القول المبين
في بيان منزلة رسول رب العالمين
أبو سيف
خليل بن إبراهيم العراقي الأثري
قال حسان بن ثابت رضي الله عنه وهو يذب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه وعندَ اللهِ في ذاك الجزاء
أتهجوه ولستَ له بكفٍ فشركما لخيركما الفداء
هجوت مباركاً براً حنيفاً أمينُ الله شيمته الوفاء
فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء
فإنَّ أبي ووالده وعرضي لعرض محمدٍ منكم وقاء
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إنَّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (1).
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (2).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (3).
أما بعدُ :
فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلام الله ، وخيرَ الهدي هدي محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وشرَ الأمور محدثاتها ، وكل محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالة ، وكلَّ ضلالةٍ في النار .
وبعد :
__________
(1) 1 ) سورة آل عمران : 102.
(2) 2 ) سورة النساء : 1.
(3) 3 ) سورة الأحزاب : 71.(1/1)
يتعرض ديننا الحنيف وخاصة في السنوات الأخيرة إلى هجمة تترية شرسة ، يُقصد من ورائها النيل من شخصياتنا ورموزنا الإسلامية والإساءة إليهم ، كرسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم ، ومن ثَمَّ لتعم وتشمل أئمة الهدى كالبخاري ومسلم وأبن تيمية وأبن القيم وغيرهم من علماء أهل الإسلام ، عبر إتباع أسلوب ماكر وخبيث ، وهو أسلوب (( تحطيم الرؤوس وضرب الرموز )) .
ومن المعلوم أن هذه الرموز التي يسعى هؤلاء إلى الإساءة إليها وإسقاطها هم أساس البنيان ومادته ، وبإزالتهم يزول كل شيء ويندرس ، ولهذا تراهم في عمل دؤوب للنيل منهم والإساءة إليهم ، لأنهم يدركون جيداً أن هذه الرموز إذا سقطت وتحطمت في نفوس وقلوب المسلمين فإنه لا يبقى بعدها للإسلام من شيء يمكن أن يقوم عليه .
ولا يخفى على أحد ممن رزقه الله تبارك وتعالى عقيدة صحيحة وعلماً نافعاً أن مصدر الكيد والإساءة الذي يتعرض لهما ديننا الحنيف إنما يدور على محورين أثنين لا يقل أحدهما خطراً عن الأخر :
المحور الأول : الكيد الخارجي :
ويتمثل هذا الكيد بمؤامرات دول الكفر والإلحاد التي ما فتأت تنصب العداء للرسول محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأمته منذ اليوم الأول الذي أعلن فيه رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بدء العد التنازلي لحقبة سوداء عاشتها البشرية جمعاء والتي كانت تقبع في ذل وخنوع في أوحال جاهلية ضربت باطنابها أرجاء المعمورة .(1/2)
فهؤلاء لم يقروا إبتداءً برسالة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، ولم يعرفوا له منزلة ، ولم يقابلوه بتوقير أو تعظيم ، بل جحدوا رسالته وأظهروا بغضه وأعلنوا محاربته ، حتى تبلور أخيراً حقدهم الأسود الذي جثم على صدورهم قروناً طويلة عن رسوم كاريكاتيرية ساخرة ظهرت في بلادهم كفرنسا والدانمارك ، أرادوا من خلالها الإساءة لجناب رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) في ظل صمت عجيب من أمة يبلغ تعدادها أكثر من مليار نسمة ، ولكنها في الوقت نفسه غثاء أحوى لا يحسب لها حساب في ميزان الأمم ، إلا من بعض الاحتجاجات التي ظهرت هنا وهناك ، ليتبعثر بعضها وسط الضجيج والعويل ، ويُستغل بعضها من هذا الحزب أو تلك الجماعة للوصول إلى هذه الغاية أو تلك المصلحة عبر القيام بأعمال غوغائية لا يقر بها الإسلام ولا يرضاها .
وعلى الرغم مما تركته هذه الرسوم الساخرة في قلوب المؤمنين من حسرة وغصة وألم ، إلا أنهم في الوقت نفسه قد استبشروا خيراً ، فما سخر أحد من رسول الله إلا بتره الله تبارك وتعالى انتقاماً له من شانئه ومبغضه ، قال تعالى { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ َ } [الكوثر : 3] .(1/3)
قال شيخ الإسلام أبن تيمية في (( الجواب الصحيح : 6 / 296 )) : (( ويدخل في هذا الباب ما لم يزل الناس يرونه ويسمعونه من انتقام الله ممن يسبه ويذم دينه بأنواع من العقوبات وفي ذلك من القصص الكثيرة ما يضيق هذا الموضع عن بسطه ، وقد رأينا وسمعنا من ذلك ما يطول وصفه من انتقام الله ممن يؤذيه بأنواع من العقوبات العجيبة التي تبين كلاءة الله لعرضه وقيامه بنصره وتعظيمه لقدره ورفعه لذكره ، وما من طائفة من الناس إلا وعندهم من هذا الباب ما فيه عبرة لأولي الألباب ، ومن المعروف المشهور المجرب عند عساكر المسلمين بالشام إذا حاصروا بعض حصون أهل الكتاب أنه يتعسر عليهم فتح الحصن ويطول الحصار إلى أن يسب العدو الرسول صلى الله عليه وسلم فحينئذ يستبشر المسلمون بفتح الحصن وانتقام الله من العدو فإنه يكون ذلك قريباً ، كما قد جربه المسلمون غير مرة تحقيقاً لقوله تعالى (( إن شانئك هو الأبتر )) ، ولما مزَّق كسرى كتابه مزق الله ملك الأكاسرة كل ممزق ، ولما أكرم هرقل والمقوقس كتابه بقي لهم ملكهم )) .
ومن المعلوم أن كيد هذا العدو الخبيث لهذه الأمة لا يخبو ولا يفتر ، بل هو في عمل دؤوب وسعي حثيث للوصول إلى غاياتهم الخبيثة ، ولهذا فقد أخبر الصادق المصدوق عن نوايا هذا العدو الخبيث ومحاولاته للنيل من هذه الأمة ، وأنه لا يفتأ يتحين الفرص الملائمة للانقضاض عليها وتحطيمها ، وتحطيم رموزها وسلب ثرواتها متى ما وجد لذلك سبيلاً ، ولكن هيهات أن ينالوا بغيتهم كاملة شاملة ، على الرغم مما قد تصاب به الأمة المحمدية عبر حقب الزمان المتتالية من ضعف وهوان ، أو مما يلحقها من ضرر وأذى بسبب تسلط هؤلاء عليها .
فعن ثوبان مولى رسول الله ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) : (( يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها )) .
فقال قائل : ومن قِلّةٍ نحن يومئذٍ ؟(1/4)
قال : (( بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل ، ولينزعنَّ اللّه من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفنَّ اللّه في قلوبكم الوهن )) .
فقال قائل : يا رسول اللّه ، وما الوهن ؟
قال : (( حبُّ الدنيا وكراهية الموت )) [ صحيح سنن أبي داود 4/111 ] .
المحور الثاني : الكيد الداخلي .
وهذا الكيد هو الأشد خطورة والأكثر ضرراً بالأمة الإسلامية ، وخطورته وضرره يكمنان :
أولاً : في جهة مصدره الذي جاء منه ، وهم أبناء المسلمين أنفسهم الذين أساؤا على نحو كبير لنبيهم الكريم ودينهم القويم بقدر ما صدر منهم من أفعال وأقوال أفرزت إفرازات ونتائج وخيمة أصابت مقتلاً وفجعت القلوب حزناً وكمداً .
ثانياً : إلى الجهة التي ينتسب إليها هؤلاء ، حيث ينتسبون ظلماً وزوراً إلى هذا النبي الكريم ، مما جعل الذين يتربصون بديننا الحنيف يرجعون نتائج أعمالهم التي لم توزن بميزان الشرع على الجهة التي ينتسبون إليها ، وهذا هو البلاء العظيم والجرح الذي لا يندمل ، ورحم الله القائل :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على الفتى من وقع الحسام المهند
فترى هؤلاء وقد تفرقوا إلى أشتات وفئات ، ففئة غلت بالأشخاص والأعمال والاعتقادات ، وفئة اختارت درب السياسة ، وسارت في دهاليزها المظلمة ، وسايرت أهلها ، وروجت لأفكارها بعد أن ألبستها ثوب الإسلام لتكون مقبولة ويمكنها المرور على السذج من الناس ، وفئة طعنت بأصحاب رسول الله ورمتهم بالكفر والنفاق والمروق عن الإسلام ، وهم يجهلون أنهم بفعلهم هذا يطعنون بالنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) الذي رباهم والقرآن الذي زكاهم .(1/5)
وفئة أخرى جَفَت ونأت بعيداً عن منهج هذا النبي الكريم ( - صلى الله عليه وسلم - ) وعما جاء به من رب العالمين ، لاسيما في هذا الزمان الذي طغت فيه الماديات ، وعُبدت فيه الشهوات والنزوات ، وتشاغل الناس بالدنيا عما هو قادم وآت ، حتى إنحرفوا بخطى متسارعة عن منهج رب الأرض والسموات ، ولتظهر فيه أجيال من أبناء المسلمين لا يعرفون شيئاً عن هذا النبي الكريم ، أو لا يجدون في قلوبهم شيئاً اتجاهه ، بل الأدهى والأمَر من ذلك أنهم صاروا لا يعبأون به ، ولا يرفعون به وبهديه رأساً ، وراحوا يتعاملون معه بكل جفاء وعدم مبالاة وكأنه ليس بنبي لهم ، ولا هم بالذين سيسعون بكل ذل وخضوع إلى طرق بابه لينالوا شفاعته يوم تتقطع بهم السبل ويتخلى عنهم ما كانوا يعبدون في الدنيا ، حتى خرج من بين هؤلاء الجفاة الذين ولدوا في أرض المسلمين ومن أبوين مسلِمَين من أعتنق مبادئ كفرية هدامة كالعلمانية والديمقراطية وغيرها ، وراح بكل جرأة ووقاحة يطالب بعزل الإسلام عن الحياة وجعله في دور العبادة حصراً .
فهذا الطريق الذي اختاره هؤلاء لأنفسهم بعيداً عن طريق ومنهج رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) يزعمون : أنه هو الاختيار الأمثل والسبيل الأفضل والطريق الأقوم في ضمان حياة فضلى ومستقبل أفضل لأمة ذبحت بسيف الإسلام ، ونحرت وحدتها بسكين التفرق والمصالح الفئوية والطائفية والحزبية الضيقة ، ولم تزدها إلا تفرقاً وضعفاً .
ويقولون : لقد جَرَّبنا طوائف وأحزاب الإسلام فما وجدنا إلا شراً وفُرقة ، فلماذا لا تتركونا نجرِّب كما جربتم ؟ ونخوض الميدان الذي خضتم ؟ فما عندنا علاج أكيد للنهوض بأمة راحت تتأرجح تحت وطأة ضربات أعدائها ، وما عندكم لا يزيدها إلا وهناً وضعفاً .(1/6)
وتأكيداً لما قالوا فقد أغرقوا الأمة بأفكارهم وعقائدهم الهدامة التي وفدوا بها من محاضن الشرق والغرب واستعصموا بها وكأنها طوق نجاة حَضَوا به بعد طول معاناة ومكابدة ، ولسان حالهم أو مقالهم يقول : سأوي إلى جبل يعصمني من الماء .
فنقول لهؤلاء الأغمار :
1 ) إن هذه الفرق والطوائف التي تتحدثون عنها لا تمثل الإسلام الصحيح الذي جاء به رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) من ربه ، وإنما يمثلون أنفسهم وأحزابهم وطوائفهم التي ألبسوها ثوب الإسلام الذي يبرأ إلى الله من أفعالهم وأقوالهم التي شوهته وأذهبت صفائه وبهائه ، فليس من المعقول أن نصدق كل صاحب دعوى يدعيها ، لاسيما ونحن نعيش في زمن كثر فيه الأدعياء والأفاكون ، فالدعاوى إن لم يأت أصحابها بما يأكدها ويثبت حقيقتها ، ويحمل الناس على تصديقها تصديقاً جازماً لا يشوبه شك وريب فأصحابها أدعياء ، فهذا كتاب الله تعالى وسنة نبيه ( - صلى الله عليه وسلم - ) بين أيدينا ينقضان ما يدَّعون ، ويتبران ما يصنعون تتبيراً ، فكيف يأتي الخير والصلاح والإصلاح من أحزاب وفرق وكتاب الله تبارك وتعالى ينطق بالنهي عنها والابتعاد عن مخالطة أهلها .
فالإسلام منهج رباني رفع الأمة لمَّا اعتنقته وحكمت به كدستور رباني سماوي إلى مصاف الأمم العظمى والدول الكبرى ، ولكنها ـ وأسفي ـ لما تخلت عنه واختارت سواه ـ كما تفعلون أنتم اليوم ـ وهنت وضعفت حتى غدت في مؤخرة الركب لا يحسب لها حساب في ميزان الأمم ، فأنتم تكملون مشوار الهدم والتتبير الذي ابتدءوه هم ، فحري بكم وأنتم العقلاء ـ كما تزعمون ـ ألا تحتجوا بأناس لا تختلفون عنهم إلا بالأسماء والأفكار .(1/7)
2 ) لو نظرنا إلى جبال هؤلاء التي اختاروها لأنفسهم بعيداً عن منهج النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وسبيله القويم ، ويدَّعون أنها عاصمة لهم من الماء لرأينا أنها ليست كجبل أبن نوح من صخور وحصى ، وإنما هي جبال من أفكار هدامة ومبادئ ثبت للناس العقلاء زيفها وفشلها ، حيث وفدت إلينا في جعبة هؤلاء الأغمار من مزابل الشرق والغرب بعيدة كل البعد عن الإسلام و لا تمت إليه بصلة : كالديمقراطية والعلمانية والقومية إلى آخر هذه الكلمات الفضفاضة التي ظاهرها الرحمة وباطنها من قبله العذاب ، والتي راح دعاتها يصرخون بأصوات عالية أنْ هلموا إلينا أيها الناس فعندنا الملجأ وبنا المنجأ ، فنحن الذين بأيدينا أن نجمع الأمة التي مزقها الإسلام إلى طوائف وفرق وأحزاب متناحرة ومتصارعة ، حتى راحوا يتغنون بيوم يتحقق فيه هذا الحلم ، حتى لو كان ذلك على حساب الإسلام وعلى أنقاض الإسلام ، حتى قال شاعرهم :
هبوني عيداً يجعل العُرب أمةً وسيروا بجثماني على دين بُرْهَمِ
سلام على كفرٍ يوحِّد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ
ولكن كما قال تعالى { قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ } [هود : 43].
وفات جميع هؤلاء الأغمار : أن البشرية لم تتنفس الصعداء ولم تنعم بعبير الحرية الذي حرمت منه سنين طويلة إلا حين بُعث هذا النبي الكريم بهذا الدين القويم الذي قال فيه أبو طالب :
لقد علمتُ أنَّ دينَ محمدٍ من خيِر أديان البرية ديناً
ومن المعلوم أن هذا الحال البئيس الذي تمر به الأمة الإسلامية اليوم إنما هو نتيجة حتمية لأسباب كثيرة أدت إلى ظهوره وبروزه أهمها :
1 ـ ضعف التدين الناتج عن ابتعاد الكثيرين عن دينهم الحق .
2 ـ عدم الصدق في الإنتماء لهذا النبي الكريم ( - صلى الله عليه وسلم - ) ولهذا الدين القويم .(1/8)
وبعد هذا الاستعراض المجمَل لمواقف هؤلاء من نبي الرحمة ( - صلى الله عليه وسلم - ) ـ والتي سيأتي لها مزيد تفصيل بين ثنايا هذا البحث ـ فإنه يمكن أن نقول : أن حالهم لا يخلو أن يكون أحد أمرين وكلاً منهما ضلالة وسفه : إما جهلاً منهم بمنزلة النبي وفضله ودوره في صنع الحياة لأمة كانت تموج بالكفر والضلالة موجاً ، وإما تجاهلاً منهم له كنبي وإنسان .
وإلا فهل يمكن أن تكون الجمادات الصماء والوحوش العجماء أكثر حباً وتبجيلاً وتعظيماً للنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأصحابه الكرام من هؤلاء الذين يحسبون عليه وعلى أمته :
1 ) فهذا جذع نخلٍ كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يرتقيه ويصعد عليه يوم الجمعة ، حَنَّ وأنَّ شوقاً وحزناً لما فارقه النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بعد أن صنعوا له منبراً أخراً غيره .
روى الإمام البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : كان جذع يقوم إليه النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه .
قال الإمام أبن حجر في (( فتح الباري شرح صحيح البخاري : 6/ 715 )) : ((كان المسجد مسقوفاً على جذوع من نخل : أي إن الجذوع كانت له كالأعمدة .
قوله : فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم إلى جذع منها : أي حين يخطب وبه صرح الإسماعيلي بلفظ :كان إذا خطب يقوم إلى جذع .
قوله : (( كصوت العشار )) بكسر المهملة بعدها معجمة خفيفة جمع عشرا تقدم شرحه في الجمعة والعشراء الناقة التي انتهت في حملها إلى عشرة أشهر ، ووقع في رواية عبد الواحد بن أيمن : فصاحت النخلة صياح الصبي ، وفي حديث أبي الزبير عن جابر عند النسائي في الكبير اضطربت : تلك السارية كحنين الناقة الخلوج انتهى .(1/9)
والخلوج : بفتح الخاء المعجمة وضم اللام الخفيفة وآخره جيم الناقة التي انتزع منها ولدها ، وفي حديث أنس عند أبن خزيمة : فحنَّت الخشبة حنين الولد ، وفي روايته الأخرى عند الدارمي : خار ذلك الجذع كخوار الثور ، وفي حديث أبي بن كعب عند أحمد والدارمي وأبن ماجة : فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدع وانشق ، وفي حديثه : فأخذ أبي بن كعب ذلك الجذع لما هُدِّم المسجد فلم يزل عنده حتى بلى وعاد رفاتاً ، وهذا لا ينافي ما تقدم من أنه دفن ، لاحتمال أن يكون ظهر بعد الهدم عند التنظيف فأخذه أبي بن كعب ، وفي حديث بريدة رضي الله عنه عند الدارمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت يعني قبل أن تصير جذعاً وإن شئت أن أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها فيحسن نبتك وتثمر فيأكل منك أولياء الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إختار أن أغرسه في الجنة ، قال البيهقي قصة حنين الجذع من الأمور الظاهرة التي حملها الخلف عن السلف ورواية الأخبار الخاصة فيها كالتكلف ، وفي الحديث دلالة على أن الجمادات قد يخلق الله لها إدراكاً كالحيوان ... وفيه تأييد لقول من يحمل (( وإن من شيء إلا يسبح بحمده )) على ظاهره .
وقد نقل بن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن أبيه عن عمرو بن سواد عن الشافعي قال : (( ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً ، فقلت : أعطى عيسى إحياء الموتى ، قال : أعطى محمداً حنين الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك )) أ . هـ
2 ) وهذا الأسد وحش من وحوش الغابة طأطأ برأسه وهز بذنبه وهمهم بصوته تأكيداً منه على تبجيله وتعظيمه للنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) حتى أكرم صاحبه ومولاه سفينة رضي الله عنه .(1/10)
قال الإمام أبن كثير في (( البداية والنهاية 5 / 471 )) : (( عن سفينة(1)قال ركبت البحر في سفينة فكسرت بنا ، فركبت لوحاً منها فطرحني في جزيرة فيها أسد فلم يرعني إلا به فقلت : يا أبا الحارث(2)أنا مولى رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، فجعل يغمزني بمنكبه حتى أقامني على الطريق ثم همهم فظننت أنه السلام )) ....
ورواه أيضا : حدثنا هارون بن عبد الله ثنا علي بن عاصم حدثني أبو ريحانة عن سفينة مولى رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال : لقيني الأسد فقلت أنا سفينة مولى رسول الله قال فضرب بذنبه الأرض )) .
فإذا كانت الجمادات والوحوش في الغابات على هذا النحو من التعظيم والتبجيل للنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) فما بال هؤلاء لا يكادون يفقهون حديثاً .
ولأجل تبيان حقيقة هذا الأمر الخطير ورد كيد أصحاب النوايا الخبيثة ، جاءت هذه الرسالة الوجيزة والتي أسميتها : (( القول المبين في بيان منزلة رسول رب العالمين )) والتي أردت من خلالها نيل القربى من الله تبارك وتعالى ، ومن ثًم تبيان منزلة ومكانة رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) عند ربه كما ينبغي وعلى الوجه الذي ينبغي ، وأنها منزلة رفيعة لا يدانيها منزلة أحد من الخلق ، ومن كان هذا شأنه فحري بمن يريد رضى الله أن يقف عندها ولا يتجاوزها ، وجعلتها مرتبة على فصلين :
__________
(1) 4 ) سفينة رضي الله عنه صحابي جليل ومولى للنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) أعتقته أم المؤمنين أم سلمة واشترطت عليه أن يخدم النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) فوافق على ذلك .
فقال : (( كنت مملوكاً لأم سلمة ، فقالت : أعتقك . وأشترط عليك أن تخدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما عشت ، فقلت : إن لم تشترطي عليَّ ما فارقت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما عشت ، فأعتقتني ، واشترطت علي )) .[ قال الشيخ الألباني في إرواء الغليل 6/134 : وهذا إسناد حسن ] .
(2) 5 ) وهي كنية الأسد .(1/11)
الفصل الأول : بيان منزلة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) عند ربه تبارك وتعالى .
الفصل الثاني : بيان منزلة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) عند أصحابه الكرام رضوان الله عليهم .
وهذا جهد متواضع _ رغم جهلي وقلة بضاعتي _ ولكنه شرف عظيم وكبير أن أكون ممن يذبون ويدافعون عن هذا النبي الكريم وأصحابه الكرام ، الذي أشرق الكون ببعثته وتبسم فم الزمان لمقدمه ، مع بيان فضله على الخلق كافة ، الذين لو أرادوا أن يردّوه له لما استطاعوا لذلك سبيلاً .
وكلي رجاء أن أكون بفضل الله تبارك وتعالى وكرمه ممن ينال شفاعته يوم يحشر الناس إلى ربهم حفاةً عراةً غرلاً ، وإلا فإن أهل العلم الكرام من الأولين والمتأخرين قد سبقوني بعلو هممهم ، وصدق مقصدهم لمثل هذه المناقب الحميدة ، وكفوني _ لله درهم _ مثل هذه المؤونة الشاقة على أمثالي ، ولكن كما تعلمون أن التشبه بالكرام سجية طيبة ، وخصلة حميدة ، ولعل هذا يكون لي من باب الإعذار والصفح إذا ما شطح القلم ، أو زلَّ القدم ، وإلا فأنا كما قالوا :
أسيرُ خلف رِكَاب القوم ذا عَرَجٍ مؤملاً جَبْرَ ما لاقُيتُ من عوَجِ
فإن لحقْتُ بهم من بعد ما سبقوا فكم لربِّ السماء في الناس من فَرَجِ
وإنْ ظَلَلْتُ بقفر الأرض منقطعاً فما على أعوج في ذاك من حَرَجِ
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يلهمنا الرشد في القول و العمل ، وأن يجعل كل أعمالنا لوجهه خالصة ، إنه نعم المولى و نعم النصير ، وصلِّ اللهم على رسولك وعبدك ، وعلى آله وصحبه و سلم .
وكتبه ... ...
أبو سيف العبيدي الأثري
17 / ربيع الأول / 1427 هـ
الفصل الأول
بيان منزلة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) عند ربه تبارك وتعالى(1/12)
من المعلوم لدى العقلاء ممن رزقهم الله تبارك وتعالى عقيدة صحيحة وعلماً نافعاً ما للنبي محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) عند ربه تبارك وتعالى من منزلة عالية ومكانة رفيعة ، لا يصل إليها ولا يدنو منها أي مخلوق ممن خلقهم الله تبارك وتعالى ، سواء أكانوا من أهل السموات أم من أهل الأرض ، وأن الله تبارك وتعالى لم يخلق مخلوقاً أكرم عليه من محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وأن الناظر المتأمل في كتاب الله العزيز يرى بجلاء ووضوح أن الله تبارك وتعالى وفي مواضع كثيرة يسوق الآيات البينات ويذكر الحجج الدامغات التي تدلل وتؤكد على علو ورفعة مكانة ومنزلة هذا النبي الكريم ، وإليك ـ أخي الحبيب ـ أهم وأبرز الأدلة الدالة على ذلك والتي يمكن أن نقسمها إلى قسمين :
القسم الأول : أدلة الخصائص والمميزات الدنيوية .
القسم الثاني : أدلة الخصائص والمميزات الأخروية .
وإليك البيان والتفصل :
القسم الأول : أدلة الخصائص والمميزات الدنيوية .
الدليل الأول :
لقد منَّ الله تبارك وتعالى على نبينا محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وحباه وأكرمه بأوصاف وصفات خَلْقية وخُلقية جليلة تميَّز بها عن الخلق أجمعين ، ولو أردنا أن نصفه بما هو أهله فإننا لا نجد كلمات نصفه بها أجمل ولا أحلى ولا أجمع مما وصفته به أم معبد رضي الله عنها .
لقد خرج رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر أبن فهيرة مولى أبي بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي ، فمرُّوا على خيمتي أم مَعْبَد(1)
__________
(1) 6 ) وهي عاتكة بنت كعب الخزاعية وقصتها مشهورة تناقلها الرواة أصحاب السير ، قال عنها أبن كثير رحمه الله في (( البداية والنهاية : 3 / 253 )) : (( وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضاً .
ثم قال : قال يعني عبد الملك بن وهب فبلغني أن أبا معبد أسلم وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا ... وروى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الملك بن وهب المذحجي فذكر مثله سواء وزاد في آخره قال عبد الملك : بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت ولحقت برسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) )) .
( 7 ) وادي قُديد : موضع قرب مكة ، يبعد عن الطريق المعبد حوالي ثمانية كيلو مترات .
( 8 ) برزة : كهلة كبيرة السن ، لا تحتجب احتجاب الشباب .
( 9 ) جلدة : قوية صلبة ، وقيل : عاقلة .
( 10 ) تحتبي : أي تجلس وتضم يديها إحداهما إلى الأخرى ، وعلى ركبتيها وتلك جلسة الأعراب .
( 11 ) مرملين : أي نفد وادهم .
( 12) مسنتين : أي داخلين في سَنَة وهي الجدب والمجاعة والقحط .
( 13 ) كسر الخيمة : بفتح الكاف وكسرها ، وسكون المهملة : أي جانبها .(1/13)
الخزاعية في قُدَيْد(1)، حيث مساكن خزاعة ، وكانت أم معبد امرأة بَرْزَة(2)، جَلْدةَ(3)تحتبي(4)، وتجلس بفناء القبة ثم تسقي وتطعم ، فسألوها هل لحماً أو تمراً ليشتروه منها
فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك ، وكان القوم مُرْملين(5)مُسْنِتين(6)، فنظر رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) إلى شاة في كَسر الخيمة(7)، فقال : (( ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ )).
فقالت : شاة خلفها الجهد عن الغنم .
قال : فهل بها من لبن ؟ .
قالت : هي أجهد من ذلك
قال : تأذنين لي أن أحلبها ؟ .
قالت : بأبي أنت وأمي ، نعم إن رأيت بها حلباً فاحلبها .
فدعا بها رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) فمسح بيده ضرعها ، وسمى الله عز وجل ودعا لها في شاتها ، فتفاجَّت(8)عليه ، ودرَّت(9)واجترَّت(10)ودعا بإناء لها يُربِض(11)الرهط ، فحلب فيها ثَجَّا(12)حتى علاه البهاء(13)ثم سقاها حتى رَوِيت ، وسقى أصحابه حتى رَوَوا ، وشرب أخرهم ( - صلى الله عليه وسلم - ) ثم أراضوا(14)، ثم حلب فيه ثانياً بعد بدء حتى ملأ الإناء ، ثم غادروا عندها ، ثم بايعها ثم ارتحلوا عنها .
__________
(8) 14 ) تفاجَّت : فتحت ما بين رجليها للحلب .
(9) 15 ) دَرَّت : أرسلت اللبن .
(10) 16 ) اجترت : من الجرة وهي ما تخرجها البهيمة من كرشها تمضغها .
(11) 17 ) يربض : يرويهم حتى يثقلوا فيربضوا : أي يقعوا على الأرض للنوم والراحة .
(12) 18 ) ثجَّا : الثج : السيلان ومعنى ثجَّا : ليناً كثيراً سائلاً .
(13) 19 ) علاه البهاء : أي علا الإناء بهاء اللبن .
(14) 20 ) أراضوا : أي رَووا ، فنقعوا بالري ، يريد شربوا مرة بعد مرة حتى رَووا .(1/14)
فقلما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً(1)يتساوَكَنْ هُزلاً(2)ضحى ، مخَّهن قليل ، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب وقال : من أين لك هذا اللبن يا أم معبد ؟
والشاة عازب حيال(3)، ولا حَلُوبة في البيت ؟
فقالت : لا والله ، إلا إنه مرَّ بنا رجلٌ مباركٌ كان من حاله كذا وكذا .
فقال : صفيه لي يا أم معبد .
قالت : رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة(4)، أبَلج الوجه(5)،حسن الخلق ، لم تَعْبه نُحْلة(6)،
__________
(1) 21 ) عجافاً : ضد السمن ، وهو جمع عجفاء وهي المهزولة .
(2) 22 ) يتساوكن هُزلاً : يتمايلن من الضعف .
(3) 23 ) عازب : بعيدة المرعى لا تأوى إلى بيت إلا في الليل ، حيال : لم تحمل .
(4) 24 ) ظاهر الوضاءة : ظاهر الجمال والحسن .
(5) 25 ) أبلج الوجه : مشرق الوجه مضيئه .
(6) 26 ) نُحلة : من النحول والدقة والضمور ، أي أنه ليس نحيلاً .(1/15)
ولم تُزْر به صَعلة(1)، وسيم(2)، في عينيه دَعَج(3)، وفي أشفاره وَطفٌ(4)، وفي صوته صَهَلٌ(5)، وفي عنقه سَطَع(6)، وفي لحيته كثاثة ، أزجٌ(7)، أقرنٌ(8)، إنْ صمت فعليه الوقار ، وإنْ تكلم سما(9)وعلاه البهاء ، أجمل الناس وأبهاه من بعيد ، وأحلاه وأحسنه من قريب ، حلو المنطق فصل لا هذر ولا نزر(10)، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن ، رَبْع(11)لا يأس من طول(12)، ولا تقتحمه العين من قصر(13)، غصن بين غصنين ، فهو أنظر الثلاثة منظراً ، وأحسنهم قدراً ، له رُفقاء يحفون به ، إن قال استمعوا لقوله ، وإن أمر تبادروا إلى أمره ، مَحفُود(14)، محشود(15)، لا عابسٌ ولا مُفَنَّد(16).
__________
(1) 27 ) صَعلة : صغر الرأس وهي تعني الدقة والنحول في البدن .
(2) 28 ) وسيم : الوسيم المشهور بالحسن كأنه صار الحُسن له سمة .
(3) 29 ) دعج : شدة سواد العين في شدة بياضها .
(4) 30 ) في أشفاره وطف : في الشعر النابت على الجفن طول .
(5) 31 ) صَهل : كالبُحة وهو ألا يكون حاد الصوت .
(6) 32 ) سطع : طول العنق .
(7) 33 ) أزج : دقيق شعر الحاجبين .
(8) 34 ) أقرن : متصل ما بين الحاجبين من الشعر ، أو مقرون الحاجبين .
(9) 35 ) سما : علا برأسه ، أو بيده وارتفع .
(10) 36 ) لا هذر ولا نزر : الهذر من الكلام ما لا فائدة فيه ، والنزر : القليل .
(11) 37 ) رَبع : ليس بالقصير ولا بالطويل .
(12) 38 ) لا يأس من طول : وقيل (( لا بائن من طول )) أي : لا يجاوز الناس طولاً .
(13) 39 ) لا تقحمه العين من قصر : لا تزدريه ، ولا تحتقره .
(14) 40 ) محفود : مخدوم .
(15) 41 ) محشود : يجتمع الناس حواليه .
(16) 42 ) لا عابس ولا مفند : ليس عابس الوجه ، والمفند : ليس منسوباً إلى الجهل وقلة العقل .(1/16)
فقال أبو معبد : هو والله صاحب قريش الذي ذُكر لنا من أمره ما ذكر في مكة ، ولقد هممت أن أصحبه ، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً ))(1).
وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون من يقول ، وهو يقول :
جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر وارتحلا به * فافلح من أمسى رفيق محمد
فيال قصي ما روى الله عنكم * به من فعال لا تجارى وسؤدد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها * فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت * له بصريح ضرة الشاة مزبد
فغادره رهناً لديها لحالب * يدر لها في مصدر ثم مورد(2).
وأجمل من هذا كله ما قاله الصحابي الجليل حسان بن ثابت رضي الله عنه في وصف رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) :
وأحسن منك لم تَرَ قَطُّ عيني وأجمل منك لم تلدْ النساءُ
خُلِقتَ مُبَرءًا مِن كل عيبٍ كأنك قد خُلِقتَ كما تشاءُ
الدليل الثاني :
لو نظرنا في كتاب الله العزيز لرأينا أن الله تبارك وتعالى يخبر أنه ما من قوم إلا وأرسل إليهم رسولاً كما قال سبحانه { إِنَّاْ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ } [فاطر : 24] ، وقال { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [النحل : 36] .
ولكنه سبحانه لم يُقسِم على رسالةِ أحدٍ منهم على كثرتهم إلا على رسالةِ رسولِ الله محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وفي ذلك دلائل واضحة على تعظيمهِ وتمجيدهِ ، فقال تعالى { يس *وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } [يس : 1ـ 5] .
__________
(1) 43 ) أنظر : السيرة النبوية 271 للدكتور علي بن محمد الصلابي ، وهوامش معاني الكلمات منه .
(2) 44 ) البداية والنهاية : 3/ 254 للإمام أبن كثير رحمه الله .(1/17)
قال الإمامُ القرطبي : (( قَسَمٌ أقسمَ اللهُ به قبل أنْ يخلق السماء والأرض بألفي عام قال يا محمد : (( إنك لمن المرسلين )) .
ثم قال : (( والقرآن الحكيم )) فإن قدر أنه من أسمائه صلى الله عليه وسلم ، وصح فيه أنه قسم كان فيه من التعظيم ما تقدم ، مؤكد فيه القسم عطف القسم الآخر عليه ، وإن كان بمعنى النداء فقد جاء قسم آخر بعده لتحقيق رسالته والشهادة بهدايته ، أقسم الله تعالى باسمه وكتابه أنه لمن المرسلين بوحيه إلى عباده ، وعلى صراط مستقيم من إيمانه ؛ أي طريق لا اعوجاج فيه ولا عدول عن الحق .
قال النقاش : لم يقسِمْ الله تعالى لأحدٍ من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلا له ، وفيه من تعظيمه وتمجيده على تأويل من قال إنه يا سيد ما فيه ، وقد قال عليه السلام : (( أنا سيد ولد آدم )) انتهى كلامه .
وحكى القشيري : قال أبن عباس : قالت كفار قريش لست مرسلاً وما أرسلك الله إلينا ؛ فأقسم الله بالقرآن المحكم أن محمداً من المرسلين .
(( الحكيم )) المحكم حتى لا يتعرض لبطلان وتناقض ؛ كما قال : (( أحكمت آياته)) [هود: 1].
وكذلك أحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل ، وقد يكون (( الحكيم )) في حق الله بمعنى المحكم بكسر الكاف كالأليم بمعنى المؤلم .
