وعَنْ عَلِىٍّ قَالَ ذَكَرَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ فِيهِمْ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ - أَوْ مُودَنُ الْيَدِ أَوْ مَثْدُونُ الْيَدِ - لَوْلاَ أَنْ تَبْطَرُوا لَحَدَّثْتُكُمْ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ يَقْتُلُونَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- - قَالَ - قُلْتُ آنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ إِى وَرَبِّ الْكَعْبَةِ إِى وَرَبِّ الْكَعْبَةِ إِى وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.(2/2)
وعن زَيْدَ بْنِ وَهْبٍ الْجُهَنِىُّ أَنَّهُ كَانَ فِى الْجَيْشِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِىٍّ - رضى الله عنه - الَّذِينَ سَارُوا إِلَى الْخَوَارِجِ فَقَالَ عَلِىٌّ رضى الله عنه أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ « يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِى يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَىْءٍ وَلاَ صَلاَتُكُمْ إِلَى صَلاَتِهِمْ بِشَىْءٍ وَلاَ صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَىْءٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لاَ تُجَاوِزُ صَلاَتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ». لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِىَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ -صلى الله عليه وسلم- لاَتَّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلاً لَهُ عَضُدٌ وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْىِ عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ فَتَذْهَبُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ وَتَتْرُكُونَ هَؤُلاَءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِى ذَرَارِيِّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَاللَّهِ إِنِّى لأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا فِى سَرْحِ النَّاسِ فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. قَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ فَنَزَّلَنِى زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ مَنْزِلاً حَتَّى قَالَ مَرَرْنَا عَلَى قَنْطَرَةٍ فَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَعَلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الرَّاسِبِىُّ فَقَالَ لَهُمْ أَلْقُوا الرِّمَاحَ وَسُلُّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ جُفُونِهَا فَإِنِّى أَخَافُ أَنْ يُنَاشِدُوكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ. فَرَجَعُوا فَوَحَّشُوا(2/3)
بِرِمَاحِهِمْ وَسَلُّوا السُّيُوفَ وَشَجَرَهُمُ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ - قَالَ - وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَمَا أُصِيبَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ رَجُلاَنِ فَقَالَ عَلِىٌّ رضى الله عنه الْتَمِسُوا فِيهِمُ الْمُخْدَجَ. فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَقَامَ عَلِىٌّ - رضى الله عنه - بِنَفْسِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَالَ أَخِّرُوهُمْ. فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِى الأَرْضَ فَكَبَّرَ ثُمَّ قَالَ صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ - قَالَ - فَقَامَ إِلَيْهِ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِىُّ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اللَّهَ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَسَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِى وَاللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ.
حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلاَثًا وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ.(2/4)
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ الْحَرُورِيَّةَ لَمَّا خَرَجَتْ وَهُوَ مَعَ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ - رضى الله عنه - قَالُوا لاَ حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ. قَالَ عَلِىٌّ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصَفَ نَاسًا إِنِّى لأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِى هَؤُلاَءِ « يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لاَ يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ - وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ - مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ مِنْهُمْ أَسْوَدُ إِحْدَى يَدَيْهِ طُبْىُ شَاةٍ أَوْ حَلَمَةُ ثَدْىٍ ». فَلَمَّا قَتَلَهُمْ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ - رضى الله عنه - قَالَ انْظُرُوا. فَنَظَرُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا فَقَالَ ارْجِعُوا فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلاَ كُذِبْتُ. مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا ثُمَّ وَجَدُوهُ فِى خَرِبَةٍ فَأَتَوْا بِهِ حَتَّى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَأَنَا حَاضِرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَقَوْلِ عَلِىٍّ فِيهِمْ زَادَ يُونُسُ فِى رِوَايَتِهِ قَالَ بُكَيْرٌ وَحَدَّثَنِى رَجُلٌ عَنِ ابْنِ حُنَيْنٍ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الأَسْوَدَ. وغير ذلك كثير
==============
المسير إلى الخوارج(1)
لما بلغ الناسَ صنيعُ الخوارج وإفسادُهم، خافوا إن هم ذهبوا إلى الشام واشتغلوا بقتال أهلِه أن يَخلُفَهم هؤلاء في أبنائهم وديارهم بهذا الصنع، وأشاروا على أمير المؤمنين بأن يبدأ بهؤلاء، ثم إذا فرغ منهم ذهب إلى أهل الشام بعد ذلك والناس آمنون من شرهم، فاجتمع الرأي على هذا، وفيه خير عظيم لهم ولأهل الشام.
__________
(1) - تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 119) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 8 / ص 421)(2/5)
ونادَى منادِي عليٍّ في الناس بالرحيل، فعبَر بهم أميرُ المؤمنين الجسرَ فصلى ركعتين عنده، ثم سلك دير عبد الرحمن، ثم دير أبي موسى، ثم شاطئ الفرات، ثم سلك ناحيةَ الأنْبار، وبعث بين يديْه قيسَ بنَ سعد، وأمَرَه أن يأتي المدائن، وأن يلقاه بنائبها سعد بن مسعود الثقفي في جيش المدائن؛ فاجتمع الناسُ هنالك على عليٍّ، وبعث إلى الخوارج أنْ أخرجوا إلينا قَتَلَةَ إخوانِنا منكم حتى نقتلهم، ثم نحن تارِكُوكم.. ثم لعل الله أن يُقبِل بقلوبكم، ويردَّكم إلى خيرٍ مما أنتم عليه. فبعثوا إلى عليٍّ يقولون : كلُّنا قَتَلَةُ إخوانِكم، ونحن مستحِلُّون دماءَهم ودماءَكم.
فتقدم إليهم قيس بن سعد بن عبادة، فوعظهم فيما ارتكبوه من الأمر العظيم، والخطب الجسيم، فلم ينفع، وكذلك أبو أيوب الأنصاري أنَّبَهم ووبَّخَهم فلم ينفع. وتقدم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فوعظهم وخوفهم، وأنذرهم وحذرهم وتوعدهم، لكن الخوارج أبَوْا إلا ما عزموا عليه، وامتنعوا عن تسليم مَنْ قتلَ عبدَ الله بن خباب، فعبأ لهم أمير المؤمنين جيشه ليقاتلَهم، فجعل على ميمنته حُجرَ بن عدي، وعلى ميسرته شَبَثَ بن ربعي، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرَّجَّالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة ـ وهم سبعمائة ـ قيسَ بن سعد، وتقدموا فاصطفّوا للقتال.
وعبّأت الخوارج، فجعلوا على ميمنتهم زيدَ بن حصين الطائي، وعلى الميسرة شُرَيْح بن أوفى العبسي، وعلى خيلهم حمزةَ بن سنان الأسديّ، وعلى الرَّجالة حُرْقُوص بن زهير السعدي، واصطفوا مواجهين أميرَ المؤمنين عليا وأصحابه.
=================
موقعة النهروان(1)
__________
(1) - تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 120و121)(2/6)
سار الخوارجُ مَعَبَّئين إلى جيش عليٍّ، فقدّم أمير المؤمنين الخيل بين يديه دون الرجال، وصفّ الناس وراءَ الخيل صَفَّيْن، وقدّم منهم الرماة، وقال لأصحابه: كُفُّوا عنهم حتى يبدءوكم. وأقبلت الخوارجُ يقولون: لا حُكْمَ إلا لله، الرَّوَاحَ الرواحَ إلى الجنة! فحملوا على الخَيّالة الذين قدّمهم عليّ ففرّقوهم، حتى أخذت طائفةٌ من الخيالة إلى الميمنة، وأخرى إلى الميسرة، ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف، فصار الخوارج صَرْعَى تحت سنابك الخيول، وقُتل أمراؤهم: عبد الله بن وهب، وحُرْقوص بن زهير، وشُرَيْح بن أوفى، وعبد الله بن شجرة. ولم يقتلْ من أصحاب عليّ إلا سبعة نفر،
وفي رواية أن علياً خرج في طلب ذي الثدية ومعه سليمان بن ثمامة الحنفي أبو جبرة، والريان بن صبر ابن هوذة، فوجده الريان بن صبرة بن هوذة في حفرة على شاطىء النهر في أربعين أو خمسين قتيلاً. قال: فلما استخرج نظر إلى عضده، فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة، له حلمة عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذى طول يده الأخر، ثم تترك فتعود إلى منكبه كثدي المرأة، فلما استخرج قال علي: الله أكبر! والله ما كذبت ولا كذبت، أما والله لولا أن تنكلوا عن العمل، لأخبرتكم بما قضى الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم لمن قاتلهم مستبصراً في قتالهم، عارفاً للحق الذي نحن عليه. قال: ثم مر وهم صرعى فقال: بؤساً لكم! لقد ضركم من غركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، من غرهم؟ قال: الشيطان، وأنفسٌ بالسوء أمارة، غرتهم بالأماني، وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون. قال: وطلب من به رمق منهم فوجدناهم أربعمائة رجل، فأمر بهم علي فدفعوا إلى عشائرهم، وقال: احملوهم معكم فداووهم، فإذا برئوا فوافوا بهم الكوفة، وخذوا ما في عسكرهم من شيء.
قال: وأما السلاح والدواب وما شهدوا به عليه الحرب فقسمه بين المسلمين، وأما المتاع والعبيد والإماء فإنه حين قدم رده على أهله.(2/7)
وكانت هذه الوقعة في التاسع من صفر سنة ثمان وثلاثين من الهجرة.
ولم يكن هذا آخرَ قتالٍ بين أمير المؤمنين عليٍّ وبين الخوارج، فقد نَدِمَ الذين تخلَّفُوا عن إخوانهم من الخوارج في النهروان، وجدّدوا الحرب ضد الخليفة، فقاتلهم قتالا مريرا، وكان لذلك أثر كبير في عصيان أهل الكوفة لأمير المؤمنين علي.
===============
قتال الخوارج الذين لم يشهدوا النهروان (1)
بعد موقعة النَّهْروان ندم من الخوارج مَنْ كانوا فارقوا أصحابَهم، ومَنْ لجأوا إلى راية أبي أيوب أثناء المعركة، ومن كان أقام بالكوفة منهم غيرَ مُنْحَازٍ، فتجمعوا آسِفِينَ على خذلانهم أصحابَهم، فقام فيهم أحد كبرائهم وخَطَبهم حاثّا لهم على قتال عليٍّ، فخرجوا إلى النُّخَيْلة، فأرسل إليهم عليّ عبدَ الله بن عباس ناصحا، فأبَوْا، فسار إليهم أمير المؤمنين، وطحنتهم جميعا الحربُ بالنُّخَيْلة، ولم يَنْجُ منهم إلا خمسة فقط.
=============
عصيان أهل الكوفة لعلي رضي الله عنه (2)
لما انتهى أمير المؤمنين من أمر الخوارج في النهروان أمر أصحابه بالمسير إلى الشام لقتال معاوية ومن معه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نَفِدَتْ نِبالُنا وكَلّتْ سيوفُنا.. فانصرفْ بنا إلى مِصْرِنا (أي بلدنا) حتى نستعد بأحسن عُدّتنا، ولعل أمير المؤمنين يَزيد في عُدتنا عُدة مَنْ فارقنا وهلك منّا، فإنه أقوى لنا على عدوّنا.
فأقبل عليّ بالناس حتى نزلوا بالنُّخَيْلة فعسكر بها، وأمر الناس أن يلزموا مُعسكرَهم ويوطِّنوا أنفسهم على جهاد عدوهم، وأن يُقِلُّوا زيارة نسائهم وأبنائهم.
__________
(1) - تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 121)
(2) - تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 121)(2/8)
فأقاموا معه أياما متمسكين برأيه وقوله، ثم تسللوا حتى لم يَبْقَ منهم أحد إلا رءوس أصحابه، وأمسى المعسكر خاليا، فلما رأى ذلك دخل الكوفة، وانكسر عليه رأيه في المسير إلى عدوهم، ووبَّخهم وأنَّبَهم وتَوَعَّدهم، وتلا عليهم آياتٍ في الجهاد من سُوَرٍ متفرقة، وحضّهم على المسير إلى عدوهم، فأبَوْا ذلك وخالفوه ولم يوافقوه، واستمروا في بلادهم، وتفرقوا عنه هنا وهناك.
لقد ضعُفت عزائمُهم، فملُّوا من القتال، وإذا كانت هذه حال الجيش فلا عجب مما آل إليه حال أمير المؤمنين عليّ نفسِه، فإن سلطانه صار إلى نقصان يوما بعد يوم، وهو كل ساعة يحرّضهم بما آتاه الله من فصاحة اللسان وبلاغة القول، فما ازدادوا إلا فتورا، وقليل منهم الذي أخلص القول والعمل.
وكثرت عليه الخوارج بحجّتِهم التي تَأوّلوها، وهي أنه حكَّم الرجال في دين الله ولا حُكْمَ إلا لله.
===============
اشتداد أمر معاوية رضي الله عنه (1)
بلغ عليا رضي الله عنه مقتلُ محمد بن أبي بكر، وما انتهى إليه الأمر بمصر، وسيطرة عمرو بن العاص عليها، وتسليم الناس على معاوية بالخلافة، فقام علي في الناس خطيبًا فحضّهم على الجهاد والصبر والمسير إلى أعدائهم من الشاميين والمصريين، فلم يُجيبوه، وانتهى أمر العراقيين إلى الخروج على عليٍّ ومخالفته فيما يأمرهم به وينهاهم عنه، حتى طمع أهل فارس ومنعوا الخراج.
__________
(1) - تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 143) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 8 / ص 469)(2/9)
وبعد أن تم لمعاوية أمرُ مصرَ سيَّرَ إلى البصرة عبدَ الله بن الحضرميّ، فاجتمع إليه جمعٌ كثير ممن يطلب بثأر سيدنا عثمان ومن نُكِبَ في الجمل، ولم يصل معاوية بهذه المحاولة إلى نتائج مرضية له، فبدأ يجهز جيشه ليفرقه في الأنحاء الخاضعة لعليٍّ، خاصة بعدما رأى من عصيان جيوش أهل العراق لعلي، وصار معاوية يرى أنه أوْلَى بأمر المسلمين من عليٍّ، فبعث في سنة تسع وثلاثين النعمانَ بن بشير في ألفَيْ فارس إلى عين التمر، فانهزموا ولم يحققوا شيئا، وبعث ستة آلاف إلى هِيت، فلم يجد بها أحدا، فسار إلى الأنبار فأغار عليها واحتمل ما كان بها من أموال ثم عاد، كما بعث عبدَ الله بن مسعدة الفزاري في ألف وسبعمائة فارس إلى تَيْمَاء، فانهزموا أمام جيش عليٍّ وفروا هربا إلى الشام، وصارت السرايا بعد ذلك تتردد بين الجبهتين وكلٌّ يريد كَسْبَ أنصار له رغبة في إغلاق الباب في وجه الصراعات الطاحنة، حتى سيَّر معاوية إلى مكة أميرًا على الموسم، ولكن الناس اختاروا غيره أميرًا للحج، فأَمَّهم وقضيت المناسك في سلام.
كما سير معاوية إلى اليمن والحجاز بسر بن أرْطَأة، فاستطاع أن يُدخِل اليمن في طاعته، وأَرسَلَ عليٌّ سريةً ردَّتْه عن الحجاز، وأصبحت دولة معاوية تتسع بمرور الوقت، في الوقت الذي تضيق فيه دولة عليٍّ.
وانتهى الأمر بأنْ جَرَتْ بينهما مهادنة بعد مفاوضات طويلة على وضْع الحرب بينهما، وكفِّ السيف عن هذه الأمة حقنا لدماء المسلمين، على أن يكون لعليٍّ العراق وبلاد فارس، ولمعاوية الشام، فلا يدخل أحدهما على صاحبه فيما تحت يده بجيش ولا غارة، وتراضيا على ذلك.
ولكن العراق كله كانت تضطرم فيه نار الخلاف والشقاق؛ ففريق هم شيعة عليّ، وآخرون خوارجُ لا يريدون عليا ولا معاوية، وفريق منافق يُظهر طاعة عليّ ويُخفى عداءه، فمَلَّهم أميرُ المؤمنين وسئِم إمارتَه عليهم، حتى خاطبهم بذلك في كثير من خطبه، وتمنّى أن يستريح منهم بلقاء الله تعالى،(2/10)
عن جندب ، قال : ازدحموا على علي ، حتى وطئوا على رجله قال : « اللهم إني مللتهم وملوني ، وأبغضتهم وأبغضوني ، فأرحني منهم وأرحهم مني » أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد وهو صحيح
و عن أبى صالح الحنفى قال : رأيت على بن أبى طالب أخذ المصحف فوضعه على رأسه ثم قال اللهم إنهم منعونى ما فيه فأعطنى ما فيه ثم قال اللهم إنى قد مللتهم وملونى وأبغضتهم وأبغضونى وحملونى على غير طبيعتى وخلقى وأخلاق لم تكن تعرف لى فأبدلنى بهم خيرا منهم وأبدلهم بى شرا منى اللهم أمت قلوبهم ميت الملح فى الماء يعنى أهل الكوفة أخرجه ابن عساكر (42/534) ، فلقي اللهَ شهيدا بأيدي الخوارج البغاة.
==============
معاوية رضي الله عنه يستولي على مصر (1)
__________
(1) - البداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 8 / ص 459) فما بعدها(2/11)
ازداد معاوية بن أبي سفيان بعد التحكيم قوة، واختلف الناس بالعراق على عليٍّ، ولم يدخل معاوية بعدَ صِفّين في حروب طاحنة، ولم يمر بالظروف الحرجة التي مر بها جيش عليٍّ في صراعه ضد الخوارج، فلم يعد له همّ إلا مصر التي كان يخشاها وأهلَها لقربهم منه، فأراد أن يضمها إليه كي يأمن خطرها عليه، فأرسل إلى مَنْ لم يبايعْ عليا ولم يأتمر بأمر نُوّابِه يخبرهم بقدوم الجيش عليهم سريعا، وكان واليها من قِبَلِ عليٍّ حينئذٍ محمد بن أبي بكر، وكان يواجه اضطرابات داخلية بسبب معاوية بن خديج ومسلمة بن مخلد ومَن اعتزلوا معهما بخربتا من العثمانية، إذْ كان أمرهم يزداد قوة يوما بعد يوم، خاصة حين انصرف عليٌّ من صِفّين وكان ما كان مِنْ أمْرِ التحكيم، ثم حين نكل أهل العراق عن قتال أهل الشام، فخرج معاوية بن خديج ومن معه مطالبين بدم عثمان، فلما علم أمير المؤمنين عليٌّ بذلك رأى أن محمدا لا تمكنه المقاومة فولّى على مصرَ الأشْتَرَ النَّخَعيّ، فتُوُفِّي في الطريق، وشق على محمد بن أبي بكر عزلُه، فأرسل إليه عليٌّ يثبته عليها، ويأمره بالصبر على أعدائه والاستعانة بالله.
فلما كانت سنة ثمان وثلاثين من الهجرة أرسل معاوية عمرَو بن العاص في ستةِ آلافٍ، فسار بهم حتى نزل أدنى مصر، فجاءه مَنْ خالفَ عليا وطالب بدم عثمان في عشرة آلاف، فكتب محمد إلى عليٍّ بالخبر واستمدَّه، فأرسل إليه أن يضم شِيعتَه إليه، ويأمره بالصبر ويَعِدُه بإنفاذ الجيوش إليه، فقام محمد في الناس وندبهم إلى الخروج معه، فقام معه قليل، لم يصمدوا أمام جيوش الشام وانْهزموا، ودخل عمرو بن العاص الفسطاطَ، وهرب محمد وخرج معاوية بن خديج يطلبه حتى التقى به فقتله.
وبقتل محمد بن أبي بكر اشتد أمر معاوية وصارت مصرُ في طاعته، وبايع له أهلُها، أما المدد الذي أرسله أمير المؤمنين لمساعدة محمد فإنه بَلَغَهُم وهم في الطريق قَتْلُهُ فرجعوا إلى عليٍّ بالخبر!
===============(2/12)
أهل فارس يمتنعون عن دفع الخراج(1)
اختلف الناس على عليٍّ، فطمع أهل فارس وأهل كَرْمان في كَسْر الخراج، فغلب أهلُ كلِّ ناحية على ما يليهم، وأخرجُوا عُمَّالَهم، وطردُوا سهلَ بن حنيف عاملَ عليٍّ هناك، فقال ابن عباس لعليٍّ: أكفيك فارسَ. فقَدِم ابنُ عباس البصرة، ووجه زياد ابن أبيه إلى فارس في أربعة آلاف جندي، فدوّخ تلك البلاد، ولم يزل حتى عادوا بلا قتال إلى ما كانوا عليه من الطاعة والاستقامة، فأدَّوا الخراج وما كان عليهم من حقوق، فسكن الناس إلى ذلك بعدله وعلمه وصرامتِه.
وأتى زياد من قبل ابن عباس إصْطَخْر فنزلها وحصّن قلعة بها ما بين بيضاء إصطخر وإصطخر، فكانت تسمَّى قلعة زياد.
وهكذا أعاد ابن عباس وزياد الأمنَ وضبَطَا المنطقةَ، وأرْجعَاها طواعية إلى حكم أمير المؤمنين عليّ ـ رضي الله عنه.
================
التخطيط لقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم(2)
أراد الله تعالى أن يُلحِق عليا ـ رضي الله عنه ـ بإخوانه السابقين شهيدا في زمرة الصالحين؛ فاجتمع ثلاثة من الخوارج، فتذاكرُوا ما حَلّ بأصحابهم في النهروان وغيرها، وعابوا على ولاتهم، وما صار إليه حال الأمة، ثم ذكروا أهل النهروان، فترحّموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم شيئا، إخوانُنا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم، والذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شَرَيْنَا أنفسَنا فأتَيْنا أئمة الضلالة فالْتَمَسْنا قَتْلَهم، فأرحْنا منهم البلادَ وثأرْنا بهم لإخواننا!
ورأوا أن عليا ومعاوية وعَمْرًا من أسباب بلاء الأمة؛ لذا قرروا التخلص منهم، فاتفقوا على أن يذهب عبد الرحمن بن مُلْجَم المراديّ إلى الكوفة فيقتل عليا، ويذهب البرك بن عبد الله التميميّ إلى الشام فيقتل معاوية بن أبي سفيان، ويذهب عمرو بن بكر التميميّ إلى مصر فيقتل عمرو بن العاص.
__________
(1) - تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 137) فما بعد(2/13)
فتعاهدوا وتواثقوا بالله، أن لا يجبن رجل منهم عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونَه، فأخذوا أسيافهم فسمُّوها، وتواعدوا على صلاة فجر يوم السابع عشر من رمضان لتنفيذ الخطة تَيَمُّنًا بيوم غزوة بدر الكبرى، حسب تصور نفوسهم المريضة وعقولهم الفاسدة، وزين لهم الشيطان أعمالهم، وأقبل كل رجل منهم إلى البلد الذي فيه صاحبه الذي يطلب قتله، ولما حان موعد تنفيذ الجريمة نجح الأول وفشِل الآخران.
ففي الليلة التي اتفقوا فيها على إيقاع القتل بالرجال الثلاثة، أخذ كل واحد منهم يعد سيفَه، ويهيئ نفسه، فخرج البرك بن عبد الله وقعد لمعاوية، فلما خرج ليصلي الفجر شد عليه بسيفه، فوقع السيفُ في إليته ولم يُمِتْه، فأُخذ هذا الخارجي، وأُحضِر إلى معاوية، فأمر به فقُتل، واتّخذ معاوية بعدها المقصورةَ.
وأما عمرو بن بكر فجلس لعمرو بن العاص تلك الليلة، فلم يخرج، وكان اشتكى بطنَه، فأمر خارجةَ بن حذافة بالصلاة، وكان صاحبَ شرطتِه، فخرج ليصلي فشد عليه وهو يرى أنه عمرو فضربه فقتله، فأخذه الناس، فانطلقوا به إلى عمرو، فقال له عمرو: أردْتَني وأراد اللهُ خارجةَ، وقدّمه فقُتل.
وأما علي فراح شهيدا بضربة ابن ملجم.(2/14)
عن إِسْمَاعِيلِ بن رَاشِدٍ ، قَالَ : كَانَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مُلْجَمٍ لَعَنَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابَهُ ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بن مُلْجَمٍ ، وَالْبَرْكَ بن عَبْدِ اللَّهِ ، وَعَمْرَو بن بَكْرٍ التَّمِيمِيَّ ، اجتمعوا بمكة ، فذكروا أمر الناس ، وعابوا عمل ولاتهم ، ثم ذكروا أهل النهر فترحموا عليهم ، فقالوا : والله ما نصنع بالبقاء بعدهم شيئا ، إخواننا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم الذين كانوا لا يَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ ، فَلَوْ شَرَيْنَا أَنْفُسَنَا ، فَأَتَيْنَا أَئِمَّةَ الضَّلالَةِ فَالْتَمَسْنَا قَتْلَهُمْ ، فَأَرَحْنَا مِنْهُمُ الْبِلادَ وَثَأَرْنَا بِهِمْ إِخْوَانَنَا ، قَالَ ابْنُ مُلْجَمٍ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ : أَنَا أَكْفِيكُمْ عَلِيَّ بن أَبِي طَالِبٍ ، وَقَالَ الْبَرْكُ بن عَبْدِ اللَّهِ أَنَا أَكْفِيكُمْ مُعَاوِيَةَ بن أَبِي سُفْيَانَ ، وَقَالَ عَمْرُو بن بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ : أَنَا أَكْفِيكُمْ عَمْرَو بن الْعَاصِ ، فَتَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا بِاللَّهِ ، لا يَنْكُصُ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَنْ صَاحِبِهِ الَّذِي تَوَجَّهَ إِلَيْهِ حَتَّى يَقْتُلَهُ ، أَوْ يَمُوتَ دُونَهُ ، فَأَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ ، فَسَمُّوها وَاتَّعَدُوا لِسَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ أَنْ يَثِبَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ الَّذِي تَوَجَّهَ إِلَيْهِ ، وَأَقْبَلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى الْمِصْرِ الَّذِي فِيهِ صَاحِبُهُ الَّذِي يَطْلُبُ ، فَأَمَّا ابْنُ الْمُلْجَمِ الْمُرَادِيُّ ، فَأَتَى أَصْحَابَهُ بِالْكُوفَةِ وَكَاتَمَهُمْ أَمْرَهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُظْهِرُوا شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ ، وَأَنَّهُ لَقِيَ أَصْحَابًا لَهُ مِنْ تَيْمِ الرَّبَابِ وَقَدْ قَتَلَ عَلِيُّ بن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، مِنْهُمْ عِدَّةً يَوْمَ النَّهَرِ ، فَذَكَرُوا(2/15)
قَتْلاهُمْ فَتَرَحَّمُوا عَلَيْهِمْ ، قَالَ : وَلَقِيَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ تَيْمِ الرَّبَابِ يُقَالُ لَهَا قَطَامُ بنتُ الشَّحنةِ وَقَدْ قَتَلَ عَلِيُّ بن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَبَاهَا ، وَأَخَاهَا يَوْمَ النَّهَرِ ، وَكَانَتْ فَائِقَةَ الْجَمَالِ ، فَلَمَّا رَآهَا الْتَبَسَتْ بِعَقْلِهِ وَنَسِيَ حَاجَتَهُ الَّتِي جَاءَ لَهَا ، فَخَطَبَهَا ، فَقَالَتْ : لا أَتَزَوَّجُ حَتَّى تَشْتَفِيَ لِي ، قَالَ : وَمَا تَشَائِينَ ؟ قَالَتْ : ثَلاثَةُ آلافٍ ، وَعَبْدٌ ، وَقَيْنَةٌ ، وَقَتْلُ عَلِيِّ بن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، فَقَالَ : هُوَ مَهْرٌ لَكَ ، فَأَمَّا قَتْلُ عَلِيٍّ فَمَا أَرَاكِ ذَكَرْتِيهِ لِي وَأَنْتِ تُرِيدِينَهُ ؟ قَالَتْ : بَلَى ، فَالْتَمِسْ غُرَّتَهُ فَإِنْ أَصَبْتَهُ شَفَيْتَ نَفْسَكَ وَنَفْسِي ، وَنَفَعَكَ الْعَيْشُ مَعِي ، وَإِنْ قُتِلْتَ فَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَزِبْرِجِ أَهْلِهَا ، فَقَالَ : مَا جَاءَ بِي إِلَى هَذَا الْمِصْرِ إِلا قَتْلُ عَلِيٍّ ، قَالَتْ : فَإِذَا أَرَدْتَ ذَلِكَ فَأَخْبِرْنِي حَتَّى أَطْلُبَ لَكَ مَنْ يَشُدُّ ظَهْرَكَ ، وَيُسَاعِدُكَ عَلَى أَمْرِكَ ، فَبَعَثَتْ إِلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهَا مِنْ تَيْمِ الرَّبَابِ ، يُقَالُ لَهُ : وَرْدَانُ ، فَكَلَّمَتْهُ ، فَأَجَابَهَا ، وَأَتَى ابْنُ مُلْجَمٍ رَجُلا مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لَهُ : شَبِيبُ بن نَجْدَةً ، فَقَالَ لَهُ : هَلْ لَكَ فِي شَرَفِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ؟ قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : قَتْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِدًّا ، كَيْفَ تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ ؟ قَالَ : أَكْمُنُ لَهُ فِي السَّحَرِ فَإِذَا خَرَجَ لِصَلاةِ الْغَدَاةِ شَدَدْنَا عَلَيْهِ(2/16)
فَقَتَلْنَاهُ ، فَإِنْ نَجَوْنَا شَفَيْنَا أَنْفُسَنَا وَأَدْرَكْنَا ثَأْرَنَا ، وَإِنْ قُتِلْنَا فَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَزِبْرِجِ أَهْلِهَا ، قَالَ : وَيْحَكَ لَوْ كَانَ غَيْرَ عَلِيٍّ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ ، قَدْ عَرَفْتُ بَلاءَهُ فِي الإِسْلامِ ، وَسَابِقَتَهُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا أَجِدُنِي أنْشَرِحُ لِقَتْلِهِ ، قَالَ : أَمَا تَعْلَمُ أَنَّهُ قَتَلَ أَهْلَ النَّهَرِ الْعُبَّادَ الْمُصَلِّينَ ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : فَقَتْلُهُ بِمَا قَتَلَ مِنْ إِخْوَانِنَا ، فَأَجَابَهُ فَجَاءُوا حَتَّى دَخَلُوا عَلَى قَطَامِ وَهِيَ فِي الْمَسْجِدِ الأَعْظَمِ مُعْتَكِفَةٌ فِيهِ ، فَقَالُوا لَهَا : قَدْ أَجْمَعَ رَأْيُنَا عَلَى قَتْلِ عَلِيٍّ ، قَالَتْ : فَإِذَا أَرَدْتُمْ ذَلِكَ فَائْتُونِي ، فَجَاءَ ، فَقَالَ : هَذِهِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وَاعَدْتُ فِيهَا صَاحِبِي أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا صَاحِبَهُ ، فَدَعَتْ لَهُمْ بِالْحَرِيرِ فَعَصَّبَتْهُمْ ، وَأَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ وَجَلَسُوا مُقَابِلَ السُّدَةِ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا عَلِيٌّ ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِصَلاةِ الْغَدَاةِ ، فَجَعَلَ يُنَادِي : الصَّلاةَ الصَّلاةَ ، فَشَدَّ عَلَيْهِ شَبِيبٌ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ ، فَوَقَعَ السَّيْفُ بِعِضَادَةِ الْبَابِ أَوْ بِالطَّاقِ فَشَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ مُلْجَمٍ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فِي قَرْنِهِ ، وَهَرَبَ وَرْدَانُ حَتَّى دَخَلَ مَنْزِلَهُ ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بني أُمِّهِ ، وَهُوَ يَنْزِعُ الْحَرِيرَ وَالسَّيْفَ عَنْ صَدْرِهِ ، فَقَالَ : مَا هَذَا السَّيْفُ وَالْحَرِيرُ ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ ، فَذَهَبَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَجَاءَ بِسَيْفِهِ فَضَرَبَهُ ، حَتَّى قَتَلَهُ وَخَرَجَ شَبِيبٌ(2/17)
نَحْوَ أَبْوَابِ كِنْدَةَ ، وَشَدَّ عَلَيْهِ النَّاسُ إِلا أَنَّ رَجُلا مِنْ حَضْرَمَوْتَ يُقَالُ لَهُ : عُوَيْمِرٌ ضَرَبُ رِجْلَهُ بِالسَّيْفِ فَصَرَعَهُ وَجَثَمَ عَلَيْهِ الْحَضْرَمِيُّ ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ أَقْبَلُوا فِي طَلَبِهِ ، وَسَيْفُ شَبِيبٍ فِي يَدِهِ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ فَتَرَكَهُ ، فَنَجَا بنفْسِهِ وَنَجَا شَبِيبٌ فِي غِمَارِ النَّاسِ ، وَخَرَجَ ابْنُ مُلْجَمٍ فَشَدَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ هَمْدَانَ يُكَنَّى : أَبَا أَدَمَا فَضَرَبَ رِجْلَهُ وَصَرَعَهُ ، وَتَأَخَّرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَدَفَعَ فِي ظَهْرِ جَعْدَةَ بن هُبَيْرَةَ بن أَبِي وَهْبٍ ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ الْغَدَاةَ ، وَشَدَّ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، وَذَكَرُوا أَنَّ مُحَمَّدَ بن حُنَيْفٍ ، قَالَ : وَاللَّهِ إِنِّي لأُصَلِّي تِلْكَ اللَّيْلَةَ الَّتِي ضُرِبَ فِيهَا عَلِيٌّ فِي الْمَسْجِدِ الأَعْظَمِ ، قَرِيبًا مِنَ السُّدَّةِ فِي رِجَالٍ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ مَا فِيهِمْ إِلا قِيَامٌ وَرُكُوعٌ وَسُجُودٌ وَمَا يَسْأَمُونَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِهِ ، إِذْ خَرَجَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِصَلاةِ الْغَدَاةِ ، فَجَعَلَ يُنَادِي : أَيُّهَا النَّاسُ ، الصَّلاةَ الصَّلاةَ ، فَمَا أَدْرِي أَتَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ أَوْ نَظَرْتُ إِلَى بَرِيقِ السُّيُوفِ ، وَسَمِعْتُ : الْحُكْمُ للَّهِ ، لا لَكَ يَا عَلِيُّ وَلا لأَصْحَابِكَ ، فَرَأَيْتُ سَيْفًا ، ثُمَّ رَأَيْتُ نَاسًا ، وَسَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ : لا يَفُوتُكُمُ الرَّجُلُ ، وَشَدَّ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، فَلَمْ أَبْرَحْ حَتَّى أُخِذَ ابْنُ مُلْجَمٍ فَأُدْخِلَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَدَخَلْتُ فِيمَنْ دَخَلَ مِنِ النَّاسِ ، فَسَمِعْتُ عَلِيًّا(2/18)
يَقُولُ : النَّفْسُ بِالنَّفْسِ ، إِنْ هَلَكْتُ فَاقْتُلُوهُ كَمَا قَتَلَنِي ، وَإِنْ بَقِيتُ رَأَيْتُ فِيهِ رَأْيِي ، وَلَمَّا أُدْخِلَ ابْنُ مُلْجَمٍ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : يَا عَدُوَّ اللَّهِ ، أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ ؟ أَلَمْ أَفْعَلْ بِكَ ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : فَمَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا ؟ قَالَ : شَحَذْتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ، فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ شَرَّ خَلْقِهِ ، قَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : مَا أُرَاكَ إِلا مَقْتُولا بِهِ ، وَمَا أُرَاكَ إِلا مِنْ شَرِّ خَلْقِ اللَّهِ ، وَكَانَ ابْنُ مُلْجَمٍ مَكْتُوفًا بَيْنَ يَدَيِ الْحَسَنِ ، إِذْ نَادَتْهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بنتُ عَلِيٍّ وَهِيَ تَبْكِي : يَا عَدُوَّ اللَّهِ ، إِنَّهُ لا بَأْسَ عَلَى أَبِي ، وَاللَّهُ مُخْزِيكَ ، قَالَ : فَعَلامَ تَبْكِينَ ؟ وَاللَّهِ لَقَدِ اشْتَرَيْتُهُ بِأَلْفٍ ، وَسَمَّمْتُهُ بِأَلْفٍ ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الضَّرْبَةُ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْمِصْرِ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ أَحَدٌ سَاعَةً ، وَهَذَا أَبُوكِ بَاقِيًا حَتَّى الآنَ ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِلْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا : إِنْ بَقِيتُ رَأَيْتُ فِيهِ رَأْيِي ، وَإِنْ هَلَكْتُ مِنْ ضَرْبَتِي هَذِهِ فَاضْرِبْهُ ضَرْبَةً ، وَلا تُمَثِّلْ بِهِ ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَذَكَرَ أَنَّ جُنْدُبَ بن عَبْدِ اللَّهِ دَخَلَ عَلَى عَلِيٍّ يَسْأَلُ بِهِ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنْ فَقَدْنَاكَ وَلا نَفْقُدُكَ فَنُبَايِعُ الْحَسَنَ ؟ قَالَ : مَا آمُرُكُمْ ، وَلا أَنْهَاكُمْ أَنْتُمْ أَبْصَرُ ، فَلَمَّا قُبِضَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ(2/19)
تَعَالَى عَنْهُ إِلَى ابْنِ مُلْجَمٍ ، فَأُدْخِلَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ : هَلْ لَكَ فِي خَصْلَةٍ ؟ إِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْطَيْتُ اللَّهَ عَهْدًا إِلا وَفَّيْتُ بِهِ ، إِنِّي كُنْتُ أَعْطَيْتُ اللَّهَ عَهْدًا أَنْ أَقْتُلَ عَلِيًّا ، وَمُعَاوِيَةَ أَوْ أَمُوتَ دُونَهُمَا ، فَإِنْ شِئْتَ خَلَّيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ، وَلَكَ اللَّهَ عَلَيَّ إِنْ لَمْ أُقْتُلْ أَنْ آتِيَكَ حَتَّى أَضَعَ يَدِي فِي يَدِكَ ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : لا وَاللَّهِ أَوْ تُعَايِنُ النَّارَ ، فَقَدَّمَهُ فَقَتَلَهُ ، ثُمَّ أَخَذَهُ النَّاسُ فَأَدْرَجُوهُ فِي بَوَارِي ، ثُمَّ أَحْرَقُوهُ بِالنَّارِ ، وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : يَا بني عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ ، تَقُولُونَ : قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ، أَلا لا يُقْتَلُ بِي إِلا قَاتِلِي ، وَأَمَّا الْبَرْكُ بن عَبْدِ اللَّهِ فَقَعَدَ لِمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَخَرَجَ لِصَلاةِ الْغَدَاةِ ، فَشَدَّ عَلَيْهِ بِسَيْفِهِ وَأَدْبَرَ مُعَاوِيَةُ هَارِبًا ، فَوَقَعَ السَّيْفُ فِي إِلْيَتِهِ ، فَقَالَ : إِنَّ عِنْدِي خَبَرًا أُبَشِّرُكَ بِهِ ، فَإِنْ أَخْبَرْتُكَ أَنَافِعِي ذَلِكَ عِنْدَكَ ؟ قَالَ : وَمَا هُوَ ؟ قَالَ : إِنَّ أَخًا لِي قَتَلَ عَلِيًّا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ ، قَالَ : فَلَعَلَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : بَلَى ، إِنَّ عَلِيًّا يَخْرُجُ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ يَحْرُسُهُ ، فَأَمَرَ بِهِ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُتِلَ ، فَبَعَثَ إِلَى السَّاعِدِيِّ وَكَانَ طَبِيبًا ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ : إِنْ ضَرَبْتَكَ مَسْمُومَةٌ ، فَاخْتَرْ مِنِّي إِحْدَى خَصْلَتَيْنِ :(2/20)
إِمَّا أَنْ أَحْمِيَ حَدِيدَةً فَأَضَعَهَا مَوْضِعَ السَّيْفِ ، وَإِمَّا أَسْقِيَكَ شَرْبَةً تَقْطَعُ مِنْكَ الْوَلَدَ ، وَتَبْرَأُ مِنْهَا ، فَإِنَّ ضَرَبْتَكَ مَسْمُومَةٌ ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ : أَمَّا النَّارُ فَلا صَبْرَ لِي عَلَيْهَا ، وَأَمَّا انْقِطَاعُ الْوَلَدِ فَإِنَّ فِي يَزِيدَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ ، وَوَلَدِهِمَا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنَيَّ ، فَسَقَاهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الشَّرْبَةَ ، فَبَرَأَ فَلَمْ يُولَدْ بَعْدُ لَهُ ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمَقْصُورَاتِ ، وَقِيَامِ الشُّرَطِ عَلَى رَأْسِهِ ، وَقَالَ عَلِيٌّ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ : أَيْ بنيَّ أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ لِوَقْتِهَا ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ عِنْدَ مَحِلِّهَا ، وَحُسْنِ الْوُضُوءِ ، فَإِنَّهُ لا يُقْبَلُ صَلاةٌ إِلا بِطَهُورٍ ، وَأُوصِيكُمْ بِغَفْرِ الذَّنْبِ ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَالْحِلْمِ عَنِ الْجَهْلِ ، وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ ، وَالتَّثَبُّتِ فِي الأَمْرِ ، وَتَعَاهُدِ الْقُرْآنِ ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِشِ ، قَالَ : ثُمَّ نَظَرَ إِلَى مُحَمَّدِ بن الْحَنَفِيَّةِ ، فَقَالَ : هَلْ حَفِظْتَ مَا أَوْصَيْتُ بِهِ أَخَوَيْكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَإِنِّي أُوصِيكَ بِمِثْلِهِ ، وَأُوصِيكَ بِتَوقِيرِ أَخَوَيْكَ لِعِظَمِ حَقِّهِمَا عَلَيْكَ ، وَتَزْيِينِ أَمْرِهِمَا ، وَلا تَقْطَعْ أَمْرًا دُونَهُمَا ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا : أُوصِيكُمَا بِهِ ، فَإِنَّهُ شَقِيقُكُمَا ، وَابْنُ أبِيكُمَا ، وَقَدْ عَلِمْتُمَا أَنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُحِبُّهُ ، ثُمَّ أَوْصَى فَكَانَتْ وَصِيَّتُهُ : بِسْمِ(2/21)
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ عَلِيُّ بن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَوْصَى أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ، ثُمَّ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ أُوصِيكُمَا يَا حَسَنُ ، وَيَا حُسَيْنُ ، وَجَمِيعَ أَهْلِي وَوَلَدِي ، وَمَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي بِتَقْوَى اللَّهِ رَبِّكُمْ ، وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ، وَلا تَفَرَّقُوا ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : إِنَّ صَلاحَ ذَاتِ الْبَيْنِ أَعْظَمُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَانْظُرُوا إِلَى ذَوِي أَرْحَامِكُمْ فَصِلِوهُمْ يُهَوِّنُ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحِسَابَ ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الأَيْتَامِ لا يَضِيعُنَّ بِحَضْرَتِكُمْ ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الصَّلاةِ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تُطْفِيءُ غَضَبَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَأَشْرِكُوهُمْ فِي مَعَايِشِكُمْ ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ فَلا يَسْبِقَنَّكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ لا يَخْلُوَنَّ مَا بَقِيتُمْ ، فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تَنَاظَرُوا ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي أَهْلِ(2/22)
ذِمَّةِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلا يُظْلَمُنَّ بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي جِيرَانِكُمْ فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ وَاللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُ وَصِيٌّ بِهِمْ ، وَاللَّهَ اللَّهَ فِي الضَّعِيفَيْنِ : نِسَائُكُمْ ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ، فَإِنَّ آخِرَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ ، قَالَ : أُوصِيكُمْ بِالضَّعِيفَيْنِ : النِّسَاءُ ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ الصَّلاةَ الصَّلاةَ ، لا تَخَافُنَّ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ ، يَكْفِكُمْ مَنْ أرَادَكُمْ وَبَغَى عَلَيْكُمْ ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ ، وَلا تَتْرُكُوا الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، فَيُوَلِّيَ أَمْرَكُمْ شِرَارَكُمْ ، ثُمَّ تَدْعُونَ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ ، عَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ ، وَالتَّبَاذُلِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّقَاطُعَ ، وَالتَّدَابُرَ ، وَالتَّفُرَّقَ ، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ، حَفِظَكُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ ، وَحَفِظَ فِيكُمْ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَسْتَوْدِعُكُمُ اللَّهَ وَأَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلامَ ، ثُمَّ لَمْ يَنْطِقْ إِلا بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهَ حَتَّى قُبِضَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ وَغَسَّلَهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بن جَعْفَرٍ ، وَكُفِّنَ فِي ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ لَيْسَ فِيهَا(2/23)
قَمِيصٌ ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ الْحَسَنُ تِسْعَ تَكْبِيرَاتٍ ، وَوَلِيَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَلَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، وَكَانَ ابْنُ مُلْجَمٍ قَبْلَ أَنْ يَضْرِبَ عَلِيًّا قَاعِدًا فِي بني بَكْرِ بن وَائِلٍ ، إِذْ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ أَبْجَرَ بن جَابِرٍ الْعِجْلِيِّ أَبِي حَجَّارٍ ، وَكَانَ نَصْرَانِيًّا وَالنَّصَارَى حَوْلَهُ ، وَأُنَاسٌ مَعَ حَجَّارٍ بِمَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ ، يَمْشُونَ فِي جَانِبٍ ، أَمَامَهُمْ شَقِيقُ بن ثَوْرٍ السُّلَمِيُّ ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ : مَا هَؤُلاءِ ؟ فَأُخْبِرَ ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : لَئِنْ كَانَ حَجَّارُ بن أَبْجَرَ مُسْلِمًا لَقَدْ بُوعِدَتْ مِنْهُ جِنَازَةُ أَبْجَرَ وَإِنْ كَانَ حَجَّارُ بن أَبْجَرَ كَافِرًا فَمَا مِثْلُ هَذَا مِنْ كُفُورٍ بِمُنْكَرِ أَتَرْضَوْنَ هَذَا إِنَّ قِسًّا وَمُسْلِمًا جَمِيعًا لَدَى نَعْشٍ فَيَا قُبْحَ مَنْظَرِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَيَّاشٍ الْمُرَادِيُّ : وَلَمْ أَرَ مَهْرًا سَاقَهُ ذُو سَمَاحَةٍ كَمَهْرِ قَطَامِ بَيِّنًا غَيْرَ مُعْجَمِ . ثَلاثَةُ آلافٍ ، وَعَبْدٌ ، وَقَيْنَةٌ وَضَرْبُ عَلِيٍّ بِالْحُسَامِ الْمُصَمَّمِ وَلا مَهْرَ أَغْلَى مِنْ عَلِيٍّ وَإِنْ غَلا وَلا قَتْلَ إِلا دُونَ قَتْلِ ابْنِ مُلْجَمِ ، وَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ : أَلا أَبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بن حَرْبٍ وَلا قَرَّتْ عُيُونُ الشَّامِتِينَا أَفِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَجَعْتُمُونَا بِخَيْرِ النَّاسِ طُرًّا أَجْمَعِينَا قَتَلْتُمُ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَخَيْسَهَا وَمَنْ رَكِبَ السَّفِينَا وَمَنْ لَبِسَ النِّعَالَ وَمَنْ حَذَاهَا وَمَنْ قَرَأَ الْمَثَانِيَ وَالْمِئِينَا لَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ حَيْثُ كَانَتْ بِأَنَّكَ خَيْرُهَا حَسَبًا وَدِينًا ، وَأَمَّا عَمْرُو بن أَبِي بَكْرٍ فَقَعَدَ لِعَمْرِو بن(2/24)
الْعَاصِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي ضُرِبَ فِيهَا مُعَاوِيَةُ ، فَلَمْ يَخْرُجْ وَكَانَ اشْتَكَى بَطْنَهُ ، فَأَمَرَ خَارِجَةَ بن أَبِي حَبِيبٍ ، وَكَانَ صَاحِبَ شُرْطَتِهِ ، وَكَانَ مِنْ بني عَامِرِ بن لُؤَيٍّ ، فَخَرَجَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، فَشَدَّ عَلَيْهِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ عَمْرُو بن الْعَاصِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ ، فَأُخِذَ وَأُدْخِلَ عَلَى عَمْرٍو ، فَلَمَّا رَآهُمْ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ بِالإِمْرَةِ ، قَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : عَمْرُو بن الْعَاصِ ، قَالَ : فَمَنْ قَتَلْتُ ؟ قَالُوا : خَارِجَةَ ، قَالَ : أَمَا وَاللَّهِ يَا فَاسِقُ مَا ضَمَّدْتُ غَيْرَكَ ، قَالَ عَمْرٌو : أَرَدْتَنِي ، وَاللَّهُ أَرَادَ خَارِجَةَ ، فَقَدَّمَهُ فَقَتَلَهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ : وَقَتْكَ وَأَسْبَابُ الأُمُورِ كَثِيرَةٌ مَنِيَّةُ شَيْخٍ مِنْ لُؤَيِّ بن غَالِبِ فَيَا عَمْرُو مَهْلا إِنَّمَا أَنْتَ عَمُّهُ وَصَاحِبُهُ دُونَ الرِّجَالِ الأَقَارِبِ نَجَوْتَ وَقَدْ بَلَّ الْمُرَادِيُّ سَيْفَهُ مِنَ ابْنِ أَبِي شَيْخِ الأَبَاطِحِ طَالِبِ وَيَضْرِبُنِي بِالسَّيْفِ آخَرُ مِثْلُهُ فَكَانَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ ضَرْبَةَ لازِبِ وَأَنْتَ تُنَاغِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِمِصْرِكَ بِيضًا كَالظِّبَاءِ الشَّوَارِبِ ، وَكَانَ الَّذِي ذَهَبَ بنعْيِهِ سُفْيَانُ بن عَبْدِ شَمْسِ بن أَبِي وَقَّاصٍ الزُّهْرِيُّ ، وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ بَعَثَ قَيْسَ بن سَعْدِ بن عُبَادَةَ عَلَى تَقْدِمَتِهِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ، وَخَرَجَ مُعَاوِيَةُ حَتَّى نَزَلَ إِيلِيَاءَ فِي ذَلِكَ الْعَامِ ، وَخَرَجَ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، حَتَّى نَزَلَ فِي الْقُصُورِ الْبِيضِ فِي الْمَدَائِنِ ، وَخَرَجَ(2/25)
مُعَاوِيَةُ حَتَّى نَزَلَ مَسْكَنً وَكَانَ عَلَى الْمَدَائِنِ عَمُّ الْمُخْتَارِ لابْنِ أَبِي عُبَيْدٍ ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ : سَعْدُ بن مَسْعُودٍ ، فَقَالَ لَهُ الْمُخْتَارُ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلامٌ : هَلْ لَكَ فِي الْغِنَى وَالشَّرَفِ ؟ قَالَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ : تُوثِقُ الْحَسَنَ وَتَسْتَأْمِنْ بِهِ إِلَى مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ : عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ ، أَأَثِبُ عَلَى ابْنِ بنتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُوثِقُهُ ؟ ! بِئْسَ الرَّجُلُ أَنْتَ ، فَلَمَّا رَأَى الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَفَرُّقَ النَّاسِ عَنْهُ بَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَطْلُبُ الصُّلْحَ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بن عَامِرٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بن سَمُرَةَ بن حَبِيبِ بن عَبْدِ شَمْسٍ فَقَدِمَا عَلَى الْحَسَنِ بِالْمَدَائِنِ ، فَأَعْطَيَاهُ مَا أَرَادَ وَصَالَحَاهُ ، ثُمَّ قَامَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي النَّاسِ ، وَقَالَ : يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ، إِنَّهُ مِمَّا يُسْخِئُ بنفْسِي عَنْكُمْ ثَلاثٌ : قَتْلُكُمْ أَبِي ، وَطَعْنُكُمْ إِيَّايَ ، وَانْتِهَابُكُمْ مَتَاعِي ، وَدَخَلَ فِي طَاعَةِ مُعَاوِيَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَدَخَلَ الْكُوفَةَ فَبَايَعَهُ النَّاسُ. أخرجه الطبراني في الكبير وهو مرسل حسن(1)
قلت :
وهذا يؤكد أن هؤلاء الثلاثة كانوا على الحق وما سواهم كان على الباطل ، بدليل اتفاق الخوارج الذين هم في الأصل قتلة عثمان وطلحة والزبير رضي الله عنهم ، على قتل الثلاثة ، وهذا من خطط أعداء الإسلام الجهنمية التي يكيدون بها لهذه الأمة الخاتمة
===============
استشهاد علي رضي الله عنه
__________
(1) - انظر البداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 8 / ص 478) فما بعد(2/26)
مَلَّ أميرُ المؤمنين عليٌّ أهلَ العراق وسئِم إمارتَه عليهم، حتى صرّح لهم بذلك في كثير من خُطَبِه، وتمنّى من الله الموتَ إذا كان خيرًا له؛ لأن الفتن عظم أمرُها من حوله.
