المعجزة المحمدية
تأليف السيد إبراهيم أحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة بقلم فضيلة الشيخ / إيهاب علوان
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستهديه . ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادىًّ له ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ونشهد أن محمداَ عبده ورسوله اللهم صلى على محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أما بعد :-
.... فهذا البحث القصير فى سيرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان قصيراً فى منهجه إلا انه تناول رؤيا جديدة وهى وجه الإعجاز فى صفات النبى صلى الله عليه وسلم البشرية والتى فاق الخلق جميعا فيها فقد كمل النبى صلى الله عليه وسلم فى صفاته خلقاً وخلقة .
.... والبحث فى هذا المجال وعن هذه الخلال مهما طال العمر وسطر القلم فما هى إلا خطوط قصار من مظاهر كماله وعظيم صفاته ، أما ما كان عليه من الأمجاد و الشمائل فانه لا يدرك كنهه ، ومن يستطيع معرفة كنه أعظم بشر فى الوجود بلغ أعلى قمة من الكمال واستضاء بنور ربه حتى صار خلقه القرآن عليه الصلاة و السلام فقد سئلت أم المؤمنين السيدة عائشة رضى الله عنها عن خلق النبى صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن . وقد خصه ربنا تبارك وتعالى بكمال النفس و مكارم الأخلاق ما لم يعطه لأحد قبله ولا بعده .
.... فقد كان صلى الله عليه وسلم يمتاز بفصاحة اللسان وبلاغة القول وكان من ذلك بالمحل الأفضل و الموضع الذى لا يجهل ، سلامة طبع ، ونصاعة لفظ ، وجزالة قول ، وصحة معان ، وقلة تكلم ، أوتى جوامع الكلم ، وخص ببدائع الحكم ، علم ألسنة العرب ، يخاطب كل قبيلة بلسانها ،ـ ويحاورها بلغتها ، إجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها ، ونصاعة ألفاظ حاضرة ورونق كلامها ، إلى التأييد الالهى الذى مده بالوحى .(1/1)
.... وكان الحلم والاحتمال ، والعفو عند المقدرة ، والصبر على المكاره . صفات أدبه الله بها ، وكل حليم قد عرفت منه ذلة وحفظت عنه هفوة ، ولكنه لم يزد مع كثرة الأذى إلا صبرا ، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما ، وقالت السيدة عائشة رضى الله عنها وأرضاها " ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثماً، فان كان إثماً كان أبعد الناس عنه ، وما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها " .
( رواه البخارى )
.... وكان أبعد الناس غضبا وأسرعهم رضا ، وكان من صفة الجود و الكرم ما لا يقادر قدره ، وكان يعطى من لا يخا ف الفقر قال بن عباس :- " كان النبى صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وأجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل يلقاه فى كل ليلة من رمضان فيدراسه القرآن . فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة " ، وقال جابر :- "ما سئل قط فقال لا " . ( رواه البخارى )
.... وكان من الشجاعة و النجدة و البأس بالمكان الذى لا يجهل ، كان أشجع الناس ، حضر المواقف الصعبة و هو ثابت لا يبرح ، و مقبل لا يدبر ولا يتزحزح ، و ما من شجاع إلا أحصيت له فرة ، و حفظت عنه جولة سواه صلى الله عليه و سلم .
.... و قال على كرم الله وجهه :" كنا إذا حمى البأس ، و احمرت الحدق اتقينا برسول الله
صلى الله عليه و سلم فما يكون أحد اقرب إلى العدو منه ." ( رواه مسلم )
قال أنس :- فزع أهل المدينة ذات ليلة ، فانطلق ناس قبل الصوت ، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبقهم إلي الصوت وهو علي فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول " لم تراعوا .لم تراعوا " ( متفق عليه )
وكان صلى الله عليه وسلم:- أشد الناس حياء من العذراء في خدرها ، وإذا كره شيئا عرف في وجهه" (رواه البخارى)(1/2)
وكما كان صلى الله عليه وسلم" لا يثبت نظره في وجه أحد ، خافض الطرف ، نظره إلي الأرض أطول من نظره إلي السماء ، جل نظره الملاحظة لا يشافه أحد بما يكره حياء وكرم نفس ، وكان لا يسمي رجلاً بلغ عنه شئ يكرهه بل يقول :" ما بال أقوام يصنعون كذا " .
-(ولنترك هند بن أبي هاله يصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،ولن ننقل كل الوصف، قال :- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان ، دائم الفكر ،
ليست له راحة ، ولا يتكلم في غير حاجة ، طويل السكوت ، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه ، لا بأطراف فمه ويتكلم جوامع الكلام ، فضلاً لا فضول فيه ولا تقصير ، دمثاً ليس بالجافي ولا بالمهين ، يعظم النعمة وإن دقت، لا يذم شيئاً،لم يكن يذم ذواقاً ، ولا يمدحه، ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر لها ، لا يغضب لنفسه(1/3)
ولا ينتصر لها ، وإذا أشارأشار بكفه كلها ، وإذا تعجب قلبها ، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه جل ضحكه التبسم ، ويفتر عن مثل حب الغمام ،وكان يخزن لسانه إلا عما يعنيه ، يؤلف أصحابه ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس، ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد بشره وخلقه ، يتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس،و يحسن الحسن ويصوبه ،ويقبح القبيح ويوهنه ، معتدل الأمر ، غير مختلف لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا ، لكل حال عنده عتاد ، لا يقتصر عن الحق ولا يجاوزه إلي غيره، الذي يلونه من الناس خيارهم ، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة ،وأعظم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة ، كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر ، ولا يوطن الأماكن ولا يميز لنفسه مكاناً وإذا انتهي إلي القوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك ، ويعطي كل جلسانه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أحداً أكرم عليه منه ، من جالسه أو فارقه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه ، ومن سأ ل حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول ، وقد وسع الناس بسطه وخلقه ، فصار لهم أبا ، وصاروا عنده في الحق متقاربين متفاضلين فيه بالتقوى ، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة ، كان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب ولا فحاش ولاعياب ولا مداح ، يتغافل عما يشتهي ولا يقنط منه ، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء ، والإكثار، ومالا يعنيه ، وترك
الناس من ثلاث : لا يذم أحد، ولا يعيره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلسانه كأنما علي رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا .
(- كان سكوته صلى الله عليه وسلم على أربع: على الحلم ،والحذر، والتقدير ، والتفكر0 ويقول صلى الله عليه وسلم :- " إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فاقدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافيء " ( رواه الترمذى )(1/4)
وهذا الوصف الجميل الذي سقناه لخلق نبينا صلى الله عليه وسلم الكامل فيه يعد قصيرا لم يحوي كل شمائله ، ولقد صدق الشاعر حين قال :
عذراً رسول الله قصرت في وصف
فإن جمالكم لن يوصف
جاءت قديما ذرة من نوركم
قد جمل الرحمن منها يوسف
والله لو قبر الحبيب تفجرت أنواره
للبدر ولي واختفي
والله لو قلم الزمان من البداية
للنهاية ظل يكتب ما كفي
يكفيه لقيا في السموات العلي
وبحضرة الرب الجليل تشرفا
يكفيه أن البدر يخسف نوره
لكن نور محمد لا يخسف
(- وأن هذا البحث لفيه جهد جهيد ، وفيه من الثمرات التي لفت الكاتب النظر إليها والتي يحتاج كل مسلم أن ينظر اليها ليعتبر ويتعلم منه صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن النبى لم يكن نبياً معجزاً فقط ولكن بشرا معجزاً أيضا جمع له الإعجاز في الرسالة وفي صفاته كبشر وكيف لا0000 ؟!! والله تعالي هو الذي تولي تربيته وأدبه وعلمه فهو المصطفي علي البشر وعلي الملائكة فهو أفضل الخلق جميعاً ، فالله تعالي قال :- (" لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم"(
(- وقد قدمنا لهذا البحث الطيب راجين من الله الكريم الثواب وأن نحيا ونحن من أمته متبعين لسنته ، ونموت ونحن من أمته وأن يغفر الله لنا الذنوب بشفا عته صلى الله عليه وسلم .
الشيخ إيهاب علوان
من مشايخ الأزهر الشريف
(- ستظل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ماثلة في القلوب والأذهان إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها ، سواء في ذلك عقل وقلب من أحبوه وأتبعوه أو من خالفوه فاحترموه أو من حقدوا عليه، وصبوا عليه جام غضبهم من قديم وحتى أيامنا هذه بغير حق ، فدسوا عليه الأحاديث وأولوا تصرفاته ومواقفه بحسب أهوائهم وأغراضهم ، ولكن الله كما حفظ كتابه ، قيض لسيرة حبيبه رجال وعلماء من شتي البقاع والأجناس من سهروا عليها ودافعوا عنها ولا يزالون .(1/5)
? - وستظل نبعاً معطاءاً متجدداً لا يقف عند حد الإشباع والإرتواء بل سيجد فيها كل قارئ فضلاٌ جديداً ، رؤية تدعو للتفكير والتأمل وربط الأحداث والتعمق فيها ، وإستكناه أسرارها وليس أدل علي ذلك غير صدور رسالة دكتوراه نوقشت بجامعة السوربون بفرنساعن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبن إسحاق / إبن هشام :
" الفترة المكية - تحليل نقدي للنص" للدكتور محمود علي مراد الذي يقرر في مقدمته :- " بعد أن كان في نيتي ، في البداية ـ، دراسة هذه السيرة بأكملها ، وجدت ، كلما قطعت شوطاً في بحثي هذا أن مثل هذا المشروع ضخم للغاية وأن من الصواب أن يقتصر بحثي علي دراسة الفترة المكية " . كتاب يسلك مسلكاً نقدياً مع السيرة لا أتفق معه ولكنه جهد .
? - وعكف من قبله الدكتور أحمد شلبي علي الفترة المدنية من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول في أحد أعداد مجلة الهلال :- " فقد رأيت أن عهد الرسول بالمدينة ينبغي أن يُدون تاريخه من جديد " وذلك بعد أن عنت له ملاحظات بعد قراءته سيرة ابن هشام الذي يركز فيها علي غزوات الرسول فقط التي قادها أو أمر بإنفاذها ويستكمل متسائلا مندهشا " " كأن حياة الرسول كانت حروباً متصلة وكأن الإسلام دين دماء " وفي موضع أخر يتساءل :- " أين الجوانب الأخرى في حياة الرسول ، أين جهود الرسول لبناء الفرد المسلم ، وبناء المجتمع الإسلامي ......الخ "0
- ثم قام بإصدار كتاب عن السيرة العطرة مبيناً فيها جوانبها كلها مستندا في هذا علي كتب الحديث الصحاح يقتبس منها ويصنف أبوابها ، وأحداثها بصبر ودأب.
? - ألم أذكر بأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيظل مصدراً من مصادر الإلهام للخير ، ومنبع من منابع التوجيه للحق لا يغيض ماؤه .(1/6)
( - ومن هذا المنطق وتأسيساً علي ما ذكر السابقون بأن السيرة العطرة عمل ضخم لا يستطيع العالم ناهيك عن غير المتخصص أن يلم بأطرافه ، فلا تعطي السيرة أنوارها دفعة واحدة لشخص واحد علي مرالعصور، لتظل نهراً عذبا ً جارياً مغداقاً، يرتوي منه كل السائرين علي نهج رسولنا صلى الله عليه وسلم، والمتبعين هداه إلي يوم الدين .
( - ومن زاوية أعتقد أنها جديدة أحاول مبحراً في هذا المحيط الهائل الزاخر بجرأة لا أحسد عليها بعد خوف ولأي شديدين ، يدفعني في هذا حبي لشخص رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، وقدر من مادة علمية أسوقها لإثبات حجتي .
(- ولست متخصصاً في التاريخ بقدر ما أستندت علي أصح الكتب ،والروايات الصحاح عنه صلى الله عليه وسلم ـ وهو ماأشتهر بصحته ـ فلا يجوز الكذب عليه " من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار " صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم 0 (رواه البخارى)
( - وأنا الذي أطمع في شرف صحبته ، ومعية محبته ، وأن أشرب بيده الكريمة من الحوض المورود ، ولعل رسالتي هذه تكون شفيعي لي عند ربي يوم أفوز بلقائه تعالى ، والله من وراء القصد .
…
" أن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ،
ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي
له .
وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله .
أما بعد :
(- ما كتبته في الصفحات التاليات ليس تأريخاً لسيرة رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بقدر ما هي زواية رؤية جديد ة لبعض مواقف من حياته صلى الله عليه وسلم أثبت من خلالها أن الرسالة علي قدر عظمتها ، لم يكن ليغيب عن الله عز وجل
ـ حاشا لله ـ وهو الراسل بالرسالة قدر عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم فجاءت الرسالة علي قدر الرسول يليق بها وتليق به .(1/7)
(- لقد كان وسيظل القرآن معجزة الإسلام الخالدة ، ومعجزة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كتاب سماوي أنزله الله عليه معجزاً في ألفاظه ، متعبداً بتلاوته وهو كما يقول الشيخ متولي الشعرواي- رحمة الله عليه - في كتابه : معجزات الرسول :- " معجزة رسول الله الكبرى وهي القران جاءت معجزة عقلية ولم تأت معجزة
كونية حتى تتفق فيها كل الألسن وكل العقول ولا تنطفئ أبداً ، بل يكون عطاؤها مستمراً عبر الأجيال "
(- ولكن نحن هنا سنحاول ولو قليلاً فصل الرسول عن الرسالة ، لنتعرف عليه وحده ، رجلاً . بشراً .. إنساناً ما الذي أضافه للنبوة ، وما أضافته له النبوة ، وذلك وصولاً لإثبات أن الرسول كان معجزة أيضاً بغض النظر عن أن القرآن كان معجزته الأبدية للخلق ، وأن الله أجري علي يديه معجزات تعلقت به حال حياته لها صفة الكونية .