(( على صراط مستقيم )) أي دين مستقيم وهو الإسلام . وقال الزجاج : على طريق الأنبياء الذين تقدموك ؛ وقال : (( إنك لمن المرسلين )) خبر إنَّ ، و (( على صراط مستقيم )) خبر ثان ، أي إنك لمن المرسلين ، وإنك على صراط مستقيم .
وقيل : المعنى لمن المرسلين على استقامة ؛ فيكون قوله : (( على صراط مستقيم )) من صلة المرسلين ؛ أي إنك لمن المرسلين الذين أرسلوا على طريقة مستقيمة كقوله تعالى : (( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم )) صراط الله : أي الصراط الذي أمر الله به ))(1).
__________
(1) 45 ) تفسير القرطبي : 15 / 3 .(1/18)
وقال الإمام الشنقيطي (( وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ )) قد بيَّنا أن موجب التوكيد لكونه من المرسلين ، هو إنكار الكفار لذلك في قوله تعالى : (( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً )) . [ الرعد-43 ](1).
ولو نظرنا في الآية الكريمة وتأملناها ملياً ،فإنه يمكن لنا أن نستخلص منها عدة فوائد :
الفائدة الأولى : جاءت هذه الآية الكريمة في معرض الرد على مشركي قريش الذين جحدوا وأنكروا رسالة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وقالوا إنك لست بنبي ولا رسول كما قال تعالى عنهم { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً ، قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } [الرعد : 43] .
قال أبن كثير : (( يقول تعالى : (( يكذبك هؤلاء الكفار ويقولون : {لست مرسلاً} أي ما أرسلك الله {قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم} أي حسبي الله هو الشاهد عليَّ وعليكم ، شاهد عليَّ فيما بلغت عنه من الرسالة , وشاهد عليكم أيها المكذبون فيما تفترونه من البهتان ))(2).
وقال القرطبي : (( قوله تعالى : (( ويقول الذين كفروا لست مرسلاً )) قال قتادة : هم مشركو العرب ؛ أي لست بنبي ولا رسول ، وإنما أنت متقول ؛ أي : لما لم يأتهم بما اقترحوا قالوا ذلك .
(( قل كفى بالله )) أي قل لهم يا محمد : (( كفى بالله شهيداً بيني وبينكم )) بصدقي وكذبكم ))(3).
وكان هؤلاء يتمنون لو أن الرسالة كانت في رجل من القريتين عظيم كما قال تعالى حكاية عنهم { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف : 31] .
__________
(1) 46 ) أضواء البيان : 6 / 429 .
(2) 47 ) تفسير أبن كثير : 2 / 668 .
(3) 48 ) تفسير القرطبي : 9 / 150 .(1/19)
قال القرطبي : (( وقالوا (( لولا نزل )) أي هلا (( نزل )) هذا القرآن على رجل وقرئ (( على رجل )) بسكون الجيم ، (( من القريتين عظيم )) أي من إحدى القريتين ؛ كقوله تعالى : (( يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان )) [الرحمن: 22] أي من أحدهما .
أو على أحد رجلين من القريتين ، القريتان : مكة والطائف ، والرجلان : الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم عم أبي جهل ، والذي من الطائف أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي ؛ قاله قتادة . وقيل : عمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف ، وعتبة بن ربيعة من مكة ؛ وهو قول مجاهد . وعن أبن عباس : أن عظيم الطائف حبيب بن عمرو الثقفي ))(1)أ . هـ
ومن المعلوم أن الذين أنكروا رسالة رسول الله محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وجحدوا بها إبتداءً هم مشركوا العرب ، ثم لحقهم بعد ذلك أهل الكتاب وباقي الملل والنحل ، ولكن في الجملة فإنهم يقرون بها بأنفسهم ، ولكن جحدوا بها ظاهراً ظلماً وعُدواً ، والأدلة على ذلك كثيرة جداً ، وإليك البيان :
أولاً : أما مشركوا العرب فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : (( إن أول يوم عرفت رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) أني أمشي أنا وأبو جهل في بعض أزقة مكة إذ لقينا رسول الله فقال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) لأبي جهل : يا أبا الحكم هلم إلى الله وإلى رسوله أدعوك إلى الله )) .
فقال أبو جهل : يا محمد هل أنت منتهٍ عن سب ألهتنا ؟ هل تريدينا إلا أن نشهد إنك قد بلغت ؟ فنحن نشهد أن قد بلغت ، فو الله لو أني أعلم أن ما تقول حق لإتبعتك !!
__________
(1) 49 ) المصدر السابق : 16 / 36 .(1/20)
فأنصرف رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأقبل عليَّ فقال : والله لأعلم أن ما يقول حق ، ولكن يمنعني شيء إن بني قصي قالوا : فينا الحجابة : فقلنا نعم ، ثم قالوا فينا السقاية : فقلنا : نعم ، ثم قالوا : فينا الندوة فقلنا : نعم ، ثم قالوا : فينا اللواء فقلنا : نعم ، ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا منا نبي والله لا أفعل ))(1).
ثانياً : وأما اليهود فقد كانوا يعرفون صدق النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) كما يعرف أحدهم أبنه ، وأنه نبي أخر الزمان الذي بَشَّرت به كتبهم ، ولكنه الحمق الحقد والحسد جعلهم يتبنون موقف الرفض والعناد من تقّبُل دعوته .
قال تعالى حكاية عنهم { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة : 146] .
قال صفي الرحمن المباركفوري : (( وهكذا تحرك الجيش الإسلامي نحو بني قريظة إرسالاً حتى تلاحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهم ثلاثة آلاف ، والخيل ثلاثون فرسا ً، فنازلوا حصون بني قريظة ، وفرضوا عليهم الحصار .
__________
(1) 50 ) إسناده حسن أنظر (( صحيح السيرة : 162 للمحدث العلامة الألباني )) .(1/21)
ولما اشتد عليهم الحصار عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال : إما أن يسلموا ويدخلوا مع محمد صلى الله عليه وسلم في دينه ، فيأمنوا على دمائهم وأموالهم وأبنائهم ونسائهم ـ وقد قال لهم : والله ، لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل ، وأنه الذي تجدونه في كتابكم ـ وإما أن يقتلوا ذراريهم ونساءهم بأيديهم ، ويخرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالسيوف مُصْلِِتِين ، يناجزونه حتى يظفروا بهم ، أو يُقتلوا عن أخرهم ، وإما أن يهجموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ويكبسوهم يوم السبت ؛ لأنهم قد أمنوا أن يقاتلوهم فيه ، فأبوا أن يجيبوه إلى واحدة من هذه الخصال الثلاث ، وحينئذ قال سيدهم كعب بن أسد ـ في انزعاج وغضب : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازماً ))(1).
وقال علي محمد الصلابي : (( وجيء برئيس بني قريظة كعب بن أسد ، وقبل أن يضرب رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) عنقه جرى بينه وبين كعب الحوار التالي :
قال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) : كعب بن أسد ؟ .
قال كعب بن أسد : نعم يا أبا القاسم .
قال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) : فما انتفعتم بنصح أبن خراش لكم ، وكان مُصَدِّقاً بي ، أما أمركم بإتباعي ، وإن رأيتموني تقرئوني منه السلام ؟ .
قال كعب : بلى والتوراة يا أبا القاسم ، ولولا أن تعيرني يهود بالجزع من السيف لإتبعتك ، ولكني على دين يهود .
فأمر رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) بضرب عنقه فضُربت(2).
__________
(1) 51 ) الرحيق المختوم : 245 .
(2) 52 ) السيرة النبوية : 621 .(1/22)
ثالثاً : وأما النصارى(1)
__________
(1) 53 ) إنَّ النصارى قوم لهم في نبيهم عيسى عليه الصلاة والسلام ، وفي كتابهم الإنجيل عقائد ومذاهب شتى ، أما في عيسى عليه السلام فمنهم من قال أنه إله ، ومنهم من قال أبن إله ومنهم من قال أنه ثالث ثلاثة ، ولهذا يسأل الله تبارك وتعالى عيسى عليه السلام يوم القيامة من دون باقي الأنبياء عن هذا الأمر فيتبرأ عليه السلام منهم ومن قوله هذا الذي إفتروه عليه ، فقال تعالى { وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُون = = لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } [المائدة : 116] .
قال الشيخ محمد حسان في شريط مفرغ (( مجيء الرب جل جلاله : 7 )) : (( ثم يدعى عيسى عليه السلام ويقال له يا عيسى : { ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } [ المائدة : 116 ] لماذا خص الله عيسى من بين سائر الرسل بهذا السؤال ؟!!
لأنه ما من رسول بعث في قومه إلا وقد آمن به من آمن من قومه ، وكفر من كفر ، إلا قوم عيسى فمنهم من قال : إن عيسى هو الله !! ومنهم من قال أن عيسى هو أبن الله !! ومنهم من جعل عيسى وأمه إلهين من دون الله !! فهل هناك إله يأكل ؟! إله يشرب ؟! إله يتزوج ؟! إله يقضى حاجته ؟!! .... )) أ . هـ
وللإمام أبن القيم رحمه الله مقالة جمع فيها عقيدة القوم ، مبيِّناً بطلانها وزيفها فقال في (( إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان : 2 / 112 )) : (( قالوا : نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل شيء صانع ما يرى وما لا يرى وبالرب الواحد يسوع المسيح أبن الله الواحد بكر الخلائق كلها الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها وليس بمصنوع ، إله حق من إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء ، الذي من أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا وحمل به ثم ولد من مريم البتول وألم وشج وقتل وصلب ودفن وقام في اليوم الثالث وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه ، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه روح محبته وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة واحدة قديسية جاثليقية وبقيامة أبداننا والحياة الدائمة إلى أبد الآبدين فهذا العقد الذي أجمع عليه الملكية والنسطورية واليعقوبية وهذه الأمانة التي ألفها أولئك البتاركة والأساقفة والعلماء وجعلوها شعار النصرانية .....
ثم قال ( ص : 2 / 219 ) : ((ومن المعلوم أن هذه الأمة ارتكبت محذورين عظيمين لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة :
أحدهما : الغلو في المخلوق حتى جعلوه شريك الخالق وجزءاً منه وإلهاً آخر معه ونفوا أن يكون عبداً له . =
=والثاني : تنقص الخالق وسبه ورميه بالعظائم حيث زعموا أنه سبحانه وتعالى عن قولهم علواً كبيراً ، نزل من العرش عن كرسي عظمته ودخل في فرج امرأة وأقام هناك تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والنجو وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن ثم خرج من حيث دخل رضيعاً صغيراً يمص الثدي ولف في القُمُطِ وأودع السرير يبكي ويجوع ويعطش ويبول ويتغوط ويحمل على الأيدي والعواتق ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه وربطوا يديه وبصقوا في وجهه وصفعوا قفاه وصلبوه جهرا بين لصين وألبسوه إكليلا من الشوك وسمروا يديه ورجليه وجرعوه أعظم الآلام هذا هو الإله الحق الذي بيده أتقنت العوالم وهو المعبود المسجود لهو لعمر الله إن هذه مسبة لله سبحانه ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم .
وقال ( ص : 226 ) مبيناً بطلان عقيدتهم :
أعبَّاد المسيح لنا سؤالٌ نريد جوابه ممن وَعَاه
إذا مات الإله بصنع قوم أماتوه فما هذا الإله
وهل أرضاه ما نالوه منه فبشراهم إذا نالوا رضاه
وإن سَخِط الذي فعلُوُه فيه فقوَّتهم إذا أوهت قواهُ
وهل بقي الوجود بلا إله سميع يستجيب لمن دعاهُ
وهل خلتِ العوالمِ من إله يدبِّرها وقد سُمِرَت يداه
وكيف تخلتِ الأملاكُ عنه بنصرهم وقد سمعوا بكاهُ
وكيف أطاقتِ الخشباتُ حمل الإله الحق شدَّ على قفاهُ
وكيف دنا الحديد إليه حتى يخالطه ويلحقه أذاهُ
وكيف تمكنت أيدي عِدَاه وطالت حيث قد صفعوا قفاه
وهل عاد المسيحُ إلى حياةٍ أم الُمحيي له ربٌّ سواهُ
ويا عجباً لقبر ضم رباً وأعجب منه بطنٌ قد حواهُ
أقام هناك تسعاً من شهور لدى الظلماتِ من حيضٍ غِذَاهُ
وشق الفرج مولوداً صغيراً ضعيفاً فاتحاً للثدي فاهُ
ويأكل ، ثم يشرب ثم يأتي بلازم ذاك ، هل هذا إلهُ
تعالى الله عن إفك النصارى سَيُسأل كلهم عمَّا افتراهُ
فهلاّ للقبور سَجَدْت طُراً لضم القبِر ربكَ في حُشاه =
= فيا عبدَ المسيحِ أفق ، فهذا بدايتُه وهذا منتهاهُ ))
( 54 ) شرح العقيدة الطحاوية : 1 / 171بتحقيق د . عبد الله عبد المحسن التركي وشعيب الأرنؤوط .(1/23)
فلا يفرق حالهم عن حال اليهود كثيراً ، فمنهم من أنكر رسالته ومنهم من خصها بالعرب دون غيرهم ، وبالمحصلة فالنتيجة واحدة وهي عدم الإقرار برسالة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وأنها لا تعنيهم لا من قريب ولا من بعيد .
قال الإمام أبن أبي العز : (( وأما قول بعض النصارى إنه رسول إلى العرب خاصة - : فظاهر البطلان فإنهم لما صدَّقوا بالرسالة لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به ، وقد قال إنه رسول الله إلى الناس عامة والرسول لا يكذب فلزم تصديقه حتماً ، فقد أرسل رسله وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وسائر ملوك الأطراف يدعو إلى الإسلام ... ))(1).
الفائدة الثانية : لقد أرسل الله تبارك وتعالى لكل قوم رسولاً ، وأخبر أنهم كُذِّبوا وأُوذوا كما قال تعالى { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ } [الأنعام : 34]. ولكنه لما لم يقسم على رسالة أحد منهم وأقسم على رسالة خاتم المرسلين فلذلك شأن أخر يدل على شرف الرسالة وشرف من أُرسل بها ، فشرف المقسَم عليه يأتي من شرف القاسم وشرف المقسم به ، فالقاسم هو الله والمقسم به هو كتاب الله والمقسم عليه هو رسالة محمد ، فلا أعلم بعد هذا الشرف والتعظيم شيئاً بعده .
الفائدة الثالثة : لو نظرنا في الآية الكريمة لرأينا أنه قد ورد فيها عدة مؤكدات تبعث بإشارات ودلائل مهمة وهي (( القسم ، إنَّ ، اللام التي تسمى المزحلقة والتي تأتي مع خبر إنَّ )) .(1/24)
والفائدة من مجيء المؤكدات كما قال أهل العلم أنها تأتي إذا كان المخاطَب مُنكِراً لما تقول ، فإنك تؤكد له الكلام حتى تحمله على التصديق بما تقول ، وحال هذه الآية شبيه بحال سورة العصر ، إلا أن الكفار في سورة العصر كانوا يعتقدون أنهم هم أهل النجاة والفوز في الآخرة ، وينكرون أنهم من أهل الخسارة والهلاك فجاءت هذه المؤكدات للتأكيد على خسارتهم وهلاكهم إن لم يتصفوا بالصفات التي وردت في السورة الكريمة قال تعالى { وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر : 3] .
قال الشيخ صالح عبد العزيز آل الشيخ في (( شرح الثلاثة الأصول : 10 )) : (( لما أقسم الله جل وعلا بالعصر ؟ قال جل وعلا {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}[العصر:2], فجواب القسم هو ( إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْر ٍ) وأكد ذلك بـ( إنَّ ) وباللام في قوله ( لَفِي خُسْرٍ ) ومن المتقرر في علم المعاني من علوم البلاغة , أن ( إنّ واللام من أنواع المؤكدات ) اجتمع هاهنا أنواع من المؤكدات :
أولا القسم ، الثاني مجيء إن ّ، الثالث مجيء اللام التي تسمى المزحلقة , أو المزحلفة , مجيء اللام في خبر إنّ ، قال جل وعلا {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}[العصر:2]، وأهل العلم يقولون يعني أهل العلمِِ بالمعاني يقولون "إن مجيء المؤكدات يصلح إذا كان المخاطَبُ منكِراً لما اشتمل عليه الكلام".(1/25)
فمثلا تقول لمن لم يكن عنده الخبر فلان قادم ، لا يصلح أن تقول "إنّ فلاناً لقادم" وذاك لم ينكر الكلام ، ويريد أن يستقبل الخبر ، تقول "فلان قادم"، فأخبرته بقدوم فلان ، لكن إن كان منكراً له ، أو منزل منزلة المنكر له ، فإنه تؤكد الكلام له ، لكي يزيد انتباهه ، ويعظم إقراره لما اشتمل عليه المشركون لأجل ما هم فيه من شرك ، وما عاندوا فيه الرسالة ، حالهم بل ومقالهم أنهم هم أصحاب النجاة {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}[فصلت:50]، فهم ينكرون أنهم سيكونون في خسارة ، و ينكرون -طائفة أخرى منهم- أن يكون الإنسان سيرجع إلى خسارة ، وأنه لن ينجوا إلا أهل الإيمان ، فأكد الله جل وعلا ذلك لأجل إنكارهم بالمقال والفعل وبالحال ، بقوله {إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ}[العصر:2]، يعني إن جنس الإنسان ، الألف واللام هذه للجنس (أل) الجنسية ، ( الْإِنسَانَ ) يعني جنس الإنسان ( إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْر ٍ) جنس الإنسان في خسرٍٍٍ : يعني في خسارةٍٍ عظيمة ، إلا ما اُستثني ... )) .
الدليل الثالث :
كما أننا لو نظرنا في كتابِ الله تبارك وتعالى لرأينا أنه لم يُقسٍٍٍٍِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِم(1)
__________
(1) 55 ) وهنالك شبهة يرددها القبوريون ممن يؤلهون ويعظمون المخلوقين ويجوزون القسم بهم مفادها : أنه طالما أقسم الله برسوله وغيره من المخلوقات ، فكذلك يجوز لنا أن نقسم بها !!!
والجواب عليها : أن الله تعالى يقسم بمخلوقاته متى شاء ، كيف شاء ، فهو رب خالق ، أما نحن فمربوبون مخلوقون وهذا أولاً ، وأما ثانياً فللنهي الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدم جواز القسم بغير الله تعالى ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه ، فقال : (( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )) [ رواه البخاري برقم : 6270 ، ومسلم برقم : 1646] ، وعن سعد بن عبيدة : أن أبن عمر سمع رجلاً يقول لا والكعبة ، فقال أبن عمر: لا يحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك )) حديث صحيح ، أنظر (( صحيح جامع الترمذي 4 / 110 )) و (( صحيح سنن أبي داود 3 / 223 )) .(1/26)
بحياة بشر ممن خلقهم إلا بحياة رسول الله محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وفي ذلك شرف عظيم وتمجيد كبير يدلان على عظيم المنزلة التي خصه الله تبارك وتعالى بها ، دون سائر البشرِ عامة والأنبياء خاصة ، كما قال تعالى { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الحجر : 72] .
قال الإمام أبن كثير رحمه الله تعالى في (( تفسيره : 2 / 731 )) : (( ولهذا قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} أقسم تعالى بحياة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض .
قال عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن أبن عباس رضي الله عنه أنه قال : ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم : وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره , قال الله تعالى : {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } يقول : وحياتك وعمرك وبقاؤك في الدنيا {إنهم لفي سكرتهم يعمهون} رواه أبن جرير .
وقال قتادة : { في سكرتهم } أي في ضلالهم { يعمهون } أي يلعبون وقال علي بن أبي طلحة عن أبنِ عباس { لعمرك } لعيشك { إنهم لفي سكرتهم يعمهون} قال يترددون )) أ . هـ.
وقال الإمام الشنقيطي : (( وقوله : {لَعَمْرُكَ} معناه أقسم بحياتك ، والله جل وعلا له أن يقسم بما شاء من خلقهِ ، ولم يقسِم في القرآن بحياة أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم وفي ذلك من التشريف له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى .
ولا يجوز لمخلوق أن يحلف بغير الله لقوله صلى الله عليه وسلم : (( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ))(1)أ . هـ
وقال العزَُ بن عبدِ السلام : (( والإقسام بحياة المُقْسَم بحياته يدل على شرف حياته وعزتها عند المُقْسِم بها ، ولم يثبتْ هذا لغيره صلى الله عليه وسلم ))(2).
الدليل الرابع :
__________
(1) 56 ) أضواء البيان : 3 / 25 .
(2) 57 ) خصائص المصطفى ( - صلى الله عليه وسلم - ) بين الغلو والجفاء .(1/27)
لو نظرنا في كتاب الله لرأينا أنَّ الله تبارك وتعالى لم يناده إلا بأحب أوصافه وأسنى كمالاته ، ولو نظرنا في القرآن الكريم لرأينا أنه ما من نبي ولا رسول إلا ناداه الله بأسمه المجرد إلا النبي محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) :
1 ) آدم عليه السلام : { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ } [البقرة : 35] .
2 ) نوح عليه السلام : { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }[هود : 46] .
3 ) إبراهيم عليه السلام : { يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [هود : 76] .
4 ) موسى عليه السلام : { قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ } [الأعراف : 144] .
5 ) عيسى عليه السلام : { وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } [المائدة : 116] .
6 ) يحيى عليه السلام : { يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً } [مريم : 12] .(1/28)
إلا النبي محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) فإنه لما أراد مناداته ومخاطبته قال { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [المائدة : 67] , وقال { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال : 64] .
أو ناداه وخاطبه بصفته كقوله تعالى { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }[المدّثر : 1] ، أو { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } [المزّمِّل : 1] .
وأما الآيات التي ورد فيها أسم (( محمد )) فقد جاءت من باب الإخبار ، وكذلك جاءت مقترنة بوصف الرسالة :
1 ) قال تعالى { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ } [آل عمران : 144] .
2 ) وقال { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [الأحزاب : 40] .
3 ) وقال { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } [الفتح : 29] .(1/29)
قال الصادق بن محمد بن إبراهيم : (( قال العزُّ بن عبد السلام : (( وهذه الخَصِيصة لم تثبتْ لغيرهِ ، بل إن كلاً منهم نُودي بأسمه فقال تعالى : { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } [البقرة :35]، وقال تعالى : { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ } [المائدة: 110]، وقال تعالى : { يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ } [القصص:30]، وقال تعالى : { يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا } [هود : 48]وقال تعالى { يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } [الصافات: 104-105] .
ولا يخفى على أحد أنَّ السيدَ إذا دعى أحد عبيده بأفضل ما وجد فيه من الأوصاف العلية والأخلاق السنية ، ودعا الآخرينَ بأسمائِهم الأعلام لا يشعر بوصف من الأوصاف ولا بخلق من الأخلاق ، إن منزلة من دعاه بأفضل الأسماءِ والأوصافِ أعز عليه ، وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم .
وأما الآيات التي ورد فيها ذكر أسمه صلى الله عليه وسلم إنما كان ذلك من باب الإخبار كقوله تعالى : (( مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ )) [الأحزاب: 40]، وكقوله تعالى : (( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ )) [الفتح :29] الآية ))(1)أ . هـ
ومبالغة في تحقيق هذا الأمر وتأكيده فقد أمر الله تبارك وتعالى أمته إلى تكنيته بالرسالة أو النبوة تشريفاً له ورفعاً لمنزلته ، على عكس ما كانت عليه الأمم السابقة مع أنبيائهم قال تعالى { لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً }[النور : 63]. قال أبن كثير في تفسيره : (( 3 / 409 )) : (( قال الضحاك عن أبن عباس : كانوا يقولون يا محمد يا أبا القاسم , فنهاهم الله عز وجل عن ذلك إعظاماً لنبيه صلى الله عليه وسلم , قال : فقولوا يا نبي الله ، يا رسول الله , وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير .
__________
(1) 58 ) خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء : 24.(1/30)
وقال قتادة : أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم , وأن يبجل وأن يعظم وأن يسود .
وقال مقاتل في قوله { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } يقول : لا تسموه إذا دعوتموه يا محمد ، ولا تقولوا يا أبن عبد الله , ولكن شرفوه فقولوا : يا نبي الله يا رسول الله .
وقال مالك عن زيد بن أسلم في قوله { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } قال : أمرهم الله أن يشرفوه هذا قول وهو الظاهر من السياق )) أ . هـ
وقال أبو نعيم الأصبهاني : (( فخصه الله تعالى بهذه الفضيلة من بين رسله وأنبيائه وأخبر سبحانه عن سائر الأمم أنهم كانوا يخاطبون رسلهم وأنبياءهم بأسمائهم كقول قوم موسى له : { يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف : 138]،
وقول قوم عيسى له : { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } [المائدة : 112]، وقول قوم هود له : { يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ } [هود : 53])(1).
الدليل الخامس :
لو نظرنا في كتاب الله العزيز لرأينا أن الله تبارك وتعالى إذا أراد ذكر النبي محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) فإنه يذكره بأحب الأوصاف إلى نفسه ( - صلى الله عليه وسلم - ) وهي لفظة (( عَبْد )) ، وهي غاية ما يتمنى أن يصل إليه الإنسان أن يكون عبداً لله لوحده لا عبداً لغيره ، عبودية تامة مبنية على الطاعة والانقياد :
1 ) قال تعالى { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة : 23] .
2 ) وقال { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } [الإسراء : 1] .
__________
(1) 59 ) المصدر السابق : 24 .(1/31)
3 ) وقال { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [الكهف : 1] .
4 ) وقال { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [النجم : 10] .
5 ) وقال {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [الجن : 19] .
ولهذا كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) يحب أن يوصف نفسه بهذا الوصف ، مقترناً بوصف الرسالة التي شَرَّفه الله تعالى بها (( عبد الله ورسوله )) مبالغة منه ( - صلى الله عليه وسلم - ) في إظهار عبوديته وتواضعه وإفتقاره لربه تبارك وتعالى :
1 ـ في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً فقال لرجل ممن يدَّعي بالإسلام : (( هذا من أهل النار !! )) فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحة .
فقيل : يا رسول الله ! الرجل الذي قلت له آنفاً (( إنه من أهل النار )) فإنه قاتل اليوم قتالاً شديداً وقد مات .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إلى النار )) فكاد بعض المسلمين أن يرتاب ، فبينما هم على ذلك إذ قيل : إنه لم يمت ، ولكن به جراحاً شديداً ! فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه ، فأُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : (( الله أكبر! أشهد أني عبد الله ورسوله )) ثم أمر بلالاً فنادى في الناس (( إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر )) .(1/32)
قال الإمام أبن حجر في (( فتح الباري : 7 / 593 )) : (( ... قال أبن التين يحتمل أن يكون قوله (( هو من أهل النار )) أي : إن لم يغفر الله له ، ويحتمل أن يكون حين أصابته الجراحة أرتاب وشك في الإيمان ، أو استحل قتل نفسه فمات كافراً ، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في بقية الحديث : (( لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة )) وبذلك جزم بن المنير ، والذي يظهر أنَّ المراد بالفاجر أعم من أن يكون كافراً أو فاسقاً ، ولا يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم : (( إنا لا نستعين بمشرك )) لأنه محمول على من كان يظهر الكفر أو هو منسوخ .
وفي الحديث إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات وذلك من معجزاته الظاهرة وفيه جواز إعلام الرجل الصالح بفضيلة تكون فيه ، والجهر بها تنبيه المنادى بذلك بلال )) .
2 ـ وفي الصحيحين أيضاً عن أبن عباس : سمع عمر رضي الله عنه يقول على المنبر :
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( لا تطروني ، كما أطرت النصارى أبن مريم ، فإنما أنا عبده ، فقولوا : عبد الله ورسوله )) .
إن الناظر في هذا الحديث الشريف يرى أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) نهى أمته أن تطريه وتمدحه خشية الوقوع في الغلو الذي جاء النهي عنه في مواضع عديدة ، كما أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد أرشد أمته إلى الطريقة الفضلى إذا ما أرادت وصفه ومدحه أن تقول : عبد الله ورسوله .
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني : (( ومع هذا التحذير الشديد من الغلو في الدين وقع المسلمون فيه مع الأسف واتبعوا سنن أهل الكتاب فقال قائلهم :
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكم(1/33)
فهذا الشاعر الذي يعظمه كثير من المسلمين ويترنمون بقصيدته هذه المشهورة بالبردة ويتبركون بها ، وينشدونها في الموالد وبعض مجالس الوعظ والعلم ، ويعدون ذلك قربة إلى الله تبارك وتعالى ، ودليلاً على محبتهم نبيهم صلى الله عليه وسلم أقول : هذا الشاعر قد ظن النهي الوارد في الحديث السابق منصبَّاً فقط عن الادعاء بأن محمداً صلى الله عليه وسلم أبن الله ، فنهي عن هذه القولة ودعا إلى القول بأي شيء آخر مهما كان . وهذا غلط بالغ وضلال مبين ، ذلك لأن للإطراء المنهي عنه في الحديث معنيين أثنين :
أولهما : مطلق المدح .
وثانيهما المدح المجاوز للحد .
وعلى هذا فيمكن أن يكون المرد من الحديث النهي عن مدحه صلى الله عليه وسلم مطلقاً من باب سد الذريعة ، واكتفاء باصطفاء الله تعالى له نبياً ورسولاً وحبيباً وخليلاً ، وبما أثنى سبحانه عليه في قوله : { وإنك لعلى خلق عظيم } [ القلم : 4 ]، إذ ماذا يمكن للبشر أن يقولوا فيه بعد قول الله تبارك وتعالى هذا ؟ وما قيمة أي كلام يقولونه أمام شهادة الله تعالى هذه ؟ وإن أعظم مدح له صلى الله عليه وسلم أن نقول فيه ما قال ربنا عز وجل : إنه عبد له ورسول ، فتلك أكبر تزكية له صلى الله عليه وسلم وليس فيها إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير .
وقد وصفه ربنا سبحانه وهو في أعلى درجاته وأرفع تكريماً من الله تعالى له ، وذلك حينما أسرى وعرج به إلى السماوات العلى حيث أراه من آيات ربه الكبرى وصفه حينذاك بالعبودية فقال : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } [ الإسراء : 1 ].
ويمكن أن يكون المراد : لا تبالغوا في مدحي فتصفوني بأكثر مما أستحقه وتصبغوا علي بعض خصائص الله تبارك وتعالى .
ولعل الأرجح في الحديث المعنى الأول لأمرين اثنين :(1/34)
أولهما : تمام الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ( فقولوا عبد الله ورسوله ) أي اكتفوا بما وصفني به الله عز وجل من اختياري عبداً له ورسولاً .
وثانيهما : ما عقد بعض أئمة الحديث له من الترجمة فأورده الإمام الترمذي مثلاً تحت عنوان : ( باب تواضع النبي صلى الله عليه وسلم ) فحمل الحديث على النهي عن المدح المطلق هو الذي ينسجم مع معنى التواضع ويأتلف معه(1)) أ . هـ
ومع هذا البيان النبوي الشافي الكافي إلا أن البعض قد وقع في المحذور ، وبالغ في محبة النبي محمد حتى وقع في الغلو مثل (( الصوفية وغيرهم ، فرفعوه فوق منزلته ، واعتقدوا أنه يجيب من دعاه ، فصرفوا له العبادة من دون الله ..... إلى غير ذلك من الغلو الذي يخرج بصاحبه من دائرة الإسلام ، نسأل الله الثبات على الحق .
أما أهل السنة والجماعة : فيحبون الرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ويعتقدون انه خير البشر ، وأنه سيد المرسلين وخاتم النبيين ، ويرون أن أكمل المؤمنين إيماناً أكملهم محبة وإتباعاً للرسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) ...(2).
ويكفي من ذلك كله أن الله تعالى شهد للنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالعبودية الكاملة ، ووصفه بها في أشرف المواطن ، في الإسراء والمعراج في أول سورة الإسراء ، وفي مقام التحدي في سورة البقرة ، وفي مقام الدعوة في سورة الجن .
فقد وصف بالعبودية في هذه المواطن الشريفة ، مما يدل على أن هذا الوصف هو وصف تشريف وتكريم ، وليس انتقاصا كما قد يظن من يظن .
فالنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) عبد رسول ، كما وصف هو نفسه بذلك في قوله الذي رواه الإمام البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
(( إنما أنا عبده ، فقولوا : عبد الله ورسوله )) .
وفي هذا رد على طائفتين غاليتين :
__________
(1) 60 ) التوسل أنواعه أحكامه : 93 .
( 61 ) كيف نعالج واقعنا الأليم : 25 لأبي لوز .(1/35)
الطائفة الأولى : مفْرِطة : رفعته فوق منزلته ، فجعلته فوق مرتبة العبودية ، في مرتبة الربوبية والألوهية ، حتى صار عندها إلهاً ورباً مسؤولاً فوقعت في الغلو كما في قول البوصيري في البردة التي يرددها ملايين الصوفية في العالم ، في كل آن ، خاصة في الموالد النبوية في شهر ربيع :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ...... سواك عند حلول الحادث العمم
ولن يضيق رسول الله جاهك بي ........ إذا الكريم تجلى بأسم منتقم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ........ ومن علومك علوم اللوح والقلم
ويقول في همزيته :
الأمان الأمان إن فؤادي ***** من ذنوب أتيتهن هراء
هذه علتي وأنت طبيبي ***** ليس يخفى عليك في القلب داء
فهذا هو الغلو بعينه ، وهو الشرك والكفر الأكبر الذي أخبر الله تبارك وتعالى وفي مواضع كثيرة أنه لا يغفره لعبد لقيه به ، فهذا قد استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، حيث استغاث به وهو ميت ، والميت لا يُستغاث به ، لأنه ليس في مكان ممكن أن يسمع استغاثة من يستغيث به ، فهو لا يقدر على شيء .. والغلو في اللغة : الزيادة والارتفاع ومجاوزة الحد والقدر المألوف في كل شيء ، أي الإفراط فيه ، وغلا في الدين والأمر يغلو : جاوز الحد .
واصطلاحاً : ذلك النمط من التدين الذي يؤدي على الخروج عن الدين ، فالقرآن والحديث واللغة تدل على أنَّ الغلو هو التجاوز عن الحد والمقدار .....
قال أبن حجر رحمه الله : (( وأما الغلو فهو المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوزه الحد ، وفيه معنى التعمق ))(1).
تحذير الكتاب والسنة من الغلو :
__________
(1) 62 ) أنظر : كيف نعالج واقعنا المؤلم : 14 .(1/36)
أعلم _ أخي الحبيب رحمك الله تعالى _ أنَّ الغلو والتطرف _ كما قلنا سابقاً ـ هو : المبالغة في الشيء بالتجاوز عن حده ومقداره ، والغلو يكون بالفعل أو الترك ، بالإفراط أو التفريط بالمدح أو الذم ، ولهذا لا يبالي الشيطان بأيهما نال من الإنسان وظفر .
قال الإمام أبن القيم ( رحمه الله ) في : (( إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 61 )) : (( قال بعض السلف : ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان : إما إلى تفريط وتقصير وإما إلى مجاوزة وغلو ولا يبالي بأيهما ظفر وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين : وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدي ، والقليل منهم جداً الثابت على الصراط الذي كان عليه رسول الله وأصحابه )) أ . هـ
لذا فقد نهى الله سبحانه وتعالى في آيات متعددة عن الغلو ، كما حذَّر النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) في أحاديث كثيرة منه :
أما الكتاب :
1 ) قال تعالى { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ } [النساء : 171] .
قال الإمام أبن كثير – رحمه الله - : (( ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء , وهذا كثير في النصارى , فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها , فنقلوه من حيز النبوة , إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله يعبدونه كما يعبدونه ، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه , فادعوا فيهم العصمة , واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً ، أو ضلالاً أو رشاداً , أو صحيحاً أو كذباً ))(1).
