردَّى به ثم قال: لا تغبِّروا علينا.
فسلَّم ثم وقف ونزل، فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن، فقال له عبدُ الله بن أُبي: لا أحسنَ من هذا إذا كان ما تقول حقًّا فلا تُؤذنا في مجالسنا (وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منّا فاقْصُصْ عليه.
فقال عبد الله بن رواحة: أغْشَنا في مجالسنا) فإنا نحب ذلك.(1/306)
فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا أن يتواثبوا، فم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفِّضهم حتى سكتوا.
ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة فقال: أَيْ سعد، ألم تسمع ما قال أبو حباب، يريد ابن أُبيّ، قال كذا وكذا.
قال أعفُ عنه يا رسول الله واصفح، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك وإن أهل البُحَيرة قد اصطلحوا على أن يتوِّجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما ردَّ الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شَرِق بذلك.
فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
أخرجاه.
عن عبد الله بن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لماتوفي عبد الله بن أُبيّ دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه، فقام عليه، فلما وقف يريد الصلاة عليه تحولتُ حتى قمتُ في صدره فقلت: يا رسول الله، أعَلَى عدوِّ الله ابن أبيّ، القائل يوم كذا وكذا كذا وكذا. أعدِّد عليه أيامه.
ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يتبسَّم، حتى أكثرتُ عليه، قال: «أخَّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ إنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، قَدْ قِيلَ لِي: اسْتَغْفِر لَهُم أوْ لاَ تَسْتَغْفِر لَهُم، إن تَسْتَغْفِر لَهُم سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم، لَوْ أُعلَمُ أنِّي (إنْ) زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُم لَزِدْتُ» .
قال: ثم صلى عليه ومشى معه إلى قبره حتى فرغ منه.
قال: فعجباً لي وجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم.
قال: فوالله ما كان يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان: {س9ش48لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ }(التوبة: 48)
.
فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله.(1/307)
عن أنس: أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم متسلِّحين يريدون غِرَّةَ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فأخذهم سَلَماً واستحياهم. فأنزل الله تعالى: {س48ش24وَهُوَ الَّذِى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً }
(الفتح: 24)
.
عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادماً له قط ولا امرأةً قط، ولا ضَرَب بيده إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيء فانتقم من صاحبه إلا أن تُنْتَهك محارمُ الله فينتقم لله عزَّ وجلَّ، وما عُرض عليه أمران إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون مَأْثَماً، فإن كان مأثماً كان أبعدَ الناس منه.
عن الحسن بن علي، عن خاله هند، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُغْضبه الدنيا وما كان منها، فإذا تُعدِّي الحقُّ لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها».
عن عائشة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أُحد؟
فقال: «لَقَدْ لَقِيْتُ مِن قَوْمِكِ، وكَانَ أشَدَّ مَا لَقِيْتُ مِنْهُم يَوْمَ العَقَبَةِ، إذ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى بَنِي عَبْدِ كُلاَل فَلَمْ تُجِبْنِي إلَى مَا أرَدْتُ.
فانْطَلَقْتُ وأَنا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أسْتَفِقْ إلاَ بِقرْن الثَّعَالِب، فَرَفَعْتُ رَأسِي فَإذَا أنَا بِسَحَابَةٍ قَد أظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإذَا فِيهَا جِبْرِيْلُ، فَنَادَانِي: إنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا ردُّوا عَلَيكَ، وقَدْ بَعَثَ إليكَ مَلَكَ الجِبَالِ لتَأمُرَه بِمَا شِئْتَ فِيهِم»
«(1/308)
فَنَاداني مَلَكُ الجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَ قَال: (إنَّ اللَّهَ عزَّ وجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وأنا مَلَكُ الجِبَالِ، وقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إلَيكَ لتَأمُرَنِي بَأَمْرِكَ) يَا مُحَمَّدُ فَمَا شِئْتَ، إنْ شِئْتَ أطْبَقْتُ عَلَيهم الأخْشَبَيْنِ» .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلاَبِهِم مَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَه وَلاَ يُشْرِكَ بِه شَيْئاً» .
عن أنس بن مالك قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بُرْد نَجْراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جَبْذةً شديدة حتى نظرت إليه صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثَّرت بها حاشية البرد من شدة جبذته. ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك.
فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضحك، ثم أمر له بعطاء.
قال البخاري: فلما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناساً في القسمة، فأَعطى الأقرع بن حابس مائةً من الإبل، وأعطى عْيَيْنة مثل ذلك، وأعطى أناساً من أشراف العرب وآثرهم يومئذٍ في القسمة.
فقال رجل: والله إن هذه القِسْمة ما عُدل فيها وما أريد بها وجه الله.
فقلت: والله لأخبرنَّ النبي صلى الله عليه وسلم.
فأتيته فأخبرته فقال: «مَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ يَعْدِلُ اللَّهُ ورَسُولُه رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بأكْثَرَ مِن هذا فَصَبَر» .
عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله، ادعُ الله على المشركين.
قال: «إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّاناً، وإنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمةً» .
عن أبي هريرة قال: لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة طاف بالبيت وصلى فيه ركعتين، ثم أتى الكعبة وأخذ بعضادَتَيْ الباب، فقال: «مَا تَقُولُونَ وَمَا تَظُنُّونَ؟» .
قالوا: نقول أخٌ وابنُ عمَ حليمٌ رحيمٌ. قالوا ذلك ثلاثاً.(1/309)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفَ {س12ش02إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
(يوسف: 92)
فخرجوا كأنما نُشِروا من القبور، فدخلوا في الإسلام.
عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم الفتح أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صَفْوان بن أبي أمية، وأبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام.
قال عمر: فقلت: قد أمكَنني الله تعالى منهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثَلَي وَمَثَلُكُم كَمَا قَالَ يُوسُفَ لإِخْوَتِه: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم}» .
قال: فانفضحتُ حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يعطي الناس يوم حنين من فضةٍ في ثوب بلال.
فقال له رجل: يا نبي الله اعدِلْ.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَيْحَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتُ إذاً وخَسِرْتُ إذا كُنْتُ لا أَعْدِلُ» .
فقال عمر: ألا أضربُ عنقه فإنه منافق؟
فقال: «مَعَاذَ الله أنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أنِّي أَقْتُلُ أصْحَابِي» .
عن ابن عمر قال: أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقليل من ذهب وفضة، فجعل يقسمه بَيْن أصحابه، فقام رجل من أهل البادية فقال: يا محمد، والله إن الله أمرك أنْ تعدل فما أراك تعدل.
قال: «وَيْحَكَ مَنْ يَعْدِلُ عَلَيْكَ بَعْدِي» .
فلما ولّى قال: ردُّوه عليَّ رويداً.
عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن أخاه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: جيراني عليَّ ما أخذوا.
فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الناس يزعمون أنك نُهيت عن البغي ثم تستحلي به.
فقال: «إنْ كُنْتُ أفْعَلُ ذَلكَ إنَّه لَعَليَّ، وَمَا هُوَ عَلَيْكُم، خَلُّوا لَه جِيْرَانه» .(1/310)
عن عائشة قالت: ابتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم جَزُوراً من أعرابي بوسقٍ من تمر الذخيرة، فجاء به إلى منزله، فالتمس التمرَ، فلم يجده في البيت.
قال: فخرج إلى الأعرابي. فقال: «يَا عَبْدَ الله، إنَّا ابْتَعْنَا مِنْكَ جَزُورَكَ هَذا بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرِ الذَّخِيْرَةِ ونَحْنُ نَرَى أنَّه عِنْدَنا» .
فقال الأعرابي: واغدراه.
فوكزه الناس فقالوا: لرسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذا؟
فقال: «دَعُوه» .
عن أبي هريرة أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستعينه في شيء، فأعطاه شيئاً، ثم قال: «أحْسَنْتُ إلَيْكَ؟» .
قال: لا، ولا أَجْمَلت.
قال: فغضب المسلمون وقاموا إليه.
فأشار إليهم: أن كفُّوا. ثم قام فدخل منزله ثم أرسل إلى الأعرابي فدعاه إلى البيت (فزاده شيئاً) فرضي فقال: «إنَّكَ جِئْتَنَا فَسَأَلْتَنَا فَأَعْطَيْنَاكَ وقُلْتَ مَا قُلْتَ، وفِي أنْفُسِ المُسْلِمِينَ شَيءٌ مِن ذَلكَ، فَإنْ أحْبَبْتَ فَقُلْ بَيْن أيْدِيهِم مَا قُلتَ بَينَ يَدَيَّ، حَتَّى يَذْهَبَ منْ صُدُورِهِم مَا فِيْهَا عَلَيكَ» .
قال: نعم.
فلما كان الغداة أو العشي جاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ صَاحِبَكُم هذا كَانَ جَائِعاً، فَسَأَلَنَا فَأَعْطَيْنَاه، قَالَ مَا قَالَ، وإنَّا دَعَوْنَاه إلى البَيْتِ فأعْطَيْنَاه، فَزَعَمَ أنَّه قَدْ رَضِيَ، أكَذاكَ؟» .
قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وغشيرة خيراً.(1/311)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إنَّ مَثَلي ومَثَلَ هذا الأعْرَابِيَّ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ لَه نَاقَةٌ فَشَرَدَتْ عَلَيه، فاتَّبَعَها النَّاسُ فَلَم يَزيْدُوهَا إلا نُفُوراً، فَنَاداهُم صَاحِبُ النَّاقَةِ: خَلُّوا بَيْنِي وبَينَ نَاقَتِي فَأَنا أرْفَقُ بِهَا. فَتَوَجَّه لَهَا صَاحِبُ النَّاقَةِ بينَ يَدَيْهَا فأَخَذَ لَهَا مِنْ قُمَامِ الأرْضِ، فَجَاءَتْ فاسْتَنَاخَتْ، فَشَدَّ عَلَيها رَحْلَها واسْتَوَى عَلَيها، وإنِّي لَوْ تَرَكْتُكُم حِينَ قَالَ الرَّجُلُ ما قَالَ، فَقَتَلْتُمُوه دَخَلَ النَّارَ» .
عن زيد بن أرقم قال: سحَر النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود، فاشتكى ذلك أياماً، فأتاه جبريل فقال: إن رجلاً من اليهود سحَرك فعقد لذلك عُقَداً.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّاً فاستخرجها فجاء بها، فجعل كلَّما حلَّ عقدةً وجَد لذلك خِفةً، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عِقَال.
فما ذَكرَ ذلك لليهودي و(لا) رآهُ في وجهه قط.
عن أنس قال: خدمتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عشرَ سنين، فما سبَّني سبَّةً قط، ولا ضربني ضربةً، ولا انتهرني، ولا عبَس في وجهي، ولا أمرني بأمر فتوانيتُ فيه فعاتبني عليه، فإن عاتبني أحدٌ من أهله قال: «دَعُوه، فَلَوْ قُدِّرَ شَيءٌ كَانَ» .
عن عبد الله بن سَلاَم قال: إن الله عزّ وجلّ لمَّا أراد هُدَى زيد بن سَعْيَة قال زيد: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفته في وجهه، سوى اثنتين لمَّا أخْبُرهما منه: يسبقُ حلمُه جهلَ الجاهل، ولا يزيده شدةُ الجهل عليه إلا حِلْماً.(1/312)
فكنت أنطلق إليه لأخالطه وأعرف حلمه، فخرج يوماً ومعه علي بن أبي طالب، فجاءه رجل كالبدويّ، قال: يا رسول الله، إن قرية بني فلان أسلموا، وحدَّثتهم أنهم (إن) أسلموا أتتهم أرزاقهم رِغَداً، وقد أصابتهم سَنَةٌ وشِدَّة، وإني مُشْفق عليهم أن يخرجوا من الإسلام، فإن رأيتَ أن ترسلَ لهم بشيء يعينهم.
قال زيد: فقلت: أنا أبتاع منكم بكذا وكذا وسَقاً. فأعطيتُه ثمانين ديناراً، فدفعَها إلى الرجل وقال: «اعْجَلْ عَلَيْهِم بِهَا فَأغْنِهم» .
فلما كان قِبَل المَحَلِّ بيوم أو يومين أو ثلاثة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة في نفر من أصحابه، فجبَذْتُ رداءه جَبْذَةً شديدة، حتى سقط عن عاتقه، ثم أقبلتُ بوجهٍ جَهْم غليظ، فقلت: ألا تقضيني يا محمد، فوالله ما عَلِمْتُكم بني عبد المطلب لمُطْل.
فارتعدت فرائصُ عمر بن الخطاب كالفُلك المستدير، ثم رمى ببصره فقال: أيْ عدوَّ الله، أتقول هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصنع به ما أرى وتقول ما أسمع فوالذي بعثه بالحق لولا ما أخاف فَوْتَه لسبقني رأسُك.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في تُؤدة وسكون، ثم تبسَّم وقال: «أنَا (وهو) أحْوَجُ إلى غَيْرِ هذا، أنْ تَأمُرَنِي بِحْسْنِ الأدَاءِ وتَأمُرَه بِحْسْنِ التِّبَاعَةِ، اذْهَبْ يَا عُمَرُ فَاقْضِه حَقَّه وزِدْه عِشْرِيْنَ صَاعاً منْ تَمْرٍ» .
فقلت: ما هذا؟
قال: أمرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكانَ منازعتك.
فقلت: أتعرفني يا عمر؟
قال: لا. فمن أنت.
قلت: أنا زيد بن سَعْيَة.
قال: الحَبْر؟
قلت: الحبْر.
قال: فما دعاك أن تفعل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت، وتقولَ له ما قلت.(1/313)
قلت: يا عمر، إنه لم يَبْقَ من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفته في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرتُ إليه إلا اثنَتَين لم أَخْبرهما منه: يسبقُ حلمُه جهلَه، ولا يزيده شدةُ الجهل عليه إلا حِلْماً، فقد اختبرته منه، فأشهدك يا عمر أني رضيت بالله ربًّا بالإسلام ديناً وبمحمد نبيًّا، وأشهدك أنَّ شَطْر مالي لله، فإني أكثُرها مالاً، صدقةً على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فقال عمر: أو على بعضهم، فإنك لا تَسَعهم كلهم. قلت: أو على بعضهم.
قال: فرجع عمر وزيد بن سَعْية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.
فآمن به وصدَّقه وبايعه وشهد معه مشاهد كثيرة.
عن الزُّهري قال: إن يهودياً قال: ما كان بقي شيء مِن نَعْت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة إلا رأيتُه إلا الحِلْم.
وإني أَسْلَفْتُه ثلاثين ديناراً إلى أجل معلوم، فتركته حتى بقي من الأجل يوم، فأتيته فقلت: يا محمد أَوْفِني حقي، فإنكم معاشر بني عبد المطلب مُطْل.
فقال عمر: يا يهودي جُننتَ؟ أما والله لولا مكانُه لضربتُ الذي فيه عيناك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أبَا حَفْصٍ، نَحْنُ كُنَّا إلى غَيْرِ هذا مِنْكَ أحْوَجُ، إلى أن تَكُونَ أمَرْتَنِي بِقَضَاءِ مَا عَلَيَّ، وهو إلَى أنْ تَكُونَ أعَنْتَه فِي قَضَاءِ حَقِّه أحْوَجُ» .
قال: فلم يزده جهلي عليه إلا حلماً، قال: يا يهودي إنما يحلُّ حقُّك غداً. ثم قال: «يَا أبَا حَفْصٍ، اذْهَبْ إلَى الحَائِطِ الذي كَانَ سَأَلَ أوَّلَ يَوْمٍ، فإنْ رَضِيَه فأعْطِهِ كَذا وَكَذا صَاعاً، وَزِدْه لِمَا قُلْتَ له كَذا وَكَذا صَاعاً، وإنْ لَمُ يَرْضَه فأَعْطِه ذَلكَ مِن حَائِطِ كَذا وَكَذا» .
فأَتى به الحائط فرضي، فأَعطاه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أمره من الزيادة.(1/314)
فلما قبض اليهودي تَمْرَه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وإنه والله ما حملني على ما رأيتني صنعتُ يا عمر إلا أني كنتُ رأيتُ صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة كلها إلا الحِلْم، فاختبرتُ حلمه اليوم فوجدتُه على ما وصِف في التوراة، وإني أشهدك أن هذا التمرَ وشطرَ مالي في فقراء المسلمين.
فقال عمر: أو على بعضهم. فقال: أو بعضهم.
وأسلم أهل بيت اليهودي كلهم إلا شيخاً كان له مائة سنة فبقي على الكفر.
البابُ الثالث
في نهيهصلى الله عليه وسلم أن يبلغ ما لا يصلح
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يُبلِّغْني أَحَدٌ مِنْكُم عَنْ أحَدٍ من أصْحَابِي شَيئاً، فإنِّي أُحِبُّ أنْ أخْرُجَ إليْكُم وأنَا سَليْمَ الصَّدْر» .
قال: فأَتاه مال فقسمه، فانتهيت إلى رجلين يتحدثان، وأحدهما يقول لصاحبه: والله ما أراد محمد بقسمته التي قسَم وجه الله والدار الآخر.
قال: فوثبت حين سمعتهما، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتُ له ذلك، ثم قلتُ: إنك قلت: لا يبلغني أحدٌ عن أحد من أصحابي شيئاً، وإنى سمعت فلاناً وفلاناً يقولان كذا وكذا. فاحمرَّ وجهه وقال: «دَعْنَا مِنكَ، فَقَدْ أوْذِيَ مُوسَى بأَكْثَرَ مِن مِثْلِ هَذا فَصَبَرَ» .
البَابُ الرّابع
في ذكر شفقته ومداراته صلى الله عليه وسلم
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وأنَا أُرِيْدُ أنْ أُطِيْلَهَا فأَسْمَعُ بُكاءَ الصَّبِيّ فأتَجَوَّزُ في صَلاَتِي مِمَّا أعْلَمُ من شِدَّةِ وَجْدِ أمِّه مِن بُكَائِه» .
عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنِّي لأَقُوْمَ في الصَّلاَةِ فَأُرِيْدُ أنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أنْ أُشُقَّ عَلى أُمِّه» .
انفرد بإخراج هذا البخاري، واتفقا على الذي قبله.(1/315)
عن زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرة في المسجد من حصير، فصلّى فيها ليالي، حتى اجتمع إليه ناس، ثم فقد صوتُه، فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال: «مَا زَاْلَ بِكُمْ الذي رَأَيْتُ من صَنِيْعِكُم، حَتَّى خَشِيْتُ أنْ يُكْتَب عَلَيْكُم، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُم مَا قُمْتُم بِه، فَصَلُّوا في بُيُوتِكُم، فَإنَّ أفْضَلَ صَلاَةِ المَرْءِ فِي بَيْتِه إلا المَكْتُوبَةُ» .
عن أنس قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟
قال: «فِي النَّارِ» .
فلما رأى ما في وجهه قال: «إنّ أَبِي وَأبَاكَ فِي النَّارِ» .
انفرد بإخراج هذا الحديث مسلم، واتفقا على الذي قبله.
عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: أدع لنا ربك أن يجعل لنا الصَّفا ذهباً. ونؤمنُ بك.
قال: «وتَفْعَلُونَ؟» .
قالوا: نعم.
فدعا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك عزّ وجلّ يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئتَ أصبح لهم الصَّفا ذهباً، فمن كفر منهم بعد ذلك عذّبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحتُ لهم باب التوبة والرحمة.
(قال: «بَل التَّوْبَةُ والرَّحْمَةُ)» .
عن أبي أمامة أن فتى شاباً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إئذن لي في الزنى.
فأقبل عليه القومُ فزجروه وقالوا: مه مه.
فقال: «ادنه» .
فدنا منه قريباً، فجلس. قال: «أتُحِبُّه لأُمِّكَ؟» .
قال: لا والله، جعلني الله فداك.
قال: «ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لأُمَّهَاتِهِم» .
«أفَتُحِبُّه لابْنَتِكَ؟» .
قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك.
قال: «ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لِبَنَاتِهِم» .
«أتُحِبُّه لأُخْتِكَ؟»
قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك.
قال: «ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لأَخَوَاتِهِم» .
«أتُحِبُّه لعَمَّتِكَ؟»
قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك.
قال: «ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لعَمَّاتِهِم» .
«(1/316)
أتُحِبُّه لخَالَتِكَ؟»
قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك.
قال: «ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لخَالاَتِهِم» .
قال: فوضع يده عليه ثم قال: «اللهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَه وطَهِّرْ قَلْبَه وَحَصِّنْ فَرْجَه» .
قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قولَ الله تعالى: {س14ش26وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأٌّرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ }(إبراهيم: 26)
.
وقولَ عيسى: {س5ش118إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (المائدة: 118)
.
فرفع يديه وقال: «اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي» . وبكى. فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد، وربُّك أعلم، فَسَلْه ما يبكيه.
فأتاه جبريل فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل له: إنَّا سنرضيك في أمتك ولا نسؤوك.
عن أنس بن مالك قال: بَيْنا نحن جلوس في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُزْرِمُوه، دَعُوه» . فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: «إن المَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيءٍ من هذا البَوْلِ القَذَرِ، إنَّما هي لِذِكْرِ الله تَعَالى والصَّلاَةِ وقِرَاءَةِ القُرْآنِ» . وأمر رجلاً فجاء بدلو من ماء فَشَنَّه عليه.
عن عائشة أن رجلاً استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ايذنوا له فبئس أخو العشيرة» . فلما دخل عليه ألانَ له القول.
فقالت عائشة: يا رسول الله، قلتَ له الذي قلت، ثم ألَنْتَ له القول:(1/317)
قال: «يَا عَائِشَةُ، إنَّ شَرَّ النَّاسِ منْزِلَةً عِنْدَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِه؟» .
عن مسعود بن الحكم قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم فقلت: رحمك الله. فرماني القوم بأَبصارهم وضربوا بأَيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتُهم يُصْمتوني سكتُّ.
قال: فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم.
بأبي وأمي، ما رأيتُ معلِّماً أحسنَ تعليماً منه
ما ضرَبني ولا سبَّني، ثم قال: «إنّ هذه الصَّلاةُ لا يَصْلُحُ فِيهَا شَيءٌ مِن كَلاَمِ الآدَمِيِّينَ، إنَّمَا هو التَّسْبِيحُ والتَّحْمِيدُ والتَّكْبِيرُ» .
عن مالك بن الحُوَيرث، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا قد اشْتَقْنا أهلَنا، فسألَنا عمن تركنا من أهلنا، فأخبرناه، فقال: «ارْجِعُوا إلى أهْلِيْكُم فَأقِيْمُوا فِيْهِم» .
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد الرجلُ من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده».
البَابُ الخامِس
في ذكر حيائه صلى الله عليه وسلم
عن أبي سعيد الخدري قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ حياءً من العذراء في خِدْرها، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه».
عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على رجل صُفْرَةً فكرهها وقال: «(لَوْ) أمَرْتُمْ هذا أنْ يَغْسِلَ هذه الصُّفْرَة» .
وكان لا يواجه أحداً في وجهه بشيء يكره.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن رجل شيء لم يقل له: قلتَ كذا وكذا».
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حَييًّا لا يُسْأل عن شيء إلا أعطَى».
البابُ السّادِس
في ذكر تواضعه صلى الله عليه وسلم(1/318)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: استبَّ مسلمٌ ويهودي، فقال المسلم: والذي اصطفى محمداً على العالمين.
وقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين.
فغضب المسلم على اليهودي فلطمه، فأتى اليهوديُّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فاعترف بذلك.
فقال عليه السلام: «لا تُخَيُّروُنِي عَلَى مُوسَى، فإنَّ النَّاسَ يُصْعَقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَأَكُونُ أوَّلَ مَنْ يُفيْقُ، فأجِدُ مُوسَى مُمْسِكاً بِجَانِبِ العَرْشِ، فَلا أدْرِي أكَانَ فِيْمَنْ صُعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي، أمْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَاه اللَّهُ تَعَالَى» .
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أنْ يَقُولَ؛ أنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنَ مَتَّى» .
عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُطْرُونِي كَمَا أطْرَت النَّصَارَى عِيْسَى بْنَ مَرْيَمَ، وإنَّمَا أنَا عَبْدُ، فَقُولوا عَبْدُ الله ورَسُوله» .
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {س12ش50وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } (يوسف: 50)
.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كُنْتُ أنَا لأَسْرَعْتُ الإجَابَة ومَا ابْتَغَيْتُ العُذْرَ» .
وسُئلت عائشة رضي الله عنها، ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع إذا دخل بيته؟
قالت: «كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج فصلّى».
عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا محمد، يا سيدنا وابن سيدنا، وخَيْرنا وابن خيرنا.(1/319)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أيُّهَا النَّاسُ قُولُوا بِقَوْلِكُم، ولاَ يَسْتَهْوِيَنَّكُم الشَّيْطَانُ، أنَا مُحَمَّدُ ابن عَبْدِ الله، وعَبْدُ الله ورَسُولُه، واللَّهُ مَا أُحِبُّ أنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي» .
وقيل لعائشة رضي الله عنها: ما كان يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟
قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بَشَراً من البشر، يفلّي ثوبه، ويحلب شاته ويخدم نفسه».
وفي رواية: يصنع في بيته كما يصنع أحدكم في بيته، يَخْصف النعلَ ويرقع الثوبَ.
عن البَرَاء رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل الترابَ، وقد وارَى البياضُ بياضَ بطنه».
عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعُودُ المرضى ويشهد الجنائز، ويأتي دعوةَ المملوك، ويركب الحمار، ولقد رأيته يوماً على حمار خطامه ليف».
وعنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فعاده النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «أتَشْهَدُ أنْ لاَ اله إِلاَّ اللَّهُ وأَنِّي رَسُولُ الله؟» .
فنظر الغلام إلى أبيه، فقال أبوه: قل ما يأمرك به محمد. فقالها، فمات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا عَلَى أَخِيْكُم وادْفِنُوه» .
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ دُعِيْتُ إلَى كِرَاعٍ لأجَبْتُ، ولو أُهْدِيَ إليَّ ذِرَاعٌ لقَبِلْتُ» .
عن أنس رضي الله عنه: «ما كان شخص أحبَّ إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لِمَا يعلمون من كراهيته لذلك».
عن الحسن رضي الله عنه أنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا والله ما كان يُغْلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحُجَّاب، ولا يُغْدى عليه بالجفان ولا يُرَاح عليه بها».
«ولكنه كان بارزاً، من أراد أن يَلْقَى نبيَّ الله لقيه».
«(1/320)
كان يجلس بالأرض ويوضع طعامه بالأرض، ويلبس الغليظ، ويركب الحمار ويُرْدف بعده، ويَلْعق والله يدَه صلى الله عليه وسلم».
عن قيس بن أبي حازم أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فلما قام بين يديه استقبلته رِعْدة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هَوِّن عَلَيْكَ، فَإنِّي لَسْتُ مَلِكَاً، إنَّمَا أنَا ابْنُ امْرَأَةٍ منْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ القَدِيْدَ» .
عن أنس رضي الله عنه، أن امرأة كانت في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة.
قال: «يَا أُمَّ فُلانٍ، خُذِي في أيِّ طَرِيْقٍ شِئْتِ قُومِي فيه حتَّى أَقُوْمَ مَعَكِ» .
فخلا معها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يناجيها حتى قضت حاجتها.
وعنه قال: «إن كانت الوليدةُ من ولائد المدينة تجيء فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يَنْزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت».
عن ابن أبي أَوْفَى قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأنفُ ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمكسين فيقضي له حاجته».
عن قدامة بن عبد الله قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجَمْرة على ناقة شهباء، لا ضَرْبَ ولا طَرْدَ، ولا إلَيْك إليك».
عن نصر بن وهب الخُزاعي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب حماراً مَرْسوناً بغير سَرْج موكف عليه قطيفة جُورية، ثم دعا معاذاً فأردفه».
عن أسماء بنت يزيد: «أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بنسوة فسلّم عليهن».
وقد سبق أنه كان يسلّم على الصبيان.
عن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي ذَرَ. قالا: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بَيْن ظَهرانَيْ أصحابه. فيجيء الغريب فلا يَدْري أيهم هو حتى يَسْأل».
فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل مجلساً يعرفه الغريب إذا أتاه، فبنينا له دكاناً من طين، فكان يجلس عليه ونجلس بجانبيه.(1/321)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، كُلْ، جعلني الله فداك، متكّئاً فإنه أهَوْنُ عليك.
قال: «لاَ، بَلْ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ العَبْدُ وأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ العَبْدُ» .
وعنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جَاءَنِي مَلَكٌ، فَقَال: إنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ ويقول: إنْ شِئْتَ نَبِيًّا عَبْداً وإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكاً» .
«فَنَظَرْتُ إلى جِبْرِيْلَ فَأشَارَ لِي: أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ» .
فقلت: «نبيًّا عَبْداً» .
عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثر الذِّكرَ ويُقلُّ اللَّغْو، ويطيل الصلاةَ ويُقَصِّر الخطبة، ولا يأنف ولا يستنكف أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي لهما حاجتهما».
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كنت في عصابة من المهاجرين جالساً، وإنَّ بعضَهم يَسْتَتِرُ ببعض من العُرْي، وقارىء لنا يقرأ علينا، فكنا نستمع إلى كتاب الله».
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحَمْدُ دِ الذي جَعَلَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ أُمِرْتُ أنْ أصْبِرَ مَعَهُم نَفْسِي» .
ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطنا ليَعْدِلَ بيننا بنفسه. فقال: «أَبْشِروُا مَعَاشِرَ صَعَالِيْكِ المُهَاجِرينَ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ، تَدْخُلونَ الجَنَّةَ قَبْلَ الأغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ، وذَلكَ خَمْسُمِائَة عَامٍ» .
الباب السابع
في أنه صلى الله عليه وسلم بُعث رحمة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، ادعُ على المشركين.
قال: «إنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّاناً وإنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» .
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا أنا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» .
قلت: وهذا الحَصْر مؤيَّدٌ بقوله تعالى: {س21ش107وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (الأنبياء: 107)
.
الباب الثامن(1/322)
في ذكر اشتراطه صلى الله عليه وسلم على ربه سبحانه أن يجعل سبَّهلمن سَبَّ من المسلمين أجراً
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللهُمَّ إنِّي أتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْداً لَنْ تُخْلِفَنِيْه، إنَّمَا أنا بَشَرٌ، فأيُّ المُؤْمِنينَ آذَيْتُه أو شَتَمْتُه أو جَلَدْتُهُ فَاجْعَلها له صَلاَةً وزَكَاةً وقُرْبَةً تُقَرِّبُه بِهَا إليكَ يَوْمَ القِيَامَةِ» .
عن أنس رضي الله عنه قال: كانت عند أم سليم يتيمة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم اليتيمة فقال: «آنْتِ، هِيَهْ، لَقَدْ كَبِرْتِ لاَ كَبِرَ سِنُّكِ» .
فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سُليم: يا بنيَّة مالك؟
قالت: دعا عليَّ نبي الله أن لا يكبر سني، فالآن لا يَكبَر سنِّي أبداً.
فخرجت أم سليم مستعجلة تَلُوثُ خمارها حتى لقيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: «مَالَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟» .
فقالت: أدعوتَ على يتيمتي ألا يَكْبَرَ سِنّهَا؟
فضحك ثم قال: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، أما تَعْلَمِينَ أنَّ شَرْطِي عَلَى رَبِّي أَنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، فَقُلتُ: إنَّما أنَا بَشَرٌ أرْضَى كَمَا يَرْضَى البَشَر وأغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الرَّجُل، فَأَيَّما أَحَدٌ دَعَوْتُ عَلَيه منْ أُمَّتِي لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ أنْ تَجْعَلَهَا له طَهُورًا وزَكَاةً وقُرْبَةً تُقَرِّبُه إليَّ يَوْمَ القِيَامَةِ» .
قال ابن عقيل: وأما لعنه في الخمر فتشريع للزجر، فلو كانت وضعت للزجر ثم أبان أنها رحمة، جرت عن موضعها، فيصير ذلك ترغيباً في المعصية.
وذلك غير جائز على الشارع.(1/323)
اللهم إلا أن يكون أراد به من وجهٍ أنه رحمة في (غايته) ذلك أن لَعْن الرسول لمن لعنه يكون عند من لعنه غاية في المنع عن ارتكاب ما لعنه عليه وحاملاً له على التوبة، فيكون مُسَمِّياً للعنة رحمةً حيث أفْضت إلى الرحمة، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه.
الباب التاسع
في ذكر جوده صلى الله عليه وسلم
عن جابر رضي الله عنه قال: «ما سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال لا».
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان، حين يلقى جبريل عليه السلام، وكان جبريل يلقاهُ في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن».
قال: «فلَرَسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة».
عن أنس رضي الله عنه، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يْسْألُ شيئاً على الإسلام إلا أعطاه».
قال فأتاه رجل فسأله، فأمر له بشاءٍ كثير بين جبلين من شاء الصدقة.
قال: فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة
عن جُبير بن مطعم رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقفله من حُنَين عَلقه الأعراب يسألونه، حتى اضطرّوه إلى سَمُرَة فخطفت رداءه.
فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، أتَخْشَوْنَ عَلَيَّ البُخْلَ؟ فَلَوْ كَانَ لِي عَدَدُ هذه العِضَاهِ ذَهَباً لَقَسَمْتُه بَيْنَكُم، لا تَجِدُونِي بَخِيْلاً ولا كَذَّاباً ولا جَبَاناً» .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على بلال وعنده صُبْرَةٌ من تمر، فقال: «ما هذا يا بلال» .
فقال: أدَّخِره يا رسول الله
قال: «أَما تَخْشَى أنْ يَكُونَ لَه سِجَارٌ في النَّارِ؟ أنْفِقْ بِلاَلُ ولا تَخْشَ إقْلاَلاً» .
عن أنس رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدّخر شيئاً لغدِ».(1/324)
عن هارون بن رئاب قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبعون ألف درهم، وهو أكثرُ مالٍ أتي به قط، فوضع على حصير، ثم قام فقسمه، فما ردَّ سائلاً حتى فرغ منه.
الباب العاشر
في ذكر شجاعته صلى الله عليه وسلم
عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس وأجودَ الناس، كان فَزَعٌ بالمدينة فخرج الناس قِبَل الصوت فاستقبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سبقهم فاستنبأ الفزع على فرس عُرْي لأبي طلحة ما عليه سرج، في عنقه السيف، فقال: «لَمْ تُرَاعُوا» .
وقال للفرس: وجدناه بحراً، وإنه لبحر.
عن البراء رضي الله عنه أنه سأله رجل من قيس فقال: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنَين؟
فقال البراء: ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرّ، كان هوازن قوماً رُمَاة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكْبَبْنَا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها، وهو يقول:
أنا النبيُّ لا كَذِبْ
أنا ابنُ عبد المطلب
عن علي رضي الله عنه قال: «لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذُ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ».
وعنه قال: «كنا إذا احمرَّ البأس ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان أحدٌ أقرب إلى العدو منه».
عن البراء رضي الله عنه قال: «كنا والله إذا احمرَّ البأس نتَّقي به، يعني النبي صلى الله عليه وسلم، وإن الشجاع منا الذي يحاذِي به».
الباب الحادي عشر
في ذكر مزاحه وملاعبته وأنه لا ينطق إلا بالحق صلى الله عليه وسلم
عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً من أهل البادية يقال له: زاهر، وكان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية فيجهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج.(1/325)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ زَاهِرًا بَادِيْنَا ونَحْنُ حَاضِرُوه» وكان رجلاً دميماً، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه، والرجل لا يبصره، فقال: أرسلني، من هذا؟
فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عرفه.
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ يَشْتَري العَبْدَ» .
فقال: يا رسول الله، إذن والله تجدني كاسداً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَكانْ عِنْدَ الله لَسْتَ بِكَاسِدٍ. أو قَال: لَكِنْ أنتَ عِنْدَ الله غَالٍ» .
عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبْدُنْ، فقال للناس: «تقدموا» فتقدموا.
ثم قال: «تعال حتى أسابقك» فسابقته فسبقته. فسكت عني، حتى إذا حملتُ اللحمَ وبدنتُ ونسيت، خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: «تَقَدَّمُوا» فتقدموا، فقال لي: «تَعَالِ حَتَّى أُسَابِقَكِ» فسابقته فسبقني.
فجعل يضحك ويقول: «هذه بِتِلْكَ» .
عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا ذا الأُذُنَيْنِ» .
قال أبو أسامة: يمازحه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدْلَعُ لسانَه للحسن بن علي رضي الله عنهما، فيرى الصبيُّ حُمْرةَ لسانه فيهشُّ إليه».
عن عبد الله بن الحارث بن جَزء رضي الله عنه قال: «ما رأيتُ رجلاً أكثر مزاحاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم».
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنِّي لأَمْزَجُ وَلاَ أقُولُ إلاَّ حَقًّا» .
عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: احملني.
فقال: «إنّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ» .
قال: وما أصنع بولد الناقة؟
فقال: «وهل تَلِدُ الإبْلَ إلاَّ النُّوقُ» .(1/326)
وقال: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَجُوزٌ» .
قال: إن عجوزاً دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن شيء فقال لها ومازحها: «إنَّه لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَجُوزٌ» .
وحضرت الصلاة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فبكت بكاءً شديداً، حتى رجع النبي صلى الله عليه وسلم.
فقالت عائشة: يا رسول الله، إن هذه المرأة تبكي لما قلت لها: إنه لا يدخل الجنة عجوز.(1/327)
فضحك وقال: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ عَجُوزٌ، ولكنْ قَالَ تَعَالَى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأٌّرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً * وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَائِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الأٌّوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الأٌّخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ * مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً * وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأًّصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِّنَ الأٌّوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الأٌّخِرِينَ * وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى(1/328)
الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ ءَابَآؤُنَا الأٌّوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الأٌّوَّلِينَ وَالأٌّخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لأّكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالُِونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَاذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ * نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ * أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَءَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِى مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الاٍّولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ * أَفَرَءَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَءَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرِعُونَ * لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَءَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِى تَشْرَبُونَ * أَءَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ * أَفَرَءَيْتُمُ النَّارَ الَّتِى تُورُونَ * أَءَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ * فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ(1/329)
* أَفَبِهَاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ * فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ * فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }(الواقعة: 35 ــــ 37)
وهُنَّ العَجَائِزُ الرُّمْصُ» .
وعنه أنه صلى الله عليه وسلم دخل على أم سليم، فرأى أبا عُمير حزيناً فقال: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، ما بَالُ أبي عُمَيْرٍ حَزِيناً؟» .
قالت: يا رسول الله، مات نُغَيره.
فقال صلى الله عليه وسلم: «يَا أبا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» .
عن ابن عباس قال: «كانت في النبي صلى الله عليه وسلم دعابة».
عن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم من أفْكه الناس».
عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مَزَّاحاً، وكان يقول: «إنَّ اللَّهَ لا يُؤَاخِذُ المَزَّاحُ الصَّادِقَ في مُزَاحِه» .
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كنت أكتب كل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله يتكلم في الغضب.
فأمسكت عن الكتابة، وذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اكْتُبْ، فَوَالذي نَفْسِي بِيَدِه مَا خَرَجَ مِنِّي إلاّ الحَقُّ» .(1/330)
عن خَوات بن جُبير قال: نزلتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ الظهران، فخرجت من خبائي فإذا نسوة يتحدثن، فأعجبنني، فرجعت، فأخرجت حلة لي من حبرة فلبستها، ثم جلست إليهن وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبته، فقال: «يَا أبَا عَبْدِ الله، ما يُجْلِسَكَ إليْهِنَّ؟»
فهِبْت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، جملٌ لي شَرود أبتغي له قيداً.
قال: فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعته، فألقى رداءه ودخل الأراك فقضى حاجته وتوضأ، ثم جاء فقال: «أبَا عَبْدِ الله، مَا فَعَلَ شِرَادُ جَمَلِكَ؟»
ثم ارتحلنا، فجعل لا يلحقني في منزل إلا قال لي: «السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أبَا عَبْدِ الله، مَا فَعَلَ شِرادُ جَمَلِكَ؟»
قال: فتعجلت إلى المدينة، فاجتنبت المسجدَ ومجالسةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما طال ذلك تَحَيَّنْتُ ساعة خلوة المسجد فجعلت أصلي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعض حُجَره، فجاء يصلِّي، فصلى بركعتين خفيفتين، ثم جاء فجلس، وطوَّلت رجاء أن يذهب ويدَعني، فقال: «يَا أبَا عَبْدِ الله مَا شِئْتَ فَلَسْتُ بِقَائِمٍ، حتَّى تَنْصَرِفَ» .
فقلت: والله لأعتذرنَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبردنَّ صدره.
قال: فانصرفتُ، فقال: «السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أبَا عَبْدِ الله، مَا فَعَلَ شِرَادُ الجَمَلِ؟»
فقلت: والذي بعثك بالحق ما شردَ ذلك منذ أسلمتُ.
فقال: «رَحِمَكَ اللَّهُ» مرتين أو ثلاثاً، ثم أمسك عنِّي فلم يَعُدْ.
أبواب: آدابه وسمته صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في جعله يده اليمنى صلى الله عليه وسلم للطهور واليُسْرَى لدفع الأذى
عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت يده اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخَلائه وما به من أذى».
الباب الثاني
في فعله عند عطسته صلى الله عليه وسلم(1/331)
عن أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس يَخْفض صوته وتلقَّاها بثوبه وخَمَّر وجهه».
وعنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان) إذا عطس خَمَّر وجهه وأخفَى عطسته».
الباب الثالث
في محبته التيامن في أفعاله صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ شيئاً أخذه بيمينه، وإذا أعطى أعطى بيمينه، ويبدأ بميامنه في كل شيء».
الباب الرابع
في ذكر جلسته صلى الله عليه وسلم
عن قَيْلة بنت مَخْرمة: أنها رأت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو قاعد القرفصاء، قالت: فلما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشعَ في الجلسة أُرعدْتُ من الفَرَق.
الباب الخامس
في ذكر احتبائه صلى الله عليه وسلم
عن أبي سعيد قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المجلس احتبَى بيديه».
الباب السادس
في ذكر اتكائه صلى الله عليه وسلم
عن جابر بن سَمُرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على وسادة على يساره.
الباب السابع
في ذكر استلقائه صلى الله عليه وسلم
عن عَبّاد بن تميم، عن عمِّه، أنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم مُسْتلقياً في المسجد، واضعاً إحدى رجليه على الأخرى.
الباب الثامن
في صفاء منطقه وألفاظه صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيد الكلمة ثلاثاً».
وعنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «(كان) إذا تكلم بكلمة ردّها ثلاثاً، وإذا أتى قوماً فسلّم عليهم سَلّم ثلاثاً».
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَسْرد سَرْدَكم هذا كان يتكلم بكلام يُبينه، فَصْلاً يحفظه من يَسْمعه».
وفي رواية عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث حديثاً لو عَدَّه العادُّ لأحصاه».
عن الحسن بن علي قال: سألت خالي هنداً فقلت: صِفْ لي مَنْطقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/332)
فقال: «كان لا يتكلم في غير حاجة، طويل السَّكْت، يفتتح الكلم ويختمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلم، فَصْلاً لا فُضُول فيه ولا تقصير».
عن أم مَعْبَد قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صمت فعليه الوقار، وكأنّ مَنْطقه خَرزات نظمٍ يتحدَّرن، حلو المنطق لا نَزْرٌ ولا هَذْر».
عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم رُئي كالنور من ثناياه».
الباب التاسع
في ذكر تحريك يده حين يتكلم صلى الله عليه وسلم
عن الحسن بن علي، عن خاله هند قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجَّب قلّبها، وإذا (تحدث) اتَّصل بها وضرب براحته اليمنى بطنَ إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح».
الباب العاشر
في ذكر منبره صلى الله عليه وسلم
عن سهل بن سعد: أنه سئل عن المنبر من أيّ عُود هو؟
قال: أمَا والله إني لأعرف من أيّ عُود هو، وأعرف من عَمله وأيّ يوم صُنع، ورأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم أيّ يوم جلَس عليه.
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى امرأة لها غلام نجار فقال لها: «مُري غُلاَمَكِ النَّجَّارَ أن يَعْمَلَ لِي أعْوَاداً أجْلِسُ عَلَيها إذا كَلَّمْتُ النَّاسَ» .
فأمَرَتْه فذهب إلى الغابة فقطع طَرْفاً فعمل المنبر ثلاث درجات، فأرسلت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوضعه في موضعه الذي ترون، فجلس عليه أول يوم فكَّبَر وهو عليه ثم ركع، ثم نزل القهقرى فسجد وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ. فلما انصرف قال: «يَا أيُّها النَّاسُ، إنَّما فَعَلْتُ هذا لتَأتَمُّوا بِي وتَعْلَمُوا صَلاَتِي» .
الباب الحادي عشر
في ذكر فصاحته صلى الله عليه وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، وكان يقول: «إنَّ اللَّهَ أدَّبَنِي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبي ونَشَأءْتُ في بَنِي سَعْدٍ» . وقال: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ» .(1/333)
عن عمر بن الخطاب أنه قال: يا رسول الله، مالك أفْصَحنا ولم تخرج من بين أظْهُرنا؟
قال: «كَانَتْ لُغَةُ إسْمَاعِيْلَ قَدْ دَرَسَتْ فَجَاءَ بِهَا جِبْرِيْلُ فَحَفِظْتُهَا» .
عن بريدة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أفصح الناس، كان يتكلم بالكلام لا يَدْرون ما هو حتى يخبرهم».
عن علي قال: ما سمعت كلمة غريبةً من العرب إلا وقد سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعته يقول: «مَاتَ حَتْفَ أَنْفِه» ، وما سمعتها من عربي قبلَه.
قال المؤلف رحمه الله: كلُّ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حِكَمٌ وفصاحة.
ومن طرائفها: «إيَّاكُم وخَضْرَاءُ الدِّمَنِ» . «إن ممّا يُنْبِتُ الرَّبيعُ لَمَا يُقْتُلُ حَبْطاً أو يُلمُّ» . «ولا يُلْدَغ المُؤمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ» . «والنَّاسُ كأسْنَانِ المِشْطِ» . «والمَرْءُ كَثِيرٌ بِأَخِيه» .
وقوله للأنصار: «إنكم لتَقُلُّون عنْدَ الطَمَع وتَكْثُرُونَ عِنْدَ الفَزَعِ» .
وقوله: «خَيْرُ المَالِ مُهْرَةٌ مَأثُورُةٌ، أو سِكَّةٌ مأبُورَة» .
وقوله: «خَيْرُ المَالِ عَيْنٌ شَاهِدَةٌ لِعَيْنٍ قَائِمَةٌ» . «ومَنْ بَطَّأَ بِه عَمَلُه لَمْ يُسْرِعْ بِه نَسَبُه» .
وقوله: «حُبُّكَ الشَيءَ يُعْمِي ويُصِّمُّ» . «وكلُّ الصَّيْدِ في جَوْفِ الفَرَا» . «القَنَاعَةُ مَالٌ لا يَنْفَذُ» .
ومثل هذا كثير.
الباب الثاني عشر
في تكلمه بالفارسية صلى الله عليه وسلم
عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «قُومُوا فَقَد صَنَعَ لَكُم جَابِرُ سُوْراً» .
قال أبو العباس ثَعْلب: إنما يراد من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلَّمَ بالفارسية، صنع سُوراً أي طعاماً دعا إليه الناس.(1/334)
عن مجاهد، عن أبي هريرة، قال: مَرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أشتكي بطني فقال: «يَا أبا هُرَيْرَةَ اشْتَكَيْتَ دَرْدَ اشْتَكَيْتَ دَرْدَ؟ عَلَيكَ بالصَّلاَةِ فَإنَّها شِفَاءٌ مِن كُلِّ سَقَمٍ» .
قال المؤلف: هذا الحديث لا يَثْبت عند علماء النقل. قالوا: أبو هريرة لم يكن فارسياً، إنما مجاهد فارسي، فالذي قال هذا أبو هريرة خاطب به مجاهداً، ومن رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهِم.
وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن البراء من طريق أبي الدرداء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ذلك، وإبراهيم يحدِّث عن الثقات بالموضوعات.
الباب الثالث عشر
في ذكر ما تمثل به من الشعر صلى الله عليه وسلم
قال البراء: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الأحزاب ينقل التراب وقد وارى الترابُ بياضَ إبطيه وهو يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدَّقنا ولا صَلّينا
فأنزلَنْ سكينةً علينا
وثبِّت الأقدامَ إنْ لاقينا
والمشركون قد بَغَوْا علينا
إذا أرادوا فتنةً أبَيْنَا
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين:
أنا النبيُّ لا كَذِبْ
أنا ابنْ عبد المطلب
عن جندب بن سفيان البجلي قال: أصاب حجرٌ إصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدميت فقال:
هل أنت إلا إصبعٌ دميتِ
وفي سبيل الله ما لقيتِ
وقد قيل لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت: كان يتمثل بشعر ابن رَواحة ويتمثل بقوله:
ويأتيك بالأخبار من لم تزوِّدِ
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أصْدَقَ كَلِمَةً قَالَها شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبيْدٍ: .
ألاَّ كُلُّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ باطلُ»
وكاد شعر أمية بن أبي الصَّلْت (أن) يُسْلم.
الباب الرابع عشر
في ذكر ما سمع من الشعر صلى الله عليه وسلم(1/335)
عن عمرو بن الشّريد عن أبيه قال: أردَفني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هَلْ مَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَّيةَ بنَ أبي الصَّلْتِ شَيءٌ؟» .
قلت: بلى يا رسول الله.
قال: «هِيه» حتى أنشدته مائة بيت.
وعن نابغة قال: أنشدتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
بلَغْنَا السماءَ مَجْدُنَا وجدودنا
وإنّا لنَرجو فوقَ ذلك مَظْهَرا
فقال: أين المظهر يا أبا ليلى؟ قلت: الجنة. قال: أجل إن شاء الله. ثم قلت:
ولا خَيْرَ في حِلْم إذا لم يكن له
بوادرُ تَحمي صفوَه أن يكدَّرا
ولا خير في جَهلٍ إذا لم يكن له
حليمٌ إذا أوردَ الأمر أصْدَرا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْضُضِ اللَّهُ فَاكَ» .
عن سعيد بن المسيَّب قال: قَدِم كعبُ بن زهير متنكِّراً حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوعده، فأتى أبا بكر، فلما أن صلّى الصبحَ أتاه به وهو متلثم بعمامته، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يبايعك على الإسلام. فبسط يده.
فحسر عن وجهه، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هذا مقام العائذ بك.
أنا كعب بن زهير.
فتجهمت الأنصار وأغلظت له، لِمَا كان مِنْ ذِكْره للنبي صلى الله عليه وسلم، ولانَتْ له قريشٌ وأحبُّوا إسلامَه.
فآمنَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فأنشَده مِدْحته التي يقول فيها:
بانَتْ سعادُ فَقْلبي اليوم مَتْبولُ
مُتَيَّمٌ عندها لم يُشْفَ مكْبُولُ
فكساهُ النبي صلى الله عليه وسلم بردةً اشتراها معاوية بن أبي سفيان من آل كعب بن زهير بعده بمال كثير.
فهي البردة التي تلبسها الخلفاء في العيدين. زعم ذلك أبان.
قال المصنف: وقد أنشده جماعة، منهم العباس وعبد الله بن رواحة، وحسّان، وضمار، وأسد بن زنيم، وعائشة، في خَلْق كثير قد ذكرتهم في كتاب الأشعار.
الباب الخامس عشر
في صفة مشيه صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنه يتوكأ».(1/336)
عن لقيط بن صبرة عن أبيه، أنه أتى عائشة هو وصاحب له يطلبان النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجداه، فلم يلبثا أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم مُتَقلِّعاً يتكفّأ.
عن علي قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكَفّأ تكفُّؤاً كأنما يَنْقلع من صَبَب، لم أر قَبْله ولا بعده مثلَه صلى الله عليه وسلم».
(عن الحسن) عن خاله هند، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صَبَب، وإذا التفت التفتَ جميعاً، خافضَ الطّرْف، نظرُه إلى الأرض أطْوِلُ من نظره إلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظةُ، يسوق أصحابه ويبدأ مَنْ لقيه بالسلام».
عن أبي هريرة قال: «كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فكنت إذا مشيت سبقني، وإذا هرولت سبقته، فقلت تُطْوَى له الأرضُ».
عن أبي هريرة قال: «ما رأيت أحداً أسرعَ في مشْيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كأنما الأرضُ تُطْوَى له، إنا لنُجْهد أنفسنا وإنه غير مُكْترث».
عن عمر بن الخطاب قال: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تَطأ رجلاه».
عن جابر قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يَمْشون أمامَه إذا خرج ويدَعون ظهره للملائكة».
عن ابن عباس قال: «مشيت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم أختبره فأنظر: يكره أن أمشي وراءه أو يحب ذلك، فالتمسَني بيده فألحقَني به، فعرفت أنه يَكْره ذلك».
الباب السادس عشر
في ذكره ضحكه وتبسمه صلى الله عليه وسلم
عن عائشة أنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً قط حتى أدى لَهَوَاته، إنما كان يتبسم».
أخرجاه.
عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: «ما رأيت أحداً كان أكثرَ تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم».
عن صُهيب قال: «ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بَدْت نواجذه».
عن أبي هريرة قال: «ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بَدْت أنيابه».(1/337)
عن حُصَين بن زيد الكَلْبي قال: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً، ما كان إلاّ التبسُّم».
عن الحسن بن علي قال: «سألت خالي هنداً عن صفة ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: جُلُّ ضحكه التبسم، يَفْتر عن مِثْل حَبِّ الغمام».
عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: أقبل أعرابيٌّ على ناقة له حتى أناخ بباب المسجد، فدخل على نبي الله، وحمزةُ بن عبد المطلب جالس في نفر من المهاجرين والأنصار وفيهم النُّعَيْمَان، فقال لِنُعَيمان: ويحك إن ناقته سمينة، فلو نحرتها فإنا قد قَرِمْنا إلى اللحم، ولو فعلت غَرَّمْنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأكلْنا لحماً. فقال: إني لو فعلت ذلك وأخبرتموه وجَد عليَّ.
قالوا: لا نفعل.
فقال: يا مقداد، غيِّبني في هذه الحفرة وأطْبق عليَّ شيئاً، ولا تدلَّ عليّ أحداً، فإني قد أحدَثْت حدَثاً. ففعل.
فلما رأى الأعرابي ناقته قد نُحرت صرخ، فخرج نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال: «مَنْ فَعَلَ هذا؟» .
قالوا: نعيمان.
قال: «فأَيْنَ تَوَجَّه؟» .
قالوا: ها هنا.
فتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه حمزة وأصحابه، حتى أتى على المقداد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَلْ رَأَيْتَ نُعَيْمَان؟» فصمت، قال: «لَتُخْبِرَنِّي أيْنَ هو» .
فقال: مالي به علم. وأشار بيده إلى مكانه. فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، وقال: «أيْ غُدَرَ ما حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ»
قال: والذي بعثك بالحق لأمرني به حمزةُ وأصحابه.
فأرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابيَّ وقال: «شَأنُكُم بِهَا» . فأكلوها.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكرَ صنيعه ضحك حتى تبدو نواجذُه.
عن جرير بن عبد الله قال: «ما حجَبني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا ضَحِك».(1/338)
وفي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكى عن رجل أُخْرج من النار فقيل له: تمنَّ. فيتمنى فيقال: هو لك ما تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا.
فيقول: تَسْخَر بي وأنت المِلك
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بَدْت نواجذه.
وفي هذا أحاديث كثيرة.
وقد روي حديث يخالف هذه الأحاديث عن علي بن أبي طالب، قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن أتاني ثلاثة نفر يختصمون في غلام من امرأة وقعوا عليها جميعاً في طهر واحد، كلهم يدّعي أنه ابنه، فأقْرَعْتُ بينهم فألحقتُه بالذي أصابته القرعة و(جعلت) لصاحبيه ثلثي الدية.
فلما قدمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له ذلك، فضحك حتى ضرب برجله الأرضَ ثم قال: «إذاً حكمتَ فيهم بحُكْم الله» . أو قال: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ حُكْمَكَ فِيهِم» .
وهذا الحديث لا يَثْبت، فيه جماعة مجرّحون، ولا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يزيد على التبسم.