(- وأقف مع كل من كتب عن رسولنا الكريم واقترابهم من شخصه موقف المنتظر عطائه من نورانية ، والهامات ، وإشراقات سيرته التي فاضت ، فكتبوا يصفونه بأعلى الصفات والنعوت فمنهم من رآه نبي الرحمة , وآخر رسول الحرية ، وثالث زعيم الاشتراكية وإمامها ،ومن تناول عبقريته ومس عظمته ، ومن كتب بحثا عن مثاليته صلى الله عليه وسلم .
(( - وأنا هنا بعد كل ما تقدم يحق لي أن أثبت معجزته حباً وكرامة ، وبقدر كبير من الموضوعية ، وبدون تزيد أو تهويل بل بالتأمل الواقعي الواعي مقارنا ًبعالمناالمعاصر مع عالمه صلى الله عليه وسلم سواء في مكة المكرمة أو المدينة المنورة وأترك للقارئ في النهاية الحكم سواء بالاختلاف أوالإتفاق .
((- وأقول كما قال أستاذنا العقاد في مقدمة كتابه: " عبقرية محمد " وحسبنا من كتابنا هذا أن يكون بنانا ً تومئ إلي تلك العظمة في أفاقها " وأزيد إلي ذلك الإعجاز البشري سيدي .. وسيد البشر محمد بن عبد الله عليه صلوات ربي وتسليماته
م . السيد إبراهيم أحمد
السويس
4126410 012(1/8)
((- تعودت - كما يفعل كثير من المسلمين - قراءة السيرة النبوية ، للتواصل والإستزادة وذلك علي اختلاف سنوات عمري ، وما لم أدركه منها في حينه أدركه في حين أخر .
- أقرا ومواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم تجري أحداثها أمامي يقبلها قلبي ويرتاح لها عقلي ، غير عدة مواقف وقفت أمامها وقفة الحائر المتسائل :- مثل زهده ورضاؤه بالنفقات اليسيرة له ولآل بيته زوجاته وابنته ، وأمامه المال الوفير يصيب منه كيف يشاء اليس نبيهم وقائدهم وإمامهم ، لماذا مثلا يختارالموت وهو الذي خير بينه وبين الخلود والمال والجاه ،أ يختار الموت أحد حتى لو كان نبياً ؟!! لما ..لما أسئلة أخذت تدور في رأسي . . إلي أن هداني تفكيري للجواب : تأمل صفاته البشرية وليست النبوية وصفات الرسول هذه هي التي أعرض نفسي عليها وسائر البارزين علي اختلاف العصو ممتحنا في ذاتي ومختبراً ذواتهم .
? - بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم التي نتحدث عنها وتؤكد آيات القرآن علي بشريته ولتنفي أن يكون إلا بشراً يوحي إليه من السماء بالنبأ العظيم " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً ؟!" والقرآن الكريم بهذا المنطق يقطع الطريق علي كل المحاولات التي يمكن أن تظهر من ضعاف العقول والأيمان بالعقل لتشكك
في بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم وفي هذا يقول د. محمد عمارة في مقال له : ماذا يعني بشرية الرسول ؟
يقول :- " إن بشرية الرسول التي تؤكدها معجزته القرآن ليست مجرد تحصيل حاصل ، وإنما هي ثورة علي التصورات الجاهلية للأمم السابقة عن طبيعة الرسل وطبيعة المعجزات " ، لتعلن جدارة البشربالاصطفاء في وجه من اعترضوا علي كون الرسول بشراً."(1/9)
- بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم وإنسانيته استوقفت الأستاذ خالد محمد خالد في كتابه:" إنسانيات محمد" إذ يقول منوهاً ومنبهاً الذين لا يرضيهم كون الرسول إنسان من البشر: " بلي أن الرسول إنسان وإنما أريد بصفة "الإنسان " هنا التنبيه إلي الطابع البشري المحض الذي يشترك فيه "محمد " مع غيره من الناس والذي تفرق فيه علي من سواه ، فهذا الطابع البشري بكل انفعالاته وبساطته وتلقائيته "
إلي قوله " فهو يمنحنا ثقة بأنفسنا ، وإحتراماً عظيماً لبشريتنا التي تنجب مثل هذا الطراز الرفيع من الخلق " .
- ولئن كان رسول الله بشراً رسولاً إلا كان يفصل بين ما يوحي إليه من ربه ، وبين ما يسوس ويقودالمسلمين، ففي الأولي الطاعة التامة لأوامر الله ونواهيه ، وفي الثانية شوري بينه وبينهم . "
وعرف من تبعه في دين الله أنه يصدر فيما يري ويقول إما عن الوحي الإلهي ، وإما عن نفسه، وهم يفرقون بين هذا وذاك فالوحي أمر وطاعة وما عن نفسه فرأي وشوري وهم يفرقون بين محمد الرسول ومحمد الإنسان . هذا ما قاله د . حسين فوزي النجار في كتابه : الإسلام والسياسة :
- يتبين مما سبق بيانه عن بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، من أن هذه البشرية تشريف وتكريم لنا وقطع الطريق علي من يستكثرون علي الرسول أن يكون بشراً وانتهاء بطور الرشد للإنسانية الذي جاء بختام طور النبوة والرسالة بإعلان جدارة البشر بالإصطفاء الإلهي والتأكيد علي بشرية محمد وجدارته بأن يكون نبيناً رسولاً ، واستحالة أن يكون النبي والرسول إلا بشراً يوحي إليه . ومن ثم فإن طبيعة الإعجاز في رسولنا الكريم كما يقرر د. محمد عمارة من نفس المصدر السابق ذكره :- لابد وأن تختلف في طبيعتها عن معجزات الرسل السابقين أنها لن " تدهش العقول " بل ستتخذه حكماً وحاكما ً .(1/10)
- ولقد تساءلنا فيما سبق هل كان يغيب عن الحق- جل وعلا- قدر من سيحمل الرسالة . وهذا مستحيل على الله تعالي ، فالرسالة تستوجب لصاحبها كمالاً يميزه علي غيره من البشر وحساً وجلالاً عنه غيره ....
فهو كما يقول د. حسين فوزي النجار :{ نفحة الخالق إلي عباده في صورة بشر ليكون في الناس وإلي الناس سواء بسواء ولكنه ينفرد دونهم بالسر الإلهي الذي أودع الله جوانبه }.
((- فليس معني أن رسول الله مختار من البشر أن يشابهنا في نقائصنا وعيوبنا وتقصيرنا ، ولن يكون هنا موضع للإحتجاج علي المثلية البشرية ، بقدر ما سيكون الإحتجاج منا عن سبب الاصطفاء والاختيار له من قبل الخالق بتولى هذه المهمة إن لم يكن منفرداً ومتميزاً عنا ومتفوقاً علينا فغالباً ما سنشهر بسيف السببية .. لماذا كان النبي المختار ؟ .. ونحن لا00 وهذا ما دفع المحتجون علي بعثه رسولاً إذ كانوا يتمنونها لأنفسهم أو لأحد وجهائهم وعظمائهم .
يقول الشيخ محمد الغزالى فى كتابه: فقه السيرة : { إن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بشر ، لكن الوجود لايعرف تفاوتاً بين أفراد جنس واحد كما يعرف ذلك فى جنس الإنسان ، إن بعضهم أرقى من الأفلاك الزاهرة ، وبعضهم الآخر لايساوى بعرة ، وإن كان الكل بشر .... وذلك التفاوت واقع بين من لم يؤيدوا (يوحى إلهى ّ) فكيف إذا أصطفى إنسان ما وزيد فى أطوار آخر فومض فيه أشعة التأييد والتوفيق والإرشاد والإمداد ...}
(( - ولقد شكلت نظرية النبوة في الفكر الإسلامي أثراً بعيد المدى وجدلاً ، تناولتها أقلام الفلاسفة بين مؤيد ومعارض ، وكان السؤال الذي يدور حوله معظم الإجتهادات والمجادلات (هل النبوة فطرية أم مكتسبة ؟ أي هل هي موجودة في الإنسان الذي سيكون نبياً أم أنه يستطيع بشي من المواهب الروحية وعن طريق قوة خاصة أو مخيلة ممتازة إذا أكتسبها فاز بالنبوة . ويرد علي التساؤل السابق الشهر ستاني في نهايةالإقدام :(1/11)
- (((" فكما يصطفيهم من الخلق فعلاً - أي الرسل - بكمال الفطرة ، ونقاء الجوهر ، وصفاء العنصر ، وطيب الأخلاق ، وكرم الأعراق فيرفعهم مرتبة . مرتبة حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة وكملت قوته النفسية وتهيأت لقبول الأسرار الإلهية بعث إليهم ملكاً وأنزل كتاباً0 ومهما يكن فنظرية أهل السنة قائمة علي أنه في نفس النبي ومزاجه كمالاً فطرياً استحق به النبوة وسما بسبه إلي الاتصال بالملائكة وقبول الوحي ، والأنبياء هم صفوة الناس وخيرة الله في خلقه " الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس " هذا ما قاله د . إبراهيم مد كور في الجزء الأول من كتابه في الفلسفة الإسلامية .
ولعلك - عزيزى القارىء- قد يعتريك الملل من هذا الزخم من الشواهد الذى أزفه بين يديك ، وتتساءل عن مبرره ، وهو عندى ضرورة لتأصيل منهجى فى كتابى هذا
يقول الأستاذ خالد محمد خالد فى كتابه : " رجال حول الرسول ": ( إن الإنسان والرسول ، إلتقيا فى {محمد} لقاءً باهرا ، والذين استرابوا فى رسالته ، لم يستريبوا فى عظمته ولا فى صفاء جوهره ، ونقاء إنسانيته ، وإن الله الذى يعلم أين يجعل رسالته
قد إختار لها إنساناً ، يزكيه أقصى ما تطمع البشرية فى إدراكه من رفعة ، وسمو ، وأمانة.)
ويقول الشيخ عطية صقر فى كتابه [ المصطفون الأخيار ] : ( .... ولقد إشتهر بين قومه بعلو الهمة والبعد عن الدنايا حتى أُطْلِقَ عليه الصادق الأمين , وارتضوه حكماً فى رفع الحجر الأسود إلى مكانه , وأميناً على ودائعهم حتى بعد أن واجههم بدعوته التى تناهض عقائدهم وسلوكهم , فإنهم يعلمون أن خُلقه من ذاته , وكماله طبعٌ فيه .)(1/12)
وليس فيما قدمناه من تأكيدات على صدق وجهتنا فى هذا الكتاب من آراء لعلماء من بنى جلدتنا مايبعثُ على الدهشة والإستغراب ؛ بقدر ما نحس بهاعندما تأتى هذه الشهادات ممن يخالفنا فى الدين والعقيدة واللغة والجنس فهاهو أنتونى ناتنج فى كتابه : [ العرب تاريخ وحضارة ] يقول : ( .... ولعل أشد مايستأثر بِلب دارس التاريخ العربى من غير المسلمين إنما هو ماطُبِع عليه محمد من صفات الإنسانية . كان أكثر الناس فهماً للقصور البشرى ، ومن ثَم كان أرحم الناس بالناس ، وكان عزوفاً عن متاع الحياة ...... ) .
وبعد أن تعرفنا علي بشرية الرسول الكريم ، وجب أن نتهيأ للدخول في رحلة علوية طاهرة ، كلها نور وأشرا قات لتختار بعضا من مواقفه" صلى الله عليه وسلم" لنعيها ونتأملها . ونعرض بشريتنا الناقصة علي بشريت الكاملة . فيتبين سرالكمال سر الإعجاز في شخصه ليتأكد لنا من جديد بأنه كان إلي جانب إعجاز الرسالة . إعجاز رسول . لنري . ولنبدأ(1/13)
- كان رسول الله يستطيع أن يعيش كما يعيش أحسن الناس في تلك القرية " مكة " فيكون من رجالها البارزين وله مقعده في دار الندوة يرجعون إليه عند المشورة برأي، ولا يقطعون أمراً دون الرجوع إليه ، الم يكن زوجاً لثرية من كبريات ثراة مكة تسير القوافل صيفاً وشتاء لترجع بالخير الوفير ، وهو جالس في الظل الو ري يجمع ثمار ماله ، والقيان يضربن له المعازف ويغنين شعراً من قصائد فحول شعراء المعلقات ، أو يروي جوفه الظامئ من الحر اللافح بالخمر القراح - كما يفعلون - فيعب ويعب حتى الثمالة وحوله حاشيته وخدمه وجواريه ، ماله حتى قبل أن يكلفه الله بالرسالة يقطع الأميال قرابة الثلاث ساعات في مشقة وعنت وحده ليعكف في ظلمة الليل وحيدا في غار يتحنث من مكان عال يطل علي ربي مكة كلها ، تاركا ً ليلها يلهو فيهالسادة والعبيد ، ومرتادوا ديار ذوات الرايات الحمر ماله يظل وديعاً ، هادئاً ، أميناً ، صادقاً ، وهي صفات لازمته آناء أيام الشظف .
* ألم يكن له أن ينقلب علي صفاته بعد ما أصبح السيد المطاع ، المهيب الأركان ، لما لم يتكبر ويتجبر ، أليس هذا ما جبل الناس عليه إذا ما مستهم النعمة بعد الفاقة ، والرخاء بعد الضيم .
--- ويري الأستاذ / فتحي رضوان في كتابه : محمد الرسول الأعظم: لو أن رجلاً تزوج خديجة الجميلة الغنية لأقبل علي الدنيا ولكان همه أن ينمي ثروتها ليربو حظه من الحياة المادية ولغشي مجالس مكة حيث تدور الكؤوس الباعثة للنشوة في الرؤوس وحيث تسمع أحلي الأحاديث وأجمل الدعابات ، وأطلي الأقاصيص أ. هـ(1/14)
(- وزواجه صلى الله عليه وسلم فيه من اتهامات المرجفين قديماً وإلصاق صفات الوصولية والنفعية والانتهازية بشاب فقير صغير ليتزوج من تكبره سناً فيرد علي هذا الزعم د. نظمي لوقا ويتبين من أسمه أنه رجل مسيحي العقيدة في كتابه: محمد في حياته الخاصة { لم يكن من أمره بعد زواجها - أي من السيدة خديجة - ما يدل علي إسرافه في مالها كما يفعل النفعيون الذين يتزوجون العجائز الثريات فلم يعمد إلي البذخ في مظهره بلي كان متواضعاً عفيفاً ولم يعمد إلي القصف مع أبناء المياسير إظهاراً لثرائه الطارئ . بل أزداد تباعده عن كل ألوان القصف ، وزاد زهده في الرخاء والترف وصار يقضي الكثير من وقته صائما معتزلاً للناس وحده في الجبل }.