__________
(1) 63 ) تفسير القرآن العظيم لأبن كثير : 1 / 589 .(1/37)
2 ) وقال تبارك وتعالى { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ ، وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } [المائدة : 77] .
قال العلامة السعدي : (( يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ } أي : لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل ، وذلك كقولهم في المسيح ، ما تقدم حكايته عنهم .
وكغلوهم في بعض المشايخ ، إتباعاً لـ { أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } أي : تقدم ضلالهم .
{ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا } : من الناس بدعوتهم إياهم إلى الدين ، الذي هم عليه .
{ وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } أي : قصد الطريق ، فجمعوا بين الضلال والإضلال ، وهؤلاء هم أئمة الضلال الذين حذر الله ))(1).
وأما السنة :
1 ) قال أبن عباس : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على راحلته : هات إلقط لي ، فلقطت له حصيات هن حصى الخذف ، فلما وضعتهن في يده قال : (( بأمثال هؤلاء ، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ))(2).
2 ) عن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( هلك المتنطعون ، قالها ثلاثاً )) .(3)
قال الأمام النووي : (( قوله صلى الله عليه وسلم : "هلك المتنطعون" أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم ))(4).
__________
(1) 64 ) تفسير العلامة السعدي : 1 / 396 .
(2) 65 ) أخرجه أحمد في مسنده برقم : 6724 وأبن حبان برقم : 3872 والنسائي برقم : 1711 وصححه المحدث الألباني في (( صحيح سنن أبي داود : 2 / 198 )) و (( صحيح سنن النسائي : 5 / 268 )) .
(3) 66 ) أخرجه مسلم برقم : 2670 .
(4) 67) شرح صحيح مسلم للإمام النووي : (( 16 / 461 )).، رقم : (2670 ).(1/38)
الطائفة الثانية : مفَرِّطة ، لم تعرف منزلته ولا قَدَرَه ولا حقوقه ، فعاملته كسائر البشر ، فلم ترفع بهديه رأساً فوقعت في الجفاء .
قال صاحب القاموس : (جفا جفاءً وتجافى : لم يلزم مكانه ، ورجل جافي الخِلقة والخُلُق : غليظ ، والجفاء نقيض الصلة ) [ القاموس المحيط : 1640]
والمقصود بالجفاء هنا رد ما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم من الخصائص والفضائل أو رد بعضها ، وفي هذا معنى الجفاء الذي يقطع الصلة المتولدة في القلب من المحبة والتعظيم ، نتيجة اعتقاد عدم ثبوت تلك الخصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو جعل تلك الخصيصة لعامة الناس .
وأيضاً يدخل في معنى الجفاء ما جعله الأتباع لمشايخهم وأئمتهم من الفضائل والمناقب ما لم يكن له صلى الله عليه وسلم ، فهذا من الجفاء ، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم فاق في فضله جميع الأنبياء والمرسلين ، بل هو سيدهم وإمامهم ، فلا شك أن تقديم غيره عليه صلى الله عليه وسلم في الفضائل من أعظم الجفاء ؛ لأن بذلك التقديم والتعظيم للغير تنشأ المحبة التي تفوق محبة النبي صلى الله عليه وسلم التي لا يبقى منها إلا الادعاءات التي يُعبرون عنها بالموالد والاحتفالات .
ويدخل في الجفاء أيضاً ترك التأسي به صلى الله عليه وسلم في هديه والتأسي بغيره ، والجفاء في كل ذلك تختلف درجته ، فمنه ما يكون كفراً والعياذ بالله ، ومنه ما هو دون ذلك ، وأكثر من يتصف بالجفاء هم الفلاسفة المنتسبون إلى الإسلام ومدعو النبوة عموماً والصوفية ))(1).
والتطرف : يجمع الاثنين فهو : أما الغلو والإفراط أو الجفاء والتفريط ، وكلا طرفي الأمر مذموم .
والتمسك هو : الوسط .
قال الشيخ عبد الله بن جبرين : (( فمن كفَّر بالذنوب وأخرج العصاة من الإسلام ، وأباح قتلهم بدون إستتابة ، وأباح الخروج على الولاة بأدنى مخالفة فهو متطرف .
__________
(1) 68 ) خصائص المصطفى ( - صلى الله عليه وسلم - ) بين الغلو والجفاء : 15 .(1/39)
ومن أباح المعاصي ، وحلل المحرمات وعذر العصاة وفسح لهم المجال ، ومكنهم من : الزنى ، والربا ، والسرقة ، والقتل ، والسُكر ، ونحو ذلك فهو متطرف .والمتمسك هو الذي لا يكفر بالذنوب ولا يبيح المعاصي ، وينكرها ولو بالقلب ))(1)أ . هـ
لذا فوصفه ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالعبودية رد على الطائفة الأولى أهل الغلو ، ووصفه بالرسالة رد على الطائفة الثانية أهل الجفاء ،وهذا هو التوسط ، وهو خير الأمور ، وبذلك نعطي النبي حقه ومنزلته ، دون غلو أو إجحاف .
الدليل السادس :
لقد خلق الله تبارك وتعالى الخلق لعبادته وتنفيذ أوامره كما قال تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56] ، ثم وعد من استجاب منهم وإتبع رضوانه جنة عرضها السموات والأرض ، حيث جعلها دار مغفرته ومستقر رحمته ، والتي أخبر في مواضع كثيرة أنه قد أعدَّ فيها للمؤمنين الطائعين جنات ظليلة ، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خَطَرَ على قلب بشر ، ليرغِّبهم فيها ويشوِّقهم إليها ، كما قال تبارك تعالى { وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [محمد : 6] ، وقال { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } [محمد : 15] .
__________
(1) 69 ) أنظر : كيف نعالج واقعنا الأليم : 19 .(1/40)
ثم أخبر تبارك وتعالى أنه ليس للعباد من طريق يمكن أن يسلكوه ويصلوا من خلاله إلى هذه الجنة إلا عن طريق محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وصراطه ، ذلك الصراط الذي سماه مستقيماً لأنه ينتهي بهم إلى الجنة أولاً ، ولأنه لا طريق لهم سواه ثانياً .
قال تعالى { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأنعام : 153] .
والصراط المستقيم هو ذلك الصراط الذي نصبه الله تبارك وتعالى على ألسنة رسله وجعله موصلاً إليه ، وأنه ليس للعباد من طريق يمكن أن يسلكوه سواه ، ولهذا نرى أن الله تعالى يضيفه لنفسه تارة ولرسوله تارة ولعباده تارة أخرى ، ولهذا كان من دعاء المؤمنين الذي يكررونه في اليوم والليلة مرات عديدة { اهدِنا الصِّرَاطَ المُستَقِيم * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ } [الفاتحة : 7] .
قال الشيخ محمد صالح العثيمين : (( صراط : على وزن فعال بمعنى : مصروط مثل : فراش بمعنى مفروش ، وغراس بمعنى مغروس فهو بمعنى اسم المفعول ، والصراط إنما يقال للطريق الواسع المستقيم ، مأخوذ من الزرط وهو بلع اللقمة بسرعة ، لأن الطريق إذا كان واسعاً لا يكون فيه ضيق يتعثر الناس فيه ، فالصراط يقولون في تعريفه : كل طريق واسع ليس فيه صعود ولا نزول ولا اعوجاج ، إذاً الطريق الذي جاءت به الرسل هو الصراط المستقيم ، الذي ليس فيه عوج ولا أمت ، طريق مستقيم ليس فيه انحراف يميناً ولا شمالاً : (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوه )) [الأنعام : 153] .(1/41)
وعليه فيكون المستقيم صفة كاشفة على تفسيرنا الصراط بأنه الطريق الواسع الذي لا اعوجاج فيه ، لأن هذا هو المستقيم أو يقال : إنها صفة مقيدة لأن بعض الصراط قد يكون غير مستقيم كما قال تعالى { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ } [الصافات: 23-24]، وهذا الصراط غير مستقيم .
(( صراط الذين أنعم الله عليهم )) : أي طريقهم وأضافه إليهم لأنهم سالكوه ، فهم الذين يمشون فيه، كما أضافه الله إلى نفسه أحياناً: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض } [الشورى : 52-53] ، باعتبار أنه هو الذي شرعه ووضعه لعباده ، وأنه موصل إليه ، فهو صراط الله باعتبارين وصراط المؤمنين باعتبار واحد ، صراط الله باعتبارين هما : أنه وضعه لعباده ، وأنه موصل إليه وصراط المؤمنين ، لأنهم هم الذين يسلكونه وحدهم ))(1)أ . هـ
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : (( قال خَطَّ رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) خطاً ، وخطَّ عن يمين ذلك الخط وعن شماله خطواً ، ثم قال هذا صراط ربك مستقيماً ، وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ))(2).
وفي هذا البيان النبوي للآية الكريمة معانٍ وحقائق جليلة وخطيرة هي :
__________
(1) 70 ) شرح العقيدة الواسطية : 1 / 152 .
(2) 71 ) أخرجه الحاكم في المستدرك برقم : 2938 وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ، وحسنه الشيخ الألباني في ( ظلال الجنة في تخريج السنة لأبن أبي عاصم : 5 ) .(1/42)
1 ) إن سبيل الحق واحد لا يتعدد ، وهو وحده سبيل النجاة والفوز ، ولهذا ينبغي على المسلم أن يضع نصب عينيه هذه الحقيقة ، وأن لا يغفل عنها ولا يتجاوزها .
قال أبن القيم في نونيته :
فلواحد كن واحداً في واحد *** أعني سبيل الحق والإيمان
2 ) إنَّ السبل المخالفة للحق والتي اتبعها الكثير من المنتسبين إلى الإسلام كثيرة جداً ، وهذه حقيقة ملازمة للمسألة الأولى ، فمن جعل العبرة بالكثرة للدلالة على الحق فقد ضلَّ سواء السبيل ، قال تعالى { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ }[الأنعام : 116] .
فالعبرة ليس بالكثرة والتجميع على غير هدى وبصيرة ، وإنما العبرة بإصابة الحق ، و عندها لا يهم الحال الذي يكون عليه أمر الجماعة كثرت أم قَلَّت .
3 ) إنَّ إتباع سبيل النبوة يقتضي لزاماً مفارقة سبل أهل الانحراف والزيغ ، وذلك لا يكون إلا بمفارقة عقائدها وأصولها ، وكل ما خالفت فيه سبيل المؤمنين .
4 ) إنَّ سبيل النجاة هي سبيل الوحي الذي جاء من عند الله ، وأنَّ سبل الضلال هي سبل الشياطين التي تزينها وتجملها بالشبهات والشهوات والنزوات .
5 ) إنَّ الواجب على العاقل اللبيب الذي يرجوا النجاة والسلامة أن يحتاط لنفسه ، وأن يتثبت ويتحرى قبل سلوك أي سبيل وموالاة أي جماعة ، ولا يكون ذلك إلا بالتمسك والاعتصام بالكتاب والسنة .
قال شيخ الإسلام أبن تيمية في (( مجموع الفتاوى : 4 / 57 )) : (( وعامة هذه الضلالات إنما تطرق من لم يعتصم بالكتاب والسنة ، كما كان الزهري يقول : كان علماؤنا يقولون : الاعتصام بالسنة هو النجاة ، وقال مالك : السنة سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق . ...(1/43)
وذلك أن السنة والشريعة والمنهاج هو الصراط المستقيم ، الذي يوصل العباد إلى الله . والرسول هو الدليل الهادي الخِرِّيت [ الخِرِّيت : الدليل الحاذق ] في هذا الصراط ، كما قال تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا } [ الأحزاب : 45 ،46 ] .
وقال تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } [ الشورى : 53،52 ] ، وقال تعالى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] .
وقال عبد الله بن مسعود : خطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً ، وخطَّ خطوطاً عن يمينه وشماله ثم قال : ( هذا سبيل الله ، وهذه سُبُل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ) ثم قرأ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } . ...
وإذا تأمل العاقل ـ الذي يرجو لقاء الله ـ هذا المثال وتأمل سائر الطوائف من الخوارج ثم المعتزلة ثم الجهمية والرافضة ، ومن أقرب منهم إلى السنة من أهل الكلام مثل الكرامية والكلابية والأشعرية وغيرهم ، وأن كلًا منهم له سبيل يخرج به عما عليه الصحابة وأهل الحديث ، ويدعي أن سبيله هو الصواب ، وجدت أنهم المراد بهذا المثال الذي ضربه المعصوم الذي لا يتكلم عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .(1/44)
والعجب أن من هؤلاء من يصرح بأن عقله إذا عارضه الحديث ـ لاسيما في أخبار الصفات ـ حمل الحديث على عقله وصرح بتقديمه على الحديث ، وجعل عقله ميزانًا للحديث ، فليت شعري هل عقله هذا كان مصرحًا بتقديمه في الشريعة المحمدية ، فيكون من السبيل المأمور باتباعه، أم هو عقل مبتدع جاهل ضال حائر خارج عن السبيل ؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله )) أ . هـ
الدليل السابع :
ومن خصائصه ( - صلى الله عليه وسلم - ) أنه خُتِم به النبوة ، وبرسالته الرسالات ، وبكتابه الكتب السماوية ، فلا نبي بعده ، ولا رسالة بعد رسالته ، ولا كتاب بعد كتابه ، الذي لا يسع عيسى عليه السلام حين ينزل إلى الأرض إلا أن يحكم به حكماً عدلاً ، فكَمَّل الله تبارك وتعالى به بنيان النبوة وزيَّنه وجمَّله .
قال تعالى { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [الأحزاب : 40] .
وقال { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } [المائدة : 48] .
وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إنَّ لي أسماء ، وأنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد )) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً ، فأحسنه وأجمله إلا موضع لَبِنَةٍ من زاوية ، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون : هلا وضعت هذه اللَبِنَة ؟ قال : فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين ))(1).
__________
(1) 72 ) رواه البخاري برقم : 3342 ، ومسلم برقم : 2286.(1/45)
وعن ثوبان قال : قال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) : (( وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ))(1).
و لمسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( فُضِّلتُ على الأنبياء بستٍ : أُعطيتُ جوامعَ الكلمِ ونصرتُ بالرعبِ وأحلت لي الغنائم وجُعِلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأُرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون )) .
الدليل الثامن :
بعثه الله تبارك وتعالى للناس كافة بعربهم وعجمهم ، وأنسهم وجنهم ، وهذه خصيصة أختص بها النبي محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) دون باقي الأنبياء ، حيث كان ممن سبقه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يبعث لقومه خاصة ، بينما بَعثَ اللهُ تبارك وتعالى نبينا محمداً للناس كافة ، حيث بعثه بدين الإسلام الذي رضيه للعباد ديناً واجب الإتباع بعد أن أتمه وأكمله ، ومن ثم أخبر تبارك وتعالى أنه هو الدين المقبول عنده الذي لا يقبل من أحد ديناً سواه . قال تعالى { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [الأعراف : 158] .
وقال {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }[سبأ : 28] .
__________
(1) 73 ) أخرجه الترمذي برقم : 2316 والحاكم في مستدركه برقم : 8390 وصححه الألباني في صحيح جامع الترمذي : 4 / 499 .(1/46)
وفي الصحيحين جابر بن عبد الله : أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال : (( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة )) .
وقال تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً } [المائدة : 3] .
وقال { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } [آل عمران : 19] .
وقال { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران : 85] .
قال أبن كثير رحمه الله : (( يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) : {قل} يا محمد {يا أيها الناس} وهذا خطاب للأحمر والأسود والعربي والعجمي {إني رسول الله إليكم جميعاً} أي جميعكم وهذا من شرفه وعظمته صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين ، وأنه مبعوث إلى الناس كافة كما قال الله تعالى : {قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } .
وقال تعالى : {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} وقال تعالى : {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم ؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ} والاَيات في هذا كثيرة ، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر .
وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الناس كلهم ))(1).
__________
(1) 74 ) تفسير أبن كثير : 2 / 339 .(1/47)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ ( - صلى الله عليه وسلم - ) أَنّهُ قَالَ : (( وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ يَهُودِيّ وَلاَ نَصْرَانِيّ ، ثُمّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالّذِي أُرْسِلْتُ بِه ِ، إِلاّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ ))(1).
وقد يقول قائل : ما هذه الأمة التي نسبها النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) لنفسه الشريفة والتي من أفرادها اليهودي والنصراني ؟
أقول : إنَّ أمة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) تنقسم إلى قسمين :
الأولى : أمة الدعوة ، وكما عرفنا آنفاً أن النبي محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد بُعث للناس كافة داعياً وبشيراً ونذيراً وهي بهذا الاعتبار يدخل فيها اليهودي والنصراني والخلق كافة .
الثانية : أمة الاستجابة ، ويدخل فيها كل من استجاب للنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) واتبع سبيله واقتفى أثره ، وهذه الاستجابة هي التي يترتب عليها الأجر الثواب .
الدليل التاسع :
لقد أعطى الله تبارك وتعالى كل الأنبياء والمرسلين الكثير من الآيات والمعجزات التي أيَّد بها رسالاتهم ودعواتهم ، إلا أنها بمرور السنين قد اندرست وانمحت ، إلا المعجزة التي أيَّد الله تبارك وتعالى بها محمداً ( - صلى الله عليه وسلم - ) وهي (( القرآن الكريم )) الذي سماه الله تبارك وتعالى روحاً لتوقف الحياة الحقيقية عليه ، وسماه نوراً لتوقف الهداية التامة عليه ، قال تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى : 52] .
وسماه أيضاً شفاء فقال { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء } [فصلت : 44] .
__________
(1) 75 ) رواه مسلم برقم : 153 .(1/48)
ولما كان الذين آمنوا هم الذين يأخذون بالقرآن دون غيرهم فقد خُصوا بالذكر والإنتفاع .
فالقرآن هو معجزة الله تعالى الخالدة ، الذي لا يخلق بكثرة الأخذ والإتيان ، ولا يبلى بتعاقب الأيام والزمان ، لا تنفذ عجائبه ولا تنتهي أسراره وغرائبه ، تولى الله تبارك وتعالى جمعه وَقُرْآنَهُ ، ووعد بتفصيله وبيانه ، فمنه بدأ وإليه يعود ، حيث نزل على رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) وحياً ، وسماه الله تعالى روحاً ونوراُ ، وجعله لعباده حجة ودستوراً ، فمن تمسك به نجى وعُصِم ، ومن نبذه اندحر وقُصِم ، وعد الله بحفظه و تَكفَّل بصيانته ، فلا تمتد إليه يد العابثين ، ولا تسعى إليه يد الطامعين .
قال تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر : 9] .
وفي صحيح مسلم : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ ( - صلى الله عليه وسلم - ) قَالَ : (( مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيَ إِلاّ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآيات مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَر ُ، وَإِنّمَا كَانَ الّذِي أُوتِيتُ وَحْياً أَوْحَى الله إِلَيّ ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعا يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) .
قال الإمام النووي : (( فالحديث اختلف فيه على أقوال :
أحدها : أن كل نبي أعطى من المعجزات ما كان مثله لمن كان قبله من الأنبياء فآمن به البشر ، وأما معجزتي العظيمة الظاهرة فهي القرآن ، الذي لم يعطِ أحد مثله ، فلهذا قال : أنا أكثرهم تابعاً .
والثاني : معناه أن الذي أوتيته لا يتطرق إليه تخييل بسحر وشبهة ، بخلاف معجزة غيري ، فإنه قد يخيل الساحر بشيء مما يقارب صورتها ، كما خيلت السحرة في صورة عصا موسى صلى الله عليه وسلم ، والخيال قد يروج على بعض العوام ، والفرق بين المعجزة والسحر والتخييل يحتاج إلى فكر ونظر، وقد يخطئ الناظر فيعتقدهما سواء .(1/49)
والثالث : معناه أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم ، ولم يشاهدها إلا من حضرها بحضرتهم ، ومعجزة نبينا صلى الله عليه وسلم القرآن المستمر إلى يوم القيامة ، مع خرق العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات ، وعجز الجن والإنس عن أن يأتوا بسورة من مثله ، مجتمعين أو متفرقين في جميع الأعصار ،مع إعتنائهم بمعارضته فلم يقدروا وهم أفصح القرون ، مع غير ذلك من وجوه إعجازه المعروفة ، والله أعلم .
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعاً )) علم من أعلام النبوة ، فإنه أخبر عليه السلام بهذا في زمن قلة المسلمين ، ثم من الله تعالى وفتح على المسلمين البلاد وبارك فيهم ، حتى انتهى الأمر واتسع الإسلام في المسلمين إلى هذه الغاية المعروفة ، ولله الحمد على هذه النعمة وسائر نعمه التي لا تحصى ، والله أعلم ))(1)
الدليل العاشر :
أخبر الله تبارك وتعالى أنه قد بعثه رحمة مهداة للعالمين ، كما قال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء : 107] .
ولهذا كان ( - صلى الله عليه وسلم - ) رؤوفاً رحيماً بأمته وقومه كما قال تبارك تعالى فيه { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة : 128] ، فكان يحب إسلامهم ويرجوا نجاتهم ، وهذا الخلق العظيم تراه يتجلى بأبهى صوره وأسمى حالاته من خلال النظر في الأمور التالية :
__________
(1) 76 ) صحيح مسلم بشرح النووي : كتاب الإيمان / باب وجوب الإِيمان برسالة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم إِلى جميع الناس ونسخ الملل بملة .(1/50)
1 ) كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وكما أخبر القرآن شديد الحرص على هداية قومه ، وفي نفسه رغبة شديدة أن يهتدوا وينقذوا أنفسهم من الخيبة والخسران الذي سيوقعون أنفسهم فيهما نتيجة إصرارهم وعنادهم وإعراضهم عن دعوة الحق ، حتى عاتبه ربه تبارك وتعالى على ذلك بقوله { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف : 6] ، وقوله { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [فاطر : 8] .
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في (( تيسير الكريم الرحمن : 646 )) :
(( ولما كان النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) حريصاُ على هداية الخلق ، ساعياً في ذلك أعظم السعي ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يفرح بهداية المهتدين ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين شفقة منه - صلى الله عليه وسلم - عليهم ورحمة بهم ، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء الذين لا يؤمنون بهذا القرآن .
كما قال في الأخرى (( لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين )) وقال (( فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ )) ، وهنا قال (( فلعلك باخع نفسك )) أي : مهلكها غماً وأسفاً عليهم ، وذلك أن أجرك قد وجب على الله ، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيراً لهداهم ، ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار ، فلذلك خذلهم فلم يهتدوا ، فإشغالك نفسك غماً وأسفاً عليهم ليس فيه فائدة لك .... )) أ . هـ
2 ) ويظهر أيضاً من خلال رده على ملك الجبال عند رجوعه من الطائف وما لاقاه من قسوة رد أهلها عليه ، حيث طلب منه أن يأذن له في أن يطبق على قومه المعاندين الأخشبين ، ولكنه ( - صلى الله عليه وسلم - ) أرجأهم لغاية يرجوها منهم ويحبها فيهم .(1/51)
فعن عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ أَنّ عَائِشَةَ زَوْجَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَدّثَتْهُ أَنّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : يَا رَسُولَ اللّهِ ! هَلْ أَتَىَ عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدّ مِنْ يَوْمِ أُحُد ٍ؟
فَقَال َ: (( لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ ، وَكَانَ أَشَدّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى أبْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلَىَ مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَىَ وَجْهِي ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلاّ بِقَرْنِ الثّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فَإذَا فِيهَا جِبْرِيلُ ، فَنَادَانِي فَقَالَ : إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ ، وَمَا رَدّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ .
قَالَ : فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلّمَ عَلَيّ ، ثُمّ قَالَ : يَا مُحَمّد ُ! إنّ اللّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَك َ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ ، فَمَا شِئْت َ؟ إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأخشبين )) . فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : (( بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ وَحْدَهُ ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً ))(1).
__________
(1) 77 ) رواه البخاري برقم : 3059 ، ومسلم بشرح النووي ( باب ما يلقى النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) من أذى الكفار والمنافقين ) واللفظ له .
( 78 ) رواه مسلم برقم : 1955 .(1/52)
بل تعدت رحمته ( - صلى الله عليه وسلم - ) ورأفته حتى بلغت إلى الحيوانات العجماء التي لا تملك من أمرها شيئاً ، حيث رَغَّبَ النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بالإحسان إليها ، كما حذَّر من عاقبة الإساءة إليها :
1) عن شداد بن أوس قال : ... ثنتان حفظتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ))(1).
2 ) روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( بينما رجل يمشي فاشتد عليه العطش ، فنزل بئراً فشرب منها ، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش ، فقال : لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي ، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ، ثم رقي فسقى الكلب ، فشكر الله له فغفر له )) .
قالوا : يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً ؟
قال : (( في كل كبد رطبة أجر )) .
3 ) عن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن مسعود ، عن أبيه قال :كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته ، فرأينا حُمَّرَةً معها فرخان فأخذنا فرخيها ، فجاءت الحمرة فجعلت تعرِّش ، فجاء النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : (( من فجع هذه بولدها ؟ رُدُّوا إليها ولدها ، ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال : (( من حرق هذه ؟ )) قلنا : نحن ، قال : (( إنه لا ينبغي أن يعذِّب بالنار إلاَّ رب النار )) .(2)
__________
(2) 79 ) أخرجه الحاكم في مستدركه برقم : 7599 وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وأبو داود في سننه برقم 2568 واللفظ له وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود : 3 / 55 .
( 80 ) أخرجه أبو داود في سننه برقم : 3873 ، والبيقهي في سننه برقم : 17783 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود : 4 / 7 .(1/53)
4 ) عن عبد الرحمن بن عثمان : أن طبيباً سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن ضِفدع يجعلها في دواء ، فنهاه النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قتلها ))(1).
5 ) عن عبد اللّه بن جعفر قال : أرْدَفِني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خلفه ذات يوم ، فأسرَّ إليَّ حديثاً لا أحدِّث به أحداً من الناس ، وكان أحبُّ ما استتر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لحاجته هَدَفاً أو حائش نخل ، قال فدخل حائطاً لرجل من الأنصار ، فإِذا جَمَلٌ ، فلما رأى النبيَّ صلى اللّه عليه وسلم حَنَّ وذرفت عيناه ، فأتاه النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم فمسح ذِفْرَاهُ فسكت ، فقال : (( من ربُّ هذا الجمل ؟ لمن هذا الجمل؟ )) . فجاء فتىً من الأنصار فقال : لي يا رسول اللّه ، فقال : (( أفلا نتَّقي اللّه في هذه البهيمة التي ملكك اللّه إياها ، فإِنه شكى إليَّ أنك تجيعه وتدئبه ))(2).
__________
(2) 81 ) أخرجه احمد في مسنده برقم : 6787 ، والحاكم في مستدركه برقم : 2485 وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود : 3 / 23 ، وصحيح الترغيب والترهيب برقم : 2269 .(1/54)
6 ) روى الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ قَال َ: كُسِفَتِ الشّمْسُ عَلَىَ عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرّ ، فَصَلّىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَصْحَابِهِ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ، حَتّىَ جَعَلُوا يَخِرّونَ ، ثُمّ رَكَعَ فَأَطَالَ ، ثُمّ رَفَعَ فَأَطَالَ ، ثُمّ رَكَعَ فَأَطَال َ، ثُمّ رَفَعَ فَأَطَالَ ، ثُمّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ، ثُمّ قَامَ فَصَنَعَ نَحْواً مِنْ ذَاكَ . فَكَانَتْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعَ سَجَدَاتٍ ، ثُمّ قَالَ : (( إِنّهُ عُرِضَ عَلَيَّ كُلّ شَيْءٍ تُولَجُونَهُ ، فَعُرِضَتْ عَلَيّ الْجَنّةُ حَتّىَ لَوْ تَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفاً أَخَذْتُهُ ( أَوْ قَالَ : تَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفاً) فَقَصُرَتْ يَدِي عَنْهُ ، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النّارُ ، فَرَأَيْتُ فِيهَا امْرَأَةً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تُعَذّبُ فِي هِرّةٍ لَهَا رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا ، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ ، وَرَأَيْتُ أَبَا ثُمَامَةَ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّار ِ.
وَإِنّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : إِنّ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ لاَ يَخْسِفَانِ إِلاّ لِمَوْتِ عَظِيمٍ ، وَإِنّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللّهِ يُرِيكُمُوهُمَا ، فَإِذَا خَسَفَا فَصَلّوا حَتّىَ تَنْجَلِيَ )) ، ورواه البخاري أيضاً عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما .
الدليل الحادي عشر :(1/55)
إنَّ الله تبارك وتعالى قد أخبر أنه أخذ العهد والميثاق من جميع الأنبياء والمرسلين فيما لو بُعث رسول الله محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) وهم أحياء ، فإنه لا يسعهم إلا نصرته ومتابعته ، كما قال تعالى { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } [آل عمران : 81] .
وعن جابر بن عبد الله ر ضي الله عنهما : أنَّ عمرَ بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتابٍ أصابهُ من بعضِ أهلِ الكتابِ ، فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فغضب فقال : (( أمتهوكون فيها يا أبن الخطاب ، والذي نفسي بيدهِ لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به ، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني ))(1).
قال أبن كثير : (( قال علي بن أبي طالب وأبن عمه أبن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق , لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به وينصرنه , وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه ... ))(2).
__________
(1) 82 ) أخرجه أحمد في مسند جابر بن عبد الله ، وأبن أبي شيبة في مصنفه برقم : 172 ، وحسَّنه الألباني في مشكاة المصابيح : 1 / 67 ، وقال : رواه أحمد والبيهقي في كتاب شعب الإيمان )) .
(2) 83 ) تفسير أبن كثير : 1 / 502 .(1/56)
قال علي بن أحمد الواحدي في (( الوجيز في تفسير الكتاب العزيز : 220 )) : (( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب )) ما هنا للشرط ، والمعنى : لئن آتيتكم شيئاً من كتاب وحكمة ، ومهما آتيتكم { ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به } ويريد بميثاق النبيين عهدهم ليشهدوا لمحمد عليه السلام أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله : { ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم } يريد محمداً { لتؤمنن به ولتنصرنه } أي : إن أدركتموه ، ولم يبعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد في محمد عليه السلام ، وأمره بأن يأخذ العهد على قومه ليؤمنن به ، ولئن بُعثَ وهم أحياء لينصرنه ، وهذا احتجاج على اليهود ، قوله : { أأقررتم } أي : قال الله للنبيين : أقررتم بالإيمان به والنصرة له { وأخذتم على ذلكم إصري } أي : قبلتم عهدي ؟ { قالوا أقررنا قال فاشهدوا } أي : على أنفسكم وعلى أتباعكم { وأنا معكم من الشاهدين } عليكم وعليهم .
الدليل الثاني عشر :
إنَّ الله تبارك وتعالى قد فضَّله على باقي الأنبياء والمرسلين ، حيث أعطاه أموراً لم تعطَ لغيره ، وأحلَّ له أشياء لم تُحل لسواه ، وهذا دليل على شرفه وفضله عليهم .
ففي الصحيحين : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال : (( أعطيتُ خمساً لم يعطهن أحد قبلي : نصرتُ بالرعب مسيرة شهر ، وجُعلتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأُحلتْ لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي ، وأُعطيتُ الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثتُ إلى الناس عامة )) .
ولمسلم : (( فُضِّلتُ على الأنبياء بستٍ : أُعطيتُ جوامعَ الكلمِ ونصرتُ بالرعبِ وأحلت لي الغنائم وجُعِلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأُرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون )) .(1/57)
وله عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : نصرت بالرعب على العدو ، وأوتيت جوامع الكلم ، وبينما أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض ، فوضعت في يدي )) .
وله أيضاً عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( فُضِّلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجُعلت لنا الأرض كلها مسجداً ، وجُعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء ، وذكر خصلة أخرى )) .
قال الإمام أبن حجر في (( فتح الباري : 1 / 605 )) : (( قوله : ( أُعطيت خمساً ) ومفهومه أنه لم يختصر بغير الخمس المذكورة ، لكن روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا فُضِّلت على الأنبياء بست فذكر أربعاً من هذه الخمس وزاد اثنتين كما سيأتي بعد .
وطريق الجمع أن يقال : لعله إطَّلع أولاً على بعض ما اختص به ، ثم إطلع على الباقي ، ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإشكال من أصله ، وظاهر الحديث يقتضي أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله وهو كذلك ، ولا يعترض بان نوحاً عليه السلام كان مبعوثاً إلى أهل الأرض بعد الطوفان ، لأنه لم يبقَ من كان مؤمناً معه وقد كان مرسلاً إليهم ، لأن هذا العموم لم يكن في أصل بعثته وإنما اتفق بالحادث الذي وقع وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس .
وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فعموم رسالته من أصل البعثة فثبت اختصاصه بذلك ، وأما قول أهل الموقف لنوح كما صح في حديث الشفاعة (( أنت أول رسول إلى أهل الأرض )) فليس المراد به عموم بعثته بل إثبات أولية إرساله ، وعلى تقدير أن يكون مراداً فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في عدة آيات على أن إرسال نوح كان إلى قومه ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم ....
قوله (( نصرت بالرعب )) زاد أبو أمامة : (( يقذف في قلوب أعدائي )) أخرجه أحمد .(1/58)
قوله (( مسيرة شهر )) مفهومه : أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة ولا في أكثر منها أما ما دونها فلا ، لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب : (( ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر )) فالظاهر اختصاصه به مطلقاً وإنما جعل الغاية شهراً ، لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه ، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق حتى لو كان وحده بغير عسكر ، وهل هي حاصلة لأمته من بعده فيه احتمال ...
قوله (( وجعلت لي الأرض مسجداً ... )) هذه الأمة أبيح لها في جميع الأرض إلا فيما تيقنوا نجاسته ، والأظهر ما قاله الخطابي : وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة كالبِيَع والصوامع ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ : (( وكان من قبلي إنما كانوا يصلون في كنائسهم )) وهذا نص في موضع النزاع فثبت الخصوصية ويؤيده ما أخرجه البزار من حديث بن عباس نحو حديث الباب وفيه : (( ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه ... وعلى التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض ...
قوله (( وأحلت لي الغنائم )) وللكشميهني : (( المغانم )) وهي رواية مسلم ، قال الخطابي :كان من تقدم على ضربين : منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم مغانم ، ومنهم من أذن له فيه لكن كانوا إذا غنموا شيئاً لم يحل لهم أن يأكلوه وجاءت نار فأحرقته ، وقيل المراد : أنه خص بالتصرف في الغنيمة يصرفها كيف يشاء ، والأول أصوب وهو إن من مضى لم تحل لهم الغنائم أصلا ...