الباب السابع عشر
في محبته الفألَ والحسن من القول صلى الله عليه وسلم
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ ويُعْجِبُنِي الفَألُ» .
قالوا: يا نبي الله وما الفَأْل؟
قال: «الكَلِمَةُ الحَسَنَةُ» .
أخرجاه.
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم غيَّر اسم عاصية فقال: «أنْتِ جَمِيْلَةٌ» .
انفرد بإخراجه مسلم.
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يعجبه إذا خرج لحاجته أن يسمع: يا راشد يا نَجِيح».
عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطيَّر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الاسمَ الحسن».
عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع كلمةً فأعجبته فقال: «أخَذْنَا فَالَكَ مِنْ فِيْكَ» .
الباب الثامن عشر
في تغييره الاسم القبيح صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغّير الاسمَ القبيح إلى الاسم الحسَن».(1/339)
عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم غيَّر اسمَ عاصية فقال: «أنْتِ جَمِيْلَةٌ» .
الباب التاسع عشر
في قبوله الهدية وإثابته عليها صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقْبل الهديةَ ويُثيب عليها».
عن عائشة قالت: والله لقد كان يأتي على آل محمد شهرٌ ما كانوا يختبزون فيه.
فقلت: يا أمَّ المؤمنين، ما كان يأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: كان لنا جيران من الأنصار جزاهم الله خيراً، وكان لهم شيء من لبن يُهْدون منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أُهْدِيَ إليَّ كِرَاعٌ لَقَبِلْتُ وَلوْ دُعِيتُ إلى كِرَاعٍ لأجَبْتُ» .
الباب العشرون
في كثرة مشاورته أصحابه صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: ما رأيت رجلاً أكثر استشارةً للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الباب الحادي والعشرون
في ذكر فعله في أول مطر يقع صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: مُطِرْنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسَرَ عن رأسه حتى أصابه المطرُ، فقلت له: لم صنعتَ هذا يا رسول الله؟
قال: «إنَّه حَدِيْثُ عَهْدِ بِرَبِّه عَزَّ وَجَلَّ» .
عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يكشفون رؤوسهم في أول مطرة تكون من السماء في ذلك العام، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو أَحْدَثُ عَهْداً بِرَبِّنا وأعْظَمَه بَرَكَةً» .
الباب الثاني والعشرون
في احتياطه في نفي التهمة عنه صلى الله عليه وسلم
عن صفية بنت حُييّ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً، فحدَّثته ثم قمت فانقلبت، فقام معي يقْلبني وكان في مسكنها في دار أُسامة بن زيد، فمرَّ رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسْرَعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَلَى رِسْلِكُمَا إنَّها صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيّ» .(1/340)
فقالا: سبحان الله يا رسول الله
قال: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي منَ ابْنِ آدَمَ، وإنِّي خَشِيْتُ أن يَقْذِفَ في قُلوبِكُمَا شَرّاً أَوْ شَيْئاً»
عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع امرأة من نسائه، فمرَّ رجل فقال: «يَا فُلاَنُ هذه امْرَأَتِي» .
فقال: يا رسول الله، من كنت أظن به فإني لم أكن أظن بك.
فقال: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ (مَجْرَى الدَّمِ)» .
انفرد بإخراج هذا الحديث مسلم، واتفقا على الذي قبله.
الباب الثالث والعشرون
في علامة رضاه وسخطه صلى الله عليه وسلم
عن كعب بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سرَّه الأمرُ استنار وجهه كأنه دارَة القمر».
عن أم سلمة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب احمرَّ وجهه».
عن عِمْران بن حُصَين قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كَره شيئاً عُرف ذلك في وجهه».
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتدَّ وَجْدُه أكْثَر من مَسِّ لحيته».
الباب الرابع والعشرون
في مخالطته للناس صلى الله عليه وسلم
عن الحسن بن علي قال: سألت خالي هندَ بن أبي هالة، عن مَخْرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان يصنع فيه.(1/341)
قال: «كان يَخْزن لسانَه إلا فيما يَعْنيه، ويؤلِّفهم ولا يُنَفِّرهم، ويُكْرم كريمَ كلِّ قوم ويوُلِّيه عليهم، ويَحْذَر الناس ويحترز منهم، من غير أن يَطْوي عن أحدٍ بِشْرَه ولا خُلقه، ويتفقدُ أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسِّن الحسَن ويقوّيه ويقبّح القبيح ويُوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يَغْفَل مخافَةَ أنْ يَغْفلوا أو يميلوا، لكل حالٍ عنده عتاد (لا يقصِّر عن الحق ولا يَجُوزه) الذين يلونه من الناس خيارُهم، أفضلُهم عنده أعمُّهم نصيحةً، وأعظمهم عنده منزلةً أحسنُهم مُوَاساة ومُؤازرة، وكان لا يقوم ولا يجلس إلا على ذِكُر، وإذا انتهى إلى قومٍ جَلس حيث ينتهي به المجلسُ، ويأمر بذلك، يعطي كلَّ جلسائه نصيبَه، لا يَحْسب جليسُه أنْ أحداً أكرم عليه (منه) مَن جالسه (أو قاومه في حاجةٍ صابَره حتى يكون هو المنصرف) ومن سأله حاجةً لا يردُّه إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس بَسْطُه وخُلقه فصار لهم أباً وصاروا في الحق عنده سواء، مجلسُه مجلسُ حلمٍ وحياءٍ وصبرٍ وأمانةٍ، لا تُرْفع فيه الأصوات ولا تُؤبن فيه الْحُرَم، يتعاطفون فيه بالتقوى، متواضعين يوقّرون فيه الكبيرَ ويرحمون فيه الصغير، ويُؤثرون ذا الحاجة ويَحْفظون فيه الغريب».
قلت: فكيف كانت سيرته في جلسائه؟
فقال: «كان دائم البِشْر، سهل الخُلق، ليِّن الجانب، ليس بعَيَّاب ولا مَدَّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يوئس منه ولا يخيِّب مؤمِّلة».
«(1/342)
قد ترك نفسه من ثلاث: المِرَاء والإكثار وما لا يَعْنيه (وتَرك الناسَ من ثلاث، وكان لا يذم أحداً ولا يعيبه) ولا يطلب عورةَ أحد، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابَه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير فإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديثَ، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يَفْرغ. (حديثُهم عنده حديثُ أولهم)، يضحك مما يضحكون منه ويتعجَّب مما يتعجبون به، قد صبَرَ للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إنْ كان أصحابه يَسْتجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالبَ حاجة فارفدوه. ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوز (فيقطعه) بنَهْي أو قيام».
قال الحسن: فكتمتُها الحسينَ زماناً، ثم حدثَّته بها فوجدته فد سبقني إليه، فسأله عما سألته عنه، ووجدتُه سأل أباه عن مَدْخله ومَخْرجه.
قال الحسين: سألت أبي عند دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
كان إذا أوى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثةَ أجزاء: جزءاً لله، وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه. ثم جزَّأ جُزْأه بينه وبين الناس، فردَّ ذلك بالخاصة على العامة، ولا يدَّخر عنهم منه شيئاً.
وكان مِنْ سيرته في جزء الأمة؛ إيثارُ أهل الفضل على قدر فضلهم، فمنهم ذو الحاجة والحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما يصلحهم مِنْ مَسْألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، ويقول: «ليُبَلِّغ الشاهدُ الغائبَ، وأبُلغوني حاجةَ من لا يستطيع إبلاغها، فإنه مَنْ أَبْلغ سلطاناً حاجةَ من لا يستطيع إبلاغَها ثبَّتَ الله قدميه يوم القيامة» يدخلون روّاداً ولا يفترقون إلا عن ذواق، ويخرجون أدلةً على الخير.
قال المصنف: قوله: «فرّد بالخاصة» أي يعتمد على أن الخاصة ترفع إلى العامة علومَه. والذواق: العلم.(1/343)
عن علي قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس صدراً وأصدقهم حُجَّة، وأَلْيَنَهم عريكةً، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهةً هابَه، ومَنْ خالَطه معرفة أحبَّه، يقول ناعتُه: لم أرَ قَبْله ولا بعده مثلَه صلى الله عليه وسلم».
الباب الخامس والعشرون
في يمينه إذا حلف صلى الله عليه وسلم
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا وَمُقَلِّبَ القُلُوبِ» .
انفرد بإخراجه البخاري.
عن أبي ذرّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نَفْسِي بِيَدِه لآنِيَةُ الحَوْضِ أكْثَرُ من عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ وكَوْكِبَها في اللَّيْلَةِ المُصْحِيَةِ» .
عن أبي هريرة قال: كان يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ وأسْتَغْفِرُ اللَّهَ» .
الباب السّادس والعشرون
فيما كان يقوله إذا قام من مجلسه صلى الله عليه وسلم
عن رافع بن خَدِيج قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمع إليه أصحابه فأراد أن ينهض قال: «سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وبِحَمْدِكَ أشْهَدُ أنْ لاَ اله إلاَّ أنْتَ، أسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» .
عن أبي بَرْزة قال: لما كان بأخرةٍ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في المجلس فأراد أن يقوم قال: «سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وبِحَمْدِكَ أشْهَدُ أنْ لاَ اله إلاَّ أنْتَ، أسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ» .
قالوا: يا رسول الله، إنك تقول الآن كلاماً ما كنتَ تقوله فيما خَلاَ.
قال: «هذه كَفَّارَةُ مَا يَكُونُ في المَجْلِسِ» .
أبواب زهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في إعراضه صلى الله عليه وسلم عن الدنيا
عن عبد الله قال: نام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على حَصير فأثّر في جنبه، فقلت: يا رسول الله، ألا آذَنْتَنا فنبسط تحتك أَلينَ منه؟(1/344)
فقال: «مَالِي ولِلدُّنْيَا، أنَّمَا مَثَلي وَمَثَلُ الدُّنْيَا رَاكِبٌ سَارَ في يَوْمٍ صَائِفٍ فَقَالَ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وتَرَكَها» .
عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عَرضَ عَلَيَّ رَبِّي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَباً، فَقُلتُ: لا يا ربِّ، ولاكِنْ أجُوعُ يَوْماً وأشْبَعُ يَوْماً. فَإذا شَبِعْتُ حَمَدْتُكَ وشَكَرْتُكَ، وإذا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إليكَ ودَعَوْتُكَ» .
عن عائشة قالت: اتخذتُ فراشين حَشْوهما ليف وإذْخَر، فقال: «يا عَائِشَةُ، مَالِي وللدُّنْيَا، أنَّمَا أنا والدُّنْيَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَقَالَ فِي أصْلِهَا، حَتَّى إذا فَاءَ الفَيْءُ ارْتَحَلَ فَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهَا أبَداً» .
البَابُ الثاني
في اقتناعه باليسير من الدنيا صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آل مُحَمَّدٍ قُوتاً» .
أخرجاه.
عن عائشة قالت: «ما رفع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قط عشاء لغداء ولا غداء لعشاء، ولا اتخذ من شيء، زوجين، لا قميصين ولا رداءين ولا إزارين ولا من النعال، ولا رئي قط فارغاً في بيته، إما يخصف نعلاً لرجل مسكين أو يخيط ثوباً لأرملة».
الباب الثالث
في أنه كان لا يدخر شيئاً صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يَدَّخر شيئاً».
الباب الرابع
فيما روي أنه كان يدخر صلى الله عليه وسلم
عن عمر قال: «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجِف المسلمون عليه بخيل ولا رِكاب، وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً، وكان ينفق على أهله منها نفقة سنة وما بقي جعله في الكراع والسلاح عُدَّةً في سبيل الله».
عن ابن عُيينة قال: قال لي مَعْمر: قال لي الثّوري: هل سمعتَ في الرجل يجمع لأهله قوت سنة أو بعض سنة؟(1/345)
قال معمر: فلم يَحْضرني، ثم ذكرت حديثاً حدَّثنَاه الزهري عن مالك بن أوس، عن عمر، «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخلَ بني النضير ويحبس لأهله قوتَ سنتهم».
هذا والأول حديث واحد وهو متفق عليه،
فإن قال قائل: كيف الجمع بينه وبين ما رويتم أنه كان لا يدخر شيئاً لغد؟
فالجواب: أنه كان يدَّخر ليعطي أهله نفقاتهم، ولا يدخر لنفسه.
البَابُ الخامِس
في ذكر نفقته صلى الله عليه وسلم
عن زيد بن سلام قال: حدثني عبد الله الهوزاني، يعني أبا عامر، قال: لقيت بلالاً مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت: يا بلال حدِّثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: ما كان له شيء إلا أنا الذي كنت أَلِي ذلك منه منذ بعثه الله عزّ وجلّ إلى يومي هذا.
فكان إذا أتاه الإنسان المسلم فرآه عارياً يأمرني فأسْتَقرض الشيء وأشتري البُرْدة فأكسوه وأطعمه.
حتى اعترضني رجل من المشركين قال: يا بلال، إن عندي سعة، فلا تَسْتقرض من أحد إلا منّي، ففعلتُ.
فلما كان ذات يوم توضأت ثم قمت أؤذن، فإذا المشرك في عصابة من التجار. فلما رآني قال: يا حبشي.
قلت: لبيك. فتجهّمني وقال قولاً غليظاً، وقال: أتدري كم بينك وبين الشهر؟
فقلت: قريب.
فقال: إنما بينك وبينه أربع ليال وآخذك بالذي لي عليك، فإني لم أعطك الذي أعطيتك مِنْ كرامتك ولا من كرامة صاحبك، ولكن أعطيتك لتكون لي عبداً فأردَّك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك.
فأخذ في نفسي ما يأخذ في أَنْفُس الناس، فأذّنت للصلاة حتى إذا صليت العتَمة رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي إن المشرك الذي ذكرتُ لك أني كنت أتدَيَّن منه قد قال كذا وكذا، وليس عندك ما يَقْضي عني ولا عندي، فهو فاضحي، فَأْذن لي أن آتي بعض الأحياء الذين أسلموا حتى يرزق الله رسولَه ما يقضي عني.(1/346)
فخرجت حتى أتيت منزلي فحملت سيفي ورمحي ونعلي عند رأسي، واستقبلت بوجهي الأفقَ، فكلما نمت انتبهت (فإذا رأيتُ عليَّ ليلاً نِمْتُ) حتى انشقَّ عمودُ الصبح الأول، فأردت أن أنطلق، فإذا إنسان يسعى يدعو: يا بلال أجِبْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
فانطلقت حتى أتيته فإذا أربع ركائب عليهن أحمالهن فقال لي: أبشر فقد جاءك الله بقضائك فحمدت الله تعالى.
فقال: ألم تمرَّ على الركائب المناخات الأربع؟
فقلت: بلى.
قال: فإن لك رقابهن وما عليهن. فإذا عليهن كسوة وطعام أهداهن عظيمُ فَدَك، فانهض فاقض دينك.
قال: ففعلت فحطَطْت بعضَ أحمالهن ثم عقلتهم ثم عمدت إلى تأذين صلاة الصبح، حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجت إلى البقيع فجعلت إصبعي في أذني فناديت: مَنْ يَطْلب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بدين فليحضر.
فما زلت أبيع وأقضي حتى لم يبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم دَيْن في الأرض، حتى فضل عندي أوقيتان أو أوقية ونصف.
ثم انطلقت إلى المسجد وقد ذهب عامَّة النهار. فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد وحده فسلّمت عليه، فقال لي: «مَا فَعَلَ مَا قِبَلَكَ؟»
قلت: قضى الله عز وجل كلَّ شيء كان على رسول الله فلم يَبْقَ شيء.
فقال: «فَضَلَ شَيءٌ؟» .
قلت: نعم ديناران.
قال: «انْظُرْ أنْ تُريْحَنِي مِنْهُمَا فَلَسْتُ بِدَاخِل عَلَى أَحَدٍ مِنْ أهْلِي حَتَّى تُرِيْحَنِي مِنْهُمَا» .
فلم يأتنا أحد، فبات في المسجد حتى أصبح، وظل في المسجد اليوم الثاني، حتى إذا كان آخر النهار جاء راكبان فانطلقت بهما فكسوتهما وأطعمتهما، حتى إذا صلى العتمة ناداني. فقال: «مَا فَعَلَ الذي قِبَلَكَ؟» .
قلت: قد أراحك الله منه. فكبَّر وحمد الله، شفقاً من أن يُدْركه الموتُ وعنده ذلك، ثم اتبعته حتى جاء أزواجَه فسلّم على امرأة امرأة حتى أتى مَبِيته.
فهذا الذي سألتني عنه.
البَابُ السّادس(1/347)
في صفة عيشه في الدنيا صلى الله عليه وسلم
عن أبي حازم قال: رأيت أبا هريرة يشير بإصبعه مراراً: والذي نفس أبي هريرة بيده، ما شَبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله ثلاثة أيام تِبَاعاً من خبز حنطة حتى فارق الدنيا.
عن سَمِاك ين حرب قال: سمعت النعمان بن بشير (يقول: سمعت عمر بن الخطاب) يخطب فذكَر عمر ما أصاب الناس من الدنيا فقال: لقد رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يلتوي ما يجد دِقْلاً يملأ به بطنه.
عن عروة عن عائشة أنها قالت: والذي بعث محمداً بالحق ما رأى منخلاً ولا أكل خبزاً منخولاً منذ بعثه الله إلى أن قُبض. قلت: كيف كنتم تصنعون بالشعير؟ قالت: كنا نقول أفّ.
عن جابر قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يحفرون الخندق ثلاثاً لم يذوقوا طعاماً، قالوا: يا رسول الله، إن ههنا كُدْيَة من الجبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رُشُّوها بِالمَاءِ» . فرشوها بالماء، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ المِعْول أو المسحاة ثم قال: «بِسْمِ الله» .
فضربها ثلاثاً فصارت كثيباً ينهال.
قال جابر: فحانت مني التفاتةٌ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شدَّ على بطنه حجراً.
أخرجاه.
عن عروة أنه سمع عائشة تقول: كان يمر بنا هلالٌ وهلال، ما يوقد في بيتٍ من بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار.
قال: قلت: يا خالة، فعلى أي شيء كنتم تعيشون؟
قالت: على الأسودين التمر والماء.
عن عائشة أنها قالت: يا بن أختي، والله إنْ كنا لننظر إلى الهلال بعد الهلال، ثلاثةَ أهِلّة ما يوقَد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار.
قلت: فما كان يُعيشكم في ذلك الزمان يا خالة؟
قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار نعم الجيرانُ، كانت لهم مَنائح فيمنحون لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها.(1/348)
عن نوفل بن إياس الهُذَلي قال: أتينا بيتَ عبد الرحمن بن عوف بصحفةٍ فيها خبز ولحم، فلما وضِعت بكا عبدُ الرحمن، قلت: ما يبكيك؟
قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع وأهلُ بيته من خبز الشعير، ولا أرى أنَّا أُخِّرنا لما هو خيرٌ لنا
عن هفّان بن كاهل قال: أخبرتني عائشة قالت: أُهديت لنا ذات ليلة يَدُ شاة من بيت أبي بكر، قالت: فوالله إني لأُمسكها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحزُّها، أو يمسكها عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحزُّها.
قلت: يا أم المؤمنين، على غير مصباح؟
قالت: لو كان عندنا مصباح لأكلناه إنْ كان لَيأتي على آل محمد الشهرُ ما يختبزون فيه خبزاً ولا يطبخون فيه بُرْمة.
عن أنس بن مالك قال: مشيتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهالةٍ سَنخة، ولقد سمعته يقول: «مَا أصْبَحَ ولاَ أمْسَى لآلِ مُحَمَّدٍ إلاَّ صَاعٌ» . وإنهن يومئذ تسعة أبيات.
عن أبي هريرة قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي جالساً، فقلت: ما أصابك يا رسول الله؟
قال: «الجُوعُ» .
فبكيتُ. قال: «لا تَبْك يَا أبَا هُرَيْرَةَ، فإنَّ شِدَّةَ الجُوعِ لا تُصِيْبُ الجَائِعَ، يَعْنِي فِي القِيَامَةِ إذا احْتَسَبَ في دَارِ الدُّنْيَا» .
عن أنس بن مالك قال: جاءت فاطمة بكسرة خبز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «مَا هذه الكِسْرَةُ يا فَاطِمَةَ»؟
قالت: قرصٌ خبزْتُه فلم تَطِبْ نفسي حتى آتيك بهذه الكسرة.
فقال: «أمَا إنَّه أوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أبِيْكِ مُنْذُ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ» .
عن ابن عباس قال: قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن درعه مرهونة عند رجل يهودي على ثلاثين صاعاً من شعير أخذها رزقاً لعياله.
عن عائشة قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند أبي شحمة اليهودي.(1/349)
عن أنس قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم خادمه إلى يهودي يبيع البُرَّ. فقال: قُل له يعطينا ثوبين حتى يجيئنا شيء فنقضيه.
فجعل يتشاغل عني ويبايع الناسَ، ثم التفتَ إليَّ فقال: والله ما لمحمد زَرْع ولا ضرع، فمن أين يَقْضيني؟
فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كَذَبَ عَدُوُّ الله، وَلَوْ أعْطَانِي لقَضَيْتُه وكُنْتُ خَيْراً له مِنْهُم».
ثم قال: «لأنْ يَلْبَسَ الرَّجُلُ ثَوْبَه مُعْلَماً، يَعنِي مَرْقُوعاً خَيْرٌ لَه مِنْ أَنْ يَأْكُلَ فِي أَمَانَتِه» .
أبواب تعبده صلى الله عليه وسلم
أولا: أبواب طهارته
الباب الأول
في ذكر ما كان يقول إذا دخل الكنيف صلى الله عليه وسلم
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الكنيف قال: «اللهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ والخَبَائِثِ» .
الباب الثاني
فيما كان يقول إذا خرج صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: «غُفْرَانَكَ» .
البابُ الثالث
في ابتلاع الأرض حدثه صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله إني أراك تدخل الخَلاء ثم يجيء الذي يدخل بعدك فلا يرى لِمَا يخرج منك أثَراً.
قال: «يَا عَائِشَةُ، أمَا عَلِمْتِ أنَّ اللَّهَ أَمَرَ الأَرْضَ أنْ تَبْتَلعَ مَا خَرَجَ مِن الأنْبِيَاءِ» .
عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الغائط دخلتُ على أثره فلا أرى شيئاً، فذكرت ذلك له فقال: «يَا عَائِشَةُ، أمَا عَلِمْتِ أنَّ أجْسَادَنَا نَبَتَتْ عَلَى أرْوَاحِ أهْلِ الجَنَّةِ فَمَا خَرَجَ مِنَّا مِنْ شَيءٍ إلا ابْتَلَعَتْهُ الأَرْضُ» .
عن ابن عباس قال: لم يُحْدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع قط إلا ابتلعته الأرض.
البابُ الرابع
في ذكر وضوئه وغسله صلى الله عليه وسلم(1/350)
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثلاثاً بإناء يكون رطلين، ويغتسل بالصاع».
عن جابر بن عبد الله قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمُدّ».
الباب الخامس
في أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة
عن عمرو بن عامر قال سمعتُ (أنساً) يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة قال: فأنتم كيف كنتم تصنعون؟
قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نُحُدث.
انفرد بإخراجه البخاري.
البابُ السّادس
في جمعه صلى الله عليه وسلم الصلوات بوضوء واحد
عن سليمان بن بُرَيْدة، عن أبيه، قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خُفّيه وصلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: يا رسول الله إنك فعلتَ شيئاً لم تكن تفعله».
قال: «عَمْداً فَعَلْتُه يَا عُمَرَ» .
انفرد بإخراجه مسلم.
البابُ السّابع
في مسحه على خفيه صلى الله عليه وسلم
عن المغيرة بن شعبة قال: «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سَفَره، فقضى حاجته وتوضأ وضوءه للصلاة ومسح على خفيه ثم صلى».
أخرجاه.
الباب الثامن
في ذكر سواكه صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ بِالسِّوَاكِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَوْ خَشِيْتُ أن سَيَنْزِلَ عَلَيَّ فِيه قُرآنٌ» .
عن حذيفة قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يَشُوصُ فاه بالسواك».
الباب التاسع
في صفة غسله صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: حدَّثتنا ميمونة قالت: صبَبْت لرسول الله صلى الله عليه وسلم غُسْلاً فأفرغ بيمينه على يساره فغَسَلهما، ثم غسل فرجه، ثم مال بيده للأرض فمسحها بالتراب، ثم غسلها، ثم مضمض واستنشق، ثم غسل وجهه، ثم أفاض على رأسه، ثم تنحى فغسل قدميه.
أبواب صلاته صلى الله عليه وسلم
الباب الأوّل
في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم(1/351)
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته: «بِسُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعالَى جَدُّكَ، ولاَ اله غَيْرُكَ» .
عن عطاء: أنه كان جالساً في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو حُمَيد السَّاعدي:
أنا أحْفَظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيتُه إذا كَبَّر جعل يديه حذاء مِنْكبيه، وإذا ركع أمكنَ يديه من ركبتيه ثم صهر ظَهره، فإذا رفع رأسه استوى حتى يَعود كلُّ فقار مكانه، فإذا سجد وضع يديه غيرَ مُفْترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القِبْلَةَ، وإذا جلس في الركعتين على رجله اليسرى ونَصَب اليمنى وقعد على مقعدته.
أخرجاه.
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجز الصلاة ويُكْملها».
عن سالم عن أبيه قال: «رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعدما يرفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بين السجدتين».
أخرجاه.
عن عبد الله بن القاسم قال: جلسنا إلى عبد الرحمن بن أبزى فقال: ألا أريكم صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: فقلنا بلى.
فكَّبر ثم قرأ ثم ركع، فوضع يديه على ركبتيه حتى أخذ كل عظم مأخذه، ثم رفع حتى أخذ كل عظم مأخذه، ثم سجد حتى أخذ كل عظم مأخذه، ثم رفع. فصنع في الركعة الثانية كما صنع في الركعة الأولى.
ثم قال: هكذا صلاةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الباب الثاني
في مقدار ما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم في الصلوات المفروضات
عن أبي برزة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يقرأ في صلاة الغداة من الستين إلى المائة».(1/352)
عن أبي سعيد الخدري قال: كنا نَحْزر قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، فحزَرْنا قيامَه في الركعتين الأوليين من الظهر قَدْر قراءة ثلاثين آية، وحزرنا قيامه في الركعتين الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه من الأخريين من الظهر، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك.
عن ابن عباس أن أم الفضل سمعته يقرأ: {س77ش1وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً }
(المرسلات: 1)
.
فقالت «يا بني، لقد ذكَّرتني هذه السورة، إنها لآخر ما سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب».
عن البراء قال: «صلَّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فقرأ بالتين والزيتون».
الباب الثالث
فيما كان يقوله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الصلاة
عن وَرَّاد كاتب المغيرة قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: اكتُبْ إليّ بما سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدعاني المغيرة وكتب إليه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة قال: «لاَ اله إلاّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَه، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيْرٌ، اللهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ ولاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ ولاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدُّ مِنْكَ الجَدُّ» .
أخرجاه.
عن ثَوْبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان) إذا أراد أن ينصرف من صلاته استغفر ثلاث مرات ثم قال: «اللهُمَّ أنْتَ السَّلاَمُ ومِنْكَ السَلاَمُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الجَلاَلِ والإِكْرَامِ» .
الباب الرابع
في تنقله صلى الله عليه وسلم بالنهار
عن عائشة قالت: «لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تَعَاهداً منه على ركعتي الفجر».
أخرجاه.(1/353)
عن أبي أمامة الباهليّ قال: قال أبو أيوب الأنصاري: نزل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً، فرأيته إذا زالت الشمس فلو كان في يده عملُ الدنيا فَضّه، وإن كان نائماً فكأنما يوقَظ له، فيغتسل أو يتوضأ ثم يركع أربع ركعات يتمهن ويُحْسِنهن ويتمكن فيهن.
فسألته عن ذلك فقال: «إنَّ أبْوَابَ السَّمَاءِ وأبْوَابَ الجِنَانِ تُفْتَحُ في تِلْكَ السَّاعةِ، فَلاَ تُرْتَجُ أبْوَابُ السَّماءِ وأبْوَابُ الجِنَانِ حَتَّى تُصَلَّى هذه الصَّلاَةُ، فأرْجُو أنْ يَصْعَد منِّي إلَى رَبِّي فِي تِلْكَ السَّاَعَةِ خَيْرٌ» .
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَدَع أربعاً قبل الظهر وركعتين قبل الفجر على كل حال».
انفرد بإخراجه البخاري.
عن عبد الله بن شقيق قال: سألتُ عائشةَ عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من التطوع، فقالت: «كان يصلي قبل الظهر أربعاً في بيتي، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالمسجد المغرب، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، وكان يصلي بهم العشاء، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين».
انفرد بإخراجه مسلم.
الباب الخامس
فيما كان يقرأ صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر يوم الجمعة
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: «كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة: {س32ش1/ش2ال?ـم? * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }
(السجدة: 1 ــــ 2)
و {س76ش1هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }
(الإنسان: 1)
».
أخرجاه.
الباب السّادس
في ملازمته صلى الله عليه وسلم المسجد بعد الصلاة
عن جابر بن عبد الله قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى الغداة جلس في مُصَلاّه حتى تطلع الشمس».
انفرد بإخراجه مسلم.
البابُ السابع
في صلاته صلى الله عليه وسلم الضحى(1/354)
عن أبي ليلى قال: ما أخبرني أحدٌ أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أمِّ هانىء، فإنها حدَّثت: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات، ما رأيته قط صلّى صلاةً أخفَّ منها، غير أنه كان يتم الركوع والسجود.
أخرجاه.
عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله».
انفرد بإخراجه مسلم.
عن أنس بن مالك قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت رجل من أصحابه ركعتين، فقيل لأنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى؟
قال: ما رأيته صلاّها إلا يومئذ.
عن أبي سعيد قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول لا يدَعها، ويَدَعها حتى نقول: لا يصلِّيها».
البَابُ الثامن
في ذكر صلاته بالليل صلى الله عليه وسلم
عن مسروق قال: سألتُ عائشةَ أيُّ العمل كان أحبُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: الدائمُ.
قلت: متى كان يقوم؟
قالت: «كان يقوم إذا سَمع الصارخَ».
قال لنا ابن ناصر: الصارخُ: الديك. وأولُ ما يصيح: نصفُ الليل.
عن حُذَيفة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يَشُوص فاه بالسِّواك».
أخرجاه.
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلِّي، افتتح صلاته بركعتين خفيفتين».
انفرد بإخراجه مسلم.
عن خالد بن مَعْدَان قال: حدثني ربيعة الجُرَشي قال: سألتُ عائشةَ فقلت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم إذا قام من الليل؟ وبمَ كان يستفتح؟
قالت: «كان يكبِّر عشْراً ويحمد عشراً، ويسبح عشراً، ويهلِّل عشراً، ويستغفر عشراً ويقول: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي واهْدِنِي وارْزُقْنِي» عشراً. ويقول: «اللهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الضِّيْقِ يَوْمَ الحِسَابِ» عشراً».
عن علقمة قال: سألتُ عائشةَ: أكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخصُّ شيئاً من الأيام؟(1/355)
قالت: «لا، كان عمله دِيمَةً، وأيُّكم يُطيق ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطيق».
عن أبي سلمةَ قال: سألتُ عائشةَ عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان.
فقالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً، فلا تسَلْ عن حُسنهن وطُولهنّ، ثم يصلي أربعاً فلا تسَلْ عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً».
فقلت: يا رسول الله تنام قبل توتر؟
قال: «يَا عَائِشَةُ، إنَّه أرَانِي تَنَامُ عَيْنَايَ وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي» .
عن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: «كان يصلي من الليل تسْعَ ركعات فيهن الوتر، وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماً وليلاً طويلاً جالساً، فإذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد».
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا بَدِنَ وثَقُل يقرأ ما شاء الله وهو جالس، فإذا غبر من السورة ثلاثون آية أو أربعون آية قام فقرأها ثم سجد».
أخرجاه.
عن ابن عباس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذ قام من الليل يتهجّد قال: «اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أنْتَ نُوْرُ السَّماواتِ والأَرْضِ ومَنْ فِيهنَّ، ولَكَ الحَمْدُ أنْتَ قَيِّمُ السَّماواتِ والأرْضِ ومَنْ فِيهنَّ، ولَكَ الحَمْدُ أنْتَ الحَقُّ، ووَعْدُك حَقٌّ، ولِقَاؤكَ حَقٌّ، والجَنَّةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ، والسَّاعةُ حَقٌّ، والنَّبِيُوّنَ حَقٌّ، ومُحَمَّدُ حَقٌّ، اللهُمَّ لَكَ أسْلَمْتُ، وعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وبِكَ آمَنْتُ، وإليْكَ أنَبْتُ، وبِكَ خَاصَمْتُ، وإليْكَ حَاكَمْتُ، فاغْفِرْ لِي ما قدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، ومَا أسْرَرْتُ ومَا أعْلَنْتُ، أنْتَ المقَدِّمُ وأنْتَ المُؤَخِّرُ لاَ اله إلاَّ أنْتَ، ولا اله غَيْرُكَ» .
عن كُرَيب: أن ابن عباس أخبره: أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته.(1/356)
قال: فاضطجعت في عرض الوسادة، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طولها، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتصف الليل، أو قَبْله بقليل أو بعده بقليل، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم، فجعل يمسح النومَ عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم قام إلى شَنَ معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه، ثم قام يصلي.
قال ابن عباس: فقمت فصنعتُ مثلَ الذي صنع، ثم ذهبتُ فقمت إلى جنبه، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي وأخذ بأذني اليمنى يَفْتِلها، ثم صلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أَوْتَر، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم خرج فصلى الصبحَ.
وفي رواية أخرى: أنه قال: «اللهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُوْرًا، وفي سَمْعِي نُوْرًا، وفي بَصَرِي نُوْرًا، وعَنْ يَمِيْنِي نُوْرًا، وعَنْ شِمَالِي نُوْرًا، وأَمَامِي نُوْرًا، وخَلْفِي نُوْرًا، واجْعَلْ لِي نُوْرًا» .
عن صفوان بن المعطِّل قال: «كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرَمَقْتُ صلاته ليلاً، فصلى العشاءَ الآخرة ثم نام، فلما كان نصفُ الليل استيقظ فتلا الآيات العَشْر من آخر سورة آل عمران، ثم تسوَّك ثم توضأ وصلى ركعتين، فلا أدري أقيامُه أم ركوعه أو سجوده أطْوَلُ، ثم انصرف فنام، ثم استيقظ فتلا الآيات ثم تسوَّك، ثم توضأ يعني، ثم صلّى ثم نام، ثم استيقظ ففعل ذلك، ثم لم يفعل كما فعل أول مرة حتى صلّى إحدى عشرة ركعة».(1/357)
عن زيد بن خالد الجُهَني أنه قال: «لأَرْمُقَنَّ صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوسِّدتُ عتبته أو فُسْطَاطه، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أَوْتَرَ. فذلك ثلاث عشرة ركعة».
قال المصنف: اختلفت الروايات في عدد الركعات اللواتي كن يصلِّي بالليل، فروى سَبْع، وتِسْع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة. فالظاهر أنه قد كان يَنْقص ويزيد.
البَابُ التّاسع
في طول قيامه بالليل صلى الله عليه وسلم
عن حذيفة قال: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً، فافتتح البقرة فقلت، يركع عند المائة، فمضى فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسِّلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سَبَّح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوذ تعوَّذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم. وكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى، وكان سجوده قريباً من قيامه».
عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فلم يزَلْ قائماً حتى هَمْمتُ بأمرِ سوء.
قال: ما هَمَمْتَ؟
قال: هممتُ أن أجلس وأدَعه.
عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تنفطر رجلاه.
قالت عائشة: يا رسول الله، أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟
قال: «يَا عَائِشَةُ، أفَلاَ أكُوْنُ عَبْدًا شَكُورًا» .
عن المغيرة بن شعبة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حتى تَرِمَ قدماه. فقيل له: أليس قد غَفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟
قال: «أفَلاَ أكُوْنُ عَبْدًا شَكُورًا» .(1/358)
عن ابن عباس: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيَ شَهْوَةٌ، وإنَّ شَهْوَتِي قِيَامُ هَذا اللَّيْلِ» .
عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد شيئاً من وجع، فقيل: يا رسول الله، إنا نرى أثراً لوجعٍ عليك.
قال: «أمَّا مَعْ مَا تَرَوْنَ قَدْ قَرَأْتُ البَارِحَةَ السَّبْعَ الطِّوَالَ» .
عن أنس قال: «تعبَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار كالشَّن البالي».
الباب العاشر
في قيامه طول الليل بآية صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلةً».
عن أبي ذر قال: «صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً فقرأ بآية حتى أصبح، يركع بها ويسجد بها: {س5ش118إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (المائدة: 118)
.
فلمِّا أصْبَح قلت: يا رسول الله، ما زلتَ تقرأ هذه الآية حتى أصبحتَ تركع بها وتسجد بها.
قال: «إنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ الشَّفَاعَةَ لأُمَّتِي، فأَعْطَانِيْهَا، وهيَ نَائِلَةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ لا يُشْرِكَ بِالله شَيْئاً» .
الباب الحادي عشر
في صفة قراءته صلى الله عليه وسلم
عن أم هانىء قالت: «كنت أسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل وأنا على عَرِيشي».
عن ابن أبي مُلَكية، عن أم سلمة، قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته: الحمد لله رب العالمين». ثم يقف ثم يقول: «الرحمن الرحيم». ثم يقف».
عن حفصة قالت: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصلي في سُبْحته قاعداً، ويقرأ بالسورة ويرتلها حتى تكون أطولَ مِنْ أطول منها».
عن يَعْلى بن مَمْلَك: أنه سأل أم سلمة عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته، فقالت: «وما لكم وصلاته كان يصلي ثم ينام قَدْر ما صلّى، ثم يصلي قَدْرَ ما ينام، ثم ينام قدر ما صلى، ثم يُصْبح».(1/359)
ثم نعتت قراءته، فإذا هي نعتَتْ قراءةً مفسَّرةً حرفاً حرفاً.
عن ابن عباس قال: «كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدْرَ ما يَسْمعه مَنْ في الحجرة ومن في البيت».
عن أبي هريرة قال: «كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل يَرْفع طَوْراً ويَخْفض طوراً».
البابُ الثاني عشر
في حسن صوته صلى الله عليه وسلم
عن قَتَادة قال: «ما بعث الله نبيًّا إلا حَسَنَ الصَّوت، وكان نبيُّكم حَسَن الوجه حسن الصوت».
البابُ الثالِث عشر
في ذكر الزمان الذي كان يختم فيه صلى الله عليه وسلم
عن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقرأ القرآن في أقلِّ من ثلاث».
البَابُ الرّابع عشر
في دعائه قائماً إذا ختم صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ختم القرآن دعا قائماً».
الباب الخامس عشر
في ذكر وتره صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: «مِنْ كلِّ الليل قد أَوْتَر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى وتره إلى السَّحَر».
أخرجاه.
عن سعيد بن عبد الرحمن بن أَبْزَى، عن أبيه، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ {سَبِّح اسمَ ربِّك الأعلى} و {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} وإذا أراد أن ينصرف من الوتر قال: سبحان الملك القدوس. ثلاث مرات، ثم يرفع صوته في الثالثة».
عن أبي عبد الرحمن بن أبزى قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ {سبح اسم ربِّك الأعلى} و { قل يا أيها الكافرون} و { قل هو الله أحد} وكان إذا سلّم قال: سبحان الملِك القدوس سبحان الملك القُدُّوس. يطوِّل الثالثة».
عن أبي عبد الرحمن بن أبزى قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ {سبح اسمَ ربِّك الأعلى} و {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} والمعوّذتين».(1/360)
عن عِمْران بن حُصَين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث، يقرأ في الأولى. { سبح اسمَ ربِّك الأعلى} وفي الثانية بـ {قل يا أيها الكافرون} وفي الثالثة بـ {قل هو الله أحد} .
عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل مَثْنَى مثنى، ويوتر بركعة».
أخرجاه.
الباب السادس عشر
فيما كان يصنع إذا فاته ورده من الليل صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: «كان إذا شُغل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيام الليل بنوم أو وجع أو مرض صلّى من النهار ثنتي عشرة ركعة».
الباب السابع عشر
في صلاته التراويح صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في شهر رمضان عشرين ركعة سوى الوتر».
الباب الثامن عشر
في قطعه إياها خوف أن تفترض صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في رمضان، فجئت فقمت خَلْفه، وجاء رجل فقام إلى جنبي، ثم جاء آخر، حتى كنا رَهْطاً، فلما أحسَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّا خَلْفَه تجوَّز في صلاته، ثم قام فدخل منزله فصلى صلاةً لم يصلِّها عندنا».
فلما أصبحنا قلنا: يا رسول الله، أفَطَنْتَ بنا الليلةَ؟
قال: «نَعَمْ، فَذَاكَ الذي حَمَلَنِي عَلَى الذي صَنَعْتُ» .
عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة في جوف الليل فصلّى في المسجد، فصلى رجالٌ بصلاته، فأصبح الناسُ يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم.
فخرج في الليلة الثانية فصلى فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، وكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلّى، فصلّوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجزَ المسجدُ عن أهله، فلم يخرج إليهم، فطفق رجال يقولون: الصلاة. فلم يخرج إليهم، حتى خرج لصلاة الصبح.(1/361)
فلما قضى الصلاة أقبل على الناس فشهَّد ثم قال: «أمَّا بَعْدُ، فَإنَّه لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ شَأْنُكُم اللَّيْلَةَ، ولكنِّي خَشِيْتُ أن تُفْرَضَ عَلَيْكُم فَتَعْجَزُوا عَنْهَا» .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغِّبهم في قيام رمضان من غير أن يأمرهم يعزيمةِ أمرٍ فيه، ويقول: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيْمَاناً واحْتِسَاباً غُفِرَ لَه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه» .
الباب التاسع عشر
في سجوده للشكر صلى الله عليه وسلم
عن أبي بَكْرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه الشيء مما يَسُرُّ خَرَّ ساجداً، شكراً لله تعالى».
أبواب صومه صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في ذكر صومه من الشهر وفطره صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم إذا صام حتى يقول القائلُ لا يُفْطر، ويفطر إذا فطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم».
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول: ما يريد أن يصوم، وما صام شهراً متتابعاً غير رمضان منذ قدم المدينةَ».
أخرجاهما.
عن أنس: أنه سُئل عن صوم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كان يصوم من الشهر حتى نرى أنه لا يريد أن يفطر منه، ويفطر حتى نرى أنه لا يريد أن يصوم منه شيئاً، وكنتَ لا تشاء أن تراه من الليل مصلِّياً إلا رأيتَه مصلياً، ولا نائماً إلا رأيته نائماً».
الباب الثاني
في صومه ثلاثة أيام من كل شهر صلى الله عليه وسلم
عن عبد الله أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من غُرة كل شهر ثلاثة أيام».
عن معاذة قالت: قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟
قالت: نعم.
قلت: من أيِّه كان يصوم؟
قالت: «كان لا يُبالي من أيِّه صام».(1/362)
عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام: الاثنين من أول الشهر، ثم الخميس الذي يَلِيه، ثم الخميس الذي يَليه».
الباب الثالث
في صومه الاثنين والخميس صلى الله عليه وسلم
عن عائشة: أنها سُئلت عن صوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: «يتحرَّى الاثنين والخميس».
عن أسامة بن زيد قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم الأيامَ يَسْرُد حتى يقال: لا يفطر، ويفطر الأيام حتى لا يكاد يصوم، إلا يومين من الجمعة إن كانا في صيامه (و) إلا صامهما. فقلت يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر، وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين. إن دخلا في صيامك وإلا صُمْتهما».
قال: أيُّ يَوْمَيْنِ ؟.
قلت: «الاثنين والخميس».
قال: «ذَلكَ يَوْمَانِ تُعْرَضُ فِيهِمَا الأعْمَالُ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ، فأحِبُّ أنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وأنا صَائِمٌ» .
عن أبي هريرة قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تُعْرَضُ الأعْمَالُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ والخَمِيْسِ، وأحِبُّ أن يُعْرَضَ عَمَلِي وأنا صَائِمٌ» .
عن حفصة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم الاثنين والخميس».
الباب الرابع
في صومه شعبان صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: «ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم من شهرٍ من السَّنة أكثر من صيامه من شعبان، كان يصومه كله».
أخرجاه.
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان».
عن أسامة بن زيد قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من شهر ما يصومه من شعبان، فقلت: يا رسول الله، لَمْ أرك تصوم من شهر ما تصوم من شعبان؟
قال: «ذَاكَ شَهْرٌ تَغْفَلُ النَّاسُ عَنْه بَينَ رَجَبَ ورَمَضَانَ، وهو شَهْرٌ تُرْفَعُ فيه الأعْمَالُ إلَى رَبِّ العَالَمِينَ، فأُحِبُّ أن يُرْفَعَ عَمَلِي وأنا صَائِمٌ» .(1/363)
عن أم سَلَمة قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام شهرين متتابعين، إلا أنه كان يَصِل شعبان برمضان».
قال الترمذي: هذا إسناد صحيح.
الباب الخامس
في مواصلته للصيام صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل، وذلك في آخر الشهر، فأخذ رجالٌ من أصحابه يواصلون، فقال: «ما بَالُ رِجَالِ يُواصِلُونَ؟ إنَّكُم لَسْتُم مِثْلِي، أمَا وَالله لو مُدَّ ليْ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالاً يَدَعُ المُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُم» .
عن أنس قال: واصَل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فواصل أناسٌ، فقال: «إنِّي لَسْتُ مِثلُكُم، إني أظَلُّ يُطْعِمُنِي ربِّي وَيَسْقِينِي» .
الباب السادس
في ذكر ما كان يفطر عليه صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رُطَبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن رطبات فتمرات، فإن لم يكن تمرات حَسَا حَسَوَاتٍ من ماء».
الباب السابع
فيما كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر عند قوم
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر عند أهل بيتٍ قال لهم: «أفطَرَ عِنْدَكُم الصَّائِمُونَ، وأكَلَ طَعَامَكُم الأبْرَارُ، وصَلَّتْ عَلَيْكُم المَلاَئِكَةُ» .
الباب الثامن
في جدِّه واجتهاده صلى الله عليه وسلم في العَشْرِ الأخير من رمضان
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله يُحْيي الليلَ، ويوقظ أهلَه ويشُدَّ المِئْزر».
أخرجاه.
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي عشرٌ من رمضان شدَّ مِئْزره واعتزل أهله».
الباب التاسع
في ذكر اعتكافه صلى الله عليه وسلم في العَشر الأواخر من رمضان
عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى».
الباب العاشر
في أكله صلى الله عليه وسلم يوم عيد الفطر قبل الخروج(1/364)
عن عبد الله بن زيد، عن أبيه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر يومَ الفطر لم يخرج حتى يأكل، فإذا كان يومُ النحر لم يأكل حتى يذبح».
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الفطر لم يخرج حتى يأكل تمرات يأكلهن أفراداً».
الباب الحادي عشر
في حمل الحربة بين يديه صلى الله عليه وسلم يوم العيد
كان النجاشي قد وهب للزُّبير بن العوام حَرْبَةً، فكانت تلك الحربة تُحْمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأعياد.
الباب الثاني عشر
في عدد تكبيراته صلى الله عليه وسلم في صلاة العيد
عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَبَّر في عيدٍ ثنتي عشرة تكبيرة، سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية، ولم يصلِّ قبلها ولا بعدها».
الباب الثالث عشر
في مخالفته صلى الله عليه وسلم الطريق يوم العيد
عن أبي هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى العيد خرج في غير الطريق الذي خرج منه».
انفرد بإخراجه البخاري.
عن ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في العيد من طريق ورجع في أخرى».
أبواب حجِّه وعُمرته صلى الله عليه وسلم
قد حج النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة حجات، وما حجَّ بعد الهجرة إلا مرةً، وهي التي تسمَّى حجة الوداع.
الباب الأول
في ذكر إحرامه صلى الله عليه وسلم
عن ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَّ مِنْ قِبَل مسجد ذي الحُلَيْفة حين استوَتْ به راحلتُه».
الباب الثاني
في ذكر تلبيته صلى الله عليه وسلم
عن ابن عمر: أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيْكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكُ، لاَ شَرِيْكَ لَكَ» .
الباب الثالث
في دعائه يوم عرفة صلى الله عليه وسلم(1/365)
عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خَيْرُ الدُّعَاءِ يَوْمُ عَرَفَةَ، وخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنا والنَّبِيُّونَ مِن قَبْلِي: لاَ اله إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَه، لَه المُلْكُ ولَه الحَمْدُ وهو عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيْرٌ» .
عن ابن عباس بن مِرْداس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة فأجيب: «إني قد غفرتُ لكم ما خلا الظالم فإني آخذ للمظلوم منه» .
قال: «أيْ رَبِّ، إنْ شِئْتَ أعْطَيْتَ المَظْلُومَ منَ الخَيْرِ وغَفَرْتَ للظَّالِمِ» . فلم يجِبْه عشيته، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأَل. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال تبسَّم.
فقال أبو بكر أو عمر: إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذي أضحكك، أضحكَ الله سنَّك؟
قال: «إنَّ عدُوَّ الله إبْلِيسَ لمَّا عَلِمَ أنَّ اللَّهَ قَد اسْتَجَابَ دُعَائِي وغَفَرَ لأُمَّتِي أخَذَ التُّرَابَ فَجَعَلَ يَحْثُو عَلَى رَأْسِه ويَدْعُو بالوَيْلِ والثُّبوُرِ فَضَحِكْتُ مِمَّا رَأَيْتُ مِنْ فِعْلِه» .
الباب الرابع
في ذبح أضحيته بيده صلى الله عليه وسلم
عن أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح أضحيته بيده وكبَّر عليها».
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحِّي بكبشين أقْرنين أَمْلحين، وكان يسمِّي ويكبِّر، ولقد رأيته يذبحهما بيده واضعاً على صِفَاحهما قدمَه».
أخرجاه.
عن جابر قال: ضحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أمْلَحين أقْرَنين مِوْجُوءيْن، فقدَّم أحدهما فقال: «بِسْمِ الله واللَّهُ أَكْبَرُ، اللهُمَّ مِنْكَ وإليْكَ، عَنْ أُمَّتِي وعَنْ مَنْ شَهِدَ لَكَ بالتَّوحِيْدِ وشَهِدَ لي بالبَلاَغِ» . ثم قدَّم الآخرَ وقال: «بِسْمِ الله واللَّهُ أكْبَرُ، اللهُمَّ مِنْكَ وإِليْكَ عَنْ مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ» .
قال: المَوْجوء: الذي قد خُصِي.(1/366)
الباب الخامس
في طوافه واستلامه الحجر صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس أنه قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وجعل يستلم الحجر بمحْجنه، ثم أتى السقايةَ وبنو عمه ينزعون منها، فقال: «نَاوِلُونِي». فدُفع إليه الدلو فشرب. ثم قال: «لوْلاَ أنَّ النَّاسَ سَيَتَّخِذُونَه نُسُكاً ويَغْلِبُونَكُم عَلَيه لَنَزَعْتُ مَعَكُم» . ثم خرج فطاف بين الصفا والمروة.
الباب السادس
في استلامه الركن اليماني صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل الركن اليماني ويضع خدَّه عليه».
الباب السابع
في سعيه بين الصفا والمروة صلى الله عليه وسلم
عن حبيبة بنت أبي تَجْراة، قالت: أشرَفْتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى، فإذا هو يقول لأصحابه: «اسْعَوْا فإنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُم السَّعْيَ» . ولقد رأيته من شدة السعي يدور الإزارُ حول بطنه حتى رأيت بياضَ إبطه وفخذه.
الباب الثامن
في رميه الجمرة صلى الله عليه وسلم
عن الفضل بن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبَّى حين تُرْمى جمرة العقبة».
قال: «ورمى بسبع حصيات وكبَّرَ مع كل حصاة».
الباب التاسع
في دخوله الكعبة صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: لمَّا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصلِّ حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قِبَل الكعبة وقال: «هذه القِبْلَةِ» .
أخرجاه.
عن ابن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت ومعه أسامة، وبلال، وعثمان بن أبي طلحة، فأجافوا عليهم الباب طويلاً، ثم فتح، وكنت أول من دخل، فلقيت بلالاً فقلت: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: بين العمودَيْن المقدمين: فنسيت أن أسأله كم صلى؟.
الباب العاشر
في خطبته في حجة الوداع صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«يَا أيُّها النَّاسُ، أيُّ يَوْمٍ هَذا؟»(1/367)
قالوا: يوم حرام.
قال: «أيُّ بَلَدٍ هَذا؟» .
قالوا: بلد حرام.
قال: «فَأيُّ شَهْرٍ هَذا؟»
قالوا: شهر حرام.
قال: «فإنَّ أمْوَالُكُم ودِمَاءُكُم وأعْرَاضُكُم عَلَيْكُم حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُم هَذا فِي بَلَدِكُمْ هَذا فِي شَهْرِكُم هَذا» .
ثم أعادها مراراً، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: «اللهُمَّ هَلْ بلَّغْتُ؟» ثلاث مرات، وقال: «لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُم رِقَابَ بَعْضٍ» .
عن أبي شُريح العدَوي قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم الغدَ من يوم الفتح، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ ولَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ فَلاَ يَحِلُّ لامْرِىءٍ يُؤمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِرِ أنْ يُسْفَكَ بِهَا دَماً ولا يُعْضَدُ بِهَا شَجَرةً فإنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فيهَا فَقُولوا: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أَذِنَ لِرَسُولِه وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُم، وإنَّما أَذِنَ لِي فِيْهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرْمَتِهَا أمْسِ. فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الغَائِبَ» .
أخرجاه. وانفرد البخاري بالذي قبله.
عن أبي نضرة قال: حدَّثني من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمنًى في وسط أيام التشريق، وهو على بعير فقال:
«يَا أيُّها النَّاسُ، ألاَ إنَّ رَبَّكُم وَاحِدٌ، ألاَ وإنَّ أبَاكُمْ وَاحِدٌ، ألاَ لاَ فَضْلَ لَعَرَبِيَ عَلَى عَجَمِيَ، ألاَ لاَ فَضْلَ لأسْوَدَ عَلَى أحْمَرَ إلاَّ بالتَّقْوَى، ألاَ قَدْ بَلَّغْتُ؟» قالوا: نعم.
قال: «ليُبَلِّغ الشَّاهِدُ الغَائِبَ» .(1/368)
عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع، فقال: «اتَّقُوا اللَّهَ وصَلُّوا خَمْسَكُم، وصُومُوا شَهْرَكُم، وأدُّوا زَكَاةَ أمْوَالِكُم وأطيْعُوا أولِي أمْرِكُم، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُم» .
الباب الحادي عشر
في سياقة حجته جملة صلى الله عليه وسلم
عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: قلت لجابر بن عبد الله أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع سنين لم يحج، ثم أُذِّن في السنة العاشرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجٌّ. فقدم المدينة بَشَرٌ كثير وكلٌّ يريد أن يأتمَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله.
فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحُلَيفة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القَصْواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرتُ إلى مَدِّ بصري بين يديه، بين راكبٍ وماشٍ، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك.
فأهلَّ بالتوحيد: «لبَّيْكَ اللهُمَّ لبَّيْكَ لاَ شَرِيْكَ لَكَ لبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْكَ، لاَ شَرِيْكَ لَكَ» .
ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمَل ثلاثاً ومشى أربعاً، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {س2ش125وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ }
(البقرة: 125)
، فصل ركعتين، ثم رجع إلى الركن فاستلمه.(1/369)
ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ:{س2ش158إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }
(البقرة: 158)
ابدؤوا بما بدأ الله به. فبدأ بالصفا فرقى عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحَّدَ الله وكبره، وقال: «لاَ اله إلاَّ اللَّهُ وحْدَه لاَ شَرِيْكَ لَه، أنْجَزَ وعْدَه ونَصَرَ عَبْدَه، وهَزَمَ الأحْزَابَ وَحْدَه» .
ثم نزل إلى المروة حتى انصبَّت قدماه في بطن الوادي، حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسُقْ الهديَ ولجعلتها عمرة.
فقام سراقة بن مالك بن جُعْشم فقال: يا رسول الله، ألِعامنا هذا أم للأبد.