( - هذا الشاب الثري لا يفعل هذا كله بل تقول د. بنت الشاطئ عنه:{ بعد أن تنام الدنيا في قريش قد أوي إلى غار هناك مستغرقاً في تأمله ، يلتمس في العتمة الداجية شعاعاً من نور الحق ، وينشد في خلوته أنس الهدي وراحة النفس }.
--- كان قادراً علي أن يأخذ نصيبه من الراحة ينام متى أحب ، ويأكل ما شاء ، ويلبس من الثياب الغالية ما يهوي ، فهل كان ذلك شأنه ؟(1/15)
يتسائل الأستاذ / فتحي رضوان ويجيب بالنفي :- لأنه صلى الله عليه وسلم كان مشغولاً بما صرفه عن التجارة وعن شئون الدنيا قاطبة وبما جعله يترك داره ويلوذ بغار في جبل علي بعد فرسخين من مكة ، عال ٍلا يصل إليه الإنسان إلا أن يناله العناءالشديد ، وهذا مايؤكده د/ طه حسين فى كتابه: مرآة الإسلام إذ يقول : وقد أتيح له من خديجة الولد وأتيح له معها الأمن والدَّعة . ولكنه فى ذلك الطوَّر من أطوار حياته ظهرت فيه خصال لم تكن مألوفة فى شباب قريش : فهو شديد النفُّرة من اللهو وشديد النفرة من اللغو أيضاً ؛ وهو أبعد الناس عن التكلف وأقربهم إلى الإسماح واليس ؛ وهو أبغض الناس لهذه الأوثان التى كان قومه يعبدونها مخلصين أو متكلفين ، وهو أصدق الناس إذا تكلم وأوفاهم إذا عامل وأبعدهم من كل مايزرى بالرجل الكريم وهو بعد ذلك أوصل الناس للرحم وأرعاهم للحق وأشدهم إيثاراً للبر . على أنه قد أخذ يميل إلى العزلة شيئاً فشيئاً ثم اشتد عليه حب العزلة فجعل يترك مكة بين حين وحين ويمضى وقد تزود لعزلته حتى إذا بلغ غار حراء خلا فيه إلى نفسه الأيام والليالى فإذا انقضى زاده أو كاد ينقضى عاد إلى أهله فتزود من جديد ورجع إلى غاره فأوى إليه ومكث فيه ماشاء الله أن يمكث .أ.هـ
لا يتبقى لنا من تبين سر الإعجاز هنا أن كل من أدلي برأيه في زواج رسول الله من العلماء الذين ذكرتهم أنفاً أخذته الدهشة من :-
((- عدم تحول سلوكه إلي سلوكيات الطبقة التي انتقل إليها من الأغنياء والمياسير ولم ينحو نحوهم .
((- ميله إلي الزهد أكثر ، وكان الأولي به أن يطمع ويحقق كل ما يتمني المرء وهو فقير من لبس أفخر الثياب ، والركون إلي الراحة وتغيير نمط الحياة السابقة علي الثراء .(1/16)
((- غار حراء توقف عندها جميع العلماء بالدهشة والحيرة والاستغراب ويغري :- رجل ثري يترك المدينة المتوهجة بنورها وناسها ويختار مكان ليس فيه ما يجذب ويغري إنسان في أي عصر بالذهاب إليه بعيد عن البلدة حوالي ميلين - صاعد طريق يحتاج لثلاث ساعات - في قمة جبل موحش / مظلم والأدهي ليس هناك أي وجه للاضطرار ولا يمثل له شعيرة دينية حتى يمتثل لها صاغراً .
((- تكرارها والدوام عليها أي أنها لم تكن فكرة طارئة ، قام بها فأشبع في نفسه رغبة ، ثم تولي عنها .
(( - لقد زرت هذا المكان بسيارة مكيفة ، ولم أصعد الجبل ، وكان في وضح النهار والعمران والأمن والحماية تحيط بالمكان كله .
- ((( هل لو عرض أي منا نفسه من تحول لغني بعد فقر ، وأمتلك ما أمتلك ، أن يرضي بالغار وظلمته ووحدته وبعده وعلوه ومشقة الوصول إليه ، ماذا لو كررت الفعل في عصرنا لاحتجت لسيارة مكيفة وغار مكيف ومصعد سريع ، وتبقي هناك قرابة الساعة مع أصدقاء تأنس بهم مخافة الوحدة والملل ، ولن تكررها مرة أخرى ،........ وهنا أشهد بأنه صلى الله عليه وسلم معجزٌ لنا حتى في عصرنا هذا وكل العصور ، وهو لم يصبح بعد نبياً رسولا.
- - السيدة خديجة أول زوجة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانت تكبره بل قيل أنها كانت كهلة ولو عاشت السيدة آمنة أم النبي نفسه لكانت في سنها أو أسن منها أو لما تجاوزت الأربعين ، وهو شاب ممتلئ فتوة ووسامة وقد اختارته لدماثة خلقه وأمانته وعفته وترفعه عن الصغائر والدنايا ، وكانت سيدة ًحازمة ًلبيبة .(1/17)
-- لم يتزوج الرسول عليها حتى ماتت ، وتزوج السيدة عائشة بعدها بأعوام وهي البكر الوحيد التي تزوجها صلى الله عليه وسلم ، صبيحة مليحة ، ولم تغر من زوجات الرسول قدر غيرتها من السيدة خديجة ، وزوجاته مازلن أحياء وهن أحق بغيرتها من زوجة سابقة أفضت إلي ما قدمت إليه ، ولكن لذكره صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة دائماً بكل خير واستقباله صاحباتها اللاتي كن يزرنّها في حياتها ، إلا أنه ذات مرة ضاق صدر السيدة عائشة ، فحادثت الرسول غاضبة ًلوفائه لزوجته الأولي رغم وفاتها ومرور هذه الأعوام قائلة ً:- ما تتذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر ، وأبدلك الله خيراً منها ؟!
- - وقبل أن أنقل هنا رده صلى الله عليه وسلم نناقش الجو العام حول هذه الزيجة وسر هذا السؤال .
-
لو تعرض أي رجل لمثل هذا الموقف ماذا سيكون رد فعله وجوابه لو تزوج من زوجة تصغره كثيراً ، ذات جمال وملاحة ، وهو كبيرُ السن ، له زيجة سابقة من إمراة تكبره توفت منذ سنين ، وهذا هو سرإستغراب السيدة عائشة فليس معني أنها زوجة نبي أنها صارت نبية ، وهي بقدر ما استفادت وتشربت من النور المحمدي والخلق النوراني بدلالة أو دالة القرب ، بقدر ما هي في النهاية إمراة من البشر خاطبت في زوجها رجولته وبشريته ، ولم تعترض علي أصل من أصول العقيدة ، أو خالفته فيما أوحي الله به إليه وهذا لا ينتقص منها ، وبالأحري لا ينتقص من قدر السيدة خديجة ، ولكنها لجأت للمعايير البشرية في سؤالها وإستنكارها ، ولذلك فهي لم تخالف أمراً دينياً معلوم بالضرورة .
(- إذن لنا أن نتخيل ماذا سيكون جواب رجل مسن مع زوجته الجديدة كما تعودنا أن نطلقه عليها في أيامنا هذه ، ونعلم ما للزوجة الجديدة من دلال وتيه وغرور فلنخمن ماذا ستكون الإجابة ؟ بداهة ستكون قدحاً وذماً في سابقتها ، ومدحاً وإسترضاءاً لها ، وصفات رائعة تقترب من حد الكمال ينبعث بها محاسن خلقتها(1/18)
واعتدال قوامها وحسن أخلاقها بحيث تبز وتفوق كل نساء العالمين السابقات واللاحقات ، الحاضرات منهن والغائبات بطبيعة الحال ، " وكلنا هذا الرجل "
وأن خرجت من دائرة التعميم غير العلمي قلت :- أغلبنا هذا الرجل ، وهذا بنظرة واقعية ودون الإتكاء علي إحصاءات مسحية علي شرائح الرجال الإجتماعية والإقتصادية بحسب مواقعهم الجغرافية في بلدان العالم
.
؟؟- فلنعد مرة أخرى لسؤال السيدة عائشة ، ولتصخ السمع جيداً - لتدرك الفارق - لرد رسولنا الرد العنيف ، زجراً إياها بقوله :- " والله ما أبدلني الله خيراً منها " وأخذ يعدد مناقب زوجته السابقة كأحسن ما يناجي الحبيب حبيبه ، وهذا علي خلاف المتوقع " آمنت بي حين كفر الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني منها الولد دون غيرها من النساء ."
تعقيباً علي جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكمن الإعجاز فيه أن الرسول فضل الزوجة المسنة المتوفية ، علي الزوجة الصغيرة المليحة التي مازالت معه حية ترزق ولم يكتف بهذا صلوات ربي وسلامه عليه ، بل أخذ يدلل علي سر عظمتها عنده وإستحقاقها لهذا الوفاء الصادق نقطة نقطة إلي أن وصل إلي النقطة الفارقة بينهما ألا وهي الإنجاب ليؤلمها بها فلم يقل لها " ورزقني منها الولد ولم يرزقني منك " بل قالها بشكل ضمني يفهم سامعه المراد منه " دون غيرها من النساء " ولا يظن ظان أن حسم إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، صدرت منه بهذه الحدة الظاهرة عن كره لزوجته الحالية ، ولكن عن حب شديد للسيدة عائشة إعترف به صراحة ودون مواربة أمام صحابي جليل هو عمر و بن العاص عندما سأله ذات مرة :- من أحب الناس إليك يا رسول الله ؟؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم دون تردد :-عائشة(1/19)
وهنا يمكن سر الإعجاز المحمدي عندما تكلم عن زوجة سابقة أحبها في حضور زوجة حالية يكن لها الحب أيضا ، ولكنه في قرارة نفسه ظلت خديجة عنده سيدة النساء ليس كمثلها إمراة وإن تكن عائشة بنت صديقه الصدوق الصديق أبي بكر الذي أحبه أيضاً ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يشعر بالبنوة مع خديجة ، ويشعر بحنان الأبوة مع عائشة .
وتذكر كتب السيرة أن السيدة عائشة التي كانت الزوجة الأثيرة عنده وختم حياته في بيتها لم تجروء بعد هذا أن تذكر السيدة خديجة أبداً .
يجب علي القارئ رجلاً كان أو امرأة أن يضع نفسه أو تضع نفسها في أحد طرفي المحاورة الزوجية التي سقناها ويري أو تري أكان سيتصرف أو تتصرف بمثل الذي حدث ؟!!.... وأسبق بالإجابة عن يقين : لا أعتقد ، ومن هنا تتبدي أمام أعيننا نور تلك المعجزة المحمدية .(1/20)
-( إجتمع نفرُ من رؤساء قريش بعد غروب الشمس، ذات يوم عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض :- إبعثوا إلي محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه :- أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فأنهم فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً ، وهو يظن أن قد بدالهم فيما كلمهم فيه بداء وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم ، حتى جلس إليهم فقالوا :- يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك ، وأنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل علي قومه مثل ما أدخلت علي قومك ، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة فما بقي أمرقبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك . فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا ، فنحن نسودك علينا ، وإن كنت تريد به مُلكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن رئياً - فربما كان ذلك ، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك ، فقال لهم صلى الله عليه وسلم :-" ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل علي كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم" أو كما قال .(1/21)
(((- ما سبق من السيرة النبوية لابن هشام ، وهي محاولة من سلسلة محاولات الإغراءات والعذاب الذي لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل هذه المحاولة ، مثل محاولة أشراف قريش وعددهم ستة منهم أبو سيفان بن حرب والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل في الضغط علي أبي طالب بعد ما استيئسوا من إثناء بن أخيه عما هو ماض ٍفيه وقالوا له :- يا أبا طالب ، إنا ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه
أحلامنا ، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا ،وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك علي مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه . ( ابن هشام 1/265 ) هذا غير محاولتهم إستبداله بعمارة بن الوليد بن المغيرة الذي سيكون ولداً لأبي طالب بإعتباره أشد وأقوي وأجمل فتىً في قريش ، علي أن يسلم لهم رسول الله ليقتلونه ، فيقول أبو طالب قولته الشهيرة :- "والله لبئس ما تسومونني ! أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا والله مالا يكون أبداً" (ابن هشام 1/266 )
هذا غير إدعائهم عليه بالكهانة والسحر والجنون والشعر ثم أغرت قريش سفهائها فكذبوه وآذوه وغمز أشرا ف قريش له أكثر من مرة بالقول وهو يطوف صلى الله عليه وسلم، وأنقذه ذات مرة أبو بكر الصديق عندما قاموا عليه قومة َرجل ٍواحد ، ًفأخذ أحدهم بجمع ردائه ، فصرخ فيهم باكياً : أتقتلون رجلاً أن يقول ربيَّ الله ؟
هذا غير محاولة أبو جهل قتله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد يصلي بأن رفع حجراً ثقيلاً يريد رميه به أثناء السجود ولم يكد يفعل حتى رجع منهزلاً ممتقعاً لونه مرعوباً قد يبست يداه علي حجره ، فقد بداله كما قال فحل من الأبل هم به أن يأكله.(1/22)
وعظم علي أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خذلانه ، فبعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له :- بابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا فأبق علي وعلي نفسك ولا تحملني من الأمر مالا أطيق :- فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله ، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه فقال :" يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري علي أن أترك هذا الأمر- حتى يظهره الله أو أهلك فيه - ما تركته " .