وقوله (( أعطيت الشفاعة )) قال أبن دقيق العيد : الأقرب إن اللام فيها للعهد ، والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف ، ولا خلاف في وقوعها وكذا جزم النووي وغيره ، وقيل الشفاعة التي اختص بها أنه لا يرد فيما يسأل ، وقيل الشفاعة لخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، لأن شفاعة غيره تقع فيمن في قلبه أكثر من ذلك قاله عياض ، والذي يظهر لي أن هذه مراده مع الأولى ...(1/59)
وأما قوله (( وبعثت إلى الناس عامة )) فوقع في رواية مسلم : (( وبعثت إلى كل أحمر وأسود )) فقيل المراد بالأحمر العجم وبالأسود العرب ، وقيل الأحمر الأنس والأسود الجن ، وعلى الأول التنصيص على الأنس من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى لأنه مرسل إلى الجميع ، وأصرح الروايات في ذلك وأشملها رواية أبي هريرة عند مسلم : (( وأرسلت إلى الخلق كافة )) تكميل أول حديث أبي هريرة هذا فضلت على الأنبياء بست ، فذكر الخمس المذكورة في حديث جابر إلا الشفاعة ، وزاد الخصلتين وهما : (( وأعطيت جوامع الكلم وختم بي النبيون )) فتحصل منه ومن حديث جابر سبع خصال ، ولمسلم أيضا من حديث حذيفة : فضلنا على الناس بثلاث خصال جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وذكر خصلة الأرض ما تقدم قال وذكر خصلة أخرى وهذه الخصلة المبهمة بينها أبن خزيمة والنسائي : وهي (( وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش )) ، يشير إلى ما حطه الله عن أمته من الإصر وتحميل ما لا طاقة لهم به ورفع الخطأ والنسيان ، فصارت الخصال تسعاً ، ولأحمد من حديث علي : أعطيت أربعاً لم يعطهن أحد من أنبياء الله أعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعلت أمتي خير الأمم ، وذكر خصلة التراب فصارت الخصال اثنتي عشر خصلة ، وعند البزار من وجه آخر عن أبي هريرة رفعه : فضلت على الأنبياء بست غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ، وجعلت أمتي خير الأمم ، وأعطيت الكوثر ، وأن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ، وذكر اثنتين مما تقدم ، وله من حديث أبن عباس وفيه : فضلت على الأنبياء بخصلتين كان شيطاني كافراً فأعانني الله عليه فأسلم ، قال ونسيت الأخرى قلت فينتظم بهذا سبع عشرة خصلة ويمكن أن يوجد أكثر من ذلك لمن أمعن التتبع ... )) .
الدليل الثالث عشر :(1/60)
لقد جمع الله تبارك وتعالى له جميع الخصال الحميدة ، والصفات الجليلة التي أعطاها للأنبياء والمرسلين الذين من قبلة ، فما من خصلة كانت لنبي أو رسول إلا ولرسول الله محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) مثلها ، بل وأكمل منها :
1 ) إنَّ الناظر في كتاب الله العزيز يرى أنَّ الله تبارك وتعالى يخبر أنه قد أتخذ إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليلاً كما قال تعالى { وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [النساء : 125] ، وهذه صفة ثابتة له ، ولكنه لم ينفرد بها ، بل تعدت لنبينا محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، الذي أخبر الله تبارك وتعالى أنه قد أتخذه خليلاً أيضاً ، كما أتخذ إبراهيم خليلاً ، بل وله من صفة الخلة أعلاها وأسناها .
- فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : خطب رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) الناس وقال : (( إن الله خَيَّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ذلك العبد ما عند الله )) . قال : فبكى أبو بكر ، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خُيِّر ، فكان رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) هو الُمخير ، وكان أبو بكر أعلمنا .
فقال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) : (( إنَّ من أمَنَّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذاً خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر ، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر ))(1). ...
__________
(1) 84 ) رواه البخاري برقم : 3454 .(1/61)
وعن جندب رضي الله عنه قال : سمعت النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قبل أن يموت بخمس وهو يقول : (( إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليلاً ، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ، ولو كنت متخذ من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ، إني أنهاكم عن ذلك ))(1).
قال الإمام النووي في (( شرحه لصحيح مسلم : 3 / 158 )) : (( قال القاضي عياض رحمه الله تعالى : أصل الخلة الاختصاص والاستصفاء ، وقيل أصلها الانقطاع إلى من خاللت مأخوذ من الخلة وهي الحاجة ، فسُمي إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه قَصَر حاجته إلى ربه سبحانه وتعالى ، وقيل الخلة صفاء المودة التي توجب تخلل الإسرار ، وقيل معناها المحبة والإلطاف ، هذا كلام القاضي .
وقال أبن الأنباري : الخليل معناه المحب الكامل المحبة ، والمحبوب الموفي بحقيقة المحبة اللذان ليس في حبهما نقص ولا خلل .
قال الواحدي : هذا القول هو الاختيار ، لأن الله عز وجل خليل إبراهيم ، وإبراهيم خليل الله ، ولا يجوز أن يقال : الله تعالى خليل إبراهيم من الخلة التي هي الحاجة والله أعلم )) أ . هـ
وهذا يبطل قول من يقول أن الخلة لإبراهيم وهي صفة ملازمة له ، بينما المحبة صفة لمحمد (( عليهما الصلاة والسلام )) ، وهذا قول بعيد وغير سديد .
__________
(1) 85 ) رواه مسلم برقم : 532 .(1/62)
قال الإمام أبن أبي العز في (( شرح الطحاوية : 1 / 165 )) : (( ثبت له صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المحبة وهي الخلة كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً )) وقال : (( ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن )) والحديثان في الصحيح وهما يبطلان قول من قال : الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد ، فإبراهيم خليل الله ومحمد حبيبه ، وفي الصحيح أيضا : (( إني أبرأ إلى كل خليل من خلته )) والمحبة قد ثبتت لغيره قال تعالى : (( والله يحب المحسنين )) ، (( فإن الله يحب المتقين )) ، (( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين )) فبطل قول من خص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد ، بل الخلة خاصة بهما والمحبة عامة ، وحديث أبن عباس رضي الله عنهم الذي رواه الترمذي الذي فيه : (( إن إبراهيم خليل الله ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ))لم يثبت .
والمحبة مراتب :
أولها : العلاقة وهي تعلق القلب بالمحبوب .
والثانية : الإرادة وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه .
الثالثة : الصبابة وهي انصباب القلب إليه ، بحيث لا يملكه صاحبه كإنصباب الماء في الحدور .
الرابعة : الغرام وهي الحب اللازم للقلب ، ومنه الغريم لملازمته ومنه : (( إن عذابها كان غراماً )) .
الخامسة : المودة والود ، وهي صفو المحبة وخالصها ولبها قال تعالى : (( سيجعل لهم الرحمن وداً )) .
السادسة : الشغف وهي وصول المحبة إلى شغاف القلب .
السابعة : العشق : وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه ، ولكن لا يوصف به الرب تعالى ولا العبد في محبة ربه ، وإن كان قد أطلقه بعضهم ، واختلف في سبب المنع ، فقيل : عدم التوقيف ، وقيل غير ذلك ولعل امتناع إطلاقه : أن العشق محبة مع شهوة .
الثامنة : التَّتيُّم وهو بمعنى التعبد .
التاسعة : التعبد .(1/63)
العاشرة : الخلة وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه ، وقيل في ترتيبها غير ذلك وهذا الترتيب تقريب حسن ، لا يعرف حسنه إلا بالتأمل في معانيه .
وأعلم أن وصف الله تعالى بالمحبة والخلة هو كما يليق بجلال الله تعالى وعظمته كسائر صفاته تعالى ، وإنما يوصف الله تعالى من هذه الأنواع بالإرادة والود والمحبة والخلة حسبما ورد النص .
وقد اختلف في تحديد المحبة على أقوال نحو ثلاثين قولاً ، ولا تحد المحبة بحد أوضح منها فالحدود لا تزيدها إلا خفاء ، وهذه الأشياء الواضحة لا تحتاج إلى تحديد كالماء والهواء والتراب والجوع ونحو ذلك )) أ . هـ
2 ) وإذا كان موسى ( - صلى الله عليه وسلم - ) كلِّيم الله ، وهي صفة ثابتة له ، كما قال تعالى { وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } [النساء : 164] ، فكذلك رسول الله محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) كلِّيم الله ، بل وزاد عليه فيها ، فإذا كان موسى ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد كلَّمه ربه تبارك وتعالى وهو في الأرض ، فنبينا محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد كلَّمه ربه وهو في السماء السابعة في موضع يسمع فيه صريف الأقلام .
روى الإمام مسلم : أَنّ ابْنَ عَبّاسٍ وَأَبَا حَبّةَ الأَنْصَارِيّ رضي الله عنهما كَانَا يَقُولاَن ِ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : (( ثُمّ عَرَجَ بِي حَتّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوىً أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ )) .
قال أبن حجر في (( فتح الباري : 1 / 639 )) : (( قوله : حتى ظهرت أي ارتفعت و المستوى المصعد ، و صريف الأقلام بفتح الصاد المهملة تصويتها حالة الكتابة ، والمراد ما تكتبه الملائكة من أقضية الله سبحانه وتعالى )) .
قال أبن القيم في نونيته :
ومحمد صعد السماء وجاوز الـ *** ـسبع الطباق وجاز كل عنان(1/64)
3 ) وإذا كان عيسى ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد أحيا رجلاً ميتاً بإذن ربه ، فمحمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد أحيا الله به أجيالاً من الرمم .
ورحم الله القائل :
محمدٌ صفوة الباري ورحمتُه وبُغيةُ الله من خلق ومن نسمِ
أتيتَ والناسُ فوضى لا تمرُّ بهم إلا على صَنَم قد هام في صنمِ
والأرضُ مملوءةٌ جوراً مُسخَّرة لكل طاغية في الخلق محتكمِ
أخوك عيسى دعا مَيتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرممِ
بل أن محمداً أفضل الخليلين وأفضل الكلِّيمين على الإطلاق ، وليس هذا بقادح فيهما وفي مكانتهما ، فتقديمنا الفاضل على المفضول بالذكر أو الفضل لا يقدح في المفضول أبداً .
قال القحطاني في نونيته :
قلْ إنَّ خَيرَ الأنبياء محمد وأجلّ من يمشي على الكثبان
وكمال دين اللهِ شرع محمد صلى عليه منزل القرآن
وقد يقول قائل : كيف تُفضِّل بين الأنبياء والمرسلين والنبي محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) نفسه يقول كما في الصحيحين : (( لا تخيِّروني على موسى )) ، وهذا يقتضي أنهم كلهم سواء ، ولا يجوز لنا بحال من الأحوال أن نُفرق بينهم ؟
أقول : نعم قد قال النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) هذا ، ولكن المسألة بحاجة إلى تفصيل وبيان ودونك هو :
أولاً : ففيما يخص أصل الإيمان بهم ، فكلهم سواء ، نؤمن بهم جميعاً ، ولا نفرق بينهم ، ولا نكفر برسالة واحد منهم كما أمرنا الله تبارك وتعالى بذلك ، قال تعالى { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [البقرة : 285] .
كما أن الإيمان بالرسل والنبيين وعدم التفريق بينهم ركن من أركان الإيمان الستة كما جاء في حديث جبريل المشهور .
قال أبن القيم في نونيته :(1/65)
وأخص أهل الذكر بالرحمن أعـ *** ـلمهم بها ، هم صفوة الرحمن
وكذاك كان محمد وأبوه إبـ *** ـراهيم والمولود من عمران
وكذاك نوح وأبن مريم عندنا *** هم خير خلق الله من إنسان
لمعارف حصلت لهم بصفاته *** لم يؤتها أحد من الانسان
وهم أولو العزم الذي بسورة الأ *** حزاب والشورى أتوا ببيان
وكذلك القرآن مملوء من الأ *** وصاف ، وهي القصد بالقرآن
ثانياً : أما من ناحية تفضيلنا بعضهم على بعض فهذه ثابتة بنص القرآن ، حيث أخبر تبارك وتعالى أنه قد فَضَّل بعض الرسل على بعض كما قال تعالى { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } [البقرة : 253] ، وقال { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [الإسراء : 55] .
ثالثاً : إن التفضيل المذموم الذي جاء النهي عنه هو ما كان على وجه الحمية والعصبية ، أو هوى النفس والفخر ، أو كان على وجه الانتقاص .
رابعاً : إنَّ الحديث الشريف الذي أُحتج به له سبب ورود ، ولا يخفى على أحد ممن رزقه الله علماً وفقهاً ما لمعرفة سبب الورود من أهمية وفائدة .
قال الإمام أبن أبي العز في (( شرح الطحاوية : 1 / 159 )) : (( الجواب : أن هذا كان له سبب فإنه كان قد قال يهودي : لا والذي اصطفى موسى على البشر فلطمه مسلم وقال : أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ؟(1/66)
فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا ، لأن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذموماً ، بل نفس الجهاد إذا قاتل الرجل حمية وعصبية كان مذموماً ، فإن الله حرَّم الفخر ، وقد قال تعالى : { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } وقال تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات } فعُلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر أو على وجه الانتقاص )) .
الدليل الرابع عشر :
إنَّ الناظر في كتاب الله العزيز يرى أن الله تبارك وتعالى وفي مواضع كثيرة قد قدَّمه بالذكر والفضل على جميع الأنبياء والمرسلين وهذا يدل على شرفه وفضله :
1 ) أما الذكر : قال تعالى { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [النساء : 163] .
وقال تعالى { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [الأحزاب : 7].
قال الإمام أبن كثير (( في تفسيره 3 / 619 )) : (( فبدأ في هذه الآية بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه , ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم )) .
2 ) وأما الفضل : فقد جمع الله تبارك وتعالى له الأنبياء والمرسلين وصلى بهم إماماً في بيت المقدس ليلة الإسراء والمعراج تأكيداً لشرفه وفضله عليهم ، أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها ، فكربتُ كربةً ما كربت مثله قط .(1/67)
قال فرفعهُ اللهُ لي أنظرُ إليه ، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به ، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلي ، فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة ، وإذا عيسى بن مريم عليه السلام قائم يصلي ، أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفي ، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم ( يعني نفسه ) فحانت الصلاة فأممتهم ،فلما فرغت من الصلاة قال قائل : يا محمد ! هذا مالك صاحب النار فسلم عليه ، فالتفت إليه فبدأني بالسلام )) .
الدليل الخامس عشر:
لقد حفظ الله تبارك وتعالى له دينه الحق ، من أن تمتد له يد التحريف أو التغيير ، أو يصاب بالاضمحلال و الإندراس وذلك من خلال :
1 ) حفظه تبارك وتعالى للقرآن الذي أوحاه إليه ، حيث تكفل بحفظه وصيانتة فلا يطرأ عليه زيادة أو نقصان أو تبديل أو تحريف ، قال تعالى { ِإنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر : 9] .
2 ) الوعد ببقاء طائفة على الحق منصورة لا يضرها من خالفها ولا من خذلها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، كما قال النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) : (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة )) [ رواه البخاري ] .
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في ((حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية 68 )) : (( وبما أن الله تعالى قد ختم به ( - صلى الله عليه وسلم - ) سلسلة الأنبياء والمرسلين ، وناط مسؤولية الدعوة والتبليغ وإتمام الحجة على الخلق بأمته ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، فكفل صيانة الدين عن طريقين :
الأول : أنه حفظ القرآن الكريم من كل تحريف أو تبديل ، ونقص أو زيادة ، حتى لا يحتاج العالم البشري في الاهتداء بهدي الله ، والاطلاع على الأوامر والنواهي الإلهية إلى نبي جديد .(1/68)
الثاني : أن الله سبحانه وتعالى جعل طائفة من أمة محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) لا تزال قائمة على الحق ، كما جاء في الأحاديث الصحيحة ، لكي يكون منهج هذه الطائفة في الحياة وعلمها وعملها أسوة دائمة ، ونبراساً وضَّاء لكل من ينشد الحق ، ويستضيء بنور الإسلام )) أ . هـ
3 ) الوعد بتجديد الدين ، حيث يبعث الله تبارك وتعالى لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها ، كما قال النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) : (( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس مائة عام من يجدد لها دينها )) .
قال العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني في (( سلسلة الأحاديث الصحيحة 2 / ح 599 )) : (( حديث صحيح )) وقال (( أشار الإمام أحمد إلى صحة الحديث ، وذكر الذهبي في سير الإعلام : قال أحمد من طرق عنه : إن الله يُقَيض للناس في رأس كل مائة من يعلمهم السنن ، وينفي عن رسول ( - صلى الله عليه وسلم - ) الكذب : قال فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز وفي رأس المائتين الشافعي )) .
الدليل السادس عشر:
جعل الله تبارك وتعالى الذل والصغار على كل من خالف أمره ، ورضي بدين غير دينه ، وأختار لنفسه منهجاً غير منهجه :
1 ) قال تعالى { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [النور : 63].(1/69)
قال الإمام أبن كثير في (( تفسيره : 3 / 409 )) : ((وقوله { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } أي عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته ، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله ، فما وافق ذلك قُبل ، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائناً من كان ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً { أن تصيبهم فتنة } أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة { أو يصيبهم عذاب أليم } أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك .... )) .
2 ) عن أبن عمر رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) : (( بُعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم ))(1).
__________
(1) 86 ) أخرجه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمر ، وأبن أبي شيبة في مصنفه باب الجهاد برقم 134، وصححه الشيخ الألباني في (( صحيح الجامع الصغير برقم : 2831 )).(1/70)
3 ) وفي صحيح الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَال َ: كَانَ مِنّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي النّجّارِ قَدْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَانْطَلَقَ هَارِباً حَتّىَ لَحِقَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ ، قَالَ: فَرَفَعُوهُ قَالُوا : هَذَا قَدْ كَانَ يَكْتُبُ لِمُحَمّدٍ فَأُعْجِبُوا بِهِ ، فَمَا لَبِثَ أَنْ قَصَمَ اللّهُ عُنُقَهُ فِيهِمْ ، فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ ، فَأَصْبَحَتِ الأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَىَ وَجْهِهَا ، ثُمّ عَادُوا فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ ، فَأَصْبَحَتِ الأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَىَ وَجْهِهَا ، ثُمّ عَادُوا فَحَفَرُوا لَهُ فَوَارَوْهُ ، فَأَصْبَحَتِ الأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَىَ وَجْهِهَا فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذاً .
الدليل السابع عشر:
أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز أنه هو وملائكته يصلون على النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) فقال سبحانه { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ } [الأحزاب : 56] .
وصلاة الله تبارك وتعالى على عبده هو الثناء عليه في الملأ الأعلى ، قال البخاري : قال أبو العالية : (( صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة, وصلاة الملائكة الدعاء ))(1).
ثم أمر أهل الأرض بأن يصلوا عليه ويسلموا تسليماً ، ليكتمل الثناء عليه عند أهل السماء وأهل الأرض كما قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } [الأحزاب : 56 ] .
قال القرطبي في (( تفسيره 14 / 104 )) : ((هذه الآية شرَّف الله بها رسوله عليه السلام حياته وموته ، وذكر منزلته منه وطهَّر بها سوء فعل من استصحب في جهته فكرة سوء أو في أمر زوجاته ونحو ذلك ....
قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه )) فيه خمس مسائل :
__________
(1) 87 ) أنظر تفسير أبن كثير : 3 / 668 .(1/71)
الأولى : قوله (( يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه )) أمر الله تعالى عباده بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم دون أنبيائه تشريفاً له ، ولا خلاف في أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة ، وفي كل حين من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفلها إلا من لا خير فيه .
فإن قلت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة أم مندوب إليها ؟ قلت : بل واجبة .(1/72)
وقد اختلفوا في حال وجوبها : فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره ، وفي الحديث : (( من ذُكِرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ فدخل النار فأبعده الله ))(1). وروي أنه قيل له : يا رسول الله أرأيت قول الله عز وجل : (( إن الله وملائكته يصلون على النبي )) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((هذا من العلم المكنون ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به إن الله تعالى وَكَّلَ بي ملكين فلا أُذكر عند مسلم فيصلي عليَّ إلا قال ذلك الملكان : غفر الله لك ، وقال الله تعالى وملائكته جواباً لذينك الملكين أمين ، ولا أُذكر عند عبد مسلم فلا يصلي عليَّ إلا قال ذلك الملكان لا غفر الله لك ، وقال الله تعالى وملائكته لذينك الملكين أمين ))(2).
__________
(1) 88 ) قطعة من حديث : عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال : (( آمين آمين آمين )) قيل يا رسول الله : إنك حين صعدت المنبر قلت آمين آمين آمين ، قال إن جبريل : (( أتاني فقال من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين ، فقلت : آمين ، ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين ، فقلت آمين ، ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت آمين )) أخرجه أبن حبان واللفظ له برقم : 907 ، وأحمد في مسنده برقم : 5922 ، والحاكم في مستدركه وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وصححه الألباني في الترغيب والترهيب برقم : 2491 ، وصحيح الجامع الصغير برقم : 75 ، ومشكاة المصابيح برقم : 4044 .
(2) 89 ) هذا اللفظ الذي أورده الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسيره لم أجد له تخريجاً في كتب الحديث المعتمدة ، على الرغم من تعقبي له وبحثي عنه ، وكذلك لم يذكر أي تخريج له يمكن أن نقف عنده ، ولم يعزه لأحد فليعلم !!! وفوق ذلك فقد صَدَّر الحديث بصيغة التمريض ( روي ) ، ولعله رحمه الله قد رواه بالمعنى ، والله تعالى أعلم .(1/73)
ومنهم من قال : تجب في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره ، كما قال في آية السجدة وتشميت العاطس ، وكذلك في كل دعاء في أوله وأخره ومنهم من أوجبها في العمر ، وكذلك قال في إظهار الشهادتين ، والذي يقتضيه الاحتياط : الصلاة عند كل ذكر لَمَا ورد من الإخبار في ذلك .
الثانية : واختلفت الآثار في صفة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فروى مالك عن أبي مسعود الأنصاري قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد : أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك ؟
قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ، ثم قال رسول الله صلى : (( قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم )) ، ورواه النسائي عن طلحة مثله بإسقاط قوله : ( في العالمين ) وقوله : ( والسلام كما قد علمتم )(1)....
قال أبو عمر : روى شعبة والثوري عن الحكم ابن عبد الرحمن بن أبن ليلى عن كعب بن عجرة قال لما نزل قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً )) جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة ؟
فقال : (( قل اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ))(2)....
__________
(1) 90 ) أخرجه الإمام أحمد في مسند الأنصار عن أبي مسعود الأنصاري ، والترمذي برقم : 3273 ، صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود : 1 / 258 ، وصحيح جامع الترمذي : 5 / 359 .
(2) 91 ) أخرجه البخاري برقم : 4519 .(1/74)
الثالثة : في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشراً ))(1)، وقال سهل بن عبد الله : الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم أفضل العبادات لأن الله تعالى تولاها هو وملائكه ثم أمر بها المؤمنين ، وسائر العبادات ليس كذلك .
قال أبو سليمان الداراني : من أراد أن يسأل الله حاجةً فليبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل الله حاجته ، ثم يختم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تعالى يقبل الصلاتين ، وهو أكرم من أن يرد ما بينهما .
__________
(1) 92 ) قطعة من حديث عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنّهُ سَمِعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : (( إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمّ صَلّوا عَلَيّ، فَإِنّهُ مَنْ صَلّى عَلَيّ صَلاَةً صَلّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً ، ثُمّ سَلُوا الله لِي الْوَسِيلَةَ، فَإِنّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنّةِ لاَ تَنْبَغِي إِلاّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ الله، وَأَرْجُو أَنْ= =أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلّتْ له الشّفَاعَةُ )). [ أنظر صحيح مسلم بشرح النووي : باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه ثم يصلي على النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم يسأل الله له الوسيلة ] .(1/75)
وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي عنه أنه قال : الدعاء يحجب دون السماء حتى يُصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاءت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رفع الدعاء ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من صلى عليَّ وسلم عليَّ في كتاب لم تزل الملائكة يصلون عليه ما دام اسمي في ذلك الكتاب ))(1).
الرابعة : واختلف العلماء في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، فالذي عليه الجم الغفير والجمهور الكثير: أن ذلك من سنن الصلاة ومستحباته ، قال أبن المنذر : يستحب ألا يصلي أحد صلاة إلا صلى الله عليه وسلم فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزية في مذاهب مالك وأهل المدينة وسفيان الثوري وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم ، وهو قول جل أهل العلم . وحكي عن مالك وسفيان أنها في التشهد الأخير مستحبة ، وأن تاركها في التشهد مسيء وشذ الشافعي فأوجب على تاركها في الصلاة الإعادة وأوجب إسحاق الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان .
__________
(1) 93 ) حديث موضوع وفيه ( يستغفرون ) بدل يصلون أنظر : ( ضعيف الترغيب والترهيب برقم 76 : للشيخ الألباني وقال : موضوع ، وقال في سلسلة الأحاديث الضعيفة 3316 : ضعيف جداً ).(1/76)
وقال أبو عمر : قال الشافعي إذا لم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير بعد التشهد وقبل التسليم أعاد الصلاة ، قال : وإن صلى الله عليه وسلم عليه قبل ذلك لم تجزه ، وهذا قول حكاه عنه حرملة بن يحيى ، لا يكاد يوجد هكذا عن الشافعي إلا من وراية حرملة عنه ، وهو من كبار أصحابه الذين كتبوا كتبه ، وقد تقلده أصحاب الشافعي ومالوا إليه وناظروا عليه ، وهو عندهم تحصيل مذهبه ، وزعم الطحاوي : أنه لم يقل به أحد من أهل العلم غيره ، وقال الخطابي وهو من أصحاب الشافعي : وليست بواجبة في الصلاة وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي ، ولا أعلم له فيها قدوة ، والدليل على أنها ليست من فروض الصلاة عمل السلف الصالح قبل الشافعي وإجماعهم عليه ، وقد شنع عليه في هذه المسألة جداً . وهذا تشهد أبن مسعود الذي اختاره الشافعي وهو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك كل من روى التشهد عنه صلى الله عليه وسلم . وقال أبن عمر : فإن أبو بكر يعلمنا الشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكُتاب ، وعلمه أيضاً على المنبر عمر ، وليس فيه ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.(1/77)
الخامسة : قوله تعالى : (( وسلموا تسليماً )) قال القاضي أبو بكر بن بكير: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فأمر الله أصحابه أن يسلموا عليه ، وكذلك من بعدهم أُمروا أن يسلموا عليه عند حضورهم قبره وعند ذكره ، وروى النسائي عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشر يرى في وجهه فقلت : إنا لنرى البشرى في وجهك ! فقال : (( إنه أتاني الملك فقال يا محمد إن ربك يقول أما يرضيك إنه لا يصلي عليك أحد إلا صليت عليه عشراً ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشراً ))(1).
وعن محمد بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( ما منكم من أحد يسلم عليَّ إذا مت إلا جاءني سلامه مع جبريل يقول يا محمد هذا فلان بن فلان يقرأ عليك السلام فأقول وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ))(2).
وروى النسائي عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام ))(3). قال القشيري : والتسليم قولك : سلام عليك )) أ . هـ
الدليل الثامن عشر:
__________
(1) 94 ) أخرجه أحمد في مسند المدنيين عن أبي طلحة الأنصاري ، والنسائي باب / فضل التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وحسَّنه الألباني في صحيح سنن النسائي : 3 / 44 .
(2) 95 ) لم أجد له تخريجاً في كتب الحديث المعتمدة فليعلم !!!.
(3) 96 ) أخرجه أحمد في مسنده برقم : 5213 عن عبد الله بن مسعود ، وأبن حبان في سننه برقم : 914 ، والنسائي باب : السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي : 3 / 43 ، وصحيح الجامع الصغير برقم : 2174 .(1/78)
أخبر الله تبارك وتعالى أن السماء قد حُرست بمبعثه ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وهذا الأمر لم يكن موجوداً قبل بعثته ، حيث كان الشياطين فيما مضى يرتقي بعضهم على بعض ليسترقوا من أخبار السماء ما شاء الله ، ومن ثَّم يقومون بقذفه في أسماع الكهنة والدجالين والسحرة ، ليزيدوا عليه بدورهم ما شاءوا وكيف شاءوا من كذبهم ودجلهم لينطلي على السذج من الناس ، فمُنعوا من ذلك ببعثة النبي محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) بأن حُرست السماء وحُفت من كافة أرجائها بالحرس والشهب المحرقة ، وطُردت الشياطين من مقاعدها التي كانت تقعد فيها ، وهذا من لطف الله تبارك وتعالى بخلقه ، ورحمته لعباده ، وحفظه لكتابه العزيز ، ومعجزة ظاهرة للنبي محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) تدلل على علو منزلته ومبلغ فضله وشرفه ، ولهذا قالت الجن { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } [الجن : 9] .
قال تبارك وتعالى في هذا الشأن { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِب * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِد * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِب *إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [الصافات : 10] .(1/79)
قال الإمام أبن كثير : (( يخبر تعالى عن الجن حين بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن , وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرساً شديداً وحفت من سائر أرجائها , وطُردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك لئلا يسترقوا شيئاً من القرآن , فيلقوه على ألسنة الكهنة فيلتبس الأمر ويختلط ولا يدرى من الصادق , وهذا من لطف الله تعالى بخلقه , ورحمته بعباده , وحفظه لكتابه العزيز , ولهذا قال الجن (( وأنا كنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشهباً * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ، فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً )) .
أي من يروم أن يسترق السمع يجد له شهاباً مرصداً له لا يتخطاه ولا يتعداه بل يمحقه اليوم ويهلكه ))(1).
وقال القرطبي : (( قوله تعالى : (( وأنا لمسنا السماء )) هذا من قول الجن ؛ أي طلبنا خبرها كما جرت عادتنا (( فوجدناها )) قد (( ملئت حرساً شديداً )) أي حفظة، يعني الملائكة .
والحرس : جمع حارس (( وشهباً )) جمع شهاب ، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراق السمع ، وقد مضى القول فيه في سورة "الحجر" "والصافات".
و (( وجد )) يجوز أن يقدر متعدياً إلى مفعولين ، فالأول الهاء والألف ، و ( ملئت ) في موضع المفعول الثاني ، ويجوز أن يتعدى إلى مفعول واحد ويكون "ملئت" في موضع الحال على إضمار قد . و(( حرساً )) نصب على المفعول الثاني "بملئت". و"شديداً " من نعت الحرس ، أي ملئت ملائكة شداداً ، ووجد الشديد على لفظ الحرس وهو كما يقال : السلف الصالح بمعنى الصالحين ، وجمع السلف أسلاف وجمع الحرس أحراس ؛ قال :
تجاوزت أحراساً وأهوال معشر .
ويجوز أن يكون (( حرساً )) مصدراً على معنى حرست حراسة شديدة .
__________
(1) 97 ) تفسير أبن كثير : 4 / 552 .(1/80)
قوله تعالى : (( وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ، فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً )) "منها" أي من السماء ، و(( مقاعد )) : مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء : يعني أن مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء حتى يلقوها إلى الكهنة على ما تقدم بيانه ، فحرسها الله تعالى حين بعث رسوله بالشهب المحرقة ، فقالت الجن حينئذ : (( فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً )) يعني بالشهاب : الكوكب المحرق وقد تقدم بيان ذلك .
ويقال : لم يكن انقضاض الكواكب إلا بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وهو آية من آياته ، واختلف السلف هل كانت الشياطين تقذف قبل المبعث ، أو كان ذلك أمراً حدث لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال الكلبي وقال قوم : لم تكن تحرس السماء في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه : خمسمائة عام ، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها وحرست بالملائكة والشهب .
قلت : ورواه عطية العوفي عن أبن عباس ذكره البيهقي. وقال عبد الله بن عمر : لما كان اليوم الذي نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُنعت الشياطين ، ورموا بالشهب ، وقال عبد الملك بن سابور : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء ، ورميت الشياطين بالشهب ، ومنعت عن الدنو من السماء .
وقال نافع بن جبير : كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب ونحوه عن أبي بن كعب قال : لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمي بها .
وقيل : كان ذلك قبل المبعث وإنما زادت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إنذاراً بحاله وهو معنى قوله تعالى : (( ملئت )) أي زيدَ في حرسها ؛ وقال أوس بن حجر وهو جاهلي :(1/81)
فانقض كالدري يتبعه نقع يثور تخاله طنبا(1)) أ . هـ
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم :
أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قُضي في السماء ، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه ، فتوحيه إلى الكهان ، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم )) .
وللبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كالسلسلة على صفوان - قال علي وقال غيره : صفوان ينفذهم ذلك - فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ، قالوا للذي قال : الحق وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترقوا السمع ، ومسترقوا السمع هكذا واحد فوق الآخر - ووصف سفيان بيده وفرَّج بين أصابع يده اليمنى نصبها بعضها فوق بعض - فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه ، وربما لم يدركه حتى يرمي بها الذي يليه ، إلى الذي هو أسفل منه، حتى يلقوها إلى الأرض - وربما قال سفيان : حتى تنتهي إلى الأرض - فتلقى على فم الساحر فيكذب معها مائة كذبة فيصدق فيقولون : ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدنا حقا ؟ للكلمة التي سمعت من السماء )) .
قال الإمام أبن حجر في (( فتح الباري : 9 / 513 )) : (( قوله : ومسترق السمع في رواية علي عند أبي ذر ومسترق بالإفراد وهو فصيح .
__________
(1) 98 ) تفسير القرطبي : 19 / 6 .(1/82)
قوله : هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان أي بن عيينة بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه أي فرَّق ، وفي رواية علي : ووصف سفيان بيده ففرج بين أصابع يده اليمني نصبها بعضها فوق بعض ، وفي حديث أبن عباس عند أبن مردويه : كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يسمعون منه الوحي يعني يلقيها زاد على عن سفيان حتى ينتهي إلى الأرض فيلقى قوله على لسان الساحر أو الكاهن في رواية الجرجاني على لسان الآخر بدل الساحر وهو تصحيف وفي رواية على الساحر والكاهن وكذا قال سعيد بن منصور عن سفيان .
قوله (( فربما أدرك الشهاب الخ )) يقتضي أن الأمر في ذلك يقع على حد سواء والحديث الآخر يقتضي أن الذي يسلم منهم قليل بالنسبة إلى من يدركه الشهاب ، ووقع في رواية سعيد بن منصور عن سفيان في هذا الحديث : فيرمى هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى يلقى على فم ساحر أو كاهن .
قوله (( فيكذب معها مائة كذبة فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ... )) .
الدليل التاسع عشر :
لقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز أنه قد زكَّى النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وطَهَّره في بعضه وفي كُله على حد سواء :
أما بعضه :
1 ) فقد زكَّاه في بصره فقال عز وجل { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } [النجم : 17] .
2 ) وزكاه في صدقه وطهارة فؤاده فقال { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } [النجم : 11].
3 ) وزكاه في علمه ومعلمه فقال { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } [النجم : 5] .
4 ) وزكاه في نطقه فقال { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } [النجم : 3] .
5 ) وزكاه في حلمه فقال { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة : 128] .
6 ) وزكاه في عقله وقلبه فقال { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } [النجم : 2] .(1/83)
ومن المعلوم إنَّ الأمراض التي من الممكن أن تصيب القلوب هي (( مرض الجهل والغي فإن الجهل مرض شفاؤه العلم والهدى ، والغي مرض شفاؤه الرشد وقد نزه الله سبحانه نبيه عن هذين الداءين فقال تعالى : (( والنجم إذا هوى ما ضلَّ صاحبكم وما غوى )) [ النجم : 1 ] ووصف رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم خلفاءه بضدهما فقال : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ... ))(1).
ثم نرى أن الله تبارك وتعالى قد زكاه كله فقال { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم : 4] .
الدليل العشرين :
وهذا أمر آخر يدلل على علو منزلة المصطفى ( - صلى الله عليه وسلم - ) عند ربه تبارك وتعالى ، فلما أبطأ نزول الوحي على رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) أياماً ذوات عدد وجدت قريش في ذلك منفذاً لها للطعن في رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) والنيل منه ، فقالت في تشفٍ وانتقاص : أن محمداً قد تركه ربه وقلاه ، فأنزل الله تبارك وتعالى قوله { وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [الضحى : 1 ـ 5] . مكذباً به ما ادعته قريش ومبطلاً ما أرادت الوصول إليه .
أخرج الإمام البخاري عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : احتبس جبريل صلى الله عليه وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت امرأة من قريش : أبطأ عليه شيطانه ، فنزلت : {والضحى والليل إذا سجى ، ما ودعك ربك وما قلى} أ .هـ
ولو نظرنا في السورة الكريمة لرأينا فيها عدة فوائد منها :
الأولى : أبتدئها الله تبارك وتعالى في معرض رده على افتراءات قريش بقسمين :
1 ) قوله (( والضحى )) فالواو هي واو القسم والقاسم هو الله تبارك وتعالى والمقسم به هو الضحى .