عَنْ عُبَيْدَةَ ، قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ : مَا يُحْبَسُ أَشْقَاهَا أَنْ يَجِيءَ فَيَقْتُلُنِي , اللَّهُمَّ إنِّي قَدْ سَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي فَأَرِحْنِي مِنْهُمْ وَأَرِحْهُمْ مِنِّي .أخرجه ابن أبي شيبة (37100)بسند صحيح
وفي سنة أربعين من الهجرة تحقق ما صَبَتْ إليه نفس الإمام؛ إذ اجتمع ثلاثةٌ من الخوارج وخطَّطوا لقتْله وقتل معاوية وعمرو بن العاص، وبيَّتُوا لذلك، وبينما الخليفة الإمام يقترب من باب المسجد، وقيل: بل وهو يتهيأ للصلاة، بعد أن عبر شوارع الكوفة يُوقِظ أهلَها لصلاة الفجر، ويُنادِيهم بصوته الجليل: "الصلاةَ، أيها الناس، الصلاةَ، يرحمكم الله"! اقترب منه في لجّة الظلام واحد من الخوارج اسمُه عبد الرحمن بن مُلْجَم مُنفِّذًا جريمتَه، وكان الإمامُ بلا حرس، فكان اغتياله عملا يسيرا.
ولم تكن الجريمة تتطلب أي جَلَدٍ أو قوة أو بطولة، إنما كانت تتطلب ضميرا ميتا وتفكيرا ضالا، وقلبا أعمى، وهوى مُتَّبَعًا، وإرادةً سَلِيبةً..!!
وفرغ الناس من صلاة الفجر، وجاءوا إلى أمير المؤمنين مسرعين، وأتوه بقاتلِه ابنِ مُلجم ماثلاً بين يديه، فقال لهم: إن مُتُّ فاقْتُلوه كما قتلني، وإن بقِيتُ رأيتُ فيه رأيي، ونهاهم عن المُثْلة به،(2/27)
فعن إسماعيل بن راشد ، قال : ذكروا أن ابن الحنفية ، قال : والله إني لأصلي الليلة التي ضرب علي فيها في المسجد الأعظم ، في رجال كثير من أهل المصر (1) يصلون قريبا من السدة ، ما هم إلا قيام وركوع وسجود ، وما يسأمون من أول الليل إلى آخره ، إذ خرج علي لصلاة الغداة (2) ، فجعل ينادي : أيها الناس ، الصلاة ، الصلاة ، فما أدري : أخرج من السدة فتكلم بهذه الكلمات ، أو نظرت إلى بريق السيف ، وسمعت قائلا يقول : « الحكم لله لا لك يا علي ، ولا لأصحابك » فرأيت سيفا ، ثم رأيت ناسا ، وسمعت عليا يقول : « لا يفوتنكم الرجل ، وشد الناس عليه من كل جانب ، فلم أبرح حتى أخذ ابن ملجم ، وأدخل على علي ، فدخلت فيمن دخل من الناس ، فسمعت عليا يقول : » النفس بالنفس ، إن هلكت فاقتلوه كما قتلني ، وإن بقيت رأيت فيه رأيي « قال : وقد كان علي نهى الحسن عن المثلة (3) ، وقال : يا بني عبد المطلب ، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين ، تقولون : » قتل أمير المؤمنين ، ألا لا يقتلن بي إلا قاتلي ، انظر يا حسن ، إن أنا مت من ضربته هذه فاضربه ضربة ، ولا تمثل بالرجل « فلما قبض علي رضوان الله عليه ، بعث الحسن إلى ابن ملجم ، فقال للحسن : » هل لك في خصلة (4) ؟ إني والله ما أعطيت عهدا إلا وفيت به ، إني كنت أعطيت الله عهدا عند الحطيم أن أقتل عليا ومعاوية ، أو أموت دونهما ، فإن شئت خليت بيني وبينه ، ولك والله علي إن لم أقتله أو قتلته ثم بقيت ، أن آتيك حتى أضع يدي في يدك ، فقال له الحسن : « أما والله حتى تعاين النار فلا ، ثم قدمه فقتله ، ثم أخذه الناس فأدرجوه في بوار ، ثم أحرقوه بالنار »
__________
(1) المصر : البلد أو القرية
(2) الغداة : الصبح
(3) المُثْلة : جدع الأطراف أو قطعها أو تشويه الجسد تنكيلا، وقد تطلق على النذر بما يرهق النفس أو يشوهها(2/28)
(4) الخصلة : خلق في الإنسان يكون فضيلة أو رذيلة(1)
و عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ ، قَالَ : دَعَاهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْبَيْعَةِ ، فَجَاءَ فِيهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن مُلْجَمٍ ، وَقَدْ كَانَ رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : مَا يُحْبَسُ أَشْقَاهَا ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَخْضِبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ ، وَتَمَثَّلَ بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ : اشُدُدْ حَيَازِيمَكَ لِلْمَوْتِ فَإِنَّ الْمَوْتَ آتِيَكَ وَلا تَجْزَعْ مِنَ الْمَوْتِ إِذَا حَلَّ بِوَادِيكَ .(2)
و عن أبي جعفر ، أن « الحسن بن علي رضي الله عنهما قتل ابن ملجم بعلي رضي الله عنه ، قال أبو يوسف : وكان لعلي أولاد صغار » قال أحمد : يشبه أن يكون الحسن بن علي رضي الله عنهما وقف على استحلال عبد الرحمن بن ملجم قتل أبيه فقتله لأجل ذلك ، واستدل بعض من قال ذلك من أصحابنا بما روينا عن أبي سنان الدؤلي أنه عاد عليا في شكوى له ، قال : فقلت له : لقد تخوفنا عليك يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لكني والله ما تخوفت لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق يقول : « إنك ستضرب ضربة ها هنا وضربة ها هنا » وأشار إلى صدغيه « فيسيل دمها حتى تخضب لحيتك ، ويكون صاحبها أشقاها كما كان عاقر الناقة أشقى ثمود » ، قلت : ويحتمل أن يكون رآه من الساعين في الأرض بالفساد ، فقتله لذلك لا بولاية القصاص ، والله أعلم(3)
__________
(1) - تهذيب الآثار للطبري - (ج 4 / ص 79) و تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 149)
(2) - أخرجه الطبراني في الكبير برقم(167) وهو صحيح ومعرفة الصحابة برقم(314)
(3) - معرفة السنن والآثار للبيهقي - (ج 13 / ص 185) برقم( 5093 )
وفي مشكل الآثار للطحاوي - (ج 2 / ص 305)
باب بيان مشكل ما روي عنه عليه السلام في قوله : « أقرؤهم ، يعني أمته لكتاب الله أبي بن كعب ، وأفرضهم زيد ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل »
686 - حدثنا ابن مرزوق ، حدثنا عفان ، حدثنا وهيب بن خالد ، حدثنا خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أنس عن النبي عليه السلام قال : « أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب ، وأفرضهم (1) زيد بن ثابت ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ألا وإن لكل أمة أمينا ألا وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح » حدثنا أبو أمية ، حدثنا قبيصة بن عقبة ، حدثنا سفيان ، عن خالد الحذاء ، وعاصم ، عن أبي قلابة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله غير أنه لم يذكر في حديثه : « وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب » حدثنا أبو أمية ، حدثنا خلف بن الوليد العتكي ، حدثنا الأشجعي ، ثنا سفيان ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أنس ، عن النبي عليه السلام مثله غير أنه قال : « وأفرضها زيد ، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ » فسأل سائل عن المراد بما ذكر به كل واحد من أبي ، وزيد ، ومعاذ في هذا الحديث ، وهل يوجب ذلك له أن يكون في معناه الذي ذكر به فوق الخلفاء الراشدين المهديين ومن سواهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين ؟ ، فكان جوابنا له في ذلك أن من جلت رتبته في معنى من المعاني جاز أن يقال إنه أفضل الناس في ذلك المعنى ، وإن كان فيهم من هو مثله أو من هو فوقه ، ومن ذلك ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قاله لعلي : « إنه يقتله أشقاها » يريد البرية
__________
(1) أفرضهم : أكثرهم علما بالفرائض وهي المواريث
687 - كما حدثنا أحمد بن داود بن موسى ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي ، حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق ، وكما حدثنا أحمد بن شعيب ، أخبرني محمد بن وهب ، حدثنا محمد بن سلمة ، ثنا ابن إسحاق ، عن يزيد بن محمد بن خثيم ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن محمد بن خثيم ، عن عمار بن ياسر قال : كنت أنا وعلي ، رفيقين في غزوة ذكرها أحمد بن داود في حديثه ولم يذكرها أحمد بن شعيب فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقام بها رأينا ناسا من بني مدلج يعملون في عين لهم أو في نخل ، فقال لي علي : يا أبا اليقظان هل لك أن نأتي هؤلاء فننظر كيف يعملون ؟ قال : قلت إن شئت فجئناهم ، فنظرنا إلى عملهم ساعة ، ثم غشينا (1) النوم فانطلقت أنا وعلي حتى اضطجعنا في ظل صور من النخل ، وفي دقعاء (2) من التراب فنمنا فوالله ما نبهنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركنا برجله وقد تتربنا من تلك الدقعاء التي نمنا فيها فيومئذ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : « ما لك يا أبا تراب » لما يرى عليه من التراب ، ثم قال : « ألا أحدثكما بأشقى الناس ؟ » ، قلنا : بلى يا رسول الله قال : « أحيمر ثمود الذي عقر (3) الناقة ، والذي يضربك يا علي على هذه » ووضع يده على قرنه (4) حتى يبل منها هذه وأخذ بلحيته « ثم من ذلك أيضا ما قد روي عن علي مما لم يضفه إلى النبي عليه السلام غير أنا نعلم أنه لم يقله رأيا ، ولا استخراجا ، ولا استنباطا إذ كان مثله لا يقال بالرأي ، ولا بالاستخراج ، ولا بالاستنباط ، ونحيط علما أنه قال ذلك ؛ لأخذه إياه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) غشينا : غلبنا وأصابنا
(2) الدقعاء : التراب الدقيق على وجه الأرض
(3) العقر : ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم
(4) القرن : جانب الرأس
688 - كما حدثنا فهد ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا فطر بن خليفة ، حدثنا أبو الطفيل قال : « دعا علي الناس إلى البيعة ، فجاء عبد الرحمن بن ملجم فرده مرتين ، ثم قال : ما يحبس أشقاها ليخضبن أو ليضعن هذا من هذه للحيته من رأسه ، ثم تمثل بهذين البيتين ، اشدد حيازيمك للموت فإن الموت آتيكا ولا تجزع من القتل إذا حل بواديكا » ونحن نعلم أن ابن ملجم قد كان من أهل التوحيد وإنما الذي كان منه حتى عاد به مطلقا عليه أنه أشقى الناس عظيم ما كان منه ، وجلالة جرمه ، وفتقه في الإسلام ما فتقه ، ونحن نعلم مع ذلك أن أشقى منه من لم يوحد الله ساعة قط ، وجعل لله ولدا ولقي الله على ذلك ، وهو في الشقوة فوق ابن ملجم ، ومن ذلك ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوارج الذين منهم ابن ملجم
689 - كما حدثنا محمد بن سنان الشيزري ، حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الخولاني ، عن الأوزاعي ، عن قتادة ، عن أنس عن النبي عليه السلام في وصفه الخوارج بالصلاة والصوم ، ثم قال : « يمرقون (1) من الدين كما يمرق السهم من الرمية (2) شرار الخلق والخليقة » وكما حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا بشر بن بكر ، عن الأوزاعي ، ثم ذكر بإسناده مثله وقد علمنا أن من نحل لله ولدا ، أو أشرك به ، وقتل أنبياءه وكذب رسله شر من هؤلاء ؛ لما عظم ما كان منهم وجل جاز بذلك أن يقال : هم شر الخلق والخليقة ، وجاز لمن تفرد منهم بما تفرد به في علي أن يقال : هو أشقى البرية وإن كان فيها من هو في الشقوة مثله أو من هو في الشقوة فوقه ، فمثل ذلك ما ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل واحد من أبي ، ومن زيد ، ومن معاذ في الحديث الذي رويناه في صدر هذا الباب جاز إطلاق ذلك له على ما في الحديث ؛ لجلالة مقداره في المعنى الذي أضيف إليه فيه ؛ ولعلو رتبته فيه وإن كان قد يجوز أن يكون في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هو في ذلك المعنى مثله ، ومن هو فوقه في ذلك المعنى ؛ وهذا لسعة اللغة ولعلم المخاطبين بذلك مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما خاطبهم به فيه ، ولولا أن ذلك كذلك ما جاز أن يقال لمن عظمت رتبته في العلم وجل مقداره فيه : إنه أعلم الناس إذ كان الذي يقول ذلك له لا يعرف الناس جميعا ، ولا يقف على مقادير علومهم ، وإذا جاز له ذلك مع تقصيره عن معرفة الناس جميعا ، وعن معرفة مقدار علومهم إذ كان لا يعرف منهم مثل الذي وصفه مما وصفه به كان ذلك مما قد عقلنا به أن المراد بمثله من يعرفه قائل ذلك القول ، وأنه جاز له جمع الناس جميعا في قوله ، وأن ذلك على المجاز لا على الحقيقة
__________
(1) يمرقون : يجوزون ويخرقون ويخرجون
(2) الرمية : الهدف الذي يرمى(2/29)
ثم سألوه أن يَستخْلِف عليهم، ولكنه أبَى ذلك، ثم دعا بَنِيهِ وعلى رأسهم الحسنُ والحسينُ، وراح يملي عليهم وصيتَه.
كان الاعتداءُ على حياة الإمام قد وقع فجر يوم الجمعة السابع عشر من رمضان سنة أربعين من الهجرة، وكانت وفاته يوم الأحد التاسع عشر من شهر رمضان، لتنتهي بذلك دولة الخلفاءِ الراشدين، ولتبدأ دولة المُلك الموروث.
وقد غسّل أميرَ المؤمنين ابناه الحسنُ والحسينُ وعبدُ الله بن جعفر، وكفنوه وصلَّوْا عليه ودُفن، لكن قبره مجهول المكان.
==============
وصية علي رضي الله عنه(2/30)
عَنْ أيوب أنه أخذ هذا الكتاب من عمرو بن دينار هذا ما أقر به وقضى في ماله علي بن أبي طالب تصدق بينبع ابتغاء مرضاة الله ليولجني الجنة ويصرف النار عني ويصرفني عن النار فهي في سبيل الله ووجهه ينفق في كل نفقة من سبيل الله ووجهه في الحرب والسلم والخير وذوي الرحم والقريب والبعيد لا يباع ولا يوهب ولا يورث كل مال في ينبع غير أن رباحا وأبا نيزر وجبيرا إن حدث بي حدث ليس عليهم سبيل وهم محررون موال يعملون في المال خمس حجج وفيه نفقاتهم ورزقهم ورزق أهليهم فذلك الذي أقضي فيما كان لي في ينبع جانبه حيا أنا أو ميتا ومعها ما كان لي بوادي أم القرى من مال ورقيق حيا أنا أو ميتا ومع ذلك الأذينة وأهلها حيا أنا أو ميتا ومع ذلك رعد وأهلها غير أن زريقا مثل ما كتبت لأبي نيزر ورباح وجبير وأن ينبع وما في وادي القرى والأذينة ورعد ينفق في كل نفقة ابتغاء بذلك وجه الله في سبيله يوم تسود وجوه وتبيض وجوه لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن إلا إلى الله هو يتقبلهن وهو يرثهن فذلك قضية بيني وبين الله الغد من يوم قدمت مسكن حيا أنا أو ميتا فهذا ما قضي علي في ماله واجبة بتلة ثم يقوم على ذلك بنو علي بأمانة وإصلاح كإصلاحهم أموالهم يزرع ويصلح كإصلاحهم أموالهم ولا يباع من أولاد علي من هذه القرى الأربع ودية واحدة حتى يسد أرضها غراسها قائمة عمارتها للمؤمنين أولهم وآخرهم فمن وليها من الناس فأذكر الله إلا جهد ونصح وحفظ أمانته هذا كتاب علي بن أبي طالب بيده إذ قدم مسكن وقد أوصيت ..... الفقيرين في سبيل الله واجبة بتلة ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناحيته ينفق في سبيل الله ووجهه وذي الرحم والفقراء والمساكين وابن السبيل يأكل منه عماله بالمعروف غير المنكر بأمانة وإصلاح كإصلاحه ماله يزرع وينصح ويجتهد هذا ما قضى علي بن أبي طالب في هذه الأموال التي كتب في هذه الصحيفة والله المستعان على كل حال(2/31)
أما بعد فإن ولائدي اللاتي أطوف عليهن التسع عشرة منهن أمهات أولاد وأولادهن أحياء معهن ومنهن حبالى ومنهن من لا ولد لها فقضيت إن حدث بي حدث في هذا الغزو أن من كان منهن ليس لها ولد وليست بحبلى عتيقة لوجه الله ليس لأحد عليها سبيل ومن كانت منهن حبلى أو لها ولد تمسك على ولدها فهي من حظه فإن مات ولدها وهي حية فليس لأحد عليها سبيل هذا ما قضيت في ولائدي التسع عشرة وشهد عبيد الله بن أبي رافع وهياج بن أبي هياج وكتب علي بيده لعشر ليال خلون من جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين سنة أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1)
ولما احتضر عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ جعل يُكثِر من قول لا إله إلا الله، لا يتلفظ بغيرها، وقيل: إن آخر ما تكلم به هو: ( فمَن يعملْ مِثْقَالَ ذرَّةٍ خيرًا يَرَه. ومَن يعملْ مِثْقَالَ ذرَّةٍ شَرًا يَرَه ).
وصورة الوصية: بسم الله الرحمن الرحيم!
هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. (ج/ص: 7/363)
أوصيك يا حسن وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ربكم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام)) انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوا ليهوِّن الله عليكم الحساب، الله الله في الأيتام فلا تعفو أفواهم ولا يضيعن بحضرتكم، والله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم، ما زال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم.
__________
(1) - برقم ( 19415و19416 )(2/32)
والله الله في القرآن فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم، والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم، والله الله في بيت ربكم فلا يخلون منكم ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا، والله الله في شهر رمضان فإن صيامه جنة من النار.
والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، والله الله في الزكاة فإنها تطفئ غضب الرب، والله الله في ذمة نبيكم لا تظلمن بين ظهرانيكم.
والله الله في أصحاب نبيكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بهم، والله الله في الفقراء والمساكين فأشركوهم في معاشكم، والله الله فيما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: ((أوصيكم بالضعيفين نسائكم وما ملكت أيمانكم)).
الصلاة الصلاة لا تخافن في الله لومة لائم يكفكم من أرادكم وبغى عليكم، وقولوا للناس حسناً كما أمركم الله.
ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولي الأمر شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الآثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
حفظكم الله من أهل بيت، وحفظ عليكم نبيكم، أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله.(1)
وبالرغم من أن عليا أبى أن يوصي بالخلافة من بعده إلى ابنه الحسن أو غيره، إلا أن أهل العراق بايعوا الحسن بالخلافة بعد موت علي ـ رضي الله عنه.
==============
خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهما
قُتِل عليٍّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ولم يُوصِ لأحد من بعده، فاتّجه أهلُ العراق إلى الحسن بن عليٍّ، فبايعوه، وقام أهلُ الشام فبايعوا معاوية بِبَيْتِ المقْدس.
__________
(1) - تاريخ الرسل والملوك - (ج 3 / ص 150) والبداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 8 / ص 481)(2/33)
ثم سار الحسن في جنود العراق عن غير حب منه ولا إرادة لذلك، وسار معاوية في أهل الشام، فلما عسكر الحسنُ بإزاء جيش معاوية لاحت بوادر قتال، فكره الحسن حفيد نبي الرحمةِ العودة إلى إراقة دماء المسلمين بأيدي المسلمين، وقام في أهل العراق خطيبا يمهد لأمر الصلح، فلما رأى منه أهل العراق ذلك تطاولوا عليه، لكن نسل بيت النبوة أدرك أنه لابد من الإسراع بأمر الصلح وحقن دماء المسلمين، لإصلاح حال الأمة.
فلما تقابل الفريقان عَرَضَ معاوية على الحسن الصلحَ، وتبادل الحسن ومعاوية الرسل، وانتهى الأمر إلى اتفاق الفريقين، فأعْلَمَ الحسنُ أصحابه بأمر الصلح وتنازُلِه عن الخلافة في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين من الهجرة.
ورجع الحسنُ إلى الكوفة، والْتَقى فيها بمعاوية في غرة جمادى الأولى من هذه السنة، وبايعه الحسن والحسين وأهل العراق، وخطب الحسن في الناس، وتسلم بذلك معاوية بلادَ العراق، وأخذ يراوض قيسَ بن سعد على البيعة حتى بايعه، وترحّل الحسن بن علي ومعه إخوتُه وبقيةُ آلِ البيت المطهرين ـ عليهم رضوان الله ـ من أرض العراق إلى المدينة المنورة.
وجعل كلّما مرَّ بحيٍّ من شِيعتهم يلومُونه على ما صنع من نزوله عن الأمر لمعاوية، وهو في ذلك البارّ الراشد الممدوح، وليس يَجد في صدره حرجًا ولا تلوُّمًا ولا نَدَما، بل هو راضٍ بذلك مستبشر به.
وما فعله الحسَنُ ابن بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو عين ما أنبأ به النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أن الله مصلح بابنه ذاك بين فئتين عظيمتين من المسلمين، فمدحه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قبل على صنيعه هذا، ورغبته عن سلطان الدنيا ومتاعها، وحَقْنِه دماء الأمة المسلمة.
وقد استبشر المسلمون خيرًا بتلك المصالحة، وترك صنيعُ الحسن صدى طيبا في نفوس المسلمين، وأثنى عليه كثير من علماء أهل السنة، ورأوا فيما فعل تحقيقا لبشرى جده النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم.(2/34)
وحمد المسلمون ربَّهم على كشف غمة الفتنة، وأصبح معاوية خليفةً للأمة الإسلامية كلِّها، واستوثقت له الممالك شرقا وغربا، وبُعدا وقُربا،وسمَّى المسلمون هذا العام عامَ الجماعةِ؛ لاجتماع الكلمة فيه على أمير واحد بعد فرقة مُرّة، ونُقلت عاصمة الخلافة من الكوفة إلى دمشق. واستقر الأمر لمعاوية ـ رضي الله عنه ـ إلى أن مات سنة ستين من الهجرة. (1)
================
بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بالصلح
__________
(1) - البداية والنهاية لابن كثير مدقق - (ج 9 / ص 54) فما بعد(2/35)
عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الْجِبَالِ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِنِّى لأَرَى كَتَائِبَ لاَ تُوَلِّى حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا . فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ - وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ - أَىْ عَمْرُو إِنْ قَتَلَ هَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ مَنْ لِى بِأُمُورِ النَّاسِ مَنْ لِى بِنِسَائِهِمْ ، مَنْ لِى بِضَيْعَتِهِمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِى عَبْدِ شَمْسٍ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ ، فَقَالَ اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَاعْرِضَا عَلَيْهِ ، وَقُولاَ لَهُ ، وَاطْلُبَا إِلَيْهِ . فَأَتَيَاهُ ، فَدَخَلاَ عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا ، وَقَالاَ لَهُ ، فَطَلَبَا إِلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُمَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ إِنَّا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا الْمَالِ ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِى دِمَائِهَا . قَالاَ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ . قَالَ فَمَنْ لِى بِهَذَا قَالاَ نَحْنُ لَكَ بِهِ . فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلاَّ قَالاَ نَحْنُ لَكَ بِهِ . فَصَالَحَهُ ، فَقَالَ الْحَسَنُ وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ إِلَى جَنْبِهِ ، وَهْوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ « إِنَّ ابْنِى هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ » أخرجه البخاري(1)
__________
(1) -برقم(2702)
وفي عون المعبود - (ج 10 / ص 180)
قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ :
( إِنَّ اِبْنِي هَذَا سَيِّد ): أَيْ حَلِيم كَرِيم مُتَجَمِّل
( بَيْن فِئَتَيْنِ مِنْ أُمَّتِي ) : هُمَا طَائِفَة الْحَسَن وَطَائِفَة مُعَاوِيَة وَكَانَ الْحَسَن رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَلِيمًا فَاضِلًا وَرِعًا دَعَاهُ وَرَعه إِلَى أَنَّ تَرْك الْمُلْك رَغْبَة فِيمَا عِنْد اللَّه تَعَالَى لَا لِقِلَّةٍ وَلَا لِعِلَّةٍ ، فَإِنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بَايَعَهُ أَكْثَر مِنْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا فَبَقِيَ خَلِيفَة بِالْعِرَاقِ وَمَا وَرَاءَهَا مِنْ خُرَاسَان سِتَّة أَشْهُر وَأَيَّامًا ثُمَّ سَارَ إِلَى مُعَاوِيَة فِي أَهْل الْحِجَاز وَسَارَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فِي أَهْل الشَّام ، فَلَمَّا اِلْتَقَى الْجَمْعَانِ بِمَنْزِلٍ مِنْ أَرْض الْكُوفَة وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَة فِي الصُّلْح أَجَابَ عَلَى شُرُوط مِنْهَا أَنْ يَكُون لَهُ الْأَمْر بَعْده ، وَأَنْ يَكُون لَهُ مِنْ الْمَال مَا يَكْفِيه فِي كُلّ عَام كَذَا فِي السِّرَاج الْمُنِير
( وَلَعَلَّ اللَّه أَنْ يُصْلِح بِهِ ) : أَيْ بِسَبَبِ تَكَرُّمه وَعَزْله نَفْسه عَنْ الْأَمْر وَتَرْكه لِمُعَاوِيَةَ اِخْتِيَارًا
( بَيْن فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَظِيمَتَيْنِ ) : فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ لَمْ يَخْرُج بِمَا كَانَ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْفِتْنَة مِنْ قَوْل أَوْ فِعْل عَنْ مِلَّة الْإِسْلَام لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُمْ كُلّهمْ مُسْلِمِينَ مَعَ كَوْن إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ مُصِيبَة وَالْأُخْرَى مُخْطِئَة ، وَهَكَذَا سَبِيل كُلّ مُتَأَوِّل فِيمَا يَتَعَاطَاهُ مِنْ رَأْي وَمَذْهَب إِذَا كَانَ لَهُ فِيمَا تَنَاوَلَهُ شُبْهَة ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ . وَاخْتَارَ السَّلَف تَرْك الْكَلَام فِي الْفِتْنَة الْأُولَى وَقَالُوا تِلْكَ دِمَاء طَهَّرَ اللَّه عَنْهَا أَيْدِينَا فَلَا نُلَوِّث بِهِ أَلْسِنَتنَا كَذَا فِي الْمِرْقَاة نَقْلًا عَنْ شَرْح السُّنَّة .(2/36)
ولعل الحسن ـ رضي الله عنه ـ ظل حياتَه كلَّها يتمنى تحقيق هذه البشارة، وظهر هذا من نصائحه المتكررة لوالده بترْكِ القتال.
وعندما بايع الناس الحسن على الخلافة اقتربت هذه البشارة من التحقق، وظهرت ملامح السلام في بيعته، وبوادر تحقيق بشرى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له.
وما هي إلا أيام قليلة حتى كان الصلحُ بينه وبين معاوية، وحقْنُ دماء المسلمين، ودخولُ الناس جميعا في الجماعة في ظل بَيْعةِ أميرٍ واحد.
وقد مدحه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على صنيعه هذا قبل أن يصبح واقعا، إذْ ترك سلطان الدنيا الفانية رغبة في آخرة هي خير وأبقى، وحقنا لدماء هذه الأمة، فنزل عن الخلافة، وجعل المُلْكَ بِيَدِ معاوية حتى تجتمع الكلمة على أمير واحد، وسمي ذلك العام "عام الجماعة".
================
عام الجماعة
كان تسليم الحسن الخلافةَ لمعاوية رضي الله عنهما محققا لبشارة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له؛ إذْ هو السيد الذي أصلح الله به بين طائفتين عظيمتين، كذلك كان به انقضاء دور الفتن والشقاق الذي كان مبدؤه من النصف الثاني من خلافة عثمان رضي الله عنه.
وقد استمرت الفتنة مشتعلة بضع سنوات، ولو كانت في أمة أخرى لهدمت أركانها، وقوضت بنيانَها، ولكن الله الرحمن الرحيم نظر إلى دينه القويم بعين عنايته، وبعظيم رحمته، وبجميل لطفه، فألّف قلوب أهله، وحفظه كما وعد.(2/37)
وكان عقد البيعة من الحسن لمعاوية في ربيع الأول، أو الآخر سنة إحدى وأربعين، وحرص الصحابة من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان على جمع الكلمة، ونبْذ الفُرقة، والدخول في الجماعة، فسُمّي ذلك العام عامَ الجماعة؛ لدخولهم جميعا في طاعة أمير واحد، واجتماعهم بعد الفُرقة، ولاستئنافهم الجهادَ وتفرغِهم للفتوح ونشر دعوة الإسلام، بعد أن عطّل قَتَلَةُ عثمان سيوفَ المسلمين عن أداء هذه المهمة خمسَ سنوات، كان يستطيع المسلمون أن يسجلوا فيها أمجادا كبعض الذي حققوه من قبل في ظل الخلافة الراشدة.