قال: فشبَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى ثم قال: «دَخَلَتْ العُمْرَةُ في الحَجِّ، مَرَّتَيْنِ، لاَ بَلْ لأَبَدِ الأَبَد» .
وقدم عليٌّ من اليمن ببُدْن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة ممن حَلَّ ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر عليها ذلك، فقالت: أبي أمرني بهذا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ: «ماذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الحَجَّ؟»
قال: قلت اللهم إني أُهِلُّ بما أهل به رسولك.
قال: «فإنَّ مَعِيَ الهَدْيَ فَلاَ تَحِلَّ» .
وكان الذي قدم به عليٌّ من اليمن والذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة.
فحلَّ الناسُ كلهم وقَصَّرُوا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هَدْي.
فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلُّوا بالحج، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر.(1/370)
ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس وأمر بقُبَةٍ من شَعر فضربت له بنَمِرَةَ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشكُّ قريشٌ إلا به واقفٌ عند المَشْعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهليَّة، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفةَ، فوجد القُبة قد ضُربت له بنَمرة فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمسُ أمر بالقَصْواء فرحِّلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس فقال:
«إنَّ دِمَاءَكُم وأمْوَالُكُم عَلَيْكُم حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُم هَذا فِي شَهْرِكُم هَذا فِي بَلَدِكُم هَذا.
ألاَ كُلُّ شَيءٍ منْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمي، ودِمَاءُ الجَاهِلِيَّة مَوْضُوعَةٌ، وإنّ أَوَّلَ دَمٍ أضَعُه مِن دِمَائِنَا دَمُ ربِيْعَةَ بْنَ الحَارِثِ، كانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْه، ورِبَا الجَاهِلِيَّةِ موْضُوعٌ، أوَّلُ رِباً أضَعُه رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَإنَّه مَوْضُوعٌ كُلَّه.
واتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فإنَّكُم أخَذْتُموهُنَّ بأَمَانَةِ الله واسْتَحْلَلتُم فُروجَهُنَّ بكَلِمَةِ الله، ولكُم عَلَيْهِنَّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُم أحَداً تَكْرَهونَه، فإنْ فَعَلْنَ ذَلكَ فاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبرِّحٍ، ولَهُنَّ علَيْكُم رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمَعْرُوفِ.
وقَدْ تَرَكْتُ فِيْكُم مَا إنْ تَضِلُّوا بَعْدَه إنْ اعْتَصَمْتُم به: كِتَابَ الله، وأنْتُم تُسْألونَ عَنِّي فَمَا أنْتُم قَائِلوُنَ؟»
قالوا: نشهد أنك قد بَلّغْت الرسالة وأديت ونصحت.
فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكيها إلى الناس: «اللهُمَّ اشْهَدْ» ثلاث مرات.
ثم أذَّن ثم أقام، فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً.(1/371)
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المَوْقف، فجَعل بطنَ ناقته القصواء إلى الصَّخْرات، وجعل حبلَ الشاة بين يديه، واستقبل القبلةَ، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصُّفْرَة قليلاً حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه.
ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شَنق لِلقْصَواء الزمامَ، حتى إنّ رأسها لَيصيب مِوْرِك رَحْله ويقول بيده اليمنى: «أيُّهَا النَّاسُ السَّكِيْنَةَ السَّكِيْنَةَ» . كلما أتى جبلاً من الجبال أرْخَى لها قليلاً حتى أتى المزدلفةَ، فصلى بها المغربَ والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبِّح بينهما شيئاً.
ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، فصلى حين تبيَّن له الصبحُ بأذان وإقامة.
ثم ركب القَصْواء حتى أتى المَشْعر الحرام، فاستقبل القبلة ودعا وَكَبَّرَ وهلل ووَحَّد، فلم يزل واقفاً حتى أسْفَرَ جدًّا.
فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضلَ بن عباس حتى أتى بطنَ مُحَسِّر فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرَةَ التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات، يكَّبِّر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخَذْف، رمى مِنْ بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بَدَنة، ثم أعطى عليًّا فنحر ما غبَر وأشْرَكه في هَدْيه، ثم أمر من كل بَدَنة ببَضْعة، فجُعلت في قِدْر فطُبخت فأكلا من لحمها وشربا مرقها.
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر.
قال: فأتى بني عبد المطلب، وهم يَسْقون على زمزم، فقال: «انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَلَوْلاَ أنْ يَغْلِبَكُم النَّاسُ عَلَى سِقَايَتكُم لَنَزَعْتُ مَعَكُم» فناولوه دلواً فشرب منه
انفرد بإخراجه مسلم.
الباب الثاني عشر
في عدد عُمَرِهِ صلى الله عليه وسلم(1/372)
عن أنس قال: حجَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حجةً واحدة، واعتمر أربع مرات، عمرتُه زمن الحديبية، وعمرته في ذي القعدة من المدينة، وعمرته من الجِعْرَانة، حيث قسم غنائمَ حُنَين، وعُمْرته مع حجته.
أبواب خوفه، وتضرعه، وحزنه، وفكره، وبكائه، وورعه، وقصر أمله،واستغفاره، وتوبته صلى الله عليه وسلم
الباب الأوّل
في ذكر خوفه وتضرعه صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يُدْخِلَ أحَدَكُمْ عَمَلُه الجَنَّةَ» .
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قال: «ولاَ أَنا إلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ» .
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْكُم أحَدٌ يُنْجِيْه عَمَلُه» .
قالوا: ولا أنت؟
قال: «ولاَ أَنا إلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ ورَحْمَةٍ» ووضع يدَه على رأسه صلى الله عليه وسلم.
عن مُطرف بن عبد الله، عن أبيه، قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ولِصَدْره أزِيزٌ كأزيز المِرْجَل».
عن عائشة قالت: كانت ليلتي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت فإذا به ساجد كالثوب المطروح، فسمعته يقول: «سَجَدَ لَكَ سَوَادِي وخَيَالِي، وآمَنَ بِكَ فُؤَادِي، رَبِّ هَذِه يَدَايَ ومَا جَنَيْتُ بِهَا عَلَى نَفْسِي، يا عَظِيْماً يُرْجَى لِكُلِّ عَظِيْم اغْفِرْ الذَّنْبَ العَظِيْمَ» .
ثم قال: «إنَّ جِبْرِيْلَ أمَرَنِي أنْ أقُولَ هَذِه الكَلِمَاتِ التي سَمِعْتِ، فَقُولِيْهِنَّ فِي سُجُودِكِ فإنَّ منْ قَالَها لَمْ يَرْفَعْ رأسَه حتَّى يُغْفَرَ لَه» .(1/373)
عن عائشة قالت: ترخَّص رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أمر، فتنزَّه عنه ناسٌ من الناس، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فغضب حتى بان الغضبُ في وجهه، ثم قال: «مَا بَالُ أقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا أُرْخِصَ لِي فِيه، فَوَالله لاَنَا أَعْلَمُهُم بِالله وأشَدُّهُم خَشْيَةً» .
الباب الثاني
في انزعاجه للغيم والريح صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى غَيْماً أو رِيحاً عُرف ذلك في وجهه. فقلت: يا رسول الله، الناسُ إذا رأوا الغَيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عُرف في وجهك الكراهة؟
قال: «يَا عَائِشَةُ، مَا يُؤْمِنُنِي أنْ يَكُونَ فِيه عَذَابٌ؟ قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بالرِّيْحِ، وقَدْ رَأَى قَوْمٌ العَذَابَ فَقَالُوا: هَذا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا» .
أخرجاه.
الباب الثالث
فيما كان يقوله إذا سمع صوت الرعد والصواعق
عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، قال: كان النبي إذا سمعَ صوتَ الرعد والصواعق قال: «اللهُمَّ لا تَقْتُلْنَا بَغَضَبِكَ وَلاَ تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ» .
الباب الرابع
في ذكر خوفه وفكره صلى الله عليه وسلم
عن الحسن بن علي، عن خاله هند، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَواصل الأحزان، دائم الفِكْر، ليست له راحة».
الباب الخامِس
في ذكر بكائه صلى الله عليه وسلم
قال المصنِّف: قد ذكرنا في باب شفقته أنه سأل في أمَّته وبكى، فأوحى الله إليه: سأُرضيك في أمتك.
عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إقْرَأْ عَلَيَّ» .
فقلت: يا رسول الله، أقرأْ عليك، وعليك أُنْزل؟
قال: «نَعَمْ، إنِّي أحِبُّ أنْ أَسْمَعَه مِنْ غَيْرِي» .
فقرأت سورة النساء حتى أتيتُ على هذه الآية: {س4ش41فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤلاء شَهِيداً } (النساء: 41)(1/374)
قال: «حَسْبُك» . فنظرت إليه فإذا عيناه تَذْرفان.
أخرجاه.
عن مطرف، عن أبيه، قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولِجَوْفه أزيزٌ كأزيز المِرْجَل من البكاء».
عن عطاء قال: دخلت أنا وعبد الله بن عمر وعُبَيْد بن عُمَيْر على عائشة، فقال ابن عمر: حدِّثيني بأعجب ما رأيتِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبكت ثم قالت: «كلُّ أمره كان عجباً، أتاني في ليلتي حتى إذا دخل معي في لحافي وألصق جلده بجلدي، فقال: «يَا عَائِشَةُ، أتَأْذَنِينَ فِي عِبَادَةِ رَبِّي؟ فقلت: إني لأحبُّ قُرْبَك وهواك».
قالت: «فقام إلى قِرْبة في البيت، فلم يُكْثر صَبَّ الماء ثم قام فقرأ القرآن، قالت: ثم بكى حتى رأيت دموعه بَلَّت حُجْزته، ثم اتكأ على جنبه الأيمن، ثم وضع يده اليمنى تحت خده، ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلّت الأرض».
«فجاءه بلال يُوءْذنه بالصلاة فرآه يبكي، فقال: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفَلاَ أكُونُ عَبْداً شَكُورًا؟» .
ثم قال: «وَمَالِي لاَ أبْكِي، وقَدْ أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ: {س3ش190إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأٌّرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لأّيَاتٍ لاٌّوْلِى الأٌّلْبَابِ }
(آل عمران: 190)
الآيات.
ثم قال: «ويلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا ولَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا» .
عن علي قال: «لقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصْبَح». يعني ليلة بَدْر.
عن أبي هريرة قال: «صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ليلةً، فقرأ: «بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيْم» فبكى حتى سقط، فقرأها عشرين مرة، كلُّ ذلك يبكي حتى يَسْقط، ثم قال لي آخر ذلك: «لَقَدْ خَابَ مَنْ لَمْ يَرْحَمْه الرَّحْمانُ الرَّحِيْمُ» .(1/375)
عن سلمة المخزومي قال: لمَّا أصيب زيدُ بن حارثة انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأته ابنته أجهشت في وجهه، فانتحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بعضُ أصحابه: ما هذا يا رسول الله؟
قال: «هَذا شَوْقُ الحَبِيْبِ إلَى حَبِيْبِه» .
عن أنس قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبراهيم وهو يجود بنفْسه، فجعلت عَيْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تَذْرفان، وقال: «إن العَيْنَ تَدْمَعُ والقَلبُ يَحْزَنُ، ولاَ نَقُولُ إلاَّ مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وإنَّا بِفُرَاقِكَ يَا إبْرَاهِيْمُ لمَحْزُونُونَ» .
عن أسامة بن زيد قال: أرسلَتْ بنتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أن ابناً لي في الموت. فأرسل يقول: «إنَّ نِ مَا أَخَذَ ولَه مَا أَعْطَى، وكلُّ شَيءٍ عنْدَه بِأَجَلٍ مُسَمًى» .
فأرسلت تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه رجال، فرُفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبيُّ ونَفْسه تقَعْقع، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟
قال: «رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِه، وإنَّما يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِه الرُّحَمَاءَ» .
عن عبد الله بن عمر قال: اشتكى سعدُ بن عبادة، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل وجده في غاشية أهله، فقال: قد قَضى؟
قالوا: لا. فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن عائشة قالت: لما مات عثمان بن مَظْعون كشف النبيُّ صلى الله عليه وسلم الثوب عن وجهه وقبَّل بين عينيه وبكى، ثم بكى طويلاً، ثم رفع على السرير فقال: «طُوبَاكَ يَا عُثْمَانُ، لم تَلْبَسْكَ الدُّنْيَا ولَمْ تَلْبَسْهَا» .(1/376)
عن مَيْسرة بن مَعبد، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنّا كنّا أهل جاهلية وعبادة أوثان، وكنا نقتل الأولاد، وكانت عندي بنت وكانت مسرورة بدعائي إذا دعوتها، فدعوتها يوماً فاتبعتني فمررت حتى أتيت بئراً من أهلي غير بعيد، فأخذت بيدها فورَّيتها في البئر، وكان آخر عهدي بها أن تقول: يا أبتاه يا أبتاه.
فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وَكَف دَمْعُ عينيه.
فقال له رجل من جلساء رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحْزَنْتَ رسولَ الله.
فقال له: «كُفَّ فإنَّه يَسْأَلُ عَمَّا أهَمَّه» .
قال: أعِدْ عَلَيَّ حَدِيْثَكَ .
فأعاده فبكى حتى وكَف الدمعُ من عينيه على لحيته، ثم قال: «إنَّ اللَّهَ قَد وَضَعَ عَنْ الجَاهِلِيَّة مَا عَمِلوا فَاسْتَأنِفْ عَمَلَكَ» .
عن ثابت بن سَرْح قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ اجْعَلْ لِي عَيْنَيْنِ هَطَّالَتَيْنِ تَبْكِيَانِ بِذُروفِ الدُّموعِ وتُشْفِقَانِ مِنْ خَشْيَتِكَ قَبْلَ أنْ يَصِيْرُ الدَّمْعُ دَماً والأضْرَاسُ جَمْراً» .
البابُ السّادِس
في ذكر ورعه صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: إنْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيصيب التمرة فيقول: «لَوْلاَ أنِّي أخْشَى أنَّها مِنَ الصَدَقَةِ لأَكَلْتُها» .
أخرجاه.
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نائماً فوجد تمرة تحت جنبه، فأخذها فأكلها ثم جعل يتضوَّر من آخر الليل، وفزع لذلك بعض أزواجه فقال: «إنِّي وَجَدْتُ تَمْرَةً تَحْتَ جَنْبِي فأكَلْتُها فَخَشِيْتُ أنْ تَكُونَ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ» .
الباب السابع
في قصر أمله صلى الله عليه وسلم
عن أبي سعيد الخدري قال: اشترى أسامة بن زيد وليدة بمائة دينار إلى شهر، فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ألاَ تَعْجَبُونَ منْ أُسَامَةَ المُشْتَرِي إلَى شَهْرٍ؟» .
«(1/377)
إنَّ أُسَامَةَ لَطَويْلُ الأَمَلِ، والذي نَفْسِي بِيَدِه مَا طَرَفَتْ عَيْنَايَ إلاَّ ظَنَنْتُ أنَّ شَفْرَيَّ لا يَلْتَقِيَانِ حَتَّى أُقْبَضَ، ولاَ رَفَعْتُ طَرْفِي فَظَنَنْتُ أنِّي واضِعُه حَتَّى أُقْبَضَ، ولاَ لَقَمْتُ لُقْمَةً فَظَنَتْتُ أنِّي لاَ أسِيْغُهَا حتَّى أَغُصَّ بِهَا مِنَ المَوْتِ» .
ثم قال: «يَا بَنِي آدَمَ إنْ كُنْتُم تَعْقِلونَ فَعُدُّوا أنْفُسَكُم منَ المَوْتَى، والذي نَفْسِي بِيَدِه إنَّما تُوعَدُونَ لآتٍ ومَا أنْتُم بِمُعْجِزِينَ» .
عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهريق الماء فيتمسح بالتراب، فأقول: يا رسوب الله، إن الماء منك قريب.
فيقول: «ومَا يُدْرِيْنِي لَعَلِّي لاَ أبْلُغَه» .
البَابُ الثامن
في توبته واستغفاره صلى الله عليه وسلم
عن ابن عمر: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يَا أيُّها النَّاسُ، تُوبُوا إلَى رَبِّكُم، فَإنِّي أتُوبُ إليه فِي اليَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» .
عن ابن عمر قال: إنْ كنا لَنعدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول: «رَبِّ اغْفِرْ لي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أنْتَ التَّوابُ الرَّحِيْمُ» مائة مرة .
عن عائشة قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضحى، ثم قال: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إنَّكَ أنْتَ التَّوابُ الرَّحِيْمُ» . حتى قالها مائة مرة.
عن أبي موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأتُوبُ إليه في اليَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» .
عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده، قال: جاءنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس فقال: «مَا أصْبَحَتْ غَدَاةٌ قَطُّ إلاَّ اسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ فِيهَا مِائَةَ مَرَّةٍ» .
أبواب دعائه صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في بسط يديه عند الدعاء صلى الله عليه وسلم(1/378)
عن ابنة الحسين قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا ابتهل ودعا، كما يستطعم المسكينُ».
الباب الثاني
في دعائه عند الصباح والمساء صلى الله عليه وسلم
عن ابن عمر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي: «اللهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ العَفْوَ والعَافِيَةَ فِي دِيْنِي ودُنْيَايَ وأهْلِي ومَالي، اللهُمَّ أَسْتُرْ عَوْرَاتِي وآمِنْ رَوْعَاتِي، اللهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَينِ يَدَيَّ ومِنْ خَلْفِي، وعَنْ يَمِيْنِي وعَنْ شِمَالِي، ومِنَ فَوْقِي، وأعُوذُ بَعَظَمَتِكَ أنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» .
قال: يعني: الخسف.
عن عبد الرحمن بن أَبْزَى، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى: «أصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الإسْلاَمِ وعَلَى كَلِمَةِ الإخْلاَصِ، وعَلَى دِيْنِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وعَلَى مِلَّةِ أبِيْنَا إبْرَاهِيْمَ صلى الله عليه وسلم حَنِيْفًا ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِيْنَ» .
عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أصبح: «اللهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا وبِكَ أَمْسَيْنَا وبِكَ نَحْيَا وبِكَ نَمُوتُ وإليْكَ المَصِيْرُ» .
عن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمْسَى قال: «أمسَيْنَا وأمْسَى المُلْكُ كِ والحَمْدُ دِ لاَ اله إلاَّ اللَّهُ وَحْدَه لاَ شَرِيْكَ لَه، لَه المُلْكُ ولَه الحَمْدُ وهو عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيْرٌ. رَبِّ أسْأَلُكَ خَيْرَ هَذه اللَّيْلَةِ وخَيْرَ مَا بَعْدَها، وأعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِي هَذِه اللَّيْلَةِ وشَرِّ مَا بَعْدَهَا رَبِّ أعوذُ بِكَ منَ الكَسَلِ وسُوءِ الكِبْرِ، ربِ أعوذُ بِكَ من عَذَابٍ فِي النَّارِ وعَذَابٍ فِي القَبْرِ» .
وإذا أصبح قال ذلك أيضاً: «أصْبَحْنَا وأصْبَحَ المُلْكُ كِ» .
انفرد بإخراجه مسلم.
الباب الثالث(1/379)
في دعائه عند الكرب صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب «لاَ اله إلاَّ اللَّهُ العَظِيْمُ الحَلِيْمُ، لاَ اله إلاَّ اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيْمِ، لاَ اله إلاَّ اللَّهُ ربُّ السَّماواتِ وَرَبُّ الأَرْضِ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيْمِ» .
البَابُ الرّابع
في دعائه مطلقاً صلى الله عليه وسلم
عن أبي موسى، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول هذا الدعاء: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيْئَتِي وجَهْلِي وإسْرَافِي فِي أَمْرِي، ومَا أنْتَ أعْلَمُ بِه مِنِّي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وهَزْلِي وخَطَئِي وعَمْدِي وكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ ومَا أخَّرْتُ ومَا أسْرَرْتُ وما أَعْلَنْتُ ومَا أَنْتَ أَعْلَمُ به مِنِّي، أَنْتَ المُقَدِّمُ وأَنْتَ المُؤَخِّرُ وأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ» .
عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الدعوات: «اللهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وعَذَابِ النَّارِ وفِتْنَةِ القَبْرِ وعَذَابِ القَبْرِ، ومنْ شَرِّ فِتْنَة الفَقْر، وأعُوذُ بِكَ مِنَ المَسِيْحِ الدَّجَّالِ، اللهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْج والبَرَدِ، ونَقِّ قَلْبِي مِنَ الخَطَايَا كَمَا نَقَيْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وبَاعِدْ بَيْنِي وبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المُشْرِقِ والمَغْرِبِ، اللهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ منَ الكَسَل والهَرَمِ والمَأثَمِ والمَغْرَمِ» .
هذا والذي قبله في الصحيحين.(1/380)
عن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ والجُبْنِ والهَرَمِ والبُخْلِ وعَذَابِ القَبْرِ، اللهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وزكِّهَا أنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا، اللهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَع، ونَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وعِلْمٍ لاَ يَنْفَع، ودَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا» .
عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ البَرَصِ، والجُنونِ، والجُذَامِ، وشَتَّى الأسْقَامِ» .
عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثر أن يقول: «يا مُقلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِيْنِكَ» .
فقلنا: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئتَ به، فهل تخاف علينا؟
قال: «نَعَمْ، إنَّ القُلوبَ بينَ إصْبَعَيْنِ مِنْ أصَابِعِ الله، يُقَلِّبُهَا تَبَارَكَ وتَعَالَى» .
عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: «اللهُمَّ اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وظُلْمَنَا وهَزْلَنَا وجِدَّنَا وعَمْدَنَا وكُلُّ ذلكَ عِنْدَنَا، اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وغَلَبَةِ العَدُوِّ وشَمَاتَةِ الأعْدَاءِ» .
عن عبد بن أبي أَوْفَى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: «اللهُمَّ طَهِّرْنِي بالثَّلْجِ والبَرَدِ والمَاءِ البَارِدِ، اللهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنَ الخَطَايَا كَمَا طَهَّرْتَ الثَّوْبَ الأبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ وبَاعِدْ بَيْنِي وبَيْنَ ذُنُوبِي كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، اللهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَع ونَفْسٍ لاَ تَشْبَع ودُعَاءٍ لا يُسْمَع وعِلْمٍ لا يَنْفَع» .(1/381)
عن أبي اليسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الدعوات السبع: «اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ الهَرَمِ، وأعوذُ بِكَ منَ التَّرَدِّي، وأعوذُ بِكَ مِنَ الغَمِّ والطِّرْقِ والحَرْقِ والهَدْمِ، وأعوذُ بِكَ أنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ المَوْتِ، وأعوذُ بِكَ منْ أَنْ أَموتَ فِي سَبِيْلِكَ مُدْبِراً، وأَعوذُ بِكَ مِنْ أنْ أموتَ لَدِيّغًا» .
عن قيس بن عَبَّاد قال: صَلّى بنا عَمَّارٌ صلاةً فأوْجَز فيها، فأنكَروا ذلك فقال: ألم أتِمَّ الركوع والسجود؟
قالوا: بلى.
قال: أمَا إني قد دعوت فيها بدعاء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو به: «اللهُمَّ بعِلْمِكَ الغَيْبَ وقُدْرَتِكَ عَلَى الخَلْقِ أحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الحَيَاةَ خَيْراً لِي، وتَوَفَّنِي إذَا كَانَتْ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي، أسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، وكَلِمَةَ الحَقِّ فِي الغَضَبِ والرِّضَى، والقَصْدَ فِي الفَقْرِ والغِنَى، ولَذَّةَ النَظَرِ إلى وَجْهِكَ وشَوْقًا إلى لِقَائِكَ، وأسْأَلُكَ نَعِيْمًا لا يَنْفدُ، وقُرَّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ، وأعوذُ بِكَ منْ كُلِّ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وفِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللهُمَّ زيِّنَا بِزِيْنَةِ الإيْمَانِ واجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ» .
عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: «ربِّ أعِنِّي ولاَ تُعِنْ عَلَيَّ، وانْصُرْنِي ولا تَنْصُر عَلَيَّ، وامْكُرْ لِي ولا تَمْكُرْ عَلَيَّ واهْدِني ويَسِّرْ لي الهُدَى، وانْصُرْني عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَاكِراً، لَكَ ذَاكِراً، لَكَ رَهَّاباً، لَكَ مِطْوَاعاً، لَكَ مُخْبِتاً، لَكَ أوَّاهاً مُنِيْبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، واغْسِلْ حَوْبَتِي، وأجِبْ دَعْوَتِي، وثَبِّتْ حُجَّتِي، وشَدِّدْ لِسَانِي، واهْدِ قَلْبِي، واسْلُلْ سَخِيْمَةَ قَلْبِي» .(1/382)
عن عروة بن نوفل قال: سألتُ عائشةَ عن شيء كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان يدعو: «اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلتُ ومِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَل» .
عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهُمَّ أصْلِحْ لِي دِيْنِي الذي هو عِصْمَةُ أمْرِي، وأصْلِحْ لِي دُنْيَايَ التي فِيهَا مَعَاشِي، وأصْلِح ليْ آخِرَتِي التي إليْهَا مَعَادِي، واجْعَل الحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، واجْعَل المَمَاتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرَ» .
عن عبد بن عمر قال: كان مِنْ دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وفَجْأَةِ نَقْمَتِكَ، وَجَمِيْعَ سُخْطِكَ» .
عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ والعَجْزِ والكَسَلِ والجُبْنِ والبُخْلِ وضَلْعِ الدَّيْنِ وغَلَبَةِ الرِّجَالِ» .
عن أبي هريرة قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قدَّمْتُ ومَا أخَّرْتُ، ومَا أسْرَرْتُ ومَا أعْلَنْتُ، ومَا أنْتَ أعْلَمُ بِه مِنِّي، أنْتَ المُقَدِّمُ وأنْتَ المُؤَخِّرُ لا اله إلاَّ أنْتَ» .
عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منَ الفَقْرِ والعِلَّةِ والذُّلَّةِ، وأعوذُ بِكَ أنْ أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ» .
عن أنس قال: كان أكثرُ دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفِي الآخِرَةِ حَسَنةً، وقِنَا عَذَابَ النَّارِ» .
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان يتعوَّذُ من جَهْد البلاء ودَرْك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء».
أبواب: آلات بيته صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في ذكر سريره صلى الله عليه وسلم(1/383)
عن أنس قال: دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على سرير مُضْطَجع مزمَّل بشريط، وتحت رأسه وسادة من أَدَم حَشْوها ليف، فدخل عليه نفر من أصحابه ودخل عمر، فانحرف رسول الله صلى الله عليه وسلم انحرافةً، فلم يَرَ عمر بَيْنَ جنبيه وبين الشريط ثوباً، وقد أثَّر الشريطُ بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى عمر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يُبْكِيْكَ؟» .
قال: والله ما أبكي إلا أن أكون أعلم أنك أَكْرمُ على الله مِنْ كسرى وقيصر، وهما يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا، وأنت رسولُ الله بالمكان الذي أرى.
قال: «أَما تَرْضَى أنْ تَكُونَ لَهُم الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ» ؟
قال: بلى.
قال: «فَإنَّه كَذَلِكَ» .
عن عمرو بن مهاجر: كان متاع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عمر بن عبد العزيز في بيتٍ ينظر إليه كلَّ يوم، وكان إذا اجتمعت إليه قريش أدخلهم ذلك البيتَ ثم استقبل ذلك المتاعَ فيقول: هذا ميراثُ مَنْ أكْرَمكم الله وأعزَّكم به.
قال: وكان سريراً مزمَّلاً بشريط، ومِرْفَقةً من أَدم محشوة ليفاً، وجَفْنة وقَدَحاً وثوباً، ورحًى وكنانةَ فيها أَسْهُم، وكان في القطيفة أثرُ رشح عرق رأسه أطيب من ريح المسك. فأصيب رجلٌ فطلبوا أن يغسلوا بعضَ ذلك الرشح فيُسَعَّط به، فذكر ذلك لعمر، فسُعط به فبرأ.
الباب الثاني
في ذكر حصيره صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحْتجر حصيراً بالليل فيصلي عليه، ويُبْسط بالنهار فيجلس عليه للناس».
البابُ الثالِث
في ذكر كرسيه صلى الله عليه وسلم
عن أبي رفاعة قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على كرسي خُلْب قوائمه حديدٌ».(1/384)
عن أبي رفاعة (العُذْري) قال: أتيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقلت: رجل غريب يسأل عن دينه. فأقبل إليَّ وترك خطبته، ثم أتي بكرسي خُلْب قوائمه حديد، فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل يعلمني مما علّمه الله.
قال أبو عبد الرحمن في حديثه قال حميد: أراه رأى خشباً أسود حسبه حديداً انفرد بإخراجه مسلم.
وقد ذكره ابن قتيبة فقال: أتي بكرسي من خُلْب.
والخلب: الليف.
قال المصنف: لولا ما ذكرناه عن حميد لكان الأليق أن يكون من ليف قوائمه من جريد بالراء والجريد: السعف.
البابُ الرابع
في ذكر فراشه صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: «كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدَم حشوه ليف».
عن عائشة قالت: «كان ضِجَاع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه بالليل من أدم حشوه ليف».
عن عائشة قالت: دخلت عليَّ امرأةٌ من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءةً مَثْنِيّة، فانطلقتْ فبعثت إليَّ بفراش حَشْوه صوفٌ.
فدخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مَا هَذَا؟» .
فقلت: إن فلانة الأنصاريّة دخلتْ فرأت فراشكَ فبعثت إليَّ بهذا.
قال: «رُدِّيْه» .
قالت: فلم أردَّه وأعجبني أن يكون في بيتي، قالت: حتى قال ذلك ثلاث مرات فقال: «رُدِّيْه يَا عَائِشَةُ، فَوَالله لَوْ شِئْتُ لأَجْرَى اللَّهُ عَلَيَّ جِبَالَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ» .
قالت: فردَدْته.
عن الربيع بن زياد الحارثي، قال: قدمْتُ على عمر بن الخطاب في وفد العراق، فأمر لكل رجل منا بَعَبَاء فأرسلتْ إليه حفصةَ فقالت: يا أمير المؤمنين، إياك أهلَ العراق وجوه الناس فأحسنْ كرامتهم. فقال: ما أزيدهم على العباء يا حفصة، أخبريني بأَلْين فراشٍ فرشتِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/385)
قالت: كان لنا كساء من هذه اللبدة أصبناه يومَ خيبر، فكنت أفرشه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ ليلة، إلا أني ربَّعته ليلةً فقال: «يَا حَفْصَةُ، أعِيْدِيْه لِمَرَّتِه الأولَى، فإنَّهَا مَنَعَتْنِي وَطْأتُه البَارِحَةَ مِنْ الصَّلاَةِ» .
فأرسل عمر عينيه بالبكاء، وقال: والله لا أزيدهم على العباء
عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: سأَلتُ عائشةَ: ما كان فراشُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: مِسْحٌ ثَنَيْته ثَنْيتين فنام عليه، فلما كان ذات ليلة قلت لو ثَنَيْتُه أربع ثنيات كان أوْطأَ له. فثنيناه أربع ثنيات.
فلما أصبح قال: «مَا فَرَشْتُم لِي اللَّيْلَة؟» .
قالت: قلنا هو فراشُك، (إلاّ أنّا ثَنيْناه بأَربع ثنيات) قلنا هو أوْطأ لك.
قال: «رُدُّوه لِحَالَتِه الأولَى، فإِنَّه منَعَنِي وطْأَتُه صَلاَتي اللَّيْلَة» .
البَابُ الخامِس
في ذكر لحافه صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وعليه طرف اللحاف وعلى عائشة طرفه».
عن ابن عباس قال: تضيَّفْتُ ميمونةَ وهي خالتي، فجاءت بكساء فطرحته وفرشَتْه للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت ميمونةُ بخرقة فطرحتها عند رأس الفراش، فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد صلّى العشاء الآخرة، فانتهى إلى الفراش فأخذ الخرقة التي عند رأس الفراش فاتّزَر بها وخلع ثوبيه فعلقهما، ثم دخل معها في لحافها.
البَابُ السّادس
في ذكر وسادته صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وتحت رأسه وسادة من أَدَم حَشْوها ليفٌ».
عن عمر: أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو على حصير قد أثّر في جنبه، وإذا تحت رأسه مِرْفَقة من أدم حشوها ليف.
البابُ السّابع
في اتكائه صلى الله عليه وسلم على الوسادة
عن جابر بن سَمرة قال: «رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على وسادة على يساره».(1/386)
عن عائشة قالت: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على وسادة فيها صُور».
الباب الثامن
في ذكر قطيفته صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «حجَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على رَحْلٍ رَثّ وقطيفةٍ لا تساوي أربعة دراهم».
البَابُ التّاسِع
في ذكر قبته صلى الله عليه وسلم
عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: «أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو في قُبَّة من أَدَم».
أبواب لباسه صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في ذكر قميصه صلى الله عليه وسلم
عن أم سلمة قالت: «كان أحبَّ الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص».
عن أنس بن مالك قال: «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قميصٌ قُطْني قصير الطول قصير الكُمَّين».
عن ابن عباس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس قميصاً فوق الكعبين مستوي الكُمَّين بأطراف أصابعه».
عن ابن عمر قال: «مااتُّخِذَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم قميص له زِرٌّ».
عن عائشة قالت: «كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبان خشنان غليظان، فقلت: يا رسول الله؛ إن ثوبيك هذين خشنان غليظان تَرْشح فيهما فيثقلان عليك».
عن قتادة قال: «سألتُ أنساً: أيُّ اللباسِ كان أعجبَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟».
قال: «الحبَرة».
عن قتادة قال: قلت لأنس: أيُّ اللباس كان أعجبَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: «الحبَرة».
أخرجاه.
الباب الثاني
في ذكر جبته صلى الله عليه وسلم
عن المغيرة بن شعبة: «أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم غسَل وجهه، ثم ذهب يَحْسِر عن ذراعيه وعليه جُبّة شامية ضيِّقة الكُمَّين، فأخرج يده من تحتها».
عن زيد بن هارون قال: أخرجت لنا أسماء جبَّةً مَزْرورةً بالديباج، فقالت: «في هذه كان يَلْقى رسول الله صلى الله عليه وسلم العدوَّ».
عن دِحْية الكلبي: «أنه أَهْدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبَّةً من الشام وخفين فلبسهما حتى تخرقا».(1/387)
عن سهل بن سعد قال: خِيطت لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم جبَّة من صوف أَنْمار فلبسها، فما أُعْجب بثوبٍ ما أُعجب بها، فجعل يمسّها بيده ويقول: «انْظُروا مَا أحْسَنَها» .
وفي القوم أعرابي فقال: يا رسول الله هَبْها لي. فخلعها فدفعها في يده.
البابُ الثالث
في ذكر إزاره وكسائه صلى الله عليه وسلم
عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرةً، فلما انصرف قال: «اذْهَبُوا بِخَمِيْصَتِي هَذِه إلَى أبِي جَهْمٍ وائْتوُنِي بأَنْبَجَانيَّةِ أبي جَهْمٍ، فإنَّها الْهَتْنِي عَنْ صَلاَتِي» .
الخميصة: رداء من صوف ذو عَلَمين.
والأَنْبجانِيَّة: كساء من صوف غليظ له خَمل وليس له عَلَم.
عن أبي بُرْدة قال: أخرجَتْ لنا عائشة كساءً مُلبَّداً وإزاراً غليظاً، فقالت: «قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين».
عن عائشة قالت: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة إلى المسجد وعليه مِرْطٌ مُرَحَّل من شعر أسود».
عن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: بعث النبيَّ صلى الله عليه وسلم عثمانَ إلى مكة فأجاره أبان ابن سعد، فقال: يا بن عَمِّ، ألاَ أراك متخشِّعاً؟ أسْبِلْ كما يُسْبل قومُك.
قال: هكذا يَتّزِرُ صاحبُنا إلى نصف ساقيه.
عن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمتي تحدث عن عَمِّهَا قال: بَيْنا أنا أمشي إذا إنسان خلفي يقول: «ارْفَعْ إزَارَكَ فإنَّه أنْقَى وأَبْقَى» . فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت: يا رسول الله، إنما هي بُرْدة مَلْحاء.
قال: «أمَالَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ؟» فنظرتُ فإذا إزاره إلى نصف ساقيه.
الباب الرابع
في ذكر حلته صلى الله عليه وسلم
عن عبد الله بن الحارث: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم اشترى حُلة بسبع وعشرين ناقة فلبسها.
عن جابر بن عبد الله قال: ما رأيت أحسنَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حُلة حمراء.
الباب الخامس
في ذكر بردته صلى الله عليه وسلم(1/388)
عن سليم بن جابر قال: «أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس في أصحابه، وإذا هو مُحْتَبٍ بُبّردة قد وقع هدبُها على قدميه».
عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس بردةً سوداء، فقالت عائشة: «ما أحْسَنهاعليك، يَشُوب بياضُك سوادَها، وسوادُها بياضَك».
عن أنس قال: «كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غليظ الحاشِيَة».
عن جابر بن عبدالله قال: «كان للنبي صلى الله عليه وسلم بُرْدٌ أحمر يلبسه في العيدين».
عن أبي رِمْثة قال: «رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعليه بُرْدان أخضران».
الباب السادس
في ذكر عمامته صلى الله عليه وسلم
عن جابر قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء».
عن خالد الحَذَّاء قال: أخبرني أبو عبد السلام قال: قلت لابن عمر: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَعْتَمُّ؟
قال: يُدِير كَور العمامة على رأسه ويغرزها من ورائه، ويُرْخي لها ذؤابةً بين كتفيه».
عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتمَّ سَدَل عمامته بين كتفيه.
قال نافع: وكان ابن عمر يفعل ذلك.
الباب السابع
في ذكر قلنسوته صلى الله عليه وسلم
عن ابن عمر قال: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يلبس قلنسوةً بيضاء».
عن أبي هريرة قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنسوة بيضاء شامية».
عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس من القلانس في السفَر ذوات الآذان وفي الحضر المشمّرة». يعني: الشامية.
عن ابن عباس قال: «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث قلانس: بيضاء مِصْريّة، وقلنسوة بُرْد حَبرة، وقلنسوة ذات آذان يلبسها في السَّفَر».
عن عبد الله بن بُسْر قال: «رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وله قلنسوة مصرّية، وقلنسوة لها آذان، وقلنسوة شامية».
الباب الثامن
في ذكر ردائه صلى الله عليه وسلم(1/389)
عن عروة بن الزبير قال: «كان طولُ رداءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أذرع، وعرضه ذراعين ونصف، وكان له ثوب أخضر يلبسه للوفود إذا قدموا عليه».
عن عروة: «أن ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يخرج فيه إلى الوفد رداء، وثوب أخضر: طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر، وهو عند الخلفاء اليوم، قد كان خَلِقَ وطُرِّف بثوبٍ يلبسونه يوم الفطر، ويوم الأضحى».
عن أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يوماً حتى بلغ وسط المسجد، فأدركه أعرابي فجبذ بردائه، من ورائه وكان رداء خشناً فحَمَّر رقبته».
عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران، ورداء، وعمامة».
عن عبد الله بن بُرَيدة، عن أبيه: أن النجاشي كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «إني قد زوَّجتك امرأةً من قومك وهي على دينك: أم حَبيبة بنت أبي سفيان، وأهديتُ لك هديةً جامعة: قميصاً، وسراويلَ، وعِطافاً، وخُفَّين ساذَجين».
فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح عليهما.
قال سليمان: قلت للهيثم: ما العِطاف؟
قال: الطيلسان.
عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثر القناع كأن ثوبه ثوبُ زَيَّات».
الباب التاسع
في ذكر سراويله صلى الله عليه وسلم
عن قيس قال: جلبت أنا ومخْرمة العبدي بُرَّاً من هجر إلى مكة، فأتانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاشترى سراويل، وثَمَّ وَزَّانٌ يَزِن بالأجر، فقال: «إذا وزَنْتَ فَأَرْجح» .
الباب العاشر
في لبسه الصوف صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوف واحْتَذى المخصوفَ، ولبس خَشناً، وأكل شِبْعاً، فسألنا الحسن: ما الشبع؟
قال: غليظُ الشعير، ما كان يسيغه إلا بجرعة ماء.(1/390)
عن أبي أيوب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الصوف، ويخصف النعلَ، ويرقع القميص، ويركب الحمار ويقول: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَتِي فَلَيْسَ مِنِّي» .
عن أنس بن مالك قال: «لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم جبّة من صوف ثلاثة أيام، فلما عرق وجد منها ريحاً كريهاً فرمى بها».
الباب الحادي عشر
في لبسه ما يتفق من اللباس صلى الله عليه وسلم
عن جليس بن أيوب قال: دخل الصَّلت بن راشد على محمد بن سيرين وعليه جبّة صوف وإزار صوف، فاشمأزَّ منه محمد وقال: أظن أن أقواماً يَلبسون الصوف، يقولون: قد لَبسه عيسى ابن مريم.
وقد حدَّثني مَنْ لا أتّهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبس الكتان، والقطن، واليمنية، وسُنَّةُ نبيِّنا أحقُّ أن تُتّبع.
الباب الثاني عشر
في وقت لبسه الثوب المستجد صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجدَّ ثوباً لبسه يومَ الجمعة».
الباب الثالث عشر
فيما كان يقوله عند اللبس صلى الله عليه وسلم
عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجدَّ ثوباً سمَّاه باسمه، عمامةً أو قميصاً أو رداء، يقول: «اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ كَمَا كَسَوْتَنِيْه، أسْأَلُكَ خَيْرَه وخَيْرَ مَا صُنِعَ لَه وأعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّه وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَه» .
الباب الرابع عشر
في ذكر خفه صلى الله عليه وسلم
عن ابن بُرَيدة عن أبيه: أن النجاشي أهدى النبي صلى الله عليه وسلم خفين أسودين ساذجين، فلبسهما ومسح عليهما وصلى.
الباب الخامس عشر
في ذكر نعله صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كانت نَعْلا النبي صلى الله عليه وسلم لهما قِبَالان».
والقِبَالُ: زمام النعل.
عن مطْرف بن عبدالله الشخِّير قال: أخبرني أعرابي لنا قال: «رأيتُ نعلَ نبيكم صلى الله عليه وسلم مخصوفة».
عن ابن عباس قال: «كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نعلان لهما زِمَامان».(1/391)
عن عُبَيد بن جُرَيج أنه قال لعبد الله بن عمر: رأيتك تلبس النعال السِّبْتيَّة.
قال: «إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال السِّبْتية التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها».
عن أبي ذر قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعلين مَخْصوفَيْن من جلود البقر».
عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لبس نعليه بدأ باليمنى وإذا خلع خلع اليسرى».
أبواب ذكر مراكبه صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في ذكر خيله صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «لم يكن شيء أحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَ النساء من الخيل».
عن أبي هريرة قال: «كان أحبَّ الخيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشْقَر الأرْثَم الأقْدح المُحَجَّل في الشق الأيمن».
عن ابن عباس قال: «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرس يقال له: المرْتجز».
قال المصنف: أولُ فرس مَلَكه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسٌ يقال له: السَّكْب، وكان له: المُرْتَجز، وهو الفرس الذي اشتراه من الأعرابي وشهد فيه خزيمة بن ثابت، وفرس يقال له: اللِّزاز، وفرس يقال له: الطِّرف وفرس يقال له: الورْد، وفرس يقال له: النِّحيف، وبعضهم يقول: اللَّحيف.
وبعض العلماء يسمِّي بعضَ خيله: اليَعْسُوب.
الباب الثاني
في ذكر ناقته صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العَضْباء، وكانت لا تُسْبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، فقال: «مَالَكُمْ؟»
قالوا: سُبقت العضباء.
فقال: «إنَّه حَقَّ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ أنْ يَرْفَعَ شَيْئاً منْ أَمْرِ الدُّنْيَا إلاّ وَضَعَه» .
عن ابن عمر قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته القَصْواء».
عن معاذ قال: «كنت رَدِيفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل أحمر».(1/392)
عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلَّف عثمان على بنته وكانت مريضة وخلَّف أسامة، فبينما هم إذ سمعوا ضَجَّة التكبير، فجاء زيد بن حارثة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجَدْعاء وهو يقول: قُتل فلان وأُسَر فلان.
واعلم أن القَصْواء: هي العَضباء، وهي الجَدْعاء.
قال سعيد بن المسيَّب: «كان في طرف أذنها جَدع».
والجدعاء: التي استؤصلت أذنها.
والمقصوَّة: التي قُطع بعضُ أذنها.
وحكى لنا شيخنا ابن ناصر، عن ثعلب، أنه قال: هذه أسماء لناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن جَدْعاء ولا مَقْصوّة.
الباب الثالث
في ذكر بغلته صلى الله عليه وسلم
عن العباس بن عبد المطلب قال: شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلم يثبت معه إلا أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فَرْوة بن نفاثة.
عن الأصبغ بن نباتة قال: لما قتل عليٌّ أهل النهروان ركب بغلة النبي صلى الله عليه وسلم الشهباء.
قال المصنف: كانت بغلته تسمى: الشهباء، وتسمى: الدُّلْدل.
الباب الرابع
في ذكر حماره صلى الله عليه وسلم
عن معاذ قال: «كنت رِدْف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له: عفير».
عن أنس بن مالك قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار عليه إكاف».
عن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر ويوم النضير على حمار عليه إكافٌ مَخْطوم بحبْل من ليف».
الباب الخامس
في ذكر سرجه صلى الله عليه وسلم
عن أبي عبد الرحمن الفهري قال: شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين في يوم صائف شديد الحر، فقال: «يَا بِلاَل، أسْرُجْ لِي فَرَسِي» .
فأخرج سرجاً رقيقاً من لبد ليس فيه أشَر ولا بَطر.
الباب السادس
فيما كان يقوله إذا ركب صلى الله عليه وسلم(1/393)
عن علي بن ربيعة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بدابّة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: «بِسْمِ الله» .
فلما استوى عليها قال: «الحَمْدُ دِ الذي سَخَّرَ لَنَا هَذا ومَا كُنَّا لَه مُقْرِنِينَ وإنَّا إلى رَبِّنَا لمنْقَلِبُونَ» .
ثم حمد الله ثلاثاً وكبّر ثلاثاً، ثم قال: «سبْحَانَك لا اله إلاَّ أنْتَ قَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِر لي» .
ثم ضحك.
فقلت: مم ضحكت يا رسول الله؟
فقال: «يَعْجَبُ الربُّ مِنْ عَبْدِه إذا قَالَ: اغْفِرْ لِي. ويَقُولُ عَلِمَ عَبْدِي أنَّه لاَ يَغْفِرُ الذُّنوبَ غَيْرِي» .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
الباب السابع
في صفة سيره صلى الله عليه وسلم
عن هشام قال: سُئل أسامة عن سَيْر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: فقال: «كان سيره العَنَق، فإذا وجد فجوةً نَصَّ».
والنَّصُّ فوقَ العنق.
والفَجْوة: المتسع.
أبواب ذكر مواليه وخدمه عليه الصلاة والسلام
الباب الأول
في ذكر مواليه
أسْلَم، ويكنى: أبا رافع. أحمر ويكنى: أبا عَسيب. أسامة بن زيد. أفْلَح. أنسة. أيمن ثَوْبان. ذَكْوان، ويقال: هو مهران، ويقال: طَهْمان. رافع، رَباح. زيد بن حارثة، زيد بن بَوْلَى، سابق، سالم، سلمان الفارسي، سليم: ويكنى أبا كبشة الدَّوسي، سعيد أبو كنديد، شُقْرَان واسمه صالح. ضُمَيرة بن أبي ضميرة. عبدالله بن أَسْلَم. عبيد بن عبد الغفار. فَضالة اليماني. كَيْسَان. مهران، أبو عبد الرحمن، وهو سَفِينة في قول إبراهيم الحربي. وقال غيره: اسم سَفِينَة رومان. مِدْعَم. نافع. نُفَيع ويكنى: أبا بَكْرة. نبيه. واقد. ورْدَان. هشام. يَسَار أبو أثيلة. أبو الحمراء. أبو رافع والد البهيّ. أبو السَّمح. أبو ضَمْرة. أبو عبيد واسمه سعد، وقيل: عبيد. أبو مَوْيْهبة وهو من مُزَينة. أبو واقد. كركرة. مابُور. أبو لبابة. أبو لقيط. أبو هند مُولدي.
الباب الثاني
في ذكر مولياته صلى الله عليه وسلم(1/394)
أم أيمن، واسمها: بركة. أُميمة. خضرة. رَضْوى. ريحانة. سَلْمى. مارية. ميمونة بنت سعد. ميمونة بنت أبي عَسِيب. أم ضُميرة. أم عيِّاش.
الباب الثالث
في ذكر مَنْ خدمه من الأحرار صلى الله عليه وسلم
قد خدمه من الأحرار جماعة منهم ابن مسعود.
عن القاسم بن عبد الرحمن قال: «كان عبدالله يُلْبس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نعليه ثم يمشي أمامه، حتى إذا أتى مجلسه نزع نعليه فأدخلهما في ذراعيه وأعطاه العصا، فإذا أراد أن يقوم أَلْبَسه نعليه، ثم مشى بالعصا أمامه حتى يدخل الحجرة».
قال المصنف: وقد كان بلال يخدمه كثيراً، وكان خازنَه على بيت ماله.
وخَدمه المغيرةُ وخلق كثير من الصحابة، وكان من أخصِّهم بخدمته أنس بن مالك. وقد خدمه بعض اليهود.
عن أنس بن مالك قال: «كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فعاده النبي صلى الله عليه وسلم».
أبواب زينته صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في ذكر خاتمه صلى الله عليه وسلم
عن أنس: أنه أبصر في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من وَرِق يوماً واحداً، فصنع الناسُ خواتيم من ورق، فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه، فطرح الناس خواتيمهم.
أخرجاه.
عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ خاتماً فلبسه ثم قال: «شَغَلَنِي هَذا عَنْكُم مُنْذُ اليَوْمَ، إِليْه نَظْرَةٌ وإليْكُم نَظْرَةٌ» ثم رمى به.
عن ابن عمر قال: «كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاتم فكان يجعل فصَّه في باطن يده».
قال: فطرحه ذات يوم فطرح الناسُ خواتيمهم. ثم اتخذ خاتماً من فضة فكان يَخْتم به ولا يلبسه».
عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من فضة ونقش عليه: «محمد رسول الله» وقال: «إنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِن فِضَّةٍ ونَقَشْتُ فِيه: مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله. فَلاَ تَنْقُشُوا عَلَيه» .
أخرجاه.
عن أنس قال: «كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة فَصُّه منه».(1/395)
انفرد بإخراجه البخاري.
عن ابن عمر قال: «اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من ورق، وكان في يده، ثم كان في يد أبي بكر من بعده، ثم كان في يد عمر، ثم كان في يد عثمان، نَقْشُه: محمد رسول الله».
زاد مسلم: «ثم كان في يد عثمان حتى وقع منه في بئر أريس».
أخرجاه.
عن أنس بن مالك قال: «كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من ورق وكان فَصُّه حبشيّاً».
عن أنس قال: «كان نَقْش خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «محمد سطر «ورسول» سطر «والله» سطر».
فصل
واختلفت الرواية: هل كان يلبسه في يمينه، أو في يساره؟
عن جابر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه».
محمد بن عباد: ضعيف، وابن ميمون. ليس بشيء. قال البخاري: هو ذاهب الحديث.
واليسار أصح.
عن أنس قال: «كأني أنظر إلى وَبيص خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده اليسرى وهو يَخْطبنا».
عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والحسن والحسين كلهم يتختَّمون في اليسار».
الباب الثاني
في ذكر خضابه صلى الله عليه وسلم
عن عثمان بن عبدالله بن مَوْهب قال: «دخلنا على أم سلمة فأخرجت إلينا شَعرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضوباً بالحنَّاء والكَتَم».
عن أبي رِمْثة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصب بالحناء والكَتَم، وكان شعره يبلغ كتفيه أو منكبيه».
عن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخضب بالحِنَّاء والكَتَم».
ويقول: «غَيِّروا فَإنَّ اليَهُودَ لا تُغَيِّرُ» .
وقد روي عنه أنه اختضب بالحناء وحده.
عن أبي رِمْثة قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فرأيته قد خضَب لحيته بالحناء».
ورُوِيَ أنه اخْتَضب بالصُّفْرة.
عن عبيدالله بن جُريج: أنه قال لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، رأيتك تصبغ بالصفرة.
فقال: «إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها، فأنا أحبُّ أن أصبغ بها».
أخرجاه.(1/396)
عن ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصفِّر لحيته بالوَرْس والزعفران».
عن عائشة قالت: «كان أكثر شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرأس في فَوْدَي رأسه».
والفَوْدان: حَرْفا الفَرْق.
«وكان أكثر شيبه في لحيته حول الذقن، وكان شيبه كأنه خيوط الفضة يتلألأ بين سواد الشعر وإذا مسَّه بصُفْرة، وكان كثيراً ما يفعل ذلك، صار كأنه خيوط الذهب».
فإن قيل: فما وجه الاختلاف؟
قلنا: قد كان يخضب بهذا تارة وبهذا تارة.
فإن قيل: قد روي أنه لم يَخْضب.
عن ثابت قال: سُئل أنس عن خضاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «لم يَخْضب».
عن زياد مولى سعد قال: سألت سعد بن أبي وقاص: هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: «لا ولا هَمَّ به، كان شَيْبُه في عنْفَقته وناصيته، لو أشاء أن أعدَّها عددتها».
عن بشير مولى المازنيين قال: سألت جابر بن عبدالله: هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: «لا، ما كان شَيُبُه يحتاج إلى خضاب، كان وَضحاً في عنفقته وناصيته، لو أراد أن نَحْصيها أَحْصَيناها».
فالجواب: أمَّا حديثُ أنس فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنه قد اختلفت الرواية عنه.
عن أنس قال: «رأيت شَعْرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضوباً».
عن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال: سألت أنس بن مالك: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خَضَب؟
قال: ما أرى.
قلت: فإنه كان عندنا من شَعْره شَعْرٌ فيه صُفرة.
قال أنس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسُّه بصُفْرة.
والثاني: أن قوله: «ما أَرى» إخبار عن ظن وقوله: «لم يخضب» شهادة على نفي، وقد قطع غيره من الصحابة مثل ابن عمر وأبي رِمْثة، وعبدالله بن زيد صاحب الأذان، على أنه خضب، والإثبات مُقَدَّم على النفي، وهذا جواب أحمد بن حنبل حين قيل له: إن أنساً يقول: لم يخضب.(1/397)
وأما حديث سعد، وجابر: فراويهما الواقديُّ، وقد كذّبه أحمد، وقال يحيى: ليس بثقة. وقال أبو زُرْعة: كان يضع الحديث ثُم شهادتهما على نفي، والإثبات مقدَّم.
الباب الثالث
في استعماله المشط صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثر تسريحَ لحيته ورأسه بالماء».
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مَضْجعه من الليل وضع له سِواكه وطَهُوره ومشطه، فإذا أهبَّه الله من الليل استاك وتوضأ وامتشط».
الباب الرابع
في فرق رأسه صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: «كان أهل الكتاب يَسْدلون شعورهم، وكان المشركون يَفْرقون شعورهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ موافقة أهلِ الكتاب فيما لم يُؤمر به، فسَدل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فَرَق بعدُ».
الباب الخامس
في استعماله الدهن صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دَهْن رأسه ويسرح لحيته».
الباب السادس
في ذكر المرآة صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر وجهه في المرآة قال: «الحَمْدُ دِ الذي حَسَّنَ خَلْقِي وخُلُقِي وزَانَ مِنِّي مَا شَانَ مِن غَيْرِي» .
عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر وجهه في المرآة قال: «الحَمْدُ دِ الذي سَوَّى خَلْقِي فَعَدَلَه، وكرَّمَ صُورَةَ وَجْهِي وَحَسَّنَها وجَعَلَنِي مِن المُسْلِمِينَ» .
عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر في المرآة قال: «اللهُمَّ كَمَا أحْسَنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي» .
عن عائشة قالت: «كنت أزوِّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ له، أزوده دُهْناً، ومشطاً، والمرآة، ومقصين، ومكحلة، وسواكاً».(1/398)
عن عائشة قالت: سَبْعٌ لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتركهن في سفر ولا حضر: القارورة، والمشط، والمرآة، والمكحلة، والسواك، والمقصان، والمِدْرى.