__________
(1) 99 ) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان : 1 / 16 لأبن القيم(1/84)
والضحى : هو أول النهار أو كله ، كما قال تعالى حيث قابل الضحى بالليل { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [الأعراف : 98] .
{ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى } [طه : 59] .
قال البغوي في (( تفسيره : 5 / 453 )) : (( والضحى : أقسم بالضحى وأراد به النهار كله بدليل أنه قابله بالليل فقال (( والليل إذا سجى )) نظيره قوله : (( أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً )) [ الأعراف- 98 ] أي نهارا ً.
وقال قتادة ومقاتل : يعني وقت الضحى وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس واعتدال النهار في الحر والبرد والصيف والشتاء )) أ . هـ
2 ) قوله (( والليل إذا سجى )) قال الحسن : أقبل بظلامه وهي رواية العوفي عن أبن عباس ، وقال الوالبي عنه : إذا ذهب ، قال عطاء والضحاك : غطى كل شيء بالظلمة ، وقال مجاهد : استوى ، وقال قتادة وأبن زيد : سكن واستقر ظلامه فلا يزداد بعد ذلك يقال : ليل ساج وبحر ساج إذا كان ساكناً(1)) .
الثانية : ثم أتبع الله تبارك وتعالى القسمين بنفيين هما :
1 ) قوله (( مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ )) أي ما تركك منذ اختارك .
2 ) قوله (( وَمَا قَلَى )) أي ما أبغضك منذ أحَبَك ، والقلا هو البغض الشديد ومنه قول الشاعر :
وكنتُ إذا ما مَلَّني صاحبي ولم أرَ في ودهِ مطمعا
غسلتُ بماء القلا شخصه و كَبَّرتُ من فوقهِ أربعا
وإنْ قال الناسُ صِلْ حبله أقلْ أنَّ من مات لن يرجعا
الثالثة : ثم أتبع الله تبارك وتعالى القسمين والنفيين بمثبتين يتضمنان البشائر والعطايا والمنح هما :
__________
(1) 100 ) تفسير البغوي : 5 / 454 .(1/85)
1 ) قوله (( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى )) أي وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا وأعظمهم لها إطراحاً كما هو معلوم بالضرورة من سيرته ، ولما خُيِّر عليه السلام في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة وبين الصيرورة إلى الله عز وجل اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله هو أبن مسعود قال : اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر في جنبه فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه وقلت : يا رسول الله ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئاً ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مالي وللدنيا ، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ثم راح وتركها ))(1)ورواه الترمذي وأبن ماجه من حديث المسعودي وقال الترمذي حسن صحيح ))(2)أ . هـ
2 ) قوله (( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى )) أي في الدار الاخرة يعطيه حتى يرضيه في أمته ، وفيما أعده له من الكرامة ، ومن جملته نهر الكوثر الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف وطينه مسك أذفر كما سيأتي ))(3).
الفائدة الرابعة : ثم أخذ الله تبارك وتعالى بذكر النعم التي مَنَّ بها على نبيه وخليله محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) كدلالة ربانية على عدم تركه وبغضه كما يزعمون :
__________
(1) 101 ) أخرجه الإمام أحمد في مسند في مسند عبد الله بن مسعود ، وأبن ماجة في سننه برقم : 4109 ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبن ماجة برقم 4109 ، صحيح الجامع الصغير برقم : 5669 ، والسلسلة الصحيحة برقم : 438 .
(2) 102 ) تفسير أبن كثير : 4 / 674 .
(3) 103 ) المصدر السابق : 4 / 674 .(1/86)
1 ) قوله (( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى )) أي : يقول تعالى ذكره معدداً على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم نعمه عنده ، ومذكره آلاءه قبله : ألم يجدك يا محمد ربك يتيماً فآوى يقول : فجعل لك مأوى تأوي إليه ومنزلاً تنزله(1).
2 ) قوله (( وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى )) أي : غافلاً عما يراد بك من أمر النبوة فهداك : أي أرشدك والضلال هنا بمعنى الغفله ، كقوله جل ثناؤه : (( لا يضل ربي ولا ينسى)) [ طه : 52 ] أي لا يغفل ، وقال في حق نبيه : (( وإن كنت من قبله لمن الغافلين)) [ يوسف : 3 ] .
وقال قوم : (( ضالاً )) لم تكن تدري القرآن والشرائع فهداك الله إلى القرآن وشرائع الإسلام ، عن الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما وهو معنى قوله تعالى : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان }(2)[ الشورى : 52 ]، على ما بينا في سورة الشورى وقال قوم : (( ووجدك ضالاً )) أي في قوم ضلال فهداهم الله بك ، هذا قول الكلبي والفراء ، وعن السدي نحوه : أي ووجد قومك في ضلال فهداك إلى إرشادهم .
__________
(1) 104 ) تفسير الطبري : 12 / 624 .
(2) 105 ) وهو قوله تعالى { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى : 52] .(1/87)
وقيل : ( ووجدك ضالاً ) عن الهجرة فهداك أليها وقيل : ( ضالاً ) أي ناسياً شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فأذكرك كما قال تعالى : (( أن تضل إحداهما )) [ البقرة : 282 ] وقيل : ووجدك طالباً للقبلة فهداك إليها بيانه : (( قد نرى تقلب وجهك في السماء )) [ البقرة : 144 ] الآية ويكون الضلال بمعنى الطلب ، لأن الضال طالب وقيل : ووجدك متحيراً عن بيان ما نزل عليك فهداك إليه ، فيكون الضلال بمعنى التحير لأن الضال متحير وقيل : ووجدك ضائعاً في قومك فهداك إليه ، ويكون الضلال بمعنى الضياع وقيل : ووجدك محباً للهداية فهداك إليها ، ويكون الضلال بمعنى المحبة ومنه قوله تعالى : (( قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم )) [ يوسف : 95 ] أي في محبتك , قال الشاعر :
هذا الضلال أشاب مني المفرقا ... والعارضين ولم أكن متحققا
عجباً لعزة في اختيار قطيعتي ... بعد الضلال فحبلها قد أخلقا(1)
3 ) قوله (( وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى )) أي : وجدك فقيراً فأغناك يقال منه : عال فلان يعيل عيلة وذلك إذا افتقر ومنه قول الشاعر :
فما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل
يعني : متى يفتقر(2).
الفائدة الخامسة : ثم أتبع الله تبارك وتعالى بعد ذلك عدة توصيات ، وصى بها نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - هي :
1 ) قوله (( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَر )) قال مجاهد : لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيماً ، وقال الفراء والزجاج : لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه ، وكذا كانت العرب تفعل في أمر اليتامى تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم .
__________
(1) 106 ) تفسير القرطبي : 20 / 87 .
(2) 107 ) تفسير الطبري : 12 / 624 .(1/88)
أخبرنا أبو بكر محمد عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود ، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن الخلال ، حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن أبي أيوب عن يحيى بن سليمان عن يزيد بن أبي عتاب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ، ثم قال بأصبعيه : أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وهو يشير بإصبعيه السبابة والوسطى(1))(2).
2 ) قوله (( وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَر )) أي لا تسلط عليه بالظلم ادفع إليه حقه ، واذكر يتمك ...
وعن مجاهد : (( فلا تقهر )) فلا تحتقر ، وقرأ النخعي والأشهب العقيلي (( تكهر )) بالكاف ، وكذا هو في مصحف أبن مسعود ، فعلى هذا يحتمل أن يكون نهياً عن قهره بظلمه وأخذ ماله ، وخص اليتيم لأنه لا ناصر له غير اللّه تعالى فغلظ في أمره ، بتغليظ العقوبة على ظالمه ، والعرب تعاقب بين الكاف والقاف ، النحاس : وهذا غلط ، إنما يقال كهره : إذا اشتد عليه وغلظ .
__________
(1) 108 ) الحديث بهذه الصيغة ضعيف السند أنظر : ضعيف الجامع الصغير برقم : 169 ، وضعيف سنن أبن ماجة برقم : 1213 ، وضعيف الأدب المفرد : 1 / 61 للشيخ الألباني وقال : ضعيف إلا جملة ( كافل اليتيم ) فهي صحيحة .
ولقد ورد الحديث بصيغة أخرى من طرق صحيحة وسليمة نحو : (( أنا وكافل اليتيم في الجنة وقرن بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام )) [ أنظر : صحيح سنن أبي داود : 4 / 338 ، وصحيح جامع الترمذي : 4 / 321 ] .
(2) 109 ) تفسير البغوي : 5 / 457 .(1/89)
وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي حين تكلم في الصلاة برد السلام قال : فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه - يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فواللّه ما كهرني ، ولا ضربني ولا شتمني ... الحديث ، وقيل : القهر الغلبة ، والكهر : الزجر .
ودلت الآية على اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه حتى قال قتادة : كن لليتيم كالأب الرحيم ، وروي عن أبي هريرة أن رجلاً شكا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قسوة قلبه
؛ فقال : (( إن أردت أن يلين فامسح رأس اليتيم وأطعم المسكين ))(1).
وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (( أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين )) وأشار بالسبابة والوسطى ، ومن حديث أبن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : (( إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن ، فيقول اللّه تعالى لملائكته : يا ملائكتي من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غَيَّبتُ أباه في التراب ، فتقول الملائكة ربنا أنت أعلم ، فيقول اللّه تعالى لملائكته : يا ملائكتي اشهدوا أن من أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة ))(2)فكان أبن عمر إذا رأى يتيماً مسح برأسه وأعطاه شيئاً .
وعن أنس قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (( من ضم يتيماً فكان في نفقته ، وكفاه مؤونته ، كان له حجاباً من النار يوم القيامة ، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة ))(3).
وقال أكثم بن صيفي : الأذلاء أربعة : النمام ، والكذاب ، والمديون ، واليتيم(4).
__________
(1) 110 ) أخرجه الإمام أحمد في مسند أبي هريرة ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم : 1410، والسلسلة الصحيحة برقم : 854 .
(2) 111 ) لم أجد له تخريجاً في كتب الأحاديث المعتمدة ، فليعلم .
(3) 112 ) لم أجد له تخريجاً في كتب السنة المعتمدة .
(4) 113 ) تفسير القرطبي : 20 / 88 .(1/90)
3 ) قوله (( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث )) أي أنشر ما أنعم اللّه عليك بالشكر والثناء والتحدث بنعم اللّه والاعتراف بها شكر .
وروى أبن أبي نجيح عن مجاهد : (( وأما بنعمة ربك )) قال بالقرآن ، وعنه قال : بالنبوة أي بلغ ما أرسلت به ، والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم والحكم عام له ولغيره . وعن الحسن بن علي رضي اللّه عنهما قال : إذا أصبت خيراً ، أو عملت خيراً فحدث به الثقة من إخوانك ، وعن عمرو بن ميمون قال : إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به، يقول له : رزق اللّه من الصلاة البارحة وكذا وكذا ، وكان أبو فراس عبد الله بن غالب إذا أصبح يقول : لقد رزقني اللّه البارحة كذا ، قرأت كذا ، وصليت كذا ، وذكرت اللّه كذا ، وفعلت كذا .
فقلنا له : يا أبا فراس إن مثلك لا يقول هذا ، قال يقول اللّه تعالى : (( وأما بنعمة ربك فحدث )) وتقولون أنتم : لا تحدث بنعمة اللّه ونحوه عن أيوب السختياني وأبي رجاء العطاردي رضي اللّه عنهم(1).
الدليل الحادي والعشرين :
لقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز أنه قد شرح له صدره ، ووضع عنه وزره ، ورفع له ذكره ، وغفر له ذنبه ، وأتم عليه النعمة ، وهداه صراطاً مستقيماً ، مما يدل دلالة واضحة على علو المنزلة التي يحظى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ربه جلَّ وعلا ، قال تعالى { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَك * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك * } [ الشرح : 4] .
وقال { لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [الفتح : 2] :
__________
(1) 114 ) المصدر السابق : 20 / 88 .(1/91)
1 ) قوله (( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك )) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مذكره آلاءه عنده وإحسانه إليه حاضاً له بذلك على شكره على ما أنعم عليه ، ليستوجب بذلك المزيد منه { ألم نشرح لك } يا محمد للهدى والإيمان بالله ومعرفة الحق { صدرك } فنلين لك قلبك ونجعله وعاء للحكمة(1).
2 ) قوله (( وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَك )) أي : حططنا عنك ذنبك ، وقرأ أنس (( وحللنا وحططنا )) ، قرأ أبن مسعود : (( وحللنا عنك وقرك )) هذه الآية مثل قوله تعالى : (( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر )) [ الفتح : 2 ] قيل : الجميع كان قبل النبوة .
والوزر : الذنب أي وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية لأنه كان النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من مذاهب قومه وإن لم يكن عبد صنماً و لا وثناً ، قال قتادة و الحسن والضحاك : كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ذنوب أثقلته فغفرها الله له .
وقوله (( الذي أنقض ظهرك )) : أي أثقله حتى سمع نقيضه أي صوته ، وأهل اللغة يقولون : أنقض الحمل ظهر الناقة : إذا سمعت له صريراً من شدة الحمل ، وكذلك سمعت نقيض الرحل أي صريره(2).
3 ) قوله (( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَك )) قال مجاهد : لا أُذكر إلا ذُكرت معي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، وقال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
__________
(1) 115 ) تفسير الطبري : 12 / 626 .
(2) 116 ) تفسير القرطبي : 12 / 97 .(1/92)
وقال أبن جرير : حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( أتاني جبريل فقال : إن ربي وربك يقول كيف رفعت ذكرك ؟ قال : الله أعلم قال : إذا ذُكرتُ ، ذكرتَ معي ))(1)وكذا رواه أبن أبي حاتم عن يونس عن عبد الأعلى به ، ورواه أبو يعلى من طريق أبن لهيعة عن دراج وقال أبن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا أبو عمر الحوضي حدثنا حماد بن زيد حدثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن أبن عباس قال : (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سألت ربي مسألة وددت أني لم أسأله قلت : قد كان قبلي أنبياء منهم من سخرت له الريح ، ومنهم من يحيي الموتى قال : يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويتك ؟ قلت : بلى يا رب ، قال : ألم أجدك ضالاً فهديتك ؟ قلت : بلى يا رب ، قال : ألم أجدك عائلاً فأغنيتك ؟ .
قلت : بلى يا رب ، قال ألم أشرح لك صدرك ؟ ألم أرفع لك ذكرك ؟ قلت : بلى يا رب ))(2)....
قال حسان بن ثابت :
أغرٌ عليه للنبوةِ خَاتَمٌ ... من اللهِ من نورٍ يلوحُ ويشهَدُ
وضَمَّ الإلهُ أسمَ النبي إلى أسمهِ ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهدُ
وشق له من أسمهِ ليُجلَّهُ ... فذو العَرشِ محمودٌ وهذا محمدُ(3).
4 ) قوله (( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ )) .
قال البغوي : (( قيل: اللام في قوله : (( ليغفر )) لام كي معناه : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح ، وقال الحسين بن الفضل : هو مردود إلى قوله : (( واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات )) [ محمد-19 ] ،
((
__________
(1) 117 ) ضعيف أنظر : ضعيف الجامع الصغير برقم : 71 ، وسلسلة الأحاديث الضعيفة : برقم : 1746 .
(2) 118 ) حديث صحيح أنظر : سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم : 2538 .
(3) 119 ) تفسير أبن كثير : 4 / 677 .(1/93)
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر )) و (( ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات )) الآية ، وقال محمد بن جرير : هو راجع إلى قوله : (( إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً * فسبح بحمد ربك واستغفره )) [ النصر-1-3 ] ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك في الجاهلية قبل الرسالة ، وما تأخر إلى وقت نزول هذه السورة ، وقيل : (( ما تأخر )) مما يكون ، وهذا على طريقة من يُجَوِّز الصغائر على الأنبياء .
وقال سفيان الثوري : (( ما تقدم )) مما عملت في الجاهلية ، (( وما تأخر )) : كل شيء لم تعمله ، ويذكر مثل ذلك على طريق التأكيد ، كما يقال أعطى من رآه ومن لم يره وضرب من لقيه ومن لم يلقه ، وقال عطاء الخراساني : (( ما تقدم من ذنبك )): يعني ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك ، (( وما تأخر )) ذنوب أمتك بدعوتك .
(( ويتم نعمته عليك )) ، بالنبوة والحكمة .
(( ويهديك صراطاً مستقيماً )) ، أي يثبتك عليه ، والمعنى ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى الصراط المستقيم وهو الإسلام . وقيل : ويهديك أي يهدي بك ))(1).
الدليل الثاني و العشرين :
لقد خلق الله تبارك وتعالى الخلق جميعاً ، ولكنه لم يخلق خلقاً أكرم عليه من رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به ملجماً مسرجاً ، فاستصعب عليه ، فقال له جبرئيل : أبمحمد تفعل هذا ؟ ، فما ركبك أحد أكرم على الله منه ، قال : فارفض عرقاً ))(2).
__________
(1) 120 ) تفسير البغوي : 4 / 297 .
(2) 121 ) خرجه الترمذي في جامعه برقم : 5138 ، وصححه العلامة الألباني في : صحيح جامع الترمذي : 5 / 301 .(1/94)
قال محمد بن عبد الرحمن المباركفوري في (( تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي : 8 / 419 )) : (( قوله : ( أُتى بالبراق ) بضم الموحدة وتخفيف الراء مشتق من البريق ، فقد جاء في لونه أنه أبيض ، أو من البرق لأنه وصفه بسرعة السير ، أو من قولهم شاة برقاء إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سود ، ولا ينافيه وصفه في بعض الأحاديث بأن البراق أبيض ، لأن البرقاء من الغنم معدودة في البياض .
( ليلة أسرى ) بصيغة الماضي المجهول من الإسراء ( به ) أي : بالنبي صلى الله عليه وسلم .
( ملجماً ) اسم مفعول من الإلجام قال في القاموس : ألجم الدابة ألبسها اللجام وهو ككتاب فارسي معرب .
( مسرجاً ) اسم مفعول من الإسراج ، يقال : أسرجت الدابة إذا شددت عليها السرج .
( فاستصعب عليه ) أي صار البراق صعباً على النبي صلى الله عليه وسلم .
( أبمحمد ) صلى الله عليه وسلم والهمزة للإنكار ، ( تفعل هذا ) أي الاستصعاب .
( فما ركبك أحد أكرم على الله منه ) أي من محمد صلى الله عليه وسلم .
( فارفض عرقاً ) أي جرى عرقه وسال ، ثم سكن وانقاد وترك الاستصعاب .
الدليل الثالث العشرين :
لقد جعل الله تبارك وتعالى مدينته حَرَماً كمكة ـ حرسها الله ـ تكريماً وتشريفاً له ، فقد جاء في الصحيحين أحاديث كثيرة ما يثبت هذا الأمر ويؤكد حقيقته منها :
1 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه : أنه كان يقول : لو رأيت الظباء بالمدينة ترتع ما ذعرتها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما بين لابتيها حرام )) .
2 ) عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( المدينة حرم من كذا إلى كذا ، لا يقطع شجرها ، ولا يحدث فيها حدث ، من أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين )) .(1/95)
3 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( حرم ما بين لابتي المدينة على لساني )) ، قال : وأتى النبي صلى الله عليه وسلم بني حارثة فقال : (( أراكم يا بني حارثة قد خرجتم من الحرم ، ثم التفت فقال : بل أنتم فيه )).
4 ) عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن حنطب : أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر أخدمه ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً وبدا له أحد ، قال : (( هذا جبل يحبنا ونحبه ، ثم أشار بيده إلى المدينة قال : (( اللهم إني أحرم ما بين لابتيها ، كتحريم إبراهيم مكة ، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا )) .
قال أبن حجر في : (( فتح الباري : 4 / 118 )) : (( قوله : (( ما بين لابتيها )) : واللابتان : جمع لابة بتخفيف الموحدة وهي الحَرة وهي الحجارة السود ، وقد تكرر ذكرها في الحديث : ووقع في حديث جابر عند أحمد : (( وأنا أحرم المدينة ما بين حريتها )) ، فادعى بعض الحنفية أن الحديث مضطرب لأنه وقع في رواية (( ما بين جبليها )) وفي رواية (( ما بين لابتيها )) وفي رواية (( مأزميها )) وتعقب بان الجمع بينهما واضح ، وبمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة فإن الجمع لو تعذر أمكن الترجيح ، ولا شك أن رواية (( ما بين لابتيها )) أرجح لتوارد الرواة عليها ، ورواية (( جبليها )) لا تنافيها فيكون عند كل لابة جبل أو لابتيها من جهة الجنوب والشمال وجبليها من جهة الشرق والغرب وتسمية الجبلين في رواية أخرى لا تضر ، وأما رواية (( مأزميها )) فهي في بعض طرق حديث أبي سعيد والمأزم بكسر الزاي المضيق بين الجبلين وقد يطلق على الجبل نفسه .(1/96)
واحتج الطحاوي بحديث أنس في قصة أبي عمير (( ما فعل النغير )) قال : لو كان صيدها حراماً ما جاز حبس الطير ، وأُجيب باحتمال أن يكون من صيد الحل ، قال أحمد : من صاد من الحل ثم أدخله المدينة لم يلزمه إرساله لحديث أبي عمير ، وهذا قول الجمهور ، لكن لا يرد ذلك على الحنفية لأن صيد الحل عندهم إذا دخل الحرم كان له حكم الحرم ، ويحتمل أن تكون قصة أبي عمير كانت قبل التحريم ، واحتج بعضهم بحديث أنس في قصة قطع النخل لبناء المسجد ، ولو كان قطع شجرها حراماً ما فعله صلى الله عليه وسلم ، وتُعقب بان ذلك كان في أول الهجرة كما سيأتي واضحاً في أول المغازي ، وحديث تحريم المدينة كان بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من خيبر كما سيأتي في حديث عمرو بن أبي عمرو عن أنس في الجهاد وفي غزوة أحد من المغازي واضحاً .
وقال الطحاوي : يحتمل أن يكون سبب النهى عن صيد المدينة وقطع شجرها كون الهجرة كانت إليها ، فكان بقاء الصيد والشجر مما يزيد في زينتها ويدعو إلى ألفتها ، كما روى أبن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هدم آطام المدينة فإنها من زينة المدينة ، فلما انقطعت الهجرة زال ذلك وما قاله ليس بواضح لأن النسخ لا يثبت إلا بدليل ، وقد ثبت على الفتوى بتحريمها سعد وزيد بن ثابت وأبو سعيد وغيرهم كما أخرجه مسلم وقال أبن قدامة : يحرم صيد المدينة وقطع شجرها ، وبه قال مالك والشافعي وأكثر أهل العلم ، وقال أبو حنيفة : لا يحرم ، ثم من فعل مما حرم عليه فيه شيئاً أثم ولا جزاء عليه )) أ . هـ
الدليل الرابع و العشرين :
ومن منن الله تبارك وتعالى وكبير فضله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ منع الدجال من دخول مدينته فلا يدخلها تكريماً وتشريفاً له ، وفي الصحيحين أحاديث كثيرة تثبت هذا الأمر وتؤكده منها :(1/97)
1 ) عن أبي بكرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال ، لها يومئذ سبعة أبواب ، على كل باب ملكان )) .
2 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( على أنقاب المدينة ملائكة ، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال )) .
3 ) أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ليس من بلد إلا سيطأه الدجال ، إلا مكة والمدينة ، ليس له من نقابها نقب إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها ، ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات ، فيخرج الله كل كافر ومنافق )) . ...
4 ) عن أبن شهاب قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : أنَّ أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال :حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً طويلاً عن الدجال ، فكان فيما حدثنا به أن قال : (( يأتي الدجال وهو محرم عليه أن يدخل نقاب المدينة ، ينزل بعض السباخ التي بالمدينة ، فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس ، أو من خير الناس فيقول : أشهد أنك الدجال الذي حدثنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه ، فيقول الدجال : أرأيت إنْ قتلت هذا ثم أحييته هل تشكون في الأمر ؟. فيقولون : لا .
فيقتله ثم يحييه ، فيقول حين يحييه : والله ما كنت قط أشد بصيرة مني اليوم .
فيقول الدجال : أقتله فلا أسلط عليه )) .(1/98)
قال أبن حجر رحمه الله : (( والمسيح : بفتح الميم وتخفيف المهملة المكسورة وآخره حاء مهملة يطلق على الدجال وعلى عيسى بن مريم عليه السلام ..... وأُختلف في تلقيب الدجال بذلك فقيل لأنه ممسوح العين وقيل لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحاً لا عين فيه ولا حاجب ، وقيل لأنه يمسح الأرض إذا خرج ، وأما عيسى فقيل سمي بذلك لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن ، وقيل لأن زكريا مسحه ، وقيل لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا بريء ، وقيل لأنه كان يمسح الأرض بسياحته ، وقيل لأن رجله كانت لا أخمص لها وقيل للبسه المسوح .... ))(1)
وقال : قوله (( إلى أنقاب المدينة )) جمع نقب بفتح النون والقاف بعدها موحدة ، ووقع في حديث أنس وأبي سعيد اللذين بعده على نقابها جمع نقب بالسكون وهما بمعنى قال بن وهب المراد بها : المداخل ، وقيل الأبواب ، وأصل النقب الطريق بين الجبلين وقيل الأنقاب الطرق التي يسلكها الناس ومنه قوله تعالى (( فنقبوا في البلاد )) .
قوله (( ليس من بلد إلا سيطأه الدجال )) هو على ظاهره وعمومه عند الجمهور ، وشذ بن حزم : فقال المراد ألا يدخله بعثه وجنوده ، وكأنه استبعد إمكان دخول الدجال جميع البلاد لقصر مدته ، وغفل عما ثبت في صحيح مسلم أن بعض أيامه يكون قدر السنة .
قوله (( ثم ترجف المدينة )) أي يحصل لها زلزلة بعد أخرى ثم ثالثة ، حتى يخرج منها من ليس مخلصاً في إيمانه ، ويبقى بها المؤمن الخالص فلا يُسلط عليه الدجال ، ولا يعارض هذا ما في حديث أبي بكرة الماضي أنه لا يدخل المدينة رعب الدجال ، لأن المراد بالرعب ما يحدث من الفزع من ذكره ، والخوف من عتوه ، لا الرجفة التي تقع بالزلزلة لإخراج من ليس بمخلص ، وحمل بعض العلماء الحديث الذي فيه أنها تنفى الخبث على هذه الحالة دون غيرها ))(2).
الدليل الخامس و العشرين :
__________
(1) 122 ) فتح الباري : فتح 2 / 456 .
(2) 123 ) المصدر السابق : 4 / 137 .(1/99)
ثم منَّ عليه مرة أخرى فجعل تبارك وتعالى مسجده من المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها ، كما جعل الصلاة فيه تعدل ألف صلاة تكريماً وتشريفاً له ، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى )) .
وفي الصحيحين : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام )).
الدليل السادس و العشرين :
أعطاه الله تبارك وتعالى يوم الجمعة وهو خير يوم طلعت فيه الشمس ، وهو سيد الأيام ، وأعظمها قدراً عند الله تبارك وتعالى ، حيث هدى الله إليه محمداً وأمته دون باقي الأمم ، ففي صحيح الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، ونحن أول من يدخل الجنة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق ، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه ، هدانا الله له ( قال يوم الجمعة ) فاليوم لنا ، وغداً لليهود ، وبعد غد للنصارى )) .
وله أيضاً عن أبي هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، وهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فهم لنا فيه تبع ، فاليهود غداً ، والنصارى بعد غد )) .(1/100)
وعن أبي لبابة بن عبد المنذر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم (( إن يوم الجمعة سيد الأيام ، وأعظمها عند الله ، وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر ، فيه خمس خلال ، خلق الله فيه آدم ، وأهبط الله فيه آدم إلى الأرض ، وفيه توفى الله آدم ، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئاً إلا أعطاه ما لم يسأل حراماً ، وفيه تقوم الساعة ، ما من ملك مقرب ولا سماء ولا أرض ولا رياح ولا جبال ولا بحر إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة ))(1).
عن حذيفة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا ، فكان لليهود يوم السبت ، وكان للنصارى يوم الأحد ، فجاء الله بنا ، فهدانا الله ليوم الجمعة ، فجعل الجمعة والسبت والأحد ، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة ، نحن الآخرون من أهل الدنيا ، والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق )) ، وفي رواية واصل: المقضي بينهم ))(2).
القسم الثاني : أدلة الخصائص والمميزات الأخروية .
الدليل الأول :
هو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ، فعن أبي هُرَيْرَةَ قَال َ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : (( أَنَا سَيّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَأَوّلُ مَنْ يَنْشَقّ عَنْهُ الْقَبْرُ ، وَأَوّلُ شَافِعٍ وَأَوّلُ مُشْفّعٍ ))(3).
وخرَّج البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس جاء يهودي فقال : يا أبا القاسم ضرب وجهي رجل من أصحابك . فقال : من ؟ .
قال : رجل من الأنصار .
قال : ادعوه .
فقال : أضربته .
__________
(1) 124 ) أخرجه الإمام أحمد في مسند أبي لبابة بن عبد المنذر البدري ، وحسَّنه الألباني صحيح سنن أبن ماجة : 1 / 344 ، وصحيح الجامع الصغير برقم : 2279 .
(2) 125 ) أخرجه مسلم برقم : 856 .
(3) 126 ) أخرجه مسلم برقم : 2278 .(1/101)
قال : سمعته بالسوق يحلف : والذي اصطفى موسى على البشر ، قلت : أي خبيث على محمد صلى الله عليه وسلم ؟ فأخذتني غضبة ضربت وجهه .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق ، أم حوسب بصعقتة الأولى )) .
وله أيضاً : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : استب رجلان : رجل من المسلمين ، ورجل من اليهود ، قال المسلم : والذي اصطفى محمداً على العالمين .
فقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين ، فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي ، فذهب اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك فأخبره . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا تخيروني على موسى ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى باطش جانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي ، أو كان ممن استثنى الله )).
فائدة :
قال الإمام أبن أبي العز في (( الطحاوية : 2 / 164 )) : (( وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور ؟ .
وهذا صعق في موقف القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء وأشرقت الأرض بنوره فحينئذ يصعق الخلائق كلهم ، فإن قيل : كيف تصنعون بقوله في الحديث : (( إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الارض فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش ؟ )) .
قيل : لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا ، ومنه نشأ الإشكال ولكنه دخل فيه على الراوي حديثاً في حديث فركب بين اللفظين فجاء هذان الحديثان هكذا :(1/102)
أحدهما : (( أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق )) كما تقدم . والثاني : (( أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة )) فدخل على الراوي هذا الحديث في الآخر ، وممن نبه على هذا أبو الحجاج المزي وبعده الشيخ شمس الدين بن القيم وشيخنا الشيخ عماد بن كثير رحمهم الله ، وكذلك اشتبه على بعض الرواة فقال : [ فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل ] ؟ والمحفوظ الذي تواطأت عليه الروايات الصحيحة هو الأول ، وعليه المعنى الصحيح فإن الصعق يوم القيامة لتجلي الله لعباده إذا جاء لفصل القضاء ، فموسى عليه السلام إن كان لم يصعق معهم فيكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكا ، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضاً عن صعقة الخلائق لتجلي ربه يوم القيامة فتأمل هذا المعنى العظيم ولا تهمله )) .
الدليل الثاني :
هو سيد ولد آدم يوم القيامة ، وبيده لواء الحمد الذي يدخل كل الناس تحته ، فعن أَبي هُرَيْرَةَ قَال َ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : (( أَنَا سَيّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَأَوّلُ مَنْ يَنْشَقّ عَنْهُ الْقَبْرُ ، وَأَوّلُ شَافِعٍ وَأَوّلُ مُشْفّعٍ ))(1).
وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، وأنا أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر ، ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر ))(2). ...
__________
(1) 127 ) أخرجه مسلم برقم : 2278
(2) 128 ) أخرجه أبن ماجة برقم : 4308 ، والترمذي برقم : 3692 عن أبي سعيد الخدري ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبن ماجة برقم : 4308 ، وصحيح جامع الترمذي 5 /308 و صحيح الجامع الصغير برقم : 1468 .(1/103)
قال الإمام النووي : (( قوله صلى الله عليه وسلم : (( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع )) قال الهروي : السيد هو الذي يفوق قومه في الخير ، وقال غيره : هو الذي يفزع إليه في النوائب والشدائد فيقوم بأمرهم ويتحمل عنهم مكارههم ويدفعها عنهم .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (( يوم القيامة )) مع أنه سيدهم في الدنيا والاَخرة ، فسبب التقييد أن في يوم القيامة يظهر سؤدده لكل أحد ولا يبقى مناع ولا معاند ونحوه ، بخلاف الدنيا فقد نازعه ذلك فيها ملوك الكفار وزعماء المشركين ، وهذا التقييد قريب من معنى قوله تعالى : {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} مع أن الملك له سبحانه قبل ذلك، لكن كان في الدنيا من يدعي الملك أو من يضاف إليه مجازاً فانقطع كل ذلك في الآخرة .
قال العلماء : وقوله صلى الله عليه وسلم: (( أنا سيد ولد آدم )) لم يقله فخراً بل صرح بنفي الفخر في غير مسلم في الحديث المشهور: (( أنا سيد ولد آدم ولا فخر )) وإنما قاله لوجهين :
أحدهما : إمتثال قوله تعالى : {وأما بنعمة ربك فحدث}.
والثاني : أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته ليعرفوه ويعتقدوه ، ويعملوا بمقتضاه ، ويوقروه صلى الله عليه وسلم بما تقتضي مرتبته كما أمرهم الله تعالى ، وهذا الحديث دليل لتفضيله صلى الله عليه وسلم على الخلق كلهم ، لأن مذهب أهل السنة أن الآدميين أفضل من الملائكة وهو صلى الله عليه وسلم أفضل الآدميين وغيرهم .
وأما الحديث الآخر : (( لا تفضلوا بين الأنبياء )) فجوابه من خمسة أوجه :
أحدها : أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم فلما علم أخبر به. والثاني : قاله أدباً وتواضعاً .
والثالث : أن النهي إنما هو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص المفضول .(1/104)
والرابع : إنما نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة والفتنة كما هو المشهور في سبب الحديث(1).
والخامس : أن النهي مختص بالتفضيل في نفس النبوة فلا تفاضل فيها وإنما التفاضل بالخصائص وفضائل أخرى ولا بد من اعتقاد التفضيل فقد قال الله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض }.
قوله صلى الله عليه وسلم : (( وأول شافع وأول مشفع )) إنما ذكر الثاني لأنه قد يشفع اثنان فيشفع الثاني منهما قبل الأول والله أعلم .(2)
وقوله : (( وبيدي لواء الحمد ولا فخر )) قال الشيخ محمد بن عبد الرحمن المباركفوري في : (( تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي : 8 / 431 )) : (( قوله : ( لواء الحمد ) اللواء بالكسر وبالمد : الراية ، ولا يمسكها إلا صاحب الجيش قاله الجزري في النهاية .
قال الطيبي : لواء الحمد عبارة عن الشهرة وانفراده بالحمد على رؤوس الخلائق ، ويحتمل أن يكون لحمده لواء يوم القيامة حقيقة يسمى لواء الحمد ، وقال التوربشتي : لا مقام من مقامات عباد الله الصالحين أرفع وأعلى من مقام الحمد ، ودونه تنتهي سائر المقامات ، ولما كان نبينا سيد المرسلين أحمد الخلائق في الدنيا والآخرة أُعطى لواء الحمد ليأوى إلى لوائه الأولون والاَخرون ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : آدم ومن دونه تحت لوائي انتهى .