ثم أستعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكي ثم قام ، فلما ولي ناداه أبو طالب فقال :- أقبل يابن أخي فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فو الله لاأسلمك لشئ أبدا " السيرة النبوية لأبن هشام1/165،166
(الرحيق المختوم للمباركفورى ص110/قال كامل عويضة( اسناده صحيح) فى التهذيب العصرى لسيرة ابن هشام ص 136/137، وقرأناه فى معظم مؤلفات من قرانا لهم وعليهم من الأقدمين والمحدثين ، وضعفه الحوينى فى أحاديث مشتهرة ولكن لاتصح ، والعهدة عليه ) .
يقول الأستاذ/ أبو الحسن الندوي في كتابه: " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ":- أما قالوا له علي لسان عتبة وهم ما عرفوا الإغراء السياسي :- إن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسا ما بقيت .أ.هـ
نعم هم لم يعرفوا الإغراء السياسي ، ولكن عرفوا ضعف النفس البشرية ومطامعها فحدثوه باللغة التي يجيدون التعامل بها كتجار في بلد حرفته المساومات والمزايدات التجارية ، حدثوه عن أمرين يعرفون تماما من خلال معرفتهم بإنسان الحضارات السابقة المجاورة لهم وإنسان البلدان التي يسافرون إليها صيفا وشتاء أنه يقاتل(1/23)
ويقتل من أجلهما ألا هما :- المال والسيادة أحدهما أو كلاهما معاً ، تتحارب حولها الدنيا فكانت الثورات ، والانقلابات والاغتيالات ، والدسائس ، والفتن ، والمؤامرات ، من قديم الأزل وحتى الآن ، إلا عند المال والسيادة أي السلطة هوهو لم يتغير الإنسان ، من العصر البدائي حتى عصر التكنولوجيا ، وثورة المعلومات وحرب النجوم ، وأسلحة الدمار الشامل .
المال والمنصب ، الغني والسلطة " السيادة " سلاحان لهما بريق السحر يخطفان العقول والعيون ويحركان لعاب المطامع في الحلوق وينسيان طالبهما أجل المبادئ والقيم ويؤثر السلامة عائداً لبيته ليلتحف بالخز والدمقس وكافة الأزياء اليمانية والشامية شأنه في هذا شأن أصحاب الزوابع السياسية التي تموت في مهدها بعد التفاوض علي المكاسب الشخصية ثم يعود كلا الجانبين إلي حياته هانئا سعيدا بعد أن أستأنس أصحاب الثروات أصحاب الثورات 0
وليس أبلغ ولا أروع ولا أصدق من رفض الرسول صلى الله عليه وسلم فلقد رفض في دون عصبية ولم يقم الدنيا ويقعدها بل رفض الواثق بربه وبنفسه مستقبلاً رفضه لدعوته بالصبر لأمر الله وحكم الله بينه وبينهم وهو يعلم يقيناً أنها مسألة وقت وأن الله غالب علي أمره ومظهر دعوته وإن أبي المشركين .
وتأتي روعة قسمه أمام عمه وإستناداً إلي عمق وصدق إيمانه : " والله لو ضعوا الشمس في يميني ، والقمر عن يساري علي أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته "(1/24)
لقد وصل كفار قريش بأعلى المطامع في الخط البياني لبني البشر ، بينما هو أرتفع بقسمه بأعلى من الخط البياني الذين ظنوا هم أن لا شئ يعلوه بمقياسهم المادي ، إذا كان قسمة ساميا يماثل سمو وعلو رسالته ، وبُعد بالخط البياني إلي السماء فيما لم ولن يستطيعوا مجتمعين الوصول إليه ولو أرادوا إلي الشمس والقمر وهما آيتان من آيات الله وهو تحد معجز ٍلهم إستحالة تنفيذه تنبئ عن إستحالة تركه لأمر الدعوة ، مصعبا ً علي القوم المهمة ، رادعاً إياهم لكيلا يمارسوا معه مثل الإغراءات التي تغري غيره .
ومن أدبه صلى عليه وسلم مع الله ومع نفسه ،أنه ينسب ظهور الدين وغلبته ونشره بين الناس لله سبحانه وتعالي " حتى يظهره الله " مع علمه بأنه المضطلع بعبء نشره وهو المختار والمصطفي لهذا الأمر .
* لقد عاش صلى الله عليه وسلم المحاولات القرشية كلها وبنوعيها سواء الأذى والأضطهاد والإتهام والغمز بالقول والتمادي لمحاولة إيذاءه بدنياً، أدناها قومتهم عليه قومة رجل واحد وأعلاها التخطيط لقتله أكثر من مرة وهو الأب والزوج ولديه بناته يخاف عليهن أن مسه أذي فلمن هو تاركهن والدعوة في مهدها ، وأمامه محاولات إغراءه بالمال والسيادة وتأمين أسرته مادياً ومعنوياً في سبيل دعوة يعلم أنه سيعاني أشد العناء لتعلو كلمة الله في مكة وما حولها ويشاء لنا أن نتبين موضع الإعجاز المحمدي في ذلك كله ونحن نضع أنفسنا ومصالحنا وأسرنا أمامنا ، هل كنا سنحذوا حذوه ؟ "صلى الله عليه وسلم " .......؟
(((- قبل أن نتكلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم وسر إعجازه في فتح مكة ، آثرت أن أسوق ثلاثة مواقف في هذا اليوم العظيم ، نقرأها بتدبر وإمعان وهي سوف تنبئ بنفسها عن عظيم خلقه المعجز الذي نتتبع نوره لنتأسى به ونقتدي ولعنا نكون قبساً منه.
( المواقف في هذا اليوم العظيم هم :(1/25)
* يحدثنا الواقدي في كتابه " المغازي ": أن سهيل بن عمرو دخل داره حين فتح المسلمون مكة ، وأرسل ابنه عبد الله إلي النبي يطلب له جواراً . فلما التقي عبد الله بالنبي قال :- تؤُُّمن أبي يا رسول الله ؟ قال :- نعم هو آمن بأمان الله فليظهر ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله : من لقى منكم سهيل بن عمرو فلايشد إلبه النظر فليخرج فل عمري إن سهيلاً له عقل وشرف ، وما مثل سهيل جهل الإسلام ، فخرج عبدالله بن سهيل فأخبر اباه بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال سهيل مثنيا على رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان والله برا صغيراً وكبيراً ولعل القارىء يتوق إلى من ينشط له ذاكرته الإيمانية لتستعيد معرفتها السابقة بالصحابى الجليل سهيل ؛ فقد وقع أسيرا بأيدى المسلمين فى غزوة بد ر ، وطلب عمر بن الخطاب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له بنزع ثنيتى سهيل حتى لايقوم خطيباً بعد اليوم فأجابه الرسول صلى عليه وسلم :" كلا ياعمر لاأمثل بأحد ، فيمثل الله بى ، وان كنت نبيا ، لعل سهيلاً يقف غداً موقف يسرك "، أوكما قال صلى الله عليه وسلم ، وهو الذى أرسلته قريشا ليفاوض رسول الله فى أخريات العام السادس الهجرى ، حين خرج الرسول وأصحابه الى مكة يريدون العمرة ، ولما رآه رسول الله قال : " قد سهل لكم أمركم القوم يأتون إليكم بارحامكم وسائلوكم الصلح فابعثوا الهدى وأظهروا التلبية لعل ذلك يلين قلوبهم"، ووقع مع الرسول صلح الحديبية ولكنه رفض أن يبدأ كتاب الصلح ببسم الله الرحمن الرحيم ، وكذلك رفض إضافة لفظ رسول الله الى أسم الرسول ، أما الموقف الذى تنبأ به الرسول صلى الله عليه وسلم وكان هذا الخبر من معجزاته عن سهيل وأنه سيسر عمر ، فقد تحقق بعد إسلام سهيل ، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، و قد حدث فى مكة ماحدث فى المدينة من هرج ومرج بين المسلمين من ذهولهم أمام مصابهم الجلل فى إنتقال نبيهم الى الرفيق(1/26)
الأعلى ، فوقف سهيل فى مكة نفس موقف أبى بكر فى المدينة بنفس الحسم والصلابة قائلاُ : يامعشر قريش لاتكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد ، والله إنى أعلم أن هذا الدين سيمتد امتداد الشمس فى طلوعها فتوكلوا على ربكم فإن دين الله قائم وكلمته تامة ، وإن الله ناصر من نصره ومقو دينه ، وقد جمعكم الله على خيركم {يريد أبا بكر } وإن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة فمن رأيناه ارتد ضربنا عنقه . فتراجع الناس عما كانوا عليه .
*
** جاءت أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي جهل ، فقالت للنبي :- يا رسول الله قد هرب عكرمة منك إلي اليمن وخاف أن تقتله ، فأمنه قال هو آمن فخرجت أم حكيم في طلب زوجها حتى أدركته فقالت :- أي عكرمة ! قل لا اله إلا الله ولا تهلك نفسك فأبي وقال :- ما هربت إلا من هذا ، قالت :- علي أي فقد استأمنت لك محمد
فرجع معها ، وإذا رآه النبي مقبلاً قال لأصحابه :- لا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت ، فلما وصل عكرمة إلي مكانه وثب النبي إليه فرحاً به ، قال عكرمة مشيراً إلي زوجته :- يا محمد ان هذه أخبرتنى أنك أمنتنى ، ؟ قال النبى: صدقت، فأنت آمن قال: الام تدعو يامحمد؟ قال: أدعوك إلي أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتفعل تفعل حتى عد خصال الإسلام ، فقال عكرمة : والله ما دعوت إلا إلي الحق وأمر حسن جميل ثم نطق بالشهادة فقال النبي :- لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا إلا أعطيتكه قال :- فإني أسالك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكم أو حرب لقيتك فيها أو كلام قبيح قلته في وجهك أو أنت غائب عنه ، قال الرسول : -" اللهم أغفر له ."(1/27)
*** يقول الو احدي في كتابه : " أسباب نزول القران " : أن عثمان بن طلحة كان سادن الكعبة فلما دخل النبى صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب البيت - وهو مشرك - وصعد السلم ، فطلب رسول الله المفتاح فقيل له أنه مع عثمان فلما أرسل في طلبه أبي ، وقال :- لو علمت أنه رسول الله لما منعته المفتاح ، فلوي علي بن أبي طالب يده وأخذ منه المفتاح عنوة وفتح الباب ، فدخل النبي وصلي فيه ركعتين فلما خرج سأله العباس بن عبد المطلب أن يعطيه المفتاح ليجمع له بين السقاية والسدانة .
((- فأنزل الله تعالي آية ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاس أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سميعا بصير ) آية "58" من سورة النساء
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرد المفتاح ألي عثمان بن طلحة ويعتذر إليه عما بدر منه ، فلما فعل علي ذلك قال له عثمان :- يا علي :- أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق ؟ فقال علي :- لقد أنزل الله قرآنا فيك وقرأ علي الآية فقال عثمان :- أشهد أن محمداً رسول الله . وأسلم ، وفى رواية أن الذى قال ذلك هوعلي بن أبى طالب حين طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجمع لهم الحجاية مع السقاية ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أين عثمان بن طلحة ؟" فدعى له ، فقال له : " هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم بر ووفاء" وفى رواية ابن سعد فى الطبقات أنه قال حين دفع المفتاح اليه : " خذوها خالدة تالدة ، لاينزعها منكم الا ظالم ، يا عثمان ، ان الله استأمنكم على بيته ، فكلوا مما يصل اليكم من هذا البيت بالمعروف ."
أمامنا يوم الفتح العظيم والرسول صلى الله عليه وسلم القائد المنتصر بين جنده وعتاده والأمر والنهي وأي إشارة بقتل أو سجن أحد ملك بنانه هذا لو أشار دون القول .(1/28)
أين الإنتقام والمحاكمات والإعدام والنفي والسجن ممن آذوه وأذلوه وأجبروه علي مغادرة أحب أرض الله إليه مكة المكرمة ؟.. ممن أعلنوا الجوائز لقتله فتعقبوه ؟.. ومن حاصروه وأهله في شعب أبي طالب حتى المسغبة والهلاك ومن حرموه زيارة بيت الله وأباحوها بشروط مقبولة لديه ؟!!!
كل هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمر عليه مر الكرام وكأن إنساناً ما ، مر عليه فأحتك بثوبه ، ولم يعتذر ، وهو القادر غفر له وسامحه .
من المؤكد أن أحداثا كثيرة مرت أمامه وعينيه تمسح بيوت وطرقات مكة التي عاش فيها طفلاً وصبيا وشاباً ورجلاً حتى آتته الرسالة وتوالت عليه صور من ذكرياته تتري منذ زواجه من خديجة وعبء الدعوة وما عاناه من أذي قريش وما لاقاه أصحابه منهم من هجرتين للحبشة ثم المدينة وفراق الأهل والمال والولد فراراً بدينهم بعد أن وثبت كل قبيلة علي من فيها من المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر ، من استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ، ومنهم من يصلب لهم - أى يثبت - ، ويعصمه الله منهم.