البابُ السابع
في أخذه من اللحية صلى الله عليه وسلم
عن عمرو بن شعيب، عن جده قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ من طول لحيته وعرضها».
الباب الثامن
في جز شاربه صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجزُّ شاربه».
عن أبي عبدالله الأغرّ: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقص شاربه ويأخذ من أظفاره قبل أن يروح إلى الجمعة».
الباب التّاسع
في استعماله النورة صلى الله عليه وسلم
عن أم سلمة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اطّلى وِلَي عانتَه».
عن حبيب بن أبي ثابت: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينوِّر ما أَقْبَل منه، ويُنَوِّر أهلُه سائر جسده».
عن أبي مَعْشر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نورَّه بعضُ أهله، ونوَّر هو عورته بيده».
عن زياد بن كليب: «أن رجلاً نوَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغَ مَراقَّه كَفَّ الرجُل ونوَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه».
عن أنس بن مالك: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينوِّر، فإذا كثر شعره حَلَقه».
والكلام في هذا مثل الكلام في الخِضَاب.
البَابُ العاشر
في تطيبه ومحبته للطيب صلى الله عليه وسلم
عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حُبِّب إليَّ النساءُ والطيب، وجُعلت قُرَّة عَيْنِي في الصلاة» .
عن أنس قال: «ما شَممْت مِسْكةً ولا عنبرةً أطيبَ من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم».
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيبَ الناس ريحاً، ما شممت رائحةً قط مسكةً ولا عنبرة أطيبَ منه».
عن جابر بن سمرة قال: «مَسْت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنها جُؤنة عَطّار».(1/399)
عن أنس قال: «كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سَلّةٌ يتطيب منها».
عن عائشة قالت: «كان أحبّ الطيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العُود».
عن محمد بن علي قال: سألت عائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعطر؟
قالت: «كان يتعطر بذكَارة المِسْك والعنبر».
عن أنس قال: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عُرض عليه طِيبٌ فردَّه».
أبواب أكله ومأكولاته صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في ذكر مائدته وسفرته صلى الله عليه وسلم
عن الحسن بن مهران قال: سمعت فرقداً صاحب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلت على مائدته».
عن أنس قال: «ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خِوَان ولا في سُكُرّجة، ولا خُبز له مُرقَّق».
فقلت لقتادة: على ما كانوا يأكلون؟
قال: السُّفْرَة.
عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض ويأكل على الأرض».
الباب الثاني
في ذكر قصعته صلى الله عليه وسلم
عن عبدالله بن بشر قال: «كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جَفْنة لها أربع حلَق».
الباب الثالث
في صفة خبزه صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعات طاوياً وأهله لا يجدون شيئاً، وكان أكثر خبزهم الشعير».
عن أبي أمَامة قال: «ما كان يَفْضل عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خبز الشعير».
عن سهل بن سعد قال: (و) قيل له أكَل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النَّقِيَّ؟
قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّقِيَّ حتى لقي الله.
فقيل له: هل كانت لكم مناخل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال: ما كانت لنا مَنَاخل.
قيل: كيف كنتم تصنعون بالشعير؟
قال: كنا ننفخه فيطير منه ما يطير، ثم نعجنه.
عن أنس قال: «ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خِوان ولا أكل خبزاً مُرقّقاً حتى مات».
الباب الرابع(1/400)
في اختياره البقل صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كان أحبُّ الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم البَقْل».
الباب الخامس
في ائتدامه بالخل صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: «كان أحبَّ الصباغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلُّ».
عن أم هانىء قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أعِنْدَكَ شَيءٌ؟»
فقلت: لا، إلا خبز يابس وخَلّ.
فقال: «هَاتِ، مَا أقْفَرَ بَيْت أُدِم فِيه خَلٌّ» .
الباب السادس
في أكله القثاء صلى الله عليه وسلم
عن الربيع بنت معوِّذ قالت: بعثني معاذ بن عَفْراء بقِنَاع من رُطب وعليه جرْو من قِثَّاء زُغْبٍ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب القثاء، فأتيته بها وعنده حِلْية قد قَدِمَتْ عليه من البحرين فملأ يده منها فأعطانيه.
الباب السابع
في أكله الدباء صلى الله عليه وسلم
عن أنس: «أن خياطاً دعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام صنَعه.
قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الطعام، فقرَّب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبزَ الشعير ومرقاً فيه دُبَّاء وقديد.
قال أنس: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتتبع الدُبَّاء من الصَّحفة، فلم أزَل أحب الدبَّاء من يومئذ.
عن أبي طالوت قال: دخلت على أنس بن مالك وهو يأكل القرع وهو يقول: يا لك من شجرة، ما أحبَّك إليَّ لِحُبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك
الباب الثامن
في أكله السمن والأقط صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: أُهْدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم سمن وأقط وضب، فأكل السمن والأقط، ثم قال للضب: «إنَّ هَذا الشَّيء مَا أكَلْتُه قَطُّ، فَمَنْ شَاءَ أنْ يَأْكُلَه فَلْيَأْكُلْ فَأُكِلَ على خِوَانِه» .
الباب التاسع
في أكله الحيس صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: «كان أحبّ الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الثريد من التمر، وهو: الحَيْس».
الباب العاشر(1/401)
في حبه الثريد صلى الله عليه وسلم
عن عكرمة قال: صَنع سعيدُ بن جبير طعاماً ثم أرسل إلى ابن عباس: ائتني أنت ومَنْ أحببتَ من مواليك.
فجاء وجئنا معه، فقال له: ائتنا بالثريد، فإنه كان أحب الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الثريد من الخبز.
الباب الحادي عشر
في جمعه بين طعمين صلى الله عليه وسلم
عن سهل بن سعد الساعدي قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل البطيخ بالرُّطب».
عن عبدالله بن جعفر قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل البطيخ بالرطب».
عن عائشة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه أن يجمع بين البطيخ والرطب».
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الرطب بيمينه، والبطيخ في يساره، ويأكل الرطب بالبطيخ، وكان أحبَّ الفاكهة إليه».
عن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل البطيخ بالرطب والقثاء بالملح».
الباب الثاني عشر
في ذكر أكله اللحم وما كان يختار من الأعضاء صلى الله عليه وسلم
عن عبدالله بن جعفر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي بلحم، فجعل القوم يُلقونه اللحم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطْيَبُ اللَّحْمِ لَحْمُ الظَّهْرِ» .
عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بلحم فرفعت إليه الذراع وكانت تعجبه».
عن أبي عبيد قال: طَبخت للنبي صلى الله عليه وسلم قِدْراً وكان يعجبه الذراع فناولْته الذراع، ثم قال: «نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ» . فناولته. ثم قال: «نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ» فقلت: يا رسول الله، وكم للشاة من ذراع؟
فقال: «والذي نَفْسِي بِيَدِه لَوْ سَكَتَّ لَنَاوَلْتَنِي الذِّرَاعَ مَا دَعَوْتُ» .
عن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعجبه في الشاة إلا الكتف».
الباب الثالث عشر
في أكله القديد صلى الله عليه وسلم
عن جابر بن عبدالله قال: «أكلنا القَديد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم»،(1/402)
الباب الرابع عشر
في أكله الشواء صلى الله عليه وسلم
عن عبدالله بن الحارث قال: «أكلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم شواءً في المسجد».
الباب الخامس عشر
في أكله لحم الدجاج صلى الله عليه وسلم
عن زَهْدم الجَرْميّ قال: كنا عند أبي موسى فقدَّم طعامه وقدم في طعامه دجاجاً، وفي القوم رجل من بني تيم الله فلم يَدْنُ فقال له أبو موسى: «ادْنُ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأَكل لحم الدجاج».
الباب السادس عشر
في أكله لحم الحباري صلى الله عليه وسلم
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: «أكلت مع النبي صلى الله عليه وسلم لحم الحباري».
الباب السابع عشر
في تركه أكل ما يعافه صلى الله عليه وسلم
عن خالد بن الوليد: أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة بنت الحارث وهي خالته، فقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمَ ضَبَ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأَكل شيئاً حتى يعلم ما هو، فقال بعض النسوة: ألا تخبرين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يأكل؟
فأخبرته أنه لحم ضَبَ فتركَه.
قال خالد: فسأَلتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحرامٌ هو؟
قال: «لا، ولكِنَّه طَعَامٌ لَيْسَ فِي قَوْمِي فأَجِدُنِي أعَافُه»
قال خالد: فاجتَررْتُه فأكلته، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ينظر.
أخرجاه.
عن أبي شيخ قال: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يَا مَعْشَرَ مُحَارِبٍ، نَصَرَكُم اللَّهُ لاَ تَسْقُونِي حَلَبَ امْرَأَةٍ» .
قال العسكري: وكان الحلب في النساء عيباً عند العرب يعيَّرون به، وأنشدوا:
كَمْ عَمةٍ لك يا جَرير وخالة
فَدْعاء قد حَلبتْ عَليَّ عِشَارِي قال: ويجوز أن يكون قد كرهه لما يعتري النساء من الحيض وغيره.
قال: ويدل على ذلك ما روى سعيد بن جُبَير قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ ألطف الناس، وكان لا يشرب من ميزابِ الإداوة، ولا يأكل من لحوم الجَلاَّلات من غير تحريم».(1/403)
وقد روى الزهري: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل قاذورة، ولا يأكل الدجاج حتى يُعْلف».
قال: القاذورة ها هنا: الذي يتقذر الشيء، وكأنه كان يجتنب ما تأكل النجاسات حتى تعتلف الطاهر.
ويقال: القاذورة. ويراد به الفعل القبيح. ومنه قوله عليه السلام: «مَنْ أتى شيئاً من هذه القَاذُروَات» .
الباب الثامن عشر
في اجتنابه صلى الله عليه وسلم ما يؤذي ريحه
عن جابر بن سمرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاماً بعث فَضْله إلى أبي أيوب، فأُتي يوماً بقصعة فيها ثوم، فبعث بها فقال: يا رسول الله، أحرام هو؟
قال: «لاَ، ولكنِّي أكْرَه رِيْحَه» .
قال: وإني أكْره ما تكره».
انفرد بإخراجه البخاري.
الباب التاسع عشر
في أكله الجمار صلى الله عليه وسلم
عن ابن عمر قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل جُمَّار نخل».
الباب العشرون
في حبه الحلواء والعسل صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحَلْواء والعَسل».
الباب الحادي والعشرون
في أكله التمر صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: «ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا وإحداهما تمر».
عن ابن عباس قال: «كان أحب التمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العجوة».
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الطعام مما يليه، حتى إذا جاء التمر جالت يده».
عن عبدالله بن بشر قال: «دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه أبي بتمر وسويق، فجعل يأكل التمر ويلقي النوى على ظهر إصبعيه ثم يلقيه».
يعني: السَّبَّابة والوسطى.
الباب الثاني والعشرون
في أكله العنب صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل العنب خَرْطاً».
الباب الثالث والعشرون
في أكله الرطب صلى الله عليه وسلم(1/404)
عن أنس قال: «كنت إذا قدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رطباً أكل الرطب وترك الذَّنَب».
عن جابر بن عبدالله قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب أن يفطر على رُطبات في زمان الرطب، وعلى التمر إذا لم يكن رطب، ويجعلهن وتراً ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً».
الباب الرابع والعشرون
فيما كان يفعل إذا أتي بأول الرطب صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أُتي بالباكورة من التمر قال: «اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِيْنَتِنَا ومُدِّنَا وَصَاعِنَا واجْعَلْ مِن البَرَكَةِ بَرَكَةٌ» . ثم يعطيه أصغر حضَره من الولدان.
الباب الخامس والعشرون
في أكله الخبيص صلى الله عليه وسلم
عن عبدالله بن سَلاَم قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرْبد، فإذا عثمان بن عفان يقود ناقةً حمل عليها دقيقاً وسمناً وعسلاً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنِخْ» . فأناخ، ثم دعا ببُرْمة فجعل فيها من السمن والعسل والدقيق، ثم أمر فأوقد تحتها، حتى أدرك أو قال: «أنْضَج» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُّلوا» . وأكل منه، ثم قال: «هذا شَيءٌ تَدْعُوه فَارِسُ: الخَبِيْصُ» .
الباب السادس والعشرون
في أكله بثلاث أصابع ولعقها صلى الله عليه وسلم
عن كعب بن عجرة قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثلاث: الإبهام والتي تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق الوسطى والتي تليها، ثم الإبهام».
عن ابنٍ لكعب بن مالك، عن أبيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل بثلاث أصابع، ولا يمسح يده حتى يلْعقها».
انفرد بإخراجه مسلم.
الباب السّابع والعشرون
في أكله مما يليه صلى الله عليه وسلم
عن عبد الحكم قال: رآني عبدالله بن جعفر وأنا غلام وأنا آكل من ها هنا وها هنا، فقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل لم تَعْدُ يدُه ما بَيْن يديه».
الباب الثامن والعشرون(1/405)
في أكله مقعياً من الجوع صلى الله عليه وسلم
(عن أنس بن مالك قال: «أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر، فرأيته يأكل وهو مُقْعٍ من الجوع)».
الباب التاسع والعشرون
في أنه لم يأكل متكئاً صلى الله عليه وسلم
عن أبي جُحَيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمَّا أَنا فَلاَ آكُلُ مُتَّكِئاً» .
انفرد بإخراجه البخاري.
الباب الثلاثون
في أنه لم يذمَّ طعاماً صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة قال: «ما عاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط، كان إذا أُتِيَ به إن اشتهاه أكله، وإلا تركه».
أخرجاه.
عن علي بن أبي طالب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يذمُّ ذَواقاً، ولا يمدحه».
الباب الحادي والثلاثون
في أنه كان لا يأكل الصدقة صلى الله عليه وسلم
عن بَهْز بن حكم، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ ولاَ لآلِ مُحَمَّدٍ» .
عن سلمان. أنه أَتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بشيء وقال: هذا صدقة. فقال لأصحابه: «كلوا» . ولم يأكل.
قال: فجئته بشيء، قلت: إني رأيتك لا تأكل الصدقة وهذا هدية. فأكل وأمَر أصحابَه فأكلوا.
عن أبي رافع قال: بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ساعياً على الصدقة، فاستَتْبع أبا رافع، فذكر ذلك أبو رافع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنّ الصَّدَقَةَ حَرَامٌ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ، وإنّ مَوْلَى القَوْمِ من أنْفُسِهِم، أو مِنْهُم» .
عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُتي بطعام سأل عنه: «أهديةٌ هو أَمْ صَدَقَةٌ؟» فإن قيل: صَدَقة قال لأصحابه: «كُلوا» . ولم يأكل. وإن قيل: هدية. ضرب بيده فأكل معهم.(1/406)
وذكر أبو الوفاء بن عقيل: أنه إنما حُرِّمت الصدقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيحت له الهدية؛ لأن الهدية تحيّة، والتَّحايَا معَرَّضة للمقابلة بأحسن منها، وبيتُ النبوة بيتُ المكَارم، والرغبات إليهم في الاستزادة.
والصدقةُ مَرْحمة تقتضي المَسْكَنة، فصِينَ بيتُ النبوة عن ذلك، وعن أن تَعْلُوَ أيديَهم يَدٌ
الباب الثاني والثلاثون
في حمده الله عند الفراغ من الطعام وغسل يده صلى الله عليه وسلم
عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من طعامه ورُفعت مائدته قال: «الحَمْدُ دِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيه، غَيْرَ مَكْفِيَ ولا مُودَّعٍ ولا مُسْتَغْنىً عَنْه رَبَّنا» .
انفرد بإخراجه البخاري.
عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من طعامه قال: «الحَمْدُ دِ الذي أطْعَمَنَا وَسَقَانَا وجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ» .
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه إلى طعام، فذهبنا معه، فلما طَعِم وغسل يده قال: «الحَمْدُ دِ الذي يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ، مَنَّ عَلَيْنَا فَهَدَانَا، وأطْعَمَنَا وسَقَانَا، وكُلَّ بلاءٍ حَسَنٍ بَلانَا. الحَمْدُ دِ غيرَ مُوَدَّعٍ ولا مكافَأٍ ولا مَكْفورٍ ولا مُسْتَغْنًى عَنه، رَبَّنا، الحَمْدُ دِ الذي أَطْعَمَ مِن الطَّعَامِ وسَقَى منَ الشَّرَابِ، وكَسَى من العُرْيِ وهَدَى من الضَّلاَلَةِ وبَصَّرَ مِن العَمَى. الحَمْدُ دِ الذي فَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّن خَلَقَ تَفْضِيلاً. الحَمْدُ دِ رَبِّ العَالَمِينَ» .
عن أبي أيوب الأنصاري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل وشرب قال: «الحَمْدُ دِ الذي أطْعَمَنَا وسَقَانَا وسَوَّغَه وجَعَلَ لَه مَخْرَجًا» .
أبواب شربه ومشروباته صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في أنه كان يستعذب له من الماء صلى الله عليه وسلم(1/407)
عن عائشة قالت: «كان يُسْتعذَبُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماءُ من السُّقْيا».
والسقيا: من أطراف الحَرَّة من أرض بني فلان.
الباب الثاني
في اختياره الماء البائت صلى الله عليه وسلم
عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى قوماً من الأنصار يعود مريضاً، فاسْتَسقَى وجدولٌ قريبٌ منه، فقال: «إنْ كَانَ عِنْدَكُم مَاءٌ قَد بَاتَ فِي شَنِّ، وإلاَّ كَرَعْنَا» .
انفرد بإخراجه البخاري.
الباب الثالث
في اختياره الماء البارد صلى الله عليه وسلم
عن عبادة بن الوليد، عن جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان له رجل من الأنصار يُبْرد الماءَ في أَشْجاب، أو على جُمَّارة من جريد».
عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلو البارد».
الباب الرابع
في ذكر الآنية التي كان يشرب منها صلى الله عليه وسلم
عن عيسى بن طَهْمان (عن ثابت)، قال: أخرجَ لنا أنس بن مالك قَدح خشب غليظ مُضَبَّب بحديد، فقال: يا ثابت، هذا قدحُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن أنس (قال): لقد سَقيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بهذا القدح الشرابَ كله: الماء، والنبيذ، والعسل، واللبن.
عن محمد بن إسماعيل قال: دخلت على أنس فرأيت في بيته قدحاً من خشب، فقال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب فيه ويتوضأ».
عن ابن عباس: أن صاحب إسكندرية بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح قَوَارير، فكان يشرب منه.
الباب الخامس
في شربه اللبن صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: «كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن».(1/408)
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن أطْعَمَه اللَّهُ طَعَاماً فَلْيَقُل: اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيه وابْدِلْنا بِه مَا هو خَيْرٌ مِنه، ومَنْ سَقَاه اللَّهُ لَبَناً فَلْيَقُل: اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيه وزِدْنا مِنه، فإنَّا لا نَعْلَمُ يُجْزِىءُ مِن الطَّعَامِ والشَّرَابِ غَيْرُه» .
الباب السادس
في شربه النبيذ، وصفة ذلك النبيذ صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: كنا نَنْبذ للنبي صلى الله عليه وسلم غدوةً فيشربه بالعشيّ، وننبذ له بالعشيّ فيشربه بالغداة.
الباب السابع
في شربه السويق صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كنت أسقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القدح اللبن، والعسل، والسَّويق، والنبيذ، والماء البارد».
الباب الثامن
في كيفية شربه صلى الله عليه وسلم
عن ربيعة بن أكثم قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك عَرْضاً، ويشرب مصّاً ويقول: هو أَهْنَأُ وأَمْرَأُ»
الباب التاسع
في تنفسه في الإناء ثلاثاً صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتنفّس في الإناء ثلاثاً».
أخرجاه.
والمعنى: كان يتنفس في الشُّرب من الإناء ثلاثاً.
وقد روى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا شَرِبَ أحَدُكُم فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإنَاءِ» .
وبيان ما قلنا: ما رَوى أنس بن مالك أنه رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم شَرب جرعةً ثم قطع، ثم سَمَّى ثم جرع، ثم قطع ثم سَمَّى ثم جرع، ثم قطع، ثلاثاً حتى فرغ، فلما فرغ حمد الله.
عن ابن مسعود قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شرب تنفس على الإناء ثلاث أنفاس، يحمد الله على كل نفَس ويشكره عند آخرهن».
الباب العاشر
في شربه قاعداً وقائماً صلى الله عليه وسلم
عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قاعداً وقائماً، وصلى حافياً ومنتعلاً، وانصرف عن يمينه وشماله».
الباب الحادي عشر(1/409)
في شربه بعد أصحابه إذا سقاهم صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقي أصحابه. قالوا: يا رسول الله، لو شربتَ.
قال: «سَاقِي القَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْباً» .
الباب الثاني عشر
في مناولته من عن يمينه صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلبْنا له من شاةٍ داجن، وشِيبَ له من بئر في الدار، وأعرابيٌّ عن يمينه، وأبو بكر عن يساره، وعمر ناحيةً، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أعطِ أبا بكر، فناوله الأعرابيَّ وقال: «الأيْمَنَ فَالأَيْمَنَ» .
عن سهل بن سعد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي بشراب فشرب منه، وعن يمينه أعرابي، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: «أتَأْذَنُ فِي أنْ أُعْطِي هَؤُلاَءِ؟» .
فقال: «والله لا أوثر نصيبي منك أحداً» فتلّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في يد.
الحديثان في الصحيحين. ومعنى تلّه: ألقاه.
أبواب: نومه صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في مسامرته صلى الله عليه وسلم أزواجه بالليل
عن عائشة قالت: حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً نساءه حديثاً، فقالت امرأة منهن: «كان الحديث حديثَ خُرَافة».
فقال: «أتَدْرُونَ مَا خُرَافَة؟» .
كان رجلاً من عُذْرة أسَرتْه الجن في الجاهلية، فمكث فيهم دهراً ثم رَدُّوه إلى الإنس، فكان يحدثهم بما رأى فيهم من الأعاجيب، فقال الناس: حديث خرافة».
قال المصنف: ومن هذا الفن حديث أم زَرْع، وهو معروف.
الباب الثاني
في صعوده صلى الله عليه وسلم ونزوله ليلة الجمعة
عن ابن عباس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الصيفُ خرج من البيت ليلة الجمعة، وإذا كان الشتاء نزل ودخل البيت ليلة الجمعة».
البابُ الثالث
في وضوئه قبل النوم صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جُنب غسل فرجه وتوضأَ وضوءه للصلاة».
أخرجاه.(1/410)
البَابُ الرّابع
في اكتحاله عند نومه صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإثمد كلَّ ليلة قبل أن ينام، وكان يكتحل في كل عين ثلاثة أميال».
البَابُ الخامِس
في صفة فراشه الذي كان ينام عليه بالليل صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: «كان ضِجَاع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه بالليل من أدم محشوًّا ليفاً».
البَابُ السّادس
فيما كان يصنع إذا أتى الفراش صلى الله عليه وسلم
عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى فراشه في كل ليلة جمَع كفيه ثم نَفث فيهما وقرأ فيهما: {قل هو الله أحد} و {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أَقْبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات».
أخرجاه.
عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: «اللهُمَّ ربَّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبِّ الأَرْضِينَ قُدْسًا، وَرَبَّ كُلِّ شَيءٍ، فَالِقَ الحَبِّ والنَّوَى، مُنَزِّلُ التَّوْرَاةَ والإنْجِيْلَ والزَّبُورَ والفُرْقَان، أعوذُ بِكَ منْ شَرِّ كُلِّ شَيءٍ أنْتَ آخذٌ بِنَاصِيَتِه، أنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيءٌ، وأنْتَ الآخِرُ فلَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ وأنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيءٌ، وأنْتَ البَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيءٌ اِقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وأعْنِنِي مِن الفَقْرِ» .
الباب السابع
في كيفية نومه، وما كان يقوله عند النوم صلى الله عليه وسلم(1/411)
عن البَراء بن عازب قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن ثم قال: «اللهُمَّ إنِّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إليْكَ ووَجَّهْتُ وجْهِي إليْكَ وألجَأتُ ظَهْرِي إليْكَ، رَغْبَةً ورَهْبَةً إليْكَ، لا مَلْجَأَ ولا مَنْجَى مِنْكَ إلا إليْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الذي أنْزَلْتَ ونَبِيِّكَ الذي أرْسَلْتَ» .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن قَالَهُنَّ ثمَّ مَاتَ من لَيْلَتِه مَاتَ عَلَى الفِطْرَةِ» .
عن حذيفة بن اليمان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه قال: «الحَمْدُ دِ الذي أحْيَانَا بَعْدَ مَا أمَاتَنَا وإليْهِ النُّشُورُ» .
الباب الثامن
في ما كان يقوله إذا استيقظ صلى الله عليه وسلم
عن أبي ذر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ قال: «الحَمْدُ دِ الذي أحْيَانَا بَعْدَمَا أمَاتَنَا وإليْهِ النُّشُورُ» .
عن ابن عباس: أنه بات عند خالته ميمونة، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى (إذا) انتصف الليل أو قبْله بقليل أو بعده بقليل، استيقظ فجعل يمسح النومَ عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران، ثم توضأ وقام يصلي.
عن شمر بن عطية قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقلت: لاَرْمقنَّ الليلة كيف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلما صلى العشاء اضطجع فنام هَوِيًّا من الليل ثم استيقظ فنظر في السماء فقال: {ربَّنا ما خلقت هذا باطلاً} إلى قوله: {إنك لا تُخْلف الميعادَ} .
الباب التاسع
في أنه تنام عيناه ولا ينام قلبه صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، أتنام قبلَ أن تُوتِر؟
قال: «يَا عَائِشَةُ، إن عَيْنَيَّ تَنَامَان ولاَ يَنَامُ قَلْبِي» .
فإن قال قائل: إذا كان نومه يساوي نومَنا في انطباق الجفن وعدم السماع، حتى أنه نام عن الصلاة فما أيقظه إلا حَرُّ الشمس، فما وَجْه الفَرْق؟(1/412)
فقد أجاب عنه ابن عقيل، فقال: النومُ يتضمَّن أمرين:
أحدهما: راحة الجسد، وهو الذي يشاركنا فيه.
الثاني: غفلةُ القلب. وقَلْبُه كان متيقظاً سليماً من الأحلام، مُتلقياً للوحي في المنام، متفكراً في المصالح على مثل ما يكون المتنبِّه، فما يَغْفل قلبُه بالنوم عما وضِع له، وقد كان يُغْشَى عليه عند نزول الوحي ويستطرح، وهي حالةٌ لو أصابت بعضَ أمته انتفض وضوءه، وهو كان في تلك الحالة حافظاً محفوظاً من غَلَبات الطبع واسترخاء مخارج الحدَث، فهو غائب عنا حينئذ بحال. فالله سبحانه يسيِّر إليه ما يشاء.
وأمّا نومُه حتى طلعت الشمس، فله وجهان:
أحدهما: أنه أريد بذلك أن يَشْرع ما يتعبَّد به ويسهو ويَغفل. وهذا كإعدامه الماء حتى تيمم.
والثاني: أن يكون ذلك جرَى لانكشاف علوم تخصُّه من المعارف عطَّلته عن القيام بحقوق الظواهر، لاشتغال الباطن بأدب التلقِّي، كما قال من مَلَكه ذكْرُ محبوبه:
فوالله ما أَدْرِي إذا ذكرتُها
أثِنْتَيْنِ صليتُ العِشَا أَمْ ثمانيَا
وما زالت مُهمَّات القلوب تُخلُّ بالأعمال (و) الأركان.
الباب العاشر
في ذكر بعض مناماته صلى الله عليه وسلم
عن سَمُرة بن جندب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّى صلاةَ الغداة أَقْبل علينا بوجهه فقال: «هل رأى أحدٌ منكم الليلةَ رؤيا؟» فإن كان أحدٌ رأى رؤيا قَصَّها عليه، فيقول فيها ما شاء الله أن يقول.
فسألَنا يوماً فقال: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُم اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟»
قلنا: لا.
قال: «لكنِّي رَأَيْتُ الليْلَةَ رَجُلَيْن أتَيَانِي فأَخَذَا بِيَدِي فأَخْرَجَانِي إلى فَضَاءٍ أوْ أرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ، فمَّرا بِي عَلَى رَجُلٍ، وإذا آخَرَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِه بِيَدِه كَلوبٌ مِن حَدِيْد، فَيُدْخِلُه فِي شِدْقِه فَيَشُقَّه حتَّى يَبْلُغَ قَفَاه، ثم يُخْرِجَه فَيُدْخِلَه فِي شِدْقِه الآخَرَ، ويَلْتَئِم هذا الشِّدْقِ. فهو يَفْعَلُ ذَلِكَ بِه» .
«(1/413)
فَقُلْتُ: مَا هَذا؟»
«قَالا: انْطَلِق. فانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، فإذا رَجُلٌ مُسْتَلْق عَلَى قَفَاه، ورَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِه فِهْرٌ أو صَخْرَةٌ فيَشْدَخُ بِهَا رَأْسَه فيتدَهْدَه الحَجَرُ، فإذا ذَهَبَ ليَأْخُذَه عَادَ رَأسُه كَمَا كان، فيَصْنَعُ مِثْلُ ذَلك» .
«فَقُلتُ: ما هذا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ» .
«فانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، فإذا بَيْتٌ مَبْنِيٌّ عَلَى بِنَاءِ التَّنُّورِ أعْلاَه ضَيِّقٌ وأسْفَلُه واسِعٌ، تُوقَدُ تَحْتُه نَارٌ، فِيه رِجَالٌ ونِسَاءٌ عرَاةٌ، فإذا أوْقِدَتْ ارْتَفَعوا، حتَّى كَادُوا أن يَخْرُجوا، فإذا خَمَدَتْ رَجَعوا فيها» .
«فقلتُ: ما هذا؟ قالا: انْطَلِقْ» .
«فانْطَلَقْتُ فإذا نَهْرٌ مِن دَمٍ فِيه رَجُلٌ وعَلَى شَاطِىءِ النَّهْرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْه حِجَارَةٌ، فيُقْبلُ الرَّجُلُ الذي فِي النَّهرِ فإذا دَنَا ليَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ في فِيْه حَجَراً فَرَجَعَ إلى مَكَانِه، فَهو يَفْعَلُ ذلك به.
فقلت: ما هذا؟ قالا: انْطَلِقْ» .
«فانْطَلَقْتُ فإذا رَوْضَةٌ خَضْرَاءُ فِيها شَجَرَةٌ عَظِيْمَةٌ، وإذا شَيْخٌ في أصْلِها حَوْلَه صِبْيَانُ، وإذا رَجُلٌ قَرِيْبٌ منه حَوْلَه نَارٌ يَحُشُّها ويَسْعَى حَوْلَهَا، فَصَعِدا بي في الشَّجَرَة فأدْخَلانِي دَاراً (ثم أدْخَلاَنِي دَاراً) هي أحْسَنُ وأفْضَلُ، فيها شُيوخٌ وشَبَابٌ» .
«فقلتُ لهما: إنَّكُمَا طَوَّفْتُمَا بِيَ الليْلَة، فَاخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ. قَالاَ: نَعَمْ» .
«أما الرَّجُلُ الأوَّلُ الذي رَأيْتَ فإنَّه كَذَّابٌ يُكَذِّبُ الكِذْبَةَ فتُحْمَلُ عَنْه حتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فهو يُصْنَعُ به ما رَأَيْتَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَصْنَعُ اللَّهُ به مَا شَاءَ» .
«(1/414)
وأما الرَّجُلُ الذي رَأَيْتَ مُسْتَلْقِياً فَرَجُلٌ آتَاه اللَّهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى القُرْآنُ فَنَامَ عنه بالليْلِ ولَمْ يعْمَلْ بِمَا فِيه بالنَّهَارِ، فهو يُفْعَلُ به ما رَأيْتَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ» .
«وأما الذي رأَيْتَ في التَّنُّورِ فهُم الزُّنَاةُ والزَّوَانِي» .
«وأما الذي رَأَيْتَ في النَّهْرِ فآكِلُ الرِّبَا» .
«وأما (الشَّيْخُ) الذي رَأَيْتَ في أصْلِ الشَجَرَةِ فهو إبْرَاهِيْمُ الخَلِيْلُ، وأمَّا الصِّبْيَانُ الذينَ حَوْلَه فأوْلاَدُ النَّاسِ» .
«وأما الرَّجُلُ الذي رَأَيْتَ يوقِدُ النَّارَ ويَحُشُّهَا فَذَاكَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ وتِلْكَ النَّارُ» .
«وأما الدَّارُ التي دَخَلْتَ أوَّلاً فَدَارُ عَامَّةِ المُؤْمِنِينَ. وأمَّا الدَّارُ الأَخْرَى فَدَارُ الشُهَدَاءِ» .
«وأنَا جِبْرِيْل، وهذا مِيْكَائِيَلُ. ثُمَّ قَالا لِي: ارْفَعْ رَأْسَكَ، فإذا كَهَيْئَةِ السَّحَابِ فَقَالا: وتِلْكَ دَارُكَ. فَقُلتُ: دَعَانِي أدْخُلُ دَارِي. فقالا: إنَّه قَدْ بَقِي لَكَ عَمَلٌ لَمْ تَسْتَكْمِلُه، فَلَوْ قَدْ اسْتَكْمَلْتَه لَدَخَلْتَ دَارَكَ» .
أخرجاه.
عن سالم عن أبيه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدِّث قال: «بَيْنَا أنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أُتِيْتُ بِقَدَحٍ فَشَرِبْتُ مِنْه حتَّى إنِّي أرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ مِن أظْفَارِي، ثُمَّ أُعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ» .
قالوا: ما أوَّلتَ ذلك يا رسول الله؟
قال: «العِلْمُ» .
أخرجاه.
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا أَنا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وعَلَيْهِم قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثَّدْيَ ومِنْهَا ما دُونَ ذَلِكَ، وعُرِضَ عَلَيّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وعَلَيْه قَمِيْصٌ يَجُرُّه» .
قالوا: فما أوَّلت ذلك يا رسول الله؟
قال: «الدِّين» .
أخرجاه.(1/415)
عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيتُ النَّاسَ مُجْتَمِعِيْنَ في صَعِيْدٍ، فَتَقَدَّم أبو بَكْرٍ فَنَزَعَ ذَنُوباً أوْ ذَنُوبَيْن، وفي نَزْعِه ضَعْفٌ، واللَّهُ يَغْفِرُ له، ثُمَّ أخَذَهَا عُمَرُ فاسْتَحَالَتْ غَرْباً، فَلَمْ أرَ عَبْقَرِّياً في النَّاس يَفْرِي فَرِيَّه، حتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَن» .
أخرجاه.
عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَا أَنا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الجَنَّةِ، فإذا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إلى جَانِبِ قَصْرِ فَقُلتُ: لِمَنْ هذا القَصْرُ؟ قالوا: لِعُمَرَ. فَذَكَرْتُ غَيْرتَكَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِراً» .
فبكى عمر وقال: أو عليك أغار يا رسول الله.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيتُ كأنِّي أَنْزَعُ عَلَى غَنَمٍ سُوْدٍ مُخَالِطُها غَنَمٌ عُفْرٌ، إذ جَاءَ أبو بَكْرٍ فنَزَعَ ذَنُوباً أو ذَنوبَيْن، وفي نَزْعِه ضَعْفٌ، ويَغْفِرُ اللَّهُ لأَبِي بَكْرٍ، إذ جَاءَ عُمَرُ فأَخَذَ الدَّلْوَ فاسْتَحَال غَرْباً فأرْوَى النَّاسَ وصَدَرُ الشَّاءُ، فَلَمْ أرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّه» .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأوَّلتُ أنَّ الغَنَمَ السُّودَ العَرَبُ، وأنَّ العُفْرَ إخْوَانُهُم من هذه الأعاجِمُ» .
عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رَأيتُ كَأَنِّي الليْلَةَ في دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ، فأُتِيْتُ بتَمْرٍ منْ تَمْرِ ابْنِ طَابٍ. فأوَّلتُ أنَّ لنَا الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا والعَاقِبَةَ فِي الآخِرَةِ، وأنَّ دِيْنَنَا قَدْ طَابَ» .
عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رَأيْتُ كَأَنِّي أُتِيْتُ بِمِكْيَلَةِ تَمْرٍ فَعَجَمْتُها فِي فَمِي فَوَجَدَتُ فِيها نَوَاةً آذَتْنِي، فَلَفَظْتُها، ثُم أخَذْتُ أخْرَى فَعَجَمْتُها، فوَجَدْتُ فِيها نَوَاةً فَلَفَظْتُها» .(1/416)
فقال أبو بكر: دَعْني فلأعْبرها.
فقال: «اعْبُرْهَا» .
قال: هو جيشك الذي بعثتَ، يَسْلمون ويغنمون، فيلقَوْن رجلاً فَينْشدهم ذمتك فَيَدعونه، ثم يَلقَوْن رجلاً فينشدهم ذمتك فيدَعونه، ثم يَلْقون رجلاً فينشدهم ذمتك فيدَعونه.
قال: «كَذلكَ قَالَ المَلَكُ» .
عن ابن مسعود قال: أكرَيْنَا الحديثَ ذات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم غَدَوْنا عليه فقال: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الأنْبِيَاءُ اللَّيْلَة بأُمَمِها، فَجَعَلَ النَّبِيُّ يَمُرُّ ومَعَه الثَّلاَثَة، والنَّبِيُّ ومَعَه النَّفَرُ، والنَّبِيُّ وليْسَ مَعَه أحَدٌ، حتَّى مرَّ مُوسَى بْنَ عِمْرانَ ومَعَه كُبْكُبَةً مِن بَنِي إسْرَائِيْلَ، فأعْجَبُونِي فقُلْتُ: مَنْ هَؤلاَءِ؟ قال: أخُوكَ مُوسَى مَعَه بَنُو إسْرَائِيْلَ» .
«فقُلتُ: أيْنَ أمَّتِي؟ فَقِيْل لِي: انْظُرْ عَنْ يَمِيْنِكَ. فَنَظَرْتُ فإذا الظِّرَابُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوه الرِّجَالِ. فَقِيل لي: أَرَضِيْتَ؟ قلتُ: يَا رَبِّ رَضِيْتُ» .
«فقيْلَ، إنَّ مَع هَؤلاَءِ سَبْعِينَ ألفاً يَدْخُلونَ الجَنَّة بِغَيْر حِسَابٍ» .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «فِدَاكُم أَبِي وأُمِّي إنْ اسْتَطَعْتُم أنْ تَكُونُوا منَ السَّبْعِينَ فَافْعَلُوا، فإن قَصَّرْتُم فكُونُوا منْ أهْلِ الظِّرَابِ، فإنْ قصَّرْتُم فكونُوا منْ أهْلِ الأُفُقِ، فإنِّي قَدْ رَأيْتُ نَاساً يَتَهَاوَشُونَ» .
فقال عُكَّاشة بن مِحْصَن فقال: ادع الله لي يا رسول الله أن يجعلني من السبعين. فدعا له.
قال: ثم تحدثنا فقال: «مَنْ تَرَوْنَ هَؤلاَءِ السَّبْعِينَ الأَلْفِ؟»
(فقلنا): قومٌ ولِدوا في الإسلام ثم لم يشركوا بالله شيئاً حتى ماتوا.
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «هُم الذينَ لا يَكْتَوونَ ولا يَسْتَرِقُون ولا يَتَطيَّرونَ وعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَ» .
أكريْنَا: بمعنى أطَلْنَا.
والظِّراب: صغار الجبال.(1/417)
ويتهاوشون: يَدْخل بعضهم في بعض.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا أنَا نَائِمٌ إذْ أوتِيْتُ خَزَائِنَ الأرْضِ فَوُضِعَ فِي يَدَيَّ سِوَارَانِ منْ ذَهَبٍ فَكَبُرَا عَلَيَّ وأهَمَّانِي. فأُوْحِيَ إليَّ أنْ أنْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا فأوَّلْتُهُمَا الكذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أنا بَيْنَهُمَا، صَاحِبُ صَنْعَاءَ وصَاحِبُ اليَمَامَةِ» .
عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رَأيْتُ امْرأةُ سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأسِ خَرَجَتْ مِن المَديْنَةَ حتَّى قَامَتْ بِمَهِيْعَةَ، فأَوّلْتُ أنَّ وبَاءَ المَدِيْنَةِ نُقِلَ إلى مَهْيعَةَ وهي الجُحْفَةُ» .
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَيْنا أنا نَائِمٌ أُعْطِيْتُ مَفاتِيْحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا حتَّى وُضِعَتْ فِي كَفِّي» .
عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل على أم حرَام بنت ملْحان فتطعمه، وكانت تحت عُبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فأطعمته، ثم جلست تفلِّي رأسه، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم استيقظ وهو يضحك (قالت): فقلت: يا رسول الله، ما يضحكك؟
قال: «نَاسٌ مِن أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً في سَبِيْلِ الله يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هذا البَحْرِ مُلُوكاً على الأسِرَّة أو مِثْلَ المُلوكِ عَلَى الأسِرَّةِ. شَكَّ أيُّهُمَا قَال» .
فقلت: يا رسول الله، أدع الله أن يجعلني منهم.
قال: «أنْتِ مِنْهم» .
ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك. فقلت: «ما أضْحَكَكَ يا رَسُولَ الله؟»
قال: «نَاسٌ مِنْ أمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غزاةً في سبيل الله. كَمَا قَالَ فِي الأُولَى» .
قالت: فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم.
قالت: «أنتِ من الأوَّلِينَ» .
فركبتْ أمُّ حِرَام البحر في زمن معاوية، فصُرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت.(1/418)
عن عبد الرحمن بن سَمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ ونحن في مسجد المدينة، قال: «إنِّي رَأَيْتُ الليْلَةَ عَجَباً» .
قالوا: وما هو يا رسول الله؟
قال: «رأيْتُ رَجُلاً مِن أمَّتِي قَد احْتَوَشَتْه الشَّيَاطِينُ فَجَاءَه ذِكْرُ الله عَزَّ وجَلَّ فخَلَّصَه من بَيْنِهم» .
«ورَأَيْتُ رَجُلاً من أمَّتِي احَتَوشَتْه مَلاَئِكَةُ العَذَابِ فَجَاءَتْه صَلاتُه فَاسْتَنْقَذَتْه من أيْدِيْهِم» .
«ورأيتُ رجُلاً من أمَّتِي يَلْهَثُ عَطَشاً كُلَّمَا ورَدَ حَوْضًا مُنِع، فَجَاءَه صَوْمُ رمَضَانَ فَسَقَاه وأَزوَاه» .
«ورأيتُ رجُلاً من أُمَّتي والنَّبِيُّونَ قُعُودٌ حَلَقاً حَلَقاً كُلَّمَا دَنَا مِن حَلَقَةٍ رُدَّ، فَجَاءَه اغْتِسَالَه من الجَنَابَةِ فأخَذَ بِيَدِه وأجْلَسَه إلَى جَنْبِي» .
«ورأيتُ رَجُلاً مِنْ أمَّتِي مِنْ بيْنِ يَدَيْه ظُلْمَةٌ، ومن خَلْفِه ظُلْمَةٌ، وعن يَمِيْنِه ظُلْمَةٌ. وعنْ شِمَالِه ظُلْمَةٌ، ومن فَوْقِه ظُلْمَةٌ، ومنْ تَحْتِه ظُلْمَةٌ، وهو مُتَحَيِّرٌ فِيها، فَجَاءَه حَجُّه وعُمْرَتُه فاسْتَنْقَذَاه من الظُّلمَة وأدْخَلاَه النُّورَ» .
«ورأيتُ رجُلاً من أمَّتِي يُكَلِّمُ المُؤمِنينَ ولا يُكَلِّمونَه فَجَاءَتْه صِلَةُ الرَّحِمِ فَقَالت: يا مَعْشَرَ المُؤمِنينَ، كَلِّمُوه فَإنَّه كانَ وَاصِلاً لِرَحِمِه. فكَلِّمُوه وصَافَحُوه» .
«ورأيتُ رجُلاً مِن أمَّتِي يَتَّقِي وَهَجَ النَّار وضَرَرَها بِيَدِه عَن وَجْهِه، فجَاءَتْه صَدَقَتُه فَصَارَتْ سِتْراً عَلَى رَأْسِه وظِلاًّ عَلَى وَجْهِه» .
«ورأيتُ رَجُلاً من أمَّتِي قد أخَذَتْه الزَّبَانِيَةُ منْ كُلِّ مَكَانٍ فَجَاءَه أَمْرُه بالمَعْروفِ ونَهْيُه عن المُنْكَرِ فاسْتَنْقَذَاه منْ أيْدِيهِم وأدْخَلاَه في مَلاَئِكَةِ الرَّحْمَةِ فَصَارَ مَعَهُم» .
«(1/419)
ورأيتُ رَجُلاً من أمَّتِي جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْه بَيْنَه وبَيْنَ الله حِجَابٌ، فَجَاءَه حُسْنُ خُلُقِه فأخَذَ بِيَدِه فَأدْخَلَه عَلَى الله عَزَّ وجَلَّ» .
«ورأيْتُ رَجُلاً من أمَّتِي قَدْ هَوَتْ صَحِيْفَتُه قِبلَ شِمَالِه، فَجَاءَه خَوْفُه منَ الله تَعَالَى فَأخَذَ صَحِيْفَتَه فَجَعَلَها في يَمِيْنِه» .
«ورأيْتُ رَجُلاً من أمَّتِي خَفَّ مِيْزَانُه، فَجَاءَتْه أَفْرَطَاه، يَعْنِي أوْلاَدَه الصِّغَارُ، فَثَقَّلوا مِيْزَانَه» .
«ورأيْتُ رَجُلاً من أمَّتِي عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ، فَجَاءَه وَجَلُه مِنَ الله تَعَالَى فاسْتَنْقَذَه مِن ذَلك» .
«ورَأيْتُ رَجُلاً من أمَّتِي قَائِمًا عَلَى الصِّراطِ يُرْعِد كَمَا تُرْعِد السَّعْفَةُ في رِيْحٍ عَاصِفٍ، فجَاءَه حُسْنُ ظَنِّه بالله فَسَكَّنَ رَوْعَتَه ومَضَى عَلَى الصِّرَاطِ» .
«ورَأيْتُ رَجُلاً من أمَّتِي يَحْبُو أحْيَاناً ويَتَعَلَّقُ أحْيَاناً، فَجَاءَتْه صَلاَتُه عَلَيَّ فَأخَذَتْ بِيَدِه فَأقَامَتْه عَلَى الصِّراطِ ومَضَى» .
«ورأيْتُ رَجُلاً من أمَّتِي انْتَهَى إلَى أبْوَابِ الجَنَّةِ فَغُلِّقَتْ الأبْوابُ دُونَه، فَجَاءَتْه شَهَادَةُ أنْ لاَ اله إلاَّ اللَّهُ فَفَتَحَتْ الأبْوَابَ وأدْخَلَتْه الجَنَّةَ» .
أبواب طِبِّه صلى الله عليه وسلم
البابُ الأول
في كثرة أمراضه صلى الله عليه وسلم
عن هشام قال: كان عُرْوة يقول لعائشة: لا أَعْجبُ من فقهك، أقول: زوجةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنةُ أبي بكر. ولا أَعْجبُ من عِلْمك بالشعر وأيام الناس، أقول: ابنة أبي بكر، ولكن أَعْجبُ مِنْ عِلْمك بالطِّب
فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان سَقِيماً في آخر عمره، فكانت تَقْدَم عليه وفودُ العرب من كل وَجْه فَتَنْعتُ الأنعاتَ، فكنت أعالجها، فمِنْ ثَمَّ».
الباب الثاني
في أنه سحر صلى الله عليه وسلم(1/420)
عن عائشة قالت: «سَحر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يهوديٌّ من يهود بني زُريق يقال له لَبيد بن أَعْصم، حتى كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يخيَّل إليه أنه يَفْعل الشيءَ وما يفعله».
قالت: «حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا. ثم قال: «يَا عَائِشَةُ أشَعَرْتِ أنَّ اللَّهَ أفْتَانِي فِيْمَا اسْتَفْتَيْتُه فِيه؟ جَاءَنِي رَجُلانِ فَجَلَس أحَدُهُمَا عِنْدَ رَأسِي والآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَال الذي عنْدَ رِجْلَيَّ للذي عِنْدَ رَأسِي: ما وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قال: مَطْبوبٌ. قال: ومَنْ طَبَّه؟ قال: لَبِيْدُ بْنُ الأعْصَمِ. قال: في أيِّ شَيءٍ؟ قال: في مُشْطٍ ومُشَاطَةٍ وجُفّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ. قال: فأين هو؟ قال: في بِئْرِ ذروان» .
قال فأتاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ناسٍ من أصحابه، ثم جاء فقال: «يَا عَائِشَةُ، لَكأنَّ ماءَهَا نُقاعَةُ الحِنَّاءِ وأنَّ نَخْلَهَا رُؤوسُ الشَّيَاطِينِ» .
قلت: يا رسول الله. أفلا نقتله؟
قال: «لا أمَّا أنا فَعَافَانِي اللَّهُ، وكَرِهْتُ أن أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شرًّا» .
قالت: فأمر بها فدفنت.
أخرجاه.
الباب الثالث
في ذكر حجامته صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: «احتجمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو مُحْرم في رأسه، من صداع كان به أو شيء كان به».
أخرجاه.
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم ثلاثاً؛ واحدةً على كاهله واثنتين على الأخْدعين».
الكاهل: موصل العنق في القلب.
والأخدعان: عرقان في العنق.
عن ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحتجم في رأسه. ويسمِّيه أمَّ مُغيث».
عن أنس بن مالك: أنه سئل عن كَسْب الحجَّام فقال: «احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حَجَمه أبو طيبة، فأمَر له بصاعين من طعام وكلَّم أهلَه فوضعوا عنه من خَراجه، وقال: «إنّ أفْضَلَ ما تَدَاوَيْتُم بِه الحِجَامَةُ» .(1/421)
عن أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو مُحْرمٌ بمَلَل على ظهر القدَم».
عن عليَ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأمَرني أن أُعطي الحَجَّام أجره».
عن أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين».
البابُ الرابع
في تداويه بالحناء صلى الله عليه وسلم
عن سلمى قالت: «كنت أخْدم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فما كانت تصيبه قَرْحة، ولا نكبةٌ إلا أمرني أن أضع عليها الحناء».
أبواب نكاحه صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في تحبيب النساء إليه صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حُبِّبَ إليَّ منَ الدُّنْيَا الطِّيْبُ والنِّسَاءُ وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاَةِ» .
قال ابن عقيل: إنما قال صلى الله عليه وسلم: «حُبب إليّ من الدنيا» لإقامة العذر وبراءة النفس من الانتماء إلى مَحبَّة الدنيا بمجرد الاختيار.
«وجعلت قرة عينه في الصلاة» لظهور آثارٍ من العبودية بها يظهر ما لا يظهر في سائر العبادات.
قال المصنف: وهذا الكلام لا أرتضيه لأن مضمونه وضع فيما غيرُه أصْلَح، فأنا معذور.
وإنما الصواب أنْ يقال: إنه لمَّا عَظَّمَ من التناسل لإيجاد الموحِّدين (حُبِّب) فيه لينسخ حالُه غيرَه. وأمّا الطِّيب فإنه من الأدب في خدمة الحق ولقاء الخَلْق. وأما الصلاة فإنها لمّا كانت في الدنيا نُسبت إليها.
الباب الثاني
في ذكر أزواجه وعددهن صلى الله عليه وسلم
1 ــــ أول أزواجِ رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خُوَيلد.
وقد سبق ذكرُ تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بها. وتوفيت بعد أن مضى من النبوة سبعٌ، وقيل: عَشْر، قبل أن تُفْرض الصلوات الخمس.(1/422)
ولم ينكح غيرَها حتى ماتت، وكانت تُنْفق عليه، وكان يكرمها بعد موتها كثيراً ويُهْدي إلى صدائقها. ودخلت عليه أم أزفر ماشطة خديجة فأكرَمها وقال: «هذه كَانَتْ تَغْشَانَا فِي عَهْدِ خَدِيْجَةَ، وإنّ حُسْنَ العَهْدِ مِنَ الإيْمَانِ» .
عن عبد الرحمن بن زيد قال: إن آدَم عليه السلام ذكرَ محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: «إنّ مَا فُضِّل بِه عَلَيَّ ابْنِي صَاحِبُ البَعِيْرِ أن زَوْجَتَه كانَتْ عَوْناً له فِي دِيْنِه، وكانَتْ زَوْجَتِي عَوْناً لي عَلَى الخَطِيْئَةِ» .
قال المصنف: يشير إلى خديجة عليها السلام.
وسيأتي هذا الحديث مرفوعاً في فضله على الأنبياء.
2 ــــ سَوْدَة بنت زَمْعة. كانت تحت السَّكْران بن عمرو، فأسلمَا وهاجَرا إلى أرض الحبشة، فمات زوجُها، فتزَّوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجَر بها، فلما كبرت أراد طلاقها فسألته أن لا يفعل وجعلت ليلتها لعائشة.
3 ــــ عائشة بنت أبي بكر. تزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست سنين، وبنَى بها وهي بنت تِسْع، ولم ينكح بِكْراً غيرَها. وبقيت معه تسعَ سنين.
4 ــــ حفصة بنت عمر. كانت عند خُنَيس بن حُذَافة، وهاجرت معه إلى المدينة فمات عنها، فتزوّجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلقها تطليقةً، فقال له جبريل: إن الله يأمرك أن تراجِع حفصة فإنها صوَّامة. فراجَعها.
وقيل: إنما هَمَّ بطلاقها ولم يفعل.
5 ــــ أُم سَلَمة واسمها هند بنت أبي أُمية، واسمه سهل، كانت عند أبي سلمة فهاجر بها إلى أرض الحبشة وتوفي سنة أربع، فتزوَّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6 ــــ أُم حَبيبة: واسمها رَمْلة بنت أبي سفيان، كانت عند عُبيد الله بن جحش، هاجرا إلى الحبشة فتنصَّرَ عُبيدُ الله، فبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أُمية الضَّمْري إلى النجاشي ليزوجها إياه، فوكَّلَت خالدَ بن سعيد بن العاص فزوَّجها إياه.(1/423)
7 ــــ زينب بنت جحش: كانت عند زيد بن حارثة فطلَّقها، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
8 ــــ زينب بنت خزيمة: كانت عند الطفيل بن الحارث فطلَّقها، فتزوجها أخوه عَبدة بن الحارث، فقُتل عنها يوم بَدْر شهيداً، فتزوجها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
9 ــــ جُويرية بنت الحارث: أصابها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المُصْطَلق، وكانت قد وقعت في سَهم ثابت بن قيس فكاتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى كتابتَها وتزوجها.
10 ــــ صفية بنت حُيَي. قُتل زوجها كِنانة بن الربيع يومَ خيبر، فسبَاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واصطفاها لنفسه، فأسلمت فأعتقها وجعل عِتْقها صداقها.
11 ــــ ريحانة بنت زيد. سَبَاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني النضير فأعتقها وتزوَّجها ويقال: كان يطأها بمِلْك اليمين ولم يعتقها.
12 ــــ ميمونة بنت الحارث. تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسَرِف، وقدَّر الله تعالى أنها ماتت في المكان الذي بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من النساء ولم يدخل بهن منهن: الكِلاَبية. فمنهم مَنْ يسميها فاطمة، ومنهم من يسميها عَمْرة، ومنهم من يقول العالية.
ومنهن: أسماء بنت النعمان، وقَتِيلة بنت قيس، ومليكة بنت كعب، وأم شريك، وخَوْلة، وشَراف، وليلى بنت الحطيم، والغِفَارية.
وقد خطب جماعةً فلم يتم النكاح.
وفيما ذكرنا خلاف وقد ذكرته في كتاب «التَّلْقيح».
وقد عُرض عليه نسوة فأبَى.
البابُ الثالث
في ذكر سراريه صلى الله عليه وسلم
مارية القبطية: بعث بها المُقَوقس، ريحانة بنت زيد، التي ذكرناها في أزواجه. وقد قيل إنها كانت سُرِّية.
وقال أبو عُبيدة: كانت له أربع سَراري، مارية، وريحانة، وأخرى جميلة أصابها في السَّبْى، وجارية وهبتها له زينبُ بنت حجش.(1/424)
قال أبو الوفاء بن عقيل: استكثارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء وزيادته على ما أبيح لأمته: دليل على أنه يَبْنِ لنفسه ناموساً، ولو أراد الناموسَ لاشتغل بالتعبُّد عن النساء.