و عن ثابت مولى سفيان، سمعت معاوية، وهو يقول: إني لست بخيركم، وإن فيكم من هو خير مني: ابن عمر، وعبد الله ابن عمرو وغيرهما ، ولكني عسيت أن أكون أنكاكم في عدوكم، وأنعمكم لكم ولاية، وأحسنكم خلقا(1)
==============
استئناف حركة الفتوح
جاءت الفتنة فأوقفت حركة الجهاد وفتوح البلدان ونشر الإسلام في ربوع المعمورة حتى عام الجماعة، فلم يكن للمسلمين غزو منذ قُتِلَ عثمان ـ رضي الله عنه ـ حتى كان عام الجماعة، فغزا جند معاوية أرضَ الروم ستَّ عشرةَ غزوةً، تذهب سَرِيّة في الصيف ويُشْتُون بأرض الروم، ثم تقفل وتعقبها أخرى، وكان في جملة مَنْ قاد الغزو يزيد بن معاوية ومعه خلق من الصحابة، فقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل بهم راجعا إلى الشام.
عن سعيد بن عبد العزيز قال : أغزا معاوية الناس الصوائف وشتاهم بأرض الروم ست عشرة صائفة بها وشتوا ثم يقفل ويدخل معقبتها ثم اغترهم فأغزاهم يزيد ابنه في جماعة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في البر والبحر حتى أجاز بهم الخليج وقاتلوا أهلها على بابها وقفل قالوا فلم يزل معاوية على ذلك حتى مضى لسبيله وكان آخر ما وصاهم به أن شدوا خناق الروم فإنكم تضبطون بذلك غيرهم من الأمم أخرجه ابن عساكر (2)
__________
(1) - سير أعلام النبلاء - (ج 3 / ص 150)
(2) - تاريخ دمشق - (ج 59 / ص 158)(2/38)
****************
سابعا- بعض الدروس والعبر من الفتنة
رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ببعض ما حدث
المؤمنون ثلاثة أقسام :
وَبِتَحَقُّقِ " هَذَا الْمَقَامِ " يَزُولُ الِاشْتِبَاهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَيُعْلَمُ أَنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ قِسْمًا لَيْسَ هُوَ مُنَافِقًا مَحْضًا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } . وَلَا مِنْ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } فَلَا هُمْ مُنَافِقُونَ وَلَا هُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّادِقِينَ الْمُؤْمِنِينَ حَقًّا وَلَا مِنْ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا عِقَابٍ . بَلْ لَهُ طَاعَاتٌ وَمَعَاصٍ وَحَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ وَمَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَا يَخْلُدُ مَعَهُ فِي النَّارِ وَلَهُ مِنْ الْكَبَائِرِ مَا يَسْتَوْجِبُ دُخُولَ النَّارِ . وَهَذَا الْقِسْمُ قَدْ يُسَمِّيه بَعْضُ النَّاسِ : الْفَاسِقُ الملي وَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ النَّاسُ فِي اسْمِهِ وَحُكْمِهِ . وَالْخِلَافُ فِيهِ أَوَّلُ خِلَافٍ ظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ فِي مَسَائِلِ " أُصُولِ الدِّينِ " . فَنَقُولُ : لَمَّا قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ بْنُ عفان وَسَارَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى الْعِرَاقِ وَحَصَلَ بَيْنَ الْأُمَّةِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ يَوْمَ الْجَمَلِ ثُمَّ يَوْمَ صفين مَا هُوَ مَشْهُورٌ : خَرَجَتْ ( الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدّ أَخْبَرَ بِهِمْ وَذَكَرَ حُكْمَهُمْ قَالَ(2/39)
الْإِمَامُ أَحْمَد : صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَهَذِهِ الْعَشَرَةُ أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مُوَافَقَةً لِأَحْمَدَ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْهَا عِدَّةَ أَوْجُهٍ وَرَوَى أَحَادِيثَهُمْ أَهْلُ السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ . وَمِنْ أَصَحِّ حَدِيثِهِمْ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري فَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ : إذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَوَاَللَّهِ لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَحَبّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ وَإِنْ حَدَّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ وَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْيَمَنِ بِذُهَيْبَةِ فِي أَدَمٍ مَقْرُوضٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا فَقَالَ : فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كُنَّا أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلَاءِ قَالَ : فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي(2/40)
السَّمَاءِ يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا وَمَسَاءً قَالَ : فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاشِزُ الْجَبْهَةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمِّرُ الْإِزَارِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ فَقَالَ : وَيْلَك أَوَلَسْت أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ قَالَ : ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَضْرِبُ عُنُقَهُ ؟ فَقَالَ : لَا : لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي قَالَ خَالِدٌ : وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي لَمْ أومر أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ ؛ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ قَالَ ثُمَّ نَظَرَ إلَيْهِ وَهُوَ مُقَفٍّ فَقَالَ : إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ قَالَ : أَظُنُّهُ قَالَ : لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ } . اللَّفْظُ لِمُسْلِمِ . وَلِمُسْلِمِ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ قَوْمًا يَكُونُونَ فِي أُمَّتِهِ يَخْرُجُونَ فِي فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ ثُمَّ قَالَ شَرُّ الْخَلْقِ أَوْ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَفِي لَفْظٍ لَهُ : { تَقْتُلُهُمْ أَقْرَبُ الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ(2/41)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ : إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } فَبَيَّنَ أَنَّ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ كَانَتْ مُؤْمِنَةً وَأَنَّ اصْطِلَاحَ الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ كَانَ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اقْتِتَالِهِمَا وَأَنَّ اقْتِتَالَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ وَأَنَّ قِتَالَ الْخَوَارِجِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ اتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ . وَهَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ لَهُمْ أَسْمَاءٌ يُقَالُ لَهُمْ : " الحرورية " لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِمَكَانِ يُقَالُ لَهُ حَرُورَاءُ وَيُقَالُ لَهُمْ ( أَهْلُ النهروان : لِأَنَّ عَلِيًّا قَاتَلَهُمْ هُنَاكَ وَمِنْ أَصْنَافِهِمْ " الإباضية " أَتْبَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إبَاضٍ و " الأزارقة " أَتْبَاعُ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ و " النَّجَدَاتُ " أَصْحَابُ نَجْدَةَ الحروري . وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ كَفَّرَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِالذُّنُوبِ بَلْ بِمَا يَرَوْنَهُ هُمْ مِنْ الذُّنُوبِ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَلِكَ فَكَانُوا كَمَا نَعَتَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ " وَكَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عفان وَمَنْ وَالَاهُمَا وَقَتَلُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَحِلِّينَ لِقَتْلِهِ قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ المرادي مِنْهُمْ وَكَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخَوَارِجِ(2/42)
مُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ لَكِنْ كَانُوا جُهَّالًا فَارَقُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ ؛ فَقَالَ هَؤُلَاءِ : مَا النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ ؛ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ فَعَلَ جَمِيعَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرَكَ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ ؛ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ ؛ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ . ثُمَّ جَعَلُوا كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ كَذَلِكَ فَقَالُوا : إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَنَحْوَهُمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَظَلَمُوا فَصَارُوا كُفَّارًا . وَمَذْهَبُ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ بِدَلَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ دُونَ قَتْلِهِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا لَوَجَبَ قَتْلُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } . وَقَالَ { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٍ بَعْدَ إسْلَامٍ وَزِنًى بَعْدَ إحْصَانٍ أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ يُقْتَلُ بِهَا } وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجْلَدَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ لَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا ، وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُجْلَدَ قَاذِفُ الْمُحْصَنَةِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَأَمَرَ بِقَتْلِهِ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِدُ شَارِبَ الْخَمْرِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ : { أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ حِمَارًا وَكَانَ يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَيْهِ جَلَدَهُ فَأُتِيَ بِهِ(2/43)
إلَيْهِ مَرَّةً فَلَعَنَهُ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَنَهَى عَنْ لَعْنِهِ بِعَيْنِهِ وَشَهِدَ لَهُ بِحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ لَعَنَ شَارِبَ الْخَمْرِ عُمُومًا . وَهَذَا مِنْ أَجْوَدِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِقَتْلِ الشَّارِبِ فِي " الثَّالِثَةِ " و " الرَّابِعَةِ " مَنْسُوخٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَتَى بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَقَدْ أَعْيَا الْأَئِمَّةَ الْكِبَارَ جَوَابُ هَذَا الْحَدِيثِ ؛ وَلَكِنَّ نَسْخَ الْوُجُوبِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : يَجُوزُ قَتْلُهُ إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ إلَى الثَّمَانِينَ لَيْسَ حَدًّا مُقَدَّرًا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ بَلْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِينَ إلَى الثَّمَانِينَ تَرْجِعُ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فَيَفْعَلُهَا عِنْدَ الْمَصْلَحَةِ كَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ وَكَذَلِكَ صِفَةُ الضَّرْبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ جَلْدُ الشَّارِبِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ بِخِلَافِ الزَّانِي وَالْقَاذِفِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : قَتْلُهُ فِي الرَّابِعَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ . و " أَيْضًا " فَإِنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ - قَالَ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ(2/44)
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } . فَقَدْ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْأُخُوَّةِ وَأَمَرَنَا بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ . فَلَمَّا شَاعَ فِي الْأُمَّةِ أَمْرُ " الْخَوَارِجِ " تَكَلَّمَتْ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ وَرَوَوْا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحَادِيثَ فِيهِمْ وَبَيَّنُوا مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَظَهَرَتْ بِدْعَتُهُمْ فِي الْعَامَّةِ ؛(1)
الفرق بين من قبل عنه كافر وبين المرتد الأصلي
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 149)(2/45)
إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْفُقَهَاءِ يَظُنُّ أَنَّ مَنْ قِيلَ هُوَ كَافِرٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَجْرِيَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُرْتَدِّ رِدَّةً ظَاهِرَةً فَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُنَاكَحُ حَتَّى أَجْرَوْا هَذِهِ الْأَحْكَامَ عَلَى مَنْ كَفَّرُوهُ بِالتَّأْوِيلِ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا " ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ " : مُؤْمِنٌ ؛ وَكَافِرٌ مُظْهِرٌ لِلْكُفْرِ وَمُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِسْلَامِ مُبْطِنٌ لِلْكُفْرِ . وَكَانَ فِي الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعَلَامَاتِ وَدَلَالَاتٍ بَلْ مَنْ لَا يَشُكُّونَ فِي نِفَاقِهِ وَمَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِبَيَانِ نِفَاقِهِ - كَابْنِ أبي وَأَمْثَالِهِ - وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا مَاتَ هَؤُلَاءِ وَرِثَهُمْ وَرَثَتُهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَكَانَ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ آتَوْهُمْ مِيرَاثَهُ وَكَانَتْ تُعْصَمُ دِمَاؤُهُمْ حَتَّى تَقُومَ السُّنَّةُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى أَحَدِهِمْ بِمَا يُوجِبُ عُقُوبَتَهُ . وَلَمَّا خَرَجَتْ الحرورية عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاعْتَزَلُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لَهُمْ : إنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا أَلَّا نَمْنَعَكُمْ الْمَسَاجِدَ وَلَا نَمْنَعَكُمْ نَصِيبَكُمْ مِنْ الْفَيْءِ فَلَمَّا اسْتَحَلُّوا قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ قَاتَلَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : { يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ(2/46)
فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . فَكَانَتْ الحرورية قَدْ ثَبَتَ قِتَالُهُمْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّفَاقِ أَصْحَابِهِ وَلَمْ يَكُنْ قِتَالُهُمْ قِتَالَ فِتْنَةٍ كَالْقِتَالِ الَّذِي جَرَى بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ فِي الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ { قَالَ لِلْحَسَنِ ابْنِهِ : إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَتَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْحَسَنُ مِنْ تَرْكِ الْقِتَالِ إمَّا وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا لَمْ يَمْدَحْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ مُسْتَحَبٍّ وَدَلَّ الْحَدِيثُ الْآخَرُ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ قَاتَلُوا الْخَوَارِجَ وَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ ؛ وَأَنَّ قِتَالَ الْخَوَارِجِ أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ قِتَالُهُمْ كَالْقِتَالِ فِي الْجَمَلِ وصفين الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ مِنْ النَّبِيِّ . وَ ( الْمَقْصُودُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ لَمْ يَحْكُمُوا بِكُفْرِهِمْ وَلَا قَاتَلُوهُمْ حَتَّى بَدَءُوهُمْ بِالْقِتَالِ .(1)
الرد على الرافضة في زعمهم أن الإمام الحق هو علي رضي الله عنه دون سواه
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 2 / ص 169)(2/47)
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ عَمَّنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِمَامَ الْحَقَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى إمَامَتِهِ وَأَنَّ الصَّحَابَةَ ظَلَمُوهُ وَمَنَعُوهُ حَقَّهُ وَأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِذَلِكَ . فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ ؟ وَيَكْفُرُونَ بِهَذَا الِاعْتِقَادِ أَمْ لَا ؟ .
الْجَوَابُ(2/48)
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . فَلَوْ قَالُوا : نُصَلِّي وَلَا نُزَكِّي أَوْ نُصَلِّي الْخَمْسَ وَلَا نُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَلَا الْجَمَاعَةَ أَوْ نَقُومُ بِمَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ وَلَا نُحَرِّمُ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ أَوْ لَا نَتْرُكُ الرِّبَا وَلَا الْخَمْرَ وَلَا الْمَيْسِرَ أَوْ نَتَّبِعُ الْقُرْآنَ وَلَا نَتَّبِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْمَلُ بِالْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ أَوْ نَعْتَقِدُ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى خَيْرٌ مِنْ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّ أَهْلَ الْقِبْلَةِ قَدْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مُؤْمِنٌ إلَّا طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ أَوْ قَالُوا : إنَّا لَا نُجَاهِدُ الْكُفَّارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُخَالِفَةِ لِشَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ وَمَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّهُ يَجِبُ جِهَادُ هَذِهِ الطَّوَائِفِ جَمِيعِهَا كَمَا جَاهَدَ الْمُسْلِمُونَ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَجَاهَدُوا الْخَوَارِجَ وَأَصْنَافَهُمْ وَجَاهَدُوا الخرمية وَالْقَرَامِطَةَ وَالْبَاطِنِيَّةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَصْنَافِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ . وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } . فَإِذَا كَانَ بَعْضُ(2/49)
الدِّينِ لِلَّهِ وَبَعْضُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } فَلَمْ يَأْمُرْ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِمْ إلَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَبَعْدَ إقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمُمْتَنِعَةَ إذَا لَمْ تَنْتَهِ عَنْ الرِّبَا فَقَدْ حَارَبَتْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالرِّبَا آخِرُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ فَمَا حَرَّمَهُ قَبْلَهُ أَوْكَدُ . وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ } . فَكُلُّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَهْلِ الشَّوْكَةِ عَنْ الدُّخُولِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَدْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ عَمِلَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فَقَدْ سَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ؛ وَلِهَذَا تَأَوَّلَ السَّلَفُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْكُفَّارِ وَعَلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ ؛ حَتَّى أَدْخَلَ عَامَّةُ الْأَئِمَّةِ فِيهَا قُطَّاعَ الطَّرِيقِ الَّذِينَ يُشْهِرُونَ السِّلَاحَ لِمُجَرَّدِ أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَجَعَلُوهُمْ بِأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْقِتَالِ مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ سَاعِينَ فِي الْأَرْضِ(2/50)
فَسَادًا . وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ مَا فَعَلُوهُ وَيُقِرُّونَ بِالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . فَاَلَّذِي يَعْتَقِدُ حِلَّ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَيَسْتَحِلُّ قِتَالَهُمْ . أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ فَسَادًا مِنْ هَؤُلَاءِ . كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ الَّذِي يَسْتَحِلُّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَيَرَى جَوَازَ قِتَالِهِمْ : أَوْلَى بِالْمُحَارَبَةِ مِنْ الْفَاسِقِ الَّذِي يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الْمُبْتَدِعُ الَّذِي خَرَجَ عَنْ بَعْضِ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ وَاسْتَحَلَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَمَسِّكِينَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرِيعَتِهِ وَأَمْوَالِهِمْ : هُوَ أَوْلَى بِالْمُحَارَبَةِ مِنْ الْفَاسِقِ وَإِنْ اتَّخَذَ ذَلِكَ دِينًا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ . كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى تَتَّخِذُ مُحَارَبَةَ الْمُسْلِمِينَ دِينًا تَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ . وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبِدَعَ الْمُغَلَّظَةَ شَرٌّ مِنْ الذُّنُوبِ الَّتِي يَعْتَقِدُ أَصْحَابُهَا أَنَّهَا ذُنُوبٌ . وَبِذَلِكَ مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ عَنْ السُّنَّةِ وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ وَظُلْمِهِمْ وَالصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ مَعَ ذُنُوبِهِمْ وَشَهِدَ لِبَعْضِ الْمُصِرِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَنَهَى عَنْ لَعْنَتِهِ وَأَخْبَرَ عَنْ ذِي الخويصرة وَأَصْحَابِهِ - مَعَ عِبَادَتِهِمْ(2/51)
وَوَرَعِهِمْ - أَنَّهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } . فَكَلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرِيعَتِهِ فَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَرْضَى بِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَا يَشْجُرُ بَيْنَهُمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَحَتَّى لَا يَبْقَى فِي قُلُوبِهِمْ حَرَجٌ مِنْ حُكْمِهِ . وَدَلَائِلُ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ . وَبِذَلِكَ جَاءَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : " لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدَّ مَنْ ارْتَدَّ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ : كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَلَمْ يَقُلْ إلَّا بِحَقِّهَا ؟ فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا . وَاَللَّهُ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/52)
لَقَاتَلْتهمْ عَلَى مَنْعِهَا . فَقَالَ عُمَرُ : فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَلِمْت أَنَّهُ الْحَقُّ " . فَاتَّفَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِ أَقْوَامٍ يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ إذَا امْتَنَعُوا عَنْ بَعْضِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَكَاةِ أَمْوَالِهِمْ . وَهَذَا الِاسْتِنْبَاطُ مِنْ صِدِّيقِ الْأُمَّةِ قَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ : عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا } فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ حَتَّى يُؤَدُّوا هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ . وَهَذَا مُطَابِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ . وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَأَخْرَجَ مِنْهَا أَصْحَابُ الصَّحِيحِ عَشَرَةَ أَوْجُهٍ ذَكَرَهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْبُخَارِيُّ غَيْرَ وَجْهٍ . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ - : صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ . قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ . يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا(2/53)
يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مَاذَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ } . وَفِي رِوَايَةٍ { لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } وَفِي رِوَايَةٍ : { شَرَّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ . خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ } . وَهَؤُلَاءِ أَوَّلُ مَنْ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَهُمْ بحرورا لَمَّا خَرَجُوا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ ؛ فَإِنَّهُمْ قَتَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خباب وَأَغَارُوا عَلَى مَاشِيَةِ الْمُسْلِمِينَ . فَقَامَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَخَطَبَ النَّاسَ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَذَكَرَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْأَمْوَالَ فَاسْتَحَلَّ قِتَالَهُمْ وَفَرِحَ بِقَتْلِهِمْ فَرَحًا عَظِيمًا وَلَمْ يَفْعَلْ فِي خِلَافَتِهِ أَمْرًا عَامًّا كَانَ أَعْظَمَ عِنْدَهُ مِنْ قِتَالِ الْخَوَارِجِ . وَهُمْ كَانُوا يُكَفِّرُونَ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى كَفَّرُوا عُثْمَانَ وَعَلِيًّا . وَكَانُوا يَعْمَلُونَ بِالْقُرْآنِ فِي زَعْمِهِمْ وَلَا يَتَّبِعُونَ سُنَّةَ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا تُخَالِفُ الْقُرْآنَ . كَمَا يَفْعَلُهُ سَائِرُ أَهْلِ الْبِدَعِ - مَعَ كَثْرَةِ عِبَادَتِهِمْ وَوَرَعِهِمْ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا أَنَّهُ قَالَ : خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا : أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ حَرَّقَ غَالِيَةَ الرَّافِضَةِ(2/54)
الَّذِينَ اعْتَقَدُوا فِيهِ الْإِلَهِيَّةَ . وَرُوِيَ عَنْهُ بِأَسَانِيدَ جَيِّدَةٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا أَوُتَى بِأَحَدِ يَفْضُلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي . وَعَنْهُ أَنَّهُ طَلَبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لِيَقْتُلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُ . وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِرَجُلِ فَضَّلَهُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُجْلَدَ لِذَلِكَ . وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِصَبِيغِ بْنِ عِسْلٍ ؛ لَمَّا ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ الْخَوَارِجِ : لَوْ وَجَدْتُك مَحْلُوقًا لَضَرَبْت الَّذِي فِيهِ عَيْنَاك . فَهَذِهِ سُنَّةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ قَدْ أَمَرَ بِعُقُوبَةِ الشِّيعَةِ : الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ وَأَخَفُّهُمْ الْمُفَضِّلَةُ . فَأَمَرَ هُوَ وَعُمَرُ بِجِلْدِهِمْ . وَالْغَالِيَةُ يُقْتَلُونَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ الْإِلَهِيَّةَ وَالنُّبُوَّةَ فِي عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ مِثْلَ النصيرية والْإسْماعيليَّةُ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ : بَيْتُ صَادٍ وَبَيْتُ سِينٍ وَمَنْ دَخَلَ فِيهِمْ مِنْ الْمُعَطِّلَةِ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ الصَّانِعِ أَوْ يُنْكِرُونَ الْقِيَامَةَ أَوْ يُنْكِرُونَ ظَوَاهِرَ الشَّرِيعَةِ : مِثْلَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَيَتَأَوَّلُونَ ذَلِكَ عَلَى مَعْرِفَةِ أَسْرَارِهِمْ وَكِتْمَانِ أَسْرَارِهِمْ وَزِيَارَةِ شُيُوخِهِمْ . وَيَرَوْنَ أَنَّ الْخَمْرَ حَلَالٌ لَهُمْ وَنِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ حَلَالٌ لَهُمْ . فَإِنَّ جَمِيعَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ عَنْ أَحَدِهِمْ ذَلِكَ كَانَ(2/55)
مِنْ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَمَنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ مِنْ الْكَافِرِينَ كُفْرًا . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا بِجِزْيَةِ وَلَا ذِمَّةٍ وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُ نِسَائِهِمْ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مُرْتَدُّونَ مِنْ شَرِّ الْمُرْتَدِّينَ . فَإِنْ كَانُوا طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً وَجَبَ قِتَالُهُمْ كَمَا يُقَاتَلُ الْمُرْتَدُّونَ كَمَا قَاتَلَ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ أَصْحَابَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَإِذَا كَانُوا فِي قُرَى الْمُسْلِمِينَ فُرِّقُوا وَأُسْكِنُوا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَأُلْزِمُوا بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَلَيْسَ هَذَا مُخْتَصًّا بِغَالِيَةِ الرَّافِضَةِ بَلْ مَنْ غَلَا فِي أَحَدٍ مِنْ الْمَشَايِخِ وَقَالَ : إنَّهُ يَرْزُقُهُ أَوْ يُسْقِطُ عَنْهُ الصَّلَاةَ أَوْ أَنَّ شَيْخَهُ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ أَوْ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ لَهُ إلَى اللَّهِ طَرِيقًا غَيْرَ شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمَشَايِخِ يَكُونُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ الْخَضِرُ مَعَ مُوسَى . وَكُلُّ هَؤُلَاءِ كُفَّارٌ يَجِبُ قِتَالُهُمْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَتْلُ الْوَاحِدِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْهُمْ . وَأَمَّا الْوَاحِدُ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّافِضَةِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا - أَعْنِي عُمَرَ وَعَلِيًّا - قَتْلُهُمَا أَيْضًا . وَالْفُقَهَاءُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي قَتْلِ الْوَاحِدِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِي(2/56)
وُجُوبِ قَتْلِهِمْ إذَا كَانُوا مُمْتَنِعِينَ . فَإِنَّ الْقِتَالَ أَوْسَعُ مِنْ الْقَتْلِ كَمَا يُقَاتَلُ الصَّائِلُونَ الْعُدَاةُ وَالْمُعْتَدُونَ الْبُغَاةُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ إذَا قُدِرَ عَلَيْهِ لَمْ يُعَاقَبْ إلَّا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ . وَهَذِهِ النُّصُوصُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوَارِجِ قَدْ أَدْخَلَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ لَفْظًا أَوْ مَعْنَى مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ بَعْضُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِج الحرورية ؛ مِثْلُ الخرمية وَالْقَرَامِطَةِ والنصيرية وَكُلِّ مِنْ اعْتَقَدَ فِي بَشَرٍ أَنَّهُ إلَهٌ أَوْ فِي غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَقَاتَلَ عَلَى ذَلِكَ الْمُسْلِمِينَ : فَهُوَ شَرٌّ مِنْ الْخَوَارِج الحرورية . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا ذَكَرَ الْخَوَارِجَ الحرورية لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ خَرَجُوا بَعْدَهُ ؛ بَلْ أَوَّلُهُمْ خَرَجَ فِي حَيَاتِهِ . فَذَكَرَهُمْ لِقُرْبِهِمْ مِنْ زَمَانِهِ كَمَا خَصَّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَشْيَاءَ بِالذِّكْرِ لِوُقُوعِهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِثْلَ قَوْلِهِ : { وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ } . وَقَوْلُهُ : { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَمِثْلَ تَعْيِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَائِلَ مِنْ الْأَنْصَارِ وَتَخْصِيصَهُ أَسْلَمَ وَغِفَارَ وَجُهَيْنَةَ وَتَمِيمًا وَأَسَدًا وغطفان وَغَيْرَهُمْ بِأَحْكَامِ ؛ لِمَعَانٍ قَامَتْ(2/57)
بِهِمْ وَكُلُّ مَنْ وُجِدَتْ فِيهِ تِلْكَ الْمَعَانِي أُلْحِقَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَمْ يَكُنْ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالْحُكْمِ ؛ بَلْ لِحَاجَةِ الْمُخَاطَبِينَ إذْ ذَاكَ إلَى تَعْيِينِهِمْ ؛ هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ أَلْفَاظُهُ شَامِلَةً لَهُمْ . وَهَؤُلَاءِ الرَّافِضَةُ إنْ لَمْ يَكُونُوا شَرًّا مِنْ الْخَوَارِج المنصوصين فَلَيْسُوا دُونَهُمْ ؛ فَإِنَّ أُولَئِكَ إنَّمَا كَفَّرُوا عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَأَتْبَاعَ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ فَقَطْ ؛ دُونَ مَنْ قَعَدَ عَنْ الْقِتَالِ أَوْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ . وَالرَّافِضَةُ كَفَّرَتْ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَامَّةَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ الَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَكَفَّرُوا جَمَاهِيرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين . فَيُكَفِّرُونَ كُلَّ مَنْ اعْتَقَدَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الْعَدَالَةَ أَوْ تَرَضَّى عَنْهُمْ كَمَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَلِهَذَا يُكَفِّرُونَ أَعْلَامَ الْمِلَّةِ : مِثْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي مُسْلِمٍ الخولاني وَأُوَيْسٍ الْقَرْنِيِّ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَإِبْرَاهِيمَ النخعي وَمِثْلِ مَالِكٍ والأوزاعي وَأَبِي حَنِيفَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الكرخي والجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التستري وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ . وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ مَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ وَيُسَمُّونَ(2/58)
مَذْهَبَهُمْ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ كَمَا يُسَمِّيهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَنَحْوُهُمْ بِذَلِكَ وَكَمَا تُسَمِّيهِ الْمُعْتَزِلَةُ مَذْهَبَ الْحَشْوِ وَالْعَامَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ . وَيَرَوْنَ فِي أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْحِجَازِ وَالْمَغْرِبِ وَالْيَمَنِ وَالْعِرَاقِ وَالْجَزِيرَةِ وَسَائِرِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ نِكَاحُ هَؤُلَاءِ وَلَا ذَبَائِحُهُمْ وَأَنَّ الْمَائِعَاتِ الَّتِي عِنْدَهُمْ مِنْ الْمِيَاهِ وَالْأَدْهَانِ وَغَيْرِهَا نَجِسَةٌ وَيَرَوْنَ أَنَّ كُفْرَهُمْ أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . لِأَنَّ أُولَئِكَ عِنْدَهُمْ كُفَّارٌ أَصْلِيُّونَ وَهَؤُلَاءِ . مُرْتَدُّونَ وَكُفْرُ الرِّدَّةِ أَغْلَظُ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ . وَلِهَذَا السَّبَبِ يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى الْجُمْهُورِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيُعَاوِنُونَ التَّتَارَ عَلَى الْجُمْهُورِ . وَهُمْ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي خُرُوجِ جنكيزخان مَلِكِ الْكُفَّارِ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَفِي قُدُومِ هُولَاكُو إلَى بِلَادِ الْعِرَاقِ ؛ وَفِي أَخْذِ حَلَبَ وَنَهْبِ الصالحية وَغَيْرِ ذَلِكَ بِخُبْثِهِمْ وَمَكْرِهِمْ ؛ لَمَّا دَخَلَ فِيهِ مَنْ تَوَزَّرَ مِنْهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرُ مَنْ تَوَزَّرَ مِنْهُمْ . وَبِهَذَا السَّبَبِ نَهَبُوا عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا مَرَّ عَلَيْهِمْ وَقْتُ انْصِرَافِهِ إلَى مِصْرَ فِي النَّوْبَةِ الْأُولَى . وَبِهَذَا السَّبَبِ يَقْطَعُونَ الطُّرُقَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَبِهَذَا السَّبَبِ ظَهَرَ فِيهِمْ مِنْ مُعَاوَنَةِ التَّتَارِ وَالْإِفْرِنْجِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْكَآبَةِ الشَّدِيدَةِ بِانْتِصَارِ الْإِسْلَامِ مَا ظَهَرَ وَكَذَلِكَ لَمَّا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ السَّاحِلَ - عَكَّةَ(2/59)
وَغَيْرَهَا - ظَهَرَ فِيهِمْ مِنْ الِانْتِصَارِ لِلنَّصَارَى وَتَقْدِيمِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَدْ سَمِعَهُ النَّاسُ مِنْهُمْ . وَكُلُّ هَذَا الَّذِي وَصَفْت بَعْضَ أُمُورِهِمْ وَإِلَّا فَالْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ . وَقَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَحْوَالِ ؛ أَنَّ أَعْظَمَ السُّيُوفِ الَّتِي سُلَّتْ عَلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهَا وَأَعْظَمَ الْفَسَادِ الَّذِي جَرَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يَنْتَسِبُ إلَى أَهْلِ الْقِبْلَةِ : إنَّمَا هُوَ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبَةِ إلَيْهِمْ . فَهُمْ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَى الدِّينِ وَأَهْلِهِ وَأَبْعَدُ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْخَوَارِجِ الحرورية وَلِهَذَا كَانُوا أَكْذَبَ فِرَقِ الْأُمَّةِ . فَلَيْسَ فِي الطَّوَائِفِ الْمُنْتَسِبَةِ إلَى الْقِبْلَةِ أَكْثَرُ كَذِبًا وَلَا أَكْثَرُ تَصْدِيقًا لِلْكَذِبِ وَتَكْذِيبًا لِلصِّدْقِ مِنْهُمْ وَسِيَّمَا النِّفَاقُ فِيهِمْ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي سَائِرِ النَّاسِ ؛ وَهِيَ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } وَفِي رِوَايَةٍ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } . وَكُلُّ مَنْ جَرَّبَهُمْ يَعْرِفُ اشْتِمَالَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ ؛ وَلِهَذَا يَسْتَعْمِلُونَ التَّقِيَّةَ الَّتِي هِيَ سِيمَا الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ ويَسْتَعْمِلونها مَعَ الْمُسْلِمِينَ { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي(2/60)
قُلُوبِهِمْ } وَيَحْلِفُونَ مَا قَالُوا وَقَدْ قَالُوا وَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لِيَرْضَوْا الْمُؤْمِنِينَ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يَرْضَوْهُ . وَقَدْ أَشْبَهُوا الْيَهُودَ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ لَا سِيَّمَا السَّامِرَةُ مِنْ الْيَهُودِ ؛ فَإِنَّهُمْ أَشْبَهُ بِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأَصْنَافِ : يُشَبِّهُونَهُمْ فِي دَعْوَى الْإِمَامَةِ فِي شَخْصٍ أَوْ بَطْنٍ بِعَيْنِهِ وَالتَّكْذِيبِ لِكُلِّ مَنْ جَاءَ بِحَقِّ غَيْرِهِ يَدْعُونَهُ وَفِي اتِّبَاعِ الْأَهْوَاءِ أَوْ تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَأْخِيرِ الْفِطْرِ وَصَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتَحْرِيمِ ذَبَائِحِ غَيْرِهِمْ . وَيُشْبِهُونَ النَّصَارَى فِي الْغُلُوِّ فِي الْبَشَرِ وَالْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ وَفِي الشِّرْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهُمْ يُوَالُونَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهَذِهِ شِيَمُ الْمُنَافِقِينَ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } . وَلَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ وَلَا دِينٌ صَحِيحٌ وَلَا دُنْيَا مَنْصُورَةٌ وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً - وَالْخَوَارِجُ كَانُوا يُصَلُّونَ جُمُعَةً وَجَمَاعَةً - وَهُمْ لَا يَرَوْنَ جِهَادَ(2/61)
الْكُفَّارِ مَعَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا الصَّلَاةَ خَلْفَهُمْ وَلَا طَاعَتَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَلَا تَنْفِيذَ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِمْ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ [ أَنَّ ذَلِكَ ] لَا يَسُوغُ إلَّا خَلَفَ إمَامٍ مَعْصُومٍ . وَيَرَوْنَ أَنَّ الْمَعْصُومَ قَدْ دَخَلَ فِي السِّرْدَابِ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً . وَهُوَ إلَى الْآنِ لَمْ يَخْرُجْ وَلَا رَآهُ أَحَدٌ وَلَا عَلَّمَ أَحَدًا دِينًا وَلَا حَصَلَ بِهِ فَائِدَةٌ بَلْ مَضَرَّةٌ . وَمَعَ هَذَا فَالْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا أَتْبَاعُهُ : مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ الضُّلَّالِ مِنْ سُكَّانِ الْجِبَالِ وَالْبَوَادِي أَوْ مَنْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ بِالْبَاطِلِ : مِثْلُ ابْنِ الْعُود وَنَحْوِهِ مِمَّنْ قَدْ كَتَبَ خَطَّهُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ . مِنْ الْمُخَازِي عَنْهُمْ وَصَرَّحَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُمْ وَبِأَكْثَرَ مِنْهُ . وَهُمْ مَعَ هَذَا الْأَمْرِ يُكَفِّرُونَ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلِّ مَنْ آمَنَ بِقَدَرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ : فَآمَنَ بِقُدْرَتِهِ الْكَامِلَةِ وَمَشِيئَتِهِ الشَّامِلَةِ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ . وَأَكْثَرُ مُحَقِّقِيهِمْ عِنْدَهُمْ - يَرَوْنَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَكْثَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَسَائِرِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ؛ مَا آمَنُوا بِاَللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي يَتَعَقَّبُهُ الْكَفْرُ عِنْدَهُمْ يَكُونُ بَاطِلًا مِنْ أَصْلِهِ كَمَا(2/62)
يَقُولُهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ فَرْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي جَامَعَ بِهِ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ لِيُطَهَّرَ بِذَلِكَ مِنْ وَطْءِ الْكَوَافِرِ عَلَى زَعْمِهِمْ ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الْكَوَافِرِ حَرَامٌ عِنْدِهِمْ . وَمَعَ هَذَا يَرُدُّونَ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ عَنْهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِثْلَ أَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَيَرَوْنَ أَنَّ شِعْرَ شُعَرَاءِ الرَّافِضَةِ : مِثْلُ الْحِمْيَرِيِّ وكوشيار الدَّيْلَمِيَّ وَعِمَارَةَ الْيَمَنِيِّ خَيْرًا مِنْ أَحَادِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ . وَقَدْ رَأَيْنَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَابَتِهِ وَقَرَابَتِهِ أَكْثَرَ مِمَّا رَأَيْنَا مِنْ الْكَذِبِ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ . وَهُمْ مَعَ هَذَا يُعَطِّلُونَ الْمَسَاجِدَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فَلَا يُقِيمُونَ فِيهَا جُمُعَةً وَلَا جَمَاعَةً وَيَبْنُونَ عَلَى الْقُبُورِ الْمَكْذُوبَةِ وَغَيْرِ الْمَكْذُوبَةِ مَسَاجِدَ يَتَّخِذُونَهَا مَشَاهِدَ . وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اتَّخَذَ الْمَسَاجِدَ عَلَى الْقُبُورِ وَنَهَى أُمَّتَهُ عَنْ ذَلِكَ . وَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسِ : { إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ . أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ؛ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ } . وَيَرَوْنَ أَنَّ حَجَّ هَذِهِ الْمَشَاهِدِ الْمَكْذُوبَةِ وَغَيْرِ الْمَكْذُوبَةِ(2/63)
مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ حَتَّى أَنَّ مِنْ مَشَايِخِهِمْ مَنْ يُفَضِّلُهَا عَلَى حَجِّ الْبَيْتِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَوَصْفُ حَالِهِمْ يَطُولُ . فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ شَرٌّ مِنْ عَامَّةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَأَحَقُّ بِالْقِتَالِ مِنْ الْخَوَارِجِ . وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ فِيمَا شَاعَ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ : أَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ هُمْ الرَّافِضَةُ : فَالْعَامَّةُ شَاعَ عِنْدَهَا أَنَّ ضِدَّ السُّنِّيِّ هُوَ الرافضي فَقَطْ لِأَنَّهُمْ أَظْهَرُ مُعَانَدَةً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَائِعِ دِينِهِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ . وَأَيْضًا فَالْخَوَارِجُ كَانُوا يَتَّبِعُونَ الْقُرْآنَ بِمُقْتَضَى فَهْمِهِمْ وَهَؤُلَاءِ إنَّمَا يَتَّبِعُونَ الْإِمَامَ الْمَعْصُومَ عِنْدَهُمْ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ . فَمُسْتَنَدُ الْخَوَارِجِ خَيْرٌ مِنْ مُسْتَنَدِهِمْ . وَأَيْضًا فَالْخَوَارِجُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ زِنْدِيقٌ وَلَا غَالٍ وَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مِنْ الزَّنَادِقَةِ وَالْغَالِيَةِ مَنْ لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ . وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ مَبْدَأَ الرَّفْضِ إنَّمَا كَانَ مِنْ الزِّنْدِيقِ : عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ ؛ فَإِنَّهُ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَبْطَنَ الْيَهُودِيَّةَ وَطَلَبَ أَنْ يُفْسِدَ الْإِسْلَامَ كَمَا فَعَلَ بولص النَّصْرَانِيُّ الَّذِي كَانَ يَهُودِيًّا فِي إفْسَادِ دِينِ النَّصَارَى . وَأَيْضًا فَغَالِبُ أَئِمَّتِهِمْ زَنَادِقَةٌ ؛ إنَّمَا يُظْهِرُونَ الرَّفْضَ . لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ كَمَا فَعَلَتْهُ أَئِمَّةُ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا بِأَرْضِ أَذْرَبِيجَانَ فِي زَمَنِ الْمُعْتَصِمِ مَعَ بَابك الخرمي وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ " الخرمية " وَ "(2/64)
الْمُحَمِّرَةَ " " وَالْقَرَامِطَةَ الْبَاطِنِيَّةَ " الَّذِينَ خَرَجُوا بِأَرْضِ الْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَأَخَذُوا الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَبَقِيَ مَعَهُمْ مُدَّةً . كَأَبِي سَعِيدٍ الجنابي وَأَتْبَاعِهِ . وَاَلَّذِينَ خَرَجُوا بِأَرْضِ الْمَغْرِبِ ثُمَّ جَاوَزُوا إلَى مِصْرَ وَبَنَوْا الْقَاهِرَةَ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ فَاطِمِيُّونَ مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَنْسَابِ أَنَّهُمْ بَرِيئُونَ مِنْ نَسَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ نَسَبَهُمْ مُتَّصِلٌ بِالْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ وَاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِدِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ أَبْعَدُ عَنْ دِينِهِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . بَلْ الْغَالِيَةُ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ إلَهِيَّةَ عَلِيٍّ وَالْأَئِمَّةِ . وَمِنْ أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ أَهْلِ دُورِ الدَّعْوَةِ : الَّذِينَ كَانُوا بِخُرَاسَانَ وَالشَّامِ وَالْيَمَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ مَنْ أَعَانَ التَّتَارَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ : بِالْمُؤَازَرَةِ وَالْوِلَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ لِمُبَايَنَةِ قَوْلِهِمْ لِقَوْلِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَلِكُ الْكُفَّارِ هُولَاكُو " يُقَرِّرُ أَصْنَامَهُمْ . وَأَيْضًا فَالْخَوَارِجُ كَانُوا مِنْ أَصْدَقِ النَّاسِ وَأَوْفَاهُمْ بِالْعَهْدِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَكْذَبِ النَّاسِ وأنقضهم لِلْعَهْدِ . وَأَمَّا ذِكْرُ الْمُسْتَفْتِي أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذَا عَيْنُ الْكَذِبِ ؛ بَلْ كَفَرُوا مِمَّا جَاءَ بِهِ بِمَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ : فَتَارَةً يُكَذِّبُونَ بِالنُّصُوصِ(2/65)
الثَّابِتَةِ عَنْهُ . وَتَارَةً يُكَذِّبُونَ بِمَعَانِي التَّنْزِيلِ . وَمَا ذَكَرْنَاهُ وَمَا لَمْ نُذْكَرْهُ مِنْ مَخَازِيهِمْ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالرِّضْوَانِ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ مَا هُمْ كَافِرُونَ بِحَقِيقَتِهِ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْجُمُعَةِ وَالْأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَبِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ مَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ مُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُوَادَّتِهِمْ وَمُؤَاخَاتِهِمْ وَالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمْ مَا هُمْ عَنْهُ خَارِجُونَ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ وَمُوَادَّتِهِمْ مَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَحْرِيمِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ وَتَحْرِيمِ الْغِيبَةِ وَالْهَمْزِ وَاللَّمْزِ : مَا هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ اسْتِحْلَالًا لَهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَالنَّهْيِ عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ مَا هُمْ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَحَبَّتِهِ وَاتِّبَاعِ حُكْمِهِ مَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ حُقُوقِ أَزْوَاجِهِ مَا هُمْ بَرَاءٌ مِنْهُ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَإِخْلَاصِ الْمُلْكِ لَهُ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ مَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ . فَإِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ كَمَا جَاءَ فِيهِمْ الْحَدِيثُ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلْمَقَابِرِ(2/66)
الَّتِي اُتُّخِذَتْ أَوْثَانًا مِنْ دُونِ اللَّهِ . وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ وَصْفُهُ . وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ مَا هُمْ كَافِرُونَ بِهِ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالنَّهْيِ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ مَا هُمْ كَافِرُونَ بِهِ . وَذَكَرَ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ : مَا هُمْ كَافِرُونَ بِهِ . وَلَا تَحْتَمِلُ الْفَتْوَى إلَّا الْإِشَارَةَ الْمُخْتَصَرَةَ . وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ إيمَانَ الْخَوَارِجِ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مِنْ إيمَانِهِمْ . فَإِذَا كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ قَتَلَهُمْ وَنَهَبَ عَسْكَرَهُ مَا فِي عَسْكَرِهِمْ مِنْ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالْأَمْوَالِ فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى أَنْ يُقَاتَلُوا وَتُؤْخَذَ أَمْوَالُهُمْ كَمَا أَخَذَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمْوَالَ الْخَوَارِجِ . وَمَنْ اعْتَقَدَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّ قِتَالَ هَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْإِمَامِ بِتَأْوِيلِ سَائِغٍ كَقِتَالِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِأَهْلِ الْجَمَلِ وصفين : فَهُوَ غالط جَاهِلٌ بِحَقِيقَةِ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَتَخْصِيصِهِ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْهَا . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ سَاسُوا الْبِلَادَ الَّتِي يَغْلِبُونَ عَلَيْهَا بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ كَانُوا مُلُوكًا كَسَائِرِ الْمُلُوكِ ؛ وَإِنَّمَا هُمْ خَارِجُونَ عَنْ نَفْسِ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ(2/67)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّتِهِ شَرًّا مِنْ خُرُوجِ الْخَوَارِجِ الحرورية وَلَيْسَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ ؛ فَإِنَّ التَّأْوِيلَ السَّائِغَ هُوَ الْجَائِزُ الَّذِي يُقِرُّ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ جَوَابٌ كَتَأْوِيلِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَنَازِعِينَ فِي مَوَارِدِ الِاجْتِهَادِ . وَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلَكِنَّ لَهُمْ تَأْوِيلٌ مِنْ جِنْسِ تَأْوِيلِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَتَأْوِيلُهُمْ شَرُّ تَأْوِيلَاتِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ . وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَقِّهَةِ لَمْ يَجِدُوا تَحْقِيقَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مُخْتَصَرَاتِهِمْ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُصَنَّفِينَ فِي الشَّرِيعَةِ لَمْ يَذْكُرُوا فِي مُصَنَّفَاتِهِمْ قِتَالَ الْخَارِجِينَ عَنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ كَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ إلَّا مِنْ جِنْسِ قِتَالِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْإِمَامِ كَأَهْلِ الْجَمَل وصفين . وَهَذَا غَلَطٌ ؛ بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَرْقٌ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَكْثَرُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ . وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَتْ النُّصُوصُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا يَشْمَلُهُمْ وَغَيْرَهُمْ ؛ مِثْلَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهِ : { مَنْ خَرَجَ مِنْ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ثُمَّ مَاتَ : مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عمية ؛ يَغْضَبُ لِلْعَصَبِيَّةِ وَيُقَاتِلُ(2/68)
لِلْعَصَبِيَّةِ : فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدِهَا فَلَيْسَ مِنِّي } فَقَدْ ذَكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبُغَاةَ الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ السُّلْطَانِ وَعَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَذَكَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ إذَا مَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً ؛ فَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَجْعَلُونَ عَلَيْهِمْ أَئِمَّةً ؛ بَلْ كُلُّ طَائِفَةٍ تُغَالِبُ الْأُخْرَى . ثُمَّ ذَكَرَ قِتَالَ أَهْلِ الْعَصَبِيَّةِ كَاَلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْأَنْسَابِ مِثْلَ قَيْسٍ وَيُمَنِّ وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ قُتِلَ تَحْتَ هَذِهِ الرَّايَاتِ فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِهِ ثُمَّ ذَكَرَ قِتَالَ الْعُدَاةِ الصَّائِلِينَ وَالْخَوَارِجَ وَنَحْوَهُمْ وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَلَيْسَ مِنْهُ . وَهَؤُلَاءِ جَمَعُوا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَوْصَافَ وَزَادُوا عَلَيْهَا . فَإِنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنْ الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ : يَقْتُلُونَ الْمُؤْمِنَ وَالْمُعَاهِدَ لَا يَرَوْنَ لِأَحَدِ مِنْ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ طَاعَةً سَوَاءٌ كَانَ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا ؛ إلَّا لِمَنْ لَا وُجُودَ لَهُ . وَهُمْ يُقَاتِلُونَ لِعَصَبِيَّةٍ شَرٍّ مِنْ عَصَبِيَّةِ ذَوِي الْأَنْسَابِ : وَهِيَ الْعَصَبِيَّةُ لِلدِّينِ الْفَاسِدِ ؛ فَإِنَّ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِلِّ وَالْغَيْظِ عَلَى كِبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَصِغَارِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ وَغَيْرِ صَالِحِيهِمْ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِ أَحَدٍ . وَأَعْظَمُ عِبَادَتِهِمْ عِنْدَهُمْ لَعْنُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ : مُسْتَقْدِمُهُمْ وَمُسْتَأْخِرُهُمْ . وَأَمْثَلُهُمْ عِنْدَهُمْ الَّذِي لَا يَلْعَنُ وَلَا يَسْتَغْفِرُ . وَأَمَّا(2/69)
خُرُوجُهُمْ يَقْتُلُونَ الْمُؤْمِنَ وَالْمُعَاهِدَ : فَهَذَا أَيْضًا حَالُهُمْ ؛ مَعَ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَسَائِرُ الْأُمَّةِ كُفَّارٌ . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شريح قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهُ سَتَكُونُ هناة وهناة فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ وَفِي لَفْظٍ : فَاقْتُلُوهُ } وَفِي لَفْظٍ : { مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ وَيُفَرِّقُ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ } . وَهَؤُلَاءِ أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى تَفْرِيقِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ لِوَلِيِّ أَمْرٍ بِطَاعَةِ سَوَاءٌ كَانَ عَدْلًا أَوْ فَاسِقًا ؛ وَلَا يُطِيعُونَهُ لَا فِي طَاعَةٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا ؛ بَلْ أَعْظَمُ أُصُولِهِمْ عِنْدَهُمْ التَّكْفِيرُ وَاللَّعْنُ وَالسَّبُّ لِخِيَارِ وُلَاةِ الْأُمُورِ ؛ كَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَشَايِخِهِمْ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ فَمَا آمَنَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَإِنَّمَا كَانَ هَؤُلَاءِ شَرًّا مِنْ الْخَوَارِج الحرورية وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ لِاشْتِمَالِ مَذَاهِبِهِمْ عَلَى شَرٍّ مِمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مَذَاهِبُ الْخَوَارِجِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ الحرورية كَانُوا أَوَّلَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ خُرُوجًا عَنْ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؛ مَعَ وُجُودِ بَقِيَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَبَقَايَا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَظُهُورِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَدْلِ فِي(2/70)
الْأُمَّةِ وَإِشْرَاقِ نُورِ النُّبُوَّةِ وَسُلْطَانِ الْحُجَّةِ وَسُلْطَانِ الْقُدْرَةِ ؛ حَيْثُ أَظْهَرَ اللَّهُ دِينَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ بِالْحُجَّةِ وَالْقُدْرَةِ . وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِمْ مَا فَعَلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَمَنْ مَعَهُمَا مِنْ الْأَنْوَاعِ الَّتِي فِيهَا تَأْوِيلٌ فَلَمْ يَحْتَمِلُوا ذَلِكَ وَجَعَلُوا مَوَارِدَ الِاجْتِهَادِ . بَلْ الْحَسَنَاتِ ذُنُوبًا وَجَعَلُوا الذُّنُوبَ كُفْرًا وَلِهَذَا لَمْ يَخْرُجُوا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ لِانْتِفَاءِ تِلْكَ التَّأْوِيلَاتِ وَضَعْفِهِمْ .(1)
بين قتال التتار وقتال الخوارج
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 421)(2/71)
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَأَعَانَهُمْ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ الْمُبِينِ وَكَشْفِ غَمَرَاتِ الْجَاهِلِينَ وَالزَّائِغِينَ فِي هَؤُلَاءِ التَّتَارِ الَّذِينَ يَقْدَمُونَ إلَى الشَّامِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَتَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ وَانْتَسَبُوا إلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَبْقَوْا عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَهَلْ يَجِبُ قِتَالُهُمْ أَمْ لَا ؟ وَمَا الْحُجَّةُ عَلَى قِتَالِهِمْ ؟ وَمَا مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِمَّنْ يَفِرُّ إلَيْهِمْ مِنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ : الْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ ؟ وَمَا حُكْمُ مِنْ قَدْ أَخْرَجُوهُ مَعَهُمْ مُكْرَهًا ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ يَكُونُ مَعَ عَسْكَرِهِمْ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْفَقْرِ وَالتَّصَوُّفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؟ وَمَا يُقَالُ فِيمَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَالْمُقَاتِلُونَ لَهُمْ مُسْلِمُونَ وَكِلَاهُمَا ظَالِمٌ فَلَا يُقَاتَلُ مَعَ أَحَدِهِمَا . وَفِي قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ كَمَا تُقَاتَلُ الْبُغَاةُ الْمُتَأَوِّلُونَ ؟ وَمَا الْوَاجِبُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَأَهْلِ الْقِتَالِ وَأَهْلِ الْأَمْوَالِ فِي أَمْرِهِمْ ؟ أَفْتُونَا فِي ذَلِكَ بِأَجْوِبَةِ مَبْسُوطَةٍ شَافِيَةٍ فَإِنَّ أَمْرَهُمْ قَدْ أُشْكِلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ عَلَى أَكْثَرِهِمْ . تَارَةً لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِهِمْ . وَتَارَةً لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَثَلِهِمْ . وَاَللَّهُ الْمُيَسِّرُ لِكُلِّ خَيْرٍ بِقُدْرَتِهِ(2/72)
وَرَحْمَتِهِ ؛ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ حَسَبُنَا وَنَعِمَ الْوَكِيلُ .