تذكر صورة بلال بن رباح و أمية بن خلف يطرحه علي ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة فتوضع علي ظهره ، ولا يريحه من عذابه سوي قوله يقولها :- أكفر بما جاء به محمد وأعبد اللات والعزي فيقول في بلائه هذا :- "أحد أحد " وهم يأمرونه أن يقول مايقولون ، فيجيبهم فى تهكم قاس : "ان لسانى لايحسنه"، ويلجأون معه بالعنف تارة وبالمراوغة تارة أخرى ، وهو كالطود الأشم ، لايقبل المساومة ويستهين بالعذاب اليومى ، حتى تعب جلادوه من تعذيبه ، وكأنهم هم الذين يعذبون ، فأستراحوا ببيعه لأبى بكر الذى حرره .(1/29)
(( - وما جري لعمار بن ياسر وأبيه وأمه علي يد بنى مخزوم إذا كانوا يعذبونهم برمضاء مكة إذا حميت الظهيرة إلي أن قتلوا أم عمار وهي تأبي إلا الإسلام ، وكيف كان صلى الله عليه وسلم يخرج اليهم كل يوم وناداه عمار: "يارسول الله، لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ " فقال له الرسول : "صبرا أبا اليقظان .. صبرا آل ياسر .. فان موعدكم الجنة"
تذكر جيرانه بمكة صلى الله عليه وسلم وهم يطرحون عليه رحم الشاة وهو يصلي ، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له ، حتى اتخذ صلى الله عليه وسلم حجرا ليستتر به منهم اذا صلى ، ومنهم عقبة بن أبى معيط الذى تفل فى وجهه ، ووضع سلا الجزور على ظهر النبى بين كتفيه اذا سجد ، وأبو جهل الذى منعه صلى الله عليه وسلم من الصلاة بالحرم بل توعده ونهاه ، ووفاة عمه وخديجة في عام واحد وقد نالت قريش منه الأذى مالم تكن تطمع به فى حياة أبي طالب ، و أبو لهب الذى كان يجول خلفه فى موسم الحج والأسواق لتكذيبه قائلا لهم : لاتصدقوه فانه صابىء كذاب ، بل كان يضربه بالحجر حتى يدمى عقباه ، وزوجة ابى لهب أم جميل أروى بنت حرب ، أخت أبى سفيان ، حمالة الحطب ، وماسماها الله تعالى بذلك لأنها كانت تحمل الشوك وتطرحه علي طريق الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يمر ، وعلى بابه ليلا ، وتثير حربا شعواء على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتذكر صلى الله عليه وسلم يوم الخميس 26 من شهر صفر سنة 14 من النبوة ، حيث عقدت قريش أخطر اجتماع لها بدار الندوة نهارا ، حيث أوفدت جميع القبائل من يمثلها فيه ، وترأسهم فيه أبليس فى هيئة شيخ من أهل نجد ،وقد اقترحوا إخراجه من بلادهم أو حبسه فى الحديد وغلق الباب عليه حتى يموت ، ورفض المؤتمرون المتآمرون الإقتراحين ، فلم يلبث رأس الكفر بمكة أبو جهل بن هشام وكان مندوباً وحده عن قبيلة بنى مخزوم ، أن تقدم بإقتراح فاق فيه رأى أبليس نفسه، فقال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليداً نسيباً(1/30)
وسيطاً فينا ، ثم نعطى كل فتى منهم سيفاً صارماً ، ثم يعمدوا إليه ، فيضربوه بها ضربة رجل واحد ، فيقتلوه ،فنستريح منه ، فإنهم إن فعلوا ذلك تفرق دمه فى القبائل جميعاً ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا ، فرضوا منا بالعقل - الدية - ، فعقلناه لهم ، ثم التفت صلى الله عليه وسلم الى بيت رفيقه فى الهجرة ابى بكر حيث كانا يسكنان معا فى حى التجار بمكة ، وحيث غادرا قبل أن يطلع الفجر من باب خلفى من بيت الصديق ، فى طريقهما للمدينة وقد وقف على مرتفع يشرف على أم القرى وبيتها العتيق ، وقد أحتضنتهما عينيه بحزن المفارق عن شوق لها وهو المكره والمجبور قائلاً : " والله إنك لأحب أرض الله إلى الله ، وإنك لأحب أرض الله إلىًّ ، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ماخرجت . "، وهاهو يعود إلى الأرض التى أخرجوه منها متخفياً ، يعود إليها منتصراً ، ويدخل إليها مجاهراً ، آمناً ، والذين أخرجوه هم الخائفون ، المهزومون ، والمتخفون ؛ كل هذا وأهل مكة الذين كذبوه وناوؤه وأخرجوه من مدينتهم وحاربوه ومعهم جمع من سادتهم واقفين ينتظرون ماذا هو فاعل بهم ؟ وجرائهم وشناعة ما اقترفوا في حقه ماثل في أذهانهم لم يكد يبرحها لقد تفاخروا بصنائعهم القذرة في إيذائه صلى الله عليه وسلم والنيل منه وممن تبعه؛ لذا كان وجلهم من قراره صلى الله عليه وسلم أن يكون بقدر ما فعلوا وإن لم يكن أزيد منه فعلي الأقل مثله والمثل كثير لا يستطيعون إحتماله.(1/31)
ولمس صلى الله عليه وسلم ما في صدورهم من وجل ورعب وترقب وانتظار عاقبة فعز عليه - ويالرحمته - انتظارهم فسألهم :- " ماذا تظنون إني فاعل بكم ؟" فيستعطفونه بالبنوة والأخوة والدم والقربى، فلم يخزلهم أو يسخر منهم أو يسفه بهم ، أو يذكرهم بما جنت أيديهم عندما أطلقوها في أذاه ، وتعذيب أصحابه ، و التى لاكت في دم من أحبهم ومنهم حمزة أسد الله وأسد رسوله وعمه وأخوه فى الرضاعة، أعز فتي في قريش وأشدهم شكيمة ، أمير أول سرية خرج فيها المسلمون للقاء عدو ، والذى أعز الله به الإسلام والمسلمين المستضعفين آنذاك ، والذى بكى عند قتله يوم أحد بحربة العبد الحبشى وحشى بأمر من هند بنت عتبة زوجة أبى سفيان ، ليكون دمه ثمناً لحريته وشفاء لغليلها ودمعها الثخين على من فقدتهم فى معركة بدر أباها ، وعمها ، وأخاها ، وابنها ، أيذكّرهم صلى الله عليه وسلم وهو الذى لم ينس قط كيف نزعوا كبد حمزة الطاهر لتمضغه هند نظير قرطها وقلائدها التى دفعتهم لوحشى ، كيف ينسى عندما رأى جثمان عمه الشهيد المجيد وقال صلى الله عليه وسلم :" لن أصاب بمثلك أبدا ، وما وقفت موقفاً قطُ أغيظ إلىّ من هذا " ، وهاهو قد سألهم صلى الله عليه وسلم عما هو فاعل بهم ، فيقولون :- أخ كريم وبن أخ كريم فيقول في حكم عام وشامل وهم منه في موقف الأسري "إذهبوا فأنتم الطلقاء " فهو بقولته هذه قد أمنهم علي أنفسهم وأموالهم دون أن يشترط إسلامهم حتى أن سهيل بن عمرو الذي ذكرناه في أول الفصل هذا قد أمنه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يسلم بل وخرج بعد ذلك في جيش النبي صلى الله عليه وسلم إلي حنين و هو على شركه حتى أسلم بعد ذلك بالجعرانة وأعطاه الرسول يومئذ من غنائم حنين مائة من الإبل تأليفاً لقلبه وترغيباً له فى الإسلام.
لعل من يقرأ النصوص السابقة الثلاث ويلمس فيها رحمته صلى الله عليه وسلم بأهل مكة ليستخلص وجوه المعجزة المحمدية فيها :-(1/32)
1- أنه آمن أهل مكة وعفا عنهم ولم يذكرهم بما فعلوه سابقاً وهو نوع من التشفي ولو بالقول فيهم ثم يأتي بعد هذا العفو كأن يقول مثلاً أحدنا لمن أساء وجاء يطلب العفو في موقف هو فيه المنتصر:- بالرغم من أنك فعلت كذا وكذا إلا أنني سأعفو عنك ولكن .. وهنا يأتي دور إلقاء ووضع الشروط أن تفعل كذا وكذا وهذا ما لم يحدث منه صلى عليه وسلممثل سهيل بن عمرو .
2- يعطيهم الأمان - واتصالاً بالنقطة السابقة - لا يفرض شروط مثل: أن يدعوهم لا بل يجبرهم علي دخول الإسلام الذي دعاهم له من قبل ورفضوه؛ إذن وما دام دخلها منتصراً- أي مكة- وأعطاهم الأمان فليدخلوا ويؤمنوا بدينه، بل وجه المعجزة الثاني هنا أمن وعفو دون شروط بل ويظل بعضهم علي دينه يخرج ويدخل إلي داره مشركاً بين أغلبية مسلمة 0
3العمومية في العفو فلم يستبق بعض العناصر منهم ، وأبطأ عليهم العفو قليلاً ليذيقنهم بعض العذاب الذي ارتكبوه في حق المسلمين ، وهذا ما لم يحدث " إذهبوا فأنتم الطلقاء"
4من رحمته صلى الله عليه وسلم أن يرد المفتاح - أي مفتاح مكة - لعثمان بن طلحة ويبقيه سادناً للبيت ، وكان الأولي أن تنزع اختصاصاته وتنقل لأحد رجال العهد الجديد العباس أو عليا كما طلب ثم بعد لا يطيل عليهم الانتظار أي أهل مكة وهم لا يدرون ماذا هو فاعل بهم فيفتتحهم هو بسؤاله ، ماذا تظنون إني فاعل بكم ؟؟ وكان الأولي أن يتركهم يستعطفونه ويلحون عليه في السؤال وطلب العفو ولم يحدث هذا ، يقول خالد محمد خالد فى كتابه : " رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم" : ألقى كل أعداء دينه السلاح ، ومدوا إليه أعناقهم ليحكم فيها بما يرى ، بينما عشرة ألآف سيف تتوهج يوم الفتح فوق ربى مكة فى أيدى المسلمين فلم يزد على أن قال لهم :" إذهبوا ، فأنتم الطلقاء "..!!(1/33)
* حتى حقه فى رؤية النصر الذى أفنى فى سبيله حياته ، حرم نفسه منه ، فقد سار فى موكب نصره يوم الفتح ، حانيا رأسه حتى كادت تلمس رحله ، وتعذر على الناس رؤية وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم ؛ ألا تنزه فيه الإنسان .. وتنزه فيه الرسول.
لعلنا بنظرة لما يحدث في عصرنا وعصور سبقته عندما تقوم الثورات وينتصر المستضعفون فيها تأتي دور المحاكمات والإعتقال السياسي والنفي والسجن وتحديد الإقامة غير إنتهاك وإستلاب الأموال والأحكام العشوائية- دون مناقشة أو دفاع- بالإعدام وخلافه لابد أن يدور بخلد من يقرأ عظمة فتح مكة وأحداثها ومقارنتها بالحادث من تصرفات البشر لو أتيحت لهم فرصة الانفراد بمن آذاههم وهم فى موقف الضعيف وهو في موقف المنتصر 0
لا يستطيع المنصف إلا أن يقر بأن وجوه المعجزة " المحمدية " تتحدي فينا بشريتنا ، لكي نتواصل مع هذا السمو والخلق السمح ، ونرتفع فوق الأحقاد ونتسلح بالسماحة ، والعفو عمن ظلمنا ، ونعطي من حرمنا ، كما كان خلقه صلى الله عليه وسلم وكما كان يوصينا بذلك لعلنا نتعلم وننتفع بما علمنا ونعمل به .
- ((مواقف عظيمة لرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم تزخر بها سيرته الكريمة العطرة مليئة بالنظر والاعتبار ، وأعمال الفكر ، لكنها مع هذا تبعث علي التساؤل بدهشة والإعجاب المصحوب بالاستغراب والحيرة الممزوجة بالفخر وأعرضها هنا مسترسلة منسابة ، متتابعة متناغمة .ثم نقف مع بعضها وقفات يسيرة ما شاء الله لنا الوقوف .
O- رجل لو أمر كل صبح بذبح عجل حنيذ لما أستعصي عليه .
O-- ولو أمر ببناء دار منيف ، لبني له أصحابه قصراً.
O-- ولو هفت نفسه لثوب لامتلأت خزائنه بأجود الأثواب من نسيج وألوان .
(- ماله يسأل أهل داره :- أعندكم طعام ؟؟ فيجيبونه بالرفض . فينوي الصيام !!!!!
(- ماله يستطعم الهشيم والعيش والزيت . وإن وجده !!(1/34)
( - فاطمة الزهراء قرة عينه تطلب منه خادماً ممن أسرهم في إحدي الغزوات ليساعدها في أعبائها المنزلية بعدما كادت تسقط إعياءً تحت وطأة العمل الدائب في خدمة زوجها وبيتها وأولادها ، أي لم تطلبه للترف والرفاهية أو " المنظرة " فيرفض طلبها في حنان وقد طوقها بذراعيه وعلي وجهه ابتسامة ويقول لها أفضل من الخادم أن تسبحي الله وتحمديه وتكبريه أي بديلاً عن الخادم دعاء " ولنا وقفة مع السيدة فاطمة في موضع آخر " .
(- ماله لا يزيد في النفقات لتعيش زوجاته في بحبوحة العيش والرغادة حتى يضطرهن لأن يطالبوه بتلك الزيادة فيحجم وينزل الله فيهن قرآناً فيهجرهن شهراً حتى يهتف العقاد قائلاً مستغرباً وفي إستغرابه ما يؤكد ما أسوقه من دلائل الإعجاز المحمدي :- " نساء محمد يشكين قلة النفقة والزينة ولو شاء لأغدق عليهن النعمة وأغرقهن في الحرير والذهب وأطايب الملذات "
وفي موضع آخر من كتابه " عبقرية محمد " يتساءل :- أما كان يسيراً عليه أن يفرض لنفسه ولأهله من الأنفال والغنائم ما يرضيهن ولا يغضب المسلمين وهم موقنون إن إرادة الرسول من إرادة الله .
( - لماذا ينام الرسول صلى الله عليه وسلم علي حاشية من القش ؟؟؟ وقد دخل عليه ابن مسعود ذات مرة رضى الله عنه فرآه علي تلك الحال فقال له :- يا رسول الله ألا آذنتنا حتى نبسط لك علي الحصير شيئا .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مالي وللدنيا ؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ثم راح وتركها "
ورآه عمر علي نفس الحال والحصير قد ترك أثراً علي جنبه فبكي وسأله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يإبن الخطاب ؟ فقال عمر :- يا نبي الله ، ومالي لا أبكي ، وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزائنك لا أري فيها إلا ما أري وذاك كسري وقيصر .(1/35)
ولكي تكتمل أمام أعيننا أسرار هذا الإعجاز المحمدي الباهر ، علينا أن نترك صدورنا ونتنفس نسائمه العاطرات الحانيات الرحيمة الأبية ليستقبلها الفؤاد الذي سما وجيبه بذكر خصاله وصفاته الطاهرة لتحمل هذه النسمات أفئدتنا وتحلق بها داخل بيته صلى الله عليه وسلم لتتكشف لكل ذي عينين وعقل وفؤاد المعجزة وئيداً . وئيداً التي سرعان ما يتثبت بها معني ما نقصده يقيناً من كونه إعجاز .