الباب الرابع
في ذكر قوته على الجماع صلى الله عليه وسلم
عن جابر بن عبد الله قال: «أعطِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الكفيت».
قلت للحسن: ما الكفيت؟
قال: الجماع.
الباب الخامس
في استتاره وغض بصره عند الجماع صلى الله عليه وسلم
عن مولى لعائشة قال: قالت عائشة: «ما رأيت عورةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَطّ».
عن أنس قال: «ما رأيت عورةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَطّ».
عن عائشة قالت: «ما أتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحداً من نسائه إلا مقنَّعاً يُرْخي الثوبَ على رأسه، وما رأيتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رآه منِّي».
عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى امرأةً من نسائه غمض عينيه وقنَّع رأسَه وقال للتي تكون تحته: «عَلَيْكِ بِالسَّكِيْنَةِ والوَقَارِ» .
الباب السادس
في ذكر طوافه على نسائه في ساعة صلى الله عليه وسلم
عن أنس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه جميعاً في يوم واحد».
عن أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدور على نسائه في الساعة من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة امرأة».
قلت لأنس: وهل كان يُطيق ذلك؟
قال: كنا نتحدث أنه أُعطي قوةَ ثلاثين.
الباب السابع
في أنه كان يطوف على نسائه بغسل واحد صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه بغسل واحد».
الباب الثامن
في اغتساله في كل وطء صلى الله عليه وسلم
عن أبي رافع: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في يوم، فجعل يغتسل عند هذه وعند هذه. فقيل: يا رسول الله، لو جعلتَه غسلاً واحداً؟
قال: «هَذا أزْكَى وأطْيَبُ وأطْهَرُ» .
الباب التاسع(1/425)
في مداراته نساءه صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: جاء حبش يَزْفنون يوم عيدٍ في المسجد، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فوضعتُ رأسي على منكبه، فجعلت أنظر إلى لعبهم، حتى كنت أنا الذي أنصرف عن النظر إليهم.
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحَلْواء، والعسل، وكان إذا صلى العصر دار على نسائه فيدنو منهن».
فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما يحتبس، فسألتُ عن ذلك فقيل لي: أهدَت لها امرأةٌ من قومها عُكَّةً من عسل فسقت رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شَرْبة.
قلت: أما والله لنحتالنَّ له.
فذكرت ذلك لسَوْدَة وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله أكلتَ مَغَافير؟ فإنه يقول لك لا. فقولي له: ما هذه الريح؟ فإنه سيقول لك: سقَتْني حفصُة عسلاً. فقولي جرست نَحْلُه العُرفط وسأقول ذلك له، وقولي له أنتِ يا صفية.
فلما دخل على سَوْدة قالت: تقول سَوْدة: والذي لا إله إلا هو لقد كِدْتُ أن أُباديه بالذي قلتِ وإنه على الباب فَرقاً منكِ، فلما دنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، أكلتَ مغَافير؟
قال: «لا» .
قلت: فما هذه الريح؟
قال: «سَقَتْنِي حَفْصَةُ شُرْبَةَ عَسَلٍ» .
قلت: جرست نحلُه العُرْفُط.
فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك. ثم دخل على صفية فقالت له مثل ذلك.
فلما دخل على حفصة قالت: يا رسول الله، ألا أسقيك منه؟
قال: «لا حَاجَةَ لِي بِه» .
قالت مولاة سودة: والله لقد حُرِمْنَا.
قالت: قلت لها: اسكتي.
عن عائشة قالت: كان بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامٌ فقال: «مَنْ تَرْضَيْن أنْ يَكُونَ بَيْنِي وبَيْنَكِ؟ أتَرْضِيْنَ أبا عُبَيْدَةَ بْنَ الجَرَّاحِ؟» .
قلت: لا ذاك رجل لن يقضي لك عليَّ.
قال: «أتَرْضِيْنَ بعمر؟» .
قلت: لا إني أفْرَق من عمر.
قال: «فَالشَّيْطَانُ يَفْرَقُه، أتْرَضِيْنَ بأبِي بَكْرٍ؟» .
قلت: نعم.(1/426)
فبعث إليه فجاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اقْضِ بَيْنِي وبَيْنَ هَذِه» .
قال: أنا يا رسول الله؟
قال: «نَعَمْ» .
فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: اقْصِدْ يا رسول الله.
قالت: فرفع أبو بكر يده فلطم وجهي لطمةً بدرَ منها أنفي ومِنْخراي دماً وقال: لا أبا لكِ فمن يَقْصدُ إذا لم يقصد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أرَدْنَا هَذا» . وقام فغسل الدمَ عن وجهي وثوبي بيده.
عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا غضبتُ وضع يده على منكبي وقال:
«اللهُمَّ اغْفِرْ لَهَا ذَنْبَها وأذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِها وأعِذْهَا منَ الفِتَنِ» .
الباب العاشر
في تأديبه أزواجه صلى الله عليه وسلم بالهجر للخطأ والإِيلاء منهن شهراً واعتزالهن
وفي سبب ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهن سألْنَه من النفقة ما ليس عنده.
والثاني: أنه خلا بماريةَ في بيت حفصة، فلما علمت قال: «اكْتُمِي عَلَيَّ» فأخبرت عائشة.
والثالث: أنه أُهديت إليه هدية فبعث إلى زينب نصيبها فردّته، فزادها فردَّته، فقالت: لقد أقمتَ وجهك حيث تُرَدُّ هديتك. فقال: «أنْتُنَّ أهْوَنُ عَلَى الله منْ أنْ تُنْقِمْنَنِي، لا أدْخُلُ عَلَيْكُنَّ شَهْراً» .
عن عمر بن الخطاب قال: تغضَّبتُ يوماً عن امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرتُ أن تراجعني، فقالت: ما تُنْكر أن أراجعك، فوالله إن أزواجَ النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعْنه وتهجره إحداهن إلى الليل.
فانطلقتُ فدخلتُ على حفصة، فقلت: أتراجعن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: نعم.
قلت: وتَهْجره إحداكن اليومَ إلى الليل؟
قالت: نعم.
قلت: قد خاب مَنْ فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي قد هلكت.
ثم دخلتُ على حفصة وهي تبكي، فقلت: أطلَّقكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟(1/427)
قالت: لا أدري، هو معتزلٌ في هذه المشربة. وكان أقْسَم أن لا يدخل عليهن شهراً، من شدة مَوْجدته عليهن.
أخرجاه.
عن جابر قال: أَقْبل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناسُ ببابه جلوسٌ فلم يُؤذَن له، ثم أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أَذِن لأبي بكر وعمر، فدخلا والنبيُّ صلى الله عليه وسلم جالسٌ وحَوْله نساؤه وهو ساكت.
فقال عمر: لأكلمنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لعلّه يضحك.
فقال: يا رسول الله، لو رأيتَ ابنة زيد، يعني امرأة عمر، سألْتني النفقة آنفاً فوجَأتُ عُنقها
فضحك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى بَدَتْ نَوَاجِذُه وقال: «هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْألْنَنِي النَّفَقَةَ» .
فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقول: تسألين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده
فنهاهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
فقال نساؤه: والله لا نَسْأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعدَ هذا المجلس ما ليس عنده.
فأنزل الله تعالى آية التخيير.
فبدأ بعائشة فقال: «إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أمْراً ولاَ أحِبُّ أن تَعْجَلَي فِيه حتَّى تَسْتَأْمْرِي أبَوَيْكِ» .
فقالت: ما هو؟
فتلا عليها: {يأيها النبيُّ قُلْ لأزواجك} الآية.
فقالت عائشة: أفيكَ أستَأْمر أبويَّ؟ إنّي أختار الله ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترتُ.
فقال: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُتَعَنِّتاً، ولكنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا، لا تَسْأَلُني امْرَأةٌ منهُنَّ عَمَّا اخْتَرْتِ إلاَّ أخْبَرْتُها» .
انفرد بإخراجه مسلم.
الباب الحادي عشر
في ذكر أولاده وعددهم صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: كان أولَ من ولد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمكة قَبْل النبوة: القاسمُ، وبه يُكْنَى. ثم ولد له زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم.
ثم ولد له في الإسلام: عبدُ الله فسمِّي الطيب والطاهر.(1/428)
وأمهم جميعاً خديجة بنت خُويلد.
وكان أول من مات مِنْ ولده: القاسمُ، ثم مات عبدالله، فقال العاصُ بن وائل: قد انقطع ولده فهو أبْتَر. فأنزل الله تعالى: {إنَّ شانِئَك هو الأبْتَر} .
عن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: مات القاسم وهو ابن سنتين.
وقال محمد بن عمر: كانت سُليمى مولاة صفية بنت عبد المطلب، وكانت تقبل خديجة في أولادها، وكانت تَعقُّ عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة، وكان بين كل ولدين لها سنة، وكانت تَسْتَرْضِع لهم، ويُعَدُّ ذلك قبلَ ولادتها.
قال أبو بكر البَرْقي: يقال: إن الطَّيب والمطيَّب ولِدا في بطن، والطاهر والمَطَهَّر ولدا في بطن. والصحيح أن هذه الألقاب لعبد الله، لأنه ولد في الإسلام.
وأما إبراهيم فمن مارية، عاش ستة عشر شهراً، وقيل: ثمانية عشر.
وأما زينب فهي أكبر ولده توفيت سنة ثمان من الهجرة.
وأما رُقَيّة فتزوجها عثمان، وتوفيت على رأس سبعة عشر شهراً من الهجرة، وتزوج بعدها أم كلثوم، وتوفيت سنة تسع من الهجرة.
وأمّا فاطمة فولدت قبلَ النبوّة بخمس سنين. والصحيح أنها أصغر بناته. وقد ذكر الزبير بن بكَّار أن أصغر بناته رقيّة.
أبواب سفره صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في ذكر اليوم الذي كان يسافر فيه صلى الله عليه وسلم
عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه، قال: قلَّ ما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفَراً أن يخرج إلا يوم الخميس.
عن أم سلمة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب يومَ الخميس، ويستحب أن يسافر فيه».
عن عائشة قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يسافر يوم الاثنين والخميس».
الباب الثاني
في ذكر ما كان يقوله إذا خرج إلى السفر صلى الله عليه وسلم(1/429)
عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى سفر قال: «اللهُمَّ أنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَفرِ والخَلِيْفَةُ فِي الأَهْلِ، اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِن الفِتْنَةِ فِي السَّفَرِ والكآبَةِ فِي المُنْقَلِب، اللهُمَّ اقْبِضْ لَنَا الأرْضَ وهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ» .
عن عبدالله بن سَرْجِس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج في سفر: قال: «اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وكَآبَةِ المُنْقَلِب، والحَوْرِ بَعْدَ الكَوْرِ، ودَعْوَةِ المَظْلومِ، وسُوءِ المَنْظَرِ في الأهْلِ والمَالِ» يبدأ بالأهل.
انفرد بإخراج هذا مسلم.(1/430)
عن عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب راحلته، يعني إلى السفر، كبَّر ثلاثاً ثم قال: {حم? * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِى? أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ * أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ * وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِى الأٌّوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِىٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الأٌّوَّلِينَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأٌّرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأٌّرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَالَّذِى نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَالَّذِى خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالأٌّنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ * وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم(1/431)
بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَانِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ * وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قَالُو?اْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ قَالُو?اْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأًّبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِى بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِى فَطَرَنِى فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِى عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً(1/432)
سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحياةِ الدُّنْيَا وَالأٌّخِرَةُ عِندَ(1/433)
رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ * وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ * فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِى وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى? أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ * وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلاًّيْهِ فَقَالَ إِنِّى رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَآءَهُم بِئَايَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ ءَايَةٍ إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُواْ ياأَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ ياقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَاذِهِ الأٌّنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى? أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ(1/434)
مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلأٌّخِرِينَ * وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُو?اْ ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِى? إِسْرَاءِيلَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَائِكَةً فِى الأٌّرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأٌّحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * الأٌّخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ * ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِئَايَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ * ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأٌّنْفُسُ وَتَلَذُّ الأٌّعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ(1/435)
الْجَنَّةُ الَّتِى? أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * أَمْ أَبْرَمُو?اْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ * قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأٌّرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ * وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمآءِ اله وَفِى الأٌّرْضِ اله وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * وَقِيلِهِ يارَبِّ إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }الزخرف: 13 ــــ 14)
.(1/436)
ثم يقول: «اللهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ فِي سَفَري هَذا البِرَّ والتَّقْوَى، ومن العَمَل ما تَرْضَى، اللهُمَّ هوِّنْ عَلينَا السَّفَرَ واطْوِ لَنَا البَعِيدَ، اللهُمَّ أنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ والخَلِيْفَةُ فِي الأَهْلِ، اللهُمَّ اصْحَبْنَا في سَفَرِنَا واخْلُفْنا فِي أهْلِنا» .
عن علي بن ربيعة قال: رأيت عليًّا أُتي بدابّة ليركبها، فلما وضع رحله في الرِّكاب قال: بسم الله. فلما استوَى عليها قال: الحمد لله سبحان الذي سَخّر لنا هذا وما كُنَّا له مُقْرِنين وإنّا إلى ربنا لَمُنْقَلِبون. ثم حمد الله ثلاثاً وكبّر ثلاثاً ثم قال: سبحانك لا إله إلا أنت قد ظَلمتُ نفسي فاغفر لي.
ثم ضحك، فقلت: مم تضحك يا أمير المؤمنين؟
قال: رأيت رسول الله فعلَ ما فعلتُ، ثم ضحك. فقلت: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: «يَعْجَبُ الرَّبُّ مِن عَبْدِه إذا قَال: رَبِّ اغْفِرْ لِي. يقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: عَلِم عَبْدِي أنَّه لاَ يَغْفِرُ الذُّنوبَ غَيْرِي» .
الباب الثالث
كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودِّع المسافر
عن سالم أن ابن عمر كان يقول للرجل إذا أراد سَفَراً: ادْنُ منّي أودِّعك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودِّعنا فيقول: «أسْتَوْدِعُ اللَّهُ دِينَكَ، وأمَانَتَكَ وخَوَاتِيْمَ عَمَلِكَ» .
عن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ودَّع رجلاً من أصحابه قال: «زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى وغَفَرَ ذَنْبَكَ ولَقْاكَ الخَيْرَ حَيْثُ تَوَجَّهْتَ» .
الباب الرابع
كيف كان سير رسول الله صلى الله عليه وسلم في السَّفر
عن أسامة أنه سُئل عن سَيْرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأنا شاهد، قال: «كان سيره العَنَق، فإذا وجدَ فجوةً نَصَّ، والنَّصُّ: فَوْق العَنَق».
أخرجاه.
الباب الخامس
فيما كان يقول إذا نزل منزلاً من الليل صلى الله عليه وسلم(1/437)
عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا أو سافر فأدركه الليل بأرض قال: «ربِّي وربُّكِ اللَّهُ، أعوذُ بِالله مِنْ شَرِّكِ وشَرِّ ما فِيكِ وشَرِّ مَا دَبَّ علَيْكِ، وأعوذُ بالله مِن شَرِّ كل أَسَدٍ وأسْوَدَ، وحَيَّةٍ وعَقْرَبٍ، ومن شرِّ سَاكِني البَلَدِ، ومن شَرِّ والدٍ ما وَلَدَ» .
الباب السادس
فيما كان يقوله في السحر صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سَفَرٍ وأسْحَر يقول: «سَمِعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ الله وحُسْنِ بَلاَئِه عَلَيْنَا، ربَّنا صَاحِبْنا وأفْضِلْ عَلَيْنَا، عَائِذاً بالله مِن النَّارِ» .
الباب السابع
في تنفله على الراحلة صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يصلِّي على راحلته استقبل القِبْلَة وكبَّر للصلاة، ثم خلَّى عن راحلته فصلَّى حيث ما توجَّهت به».
الباب الثامن
فيما كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من السَّفر
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قَفَل من غَزْوٍ أو حَجَ أو عُمْرة يكبِّر على كل شَرَف من الأرض ثلاثَ تكبيرات، ثم يقول: «لاَ اله إلاَّ اللَّهُ وَحْدَه لاَ شَرِيْكَ لَه، لَهُ المُلْكُ ولَه الحَمْدُ وهو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبونَ تَائِبونَ عَابِدونَ لِربِّنا حَامِدونَ، صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَه ونَصَرَ عَبْدَه وهَزَمَ الأحْزَابَ وحْدَه» .
أخرجاه.
عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الرجوعَ من السفر قال: «آيِبونَ تَائِبونَ لرَبِّنا حَامِدونَ» .
فإذا دخل على أهله قال: «أَوْباً أَوْباً لِرَبِّنا تَوْباً لا يُغَادِرُ عَلَيْنَا حَوْباً» .
الباب التاسع
فيما كان يضع إذا قدم من السفر صلى الله عليه وسلم(1/438)
عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يَقْدَم من سفر إلاَّ نهاراً في الضحى، فإذا قدم بدأ بالمسجد فصلَّى فيه ركعتين ثم جلس».
عن كعب بن مالك قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يقعد ما قدِّر له في مسائل الناسِ وسلامهم».
الباب العاشر
في أنه كان لا يطرق أهله ليلاً صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يَطْرُق أهلَه ليلاً، كان يدخل عليهم غُدْوةً أو عِشاءً».
أبواب آلات حَربه صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في ذكر سيفه صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفَّلَ سيفَه ذا الفِقَار يومَ بَدْر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يومَ أُحد».
عن علي قال: «كان اسمُ سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الفِقَار».
عن ابن عاصم قال: «أخرج إلينا عليُّ بن الحسين سيفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قَبِيعته والحَلْقتان اللتان فيهما الحمائلُ من فضة. قال: فسلَلْته فإذا هو قد نحل، كان سيفاً لمنبِّه بن الحجاج السَّهمي اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ بَدْر».
عن أنس قال: «كانت قَبِيعة سيفِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة».
الباب الثاني
في ذكر درعه صلى الله عليه وسلم
عن علي قال: «كان اسم درع النبي صلى الله عليه وسلم ذا الفُضول».
عن جابر بن عبدالله قال: «أخرج عليُّ بن الحسين لنا درعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هي يَمانية رقيقة ذات زَرَافين، فإذا علقت بزرافينها شمّرت، فإذا أُرسلت مَسَّت الأرضَ».
عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: «كانت في درع رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقتان من فضة».
عن السائب بن زيد: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عليه يومَ أُحد دِرْعان قد ظاهرَ بينهما».
الباب الثالث
في ذكر مغفره صلى الله عليه وسلم(1/439)
عن أنس قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعلى رأسه مِغْفَر من حديد».
الباب الرابع
في ذكر قوسه صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبهم يوم الجمعة في السَّفَر متوكئاً على قوس قائماً».
الباب الخامس
في ذكر رمحه صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: «كان للنبي صلى الله عليه وسلم رمح أو عصا تُرْكز له فيصلِّي إليها».
الباب السادس
في ذكر حربته صلى الله عليه وسلم
عن ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان تُرْكَز له الحَرْبة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناسُ وراءه، وكان يفعل ذلك في السفَر فمن ثَمَّ اتخذَها الأمراءُ».
عن ابن يزيد قال: بعثني نجدة الحَرُوري إلى ابن عباس أسأله هل (كان) يُسْتَر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحَرْبة؟
قال: نعم في خيبر.
الباب السّابع
في ذكر رايته ولوائه صلى الله عليه وسلم
عن عبدالله بن بُرَيدَة، عن أبيه: «أن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سوداء ولواءه أبيض».
عن عائشة قالت: «كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض، وكانت رايته سوداءَ من مِرْط لعائشة مُرَحّل».
عن يونس بن عُبيد مولَى محمد بن القاسم قال: بعثني محمد بن القاسم إلى البراء بن عازِب أسأله عن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانت؟
قال: «كانت سوداء مربَّعة من نَمِرة».
عن ابن عباس قال: «كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض مكتوب فيه: «لاَ اله إلاَّ اللَّهُ مُحَمَّدٌ رسُولُ الله» .
عن الحسن قال: «كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم تسمَّى العُقَاب».
الباب الثامن
في ذكر قضيبه صلى الله عليه وسلم
عن أبي سعيد قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحبُّ العراجينَ فلا يزال في يده منها شيء، فدخل يوماً المسجدَ وفي يده عرجون، فرأى نخامةً في القبلة فحكّها بالعرجون».(1/440)
عن أبي الزبير: «أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب وفي يده مِخْصَرة».
عن علي بن أبي طالب قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقيع الغَرْقَد فقعد ومعه مِخْصرة، فنكس وجعل ينكث يده».
قال المصنف: كان له قضيب وهو اليومَ عندَ الخلفاء.
الباب التاسع
في ذكر عصاه صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: «التوكؤ على العصا من أخلاق الأنبياء، كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عصا يتوكأ عليها ويأمر بالتوكؤ على العصا».
أبواب غزواته صلى الله عليه وسلم
غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعاً وعشرين غزاة قاتل منها في تسع؛ بَدْر، وأُحد، والمُرَيْسيع، والخَنْدق، وقُرَيظة، وخَيبر، والفتح، وحُنين، والطائف.
وقد قيل إنه قاتل في بني النضير وفي غزاة وادي القُرى وفي الغابَة.
ونحن نشير إلى غزواته إشارة لطيفة إن شاء الله تعالى.
الباب الأول
في ذكر ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا غزا
عن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: «اللهُمَّ أنْتَ عَضُدِي، وأنْتَ نَصِيْرِي وَبِكَ أُقاتِلُ» .
الباب الثاني
في ذكر غزاة الأبواء
وهي غزاة وَدَّان هي أولُ غزاة غزاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وذلك على رأس اثني عشر شهراً من الهجرة.
وحمل اللواءَ حمزةُ، وخرج في المهاجرين ليس فيهم أنصاريّ، حتى بلغ الأبْواءَ يعترضُ عِيراً لقريش فلم يَلْق كيداً وواعَد مَخْشِيَّ بن عمرو الضَّمْري وهو سيدهم، على أن لا يغزو بني ضَمْرة ولا يَغْزونه. وكتب بينه وبينهم كتاباً.
وانصرف إلى المدينة، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة.
الباب الثالث
في غزاة بواط
وكانت في ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهراً من مُهَاجره، وحمل اللواءَ سعدُ بن أبي وقَّاص، واستخلَف على المدينة سعدَ بن معاذ.
وخرج في مائتين من أصحابه يعترضُ عِيرَ قريش، وكان أمية بن خلَف فيها مائة رجل من قريش، وألفان وخمسمائة بعير.(1/441)
فبلغ بُوَاطَا وهي جبال هَيّنَة من ناحية رُضْوى، وبين بواط والمدينة نحوٌ من أربعة بُرُدٍ، فلم يَلْق كيداً فرجع إلى المدينة.
الباب الرابع
في غزاة طلب كرز بن جابر
على رأس ثلاثة عشر شهراً. وكان كُرْز قد أغار على سَرْح المدينة فاستاقه، فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ وادي سَفْوان من ناحية بدر ففاته كُرْز، فرجع.
الباب الخامس
في غزاة ذي العشيرة
على رأس ستة عشر شهراً من مُهَاجره. واستخلف على المدينة أبا سَلَمة وخرج هو وأصحابه على ثلاثين بعيراً يَعْتقبونها، خرج يعترض عير قريش فيها أموالهم، فبلغ ذا العُشَيرة وبينها وبين المدينة تسعة بُرد، ففاتوه.
وهي العير التي رجعت من الشام وخرجت قريش للدَّفْع عنها فكانت وقعة بدر.
الباب السادس
في غزاة بدر
كان مع أبي سفيان أموالٌ لقريش يتَّجر لهم بها وهو في قلة من العَدد.
فندب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه فخرجوا لطلب الأموال.
فبلغَ أبا سفيان، فبعث إلى مكة ضَمْضِم بن عمرو يَسْتَنْفر قريشاً لأجل أموالهم، فجاء وقد جدع بعيره وشقَّ قميصَه وهو يقول: يا معشر قريش اللّطِيمة اللطيمة أموالُكم مع أبي سفيان قد عَرض لها محمدٌ وأصحابُه لا أرى أن تُدْركوها، الغوثَ الغوث.
فتجهَّزوا سراعاً وخرجوا.(1/442)
عن ابن عباس قال: رأت عاتكةُ بنت عبد المطلب قبل قدوم ضَمْضَم مكة بثلاثِ ليالٍ رؤيا أفزعتها، فأخبرت بها العباس وقالت: قد تخَوَّفتُ أن يدخل على قومك منها شَرٌّ، رأيتُ راكباً أقبلَ على بعير له حتى وقف بالأبْطَح ثم صرخ بأعلى صوته: انفروا يا آل غُدَر لمصارعكم في ثلاث. فاجتمع له الناسُ. ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فمثَل به بعيرُه على ظهر الكعبة، فصرخ: ألا انفروا يا آل غُدر لمصارعكم في ثلاث. ثم مثل به بعيرُه على جبل أبي قُبَيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرةً ثم أرسلها، فأقبلت تهوي حتى (إذا) كانت بأسفل الجبل ارْفَضَّتْ فما بقي بيتٌ من بيوت مكة ولا دارٌ إلا دخلتها منه فَلْقة.
فقال العباس: رؤيا فاكتميها.
ثم خرج العباسُ فلقي أبا جهل فقال: يا بني عبد المطلب متى حدَثت هذه النبيَّةُ فيكم؟ قلت: وما ذاك؟ قال: رؤيا عاتكة، أما رضيتم أن يتنبَّأ رجالكم حتى تتنبَّأ نساؤكم؟ فإذا مضت الثلاثُ ولم يكن من ذلك شيء كتبنا عليكم كتاباً أنكم أكْذَبُ أهل بيت في العرب.
قال العباس: فأنكرْتُ أن تكون رأت شيئاً.
قال: فلم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا جاءت فقالت: أقررتم لهذا الخبيث أن يقع في رجالكم ثم قد تناوَلَ النساء.
فخرجتُ لأتعرَّض له، فرآني فاستتر فقلت: هذا قد فَرِق أن شاتمْتُه. وإذا هو قد سمع صوتَ ضَمْضم.
قال أهل التفسير: لمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مجيءُ أهل مكة استشار أصحابه. فقال أبو بكر فأحْسَن. وقال عمر (فأحْسَن).
وقال المِقْدَاد: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون، والذي بعثك بالحق لو سِرْت بنا إلى بَرْك الغماد، يعني مدينة بالحبشة، لجالَدْنا مَنْ دونه.
فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خيراً.
ثم قال: أشيروا عَلَيَّ. وإنما يريد الأنصار.(1/443)
فقال سعدُ بن مُعاذ: امض لما أردتَ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضْتَ بنا هذا البحر فَخُضته لَخُضناه معك، إنا لَصُبُر عند الحرب، فَسِرْ بنا على بركة الله.
فقال: سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مَصَارع القوم.
ثم سار حتى نزل قريباً من بدر.
ونجا أبو سفيان بالعير، ثم بعث إلى القوم: إن الله قد نجّى أموالكم فارجعوا فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نَرِدَ بَدْراً، وكانت بدر موسماً من مواسم العرب يجتمع لها سوقٌ كل عام، فنُقيم هناك ثلاثاً ونَنْحَر الجزُر ونطعم الطعامَ ونشرب الخمور، وتضرب علينا القيانُ، وتسمع بنا العربُ، فلا يزالون يهابوننا أبداً.
فبلغ ذلك أبا سفيان فقال: واقوماه، هذا عملُ عمرو بن هشام. يعني أبا جهل. ثم لحق بالمشركين فمضى معهم.
وبُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشٌ فكان فيه.
ونظر عُمَير بن وَهْب إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأصحابه: أرى نَوَاضح يثرب تحملُ الموتَ الناقع، ما لهم مَلْجَأ إلا سيوفُهم، والله ما أرى (أن) يُقْتَل رجلٌ منهم حتى يَقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم فلا خير في العيش بعد ذلك.
فهَمَّ عُتبة بالرجوع، فقال له أبو جهل: انتفخَ سَحْرك.
وعقد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الألوية واستقبل القبلة ومدَّ يديه وقال: «اللهُمَّ إنْ تَهْلِك هذه العِصَابَةَ لا تُعْبَدُ فِي الأرْضِ».
فما زال يستغيث حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءَه فردّاه ثم التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي الله كفاك مُنَاشدتك ربك فإنه سيُنْجِز لك ما وعدك.
وخرج عُتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد، فدعا إلى المبارزة فخرج فِتْية من الأنصار فقالوا: ما لنا بكم من حاجة.
ثم نادى مناديهم: يا محمد أَخْرِج إلينا أكفاءنا من قومنا.
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «يَا حَمْزَةُ قُمْ، يا عُبَيْدَةُ قُمْ، يا عَلِيُّ قُمْ» .(1/444)
فقالوا: أكفاءٌ كرام.
فبارز عبيدةُ عتبة، وبارز حمزةُ شيبة، وبارز عليٌّ الوليد.
فقتل حمزةُ شيبة، وقَتل عليٌّ الوليد، واختلفَ عبيدةُ وعتبة ضربتين، كلاهما أثْبتَ صاحبَه، فكَرَّ حمزةُ وعليّ على عُتْبة فقتلاه.
ثم زَحف بعضُ الناس إلى بعض، فأخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حفنةً من الحصباء فاستقبلَ بها قريشاً وقال: «شَاهَتِ الوُجُوهُ» . ثم قال لأصحابه: «شُدُّوا» .
ونزلت الملائكةُ، فجاءت ريحٌ ثم ذهبت، ثم جاءت ريحٌ أخرى ثم أخرى، فكان في الأولى جبريل في ألف، وفي الثانية ميكائيل في ألف، وفي الثالثة إسرافيل في ألف، وكان سِيمَا الملائكةِ عمائمُ خُضْر وصفر وحمر من نور، وهم على خيلٍ بُلْقٍ. وسمع المشركون حَمْحَمة الخيل، وكان المسلم يَتْبعُ الكافر ليقتله فيقع رأسُه قبلَ أن يصل إليه.
فكانت الهزيمةُ.
فقُتل من صَنَاديد القومِ سبعون، وأُسِر سبعون، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأسارى، فقال أبو بكر: هؤلاء بنو العم والعشيرة، وإني أرى أن نأخذ منهم الفِدْية فتكون قوة لنا على الكفار، وعسى أن يَهْدِيهم (الله).
فقال عمر: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكني أرى أنْ تمكِّنني من فلان، قريب لعمر، فأضربَ عنقه، وتمكن عليًّا من عَقِيل فيضربَ عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه، فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هَوادَةٌ للمشركين، هؤلاء صَناديدهم وأئمتهم.
فمالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى قول أبي بكر فأخذ منهم الفِداء.
عن عبد الرحمن قال: إني لواقفٌ يومَ بدر في الصف، فنظرتُ عن يميني وشمالي، وإذا أنا بَيْنَ غلامين من الأنصار حديثةٌ أسنانهما فتمنَّيتُ أنْ لو كنت بينَ أَضْلَع منهما، فغمزني أحدهما، فقال لي: يا عم، هل تَعرف أبا جهل؟
قلت: نعم، ما حاجتُك إليه يا بن أخي؟(1/445)
قال: بلغني أنه سبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لو رأيتُه لم يفارقْ سوادي سوادَه حتى يموتَ الأعْجلُ.
قال: فغمزني الآخر فقال لي مثلها. فتعجَّبتُ لذلك، ثم لم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس، فقلت لهم: ألا تَريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه. فاستقبلهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه وقال كلُّ واحد منهما: أنا قتلته. فنظر في سيفيهما وقال: كلاكما قتله، وقضى بسَلَبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. وهما معاذ بن عمرو ومعاذ بن عَفْراء.
أخرجاه في الصحيحين.
عن أبي عبيدة قال: قال عبدالله: انتهيتُ إلى أبي جهل يومئذ وقد ضُربت رجله وهو صريع وهو يذبُّ الناسَ عنه بسيفٍ له، فأخذْته فضربته حتى قتلته، فقلت: الحمد لله الذي أخزاك الله يا عدوَّ الله. قال: (إنْ) هو إلا رجلٌ قتَله قومُه. فجعلت أتناوله بسيف لي غير طائل، فأصبْتُ يدَه فندر سيفُه فأخذْته فضربتُه حتى قتلته.
قال: ثم خرجتُ حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أُقَلُّ من الأرض فأخبرته فقال: «اللَّهُ الذي لاَ اله إلاَّ هُو»؟
فردَّدها ثلاثاً.
فقلت: الله الذي لا إله إلا هو.
فخرج يمشي حتى قام عليه فقال: «الحَمْدُ دِ الذي أخْزَاكَ يَا عَدُوَّ اللَّهَ، هذا كَانَ فِرْعَوْنَ هَذِه الأُمَّةِ» .
عن عطية بن قيس قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال بدر جاءه جبريل عليه السلام على فرس عليه درعه ورمحه وقد عصَّب الغبارُ رأسَه فقال: يا محمد، إن الله عز وجل بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى تَرْضى أَرضيتَ؟ قال: «نَعَمْ رَضَيْتُ» . فانصرف.
الباب السابع
في إلقاء رؤوس المشركين في القليب(1/446)
عن طلحة: أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم أمر بأربعة وعشرين رجلاً من صَناديد قريش يوم بدر خبيث مُخَّبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرْصة ثلاثة أيام، فلما كان ببدر اليومَ الثالث أمر براحلته فشُدَّ عليها رَحْلُها، ثم (مشى و) اتبعه أصحابه فقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته. حتى قام على شقة الرَّكِي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: «يا فُلانَ ابنَ فُلانَ ويَا فُلانَ ابنَ فُلانَ، أيَسُرُّكُم أنَّكُم أطَعْتُم اللَّهَ ورَسُولَه، فإنَّا قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا، فَهَلْ وجَدْتُم ما وَعَدَ ربُّكُم حَقًّا؟»
فقال عمر: يا رسول الله، ما تُكلِّم من أجسادٍ لا أرواح لها فيها.
فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه ما أنْتُم بِأَسْمَعَ لِمَا أقُولُ مِنْهُم» .
قال قتادة: أحياهم الله حتى أسْمَعهم قولَه توبيخاً وتصغيراً ونِقْمةً وندماً.
أخرجاه.
الباب الثامن
في غزوة بني قينقاع
وكانت للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً. وكانوا يهوداً، فحمل لواءه حمزة واستخلف أبا لُبابة.
وكانوا وادعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غدَروا.
فحاصرهم فنزلوا على حكمه وأن له أموالهم ولهم النساءُ والذُّرية.
الباب التاسع
غزاة السويق
على رأس اثني وعشرين شهراً. واستخلَف أبا لُبَابة.
وذلك أن أبا سفيان حرَّم الدَّسم حتى يَأخذ بثأره من محمد وأصحابه. فوصل إلى نحو المدينة فقتل رجلين وحرق أبياتاً ورأى أنّ يمينه قد حَلَّت فهرب.
فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فخرج في إثرهم، وجعل أبو سفيان وأصحابه يتخفّفون حتى يُلْقون جُرُب السَّويق، فيأخذها المسلمون، فلم يلْحقوه، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم.
الباب العاشر
غزاة قرقرة الكدر
على رأس ثلاثة وعشرين شهراً.
حمل لواءه عليُّ بن أبي طالب، واستخلَفَ ابنَ أم مكتوم، فظفر بنعم تبلغ خمسمائة بعير ورجع.
الباب الحادي عشر
غزوة غطفان(1/447)
على رأس خمسة وعشرين شهراً، واستخلف عثمَان بن عفان.
وذلك أنه بلغه أن جَمْعاً قد تجمعوا فخرج فهربوا منه، وجاء غَوْرث بن الحارث والنبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وبيده سيف فقال: من يَمْنعك مني؟ فقال: «الله» فأسلم، ورجع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
الباب الثاني عشر
غزاة بني سلم
على رأس سبعة وعشرين شهراً، بناحية الفُرع.
وذلك أنه بلغه أن بها جَمْعاً من بني سُلَيم، فخرج فتفرقوا.
الباب الثالث عشر
غزاة أحد
لمَّا رجع مَنْ حضر بدراً من المشركين إلى مكة وجدوا العِيرَ التي قدِم بها أبو سفيان موقوفةً على دار الندوة، فمشَتْ أشرافُ قريش إلى أبي سفيان فقالوا: نحن طَيِّبوا الأنْفُس بأن نجهِّز برِبْح هذه العير جيشاً إلى محمد.
قال أبو سفيان: أنا أولُ من أجابَ إلى ذلك، وبنو عبد مناف معي.
فباعوها فصارتْ ذهباً، وكانت ألفَ بعير، وكان المالُ خمسين ألف دينار، فسلّم إلى أهل العير رؤوس أموالهم وعُزلت الأرباح، وبعثوا إلى العرب يَسْتنفرونهم، وأجمعوا على إخراج الظعُن معهم ليَذْكروا بهم بدراً فيكون أشدَّ لهم في القتال.
وخرجت قريش ومعهم أبو عامر الراهب، وهم ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع، ومعهم مائتا فرس، وثلاثة آلاف بعير، وكانت الظُّعن معهم خمس عشرة امرأة.
فساروا حتى نزلوا ذا الحُلَيفة.
وكان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأُسَيْد بن حُضَير بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة من الناس، وحُرست المدينة.
وكان رَأْيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يخرج من المدينة، فطلب فتيانٌ أحداثٌ لم يَشْهدوا بدراً أن يخرجوا، حرصاً على الشهادة.(1/448)
فصلّى الجمعة ثم وعظهم وأمرَهم بالجد والاجتهاد، ثم صلى العصر ودخل بيته ومعه أبو بكر وعمر، فعَمَّماه وألْبَساه، وصُفَّ له الناسُ فخرج وقد لبس لأمته وتقلّدالسيفَ وألقى التُّرْسَ من وراء ظهره وعقد ثلاثَةَ ألوية واستخلف على المدينة ابنَ أم مكتوم، ثم ركب فرسه وتقلّد القوسَ وأخذ قِبلته بيده، وفي المسلمين مائة دارع.
واعتزَل ابنُ أُبيّ في ثلاثمائة، فبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة، وأقبل يسوِّي الصفوف وخلّف أُحداً وراء ظهره، واستقبلَ القبلة وأقام خمسين من الرماة.
وأقام (المشركون) على الميمنة خالدَ بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة، وعلى الخيل صفوان بن أمية.
وجعل نساءُ المشركين يضربن الدفوف ويقلن:
نحن بنات طارق
نمشي على النّمارقْ
والمسكُ في المَفَارقْ
إنْ تُقْبلوا نُعَانقْ
وإنْ تُدْبروا نفارقْ
فراقَ غير وامق
فأقبلوا وانكشف المشركون، وأقبل المسلمون يأخذون الغنائم، وأقبل جماعة من الرماة.
فنظر خالد بن الوليد إلى خلَل فكَرَّ بالخيل وتبعه عكرمة، وانتقضت صفوفُ المسلمين ونادى إبليس لعنه الله: قُتِل محمد.
وثَبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصابة من أصحابه فأصيبت رُبَاعيّته ورماه ابنُ قَمِئة بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشَجّه في وجهه.
ورمَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أُبيَّ بن خلف بحَرْبة فمات منها.
عن سعد بن أبي وقاص قال: «لقد رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويساره رجلين عليهما ثياب بيضٌ يقاتلان عنه أشدَّ القتال ما رأيتهما قبل ولا بعدُ».
أخرجاه.
عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كُسِرت رُبَاعيته يومَ أُحد وشُجَّ في وجهه جعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: «كيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَبوا وَجْهَ نَبِيِّهِم بالدَّمِ وهُو يَدْعُوهُم إلَى الله تَعَالَى» .(1/449)
فنزلت هذه الآية: {س3ش128لَيْسَ لَكَ مِنَ الأٌّمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ }
(آل عمران: 128)
انفرد بإخراجه مسلم.
عن أبي بشر المازني قال: حضرتُ يومَ أُحد وأنا غلام فرأيت ابن قَمئة علا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع على كتفيه في حفرة أمامه حتى تَوَارى، فجعلتُ أصيح وأنا غلام، حتى رأيت الناسَ يأتون إليه فأنظر إلى طلحة بن عبيدالله أخذ يحضنه حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن ابن يوسف الفِرْيابي قال: لقد بلغني أن الذين كَسروا رُبَاعية النبي صلى الله عليه وسلم لم يولد لهم صبي فنبتت له رُبَاعية
عن الزبير بن بَكَّار قال: قُتل أُميةُ بن خَلَف ببَدْر، وكان أخوه أبيّ بن خلف قد أُسر يومئذٍ، فلما فُدي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عندي فَرساً أعلفه كلَّ يوم فَرقاً من ذُرَة أقْتلك عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَلْ أنَا أقْتُلُكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ» .
فلما كان يومُ أُحد وانحاز المسلمون إلى شِعْب أُحد أبصر أبيُّ بن خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمل عليه فشدَّ، فحمل عليه الزبير بن العوام ومع الزبير الحربة، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه بها في تَرْقوته فخَّر صريعاً، فأدركه المشركون فأرْسوه وله خوار فجعلوا يقولون: ما بك بأسٌ قال: أليس قال لي: أنا أقتلك. فحملوه حتى مات بمَرِّ الظَّهْران على أميال من مكة.
عن سعد بن معاذ أنه قال لأمية: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّه قَاتِلُكَ» .
قلت: يحتمل أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أُمية يوم بدر، وقتَل أبيَّ بن خلَف يوم أُحد، ويحتمل أن يكون المعنى. يقتلك أصحابي.(1/450)
عن البَراء بن عازب قال: جَعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الرُّماة يومَ أُحد، وكانوا خمسين رجلاً، عبدَالله بن جُبير، وقال: «إنْ رَأيْتُمونا تَخْطِفُنا الطَّيْرُ فلا تَبْرَحوا حتَّى أُرْسِلَ إليْكُم، وإن رأيْتُمُونا ظَهَرْنا على القَوْمِ فلا تَبْرَحوا حتَّى أُرْسِلَ إليْكُم» .
فهزموهم، فأنا والله رأيت النساءَ يشتددْن على الجبل، وقد بدَتْ أَسْوقتهن وخلاخيلهن رافعات ثيابهن، فقال أصحابُ عبدالله بن جبير: الغنيمة ظَهَر أصحابكم فما تنتظرون.
قال ابنُ جُبير: أنسيتم ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالوا: لَنَأْتينّ الناسَ فلنصيبنّ من الغنيمة.
فلما أتوهم صُرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً، فأصابوا منهم سبعين رجلاً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصاب من المشركين يومَ بدرٍ أربعين ومائة: سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً.
فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد؟ ثلاثاً.
فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه. ثم قال: أفي القوم ابن (أبي) قحافة: ثلاثاً. أفي القوم ابن الخطّاب؟ ثلاثاً. ثم أقبل أصحابه فقال: هؤلاء قد قُتلوا وقد كفيتموهم.
فما ملَك عمر نفسه أنْ قال: كذبتَ والله يا عدوّ الله، إنّ الذين عدَدْتَ لأحياءٌ كلهم وقد بَقي لك ما يَسوؤك. قال: ولم يَسُوؤني؟ ثم أخذ يرتجز: اعْلُ هُبَل، اعْلُ هُبَل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تُجِيْبُونه؟» .
فقالوا: يا رسول الله ما نقول؟
قال: «قُولوا: اللَّهُ مَوْلاَنا ولاَ مَوْلًى لَكُم» .
الباب الرابع عشر
في غزاة حمراء الأسد
على رأس اثنين وثلاثين شهراً، وذلك أنهم لما انصرفوا من أُحد بات الناسُ يُداوون جراحاتهم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح أمر بلالاً فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوكم، فلا يخرج معنا إلا من شهدَ القتال بالأمس.(1/451)
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه مشجوج وشفته قد كلمت، فعسكَر بحمراء الأسد، وذهب العدوُّ فرجع إلى المدينة.
الباب الخامس عشر
في غزاة (بني) النضير
على رأس سبعة وثلاثين شهراً. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّمهم أن يُعينوه في دية رجلين كان قد أمَّنهما فقتلهما عمرو بن أُمية، فقالوا: نفعل.
فقال عمرو بن جحاش: أنا أظهر على البيت فأطرح عليه صخرةً.
فقال سَلاّم بن مِشْكم: لا تفعلوا فوالله ليُخبرَنَّ بما همَمْتم به.
فجاءه الخبر، فتربَّص سريعاً إلى المدينة، وبعث إليهم: أن اخرجوا من بلدي، وقد أجَّلتكم عشرةَ أيام. فتجهَّزوا.
فأرسلَ إليهم ابنُ أبيّ: لا تخرجوا فإن معي ألفين من قومي وغيرهم، وتُمدكم قُرَيظةُ وحلفاؤكم من غَطفان. فطمع حُيَيّ فقال: ما نخرج (فخرج) إليهم وعليٌّ يحمل رايَته، واستخلَف على المدينة ابنَ أم مكتوم، فقاموا على حصنهم يضربون بالنَّبْل والحجارة، واعتزلْتهم قريظة، وخذلهم ابنُ أبيّ وحلفاؤهم من غَطفان. فحاصرهم وقطع نخلهم، فقالوا: نخرج من بلادك. فتحمَّلوا على ستمائةِ بعير.
فقال: اخرجوا ولكم دماؤكم وما حملت الإبلُ إلا الحَلْقة. فأُخِذ منهم خمسين درعاً وخمسين بَيْضة وثلاثمائة وأربعين سيفاً. وكان ذلك خالصاً له لم يُسْهم منه أحداً.
الباب السادس عشر
في غزاة بدر الموعد
وذلك أن أبا سفيان قال لمّا انصرف عن أُحد: الموعدُ بيننا وبينكم بدرٌ الصغرى رأسَ الحول.
فلما دنا الموعدُ كره أبو سفيان الخروجَ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف وخمسمائة، وحمل لواءه علي بن أبي طالب. وخرجوا ببضائع لهم، وكانت بدر الصغرى سُوقاً يقوم لهلال ذي القعدة، فانتهوا إليها هلالَ ذي القعدة فباعوا وربحوا.
وخرج أبو سفيان حتى بلغ مَرَّ الظَّهران ثم رجع، وقال: هذا عامُ جَدْب.(1/452)
قال مجاهد: {س2ش173إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
(آل عمران: 173)
.
قال: هذا أبو سفيان قال: يا محمد موعدكم بَدْر حيث قَتلتم أصحابَنا.
فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزلوا بدراً فوافَوا السوقَ، فذلك قوله تعالى: {س3ش174فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُو?ءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ }
(آل عمران: 174)
والفضل: ما أصابوا من التجارة. وهي بدرٌ الصغرى.
الباب السابع عشر
غزاة ذات الرقاع
على رأس سبعة عشر شهراً. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر بأن أنماراً قد جَمعوا له الجموعَ، فاستَخْلف عثمان بن عفان، وخرج حتى أتى محالَّهم بذات الرِّقَاع، وهو جبل فيه بُقَع حُمر وسواد وبياض.
فرقى الجبل فلم يجد إلا نسوةً فأخذهن ورجع. وقيل: إن بها جاء غَوْرث بن الحارث وقال: مَنْ يمنعك منِّي؟
الباب الثامن عشر
في غزوة دومة الجندل
على رأس تسعة وأربعين شهراً. بلغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن بها جمعاً كثيراً يظلمون من مرَّ بهم، فخرج في ألف، واستخلف سِبَاع بن عُرْفطة، فهجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب من أصاب وهرب من هرب، ورجع إلى المدينة.
الباب التاسع عشر
في ذكر غزاة المريسيع(1/453)
وهو اسم بئر لبني المُصْطَلِق، وكان سيدهم الحارث بن أبي ضِرار، وكان جَمع لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وترامَوا بالنَّبْل ساعةً، ثم أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه فحملوا حملةً واحدة، فقُتل عشرة من العدوِّ وأُسر الباقون. ولم يُقتل من المسلمين إلا رجل واحد، وسبَى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجالَ والنساء والذرية والنَّعم، وكانت الإبل ألْفَي بعير والشاء خمسة آلاف والسَّبْي مائتي أهل البيت.
وجُعلت جُوَيرية بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس وابن عم له، فكاتبَاها، وقيل: في سهم ثابت بن قيس وحده. فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها فأدَّى عنها وتزوَّجها. فقال الناس: أصهارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسْتَرقُّون فأعتقوا ما كان في أيديهم.
البابُ العشرون
في ذكر غزاة الخندق
وهي غزاة الأحزاب.
لمَّا أجْلَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بني النَّضير خرج نفرٌ من أشرافهم إلى مكة، فألَّبوا قريشاً ودَعوهم إلى الخروج، واجتمعوا معهم على قتاله، ثم خرجوا فأتوا غطفان و(بني) سُليم ففارقوهم على مثل ذلك.
وتجهزت قريش وجمعوا، فكانوا أربعة آلاف، وعقدوا اللواءَ في دار الندوة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس وألفاً وخَمْسمائة بعير، وخرج يقودهم أبو سفيان. ووافَتْهم بنو سُليم بمرِّ الظَّهران وهم سَبْعمائة، وخرجت معهم بنو أسد، وخرجت فَزارةُ وهم ألفٌ. وخرجت أَشْجع وهم أربعمائة. وخرجت بنو مُرَّة وهم أربعمائة أيضاً. وكان جميع من وافى الخندق من القبائل عشرةُ آلاف، وهم الأحزاب.
فلما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وصولُهم من مكة ندَب الناسَ، فأشار سَلْمانُ بالخندق، وعسكَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالناس إلى سفح سَلْع، وكان المسلمون ثلاثة آلاف. وفرغوا من الخندق في ستة أيام. وعمل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.(1/454)
عن البَراء بن عازب قال: لمَّا أَمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عَرضت لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة لا تأخذ فيها المعاول. فشكَونا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآها إلقى ثَوْبَه وأخد المِعْول وقال: «بِسْمِ الله» ثم ضَرَب ضربةً فكسر ثلثها، وقال: «اللَّهُ أكَبْرُ أُعْطِيتُ مفَاتِيْحَ الشَّامِ، والله إنِّي لأُبْصِرُ قُصورَها الحُمْرَ السَّاعَةَ» .
ثم ضرب الثانية فقطع ثلثها الآخر. وقال: «اللَّهُ أكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسٍ، والله إنِّي لأُبْصِرُ القَصْرَ الأبْيَضَ مِن المَدَائِنِ» .
ثم ضرب الثالثة وقال «بِسْمِ الله» فقطع بقية الحجر، وقال: «اللَّهُ أكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ اليَمَنِ. والله إنِّي لأُبْصِرُ أبْوَابَ صَنْعَاءَ مِن مَكَانِي هذِه السَّاعَةَ» .
قال علماء السِّيَر: كان اشتدَّ الخوفُ يومَ الخندق، وفشل الناسُ وخِيف على الذراري والأموال، وطَلب المشركون مَضِيقاً من الخندق يُقْحمون فيه خيلَهم، فعبرَ منهم جماعةٌ منهم: عمرو بن عبدودّ. فجعل يدعو إلى البِراز وهو ابن سبعين سنة؛ فبارزه عليٌّ فقتله.
فأصبحوا فجمعوا كَتيبةً غليظةً فيها خالد بن الوليد، وقاتلوا إلى الليل ولم يصلِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ ظهراً ولا عصراً صلى الله عليه وسلم قال: «شَغَلونا عن الصَّلاةِ الوُسْطَى صَلاَةِ العَصْرِ، مَلأَ اللَّهُ بُيوتَهُم أو قُبُورَهُم نَاراً» .
وحُصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة، وقيل: أربعاً وعشرين.
وكان نُعَيم بن مسعود قد أسلم، فمشى بين قريش وقريظة فخذَّل بينهم، وهبَّتْ ريحٌ شديدة، فقال أبو سفيان لأصحابه: إنكم لستم بدار مُقَام، قد هلك الخفُّ والحافر، واختلف قريظة، ولقينا من الريح ما ترون، فارتحلوا إني مرتحل.
وقُتل من المشركين يومئذٍ ثلاثة ومن المسلمين ستة.(1/455)
البابُ الحادي والعشرون
في ذكر غزاة بني قريظة
لمّا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق جاءه جبريل فقال: «إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة فإني عامدٌ إليهم فأزلزل بهم حصونهم».
عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا فرغ من الأحزاب دخل المغتَسل ليغتسل، فجاءه جبريل عليه السلام فقال: أوضَعتم السلاح؟ ما وضعت الملائكة أسلحتها، وها أنا أَنْهَدُ إلى بني قريظة.
قالت عائشة: كأني أنظر إلى جبريل من حلل الباب، قد عصَّب رأسَه العَنان.
قال علماء السِّيَر: (فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً) يؤذِّن في الناس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن لا تصلُّوا العصَر إلا في بني قريظة. واستخلَف ابنَ أم مكتوم».
ثم سارَ في ثلاثة آلاف، فحاصرهم أشدَّ الحصار، فأرسَلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلْ إلينا أبا لُبَابة بن عبد المنذر. فأرسلَه، فشاوروه، فأشار إليهم بيده: إنه الذبح، ثم ندم وقال: خُنْت الله ورسوله. فربط نفسه في المسجد، ولم يأت حتى أنزل الله توبته.
ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم محمدَ بن مَسْلمة، فكتِّفوا ونُحُّوا ناحية، وعزَل النساءَ والذرية، وجُمعت أمتعتهم فكانت ألفاً وخَمْسمائة سيف، وثلاثمائة درع، وألفي رمح، وخَمْسمائة تُرْس وحَجَفة، وجِمالاً كانت نواضح.
وكلّمت الأوسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يَهَبهم لهم، وكانوا حُلفاءهم، فجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحُكْم بينهم إلى سعد بن معاذ، فحكَم فيهم أن يُقْتل كلُّ من حَزَّب عليه، (وتُغْنَم) المواشي، وتُسْبى النساء والذراري، وتُقسم الأموالُ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِم بِحُكْمِ الله مِن مِن فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ» .
الباب الثاني والعشرون
في ذكر غزاة بني لحيان(1/456)
وكانوا بناحية غِفَار، وذلك في ربيع الأول سنة ستَ فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهربوا في الجبال، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
البابُ الثالث والعشرون
في غزاة الغابة
في ربيع الأول سنة ست أيضاً. وذلك أن عُيَيْنة بن حصن أغار على لِقَاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستاقها وقتل راعيها وجاء الصَّريخُ، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واستخلف ابنَ أم مكتوم، وخلّف سعدَ ابن عبادة في ثلاثمائة يحرسون المدينة وعقد لواءً للمقداد، وقال: امض فأنا في أثرك. ومضى وراءهم سلمة بن الأكوع، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له سلمة: يا رسول الله، إن القوم عِطاش. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَلكْتَ فأسْجِح» ورجع.
البابُ الرابع وَالعشرون
في غزاة الحديبية
في سنة ست استنفر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى العمرة، فأسرعوا، وخرج واستخلف ابنَ أم مكتوم، ولم يخرج بسلاح إلا السيوف في القُرب، وساق بُدْناً هو وأصحابه، فصلى الظهر بذي الحُلَيفة. ثم دعا بالبُدْن فجُللت ثم أشْعَرها في الشق الأيمن، ثم قلّدها، وأشْعَر أصحابُه، وهي سبعون بَدنة فيها جمل لأبي جهل الذي غنمه يومَ بدر، وأحرمَ ولبَّى.
وبلغ المشركون خروجَه فأجْمَعوا على صَدِّه وعسكروا ببَلْدَح وقدَّموا مائتي فارس إلى كراع الغَمِيم وتقاربوا.
فصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، ثم دنا من (مكة) فبركت به راحلته فقال المسلمون: حَلْ حَلْ. فزجروها فأبَتْ، فقالوا: خَلأت القَصْواءُ.
قال: «ما خَلأَتْ وإنَّمَا حَبَسَها حَابِسُ الفِيْلِ أمَا وَالله لا يَسْأَلونِي اليَوْمَ خُطَّةً فِيها تَعْظِيْمُ حُرُمَاتِ الله إلا أعْطَيْتُهُم إيَّاها» .(1/457)
ثم زجرها فقامت، فولّى راجعاً عوداً على بَدْء حتى نزل بالناس على ثَمد من أَثْماد الحديبية قليل الماء، فانتزعَ سهماً من كنانته فغرزَه فيها فجاشَتْ لهم بالرِّواء حتى اغترفوا بأيديهم من البئر.