الْجَوَابُ
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نَعَمْ يَجِبُ قِتَالُ هَؤُلَاءِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ؛ وَاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْمَعْرِفَةُ بِحَالِهِمْ . وَالثَّانِي مَعْرِفَةُ حُكْمِ اللَّهِ فِي مَثَلِهِمْ . فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَكُلُّ مَنْ بَاشَرَ الْقَوْمَ يَعْلَمُ حَالَهُمْ وَمَنْ لَمْ يُبَاشِرْهُمْ يَعْلَمُ ذَلِكَ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَأَخْبَارِ الصَّادِقِينَ . وَنَحْنُ نَذْكُرُ جُلَّ أُمُورِهِمْ بَعْدَ أَنْ نُبَيِّنَ الْأَصْلَ الْآخَرَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَنَقُولُ : كُلُّ طَائِفَةٍ خَرَجَتْ عَنْ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنْ تَكَلَّمَتْ بِالشَّهَادَتَيْنِ . فَإِذَا أَقَرُّوا بِالشَّهَادَتَيْنِ وَامْتَنَعُوا عَنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُصَلُّوا . وَإِنْ امْتَنَعُوا عَنْ الزَّكَاةِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُؤَدُّوا الزَّكَاةَ . وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ حَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ . وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ أَوْ الزِّنَا أَوْ الْمَيْسِرِ أَوْ الْخَمْرِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الشَّرِيعَةِ . وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ الْحُكْمِ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَبْضَاعِ وَنَحْوِهَا بِحُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ الْأَمْرِ(2/73)
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَجِهَادِ الْكُفَّارِ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا وَيُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ . وَكَذَلِكَ إنْ أَظْهَرُوا الْبِدَعَ الْمُخَالِفَةَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا ؛ مِثْلَ أَنْ يُظْهِرُوا الْإِلْحَادَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ أَوْ التَّكْذِيبَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ أَوْ التَّكْذِيبَ بِقَدَرِهِ وَقَضَائِهِ أَوْ التَّكْذِيبَ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَوْ الطَّعْنِ فِي السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ أَوْ مُقَاتَلَةَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي طَاعَتِهِمْ الَّتِي تُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْأُمُورِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الدِّينِ لِلَّهِ وَبَعْضُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَجَبَ الْقِتَالُ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } . وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ وَكَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا وَصَلَّوْا وَصَامُوا لَكِنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا . فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا . وَقَالَ : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَقَدْ قُرِئَ ( فَأْذَنُوا ((2/74)
وَآذِنُوا وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ . وَالرِّبَا آخِرُ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ مَالٌ يُؤْخَذُ بِتَرَاضِي الْمُتَعَامِلِينَ . فَإِذَا كَانَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْهُ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي هِيَ أَسْبَقُ تَحْرِيمًا وَأَعْظَمُ تَحْرِيمًا . وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحَادِيثُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ وَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد صَحَّ الْحَدِيثُ فِي الْخَوَارِجِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ وَقَدْ رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ : حَدِيثَ عَلِيٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ الخدري وَسَهْلِ بْنِ حنيف . وَفِي السُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ طُرُقُ أُخَرُ مُتَعَدِّدَةٌ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَتِهِمْ { يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } . وَهَؤُلَاءِ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَاتَّفَقَ عَلَى قِتَالِهِمْ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا ؛ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي قِتَالِهِمْ كَمَا تَنَازَعُوا فِي الْقِتَالِ يَوْمَ الْجَمَلِ وصفين . فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا فِي قِتَالِ الْفِتْنَةِ(2/75)
ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ : قَوْمٌ قَاتَلُوا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَقَوْمٌ قَاتَلُوا مَعَ مَنْ قَاتَلَهُ . وَقَوْمٌ قَعَدُوا عَنْ الْقِتَالِ لَمْ يُقَاتِلُوا الْوَاحِدَةَ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ . وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا نَهَى عَنْ قِتَالِهِمْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ } . وَفِي لَفْظٍ { أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ } فَبِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيًّا وَأَصْحَابَهُ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ . وَإِنَّ تِلْكَ الْمَارِقَةَ الَّتِي مَرَقَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ لَيْسَ حُكْمُهَا حُكْمَ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ؛ بَلْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ هَذِهِ الْمَارِقَةِ وَأَكَّدَ الْأَمْرَ بِقِتَالِهَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِقِتَالِ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا أَمَرَ بِقِتَالِ هَذِهِ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لِلْحَسَنِ : { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } فَمَدَحَ الْحَسَنَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا أَصْلَحَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ حِينَ تَرَكَ الْقِتَالَ وَقَدْ بُويِعَ لَهُ وَاخْتَارَ الْأَصْلَحَ وَحَقَنَ الدِّمَاءَ مَعَ نُزُولِهِ عَنْ الْأَمْرِ . فَلَوْ كَانَ الْقِتَالُ مَأْمُورًا بِهِ لَمْ يَمْدَحْ الْحَسَنَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِتَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ مَا نَهَى اللَّهُ(2/76)
عَنْهُ . وَالْعُلَمَاءُ لَهُمْ فِي قِتَالِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْقِتَالَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ طَرِيقَانِ : مِنْهُمْ مَنْ يَرَى قِتَالًا عَلَى يَوْمِ حَرُورَاءَ وَيَوْمِ الْجَمَلِ وصفين كُلُّهُ مِنْ بَابِ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَكَذَلِكَ يَجْعَلُ قِتَالَ أَبِي بَكْرٍ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ وَكَذَلِكَ قِتَالُ سَائِرِ مَنْ قُوتِلَ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ مَنْ ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ وَهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَيْسُوا فُسَّاقًا بَلْ هُمْ عُدُولٌ : فَقَالُوا إنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ عُدُولٌ مَعَ قِتَالِهِمْ وَهُمْ مُخْطِئُونَ خَطَأَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ . وَخَالَفَتْ فِي ذَلِكَ طَائِفَةٌ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ فَذَهَبُوا إلَى تَفْسِيقِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا إلَى مَنْ عَدُّوهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغِيِّ فِي زَمَنِهِمْ فَرَأَوْهُمْ فُسَّاقًا وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَا يُدْخِلُونَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ - وَإِنَّمَا يُفَسِّقُ الصَّحَابَةَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ كَمَا يُكَفِّرُهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ وَالْفُقَهَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - وَلَا يَقُولُونَ إنَّ أَمْوَالَهُمْ مَعْصُومَةٌ كَمَا كَانَتْ وَمَا كَانَ ثَابِتًا بِعَيْنِهِ رَدٌّ إلَى صَاحِبِهِ وَمَا أُتْلِفَ فِي حَالِ الْقِتَالِ لَمْ يَضْمَنْ حَتَّى أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : لَا يَضْمَنُ لَا هَؤُلَاءِ وَلَا هَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ(2/77)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ فَأَجْمَعُوا أَنَّ كُلَّ مَالٍ أَوْ دَمٍ أُصِيبَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ هَدَرٌ . وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَانَ بِسِلَاحِهِمْ فِي حَرْبِهِمْ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَى ذَلِكَ ضَرُورَةٌ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ : فِي مَذْهَبِ أَحْمَد يَجُوزُ وَالْمَنْعُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالرُّخْصَةُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ أَسِيرِهِمْ وَاتِّبَاعِ مُدْبِرَهُمْ وَالتَّذْفِيفِ عَلَى جَرِيحِهِمْ إذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ يَلْجَئُونَ إلَيْهَا . فَجَوَّزَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَفِي مَذْهَبِهِ وَجْهٌ : أَنَّهُ يَتْبَعُ مُدْبَرَهُمْ فِي أَوَّلِ الْقِتَالِ . وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ فَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ كَمَا رَوَاهُ سَعِيدٌ وَغَيْرُهُ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ : خَرَجَ صَارِخٌ لِعَلِيِّ يَوْمَ الْجَمَلِ لَا يُقْتَلَنَّ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ . فَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فَقَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ التَّتَارَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ الْمُتَأَوِّلِينَ وَيُحْكَمُ فِيهِمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ كَمَا أَدْخَلَ مَنْ أَدْخَلَ فِي هَذَا الْحُكْمِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجَ . وَسَنُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا التَّوَهُّمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ : إنَّ قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ لَيْسَ كَقِتَالِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ فِي اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ(2/78)
وَالْجَمَاعَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَالِكِ وَغَيْرِهِ وَمَذْهَبِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . وَقَدْ نَصُّوا عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ حَتَّى فِي الْأَمْوَالِ . فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَ غَنِيمَةَ أَمْوَالِ الْخَوَارِجِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ فِي حرورية كَانَ لَهُمْ سَهْمٌ فِي قَرْيَةٍ فَخَرَجُوا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فَأَرْضُهُمْ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَيُقْسَمُ خُمُسُهُ عَلَى خَمْسَةٍ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلَّذِينَ قَاتَلُوا يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ أَوْ يَجْعَلُ الْأَمِيرُ الْخَرَاجَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُقْسَمُ مِثْلُ مَا أَخَذَ عُمَرُ السَّوَادَ عَنْوَةً وَوَقَفَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . فَجَعَلَ أَحْمَد الْأَرْضَ الَّتِي لِلْخَوَارِجِ إذَا غُنِمَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا غُنِمَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ هِيَ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ . فَإِنَّ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا وَسِيرَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَفَرُّقٌ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . فَإِنَّهُ قَاتَلَ الْخَوَارِجَ بِنَصِّ رَسُولِ اللَّهِ وَفَرِحَ بِذَلِكَ وَلَمْ يُنَازِعْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَأَمَّا الْقِتَالُ يَوْمَ صفين فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ مِنْ كَرَاهَتِهِ وَالذَّمِّ عَلَيْهِ مَا ظَهَرَ . وَقَالَ فِي أَهْلِ الْجَمَلِ وَغَيْرِهِمْ : إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا طَهَّرَهُمْ السَّيْفُ وَصَلَّى عَلَى قَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ . وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي(2/79)
آخِرِ الزَّمَانِ حِدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِّيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ : يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ كَانَ فِي الْجَيْشِ الَّذِي كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ الَّذِينَ سَارُوا إلَى الْخَوَارِجِ فَقَالَ عَلِيٌّ : أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءِ وَلَا صَلَاتُكُمْ إلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءِ وَلَا صِيَامُكُمْ إلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ . يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِمْ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ فِيهِمْ رَجُلًا لَهُ عَضُدٌ لَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ عَلَى عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثَّدْيِ عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ } . قَالَ فَيَذْهَبُونَ إلَى مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشَّامِ وَيَتْرُكُونَ هَؤُلَاءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِي ذَرَارِيِّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ . وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النَّاسِ فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ . قَالَ : فَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَعَلَى الْخَوَارِجِ يَوْمئِذٍ عَبْدُ(2/80)
اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ رَئِيسًا . فَقَالَ لَهُمْ : أَلْقُوا الرِّمَاحَ وَسُلُّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ حَقْوَتِهَا فَإِنِّي أُنَاشِدُكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ . فَرَجَعُوا فَوَحَّشُوا بِرِمَاحِهِمْ وَسَلُّوا السُّيُوفَ وَسَحَرَهُمْ النَّاسُ بِرِمَاحِهِمْ . قَالَ : وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَمَا أُصِيبَ مِنْ النَّاسِ يَوْمئِذٍ إلَّا رَجُلَانِ . فَقَالَ عَلِيٌّ : الْتَمِسُوا فِيهِمْ الْمُخْدَجَ . فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ . فَقَامَ عَلَى سَيْفِهِ حَتَّى أَتَى نَاسًا قَدْ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ . قَالَ : أَخِّرُوهُمْ . فَوَجَدُوهُ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ . فَكَبَّرَ ثُمَّ قَالَ : صَدَقَ اللَّهُ وَبَلَّغَ رَسُولُهُ . قَالَ : فَقَامَ إلَيْهِ عبيدة السلماني . فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ . اللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ أَسَمِعْت هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قَالَ : إي وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ حَتَّى اسْتَحْلَفَهُ ثَلَاثًا وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ أَيْضًا . فَإِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى ذَمِّ الْخَوَارِجِ وَتَضْلِيلِهِمْ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي تَكْفِيرِهِمْ . عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَفِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا نِزَاعٌ فِي كُفْرِهِمْ . وَلِهَذَا كَانَ فِيهِمْ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُولَى : أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ بُغَاةٌ . وَالثَّانِي أَنَّهُمْ كُفَّارٌ كَالْمُرْتَدِّينَ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ ابْتِدَاءً وَقَتْلُ أَسِيرِهِمْ وَاتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ اُسْتُتِيبَ كَالْمُرْتَدِّ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ : كَمَا أَنَّ مَذْهَبَهُ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ(2/81)
إذَا قَاتَلُوا الْإِمَامَ عَلَيْهَا هَلْ يَكْفُرُونَ مَعَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ قِتَالَ الصِّدِّيقِ لِمَانِعِي الزَّكَاةِ وَقِتَالَ عَلِيٍّ لِلْخَوَارِجِ لَيْسَ مِثْلَ الْقِتَالِ يَوْمَ الْجَمَلِ وصفين . فَكَلَامُ عَلِيٍّ وَغَيْرِهِ فِي الْخَوَارِجِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَيْسُوا كُفَّارًا كَالْمُرْتَدِّينَ عَنْ أَصْلِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْأَئِمَّةِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَلَيْسُوا مَعَ ذَلِكَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ أَهْلِ الْجَمَلِ وصفين بَلْ هُمْ نَوْعٌ ثَالِثٌ . وَهَذَا أَصَحُّ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيهِمْ . وَمِمَّنْ قَاتَلَهُمْ الصَّحَابَةُ - مَعَ إقْرَارِهِمْ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ - مَانِعِي الزَّكَاةُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا . فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : أَلَمْ يَقُلْ لَك : إلَّا بِحَقِّهَا . فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا . وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَى مَنْعِهَا . قَالَ عُمَرُ : فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَلِمْت أَنَّهُ الْحَقُّ " . وَقَدْ اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُمْ عَلَى قِتَالِ مَانِعِي(2/82)
الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانُوا يُصَلُّونَ الْخَمْسَ وَيَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ . وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُبْهَةٌ سَائِغَةٌ فَلِهَذَا كَانُوا مُرْتَدِّينَ وَهُمْ يُقَاتَلُونَ عَلَى مَنْعِهَا وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْوُجُوبِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ . وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَقَدْ سَقَطَتْ بِمَوْتِهِ . وَكَذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ الَّذِينَ لَا يَنْتَهُونَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ . وَأَمَّا الْأَصْلُ الْآخَرُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ أَحْوَالِهِمْ . فَقَدْ عَلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ جَازُوا عَلَى الشَّامِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى : عَامَ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ وَأَعْطَوْا النَّاسَ الْأَمَانَ وَقَرَءُوهُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِدِمَشْقَ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ سَبَوْا مِنْ ذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ مَا يُقَالُ إنَّهُ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ وَفَعَلُوا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبِجَبَلِ الصالحية ونابلس وَحِمْصَ وَدَارِيَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ حَتَّى يُقَالَ إنَّهُمْ سَبَوْا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ وَجَعَلُوا يَفْجُرُونَ بِخِيَارِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا كَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَالْأُمَوِيِّ وَغَيْرِهِ وَجَعَلُوا الْجَامِعَ الَّذِي بالعقيبة دَكًّا . وَقَدْ شَاهَدْنَا عَسْكَرَ الْقَوْمِ فَرَأَيْنَا جُمْهُورَهُمْ لَا يُصَلُّونَ وَلَمْ نَرَ فِي عَسْكَرِهِمْ مُؤَذِّنًا وَلَا إمَامًا وَقَدْ أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَذَرَارِيِّهِمْ وَخَرَّبُوا مِنْ دِيَارِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَلَمْ(2/83)
يَكُنْ مَعَهُمْ فِي دَوْلَتِهِمْ إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ . إمَّا زِنْدِيقٌ مُنَافِقٌ لَا يَعْتَقِدُ دِينَ الْإِسْلَامِ فِي الْبَاطِنِ وَإِمَّا مَنْ هُوَ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالرَّافِضَةِ والجهمية والاتحادية وَنَحْوِهِمْ وَأَمَّا مَنْ هُوَ مِنْ أَفْجَرِ النَّاسِ وَأَفْسَقِهِمْ . وَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ لَا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُصَلِّي وَيَصُومُ فَلَيْسَ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ إقَامَ الصَّلَاةِ وَلَا إيتَاءَ الزَّكَاةِ . وَهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَى مُلْكِ جنكسخان . فَمَنْ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِمْ جَعَلُوهُ وَلِيًّا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَمَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ جَعَلُوهُ عَدُوًّا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ . وَلَا يُقَاتِلُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يَضَعُونَ الْجِزْيَةَ وَالصَّغَارَ . بَلْ غَايَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ مَنْ أَكَابِرِ أُمَرَائِهِمْ وَوُزَرَائِهِمْ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ عِنْدَهُمْ كَمَنْ يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَا قَالَ أَكْبَرُ مُقَدِّمِيهِمْ الَّذِينَ قَدِمُوا إلَى الشَّامِ وَهُوَ يُخَاطِبُ رُسُلَ الْمُسْلِمِينَ وَيَتَقَرَّبُ إلَيْهِمْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ . فَقَالَ هَذَانِ آيَتَانِ عَظِيمَتَانِ جَاءَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ وجنكسخان . فَهَذَا غَايَةُ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ أَكْبَرُ مُقَدِّمِيهِمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَأَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ وَسَيِّدِ وَلَدِ آدَمَ وَخَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ وَبَيْنَ مَلِكٍ كَافِرٍ مُشْرِكٍ مِنْ أَعْظَمِ الْمُشْرِكِينَ كُفْرًا وَفَسَادًا وَعُدْوَانًا مِنْ جِنْسِ بُخْتِ نَصَّرَ وَأَمْثَالِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ(2/84)
اعْتِقَادَ هَؤُلَاءِ التَّتَارِ كَانَ فِي جنكسخان عَظِيمًا فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ مِنْ جِنْسِ مَا يَعْتَقِدُهُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ وَيَقُولُونَ إنَّ الشَّمْسَ حَبَّلَتْ أُمَّهُ وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي خَيْمَةٍ فَنَزَلَتْ الشَّمْسُ مِنْ كُوَّةِ الْخَيْمَةِ فَدَخَلَتْ فِيهَا حَتَّى حَبِلَتْ . وَمَعْلُومٌ عِنْد كُلِّ ذِي دِينٍ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَلَدُ زِنًا وَأَنَّ أَمَّهُ زَنَتْ فَكَتَمَتْ زِنَاهَا وَادَّعَتْ هَذَا حَتَّى تَدْفَعَ عَنْهَا مَعَرَّةَ الزِّنَا وَهُمْ مَعَ هَذَا يَجْعَلُونَهُ أَعْظَمَ رَسُولٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي تَعْظِيمِ مَا سَنَّهُ لَهُمْ وَشَرَعَهُ بِظَنِّهِ وَهَوَاهُ حَتَّى يَقُولُوا لِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْمَالِ . هَذَا رِزْقُ جنكسخان وَيَشْكُرُونَهُ عَلَى أَكْلِهِمْ وَشُرْبِهِمْ وَهُمْ يَسْتَحِلُّونَ قَتْلَ مَنْ عَادَى مَا سَنَّهُ لَهُمْ هَذَا الْكَافِرُ الْمَلْعُونُ الْمُعَادِي لِلَّهِ وَلِأَنْبِيَائِهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ . فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ مُقَدِّمِيهِمْ كَانَ غَايَتُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَجْعَلَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةِ هَذَا الْمَلْعُونِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ كَانَ أَقَلَّ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا وَادَّعَى أَنَّهُ شَرِيكُ مُحَمَّدٍ فِي الرِّسَالَةِ وَبِهَذَا اسْتَحَلَّ الصَّحَابَةُ قِتَالَهُ وَقِتَالَ أَصْحَابِهِ الْمُرْتَدِّينَ . فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ فِيمَا يُظْهِرُهُ مِنْ الْإِسْلَامِ يَجْعَلُ مُحَمَّدًا كجنكسخان وَإِلَّا فَهُمْ مَعَ إظْهَارِهِمْ لِلْإِسْلَامِ يُعَظِّمُونَ أَمْرَ جنكسخان عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ وَلَا يُقَاتِلُونَ أُولَئِكَ(2/85)
الْمُتَّبِعِينَ لِمَا سَنَّهُ جنكسخان كَمَا يُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ بَلْ أَعْظَمُ . أُولَئِكَ الْكُفَّارِ يَبْذُلُونَ لَهُ الطَّاعَةَ وَالِانْقِيَادَ وَيَحْمِلُونَ إلَيْهِ الْأَمْوَالَ وَيُقِرُّونَ لَهُ بِالنِّيَابَةِ وَلَا يُخَالِفُونَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ إلَّا كَمَا يُخَالِفُ الْخَارِجُ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ لِلْإِمَامِ . وَهُمْ يُحَارِبُونَ الْمُسْلِمِينَ وَيُعَادُونَهُمْ أَعْظَمَ مُعَادَاةٍ وَيَطْلُبُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الطَّاعَةَ لَهُمْ وَبَذْلَ الْأَمْوَالِ وَالدُّخُولَ فِيمَا وَضَعَهُ لَهُمْ ذَلِكَ الْمَلِكُ الْكَافِرُ الْمُشْرِكُ الْمُشَابِهُ لِفِرْعَوْنَ أَوْ النمروذ وَنَحْوِهِمَا ؛ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ مِنْهُمَا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } . وَهَذَا الْكَافِرُ عَلَا فِي الْأَرْضِ : يَسْتَضْعِفُ أَهْلَ الْمِلَلِ كُلِّهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمَنْ خَالَفَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِقَتْلِ الرِّجَالِ وَسَبِّي الْحَرِيمِ وَبِأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَبَهْلِك الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ . وَيَرُدُّ النَّاسَ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ إلَى أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا ابْتَدَعَهُ مِنْ سُنَّتِهِ الْجَاهِلِيَّةِ وَشَرِيعَتِهِ الكفرية . فَهُمْ يَدَّعُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ وَيُعَظِّمُونَ دِينَ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ عَلَى دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَيُطِيعُونَهُمْ وَيُوَالُونَهُمْ أَعْظَمَ بِكَثِيرِ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحُكْمُ فِيمَا شَجَرَ(2/86)
بَيْنَ أَكَابِرِهِمْ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَكَذَلِكَ الْأَكَابِرُ مِنْ وُزَرَائِهِمْ وَغَيْرِهِمْ يَجْعَلُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ كَدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا طُرُقٌ إلَى اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبِعَةِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ دِينَ الْيَهُودِ أَوْ دِينَ النَّصَارَى وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ دِينَ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْقَوْلُ فَاشٍ غَالِبٌ فِيهِمْ حَتَّى فِي فُقَهَائِهِمْ وَعُبَّادِهِمْ لَا سِيَّمَا الجهمية مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ فَإِنَّهُ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ الْفَلْسَفَةُ . وَهَذَا مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ وَعَلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ النَّصَارَى أَوْ أَكْثَرُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْ الْيَهُودِ أَيْضًا ؛ بَلْ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ : إنَّ غَالِبَ خَوَاصِّ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ وَالْعِبَادِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لِمَا أَبْعَدَ . وَقَدْ رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ وَسَمِعْت مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَوْضِعُ . وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَبِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَنْ سَوَّغَ اتِّبَاعَ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ اتِّبَاعَ شَرِيعَةٍ غَيْرِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ وَهُوَ كَكُفْرِ مَنْ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا(2/87)
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } . وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْمُتَفَلْسِفَةُ يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضِ . وَمَنْ تَفَلْسَفَ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَبْقَى كُفْرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ . وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ وُزَرَائِهِمْ الَّذِينَ يُصْدِرُونَ عَنْ رَأْيِهِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ فَإِنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا مُتَفَلْسِفًا ثُمَّ انْتَسَبَ إلَى الْإِسْلَامِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْيَهُودِيَّةِ وَالتَّفَلْسُفِ وَضَمَّ إلَى ذَلِكَ الرَّفْضَ . فَهَذَا هُوَ أَعْظَمُ مَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَوِي الْأَفْلَامِ وَذَاكَ أَعْظَمُ مَنْ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ ذَوِي السَّيْفِ . فَلْيَعْتَبِرْ الْمُؤْمِنُ بِهَذَا . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا مِنْ نِفَاقٍ وَزَنْدَقَةٍ وَإِلْحَادٍ إلَّا وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي اتِّبَاعِ التَّتَارِ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ وَأَقَلِّهِمْ مَعْرِفَةً بِالدِّينِ وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ اتِّبَاعِهِ وَأَعْظَمِ الْخَلْقِ اتِّبَاعًا لِلظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ . وَقَدْ قَسَّمُوا النَّاسَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ : يال وَبَاعَ وداشمند وطاط - أَيْ صَدِيقُهُمْ وَعَدُوُّهُمْ وَالْعَالِمُ وَالْعَامِّيُّ - فَمَنْ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِمْ الْجَاهِلِيَّةِ وَسُنَّتِهِمْ الكفرية كَانَ صَدِيقَهُمْ . وَمَنْ خَالَفَهُمْ كَانَ عَدُوَّهُمْ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَأَوْلِيَائِهِ . وَكُلُّ مَنْ انْتَسَبَ إلَى عِلْمٍ أَوْ دِينٍ سَمَّوْهُ " داشمند " كَالْفَقِيهِ وَالزَّاهِدِ وَالْقِسِّيسِ وَالرَّاهِبِ وَدَنَّانِ الْيَهُودِ وَالْمُنَجِّمِ وَالسَّاحِرِ وَالطَّبِيبِ وَالْكَاتِبِ وَالْحَاسِبِ فَيُدْرِجُونَ سَادِنَ الْأَصْنَامِ . فَيُدْرِجُونَ فِي هَذَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ(2/88)
وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَيَجْعَلُونَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ نَوْعًا وَاحِدًا . بَلْ يَجْعَلُونَ الْقَرَامِطَةَ الْمَلَاحِدَةَ الْبَاطِنِيَّةَ الزَّنَادِقَةَ الْمُنَافِقِينَ كالطوسي وَأَمْثَالِهِ هُمْ الْحُكَّامُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ انْتَسَبَ إلَى عِلْمٍ أَوْ دِينٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَكَذَلِكَ وَزِيرُهُمْ السَّفِيهُ الْمُلَقَّبُ بِالرَّشِيدِ يَحْكُمُ عَلَى هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَيُقَدِّمُ شِرَارَ الْمُسْلِمِينَ كَالرَّافِضَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ عَلَى خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ حَتَّى تَوَلَّى قَضَاءَ الْقُضَاةِ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ بِحَيْثُ تَكُونُ مُوَافَقَتُهُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ الْيَهُودِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالْمَلَاحِدَةِ وَالرَّافِضَةِ عَلَى مَا يُرِيدُونَهُ أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِ . وَيَتَظَاهَرُ مِنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ لِأَجْلِ مَنْ هُنَاكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . حَتَّى أَنَّ وَزِيرَهُمْ هَذَا الْخَبِيثَ الْمُلْحِدَ الْمُنَافِقَ صِنْفٌ مُصَنَّفًا ؛ مَضْمُونُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ بِدِينِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَنَّهُ لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُذَمُّونَ وَلَا يُنْهَوْنَ عَنْ دِينِهِمْ وَلَا يُؤْمَرُونَ بِالِانْتِقَالِ إلَى الْإِسْلَامِ . وَاسْتَدَلَّ الْخَبِيثُ الْجَاهِلُ بِقَوْلِهِ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ(2/89)
دِينِ } وَزَعَمَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَرْضَى دِينَهُمْ قَالَ : وَهَذِهِ الْآيَةُ مَحْكَمَةٌ ؛ لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً . وَجَرَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ أُمُورٌ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَذَا جَهْلٌ مِنْهُ . فَإِنَّ قَوْلَهُ : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ دِينُ الْكُفَّارِ حَقًّا وَلَا مَرْضِيًّا لَهُ ؛ وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَبَرُّئِهِ مِنْ دِينِهِمْ ؛ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ : { إنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنْ الشِّرْكِ } كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } فَقَوْلُهُ : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } كَقَوْلِهِ : { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } وَقَدْ اتَّبَعَ ذَلِكَ بِمُوجِبِهِ وَمُقْتَضَاهُ حَيْثُ قَالَ : { أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } . وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا بِتَرْكِ دِينِهِمْ فَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ أَمَرَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَأَنَّهُ جَاءَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَافِرُونَ يُخَلَّدُونَ فِي النَّارِ . وَقَدْ أَظْهَرُوا الرَّفْضَ وَمَنَعُوا أَنْ نَذْكُرَ عَلَى الْمَنَابِرِ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ وَذَكَرُوا عَلِيًّا وَأَظْهَرُوا الدَّعْوَةَ لِلِاثْنَيْ عَشَرَ ؛ الَّذِينَ تَزْعُمُ الرَّافِضَةُ أَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ مَعْصُومُونَ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كُفَّارٌ(2/90)
وَفُجَّارٌ ظَالِمُونَ ؛ لَا خِلَافَةَ لَهُمْ وَلَا لِمَنْ بَعْدَهُمْ . وَمَذْهَبُ الرَّافِضَةِ شَرٌّ مِنْ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ ؛ فَإِنَّ الْخَوَارِجَ غَايَتُهُمْ تَكْفِيرُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَشِيعَتِهِمَا . وَالرَّافِضَةُ تَكْفِيرُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَجُمْهُورِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَتَجْحَدُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ مِمَّا جَحَدَ بِهِ الْخَوَارِجُ وَفِيهِمْ مِنْ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْغُلُوِّ وَالْإِلْحَادِ مَا لَيْسَ فِي الْخَوَارِجِ وَفِيهِمْ مِنْ مُعَاوَنَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا لَيْسَ فِي الْخَوَارِجِ . وَالرَّافِضَةِ تُحِبُّ التَّتَارَ وَدَوْلَتَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ بِهَا مِنْ الْعِزِّ مَا لَا يَحْصُلُ بِدَوْلَةِ الْمُسْلِمِينَ . وَالرَّافِضَةُ هُمْ مُعَاوِنُونَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ كَانُوا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ فِي دُخُولِ التَّتَارِ قَبْلَ إسْلَامِهِمْ إلَى أَرْضِ الْمَشْرِقِ بِخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَكَانُوا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ مُعَاوَنَةً لَهُمْ عَلَى أَخْذِهِمْ لِبِلَادِ الْإِسْلَامِ وَقَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَسَبْيِ حَرِيمِهِمْ . وَقَضِيَّةُ ابْنِ العلقمي وَأَمْثَالِهِ مَعَ الْخَلِيفَةِ وَقَضِيَّتِهِمْ فِي حَلَبَ مَعَ صَاحِبِ حَلَبَ : مَشْهُورَةٌ يَعْرِفُهَا عُمُومُ النَّاسِ . وَكَذَلِكَ فِي الْحُرُوبِ الَّتِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ النَّصَارَى بِسَوَاحِلِ الشَّامِ : قَدْ عَرَفَ أَهْلُ الْخِبْرَةِ أَنَّ الرَّافِضَةَ تَكُونُ مَعَ النَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَنَّهُمْ عَاوَنُوهُمْ عَلَى أَخْذِ الْبِلَادِ لَمَّا جَاءَ التَّتَارُ وَعَزَّ عَلَى(2/91)
الرَّافِضَةِ فَتْحُ عُكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ السَّوَاحِلِ وَإِذَا غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ النَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ كَانَ ذَلِكَ غُصَّةً عِنْد الرَّافِضَةِ وَإِذَا غَلَبَ الْمُشْرِكُونَ وَالنَّصَارَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ ذَلِكَ عِيدًا وَمَسَرَّةً عِنْدَ الرَّافِضَةِ . وَدَخَلَ فِي الرَّافِضَةِ أَهْلُ الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ مِنْ " النصيرية " وَ " الإسْماعيليَّة " وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ " الْقَرَامِطَةِ " وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ كَانَ بِخُرَاسَانَ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَالرَّافِضَةُ جهمية قَدَرِيَّةٌ وَفِيهِمْ مِنْ الْكَذِبِ وَالْبِدَعِ وَالِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ فِيهِمْ مِنْ الرِّدَّةِ عَنْ شَرَائِعِ الدِّينِ أَعْظَمُ مِمَّا فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَالصَّحَابَةُ . وَمِنْ أَعْظَمِ مَا ذَمَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوَارِجَ قَوْلُهُ فِيهِمْ : { يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ } كَمَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : { بَعَثَ عَلِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذُهَيْبَةِ فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةٍ - يَعْنِي مِنْ أُمَرَاءِ نَجْدٍ - فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ . قَالُوا : يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا . قَالَ : إنَّمَا أَتَأَلَّفَهُمْ . فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ فَقَالَ : يَا(2/92)
مُحَمَّدُ اتَّقِ اللَّهَ . فَقَالَ : مَنْ يُطِعْ اللَّهَ إذَا عَصَيْته أَيَأْمَنُنِي اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي ؟ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَتْلَهُ فَمَنَعَهُ . فَلَمَّا وَلَّى قَالَ : إنَّ مِنْ ضئضئ هَذَا - أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا - قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ ؛ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ { : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقْسِمُ قَسَمًا - أَتَاهُ ذُو الخويصرة - وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ . فَقَالَ : وَيْلك فَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلُ قَدْ خِبْت وَخَسِرْت إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْذَنُ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ ؟ فَقَالَ : دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ . يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ يَنْظُرُ إلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى نَضْيِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ . آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبِضْعَةِ . يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ } قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : فَأَشْهَدْ(2/93)
أَنِّي سَمِعْت هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ . فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتَمَسَ فَأَتَى بِهِ حَتَّى نَظَرْت إلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي نَعَتَهُ . فَهَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ الْمَارِقُونَ مِنْ أَعْظَمِ مَا ذَمَّهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ وَذَكَرَ : أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ وَالْخَوَارِجُ مَعَ هَذَا لَمْ يَكُونُوا يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالرَّافِضَةِ يُعَاوِنُونَ الْكُفَّارَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْكُفَّارِ فَكَانُوا أَعْظَمَ مُرُوقًا عَنْ الدِّينِ مِنْ أُولَئِكَ الْمَارِقِينَ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَنَحْوِهِمْ إذَا فَارَقُوا جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَاتَلَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَيْفَ إذَا ضَمُّوا إلَى ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْمُشْرِكِينَ - كنائسا - وجنكسخان مَلِكِ الْمُشْرِكِينَ : مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُضَادَّةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَكُلُّ مَنْ قَفَزَ إلَيْهِمْ مِنْ أُمَرَاءِ الْعَسْكَرِ وَغَيْرُ الْأُمَرَاءِ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ وَفِيهِمْ مِنْ الرِّدَّةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِقَدْرِ مَا ارْتَدَّ عَنْهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ . وَإِذَا كَانَ السَّلَفُ قَدْ سَمَّوْا مَانِعِي الزَّكَاةِ مُرْتَدِّينَ - مَعَ(2/94)
كَوْنِهِمْ يَصُومُونَ . وَيُصَلُّونَ وَلَمْ يَكُونُوا يُقَاتِلُونَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ - فَكَيْفَ بِمَنْ صَارَ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَاتِلًا لِلْمُسْلِمِينَ مَعَ أَنَّهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لَوْ اسْتَوْلَى هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُحَادُّونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْمُعَادُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى أَرْضِ الشَّامِ وَمِصْرَ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ لَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى زَوَالِ دِينِ الْإِسْلَامِ وَدُرُوسِ شَرَائِعِهِ . أَمَّا الطَّائِفَةُ بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَنَحْوِهِمَا فَهُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمُقَاتِلُونَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ مِنْ أَحَقِّ النَّاسِ دُخُولًا فِي الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ عَنْهُ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمِ : { لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ } وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ بِمَدِينَتِهِ النَّبَوِيَّةِ فَغَرْبُهُ مَا يَغْرُبُ عَنْهَا وَشَرْقُهُ مَا يَشْرُقُ عَنْهَا ؛ فَإِنَّ التَّشْرِيقَ وَالتَّغْرِيبَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ ؛ إذْ كَلُّ بَلَدٍ لَهُ شَرْقٌ وَغَرْبٌ ؛ وَلِهَذَا إذَا قَدِمَ الرَّجُلُ إلَى الإسْكَنْدَريَّة مِنْ الْغَرْبِ يَقُولُونَ : سَافَرَ إلَى الشَّرْقِ وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ أَهْلَ الشَّامِ : أَهْلَ الْغَرْبِ وَيُسَمُّونَ أَهْلَ نَجْدٍ وَالْعِرَاقِ : أَهْلَ الشَّرْقِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَدِمَ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ(2/95)