O- إذا لم يجد صلى الله عليه وسلم الطعام صبر وربط علي بطنه حجراً وقد فعل هذا في غزوة الأحزاب عند حفر الخندق .
# ونقترب أكثر من هذا #
O - وما شبع صلى الله عليه وسلم من خبز القمح ثلاثة أيام متتالية حتى فارق الدنيا وأكثر من الثلاثة أيام ؟ نعم
O- يمر عليه الشهر فلا يجد ما يخبزة وأكثر من الشهر ؟ نعم
O - يمر عليه الشهران فلا يوقد في بيته نار " أي لا يطبخ أهل داره "
O - كان يجلس علي الأرض ويضع طعامه علي الأرض ، لأنه كان يحب أن يجلس كما يجلس العبد ، ويأكل أيضا كما يأكل العبد.
O - يشرب أخر أصحابه ، وقدحه من خشب غليظ .
O - أما عن ملبسه فلم يكن له قط قميصان معاً ، ولا رداءان معاً ، ولا إزاران ولا نعلان وكان يلبس الصوف ، ويرتق ثوبه ، ويرقع قميصه ، ويخصف نعله ، ويركب الحمارة ويحلب شاته ولم يستمتع يدنياه وكان طعامه الشعير ومات ودرعه مرهونة عند يهودى ولا ميراث لأهله مما ترك عقار وهو قليل .
O - كان أضحك الناس وأطيبهم خلقاً ونفساً صافي القلب وكان يتفكه ويمزح ويدين نفسه بما يدين به أصغر أتباعه .
O - يكره ضرب النساء ويعيبه ، لم يطلق زوجه من زوجاته دخل بها وعاشرها .(1/36)
O - لم يضرب أو ينهر خادماً ، رحيما بعبيده فكان يجاملهم ويجير كسرهم ويقبل منهم الهدية ويكافئ عليها ، ويلبي دعوتهم إلي الطعام ويكره أن تقبل يداه مخافة أن تجري العادة بهذا بين الناس فيكون فيها الخضوع والمذلة الهوان وكما يقول العقاد في كتابه : " عبقرية محمد " " أن حصة النبي من خدمة نفسه كانت أعظم من حصة خدمه"
O- لإيثأر من أحد لأنه أساء إليه في شخصه ، وثورته فيما يغضب الله .
O- كان صلى الله عليه وسلم أكثر رجل مشاورة للرجال .
يقول العقاد في كتابه السابق " أرأيت إلي فاطمة تدخل البيت أشبه الناس مشية بمشية محمد أرأيت إلي هذا الحب الجارف كما يؤكد هذاالأستاذ خالد محمد خالد في كتابه : أبناء الرسول في كربلاء : كانت أحب أهلها إلي أبيها وأقربهم من قلبه الودود وكان صلى الله عليه وسلم يشم فيما عبير ذكريات عزيزة وغالية ذكريات السنوات الجليلة التي قضاها في صحبة أمها خديجة كما كان يتهلل غبطة ًورضاً وهو يري فيها أم ذريته المباركة وسبطه العظيم "
رغم تلك الحميمة الخالصة في العلاقات بينه صلى الله عليه وسلم وبين أبنته الأثيرة لديه وبنت خديجة أحب الزوجات إلي قلبه - كما أسلفنا - فاطمة التي ولدت في أحضان نعيم جزل كانت تزخر به دار أمها " خديجة " ذات المجد الوارف والثراء المفيض تتزوج وقد رضيت بأن يكون كل جهازها أعواد من جريد صنع منها سرير واطئ ووسادة حشوها ليف وسقاءين للماء. ورحاءين للطحن. وقارورتي طيب .ومنخلاً .ومنشفة ً.وقدحاً . وكان غطائهما قطيفة إذا غطت رأسيهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطيَّا أقدامهما تكشفّت رأسيهما ، وفراشهما جلد كبش ينامان عليه بالليل ويجعلانه نهارً لعلف البعير عليه ، ولم يكن لهما خادم .(1/37)
رغم تلك العلاقة الحميمة بينها رضى الله عنها وأرضاها وبين أبيها ومعرفتها بمكانتها لديه وحبه العميق لزوجها تلك العلاقة التي جعلت زوجها ينصحها أن تأتى أباها فتطلب منه خادماً من الأسرى ، فذهبت مرة فأستحيت أن تسأله ، فذهب معها علياً وقدم طلبه بعرض حاله وحال زوجته عليه صلى الله عليه وسلم ليشفق عليهما ويرق لحالهما فقال على : يارسول الله ،والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدرى وقالت فاطمة : لقد طحنت حتى مجلت يداى ، وقد جاءك الله -عز وجل- بسبى وسعةٍ فأخدمنا ، فقال : " لا أعطيكما وأدع أهل الصفة - جماعة من الفقراء - تطوي بطونهم لاأجد ماأنفق عليهم ، ولكنى أبيعهم ، وأنفق عليهم أثمانهم " ( رواه أحمد) وقال لهما صلى الله عليه وسلم حين عادا إلى منزلهما ودخلا فى فراشهما : " ألا أدلكما على خير ٍمما سألتمانى ؟ إذا أخذتما مضاجعكما أو أويتما إلى فراشكما فسبّحا ثلاثاً وثلاثين ، واحمدا ثلاثاً وثلاثين ، وكبرا ثلاثاً وثلاثين ، فهو خيرلكما من خادم " .( متفق عليه ) .......... وكأن فاطمة ثرية وما تريده شكل اجتماعي تستكمل به وجاهتها ، ويرفض مؤثراً عليها فقراء المسلمين ، ويرى أن الأفضل والبديل لهما هو التسبيح والتحميد والتكبير عند نومهما والذى صار سنة متبعة عند عموم المسلمين ويتمسك بها سيدنا على حتى وفاته ، ويا ليته رفض إهدائها الخادم ولم يأخذ منها . وأترك الموقفين التاليين برهاناً للإعجاز :
O- أتي النبي صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة ، فعدل عن دخوله لأنه رأي علي بابها ستراً موشياً وأخبر علياً بأن ترسل - أي فاطمة - بالستر إلي فلان أهل بيت بهم حاجة . من منا يأخذ من ابنته ويهدي غيرها ؟!(1/38)
O- وفي مرة أخري أراد زيارتها ثم عاد كذلك دون أن يدخل عليها ، فأرسلت تسأله عن سر ذلك أيضا ، فأجابها : " أني وجدت في يديها سوارين من فضة ، فبلغها ذلك فأرسلتهما إليه ، فباعهما النبي صلى الله عليه وسلم بدرهمين ونصف وتصدق بهما على الفقراء"( رواه أبو داود) ..وفي ذلك يقول الأستاذ/ مصطفي صادق الرافعي معلقا ً علي هذه الحادثة :- {يا بنت النبي العظيم ! وأنت لا يرضي لك أبوك حلية بدرهمين ونصف وأن في المسلمين فقراء لا يملكون مثلها؟! أن زينة بدرهمين ونصف لاتكون زينة فى رأى الحق إذا أمكن أن تكون صدقة بدرهمين ونصف ! أن فيها حينئذ معنى غير معناها ! فيها حق النفس غالب على حق الجماعة ، وفيها الإيمان بالمنفعة حاكماً على الإيمان بالخير ، وفيها ماليس بضرورى قد جار على ماهو الضرورى ، وفيها خطأ من الكمال ، إن صح فى حساب الحلال والحرام ، لم يصح فى حساب الثواب والرحمة} أهـ .(1/39)
إنها فاطمة إبنته الحبيبة التى بشرها صلى الله عليه وسلم وهو فى مرض الموت بأنها ستكون أول أهل بيته الكريم لحوقاً به فتضحك ، بعدما كانت قبلها تبكى عندما أعلمها صلى الله عليه وسلم بحضور أجله حتى تعجبت السيدة عائشة وقالت : مارأيتُ كاليوم فرحاً أقرب من حزن !!، هل يستطيع أب أن يزف هذه البشارة لإبنته الشابة البالغة من العمر ثمان وعشرين سنة ولها من الذرية الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وهم صغار من سيرعاهم بعدها ؟! يبشرها والدها وتفرح ولم تجفل ولم تجزع ولم تراجعه وتستعطفه بأن يدعو لها بطول العمر حتى تربى أفراخها الزغب ، وتسعد أياماً بالعيش مع صنو روحها زوجها الحبيب على رضى الله عنهم جميعاً آل بيت النبى ؛ ألاَّ يذكرنا هذا الموقف بأبى الأنبياء إبراهيم وابنه الذبيح سيدنا إسماعيل نفس الرضا والتسليم مع الفارق فى سير الآحداث . فاطمة الزهراء سيدتنُا ، سيدة هذه الأمة أوسيدة نساء المؤمنين ، ابنة رسول الله وحبيبته التى أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتاه حبه وحبيبه وابن حبيبه أسامة بن زيد مستشفعاً للمرأة المخزومية السارقة حتى لايقيم عليها حد السرقة ، فغضب من أسامة ثم جمع الناس صلى الله عليه وسلم فخطب فيهم فقال : " ياأيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم انهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، ( وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمدٍ يدها)" ، والشاهد من العظمة ماقد لايلحظه أحدنا على إعتبار أنها-أى فاطمة - لن تسرق ، ولكن يجب أن تعلم أن الخطاب كان على الملأ ، ويجب أن تثق أن لو أن ابنته فعلتها لأبر النبى بقسمه صلى الله عليه وسلم .(1/40)
ولو أن فيما سبق وقدمناه بإيجاز مع ذكر بعض الأحاديث لكل موقف يؤيده - لينبئ عن نفسه ولا يدع أي مساحة لأديب أو بليغ مهما أوتي من براعة في الأسلوب ومهارة في القول أن يجلي الصورة المعجزية لرسولنا الكريم فتلك وحدها كفيلة دون غيرها لأثبت بها أنه صلى الله عليه وسلم كان معجزة صلى الله عليه وسلم، وأنه هنا تصرف في أمور حياته بوازع من نفسه لم يؤته فيما سبق قرآن يأمره ألا يوسع علي نفسه ، وأهل بيته ، ولئن إستطعنا أن نفعل ذلك مع أنفسنا وزوجاتنا فبالله من منا يستطيع أن يرفض لأبنته الأثيرة مطلب بل ويأمرها أن تهدي أشيائها من حاجة بيتها أو متعلقاتها الشخصية .
يقول الرافعى : أى رجل شعبى على الأرض كمحمد ٍصلى الله عليه وسلم فيه للأمة كلها غريزة الأب وفيه على كل أحواله اليقين الذى لايتحول ، وفيه الطبيعة التامة التى يكون بها الحقيقى هو الحقيقى .
(- من يرضي من الرؤساء أو الزعماء وقادة الأرض ناهيك عن أصغر موظف أو عامل في أي مكان علي وجه كوكبنا أن يصوم إن لم يجد في بيته طعام !!!
(- من يرضي بهذا الأثاث والعيش والزيت وقدح الماء من الخشب الغليظ !!!
(- من منا عنده خادم ويتعب نفسه بخدمة نفسه التي تفوق حصة خادمه!!!
(- من منا لا يكون في بيته طعاماً مطهياً بالثلاثة أشهر !!!
(- من..ومن ..وألف من ؟؟؟ .. تشهد هذه المواقف كلها بما أثارته في نفوسنا من دهشة واستغراب الزاهد القادر الذي يملك لا عن فقر المعوز المحتاج .. إنها بحق معجزة محمدية دون تزيد منا بسوق براهين وأدلة ففي كل ما نقدم لا يدعو لمزيد توضيح .(1/41)
((- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً لأمته في حياته ومماته مثل ما كان في حياته لا تنقطع عطاءاته ، ولا تفترفيوضا ته وهداياه يأمرها بالمعروف وينهاها عن المنكر ويطلب لها الخير ويهديها إليه . ولننظر إلي هذا الحديث الذي رواه أحمد والترمذي والحاكم وهو حديث حسن صحيح ، عن أبي بن كعب رضى الله عنه قال: قلت: يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم اجعل لك من صلاتي ؟ قال:- ما شئت قال قلت :- الربع قال :- ما شئت، وإن زدت فهو خير لك قال: قلت : فالثلث قال:- ما شئت ، فإن زدت فهو خير لك قال قلت :- النصف قال: - ما شئت ، وإن زدت فهو خير لك قال :- الثلثين قال : ماشئت ، وان زدت فهو خير قال: فأجعل لك صلاتي كلها ؟ قال :- إذا تكفي همك ويغفر ذنبك .
? - نعم صلاتنا علي رسولنا خير لنا أوصانا به نبينا لصالحنا ليكفينا همنا في رحلة الحياة وغفران لذنوبنا لنستقبل رحلة الموت أطهاراً أبراراً فخيره لنا ملازمنا في حياتنا ومماتنا مثل ما كان رسولنا خيراً لنا في حياته ومماته وصلاته خيراً لنا ، كما روي أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة رضى الله عنه أنه قال رسول الله صلى الله علبه وسلم :- " ماجلس قوم مجلسا لم يذكروا الله ، ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم ، إلا كان مجلسهم عليه ترة يوم القيامة ، إن شاء الله عفا عنهم ، وإن شاء أخذهم . "( صحيح الجامع 5607)(1/42)
- (( والذين لا يصدقون أن مماته صلى الله عليه وسلم أيضا خير لنا كما كان لنا في حياته فليقرأوا هذا الحديث بأناة وتريث وتأمل وسيعرفون أن إتباعه صلى الله عليه وسلم خير، والأيمان بنبوته ورسالته خيرٌ لنا قبله وإنه وهو في وفاته مازال بتابعنا ، ويخاف علينا ويتمني لنا الخير وهاكم الحديث الذي رواه ابن سعد عن بكر بن عبد الله رضى الله عنه :- قال النبي صلى الله عليه وسلم:- "حياتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم ، فإذا مت كانت وفاتي خيراً لكم ، تعرض علي أعمالكم فإن رأيت خيراً حمدت الله، وإن رأيت شراً استغفرت لكم " (رواه البزار ورجاله رجال الصحيح و ذكره الهيثمى فى مجمع الزوائد وصححه القسطلانى شارح البخارى والمناوى فى فيض القدير ، والشهاب الخفاجى فى شرح الشفا والسيوطى فى الخصائص ، وضعفه وأنكره الحوينى فى التوحيد العدد 397 )
((- أرأيت عزيزي القارئ كيف يحمل همنا حتى في مماته ، الذين ينشدون الأغاني وتجري علي ألسنتهم كجري الماء ، والذين يدمنون السباب ويهوون الغيبة ويحترفون النميمة ، حبيبنا ومولانا وسيدنا رسول الله يطالبنا بأن نرطب ألسنتنا بالصلاة عليه لا لأنها خير له ولكن لخيرنا نحن .