قلت : حمل لواء الحمد على معناه البيهقي هو الظاهر بل هو المتعين ، لأنه لا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة )) أ . هـ
قال أبن القيم في نونيته :
ولواؤهم بيد الرسول محمد *** والكل تحت لواء ذي الفرقان
الدليل الثالث : ...
هو صاحب المقام المحمود والشفاعة العظمى الذي يحمده فيه الأولون والآخرون : والأدلة على ثبوته لنبينا محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) كثيرة جداً منها :
__________
(1) 129 ) لقد مرَّ بنا آنفاً سبب ورود الحديث ص : 64 فليعلم .
(2) 130 ) صحيح مسلم بشرح النووي : كتاب الفضائل / باب تفضيل نبينا محمد على جميع الخلائق.(1/105)
1) قال تعالى { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [الإسراء : 79] .
قال البغوي في تفسيره (( 3 / 115 )) : (( قوله عز وجل : (( عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً )) عسى من الله تعالى واجب ، لأنه لا يدع أن يعطي عباده أو يفعل بهم ما أطمعهم فيه .
والمقام المحمود هو : مقام الشفاعة لأمته لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون : فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول : ثم صلوا علي ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً ، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة(1)) أ . هـ
2 ) عن آدم بن علي قال : سمعت أبن عمر رضي الله عنهما يقول : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا ، كل أمة تتبع نبيها يقولون : يا فلان اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود))(2).
3 ) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ، حَلَّت له شفاعتي يوم القيامة ))(3).
__________
(1) 131 ) أخرجه مسلم برقم : 384
(2) 132 ) أخرجه البخاري برقم : 4441 .
(3) 133 ) أخرجه البخاري : برقم 4442(1/106)
4 ) عن أنس رضي الله عنه : ... أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يُهمُّوا بذلك ، فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا ، فيأتون آدم فيقولون : أنت آدم أبو الناس ، خلقك الله بيده وأسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شئ لتشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا قال : فيقول : لست هناكم ، قال : ويذكر خطيئته التي أصاب : أكله من الشجرة وقد نهي عنها ، ولكن ائتوا نوحاً أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض ، فيأتون نوحاً فيقول : لست هناكم ، ويذكر خطيئته التي أصاب : سؤاله ربه بغير علم ، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن ، قال : فيأتون إبراهيم فيقول : إني لست هناكم ، ويذكر ثلاث كلمات كذبهنَّ ، ولكن ائتوا موسى : عبداً آتاه الله التوراة وكَلَّمهُ وقرَّبهُ نجيًّا ، قال: فيأتون موسى فيقول : إني لست هناكم ، ويذكر خطيئته التي أصاب : قتله النفس ، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله، وروح الله وكلمته ، قال : فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم ، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتوني فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت ساجداً ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، فيقول : ارفعْ محمد وقل يُسمع ، واشفع تُشَفَّع ، وسل تُعْطَ .(1/107)
قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، فيحد لي حداً ، فأخرج فأدخلهم الجنة - قال قتادة : وسمعته أيضاً يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة - ثم أعود فأستأذن على ربي في داره ، فيؤذن لي عليه ، فإذا رأيته وقعت ساجداً ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقول : ارفع محمد ، وقل يُسمع ، واشفع تُشَفَّع ْ، وسل تُعط ، قال : فأرفع رأسي فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، قال : ثم أشفع فيحد لي حداً ، فأخرج فأدخلهم الجنة - قال قتادة : وسمعته يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة - ثم أعود الثالثة ، فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت له ساجداً ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقول : ارفع محمد ، وقل يُسمع ، واشفع تُشَفَّع ، وسل تُعطَهْ ، قال : فأرفع رأسي ، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه ، قال : ثم أشفع فيحد لي حداً ، فأخرج فأدخلهم الجنة .
قال قتادة : وقد سمعته يقول : فأخرج فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة - حتى ما يبقى في النار إلا من حبسه القرآن ـ أي وجب عليه الخلود ـ قال : ثم تلا هذه الآية : {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}. قال : وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم ))(1).
قال أبن حجر في (( فتح الباري : 11 / 588 )) : (( والراجح أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة ، لكن الشفاعة التي وردت في الأحاديث المذكورة في المقام المحمود نوعان :
الأول : العامة في فصل القضاء .
والثاني : الشفاعة في إخراج المذنبين من النار )) أ . هـ
أقول : لقد خاض الناس في مسألة الشفاعة كثيراً ، ما بين مثبت لها أو منكر ، وحتى نستطيع أن نحيط علماً بها ، وندرك حقيقتها ، ومن يستحقها ، ومن يُحرم منها ، فلابد من تسليط الضوء على عدة مسائل واجبة المعرفة أهمها :
المسألة الأولى : تعريف الشفاعة .
__________
(1) 134 ) رواه البخاري برقم : 7002 .(1/108)
قال ابن الأثير في "النهاية": قد تكرر ذكر الشّفاعة في الحديث فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة ، وهي: السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم بينهم ، يقال : شفع يشفع شفاعةً فهو شافع وشفيع ، والمشفّع : الّذي يقبل الشّفاعة ، والمشفّع : الّذي تقبل شفاعته. اهـ
وفي "القاموس" و"تاج العروس": والشّفيع : صاحب الشّفاعة ، والجمع : شفعاء ، وهو : الطالب لغيره يتشفّع به إلى المطلوب.
وفيهما أيضًا : وشفّعته فيه تشفيعًا حين شفع -كمنع- شفاعةً ، أي قبلت شفاعته كما في "العباب"، قال حاتم يخاطب النعمان :
فككت عديًّا كلّها من إسارها ... فأفضلْ وشفّعني بقيس بن جحْدر
وفي حديث الحدود : (( إذا بلغ الحدّ السلطان فلعن الله الشافع والمشفّع )) .... ... ...
وأنشد الصغاني للأعشى :
تقول بنتي وقدْ قرَّبتُ مرتحلاً ... يا ربِّ جنّبْ أبي الأوصابَ والوجعا
واستشفعتْ من سراة الحيّ ذا شرف ... فقدْ عصاها أبوها والّذي شفعا
يريد : والذي أعان وطلب الشّفاعة فيها .
والمعاني الشرعية موافقة للمعاني اللغوية ، فمن الشّفعاء من يشفع ابتداء ً، ومنهم من يشفع بعد الطلب(1)) .
المسألة الثانية : الشفاعة مسألة كثيرة التفريع والتفصيل ، ولكننا يمكن أن نُأصِّلها بثلاث أصول هي :
الأول : أنها لا تطلب إلا من الله تبارك وتعالى ، قال تعالى { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ، لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [الزمر : 44] .
الثاني : أنها لا تكون إلا في الآخرة ، كما قال تعالى { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [البقرة : 255] .
الثالث : أنها تنقسم إلى قسمين :
__________
(1) 135 ) الشفاعة : 6 للشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله .(1/109)
1 ) شفاعة مثبَتة ، وهي ثابتة لأهل الإخلاص والتوحيد والمتابعة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ فقال : (( لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك ، لما رأيت من حرصك على الحديث ، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال : لا إله إلا الله ، خالصاً من قبل نفسه ))(1).
وهذه الشفاعة لا تقع إلا بشرطين أثنين :
الأول : إذن الله تعالى للشافع أن يشفع .
الثاني : رضاه عن المشفوع فيه .
وقد جُمِع هذان الشرطان في قوله سبحانه تعالى { وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى } [النجم : 26] .
2 ) شفاعة منفية : نفاها الله تبارك وتعالى عمن لا يستحقها ، قال تعالى { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِين * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُون *عَنِ الْمُجْرِمِين * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين *حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [المدّثر : 38 ـ 48] .
المسألة الثالثة : لقد أنكر الخوارج والمعتزلة الشفاعة في خروج أصحاب الكبائر من النار ، واستدلوا لذلك بنصوص عامة ، واغفلوا أعينهم عن نصوص أخرى تنقض ما يعرشون ، وقولهم هذا لمن تأمله وتصوره سيجد أنه تابع ومتمم لقولهم بتكفير أصحاب الكبائر والذنوب .
__________
(1) 136 ) أخرجه البخاري برقم : 6201 .(1/110)
فالخوارج والمعتزلة _ ومن شابههم وسار على منهجهم _ لما كفروا أصحاب الكبائر في الدنيا ، فإنهم أتْبَعوا ذلك بأن أنكروا شفاعة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) التي أدخرها لأصحاب الكبائر من أمته ، لأنهم إنْ أثبتوا الشفاعة للمذنبين والعصاة فإن هذا سينقض أصل عقيدتهم في أصحاب الذنوب من المسلمين ، فكيف يمكن الجمع بين إثبات الشفاعة وبين تكفيرهم لأصحاب الذنوب ، ولهذا لم يجدوا أسلم من أن يبقوا على أصلهم وينكروا الشفاعة التي تناقضه وتخالفه .
وقولهم هذا ظاهر الفساد والبطلان ، ونصوص الكتاب والسنة الصحيحة تشهد برده ودحضه .
قال الإمام أبن أبي العز : (( والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وغيره في أهل الكبائر ))(1).
وقال العلامة مقبل بن هادي الوادعي : (( الخوارج ينكرون شفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل الكبائر من أمته في خروجهم من النّار ، لأنّهم يرون أنّ مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار ، لذلك فهم يجدون أن إثبات هذه الشفاعة يخالف معتقدهم الفاسد ، فهم ينكرونها .
وكذلك المعتزلة تابعوا الخوارج على القول بتخليد أهل الكبائر من الموحدين في النار ، وتابعهم الشيعة على ذلك أيضًا .
وإثبات هذه الشفاعة فيه ردّ على المرجئة أيضًا ، لأن غلاة المرجئة يقولون : إنه لا يضرّ مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة .
وهذه الفرق المذكورة وغيرها موجودة في أيامنا هذه ، فالشيعة موجودون بكثرة لا كثّرهم الله ، وهذه دولتهم إيران التي تدّعي أنّها ( الجمهورية الإسلامية ) تعلن أن مذهبها هو المذهب الإثنا عشري الجعفري ، فهم رافضة من غلاة الشيعة ، وقد أخذوا كثيرًا من مذاهب المعتزلة .
__________
(1) 137 ) شرح العقيدة الطحاوية : 1 / 294 .(1/111)
وكذلك الخوارج لهم أفراخ موجودون ، وهم الذين يكفرون عصاة المسلمين ، وإن كانت شوكتهم قد انكسرت ، وكثير منهم قد تراجعوا ورجعوا إلى الحق ، إلا أنه لا يزال منهم من هو عاضّ على هذه العقائد الضّالة ، ويظنون أن هذه الجموع التي قد تراجعت قد فتنوا ، وأنّهم هم القابضون على الجمر وهم الطّائفة المنصورة ! ومع أن هؤلاء كما قلنا قد أصبحوا قلة قليلة لا يقدرون على مواجهة صغار طلبة العلم الذين قد تعلموا شيئًا من عقائد السلف ، إلا أننا لا نأمن أن يظهروا مرة أخرى هنا ، أو هناك ))(1).
ومما يدل على فساد مذهب من يكفر بالكبائر ما يأتي :
1 ) نصوص فيها التصريح ببقاء الإيمان والأخوة الإيمانية مع ارتكاب الكبائر منها :
قوله تعالى : (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) [ سورة الحجرات : 9 ] .
استدل أهل السنة بهاتين الآيتين على أن المؤمن لا يكفر بارتكابه الكبائر ، لأن الله - عز وجل - أبقى عليه اسم الإيمان مع ارتكابه لمعصية القتل ووصفهم بالأخوة وهي هنا أخوة الدين .
2 ) : شرع الله - عز وجل - إقامة الحدود على بعض الكبائر:
__________
(1) 138 ) الشفاعة : 6 .(1/112)
لعل هذا من أقوى الأدلة على فساد مذهب من يكفر مرتكب الكبيرة إذ لو كان السارق والقاذف وشارب الخمر، والمرتد سواء في الحكم لما اختلف الحد في كل منها، قال الإمام أبو عبيد رحمه الله (... ثم قد وجدنا الله - تبارك وتعالى - يكذب مقالتهم ، وذلك أنه حكم في السارق بقطع اليد، وفي الزاني والقاذف بالجلد، ولو كان الذنب يكفر صاحبه ما كان الحكم على هؤلاء إلا بالقتل لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من بدل دينه فاقتلوه )) ، أفلا ترى أنهم لو كانوا كفاراً لما كانت عقوباتهم القطع والجلد )) .
3 ) : نصوص صريحة في خروج من دخل النار من الموحدين بالشفاعة وبغيرها :
وهذا – أيضاً – من الأدلة الواضحة على عدم كفر مرتكب الكبائر وعدم خلوده في النار ، إذ لو كان كافراً لما خرج من النار . والأدلة في هذا بلغت مبلغ التواتر ، ومن هذه الأحاديث :
1- حديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال : (( يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير )) وفي رواية : (( من إيمان )) مكان (( من خير )) .[ رواه البخاري ومسلم ] .
2- ومن ذلك أحاديث شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم – في أهل الكبائر الذين دخلوا النار أن يخرجوا منها فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجل كل نبي دعوته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، فهي نائلة إن شاء الله ، من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً )) .(1/113)
يوضح ذلك حديث الشفاعة المشهور وفيه ... .. فيقول (( أي عيسى عليه السلام )) : ائتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم – عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتوني ، فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي ، فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً ، فيدعني ما شاء الله، ثم يقال : ارفع رأسك ، وسل تعطه ، وقل ))(1).
إذاً الخلاصة مما سبق من الآيات والأحاديث وكلام العلماء :
1- إجماع أهل السنة على عدم كفر مرتكب الكبيرة ، ما لم يستحل .
2- أنه في الآخرة تحت المشيئة إذا لم يتب – إن شاء عذبه – عز وجل – وإن شاء عفا عنه .
3- أنه إن دخل النار فلا يخلد فيها.
- تحذير الموحدين من ارتكاب الكبائر، ويخشى على مرتكبها أن تتراكم عليه الذنوب فتوصله إلى الكفر، وكذلك يخشى عليه من العقوبات المترتبة على بعض الذنوب ، أما ما يظن أنه يخالف ذلك من بعض النصوص فله عدة تفسيرات عند الأئمة :
1) فالنصوص التي فيها نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة ، فالمقصود فيه نفي كمال الإيمان أو الإيمان الواجب .
2- أما النصوص التي فيها براءة النبي – صلى الله عليه وسلم – فمعناها ليس من المقتدين بنا بفعله هذا .
3- وكذلك النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على بعض المعاصي ، قال فيها أهل السنة : إنها كفر دون كفر ، وإن المقصود بذلك أن مرتكب هذه المعصية قد تشبه بالكافرين والمشركين بفعله ذلك ، وأولوا بعضها بكفر النعمة .
4- أما النصوص التي تحرم النار على الموحد فالمقصود تحريم خلوده في النار ، وكذلك النصوص التي تحرم الجنة على من ارتكب بعض الكبائر فالمقصود دخول الجنة ابتداءً ، وبذلك يظهر تميز مذهب أهل السنة في هذا الباب وتوسطه بين الوعيدية ، والمرجئة ، وجمعه بين النصوص المختلفة دون تكلف ولا تناقض ))(2).
المسألة الرابعة : أنواع الشفاعة .
__________
(1) 139 ) نواقض الإيمان الإعتقادية : 77 للدكتور محمد بن عبد الله الوهيبي .
(2) 140 ) المصدر السابق : 84 .(1/114)
قال الإمام أبن أبي العز(1): (( الشفاعة أنواع : منها ما هو متفق عليه بين الأمة ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع.
النوع الأول : الشفاعة الأولى وهي العظمى الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أحاديث الشفاعة منها :
: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فدفع إليه منها الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة ثم قال : أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون لِمَ ذلك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد [ واحد ] فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون إلى ما أنتم فيه ؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض : أبوكم آدم فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي [ نفسي نفسي ] اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحاً فيقولون : يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وسماك الله عبداً شكورا فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟
فيقول نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي نفسي نفسي [ نفسي نفسي ] اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى إبراهيم ، فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ألا ترى [ إلى ] ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟
__________
(1) 141 ) سأنقل كلام أبن أبي العز رحمه الله رغم طوله لِما رأيت فيه من عظيم الفوائد والمنافع ، ويخدم ما نحن بصدده فليعلم .(1/115)
فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وذكر كذباته(1)نفسي نفسي [ نفسي نفسي ] اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى : فيقولون : يا موسى أنت رسول الله اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟
__________
(1) 142 ) أخرج البخاري برقم : 3179 من طريق أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال (( لم يكذب إبراهيم .... )) ، ومسلم برقم : 2371 من نفس الطريق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ، ثنتين منهن في ذات الله عز وجل قوله : (( إني سقيم )) . وقوله : (( بل فعله كبيرهم هذا )) . وقال : بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له : إن هاهنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها ، فقال : من هذه ؟ قال : أختي ، فأتى سارة فقال : يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني ، فأرسل إليها ، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ ، فقال : ادعي الله ولا أضرك ، فدعت الله فأطلق ، ثم تناولها الثانية فأخذ مثلها أو أشد ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت فأطلق ، فدعا بعض حجبته ، فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان ، إنما أتيتموني بشيطان ، فأخدمها هاجر ، فأتته وهو يصلي ، فأومأ بيده : مهيا ، قالت : رد الله كيد الكافر ، أو الفاجر في نحره ، وأخدم هاجر )).
قال أبو هريرة : تلك أمكم يا بني ماء السماء .(1/116)
فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قتلت نفساً(1)لم أومر بقتلها نفسي نفسي [ نفسي نفسي ] اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون : يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه قال : هكذا هو وكلمت الناس في المهد فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى [ إلى ] ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟
فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده [ مثله ولم يذكر له ذنباً ] اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتوني فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء غفر الله لك ذنبك ما تقدم منه وما تأخر فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي عز وجل ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي فيقال : يا محمد ارفع رأسك سل تعطه اشفع تشفع فأقول : [ يا ] رب إمتي أمتي [ يا رب أمتي أمتي يا رب أمتي أمتي ] فيقول : أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب ثم قال : والذي نفسي بيده لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبُصرى ] أخرجاه في الصحيحين بمعناه واللفظ للإمام أحمد .
__________
(1) 143 ) إشارة لقوله تعالى { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } [القصص : 15].(1/117)
والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه ، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى في أن يأتي الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء كما ورد هذا في حديث الصور ، فإنه المقصود في هذا المقام ومقتضى سياق أول الحديث فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس ويستريحوا من مقامهم كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه ، فإذا وصلوا إلى الجزاء إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار ، وكان مقصود السلف - في الإقتصار على هذا المقدار من الحديث - هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ، الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها ، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث ، وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور ، ولولا خوف الإطالة لسقته بطوله ، لكن من مضمونه : أنهم يأتون آدم ثم نوحاً ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم يأتون رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له : الفحص فيقول الله : ما شأنك ؟ وهو أعلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقول : يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك فاقض بينهم ، فيقول سبحانه وتعالى : شفعتك أنا ، آتيكم فأقضي بينهم قال : فأرجع فأقف مع الناس ، ثم ذكر انشقاق السموات وتنزل الملائكة في الغمام ، ثم يجيء الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء ، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحون بأنواع التسبيح قال : فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه ثم يقول : إني أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا ، أسمع أقوالكم وأرى أعمالكم فأنصتوا إليَّ ، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، إلى أن قال : فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة قالوا : من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة ؟(1/118)
فيقولون : من أحق بذلك من أبيكم إنه خلقه الله بيده ونفخ فيه روحه [ وكلمه ] قبلا، فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه ، وذكر نوحاً ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فآتي الجنة فآخذ بحلقة الباب ثم استفتح فيفتح لي ، فأُحيا ويرحب بي ، فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي عز وجل خررت له ساجداً ، فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه ، ثم يقول الله لي : ارفع يا محمد واشفع تشفع وسل تعطه ، فإذا رفعت رأسي قال الله - وهو أعلم - : ما شأنك ؟ فأقول : يا رب وعدتني الشفاعة ، فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة ، فيقول الله عز وجل : قد شفعتك وأذنت لهم في دخول الجنة ] الحديث رواه الأئمة : أبن جرير في تفسيره والطبراني وأبو يعلى الموصلي والبيهقي وغيرهم .
النوع الثاني والثالث من الشفاعة : شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة وفي أقوام آخرين قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلونها .
النوع الرابع : شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة ، فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم ، وقد وافقت المعتزلة هذه الشفاعة خاصة ، وخالفوا فيما عداها من المقامات مع تواتر الأحاديث فيها .
النوع الخامس : الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب ، ويحسن أن يستشهد لهذا النوع بحديث عكاشة بن محصن ، حين دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب والحديث مخرج في الصحيحين.(1/119)
النوع السادس : الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه ، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه ، ثم قال القرطبي في التذكرة بعد ذكر هذا النوع : فإن قيل : فقد قال تعالى : { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } قيل له : لا تنفعه في الخروج من النار كما تنفع عصاة الموحدين الذين يخرجون منها ويدخلون الجنة .
النوع السابع : شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة كما تقدم ، وفي صحيح مسلم [ عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنا أول شفيع في الجنة ] .
النوع الثامن : شفاعته في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النار فيخرجون منها ، وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث ، وقد خُفي علم ذلك على الخوارج والمعتزلة فخالفوا في ذلك جهلاً منهم بصحة الأحاديث ، وعناداً ممن علم ذلك واستمر على بدعته ، وهذه الشفاعة تشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضا ، وهذه الشفاعة تتكرر منه صلى الله عليه وسلم أربع مرات ومن أحاديث هذا النوع [ حديث أنس أبن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ] رواه الإمام أحمد رحمه الله ، وروى البخاري رحمه الله في كتاب التوحيد : حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا معبد بن هلال العنزي قال : اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك وذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة ، فإذا هو في قصره فوافقناه يصلي الضحى فاستأذنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه ، فقلنا لثابت : لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة فقال : يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاؤوك يسألونك عن حديث الشفاعة .(1/120)
فقال : حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال : إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم فيقولون : اشفع لنا إلى ربك فيقول : لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن فيأتون إبراهيم فيقول : لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيأتون موسى فيقول : لست لها لكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته فيأتون عيسى فيقول : لست لها ولكن عليكم بمحمد [ صلى الله عليه وسلم ] فيأتوني فأقول : أنا لها فأستأذن علي ربي فيؤذن لي ، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد ، وأخرُّ له ساجداً ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك واشفع تشفع وسل تعط فأقول : يا رب أمتي أمتي ، فيقال : انطلق فأخرج [ منها ] من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً فيقال : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك واشفع تشفع وسل تعط فأقول : يا رب أمتي أمتي فيقال : انطلق فأخرج [ منها ] من كان بما قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان ، فأنطلق فأفعل ثم أعود بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً فيقال : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول : يا رب أمتي أمتي فيقول : انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان ، فأخرجه من النار فأنطلق فأفعل ، قال : فلما خرجنا من عند أنس قلت [ لبعض أصحابنا ] لو مررنا بالحسن وهو متوار في منزل أبي خليفة فحدثناه بما حدثنا به أنس بن مالك ، فأتيناه فسلمنا عليه ، فأذن لنا فقلنا له : يا أبا سعيد جئناك من عندك أخيك أنس بن مالك فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة فقال : هيه ؟ فحدثاه بالحديث فانتهى إلى هذا الموضع ، فقال : هيه ؟ فقلنا لم يزد لنا على هذا فقال : لقد حدثني وهو جميع منذ عشرين سنة فما أدري أنسي أم كره أن تتكلوا ؟ فقلنا : يا أبا سعيد فحدثنا فضحك وقال : خلق الإنسان عجولاً ! ما ذكرته إلا وأنا أريد أن(1/121)
أحدثكم ، حدثني كما حدثكم [ به ] ، قال : ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأقول : يا رب أئذن لي فيمن قال : لا إله إلا الله فيقول : وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال : لا إله إلا الله )) وهكذا رواه مسلم [ وروى الحافظ أبو يعلى عن عثمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ] وفي الصحيح [ من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا قال : فيقول الله تعالى : شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط ] الحديث .
ثم إن الناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال : فالمشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم : يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا ، والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الكبائر ، وأما أهل السنة والجماعة فيقرون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر ، وشفاعة غيره ، لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ، ويحد له حداً ، كما في الحديث الصحيح حديث الشفاعة : [ إنهم يأتون آدم ثم نوحاً ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى فيقول لهم عيسى عليه السلام : اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن ، فيقول : أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع فأقول : ربي : أمتي فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أنطلق فأسجد فيحد لي حداً ] ذكرها ثلاث مرات .(1/122)
وأما الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره في الدنيا إلى الله تعالى في الدعاء ففيه تفصيل : فإن الداعي تارة يقول : بحق نبيك أو بحق فلان يقسم على الله بأحد من مخلوقاته فهذا محذور من وجهين :
أحدهما : أنه أقسم بغير الله .
والثاني : اعتقاده أن لأحد على الله حقاً ولا يجوز الحلف بغير الله ، وليس لأحد على الله حق إلا ما أحقه على نفسه كقوله تعالى : { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } وكذلك ما ثبت في الصحيحين [ من قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه وهو رديفه : يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : حقهم عليه أن لا يعذبهم ] فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق ، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئاً كما يكون للمخلوق على المخلوق ، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير وحقهم الواجب بوعده هو أن لا يعذبهم وترك تعذيبهم معنى لا يصلح أن يقسم به ، ولا أن يسأل بسببه ويتوسل به ، لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً ، وكذلك الحديث الذي في المسند [ من حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الماشي إلى الصلاة : أسألك بحق ممشاي هذا وبحق السائلين عليك ] فهذا حق السائلين هو أوجبه على نفسه فهو الذي أحق للسائلين أن يجيبهم وللعابدين أن يثيبهم ولقد أحسن القائل :
ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم السامع(1).
الدليل الرابع :
هو أول من يجتاز وأمته الصراط تكريماً وتشريفاً له ، عن أبي هريرة : أن الناس قالوا :
يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟
__________
(1) 144) شرح العقيدة الطحاوية : 1 / 282 .(1/123)
قال : (( هل تمارون في القمر ليلة بدر ليس دونه حجاب )) ، قالوا : لا يا رسول الله ، قال : (( فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب )) ، قالوا : لا، قال : (( فإنكم ترونه كذلك ، يحشر الناس يوم القيامة ، فيقول : من كان يعبد شيئاً فليتبع ، فمنهم من يتبع الشمس ، ومنهم من يتبع القمر ، ومنهم من يتبع الطواغيت ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها ، فيأتهم الله فيقول : أنا ربكم ، فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا جاء ربنا عرفناه ، فيأتيهم الله فيقول : أنا ربكم ، فيقولون أنت ربنا ، فيدعوهم فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم ، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته ، ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل ، وكلام الرسل يومئذ : اللهم سَلِّم سَلِّم ، وفي جهنم كلاليب ، مثل شوك السعدان ، هل رأيتم شوك السعدان ))). قالوا : نعم .(1/124)
قال : (( فإنها مثل شوك السعدان ، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله ، تخطف الناس بأعمالهم ، فمنهم من يوبق بعمله ، ومنهم من يخردل ثم ينجو ، حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار ، أمر الله الملائكة : أن يخرجوا من كان يعبد الله ، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود ، وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ، فيخرجون من النار، فكل أبن أدم تأكله النار إلا أثر السجود ، فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة ، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد ، ويبقى رجل بين الجنة والنار ، وهو آخر أهل النار دخولاً الجنة ، مقبل بوجهه قبل النار ، فيقول : يا رب اصرف وجهي عن النار ، قد قشبني ريحها ، وأحرقني ذكاؤها ، فيقول : هل عسيت إن فعل ذلك بك أن تسأل غير ذلك ؟ فيقول : لا وعزتك ، فيعطي الله ما يشاء من عهد وميثاق ، فيصرف الله وجهه عن النار ، فإذا أقبل به على الجنة ، رأى بهجتها سكت ما شاء الله أن يسكت ، ثم قال : يا رب قدِّمني عند باب الجنة ، فيقول الله له : أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي كنت سألت ؟ فيقول : يا رب لا أكون أشقى خلقك ، فيقول : فما عسيت إن أعطيت ذلك أن لا تسأل غيره ؟ فيقول : لا وعزتك لا أسأل غير ذلك ، فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق ، فيقدِّمه إلى باب الجنة ، فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور ، فيسكت ما شاء الله أن يسكت فيقول : يا رب أدخلني الجنة ، فيقول الله : ويحك يا بن آدم ما أغدرك ، أليس قد أعطيت العهد والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت ؟ فيقول : يا رب لا تجعلني أشقى خلقك ، فيضحك الله عز وجل منه ، ثم يأذن له في دخول الجنة ، فيقول : تمن ، فيتمنى حتى إذا انقطعت أمنيته، قال الله عز وجل : من كذا وكذا ، أقبل يذكره ربه ، حتى إذا انتهت به الأماني ، قال الله تعالى: لك ذلك ومثله معه ) .(1/125)
قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة رضي الله عنهما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( قال الله لك ذلك وعشرة أمثاله )). قال أبو هريرة : لم أحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوله : (لك ذلك ومثله معه ). قال أبو سعيد : إني سمعته يقول : (ذلك لك وعشرة أمثاله ))(1).
الدليل الخامس :
أعطاه الله تبارك وتعالى الكوثر تكريماً وتشريفاً ، وهو نهر في الجنة من شرب منه شربة فإنه لا يظمأ بعدها أبداً ، قال تعالى { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * َ } [الكوثر : 1] .
و عن أنس قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا ، إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسماً .
فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ! قال : (( أنزلت علي آنفاً سورة ، فقرأ (( بسم الله الرحمن الرحيم ، إنا أعطيناك الكوثر ، فصل لربك وانحر ، إن شانئك هو الأبتر )) ثم قال : (( أتدرون ما الكوثر؟ )) .
فقلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : (( فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير ، و حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم ، فيختلج العبد منهم ، فأقول : رب ! إنه من أمتي ، فيقول : ما تدري ما أحدثت بعدك ))(2).
- أنس بن مالك أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( بينما أنا أسير في الجنة ، إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف ، قلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاك ربك ، فإذا طينه أو طيبه مسك أذفر ))(3).
وعن عبد الله بن عمرو : قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه كنجوم السماء ، من شرب منها فلا يظمأ أبداً ))(4).
الدليل السادس :
__________
(1) 145 ) رواه البخاري برقم : 773 .
(2) 146 ) رواه مسلم برقم : 400 .
(3) 147 ) رواه البخاري برقم : 6210 .
(4) 148 ) رواه البخاري برقم : 6208 .(1/126)
إنَّ الله تبارك وتعالى قد جعله وأمته شهداء على الناس ، { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً } [النساء : 41] .
وقال { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل : 89] .
وقال { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة : 143] .
وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يجيء نوح وأمته ، فيقول الله تعالى : هل بلغت ؟ فيقول : نعم أي رب ، فيقول لأمته : هل بلغكم ؟ فيقولون : لا ما جاءنا من نبي ، فيقول لنوح : من يشهد لك ؟ فيقول محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، فنشهد أنه قد بلغ ، وهو قوله جل ذكره : {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} )). والوسط العدل ))(1)
الدليل السابع :
هو أول من يقرع باب الجنة ويستفتحها ، وفي ذلك من التكريم والتشريف الشيء الكثير ، روى الإمام مسلم عن أنس بن مالك قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة ، وأنا أول من يقرع باب الجنة )) .
وله : عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( آتي باب الجنة يوم القيامة ، فأستفتح ، فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد ، فيقول : بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك )) .
الدليل الثامن :
__________
(1) 149 ) رواه البخاري برقم : 3161 .(1/127)
جعل الله تبارك وتعالى أمته أول وأكثر الأمم دخولاً للجنة ، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، ونحن أول من يدخل الجنة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق ، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه ، هدانا الله له (( قال : يوم الجمعة )) فاليوم لنا ، وغدا لليهود ، وبعد غد للنصارى )) . ...
وله أيضاً : عن عبد الله قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة فقال :
(( أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ )) قلنا : بلى ، قال : (( أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ )) قلنا : نعم ، قال : (( والذي نفسي بيده ! إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة ، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة ، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر )).
الدليل التاسع :
يدخل من أمته الجنة سبعون ألفاً من غير حساب ولا عقاب ، فعن حُصَيْنِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَال َ: أَيّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الّذِي انْقَضّ الْبَارِحَةَ ؟
قُلْت ُ: أَنَا ، ثُمّ قُلْتُ : أَمَا إِنّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلاَةٍ ، وَلَكِنّي لُدِغْتُ .
قَالَ : فَمَاذَا صَنَعْتَ ؟
قُلْتُ : اسْتَرْقَيْت ُ.
قَالَ : فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِك َ؟
قُلْتُ : حَدِيثٌ حَدّثَنَاهُ الشّعْبِيّ . فَقَالَ : وَمَا حَدّثَكُمُ الشّعْبِيّ ؟ قُلْتُ : حَدّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ الأَسْلَمِيّ أَنّهُ قَال َ: لاَ رُقْيَةَ إِلاّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ .(1/128)
فَقَال َ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ ، وَلَكِنْ حَدّثَنَا ابْنُ عَبّاسٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (( عُرِضَتْ عَلَيّ الأُمَمُ ، فَرَأَيْتُ النّبِيّ وَمَعَهُ الرّهَيْطُ ، وَالنّبِيّ وَمَعَهُ الرّجُلُ وَالرّجُلاَنِ ، وَالنّبِيّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ ، إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ ، فَظَنَنْتُ أَنّهُمْ أُمّتِي فَقِيلَ لِي : هَذَا مُوسَىَ صلى الله عليه وسلم وَقَوْمُهُ ، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ ، فَقِيلَ لِي : انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ الاَخَرِ فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ ، فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمّتُكَ وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ )) . ...
ثُمّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ ، فَخَاضَ النّاسُ فِي أُولَئِكَ الّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ ، فَقَالَ بَعْضُهُم ْ: فَلَعَلّهُمُ الّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : فَلَعَلّهُمُ الّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلاَمِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِالله ، وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : (( مَا الّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ ؟ )) فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ : (( هُمُ الّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ(1)وَلا يَكتَوونَ وَلاَ يَتَطَيّرُونَ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ )).
__________
(1) 150 ) قال أبن عثيمين في (( القول المفيد على كتاب التوحيد : 1 /42 )) : (( في بعض روايات مسلم : "لا يرقون" ، ولكن هذه الرواية خطأ؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ( ولا يرقون ) وهي وهم وخطأ ، ولكن هذه الرواية خطأ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يرقي ، ورقاه جبريل ، وعائشة ، وكذلك الصحابة كانوا يرقون )) .(1/129)
فَقَامَ عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ : ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَال َ: (( أَنْتَ مِنْهُم )) ثُمّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَال َ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ فَقَالَ : (( سَبَقَكَ بِهَا عُكّاشَةُ ))(1).
وعن أبي بكر الصديق قال : (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعطيت سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ، وجوههم كالقمر ليلة البدر ، وقلوبهم على قلب رجل واحد ، فاستزدت ربي عز وجل فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً ))(2).
وللسبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب صفات جاء ذكرها في الحديث الشريف هي :
الأولى : هم الذين لا يسترقون : أي لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم توكلاً على الله تعالى وتلذذاً بالبلاء ، والفرق بين الراقي والمسترقي : أن الراقي محسن ، والمسترقي مستعطف .