الْمَشْرِقِ فَخَطَبَا وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ - وَلِهَذَا قَالَ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ : " أَهْلُ الْغَرْبِ " هُمْ أَهْلُ الشَّامِ - يَعْنِي هُمْ أَهْلُ الْغَرْبِ - كَمَا أَنَّ نَجْدًا وَالْعِرَاقَ أَوَّلُ الشَّرْقِ وَكُلُّ مَا يَشْرُقُ عَنْهَا فَهُوَ مِنْ الشَّرْقِ وَكُلُّ مَا يَغْرُبُ عَنْ الشَّامِ مِنْ مِصْرَ وَغَيْرِهَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْغَرْبِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَالَ : فِي الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ : وَهُمْ بِالشَّامِ . فَإِنَّهَا أَصْلُ الْمَغْرِبِ وَهُمْ فَتَحُوا سَائِرَ الْمَغْرِبِ كَمِصْرِ وَالْقَيْرَوَانَ وَالْأَنْدَلُسَ وَغَيْرَ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ غَرْبُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ مَا يَغْرُبُ عَنْهَا فَالْبِيرَةُ وَنَحْوُهَا عَلَى مُسَامَتَةِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا أَنَّ حَرَّانَ وَالرَّقَّةَ وسميساط وَنَحْوَهَا عَلَى مُسَامَتَةِ مَكَّةَ فَمَا يَغْرُبُ عَنْ الْبِيرَةِ فَهُوَ مِنْ الْغَرْبِ الَّذِينَ وَعَدَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا تَقَدَّمَ . وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي صِفَةِ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ { أَنَّهُمْ بِأَكْنَافِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ } وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ هِيَ الَّتِي بِأَكْنَافِ الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ الْيَوْمَ . وَمَنْ يَتَدَبَّرُ أَحْوَالَ الْعَالَمِ فِي هَذَا الْوَقْتِ يَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ هِيَ أَقْوَمُ الطَّوَائِفِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ : عِلْمًا وَعَمَلًا وَجِهَادًا عَنْ شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا ؛ فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ أَهْلَ الشَّوْكَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَمُغَازِيهِمْ مَعَ النَّصَارَى وَمَعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ التُّرْكِ وَمَعَ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ(2/96)
الدَّاخِلِينَ فِي الرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ كالإسْماعيليَّة وَنَحْوِهِمْ مِنْ الْقَرَامِطَةِ مَعْرُوفَةٌ : مَعْلُومَةٌ قَدِيمًا وَحَدِيثًا . وَالْعِزُّ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ بِمَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا هُوَ بِعِزِّهِمْ وَلِهَذَا لَمَّا هَزَمُوا سَنَةَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ دَخَلَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ الذُّلِّ وَالْمُصِيبَةِ بِمَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَالْحِكَايَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا . وَذَلِكَ أَنَّ سُكَّانَ الْيَمَنِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ضِعَافٌ عَاجِزُونَ عَنْ الْجِهَادِ أَوْ مُضَيِّعُونَ لَهُ ؛ وَهُمْ مُطِيعُونَ لِمَنْ مَلَكَ هَذِهِ الْبِلَادَ حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِهَؤُلَاءِ وَمَلِكُ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا جَاءَ إلَى حَلَبَ جَرَى بِهَا مِنْ الْقَتْلِ مَا جَرَى . وَأَمَّا سُكَّانُ الْحِجَازِ فَأَكْثَرُهُمْ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ خَارِجُونَ عَنْ الشَّرِيعَةِ وَفِيهِمْ مِنْ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَالْفُجُورِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَأَهْلُ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ فِيهِمْ مُسْتَضْعَفُونَ عَاجِزُونَ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْقُوَّةُ وَالْعِزَّةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِغَيْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْبِلَادِ فَلَوْ ذَلَّتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - لَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِالْحِجَازِ مِنْ أَذَلِّ النَّاسِ ؛ لَا سِيَّمَا وَقَدْ غَلَبَ فِيهِمْ الرَّفْضُ وَمُلْكُ هَؤُلَاءِ التَّتَارِ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الْآنَ مَرْفُوضٌ فَلَوْ غَلَبُوا لَفَسَدَ الْحِجَازُ بِالْكُلِّيَّةِ . وَأَمَّا بِلَادُ إفْرِيقِيَّةَ فَأَعْرَابُهَا غَالِبُونَ عَلَيْهَا وَهُمْ مِنْ شَرِّ الْخَلْقِ ؛ بَلْ(2/97)
هُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِلْجِهَادِ وَالْغَزْوِ . وَأَمَّا الْمَغْرِبُ الْأَقْصَى فَمَعَ اسْتِيلَاءِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى أَكْثَرِ بِلَادِهِمْ لَا يَقُومُونَ بِجِهَادِ النَّصَارَى هُنَاكَ ؛ بَلْ فِي عَسْكَرِهِمْ مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الصُّلْبَانَ خَلْقٌ عَظِيمٌ . لَوْ اسْتَوْلَى التَّتَارُ عَلَى هَذِهِ الْبِلَادِ لَكَانَ أَهْلُ الْمَغْرِبِ مَعَهُمْ مِنْ أَذَلِّ النَّاسِ لَا سِيَّمَا وَالنَّصَارَى تَدْخُلُ مَعَ التَّتَارِ فَيَصِيرُونَ حِزْبًا عَلَى أَهْلِ الْمَغْرِبِ . فَهَذَا وَغَيْرُهُ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذِهِ الْعِصَابَةَ الَّتِي بِالشَّامِ وَمِصْرَ فِي هَذَا الْوَقْتِ هُمْ كَتِيبَةُ الْإِسْلَامِ وَعِزُّهُمْ عِزُّ الْإِسْلَامِ وَذُلُّهُمْ ذُلُّ الْإِسْلَامِ . فَلَوْ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ التَّتَارُ لَمْ يَبْقَ لِلْإِسْلَامِ عِزٌّ وَلَا كَلِمَةٌ عَالِيَةٌ وَلَا طَائِفَةٌ ظَاهِرَةٌ عَالِيَةٌ يَخَافُهَا أَهْلُ الْأَرْضِ تُقَاتِلُ مِنْهُ . فَمَنْ قَفَزَ عَنْهُمْ إلَى التَّتَارِ كَانَ أَحَقَّ بِالْقِتَالِ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ التَّتَارِ ؛ فَإِنَّ التَّتَارَ فِيهِمْ الْمُكْرَهُ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ وَقَدْ اسْتَقَرَّتْ السُّنَّةُ بِأَنَّ عُقُوبَةَ الْمُرْتَدِّ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ . مِنْهَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ وَلَا يُضْرَبُ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ وَلَا تُعْقَدُ لَهُ ذِمَّةٌ ؛ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ . وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْقِتَالِ ؛ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ(2/98)
أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَمِنْهَا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ وَلَا يُنَاكِحُ وَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ . وَإِذَا كَانَتْ الرِّدَّةُ عَنْ أَصْلِ الدِّينِ أَعْظَمَ مِنْ الْكُفْرِ بِأَصْلِ الدِّينِ فَالرِّدَّةُ عَنْ شَرَائِعِهِ أَعْظَمُ مِنْ خُرُوجِ الْخَارِجِ الْأَصْلِيِّ عَنْ شَرَائِعِهِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مُؤْمِنٍ يَعْرِفُ أَحْوَالَ التَّتَارِ وَيَعْلَمُ أَنَّ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ فِيهِمْ مِنْ الْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ شَرٌّ مِنْ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ مِنْ التُّرْكِ وَنَحْوِهِمْ وَهُمْ بَعْدَ أَنْ تَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ تَرْكِهِمْ لِكَثِيرِ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ خَيْرٌ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ مِنْ الْفُرْسِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِمَّنْ كَانَ مُسْلِمَ الْأَصْلِ هُوَ شَرٌّ مِنْ التُّرْكِ الَّذِينَ كَانُوا كُفَّارًا ؛ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ الْأَصْلِيَّ إذَا ارْتَدَّ عَنْ بَعْضِ شَرَائِعِهِ كَانَ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ بَعْدُ فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ مِثْلَ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ قَاتَلَهُمْ الصِّدِّيقُ . وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ عَنْ بَعْضِ الشَّرَائِعِ مُتَفَقِّهًا أَوْ مُتَصَوِّفًا أَوْ تَاجِرًا أَوْ كَاتِبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ التُّرْكِ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوا فِي تِلْكَ الشَّرَائِعِ وَأَصَرُّوا عَلَى الْإِسْلَامِ . وَلِهَذَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ضَرَرِ هَؤُلَاءِ عَلَى الدِّينِ مَا لَا يَجِدُونَهُ مِنْ ضَرَرِ أُولَئِكَ وَيَنْقَادُونَ لِلْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ(2/99)
وَرَسُولِهِ أَعْظَمُ مِنْ انْقِيَادِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنْ بَعْضِ الدِّينِ وَنَافَقُوا فِي بَعْضِهِ وَإِنْ تَظَاهَرُوا بِالِانْتِسَابِ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ . وَغَايَةُ مَا يُوجَدُ مِنْ هَؤُلَاءِ يَكُونُ مُلْحِدًا : نصيريا أَوْ إسْمَاعِيلِيًّا أَوْ رافضيا . وَخِيَارُهُمْ يَكُونُ جهميا اتِّحَادِيًّا أَوْ نَحْوَهُ فَإِنَّهُ لَا يَنْضَمُّ إلَيْهِمْ طَوْعًا مِنْ الْمُظْهِرِينَ لِلْإِسْلَامِ إلَّا مُنَافِقٌ أَوْ زِنْدِيقٌ أَوْ فَاسِقٌ فَاجِرٌ . وَمَنْ أَخْرَجُوهُ مَعَهُمْ مُكْرَهًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ عَلَى نِيَّتِهِ . وَنَحْنُ عَلَيْنَا أَنْ نُقَاتِلَ الْعَسْكَرَ جَمِيعَهُ إذْ لَا يَتَمَيَّزُ الْمُكْرَهُ مِنْ غَيْرِهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ مِنْ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ إذْ خُسِفَ بِهِمْ . فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ فِيهِمْ الْمُكْرَهَ فَقَالَ : يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ } . وَالْحَدِيثُ مُسْتَفِيضٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ أَخْرَجَهُ أَرْبَابُ الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ . فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ فَيُبْعَثُ إلَيْهِ بَعْثٌ فَإِذْ كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ . فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا . قَالَ : يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ ؛ وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : { عَبَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ(2/100)
وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ . فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْت شَيْئًا فِي مَنَامِك لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ . فَقَالَ : الْعَجَبُ أَنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ هَذَا الْبَيْتَ بِرَجُلِ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَدْ لَجَأَ إلَى الْبَيْتِ حَتَّى إذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَتْ بِهِمْ . فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ . قَالَ : نَعَمْ ؛ فِيهِمْ الْمُسْتَنْصِرُ وَالْمَجْنُونُ وَابْنُ السَّبِيلِ فَيَهْلَكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا ؛ وَيُصْدِرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نِيَّاتِهِمْ } وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ . قَالَتْ : قُلْت : يَا رَسُولَ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ قَالَ : يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ حَفْصَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : سَيَعُوذُ بِهَذَا الْبَيْتِ - يَعْنِي الْكَعْبَةَ - قَوْمٌ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا عَدَدٌ وَلَا عِدَّةٌ يُبْعَثُ إلَيْهِمْ جَيْشٌ يَوْمئِذٍ حَتَّى إذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ } . قَالَ يُوسُفُ بْنُ مَاهِكٍ : وَأَهْلُ الشَّامِ يَوْمئِذٍ يَسِيرُونَ إلَى مَكَّةَ . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ : أَمَّا وَاَللَّهِ مَا هُوَ بِهَذَا الْجَيْشِ . فَاَللَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ الْجَيْشَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَنْتَهِكَ حُرُمَاتِهِ - الْمُكْرَهُ فِيهِمْ وَغَيْرُ الْمُكْرَهِ - مَعَ(2/101)
قُدْرَتِهِ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمْ مَعَ أَنَّهُ يَبْعَثُهُمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ أَنْ يُمَيِّزُوا بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَغَيْرِهِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ بَلْ لَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّهُ خَرَجَ مُكْرَهًا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ كَمَا رُوِيَ : { أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت مُكْرَهًا . فَقَالَ : أَمَّا ظَاهِرُك فَكَانَ عَلَيْنَا وَأَمَّا سَرِيرَتُك فَإِلَى اللَّهِ } . بَلْ لَوْ كَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ وَلَمْ يُمْكِنْ قِتَالُهُمْ إلَّا بِقَتْلِ هَؤُلَاءِ لَقُتِلُوا أَيْضًا فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ تَتَرَّسُوا بِمُسْلِمِينَ وَخِيفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يُقَاتِلُوا ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ نَرْمِيَهُمْ وَنَقْصِدَ الْكُفَّارَ . وَلَوْ لَمْ نَخَفْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جَازَ رَمْيُ أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَمَنْ قُتِلَ لِأَجْلِ الْجِهَادِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ - هُوَ فِي الْبَاطِنِ مَظْلُومٌ - كَانَ شَهِيدًا وَبُعِثَ عَلَى نِيَّتِهِ وَلَمْ يَكُنْ قَتْلُهُ أَعْظَمَ فَسَادًا مِنْ قَتْلِ مَنْ يُقْتَلَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجَاهِدِينَ . وَإِذَا كَانَ الْجِهَادُ وَاجِبًا وَإِنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَا شَاءَ اللَّهُ . فَقَتْلُ مَنْ يُقْتَلُ فِي صَفِّهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِحَاجَةِ الْجِهَادِ لَيْسَ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا ؛ بَلْ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُكْرَهَ فِي قِتَالِ(2/102)
الْفِتْنَةِ بِكَسْرِ سَيْفِهِ . وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ ؛ وَإِنْ قُتِلَ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ أَلَا ثَمَّ تَكُونُ فِتَنٌ أَلَا ثَمَّ تَكُونُ فِتَنٌ : الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي . أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ - أَوْ وَقَعَتْ - فَمَنْ كَانَ لَهُ إبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ ؟ قَالَ : يَعْمِدُ إلَى سَيْفِهِ فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرِ ثُمَّ لِيَنْجُ إنْ اسْتَطَاعَ النَّجَاةَ . اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت . اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت . اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت . فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ . أَرَأَيْت إنْ أُكْرِهْت حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إلَى إحْدَى الصَّفَّيْنِ أَوْ - إحْدَى الْفِئَتَيْنِ - فَيَضْرِبُنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أَوْ بِسَهْمِهِ فَيَقْتُلُنِي ؟ قَالَ : يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِك وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ ؛ بَلْ أَمَرَ بِمَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْقِتَالُ مِنْ الِاعْتِزَالِ أَوْ إفْسَادِ السِّلَاحِ الَّذِي يُقَاتِلُ بِهِ وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمُكْرَهُ وَغَيْرُهُ . ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُكْرَهَ إذَا قُتِلَ ظُلْمًا كَانَ الْقَاتِلُ قَدْ بَاءَ بِإِثْمِهِ وَإِثْمَ الْمَقْتُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ ابْنَيْ آدَمَ عَنْ الْمَظْلُومِ : { إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ(2/103)
مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا صَالَ صَائِلٌ عَلَى نَفْسِهِ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ؛ وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّفْعُ بِالْقِتَالِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : ( إحْدَاهُمَا يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ لَمْ يَحْضُرْ الصَّفَّ . وَ ( الثَّانِيَةُ يَجُوزُ لَا الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ . وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ بِالْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ فَلَا يَجُوزُ بِلَا رَيْبٍ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ ؛ بَلْ عَلَيْهِ إفْسَادُ سِلَاحِهِ وَأَنْ يَصْبِرْ حَتَّى يُقْتَلَ مَظْلُومًا فَكَيْفَ بِالْمُكْرَهِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الطَّائِفَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ كَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْمُرْتَدِّينَ وَنَحْوِهِمْ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْحُضُورِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ وَإِنْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ عَلَى حُضُورِ صَفِّهِمْ لِيُقَاتِلَ الْمُسْلِمِينَ وَكَمَا لَوْ أَكْرَهَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ مَعْصُومٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ قَتْلُهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِالْقَتْلِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ حِفْظُ نَفْسِهِ بِقَتْلِ ذَلِكَ الْمَعْصُومِ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ . فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ فَيَقْتُلُهُ لِئَلَّا يُقْتَلَ هُوَ ؛ بَلْ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَالْمُكْرَهِ جَمِيعًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَفِي الْآخَرِ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى(2/104)
الْمُكْرَهِ فَقَطْ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ . وَقِيلَ : الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرَهِ الْمُبَاشِرِ كَمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ زُفَرَ . وَأَبُو يُوسُفَ يُوجِبُ الضَّمَانَ بِالدِّيَةِ بَدَلَ الْقَوَدِ وَلَمْ يُوجِبْهُ . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ وَفِيهَا : { أَنَّ الْغُلَامَ أُمِرَ بِقَتْلِ نَفْسِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ ظُهُورِ الدِّينِ } وَلِهَذَا جَوَّزَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبِعَةُ أَنْ يَنْغَمِسَ الْمُسْلِمُ فِي صَفِّ الْكُفَّارِ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ ؛ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ . فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ يَفْعَلُ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْجِهَادِ مَعَ أَنَّ قَتْلَهُ نَفْسَهُ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِهِ لِغَيْرِهِ : كَانَ مَا يُفْضِي إلَى قَتْلِ غَيْرِهِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الدِّينِ الَّتِي لَا تَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ وَدَفْعِ ضَرَرِ الْعَدُوِّ الْمُفْسِدِ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا الَّذِي لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِذَلِكَ أَوْلَى . وَإِذَا كَانَتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ مُتَّفِقَيْنِ عَلَى أَنَّ الصَّائِلَ الْمُسْلِمَ إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ صَوْلُهُ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الَّذِي يَأْخُذُهُ قِيرَاطًا مِنْ دِينَارٍ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ حَرَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } فَكَيْفَ بِقِتَالِ هَؤُلَاءِ الْخَارِجِينَ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ(2/105)
الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ الَّذِينَ صُوَلُهُمْ وَبَغْيُهُمْ أَقَلُّ مَا فِيهِمْ . فَإِنَّ قِتَالَ الْمُعْتَدِينَ الصَّائِلِينَ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَهَؤُلَاءِ مُعْتَدُونَ صَائِلُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ : فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَحَرَمِهِمْ وَدِينِهِمْ . وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ يُبِيحُ قِتَالَ الصَّائِلِ عَلَيْهَا . وَمَنْ قُتِلَ دُونَهَا فَهُوَ شَهِيدٌ فَكَيْفَ بِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهَا كُلِّهَا وَهُمْ مِنْ شَرِّ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ الظَّالِمِينَ . لَكِنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ كَمَا تُقَاتَلُ الْبُغَاةُ الْمُتَأَوِّلُونَ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً قَبِيحًا وَضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ؛ فَإِنَّ أَقَلَّ مَا فِي الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ خَرَجُوا بِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالُوا : إنَّ الْإِمَامَ يُرَاسِلُهُمْ فَإِنْ ذَكَرُوا شُبْهَةً بَيَّنَهَا وَإِنْ ذَكَرُوا مَظْلِمَةً أَزَالَهَا . فَأَيُّ شُبْهَةٍ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ السَّاعِينَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا الْخَارِجِينَ عَنْ شَرَائِعِ الدِّينِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ إنَّهُمْ أَقْوَمُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَعَمَلًا مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ ؛ بَلْ هُمْ مَعَ دَعْوَاهُمْ الْإِسْلَامَ يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ أَعْلَمُ بِالْإِسْلَامِ مِنْهُمْ وَأَتْبَعُ لَهُ مِنْهُمْ . وَكُلُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُنْذِرُونَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ شُبْهَةٌ بَيِّنَةٌ يَسْتَحِلُّونَ بِهَا قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ وَهَمَ قَدْ سَبُّوا غَالِبَ حَرِيمِ الرَّعِيَّةِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوهُمْ(2/106)
حَتَّى أَنَّ النَّاسَ قَدْ رَأَوْهُمْ يُعَظِّمُونَ الْبُقْعَةَ وَيَأْخُذُونَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ وَيُعَظِّمُونَ الرَّجُلَ وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِ وَيَسْلُبُونَهُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ وَيَسُبُّونَ حَرِيمَهُ وَيُعَاقِبُونَهُ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي لَا يُعَاقَبُ بِهَا إلَّا أَظْلَمُ النَّاسِ وَأَفْجَرُهُمْ وَالْمُتَأَوِّلُ تَأْوِيلًا دِينِيًّا لَا يُعَاقَبُ إلَّا مَنْ يَرَاهُ عَاصِيًا لِلدِّينِ وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مَنْ يُعَاقِبُونَهُ فِي الدِّينِ وَيَقُولُونَ إنَّهُ أَطْوَعُ لِلَّهِ مِنْهُمْ . فَأَيُّ تَأْوِيلٍ بَقِيَ لَهُمْ ثُمَّ لَوْ قَدَرَ أَنَّهُمْ مُتَأَوِّلُونَ لَمْ يَكُنْ تَأْوِيلُهُمْ سَائِغًا ؛ بَلْ تَأْوِيلُ الْخَوَارِجِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ أَوْجَهُ مِنْ تَأْوِيلِهِمْ . أَمَّا الْخَوَارِجُ فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا اتِّبَاعَ الْقُرْآنِ وَإِنَّ مَا خَالَفَهُ مِنْ السُّنَّةِ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ . وَأَمَّا مَانَعُوا الزَّكَاةِ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ قَالُوا : إنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَهَذَا خِطَابٌ لِنَبِيِّهِ فَقَطْ فَلَيْسَ عَلَيْنَا أَنْ نَدْفَعَهَا لِغَيْرِهِ . فَلَمْ يَكُونُوا يَدْفَعُونَهَا لِأَبِي بَكْرٍ وَلَا يُخْرِجُونَهَا لَهُ . وَالْخَوَارِجُ لَهُمْ عِلْمٌ وَعِبَادَةٌ وَلِلْعُلَمَاءِ مَعَهُمْ مُنَاظَرَاتٌ كَمُنَاظَرَتِهِمْ مَعَ الرَّافِضَةِ والجهمية . وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَلَا يُنَاظَرُونَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَوْ كَانُوا مُتَأَوِّلِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَأْوِيلٌ يَقُولُهُ ذُو عَقْلٍ . وَقَدْ خَاطَبَنِي بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ : مَلِكُنَا مَلِكٌ ابْنُ مَلِكٍ ابْنُ مَلِكٍ إلَى سَبْعَةِ أَجْدَادٍ وَمَلِكِكُمْ ابْنُ مَوْلًى . فَقُلْت لَهُ : آبَاءُ ذَلِكَ الْمَلِكِ(2/107)
كُلُّهُمْ كُفَّارٌ وَلَا فَخْرَ بِالْكَافِرِ ؛ بَلْ الْمَمْلُوكُ الْمُسْلِمُ خَيْرٌ مِنْ الْمَلِكِ الْكَافِرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } . فَهَذِهِ وَأَمْثَالُهَا حُجَجُهُمْ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ مُسَلِّمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَ الْمُسْلِمَ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا وَلَا يُطِيعَ الْكَافِرَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ وَدِينَ الْإِسْلَامِ } . إنَّمَا يُفَضَّلُ الْإِنْسَانُ بِإِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ ؛ لَا بِآبَائِهِ ؛ وَلَوْ كَانُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا وَخَلَقَ النَّارَ لِمَنْ عَصَاهُ وَلَوْ كَانَ شَرِيفًا قُرَشِيًّا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيِّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَبْيَضَ وَلَا لِأَبْيَضَ عَلَى أَسْوَدَ إلَّا بِالتَّقْوَى . النَّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِقَبِيلَةِ قَرِيبَةٍ مِنْهُ : { إنَّ آلَ أَبِي فُلَانٍ لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي إنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } فَأَخْبَرَ(2/108)
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُوَالَاتَهُ لَيْسَتْ بِالْقَرَابَةِ وَالنَّسَبِ ؛ بَلْ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي قَرَابَةِ الرَّسُولِ فَكَيْفَ بِقُرَابَةِ جنكسخان الْكَافِرِ الْمُشْرِكِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ إيمَانًا وَتَقْوَى كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَسْوَدَ حَبَشِيًّا وَالثَّانِي عَلَوِيًّا أَوْ عَبَّاسِيًّا .(1)
وجوب قتال التتار ومن كان على شاكلتهم
وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ عَنْ أَجْنَادٍ يَمْتَنِعُونَ عَنْ قِتَالِ التَّتَارِ وَيَقُولُونَ : إنَّ فِيهِمْ مَنْ يَخْرُجُ مُكْرَهًا مَعَهُمْ وَإِذَا هَرَبَ أَحَدُهُمْ هَلْ يُتْبَعُ أَمْ لَا ؟
الْجَوَابُ
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 426)(2/109)
فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . قِتَالُ التَّتَارِ الَّذِينَ قَدِمُوا إلَى بِلَادِ الشَّامِ وَاجِبٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْقُرْآنِ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } وَالدِّينُ هُوَ الطَّاعَةُ فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الدِّينِ لِلَّهِ وَبَعْضُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَجَبَ الْقِتَالُ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الطَّائِفِ لَمَّا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَالْتَزَمُوا الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ ؛ لَكِنْ امْتَنَعُوا مِنْ تَرْكِ الرِّبَا . فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ لَهُ وَلِرَسُولِهِ إذَا لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الرِّبَا . وَالرِّبَا هُوَ آخِرُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَهُوَ مَالٌ يُؤْخَذُ بِرِضَا صَاحِبِهِ . فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ يَجِبُ جِهَادُهُمْ فَكَيْفَ بِمَنْ يَتْرُكُ كَثِيرًا مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ أَوْ أَكْثَرَهَا كَالتَّتَارِ . وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ الطَّائِفَةَ الْمُمْتَنِعَةَ إذَا امْتَنَعَتْ عَنْ بَعْضِ وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهَا إذَا تَكَلَّمُوا بِالشَّهَادَتَيْنِ وَامْتَنَعُوا عَنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ أَوْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ حَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَوْ عَنْ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ عَنْ تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ أَوْ الْخَمْرِ(2/110)
أَوْ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أَوْ عَنْ اسْتِحْلَالِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ الرِّبَا أَوْ الْمَيْسِرِ أَوْ عَنْ الْجِهَادِ لِلْكُفَّارِ أَوْ عَنْ ضَرْبِهِمْ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا نَاظَرَ أَبَا بَكْرٍ فِي مَانِعِي الزَّكَاةِ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : كَيْفَ لَا أُقَاتِلُ مَنْ تَرَكَ الْحُقُوقَ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ كَالزَّكَاةِ وَقَالَ لَهُ : فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا . وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتهمْ عَلَى مَنْعِهَا . قَالَ عُمَرُ : فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْت اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَلِمْت أَنَّهُ الْحَقُّ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْخَوَارِجَ وَقَالَ فِيهِمْ : { يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ : يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ . أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ } . وَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ . وَأَوَّلُ مَنْ قَاتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ(2/111)
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُقَاتِلُونَ فِي صَدْرِ خِلَافَةِ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنْي الْعَبَّاسِ مَعَ الْأُمَرَاءِ وَإِنْ كَانُوا ظَلْمَةً وَكَانَ الْحَجَّاجُ وَنُوَّابَهُ مِمَّنْ يُقَاتِلُونَهُمْ . فَكُلُّ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَأْمُرُونَ بِقِتَالِهِمْ . وَالتَّتَارُ وَأَشْبَاهُهُمْ أَعْظَمُ خُرُوجًا عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ الَّذِينَ امْتَنَعُوا عَنْ تَرْكِ الرِّبَا . فَمَنْ شَكَّ فِي قِتَالِهِمْ فَهُوَ أَجْهَلُ النَّاسِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَحَيْثُ وَجَبَ قِتَالُهُمْ قُوتِلُوا وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ الْمُكْرَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . كَمَا قَالَ الْعَبَّاسُ لَمَّا أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي خَرَجْت مُكْرَهًا . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَّا ظَاهِرُك فَكَانَ عَلَيْنَا وَأَمَّا سَرِيرَتُك فَإِلَى اللَّهِ } . وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ جَيْشَ الْكُفَّارِ إذَا تَتَرَّسُوا بِمَنْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَخِيفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الضَّرَرَ إذَا لَمْ يُقَاتِلُوا فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ ؛ وَإِنْ أَفْضَى ذَلِكَ إلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَتَرَّسُوا بِهِمْ . وَإِنْ لَمْ يُخَفْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَفِي جَوَازِ الْقِتَالِ الْمُفْضِي إلَى قَتْلِ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ . وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ إذَا قُتِلُوا كَانُوا شُهَدَاءَ وَلَا يُتْرَكُ الْجِهَادُ الْوَاجِبُ لِأَجْلِ مَنْ يُقْتَلُ شَهِيدًا . فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا قَاتَلُوا الْكُفَّارَ فَمَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَكُونُ شَهِيدًا وَمَنْ قُتِلَ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ لَا(2/112)
يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ كَانَ شَهِيدًا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَغْزُو هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ مِنْ النَّاسِ فَبَيْنَمَا هُمْ بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ إذْ خُسِفَ بِهِمْ . فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِيهِمْ الْمُكْرَهُ . فَقَالَ : يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ } فَإِذَا كَانَ الْعَذَابُ الَّذِي يُنْزِلُهُ اللَّهُ بِالْجَيْشِ الَّذِي يَغْزُو الْمُسْلِمِينَ يُنْزِلُهُ بِالْمُكْرَهِ وَغَيْرِ الْمُكْرَهِ فَكَيْفَ بِالْعَذَابِ الَّذِي يُعَذِّبُهُمْ اللَّهُ بِهِ أَوْ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلَّا إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } . وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ الْمُكْرَهَ وَلَا نَقْدِرُ عَلَى التَّمْيِيزِ . فَإِذَا قَتَلْنَاهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ كُنَّا فِي ذَلِكَ مَأْجُورِينَ وَمَعْذُورِينَ وَكَانُوا هُمْ عَلَى نِيَّاتِهِمْ فَمَنْ كَانَ مُكْرَهًا لَا يَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ عَلَى نِيَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِذَا قُتِلَ لِأَجْلِ قِيَامِ الدِّينِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِأَعْظَمَ مِنْ قَتْلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ . وَأَمَّا إذَا هَرَبَ أَحَدُهُمْ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَجْعَلُ قِتَالَهُمْ بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ . وَهَؤُلَاءِ إذَا كَانَ لَهُمْ طَائِفَةٌ مُمْتَنِعَةٌ . فَهَلْ يَجُوزُ اتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ وَقَتْلُ أَسِيرِهِمْ وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ مَشْهُورَيْنِ . فَقِيلَ : لَا يُفْعَلُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مُنَادِيَ عَلِيِّ(2/113)
بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَادَى يَوْمَ الْجَمَلِ لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ وَلَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحٍ وَلَا يُقْتَلُ أَسِيرٌ . وَقِيلَ : بَلْ يُفْعَلُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَوْمَ الْجَمَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَائِفَةٌ مُمْتَنِعَةٌ . وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْقِتَالِ دَفْعُهُمْ فَلَمَّا انْدَفَعُوا لَمْ يَكُنْ إلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ ؛ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِ الصَّائِلِ . وَقَدْ رُوِيَ : أَنَّهُ يَوْمَ الْجَمَلِ وصفين كَانَ أَمْرُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ . فَمَنْ جَعَلَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ جَعَلَ فِيهِمْ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ . وَالصَّوَابُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسَ لَهُمْ تَأْوِيلٌ سَائِغٌ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ جِنْسِ الْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَأَهْلِ الطَّائِفِ والخرمية وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ قُوتِلُوا عَلَى مَا خَرَجُوا عَنْهُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ . وَهَذَا مَوْضِعٌ اشْتَبَهَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ الْفُقَهَاءِ ؛ فَإِنَّ الْمُصَنِّفِينَ فِي " قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ " جَعَلُوا قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَقِتَالَ الْخَوَارِجِ وَقِتَالَ عَلِيٍّ لِأَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقِتَالَهُ لمعاوية وَأَتْبَاعِهِ : مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَفَرَّعُوا مَسَائِلَ ذَلِكَ تَفْرِيعَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ وَقَدْ غَلِطُوا ؛ بَلْ الصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ ؛ كالأوزاعي وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ : أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا . فَقِتَالُ عَلِيٍّ لِلْخَوَارِجِ ثَابِتٌ بِالنُّصُوصِ الصَّرِيحَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى(2/114)
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا الْقِتَالُ " يَوْمَ صفين " وَنَحْوِهِ فَلَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ؛ بَلْ صَدَّ عَنْهُ أَكَابِرُ الصَّحَابَةِ ؛ مِثْلَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ مسلمة وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ . وَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْعَسْكَرَيْنِ مِثْلَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ . وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ الْإِصْلَاحُ بَيْنَ تينك الطَّائِفَتَيْنِ ؛ لَا الِاقْتِتَالُ بَيْنَهُمَا كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ وَالْجَيْشَ مَعَهُ فَقَالَ : { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } فَأَصْلَحَ اللَّهُ بِالْحَسَنِ بَيْنَ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الشَّامِ : فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِصْلَاحَ بِهِ مِنْ فَضَائِلِ الْحَسَنِ مَعَ أَنَّ الْحَسَنَ نَزَلَ عَنْ الْأَمْرِ وَسَلَّمَ الْأَمْرَ إلَى مُعَاوِيَةَ . فَلَوْ كَانَ الْقِتَالُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ دُونَ تَرْكِ الْخِلَافَةِ وَمُصَالَحَةِ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَمْدَحْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ مَا أَمَرَ بِهِ وَفَعَلَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَلَا مَدَحَهُ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى وَفَعَلَ الْأَدْنَى . فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ الْحَسَنُ هُوَ الَّذِي كَانَ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ لَا الْقِتَالَ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضَعُهُ وَأُسَامَةَ عَلَى فَخِذَيْهِ وَيَقُولُ : {(2/115)
اللَّهُمَّ إنِّي أُحِبُّهُمَا فَأَحِبَّهُمَا وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُمَا } وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ مَحَبَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا بِكَرَاهَتِهِمَا الْقِتَالَ فِي الْفِتْنَةِ ؛ فَإِنَّ أُسَامَةَ امْتَنَعَ عَنْ الْقِتَالِ مَعَ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ وَكَذَلِكَ الْحَسَنُ كَانَ دَائِمًا يُشِيرُ عَلَى عَلِيٍّ بِأَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ وَلَمَّا صَارَ الْأَمْرُ إلَيْهِ فَعَلَ مَا كَانَ يُشِيرُ بِهِ عَلَى أَبِيهِ . رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينَ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ } فَهَذِهِ الْمَارِقَةُ هُمْ الْخَوَارِجُ وَقَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ . وَهَذَا يَصْدُقُهُ بَقِيَّةُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ قَتْلَهُمْ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ الَّذِينَ قَاتَلُوهُمْ مَعَ عَلِيٍّ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَأَصْحَابِهِ مَعَ كَوْنِهِمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ . فَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِتَالِ لِوَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ كَمَا أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ ؛ بَلْ مَدَحَ الْإِصْلَاحَ بَيْنَهُمَا . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَرَاهَةِ الْقِتَالِ فِي الْفِتَنِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا . مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ كَقَوْلِهِ : { سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي وَالْمَاشِي خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي } وَقَالَ : {(2/116)
يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ } . فَالْفِتَنُ مِثْلُ الْحُرُوبِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ وَطَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُلْتَزِمَةٌ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ . مِثْلَ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَمَلِ وصفين ؛ وَإِنَّمَا اقْتَتَلُوا لِشَبَهِ وَأُمُورٍ عَرَضَتْ . وَأَمَّا قِتَالُ الْخَوَارِجِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَأَهْلِ الطَّائِفِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا يُحَرِّمُونَ الرِّبَا فَهَؤُلَاءِ يُقَاتَلُونَ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الشَّرَائِعِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَؤُلَاءِ إذَا كَانَ لَهُمْ طَائِفَةٌ مُمْتَنِعَةٌ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ أَسِيرِهِمْ وَاتِّبَاعُ مُدْبِرِهِمْ وَالْإِجْهَازُ عَلَى جَرِيحِهِمْ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ إذَا كَانُوا مُقِيمِينَ بِبِلَادِهِمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْصِدُوهُمْ فِي بِلَادِهِمْ لِقِتَالِهِمْ حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ التَّتَارَ لَا يُقَاتَلُونَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ ؛ بَلْ يُقَاتِلُونَ النَّاسَ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي طَاعَتِهِمْ فَمَنْ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِمْ كُفُّوا عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ يَهُودِيًّا وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ كَانَ عَدُوًّا لَهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوا أَعْدَاءَهُ الْكُفَّارَ وَيُوَالُوا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ . فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ جُنْدِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْيَمَنِ وَالْمَغْرِبِ جَمِيعِهِمْ أَنْ(2/117)
يَكُونُوا مُتَعَاوِنِينَ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ وَلَيْسَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يُقَاتِلَ بَعْضًا بِمُجَرَّدِ الرِّيَاسَةِ وَالْأَهْوَاءِ . فَهَؤُلَاءِ التَّتَارُ أَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَاتِلُوا مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَأَنْ يَكُفُّوا عَنْ قِتَالِ مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيَتَعَاوَنُونَ هُمْ وَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ . وَأَيْضًا لَا يُقَاتِلُ مَعَهُمْ غَيْرُ مُكْرَهٍ إلَّا فَاسِقٌ أَوْ مُبْتَدِعٌ أَوْ زِنْدِيقٌ كَالْمَلَاحِدَةِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَكَالرَّافِضَةِ السَّبَّابَةِ وكالجهمية الْمُعَطِّلَةِ مِنْ النفاة الْحُلُولِيَّةِ وَمَعَهُمْ مِمَّنْ يُقَلِّدُونَهُ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ وَالدِّينِ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُمْ ؛ فَإِنَّ التَّتَارَ جُهَّالٌ يُقَلِّدُونَ الَّذِينَ يُحْسِنُونَ بِهِ الظَّنَّ وَهُمْ لِضَلَالِهِمْ وَغَيِّهِمْ يَتْبَعُونَهُ فِي الضَّلَالِ الَّذِي يَكْذِبُونَ بِهِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَيُبَدِّلُونَ دِينَ اللَّهِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ . وَلَوْ وَصَفْت مَا أَعْلَمُهُ مِنْ أُمُورِهِمْ لَطَالَ الْخِطَابُ . وَبِالْجُمْلَةِ فَمَذْهَبُهُمْ وَدِينُ الْإِسْلَامِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَوْ أَظْهَرُوا دِينَ الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِيَّ الَّذِي بَعَثَ رَسُولَهُ بِهِ لَاهْتَدَوْا وَأَطَاعُوا : مِثْلَ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } وَثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يَزَالُ أَهْلُ الْغَرْبِ(2/118)
ظَاهِرِينَ } وَأَوَّلُ الْغَرْبِ مَا يُسَامِتُ الْبِيرَةَ وَنَحْوَهَا ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَكَلَّمَ بِهَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ فَمَا يَغْرُبُ عَنْهَا فَهُوَ غَرْبٌ كَالشَّامِ وَمِصْرَ . وَمَا شَرَقَ عَنْهَا فَهُوَ شَرْقٌ كَالْجَزِيرَةِ وَالْعِرَاقِ . وَكَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الشَّامِ " أَهْلَ الْمَغْرِبِ " . وَيُسَمُّونَ أَهْلَ الْعِرَاقِ " أَهْلَ الْمَشْرِقِ " . وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي ذَكَرْتهَا فِيهَا مِنْ الْآثَارِ وَالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(1)
==============
رأي العلامة ابن حزم رحمه الله بالفتنة والمفاضلة بين الصحابة
قال أبو محمد: ثم وجب القول فيمن هو أفضل الصحابة بعد نساء النبي صلى الله عليه وسلم فلم نجد لمن فضل ابن مسعود أو عمر أو جعفر بن أبي طالب أو أبا سلمة أو الثلاثة إلا سهليين على جميع الصحابة حجة يعتمد عليها ووجدنا من يوقف لم يزد على أنه لم يلح له البرهان أنهم أفضل ولو لاح له ل قال به ووجدنا العدد والمعارضة في القائلين بأن علياً أفضل أكثر فوجب أن أتى بما شغبوا به ليلوح الحق في ذلك وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وجدناهم يحتجون بأن علياً كان أكثر الصحابة جهاداً وطعناً في الكفار وضرباً والجهاد افضل الأعمال.