ولن أجد خيرمن هذا الحديث الذى أسوقه فى معرض الحديث عن الخير المحمدى ورحمته بأمته وحنوه عليها صلى الله عليه وسلم :
عن أبى موسى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده , قبض نبيها قبلها , فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها , وإذا أراد هلك أمة عذبها ونبيها حى , فأهلكها وهو ينظر , فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره . " ( رواه مسلم 2288 )
( - والآن هطلت أمطار الخير المحمدي الرقيقة الشفيقة الرحيمة علي أمته وها هي يسبقنها إلينا نورها وأريجها .
وسأتركها تتكلم وتهدي الخير إلينا اسمعوها وأرتووا منها وأصيبوا من نورها ..:(1/43)
1- قال صلى الله عليه وسلم " : أن أولي الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة " ( أخرجه الترمذى وابن حبان بسند حسن بشواهده)
2- قال صلى الله عليه وسلم : "من صلي علي صلاة صلى الله عليه عشر صلوات ،وحط عنه عشر خطيئات، ورفع له عشر درجات . "(صحيح : رجاله ثقات )
3- قال صلى الله عليه وسلم : " من صلي علي النبى صلى الله عليه وسلم واحدة ، صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة." (رواه أحمد باسناد حسن وهو موقوف)
4- قال صلى الله عليه وسلم :" ان لله ملائكة سياحين يبلغونى عن أمتى السلام" ( رواه النسائى وابن حبان وصححه الألبانىفى صحيح الترغيب)
5- قال صلى الله عليه وسلم : " من صلي علي صلاة لم تزل الملائكة تصلى عليه ماصلى على ، فليقل عبد من ذلك أو ليكثر ."( حسن بشواهده : رواه أحمد وابن ماجه كما فى صحيح ابن ماجه للألبانى )
6- قال صلى الله عليه وسلم : " من قال حين يسمع المؤذن : وأنا أشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبا لإسلام دينا ، غفر له . " ( رواه مسلم وأبوداود والترمذى وغيرهم )
7- قال صلى الله عليه وسلم : " من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وبعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة . "( رواه البخارىوأبو داود وغيرهما )
- ويقترن الخير المحمدي بخير الأيام يوم الجمعة فانه كما يقول الحافظ بن كثير :-
وقد روي البيهقي من حديث أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من الصلاة عليه يوم الجمعة ويوم الجمعة فان قلت ما الحكمة من خصوصيته الإكثار من الصلاة عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة وليلتها ؟(1/44)
(- أجاب ابن القيم بأن رسول الله صلى الله وعليه وسلم سيد الأنام ، ويوم الجمعة سيد الأيام فالصلاة عليه فيه مزية ليست لغيره مع حكمة أخري وهي أن كل نالته أمته في الدنيا والآخري إنما نالته علي يده صلى الله عليه وسلم فجمع الله لأمته بين خيري الدنيا والآخرة وأعظم كرامة تحصل لهم فإنها تحصل لهم فإن فيه بعثهم إلي منازلهم وقصورهم في الجنة ، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة ، وهو يوم عيدهم في الدنيا ، ويوم فيه يسعفهم الله تعالي بطلباتهم وحوائجهم ولا يرد سائلهم وهذا كله إنما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلي يده فمن شكره وحمده وأداء القليل من حقه صلى الله عليه وسلم أن يكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته .
ونضيف إلى الأسباب التى أحصاها ابن القيم السبب الذى ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم ،أن صلاة أمته معروضة عليه فى هذا اليوم أيضا .... ولنفتح صدورنا وقلوبنا لخير الأنام الذى يرسل خيره لنا فى خير الأيام ولننصت ولنستمع :
1- قال صلى الله عليه وسلم : " أكثرواالصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن صلى علىََّ صلاة صلى الله عليه عشراً ".( حسنه الألبانى فى صحيح الجامع 1209)
2- قال صلى الله عليه وسلم : " أكثروا من الصلاة عليََّ فى الليلة الزهراء ، واليوم الأزهر ، فإنهما بؤديان عنكم ، وإن الأرض لاتأكل أجساد الأنبياء ؛ ومامن مسلم يصلى علىَّ إلا حملها ملك حتى يؤديها إلىََّ ويسميه حتى إنه ليقول : إن فلانا يقول كذا وكذا ". ( ذكره الهندى فى كنز العمال وعزاه للبيهقى فى شعب الإيمان عن أبى هريرة )(1/45)
3- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة : فيه خلق آدم ، وفيه قبض ، وفيه النفخة ، وفيه الصعقة ، فأكثروا علىََّ من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة علىََّ ، قالوا : يارسول الله ؛ وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ يقولون: بليت ؟ فقال :" إن الله عز وجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء". (صحيح سنن أبى داود)
أبعد كل ما قيل عن الخير المحمدي إلا يجب أن تسأل نفسك كيف أحرم ولما أحرم من هذا الخير ؟ أنه بطر بالنعمة وبالخير وبالحب المحمدي . وقيل انه لما نزلت (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا( (56 )
سأل الصحابة رسول الله :- كيف الصلاة عليك يا رسول الله ؟؟ قال اللهم صلي علي محمد وعلي آل محمد كما صليت علي إبراهيم وعلي آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك علي محمد وعلي آل محمد كما باركت علي إبراهيم وعلي آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
(- وعن ابن حميد الساعدي :- أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك قال :- " قولوا اللهم صلي علي محمد وأزواجه وذريته كما صليت علي إبراهيم وبارك علي محمد وأزواجه وذريته كما باركت علي إبراهيم إنك حميد مجيد ".( متفق عليه ).
(- وعن عبد الله بن مسعود :- إذا صليتم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه فقالوا علمنا قال :- قولوا اللهم أجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك علي سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ، ورسول الرحمة. اللهم ابعثه مقاماً محمودا يغبطه فيه الأولون والآخرون ؛ اللهم صلي علي محمد وعلي آل محمد كما صليت علي إبراهيم وعلي آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .(1/46)
(- وهذه صيغة أثبتها صاحب كتاب " ترشيح المستفيدين " علوى بن أحمد السقاف وكذلك من مجلد " الفتاوى " للشيخ محمد متولى الشعراوى ، وأيضاً للأمام الشافعى ، وهي صيغةٌ جميلة في معناها ومبناها ومؤداها وجامعة للصيغ السابقة عليها وأخترتها لما فيها من الخير العميم :
? اللهم صلي علي محمد عبدك ورسولك النبي ألأمي وعلي آل محمد وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته كما صليت علي إبراهيم وعلي آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد وكما يليق بعظيم شرفه وكماله وكما تحب وترضي له دائما أبدا عدد معلوماتك ومداد كلماتك ورضا نفسك وزنة عرشك
أفضل صلاة وأتمها وأكملها كلما ذكرك وذكره الذاكرون، وغفل عن ذكرك وذكره الغافلون، وسلم تسليما كذلك وعلينا معهم اللهم صلي علي محمد وأبلغه الوسيلة والدرجة الرفيعة من الجنة ، اللهم أجعل في المصطفين محبته، وفي المقربين مودته، وفي الأعليين ذكره ، اللهم بجاهه عندك ومكانته لديك ومحبتك له ومحبته لك ، والسر الذى بينك وبينه نسألك أن تصلى وتسلم عليه وعلى آله وصحبه وضاعف اللهم محبتى فيه وعرفنى بحقه ورتبته واجمعنى به ومتعنى برؤيته ، وقربنى من حضرته واسعدنى بمكالمته وارفع عنى العلائق والعوائق والوسائط ، والحجاب ، وشنف سمعى منه لذيذ الخطاب وهيئنى للتلقى منه ، وأهلنى للأخذ عنه ، واجعل صلاتى عليه نوراً فائضاً ماحياً عنى كل ظلمة وظلم وكل شك وشرك وإفك وغفلة، اللهم صل على سيدنا محمد بكل صلاة تحب أن يصلى بها عليه فى كل وقت صلاة وسلاماً دائمين عدد ماعلمت وزنة ومداد ماعلمت وأضعاف أضعاف ذلك .... اللهم لك الحمد ولك الشكر فى كل ذلك وعلى ذلك ، اللهم صلى على محمد عدد من صلى عليه، وصلى اللهم عليه عدد من لم يصلى عليه ، وصلى اللهم كما أمرت أن يصلى عليه ، وصلى اللهم عليه كما تحب أن يصلى عليه ، وصلى اللهم عليه كما ينبغى أن يصلى عليه ........ وصل اللهم على سيدنا محمد وسلم .... )(1/47)
عليه الصلاة والسلام . أظهر الخليقة بشراً وأنساً ، وأطيبُهم َنفَساً ونفْساً ، وأجملهم وصفاً ، وأظهرهم لطفاً ، لايطوى عن بشرٍ بشْرََهُ ، وحاشاه أن يشافهَ أحد بما يكره ، والبشرُ عنوان البشير ، صلى الله عليه ماهمى رُكام وماهَتن غمام ، كان ذا رأفةٍ عامّة وشفَقَة سابغةٍ تامّة ، أجمل الناس وداً ، وأحسنهم وفاءً وعهداً ، تواضَعَ للناس وهمُ الأتباع، وخفض جناحه لهم وهو المتبوع المطاع ، عليك الصلاة والسلام ، يا أفضل خلق الله ، وأكرم خلق الله ،واتم خلق الله وأعظم خلق الله عند الله .. رسول الله ونبى الله وحبيب الله وصفى الله ونجىُ الله وخليل الله .. أكرم مبعوث وأصدق قائل أنجح شافع وأفضل مشفع ، الأمين فيما استودع والصادق فيما بلغ ، عليك الصلاة وأزكى السلام .
(- والمواطن التي تشرع فيها الصلاة علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنفرد لها بإيجاز ونوردها هنا لمن لم يكن علم من قبل بها :-
?- التشهد الأخير واجبة منه ، والتشهد الأول سنه .
-? خطبة الجمعة ، وعقب إجابة المؤذن ، وأول الدعاء وأوسطه وآخره ، ومنها أثناء تكبيرات العيدان وعند دخول المسجد والخروج منه ، وفي صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية ، وعند التلبية ، عند الصفا والمروة ، عند اجتماع القوم وتفرقهم ، عند الصباح والمساء ، عند الوضوء ، عند طنين الآذان ، عند نسيان الشئ ، بعد العطاس ، عند زيارة قبره الشريف ، صلى الله عليه وسلم .(1/48)
( - والخير المحمدي يتمثل في الصلاة عليه- عليه الصلاة والسلام، وفيما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حث أمته علي ذكر الله " أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله " كما حثهم علي تسبيح الله سبحانه وتعالي " لأنه قال : "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . أحب إلي مما تطلع عليه الشمس . وعلمنا صلى الله عليه وسلم فضل الإستغفار فقد قال الترمذى حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابن نمير عن إسماعيل بن مهاجر عن عباد بن يوسف عن أبى بردة بن أبى موسى عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزل الله علىَّ أمانين لأمتي :- ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ( فإذا مضيت تركت فيهم الإستغفار إلي يوم القيامة ." ( تفسير القرآن العظيم لإبن كثير الجزء الثانى )
وحثنا علي قراءة القرآن خير الله الدائم إلي أهل الأرض فقال صلى الله عليه وسلم : "أبشروا، فإن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبداً " رواه الطبراني عن جبير.
O - ومن رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبسيدنا محمد عبداً ورسولاً فليتبعه ويحبه فمن علامات محبته إتباعه قولاً وعملاً ، ظاهراً وباطناً ، والرضا بحكمه وإيثاره علي حكم غيره من البشر وإن تعارض ، ولا يطيع أحداً في الله إلا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وأيضا من علامات محبته تعظيمه عند سماع أسمه وذكره مع إظهار الخشوع والخضوع والإنكسار والإكثار من ذكره صلى الله عليه وسلم فذكره يشفي الصدور، ويجلي القلوب ويعطر الألسن ومن علامات محبته: نصرة دينه قولاً وفعلاً والتحلي بأخلاقه ما أستطعت إلي ذلك سبيلا ، ومن علامات محبته: حب القرآن الذي أتي به واهتدي به وتخلق به ، ومحبة سنته وقراءة حديثه والعمل به ، وإتباع هديه الكريم .(1/49)
OO- في هذه الصفحات من الخير لو حافظ عليه كل مسلم ومسلمة والتزم به وجعله نهج حياته وعاد إلي تاريخ رسولنا الكريم وقرأه، وجعل لنفسه حزباً من القرآن ، وورداً من أذكار المصطفي ، وحافظ علي صلاة النوافل ، وقيام الليل والضحى لأحس بأبواب السماء مفتحة ًعلي مصراعيها له ببركة حب الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم .
ها قد وصلنا حتى مشارف بقيع الغرقد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف أمام قبور من ماتوا يدعو لهم ويترحم عليهم ويستغفر لهم ويبشرهم بلحوقه بهم ، وسار بعد ذلك بصحبة غلامه أبو مويهبه الذي أسر إليه صلى الله عليه وسلم قائلاً :-
* " إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ، ثم الجنة ، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة "قلت: بأبى أنت وأمى ! فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة . قال : لاوالله يا أبا مويهبة لقد إخترت لقاء ربى والجنة " .