وجاء بُدْيل بن وَرْقاء فقال: قد جئناك مِن عند قومك، قد استنفروا لك الأحابيشَ ومَن أطاعهم، معهم العُوذ المَطَافيل والنساء والصبيان يُقْسمون بالله لا يُخلون بينك وبين البيت حتى تَسْتَبيد خضراءهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمْ نَأْتِ لِقِتَالِ أحَدٍ، وإنَّما جِئْنَا لِنَطُوفَ بهذا البَيْتِ، فَمَنْ صَدَّنا عَنْه قَاتَلْنَاه» .
فرجع بُدَيل فأخبر قريشاً. فبعثوا عروةَ بن مسعود فكلمه بنحوٍ من ذلك فأخبر قريشاً، فقالوا: نرُدُّه عن البيت في عامنا هذا، ويرجع مِن قابل فيدخل ويطوف.
فأرسل عثمانَ بن عفان إلى أهل مكة، فأُخبر أنه قد قُتل، فبايعَ الناس بَيْعة الرِّضوان تحت الشجرة.
ثم أجمعوا على الصلح وكتبوا: «هذا ما صالح عليه محمدُ بن عبدالله وسهيل ابن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يَأْمن فيها الناسُ ويكفُّ بعضُهم عن بعض، على أنه لا سلاسل ولا أغلال، وأن بيننا عَيْبة مكفوفةً، وأنه من أحبَّ أن يدخل في عقد قريش وعَهْدها فعَل، وأنه من أتى محمداً منهم بغير إذن وليه ردَّه إليه، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمدٍ لم يردُّوه، وأن محمداً يرجع عامَه هذا بأصحابه، ويدخل علينا مِن قابل في أصحابه فيقيم بها، ولا يَدْخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر: السيوف في القرب. شهد أبو بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن وسعد وأبو عبيدة وابن سَلْمة وحُوَيطب وكتَب عليٌّ».
وكان هذا الكتاب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ونُسْخته عند سُهيل بن عمرو.(1/458)
وخرج أبو جَنْدل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يَرْسُف في قيوده، فقال سُهيل: هذا أولُ ما أقاضيك عليه فردَّه. ثم نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هَدْيه ونزل عليه: {س48ش1إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً }(الفتح: 1)
.
الباب الخامِس والعشرون
في ذكر غزاة خيبر
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فلما وصل دخلوا حصونهم وقاتلوه، فقَتل منهم ثلاثة وتسعين رجلاً، واستشهد من المسلمين خمسة عشر رجلاً، وفتحها حِصْناً حصناً. وخرج مَرْحَب فقتله عليّ. وكان الفتح على يديه.
الباب السّادس والعِشرون
في ذكر غزاة الفتح
لمّا تجهَّز رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزاة الفتح أخْفَى أمره وقال: «اللهُمَّ خُذْ عَلَى أبْصَارِهِم فَلا يَرَوْنِي إلاَّ بَغْتَةً» .
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب، أَسْلم وغِفَار ومُزَينة وجُهَينة وأَشْجع وسُلَيم، وكان المسلمون عشرة آلاف، واستخلف على المدينة ابنَ أم مكتوم. وخرج يوم الأربعاء لعشرة ليالٍ خَلَون من رمضان، وعقَد الألوية والرايات بقُدَيد.
ولم يبلغ قريشاً مسيرُه، فبعثوا أبا سفيان يَجْتَسُّ الأخبارَ، وقالوا: إن لقيتَ محمداً فخذ لنا منه أماناً.
فخرج أبو سفيان وحكيم بن حزام وبُدَيل بن ورقاء، فلما رأوا العسكَر فزعوا فسمع العباسُ صوت أبي سفيان فقال أبا حنظلة.
قال: لبَّيك.
قال: هذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف. فأسلم وأجارَه، ودخل به وبصاحبيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلَما.
وجَعل لأبي سفيان: من دخل داره فهو آمن ومن أغْلَق بابه فهو آمن.
فقال أبو سفيان للعباس: لقد أصبح مُلْك ابن أخيك عظيماً. قال: ويحك إنه ليس بمُلْكٍ ولكنها نُبوَّة.(1/459)
ونهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال، غير أنه أَمر بقتل ستة نفر وأربع نسوة: عِكْرمة بن أبي جهل فهرب ثم استأمنتْ له امرأته أمُّ حكيم بنت الحارث فأمَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهَبَّار بن الأسود، وعبدالله بن سعد بن أبي سَرْح، فاستأمَنَ له عثمانُ وكان أخاه من الرضاعة. ومقْيس بن صُبَابة قتله نُمَيلة بن عبد الله الليثي. والحُوَيْرث بن نُقَيد قتله عليُّ بن أبي طالب، وأبو عبد الله بن هلال بن خَطل قتله أبو بَرْزة. وهند بنت عتبة فأسلمت، وسارَّة مولاة عمرو بن هاشم قُتلت، وقُرَيْبة قُتلت. وفَرْتَنَى آمنتْ حتى ماتت في خلافة عثمان.
وكل جنود رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَلقوا جمعاً غير خالد، فإنه لقيه صفْوان بن أمية وسهل بن عمرو وعكرمة، وفي جمع من قريش بالْخَندَمة، فمنعوه من الدخول وشَهروا السلاح ورموا بالنَّبل، فصاح خالد في أصحابه وقاتلهم فقتل أربعة وعشرين من قريش وأربعة من هُذَيل، فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألم أنْه عن القتال؟
فقيل: خالد قوتل فقتل.
وضُربت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبة بالحَجُون ودخل مكة عَنْوة فأسلموا طائعين وكارهين، فطاف بالبيت على راحلته، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، فجعل كلما مرَّ بصنم منها يشير إليه بقضيب في يده ويقول: «جَاءَ الحَقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ» فيقع الصنم لوجهه. وكان أعظمها هُبَل وهو تجاه الكعبة، فجاء إلى المقام فصلى خلفه ركعتين ثم جلس ناحية.
ثم أرسل بلالاً إلى عثمان بن أبي طلحة أن يأتي بمفتاح الكعبة، فجاء به، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح الباب ودخل الكعبة فصلى فيها ركعتين ودعا عثمانَ بن أبي طلحة فدفع إليه المفتاح وقال: «خُذُوها يا بَنِي أبي طَلْحَةَ خَالِدةً تَالِدةً لا يَنْزِعُها مِنْكُم إلا ظَالِمٌ» . ودفع السِّقَاية إلى العباس.(1/460)
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الضحى يومئذٍ ثماني ركعات وأَذّن بلال للظهر فوق الكعبة وكُسرت الأصنام، وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصَّفا.
عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار إلى الكعبة صعد الصفا فخطب الناسَ، فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أمَّا الرجلُ فأخذته الرأفةُ بقومه والرغبة في قَرْيته. فأنزل الله الوحيَ بما قالت الأنصار، فقال: «يَا مَعْشَرَ الأنْصَارَ تَقُولون: أمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أدْرَكَتْه رَأْفَةً بِقَوْمِه وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِه. فمَنْ أنَا إذَنْ؟ كَلاَّ والله إنِّي عَبْدُ الله ورَسُولُه، مَعَاذَ (اللَّهُ) المَحْيَا مَحْيَاكُم والمَمَاتُ مَمَاتُكُم» .
قالوا: والله يا رسول الله ما قلنا ذلك إلا مخافة أن تفارقنا.
فقال: «أنْتُم صَادِقُونَ عِنْدَ الله وعِنْدَ رَسُولِه» .
قال: «فوالله ما منهم إلا من بَلَّ نحْرَه بدموعه».
قال المصنف: لما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا بايع الناسَ على الإسلام، ثم تتابع الناسُ، وكان الفتحُ يومَ الجمعة لعشر بقين من رمضان، وأقام بها خمس عشرة ليلة وخرج إلى حُنين، واستعمل على مكة عتَّاب بن أُسيد يصلي بهم ومعاذ بن جبل يعلمهم السنن والفقه.
الباب السّابع والعِشرون
في غزوة حنين
وهي غزاة هَوَزان. وحنين وَادٍ بينه وبين مكة ثلاث ليال.
وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا فتح مكة مشت هوزان وثقيف بعضها إلى بعض وحشدوا، وجمع أمرَهم مالكُ بن عوف النَّصَري، فحلُّوا بأموالهم ونسائهم وإمائهم حتى نزلوا أوطاس، وجعلت الأمدادُ تأتيهم، وأخرجوا معهم دُرَيد بن الصِّمة وهو أعمى وهو ابن سبعين ومائة سنة يُقَادُ في شِجَار وهو مركب من أعواد يُهيأ للنساء.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة في اثني عشر ألفاً، فلما وصل إليهم صَفَّ أصحابه صفوفاً، وركب بغلته الدُّلْدل، ولبسَ درعين، المِغْفَر والبَيْضة.(1/461)
فاستقبلتهم هوزان وحملت حملة واحدة، فانهزم الناسُ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يَا أنْصَارَ الله وأنْصَارَ رَسُولِه، أنَا عَبْدُ الله وَرَسُولَه» .
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العسكر، وثبت معه أبو بكر وعمر وعليّ والعباس والفضل وأبو سفيان بن الحارث وربيعة بن الحارث وأسامة.
عن عبد الله بن مسعود قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ حُنين، فولى عنه (الناسُ) وثبت معه ثمانون رجلاً من المهاجرين والأنصار، فنكَصْنا على أعقابنا نحواً من ثمانين قدماً ولم نولِّهم الدُّبُر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته لم يمض قدماً، فحادت به بغلته فمال عن السّرْج، فقلت له: ارتفع رفعك الله. فقال: «نَاوِلْنِي كَفًّا مِنْ تُرَابٍ». فضرب به وجوههم فملأ أعينهم تراباً ثم قال: «أيْنَ المُهَاجِرونَ والأنْصَارُ؟»
قلت: هم هؤلاء.
قال: «اهْتِفْ بِهِم» . فهتفتُ بهم فجاؤوا وسيوفهم في أيمانهم كأنها الشهب وولّى المشركون أدبارهم.
عن العباس قال: شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حُنَيناً، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا أنا وأبو سفيان بن الحارث، فلزمنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه وهو على بغلة شهباء أهداها له فَرْوَة بن نُفَاثة الجذاميّ.(1/462)
فلما التقى المسلمون والكفار وَلّى المسلمون مُدْبرين، وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يُركض بغلته قِبَل الكفّار. قال العباس: وأنا آخِذٌ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكُفُّها، وهو لا يألو ما أسرع نحو المشركين، وأبو سفيان بن الحارث آخِذٌ بغَرْز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبَّاسُ نَادِ: يَا أصْحَابَ الشَّجَرَةِ». قال: وكنت رجلاً صَيِّتاً فقلت بأعلى صوتي: أين أصحابُ الشجرة؟ فوالله لكأن عَطْفَتهم حين سمعوا صوتي عطفةَ البقر على الأولاد، فقالوا: يا لبَّيك يا لبَّيك
وأقبل المسلمون واقتتلوا هم والكفّار، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا حِينَ حَمِيَ الوَطِيْسُ» . ثم أخذ حصيات فرمى بهن في وجوه الكفار وقال: «انْهَزَمُوا ورَبِّ الكَعْبَةِ».
فوالله ما هو إلا (أن) رماهم بحصياته فما زلْت أرى حَدَّهم كليلاً وأمرهم مدبراً حتى هزمهم الله تعالى، وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم على بغلته
عن أبي عبد الرحمن الفهري قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة حنين، فكنا نسير في يوم قائظ شديد الحر فنزلنا تحت ظلال الشجر فلما زالت الشمس لبستُ لأمتي وركبت فرسي وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فسطاطه فقلت: السلام عليك يا رسول الله حان الرَّوَاح؟ فقال: «أَجَلْ» .(1/463)
فقال: «يَا بِلاَلُ» . فثار من تحت سَمُرة كأن ظله ظلُّ طائر، فقال: لبَّيك وسعديك وأنا فداؤك. فقال: «أسْرُجْ فَرَسِي» . فأخرج سرجاً دَفَّتاه من ليف ليس فيها أشر ولا بطر، فأسرج فركب وركبنا، فصاففناهم عشيَّتنا وليلتنا، فولّى المسلمون مدبرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا عِبَادَ الله أَنا عَبْدُ الله ورَسُولُه» . ثم اقتحم عن فرسه فأخذ كفَا من تراب: فأخبرني الذي كان أدنى إليهم مني أنه ضَرَب به وجوههم وقال: «شَاهَت الوُجُوهُ» . فهزمهم الله تعالى.
قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه تراباً؛ وسَمعنا صلصلة بين السماء وَالأرض كإمرار الحديد على الطّسْت الحديد.
عن البراء قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ حنين وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذٌ بغَرْز النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
أنا النبيُّ لا كَذِبْ
أنا ابنُ عبد المطلب
عن يزيد بن عامر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قبضة من الأرض ثم أقبل بها على المشركين فرمى بها في وجوههم وقال: «ارْجِعُوا» . فما بقي أحد يلقى أخاه إلا وهو يشكو القذى ويمسح عينيه.
عن جُبَير بن مُطْعم قال: لقد رأيتُ قبلَ هزيمة القوم الناس يقتتلون، مثل البِجَاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي، لم أشكّ أنها الملائكة، ولم يكن إلا هزيمة القوم.
قال علماء السِّير: نزلت الملائكة يومئذٍ عليها عمائم حمر.
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاء وفدُ هَوزان فسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يَمُنَّ عليهم فيما أخذ منهم، وقال رجل منهم من بني سعد بن بكر، وبنو سعد هم الذين أرضَعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّا لو مَلَحْنا للحارث بن أبي شمر أو النعمان بن المنذر لرجونا عطفه. ثم أنشد:(1/464)
امنُنْ علينا رسولَ الله في كَرَمٍ
فإنك المرءُ نرجوه ونَدَّخرُ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيُمَا أَحَبُ إليْكُم: أبْنَاؤَكُمْ وَنِسَاؤَكُمْ أمْ أمْوَالَكُمْ؟»
فقالوا: نساؤنا وأباؤنا.
فقال: «أمَّا مَا كَانَ لِي ولِبَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ فَهو لَكُم، فإذا صَلَّيْتُ بالنَّاسِ فقُولُوا: إنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ الله إلى المُسْلِمِينَ وبِالمُسْلِمِينَ إلى رَسُولِ الله في أبْنَائِنَا ونِسَائِنا. فَسأُعْطِيكُم وأسْأَلُ لَكُم» .
فقاموا، فقال: «أمَّا مَا كَانَ لي ولِبَنِي عَبْدِ المُطَّلِب فَهوَ لَكُم» .
فقال المهاجرون: أمّا ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت الأنصار كذلك.
ثم أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالغنائم فجُمعت، فكان السَّبْي ستة آلاف رأس، وكانت الإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أربعين ألفاً، وأربعة آلاف أوقية فضة. فأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائةً من الإبل، فقال: (ابني معاوية. فأعطاه كذلك. فقال:) ابني يزيد. فأعطاه كذلك. وأعطى حكيمَ بن حزام مائة من الإبل، ثم سأله مرة أخرى. وأعطى جماعة فقال ذو الخُوَيْصرة: اعدِلْ فإنك لم تعدل. قال: «وَيْلَكَ إذا لَمْ أعْدِلْ فَمَنْ يَعْدِلُ؟» .
الباب الثامِن والعشرون
في ذكر غزاة الطائف
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين يريد الطائفَ، وكانت ثَقِيف قد حصَّنت حصنها وأدخلت فيه ما يُصْلحها لسنَة، وتهيأت للقتال.
فنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريباً من الحصن، فرَموا المسلمين بالنَّبل، فحاصرهم ثمانيةَ عشر يوماً، ونصَب عليهم المِنْجَنيق، ونادَى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيَّمَا عَبْدٍ نَزَلَ إلَيْنَا فَهو حُرٌّ» فخرج بضعة عشر رجلاً، ونزل أبو بَكْرة في بكرة.
ولم يُوءْذَن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في فتح الطائف، فرجع.
الباب التاسِع والعشرون
في ذكر غزاة تبوك
كانت في رجب سنة تسع.(1/465)
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلَغه أن الروم قد جَمعت جموعاً كثيرة، وأن هرقل قد رزَق أصحابه لسنة وأجْلَبت معه جُذَام ولخم وعاملة وغسَّان وقدَّموا مقدِّماتهم إلى البَلْقاء.
فندب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الناسَ وأعْلَمهم المكانَ الذي يريد ليتأهَّبوا لذلك، وبعث إلى مكة وقبائل العرب يستنفرهم وذلك في حرَ شديد.
وجاء البكَّاؤون يَسْتحملونه فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه» . وجاء المعذِّرون فاعتذَروا.
واستخلف على المدينة محمدَ بن مَسْلمة.
فتخلّف ابنُ أُبَيّ وأصحابُه، وتخلّف الثلاثة.
فقدِم تبوكاً في ثلاثين ألفاً، ومعه عشرة آلاف فرس، وأقام بها عشرين ليلة، ثم انصرف ولم يَلْق كيداً صلى الله عليه وسلم.
الباب الثلاثون
في ذكر شعاره في حروبه صلى الله عليه وسلم
عن سلمة بن الأكوع قال: «كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم: أمِتْ أمِتْ».
وقال زيد بن علي: كان شعاره: «يا منصور أمِتْ».
عن المهلّب بن أبي صُفْرة عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنْ لَقِيَكُم العَدوُّ فإنَ شِعَارَكُم: {حم لا يُنْصَرون}» .
أبواب سراياه صلى الله عليه وسلم
كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يخرج بعث السَّرايا
الباب الأول
في عذره عن تخلفه عن السرايا صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْلاَ أنْ أشُقَّ عَلَى المُسْلِمينَ ما قَعَدْتُ خِلاَفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبيْلِ الله أبَداً، ولكنْ لاَ أجِدُ سَعَةً فَيَتَّبِعوُنِي، ولا تَطِيْبُ أنْفُسُهُم فَيَخْلِفوُنِ بَعْدي، والذي نَفْسِي بِيَدِه لَوَدِدْتُ أن أغْزُوَ فِي سَبِيْلِ الله فأُقْتَلُ، ثُمَّ أغْزُوَ فأُقْتَلَ» .
الباب الثاني
في عدد سراياه صلى الله عليه وسلم
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستًّا وخمسين سَرِيّةً، فلم نر أن نطيل بذكرها، وإنما ذكرنا الغزوات لأنه أمرٌ باشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه.(1/466)
قال أبو الوفاء بن عَقيل: يقول جُهَّال الملحدة: إنّ محمداً بُعث بالسيف.
وهذا مُحال، إنما بُعث بالبراهين والحجج، فلمّا لم يَقْبلوا قُتلوا بالسيف مكانَ عذابِ الله للأمم السالفة.
الباب الثالث
في وصاياه السرايا صلى الله عليه وسلم
عن سليمان بن بُرَيدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرَّ أميراً على جيش أو سَرِية أوصاه في خاصَّته بتقوى الله عزّ وجلّ، وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: «اغْزُوا بِاسْمِ الله فِي سَبِيْلِ الله، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِالله، اغْزُوا ولا تَغُلُّوا ولا تَغْدُرُوا ولا تُمَثِّلوا ولا تَقْتُلوا واحِداً، فإذَا لَقِيْتَ عَدوَّكَ مِن المُشْرِكِينَ فادْعُهُم إلى ثَلاثِ خِصَالٍ، فَأيْتُهُن ما أجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُم وكُفَّ عَنْهُم: ادْعُهُم إلَى الإِسْلاَمِ، فإنْ أجَابُوكَ فَاقْبَل مِنْهُم وكُفَّ عَنْهُم. وادْعُهُم إلى التَّحَوُّلِ من دَارِهِم إلى دَارِ المُهَاجِرينَ، وأخْبِرْهُم أنَّهُم (إن) فَعَلوا ذَلكَ فَلَهُم مَا للمُهَاجِرينَ، وعَلَيْهِم ما عَلَى المُهَاجِرينَ، فإن أبَوْا أن يَتَحَوَّلوا مِنها، فأخْبِرْهُم أنَّهم يكُونونَ كأعْرَابِ المُسْلِمينَ يَجْرِي عَلَيْهِم حُكْمُ الله الذي يَجْرِي عَلَى المُؤمِنينَ، ولاَ يكونُ لَهْم فِي الغَنِيْمَةِ أو الفَيْءِ شَيْءٌ، إلا أن يُجَاهِدُوا مَع المُسْلِمينَ» .
«فإن هُم أبَوْا فسَلْهُم الجِزْيَةَ، فإنْ هُم أجَابُوكَ فَأقْبَلْ مِنْهُم وكُفَّ عَنْهُم» .
«فإن هُم أبَوْا فاسْتَعِنْ بالله عَزَّ وجَلَّ وقَاتِلْهُم» .
«(1/467)
وإذا حَاصَرْتَ أهلَ حِصْنٍ فأرَادُوكَ على أن تَجْعَلَ لَهُم ذِمَّةَ الله وذِمَّةَ نَبِيِّه، فلا تَجْعَل لَهُم ذِمَّةَ الله ولاَ ذِمَّةَ نَبِيِّه، ولكن اجْعَلْ لَهُم ذِمَّتَكَ وذِمَّةَ أصْحَابِكَ، فإنَّكُم أنْ تَخْفِرُوا ذِمَّتَكُم وذِمَّةَ أصْحَابِكُم أهْوَن من أن تَخْفِرُوا ذِمَّةَ الله عَزَّ وجَلَّ وذِمَّةَ رَسُولِه» .
«وإذا حَاصَرْتَ أهلَ حِصْنٍ فَأرَادُوكَ أن تُنْزِلَهُم عَلَى حُكْمِ الله، فلا تَنْزِلْهُم عَلَى حُكْمِ الله، ولكن أنْزِلْهم عَلَى حُكْمِكَ، فإنَّكَ لا تَدْرِي أتُصِيْبُ حُكْمَ الله فِيْهِم أوْ لاَ» .
البَابُ الرّابع
في إنكاره صلى الله عليه وسلم ما لا يصلح من فعل أمير السرايا
عن سالم عن أبيه قال: بَعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بن الوليد إلى بني جُذَيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يُحْسِنوا أن يقولوا: أسلمنا. فجعلوا يقولون: صَبَأْنا صبأنا. فجعل خالد يقتل ويَأْسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيراً، حتى إذا كان يومٌ أمرَ خالدٌ أن يَقتل كلُّ رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجلٌ من أصحابي أسيره، حتى قَدِمْنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له. فرفع يده وقال: «اللهُمَّ إنِّي أبْرَأُ إليْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ» مرتين.
أبواب مكاتبته الملوك صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في إرساله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس وكتابه إليه
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطِب بن أبي بَلْتعة إلى المقوقس.
فلما وصل أكرمه وأخذ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب في جوابه: قد علمتُ أن نبيًّا قد بقي، وقد أكرمت رسولَك.
وأهدى إليه أربع جوارٍ، منهن مارية وحماراً يقال له عفير وبغلةً يقال لها الدلدل. ولم يُسْلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَنَّ الخبيث بمُلْكه ولا بقاء لملكه.(1/468)
فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هديته واصطفى مارية لنفسه، فولدت إبراهيم، ونفق الحمار مُنْصَرفه من حجة الوداع، وبقيت البغلة إلى زمن معاوية.
عن ابن جعفر قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحُدَيبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة، بعث حاطَب بن أبي بَلْتعة إلى المقوقس صاحب إسكندرية، وكتب معه كتاباً يدعو إلى الإسلام، فلما قرأ الكتابَ قال له خيراً وأخذ الكتاب، وكان مختوماً، فجعله في حقَ من عاج، ودفعه إلى جارية له، وكتب له النبي صلى الله عليه وسلم جوابَ كتابه ولم يُسْلم، وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مارية وحماره يَعْفور وبغلته دُلْدل وكانت بيضاء ولم يكن في العرب يومئذ غيرها.
وقد كان المقوقس يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم حق بما سمع من صفاته من أهل الكتاب، ولكنه لم يؤمن.
وخرج إليه المغيرةُ قَبْل إسلام المغيرة، فحدَّثه بذلك.
قال المغيرة في خروجه إلى المقوقس مع بني مالك، وأنهم لمَّا دخلوا على المقوقس قال: كيف خَلْصْتُم إليَّ محمدٌ وأصحابُه بيني وبينكم؟
قالوا: لَصِقْنا بالبحر وقد خِفناه على ذلك.
قال: كيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟
قال: ما تبعه منا رجلٌ واحد.
قال: ولِم؟ قالوا: جاءنا بدينٍ مُحْدَث لا تَدِين به الآباء ولا يدين به المِلك، ونحن على ما كان عليه آباؤنا.
قال: كيف صَنَع قومُه؟ قالوا: تَبعه أحداثهم وقد لاقاه مَنْ خالفَه مِن قومه وغيرهم من العرب في مواطن كثيرة، وتكون عليهم الدائرةُ مرِّة، وتكون لهم.
قال: أمَا تُخْبروني وتَصْدُقوني إلى ماذا يدعو؟
قال: يدعو إلى أن نَعْبد الله وحده لا شريك له ونَخْلع ما كان يعبد الآباء، ويدعو إلى الصلاة والزكاة.
قال: وما الصلاة والزكاة أله وقت يُعرف وعدد ينتهي إليه.
قال: يُصلُّون في اليوم والليلة خمس صلوات كلُّها لمواقيت وعددٍ قد سموه له، ويؤدون من كل ما بلغ عشرين مثقالاً. ثم أخبروه بصدقة الأموال.
قال: فإذا أخذها أين يضعها؟(1/469)
قال: على الفقراء يردُّها على فقرائهم، ويأمر بصلَة الرحم وإدامة الوفاء بالعهد ويحرِّم الربا والزنى والخمر، ولا يأكل ما ذُبح لغير الله.
قال: هو نبيٌّ مرسَل إلى الناس كافة، ولو أصاب القبطُ والروم تبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى بن مريم، وهذا الذي تصفون منه بُعث به الأنبياء من قبله، وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد ويظهر دينُه إلى مُنْتهى الخُفّ والحافر ومنقَطع البحار، ويوشك قومه يدفعونه بالرِّماح.
فقلنا: لو دخل الناسُ كلُّهم معه ما دخلنا. فأَنْغَض رأسَه، وقال: أنتم في اللّعب.
(ثم) قال: كيف نَسَبُه في قومه.
قلنا: هو أوسطُهم نَسباً.
قال: كذلك المسيحُ والأنبياء عليهم السلام تُبْعث في نسَب قومها.
قال: فكيف صِدْقُ حديثه؟ قلنا: ما يُسمَّى إلا الأمينَ مِنْ صِدْقه.
قال: انظروا في أمركم، أترونه يَصْدِق فيما بَيْنكم وبَيْنه ويكْذب على الله
قال: فمن تَبعه؟ قلنا: الأحداث.
قال: هم والمسيح أتباعُ الأنبياء قبلَه.
قال: فما فعلتْ به يهودُ يثرب فهم أهلُ التوراة؟
قلنا: خالَفوا فأوقع بها فقتلهم وسبَاهم وتفرقوا في كل وجه.
قال: هم حَسَدةٌ حَسَدوا، أمَا إنهم يعرفون من أمره مثلَ ما نعرف.
قال المغيرة: فقمنا مِن عنده، وقد سمعنا كلاماً ذلَّلنا لمحمد وخضعنا، وقلنا: ملوكُ العجم يصدِّقونه ويخافونه في بُعْد أرحامهم منه،ونحن أقرباؤه وجيرانه ولم ندخل معه، وقد جاءنا داعياً إلى منازلنا.
الباب الثاني
في ذكر إرساله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر وكتابه إليه
قالوا: أصبح قيصر يوماً مهموماً فقالت له بطارقته: ما هذا الهمُّ؟
قال: رأيت في هذه الليلة أن مُلْك الختان قد ظَهر. قالوا: ما نعلم أنه تختتن إلا يهود، وهم في سلطانك فاقتلهم.
فبَيْنا هم في ذلك من رأيهم أتاهم رسولُ صاحب بُصرى برجل من العرب يقوده، فقال: يا أيها الملك إنَّ هذا من العرب يحدِّث عن أمرٍ حدَث ببلاده عجيب.(1/470)
فقال: هرقل لترجمانه: سَلْه هذا الحدث الذي كان ببلاده.
فقال: خرج من بين أَظْهُرنا رجلٌ يزعم أنه نبيٌّ، فأتبعَه ناسٌ وخالفه آخرون، وكانت بينهم مَلاحمُ فتركتهم على ذلك.
فقال: جرِّدوه فإذا هو مختون، فقال هرقل: هذا أوانه الذي رأيتُ، أعطوه ثوبَه. انطلق.
ثم دعا صاحبَ شرطته، فقال له: قلِّب لي الشام ظهراً وبطناً حتى تأتيني برجل من قومِ هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي.
قال أبو سفيان: وكنت قد خرجتُ في تجارة فهجم علينا صاحبُ شرطته، فقال: أنتم من قوم هذا الرجل؟
قلنا: نعم. فدعانا.
عن عبدالله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، بعث بكتابه مع دِحْية الكلبي، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى عظيم بُصْرى ليدفعه إلى قيصر.
وكان قيصر لمَّا كشف الله عنه جنودَ فارس مشى من حِمْص إلى إيلياء تُبْسط له الزَّرابي.
قال ابن عباس: فلما جاء قيصر كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه: التمسوا لي رجلاً من قومه أسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عباس: فأخبرني أبو سفيان بن حرب أنه كان بالشام في رجال من قريش قَدِموا تجاراً، وذلك في المدة النتي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش.
قال أبو سفيان: فأتاني رسولُ قيصر، فانطلق بي وأصحابي وأدخلَنا عليه، فإذا هو جالس في مجلس مُلْكه عليه التاج، وإذا حوله عظماء الروم.
فقال لترجمانه: سَلْهم أيُّهم أقربُ نسباً من هذا الرجل؟ قلت: أنا. قال: وما قرابتُك منه؟ قلت: ابنُ عمي.
قال أبو سفيان: وليس في الرَّكْب رجلٌ من بني عبد مناف غيري. فقال قيصر: ادنه. ثم أمر بأصحابي فجعلوا خلفَ ظهري ثم قال لترجمانه: قل لأصحابه: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإنْ كذَبني فكذَّبوه.(1/471)
قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياءُ يومئذٍ أن يَأْثِر أصحابي عني الكذب لكذَبْتُه حين سألني ولكني، استحيَيْت أن يَأْثروا عني الكذب فصدَقْته عنه.
ثم قال لترجانه: قل له كيف نَسَبُ هذا الرجل فيكم؟
قلت: هو فينا ذو نسب.
قال: فهل قال هذا القول أحدٌ قبْله.
قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
قلت: لا.
قال: فهل كان من آبائه مَنْ مَلَك؟
قلت: لا.
قال: فأشرافُ الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم.
قلت: بل ضعفاؤهم.
قال: فيزيدون أم ينقصون؟
قلت: لا بل يزيدون.
قال: فهل يرتدُّ أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟
قلت: لا.
قال: فهل يَغْدر.
قلت: لا، ونحن الآن منه في مدة ونحن نخاف ذلك.
قال أبو سفيان: ولم تمكني كلمة أُدْخل فيها شيئاً أتنقصه به غيرها، لأني أخاف أن يُؤْثر عني.
قال: فهل قاتلتموه وقاتلكم؟
قال: نعم.
قال: فكيف كانت حربُه وحربكم؟
قلت: كانت دُولاً سِجَالاً، يُدَال علينا المرَّة ونُدَال عليه الأخرى.
قال: فبم يأمركم.
قلت: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصِّلة والوفاء بالعهد وأداء الأمانة.
قال: فقال لترجمانه: قل له: إني سألتك عن نسَبه فيكم، فزعمت أنه فيكم ذو نَسب، وكذلك الرسل تُبْعث في أنساب قومها.
وسألتك: هل قال هذا القول أحدٌ قبلَه. فزعمت أنْ لا. فقلتُ: لو كان أحدٌ قال هذا القول قبله لقلت: رجلٌ يتأسَّى بقول قيل قبلَه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبلَ أن يقول ما قال: فزعمت أن لا. فقد عرفت أنه لم يكن ليَذَر الكذبَ على الناس ويكذب على الله.
وسألتك: هل كان مِنْ آبائه من ملَك فزعمت أنْ لا (فقلت: لو كان من آبائه مِلك) قلت: رجلٌ يطلب مُلْك آبائه.
وسألتك: أشرافُ الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم. فزعمتَ أنَّ ضعفاؤهم اتبعوه وهم أتباع الرسل.
وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟
فزعمت أنهم يزيدون، وذلك الإيمان حتى يتم.(1/472)
وسألتك أيرتدَّ أحدٌ سَخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فزعمت أنْ لا، وكذلك (الإيمانُ) حين تخالطُ بَشَاشتُه القلوبَ.
وسألتك: هل يَغْدر؟ فزعمتَ أنْ لا. وكذلك الرسل لا تَغْدر.
وسألتك: هل قاتلتموه وقاتلكم؟ فزعمت أنْ قد فعل، وأنّ حربَه وحربكم تكون دُوَلاً، يُدَالَ عليكم مرةً وتُدَالون عليه أخرى، وكذلك الرسل تُبْتلى ثم تكون لها العاقبة.
وسألتك: بماذا يأمركم؟ فزعمتَ أنه يأمركم أنْ تعبدوا الله وحده لا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم بالصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة. وهذه صفة نبيَ قد كنتُ أعلم أنه خارجٌ، ولكن لم أظن أنه منكم.
وإن يكن ما قلتَ حقًّا فيوشك أنْ يملك موضعَ قدميَّ هاتين، والله لو أعلم أني أَخْلُص إليه لتجشَّمتُ لقاءه، ولو كنت عنده لَغَسلتُ عن قدميه.
قال أبو سفيان: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به فقريء فإذا فيه: «بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيْم. مِن مُحَمَّدٍ عَبْدِ الله ورَسُولِه إلى هِرَقْلَ عَظِيْمِ الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَن اتَّبَعَ الهُدَى، أمَّا بَعْدُ فإنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإسْلاَمِ أسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤتِكَ اللَّهُ أجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فإن تَوَلَّيْتَ فَعَلَيْكَ إثْمُ الأَرِيْسِيِّينَ: و {س3ش64قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }
(آل عمران: 64)
.
قال أبو سفيان: فلما قضَى مقالته علَت الأصواتُ حوله من عظماء الروم، وكثر لغَطهم، فلا أدري ما قالوا وأمر بنا فأخرجنا.
قال أبو سفيان: فلما خرجت مع أصحابي وخلصتْ قلت لهم: أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كَبْشة إنه ليخافه مَلِك بني الأصفر.(1/473)
قال أبو سفيان: فوالله ما زلتُ ذليلاً مُسْتيقناً أن أمره سيظهر حتى أدخل الله في قلبي الأسلامَ وأنا كاره.
وقد روينا عن الزُّهري قال: حدثني أسقفٌّ من النصارى أن هرقل قدم عليه كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعله بين فخذه وخاصرته، ثم كتب إلى رجل برومية، وكان يقرأ الكتاب العِبْرانيّ يخبره الخبر.
فكتب إليه صاحبُ روميَّة أنه النبي الذي ننتظره لا شك فيه فاتَّبعه وصدِّقه.
فأمر ببطارقة الروم فجُمعوا له في دَسْكَرة، وأُغلقت أبوابها ثم اطّلع عليهم من عُلِّية له وخافهم على نفسه. فقال: يا معشر الروم، إنه أتاني كتابُ هذا الرجل يدعوني إلى دينه، وإنه والله لَلنَّبِيّ الذي كنا ننتظر ونجده في كتبنا فهلم فلنتبعه فتَسْلم لنا دُنْيانا وآخرتنا.
فنَخَروا نَخْرة رجلٍ واحد، ثم ابتدروا أبوابَ الدَّسْكرة، فوجدوها قد أُغلقت، فقال ردُّوهم. فقال: يا معشر الروم، إنما قلت لكم لأنظر كيف صِلابتكم في دِينكم، فقد رأيتُ الذي أُسرُّ به.فوقعوا سُجَّداً له وانطلقوا.
عن دِحْية بن خليفة قال: وجَّهني النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى ملك الروم وهو بدمشق، فناولته كتابَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقبَّل خاتمه ووضَعه تحت شيء كان عليه قاعداً، ثم نادَى فاجتمع البطاركة وقومُه، فقام على وسائد ثُبِّتتَ له، وكذلك كانت فارس الروم، لم تكن لها منابر.
ثم خطب أصحابَه فقال: هذا كتابُ النبي الذي بشَّرنا به المسيح عيسى من ولد إسماعيل بن إبراهيم. فنَخَروا نَخْرةً، فأومأ بيده أن اسكتوا، ثم قال: إنما جرَّبتكم لأنظر كيف نُصْرتكم للنصرانية.
قال: فبعث إليّ من الغد سرًّا، فأدخَلني بيتاً عظيماً فيه ثلاثمائة وثلاثة عشر صورة، فإذا هي صور الأنبياء المرسلين. قال: انظر أين صاحبُك من هؤلاء.
قال: فرأيت صورة النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ينظر، فقلت: هذا.
قال: صدقت.
قال: صورة مَنْ هذا عن يمينه؟
قلت: رجلٌ من قومه يقال له أبو بكر الصديق.(1/474)
قال: فمن ذا عن يساره؟
قلت: رجلٌ من قومه يقال له عمر بن الخطاب.
قال: أما إنا نجدُ في الكتاب أنَّ بصاحبيه هذين يُتم الله الدِّين.
فلما قَدِمتُ على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتُه الخبرَ.
فقال: «صدَق، بِأَبِي بَكْرٍ وعُمَرَ يُتِمُّ اللَّهُ هَذا الدِّيْنَ ويَفْتَحُ» .
وحكى ابن إسحاق عن بعض أهل العلم أن هرقل قال لدِحْية: والله إني لأعلم أنَّ صاحبك نبيٌّ مُرْسل، وأنه الذي كنا ننتظره، ولكني أخاف على نفسي من الروم، ولولا ذلك لاتبعته.
وحكى ابن إسحاق عن خالد بن سِنَان، عن رجل من قدماء الروم، قال: لما أراد هرقلُ الخروجَ من الشام إلى القُسْطنطينيَّة، لما بلغه من أمرْ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعَ الرومَ وقال: إني عارضٌ عليكم أمراً فانظروا.
قالوا: ما هو؟
قال: تعلمون والله (أن) هذا الرجل لنبيٌّ مُرْسل نجده في كتبنا نعرفه بصِفته، فهلم نتبعه.
قالوا: تكون تحت أيدي العرب
قال: فأعطيه الجزية كل سنة أكسر عنّي شوكته وأستريح من حربه.
قالوا: نُعْطِي العربَ الذلَّ والصَّغار لا والله.
قال: فأعطيه أرضَ سورية، وهي فلسطين والأردن ودمشق وحمص وما دون الدَّرْب.
قالوا: لا نفعل.
قال: أما والله لتَرونَّ أنكم قد ظَفرتم إذا امتنعتم في مدينتكم.
ثم جلس على بغل له فانطلق، حتى إذا أَشْرَف على الدَّرْب استقبل أرضَ الشام فقال: السلام عليكِ أرض سوريّة سلامَ الوداع. ثم ركض حتى دخل القسطنطينية.
قال المصنف: وقد بعث أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر.
عن موسى بن عُقْبة أن هشام بن العاص ونُعَيم بن عبدالله ورجلاً آخر قد سمَّاه، بُعثوا إلى ملك الروم في زمان أبي بكر، قال: فدخلنا على جَبَلة بن الأيْهم وهو بالغوطة، وإذا عليه ثيابٌ سُود، وإذا كلُّ شيء حوله أسود.
فقال: لبستُ هذه نَذْراً ولا أنزعها حتى أخرجكم من الشام كلها.(1/475)
قلنا: فاتَّئدْ حتى تَمْنع مجلسك، فوالله لنأخذنّه منك ومن الملِك الأعظَم، إن شاء الله تعالى، أخبرنَا بذلك نبيُّنا صلى الله عليه وسلم.
قال: فأنتم إذاً السُّمراء.
قلنا: السُّمراء؟
قال: لستم بهم.
قلنا: ومن هم؟
قال: الذين يصومون النهار ويقومون الليل.
قلنا: نحن والله هم.
فكيف صَلاتُكم؟ فوصَفْنا له صَلاتنا.
قال: فوالله لقد غشيه سوادٌ حتى صار وجهه كأنه قطعةُ طابق.
قال: فقوموا فأمر بنا إلى الملك، فانطَلْقنا فلقينا الرسولُ بباب المدينة.
فقال: إن شئتم (أتيتكم) ببغال، وإن شئتم أتيتكم ببرَاذين.
قلنا: لا والله لا ندخل عليه إلا كما نحن.
قال: (فأرسل إليه أنهم يأبون. قال:) فأرسل أنْ خَلِّ سبيلهم.
فدخلنا مُعْتَمِّينَ متقلدين السيوفَ على الرواحل، فلما كنا بباب الملك إذا هو في غرفة له عالية، فنظر إلينا فرفَعْنا رؤوسنا وقلنا: لا إله إلا الله.
قال: فالله أعلمُ لانتقضت الغرفة كلها حتى كانا عِذْقٌ نفضَتْه الريح.
قال: فأرسل إلينا: أنَّ هذا ليس لكم أن تَجْهَروا بدينكم عليّ.
وأرسل أن ادخلوا فدخلنا فإذا هو على فراش إلى السقف، وإذا عليه ثياب حُمر وإذا كل شيء (عنده أحمر إذا) عنده بطارقة الروم، وإذا هو يريد أن يكلِّمنا برسول.
فقلنا: لا والله لا نكلمه برسول وإنما بُعثنا إلى الملك، فإن كنت تحب أن نكلمك فاذن لنا نكلمك.
فلما دخلنا عليه ضحك، وإذا هو رجل فصيح يُحْسن العربية. فقلنا: لا إله إلا الله. فالله أعلم قد انتقض السقفُ حتى رفع رأسه هو وأصحابه.
فقال: ما أعْظمُ كلامِكم عندكم؟
قلنا: هذه الكلمة.
قال: التي قلتموها قبلُ؟
قلنا: نعم.
قال: فإذا قلتموها في بلاد عدوِّكم انتقضت سقوفهم؟
قلنا: لا.
قال: فإذا قلتموها في بلادكم انتقضت سقوفهم؟
قلنا: لا وما رأيناها فعلَتْ هذا وما هو إلا شيء مُيِّزتَ به.
قال: ما أحسنَ الصدق فما تقولون إذا افتتحتم المدائن؟
قلنا نقول: لا إله إلا الله والله أكبر.(1/476)
قال: تقولون لا إله إلا الله ليس معه شيء، والله أكبر، أكبر من كل شيء؟ قلنا: نعم.
قال: فما يمنعكم أن تحيُّوني تحية نبيكم؟
قلنا: إن تحية نبينا لا تحلُّ لك، وتحيتك لا تحل لنا فنحييك بها.
قال: وما تحيتكم؟
قلنا: تحية أهل الجنة.
قال: وبها كنتم تحيُّون نبيكم؟
قلنا: نعم.
قال: فمن كان يورث منكم؟
قلنا: من كان أقربَ قرابةً.
قال: وكذلك ملوككم؟
قلنا: نعم.
قال: فأمر لنا بنزل كثير ومنزل حسن فمكثنا ثلاثاً، ثم أرسل إلينا ليلاً، فدخلنا عليه وليس عنده أحد، فاستعادَنا كلامَنا، فأَعَدْنا عليه، وإذا عنده شِبْه الربعة العظيمة مُذهبة، إذا فيها أبواب صغار، ففتح منها باباً فاستخرج منه خرقة حرير سوداء فيها صورة بيضاء، وإذا رجل طِوَالٌ أكثر الناسِ شعراً.
فقال: أتعرفون هذا؟
قلنا: لا.
قال: هذا آدم.
ثم أعاده، وفتح باباً آخر فاستخرج منه حريرةً سوداء، فإذا فيها صورة بيضاء، فإذا رجلٌ ضخم الرأس عظيم له شعر عظيم كشعر القبط أعظم الناس إلْيتيْن أحمر العينين.
قال: أتعرفون هذا؟
قلنا: (لا
قال): هذا نوح.
ثم أعاده، وفتح باباً آخر فاستخرج منه حريرةً سوداء فيها صورة بيضاء. قال: فقلنا: النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: والله هذا محمد رسول الله.
قال: فالله أعلم أنه قام وقعد (ثم) قال: آلله بدينكم إنه نبيكم؟
قلنا: الله بديننا إنه نبينا، كأنما ننظر إليه حيًّا.
ثم قال: أما إنه كان آخر الأبواب، ولكني عجلته لأنظر ما عندكم.
ثم أعاده وفتح باباً آخر فاستخرج منه خرقة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل مقلَّص الشفتين، غائر العينين، مُتراكب الأسنان، كثُّ اللحية، عابسٌ.
قال: أتعرفون هذا؟
قلنا: لا.
قال: هذا موسى. وإلى جنبه رجل يشبهه غير أن في عينيه قبلاً وفي رأسه استدارة، فقال: هذا هارون.
ثم رفعها وفتح باباً آخر فاستخرج منه خرقة سوداء، فإذا صورة حمراء أو بيضاء، فإذا رجل مَرْبُوع أشبه من خَلْق امرأة عجوز.
قال: أتعرفون هذا؟
قلنا: لا.(1/477)
قال: هذا داود.
ثم عاد وفتح باباً آخر واستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء وإذا رجل راكب على فرس طويل الرجلين (قصير الظهر) كلُّ شيء منه جناح، تحفُّه الريح.
قال أتعرفون هذا؟
قلنا: لا.
قال: هذا سليمان.
ثم فتح باباً آخر واستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا هو شاب تعلوه صُفْرَة صَلت الجبين حسن اللحية؛ قال: أتعرفون هذا؟
قلنا: لا.
قال: هذا عيسى بن مريم.
ثم أعاده وأمر بالربعة فنزعت.
فقلنا: هذه صورة نبينا قد عرفناها فإنا قد رأيناه، فهذه الصور التي لم نرها كيف نعرف أنها هي؟
فقال: إن آدم عليه السلام سأل ربه أن يريه صورة نبيّ (نبيّ)، فأخرج إليه صورهم في خِرَق الحرير من الجنة، فأصابها ذو القرنين في خزانة آدم في مغرب الشمس، فلما كان دانيال صوَّر هذه الصور فهي بأعيانها.
فوالله لو تطيب نفسي بالخروج عن مُلكي ما باليت أن أكون عبداً (لأشدكم ملكة) ولكن عسى أن تطيب نفسي.
قال: فأحسن جائزتنا وأخرجنا..
عن هشام بن العاص قال: بعثني أبو بكر الصديق ورجلاً آخر من قريش إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة ونزلنا على جبلة بن الأيهم. فذكر الحديث وذكر فيه صفة لوط وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ويوسف.
فلما قدمنا على أبي بكر حدثناه، فبكى أبو بكر وقال: مسكين لو أراد الله به خيراً لفعل.(1/478)
ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نَعْتَ محمد صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {س7ش157الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأٌّغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِى? أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (الأعراف: 157)
.
الباب الثالث
في ذكر إرساله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وكتابه إليه
عن عبدالله بن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن حَذَافة بكتابه إلى كسرى، فدفعه إلى عظيم البحرين فدفعه عظيمُ البحرين إلى كسرى، فلما قرأه ـ يعني كسرى ـ مزَّقه.
قال ابن شهاب: فحسبت أن المسيَّب قال: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمزَّقوا كل ممزَّق.
عن محمد بن إسحاق قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن حذافة بن قيس إلى كسرى بن هرمز ملك فارس، وكتب: «بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيْمِ. مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله إلى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسٍ سَلاَمٌ عَلَى مَن اتَّبَعَ الهُدَى وآمَنَ بالله ورَسُولِه. أدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الله، فإنِّي أنَا رَسُولُ الله إلى النَّاسِ كَافَّةً لأنْذِرَ مَن كَانَ حَيًّا ويَحِقَّ القَوْلُ على الكَافِرِينَ. فأسْلِمْ تَسْلَمْ، فإنْ أبَيْتَ فإنَّ إثْمَ المَجُوسِ عَلَيْكَ» .
فلما قرأ كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم شقَّ كتابه.
ثم كتب كسرى إلى باذان وهو على اليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز من عندك رجلين جَلْدَين فليأتياني به.(1/479)
فبعث باذان قهرمانة وهو بابويْه، وكان كاتباً حاسباً، وبعث معه برجل من الفُرْس وكتب معهما كتاباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال لبَابويْه: ويلك انظر حال الرجل وكلمه وائتني بخبره.
فخرجا حتى قدما الطائف، فسألا عنه، فقالوا: هو بالمدينة. واستبشروا وقالوا قد نَصب له كسرى، كُفيتم الرجل
فخرجا حتى قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه بابويه وقال: إن شاه شاه ملك الملوك كسرى كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلتَ كتبتُ فيك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك ويكفُّ عنك به، وإن أبيت فهو من قد علمتَ، وهو مهلكك ومهلك قومك ومخرِّب بلادك.
وكانا قد دخلا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال: «ويْلَكُمَا مَن أمَرَكُمَا بِهذا؟»
قالا: أمرنا بهذا ربُّنا. يعنيان كِسْرى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكنَّ رَبِّي أمَرَنِي بإعْفَاءِ لِحْيَتِي وقَصِّ شَارِبِي» .
ثم قال لهما: «ارْجِعَا حتَّى تَأْتِيَانِي غَدًا» .
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر أن الله سلّط على كِسرى ابنَه شيرويه فقتله في شهر كذا في ليلة كذا وكذا ولكذا من الليل.
فلما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما: «إنَّ رَبِّي قَتَلَ رَبَّكُمَا لَيْلَة كَذَا وكَذَا لكَذَا وكَذَا منَ اللَّيْلِ، سَلَّطَ عَلَيْه ابْنَه شِيْرَوَيْه فَقَتَلَه» .
فقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقِمْنا منك ما هو أيسر من هذا، أفنكتب بها ونخبر الملك؟».(1/480)
قال: «نَعَمْ، أخْبِرَاه ذَلكَ عَنِّي، وقُولاَ لَه: إنَّ دِيْنِي وسُلْطَانِي سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ مُلْكُ كِسْرَى، وينْتَهِي إلى مُنْتَهَى الخُفِّ، والحَافِرِ، وقُولاَ لَه: إنَّكَ إن أسْلَمْتَ أعْطَيْتُكَ ما تَحْتَ يَدَيْكَ وملّكْتُكَ عَلَى قَوْمِكَ مِن الأَبْنَاء» .
ثم أعطى رفيقه الآخر مِنْطقة فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك.
فخرجا من عنده حتى قدما على باذان (فأخبراه) الخبر فقال: والله ما هذا بكلام مَلك، إني لأرى الرجل نبيًّا كما يقول، ولننظرنَّ ما قال، فلئن كان ما قال حقاً إنه لنبي مُرْسَل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا.
فلم يلبث باذانُ أن قدم عليه كتابُ شيرويه: أمَّا بعد فإني قتلت كسرى ولم أقتله إلا غضباً لفارس، لما كان يستحلُّ بقتل أشرافهم وتَجْميرهم في ثغورهم فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممَّن قِبَلَك، وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب لك فيه فلا تهِجْه حتى يأتيك أمري فيه.
فلما انتهى كتابُ ابن كسرى إلى باذان قال: إن هذا الرجل رسولُ الله، فأسلم وأسلمت الأبناء من فارس، من كان منهم (باليمن).
عن المقْبُري قال: جاء فيروز الديلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن كِسرى كَتب إلى باذان: أن بلغني أن في أرضك رجلاً نبيًّا فاربطه وابعث به إليَّ: فقال: «إنَّ رَبِّي غَضِبَ عَلَى رَبِّكَ فَقَتَلَه بَنُوه سَحَرًا لِسَاعَةٍ» . فخرج من عنده فسمع الخبر فأسلم وحَسُن إسلامه.
الباب الرابع
في ذكر إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي وكتابه إليه(1/481)
قال ابن إسحاق: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أُمية إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وكَتب معهم: «بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيم مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله إلى النَّجَاشِيّ مَلِكِ الحَبَشَةِ. إنِّي أحْمَدُ إليْكَ اللَّهَ الذي لاَ اله إلاَّ هو المَلِكُ القَدُّوسِ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ، وأَشْهَدُ أنَّ عِيْسَى بْنَ مَرْيَمَ رُوْحُ الله وَكَلِمَتُه ألْقَاها إلى مَرْيَمَ البَتُولِ الطَّيِّبَةِ فَحَمَلَتْ بِعِيْسَى، وإنِّي أدْعُوكَ إلى الله وَحْدَه لا شَرِيكَ لَه وأنْ تَتَّبِعْنِي وتُؤْمِنَ بالذي جَاءَنِي، فإنِّي رَسُولُ الله، وقَدْ بَعَثْتُ إليْكَ ابْنَ عَمِّي جَعْفَرًا ومَعَه نَفَرٌ منْ المُسْلِمِينَ. والسَّلامُ عَلَى مَن اتَّبعَ الهُدَى» .
وكَتب النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله من النجاشي سلامٌ عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته الذي لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام.
أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكَرت من أمر عيسى، فوربِّ السماء والأرض إن عيسى عليه السلام ما زاد على ما ذكرْت ثفرُوقاً، وإنه كما قلت. وقد عرفنا ما بعثته إلينا وقدم ابن عمك وأصحابه، وأشهد أنك رسول الله، وقد بايعتُك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين وقد بعثت إليك بابني، وإن شئت أن آتيك فعلتُ يا رسول الله. فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قال ابن إسحاق: فذكر لي أنه بعث ابنه في ستين من الحبشة في سفينة حتى إذا توسطوا البحر غرقت بهم سفينتهم فهلكوا.(1/482)
وقال الواقدي عن أشياخه: كَتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابين إلى النجاشي يدعوه في أحدهما إلى الإسلام ويتلو عليه القرآن، فأخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه على عينيه ونزل عن سريره وجلس على الأرض تواضعاً، ثم أسلم وشهد شهادة الحق. وقال: لو كنت أستطع أن آتيه لأتيته.
وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجابته وتصديقه، وإسلامه على يد جعفر.
وفي الكتاب الآخر يأمره أن يزوجه بأم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت هاجرت إلى الحبشة مع عبيد الله بن جحش الأسدي فتنصَّر هناك ومات، وأمره في الكتاب أن يبعث إليه بمن قِبَله من أصحابه ويحملهم. ففعل ذلك.
عن أبي قتادة قال: قدم وفدُ النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نحن نكفيك.
فقال: «إنَّهُم كَانُوا يُكْرِمُونَ أصْحَابِي فَأُحِبُّ أنْ أُكَافِأَهُم» .
عن أبي هريرة قال: نعى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي اليوم الذي مات فيه فخرج إلى المصلى فصف أصحابه خلفه وكَبَّرَ عليه أَرْبعاً.
قال عائشة رضي الله عنها: لما مات النجاشي كُنَّا نتحدث أنه لا يزال يُرَى على قبره نور.
وقد روي لنا أن النجاشي الذي كَتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالنجاشي الذي صلّى عليه.
عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كَتب إلى كسرى وقيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الباب الخامس
في ذكر إرساله صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، وكتابه إليه
روى الواقدي عن أشياخه قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاعَ بن وهب الأسدي إلى الحارث ابن أبي شِمْر يدعوه إلى الإسلام، وكتب معه كتاباً.(1/483)
قال شجاع: فانتهيت إليه وهو بغوطة دمشق لتهيئة الأنزال والألطاف (لقيصر) من حمص إلى إيلياء، فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة، فقلت لحاجبه إني رسولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا. وجعل حاجبه ـ وكان روميَا ـ يسألني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أحدِّثه عن صفة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه فيرقُّ حتى يَغْلبه البكاء ويقول: إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي ونَعْته، وأنا أُومن به وأصدِّقه، وأخاف من الحارث أن يقتلني. فكان يكرمني ويحسن ضيافتي.
وخرج الحارث يوماً فجلس ووضع التاج على رأسه، فأذن لي عليه، فدفعت إليه كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه ثم رمى به وقال: من ينزع مني مُلكي أنا سائر إليه عليَّ بالناس. فلم يزلْ يعرضُ ختى قام، وأمر بالخيول (أن) تُنعل.
ثم قال: أخبر صاحبك بما ترى.
(وكتب إلى قيصر يخبره بخبري) فكتب إليه قيصر: أن لا تسرْ إليه والْه عنه ووافِني بإيلياء.