__________
(1) - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 427)(2/119)
قال أبو محمد: هذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة أحدها الدعاء إلى الله عز وجل باللسان والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير والثالث الجهاد باليد في الطعن والضرب فوجدنا الجهاد في اللسان لا يلحق فيه أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر أما أبو بكر فإن أكابر الصحابة رضي الله عنهم أسلموا على يديه فهذا أفضل عمل وليس لعلي من هذا كثير حظ وأما عمر فإنه من يوم أسلم عز الإسلام وعبد الله تعالى بمكة جهراً وجاهد المشركين بمكة بيديه فضرب وضرب حتى ملوه فتركوه فعبد الله تعالى علانية وهذا أعظم الجهاد فقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين الذين لا نظير لهما ولا حظ لعلي في هذا أصلاً وبقي القسم الثاني وهو الرأي والمشورة فوجدناه خالصاً لأبي بكر ثم لعمر وبقي القسم الثالث وهو الطعن والضرب والمبارزة فوجدناه أقل مراتب الجهاد ببرهان ضروري وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك عند كل مسلم أنه المخصوص بكل فضيلة فوجدنا جهاده عليه السلام إنما كان في أكثر أعماله وأحواله القسمين الأولين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة وكان أقل عمله صلى الله عليه وسلم الطعن والضرب والمبارزة لا عن جبن بل كان عليه السلام أشجع أهل الأرض قاطبة نفساً ويداً وأتمهم نجدة ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأفعال فقدمه عليه السلام ويشتغل به ووجدناه عليه السلام يوم بدر وغيره كان أبو بكر رضي الله عنه معه لا يفارقه إيثاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك واستظهاراً برأيه في الحرب وأنساً بمكانه ثم كان عمر ربما شورك في ذلك أيضاً وقد انفرد بهذا المحل دون علي ودون سائر الصحابة إلا في الندرة ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد الذي هو الطعن والضرب والمبارزة فوجدنا علياً رضي الله عنه لم ينفرد بالنسوق فيه بل قد شاركه في ذلك غيره شركة العنان كطلحة والزبير وسعد وممن قتل في صدر الإسلام كحمزة وعبيدة(2/120)
بن الحارث بن المطلب ومصعب بن عمير ومن الأنصار سعد ابن معاذ وسماك ابن خرسة وغيرهما ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل من ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وموازرته في حين الحرب وقد بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على البعوث أكثر مما بعث علياً وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم وبعث عمر إلى بني فلان وما نعلم لعلي بعثاً إلا إلى بعض حصون خيبر ففتحه وقد بعث قبله أبا بكر وعمر فلم يفتحاه فحصل أربع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر وقد شاركا علياً في أقل أنواع الجهاد مع جماعة غيرهم.
قال أبو محمد: واحتج أيضاً من قال بأن علياً كان أكثرهم علماً.(2/121)
قال أبو محمد: كذب هذا القائل وإنما يعرف علم الصحابي لأحد وجهين لا ثالث لهما أحدهما كثرة روايته وفتاويه والثاني كثرة استعمال النبي صلى الله عليه وسلم له فمن المحال الباطل أن يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم من لا علم له وهذه أكبر شهادات على الهلم وسعته فنظرنا في ذلك فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد ولي أبا بكر الصلاة بحضرته طول علته وجميع أكابر الصحابة حضور كعلي وعمرو ابن مسعود وأبي وغيرهم فآثره بذلك على جميعهم وهذا خلاف استخلافه عليه السلام إذا غزا لأن المستخلف في الفزوة لم يستخلف إلى على النساء وذو الأعذار فقط فوجب ضرورة أن نعلم أن أبا بكر أعلم الناس بالصلاة وشرايعها وأعلم المذكورين بها وهي عمود الدين ووجدناه صلى الله عليه وسلم قد استعمله علىالصدقات فوجب ضرورة أن عنده من علم الصدقات كالذي عند غيره من علماء الصحابة لا أقل وربما كان أكثر إذ قد استعمل عليه السلام أيضاً عليها غيره وهو عليه السلام لا يستعمل إلا عالماً بما استعمله عليه والزكاة ركن من أركان الدين بعد الصلاة وبرهان ما قلنا من تمام علم أبي بكر رضي الله عنه بالصدقات أن الأخبار الواردة في الزكاة أصحها والذي يلزم العلم به ولا يجوز خلافه فهو حديث أبي بكر ثم الذي من طريق عمر وأما من طريق علي فمضطرب وفيه ما قد تركه الفقهاء جملة وهو أن في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه فوجدناه عليه السلام قد استعمل أبا بكر على الحج فصح ضرورة أنه أعلم من جميع الصحابة بالحج وهذه دعايم الإسلام ثم وجدناه عليه السلام قد استعمله على البعوث فصح أن عنده من أحكام الجهاد مثل ما عند سائر من استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على البعوث في الجهاد إذ لا يستعمل عليه السلام على العمل إلا عالماً به فعند أبي بكر من الجهاد من العلم به كالذي عند علي وسائر أمراء البعوث لا أكثر ولا أقل فإذ قد صح التقدم لأبي بكر على علي وغيره في علم الصلاة والزكاة والحج(2/122)
وساواه في علم الجهاد فهذه عمدة العلم ثم وجدناه عليه السلام قد ألزم نفسه في جلوسه ومآمرته وظعنه وإقامته أبا بكر مشاعد أحكامه عليه السالم وفتاويه أكثر من مشاهدة علي لها فصح ضرورة أنه أعلم بها فهل بقيت من العلم بقية إلا وأبو بكر المتقدم فيها الذي لا يلحق أو المشارك الذي لا يسبق فبطلت دعواهم في العلم والحمد لله رب العالمين وأما الرواية والفتوى فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سنتين وستة أشهر ولم يفارق المدينة غلا حاجاً أو معتمراً ولم يحتج الناس إلى ما عنده من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن كل من حواليه أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ذلك كله فقد روي عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنان وأربعون حدثناً مسندة ولم يرو عن علي إلا خمس مائة وست وثمانون حديثناً مسندة يصح منها نحو خمسين وقد عاش بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أزيد من ثلاثين سنة وكثر لقاء الناس إياه وحاجتهم إلى عنده لذهاب جمهور الصحابة رضي الله عنهم وكثر سماع أهل الأفاق منه مرة بصفين وأعواماً بالكوفة ومرة بالبصرة والمدينة فإذا نسبنا مدة أبي بكر من حياته وأضفنا تقري على البلاد بلداً بلداً وكثرة سماع الناس منه إلى لزوم أبي بكر موطنه وأنه لم تكثر حاجة من حواليه إلى الرواية عنه ثم نسبنا عدد حديث من عدد حديث وفتاوي من فتاوي علم كل ذي حظ من العلم إن الذي كان عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند علي منه وبرهان ذلك أن من عمر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمراً قليلاً قل النقل عنهم ومن طال عمره منهم كثر النقل عنهم إلا اليسير من اكتفى بنيابة غيره عنه في تعليم الناس وقد عاش علي بعد عمر بن الخطاب سبعة عشر عاماً غير أشهر ومسند عمر خمسماية حديث وسبعة وثلاثون حديثاً يصح منها نحو خمسين كالذي عن علي سواء بسواء فكلما زاد حديث علي على حديث عمر تسعة وأربعين حديثاً(2/123)
في هذه المدة الطويلة ولم يزد عليه في الصحيح إلا حديثناً أو حديثين وفتاوي عمر موازنة لفتاوي علي في أبواب الفقه فإذا نسبنا مدة من مدة وضربنا في البلاد من ضرب فيها وأضفنا حديثاً إلى حديث وفتاوي إلى فتاوي علم كل ذي حس علماً ضرورياً أن الذي كان عند عمر من العلم أضعاف ما كان عند علي من العلم ثم وجدنا الأمر كل ما طال كثرت الحاجة إلى الصحابة فيما عندهم من العلم فوجدنا حديث عائشة رضي الله عنها ألفي مسند ومائتي مسند وعشرة مسانيد وحديث أبي هريرة خمسة آلاف مسند وثلثماية مسند وأربع وسبعين مسنداً ووجدنا مسند بن عمر وأنس قريباً من مسند عائشة لكل واحد منهما ووجدنا مسند جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس لك واحد منهما أزيد من ألف وخمسماية ووجدنا لابن مسعود ثمان ماية مسند ونيف ولكل من ذكرنا حاشا أبا هريرة وأنس بن مالك من الفتاوي أكثر من فتاوي علي أو نحوها فبطل قول هذه الوقاح الجهال فإن عاندنا معاند في هذا الباب جاهل أو قليل الحيا لاح كذبه وجهله فإنا غير مهتمين على حط أحد من الصحابة رضي الله عنهم عن مرتبته ولا على رفعه فوق مرتبته لأننا لو انحرفنا عن علي رضي الله عنه ونعوذ بالله من ذلك لذهبنا فيه مذهب الخوارج وقد نزهنا الله عز وجل عن هذا الضلال في التعصب ولو غلونا فيه لذهبنا فيه مذهب الشيعة وقد أعاذنا الله تعالى من هذا الأفك في التعصب فصار غيرنا من المنحرفين عنه أو الغالين فيهم هم المتهمون فيه إما له وإما عليه وبعد هذا كله وليس يقدر من ينتمي إلى الإسلام أن يعاند في الاستدلال على كثرة العلم باستعمال النبي صلى الله عليه وسلم وبمن استعمله منهم على ما استعمله عليه من أمور الدين فإن قال وا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل علياً على الأخماس وعلى القضا باليمن قلنا لهم نعم ولكن مشاهدة أبي بكر لا قضية رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى في العلم وأثبت مما عند علي وهو باليمن وقد استعمل رسول الله(2/124)
صلى الله عليه وسلم أبا بكر على بعوث فيها الأخماس فقد ساوى علمه علم علي في حكمها بلا شك إذ لا يستعمل عليه السلام إلا عالماً بما يستعمله عليه وقد صح أن أبا بكر وعمر كانا يفتيان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليه السلام يعلم ذلك ومحال ذلك أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم ممن دونهما وقد استعمل عليه السلام أيضاً على القضاء باليمن مع علي معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري فلعلي في هذا شركاء كثير منهم أبو بكر وعمر ثم انفرد أبو بكر بالجهور الأغلب من العلم على ما ذكرنا. و قال هذا القائل أن علينا كان إقرا الصحابة.ل ما طال كثرت الحاجة إلى الصحابة فيما عندهم من العلم فوجدنا حديث عائشة رضي الله عنها ألفي مسند ومائتي مسند وعشرة مسانيد وحديث أبي هريرة خمسة آلاف مسند وثلثماية مسند وأربع وسبعين مسنداً ووجدنا مسند بن عمر وأنس قريباً من مسند عائشة لكل واحد منهما ووجدنا مسند جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس لك واحد منهما أزيد من ألف وخمسماية ووجدنا لابن مسعود ثمان ماية مسند ونيف ولكل من ذكرنا حاشا أبا هريرة وأنس بن مالك من الفتاوي أكثر من فتاوي علي أو نحوها فبطل قول هذه الوقاح الجهال فإن عاندنا معاند في هذا الباب جاهل أو قليل الحيا لاح كذبه وجهله فإنا غير مهتمين على حط أحد من الصحابة رضي الله عنهم عن مرتبته ولا على رفعه فوق مرتبته لأننا لو انحرفنا عن علي رضي الله عنه ونعوذ بالله من ذلك لذهبنا فيه مذهب الخوارج وقد نزهنا الله عز وجل عن هذا الضلال في التعصب ولو غلونا فيه لذهبنا فيه مذهب الشيعة وقد أعاذنا الله تعالى من هذا الأفك في التعصب فصار غيرنا من المنحرفين عنه أو الغالين فيهم هم المتهمون فيه إما له وإما عليه وبعد هذا كله وليس يقدر من ينتمي إلى الإسلام أن يعاند في الاستدلال على كثرة العلم باستعمال النبي صلى الله عليه وسلم وبمن استعمله منهم على ما استعمله عليه من أمور الدين فإن قال وا(2/125)
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل علياً على الأخماس وعلى القضا باليمن قلنا لهم نعم ولكن مشاهدة أبي بكر لا قضية رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى في العلم وأثبت مما عند علي وهو باليمن وقد استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على بعوث فيها الأخماس فقد ساوى علمه علم علي في حكمها بلا شك إذ لا يستعمل عليه السلام إلا عالماً بما يستعمله عليه وقد صح أن أبا بكر وعمر كانا يفتيان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليه السلام يعلم ذلك ومحال ذلك أن يبيح لهما ذلك إلا وهما أعلم ممن دونهما وقد استعمل عليه السلام أيضاً على القضاء باليمن مع علي معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري فلعلي في هذا شركاء كثير منهم أبو بكر وعمر ثم انفرد أبو بكر بالجهور الأغلب من العلم على ما ذكرنا. و قال هذا القائل أن علينا كان إقرا الصحابة.
قال أبو محمد: وهذه القحة المتجردة والبهتان لوجوه أولها أنه رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه عليه السلام قال يوم القوم اقرؤهم فإن استووا فافقهم فإن استووا فأقدمهم هجرة ثم وجدناه عليه السلام قد قدم أبا بكر على الصلاة مدة الأيام التي مرض فياه وعلي بالحضرة يراه النبي صلى الله عليه وسلم غدوة وعشية فما رأى لها عليه السلام أحداً أحق من أبي بكر بها فصح أنه كان اقرؤهم وأفقهم وأقدمهم هجرة وقد يكون من لم يجمع حفظ القرآن كله على ظهر قلب اقرأ ممن جمعه كله عن ظهر قلب فيكون ألفظ به وأحسنهم ترتيلاً هذا على أن أبا بكر وعمر وعلي لم يستكمل أحد منهم حفظ سوار القرآن كله ظاهراً إلا أنه قد وجب يقيناً بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر على الصلة وعلي حاضر إن أبا بكر أقرأ من علي وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقدم إلى الإمامة الأقل علماً بالقراة على الأقرأ أو الأقل فقهاً على الأفقه فبطل أيضاً شغبهم في هذا الباب والحمد لله رب العالمين.(2/126)
قال أبو محمد: كذب هذا الأفك ولقد كان علي رضي الله عنه تقياً إلى أن الفاضل بتفاضل فيها أهلها وما كان أتقاهم لله إلا أبا بكر والبرهان على ذلك أنه لم يسوء قط أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلمة ولا خالف إرادته عليه السلام في شيء قط ولا تأخر عن تصديقه ولا تردد عن الائتمار له يوم الحديبية إذ تردد من تردد وقد تظلم رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر إذ أراد علي نكاح ابنة أبي جهل بما قد عرف وما وجدنا قط لأبي بكر توقفاً عن شيء أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة عذره فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجاز له فعله وهي إذ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبا فوجده يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر تأخر فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن أقم مكانك فحمد الله تعالى أبو بكر على ذلك ثم تأخر فصار في الصف وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس فلما سلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعك أن تثبت حين أمرتك ف قال أبو بكر ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: فهذا غاية التعظيم والطاعة والخضوع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنكر عليه السلام ذلك عليه وإذ قد صح بالبرهان الضروري الذي ذكرنا أن أبا بكر أعلم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد وجب أنه أخشاهم لله عز وجل قال الله عز وجل " إنما يخشى الله من عباده العلماء " والتقي هو الخشية لله عز وجل و قال قائلون علي كان أزهدهم.(2/127)
قال أبو محمد: كذب هذا الجاهل وبرهان ذلك أن الزهد إنما هو غروب النفس عن حب الصوت وعن المال وعن اللذات وعن الميل إلى الولد والحاشية ليس الزهد معنى يقع عليه اسم الزهد إلا هذا المعنى فأما غروب النفس عن المال فقد علم كل من له أدنى بصر بشيء من الأخبار الخالية أن أبا بكر أسلم وله مال عظيم قيل أربعين ألف درهم فأنفقها كلها في ذات الله تعالى وعتق المستضعفين من العبيد المؤمنين المعذبين في ذات الله عز وجل ولم يعتق عبيداً جلداً يمنعونه لكن كل معذب ومعذبة في الله عز وجل حتى هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق لأبي بكر من جميع ماله إلا ستة ألف درهم حملها كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق لبنيه منها درهم ثم أنفقها كلها في سبيل الله عز وجل حتى لم يبق له شيء في عبادة له قد خللها بعود إذا نزل افترشها وإذا ركب لبسها إذ تمول غيره من الصحابة رضي الله عن جميعهم واقتنوا الرباع الواسعة والضياع العظيمة من حلها وحقها إلا أن من آثر بذلك سبيل الله عز وجل أزهد ممن أنفق وأمسك ثم ولي الخلافة فما اتخذ جارية ولا توسع في مال وعد عند موته ما أنفق على نفسه وولده من مال الله عز وجل الذي لم يستوف منه إلا بعض حقه وأمر بصرفه إلى بيت المال من صلب ماله الذي حصل له من شهامة في المغازي والمقاسم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا هو الزهد في اللذات والمال الذي لا يدانيه فيه أحد من الصحابة لا علي ولا غيره إلا أن يكون أبا ذر وأبا عبيدة من المهاجرين الأولين فإنهما جريا على هذه الطريقة التي فارقا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوسع من سواهم من الصحابة رضي الله عنهم في المباح الذي أحله الله عز وجل لهم إلا أن من أثر على نفسه فضل ولولا أن أبا ذر لم يكن له سابقة غيره لما تقدمه إلا من كان مثله فهذا هو الزهد في المال واللذات ولقد تلا أبو بكر عمر رضي الله عنهما في هذا الزهد فكان فوق علي في ذلك يعني في(2/128)
إعراضه عن المال واللذات وأما علي رضي الله عنه فتوسع في هذا الباب من حله ومات عن أربع زوجات وتسع عشرة أم ولد سوى الخدم والعبيد وتوفي عن أربعة وعشرين ولداً من ذكر وأنثى وترك لهم من العقار والضياع ما كانوا به من أغنياء قومهم وماسيرهم هذا أمر مشهور لا يقدر على إنكاره من له أقل علم بالأخبار والآثار ومن جملة عقاره التي تصدق بها كانت تغل ألف وسق تمراً سوى زرعها فأين هذا من هذا وأما حب الولد والميل إليهم وإلى الحاشية فالأمر في هذا أبين من أن يخفى على أحد له أقل علم بالأخبار فقد كان لأبي بكر رضي الله عنه من القرابة والولد مثل طلحة بن عبيد الله من المهاجرين الأولين والسابقين من ذوي الفضائل العظيمة في كل باب من أبواب الفضل في الإسلام ومثل ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر وله مع النبي صلى الله عليه وسلم صحبة قديمة وهجرة سابقة وفضل ظاهر فما استعمل أبو بكر رضي الله عنه منهم أحداً على شيء من الجهات وهي بلاد اليمن كلها على سعتها وكثرة استعمالها وعمان وحضرموت والبحرين واليمامة والطايف ومكة وخيبر وسائر أعمال الحجاز ولو استعملهم لكانوا لذلك أهلاً ولكن خشي المحاباة ويوقع أن يميله إليهم شيء من الهوى ثم جرى عمر على مجراه في ذلك فلم يستعمل من بني عدي بن كعب أحداً على سعة البلاد وكثرتها وقد فتح الشام ومصر وجميع مملكة الفرس إلى خراسان إلا النعمان بن عدي وحده على ميسان ثم أسرع عزله وفيهم من الهجرة ما ليس في شيء من اتخاذ قريش لأن بني عدي لم يبق منهم أحد بمكة إلا هاجر وكان فيهم مثل سعيد بن زيد أحد المهاجرين الأولين ذوي السوابق وأبي الجهم ابن حذيفة وخارجة بن حذافة ومعمر بن عبد الله وابنه عبد الله بن عمر ثم لم يستخلف أبو بكر ابنه عبد الرحمن وهو صاحب من الصحابة ولا استعمل عمر ابنه عبد الملك على الخلافة وهو من فضلاء الصحابة وخيارهم وقد رضي له الناس وكان لذلك أهلاً ولو استخلفه لما اختلف عليه أحد فما فعل ووجدنا(2/129)
علياً رضي الله عنه إذ ولي قد استعمل أقاربه عبد الملك بن عباس على البصرة وعبيد الله بن عباس على اليمن وخثعم ومعبدا ابني العباس على مكة والمدينة وجعدة بن نميرة وهو ابن أخته أم هاني بنت أبي طالب على خراسان ومحمد بن أبي بكر وهو ابن امرأته وأخو ولده على مصر ورضي ببيعة الناس للحسن ابنه بالخلافة ولسنا ننكر استحقاق الحسن للخلافة ولا استحقاق عبد الله بن العباس للخلافة فكيف أمارة البصرة لكنا نقول أن من زهد في الخلافة لولد مثل عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر والناس متفقون عليه وفي تأمير مثل طلحة بن عبد الله وسعيد بن زيد فلا شك في أنه أتم زهد أو أعرب عن جميع معاني الدنيا نفساً ممن أخذه منها أبيح له أخذه فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر أزهد من جميع الصحابة ثم عمر بن الخطاب بعده و قال هذا القائل وكان علي أكثرهم صدقة.ر استحقاق الحسن للخلافة ولا استحقاق عبد الله بن العباس للخلافة فكيف أمارة البصرة لكنا نقول أن من زهد في الخلافة لولد مثل عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر والناس متفقون عليه وفي تأمير مثل طلحة بن عبد الله وسعيد بن زيد فلا شك في أنه أتم زهد أو أعرب عن جميع معاني الدنيا نفساً ممن أخذه منها أبيح له أخذه فصح بالبرهان الضروري أن أبا بكر أزهد من جميع الصحابة ثم عمر بن الخطاب بعده و قال هذا القائل وكان علي أكثرهم صدقة.
قال أبو محمد: وهذه مجاهرة بالباطل لأنه لم يحفظ لعلي مشاركة ظاهرة بالمال وأما أمر أبي بكر رضي الله عنه في إنفاق ماله في سبيل الله عز وجل فأشهر من أن تخفى على اليهود والنصارى فكيف على المسلمين ثم لعثمان بن عفان رضي الله عنه في هذا المعنى من تجهيز جيش العسرة ما ليس لغيره فصح أن أبا بكر أعظم صدقة وأكثر مشاركة وغنا في الإسلام بماله من علي رضي الله عنه و قال وا علي هو السابق إلى الإسلام ولم يعبد قط وثنا.(2/130)
قال أبو محمد: أما السابقة فلم يقل قط أحد يعتد به أن علياًمات وله أكثر من ثلاث وستين سنة ومات بلا شك سنة أربعين من الهجرة فصح أنه كان حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ابن ثلاث وعشرين سنة وكانت مدة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة في النبوة ثلاث عشرة سنة فبعث عليه السلام ولعلي عشرة أعوام فإسلام ابن عشرة أعوام ودعاؤه إليه إنما هو كتدريب المرء ولده الصغير على الدين لا أن عنده غناء ولا أن عليه إثماً إن أبى فإن أخذ الأمر على قول من قال أن علياً مات وله ثمان وخمسون سنة فإنه كان إذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم ابن خمسة أعوام وكان إسلام ابي بكر ابن ثمان وثلاثين سنة وهو الإسلام المأمور به من عند الله عز وجل وأما من لم يبلغ الحلم فغير مكلف ولا مخاطب فسابقة أبي بكر وعمر بلا شك أسبق من سابقة علي. وأما عمر فإنه كان إسلامه تأخر بعد البعث بستة أعوام فإن عناءه كان أكثر من عناء أكثر من أسلم قبله ولم يبلغ على حد التكليف إلا بعد أعوام من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أن أسلم كثير من الصحابة رجال ونساء بعد أن عذبوا في الله تعالى ولقوا فيه الألاقي وأما كونه لم يعبد وثناً فنحن وكل مولود في الإسلام لم يعبد قط وثناً وعمار والمقداد وسلمان وأبو ذر وحمزة وجعفر رضي الله عنهم قد عبدوا الأوثان أفترانا أفضل منهم من أجل ذلك معاذ الله من هذا فإنه لا يقوله مسلم فبطل أن يكون هذا يوجب لعلي فضلاً زائداً وإلا لكانت عائشة سابقة لعلي رضي الله عنهما في هذا الفضل لأنها كانت إذ هاجر النبي صلى الله عليه وسلم بنت ثماني سنين وأشهر ولم تولد إلا بعد إسلام أبيها بسنين وعلي ولد وأبوه عابد وثن قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسنين وعبد الله بن عمر أيضاً أسلم أبوه وله أربع سنين لم يعبد قط وثناً فهو شريك لعلي في هذه الفضيلة. و قال بعضهم علي كان أسوسهم.(2/131)
قال أبو محمد: وهذا باطل لا خفاء به على مؤمن ولا كافر فقد دري القريب والبعيد والعالم والجاهل والمؤمن والكافر من سائر الإسلام إذ كفر من كفر من أهل الأرض بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وأذعن الجميع للبقية وقبول ما ادعت إليه العرب حاشا أبا بكر فهل ثبت أحد ثبات أبي بكر على كلب العدو وشدة الخوف حتى دخلوا في الإسلام أفواجاً كما خرجوا منه أفواجاً وأعطوا الزكاة طائعين وكارهين ولم تهله جموعهم ولا تضافرهم ولا قلة أهل الإسلام حتى أنار الله الإسلام وأظهره ثم هل ناطح كسرى وقيصر على أسرة ملكها حتى أخضع حدود فارس والروم وصرع حدودهم ونكس راياتهم وظهر الإسلام في أقطار الأرض وذل الكفر وأهله وشبع جائع المسلمين وعز ذليلهم واستغنى فقيرهم وصاروا إخوة لا اختلاف بينهم وقرؤوا القرآن وتفقهوا في الدين إلا أبو بكر ثم ثنى عمر ثم ثلث عثمان ثم قد رأى الناس خلاف ذلك كله وافتراق كلمة المؤمنين وضرب المسلمين بعضهم وجوه بعض بالسيوف وشكت بعضهم قلوب بعض بالرماح وقتل بعضهم من بعض عشرات الألوف وشغلهم بذلك عن أن يفتح من بلاد الكفر قرية أو يذعر لهم سرب أو يجاهد منهم أحد حتى ارتجع أهل الكفر كثيراً مما صار بأيدي المسلمين من بلادهم فلم يجتمع المسلمون إلى يوم القيامة فأين سياسة من سياسة.
قال أبو محمد: فإذ قد بطل كلما ادعاه هؤلاء الجهال ولم يحصلوا إلا على دعاوي ظاهرة الكذب لا دليل على صحة شيء منها وصح بالبرهان كما أوردنا أن أبا بكر هو الذي فاز بالقدح المعلى والسبق المبرز والحظ الأسنى في العلم والقرآن والجهاد والزهد والتقوى والخشية والصدقة والعتق والمشاركة والطاعة والسياسة فهذه وجوه الفضل كلها فهو بلا شك أفضل من جميع الصحابة كلهم بعد نساء النبي صلى الله عليه وسلم.(2/132)
قال أبو محمد: ولم يحتج عليهم بالأحاديث لأنهم لا يصدقون أحاديثنا ولا نصدق أحاديثهم وإنما اقتصرنا على البراهين الضرورية بنقل الكواف فإن كانت الإمامة تستحق بالتقدم في الفضل فأبو بكر أحق الناس بها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم يقيناً فكيف والنص على خلافته صحيح وإذ قد صحت إمامة أبي بكر رضي الله عنه فطاعته فرض في استخلافه عمر رضي الله عنه فوجبت إمامة عمر فرضاً بما ذكرنا وبإجماع أهل الإسلام عليهما دون خلاف من أحد قطعاً ثم أجمعت الأمة كلها أيضاً بلا خلاف من أحد منهم على صحة إمامة عثمان والدينونة بها وأما خلافة علي فحق لا بنص ولا بإجماع لكن ببرهان سنذكره إن شاء الله في الكلام في حروبه.
قال أبو محمد: ومن فضائل أبي بكر المشهورة قوله عز وجل " إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " فهذه فضيلة منقولة بنقل الكافة لا خلاف بين أحد في أنه أبو بكر فأوجب الله تعالى له فضيلة المشاركة في إخراجه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه خصه باسم الصحبة له وبأنه ثانيه في الغار وأعظم من ذلك كله أن الله معهما وهذا ما لا يلحقه فيه أحد.
قال أبو محمد: فاعترض في هذا بعض أهل القحة ف قال قد قال الله عز وجل " إذ قال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً " قال وقد حزن أبو بكر فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فلو كان حزنه رضا لله عز وجل لما نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(2/133)
قال أبو محمد: وهذه مجاهره بالباطل أما قوله تعالى في الآية لصاحبه وهو يحاوره قد أخبر الله تعالى بأن أحدهما مؤمن والآخر كافر وبأنهما مختلفان فإنما سماه صاحبه في المجاورة والمجالسة فقط كما قال تعالى وإلى مدين أخاهم شعيباً فلم يجعله أخاهم في الدين لكن في الدار والنسب فليس هكذا قوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا بل جعله صاحبه في الدين والهجرة وفي الإخراج وفي الغار وفي نصرة الله تعالى لهما وإخافة الكفار لهما وفي كونه تعالى معهما فهذه الصحبة غاية الفضل وتلك الأخرى غاية النقص بنص القرآن. وأما حزن أبي بكر رضي الله عنه فإنه قبل أن ينهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غاية الرضا لله لأنه كان إشفاقاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كان الله معه وهو تعالى لا يكون مع العصاة بل عليهم وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن ولو كان لهؤلاء الأرذال حياء أو علم لم يأتوا بمثل هذا إذ لو كان حزن أبي بكر عيباً عليه لكان ذلك على محمد وموسى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيباً لأن الله عز وجل قال لموسى عليه السلام " سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون " ثم قال تعالى عن السحرة أنهم قال وا لموسى " إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخلف أنك أنت الأعلى " فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه قد كان أخبره الله عز وجل بأن فرعون وملأه لا يصلون إليه وأن موسى ومن اتبعه هو الغالب ثم أوجس في نفسه خيفة بعد ذلك إذ رأى أمر السحرة حتى أوحى الله عز وجل إليه لا تخف فهذا أمر أشد من أمر أبي بكر وإذا لزم ما يقول هؤلاء الفساق أبا بكر وحاشا لله أن يلزمه من أن حزنه لو كان رضا لما نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لزم أشد منه(2/134)
لموسى عليه السلام وأن إيجاسه الخيفة في نفسه لو كان رضا لله تعالى ما نهاه الله تعالى عنه ومعاذ الله من هذا بل إيجاس موسى الخيفة في نفسه لم يكن إلا نسيان الوعد المتقدم وحزن أبي بكر رضي الله عنه رضاً لله تعالى قبل أن ينهى عنه ولم يكن تقدم إليه نهي عن الحزن وأما محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل قال " ومن كفر فلا يحزنك كفره " و قال تعالى " ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق " و قال تعالى " ولا يحزنك قولهم أن العزة لله جميعاً " و قال تعالى " ولا تذهب نفسك عليهم حسرات " و قال تعالى " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً " ووجدناه عز وجل قد قال " ولقد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون " و قال ه أيضاً في الأنعام فهذا الله تعالى أخبرنا أنه يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنه الذي يقولون ونهاه عز وجل عن ذلك نصاً فيلزمهم في حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نهاه الله تعالى عنه كالذي أرادوا في حزن أبي بكر سواء سواء ونعم إن حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كانوا يقولون من الكفر كان طاعة لله تعالى قبل أن ينهاه الله عز وجل وما حزن عليه السلام بعد أن نهاه ربه تعالى عن الحزن كما كان حزن أبي بكر طاعة لله عز وجل قبل أن ينهاه الله عز وجل عن الحزن وما حزن أبو بكر قط بعد أن نهاه عليه السلام عن الحزن فكيف وقد يمكن أن يكون أبو بكر لم يحزن يمئذ لكن نهاه عليه السلام عن أن يكون منه حزن كما قال تعالى لنبيه عليه السلام " ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً " فنهاه عن أن يطيعهم ولم تكن منه طاعة لهم وهذا إنما يعترض به أهل الجهل والسخافة ونعوذ بالله من الضلال.
قال أبو محمد: واعترض علينا بعض الجهال ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب خلف أبي بكر رضي الله عنهما في الحجة التي حجها أبو بكر وأخذ برآءة من أبي بكر وتولى علي تبليغها إلى أهل الموسم وقرائتها عليهم.(2/135)
قال أبو محمد: وهذا من أعظم فضائل أبي بكر لأنه كان أميراً على علي بن أبي طالب وغيره من أهل الموسم لا يدفعون إلا بدفعه ولا يقفون إلا بوقوفه ولا يصلون إلا بصلاته وينصتون إذا خطب وعلي في الجملة كذلك وسورة برآءة وقع فيها فضل أبي بكر رضي الله عنه وذكره في أمر الغار وخروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم وكون الله تعالى معهما فقراءة علي لها أبلغ في إعلان فضل أبي بكر على علي وعلى سواه وحجة لأبي بكر قاطعة وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: إلا أن تراجع الروافض إلى إنكار القرآن والنقص منه والزيادة فيه فهذا أمر يظهر فيه قحتهم وجهلهم وسخفهم إلى كل عالم وجاهل فإنه لا يمتري كافر ولا مؤمن في أن هذا الذي بين اللوحين من الكتاب هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم وأخبرنا بأنه أوحاه الله تعالى إليه فمن تعرض هذا فقد أقر بعين عدوه.