قال أبن عثيمين في (( القول المفيد على كتاب التوحيد : 1 /42 )) : ((واستفعل بمعنى طلب الفعل ، مثل : استغفر أي : طلب المغفرة ، واستجار : طلب الجوار ، وهنا استرقى أي : طلب الرقية ، أي لا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم لما يلي :
1 ) لقوة اعتمادهم على الله .
2 ) لعزة نفوسهم عن التذلل لغير الله .
3 ) ولما في ذلك من التعلق بغير الله ....
وإذا طلب منك إنسان أن يرقيك فهل يفوتك كمال إذا لم تمنعه ؟
الجواب : لا يفوتك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنع عائشة أن ترقيه ، وهو أكمل الخلق توكلاً على الله وثقةً به ، ولأن هذا الحديث : (( لا يسترقون... )) إلخ إنما كان في طلب هذه الأشياء ، ولا يخفى الفرق بين أن تحصل هذه الأشياء بطلب وبين أن تحصل بغير طلب )) أ . هـ
__________
(1) 151 ) متفق عليه .
(2) 152 ) أخرجه الإمام أحمد في مسند أبي بكر الصديق ، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة : 3 / 473 ، برقم : 1484 ، وصحيح الجامع برقم : 1057 .(1/130)
الثانية : وهم الذين لا يكتوون : أي لا يسألون غيرهم أن يكويهم استسلاماً للقضاء وتلذذاً بالبلاء .
الثالثة : وهم الذين لا يتطيرون : أي لا يتشاءمون بالطيور ونحوها .
الرابعة : وعلى ربهم يتوكلون : أي يعتمدون على ربهم في جلب المنافع ، ودفع المضار .
الفصل الثاني
بيان منزلة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) عند أصحابه الكرام
لا يخفى على أحد من الناس ممن رزقه الله تبارك وتعالى عقيدة صحيحة وفقهاً نافعاً في الدين ما للنبي محمد ( - صلى الله عليه وسلم - ) عند أصحابه الكرام من منزلة عالية ودرجة رفيعة ، وأنه لم يكن في قلوبهم من أحد يمكن أن يداني هذه المنزلة ، أو يقترب منها ، لا أب ولا أخ ولا عشيرة ، بل أن الناظر في سيرهم وآثارهم يرى عجباً ، ويقف وقفة إجلال وتعظيم لهذه النماذج الفريدة التي عقمت أرحام الأمهات أن تلد مثلهم ، وندر الزمان أن يدر بأشباههم ، ولا نستغرب أن خرج منهم مثل هذا الحب والتفاني والإخلاص ، فهم جيل اختاره الله تبارك وتعالى لرفقة نبيه ( - صلى الله عليه وسلم - ) والدفاع عن حياض دينه ، وما مُكِنَ لجيل مثلما مُكن لهم ، لصدقهم وحسن انتمائهم لهذا الدين القويم ، ولهذا فقد كان للنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) المنزلة العالية في نفوسهم وقلوبهم ، ولو أردنا أن نبحث لهذه المنزلة عن أدلة تثبتها وتؤكد حقيقتها لوقفنا على الشيء الكثير منها ، ولكن إليك أهمها :
الدليل الأول :(1/131)
كان الصحابة رضوان الله عليهم يحبون النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) حباً جماً ، ويعظمونه تعظيماً كبيراً ، قلَّ نظيرهما وندر وجودهما ، حتى شَهِد لهم بذلك الأعداء قبل الأولياء ، فلما جاء عروة بن مسعود الثقفي ـ قبل أن يسلم ويحسن إسلامه ـ مفاوضاً عن قومه يوم الحديبية (( جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له ، فرجع إلى أصحابه ، فقال : أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ، على قيصر وكسري والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ، ما يعظم أصحاب محمد محمداً ، والله إن تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له ... ))(1).
ولقد عَبَّروا رضوان الله عليهم عن هذا الحب العظيم الذي يكنونه للنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بأشكال مختلفة وصور متنوعة منها :
الصورة الأولى :
__________
(1) 153 ) الرحيق المختوم : 264 لصفي الرحمن المباركفوري .(1/132)
كان بعضهم من فرط حبه للنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) لا يطيق ولا يقوى على النظر إلى وجهه الكريم ، ولو سُئِل أن يصف النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) لما وجد إلى ذلك سبيلاً ، لأنه لم يكن يملأ عينه منه مهابة وتعظيماً ، روى الإمام مسلم عَنِ ابْنِ شُمَاسَةَ الْمَهْرِيّ قَالَ : حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ ، فَبَكَىَ طَوِيلاً وَحَوّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ : يَا أَبَتَاهُ ! أَمَا بَشّرَكَ(1)رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا ؟ أَمَا بَشّرَكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا ؟ قَالَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ : إِنّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَأَنّ مُحَمّدا رَسُولُ اللّهِ ، إِنّي قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاَثٍ(2): لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدّ بُغْضاً لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنّي ، وَلاَ أَحَبّ إِلَيّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ ، فَلَوْ مُتّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النّارِ ، فَلَمّا جَعَلَ الله الإِسْلاَمَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ : ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ ، قَالَ فَقَبَضْتُ يَدِي .
قَالَ: (( مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟ )) .
قَالَ قُلْتُ : أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ .
قَالَ: (( تَشْتَرِطُ بِمَاذَا ؟ )) .
قُلْت ُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي .
__________
(1) 154 ) ولهذا يستحب بشارة المسلم ، وحمله على حسن الظن بالله تعالى خاصة في موقف كهذا .
(2) 155 ) أي : أحوال ثلاث .(1/133)
قَالَ: (( أَمَا عَلِمْتَ أَنّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ(1)مَا كَانَ قَبْلَهُ ؟ وَأَنّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا ؟ وَأَنّ الْحَجّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ؟ )) .
وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبّ إِلَيّ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ أَجَلّ فِي عَيْنِي مِنْهُ ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَملأَ عَيْنَيّ مِنْهُ إِجْلالاً لَهُ ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ لأَنّي لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عَيْنَيّ مِنْهُ ، وَلَوْ مُتّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ(2)، ثُمّ وَلِينَا أشياء مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا ، فَإِذَا أَنَا مُتّ فَلاَ تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلاَ نَارٌ(3)فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنّوا عَلَيّ التّرَابَ شَنّاً ، ثُمّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبّي )) .
الصورة الثانية :
__________
(1) 156 ) أي : يمحو ما كان قبله .
(2) 157 ) لما ذكر الحال الأول حين كان كافراً جزم أنه من أهل النار إنْ مات على ذلك ، ولكنه لما ذكر نفسه في الحال الثاني لم يجزم أنه من أهل الجنة وإنما ربط حاله برحمة الله تعالى تورعاً من تزكية نفسه أولاً ، ولعلمه أن الجنة إنما تنال برحمة الله تعالى ثانياً ، فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قال : (( ما من أحد يدخله عمله الجنة" فقيل : ولا أنت ؟ يا رسول الله ! قال "ولا أنا إلا أن يتغمدني ربي برحمة )) .
(3) 158 ) لما ورد من النهي في ذلك .(1/134)
وبعضهم كان ينسى نفسه وما حلَّ به ، وينشغل بما أُصيب به النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) وما حلَّ به ، مع أن مصابهما واحد ، قد عض الجميع بنابه ولسع الكل بناره ، ولكنهم من فرط حبهم له تهون عليهم أنفسهم أمام نفس حبيبهم ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وتصغر بأعينهم مصيبتهم أمام مصيبة نبيهم ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وهذا يمثل بحد ذاته أروع وأنبل أنواع الحب على الإطلاق ، أنْ تنسى نفسك وتنشغل بعلة من تحب فهذا والله لا يقدر عليه كل أحد ، إلا من عرف أصول المحبة وفَهِمَ معناها .(1/135)
روى الإمام البخاري في صحيحه قال : حدثنا خلاد بن يحيى: حدثنا عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه قال : أتيت جابراً رضي الله عنه فقال : إنا يوم الخندق نحفر ، فعرضت كدية شديدة ، فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هذه كدية عرضت في الخندق ، فقال : (( أنا نازل )) ، ثم قام وبطنه معصوب بحجر ، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب الكدية ، فعاد كثيبا أهيل أو أهيم ، فقلت : يا رسول الله ائذن لي إلى البيت ، فقلت لامرأتي : رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان في ذلك صبر(1)فعندك شيء ؟ قالت : عندي شعير وعناق فذبحت العناق ، وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة ، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر ، والبرمة بين الأثافي قد كادت تنضج ، فقلت : طعم لي ، فقم أنت يا رسول ورجل أو رجلان .
__________
(1) 159 ) تذكر أخي الحبيب قول جابر رضي الله عنه أول الحديث أنهم بقوا ثلاثة أيام لم يذوقوا فيه ذواقاً ، ولكنه لما رأى الجوع في وجه النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) استأذن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وذهب إلى زوجته وطلب منها أن تصنع طعاماً لأنه قد رأى أمراً لا صبر له عليه ، فقد رأى الجوع في وجه حبيبه ، وهذا أمر لا يقدر على تحمله البتة ، مع أن الجوع قد عضَّه بنابه كذلك ، فتنبه لهذا يرحمك الله .(1/136)
قال : (( كم هو )) ، فذكرت له ، قال : (( كثير طيب )) ، قال : (( قل لها لا تنزع البرمة ، ولا الخبز من التنور حتى آتي ، فقال : قوموا )) . فقام المهاجرون والأنصار ، فلما دخل على امرأته قال : ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم ، قالت : هل سألك ؟ قلت : نعم ، فقال : (( ادخلوا ولا تضاغطوا ). فجعل يكسر الخبز ، ويجعل عليه اللحم ، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه ، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع ، فلم يزل يكسر الخبز ، ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية ، قال : (كلي هذا وأهدي ، فإن الناس أصابتهم مجاعة )) . ...
وللبخاري أيضاً قال : حدثني عمرو بن علي: حدثنا أبو عاصم : أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان : أخبرنا سعيد بن ميناء قال : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : لما حُفِرَ الخندق رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً ، فانكفأت إلى امرأتي فقلت : هل عندك شيء ؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً ، فأخرجت إلى جراباً فيه صاع من شعير ، ولنا بهيمة داجن فذبحتها ، وطحنت الشعير ، ففرغت إلى فراغي ، وقطعتها في برمتها ، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن معه ، فجئته فساررته ، فقلت : يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنا صاعاً من شعير كان عندنا ، فتعال أنت ونفر معك ، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع سوراً فحي هلا بكم )).(1/137)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لاتنزلن برمتكم ، ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء )) ، فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي فقالت : بك وبك ، فقلت : قد فعلت الذي قلت ، فأخرجت له عجيناً ، فبصق فيه وبارك ، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك ، ثم قال : (( ادع خابزة فلتخبز معي واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها )) . وهم ألف ، فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا ، وإن برمتنا لتغط كما هي ، وإن عجيننا ليخبز كما هو )) أ . هـ
كدية : صخرة كبيرة صلدة ، بطنه معصوب بحجر : ليزيل آلام الجوع ويقدر على احتمالها .
كثيبا أهل : تلاً رملياً غير متماسك يهيل رمله بسهولة .
عناق : ما عز صغيرة . البرمة : قدر من فخار واسع الفوهة . العجين قد أمكن : قد اختمر .
الاثافي : الأحجار يستند إليها القدر .
طعيماً : طعاما قليلا . لا تضاغطوا : لا تتدافعوا .
قال النووي : قوله : عرضت كدية هي : قطعة غليظة صلبة من الأرض لا تعمل فيها الفأس.
والكثيب : أصله تل الرمل والمراد هنا صارت تراباً ناعما ً، وهو معنى أهيل .
والأثافي : الأحجار التي يكون عليها القدر.
و تضاغطوا : تزاحموا.
والمجاعة : الجوع وهو بفتح الميم.
و الخمص : بفتح الخاء والميم الجوع .
و انكفأت : انقلبت ورجعت.
و البهيمة : بضم الباء تصغير بهمة وهي: العناق بفتح العين .
و الداجن هي: التي ألفت البيت.
و السور : الطعام الذي يدعى الناس إليه ، وهو بالفارسية.
و حيهلاً : أي تعالوا.
وقولها بك وبك : أي خاصمته وسبته لأنها اعتقدت أن الذي عندها لا يكفيهم فاستحيت وخفي عليها ما أكرم اللَّه سبحانه وتعالى به نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم من هذه المعجزة الظاهرة ، والآية الباهرة.
بسق : أي بصق ، ويقال أيضاً: بزق: ثلاث لغات.
و عمد بفتح الميم: أي قصد.
و اقدحي : أي اغرفي. والمقدحة: المغرفة.(1/138)
وتغط : أي لغليانها صوت ، والله أعلم(1).
الصورة الثالثة :
وهذا محب آخر يقع أسيراً بيد أعداءٍ لا يعرفون له حقاً ، ولا يحفظون له حرمة ، ولا يجدون له في قلوبهم رحمة ، حتى أنزلوا على رأسه من عذابهم ما تنفطر منه القلوب وتدمع له الأعين ، ولكنه حين خُيِّر بين أن يكون في بيته وبين أهله ، على أن يكون حبيبه ونبيه مكانه ، ما تمنى له في مكانه الذي هو فيه أن يشاك بشوكة تؤذيه فضلاً على أن يكون مكانه .
قال أبن القيم رحمه الله في : (( زاد المعاد : 3 / 122 )) : (( فلمَّا كان صفر ، قًدِمَ عليه ـ أي النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ـ قَوْمٌ مِن عَضَلٍ والقَارةِ وذكروا أن فيهم إسلاماً ، وسألُوهُ أن يَبْعثَ معهم مَن يُعَلِّمُهم الدِّينَ ويُقرئهُمُ القُرآن ، فبعث معهم سِتَّة نَفَرٍ في قول أبن إسحاق ، وقال البخاري : كانُوا عشرة ، وأَمَّر عليهم مَرْثَدَ بنَ أبى مَرْثَدٍ الغَنَوِى ، وفيهم خُبيب بنُ عدى ، فذهبوا معَهم فلما كانُوا بالرَّجِيع ـ وهو ماءٌ لهُذَيْلٍ بناحيةِ الحِجاز ـ غدرُوا بهم ، واستصرخُوا عليهم هُذيلاً ، فجاؤوا حتَّى أحاطُوا بهم ، فقتلُوا عامَّتَهُم ، واستأسرُوا خُبَيْبَ بْنَ عدِىٍّ ، وزَيْدَ أبن الدّثِنَةِ ، فذهبُوا بهما ، وباعُوهما بمكة، وكانا قَتلا مِن رؤوسهم يَوْمَ بدر .
فأما خُبيب ، فمكث عندهم مسجوناً ، ثم أجمعُوا قتله ، فخرجُوا به مِن الحَرَمِ إلى التنعيم ، فلما أجمعُوا على صَلبه ، قال : دَعُوني حَتَّى أَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ ، فتركُوهُ فصلاهما ، فلمَّا سَلَّمَ قال : واللهِ ، لَوْلاَ أنْ تَقُولُوا إنَّ مَا بي جَزَع ٌ، لَزِدْتُ ، ثُمَّ قال : (( اللَّهُمَّ أَحْصِهمْ عَدَداً ، واقْتُلْهُمْ بِدَدَا ً، ولا تُبْقِ مِنْهُم أحداً ، ثم قال :
لَقَدْ أَجْمَعَ الأَحْزَابُ حَوْلى، وَأَلّبُوا قَبَائِلَهُم واسْتَجْمَعُوا كُلَّ مجْمَعِ
__________
(1) 160 ) رياض الصالحين : 237 .(1/139)
وكلُّهُمُ مبدى العداوةِ جاهدٌ عَلَىَّ لأني في وِثاقٍ بِمَضْيَعِ
وقَدْ قَرَّبُوا أَبْنَاءَهُم ونسَاءَهُم وقُرِّبْتُ مِنْ جِذْعٍ طوِيلٍ مُمَنَّعِ
إلَى اللهِ أَشْكُوا غربتي بَعْدَ كربتي وَمَا أَرْصَدَ الأَحْزَابُ لي عِنْدَ مَصْرَعِي
فَذَا العَرْشِ صَبِّرْني عَلَى ما يُرادُ بي فَقَدْ بَضَّعُوا لحْمى وَقَد يأس مَطْمَعِي
وَقَدْ خَيَّرُوني الكُفْرَ، والمَوْتُ دُونَهُ فَقَدْ ذَرَفَتْ عَيْنَايَ مِنْ غَيْرِ مَجْزَعِ
وَمَا بي حِذَارُ المَوْت إنِّي لَمَيِّتٌ وإنَّ إلى ربِّى إيَابى ومَرْجِعي
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً عَلَى أَي شِقٍّ كان في اللهِ مَضْعَجِي
وَذلِكَ في ذَاتِ الإلهِ وإنْ يَشأْ يُبارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شلْوٍ مُمَزَّعِ
فَلَسْتُ بمبدٍ للعدوِّ تَخَشُّعاً ولا جَزَعاً ، إني إلى الله مَرجعي
فقال له أبو سفيان : أيسرُّك أنَّ محمداً عندنا تُضْرَبُ عنقُه وإنك في أهلك ، فقال : لا واللهِ ، ما يسرُّني أني في أهلي ، وأنَّ محمداً في مكانهِ الَّذِي هُوَ فيه تُصيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤذِيه.
وفي (( الصحيح )) : أن خبيباً أوَّلُ مَنْ سنَّ الركعتين عِند القتل ، وقد نقل أبو عمر بن عبدِ البر عن اللَّيثِ بن سعد أنه بلغه عن زيدِ بن حارثة ، أنه صلاهما في قصةٍ ذكرها ، وكذلك صلاهما حُجْرُ بنُ عدى حين أمر معاويةُ بقتله بأرضِ عذراء من أعمالِ دمشق ، ثم صَلبوا خُبَيْبَاً ، ووكَّلوا به مَن يَحْرُسُ جُثَّته ، فجاء عمرو بنُ أُمية الضَّمْرِى ، فاحتمله بجذعه ليلاً ، فذهب به، فدفنه .
ورؤى خُبيبٌ وهو أسيرٌ يأكل قِطْفاً مِن العِنَبِ ، وما بمكة ثَمَرَة ٌ، وأما زيدُ بن الدَّثِنَةِ فابتاعه صفوانُ بنُ أُمية فقتله بأبيه )) أ . هـ
الصورة الرابعة :(1/140)
وهذا أبو أيوب الأنصاري يذكر أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) بعد مقدمه من الهجرة نزل في بيته الذي كان يتكون من طابقين ، فاختار النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) النزول في السفلي منه ، ويذكر أيضاً أنَّ جرةً لهم قد أنكسرت فنشفا مائها بلحافهم الذي لا يملكون غيره ، خشية أن ينزل على رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) فيؤذيه ، فنزل إلى النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) طالباً منه أن يصعد إلى فوق لأنه لا يريد أن يمشي على سقف تحته رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) .
وعن أبي أمامة الباهلي عن أبي أيوب قال لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت بأبي أنت وأمي أني أكره أن أكون فوقك وتكون أسفل مني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أرفق بي أن أكون في السفلى لما يغشانا من الناس ، قال فلقد رأيت جرة لنا انكسرت فاهريق ماؤها ، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ، ما لنا لحاف غيرها ، ننشف بها الماء فرقاً أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء يؤذيه(1)) .
الصورة الخامسة :
__________
(1) 161 ) رواه الحاكم في المستدرك برقم : 5939 وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وأنظر : السيرة النبوية للصلابي : 291 .(1/141)
وهذه امرأة أنصارية من بني دينار أُصيب زوجها وأخوها وأبوها يوم أحد ، ولما نعوا إليها الخبر قالت : ماذا فعل رسول الله ، ولما أُخبرت بنجاته ، قالت حتى أراه ، فهانت عليها مصائبها الثلاث ، اللاتي كل واحدة منهن أنكى واكبر من الأخرى ، ولم يبق لها هَمٌّ إلا السؤال عن سلامة رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ونجاته(1).
__________
(1) 162 ) فأي امرأة هذه ، وأي حب هذا الذي تحمله هذه المرأة المسلمة في قلبها لرسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) حتى جعلها لا تسأل حتى عن زوجها ، فهذا والله وبالله وتالله يفوق حد التصور والخيال ، لاسيما و أنَّ للزوج من قلب زوجته لبمكان ، لا يستطيع أحد غيره أن يشغله كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ومع ذلك لم تسأل عنه .
قال صفي الرحمن المباركفوري ولما فرغ رسول الله من دفن الشهداء والثناء على الله والتضرع إليه ، انصرف راجعاً إلى المدينة ، وقد ظهرت له نوادر الحب والتفاني من المؤمنات الصادقات ، كما ظهرت من المؤمنين في أثناء المعركة ، لقيته في الطريق حَمْنَة بنت جحش فَنُعِي إليها أخوها عبد الله بن جحش فاسترجعت واستغفرت له ، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب ، فاسترجعت واستغفرت ، ثم نعي لها زوجها مصعب بن عمير فصاحت وولوت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ( إن زوج المرأة منها لبِمَكان ) . [ الرحيق المختوم : 220 ] .
ولو ربطنا بين موقف هذه المرأة المسلمة بقصة زوجة جابر الذي ذكرناه آنفاً ، لرأينا المستوى الراقي والمكانة الرفيعة التي وصلت إليها المرأة المسلمة أبان عهد الرسالة ، ولظهر الفرق واضحاً جلياً بينهنَّ وبين نساء هذه الأزمان ، اللاتي لا شغل عندهن ولا هَمَّ يشغلهن إلا متابعة آخر صيحات الموظة والأزياء ، والبعض منهنَّ أخذت تزاحم الرجال في مواقعهم وتسلب منهم أعمالهم ، حتى صارت النساء تعمل والرجال قاعدون لا يجدون من يُشُغلهم ، فمن يشغل رجلاً والمرأة قد تزينت وتعطرت وتريد عملاً .
والبعض الآخر منهن أخذن يطالبن بحقوق المرأة ، وكأن الإسلام قد أهمل المرأة وسلب حقوقها ، وهذا بالتأكيد خلاف الواقع والحقيقة ، فما عرفت المرأة حقاً إلا في الإسلام ، بعد أن كانت تباع وتشترى في سوق النخاسة كالمتاع ، فصارت في ظل الإسلام ملكة متوجة على عرش بيتها ، وجعل لها مكانة وحرمة مصانة ، فهي الأم والأخت والزوجة ، ولكنها وأسفي لما تنازلت عن= =عرشها البيتوي وخرجت إلى الشارع تبحث عن ذاتها الضائع وحقها السليب ـ كما تزعم ـ ضاعت وضيَّعت ، وهدمت ودمرت ، فلا هي وجدت ذاتها ـ كما أوهموها الذين يريدون بها وبالإسلام كيداً ـ ولا هي حافظت على بيتها وأسرتها من الإهمال والضياع ، وأضف إلى ذلك أباً لا يعبأ بأسرته وأبنائه أيضاً ، فتراه مشتتاً بين العمل وأماكن اللهو ، حتى خرج جيل ضائع مشتت لا أب يحكمه ولا أم تشكمه ، بل الأعجب والأغرب من ذلك أن هؤلاء الأباء والأمهات بحاجة إلى من يحكمهم ويشكمهم ، بل الأدهى والأمَر من ذلك أن الأب والأم قد صارا مصدر خطر وضرر على أبنائهما ، عندما وضعا تحت أيديهما وتصرفهما كل وسائل الضياع والفساد والإفساد كالتلفاز والهواتف وغيرها دون حسيب أو رقيب .
فقولوا لي بالله عليكم : كيف بأم وأب هذا حالهما ؟ هل يستطيعا أن يربيا جيلاً فاضلاً كما أمر الله تعالى ، ورحم الله القائل :
لا يُلام الذئب في عدوانه إنْ يكُ الراعي عدوَّ الغنم
ولله وحده المشتكى .
( 163) الرحيق المختوم : 220 ، وأنظر السيرة النبوية للصلابي : 512 .(1/142)
قال صفي الرحمن المباركفوري : ((مر بامرأة من بني دينار ، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها بأحد ، فلما نعوا لها قالت : فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : خيراً يا أم فلان ، هو بحمد الله كما تحبين ، قالت : أرونيه حتى أنظر إليه ، فأشير إليها حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جَلَلٌ ـ تريد صغيرة ـ ))(1).
وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو وسعد آخذ بلجام فرسه ، فقال : يا رسول الله أمي فقال : (( مرحباً بها )) ، ووقف لها فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ ، فقالت : أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتويت المصيبة ـ أي استقللتها ـ ثم دعا لأهل من قتل بأحد ، وقال : ( ( يا أم سعد أبشري وبشِّري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً ، وقد شفعوا في أهلهم جميعا )ً ) .
قالت : رضينا يا رسول الله ، ومن يبكي عليهم بعد هذا ؟ ثم قالت : يا رسول الله ادع لمن خلفوا منهم ، فقال : (( اللهم أذهب حزن قلوبهم ، واجبر مصيبتهم وأحسن الخَلفَ على من خُلِّفُوا ) ) (2) .
الصورة السادسة :
وهذا سعد بن الربيع رضي الله عنه في آخر لحظات عمره وقد أثقلت جسده الجراح يوم أحد ، وهو لا يسأل إلا عن رسول الله ، ويُحَمِّل أخوته الأنصار المسؤولية أمام الله إن وصل الكفار إليه .
__________
(2) 164 ) الرحيق المختوم : 220(1/143)
قال أبن القيم في (( زاد المعاد : 3 / 99 )) : (( قال زيدُ بنُ ثابت : بعثنى رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ أطلُب سعدَ بنَ الرَّبيعِ ، فقال لي : (( إنْ رَأَيْتَهُ فأقرئه منِّى السَّلاَمَ وقُلْ لهُ : (( يقولُ لَكَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : كَيْفَ تَجِدُكَ )) ؟ قالَ : فجعلتُ أطوفُ بَيْنَ القَتْلَى ، فأتيتُه وهو بآخِرِ رَمَق ، وفيه سبعونَ ضربةً ما بين طعنةٍ برُمح ، وضربةٍ بسيف ، ورميةٍ بسهم فقلت : يا سعدُ إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليكَ السَّلامَ ، ويقول لك : أخبرني كيف تَجِدُكَ ؟ فقال : وعلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم السلامُ ، قل له : يا رسُولَ اللهِ أَجِدُ ريحَ الجنة ، وقل لقومي الأنصار : لا عُذْرَ لكم عند الله إن خُلِصَ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وفيكم عَيْنٌ تَطْرِفُ ، وفاضَتْ نفسُهُ من وقته )) .
فهذه الصور الرائعة والمشرقة ما سقناه إلا على سبيل المثال لا الحصر ، وإلا فالسنة مليئة بقصص تفوقها رونقاً وروعة ، وتثير الإعجاب والاستغراب مما فعل أصحابها ، فخذ على سبيل المثال هذه الحادثة ، ففي صحيح الإمام مسلم عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني مجهود ، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت : والذي بعثك بالحق ! ما عندي إلا ماء ، ثم أرسل إلى أخرى فقالت مثل ذلك ، حتى قلنَّ كلهنَّ مثل ذلك : لا ، والذي بعثك بالحق ! ما عندي إلا ماء .(1/144)
فقال : (( من يضيف هذا الليلة رحمه الله )) فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله فانطلق به إلى رحله فقال لامرأته : هل عندك شيء ؟ قالت : لا ، إلا قوت صبياني ، قال : فعلليهم بشيء ، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنَّا نأكل ، فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه ، قال : فقعدوا وأكل الضيف ، فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة )). وفي رواية عن أبي هريرة : أن رجلاً من الأنصار بات به ضيف ، فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نَوِّمي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك ، قال فنزلت هذه الآية : {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر: 9 ].
فهذه الأمثلة الرائعة قد سقناها للدلالة على مدى حب أصحاب محمد لنبيهم ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، وإن كان البعض ينظر إليها وكأنها ضرباً من ضروب الخيال ، أو من أساطير الأولين سيقت للفكاهة وتسلية المجالس ، فهذا كلام من لا يفقه ومن يُحَكِّم عقله بمقابلة النصوص الشرعية ، وإلا فقد وصلتنا من أخبار المحبين في الدنيا ما يثير العجب والاستغراب ، والتي لا يقال فيها ما يقال في قصص الصحابة الكرام ، وإليك بعضها :
1 ) فهذا متمم بن نويرة الذي كان يحب أخاه مالكاً بن نويرة ـ الذي قتله خالد بن الوليد مرتداً ـ حباً جماً ، وكان يقول فيه كلاماً يدلل على مدى حبه له ، فيقول :
وكنا كندماني جذيمةَ(1)حقبةً من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نَبُتْ ليلةً معا
وكان كلما رأى قبراً جلس يبكي عنده على أخيه ، حتى أنَّبه على ذلك بعض أصحابه ، فرد عليه قائلاً :
__________
(1) 165 ) ندمانا جذيمة : هما مالك بن فارج وأخوه عقيل ، وكانا خاصة جذيمة الأبرش ملك العراق ، نادماه أربعين سنة ، فصار يُضرب بهما المثل في طول الصحبة .(1/145)
قال أتبكي كل قبٍر رأيته قبراً تساوى بين اللوى والدكادك
فقلتُ إن الشجى يبعثُ الشجى فدعني فهذا كلهُ قبر مالك
وقوله (( فهذا كله قبر مالك : أي الأرض كلها تمثل لي قبراً لمالك )) .
2 ) وهذا عنتر بن شداد يذكر أنه تذكر محبوبته في وقت تتطاير فيه الرؤوس وتُضرب في الأعناق ، وأنه ودَّ تقبيل السيوف لأن بريقها كبريق ثغرها الباسم ، فيقول :
ولقد ذكرتُكِ والرماحُ كأنها أشطانُ بئرٍ في لبان الأدهم
فوددت تقبيل السيوف لأنها بَرِقت كبارقِ ثغرك المتبسم
3 ) وهذا محب آخر يقول : أنه أحبَّ عدوه لأن فيه خصلة من خصال محبوبه فيقول :
وقفَ بيَّ الهوى حيث وقفتَ فلا متأخر لي عنه ولا متقدمُ
وأهنتني ،وأهنتُ نفسي جاهداً ما من يهون عليك ممن يُكرمُ
شابهتَ أعدائي فصرتُ أحبهم لبقاءِ حظي منكَ بحظي منهمُ
أجدُ الملامةَ في هواكَ لذيذةً حباً لذكركَ فليلمني اللُوَّمُ
أي : أهنتني فأهنت نفسي لأن إهانتي ترضيك ، وعدوي ماذا يريد أن يفعل بي أكثر من أن يهينني ، فلما أهنتني وأهانني عدوي صرت مثل عدوي ، فأحببت عدوي لأنه قد صار فيه خصلة منك .
ولكن شتان بين حب هؤلاء الذي يبنى غالباً على الرغبات والشهوات الفانية ، وبين حب أولئك الأخيار الذي تجرد من كل ما من شأنه يقدح في المحبة ويعيب معناها الجميل ، إلا من رغبة الوصول إلى رضى الله والفوز بدار رحمته .
أما حب هؤلاء الدنيويين فقد أطَّروه بإطار الرغبة وغلفوه بغلاف الشهوة ، وقد يصاب الإنسان في كثير من الأحيان من شدة وطئته بالجنون ، فيجعله يهيم على وجهه بالبراري والفلوات وقد فقد عقله ورشده ، وبعضهم من شدة تعلق قلبه به يبتلى عند موته بسوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى .(1/146)
قال أبن القيم في (( الجواب الكافي 1 / 137 )) : (( أن رجلاً كان واقفاً بازاء داره وكان بابها يشبه باب هذا الحمام ، فمرت به جارية لها منظر فقالت : أين الطريق إلى حمام منجاب ؟ فقال : هذا حمام منجاب ، فدخلت الدار ودخل وراءها ، فلما رأت نفسها في داره ، وعلمت أنه قد خدعها ، أظهرت له البشر والفرح بإحتماعها معه ، وقالت : خدعة منها له وتحيلاً لتتخلص مما أوقعها فيه وخوفاً من فعل الفاحشة : يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقر به عيوننا ، فقال لها : الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين ، وخرج وتركها في الدار ولم يغلقها ، فأخذ ما يصلح ورجع ، فوجدها قد خرجت وذهبت ، ولم تخنه في شيء ، فهام الرجل وأكثر الذكر لها وجعل يمشي في الطرق والأزقة ويقول :
يا رُبَّ قائلة يوماً وقد تعبت ... أين الطريق إلي حمام منجاب
فبينا يقول ذلك وإذا بجاريته أجابته من طاق قرنان :
هلا جعلتَ سريعاً إذ ظفرت بها ... حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب
فازداد هيمانه واشتد هيجانه ، ولم يزل كذلك حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا .
وقال ص 107 : وقالوا له عند الموت : قل لا إله إلا الله فقال :
يا رُبَّ قائلة يوماً وقد تعبت ... أين الطريق إلي حمام منجاب
ثم قضى .
الدليل الثاني :
لو رأينا في سير الصحابة الكرام لرأينا أنهم قد تركوا الأهل والمال والعشيرة ، بل والدنيا بما فيها وراء ظهورهم والتحقوا بالنبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) لينالوا شرف صحبته وشرف نشر دينه ، فتحملوا بذلك المصائب والمصاعب والأهوال الجسام ، حتى عضهم الجوع والفقر بنابهما ، وكساهم العوز والفاقة بردائهما ، ولو أردنا لهذا مثلاً ، لتزاحمت أمامنا النصوص والقصص ، ولكن حسبنا أن نذكر بعضاً منها :
المثال الأول :(1/147)
فهذا صهيب الرومي رضي الله عنه لما خرج من مكة مهاجراً يريد الالتحاق بحبيبه ونبيه ( - صلى الله عليه وسلم - ) لحق به كفار قريش يريدون منعه من إكمال مسيره نحو الغاية التي يريد ، فأعطاهم ما يملك ، فتركوه وشأنه فأنزل الله تبارك وتعالى فيه { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } [البقرة : 207] .
وهكذا هو شأن الصحابة الكرام يضحي أحدهم بما يملك لينال شرف الصحبة ، فالدنيا لم تكن في قلوبهم وإنما كانت في أيديهم ، ولهذا ترى أحدهم يضحي بها في لحظة فداء لله تبارك وتعالى .(1/148)
قال الإمام القرطبي في (( تفسيره : 3 / 23 )) : نزلت { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } في صيهب فإنه أقبل مهاجراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتبعه نفر من قريش ، فنزل عن راحلته ، وانتثل ما في كنانته وأخذ قوسه وقال : لقد علمتم أني من أرماكم ، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم فقالوا : لا نتركك تذهب عنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً ، ولكن دلنا على مالك بمكة ونخلي عنك وعاهدوه على ذلك ففعل ، فلما قَدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } الآية ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ربح البيع أبا يحيى ، وتلا عليه الآية ، أخرجه رزين وقاله سعيد بن المسيب رضي الله عنهما ، وقال المفسرون : أخذ المشركون صهيباً فعذبوه فقال لهم صهيب : إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم ، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني ؟ ففعلوا ذلك ، وكان شرط عليهم راحلة ونفقة ، فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ورجال فقال له أبو بكر : ربح بيعك أبا يحيى فقال له صهيب : و بيعك فلا يخسر فما ذاك ؟ فقال : أنزل الله فيك كذا وقرأ عليه الآية )) أ . هـ
المثال الثاني :(1/149)
روى البخاري في صحيحه باب ((كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتخليهم من الدنيا )) : (( أن أبا هريرة كان يقول : والله الذي لا إله إلا هو، إن كنتُ لأعتمد بكبدي على الأرضِ من الجوع ، وإن كنت لأشد الحجرَ على بطني من الجوعِ ، ولقد قعدتُ يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني ، فمر ولم يفعل ، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني ، فمر ولم يفعل ، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ، ثم قال : (( يا أبا هر )).
قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : (( الحق )) ، ومضى فاتَّبعته ، فدخل فأستأذن ، فأذن لي فدخل ، فوجد لبناً في قدح فقال : (( من أين هذا اللبن )) .
قالوا : أهداه لك فلان أو فلانة ، قال : (( أبا هر )) . قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : (( إلحق إلى أهل الصفة فادعهم لي )) .
قال : وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد ، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً ، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها ، فساءني ذلك ، فقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة ، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها فإذا جاء أمرني ، فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا ، فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت ، قال : (( يا أبا هر )) .(1/150)
قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : (( خذ فأعطهم )) قال : فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد عليَّ القدح ، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى ، ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد رويَّ القوم كلهم ، فأخذ القدح فوضعه على يده ، فنظر إليَّ فتبسم فقال : (( أبا هر )).
قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : (( بقيت أنا وأنت )) ، قلت : صدقت يا رسول الله ، قال : (( اقعد فاشرب )) ، فقعدت فشربت ، فقال : (( أشرب )) ، فشربت فما زال يقول : (( أشرب )). حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً ، قال : (( فأرني )) ، فأعطيته القدح ، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة )) .
قال أبن حجر في (( فتح الباري : 11 / 382 )) : (( وقوله (( لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع )) : أي ألصق بطني بالأرض وكأنه كان يستفيد بذلك ما يستفيده من شد الحجر على بطنه ، أو هو كناية عن سقوطه إلى الأرض مغشياً عليه كما وقع في رواية أبي حازم في أول الأطعمة فلقيت عمر بن الخطاب فاستقرأته آية فذكره قال فمشيت غير بعيد فخررت على وجهي من الجهد والجوع فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي الحديث وفي حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة الآتي في كتاب الاعتصام لقد رأيتني وأني لأخِرُّ ما بين المنبر والحجرة من الجوع مغشياً علي فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي يرى أن بي الجنون وما بي إلا الجوع ... )) .
المثال الثالث :
عن جابر قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمَّرَ علينا أبا عبيدة نتلقى عيراً لقريش ، وزودنا جراباً من تمر لم يجد غيره .(1/151)
فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة ، قال فقلت : كيف كنتم تصنعون بها ؟ قال : نمصها كما يمص الصبي ، ثم نشرب عليها من الماء ، فتكفينا يومنا إلى الليل ، وكنا نضرب بعصينا الخبط ، ثم نبله بالماء فنأكله ، قال وانطلقنا على ساحل البحر ، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم ، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر ، قال : قال أبو عبيدة : ميتة(1)، ثم قال : لا ، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله ، وقد اضطررتم فكلوا .
__________
(1) 166 ) لقد نظر أبو عبيدة رضي الله عنه ابتداءً إلى الحوت فرآه ميتة ، والميتة قد عُلم تحريمها كما قال تعالى { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل : 115] ، ولهذا حكم بالأكل منها من باب الضرورات تبيح المحظورات ، ولم يصله أن النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) قد أحَلَّ ميتة البحر ، فعن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفتتوضأ من ماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((هو الطهور ماؤه، الحل ميتته )) ، [ صحيح ، أنظر صحيح سنن أبي داود : 1 / 21 ] .
عن أبن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أحلت لكم ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالحوت والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال )) ، [ صحيح أنظر سنن أبن ماجة : 2 / 1073 ].(1/152)
قال : فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلاث مائة حتى سَمنا ، قال : ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن ، ونقتطع منه الفدر كالثور ( أو كقدر الثور ) فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه ، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها ثم رحَّل أعظم بعير معنا فمر من تحتها ، وتزودنا من لحمه وشائق ، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، فقال : (( هو رزق أخرجه الله لكم ، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ؟ )) ، قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله ))(1).
قال النووي : الجراب : وعاء من جلد معروف ، وهو بكسر الجيم وفتحها والكسر أفصح.
قوله نمصها: بفتح الميم والخبط : ورق شجر معروف تأكله الإبل.
والكثيب : التل من الرمل .
والوقب بفتح الواو وإسكان القاف وبعدها باء موحدة وهو: نقرة العين.
والقلال : الجرار.
و الفدر بكسر الفاء وفتح الدال: القطع .
رحل البعير: بتخفيف الحاء : أي جعل عليه الرحل.
والوشائق بالشين المعجمة والقاف: اللحم الذي قطع ليقدد منه ، والله أعلم(2).
المثال الرابع :
__________
(1) 167 ) رواه البخاري برقم : 4103 ، ومسلم برقم : 1935 .
(2) 168 ) رياض الصالحين : 234 .(1/153)
قال أبن القيم في : (( زاد المعاد : 3 / 288 )) : (( إنَّ أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ـ إلى غزوة تبوك ـ أياماً إلى أهله في يوم حار ، فوجد امرأتين له فى عريشينِ لهما فى حائطه ، قد رشَّت كُلُّ واحدة منهما عريشَها ، وبرَّدَتْ له ماء ، وهيأت له فيه طعاما ً، فلما دخل ، قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له ، فقال : رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى الضِّحِّ والرِّيح والحر، وأبو خيثمة فى ظِلٍّ بارد وطعام مُهَيأ ، وامرأة حسناء في ماله مقيم ؟ ما هذا بالنَّصَفِ ، ثم قال : واللهِ لا أدخل عريشَ واحدة منكما حتى ألحقَ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فهيِّئا لي زاداً ففعلتا ثم قدَّم ناضِحه فارتحله ، ثم خرج فى طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تَبُوك ، وقد كان أدرك أبا خيثمة عُميرُ بن وهب الجمحى فى الطريق يطلُب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فترافقا حتى إذا دنوا من تَبُوك ، قال أبو خيثمة لِعُمير بن وهب : إنَّ لي ذنباً فلا عليك أن تتخلَّف عنى حتى آتىَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، ففعل حتى إذا دنا مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتَبُوك ، قال الناس : هذا راكبٌ على الطريق مُقبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كُنْ أبَا خَيْثَمَة َ)) قالوا : يا رسول الله هو واللهِ أبو خيثمة ، فلما أناخَ أقبل فسلَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( أوْلى لَكَ يَا أبَا خَيْثَمَة ))، فأخبرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خبرَه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خَيْرَاً ودعا له بخير )) .
الدليل الثالث :
قدَّموه على الآباء والأمهات والأخوة والعشيرة ، بل قدَّموه حتى على أنفسهم :
المثال الأول :(1/154)
قال البخاري في صحيحه : حدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب قال: حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( فوالذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده ).
وله أيضاً قال : حدثنا يحيى بن سليمان قال : حدثني ابن وهب قال : أخبرني حيوة قال : حدثني أبو عقيل زهرة بن معبد : أنه سمع جده عبد الله بن هشام قال :
كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر : يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا، والذي نفسي بيده ، حتى أكون أحب إليك من نفسك )).
فقال له عمر : فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الآن يا عمر )) .
المثال الثاني :
كان عبد الله بن أُبُي رأس المنافقين في المدينة كثيراً ما يؤذي رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، حتى أنزل الله تبارك وتعالى فيه وأصحابه قرآناً يفضح نواياهم الخبيثة ، ويكشف سرائرهم المريضة ، فقال تعالى حكاية عنهم { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [ المنافقون : 8] .(1/155)
مما جعل أبنه الصحابي الجليل عبد الله يأتي إلى رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) ويطلب منه أن يأذن له بقتل أبيه جزاء ما قال فيه إن كان آمراً أحداً بقتله ، وهذا أقصى ما يمكن أن يصل إليه حب الصحابة لنبيهم ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، الذي لم يقف أمامه حب أب أو أم أو عشيرة ، بل تعدى كل هذه الحدود ، ليسمو عالياً فوق كل هذه الاعتبارات التي من الممكن أن تجعل الإنسان يتخاذل ويتردد أمامها .
جاء في الصحيحين عن عمرو بن دينار : أنه سمع جابراً رضي الله عنه يقول:
غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصارياً ، فغضب الأنصاري غضباً شديداً حتى تداعوا ، وقال الأنصاري : يا للأنصار ، وقال المهاجري : يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( ما بال دعوى أهل الجاهلية ؟ ثم قال : ما شأنهم )).
فأخبر بكسعة المهاجري الأنصاري قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( دعوها فإنها خبيثة )) .
وقال عبد الله بن أبي سلول : أقد تداعوا علينا ، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فقال عمر : ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث ؟ لعبد الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه ))(1).
__________
(1) 169 ) يؤخذ من هذا القول : عدم قتل الكافر إذا كان في قتله مفسدة راجحة ، والمفسدة في هذا الحديث : حديث الناس الذين لم يحيطوا علماً بالمسألة أن محمداً يقتل أصحابه مما يعود بالضرر على الدعوة النبوية .
ويؤخذ من الحديث أيضاً مفارقة لطيفة وهي قوله : ( أن محمداً يقتل أصحابه ) مع أن الذي طلبوا قتله واحداً ، وفوق ذك هو من المنافقين المبتورين ، فلماذا قالوا أصحابه وبصيغة الجمع ؟=
=وذلك لأن الخبر إذا انتشر بين الناس وخرج خارج المدينة ، فإنه سيكبر ويكبر حتى يصبح الواحد الذي قُتل جماعة ، ويصبح من خواص أصحاب محمد !!! .(1/156)
قال أبن كثير في (( تفسيره : 4 / 473 )) : قال عبد الله بن أبي عدو الله : والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل .
قال مالك بن الدخشن وكان من المنافقين : ألم أقل لكم لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا , فسمع بذلك عمر بن الخطاب فأقبل يمشي حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه , يريد عمرُ عبدَ الله بن أبي .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: (( أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله ؟ )) .
قال عمر : نعم والله لئن أمرتني بقتله لأضربن عنقه , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اجلس )) فأقبل أسيد بن حضير وهو أحد الأنصار ثم أحد بني عبد الأشهل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله ؟ )) .
قال : نعم والله لئن أمرتني بقتله لأضربن بالسيف تحت قرط أذنيه , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اجلس )) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( آذنوا بالرحيل )) فَهجَّر بالناس فسار يومه وليلته والغد حتى متع النهار , ثم نزل ثم هجر بالناس مثلها حتى صبح بالمدينة في ثلاث سارها من قفا المشلل ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أرسل إلى عمر فدعاه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أي عمر أكنت قاتله لو أمرتك بقتله ؟ )) .
قال عمر : نعم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( والله لو قتلته يومئذ لأرغمت أنوف رجال لو أمرتهم اليوم بقتله امتثلوه ، فيتحدث الناس أني قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صبراً )) وأنزل الله عز وجل {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ـ إلى قوله تعالى ـ يقولون لئن رجعنا إلى المدينة} الاَية.(1/157)
وهذا سياق غريب وفيه أشياء نفيسة لا توجد إلا فيه , وقال محمد بن إسحاق بن يسار : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن أبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه , فإن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه , فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني , إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله ، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا )) .
وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله هذا على باب المدينة , واستل سيفه فجعل الناس يمرون عليه , فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه : وراءك ! فقال : مالك ويلك ؟ فقال : والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل , فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه, فقال ابنه عبد الله : والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له , فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أما إذا أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن .
وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده : حدثنا سفيان بن عيينة , حدثنا أبو هارون المدني قال : قال عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول لأبيه : والله لا تدخل المدينة أبداً حتى تقول : رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل , قال وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي فو الذي بعثك بالحق , ما تأملت وجهه قط هيبة له , ولئن شئت أن آتيك برأسه لأتيتك فإني أكره أن أرى قاتل أبي .... )) أ . هـ
المثال الثالث :(1/158)
وهذا الصحابي الجليل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه يضرب يد عمه عروة بن مسعود لما ظهرت منه بعض التجاوزات على جناب النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) أثناء حديثه معه ، لما جاء مفاوضاً عن قريش يوم الحديبية .
روى البخاري في صحيحه حديثاً طويلاً وهذا جزء منه قال : حدثني عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر قال ، أخبرني الزهري قال ، أخبري عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا : ...
أن عروة قال ـ يوم الحديبية ـ : أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ، وإن تكن الأخرى ، فإني والله لأرى وجوهاً ، وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك ، فقال له أبو بكر : امصص ببظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ فقال: من ذا ؟ قالوا : أبو بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك ، قال : وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فكلما تكلم أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف ، وقال له : أخِّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع عروة رأسه فقال : من هذا ؟ قالوا : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي غُدَر ألست أسعى في غدرتك ، وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء )) .(1/159)
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينه ، قال : فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له ، فرجع عروة إلى أصحابه فقال : أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيماً له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فأقبلوها )) .
وفي رواية : أن عروة بن مسعود جعل يكلم النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة قائم على النبيِّ صلى اللّه عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، فضرب يده بنعل السيف وقال: أخِّرْ يدك عن لحيته ، فرفع عروة رأسه فقال : من هذا ؟
قالوا : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي غُدَر ، أو لست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم ، وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (( "أمَّا الإِسلام فقد قبلنا ، وأما المال فإِنه مال غدرٍ لا حاجة لنا فيه))(1).
قال أبن حجر في : (( فتح الباري : 5 / 403 )) : (( قوله ( أشواباً ) بتقديم المعجمة على الواو كذا للأكثر وعليها اقتصر صاحب المشارق ووقع لأبي ذر عن الكشميهني أو شاباً بتقديم الواو والأشواب الأخلاط من أنواع شتى والأوباش الأخلاط من السفلة فالأوباش أخص من الأشواب .
__________
(1) 170 ) أخرجه أبو داود في سننه برقم : 2765 وصحح الألباني في سنن أبي داود : 3 / 85 .(1/160)
قوله ( قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف ) فيه جواز القيام على رأس الأمير بالسيف بقصد الحراسة ونحوها من ترهيب العدو ولا يعارضه النهي عن القيام على رأس الجالس لأن محله ما إذا كان على وجه العظمة والكبر .
قوله ( فكلما تكلم ) في رواية السرخسي والكشميهني ( فكلما كلمه أخذ بلحيته ) وفي رواية بن إسحاق ( فجعل يتناول لحية النبي صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه ) .
قوله ( والمغيرة بن شعبة قائم ) في مغازي عروة بن الزبير رواية أبي الأسود عنه أن المغيرة لما رأى عروة بن مسعود مقبلاً لبس لأمته وجعل على رأسه المغفر ليستخفي من عروة عمه .
قوله ( بنعل السيف ) هو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها .
قوله ( أخِّر ) فعل أمر من التأخير زاد بن إسحاق في روايته قبل أن لا تصل إليك وزاد عروة بن الزبير فإنه لا ينبغي لمشرك أن يمسه وفي رواية بن إسحاق فيقول عروة ويحك ما أفظك وأغلظك وكانت عادة العرب أن يتناول الرجل لحية من يكلمه ولا سيما عند الملاطفة وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير لكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضي لعروة عن ذلك استمالة له وتأليفاً والمغيرة يمنعه إجلالاً للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً.
قوله ( فقال من هذا قال المغيرة ) وفي رواية أبي الأسود عن عروة فلما أكثر المغيرة مما يقرع يده غضب وقال ليت شعري من هذا الذي آذاني من بين أصحابك والله لا أحسب فيكم ألأم منه ولا أشر منزلة ، وفي رواية بن إسحاق فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له عروة : من هذا يا محمد ؟ قال : هذا بن أخيك المغيرة بن شعبة ، وكذا أخرجه بن أبي شيبة من حديث المغيرة بن شعبة نفسه بإسناد صحيح وأخرجه بن حبان .
قوله ( أي غُدَر ) بالمعجمة بوزن عمر معدول عن غادر مبالغة في وصفه بالغدر .(1/161)
قوله ( ألست أسعى في غدرتك ) أي ألست أسعى في دفع شر غدرتك ، وفي مغازي عروة : والله ما غسلت يدي من غدرتك ، لقد أورثتنا العداوة في ثقيف ، وفي رواية بن إسحاق : وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس ، قال بن هشام في السيرة أشار عروة بهذا إلى ما وقع للمغيرة قبل إسلامه وذلك أنه خرج مع ثلاثة عشر نفراً من ثقيف من بني مالك فغدر بهم وقتلهم وأخذ أموالهم ، فتهايج الفريقان بنو مالك والأحلاف رهط المغيرة ، فسعى عروة بن مسعود عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفساً واصطلحوا ، وفي القصة طول وقد ساق بن الكلبي والواقدي القصة وحاصلها أنهم كانوا خرجوا زائرين المقوقس بمصر فأحسن إليهم وأعطاهم ، وقصر بالمغيرة فحصلت له الغيرة منهم فلما كانوا بالطريق شربوا الخمر فلما سكروا وناموا وثب المغيرة فقتلهم ولحق بالمدينة فأسلم .
قوله ( أما الإسلام فأقبل ) بلفظ المتكلم أي أقبله .
قوله ( وأما المال فلست منه في شيء ) أي لا أتعرض له لكونه أخذه غدراً ، ويستفاد منه أنه لا يحل أخذ أموال الكفار في حال الأمن غدراً ، لأن الرفقة يصطحبون على الأمانة ، والأمانة تؤدى إلى أهلها مسلماً كان أو كافراً ، وأن أموال الكفار إنما تحل بالمحاربة والمغالبة ، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك المال في يده لإمكان أن يسلم قومه فيرد إليهم أموالهم ، ويستفاد من القصة أن الحربي إذا أتلف مال الحربي لم يكن عليه ضمان وهذا أحد الوجهين للشافعية .
قوله ( فجعل يرمق ) بضم الميم أي يلحظ .(1/162)
قوله ( فدلك بها وجهه وجلده ) زاد بن إسحاق ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه وقوله ( وما يحدون ) بضم أوله وكسر المهملة أي يديمون ، وفيه طهارة النخامة والشعر المنفصل والتبرك بفضلات الصالحين الطاهرة ، ولعل الصحابة فعلوا ذلك بحضرة عروة وبالغوا في ذلك إشارة منهم إلى الرد على ما خشيه من فرارهم وكأنهم قالوا بلسان الحال : من يحب إمامه هذه المحبة ويعظمه هذا التعظيم كيف يظن به أنه يفر عنه ويسلمه لعدوه بل هم أشد اغتباطا به وبدينه وبنصره من القبائل التي يراعي بعضها بعضاً بمجرد الرحم ، فيستفاد منه جواز التوصل إلى المقصود بكل طريق سائغ قوله ( ووفدت على قيصر ) هو من الخاص بعد العام وذكر الثلاثة لكونهم كانوا أعظم ملوك ذلك الزمان ، وفي مرسل علي بن زيد عند بن أبي شيبة فقال عروة : أي قوم إني قد رأيت الملوك ما رأيت مثل محمد وما هو بملك ولكن رأيت الهدي معكوفاً وما أراكم إلا ستصيبكم قارعة فانصرف هو ومن اتبعه إلى الطائف )) .
المثال الرابع :
قال صفي الرحمن المباركفوري في (( الرحيق المختوم : 305 )) : (( وقدم أبو سفيان المدينة ، فدخل على أبنته أم حبيبة ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه ، فقال : يا بنية أرغبت بي عن هذا الفراش ، أم رغبت به عني ؟ قالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت رجل مشرك نجس . فقال : والله لقد أصابك بعدي شر )) .
الدليل الرابع :
إنَّ الصحابة الكرام من شدة حبهم وتعظيمهم لنبيهم ( - صلى الله عليه وسلم - ) فإنهم كانوا يبادرون إلى فعل ما أمر ، ولا يرجعون عن وعد قطعوه له ولو بعد مماته :
المثال الأول :(1/163)
عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر قال : ... كان الرجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال وكنت غلاماً شاباً عزباً ، وكنت أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأيت في النوم كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار ، فإذا هي مطوية كطي البئر ، وإذا لها قرنان كقرني البئر ، وإذا فيها ناس قد عرفتهم ، فجعلت أقول : أعوذ بالله من النار ، أعوذ بالله من النار ، أعوذ بالله من النار ، قال فلقيهما ملك فقال لي : لم ترع ، فقصصتها على حفصة. فقصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( نعم الرجل عبد الله ! لو كان يصلي من الليل )) . ...
قال سالم : فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً )) .(1)
المثال الثاني :
روى الإمام البخاري في صحيحه قال : عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال : أنكحني أبي امرأة ذات حسب ، فكان يتعاهد كنته فيسألها عن بعلها ، فتقول : نِعْمَ الرجل ، من رجل لم يطأ لنا فراشاً ، ولم يفتش لنا كنفاً مذ أتيناه ، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : (القني به). فلقيته بعد فقال : (( كيف تصوم ؟ )) .
__________
(1) 171 ) رواه البخاري برقم : 1070، ومسلم برقم : 2479، واللفظ له .(1/164)
قلت : كل يوم ، قال : ( وكيف تختم ؟ )) ، قلت : كل ليلة ، قال : (( صم في كل شهر ثلاثة ، واقرأ القرآن في كل شهر )) ، قال : قلت : أطيق أكثر من ذلك ، قال : (( صم ثلاثة أيام في الجمعة )) ، قلت : أطيق أكثر من ذلك ، قال : (( أفطر يومين وصم يوماً )) ، قال : قلت : أطيق أكثر من ذلك ، قال : (( صم أفضل الصوم ، صوم داود صيام يوم وإفطار يوم ، واقرأ في كل سبع ليال مرة )) ، فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذاك أني كبرت وضعفت ، فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار ، والذي يقرؤه يعرضه من النهار ، ليكون أخف عليه بالليل ، وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياماً، وأحصى وصام أياما مثلهن ، كراهية أن يترك شيئا فارق النبي صلى الله عليه وسلم عليه .
وفي رواية الإمام أحمد في مسنده : عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال : زوجني أبي امرأة من قريش فلما دخلت علي جعلت لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة من الصوم والصلاة ، فجاء عمرو أبن العاص إلى كنته حتى دخل عليها فقال لها كيف وجدت بعلك ؟ قالت : خير الرجال أو كخير البعولة من رجل لم يفتش لنا كنفاً ولم يعرف لنا فراشاً !!! فأقبل عليَّ فعذمني وعضني بلسانه فقال : أنكحتك امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها وفعلت وفعلت ، ثم أنطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكاني فأرسل إلي النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته فقال لي : أتصوم النهار ؟قلت : نعم ، قال
: (((1/165)
وتقوم الليل )) ، قلت : نعم ، قال : (( لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأمس النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني )) ، قال : (( اقرأ القرآن في كل شهر )) قلت : أني أجدني أقوى من ذلك ، قال : فاقرأه في كل عشرة أيام ، قلت : أني أجدني أقوى من ذلك ، قال : أحدهما إما حصين وإما مغيرة قال : فاقرأه في كل ثلاث قال ثم قال : صم في كل شهر ثلاثة أيام ، قلت : أني أقوى من ذلك ، قال : فلم يزل يرفعني حتى قال صم يوماً وافطر يوماً فإنه أفضل الصيام وهو صيام أخي داود صلى الله عليه وسلم ، قال : حصين في حديثه : ثم قال صلى الله عليه وسلم : (( فإن لكل عابد شرة ولكل شرة فترة ، فإما إلى سنة وإما إلى بدعة ، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك .
قال مجاهد : فكان عبد الله بن عمر وحيث ضعف وكبر يصوم الأيام كذلك يصل بعضها إلى بعض ليتقوى بذلك ثم يفطر بعد تلك الأيام قال : وكان يقرأ في كل حزبه كذلك يزيد أحياناً وينقص أحياناً غير أنه يوفي العدد إما في سبع وإما في ثلاث قال : ثم كان يقول بعد ذلك : لأن أكون قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى مما عدل به أو عدل ، لكني فارقته على أمر أكره أن أخالفه إلى غيره )) .
الدليل الخامس :
طاعتهم لأوامره ، وكتمانهم لأسراره ، مما يدلل على مدى حبهم وتعظيمهم لنبيهم ( - صلى الله عليه وسلم - ) :
المثال الأول :
روى البخاري في صحيحه : عن سالم أبن عبد الله : أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدث : أن عمر بن الخطاب، حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد بدرا، توفي بالمدينة، قال عمر: فلقيت عثمان بن عفان، فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر ، قال : سأنظر في أمري ، فلبث ليالي فقال : قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا .(1/166)
قال عمر : فلقيت أبا بكر فقلت : إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر ، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئاً ، فكنت عليه أوجد مني على عثمان ، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه ، فلقيني أبو بكر فقال : لعلك وجدت علي حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك ؟ ، قلت : نعم ، قال : فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت ، إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها ، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو تركها لقبلتها.
المثال الثاني :
روى مسلم في صحيحه : عن ثابت عن أنس ، قال : أتى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان قال فسلم علينا ، فبعثني إلى حاجة ، فأبطأت على أمي ، فلما جئتُ قالت : ما حبسك ؟ قلت : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة ، قالت : ما حاجته ؟ قلت : إنها سر ، قالت : لا تحدثن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ، قال أنس : والله ! لو حدثت به أحداً لحدثتك يا ثابت ! .
قال الإمام أبن حجر في (( فتح الباري : 11 / 111 )) : (( قوله أسر إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم سراً في رواية ثابت عن أنس عند مسلم في أثناء حديث فبعثني في حاجة فأبطأت على أمي ، فلما جئت قالت ما حبسك ، ولأحمد وأبن سعد من طريق حميد عن أنس : فأرسلني في رسالة فقالت أم سليم ما حبسك قوله فما أخبرت به أحداً بعده ولقد سألتني أم سليم في رواية ثابت فقالت : ما حاجته ؟ قلت إنها سر ، قالت : لا تخبر بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً ، وفي رواية حميد عن أنس فقالت : احفظ سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية ثابت والله لو حدثت به أحداً لحدثتك يا ثابت .
قال بعض العلماء : كأن هذا السر كان يختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فلو كان من العلم ما وسع أنساً كتمانه .(1/167)
وقال بن بطال : الذي عليه أهل العلم أن السر لا يباح به إذا كان على صاحبه منه مضرة ، وأكثرهم يقول : انه إذا مات لا يلزم من كتمانه ما كان يلزم في حياته إلا أن يكون عليه فيه غضاضة .
قلت : الذي يظهر انقسام ذلك بعد الموت إلى ما يباح وقد يستحب ذكره ولو كرهه صاحب السر كأن يكون فيه تزكية له من كرامة أو منقبة أو نحو ذلك ، وإلى ما يكره مطلقاً ، وقد يحرم وهو الذي أشار إليه بن بطال ، وقد يجب كأن يكون فيه ما يجب ذكره كحق عليه كان يعذر بترك القيام به فيرجى بعده إذا ذكر لمن يقوم به عنه أن يفعل ذلك ... )) أ . هـ
الدليل السادس :
وتظهر منزلة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) جلية واضحة عند الصحابة الكرام لدى سماعهم لخبر وفاته ، فمنهم من أنكره وتوعد من يقوله بشر العقاب ، ومنهم من بكاه ومنهم من رثاه :
موقف عمر :
ووقف عمر بن الخطاب يقول : إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات ، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات .
ووالله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات .
موقف أبي بكر :
وأقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسُّنْح حتى نزل، فدخل المسجد ، فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشي بثوب حِبَرَة ، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه ، فقبله وبكي ، ثم قال : بأبي أنت وأمي ، لا يجمع الله عليك موتتين ، أما الموتة التي كتبت عليك فقد مِتَّهَا .
ثم خرج أبو بكر وعمر يكلم الناس فقال : اجلس يا عمر ، فأبي عمر أن يجلس ، فتشهد أبو بكر فأقبل الناس إليه وتركوا عمر ، فقال أبو بكر :(1/168)
أما بعد : من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات ، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، قال الله : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ، وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا ، وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ } [ آل عمران : 144 ] .
قال أبن عباس : والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر ، فتلقاها منه الناس كلهم ، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها .
قال أبن المسيب : قال عمر : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفت أنه الحق ، فعقرت حتى ما تُقُلِّني رجلاي ، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات .
وتسرب النبأ الفادح ، وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها ، قال أنس : ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما رأيت يوماً كان أقبح ولا دخل علينا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعنه قال : لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) المدينة أضاء منها كل شيء ، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء ، ولما نفضنا عن رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) الأيدي ، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا )) [ جامع الترمذي 5 / 588 ] .
ولما مات قالت فاطمة : يا أبتاه، أجاب ربا دعاه . يا أبتاه ، مَنْ جنة الفردوس مأواه ، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه(1) .
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه في موت رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - ) :
__________
(1) 172 ) الرحيق المختوم : 404 .(1/169)
ما بال عينيك لا تنام كأنها كُحِلَت مآقيها(1)بكحل الأرمد(2)
جزعاً على المهدي أصبح ثاوياً يا خير من وطئ الحصى لا تبعد
وجهي يقيك الترب لهفي ليتني غُيِّبْتُ قبلك في بقيع الغرقد(3)
بأبي وأمي من شهدت وفاته في يوم الأثنين النبي المهتدي
فظللتُ بعد وفاته متلبداً متلدداً(4)يا ليتني لم أولد
ثم قال :
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت مثل الرسول نبي الأمة الهادي
يا أفضل الناس إني كنت في نهر أصبحت منه كمثل المفرد الصادي(5))(6)
الخاتمة
لقد مر بنا فصول ومباحث عرفنا من خلالها علو منزلة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) ورفعة مكانته ، سواء كانت عند ربه تبارك وتعالى ، أم عند أصحابه الكرام ، مما يجعل الذين يريدون أو يحاولون الإساءة إليه كمن يصرخ في وادٍ بين جبلين ، لا يسمع إلا صدى صوته .
ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نسجل فخرنا واعتزازنا أن جعلنا الله تبارك وتعالى عباداً له مسلمين ، وجعلنا من أتباع سيد الأنبياء والمرسلين ( - صلى الله عليه وسلم - ) ، ورحم الله القائل :
ومما زادني حباً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن بعثت لي محمداً نبيا
ولا نقول إلا كما قال الأنصار رضي الله عنهم يوم قسمة غنائم حنين : رضينا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم قَسْمًا وحظاً ، وليذهب الناس بالدنيا والفرس والبعير ، فلا نرضي بغيره ولا نقبل سواه .
__________
(1) 173) المآقي : جمع مأق ومؤق وهي مجاري الدمع من العين
(2) 174 ) الأرمد : الذي يشتكي وجع العين .
(3) 175 ) بقيع الغرقد : المكان الذي يدفن فيه أهل المدينة موتاهم .
(4) 176 ) متلدد : متحير .
(5) 177 ) الصادي : العاطش .
(6) 178 ) السيرة النبوية للصلابي : 892 .(1/170)
قال صفي الرحمن المباركفوري في : (( الرحيق المختوم : 360 )) : (( روى أبن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال : لما أعطي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء ، وَجَدَ هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القَالَةُ ، حتى قال قائلهم : لقي واللّه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قومه ، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال : يا رسول اللّه إن هذا الحي من الأنصار قد وَجَدُوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ، قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء .
قال : (( فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ )) ، قال : يا رسول اللّه ما أنا إلا من قومي . قال : (( فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة ) ) ، فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة ، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا ، وجاء آخرون فردهم ، فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال : لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار ، فأتاهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحمد اللّه وأثني عليه، ثم قال : ( ( يا معشر الأنصار ما قَالَهٌ بلغتني عنكم ، وَجِدَةٌ وجدتموها على في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم اللّه ؟ وعالة فأغناكم اللّه ؟ وأعداء فألف اللّه بين قلوبكم ؟ )) قالوا : بلي ، اللّه ورسوله أمَنُّ وأفْضَل ُ .
ثم قال : (( ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ )) .(1/171)
قالوا : بماذا نجيبك يا رسول اللّه ؟ للّه ورسوله المن والفضل ، قال : (( أما واللّه لو شئتم لقلتم فصَدَقْتُمْ ولصُدِّقْتُمْ : أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلاً فآسَيْنَاك ، أوَجَدْتُمْ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لَعَاعَةٍ من الدنيا تَألفَّتُ بها قوماً ليُسْلِمُوا ، ووَكَلْتُكم إلى إسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شِعْبًا ، وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار ، اللّهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار )) .
فبكي القوم حتى أخْضَلُوا لِحَاهُم وقالوا : رضينا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم قَسْمًا وحظا ً، ثم انصرف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتفرقوا )) .
وبه يتم ما أردنا كتابته في هذه التذكرة الوجيزة ، فما كان فيها من الصواب والحق فمن الله تعالى وحده ، ولله وحده الحمد والشكر والمنَّة .
وإن كان غير ذلك فمني والشيطان ، والله ورسوله منه بريئان ، وأنا راجع عنه وأتوب إلى الله تعالى منه .
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يلهمنا الرشد في القول والعمل ، وأن يكلل أعمالنا بالنجاح والفلاح إنه كريم جواد .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهم على عبدك ورسولك الصادق الأمين ، وعلى آله وصحبه وسلِّم .
وكتبه
حامداً مصلياً مسلماً شاكراً
أبو سيف العبيدي الأثري
وكان الفراغ منه يوم الجمعة 9 / جمادى الأولى / 1428هـ
الموافق 25 / 5 / 2007 م .
فهرس الموضوعات
الموضوع الصفحة
المقدمة ....................................... 1
الفصل الأول
بيان منزلة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) عند ربه تبارك وتعالى :
أقسام الأدلة الدالة على علو منزلته: ................ 11(1/172)
القسم الأول : أدلة الخصائص والمميزات الدنيوية .
القسم الثاني : أدلة الخصائص والمميزات الأخروية .
القسم الأول : أدلة الخصائص والمميزات الدنيوية .
الدليل الأول : ............................... 12
الدليل الثاني : ................................. 17
الدليل الثالث : ................................ 26
الدليل الرابع : ............................... 27
الدليل الخامس : ................................ 31
الدليل السادس : ................................ 40
الدليل السابع : ................................ 44
الدليل الثامن : ................................. 45
الدليل التاسع : ................................. 47
الدليل العاشر : ................................. 49
الدليل الحادي عشر : ............................... 54
الدليل الثاني عشر : ............................... 55
الدليل الثالث عشر : ............................... 58
الدليل الرابع عشر ............................. 64
الدليل الخامس عشر : .......................... 65
الدليل السادس عشر : ......................... 67
الدليل السابع عشر : .......................... 68
الدليل الثامن عشر : ........................... 73
الدليل التاسع عشر : ........................... 77
الدليل العشرين : ........................... 78
الدليل الحادي والعشرين : ......................... 85
الدليل الثاني والعشرين : ........................... 88
الدليل الثالث والعشرين : .......................... 89
الدليل الرابع والعشرين : .......................... 91
الدليل الخامس والعشرين : .......................... 93
الدليل السادس والعشرين : .......................... 93
القسم الثاني :
أدلة الخصائص والمميزات الأخروية :(1/173)
الدليل الأول : ........................................ 95
الدليل الثاني : ........................................ 97
الدليل الثالث : ........................................ 99
الدليل الرابع : ........................................ 116
الدليل الخامس : ........................................ 117
الدليل السادس : ........................................ 118
الدليل السابع : ........................................ 119
الدليل الثامن : ........................................ 119
الدليل التاسع : ........................................ 120
الفصل الثاني
بيان منزلة النبي ( - صلى الله عليه وسلم - ) عند أصحابه الكرام
الدليل الأول : ....................................... 123
الدليل الثاني : ....................................... 138
الدليل الثالث : ....................................... 144
الدليل الرابع : ....................................... 153
الدليل الخامس : ....................................... 155
الدليل السادس : ....................................... 157
الخاتمة ......................................... 160
الفهرس ......................................... 163
تم والحمد لله رب العالمين(1/174)