فلما جاء جوابُ كتابه دعاني فقال لي؛ متى تريد أن تخرج لصاحبك؟ فقلت: غداً. فأمر لي بمائة دينار ذهباً، ووصَلني حاجبُه بنفقة وكسوة وقال: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام.
فقدمتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: «بادَ مُلْكُه» .
ومات الحارث بن أبي شمر عام الفتح.
الباب السادس
في ذكر إرساله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي الحنفي وكتابه إليه
روى الواقدي عن أشياخه قالوا، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَلِيط بن عمرو العامري إلى هَوْذَة بن علي الحنفي يدعو إلى الإسلام وكتب معه كتاباً، فقدم عليه فأنزله وحبَاه، وقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب إليه: ما أحسنَ أن تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتَّبعك. وأجاز سَلِيط بن عمرو يجائزة وكساه ثوباً من نسيج هجر.(1/484)
فقدم بذلك كله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره عنه بما قال، وقرأ كتابه فقال: «لَوْ سَأَلَنِي سَيَابةً مِن الأَرْضِ مَا فَعَلْتُ، بَادَ وبَادَ مَا فِي يَدَيْه».
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتح جاءه جبريل فأخبره أنه مات.
الباب السابع
في ذكر إرساله صلى الله عليه وسلم إلى جبلة بن الأيهم
كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم لم يزل مسلماً إلى زمن عمر بن الخطاب، فطاف بالبيت فوطىء إزاره رجلٌ من بني فزارة فانحلّ، فرفع جبلةُ يده فلطمه فهشَم أنفه، فاستعدى عليه عمرَ فقال له: إما أن تُرْضِي الرجل وإما أن أُقيده منك. قال: إذاً أتنتصَّر. قال: إن تنصَّرْتَ ضربتُ عنقك. قال: سأنظر في أمري الليل. فتحمَّل في الليل هو وأصحابه حتى أتى القسطنطينية فتنصَّر ومات على ذلك.
وقد شرحنا قصته في كتاب «المنتظم».
الباب الثامن
في ذكر إرساله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الكلاع
(وكان) ملكاً من ملوك الطائف، واسمه سَمَيْفع بن حَوشب. وكان قد استعلى حتى ادعى الربوبية، فكاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد جرير بن عبدالله، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل عَود جرير.
وأقام ذو الكَلاَع على ما هو عليه إلى أيام عمر، ثم رغِب في الإسلام فوفد على عمر ومعه ثمانمائة عبد، فأسلم هو وعبيده كلهم، وقال لعمر: لي ذنبٌ ما أظن الله تعالى يغفره. قال: ما هو؟
قال: تواريتُ مرةً عمن تعبدَّ لي، ثم أشرفتُ عليهم فسجد لي زُهاء مائة ألف.
فقال عمر: التوبة بإخلاص يُرْجى بها الغفران.(1/485)
عن علوان بن داود عن رجل من قومه قال: بعثني قومي بهدية إلى ذي الكَلاع في الجاهلية، فمكثت سَنة لا أصل إليه، ثم إنه أشرف بعد ذلك من القصر فلم يره أحد إلاَّ خَرَّ له ساجداً. ثم رأيته بعد ذلك في الإسلام قد اشترى لحماً بدرهم فلم يكن معه من يحمله فسمَطه على فرسه وأنشأ يقول:
أفّ للدنيا إذا كانت كذا
كلَّ يوم أنا منها في أَذَى
ولقد كنتُ إذا ما قِيلَ مَنْ
أنْعَمُ الناسِ معاشاً قيلَ ذا
بَدَّلَتْنِي بعدَ عِزِّي شَقْوَةً
حبَّذا فيك شَقايَ حبذا
الباب التاسع
في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فروة الجذامي
عن وائل بن عمرو قال: كان فَرْوَة بن عمرو الجذامي عاملاً للروم فأسلم وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه، وبعث به رجل من قومه وبعث إليه ببغلة بيضاء وفرس وحمار وأثواب، وبقَباء سندس محوَّص بالذهب.
وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله إلَى فَرْوَةَ بْنِ عَمْروٍ، أمَّا بَعْدُ فَقَدْ قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُكَ وبَلَّغَ مَا أرْسَلْتَ بِه، وخَبَّر عَمَا قِبلَكَ وأتَانَا بإسْلاَمِكَ. قَال: وإنَّ اللَّهَ هَدَاكَ بِهُدَاه» .
وأمر بلالاً فأعطى رسولَه اثنتي عشرة أوقية ونَشًّا.
وبلغ ملكَ الروم إسلامُ فورة فقال له: ارجع عن دينك. قال: لا أفارق دين محمد صلى الله عليه وسلم، وإنك تعلم أن عيسى بشّر به ولكنك تضِنُّ بملكك. فحبسه ثم أخرجه فقتله وصلبه.
الباب العاشر
في ذكر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جيفر وعبد ابني الجَلَنْدي
كتَب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما وهما بعُمان يدعوهما مع عمرو بن العاص.
قال: فعمدْت إلى عبْدٍ فقلت: إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك.
قال: أخي المقدَّم عليّ بالسنِّ والملْك، وأنا أوصلك إليه.(1/486)
فدخلتُ عليه فدفعتُ إليه الكتابَ مختوماً، فقرأه فقال: دعني يومي هذا وارجع إليّ غداً. فرجعت إليه، فقال: إني فكَّرتُ فيما دعوتني إليه، فأنا أضعفُ العرب إنْ ملَّكْتُ رجلاً ما في يدي (وهو لا تبلغ خيله ها هنا، وإن بلغت خيله ها هنا أَلِفَتْ قتالاً ليس كقتال من لاقى(. قلت: فإني خارجٌ غداً.
فلما أصبح أرسل إليّ فأجابَ إلى الإسلام هو وأخوه وخلَّيَا بيني وبين الصدقة فأخذتها فرددتها في فقرائهم.
الباب الحادي عشر
في إرساله صلى الله عليه وسلم إلى المنذر
بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوَى العبدي بالبحرين، فكتب المنذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسلام والتصديق.
الباب الثاني عشر
في كتابه صلى الله عليه وسلم إلى ملوك حمير(1/487)
عن محمد بن إسحاق عن عبدالله بن أبي بكر قال: قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب ملوك حمير مَقْدمه من تبوك بإسلام الحارث بن عبد كُلال ونُعيم بن عبد كلال والنعمان قَيْل ذي رُعَيْن وَهِمْدان ومعافر، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ. مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله إلى الحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ونُعَيْمٍ بنِ عَبْدِ كُلاَلٍ والنُّعْمَانَ قَيْل ذي رُعَيْن وهَمْدَانَ ومَعَافِرُ، أمَّا بعدُ فإنِّي أحْمَدُ إليْكُم اللَّهَ الذي لاَ اله إلاَّ هو، فإنَّه وَقَعَ إليْنَا رَسُولَكُم قَافِلاً مِن أرْضِ الرُّومِ، فَلَقِيَنا بالمَدِينَةِ، فَبَلَّغَ مَا أرْسَلْتُم، وأنْبَأنا بإسْلاَمِكُم وقَتْلِكُم المُشْرِكِينَ، وإنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ هَدَاكُم بِهِدَايَتِه إن أصْلَحْتُم وأطَعْتُم اللَّهَ ورَسُولَه وأقَمْتُم الصَّلاَةَ وأعْطَيْتُم الزَّكَاةَ وأعْطَيْتُم مِن المِغْنَامِ خُمْسَ الله وخُمْسَ نَبِيِّه وصَفِيَّة، ومَا كَتَبَ اللَّهُ عَلى المُؤْمِنينَ مِن الصَّدَقَةِ، ومَن كانَ عَلَى يَهُودِيَّتِه أو نَصْرَانِيَّتِه، فإنَّه لا يُغَيِّرُ عَنْهَا وعَلَيْه الجِزْيَةُ» .
وقد كتب وأرسل إلى آخرين، فاقتصرنا على ما ذكرنا، والله الموفق.
قال ابن عقيل: من الدليل على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كاتَبَ كسرى وقيصر وغيرهما، وأمْرُه مع قومه كلهم ما استتبَّ، فضلاً عن عامة العرب، ولولا أنه مدفوع إلى المكاتبة من جهة مَن إليه حفظُ العاقبة لم يفعل ذلك، فإن ذلك لا يَصْدر عن رأيِ ذي رأيٍ قط.
ثم أفْضَى الأمرُ إلى أن قُسمت غنائم كسرى في مسجده، وإنما كان يتكلم على ما اطلع عليه من انتشار دعوته وعُلوّها على كل الملْك، فذاك الذي أطالَ لسانَه على الكل.
فهل يكون في الاطلاع على الغيب أوْحَى من هذا ومن الثقة بالمرسِل له.
فهذا الذي لِلْعالم أن يستدلّ به على صدقه.(1/488)
فما أسْخَف عقولَ الشاكِّين في نبوّته مع تَشَعْشُع أنوار صدقه.
أبواب ذكر الوفود عليه صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في ذكر وفد سعد بن بكر
عن عبدالله بن عباس قال: بَعثت بنو سعد بن بكر ضِمَامَ بن ثعلبة وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقدِم وأناخ بعيره على باب المسجد وعقَله. ثم دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، وكان ضمام رجلاً جَلْداً أشْعَر ذا غَدِيرتين، فأقبل حتى وقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه. فقال: أيُّكم ابنُ عبد المطلب؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ» .
قال: محمد؟
قال: «نَعَمْ» .
قال: يا بن عبد المطلب، إني سائلك ومشدِّد في المسألة، فلا تجدَنَّ في نفسك؟
قال: «لاَ أجِدُ فِي نَفْسِي سَلْ عَمَّا بَدَا لك» .
قال: أنشدك الله إلهك وإله مَنْ كان قبلك وإله من هو كائنٌ بعدَك، آلله بعثَك إلينا رسولاً؟
قال: «اللهُمَّ نَعَمْ» .
قال: فأنشدك الله إلهك وإله مَنْ كان قبلك وإله مَنْ هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نخلع هذه الأنداد التي كانت أوثاناً تُعْبد من دون الله؟
قال: «اللهُمَّ نَعَمْ» .
قال: فأنشدك الله إلهك وإله من هو كائن قبلك وإله من هو كائن بعدك آلله أمرك أن نُصَلي هذه الصلوات الخمس؟
قال: «اللهُمَّ نَعَمْ» .
قال: ثم جعل يذكر فرائضَ الإسلام فريضةً فريضة، الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع الإسلام كلها (يناشده عند كل فريضة منها كما) يناشده في التي قبلها.
حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه لا أزيد ولا أنقص.
ثم انصرف راجعاً إلى بعيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم جين ولّى: «إنْ يَصْدُقْ ذُو العَقِيْصَتَيْنِ يَدْخُل الجَنَّةَ» .(1/489)
قال: فأتَى إلى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللاتُ والعزَّى.
فقالوا: مَهْ يا ضمام، اتق البرصَ والجذام والجنون
فقال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله عز وجل قد بعث رسولاً وأنزل عليه كتاباً استنقذكم (به) مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه.
قال: فوالله ما أمَسْى في حاضِره رجلٌ ولا امرأة إلا مسلماً.
قال: يقول ابن عباس: فما سمعنا بوافد قومٍ كان أفضَلَ من ضِمَام بن ثعلبة.
الباب الثاني
في وفد مزينة
عن كثير بن عبدالله المزني قال: كان أول وفدٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مضر أربعمائة من مُزَينة، وذلك في رجب سنة خمس، فجعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الهجرة في دارهم وقال: «أنْتُم مُهَاجِرُونَ حَيْثُ كُنْتُم فَارْجِعُوا إلَى أمْوَالِكُم» . فرجعوا إلى بلادهم.
الباب الثالث
في ذكر وفد فزارة
عن أبي وَجْزة السَّعدي قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك قدم عليه وفدُ بني فَزَارة، بضعة عشر رجلاً منهم خارجة بن حصن والحُرُّ بن قيس، على رِكَابٍ عِجَاف، فجاؤوا مُقرِّين بالإسلام، وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بلادهم فقال أحدهم: أسْنَتَتْ بلادُنا وهلكت مواشينا وأجدبَ جَنابنا وغَرِثَتْ عيالنا، فادع لنا ربَّك.
فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر ودعا فقال: «اللهُمَّ اسْقِ بِلاَدَكَ وعِبَادَكَ وانْشُرْ رَحْمَتَكَ وأَحي بَلَدَكَ المَيِّتْ، اللهُمَّ اسْقِنَا غَيْثاً مُغِيْثاً مَرِيًّا مَرِيْعاً طَبَقاً، وَاسِعًا عَاجِلاً غَيْرَ آجِلٍ نَافِعًا غَيْرَ ضَارَ، اللهُمَّ اسْقِنَا سُقْيَا رَحْمَةٍ لاَ سُقْيَا عَذَابٍ ولا هَدْمَ ولا غَرَقَ ولا مَحْقَ، اللهُمَّ اسْقِنا الغَيْثَ وانْصُرْنا عَلَى الأعْدَاءِ» .(1/490)
فمطرت فما رأوا السماء سَبْتاً، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فدعا وقال: «اللهُمَّ حَوَالَيْنا وَلاَ عَلَيْنَا، اللهُمَّ عَلَى الآكَامِ والظِّرَابِ وبُطُونِ الأوْدِيَةِ ومنَابِتِ الشَّجَرَةِ» . قال: فانجابَ السحابُ عن المدينة كانجِيَابِ الثوب.
الباب الرابع
في ذكر وفد تجيب
عن الحويرث قال: قدم وفدُ تَجِيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع وهم ثلاثة عشر رجلاً، وساقوا معهم صدقات أموالهم.
فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقال: «مَرْحَبًا بِكُم» .وأكرمَ منزلهم، وأمر بلالاً أن يحسن ضيافتهم وجوازئهم، وأعطاهم أكثر مما كان يُجيز به الوفدَ.
وقال: «هَلْ بَقِيَ مِنْكُم أَحَدٌ؟»
قالوا: غلامٌ خلفناه على رحالنا وهو أحْدَثنا سنًّا.
قال: «أرْسِلُوه إلَيْنَا» . فأقبل الغلامُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني امرؤ من بني أَبْذَى الرهط الذين أتوك آنفاً فقضيتَ حوائجهم، فاقض حاجتي.
قال: «وما حَاجَتُكَ؟»
قال: تسأل الله أن يغفر لي ويرحمني ويجعل غَناي في قلبي.
فقال: «اللهُمَّ اغْفِرْ لَه وارْحَمْه واجْعَلْ غِنَاهُ فِي قَلْبِه» . ثم أمَر له بما أمر لرجلٍ من أصحابه.
فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الموسم بمنًى سنة عشر فسألهم عن الغلام. فقالوا: ما رأينا مثله ولا أَقْنع منه بما رزقه الله عز وجل.
الباب الخامس
في ذكر وفد سعد هذيم وهم من أهل اليمن
عن فروة بن سعيد، عن أبيه، عن جده قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه وفدُ أهل اليمن. فقالوا: يا رسول الله، قد أحيانا الله ببيتين من شعر امرىء القيس.
قال: «وَمَا هُمَا؟»
قالوا: أقبلنا نريدك حتى إذا كنا بموضع كذا وكذا أخطأنا الماء فلم نقدر عليه، فانتهينا إلى موضع طلح وسَمر، فانطلق كل رجل منا إلى ظل شجرة ليموت في أصلها، فبينا نحن في آخر رمقٍ إذا راكبٌ قد أقبل فلما رآه بعضنا تمثّل:(1/491)
ولمّا رأتْ أنّ الشّرِيعة همُّها
وأن البَياضَ من فَرائصها دامِي
تَيَّممت العينَ التي عند ضارجٍ
يفيء عليها الظلُّ عَرْمُضها طامي
فقال الراكب: مَنْ يقول هذا الشعر؟
فقال بعضنا: امرؤ القيس.
قال: هذه والله ضارج أمامكم، وقد رأى ما بنا من الجهد. فرجعنا إليها فإذا بيننا وبينها نحواً من خمسين ذراعاً، وإذا هي كما وصف امرؤ القيس عليها العَرْمض يَفيء عليها الظلُّ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذَاكَ رَجُلٌ مَشْهُورٌ فِي الدُّنْيا خَامِلٌ فِي الآخِرَةِ مَذْكُورٌ فِي الدُّنْيَا، يَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ مَعَه لِوَاءُ الشُّعَرَاءِ يَقُودُهُم إلى النَّارِ» .
الباب السادس
في ذكر وفد محارب
عن أبي وَجْزة السعدي قال: قدم وفد محارب سنة عشر في حجة الوداع وهم عشرة نفر منهم سواء بن الحارث وابنه خزيمة، فأسلموا ولم يكن أحد أفظَّ ولا أغلظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
وكان في الوفد رجل منهم يعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الحمد لله الذي أبقاني حتى صدَّقتُ بك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ هَذِه القُلُوبُ بِيَدِ الله» ومَسَح وجهَ خزيمة فصارت له غرة بيضاء وأجازه كما يجيز الوفدَ وانصرفوا.
الباب السابع
في ذكر وفد بجيلة
عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، قال: قدم جريرُ بن عبدالله البَجلي المدينة سنة عشر ومعه قومه مائة وخمسون رجلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَطْلُع عَلَيْكُم مِن هَذا الفَجِّ مِن خَيْرِ ذِي يَمَنٍ عَلَى وَجْهِه مِسْحَةُ مُلْكٍ» .
فطلع جريرٌ على راحلته ومعه قومه، فأسلموا وبايعوه.(1/492)
قال جرير: وبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فبايعني، وقال: «عَلَى أنْ تَشْهَدَ أنْ لاَ اله إلاَّ اللَّهُ وَأنِّي رَسُولُ الله، وتُقِيْمَ الصَّلاَةَ، وتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وتَصُومَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وتَنْصَحَ المُسْلِمِينَ، وتُطِيْعَ الوَالِي وإنْ كَانَ عَبْداً حَبَشِيًّا» .
قال: نعم فبايعته.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسائله عما وراءه، فقال: يا رسول الله، قد أظهر الله الإسلامَ والأذان وهَدمت القبائل أصنامها التي كانت تعبدها.
قال: فما فعل ذو الخَلَصة؟
قال: «هُو عَلَى حَالِه» . فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هدم ذي الخَلَصة، وعقد له لواء، فقال: إني لا أَثْبُت على الخيل. فمسح رسولُ الله صدره وقال: «اللهُمَّ ثَبِّتْهُ واجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا» .
فخرج في قومه وهم زُهَاء مائتين، فما أطالَ الغيبة حتى رجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهَدَمْتَه؟» .
قال: نعم، وأحرقته بالنار والذي بعثك بالحق، وتركتُه كما يسوء أهلَه.
فبارَك رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها.
الباب الثامن
في ذكر وفد نهد
عن علي بن أبي طالب أن وفد نَهْدٍ قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم طِخْفة بن زهير، فقالوا: أتيناك يا رسول الله من غَوْري تِهامة على أَكْوار الميْس، ترتمي بنا العيسُ، نستحلب الصَّبير، ونَستحلب الخبير، ونَسْتخيل الرِّهام، ونسْتخيل الجهَام، من أرض بعيدة المْبطأ، غليظة الموْطأ، قد يبس المُدْهن، ونَشِف الجِعْثن، وسقطت الأملوج، ومات العُسْلوج، وهلك الهَدَال، ومادَ الودْي، بَرِئْنا إليك يا رسول الله من الوَثَن والعنَنَ، وما يُحْدث الزمَن، ولنا نَعم هملَ أغفال، ووقيرٌ قليل الرِّسْل كثير الرَّسَل، أصابتنا سَنة حمراء، أكْدَى فيها الزرع، وامتنع فيها الضّرع، ليس لها عَلل ولا نَهل.(1/493)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ في مَخْضِهَا ومَخْضِهَا ومَذْقِهَا، واحْبِسْ الثَّمَرَ بِيَانِعِ الثَّمَرِ، وافْجُرْ لَهُمْ الثَّمَدَ وبَارِكْ لَهُم فِي الوَلَدِ» .
ثم كتب معه كتاباً نسخته: «بِسْمِ الله الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ. مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله إلى نَهْدٍ، السَّلاَمُ عَلَيْكُم مَن أقَامَ الصَّلاَةَ كَانَ مُؤْمِناً، ومَن آتَى الزَّكَاةَ كَانَ مُسْلِماً، ومَنْ شَهِدَ أنْ لاَ اله إلاَّ اللَّهُ لَمْ يُكْتَبْ غَافِلاً، لَكُم فِي الوَظِيْفَةِ، الفَرِيْضَةَ، ولَكُم الفَارِضُ والقَرِيْشُ، مَا لَمْ تُضْمِرُوا إمَاقاً، ولم تَقْطَعُوا رِبَاقَاً، ولَمْ تَأْكُلوا الرِّبا».
فقلت له: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي نحن بنو أب واحد، ونشأنا في بلد واحد، وإنك لتكلم وفودَ العرب بلسانٍ ما يُفْهم أكثره. فقال: «إنَّ اللَّهَ أدَّبَنِي فَأحْسَنَ أدَبِي ونَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدٍ» .
الأكوار: الرِّحَال.
والميس: شجر.
والصَّبِير: سحاب أبيض متراكب.
ونستحلب: بمعنى نحصد.
والخبير: النبات.
وتستخيل السحابة: إذا رأيتها فحسبتها ماء مطر، وتخيَّلت السحابة إذا تهيأت للمطر،
والرهام: الأمطار الضعاف التي لا تروي الأرض.
ونستخيل الجهام في الموضعين.
والجهام: سحاب ماء فيه.
والمبطأ: البعد.
والمُدْهن: نقرة واسعة تكون في الجبل تستنقع.
والجعثن: أصل النبات.
والأملوج: الغصن.
والهدال: ضرب من الشجر. وماد: مات. والوْدي: الفَسِيل. والهَمل: المهْمَل بلا راع.
والوقير: الشاة براعيها. والرِّسل: اللبن. والرَّسَل: ما يرسل منها إلى المراعي.
والسَّنة الحمراء: سنة الجدَب. وأكدى: انقطع. والنهل: الشُّرب الأول.
والعلل: الثاني. والوظيفة: كل ما يُقدَّر.
والفَرِيضة: الهرمة، وهي الفارض. والفارض: المريضة.
والقريش: التي وضعت حديثاً كالنفساء من النساء.(1/494)
والإماق: الأنفة. والرباق: جمع ربق، وهو الحَبْل، والمعنى: ما لم يقطعوا رباق العهد الذي في أعناقهم.
الباب التاسع
في ذكر وفد عامر بن صعصعة
روى ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: قَدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفدُ (بني عامر، فيهم) عامر بن الطُّفيل، وأربد بن قيس، وجَبَّار بن سلمى، وهؤلاء الثلاثة رؤساء القوم (وشياطينهم). وكان قد قال لعامر قومُه: أسْلِم فإنّ الناس قد أسلموا. فقال: والله لقد كنت آليتُ أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عَقِبي فأنا أتبعُ عَقبي هذا الفتى
ثم قال لأرْيَد: إذا قَدِمْنا على هذا الرجل فإني سأشغل وجهه عنك فاعْلُه بالسيف.
فلما قدموا جعل عامر يكلِّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وينتظر من أَرْبَد ما أمره فلم يُحرْ شيئاً، فقال: أمَا والله لأمْلأنَّها عليك خيلاً جُرْداً ورجالاً مُرْداً.
فلما ولّى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ اكْفِنِي عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ» .
فقال عامر لأربد: أين ما أوصيتك به ويلك؟
قال: والله ما هممتُ بالأمر إلا دخلتَ بيني وبين الرجل، أفأضربك بالسيف؟
وخرجوا راجعين إلى بلادهم.
فبعث الله الطاعون على عامر في طريقه فقتله الله، وأرسل على أَرْبد صاعقةً فأحرقته.
عن عامر بن الطفيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَشه وسادة وقال: «أَسْلِمْ يَا عَامِرُ» .
قال: على أن لي الوَبر ولك المدَر. فأبَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وقام عامر مغضباً وقال: والله لأملأنّها عليك خيلاً جُرْداً، ورجالاً مُرْداً، ولأربَطنّ بكل نخلة فرساً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نَفْسِي بِيَدِه لَوْ أسْلَمَ وأسْلَمَتْ بَنُو عَامِرٍ لَزَاحَمَتْ قُرَيْشاً عَلَى مَنَابِرِهَا» .(1/495)
ثم دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقال: «يَا قَوْمُ آمِنُوا» ثم قال: «اللهُمَّ اهْدِ بَنِي عَامِرٍ، واشْغَلْ عَنِّي عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ بِمَا شِئْتَ وأنَّى شِئْتَ» .
فخرج فأخذتْه غُدْةٌ مثل غدة البعير، ومات في بيت امرأة سَلُولية، فقال: يا موت ابْرز لي، وأقبل يشتدُّ ويَنْزو إلى السماء ويقول: غُدةً كغدة البعير، وموتاً في بيت سَلُولية
الباب العاشر
في (ذكر) وفد عبد القيس
عن ابن عباس قال: إن وفد عبد القيس لمّا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله ثم قال: «أتَدْرُوَن مَا الإيْمَانُ بِالله؟»
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «شَهَادَةُ أنْ لاَ اله إلاَّ اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، وإقَامُ الصَّلاَةِ، وإيْتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وأنْ تُعْطُوا الخُمْسَ من المَغْنَمِ» .
أخرجاه.
الباب الحادي عشر
في (ذكر) وفد بني حنيفة
قال ابن إسحاق: حدثني بعض علمائنا: أن بني حنيفة أتو بمسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترونه بالثياب، فأقرَّ له بالنبوة، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عَسِيب من النخل فكلّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وسأله فقال: «لو سَأَلْتَنِي هَذا العَسِيْبَ ما أعْطَيْتُكَ» .
فلما رجعوا إلى اليمامة ارتدَّ مسيلمة.
وقد قدم وفدُ بني أسد، ووفد كِلاَب، ووفد الداريين، ووفد بني البكَّاء، ووفد طيء، ووفد سُلامان، ووفد زبيد، ووفد عبْس، ووفد خَولان.
وقد ذكر محمد بن سعد في «الطبقات» سبعين وفداً، فلم نُطل ذكرهم وإنما ذكرنا من له حديث مُسْتطرَف.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم عليه الوفد لبس أحسنَ ثيابه.
أبواب ما جرى بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع
الباب الأول
في استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع(1/496)
قد روينا من حديث أبي مُوَيْهِبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فاستغفر لأهل البقيع في المحرّم مَرْجِعَه من حجته.
عن أبي مُوَيهبة مولَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فقال: «يَا أبَا مُوَيْهِبَةَ، إنِّي قَدْ أُمِرْتُ أنْ أسْتَغْفِرَ لأَهْلِ البَقِيْعِ، فانْطَلِقْ مَعِي» .
فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: «السَّلاَمُ عَلَيْكُم يَا أهْلَ المَقَابِرِ، ليَهْنَ لَكُم مَا أصْبَحْتُم فِيه مِمَّا أصْبَحَ النَّاسُ فِيه، لو تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُم اللَّهُ مِنه، أقْبَلَت الفِتَنُ كِقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ يَتْبَعُ آخِرُهَا أوَّلَهَا، الآخِرَةُ شَرٌّ مِن الأوْلَى» .
قال: ثم أقبل على أبي مُويهبة فقال: «يَا أبَا مُوَيْهِبَةَ، إنِّي قَدْ أُوتِيْتُ مَفَاتِيْحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا والخُلْدَ فِيْها ثُمَّ الجَنَّةَ، وخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وبَيْنَ لِقَاءِ ربِّي والجَنَّةَ» .
قال فقلت: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح الدنيا والخلْد فيها ثم الجنة. قال: «يَا أبَا موَيْهِبَةَ، لَقَدْ اخْتَرْتُ لِقَاءَ ربِّي والجَنَّةَ» . ثم استغفر لأهل البقيع.
ثم انصرف. فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي قبضه الله فيه حين أصبح.
عن أبي مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلَّي على أهل البقيع، فصلّى عليهم في ليلةٍ ثلاثُ مراتٍ، فلما كانت الليلة الثالثة قال: «يَا أبَا مُوْيِهبَةَ، أسْرُجْ لِي دَابَّتِي» . حتى انتهى إليهم، فنزل عن دابته وأمسكتُ الدابة، ووقف عليهم أو قام ثم قال: «ليَهْنَكُم مَا أنْتُم فِيه مِمَّا فِيه النَّاسُ، أَتَتْ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِم يَرْكَبُ بَعْضُها بَعْضًا، الآخِرَةُ شَرٌّ مِنَ الأولَى، فَلْيَهْنَكُم مَا أنْتُم فِيه» .(1/497)
ثم رجع فقال: «يَا أَبا مُوَيْهِبَةَ، أنِّي قَدْ أُعْطِيْتُ أو خُيِّرْتُ. مَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي والجَنَّةَ، أو لِقَاءَ رَبِّي» .
قال: قلت: يا رسول الله، فاختر.
قال: «اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي» .
فما لبث بعد ذلك إلا سبعاً أو ثمانياً ثم قُبض صلى الله عليه وسلم.
الباب الثاني
في تأميره صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد
قال أهل السِّير: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسامة فقال: سِرْ إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل. فعسكر بالْجُرُف وخرج في عسكره أبو بكر وعمر وسعد وسعيد وأبو عبيدة، فتكلم قومٌ وقالوا: يستعمل هذا الغلامَ على المهاجرين الأولين؟
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، فخرج وقد عصب رأسه بعصابة، فصعد المنبر وقال: «أمَّا بَعْدُ، فَمَا مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُم فِي تَأْمِيْرِي أُسَامَةَ، ولَئِن طَعَنْتُم فِي تَأْمِيْرِي أُسَامَةَ لَقَدْ طَعَنْتُم في تَأْمِيْرِي أبَاه مِن قَبْلِه، وأيْمُ الله إنْ كانَ للإمَارَةِ خليقًا، وإنَّ ابْنَه مِن بَعْدِه لخَلِيْقٌ للإمَارَةِ» .
واشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه.
الباب الثالث
في مجيء الخبر بظهور مسيلمة
قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبي، وقال: إني أُشْرِكتُ معه.
فلما رجع إلى بلدِه كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: سلامٌ عليك، أما بعد، فإني أُشركْتُ في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون.
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ الله إلى مُسَيْلِمَةَ الكَذَّابِ، أمَّا بَعْدُ فَإنَّ الأرْضَ ضِ يُورِثُها مَنْ يَشَاءُ مِن عِبَادِه» .
الباب الرابع
في ظهور الأسود العنسي(1/498)
كان الأسود يُشَعبذ، وكان أول خروجه بعد حج رسول الله، فكاتبته مذحج وواعدوه نجران، وأخرجوا عمرو بن حزم، وخالد بن سعيد، ثم قوي أمره بمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ودانت له سواحل واتَّقَاه المسلمون، ثم قتله فيروز، فأخبر رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا أنَا نَائِمٌ أُتِيْتُ بَخَزَائِنِ الأرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي، ورَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَينِ مِن ذَهَبٍ، فكَبُرَا عَلَيَّ وأهَمَّنِي شَأْنُهُمَا، فأُوحِيَ إليَّ أن أنْفُخْهُمَا فَطَارا، فَأَوَّلْتُهُمَا الكَذَّابَيْنِ الذيْنِ أنَا بَيْنَهُمَا: صَاحِبُ صَنْعَاءَ وصَاحِبُ اليَمَامَةِ» .
الباب الخامس
في ظهور طليحة بن خوليد بعد الأسود ومسيلمة
فادعى النبوة وتبعه. جماعة، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله الموادعة، ثم تناقض أمره، ثم أسلم وقاتل في نهاوَنْد فقُتل.
أبواب مرضه ووفاته صلى الله عليه وسلم
الباب الأول
في أنه سم صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك قال: إن يهوديةً جعلت سمًّا في لحم وأتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه وقال: «إنَّها جَعَلَتْ فِيه سُمًّا» .
قالوا: يا رسول الله، ألا نقتلها؟
قال: «لا» .
فجعلت أعرف ذلك في لَهَوَات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرجاه.
عن أبي هريرة: أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاةً مسمومة، فقال لأصحابه: «أمْسِكُوا فإنَّها مَسْمُومَةً» . ثم قال: «ما حَمَلَكِ عَلَى ما صَنَعْتِ؟» .
قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيًّا فيسطلعك الله على (ذلك)، وإن كنت كاذباً أريح الناس منك.(1/499)
عن أبي سلمة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الهدية ولا يقبل الصدقة، فأهدت له امرأةٌ من يهود خيبر شاةً مَصْلية، فتناول منها وتناول بِشْرُ بن البراء، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتِ؟» .
فقالت: إن كنت نبيًّا لم يضرك شيء، وإن كنت ملكاً أَرَحْتُ الناس منك.
فقال في مرضه: «مَا زَالَت الأَكْلَةُ التي أكَلْتُ بِخَيْبَرَ تُعَادُّني، فَهَذا أوَانُ انْقِطَاع أَبْهَري» .
عن جابر بن عبدالله قال: إن يهودية من أهل خيبر سَمَّت شاة مَصْلية، ثم أهدتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها، وأكل الرهطُ من أصحابه معه، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «ارْفَعُوا أيْدِيْكُم» . وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليهودية فدعاها فقال لها: «أسَمَمْتِ هَذِه الشَّاةَ؟»
قالت: نعم، ومَنْ أخبرك؟
قال: «أخْبَرَتْنِي هَذِه» . وفي يده الذراع.
قالت: نعم.
قال: «فَمَاذا أرَدْتِ إلَى ذَلِك؟»
قالت: قلت إن كان نبيًّا لم تضره، وإن لم يكن استرحنا منك.
فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها.
وتوفي بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين أكلوا من الشاة، واحتجم النبي صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة، حجمه أبو هند مولى بني بَيَاضة بالقَرْن والشَّفرة.
قال المصنف: اسمُ هذه المرأة التي سَمَّته: زينب بنت الحارث امرأة سلاَّم بن مِشكم.
قال محمد بن سعد: والثابت عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتلها.
الباب الثاني
في تقريب أجله صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: لما نزلت {س48ش1إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً }
(الفتح: 1)
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فقال: «إنِّي قَدْ نُعِيْتُ إلى نَفْسِي» . فبكت فاطمة، فقال: «لا تَبْكي فإنَّكِ أوَّلَ أهْلِي بِي لَحُوقاً» . فضحكت.
الباب الثالث(1/500)
في عرضه القرآن على جبريل قبل وفاته صلى الله عليه وسلم
عن عبدالله بن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض القرآن على جبريل في كل رمضان، فلما كان في الشهر الذي مات فيه عرضه عليه مرتين».
الباب الرابع
في ابتداء المرض به صلى الله عليه وسلم
ابتدأ به صُداع في أواخر صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة.
قال الواقدي: لليلتين بَقَيتا منه. وقال غيره: لليلة. وقيل: بل مُفْتتح ربيع (الأول).
قالت عائشة: بداية شكواه وهو في بيت ميمونة، فخرج في يومه فدخل عليَّ فقلت: وارأساه.
قال: «بَلْ أنَا وَارَأْسَاه» .
ثم رجع إلى بيت ميمونة واشتد وجعه، فاستأذن نساءه أن يمرَّض في بيت عائشة، فأذِنَّ له، فخرج إلى بيتها تخطُّ رجلاه.
عن عائشة قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة من البقيع فوجدني وإذا أجد صداعاً وأقول: وارأساه.
قال: «ومَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ وكَفَّنْتُكِ وصَلَّيْتُ عَلَيْكِ ودَفَنْتُكِ» .
فقلت: لكأني بك والله، لو فعلت ذلك لرجعتَ إلى بيتي فعرَّست فيه بعض نسائك
قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بدأ به وجعه الذي مات فيه.
عن عائشة: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه: «أينَ أنا غَداً، أينَ أنا غَداً؟» يريد يوم عائشة. فأذنَ له أزواجه أن يكون حيث شاء. فكان في بيت عائشة حتى مات صلى الله عليه وسلم عندها.
الباب الخامس
في سؤال أبي بكر أن يمرضه صلى الله عليه وسلم
عن ابن سالم قال: جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إئذن لي فأمّرضك فأكون الذي أقوم عليك.
فقال: «يَا أبَا بَكْرٍ، إنِّي لَمْ أُحَمِّل أزْوَاجِي وبَنَاتِي عِلاَجِي إنْ زَادَتْ مُصِيْبَتِي عَلَيْهِم عُظمًا، وقَدْ وَقَعَ أجْرُكَ عَلَى الله تَعَالَى» .
الباب السادس
في أنه كان يدور على بيوت أزواجه في مرضه صلى الله عليه وسلم(2/1)
عن جعفر بن محمد، عن أبيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يْحْمَل في ثوبه يطاف به على نسائه وهو مريض يقسم بينهن».
الباب السابع
في ذكر اشتداد الوجع عليه صلى الله عليه وسلم
قالت عائشة: جعل يشتكي ويتقلَّب على فراشه، فقلت له: لو فعل هذا بعضُنا وَجَدْتَ عليه.
قال: «إنَّ المُؤْمِنِينَ يُشَدَّدُ عَلَيْهِم» .
عن عبدالله قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعَك، فمسَسْته فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكاً شديداً.
قال: «أجَلْ إنِّي أوْعَكُ كَمَا يُوعَكَ رجُلاَنِ مِنْكُم» .
قلت: إن لك أجرين.
قال: «نَعَمْ، والذي نَفْسِي بِيَدِه مَا عَلى الأرْضِ مُسْلِمٌ يُصِيْبُه أذًى مِن مَرَضٍ فَمَا سِوَاه إلاَّ حَطَّ اللَّهُ عَنه خَطَايَاه مَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَها» .
أخرجاه.
عن عائشة قالت: ما رأيت أحداً أشدَّ عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن أبي سعيد الخدري قال: جئنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فإذا عليه صالِبٌ من الحمَّى، ما تكاد يَدُ أحدنا تَقَرُّ عليه من شدة الحُمَّى، فجعلنا نسبّح، فقال: «ليْسَ أحَدٌ أشَدَّ بَلاَءً مِنَ الأنْبِيَاءِ، كَمَا يُشَدَّدُ عَلَيْنَا البَلاَءُ كذلكَ يُضَاعَفُ لَنَا الأَجْرُ» .
فإن قيل: ما وجهُ تشديد البلاء على الأكابر؟
قال ابنُ عَقِيل: كان له فيهم جواهر مُوَدعة أحبَّ أن يُظْهرها ويجعلها حُججاً على المتخلِّفين عنه، صبراً على بلائه ورضًا بقضائه.
عن فاطمة عمة أبي عبيدة قالت: بَيْنا (نحن عند) رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساءٍ نَعُوده، فإذا سِقَاء يَقْطر عليه من شدة ما يجد من الحمى، فقلنا: يا رسول الله، لو دعوتَ الله أن يكشف عنك؟
فقال: «إنّ أشَدَّ النَّاسِ بَلاَءً الأنْبِيَاءُ ثُمَّ الأمْثَلُ فالأمْثَلُ» .(2/2)
عن عائشة أنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء، فيُدْخل يده في القدح ثم يمسح به وجهه ويقول: «اللهُمَّ أعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ المَوْتِ» .
عن عائشة أيضاً قالت: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء، فيُدْخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول: «اللهُمَّ أعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ المَوْتِ» .
عن عائشة قالت: لا أغبط أحداً يُهَّون عليه الموت بعدَ الذي رأيتُ من شدة موتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن أنس قال: لما وجد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من كَرْب الموت ما وجد قالت فاطمة: واكَرْباه لِكَربك يا أبتاه.
قال: «لا كَرْبَ عَلَى أبيْكِ بَعْدَ اليَوْمَ، إنَّه قَدْ حَضَرَ مِن أَبِيْكِ مَا لَيْسَ بِتَارِكٍ مِنه أحَدًا إلا وَفَّاه يَوْمَ القِيَامَةِ» .
الباب الثامن
في أمره أن يصب عليه الماء لتقوى نفسُه فيَعْهد إلى الناس صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: لمَّا ثَقُل رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتدَّ وجعه قال: «هَرِيْقُوا عليَّ مِن سَبْعِ قِرَبٍ لم تُخْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لعَلِّي أعْهَدُ إلى النَّاسِ» .
فأجلسناهُ في مِخْضب لحفصة، ثم ظفقنا نَصُبُّ عليه حتى جعل يشير إلينا: أن قد فعلتنّ. ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم.
عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه: «صُبُّوا عَلَيَّ سَبْعَ قِرَبٍ مِن سَبْعِ آبارٍ شَتَّى حتَّى أخْرُجَ إلى النَّاسِ فأعْهَد إليْهِم» .(2/3)
قالت: فأقعدناه في مِخْضَب لحفصة، فَصَببْنا عليه الماء صبًّا أو سَنَنَّا عليه الماء سَنًّا ـ الشك من قِبَل ابن إسحاق ـ فوجد راحة فخرج وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه واستغفر للشهداء من أصحاب أُحد ودعا لهم، ثم قال: «أمَّا بَعْدُ، فإنَّ الأنْصَارَ عَيْبَتي التي أوَيْتُ إلَيْهَا، فأكْرِمُوا كَرِيْمَهُم، وتَجَاوَزُوا عن مُسِيْئِهِم إلاَّ في حَدِّ، ألاّ إنَّ عَبْداً مِن عِبَاد الله قَدْ خُيِّرَ بينَ الدُّنيا وبَين مَا عِنْدَ الله، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ الله» .
فبكى أبو بكر وظن أنه يعني نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عَلَى رِسْلِكَ يَا أبَا بَكْرٍ، سُدُّوا هذه الأبْوَابَ الشَّوَارِعَ إلى المَسْجِدِ إلاَّ بَابَ أبي بَكْرٍ، فإنِّي لاَ أعْلَمُ امْرَءًا أفْضَلَ عِنْدِي غَدًا في الصُّحْبَةِ مِن أبِي بَكْرٍ» .
الباب التاسع
فيما يروى أنه اقتص من نفسه صلى الله عليه وسلم
عن الفضل بن عباس قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت إليه فوجدته مُوعكاً قد عصب رأسه، فقال: «خُذْ بِيَدِي» . فأخذت بيده، فانطلق حتى جلس على المنبر ثم قال: «نادِ في النَّاسِ» .
فلما اجتمعوا حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أمَّا بَعْدُ، أيُّهَا النَّاسُ، إنَّه قَدْ دَنَا مِنِّي خُلُوفٌ مِن بَينِ أظْهُرِكُم، فمَنْ كُنْتُ جَلْدتُ لَه ظَهْراً فَهَذا ظَهْرِي فلْيَسْتَقِدْ مِنه، ومَنْ كُنْتُ أخَذْتُ له مَالاً فَهذا مَالِي، ومَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَه عِرْضاً (فهذا عرضي) فليَسْتَقِدْ، ولا يَقُولَنَّ أحَدٌ: إنِّي أخْشَى الشَّحْنَاء مِن رَسُولِ الله، ألاَ وإنَّ الشَّحْنَاءَ لَيْسَتْ مِن طَبِيْعَتِي ولاَ مِن شَأْنِي، ألاَ وإنَّ أحَبَّكُم إليَّ مَن أخَذَ شَيْئاً كَانَ لَه أو حَلَّلَنِي فَلَقِيْتُ اللَّهَ وأنَا طَيِّبَ النَّفْس، وإنِّي أرَى أنَّ هَذا غَيْرَ مُغْنِ حتَّى أقُوْمَ فِيْكُم مِرَاراً» .(2/4)
ثم نزل فصلى الظهر، ثم جلس على المنبر، فعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها فقام رجل فقال: إذن والله لي عندك ثلاثة دراهم.
قال: «يَا فَضْلُ أعْطِه» .
ثم قال: «أيُّهَا النَّاسُ، مَن كَانَ عَلَيْه شَيءٌ فَلْيُؤَدِّه، ولا يَقُولَنَّ رَجُلٌ: فُضُوحُ الدُّنيا، فإنَّ فَضُوحَ الدُّنيا أهْوَنُ مِن فُضُوحِ الآخَرَةِ» .
فقام رجل فقال: يا رسول الله، عندي ثلاثة دراهم غَلَلْتها في سبيل الله.
قال: «فَلِمَ غَلَلْتَها؟»
قال: كنت محتاجاً إليها.
قال: «خُذْهَا مِنْه يَا فَضْل» .
عن عبدالله بن أبي بكر قال: زحمتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ خيبر وفي رجلي نعلٍ كثيفة، فوطئتُ بها على رِجْل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفَحني نفحةً بسوطٍ في يده وقال: «بِسْمِ الله، أوْجَعْتَنِي» .
قال: فبتُّ لنفسي لائماً أقول: أوجعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. فبتُّ بليلةٍ كما يعلم الله.
فلما أصبحوا إذا رجل يقول: أين فلان؟
قلت: هذا والله الذي كان مني بالأمس. فانطلقتُ وأنا متخوِّف، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّكَ وَطِئتَ بِنَعْلِكَ عَلَى رِجْلِي بالأمْسِ وأوْجَعْتَنِي فَنَفَخْتُكَ نَفْحَةً شَديْدَةً بالسُّوطِ، فَهذه ثَمَانُونَ رَأساً مِن الغَنَمِ فَخُذْها بِها» .
عن ابن عمر قال: رغَّب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد ذات يوم، فاجتمعوا عليه حتى غمُّوه وفي يده جريدة قد نزع سِلاها وبقيت سلاةٌ لم نرها، فقال: «أخِّرُوا عنِّي هَذا فَقَدْ غَمَمْتُونِي» .
فأصاب النبيُّ صلى الله عليه وسلم بطنَ رجل فأدْمَاه، فخرج الرجل وهو يقول: هذا فِعْل نبيِّك بي.
فسمعه عمر، فأتى به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أحقًّا أَنا أصَبْتُك؟» .
قال: نعم.
قال: «فَمَا تُرِيْدُ؟» .
قال: أريد أن أَسْتَقيد منك.(2/5)
فأمْكَنه من الجريدة، فكشف عن بطنه، فألقى الجريدةَ من يده وقبَّل سُرَّته وقال: هذا أردتُ كَيْما يَنْقمع الجبَّارون مِن بعدك
عن أبي سعيد الخدري قال: كان رجل من المهاجرين، وكان ضعيفاً وكانت له حاجةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يَلْقاه على خَلاء فيسأل حاجته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معسكراً بالبطحاء، وكان يجيء من الليل فيطوف بالبيت، حتى إذا كان وجهُ السَّحر صلّى به صلاة الغداة.
قال: فحبسه الطوافُ ذات ليلة حتى أصبح، فلما استوى على راحلته عَرض له الرجل فأخذ بخطام ناقته، فقال: يَا رسول الله، لي إليك حاجة.
قال: «إنَّكَ سَتُدْرِكُ حَاجَتَكَ» . فأبى، فلما خشي أن يحبسه خَفَقة بالسوط، ثم مضى فصلّى بهم صلاة الغداة.
فلما انفتل أقبلَ بوجهه على القوم، وكان إذا فعل ذلك عرفوا أنه قد حدث أمر، فاجتمعوا حوله فقال: «أينَ الذي جَلَدْتُ آنِفاً؟» فأعادها. إنْ كان في القوم فليقم. قال: فجعل الرجل يقول: أعوذ بالله ثم برسله وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ادْنُه، ادْنُه» . حتى دنا منه، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه وناوله السوطَ وقال: «خذ بمَجْلَدِكَ فَاقْتَصَّ» .
فقال: أعوذ بالله أن أجْلَد نبيَّه
قال: «إلاَّ أنْ تَعْفُو» . قال: فألقى السوطَ وقال: قد عفوتُ يا رسول الله.
فقام إليه أبو ذَر فقال: يا رسول الله، تَذْكر ليلةَ العقبة، وقد كنت أسوق بك وأنت نائم، وكنت إذا سُقْتها أبطأتْ، وإذا أخذتُ بخطامها اعترضَتْ، فخفَقْتُك خَفْقةً بالسوط وقلتُ: قد أتاك القومُ. وقلتَ: لا بأس عليك. خذ يا رسول الله فاقتصَّ. قال: «قَدْ عَفَوْتُ» . قال: اقتصَّ فإنه أحبُّ إليّ. فجلَده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد رأيته يتضوِّر من جَلْد رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/6)
ثم قال: «يَا أيُّها النَّاسُ، اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَالله لا يَظْلِمُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِناً إلا انْتَقَمَ اللَّهُ مِنه يَوْمَ القِيَامَةِ» .
عن محمد بن عمر قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير من الطائف إلى الجِعْرانة وأبو زُنَيم إلى جنبه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو زُنَيم: فوقع حرفُ نعلي على ساقه فأوجعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوْجَعْتَنِي أخِّرْ رِجْلَكَ» وقَرع رجلي بالسوط فأخَّرني ما قدَّم وما أخَّر، وخشيت أن ينزل فيَّ قرآنٌ لَعظيم ما صنعت.
فلما أصبحنا بالجِعْرانة خرجت أرعى الظَّهر، وما هو يومي، فرَقاً أن يأتي للنبيَّ صلى الله عليه وسلم رسولٌ يطلبني. فلما روَّحت الركاب سألت فقالوا: طلبك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئت وأنا أرتقب فقال: «إنَّك أوْجَعْتَنِي بِرِجْلِكَ فَقَرَعْتُكَ بِالسُّوطِ فأوْجَعْتُكَ، فَخُذْ هَذه الغَنَمَ عِوَضًا عَن ضَرْبَتِي» .
قال: فَرِضَاه عني كان أحبَّ إليَّ من الدنيا وما فيها.
قال: وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه يَسْتنفِرهم لما أراد تبوكاً.
الباب العاشر
في مدة مرضه وأمره صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلِّي بالناس
كانت مدة مرضه إثني عشر يوماً. وقيل: أربعة عشر يوماً، وكان يخرج إلى الصلاة. إلا أنه انقطع ثلاثة أيام، وقال: «مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» .
عن عائشة قالت: لما ثَقُل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه بلال يوءْذنه بالصلاة، فقال: «مُرُوا أبا بَكْرٍ فلْيُصَلِّ بالنَّاسِ» .
قالت: فقلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجلٌ أَسِيفٌ وإنه متى يقوم مَقامك لا يُسمع الناسَ، فلو أمرتَ عمر؟
قال: «مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ» .
قالت: فقلت لحفصة: قولي له. فقالت له حفصة: يا رسول الله، إن أبا بكر رجلٌ أَسِيف، وإنه متى يقوم مقامك لا يُسمع الناس، فلو أمرت عمر؟(2/7)
قال: «إنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بالنَّاسِ» .
قالت: فأمروا أبا بكر فصلى بالناس، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خِفَّةً لمّا دخل أبو بكر في الصلاة، فقام يُهَادَى بين رَجُلين ورِجْلاه تخطْان في الأرض حتى دخل المسجد، (فلما سمع) أبو بكر حسه ذهب ليتأخر، فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قم كما أنت. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً وأبو بكر قائماً، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناسُ يقتدون بصلاة أبي بكر.
أخرجاه.
عن أنس بن مالك: أن أبا بكر كان يصلّي بهم في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف النبيُّ صلى الله عليه وسلم سِتر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسَّم، فهمَمْنا أن نَفْتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فنكص أبو بكر عَقِيبه ليَصلَ الصفَّ، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إليهم أن أتمُّوا صَلاتكم. وأرخَى الستر وتوفي من يومه صلى الله عليه وسلم.
الباب الحادي عشر
في كونه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب لأبي بكر كتاباً ثم لم يكتب
عن عائشة قالت: لمّا ثَقُل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: «اِيتِنِي بِكَتِفٍ أوْ لَوْحٍ حتَّى أكْتُبَ لأَبِي بَكْرٍ كِتَاباً لاَ يُخْتَلَفُ عَلَيه» .
فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال: يأبى الله والمؤمنون أن يُخْتلف عليك يا أبا بكر.
وقد روي أنه أراد أن يكتب كتاباً ولم يذكر أبا بكر.
عن عبدالله بن عباس قال: لمّا حضرت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الوفاةُ قال: «هَلُمَّ أكْتُبُ لَكُم كِتَاباً لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَه» .(2/8)
وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب، فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتدَّ عليه الوجعُ، وعندكم القرآن، حَسْبُنا كتابُ الله. فاختلف أهلُ البيت واختصموا، منهم مَنْ يقول: يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنهم مَنْ قال مثلَ ما قال عمر.
فلما أكثَروا اللغط والاختلافَ وغَمُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: قوموا عني.
وكان ابن عباس يقول: إن الرزيَّة كلّ الرَّزِيَّة ما حالَ بينَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبَيْنَ أن يكتب لهم ذلك الكتاب في اختلافهم ولغطهم.
البابُ الثاني عشر
في ذكر إخراجه شيئاً من المال كان عنده صلى الله عليه وسلم
عن سهل بن سعد قال: كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة دنانير وضعها عند عائشة، فلما كان في مرضه قال: «يَا عَائِشَةُ، ابْعَثِي الذَّهَبَ الذي (عِنْدَكِ إلى) عَلِيَ» .
ثم أغمي عليه. وشغلَ عائشةَ ما به، فبعثت به إلى عليّ فتصدَّق به، ثم أمسَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاثنين في جديد الموت، فأرسلت عائشة إلى امرأة من النساء بمصباحها فقالت: اقطري لنا في مصباحي من عُكَّتك السمن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسَى جديداً.
عن المطلب بن حَنْطَب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وهي مُسْندتُه إلى صدرها: «يَا عَائِشَةُ، مَا فَعَلَتْ تِلْكَ الذُّهَيْبَةُ؟» .
قالت: هي عندي.
قال: «أنْفِقِيْهَا» .
ثم أغمي عليه، فلما أفاق قال: «هَلْ أنْفَقْتِ تِلْكَ الذُّهَيْبَةِ؟» .
قالت: لا. فدعا بها فوضعها في كفه ثم عدَّها، فإذا هي ستة ثم قال: «مَا ظَنُّ مُحَمَّدٍ بِرَبِّه أنْ لَوْ لَقِيَ اللَّهَ وهَذِه عِنْدَه» .
فأنفقها كلها ومات في ذلك اليوم صلى الله عليه وسلم.
الباب الثالِث عشر
في عتقه عبيده عند الموت صلى الله عليه وسلم
عن سهل بن يوسف، عن أبيه، عن جده، قال: أعتق النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه أربعين نفساً.(2/9)
البَابُ الرّابع عشر
في إعلامه ابنته فاطمة بموته صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: أقبلت فاطمةُ عليها السلام تمشي كأن مشيتها مِشْيةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «مَرْحَباً يَا بِنْتِي» . ثم أجْلَسها، ثم إنه أسرَّ إليها حديثاً فبكت، فقلت لها: «استخصَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه ثم تبكين».
ثم إنه أسرَّ إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيتُ كاليوم فرحاً أقرب من حزن فسألتها عما قال فقالت: ما كنت لأفشي سِرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى (إذا) قُبض سألتها، فقالت: إنه أسرَّ إليَّ فقال: «إنَّ جِبْرِيْلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بالقُرْآنِ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً وإنَّه عَارَضَنِي مَرَّتَينِ ولاَ أرَاهُ إلاَّ قَدْ حَضَرَ أَجَلِي، وإنَّكِ أوَّلُ أهْلِ بَيْتِي لُحُوقاً بِي وَنِعْمَ السَّلفُ أَنا لَكِ» فبكيت لذلك. ثم قال: «ألا تَرْضَيْنَ أنْ تَكُونِي سَيِّدةَ نِسَاءِ هَذه الأَمَّةِ أو نِسَاءِ المُؤْمِنِينَ؟» .
قالت: فضحكتُ لذلك.
أخرجاه في الصحيحين.
البَابُ الخامس عشر
في استعماله السواك قبل موته صلى الله عليه وسلم
عن عائشة أنها كانت تقول: مِن نِعَم الله عليَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سَحري ونَحْرَي، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، دخل عليَّ عبدُ الرحمن وبيده سواك وإني مُسْندته إلى صدري، فرأيته ينظر فعرفتُ أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه: أي نعم. فليَّنْته فأحذه فأمرَّه، وبين يديه رَكْوة أو علبة يشك عمرو، فيها ماء فجعل يُدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: «لاَ اله إلاَّ اللَّهُ، إنَّ لِلمَوْتِ سَكَرَاتٌ» ثم نَصب يده فجعل يقول: «في الرَّفِيْقِ الأعْلَى» . حتى قُبض ومالت يده صلى الله عليه وسلم.