قال أبو محمد: وما يعترض إمامة أبي بكر إلا زار علي رسول الله صلى الله عليه وسلم راد لأمره في تقديمه أبا بكر إلى الصلاة بأهل الإسلام مريد لإزالته عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: ولسنا من كذبهم في تأويلهم " ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً " وإن المراد بذلك علي رضي الله عنه بل هذا لا يصح بل الآية على عمومها وظاهرها لكل من فعل ذلك.(2/136)
قال أبو محمد: فصح بما ذكرنا فضل أبي بكر على جميع الصحابة رضي الله عنهم بعد نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالبراهين المذكورة وأما الأحاديث في ذلك فكثيرة كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي بكر دعوا لي صاحبي فإن الناس قال وا كذبت و قال أبو بكر صدقت وقوله صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي وصاحبي وهذا الذي لا يصح غيره وأما أخوة علي فلا تصح إلا مع سهل بن حنيف ومنها أمره صلى الله عليه وسلم بسد كل باب وخوخة في المسجد حاشا خوخة أبي بكر وهذا هو الذي لا يصح غيره ومنها غضبه صلى الله عليه وسلم على من خارج أبا بكر وعلى من أشار عليه بغير أبي بكر للصلاة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم إن أمن الناس علي في ماله أبو بكر وعمدتنا في تفضيل أبي بكر ثم عمر على جميع الصحابة بعد نساء النبي صلى الله عليه وسلم هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سئل من أحب الناس إليك يا رسول الله قال عائشة قيل فمن الرجال قال أبوها قيل ثم من يا رسول الله قال عمر.
قال أبو محمد: فقطعنا بهذا ثم وقفنا ولو زادنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً لزدنا لكنا لا نقول في شيء من الدين إلا بما جاء به النص.
قال أبو محمد: واختلف الناس فيمن أفضل أعثمان أم علي رضي الله عنهما.(2/137)
قال أبو محمد: والذي يقع في نفوسنا دون أن نقطع به ولا نخطئ من خالفنا في ذلك فهو أن عثمان أفضل من علي والله أعلم لأن فضائلهما تتقاوم في الأكثر فكان عثمان اقرء وكان أكثر فتيا ورواية ولعلي أيضاً حظ قوي في القراءة ولعثمان أيضاً حظ قوي في الفتيا والرواية ولعلي مقامات عظيمة في الجهاد بنفسه ولعثمان مثل ذلك بماله ثم انفرد عثمان بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع ليساره المقدسة عن يمين عثمان في بيعة الرضوان وله هجرتان وسابقة قديمة وصهر مكرم محمود ولم يحضر بدراً فألحقه الله عز وجل فيهم بأجره التام وسهمه فألحقه بمن حضرها فهو معدود فيهم ثم كانت له فتوحات في الإسلام عظيمة لم تكن لعلي وسيرة في الإسلام هادية ولم يتسبب بسفك دم مسلم وجاءت فيه آثار صحاح وأن الملائكة تستحي منه وأنه ومن أتبعه على الحق والذي صح من فضائل علي فهو قول النبي صلى الله عليه وسلم أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وقوله عليه السلام لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وهذه صفة واجبة لكل مؤمن وفاضل وعهده عليه السلام أن علياً لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق وقد صح مثل هذه في الأنصار رضي الله عنهم أنه لا يبغضهم من يؤمن بالله واليوم الآخر وأما من كنت مولاه فعلي مولاه فلا يصح من طريق الثقات أصلاً وأما سائر الأحاديث التي تتعلق بها الرافضة فموضوعة يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها.(2/138)
قال أبو محمد: ونقول تفضل المهاجرين الأولين بعد عمر بن الخطاب قطعاً إلا أننا لا نقطع بفضل أحد منهم على صاحبه كعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون وعلي وجعفر وحمزة وطلحة والزبير ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وسعد وزيد بن حارثة وأبي عبيدة وبلال وسعيد بن زيد وعمار بن ياسر وأبي سلمة وعبد الله بن جحش وغيرهم من نظرائهم ثم بعد هؤلاء أهل العقبة ثم أهل بدر ثم أهل المشاهد كلها مشهداً مشهداً فأهل كل مشهد أفضل من أهل المشهد الذي بعده حتى بلغ الأمر إلى الحديبية فكل من تقدم ذكره من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم إلى تمام بيعة الرضوان فإننا نقطع على غيب قلوبهم وأنهم كلهم مؤمنون صالحون ماتوا على الإيمان والهدى والبر وكلهم من أهل الجنة لا يلج أحد منهم النار البتة لقول الله تعالى " والسابقون أولئك المقربون في جنات النعيم " وكقوله عز وجل " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم " قال أبو محمد: فمن أخبرنا أن الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم رضي الله عنهم وأنزل السكينة عليهم فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم ولا الشك فيهم البتة ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة إلا صاحب الجمل الأحمر ولإخباره عليه السلام أنه لا يدخل النار أحد شهد بدراً ثم نقطع على أن كل من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنية صادقة ولو ساعة فإنه من أهل الجنة لا يدخل النار لتعذيب إلا أنهم لا يلحقون بمن أسلم قبل الفتح وذلك لقول الله عز وجل " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى " و قال تعالى " وعد الله لا يخلف الله وعده " و قال تعالى " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا(2/139)
يومكم الذي كنتم توعدون " فصح بالضرورة أن كل من أنفق قبل الفتح وقاتل فهو مقطوع على غيبه لتفضيل الله تعالى إياهم والله تعالى لا يفضل إلا مؤمناً فاضلاً وأما من أنفق بعد الفتح وقاتل فقد كان فيهم منافقون لم يعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف نحن قال الله تعالى " وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم " .
قال أبو محمد: فلهذا لم نقطع على كل امرئ منهم بعينه لكن نقول كل من لم يكن منهم من المنافقين فهو من أهل الجنة يقيناً لأنه قد وعدهم تعالى الحسنى كلهم وأخبر أنه لا يخلف وعده وإن من سبقت له الحسنى فهو مبعد من النار لا يسمع حسيسها ولا يحزنه الفزع الأكبر وهو فيما اشتهى خالد وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: لقد خاب وخسر من رد قول ربه عز وجل أنه رضي عن المبايعين تحت الشجرة وعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وقد علم كل أحد له أدنى علم أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير وعمار والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم من أهل هذه الصفة والخوارج والروافض قد انتظمت الطائفتان الملعونتان البرئة منهم خلافاً لله عز وجل وعناداً له ونعوذ بالله من الخذلان.(2/140)
قال أبو محمد: فهذا قولنا في الصحابة رضي الله عنهم فأما التابعون ومن بعدهم فلا نقطع على غيبهم واحداً واحداً إلا من بان منه احتمال المشقة في الصبر للدين ورفض الدنيا لغير غرض استعجله إلا أننا لا ندري على ما ذا مات وإن بلغنا الغاية في تعظيمهم وتوقيرهم والدعاء بالمغفرة والرحمة والرضوان لهم لكن نتولاهم جملة قطعاً ونتولى كل إنسان منهم بظاهره ولا نقطع على أحد منهم بجنة ولا نار لكن نرجو لهم ونخاف عليهم إذ لا نص في إنسان منهم بعينه ولا يحل الإخبار عن الله عز وجل إلا بنص من عنده لكن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيركم القرن الذي بعثت فيهم ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم ومعنى هذا الحديث إنما هو كل قرن من هذه القرون التي ذكر عليه السلام أكثر فضلاً بالجملة من القرن الذي بعده لا يجوز غير هذا البتة وبرهان ذلك أنه قد كان في عصر التابعين من هوا أفسق الفاسقين كمسلم بن عقبة المري وحبيش بن دلحة القيني والحجاج بن يوسف الثقفي وقتلة عثمان وقتلة ابن الزبير وقتلة الحسين رضي الله عنهم ولعن قتلتهم ومن بعثهم فمن خالفنا قولنا في هذا الخبر لزمه أن يقول أن هؤلاء الفساق الأخابث أفضل من كل فاضل في القرن الثالث ومن بعده كسفيان الثوري والفضيل بن عياض ومسعر بن كدام وشعبة ومنصور بن المعتمر ومالك والأوزاعي والليث وسفيان بن عيينة ووكيع وابن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه وداود بن علي رضي الله عنهم وهذا ما لا يقوله أحد وما يبعد أن يكون في زماننا وفيمن يأتي بعدنا من هو أفضل رجل من التابعين عند الله عز وجل إذ لم يأت في المنع من ذلك نص ولا دليل أصلاً والحديث المأثور في أويس القرني لا يصح لأن مداره على اسيد بن جابر وليس بالقوى وقد ذكر شعبة أنه سأل عمرو بن مرة وهو كوفي قرني مرادي من أشرف مراد وأعلمهم بهم عن اويس القرني فلم يعرفه في قومه وأما الصحابة رضي الله عنهم فبخلاف هذا ولا سبيل إلى أن(2/141)
يلحق أقلهم درجة أحد من أهل الأرض وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وذهب بعض الروافض إلى أن لذوي قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضلاً بالقرابة فقط واحتج بقول الله تعالى " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض " وبقوله عز وجل " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى " وبقوله تعالى " وأبعث فيهم رسولاً منهم " .
قال أبو محمد: وهذا كله لا حجة فيه أما إخباره تعالى بأنه اصطفى آل إبراهيم وآل عمران على العالمين فإنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يعني كل مؤمن فقد قال ذلك بعض العلماء أو يعني مؤمني أهل بيت إبراهيم وعمران لا يجوز غير هذا لأن آزر ولد إبراهيم عليه السلام كان كافراً هدواً لله لم يصطفه الله تعالى إلا لدخول النار فإن أراد الوجه الذي ذكرنا لم نمانعه ولا ننازعه في أن موسى وهارون من آل عمران وآل إسماعيل وإسحاق ويوسف ويعقوب من آل إبراهيم مصطفون على العالمين فأي حجة هاهنا لبني هاشم فإن ذكروا الدعاء المأمور به وهو اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد فالقول في هذا كما قلنا ولا فرق وهذا دعاء لكل مؤمن وقد قال تعالى " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ونزكيهم وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم صل على آل أبي أو في هذا الدعاء لهم بالصلاة على كل مؤمن ومؤمنة بلا خلاف وكذلك الدعاء في التشهد المفترض في كل صلاة من قول المصطفى السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فهذا السلام على كل مؤمن ومؤمنة فاستوى بنوا هاشم وغيرهم في اطلاق الدعاء بالصلاة عليهم وبالسلام عليهم ولا فرق و قال تعالى " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قال وا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة أولئك هم المهتدون " فوجبت صلوات الله تعالى على كل مؤمن صابر فاستوى في هذا كله بنوا هاشم وقريش والعرب(2/142)
والعجم من كان جميعهم بهذه الصفة وأيضاً فيلزم من احتج بقوله تعالى " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين " أن يقول إن من أسلم من الهارونيين من اليهود أفضل من بني هاشم وأشرف وأولى بالتقديم لأنه من آل عمران ومن آل إبراهيم وفيهم ورد النص.
قال أبو محمد: فصح يقيناً أن الله عز جل إنما أراد بذلك الأنبياء عليهم السلام فقط وبين هذا بياناً جلياً قول الله عز وجل حاكياً عن إبراهيم عليه السلام أنه قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين من ذرية إبراهيم عليه السلام الظالمين من ذرية غيره و قال عز وجل إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا فخص الله تعالى بولاية إبراهيم عليه السلام من اتبع إبراهيم كائناً من كان فدخل في هذا كل مؤمن ومؤمنة ولا فضل وأما قول الله عز وجل " قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى " فهذا حق على ظاهره وإنما أراد عليه السلام من قريش أن يودوه لقرابته منهم ولا يختلف أحد من الأمة في أنه عليه السلام لم يرد قط من المسلمين أن يودوا أبا لهب وهو عمه ولا شك في أنه عليه السلام أراد من المسلمين مودة بلال وعمار وصهيب وسلمان وسالم مولي أبي حذيفة وأما قوله عز وجل عن إبراهيم عليه السلام " وابعث فيهم رسولاً منهم " فقد قال عز وجل " وإن من أمة إلا خلا فيها نذير " و قال تعالى " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " فاستوت الأمم كلها في هذه الدعوة بأن يبعث فيهم رسولاً منهم ممن هم قومه فإن احتج محتج بالحديث الثابت الذي فيه أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم فمعناه ظاهر وهو أنه تعالى اختار كونه عليه السلام من بني هاشم وكون بني هاشم من قريش وكون قريش من كنانة وكون كنانة من بني إسماعيل كما اصطفى أن يكون موسى من بني لاوي وأن يكون بنوا لاوي من بني إسحاق عليه السلام وكل(2/143)
نبي من عشيرته التي هو منها ولا يجوز غير هذا البتة ونسأل من أراد حمل هذا الحديث على غير هذا المعنى أيدخل أحد من بني هاشم أو من قريش أو من كنانة أو من إسماعيل النار أم لا فإن أنكروا هذا كفروا وخالفوا الإجماع والقرآن والسنن وقد قال عليه السلام أبي وأبوك في النار وإن أبا طالب في النار وجاء القرآن بأن أبا لهب في النار وسائر كفار قريش في النار كذلك قال الله تعالى " تبت يد أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب " فإذا أقر بأنه قد يدخل النار منهم من يستحق أن يدخلها صحت المساواة بينهم وبين سائر الناس.(2/144)
قال أبو محمد: ويكذب هذا الظن الفاسد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً وأبين من هذا كله قول الله تعالى " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وقوله تعالى " لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم " وقوله تعالى " واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً " و قال تعالى وذكر عاداً وثموداً وقوم نوح وقوم لوط ثم قال " اكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر " فصح ضرورة أنه لا ينتفع أحد بقرابته من رسول الله صلى الله عليه ولا من نبي من الأنبياء والرسل عليهم السلام ولو أن النبي ابنه أو أبوه وأمه نبية وقد نص الله تعالى في ابن نوح ووالد إبراهيم وعم محمد على رسل الله الصلاة والسلام ما فيه الكفاية وقد نص الله تعالى على أن من أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا فصح ضرورة أن بلال وصهبا والمقداد وعمار وسالماً وسلمان أفضل من العباس وبنيه عبد الله والفضل وقم ومعبد وعبيد الله وعقيل بن أبي طالب والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعهم بشهادة الله تعالى فإذ هذا لا شك فيه ولا جزاء في الآخرة إلا على عمل ولا ينتفع عند الله تعالى بالأرحام ولا بالولادات وليست الدنيا دار جزاء فلا فرق بين هاشمي وقرشي وعربي وعجمي وحبشي وابن زنجية والكرم والفوز لمن اتقى الله عز وجل حدثنا محمد بن سعيد بن بيان أنبأنا أحمد بن عبد الله البصير حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا عبد السلام ابن الخثن حدثنا محمد بن المثني حدثنا عبد الرحمن مهدي حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن حسان بن فايد العبسي قال قال عمر بن الخطاب رضي(2/145)
الله عنه كرم الرجل دينه وحسبه خلقه وإن كان فارسياً أو نبطياً.
الكلام في حرب علي ومن حاربه من الصحابة رضي الله عنهم
قال أبو محمد: اختلف الناس في تلك الحرب على ثلاث فرق ف قال جميع الشيعة وبعض المرجئة وجمهور المعتزلة وبعض أهل السنة أن علياً كان المصيب في حربه وكل من خالفه على خطاء و قال واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وأبو الهذيل وطوائف من المعتزلة أن علياً مصيب في قتاله معاوية وأهل النهر ووقفوا في قتاله مع أهل الجمل و قال وا إحدى الطائفتين مخطئة ولا نعرف أيهما هي و قال ت الخوارج علي المصيب في قتاله أهل الجمل وأهل صفين وهو مخطئ في قتاله أهل النهر وذهب سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وجمهور الصحابة إلى الوقوف في علي وأهل الجمل وأهل صفين وبه يقول جمهور أهل السنة وأبو بكر بن كيسان وذهب جماعة من الصحابة وخيار التابعين وطوائف ممن بعدهم إلى تصويب محاربي علي من أصحاب الجمل وأصحاب صفين وهم الحاضرون لقتاله في اليومين المذكورين وقد أشار إلى هذا أيضاً أبو بكر بن كيسان.
قال أبو محمد: أما الخوارج فقد أوضحنا خطاؤهم وخطاء أسلافهم فيما سلف من كتابنا هذا حاشا احتجاجهم بإنكار تحكيم علي الحكمين فسنتكلم في ذلك إن شاء الله تعالى كما تكلمنا في سائر أحكامهم والحمد لله رب العالمين وأما من وقف فلا حجة له أكثر من أنه لم يتبين له الحق ومن لم يتبين له الحق فلا سبيل إلى مناظرته بأكثر من أن نبين له وجه الحق حتى يراه وذكروا أيضاً أحاديث في ترك القتال في الاختلاف سنذكر لكم جملتها إن شاء الله تعالى فلم يبق إلا الطائفة المصوبة لعلي في جميع حروبه والطائفة المصوبة لمن حاربه من أهل الجمل وأهل صفين.(2/146)
قال أبو محمد: احتج من ذهب إلى تصويب محاربي علي يوم الجمل ويوم صفين بأن قال إن عثمان رضي الله عنه قتل مظلوماً فالطلب بأخذ القود من قاتليه فرض قال عز وجل " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً " و قال تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " قال وا ومن آوى الظالمين فهو إما مشارك لهم وإما ضعيف عن أخذ الحق منهم قال وا وكلا الأمرين حجة في إسقاط إمامته على من فعل ذلك ووجوب حربه قال وا وما أنكروا على عثمان إلا أقل من هذا من جواز إنفاذ أشياء بغير علمه فقد ينفذ مثلها سراً ولا يعلمها أحد إلا بعد ظهورها قال وا وحتى لو أن كل ما أنكر على عثمان يصح ما حل بذلك قتله بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام لأنهم إنما أنكروا عليه استيثاراً بشيء يسير من فضلات الأموال لم يجب لأحد بعينه فمنعها وتولية أقاربه فلما شكو إليه عزلهم وأقام الحد على من استحقه وأنه صرف الحكم بن أبي العاص إلى المدينة ونفي رسول الله صلى الله عليه وسلم للحكم لم يكن حداً واجباً ولا شريعة على التأييد وإنما كان عقوبة على ذنب استحق به النفي والتوبة مبسوطة فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وصارت الأرض كلها مباحة وأنه ضرب عمارا خمسة أسواط ونفي أبا ذر إلى الربذة وهذا كله لا يبيح الدم قال وا وايوآء على المحدثين أعظم الأحداث من سفك الدم الحرام في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما دم الإمام وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم والمنع من غنفاذ الحق عليهم أشد من كل ما ذكرنا بلا شك قال وا وامتناع معاوية من بيعة علي كامتناع علي من بيعة أبي بكر فما حاربه أبو بكر ولا أكرهه وأبو بكر أقدر على علي من علي على معاوية ومعاوية في تأخره عن بيعة علي أعذر وأفسح م قال اً من علي في تأخره عن بيعة أبي بكر لأن علياً لم يمتنع من بيعة أبي بكر أحد من المسلمين غيره بعد أن بايعه الأنصار والزبير وأما(2/147)
بيعة علي فإن جمهور الصحابة تأخروا عنها إما عليه وإما لا له ولا عليه وما تابعه فيهم إلا الأقل سوى أزيد من مائة ألف مسلم بالشام والعراق ومصر والحجاز كلهم امتنع من بيعته فهل معاوية إلا كواحد من هؤلاء في ذلك وأيضاً فإن بيعة علي لم تكن على عهد من النبي صلى الله عليه وسلم كما كانت بيعة أبي بكر ولا عن إجماع من الأمة كما كانت بيعة عثمان ولا عن عهد من خليفة واجب الطاعة كما كانت بيعة عمر ولا بسوق بائن في الفضل على غيره لا يختلف ولا عن شورى فالقاعدون عنها بلا شك ومعاوية من جملتهم أعذر من علي في قعوده عن بيعة أبي بكر ستة أشهر حتى رآى البصيرة وراجع الحق عليه في ذلك قال وا فإن قلتم خفي على علي نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قلنا لكم لم يخف عليه بلا شك تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر إلى الصلاة وأمر علياً بأن يصلي ورآه في جماعة المسلمين فتأخره عن بيعة أبي بكر سعي منه في حطه عن مكان جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً لأبي بكر وسعي منه في فسخ نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تقديمه إلى الصلاة وهذا أشد من رد إنسان نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لذنب ثم تاب منه وأيضاً فإن علياً قد تاب واعترف بالخطأ لأنه إذا بايع أبو بكر بعد ستة أشهر تأخر فيها عن بيعته لا يخلو ضرورة من أحد وجهين إما أن يكون مصيباً في تأخره فقد أخطأ إذ بايع أو يكون مصيباً في بيعته فقد أخطأ إذ تأخر عنها قال وا والممتنعون من بيعة علي لم يعترفوا قط بالخطأ على أنفسهم في تأخرهم عن بيعته قال وا فإن كان فعلهم خطأ فهو أخف من الخطأ في تأخر علي عن بيعة أبي بكر وإن كان فعلهم صواباً فقد برئوا من الخطأ جملة قال وا والبون بين طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعلي خفي جداً فقد كانوا في الشورى معه لا يبدو له فضل شفوق عليهم ولا على واحد منهم وأما البون بين علي وأبي بكر أبين وأظهر فهم من امتناعهم عن بيعته أعذر(2/148)
لخفاء التفاضل قال وا وهلا فعل علي في قتلة عثمان كما فعل بقتلة عبد الله بن خباب بن الارت فإن القصتين استويا في التحريم فالمصيبة في قتل عثمان في الإسلام وعند الله عز وجل وعلى المسلمين أعظم جرماً وأوسع خرقاً وأشنع إثماً وأهول فيقاً من المصيبة في قتل عبد الله بن خباب قال وا وفعله في طلب دم عبد الله بن خباب
يقطع حجة من تأول على علي أنه يمكن أن يكون لا يرى قتل الجماعة بالواحد.ع حجة من تأول على علي أنه يمكن أن يكون لا يرى قتل الجماعة بالواحد.
قال أبو محمد: هذا كلما يمكن أن تحتج به هذه الطائفة قد تقصيناه ونحن إن شاء الله تعالى متكلمون على ما ذهبت إليه كل طائفة من هذه الطوائف حتى يلوح الحق في ذلك بعون الله تعالى وتأييده.
قال أبو محمد: نبدء بعون الله عز وجل بإنكار الخوارج للتحكيم.
قال أبو محمد: قال وا حكم على الرجال في دين الله تعالى والله عز وجل قد حرم ذلك بقوله " إن الحكم إلا لله " وبقوله تعالى " وما اختلفتم فيه شيء فحكمه إلى الله " .(2/149)
قال أبو محمد: ما حكم علي رضي الله عنه قط رجلاً في دين الله وحاشاه من ذلك وإنما حكم كلام الله عز وجل كما افترض الله تعالى عليه وإنما اتفق القوم كلهم إذ رفعت المصاحف على الرماح وتداعوا إلى ما فيها على الحكم بما أنزل الله عز وجل في القرآن وهذا هو الحق الذي لا يحل لأحد غيره لأن الله تعالى يقول " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " فإنما حكم علي رضي الله عنه أبا موسى وعمرو رضي الله عنهما ليكون كل واحد منهما مدلياً بحجة من قدمه وليكونا متخاصمين عن الطائفتين ثم حاكمين لمن أوجب القرآن الحكم له وإذ من المحال الممتنع الذي لا يمكن الذي لا يفهم لغط العسكرين أو أن يتكلم جميع أهل العسكر بحجتهم فصح يقيناً لا محيد عنه صواب علي في تحكيم الحكمين والرجوع إلى ما أوجبه القرآن وهذا الذي لا يجوز غيره ولكن أسلاف الخوارج كانوا أعراباً قرؤا القرآن قبل أن يتفقهوا في السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن فيهم أحد من الفقهاء لا من أصحاب ابن مسعود ولا أصحاب عمر ولا أصحاب علي ولا أصحاب عائشة ولا أصحاب أبي موسى ولا أصحاب معاذ بن جبل ولا أصحاب أبي الدرداء ولا أصحاب سليمان ولا أصحاب زيد وابن عباس وابن عمر ولهذا تجدهم يكفر بعضهم بعضاً عند اقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها فظهر ضعف القوم وقوة جهلهم وأنهم أنكروا ما قام البرهان الذي أوردنا بأنه حق ولو لم يكن من جهلهم لأقرب عهدهم بخير الأنصار يوم السقيفة وإذعانهم رضي الله عنهم مع جميع المهاجرين لوجب الأمر في قريش دون الأنصار وغيرهم وأن عهدهم بذلك قريب منذ خمسة وعشرين عاماً وأشهر وجمهورهم أدرك ذلك بسنة وثبت عند جميعهم كثبات أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا فرق لأن الذين نقلوا إليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقلوا إليهم القرآن والشرائع فدانوا بكل ذلك هم بأعيانهم لا زيادة فيهم ولا نقص نقلوا(2/150)
إليهم خبرة السقيفة ورجوع الأنصار إلى أن الأمر لا يكون إلا في قريش وهم يقرون ويقرؤن قوله تعالى " لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى " وقوله تعالى " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً " الآية وقوله تعالى " لقد رضي الله على المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً " ثم أعماهم الشيطان وضلهم الله تعالى على علم فحلوا بيعة مثل علي واعرضوا عن مثل سعيد بن زيد وابن عمر وغيرهم ممن أنفق من قبل الفتح وقاتل واعرضوا عن سائر الصحابة الذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا ووعدهم الله الحسنى وتركوا من يقرون بأن الله تعالى عز وجل علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم ورضي عنهم وبايعوا الله وتركوا جميع الصحابة وهم الأشداء على الكفار الرحماء بينهم الركع السجد المبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود المثني عليهم في التوراة والإنجيل من عند الله عز وجل الذين غاظ الله بهم الكفار المقطوع على أن باطنهم في الخير كظاهرهم لأن الله عز وجل شهد بذلك فلم يبايعوا أحداً منهم وبايعوا شيث بن ربعي مؤذن سجاح أيام ادعت النبوة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حتى تداركه الله عز وجل ففر عنهم وتبين لهم ضلالتهم فلم يقع اختيارهم إلا على عبد الله بن وهب الراسبي أعرابي بوال على عقبيه لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه ولا شهد الله له بخير قط فمن أضل ممن هذه سيرته واختياره ولكن حق لمن كان أحداً يمينه ذو خويصرة الذي بلغه ضعف عقله وقلة دينه إلى تجويره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكمه والاستدراك ورأى نفسه أورع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وهو يقر أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه وبه اهتدى وبه عرف الدين ولولاه لكان حماراً أو أضل ونعوذ بالله(2/151)
من الخذلان وأما الطائفة المصوبة للقاعدين فإن من لم يلح له الحق منهم فإنما يكلم حتى يبين له الحق فيلزمه المصير إليه فنقول وبالله تعالى التوفيق أنه قد صح ووجب فرض الإمامة بما ذكرنا قبل في إيجاب الإمامة وإذ هي فرض فلا يجوز تضييع الفرض وإذ ذلك كذلك فالمبادرة إلى تقديم إمام عند موت الإمام فرض واجب وقد ذكرنا وجوب الايتمام بالإمام فإذ هذا كله كما ذكرنا فإذ مات عثمان رضي الله عنه وهو الإمام ففرض إقامة إمام ياتم به الناس لئلا يبقوا بلا إمام فإذ بادر علي فبايعه واحد من المسلمين فصاعداً فهو إمام قائم ففرض طاعته لا سيما ولم يتقدم ببيعته بيعة ولم ينازعه الإمامة أحد ما فهذا أوضح وواجب في وجوب إمامته وصحة بيعته ولزوم أمرته للمؤمنين فهو الإمام بحقه وما ظهر منه قط إلى أن مات رضي الله عنه شيء يوجب نقض بيعته وما ظهر منه قط إلا العدل والجد والبر والتقوى كما لو سبقت بيعة طلحة أو الزبير أو سعد أو سعيد أو من يستحق الإمامة لكانت أيضاً بيعة حق لازمة لعلي ولغيره ولا فرق فعلي مصيب في الدعاء إلى نفسه وإلى الدخول تحت أمامته وهذا برهان لا محيد عنه وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن كان معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا جددوا بيعة لغيره هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه بل يقطع كل ذي علم على أن كل ذلك لم يكن فإذ لا شك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافاً عليه ولا نقضاً لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته هذا ما لا شك فيه أحد ولا ينكره أحد فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الاراغة والتدبير عليهم فبينوا(2/152)
عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم في دعوى حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بدأ بها بالقتال واختلط الأمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه والفسقة من قتلة عثمان لا يغترون من شن الحرب وإضرامه فكلتي الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها ورجع الزبير وترك الحرب بحالها وأتى طلحة سهم غاير وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الاختلاط فصادف جرحاً في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف ومات من وقته رضي الله عنه وقتل الزبير رضي الله عنه بوادي السباع على أقل من يوم من البصرة فهكذا كان الأمر وكذلك كان قتل عثمان رضي الله عنه إنما حاصره المصريون ومن لف لفهم يديرونه عن إسلام مروان إليهم وهو رضي الله عنه يأبى من ذلك ويعلم أنه إن أسلمه قتل دون تثبت فهو على ذلك وجماعات من الصحابة فهم الحسن والحسين أبناء علي وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وغيرهم في نحو سبعماية من الصحابة وغيرهم معه في الدار يحمونه وينفلتون إلى القتال فيردعهم تثبتاً إلى أن تسوروا عليه من خوخة في دار ابن حزم الأنصاري جاره غيلة فقتلوه ولا خبر من ذلك عند أحد لعن الله من قتله والراضين بقتله فما رضي أحد منهم قط بقتله ولا علموا أنه يراد قتله لأنه لم يأت منه شيء يبيح الدم والحرام وأما قوله من قال أنه رضي الله عنه أقام مطروحاً على مزبلة ثلاثة أيام فكذب بحت وأفك موضوع وتوليد من لا حياء في وجهه بل قتل عشية ودفن من ليلته رضي الله عنه شهد دفنه طائفة من الصحابة وهم جبير بن مطعم وأبو الجهم بن حذيفة وعبد الله بن الزبير ومكرم بن نيار وجماعة غيرهم هذا مما لا يتمادى فيه أحد ممن له علم بالأخبار ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برمي أجساد قتلا الكفار من قريش يوم بدر في القليب وألقى التراب عليهم وهم شر خلق(2/153)
الله تعالى وأمر عليه السلام أن يحفر أخاديد لقتلى يهود قريظة وهم شر من وارته الأرض فمواراة المؤمن والكافر فرض على المسلمين فكيف يجوز لذي حياء في وجهه أن ينسب إلى علي وهو الإمام ومن بالمدينة من الصحابة أنهم تركوا رجلاً ميتاً ملقى بين أظهرهم على مزبلة لا يوارونه ولا نبالي مؤمناً كان أو كافراً ولكن الله يأبى إلا أن يفضح الكذابين بألسنتهم ولو فعل هذا علي لكانت جرحة لأنه لا يخلو أن يكون عثمان كافراً أو فاسقاً أو مؤمناً فإن كان كافراً أو فاسقاً عنده فقد كان فرضاً على علي أن يفسخ أحكامه في المسلمين فإذا لم يفعل فقد صح أنه كان مؤمناً عنده فكيف يجوز أن ينسب ذو حياء إلى علي أنه ترك مؤمناًمطروحاً ميتاً على مزبلة لا يأمر بمواراته أم كيف يجوز أن يظن به أنه أنفذ أحكام كافراً أو فاسق على أهل الإسلام ما أحد أسوأ ثناء على علي من هؤلاء الكذبة الفجرة. يأمر بمواراته أم كيف يجوز أن يظن به أنه أنفذ أحكام كافراً أو فاسق على أهل الإسلام ما أحد أسوأ ثناء على علي من هؤلاء الكذبة الفجرة.(2/154)
قال أبو محمد: ومن البرهان على صحة ما قلناه أن من الجهل الفاضح أن يظن ظان أن علياً رضي الله عنه بلغ من التناقض في أحكامه وإتباع الهوى في دينه والجهل أن يترك سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد وزيد بن ثابت وحسان بن ثابت ورافع بن خديج ومحمد بن مسلمة وكعب بن مالك وسائر الصحابة الذين لم يبايعوه فلا يجهزهم علياً وهم معه في المدينة وغيرها نعم والخوارج وهم يصيحون في نواحي المسجد بأعلا أصواتهم بحضرته وهو على المنبر في مسجد الكوفة لا حكم إلا الله لا حكم إلا الله فيقول لهم رضي الله عنه لكم علينا ثلاث لا نمنعكم المساجد ولا نمنعكم حقكم من الفيء ولا نبدؤكم بقتال ولم يبدءوهم بحرب حتى قتلوا عبد الله بن خباب ثم لم يقاتلهم بعد ذلك حتى دعاهم إلى أن يسلموا إليه قتلة عبد الله بن خباب فلما قال وا كلنا قتله قاتلهم حينئذ ثم يظن به مع هذا كله أنه يقاتل أهل الجهل لامتناعهم من بيعته هذا أفك ظاهر وجنون مختلف وكذب بحت بلا شك.(2/155)
قال أبو محمد: وأما أمر معاوية رضي الله عنه فبخلاف ذلك ولم يقاتله علي رضي الله عنه لامتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره لكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجبة طاعته فعلي المصيب في هذا ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده اداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه عن ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت وهو أخو المقتول و قال له كبر كبر وروى الكبر الكبر فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة أبناء مسعود وهما ابنا عم المقتول لأنهما كان أسن من أخيه فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط فله أجر الاجتهاد في ذلك ولا إثم عليه فيما حرم من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم أجراً واحداً وللعصيب أجرين ولا عجب أعجب ممن يجيز الاجتهاد في الدماء وفي الفروج والأنساب والأموال والشرائع التي يدان الله بها من تحريم وتحليل وإيجاب ويعذر المخطئين في ذلك ويرى ذلك مباحاً لليث والبتي وأبي حنيفة والثوري ومالك والشافعي وأحمد وداوود وإسحاق وأبي ثور وغيرهم كزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وابن القاسم وأشهب وابن الماجشون والمزني وغيرهم فواحد من هؤلاء يبيح دم هذا الإنسان وآخر منهم يحرمه كمن حارب ولم يقتل أو عمل عمل قوم لوط وغير هذا كثير وواحد منهم يبيح هذا الفرج وآخر منهم يحرمه كبكر أنكحها أبوها وهي بالغة عاقلة بغير إذنها ولا رضاها وغير هذا كثير وكذلك في الشرائع والأوامر والأنساب وهكذا فعلت المعتزلة بشيوخهم(2/156)
كواصل وعمرو وسائر شيوخهم وفقهائهم وهكذا فعلت الخوارج بفقهائهم ومفتيهم ثم يضيقون ذلك على من له الصحبة والفضل والعلم والتقدم والاجتهاد كمعاوية وعمرو ومن معهما من الصحابة رضي الله عنهم وإنما اجتهدوا في مسائل دماء كالتي اجتهد فيها المفتون وفي المفتيين من يرى قتل الساحر وفيهم من لا يراه وفيهم من يرى قتل الحر بالعبد وفيهم من لا يراه وفيهم من يرى قتل المؤمن بالكافر وفيهم من لا يراه فأي فرق بين هذه الاجتهادات واجتهاد معاوية وعمرو وغيرهما لولا الجهل والعمى والتخليط بغير علم وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه وقاتل دونه فإنه يجب على الإمام أن يقاتله وإن كان منا وليس ذلك بموثر في عدالته وفضله ولا بموجب له فسقاً بل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب الخير فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عنه وصحة إمامته وأنه صاحب الحق وإن له أجرين أجر الاجتهاد وأجر الإصابة وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجراً واحداً وأيضاً في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن ماوقة تمرق بين طائفتين من أمته يقتلها أولى الطائفتين بالحق فمرقت تلك المارقة وهم الخوارج من أصحاب علي وأصحاب معاوية فقتلهم علي وأصحابه فصح أنهم أولي الطائفتين بالحق وأيضاً الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتل عمارا الفئة الباغية.(2/157)
قال أبو محمد: المجتهد المخطي إذا قاتل على ما يرى أنه الحق قاصداً الله تعالى نيته غير عالم بأنه مخطئ فهو فئة باغية وإن كان مأجوراً ولا حد عليه إذا ترك القتال ولا قود وأما إذا قاتل وهو يدري أنه مخطئ فهذا محارب تلزمه المحاربة والقود وهذا يفسق ويخرج لا المجتهد المخطي وبيان ذلك قول الله تعالى " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " إلى قوله " إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم " فهذا نص قولنا دون تكلف تأويل ولا زوال عن موجب ظاهر الآية وقد سماهم الله عز وجل مؤمنين باعين بعضهم أخوة بعض في حين تقاتلهم وأهل العدل المبغي عليهم والمأمورين بالإصلاح بينهم وبينهم ولم يصفهم عز وجل بفسق من أجل ذلك التقاتل ولا بنقص إيمان وإنما هم مخطئون فقط باغون ولا يريد واحد منهم قتل آخر وعمار رضي الله عنه قتله أبو العادية يسار ابن سبع السلمي شهد بيعة الرضوان فهو من شهداء الله له بأنه علم ما في قلبه وأنزل السكينة عليه ورضي عنه فأبو العادية رضي الله عنه متأول مجتهد مخطي فيه باغ عليه مأجور أجراً واحداً وليس هذا كقتلة عثمان رضي الله عنه لأنهم لا مجال للاجتهاد في قتله لأنه لم يقتل أحداً ولا حارب ولا قاتل ولا دافع ولا زنا بعد احصان ولا ارتد فيسوغ المحاربة تأويل بل هم فساق محاربون سافكون دماً حراماً عمداً بلا تأويل على سبيل الظلم والعدوان فهم فساق ملعونون.(2/158)
قال أبو محمد: فإذ قد بطل هذا الأمر وصح أن علياً هو صاحب الحق فالأحاديث التي فيها التزام البيوت وترك القتال إنما هو بلا شك فيمن لم يلح له يقين الحق أين هو وهكذا نقول فإذا تبين الحق فقتال الفئة الباغية فرض بنص القرآن وكذلك إن كانت معاً باغيتين فقتالهما واجب لأن كلام الله عز وجل لا يعارض كلام نبيه صلى الله عليه وسلم لأنه كله من عند الله عز وجل قال الله عز وجل " وما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى " و قال عز وجل " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح يقيناً أن كل ما قال ه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وحي من عند الله عز وجل وإذ هو كذلك فليس شيء مما عند الله تعالى مختلفاً والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد: فلم يبق إلا الكلام على الوجوه التي اعترض بها من رأى قتال علي رضي الله عنه.(2/159)
قال أبو محمد: فنقول وبالله تعالى التوفيق أما قولهم إن أخذ القود واجب من قتلة عثمان رضي الله عنه المحاربين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم الساعين في الأرض بالفساد والهاتكين حرمة الإسلام والحرم والإمامة والهجرة والخلافة والصحبة والسابقة فنعم وما خالفهم قط علي في ذلك ولا في البرآءة منهم ولكنهم كانوا عدداً ضخماً جماً لا طاقة له عليهم فقد سقط عن علي رضي الله عنه ما لا يستطيع عليه كما سقط عنه وعن كل مسلم ما عجز عنه من قيام بالصلاة والصوم والحج ولا فرق قال الله تعالى " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ولو أن معاوية بايع علياً لقوي به على أخذ الحق من قتلة عثمان فصح أن الاختلاف هو الذي أضعف يد علي عن إنفاذ الحق عليهم ولولا ذلك لأنفذ الحق عليهم كما أنفذه على قتلة عبد الله بن خباب إذ قدر على مطالبة قتلته وأما تأسي معاوية في امتناعه من بيعة علي بتأخر علي عن بيعة أبي بكر فليس في الخطأ أسوة وعلي قد است قال ورجع وبايع بعد يسير فلو فعل معاوية مثل ذلك لأصاب ولبايع حينئذ بلا شك كل من امتنع من الصحابة من البيعة من أجل الفرقة وأما تقارب ما بين علي وطلحة والزبير وسعد فنعم ولكن من سبقت بيعته وهو من أهل الاستحقاق والخلافة فهو الإمام الواجبة طاعته فيما أمر به من طاعة الله عز وجل سوآء كان هنالك من هو مثله أو أفضل كما سبقت بيعة عثمان فوجبت طاعته وإمامته على غيره ولو بويع هنالك حينئذ وقت الشورى علي أو طلحة أو الزبير أو عبد الرحمن أو سعد لكان الإمام وللزمت عثمان طاعته ولا فرق فصح أن علياً هو صاحب الحق والإمام المفترضة طاعته ومعاوية مخطئ مأجور مجتهد وقد يخفى الصواب على الصاحب العالم فيما هو أبين وأوضح من هذا الأمر من أحكام الدين فربما رجع إذا استبان له وربما لم يستبن له حتى يموت عليه وما توفيقنا إلا بالله عز وجل وهو المسئول(2/160)
العصمة والهداية لا إله إلا هو.