*
( لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب وإنما رواه أحمد عن يعقوب بن إبراهيم ، عن أبيه عن محمد بن إسحاق ) وقال عبد الرزاق بن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله : " نصرت بالرعب وأعطيت الخزائن بين أن أبقى حتى أرى مايفتح على أمتى وبين التعجيل ، فأخترت التعجيل " ، قال البيهقى : وهذا مرسل وهو شاهد لحديث أبى مويهبة .(1/50)
وفى اليوم الخامس قبل وفاته صلى الله عليه وسلم ، اتقدت الحرارة فى بدنه ، فاشتد به الوجع والغمى فقال :" هريقوا على سبع قرَب من آبار ٍشتى ، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم ." وخرج من بيته فدخل المسجد متعطفاً ملحفة على منكبيه وقد عصب رأسه بعصابة وجلس آخر جلسة ًله على منبره ، فحمد الله وأثنى عليه وأوصى المسلمين بإلا يتخذوا قبره وثناً يعبد كما يصنع أهل الكتاب ، وعرض نفسه للقصاص على من شتم أو جلد من المسلمين ، وسدد ديناً عليه قيمته ثلاثة دراهم طلبها صاحبها ، ثم أوصى بالأنصار خيراً ، وأثنى على أبى بكر وأمر بسد جميع الأبواب المؤدية إلى المسجد إلا باب أبى بكر ، ثم قال : " إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ماشاء ،وبين ماعنده ، فاختار ماعنده ". فبكى أبو بكر . ( صحيح البخارى ) .
ثم عاوده المرض وثقل عليه بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد صلى الله عليه وسلم والمسلمون ينتظرون خروجه ، فاغتسل ثم أغمى عليه فأفاق ثم وقع ثانياً وثالثاً ثم أغمى عليه، فأرسل إلى أبى بكرٍ أن يصلى بالناس فصلى أبو بكر 17 صلاة فى حياة الرسول وهى صلاة العشاء من يوم الخميس وصلاة الفجر من يوم الأثنين ، و15 صلاة فيما بينها (متفق عليه) .(1/51)
ولعل البعض يتسائل ماالحكمة فى إجراء الأمراض وشدتها عليه وعلى غيره من الأنبياء عليهم جميعاً منا السلام ؟ يجيب القاضى عياض فى كتابه : الشفا بتعريف حقوق المصطفى :{ فامتحانه إياهم بضروب المحن زيادة ُ فى مكانتهم ، ورفعة ً فى درجاتهم ، وأسباب لإستخراج حالات الصبر والرضا ، والشكر والتسليم ، والتوكل والتفويض ، والدعاء والتعرض منهم ، وتأكيد لبصائرهم فى رحمة الممتحنين ، والشفقة على المبُتلين وتذكرةً لغيرهم ، وموعظة لسواهم ليتأسوا فى البلاء بهم ، فيتسلوا فى المحن بما جرى عليهم ؛ فيتسلوا فى المحن بما جرى عليهم ، ويقتدوا بهم فى الصبر ، ومحو لهنات فرطت منهم ، أو غفلات سلفت لهم ، ليلقوا الله طيبين مهذبين ؛ وليكون أجرهم أكمل وثوابهم أوفر وأجذل ......... وفى موضع ٍ آخر( فيما يخص الرسول والأنبياء فى الأمور الدنيوية ويطرأ عليه وعليهم فى العوارض البشرية ): { أنه صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والرسل من البشر ، وأن جسمه وظاهره خالص ُ للبشر ، يجوز عليه من الآفات والتغييرات ، والآلام والأسقام ، وتجرع كأس الحمام مايجوز على البشر ، وهذا كله بنقيصة فيه ؛ لأن الشىء إنما يسمى ناقصاً بالإضافة إلى ما هو أتم منه وأكمل من نوعه؛ وقد كتب الله تعالى على أهل هذه الدار : فيها تحيون ، وفيها تموتون ، ومنها تخرجون ؛ وخلق جميع البشر بمدرجة الغير ، فقد مرض صلى الله عليه وسلم ، واشتكى ، وأصابه الحر والقر ، وأدركه الجوع والعطش ، ولحقه الغضب والضجر ، وناله الإعياء والتعب ، ومسه الضعف والكبر ، وسقط فجحُش شقهُّ ، وشجه الكفار ، وكسروا رباعيته، وسقى السم ، وسحر ، وتداوى ، واحتجم ، وتنشر وتعوذ، ثم قضى نحبه فتوفى صلى الله عليه وسلم ، ولحق بالرفيق الأعلى ، وتخلص من دار الإمتحان والبلوى . أهـ(1/52)
قالت عائشة : " مارأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم " ( رواه البخارى ومسلم والترمذى وابن ماجه وأحمد وابن حبان وأبو داود ). وعن عبدالله : رأيت النبى صلى الله عليه وسلم فى مرضه ، يوعك توعكاً شديداً ، فقلت : إنك لتوعك توعكاً شديداً قال :" أجل ، إنى أوعك كما يوعك رجلان منكم ." قلت ذلك أن لك الأجر مرتين ؛ قال : أجل، ذلك بذلك ".( رواه البخارى ومسلم وغيرهما )
وكان صلى الله عليه وسلم قبل يوم من وفاته قد أعتق غلمانه ، وتصدق بستة أو سبعة دنانير كانت عنده ، ووهب للمسلمين أسلحته ، وفى الليل أرسلت عائشة بمصباحها امرأة من النساء وقالت: أقطرى لنا فى مصباحنا من عُكَّتك السمن ، وكانت درعه مرهونة عند يهودى ، ورأت فاطمة مابأبيها من الكرب الشديد الذى يتغشاه، فقالت : واكرب أباه . فقال لها : " ليس على أبيك كرب بعد اليوم " ، ودعا الحسن والحسين فقبلهما ، وأوصى بهما خيرا ، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن .
تقول السيدة عائشة رضى الله عنها : إن من نعم الله علىّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى فى بيتى وفىيومى وبين سحرى ونحرى ، وأن الله جمع بين ريقى وريقه عند موته . دخل عبد الرحمن - بن أبى بكر - وبيده السواك ، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأيته ينظر إليه ، وعرفت أنه يحب السواك ، فقلت : آخذه لك؟
فأشار برأسه أن نعم . فتناولته فاشتد عليه ، وقلت : ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فلينته، فأمره- وفى رواية أنه استن به كأحسن ماكان مستنا - وبين يديه ركوة فيها ماء ، فجعل يدخل يديه فى الماء فيمسح به وجهه ، يقول :" لاإله إلا الله ، إن للموت سكرات "(1/53)
ثم نصب يده فجعل يقول فى الرفيق الأعلى حتى قبُض ومالت يده ،....... وماعدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو أصبعه ، وشخص بصره نحو السقف ، وتحركت شفتاه ، فأصغت إليه عائشة وهو يقول : " مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، اللهم اغفر لى وارحمنى . اللهم ، الرفيق الأعلى " . ( البخارى )
كرر الكلمة الأخيرة ثلاثاً ، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك من ضحى يوم الأثنين 12 ربيع الأول سنة 11 هـ ، وقد تم له صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام ، ولما علمت فاطمة إبنته نبأ وفاته قالت : ياأبتاه أجاب رباً دعاه ، ياأبتاه من جنة الفردوس مأواه ، ياأبتاه إلى جبريل ننعاه ..... وجعل على يغسله ولم يرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شىء مما يرى الميت وهو يقول : بأبى وأمى ماأطيبك حياً وميتاً ... ثم دفن صلى الله عليه وسلم حيث مات فأخروا فراشه وحفروا له تحت فراشه وجعل القبر لحداً ، ودخل الناس الحجرة يصلون عليه عشرة عشرة لايؤمهم أحد ، فصلى عليه أولاً أهل عشيرته ، ثم المهاجرون ، ثم الأنصار ، ثم الصبيان ، ثم النساء ثم الصبيان وقد إستغرق هذا يوم الثلاثاء كله ومعظم ليلة الأربعاء ،(1/54)
قالت عائشة: ماعلمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحى (مايجرف به الطين) من جوف الليل ، فقالت فاطمة لأنس : ياأنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب . وقال أنس : مارأيت يوماً قط كان أحسن ولالأضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومارأيت يوماً كان أقبح ولاأظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (رواه الدارمى وكما جاء فى جامع الترمذى أن انس قال : لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شىء ، فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم منها كل شىء ، ولما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدى ، وإنا لفى دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.
ليس لي هنا من القول الكثير للوقوف علي وجه المعجزة المحمدية بقدر الحيرة من اختياره. نعم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيب الله لكنني لا أتكلم عن الموت والخوف منه وكل ما يفزعنا نحن، أعلم أن من أحب الله أحب الله لقائه ، ولكن ما قصدته المعروض عليه من إختيار، وأعتقد أن أغلبنا لو كان مكانه لما رضي أن يموت مختاراً
وتقول د. بنت الشاطئ :{ وتكون آيته بعد أن أتم رسالته أن يجوز عليه المرض والموت كما جازت عليه أعراض البشرية وهمومها وعواطفها من حزن وثكل وضيق وكرب مثلما تجوز علي سائر البشر ، لكيلا يفتن المسلون فينسون أنه بشر رسول }.(1/55)
وهذا ما أكدناه طوال الصفحات الماضيات أننا كنا نتعامل مع بشريته المعجزة ، التي ما زالت تتحدي بشريتنا وإلي أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فصلاة الله وسلامه على سيد الأولين والآخرين . واللهم ياجامع الناس ليوم لاريب فيه ، إجمعنا بنبينا سيدنا محمد كما جمعت بين الروح والجسد ، واسقنا اللهم بيده الكريمة شربة ماء لانظمأ بعدها أبداً، من حوضه المورود بالفردوس الأعلى من الجنة ، عند مقامه المحمود ، نحن ووالدينا وذرياتنا والمسلمين أجمعين ...آمين ...آمين ...
***** سيدي يا رسول الله ? يا حبيب الله ? يا عظيم الخلق والخلقة :
أحببتك دون أن أراك فكنت من إخوانك الذين اشتقت إليهم من الذين أمنوا بك دون أن يروك فيا حبيبي:- رأيت في القرآن معجزة ، وهذه ولا شك لا تحتاج لبرهان ليؤيدها ، ولكنني أري فيك أنك معجزة أيضا ً ، حباً فيك وكرامة ، لا غلو ولا إسراف ، ولا أعلي من شأنك فحسبك سيدنا محمد النبي والرسول وما أعظم به من شرف ومقام محمود وما أكرم بها من مكانه ولكنني فيما تقدم ، وما أفردت له من براهين لست في حاجة لجلائها وعرضها ففيها البرهان واليقين .(1/56)
ولو أراد الله سبحانه وتعالي أن ينشر نوره لما أنتظر مولدك ، ولأنزل الرسالة علي سواك من البشر ، فقد كان قبلك من العرب الأحناف، ومن الذين لفظوا دينهم ، ودخلوا في النصرانية ، وكان الكثير منهم مشهود له بالفضل والفضيلة وحسن الخلق ، ومنهم من هيأ للنبوة نفسه عندما علم بها من أصحاب الديانات السابقة إلا أنت يا رسول الله لم يدخل في روعك يومأ أن تكون رسول ولم يحدث أحداً بذلك ، فأخلاق فيك وحميد الخصال من فطرة الله لم تؤمر بها ولم تتأسي بها من أحد ، ولم تزل أخلاقك ومعاملاتك وبسماتك وحنوك وعطفك قبل الرسالة كما هو بعدها ، إنسان متوحد.. لم تكن ذا أخلاق ما ولما بعثك الله برسالته كنت إنساناً بأخلاق أخري تليق بجلال الرسالة والمهمة ، ليس فيك ازدواجية ، لم تكن يوماً ذا رأيين رأي في الخفاء وآخر في العلن ، ولا يجوز عليك خائنة الأعين .
*** ولدت بإعجازك ، أنكرت الرذائل بالفطرة ، وهديت للإيمان، وجيد الأعمال بفطرتك .. ولدت كما أنت ، وعشت كما أنت ، ومت كما أنت ، لم تنساق لهويً ، ولم تفتن برأي ، ولم تقدك نفسك لما تحب ، ونصرك الله علي قرينك فعشت منزها ً ، ومت مختاراً حباً في القرب والأنس بجوار الله عليك صلاة الله وسلامة وبركاته
(- يري الكاتب أن رسالة " الإسلام " التي أرسل الله بها نبيه علي قدر عظمتها ، لم يكن يغيب عن الله عز وجل - حاشا لله - وهو الراسل بالرسالة قدر عظمة الرسول فجاءت الرسالة علي قدره صلى الله عليه وسلم يليق بها كما تليق به .
** وإن كان وسيظل القرآن الكريم معجزة الإسلام الخالدة ومعجزة الرسول العقلية صلى الله عليه وسلم إلا أن رسولنا الكريم كان أيضا ًمعجزة ستتعرف عليها عزيزي القارئ بعد أن فصل الكاتب الرسالة عن الرسول لنتعرف عليه وحده رجلاً .. بشراً.. إنساناً.. ما الذي إضافة للنبوة وما أضافته له النبوة صلى الله عليه وسلم .(1/57)
** يثبت الكاتب بعد كل ما تقدم ومن خلال مواقف اختارها من حياة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إنه كان بحق معجزة أيضاً . بغض النظر عن أن القرآن كان معجزته الأبدية للخلق ، أو أن الله أجري علي يديه معجزات تعلقت به حال حياته لها صفة الكونية .
(- وهذا البحث الذي بين يديك ـ عزيزي القارئ ـ يأتي جديداً في موضوعه ، ليتناول هذه الناحية من حياة رسولنا الكريم وما أكثر وأكرم مناحيها ، دون مبالغةٍ أو تزيد أو تطرف بل مستنداً علي الكتب الصحاح من الحديث والسيرة .
??
??
??
??
11(1/58)