البَابُ السّادس عشر
في أنه خيَّر بين البقاء والموت صلى الله عليه وسلم(2/10)
عن بشر بن سعيد قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناسَ فقال: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ خَيَّرَ عَبْداً بينَ الدُّنيا وبينَ ما عِنْدَ الله فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ الله» .
فبكى أبو بكر، فعجبنا من بكائه أن أَخْبَر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم المخيَّر وكان أبو بكر أَعْلمنا به.
عن عائشة قالت: «كنت أسمع أن لا يموت نبيٌّ حتى يخيَّر بين الدنيا والآخرة. قالت: فأصابت رسول الله صلى الله عليه وسلم بُحَّةٌ شديدة في مرضه، فسمعته يقول: {س4ش69وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَائِكَ رَفِيقاً }
(النساء: 69)
فعلمت أنه خُيِّر».
الباب السّابع عشر
في جمعه أصحابه وإيصائهم صلى الله عليه وسلم
عن ابن مسعود قال: نعى لنا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر، بأبي هو وأمي ونفسي له الفِداء، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة، فقال: «مَرْحَباً بِكُمْ، حَيَّاكُم اللَّهُ، رَفَعَكُم اللَّهُ، حَفِظَكُم اللَّهُ، جَبَرَكُم اللَّهُ، رَزَقَكَم اللَّهُ، نَفَعَكُم اللَّهُ، آوَاكُم اللَّهُ، وقَاكُم اللَّهُ» .
«أوْصِيْكُم بِتَقْوَى الله وأُوْصِي اللَّهَ بِكُم وأسْتَخْلِفُه عَلَيْكُم، وأُحَذِّرُكُم إنِّي لَكُم مِنْه نَذِيرٌ مُبِيْنٌ أنْ لا تَعْلُوا عَلَى الله في عِبَادِه وبِلاَدِه، فإنَّه قَالَ لِي ولَكُم: {س28ش83تِلْكَ الدَّارُ الأٌّخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الأٌّرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }القصص: 83)
وقال: {س39ش31ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ }
(الزمر: 31)
» .
قلنا: يا رسول الله، متى أجَلُك؟(2/11)
قال: «دنَا الفِرَاقُ والمُنْقَلَبُ إلى الله وإلى جَنَّةِ المَأْوَى وإلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى وإلى الرَّفِيْقِ الأعْلَى والكأسِ الأَوْفَى والحَظِّ والعَيْشِ الأهْنَى» .
قلنا: يا رسول الله، مَنْ يغسلك؟
قال: «رِجَالُ أهْلِ بَيْتِي، الأدْنَى فَالأَدْنَى» .
قلنا: يا رسول الله، فيم نكفّنك؟
قال: «فِي ثِيَابِي هَذه إنْ شِئْتُم، أو ثِيَابِ مِضرَ، أوْ فِي حُلَّةٍ يَمَنِيَّةٍ» .
قلنا: يا رسول الله، مَنْ يصلِّي عليك؟
فبكى وبكينا، فقال: «مَهْلاً رَحِمَكُم اللَّهُ وَجَزَاكُم عَن نَبِيِّكُم خَيْراً، فَإذا أنْتُم غَسَلتُمُونِي وكفَّنْتُمُونِي فَضَعُونِي عَلَى سَرِيْرِي هَذا عَلَى شَفِيْرِ قَبْرِي فِي بَيْتِي هَذا، ثُمّ اخْرُجُوا عَنِّي سَاعَةً، فإنَّ أوَّلَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيّ حَبِيْبِي وخَلِيْلِي جِبْرِيْلُ، ثُم مِيْكَائِيْلُ، ثُمَّ إسْرَافِيْلُ، ثُمَّ مَلَكُ المَوْتِ فِي جُنُودِ المَلاَئِكَةِ، ثم ادْخُلوا عَلَيَّ فَوْجًا فَوْجًا، فَصَلُّوا عَلَيّ وسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا، ولا تُؤْذُونِي بِبَاكِيَةٍ ولا مُرِنَّةٍ، وليَبْدَأ بالصَّلاَةِ عَلَيَّ رِجَالُ أهْلِ بَيْتِي ثُمَّ نِسَاؤُهُم، ثُمَّ أنْتُم بَعْدُ، واقْرَأوا السَّلاَمَ عَلَي مَنْ غَابَ عَنِّي مِن أصْحَابِي وعَلَى مَنْ يَتْبَعُنِي عَلَى دِيني إلى يَوْمِ القِيَامَةِ» .
قلنا: يا رسول الله فمَنْ يُدْخلك القبر؟
قال: «أهْلِي مَع مَلاَئِكَةٍ كَثِيْرٍ يَرَوْنَكُم حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم» .
الباب الثامن عشر
في وصيته بالصلاة عند موته صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: كانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حَضَره الموتُ: «الصَّلاَةُ ومَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُم» حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُغَرْغر بها في صدره وما يُفيض بها لسانه.(2/12)
عن أنس قال: كان آخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُغَرْغر بها في صدره وما يكادُ يُفيض بها لسانه: «اتَّقُوا اللَّهَ، الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ ومَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُم» .
الباب التاسع عشر
في أنه ما أوصى بشيء من الدنيا صلى الله عليه وسلم
عن طلحة قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفَى: أوصَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: لا.
قلت: كيف أمرَ المؤمنين بالوصية ولم يوصِ؟
قال: أوْصَى بكتاب الله.
أخرجاه.
عن عائشة قالت: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً، ولا درهماً، ولا شاةً، ولا بعيراً، ولا أوصى بشيء.
أخرجه مسلم.
الباب العشرون
في تحذيره أن يتخذ قبره مسجداً صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس وعائشة قالا: لمّا نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طَفِق يَطْرَح خَمِيصةً له على وجهه، فإذا اغتَمَّ كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: «لَعْنَةُ الله عَلَى اليَهُودِ والنَّصَارَى اتَّخَذَوا قُبُورَ أنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ» يحذّر مثل ما صنعوا.
الباب الحادي والعشرون
في تردد جبريل إليه قبل موته بثلاثة أيام برسالة من الله يسأله عن حاله صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة أن جبريل أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبُض فيه فقال: إن الله يُقْرئك السلامَ ويقول لك: كيف تجدك؟
قال: «أجِدِّنِي يَا أمِيْنَ الله وَجِعاً» .
ثم جاء من الغد فقال: يا محمد، إن الله يقرئك السلام ويقول لك: كيف تجدك؟
قال: «أجِدُنِي يَا أمِيْنَ الله وَجِعاً» .
ثم جاء اليوم الثالث ومعه ملَك الموت فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك. كيف تجدك؟
قال: «أجِدُنِي يَا أمِيْنَ الله وَجِعاً، مَنْ هَذا مَعَكَ؟» .
قال: ملَك الموت، وهذا آخر عهدي بالدنيا بعدك وآخر عهدك بها، ولن أُساء على هالكٍ بعدَك من بني آدم، ولن أهبط إلى الأرض إلى أحد بعدك.(2/13)
فوجد النبي صلى الله عليه وسلم سَكّرَةَ الموت، وعنده قدح فيه ماء، وكلما وجد سكرة الموت أخذ من ذلك الماء فمسَّ به وجهه ويقول: «اللهُمَّ أعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ المَوْتِ» .
عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: لمّا بقي من أجَل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثٌ نزل عليه جبريل فقال: يا محمد، إن الله تعالى أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك وخاصةً، يسألك عما هو أعلمُ به منك، كيف تجدك.
قال: «أجِدُنِي يَا جِبْرِيْلُ مَغْمُوماً، وأَجِدُنِي يَا جِبْرِيْلُ مَكْرُوباً» .
فلما كان اليوم الثاني هبط جبريل فقال: يا محمد، إن الله تعالى أرسلني إكراماً وتفضيلاً لك يسألك عما هو أعلم به منك يقول: كيف تجدك؟
فقال: «أجِدُنِي يَا جِبْرِيْلُ مَغْمُوماً، وأَجِدُنِي يَا جِبْرِيْلُ مَكْرُوباً» .
فلما كان في اليوم الثالث نزل جبريلُ وهبط معه ملَك يقال له: إسماعيل يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض منذ يوم كانت الأرض، وهو على سبعين ألف ملك، فسبقهم جبريل، وقال: يا محمد، إن الله أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك وخاصة لك، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك؟
قال: «أجِدُنِي مَغْمُوماً، وأَجِدُنِي مَكْرُوباً» .
ثم استأذنَ ملك الموت، فقال جبريل: يا محمد، هذا ملك الموت يستأذن عليك ولم يستأذن على آدمي كان قَبلك، ولا يستأذنُ على آدمي بعدك.
قال: «ائْذَنْ لَه» .
فدخل ملك الموت فوقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن الله أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك في كل ما تأمرني، إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتُها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها.
قال: «وتَفْعَلُ يَا مَلَكَ المَوْتِ؟» .
قال: بذلك أُمرت أن أطيعك في كل ما أمرتني.
قال جبريل: إن الله قد اشتاق إليك.
قال: «فَامْضِ يَا مَلَكَ المَوْتِ لِمَا أُمِرْتَ بِه» .(2/14)
فقال جبريل: السلام عليك يا رسول الله، هذا آخر مَوْطئي الأرضَ، إنما كنتَ حاجتي من الدنيا. فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الباب الثاني والعشرون
في ذكر معاتبته صلى الله عليه وسلم نفسه على كراهية الموت
عن أبي الحُوَيرث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَشْتك شكوى إلا سأل الله العافية، حتى كان في مرضه الذي توفي فيه، فإنه لم يَدْعُ بالشِّفاء، وطفِق يقول: «يَا نَفْسُ مَالَكِ تَلُوذِينَ كُلَّ مَلاَذٍ» .
عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوِّذ نفسه بهذه الكلمات «أَذْهِب البِأسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إلاَّ شِفَاؤكَ لاَ يُغَادِرُ سَقَماً» .
قالت: فلما ثَقُل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه أخذتُ بيده فجعلت أمسحه بها وأقولها، فنزع يده مني ثم قال: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وألْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ» فكان هذا آخر ما سمعتُ من كلامه.
أخرجاه.
الباب الثالث والعشرون
في صفة خروج روحه الطاهرة صلى الله عليه وسلم
عن عائشة قالت: قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسُه بين سَحْري ونَحْري، فلما خرجتْ نفسُه لم أجد ريحاً قط أطيب منها.
الباب الرابع والعشرون
في صفة الثياب التي توفي فيها صلى الله عليه وسلم
عن أبي بُرْدة قال: أخرجتْ إلينا عائشة كِساءً مُلبَّداً وإزاراً غليظاً فقالت: قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين.
أخرجاه.
الباب الخامس والعشرون
في ذكر وقت موته صلى الله عليه وسلم
توفي صلى الله عليه وسلم يومَ الاثنين نصف النهار، وربما قيل عند اشتداد الضحى، لاثنتي عشرة خَلَتْ من ربيع الأول سنة إحدى عشرة.
عن عائشة قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الاثنين.
الباب السادس والعشرون
في أن الناس شكوا في موت رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/15)
عن أبي سلمة: أن عائشة أخبرته أن أبا بكر أقبل على فَرس من مسكنه بالسُّنْحِ، حتى نزل فدخل المسجدَ، فلم يكلِّم الناسَ حتى دخل على عائشة فيَمَّمَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو مُغَشّى بثوب حِبَرة، فكشف عن وجهه ثم أكبَّ عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتَتْين، أمَّا الموتة التي كتبت عليك فقد مِتَّها.
وحدثني أبو سلمة عن عبدالله بن عباس، أنا أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلِّم الناسَ فقال: اجلس يا عمر. فأبَى عمر أن يجلس، فأقبلَ الناسُ إليه وتركوا عمر فقال أبو بكر: أمّا بعدُ، فمن كان يَعْبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومَنْ كان يَعْبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت. قال الله تعالى: { وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خَلَتْ من قبله الرُّسُل} إلى قوله{س3ش144وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ }
(آل عمران: 144)
قال: والله لكأنَّ الناس لم يعلموا أن الله أنزَل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلاها الناسُ كلهم، فلم أسمع بَشَراً من الناس إلا يَتْلوها.
وأخبرني سعيد بن المسيَّب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكر تلاها فقعَدْتُ حتى ما تُقَلُّني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها أخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
انفرد البخاري بإخراجه.
وأخبرنا أبا محمد الدارميّ قال: فعُقرتُ حتى ما تُقلُّني رجلاي وحتى أَهْويتُ إلى الأرض حين سمعته تلاها.
عن ابن عباس قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، فحُبس بقيةَ يومه وليلته والغد، حتى دفن ليلة الأربعاء، وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمُتْ، ولكنه عُرج بروحه كما عُرج بروح موسى.(2/16)
فقام عمر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَمُتْ، ولكنه عُرج بروحه كما عُرج بروح موسى، والله لا يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقطّع أيدي أقوام وألسنتهم. فلم يَزَلْ عمر يتكلم حتى أزْبَد شِدْقاه مما يوعِد ويقول.
فقام العباس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وإنه لَبَشر وإنه لَيَأسن كما يَأْسن البشر، أيْ قوم فادفنوا صاحبكم فإنه أكرمُ على الله من أن يميته إماتتين، أيميت أحدَكم إماتةً ويميته إماتتين؟ هو أكرمُ على الله من ذلك، أيْ قوم فادفنوا صاحبكم، فإن يك كما تقولون فليس بعزيز على الله أن يبحث عنه الترابَ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات حتى ترك السبيلَ نَهْجاً واضحاً وأحلَّ الحلالَ وحرَّم الحرامَ ونكح وطلقَّ وحارب وسالم ما كان راعي غنم يَتْبع بها رؤوسَ الجبال يَخْبط عليها العضاة ويَمْدُر حَوْضَها بيده، بأنْصَب ولا أدْأبَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيكم، أي قوم فادفنوا صاحبكم.
قال: وجعلت أمُّ أيمن تبكي، وقالت: ما أبكي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يكون أعلم أنه قد ذهب إلى ما هو خير له من الدنيا، ولكني أبكي على خبر السماء كيف انقطع.
عن أنس قال: قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، فقام عمر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت، ولكن ربَّه أرسل إليه كما أرسل إلى موسى فمكث عن قومه أربعين ليلة، وإني لأرجوا أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقطع أيدي رجال من المنافقين وألسنتَهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
عن أنس قال: (لما) دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلمَ منها كل شيء، وما نَفَضْنا الأيدي من تراب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرْنا قلوبَنا
الباب السابع والعشرون
في ذكر مبلغ سنه صلى الله عليه وسلم(2/17)
عن ابن عباس قال: توفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاثٍ وستين سَنة.
أخرجاه في الصحيحين.
عن أنس بن مالك قال: بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين، وتوفَّاه الله على رأس ستين سنة.
عن دَغْفَل بن حنظلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قُبض وهو ابن خمس وستين سنة.
قال المصنف: الصحيح الأول، ومَنْ قال ستين أراد أعشارَ الستين، فالإنسان قد يقول: سنِّي أربعون. ويكون قد زاد عليها، إلا أن الزيادة لم تبلغ عَشْراً.
الباب الثامن والعشرون
في ذكر ما خلف وحكمه صلى الله عليه وسلم
عن عمر بن الحارث أخو جُوَيْرية بنت الحارث خَتَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً، ولا أمة، ولا شاةً، إلا بغلته البيضاء، وأرضاً جعلها صدقة.
عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نُورَثُ ما تَرَكْنا صَدَقَةٌ» .
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَقْسِمُ وَرَثَتِي دِيْنَاراً ولا دِرْهَمًا ومَا تَرَكْتُ بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي ومُؤنَةِ عَمَلِي فَهو صَدَقَةٌ» .
عن أبي بكر الصديق، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ نُورَثُ ما تَرَكْنا صَدَقَةٌ» .
عن عمر بن الخطاب أنه قال لسعد وعبد الرحمن والزبير: أَنْشُدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا نُورَثُ مَا تَرَكْنا صَدَقَةٌ» ؟
قالوا: نعم. فقال للعباس وعليّ أيضاً، فقالا مثل ذلك.
وقد روى محمد بن سعد، عن محمد بن سهل بن أبي حَثْمة قال: كانت صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال بني النَّضير (وهي) سبعة: الأعراف. والدلال، والمِيثَب، وبُرقة، وحُسْنَى، ومَشْربة أم إبراهيم، (وإنما سميت مشربة أم إبراهيم لأن أم إبراهيم مارية) كانت تَنْزلها، وكان ذلك المال لسَلاّم بن مِشْكم النَّضِيري.(2/18)
وقال عمر بن الخطاب كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صَفَايا، وكانت بنو النَّضير حبْساً لنوائبه، وكانت فَدَك لابن السبيل، وكانت خيبر لمُؤنة أهله، وكان الخُمْس قد جَزَّأه ثلاثة أجزاء: فجزآن للمسلمين، وجزء كان ينفق منه على أهله، فإن فَضَل فَضْلٌ ردَّه على فقراء المهاجرين، صلى الله عليه وسلم .
الباب التاسع والعشرون
في ذكر غسله صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: لما اجتمع القومُ لغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في البيت إلا أهلُه: عمُّه العباس، وعلي بن أبي طالب، والفضل بن العباس، وقُثم بن العباس، وأسامة بن زيد، وصالح مولاه، اجتمعوا لغسله، نادى من وراء الباب أنسُ بن خَوْلي الأنصاري، وكان بدريًّا عليَّ بن أبي طالب، فقال: يا علي أنشدك الله حقّنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له علي: ادخل. فدخل فحضر غسلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يَلِ من غسله شيئاً.
قال: فأسْنَده عليٌّ إلى صدره وعليه قميصه، وكان العباس، والفضل، وقُثَم يَقْلبونه مع علي، وكان أسامة وصالح يصُبَّان الماءَ، وجعل عليٌّ يغسله، ولم يَرَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً مما يراه من الميت، وهو يقول: بأبي وأمي ما أطيبك حيًّا وميتاً.
عن عائشة قالت: لما أرادوا غسلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا والله ما ندري أنجرِّد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرِّد مَوْتانا أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا، أرسل الله عليهم السِّنَة حتى والله ما من القوم رجل إلا وذقنه في صدره نائماً. قالت: ثم كلَّمهم من ناحية البيت هاتفٌ لا يَدْرون مَنْ هو، فقال: اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه.
قالت: فقاموا إليه فغسلوه وعليه قميصه، يُفَاض عليه الماء والسِّدْر، ويدلِّكه الرجال بالقميص.
وكانت تقول: لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما غسلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه.(2/19)
عن جعفر بن محمد قال: كان الماء يَسْتنقع من جفون النبي صلى الله عليه وسلم وكان عليٌّ يَحْسوه.
عن ابن عباس قال: جعل عليّ عليه السلام يغسل النبي صلى الله عليه وسلم فلم يَرَ منه شيئاً مما يراه من الميت، وهو يقول: ما أطْيَبك حيًّا وميتاً.
عن علي: أنه غسل النبي صلى الله عليه وسلم فعصر بطنه في الوسطى فلم يخرج شيء فقال: بأبي أنت وأمي، طيِّباً في الموت وطيباً في الحياة.
عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليٌّ والفضل، والعباس، وأسامة بن زيد، وغُسل ثلاثَ غسلات بماء وسِدْر من بئر لسعد بن خيثمة، كان يشرب منها.
وفي رواية: ويقال لتلك البئر العرس.
عن الحسن قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوا في ثيابه نافِجَة مِسْك فطيِّبت بها ثيابُه.
الباب الثلاثون
في ذكر كفنه صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: لما غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم جفّفوه ثم صُنع به كما يُصْنَع بالميت، ثم أُدْرِج في ثلاثة: ثوبين أبيضين، وبُرْد حِبَرة.
عن ابن عمر قال: كُفِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب: ثوبين سُحُوليَّيْن، وبُرْد حِبَرة.
عن عائشة قالت: كُفِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سُحُوليّة ليس فيها قميص ولا عمامة.
الباب الحادي والثلاثون
في ذكر الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم
عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: صُلِّي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إمام، يدخل المسلمون زُمَراً يُصَلُّون عليه ويخرجون، فلما صلّوا عليه نادَى عمر: خَلوا الجنازة وأهلَها.
عن سهل بن سعد الساعِدي، عن أبيه، عن جده، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أُدْرج في أكفَانه ووضع على سريره، فكان الناس يصلون عليه رُفَقاً رُفَقاً، لا يؤمُّهم عليه أحدٌ، دخل الرجال فصلّوا عليه ثم النساء.(2/20)
عن الحسين قال: غسَّلُوه صلى الله عليه وسلم وكفّنوه وحنَّطوه ثم وضع على سريره، فدخل عليه المسلمون أفواجاً يدخلون يصلون عليه، ثم يخرجون، ويدخل آخرون حتى صلّوا كلهم عليه.
الباب الثاني والثلاثون
في ذكر موضع قبره صلى الله عليه وسلم
عن ابن جُرَيج قال: أخبرني أبي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يَدْروا أين يَقْبُرون النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال أبو بكر: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَمْ يُقْبَرْ نَبِيٌّ إلاَّ حَيْثُ يَمُوتُ» . فأخّروا فراشه وحفروا له تحت فراشه.
عن عائشة قالت: لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ما نسيته قال: «مَا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيًّا إلاَّ فِي المَوْضِعِ الذي يُحِبُّ أنْ يُدْفَنَ فِيه» . ادفنوه في موضع فراشه.
عن أبي بكر الصديق قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما قُبِضَ نَبِيٌّ إلاَّ دُفِنَ حَيْثُ يُقْبَضُ» .
عن عائشة قالت: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: أين ندفنه؟
فقال أبو بكر: في الموضع الذي مات فيه.
عن عبد الرحمن بن سعيد بن يَرْبوع قال: لمّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في موضع قبره، قال القائل: بالبَقِيع، فقد كان يُكْثر الاستغفار لهم، وقال القائل: عند منبره. وقال القائل: في مصلاّه، فجاء أبو بكر فقال: إن عندي من هذا خَبراً وعلماً، سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إلاَّ دُفِنَ حَيْثُ تُوُفِّيَ» .
عن عائشة أنها قالت لأبي بكر: رأيت في المنام كأنه ثلاثة أقمار سقطن في حجرتي. فقال أبو بكر: خيرٌ. قال يحيى: فسمعت الناس يتحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا قُبض دفن في بيتها، فقال أبو بكر: هذا أحدُ أقمارك.(2/21)
عن عائشة قالت: لما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه فقالوا: أين يُدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال علي: إنه ليس في الأرض بقعةٌ أكرم على الله من بقعة قبض فيها نفس نبيه صلى الله عليه وسلم.
الباب الثالث والثلاثون
في ذكر لحده صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: لمّا اجتمعوا لغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا العباسُ رجلين فقال: ليذهبْ أحدكما إلى أبي عبيدة بن الجراح، وكان أبو عبيدة يَضْرح لأهل مكة، وليذهبَ الآخر إلى أبي طلحة، وكان أبو طلحة يَلْحد لأهل المدينة.
قال: ثم قال العباس حين سرّحهما: اللهم خيرْ لنبيك. فلم يجد صاحبُ أبي عبيدة أبا عبيدة. ووجد صاحبُ أبي طلحة أبا طلحة فلحَد رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
عن جرير بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إلْحِدُوا ولا تَشُقُّوا، فإنَّ اللَّحْدَ لَنَا والشُّقَّ لِغَيْرِنَا» .
عن عامر بن سعد (بن أبي وقاص، أن سعداً حين حضرته الوفاة قال): الحدوا (لي) لحداً وانصبوا عليَّ اللّبن نصباً، كما صُنع برسول الله صلى الله عليه وسلم.
انفرد بإخراجه مسلم.
الباب الرابع والثلاثون
في ذكر ما نزل في قبره صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس قال: جُعل في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء. قال وكيع: هذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
عن الحسن قال: جُعل في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء كان أصابها يومَ خيبر.
قال: جعلوها لأن المدينة أرضها سَبخة.
الباب الخامس والثلاثون
في ذكر وقت دفنه صلى الله عليه وسلم
عن جعفر بن محمد قال: قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين فمكث ذلك اليومَ وليلة الثلاثاء، ودُفن من الليل.
عن عائشة قالت: ما علمنا بدفن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوتَ المساحي ليلة الثلاثاء في السَّحَر.
عن جابر بن عبدالله قال: رُشَّ على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء.(2/22)
الباب السادس والثلاثون
في ذكر الذين نزلوا قبره صلى الله عليه وسلم
عن ابن عمر قال: نزل في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليٌّ، والعباس، وعَقِيل بن أبي طالب، والفضل، وشُقْران.
عن أبي عَسِيب: أنه شهد الصلاةَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: كانوا يدخلون من هذا الباب فيصلون عليه ثم يخرجون من الباب الآخر.
فلما وضع في لحده قال المغيرة: قد بقي من رجليه شيء لم يصلحوه. قالوا: فادخل فأصلحْه. فدخل وأدخل يده فمسَّ قدميه، وقال: أهيلوا عليَّ التراب. فأهالوا عليه، حتى بلغ أنصاف ساقيه، ثم خرج. فكان يقول: أنا أَحْدَثكم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
الباب السابع والثلاثون
في صفة قبره صلى الله عليه وسلم وصاحبيه
أعلم أن قبره وقبر صاحبيه في صُفّة بيت عائشة رضي الله عنها.
وقد اختلفت الرواية في صفة قبورهم فروي أنها على هذا الشكل:
رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر†
أبو بكر†
وروَى آخرون أنها على هذا الشكل:
رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبو بكر
عمر
وقد اختلفت الرواية هل هو مُسِنَّم أو مسطَّح، فروى الصُّنعان جميعاً.
الباب الثامن والثلاثون
في فضل قبره عليه الصلاة والسلام
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ مَوْتِي كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي» .
عن ابن عمرقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَه شَفَاعَتِي» .
عن أنس بن مالك قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَن زَارَ قَبْرِي بِالمَدِيْنَةِ مُحْتَسِبًا كُنْتُ لَه شَفِيْعًا وشَهِيْدًا يَوْمَ القِيَامَةِ» .
عن ابن أبي مُلَيكة أنه قال: من أحب أن يقوم وِجَاه النبي صلى الله عليه وسلم فليجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه.(2/23)
عن ابن أبي فُدَيك قال: سمعت بعضَ من أدركتُ يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية: {س33ش56إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }
(الأحزاب: 56)
فقال: صلى الله عليك يا محمد، يقولها سبعين مرة، ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان لم تسقط لك حاجة.
وقال بعض زوَّار قبره:
أتيتُك راجلاً وَوَدِدْتُ أني
مَلَكْتُ سَوَاد عيني أَمْتَطيهِ
وما لي لا أسِيرُ على المآقي
إلى قبرٍ رسولُ الله فيهِ
الباب التاسع والثلاثون
في الاستسقاء بقبره صلى الله عليه وسلم
عن أبي الْجَوْزاء قال: قَحِط أهلُ المدينة قحطاً شديداً، فشكَوْا إلى عائشة فقالت: انظروا قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كَوًّا إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا، فمطروا مطراً حتى نبت العشبُ وسَمِنت الإبل حتى فُتقت فسمي عام الفتق.
عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما كان أيام الْحَرَّة لم يؤذَّن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ولم يُقَمْ، ولم يَبرح سعيد بن المسيَّب من المسجد، فكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهَمْهمة يسمعها من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن أبي المِنْقَريّ قال: كنت أنا والطَّبَراني، وأبو الشيخ في حَرَم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا على حالة، فأثَّر فينا الجوع، فواصَلْنا ذلك اليوم، فلما كان وقت العشاء حضرتُ قبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع الجوع وانصرفت.
فقال لي أبو الشيخ: اجلس فإما أن يكون الرزق أو الموت.(2/24)
قال أبو بكر: فنمت أنا، وأبو الشيخ، والطبرانيُّ جالسٌ ينظر في شيء. فحضر بالباب عَلَوِيّ فدقَّ الباب، فإذا معه غلامان مع كل واحد منهما زنبيل كبير فيه شيء كثير. فجلسنا وأكلنا، وظننا أن الباقي يأخذه الغلام، فولّى وترك عندنا الباقي، فلما فرغنا من الطعام قال العلوي: يا قوم، أشكوتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم فأمرني بحمل شيء إليكم
الباب الأربعون
في ذكر ندب فاطمة عليه صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: لمَّا ثَقُل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يتغشَّاه الكَرْب، فقالت فاطمة: واكرب أبتاه. فقال لها: «ليْسَ عَلَى أبيْكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَوْمَ» . فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل أنعاه. ثم لما دُفن قالت فاطمة: يا أنس كيف طابت أنفسكم أن تَحْثُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الترابَ
عن علي عليه السلام قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءتْ فاطمة عليها السلام، فأخذت قبضة من تراب القبر، فوضعته على عينيها، فبكت وأنشأت تقول:
ماذا على من شَمَّ تُرْبَة أحمدٍ
أن لا يَشُمَّ مدى الزمان غَوَالَيَا
صُبَّتْ عَليَّ مصائبٌ لو أنها
صُبَّت على الأيام عُدْنَ لَيَالِيَا
عن عطاء قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أصَابَتْ أحَدَكُم مُصيْبَةٌ فلْيَذْكُرْ مُصَابَه فِيَّ، فإنَّها مِن أعْظَمِ المَصَائِبِ» .
الباب الحادي والأربعون
في فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا» .
انفرد بإخراجه مسلم.
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ (عَلَيْهِ) عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وحَطَّ عَنْه عَشْرَ خَطِيْئَاتٍ» .(2/25)
عن أبيّ بن كعب قال: قال رجل: يا رسول الله، إني جعلت صلاتي كلها عليك.
قال: «إذاً يَكْفِيكَ اللَّهُ ما أهَمَّكَ مِن أمْرِ دُنْيَاكَ وآخِرَتِك» .
عن عبدالله بن أبي طلحة عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبُشْرَى في وجهه، فقال: «أتَانِي المَلَكُ فَقَال: يا مُحَمَّدُ إنَّ رَبَّكَ عَزَّ وجَلَّ يَقُول لَك: أمَا يُرْضِيْكَ أنَّه لا يُصَلِّي عَلَيْكَ أحَدٌ مِن أُمَّتِكَ إلاّ صَلَّيْتُ عَلَيه عَشْرًا؟ قَالَ: بَلَى» .
عن عامر بن ربيعة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً لَمْ تَزَل المَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْه مَا صَلَّى عَلَيَّ، فَلْيُقِلَّ مِن ذَلكَ أوْ يُكْثِرَ» .
عن عبد الرحمن بن عوف قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجه نحو مسجده فدخل فاستقبل القبلة فخرَّ ساجداً، فأطال السجود حتى ظننا أن الله تعالى قد قبض نفسه فيها، فدنوت منه ثم جلس فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قلت: عبد الرحمن، قال: ما شأنك؟ قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدتَ، فخشيت أن يكون الله قد قبض نفسك فيها. فقال: «إنَّ جِبْرِيْلَ أتَانِي فَبَشَّرَنِي فَقَال: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقُولُ لَكَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْه، ومَنْ سَلَّمَ عَلَيْك سَلَّمْتُ عَلَيْه فَسَجَدْتُ تِ شُكْراً» .
عن أبي طلحة الأنصاري قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم طَيِّبَ النفس يُرى في وجهه البشر، فقالوا: يا رسول الله أصبحت اليوم طيب النفس في وجهك البشر قال: «أجَلْ، أتَانِي آتٍ مِن رَبِّي فَقَال: مَن صَلَّى عَلَيْكَ صَلاَةً كَتَبَ اللَّهُ لَه بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ ومَحَا عَنْه عَشْرَ سَيِّئَاتٍ ورَفَعَ له عَشْرَ دَرَجَاتٍ وَرَدَّ عَلَيْه مِثْلَهَا» .(2/26)
عن أبي طلحة قال: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيتُ من بشره وطَلاقته ما لم أره على مثل تلك الحال. فقلت: يا رسول الله، ما رأيتك على مثل هذه الحال؟
فقال: «ومَا يَمْنَعُنِي يَا أبا طَلْحَةَ، وقَدْ خَرَجَ جِبْرِيْلُ مِن عِنْدِي آنِفاً فَأتَانِي بِبِشَارَةٍ مِنْ رَبِّي تَعَالَى، بَعَثَنِي يُبَشِّرُكَ أنَّه لَيْسَ أحَدٌ من أمَّتِكَ يُصَلِّي عَلَيْكَ صَلاَةَ إلا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْه ومَلاَئِكَتُه عَشْراً» .
عن سهل بن سعد الساعديِّ قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو بأبي طلحة، فقام فتلقاه، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إني لأرى السرور في وجهك.
قال: «أجَلْ، أتَانِي جِبْرِيْلُ آنِفاً فَقَال: يا مُحَمَّدُ مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ مَرَّةً. أو قَالَ وَاحِدَةً. كَتَبَ اللَّهُ لَه عَشْرَ حَسَنَاتٍ، ومَحَا عَنْه عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، ورَفَعَ لَه عَشْرَ دَرَجَاتٍ» .
قال محمد بن حبيب: ولا أعلمه إلا قال: وصلّت عليه الملائكة عشر مرَّات.
عن أبي طلحة قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم. فلم أره قط أشدَّ فَرَحاً ولا أطيب نفساً منه يومئذ، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليك، بأبي أنت وأمي، إني لم أرك قط أشدَّ فرحاً ولا أطيب نفساً منك اليوم.
قال: «يَا أَبا طَلْحَةَ، وما يَمْنَعُنِي ألاَّ أكُونَ كَذلكَ، وإنَّمَا فَارَقَنِي جِبْرِيلُ آنِفاً فَقَال: يَا مُحَمَّدُ إنَّ رَبِّي بَعَثَنِي إليْكَ وهو يَقُول: إنَّه لَنْ يُصَلّي عَلَيْك أحَدٌ مِن أُمَّتِكَ صَلاَةً إلاّ رَدَّ اللَّهُ مِثْلَ صَلاَتِه عَلَيْكَ، وإلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَه بِهَا عَشْر حَسَنَاتٍ وحَطَّ عَنْه عَشْرَ سَيِّئاتٍ، ورَفَعَ لَه عَشْرَ دَرَجَاتٍ. ولا يَكُونُ لصَلاَتِه مُنْتَهًى دُوْنَ العَرْشِ، لا تَمُرُّ بِمَلَكٍ إلا قَال: صَلُّوا عَلَى قَائِلِها كَمَا صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» .(2/27)
عن أبي طلحة قال: دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم وأساريرُ وجهه تَبْرق فقلت: يا رسول الله، ما رأيتك أطيب نفساً منك ولا أظهرَ بِشْراً منك في يومنا هذا.
قال: «ومَا لِي لاَ تَطِيْبُ نَفْسِي ويَظْهَرُ بِشْرِي وإنَّمَا فَارَقَنِي جِبْرِيْلُ السَّاَعَةَ، فَقَال: يَا مُحَمَّدُ مَن صَلَّى عَلَيْكَ مِن أمَّتِكَ صَلاَةً كَتَبَ اللَّهُ لَه بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، ومَحَا عَنْه عَشْرَ سَيِّئاتٍ، ورَفَعَ لَه عَشْر دَرَجَاتٍ»، وقال له الملَك مثلَ ما قال .
قُلْتُ: يَا جِبْرِيْلُ ومَا ذَلكَ المَلَكُ؟
قال: إنَّ اللَّهُ تَعَالَى وكَلَّ بِكَ مَلَكاً مِن لَدُنْ خَلَقَكَ إلى أنْ يَبْعَثَكَ، لا يُصَلِّي عَلَيْك أحَدٌ إلاَّ قَال؛ وأنْتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك» .
عن أبي بكر الصديق قال: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من عِتْق الرِّقاب، وحُبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضلُ من ضرب السيف في سبيل الله. أو كما قال.
الباب الثاني والأربعون
في تبليغ الملائكة إليه صلى الله عليه وسلم الصلاة والسلام
عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ بِهَا عَلَيْه عَشْرَ صَلَوَاتٍ، واسْتَبَقَ مَلَكَانِ يُبَلِّغَانِ رُوحِي مِنْه السَّلاَمَ» .
عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لِ مَلاَئِكَةٌ سَيَّاحُونَ فِي الأرْضِ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلامَ» .
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صَلَّى عَلَيَّ عند قبري وكِّل به مَلكٌ يبلِّغني، وكُفِيَ أمر دنياه وآخرته، وكنت له شهيداً ـ أو شفيعاً ـ يوم القيامة» .(2/28)
عن عَمَّار بن ياسر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله أعطى ملكاً من الملائكة أسماع الخلائق، فهو قَيِّم على قبري إلى يوم القيامة، لا يصلي عَلَيَّ أحد إلا سَمَّاه باسمه واسم أبيه، فقال: يا محمد صلى عليك فلان بن فلان. وتكفّل لي الربُّ عز وجل أن يردَّ إليه بكل صلاة عشراً» .
الباب الثالث والثلاثون
في كيفية الصلاة صلى الله عليه وسلم عليه
عن ابن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عُجرة فقال: ألا أُهدي لك هدية؟ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيم، إنك حميد مجيد».
أخرجاه .
عن كعب بن عَجْرة قال: لمَّا نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا صَلُّوا عليه وسَلّموا تسليماً} قلنا: يا رسول الله، قد عَلِمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟
قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد» .
الباب الرابع والأربعون
في ذم من ذكر عنده فلم يصل عليه صلى الله عليه وسلم
عن علي بن الحسين عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البخيل من ذكرتُ عنده فلم يصلِّ عليّ».
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَعد المنبر فقال: آمين، آمين، آمين. فلما نزل قيل: يا رسول الله إنك حين صعدت المنبر قلت: آمين، آمين، آمين.
قال: «إن جبريل أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يُغفر له فمات فدخل النار، فأبعدَه الله. قل آمين. فقلت آمين. ومن أدرك أبَوَيْه أو أحدهما فلم يبرَّهما فمات فدخل النار، فأبعده الله، قل آمين. فقلت آمين. ومن ذُكرتَ عنده فلم يُصلِّ عليك فمات فدخل النار، فأبعده الله، قل آمين. فقلت آمين» .(2/29)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما جلسَ قومٌ مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَة، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غَفَر لهم» .
الباب الخامس والأربعون
في ذكر ما سمع من التعزية برسول الله صلى الله عليه وسلم
عن علي بن أبي طالب قال: لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء آتِ يُسْمع صوته ولا يُرى شخصِه فقال: السلام عليكم ورحمة الله، إن في الله عِوضاً من كل مصيبة وخَلفاً من كل هالك ودَرَكاً من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا، فإن المحروم من حُرم الثواب. والسلام.
الباب السادس والأربعون
في أنه لا يبلى صلى الله عليه وسلم
عن أوس بن أوس قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أفضل أيمانكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه قُبِض، وفيه النفخة وفيه الصَّعْقَة، فأكثروا من الصلاة عَلَيَّ فيه، فإن صلاتكم معروضةٌ عليَّ» .
قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرِمْت، أي بليت؟
قال: «إن الله حَرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» .
الباب السابع والأربعون
في عرض أعمال أمته عليه صلى الله عليه وسلم
قد سَبق في حديث أَوْس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أعمالكم تُعرض عليَّ يومَ القيامة» .
عن بكر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حياتي خيرٌ لكم تُحْدِثون ويَحْدُث لكم، فإذا أنا مِتُّ كانت وفاتي خيراً لكم، تُعْرَض عليّ أعمالكم، فإنْ رأيتُ خيراً حمدت الله، وإن رأيت شرًّا استغفرت لكم» .
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حياتي خير لكم يَنْزل عليّ الوحيُ من السماء، فأخبركم بما يحلُّ لكم وما يَحْرم عليكم، وموتِي خير لكم تُعرض عليّ أعمالكم كلَّ خميس، فما كان من حسَن حمدت الله عليه، وما كان من ذنب أستوهب الله ذنوبكم» .
الباب الثامن والأربعون
في رؤيته في المنام صلى الله عليه وسلم(2/30)
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثلَّ في صورتي» .
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثلَّ بي» .
عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من رآني فقد رأى الحقَّ، فإن الشيطان لا يتكونَّ بي» .
عن أبي مالك الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني» .
أبواب بعثه وحشره وما يجري له صلى الله عليه وسلم
الباب الأوّل في أنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أولُ الناس خروجاً إذا بُعثوا» .
عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الناس يُصْععَقون يوم القيامة فأكون أول من يرفع رأسَه من التراب فأجد موسى عند العرش لا أدري أكان فيمن صُعق أم لا» .
أخرجاه .
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيدُ ولد آدم وأول من تنشقُّ عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفّع» .
عن عبدالله بن سلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر» .
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنا أولُ من تنشقُّ عنه الأرض يوم القيامة ولا فخرَ» .
الباب الثاني في حشر عيسى بن مريم مع نبينا صلى الله عليه وسلم
عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينزل عيسى بن مريم إلى الأرض فيتزوج ويولد له، ويمكث خمساً وأربعين سنة، ثم يموت فيدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى بن مريم من قبر واحد بين أبي بكر وعمر» .
البابُ الثالِث في كيفية حشره صلى الله عليه وسلم(2/31)
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشقُّ عنه الأرضُ يوم القيامة، فأخرج من قبري وحولي المهاجرين والأنصارَ يَنْفضون التراب عن رؤوسهم» .
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشقُّ عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر، ثم آتي أهلَ البقيع فيُحْشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة» . زاد المطرز: فأحشر بين الحَرمين .
عن كَعْب الأحبار قال: ما من فجرٍ يطلع إلا نزل سبعون ألفاً من الملائكة حتى يحفُّوا بالقبر، يَضْربون بأجنحتهم ويصلُّون على النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا أمسَوا عَرجوا وهبط مثلُهم فصنعوا مثل ذلك، حتى إذا انشقت الأرض خرج في سبعين ألفاً من الملائكة يزفُّونه صلى الله عليه وسلم.
عن يوسف بن سيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُحشر الناسُ رجالاً وأُحشر راكباً على البُرَاق وبلالٌ بين يديّ على ناقة حمراء، فإذا بلَغنا مَجْمَع الناس نادى بلال بالأذان، فإذا قال: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله صدَّقه الأولون والآخرون» .
البَابُ الرّابع في ذكر لوائه صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لواءُ الحَمْد بيدي» .
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لواء الحمد بيدي ولا فخر، آدمُ ومَن دونه من النبيين تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر» .
البَابُ الخامِس في أنه أكثر الأنبياء تبعاً صلى الله عليه وسلم
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجيء يوم القيامة ومعه الرجلُ، ويجيء ومعه الرجلان وأنا أكثر الناس تبعاً يوم القيامة» .
البَابُ السّادس في ذكر حوضه صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن قَدْر حوضي ما بين أَيْلَة وصنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء» .(2/32)
عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حوضي مسيرةُ شهر، ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منه لا يظمأ أبداً» .
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا فَرَطكم على الحوض من وردَ شَرِب ومن شرب لم يَظْمأ أبداً» .
عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا فَرَطكم على الحوض وليَخْتَلِجنَّ رجالٌ دوني فأقول: يا رب أصحابي. فيقال: إنك لا تَدْري ما أَحْدَثوا بعدك» .
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أمامكم حوضاً ما بين ناحيتيه كما بين جَرْباء وأَذْرح» .
عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله ما آنية الحوض؟ قال: «والذي نفسي بيده لأنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها في الليلة الظَّلْمَاء المْصحية، آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ، آخر ما عليه، يَشْخب فيه ميزابان من الجنة عرضه مثل طوله ما بين عَمان إلى أَيْلة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل» .
عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن حوضي لأبعد من أيلة إلى عدن، والذي نفسي بيده إني لأذُود عنه الرجال كما يذود الرجل الإبلَ الغربية عن حوضه» .
قالوا: يا رسول الله، وتعرفنا؟
قال: «نعم، تَرِدُون عليَّ غُرًّا مُحَجَّلين» .
انفرد بإخراج هذا الحديث والذي قبله مسلم، واتفقا على ما قبل هذا من الأحاديث.
الباب السابع في ذكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم
قد سبق في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أول شافع وأول مُشّفع» .(2/33)
عن أبي هريرة قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهس منها نَهْسةً ثم قال: «أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون لم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يُسْمعهم الداعي وينفذُهم البصر وتدنو الشمسُ فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون، ولا يحتملون، فيقولون بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغ بكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم عزّ وجلّ؟
فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم. فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خَلَقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمرَ الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك عزّ وجلّ، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبلَه مثلَه، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، سمَّاك عبداً شكُوراً، فاشفع لنا إلى ربنا، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة على قومي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم عليه السلام فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كِذباته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى.(2/34)
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، إشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول موسى: إن ربي قد غضب اليوم غَضَباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثلَه، وإني قتلت نفساً لم أُمر بقتلها، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، إذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، (قال هكذا هو) وكلمت الناسَ في المهد. فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبلَه مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذَنْباً، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
فيأتوني فيقولون: يا محمد أنت رسولُ الله وخاتم النبيين، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟
فأقوم فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي عزّ وجلّ، ثم يفتح الله عليَّ ويُلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد ارفع رأسك سَلْ تُعْطَه، واشفع تُشَفّع.
فأقول يا رب أُمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، فقال: يا محمد أَدْخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناي فيما سواه من الأبواب.
ثم قال: والذي نفسي بيده لما بَيْن مصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهَجَر، وكما بين مكة وبُصْرَى» .
عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة فَيُلْهَمون ذلك، فيقولون: لو استشفعنا ربنا تبارك وتعالى فأراحنا من مكاننا» . قريباً مما في الحديث قبله.
إلى أن قال: «فأقوم فأستأذن على ربي فيُؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعتُ ساجداً لربي، فيدَعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وسَلْ تُعْطَه واشفع تُشَفّع» .(2/35)
فأرفع رأسي فأحمده بتحميدٍ يعلِّمنيه ثم أشفع فيحدُّ لي حداً فأُدخلهم الجنة، ثم أعود الرابعة فأقول: يا رب ما بقي إلا من لا حبسه القرآن» أي وجب عليه الخلود.
فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «(يُخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة) ثم يُخْرَج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذَرَّةً، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن بُرَّةً» .
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكل نبي دعوة قد دعا بها، فاستُجِيب له، وإني قد اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة» .
الأحاديث الثلاثة في الصحيحين.
عن أُبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة كُنت إمام الناس وخطيبهم وصاحب شفاعتهم ولا فخر» .
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني لقائم أنتظر أمتي تعبر على الصراط إذا جاءني عيسى فقال: هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون، أو قال: يجتمعون إليك ويدعون الله أن يفرق جميعَ الأمم إلى حيث يشاء الله، لعِظم ما هم فيه، فالخلق مُلْجَمون في العرق؛ فأما المؤمن فهو عليه كالزكيبة؛ وأما الكافر فيغشاه الموت. فقال: انتظر حتى أرجع إليك.
فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فقام تحت العرش فلقي ما لم يَلْقَ ملَك مصطفًى ولا نبي مرسَل، فأوحى الله إلى جبريل: أن أذهب إلى محمد فقل له: ارفع رأسك سَلْ تُعْطه واشفع تشفع. فشفعت في أمتي أن أُخْرج من كل تسعة وتسعين إنساناً واحداً، فما زلت أردِّد إلى ربي عزّ وجلّ فلا أقوم منه مقاماً إلا شُفِّعت، حتى أعطاني الله من ذلك أن قال: يا محمد أدخل من أمتك من خَلْف الله من شهد أن لا إله إلا الله يوماً واحداً مخلصاً ومات على ذلك» .
عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج من النار قوم بشفاعة محمد فيسمَّون الجهنميين» .(2/36)
انفرد بإخراجه البخاري.
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شفاعتي لأهل الكبائر من أُمتي» .
عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خُيِّرت بين الشفاعة وبين أن يَدْخل شَطْر أمتي الجنة، فاخترت الشفاعة لأنها أعمُّ وأكْفَى، أفترونها للمؤمنين المتقين؟ لا ولكنها للمذنبين المتلوثين» .
عن عيدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل نبي دعوة يُعجِّلها في الدنيا، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة للمذنبين المتلطِّخين» .
عن أبي سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيدُ ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع يوم القيامة ولا فخر» .
عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لكل نبي دعوة دعا بها في أمته، وخبأتُ دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة» .
أخرجه اليخاري ومسلم. .
عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم ولا فخر» .
البَابُ الثامن في ذكر المقام المحمود
عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُبْعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تَلِّ ويكسوني ربي حُلةً خضراء ثم يُؤذَن لي فأقول ما شاء الله أن أقول. فذلك المقام المحمود» .
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأقوم المقام المحمود، قال: ذاك إذا جيء بكم حُفَاةً عراة غُرْلاً فأقوم مقاماً محموداً. قال: هو المقام المحمود الذي أشفع فيه لأمتي» .
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقيمني ربُّ العالمين مقاماً لم يقمه أحد، فبكى، ولن يقيمه أحد بعدي» .
عن ابن عباس في قوله تعالى: { عسى أن يَبْعثك ربك مقاماً محموداً}. قال: يُقْعده على العرش».
فإذا قيل: ما معنى قوله محموداً؟(2/37)
قلنا: إن قلنا يُقعده على العرش فذلك مقام يَحْمَده هو لرفعته على الخلق.
عن ابن عباس في قوله تعالى: {عسى أن يَبْعَثَك ربك مقاماً محموداً} .
قال: إن لمحمد من ربه مقاماً لا يقومه نبيٌّ مرسل ولا ملك مُقَرَّب، يبين الله عزّ وجلّ للخلائق فضلَه على جميع الأولين والآخرين.
عن علي بن حسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن كان يوم القيامة مُدَّت الأرض مَدَّ الأديم حتى لا يكون للإنسان إلا موضع قدميه» .
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأكون أولَ من يُدْعى، وجبريل عن يمين الرحمن، والله ما رآه قبلها، فأقول: ربِّ إن هذا أخبرني أنك أرسلت إليَّ. فيقول الله تبارك وتعالى: صدق. ثم أشفع فأقول: يا رب عبادك في أطراف الأرض، فهو المقام المحمود» .
الباب التاسع في تخليصه صلى الله عليه وسلم المؤمنين على الصراط
عن أبي هريرة قال: يُضرب الصراط على جسر جهنم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأكون أول من يجوزه» .
أخرجاه .
وفي أفراد مسلم من حديث حذيفة وأبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «نبيكم قائم على الصراط يقول: ربِّ سلّم سلم» .
عن أنس: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يَشفع لي يوم القيامة قال: أنا فاعل. قلت فأين أطلبك يوم القيامة يا نبي الله؟ قال: اطلبني أولَ ما تطلبني على الصراط. قال: قلت: فإن لم ألْقَك على الصراط؟ قال: فأنا عند الميزان. قال: قلت: فإن لم ألقَك عند الميزان؟ قال: فأنا عند الحوض، لا أخطىء هذه الثلاثة المواطن .
البَابُ العاشر في ذكر أن نبينا صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة
عن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آتي بابَ الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أُمرتُ لا أفتح لأحد قبلَك» .(2/38)
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من يَقْرع باب الجنة فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: أقوم فأفتح لك فلم أقم لأحد قبلك ولا أقوم لأحد بعدك» .
انفرد بإخراجه مسلم .
عن حذيفة قال: قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إبراهيم خليلُ الله وموسى كلَّمه الله تكليماً، وعيسى كلمة الله وروحه، فماذا أُعطيتَ؟
قال: «ولدُ آدم كلهم تحت رايتي يوم القيامة وأنا أول من تُفْتح له أبواب الجنة» .
عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الجنة حُرِّمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحُرِّمت على الأممِ حتى تدخلها أمتي» .
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا شافعهم إذا حُبسوا، وأنا مْبَّشرهم إذا أَبْلَسُوا، ومفاتيح الجنة بيدي» .
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا أولُ من يدخل الجنة ولا فَخْر» .
البابُ الحادي عشر في ذكر فضل أمته صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بَيْد أنهم أوتوا الكتابَ مِن قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فُرض عليهم فاختَلفوا فيه فهدانا الله له، فهم لنا تَبَع، فاليهود غداً والنصارى بعد غد».
عن بَهْز بن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن جده قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إنكم تُوفون سبعين أمةٍ أنتم خيرها وأكرمُها على الله تعالى» .(2/39)
عن حُذَيفة بن اليَمان قال: «سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدةً فظننا أن نفسه قد قُبضت فيها، فلما رفع رأسه قال: إن ربي خيَّرني في أمتي ماذا يَفْعل بهم؟ قلت: ربِّ هم خَلْقك وعِبَادك. فخيَّرني الثانية فقلت له كذلك. قال: لا أُخزيك في أمتك يا محمد، وبشَّرني أن أولَ من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً، ليس عليهم حساب، ثم أرسل إليّ فقال: ادع تُجَبْ وسَلْ تُعْطَ فقلت لرسوله: أوَ مُعْطِيّ ربي سؤلي؟ فقال: ما أرسلني إليك إلا ليعطيك.
ولقد أعطاني ربي ولا فخر وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأعطاني أن لا تَجُوع أمتي ولا تُغْلب، وأعطاني الكوثر، وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي، وأعطاني العز والنصب والرعب يسير بين يديْ أمتي شهراً، وأعطاني أني أول الأنبياء أدخل الجنة، وطَيَّبَ لي ولأمتي الغنيمة، وأحلَّ لنا كثيراً مما شدَّد على من قَبلنا، ولم يجعل علينا من حَرج» .
الباب الثاني عشر في ذكر علوّ منزلته صلى الله عليه وسلم على الخلق في الجنة
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الوسيلة درجةٌ عند الله تعالى ليس فوقها درجة، فَسَلُوا الله أن يؤتيني الوسيلة» .
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صليتم عليّ فاسألوا الله لي الوسيلة» .
فقيل: يا رسول الله، وما الوسيلة؟
قال: «أعُلَى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو» .
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلُّوا عليّ فإنها زكاة لكم وسَلُوا الله لي الدرجة الوسيلة من الجنة، وهي لرجل وأنا أرجو أن أكون ذلك الرجل» .
عن عبدالله بن عمرو أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلَ ما يقول ثم صلُّوا عليَّ، فإنه من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه عشراً، ثم سَلُوا الله عز وجل الوسيلةَ، فمن سأل الله لي الوسيلة حلَّت عليه الشفاعة» .(2/40)
#سقط#
عن رويفع بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال اللهم صلي على محمد وأنزلْه المقعَد المقرَّب عندك في الجنة. حلّت له شفاعتي يوم القيامة» .
الباب الخامس والأربعون في ذكر ما سمع من التعزية برسول الله صلى الله عليه وسلم
عن علي بن أبي طالب قال: لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء آتِ يُسْمع صوته ولا يُرى شخصِه فقال: السلام عليكم ورحمة الله، إن في الله عِوضاً من كل مصيبة وخَلفاً من كل هالك ودَرَكاً من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا، فإن المحروم من حُرم الثواب. والسلام.
الباب السادس والأربعون في أنه لا يبلى صلى الله عليه وسلم
عن أوس بن أوس قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أفضل أيمانكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه قُبِض، وفيه النفخة وفيه الصَّعْقَة، فأكثروا من الصلاة عَلَيَّ فيه، فإن صلاتكم معروضةٌ عليَّ» .
قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرِمْت، أي بليت؟
قال: «إن الله حَرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» .
الباب السابع والأربعون في عرض أعمال أمته عليه صلى الله عليه وسلم
قد سَبق في حديث أَوْس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أعمالكم تُعرض عليَّ يومَ القيامة» .
عن بكر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حياتي خيرٌ لكم تُحْدِثون ويَحْدُث لكم، فإذا أنا مِتُّ كانت وفاتي خيراً لكم، تُعْرَض عليّ أعمالكم، فإنْ رأيتُ خيراً حمدت الله، وإن رأيت شرًّا استغفرت لكم» .
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حياتي خير لكم يَنْزل عليّ الوحيُ من السماء، فأخبركم بما يحلُّ لكم وما يَحْرم عليكم، وموتِي خير لكم تُعرض عليّ أعمالكم كلَّ خميس، فما كان من حسَن حمدت الله عليه، وما كان من ذنب أستوهب الله ذنوبكم» .
الباب الثامن والأربعون في رؤيته في المنام صلى الله عليه وسلم(2/41)