قال أبو محمد: فطلب علي حقه فقاتل عليه وقد كان تركه ليجمع كلمة المسلمين كما فعل الحسن ابنه رضي الله عنهما فكان له بذلك فضل عظيم قد تقدم به إنذار رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من أمتي فغبطه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ومن ترك حقه رغبة في حقن دماء المسلمين فقد أتى من الفضل بما لا وراء ولا لوم عليه بل هو مصيب في ذلك وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في إمامة المفضول
قال أبو محمد: ذهبت طوائف من الخوارج وطوائف من العتزلة وطوائف من المرجئة منهم محمد بن الطيب الباقلاني ومن اتبعه وجميع الرافضة من الشيعة إلى أنه لا يجوز إمامة من يوجد في الناس أفضل منه وذهبت طائفة من الخوارج وطائفة من المعتزلة وطائفة من المرجئة وجميع الزيدية من الشيعة وجميع أهل السنة إلى أن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه.(2/161)
قال أبو محمد: وأما الرافضة فقالوا إن الإمام واحد معروف بعينه في العالم على ما ذكرنا من أقوالهم الذي قد تقدم إفسادنا لها والحمد لله رب العالمين وما نعلم لمن قال أن الإمامة لا تجوز إلا لأفضل من يوجد حجة أصلاً لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من صحة عقل ولا من قياس ولا قول صاحب وما كان هكذا فهو أحق قول بالاطراح وقد قال أبو بكر رضي الله عنه يوم السقيفة قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين يعني أبا عبيدة وعمر وأبو بكر أفضل منهما بلا شك فما قال أحد من المسلمين أنه قال من ذلك بما لا يحل في الدين ودعت الأنصار إلى بيعة سعد بن عبادة وفي المسلمين عدد كثير كلهم أفضل منه بلا شك فصح بما ذكرنا إجماع جميع الصحابة رضي الله عنهم على جواز إمامة المفضول ثم عهدهم عمر رضي الله عنه إلى ستة رجال ولا بد أن لبعضهم على بعض فضلاً وقد أجمع أهل الإسلام حينئذ على أنه إن بويع أحدهم فهو الإمام الواجبة طاعته وفي هذا إطباق منهم على جواز إمامة المفضول ثم مات علي رضي الله عنه فبويع الحسن ثم سلم الأمر إلى معاوية وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل فكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية ورأى إمامته وهذا إجماع متيقن بعد إجماع على جواز إمامة من غيره أفضل بيقين لا شك فيه إلى أن حدث من لا وزن له عند الله تعالى فخرقوا الإجماع بآرائهم الفاسدة بلا دليل ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد: والعجب كله كيف يجتمع قول الباقلاني أنه لا تجوز الإمامة لمن غيره من الناس أفضل منه وهو قد جوز النبوة والرسالة لمن غيره من الناس أفضل منه فإنه صرح فيما ذكره عنه صاحبه أبو جعفر السمناني الأعمى قاضي الموصل بأنه جائز أن يكون في الأمة من هو أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حين بعث إلى أن مات.(2/162)
قال أبو محمد: ما في خذلان الله عز وجل أحق من هاتين القضيتين لا سيما إذا اقترنتا والحمد لله على الإسلام فإن قال قائل كيف تحتجون هنا بقول الأنصار رضي الله عنهم في دعائهم إلى سعد بن عبادة وهو عندكم خطأ وخلاف للنص من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف تحتجون في هذا أيضاً بقول أبي بكر رضيت لكم أحد هذين وخلافة أبي بكر عندكم نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أين له أن يترك ما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا وبالله تعالى التوفيق إن فعل الأنصار رضي الله عنهم انتظم حكمين أحدهما تقديم من ليس قرشياً وهذا خطأ وقد خالفهم فيه المهاجرون فسقطت هذه القضية والثاني جواز تقديم من غيره أفضل منه وهذا صواب وافقهم عليه أبو بكر وغيره فصار إجماعاً فقامت به الحجة وليس خطأ من أخطأ في قول وخالفه فيه من أصاب الحق بموجب أن لا يحتج بصوابه الذي وافقه فيه أهل الحق وهذا ما لا خلاف فيه وبالله تعالى التوفيق وأما أمر أبي بكر فإن الحق كله له بالنص وللمرء أن يترك حقه إذا رأى في تركه إصلاح ذات بين المسلمين ولا فرق بين عطية أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين منزلة صبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان فكان له أن يتجافى عنها لغيره إذ لم يمنعه من ذلك نص ولا إجماع وبالله تعالى التوفيق.(2/163)
قال أبو محمد: وبرهان صحة قول من قال بأن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه وبطلان قول من خالف ذلك أنه لا سبيل إلى أن يعرف الأفضل إلا بنص أو إجماع أو معجزة تظهر فالمعجزة ممتنعة هاهنا بلا خلاف وكذلك الإجماع وكذلك النص وبرهان آخر وهو أن الذي كلفوا به من معرفة الأفضل ممتنع محال لأن قريشاً مفترقون في البلاد من أقصى السند إلى أقصى الأندلس إلى أقصى اليمن وصحاري البربر إلى أقصى أرمينية وأذربيجان وخراسان فما بين ذلك من البلاد فمعرفة أسمائهم ممتنع فكيف معرفة أحوالهم فكيف معرفة أفضلهم وبرهان آخر وهو أنا بالحس والمشاهدة ندري أنه لا يدري أحد فضل إنسان على غيره ممن بعد الصحابة رضي الله عنهم إلا بالظن والحكم بالظن لا يحل قال الله تعالى ذاماً لقوم " إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين " و قال تعالى " ما لهم بذلك من علم أن هم إلا يخرصون " و قال تعالى " قتل الخراصون " و قال تعالى " إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى " و قال تعالى " إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً " و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وأيضاً فإننا وجدنا الناس يتباينون في الفضائل فيكون الواحد أزهد ويكون الواحد أورع ويكون الآخر أسوس ويكون الرابع أشجع ويكون الخامس أعلم وقد يكونون متقاربين في التفاضل لا يبين التفاوت بينهم فبطل معرفة الأفضل وصح أن هذا القول فاسد وتكليف ما لا يطاق وإلزام ما لا يستطاع وهذا باطل لا يحل والحمد لله رب العالمين ثم قد وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قلد النواحي وصرف تنفيذ جميع الأحكام التي تنفذها الأئمة إلى قوم كان غيرهم بلا شك أفضل منهم فاستعمل على أعمال اليمن معاذ بن جبل وأبا موسى وخالد بن الوليد وعلي عمان عمرو بن العاص وعلى نجران أبا سفيان وعلى مكة عتاب ابن أسيد وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص وعلى البحرين(2/164)
العلاء بن الحضرمي ولا خلاف في أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة وابن مسعود وبلال وأبا ذر أفضل ممن ذكرنا فصح يقيناً أن الصفات التي يستحق بها الإمامة والخلافة ليس منها التقدم في الفضل وأيضاً فإن الفضائل كثيرة جداً منها الورع والزهد والعلم والشجاعة والسخاء والحلم والعفة والصبر والصرامة وغير ذلك ولا يوجد أحد يبين في جميعها بل يكون بائناً في بعضها ومتأخراً في بعضها ففي أيها يراعي الفضل من لا يجيز إمامة المفضول فإن اقتصر على بعضها كان مدعياً بلا دليل وإن عم جميعها كلف من لا سبيل إلى وجوده أبداً في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذ لا شك في ذلك فقد صح القول في إمامة المفضول وبطل قول من قال غير ذلك وبالله تعالى التوفيق.(2/165)
قال أبو محمد: وذكر الباقلاني في شروط الإمامة أنها أحد عشر شرطاً وهذا أيضاً دعوى بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل فوجب أن ينظر في شروط الإمامة التي لا تجوز الإمامة لغير من هن فيه فوجدناها أن يكون صليبة من قريش لإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الإمامة فيهم وأن يكون بالغاً مميزاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة فذكر الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق وأن يكون رجلاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة وأن يكون مسلماً لأن الله تعالى يقول " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " والخلافة أعظم السبيل ولأمره تعالى باصغار أهل الكتاب وأخذهم بأداء الجزية وقتل من لم يكن من أهل الكتاب حتى يسلموا وأن يكون متقدماً لأمره عالماً بما يلزمه من فرائض الدين متقياً لله تعالى بالجملة غير معلن بالفساد في الأرض لقول الله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " لأن من قدم من لا يتق الله عز وجل ولا في شيء من الأشياء أو معلناً بالفساد في الأرض غير مأمون أو من لا ينفذ أمراً أو من لا يدري شيئاً من دينه فقد أعان على الإثم والعدوان ولم يعن على البر والتقوى وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمل ليس عليه أمرنا فهو رد و قال عليه السلام يا أبا ذر إنك ضعيف لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم و قال تعالى " فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً " الآية فصح أن السفيه والضعيف ومن لا يقدر على شيء فلا بد له من ولي ومن لا بد له من ولي فلا يجوز أن يكون ولياً للمسلمين فصح أن ولاية من لم يستكمل هذه الشروط الثمانية باطل لا يجوز ولا ينعقد أصلاً ثم يستحب أن يكون عالماً بما يخصه من أمور الدين من العبادات والسياسة والأحكام مؤدياً للفرائض كلها لا يخل بشيء منها مجتنباً لجميع الكبائر سراً وجهراً مستتراً بالصغائر إن كانت منه فهذه(2/166)
أربع صفات يكره أن يلي الأمة من لم ينتظمها فإن ولي فولايته صحيحة ونكرهها وطاعته فيما أطاع الله فيه واجبة ومنعه مما لم يطع الله فيه واجب والغاية المأمولة فيه أن يكون رفيقاً بالناس في غير ضعف شديداً في إنكار المنكر من غير عنف ولا تجاوز للواجب مستيقظاً غير غافل شجاع النفس غير مانع للمال في حقه ولا مبذر له في غير حقه ويجمع هذا كله أن يكون الإمام قائماً بأحكام القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا يجمع كل فضيلة.
قال أبو محمد: ولا يضر الإمام أن يكون في خلقه عيب كالأعمى والأصم والأجدع والأجذم والأحدب والذي لا يدان له ولا رجلان ومن بلغ الهرم ما دام يعقل ولو أنه ابن مائة عام ومن يعرض له الصرع ثم يفيق ومن بويع أثر بلوغه الحلم وهو مستوف لشروط الإمامة فكل هؤلاء إمامتهم جائزة إذ لم يمنع منها نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا نظر ولا دليل أصلاً بل قال تعالى " كونوا قوامين بالقسط " فمن قام بالقسط فقد ادى ما أمر به ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها ولا في أنها لا تجوز لمن لم يبلغ حاشا الروافض فإنهم أجازوا كلا الأمرين ولا خلاف بين أحد في أنها لا تجوز لامرأة وبالله تعالى نتأيد.
الكلام في عقد الإمامة بماذا تصح
قال أبو محمد: ذهب قوم إلى أن الإمامة لا تصح إلا بإجماع فضلاء الأمة في أقطار البلاد وذهب آخرون إلى أن الإمامة إنما تصح بعقد أهل حضرة الإمام والموضع الذي فيه قرار الأئمة وذهب أبو علي بن عبد الوهاب الجبائي إلى أن الإمامة لا تصح بأقل من عقد خمس رجال ولم يختلفوا في أن عقد الإمامة تصح بعهد من الإمام الميت إذا قصد فيه حسن الاختيار للأمة عند موته ولم يقصد بذلك هوي وقد ذكر في فساد قول الروافض وقول الكيسانية ومن ادعى إمامة رجل بعينه وأنبأ أن كل ذلك دعاو لا يعجز عنها ذو لسان إذا لم يتق الله ولا استحياء من الناس إذ لا دليل على شيء منها.(2/167)
قال أبو محمد: أما من قال أن الإمامة لا تصح إلا بعقد فضلاء الأمة في أقطار البلاد فباطل لأنه تكليف ما لا يطاق وما ليس في الوسع وما هو أعظم الحرج والله تعالى لا يكلف نفساً و قال تعالى " وما جعل في الدين من حرج " .
قال أبو محمد: ولا حرج ولا تعجيز أكثر من تعرف إجماع فضلاء من في المولتان والمنصورة إلى بلاد مهرة إلى عدن إلى أقاصي المصامدة إلى طنجة إلى الأشبونة إلى جزائر البحر إلى سواحل الشام إلى أرمينية وجبل القبج إلى اسبنجاب وفرغانة واسروسنه إلى أقاصي خراسان إلى الجوزجان إلى كابل المولتان فما بين ذلك من المدن والقرى ولا بد من ضياع أمور المسلمين قبل أن يجمع جزء من مائة جزء من فضلاء أهل هذه البلاد فبطل هذا القول الفاسد مع أنه لو كان ممكناً لما لزم لأنه دعوى بلا برهان وإنما قال تعالى " تعاونوا على البر والتقوى وكونوا قوامين بالقسط " فهذان الأمران متوجهان أحدهما إلى كل إنسان في ذاته ولا يسقط عنه وجوب القيام بالقسط انتظار غيره في ذلك وأما التعاون على البر والتقوى فمتوجه إلى كل اثنين فصاعداً لأن التعاون فعل من فاعلين وليس فعل واحد ولا يسقط عن الاثنين فرض تعاونهما على البر والتقوى انتظار ثالث إذ لو كان ذلك لما لزم أحداً قيا بقسط ولا تعاون على بر وتقوى إذ لا سبيل إلى اجتماع أهل الأرض على ذلك أبداً لتباعد أقطارهم ولتخلف من تخلف عن ذلك لعذر أو على وجه المعصية ولو كان هذا لكان أمر الله تعالى بالقيام بالقسط وبالتعاون على البر والتقوى باطلاً فارغاً وهذا خروج عن الإسلام فسقط القول المذكور وبالله تعالى التوفيق وأما قول من قال أن عقد الإمامة لا يصح إلا بعقد أهل حضرة الإمام وأهل الموضع الذي فيه قرار الأئمة فإن أهل الشام كانوا قد ادعوا ذلك لأنفسهم حتى حملهم ذلك على بيعة مروان وابنه عبد الملك واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام.(2/168)
قال أو محمد: وهو قول فاسد لا حجة لأهله وكل قول في الدين عرى عن ذلك من القرآن أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من إجماع الأمة المتيقن فهو باطل بيقين قال الله تعالى " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فليس صادقاً فيه فسقط هذا القول أيضاً وأما قول الجبائي فإنه تعلق فيه بفعل عمر رضي الله عنه في الشورى إذ قلدها ستة رجال وأمرهم أن يختاروا واحداً منهم فصار الاختيار منهم بخمسة فقط.(2/169)
قال أبو محمد: وهذا ليس شيء لوجوه أولها أن عمر لم يقل أن تقليد الاختيار أقل من خمسة لا يجوز بل قد جاء عنه أنه قال إن مال ثلاثة منهم إلى واحد وثلاثة إلى واحد فاتبعوا الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن ابن عوف فقد أجاز عقد ثلاثة ووجه ثان وهو أن فعل عمر رضي الله عنه لا يلزم الأمة حتى يوافق نص قرآن أو سنة وعمر كسائر الصحابة رضي الله عنهم لا يجوز أن يخصه بوجوب اتباعه دون غيره من الصحابة رضي الله عنهم والثالث أن أولئك الخمسة رضي الله عنهم قد تبرؤا من الاختيار وجعلوه إلى واحد منهم يختار لهم وللمسلمين من رآه أهلاً للإمامة وهو عبد الرحمن بن عوف وما أنكر ذلك أحد من الصحابة الحاضرين ولا الغائبين إذ بلغهم ذلك فقد صح إجماعهم على أن الإمامة تنعقد بواحد فإن قال قائل إنما جاز ذلك لأن خمسة من فضلاء المسلمين قلدوه قيل له إن كل هذا عندك اعتراضاً فالتزم مثله سواء سواء ممن قال لك إنما صح عقد أولئك الخمسة لأن الإمام الميت قلدهم ذلك ولولا ذلك لم يجز عقدهم وبرهان ذلك أنه إنما عقد لهم الاختيار منهم لا من غيرهم فلو اختاروا من غيرهم لما لزم الانقياد لهم فلا يجوز عقد خمسة أو أكثر إلا إذا قلدهم الإمام ذلك أو ممن قال لك إنما صح عقد أولئك الخمسة لإجماع فضلاء أهل ذلك العصر على الرضا بمن اختاروه ولو لم يجمعوا على الرضا به لما جاز عقدهم وهذا مما لا مخلص منه أصلاً فبطل هذا القول بيقين لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين فإذ قد بطلت هذه الأقوال كلها فالواجب النظر في ذلك على ما أوجبه الله تعالى في القرآن والسنة وإجماع المسلمين كما افترض علينا عز وجل إذ يقول " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " فوجدنا عقد الإمامة يصح بوجوه أولها وأفضلها وأصحها أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته وسواء فعل ذلك في صحته أو في مرضه(2/170)
وعند موته إذ لا نص ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي بكر وكما فعل أبو بكر بعمر وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز وهذا هو الوجه الذي نختاره ونكره غيره لما في هذا الوجه من اتصال الإمامة وانتظام أمر الإسلام وأهله ورفع ما يتخوف من الاختلاف والشغب مما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى ومن انتشار الأمر وارتفاع النفوس وحدوث الأطماع.
قال أبو محمد: إنما أنكر من أنكر من الصحابة رضي الله عنهم ومن التابعين بيعة يزيد بن معاوية والوليد وسليمان لأنهم كانوا غير مرضيين لا لأن الإمام عهد إليهم في حياته والوجه الثاني إن مات الإمام ولم يعهد إلى أحد أن يبادر رجل مستحق للإمامة فيدعوا لي نفسه ولا منازع له ففرض أتباعه والانقياد لبيعته والتزام إمامته وطاعته كما فعل علي إذ قتل عثمان رضي الله عنهما وكما فعل ابن الزبير رضي الله عنهما وقد فعل ذلك خالد بن الوليد إذ قتل الأمراء زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة فأخذ خالد الراية عن غير أمره وصوب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بلغه فعله وساعد خالداً جميع المسلمين رضي الله عنهم أو أن يقوم كذلك عند ظهور منكر يراه فتلزم معاونته على البر والتقوى ولا يجوز التأخر عنه لأن لك معاونة على الإثم والعدوان وقد قال عز وجل " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " كما فعل زيد بن الوليد ومحمد بن هارون المهدي رحمهم الله والوجه الثالث أن يصير الإمام عند وفاته اختيار خليفة المسلمين إلى رجل ثقة أو إلى أكثر من واحد كما فعل عمر رضي الله عنه عند موته وليس عندنا في هذا الوجه إلا التسليم لما أجمع عليه المسلمون حينئذ ولا يجوز التردد في الاختيار أكثر من ثلاث ليال للثبات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله من بات ليلة ليس في عنقه بيعة ولأن المسلمين لم يجتمعوا على ذلك أكثر من ذلك(2/171)
والزيادة على ذلك باطل لا يحل على أن المسلمين يومئذ من حين موت عمر رضي الله عنه قد اعتقدوا بيعة لازمة في أعناقهم لازمة لأحد أولئك الستة بلا شك فهم وإن لم يعرفوه بعينه فهو بلا شك واحد من أولئك الستة فبأحد هذه الوجوه تصح الإمامة ولا تصح بغير هذه الوجوه البتة.
قال أبو محمد: فإن مات الإمام ولم يعهد إلى إنسان بعينه فوثب رجل يصلح للإمامة فبايعه واحد فأكثر ثم قام آخر ينازعه ولو بطرفة عين بعده فالحق حق الأول وسواء كان الثاني أفضل منه أو مثله أو دونه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فوابيعة الأول فالأول من جاء ينازعه فاضربوا عنقه كائناً من كان فلو قام اثنان فصاعداً معاً في وقت واحد ويئس من معرفة أيهما سبقت بيعته نظر أفضلهما وأسوسهما فالحق له ووجب نزع الآخر لقول الله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ومن البر تقليد الاسوس وليس هذا بيعة متقدمة يجب الوفاء بها ومحاربة من نازع صاحبها فإن استويا في الفضل قدم الأسوس نعم وإن كان أقل فضلاً إذا كان مؤدياً للفرائض والسنن مجتنباً للكبائر مستتراً بالصغائر لأن الغرض من الإمامة حسن السياسة والقوة على القيام بالأمور فإن استويا في الفضل والسياسة اقرع بينهما أو نظر في غيرهما والله عز وجل لا يضيق على عباده هذا الضيق ولا يوقفهم على هذا الحرج لقوله تعالى " وما جعل عليكم في الدين من حرج " وهذا أعظم الحرج وبالله تعالى التوفيق.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(2/172)
قال أبو محمد: اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم لقول الله تعالى " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " ثم اختلفوا في كيفيته فذهب بعض أهل السنة من القدماء من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم وهو قول أحمد بن حنبل وغيره وهو قول سعد بن أبي وقاص وأسامة ابن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة وغيرهم إلى أن الغرض من ذلك إنما هو بالقلب فقط ولا بد أو باللسان إن قدر على ذلك ولا يكون باليد ولا بسل السيوف ووضع السلاح أصلاً وهو قول أبي بكر بن كيسان الأصم وبه قال ت الروافض كلهم ولو قتلوا كلهم إلا أنها لم تر ذلك إلا ما لم يخرج الناطق فإذا خرج وجب سل السيوف حينئذ معه وإلا فلا واقتدى أهل السنة في هذا بعثمان رضي الله عنه وممن ذكرنا من الصحابة رضي الله عنهم وبمن رأى القعود منهم إلا أن جميع القائلين بهذه الم قال ة من أهل السنة إنما رأوا ذلك ما لم يكن عدلاً فإن كان عدلاً وقام عليه فاسق وجب عندهم بلا خلاف سل السيوف مع الإمام العدل وقد روينا عن ابن عمر أنه قال لا أدري من هي الفئة الباغية ولو علمنا ما سبقتني أنت ولا غيرك إلى قتالها.(2/173)
قال أبو محمد: وهذا الذي لا يظن بأولئك الصحابة رضي الله عنهم غيره وذهبت طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة وجميع الخوارج والزيدية إلى أن سل السيوف في الأمر المعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يكن دفع المنكر إلا بذلك قال وا فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع ولا ييئسون من الظفر ففرض عليهم ذلك وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة وقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير وكل من كان معهم من الصحابة وقول معاوية وعمرو والنعمان بن بشير وغيرهم ممن معهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وهو قول عبد الله بن الزبير ومحمد والحسن بن علي وبقية الصحابة من المهاجرين والأنصار القائمين يوم الحرة رضي الله عن جميعهم أجمعين وقول كل من أقام على الفاسق الحجاج ومن والاه من الصحابة رضي الله عن جميعهم كأنس بن مالك وكل من كان ممن ذكرنا من أفاضل التابعين كعبد الرحمن ابن أبي ليلى وسعيد بن جبير وابن البحتري الطائي وعطاء السلمي الأزدي والحسن البصري ومالك بن دينار ومسلم بن بشار وأبي الحوراء والشعبي وعبد الله بن غالب وعقبة بن عبد الغافر بن صهبان وماهان والمطرف بن المغيرة ابن شعبة وأبي المعدو حنظلة بن عبد الله وأبي سح الهنائي وطلق بن حبيب والمطرف بن عبد الله ابن السخير والنصر بن أنس وعطاء بن السائب وإبراهيم بن يزيد التيمي وأبي الحوسا وجبلة بن زحر وغيرهم ثم من بعد هؤلاء من تابعي التابعين ومن بعدهم كعبد الله بن عبد العزيز ابن عبد الله بن عمر وكعبد الله بن عمر ومحمد بن عجلان ومن خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن وهاشم بن بشر ومطر الوراق ومن خرج مع إبراهيم بن عبد الله وهو الذي تدل عليه أقوال الفقهاء كأبي حنيفة والحسن بن حي وشريك ومالك والشافعي وداود وأصحابهم فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث إما ناطق(2/174)
بذلك في فتواه وإما فاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رأوه منكراً.
قال أبو محمد: احتجت الطائفة المذكورة أولاً بأحاديث فيها انقاتلهم يا رسول الله قال لا ما صلوا وفي بعضها إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان وفي بعضها وجوب الضرب وإن ضرب ظهر أحدنا وأخذ ماله وفي بعضها فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فاطرح ثوبك على وجهك وقل إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وفي بعضها كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل وبقوله تعالى " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر " الآية.(2/175)
قال أبو محمد: كل هذا لا حجة لهم فيه لما قد تقصيناه غاية التقصي خبراً خبراً بأسانيدها ومعانيها في كتابنا الموسوم بالاتصال إلى فهم معرفة الخصال ونذكر منه إن شاء الله هاهنا جملاً كافية وبالله تعالى نتأيد أما أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق وهذا ما لا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له وإن امتنع من ذلك بل من ضرب رقبته إن وجب عليه فهو فاسق عاص لله تعالى وإما أن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك برهان هذا قول الله عز وجل " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وقد علمنا أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام ربه تعالى قال الله عز وجل " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " و قال تعالى " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً " فصح أن كل ما قال ه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وحي من عند الله عز وجل لا اختلاف فيه ولا تعارض ولا تناقض فإذا كان هذا كذلك فبيقين لا شك فيه يدري كل مسلم أن من أخذ مال مسلم أو ذمي بغير حق وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم فإذ لا شك في هذا ولا اختلاف من أحد من المسلمين فالمسلم ماله للأخذ ظلماً وظهره للضرب ظلماً وهو يقدر على الامتناع من ذلك بأي وجه أمكنه معاون لظالمه على الإثم والعدوان وهذا حرام بنص القرآن " وأما سائر الأحاديث التي ذكرنا وقصة ابني آدم فلا حجة في شيء منها أما قصة ابني آدم فتلك شريعة أخرى غير شريعتنا قال الله عز وجل " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً " وأما الأحاديث فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكراً فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ليس وراء ذلك من الإيمان(2/176)
شيء وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا طاعة في معصية إنما الطاعة في الطاعة وعلى أحدكم السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة وإنه عليه السلام قال من قتل دون ماله فهو شهيد والمقتول دون دينه شهيد والمقتول دون مظلمة شهيد و قال عليه السلام لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعذاب من عنده فكان ظاهر هذه الأخبار معارضاً للآخر فصح أن إحدى هاتين الجملتين ناسخة للأخرى لا يمكن غير ذلك فوجب النظر في أيهما هو الناسخ فوجدنا تلك الأحاديث التي منها النهي عن القتال موافقة لمعهود الأصل ولما كانت الحال عليه في أول الإسلام بلا شك وكانت هذه الأحاديث الأخر واردة بشريعة زايدة وهي القتال هذا ما لا شك فيه فقد صح نسخ معنى تلك الأحاديث ورفع حكمها حين نطقه عليه السلام بهذه الأخر بلا شك فمن المحال المحرم أن يؤخذ بالمنسوخ ويترك الناسخ وأن يؤخذ الشك ويترك اليقين ومن ادعى أن هذه الأخبار بعد أن كانت هي الناسخة فعادت منسوخة فقد ادعى الباطل وقفا ما لا علم له به ف قال على الله ما لم يعلم وهذا لا يحل ولو كان هذا لما أخلا الله عز وجل هذا الحكم عن دليل وبرهان يبين به رجوع المنسوخ ناسخاً لقوله تعالى في القرآن تبياناً لكل شيء وبرهان آخر وهو أن الله عز وجل قال " وإن طايفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء " لم يختلف مسلمان في أن هذه الآية التي فيها فرض قتال الفئة الباغية محكمة غير منسوخة فصح أنها الحاكمة في تلك الأحاديث فما كان موافقاً لهذه الآية فهو الناسخ الثابت وما كان مخالفاً لها فهو المنسوخ المرفوع وقد ادعى قوم أن هذه الآية وهذه الأحاديث في اللصوص دون السلطان.(2/177)
قال أبو محمد: وهذا باطل متيقن لأنه قول بلا برهان وما يعجز مدع أن يدعي في تلك الأحاديث أنها في قوم دون قوم وفي زمان دون زمان والدعوى دون برهان لا تصح وتخصيص النصوص بالدعوى لا يجوز لأنه قول على الله تعالى بلا علم وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سائلاً سأله عن من طلب ماله بغير حق ف قال عليه السلام لا تعطه قال فإن قاتلني قال قاتله قال فإن قتلته قال إلى النار قال فإن قتلني قال فأنت في الجنة أو كلاماً هذا معناه وصح عنه عليه السلام أنه قال المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه وقد صح أنه عليه السلام قال في الزكاة من سألها على وجهها فليعطها ومن سألها على غير وجهها فلا يعطها وهذا خبر ثابت رويناه من طريق الثقات عن أنس بن مالك عن أبي بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يبطل تأويل من تأول أحاديث القتال عن المال على اللصوص لا يطلبون الزكاة وإنما يطلبه السلطان فاقتصر عليه السلام معها إذا سألها على غير ما أمر به عليه السلام ولو اجتمع أهل الحق ما قاوا هم أهل الباطل نسأل الله المعونة والتوفيق.(2/178)
قال أبو محمد: وما اعترضوا به من فعل عثمان فما علم قط أنه يقتل وإنما كان يراهم يحاصرونه فقط وهم لا يرون هذا اليوم للإمام العدل بل يرون القتال معه ودونه فرضاً فلا حجة لهم في أمر عثمان رضي الله عنه و قال بعضهم إن في القيام إباحة الحريم وسفك الدماء وأخذ الأموال وهتك الأستار وانتشار الأمر ف قال لهم الآخرون كلا لأنه لا يحل لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أن يهتك حريماً ولا أن يأخذ مالاً بغير حق ولا أن يتعرض من لا يقاتله فإن فعل شيئاً من هذا فهو الذي فعل ما ينبغي أن يغير عليه وأما قتله أهل المنكر قلوا أو كثروا فهذا فرض عليه وأما قتل أهل المنكر الناس وأخذهم أموالهم وهتكهم حريمهم فهذا كله من المنكر الذي يلزم الناس تغييره وأيضاً فلو كان خوف ما ذكروا مانعاً من تغيير المنكر ومن الأمر بالمعروف لكان هذا بعينه مانعاً من جهاد أهل الحرب وهذا ما لا يقوله مسلم وإن ادعى ذلك إلى سبي النصارى نساء المسلمين وأولادهم وأخذ أموالهم وسفك دمائهم وهتك حريمهم ولا خلاف بين المسلمين في أن الجهاد واجب مع وجود هذا كله ولا فرق بين الأمرين وكل ذلك جهاد ودعاء إلى القرآن والسنة.(2/179)
قال أبو محمد: وي قال لهم ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره والنصارى جنده وألزم المسلمين الجزية وحمل السيف على أطفال المسلمين وأباح المسلمات للزنا أو حمل السيف على كل من وجد من المسلمين وملك نساءهم وأطفالهم وأعلن العبث بهم وهو في كل ذلك مقر بالإسلام معلن به لا يدع الصلاة فإن قال وا لا يجوز القيام عليه قيل لهم أنه لا يدع مسلماً إلا قتله جملة وهذا أن ترك أوجب ضرورة ألا يبقى إلا هو وحده وأهل الكفر معه فإن أجازوا الصبر على هذا خالفوا الإسلام جملة وانسلخوا منه وإن قال وا بل يقام عليه ويقاتل وهو قولهم قلنا لهم فإن قتل تسعة أعشار المسلمين أو جميعهم إلا واحداً وسبي من نسائهم كذلك وأخذ من أموالهم كذلك فإن منعوا من القيام عليه تناقضوا وإن أوجبوا سألناهم عن أقل من ذلك ولا نزال نحطهم إلى أن نقف بهم على قتل مسلم واحد أو على امرأة واحدة أو على أخذ مال أو على انتهاك بشرة بظلم فإن فرقوا بين شيء من ذلك تناقضوا وتحكموا بلا دليل وهذا ما لا يجوز وإن أوجبوا إنكار كل ذلك رجعوا إلى الحق ونسألهم عمن غصب سلطانه الجائر الفاجر زوجته وابنته وابنه ليفسق بهم أو ليفسق به بنفسه أهو في سعة من إسلام نفسه وامرأته وولده وابنته للفاحشة أم فرض عليه أن يدفع من أراد ذلك منهم فإن قال وا فرض عليه إسلام نفسه وأهله أتوا بعظيمة لا يقولها مسلم وإن قال وا بل فرض عليه أن يمتنع من ذلك ويقاتل رجعوا إلى الحق ولزم ذلك كل مسلم في كل مسلم وفي المال كذلك.(2/180)
قال أبو محمد: والواجب أن وقع شيء من الجور وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه وهو إمام كما كان لا يحل خلعه فإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " ولا يجوز تضييع شيء من واجبات الشرائع وبالله تعالى التوفيق.
============
المراجع والمصادر الهامة
القرآن الكريم
صحيح البخاري
صحيح مسلم
سنن ابي داود
سنن الترمذي
سنن النسائي
سنن البيهقي
سنن الدارقطني
مسند الإمام أحمد
مصنف عبد الرزاق
مصنف ابن أبي شيبة
فضائل الصحابة عبد الله بن أحمد
المطالب العالية لابن حجر
إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم
معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني
معرفة السنن والآثار للبيهقي
صحيح ابن حبان
المستدرك للحاكم
مجمع الزوائد للهيثمي
معجم الطبراني الكبير
البداية والنهاية لابن كثير
تاريخ الطبري
تاريخ ابن خلدون
سير أعلام النبلاء للذهبي
تاريخ الإسلام للذهبي
الفصل في الملل والنحل لابن حزم
العواصم من القواصم لابن العربي
الفتنة وموقعة الجمل لسيف بن عمر التميمي
منهاج السنة النبوية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
مختصر منهاج السنة النبوية
الموسوعة الفقهية
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
تاريخ ابن عساكر وهو أجمعها وفيه الغث والسمين
نظم المتناثر في الحديث المتواتر
دراسات قرآنية محمد قطب
منهج التربية الإسلامية محمد قطب
واقعنا المعاصر محمد قطب
الشيعة والسنة لإحسان إلهي ظهير
معالم من تاريخ الخلفاء الراشدين محمد بن صامل السلمي
الرياض النضرة في مناقب العشرة
طبقات ابن سعد
فتح الباري للحافظ ابن حجر
شرح صحيح مسلم للنووي
تهذيب الآثار للطبري(2/181)
الكامل في اللغة للمبرد
العقد الفريد لابن عبد ربه
في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب
الشريعة للآجري
مشكل الآثار للطحاوي
وقفات في سيرة عثمان خالد بن محمد الشارخ
عون المعبود شرح سنن أبي داود
تاريخ الجنس العربي محمد عزت دروزة
التاريخ الإسلامي محمود شاكر
موسوعة الأسرة المسلمة للمؤلف
الفهرس العام
أولا- مقدمات هامة عن جيل الصحابة…6
1-…عدالة الصحابة ومكانتهم في الإسلام…6
2-عقيدة أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:…10
2-…تحريم سب الصحابة…18
3-…المنحرفون في هذا الباب…23
5- الجيل القرآني الفريد…26
6- حملة رسالة الإسلام الأولون وما كانوا عليه من المحبة والتعاون على الحق والخير…33
وكيف شَوَّه المغرضون جمال سيرتهم…33
محب الدين الخطيب…33
7- نظرة إلى الجيل الفريد…51
ثانيا- الفتنة الكبرى في عهد الصحابة…71
حديث القرآن الكريم عن الفتنة…72
الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من الفتنة…73
ثالثا- أسباب الفتنة وبواعثها…75
1-تطور المجتمع…76
2-تطور طبيعة الدولة…78
3-انتشار الصحابة رضي الله عنهم في الأمصار…78
4-التربية الناقصة…79
5-تفضيل السابقين في العطاء…80
6-نمو دور القبائل العربية…81
7-العصبية القبلية…82
8- رواسب الجاهلية…83
9- دور اليهود في إشعال الفتنة: ((عبد الله بن سبأ))…84
10-النموذج العظيم للحكم في العهد الراشدي…88
رابعا- مقتل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه…100
خامسا- الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه…104
الاعتراض على أمير المؤمنين عثمان…107
1-ولاة عثمان رضي الله عنه…110
علي رضي الله عنه يولي أقاربه…111
ولاية الكوفة…112
ولاية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه على الكوفة…113
ولاية الوليد بن عقبة…118
ولاية سعيد بن العاص على الكوفة…123
ولاية البصرة…137
إنجازات عبد الله بن عامر…141
ولاية مصر…143
ولاية الشام…149
من إنجازات معاوية رضي الله عنه…155
عرض الأمر على أهل المدينة…156(2/182)
محاولة علاج الخلل…157
نتيجة علاج الخلل…157
التحريض على عثمان رضي الله عنه…158
2-مروان بن الحكم ورئاسة الديوان…159
3- سياسة عثمان رضي الله عنه المالية…160
4- موقف عثمان رضي الله عنه من بعض الصحابة…162
1- نفي أبي ذر رضي الله عنه …163
2- موقف عثمان من عمار بن ياسر رضي الله عنهما…167
3- موقف عثمان من ابن مسعود رضي الله عنهما…171
5- الاعتراض على عثمان رضي الله عنه واجتهاداته…174
6- طعن الثائرين في جهاد عثمان رضي الله عنه…177
7- توحيد المصاحف…179
ولكتابة القرآن وجمعه ثلاث مراحل:…181
8- ترك عثمان رضي الله عنه قصر الصلاة في منى…185
9- عثمان وقتل عبيد الله بن عمر للهرمزان …186
10- ارتفاع عثمان على المنبر أكثر من رسول الله صلى الله عليه وسلم …188
التمرد على الخليفة…189
تمرد الأمصار على الولاة…190
الكوفة ومصر تخلعان واليهما…194
التمرد في البصرة…196
التمرد في مصر…198
عثمان رضي الله عنه يتقصى الحقائق…199
عثمان رضي الله عنه يتشاور مع ولاته…204
عثمان رضي الله عنه يعود للمدينة…206
الزحف الأول على المدينة…212
محاصرة الخليفة…213
تفرق أهل المدينة إلى منازلهم وأعمالهم…216
عثمان يحاور الثوار…217
الخليفة عثمان يحفظ كرامة الدولة…218
محاولة عثمان رضي الله عنه مناقشتهم والرد عليهم…219
كبار الصحابة رضي الله عنهم يحاولون منع انتشار الحريق…225
تشديد الحصار على الخليفة…230
الصحابة يدافعون عن عثمان رضي الله عنه…244
لماذا لم يتنازل عثمان رضي الله عنه عن الخلافة ؟…246
وصية عثمان رضي الله عنه…247
استشهاد عثمان رضي الله عنه…252
الخلاصة في مقتل عثمان رضي الله عنه…263
الخلاصة في قتله كما يرويها ابن كثير رحمه الله…271
من قتل عثمان رضي الله عنه ؟…278
الرد على الرافضة في طعنهم بعثمان رضي الله عنه…281
سادسا- الفتنة في عهد علي رضي الله عنه…317
بيعة علي رضي الله عنه…326
رأي آخر في بيعة علي رضي الله عنه…328(2/183)
توقف جماعة من الصحابة من البيعة لعلي رضي الله عنه…332
تقسيم العطاء…336
المطالبة بالقصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه…337
الثأر من قتلة عثمان بالبصرة…338
نقمة بعض القبائل لقتل قتلة عثمان رضي الله عنه…343
تغيير علي رضي الله عنه للولاة…343
تأخر معاوية عن جواب علي رضي الله عنهما…344
معاوية رضي الله عنه يمتنع عن البيعة…345
استعداد علي رضي الله عنه لقتال أهل الشام…346
خروج طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم للبصرة…346
خروج علي رضي الله عنه إلى العراق…349
القعقاع يسعى في الصلح بين الفريقين…356
مؤامرة إفشال الصلح…358
معركة الجمل…358
محاولات الصحابة وقف القتال يوم الجمل…361
القتال حول الجمل ونهاية المعركة…362
استشهاد الزبير رضي الله عنه…363
استشهاد طلحة رضي الله عنه…366
علي رضي الله عنه يحسن معاملة أهل الجمل…369
إكرام علي لعائشة رضي الله عنهما…370
علي رضي الله عنه يأخذ البيعة من أهل البصرة…375
الكوفة عاصمة الخلافة…375
موقعة صفين…376
أفاعيل قتلة عثمان تثير الحرب في صفين…378
قراء القرآن وصورة مضيئة…378
محاولات من الصحابة لعقد الصلح يوم صفين…379
محاولة أحد التابعين عقد الصلح…380
أيام الحرب غير الحاسمة في صفين…381
المواجهة الشاملة في صفين…382
مقتل عمار رضي الله عنه…384
وقف الحرب في صفين…385
أحاديث حول صفين…386
من هي الفئة الباغية ؟…388
رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيما شجر بين الصحابة…391
رأيه بإسلام معاوية رضي الله عنه…403
رأيه فيمن يلعن معاوية رضي الله عنه وهل هوباغي ؟…417
التحكيم…429
الرد على فرية في التحكيم…438
الخوارج…465
مناظرة ابن عباس للخوارج…467
الخروج إلى النهروان…468
إفساد الخوارج في الأرض…469
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الخوارج…471
المسير إلى الخوارج…476
موقعة النهروان…477
قتال الخوارج الذين لم يشهدوا النهروان …479
عصيان أهل الكوفة لعلي رضي الله عنه …479(2/184)
اشتداد أمر معاوية رضي الله عنه …480
معاوية رضي الله عنه يستولي على مصر …481
أهل فارس يمتنعون عن دفع الخراج…482
التخطيط لقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم…483
استشهاد علي رضي الله عنه…490
وصية علي رضي الله عنه…495
خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهما…498
بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بالصلح…499
عام الجماعة…500
استئناف حركة الفتوح…501
سابعا- بعض الدروس والعبر من الفتنة…503
رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ببعض ما حدث…503
المؤمنون ثلاثة أقسام :…503
الفرق بين من قبل عنه كافر وبين المرتد الأصلي…506
الرد على الرافضة في زعمهم أن الإمام الحق هو علي رضي الله عنه دون سواه…507
بين قتال التتار وقتال الخوارج…518
وجوب قتال التتار ومن كان على شاكلتهم…537
رأي العلامة ابن حزم رحمه الله بالفتنة والمفاضلة بين الصحابة…541
الكلام في حرب علي ومن حاربه من الصحابة رضي الله عنهم…561
الكلام في إمامة المفضول…571
الكلام في عقد الإمامة بماذا تصح…575(2/185)