العهد المكي من السيرة النبوية
إعداد
فهد عبد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد.
فتنقسم حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن شرفه الله بالنبوة والرسالة إلى عهدين هما :
1 ـ العهد المكي، ثلاث عشرة سنة تقريبًا . 2 ـ العهد المدني، عشر سنوات كاملة .
ويمكن تقسيم العهد المكي إلى ثلاث مراحل :
1 ـ مرحلة الدعوة السرية، ثلاث سنوات .
2 ـ مرحلة إعلان الدعوة في أهل مكة، من بداية السنة الرابعة من النبوة إلى أواخر السنة العاشرة.
3 ـ مرحلة الدعوة خارج مكة وفشوها فيهم، من أواخر السنة العاشرة من النبوة إلى الهجرة.
نزول الوحي:-
أول ما بديء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيَتَحَنَّث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال : اقرأ .
قال : ( ما أنا بقارئ ) .
قال : فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال : اقرأ.
قلت : ما أنا بقارئ.
قال : فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلني فقال : اقرأ، فقلت : ما أنا بقارئ.
فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } [ العلق : 1 : 3 ] .
فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : "زَمِّلُونى زملونى "، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة : " ما لي ؟ " فأخبرها الخبر " لقد خشيت على نفسي ".(1/1)
فقالت خديجة : كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة ـ وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانى، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي ـ فقالت له خديجة : يابن عم، اسمع من ابن أخيك.
فقال له ورقة : يابن أخي، ماذا ترى ؟
فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأي.
فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعا، ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( أو مخرجيّ هم ؟ ) .
قال : نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِىَ، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم يَنْشَبْ ورقة أن توفي.
ثم فَتَر الوحي أياماً ليذهب ما وجه- صلى الله عليه وسلم - من الروع وليتشوق إلى العود بقي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فيها كئيبا محزوناً فلما حصل له ذلك وأخذ يرتقب مجىء الوحى أكرمه الله بالوحي مرة ثانية.
روى البخاري عن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قبل السماء فغذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله تعالى { يا أيها المدثر } على قوله { فاهجر } ثم حمي الوحي وتتابع.
المرحلة الأولى من جهاد الدعوة إلي الله : ثلاث سنوات من الدعوة السرية:-(1/2)
قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول آيات سورة المدثر بعرض الإسلام أولًا على ألصق الناس به من أهل بيته، و كل من توسم فيه الخير فأسلمت زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، ومولاه زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي وابن عمه علي بن أبي طالب ـ وكان صبيًا يعيش في كفالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ـ وصديقه الحميم أبو بكر الصديق ثم تتابع كثيرون، وهكذا مرت ثلاثة أعوام، والدعوة لم تزل مقصورة على الأفراد، ولم يجهر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في المجامع والنوادى.
المرحلة الثانية: الدعوة جهارًا:-
وأول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عشيرته بني هاشم بعد نزول هذه الآية، فجاءوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا نحو خمسة وأربعين رجلًا ، ولما تم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا، ولا يذكر عنهم أي ردة فعل، سوى أن أبا لهب واجه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسوء، وقال : تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ سورة المسد : 1 ] ثم نزل قوله تعالى : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [ الحجر : 94 ] ، فقام - صلى الله عليه وسلم - يجهر بالدعوة إلى الإسلام في مجامع المشركين ونواديهم.
وخوفا من قدوم موسم الحج وأن يتأثر أحد بالنبي- صلى الله عليه وسلم - أجتمعت قريش على أن تتهم النبي- صلى الله عليه وسلم - بأنه ساحر ، أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فخرج يتبع الناس في منازلهم وفي عُكَاظ ومَجَنَّة وذى المَجَاز، يدعوهم إلى الله ، وأبو لهب وراءه يقول : لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب، فانتشر ذكره- صلى الله عليه وسلم - في بلاد العرب كلها .(1/3)
ولما فرغت قريش من الحج فكرت في أساليب تقضى بها على هذه الدعوة وتتلخص هذه الأساليب فيما يلي:
1ـ السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب والتضحيك : فكانوا ينادونه بالمجنون { وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] ، ويصمونه بالسحر والكذب { وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } [ ص : 4] .
2ـ إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة : فكانوا يقولون عن القرآن : { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } [ الأنبياء : 5 ] يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار، ويقولون : { بَلِ افْتَرَاهُ } من عند نفسه ويقولون : { إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } وقالوا : { إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } [ الفرقان : 4 ] أي اشترك هو وزملاؤه في اختلاقه . { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [ الفرقان : 5 ]
3 ـ الحيلولة بين الناس وبين سماعهم القرآن { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] ، ومعارضته بالأساطير والحكايات.(1/4)
ولما رأى المشركون أن هذه الأساليب لم تجد نفعًا في إحباط الدعوة الإسلامية قرروا القيام بتعذيب المسلمين وفتنتهم عن دينهم، فأخذ كل رئيس يعذب من دان من قبيلته بالإسلام، وانقض كل سيد على من اختار من عبيده طريق الإيمان ، فكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته ، وكان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به ، وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول ، ومات بعضهم تحت وطأة التعذيب كياسر أبو عمار وقتل أبو جهل سمية زوجة ياسر وكانت أول شهيدة في الإسلام.
قريش يهددون أبا طالب:-
مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، فقالوا : يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسَفَّه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولًا رقيقًا وردهم ردًا جميلًا، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -على ما هو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه ، ولكن لم تصبر قريش طويلًا حين رأته - صلى الله عليه وسلم - ماضيًا في عمله ودعوته إلى الله ، بل أكثرت ذكره وتذامرت فيه، حتى قررت مراجعة أبي طالب بأسلوب أغلظ وأقسى من السابق فقالوا له : يا أبا طالب، إن لك سنًا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين .(1/5)
فعَظُم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وقال له : يا بن أخي، إن قومك قد جاءونى فقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن عمه خاذله، وأنه ضعُف عن نصرته، فقال : ( يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يسارى على أن أترك هذا الأمر ـ حتى يظهره الله أو أهلك فيه ـ ما تركته ) ، ثم استعبر وبكى، وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فلما أقبل قال له : اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت، فو الله لا أُسْلِمُك لشىء أبدًا.
ولما رأت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماض في عمله ذهبوا إلى أبي طالب بعمارة ابن الوليد بن المغيرة وقالوا له : يا أبا طالب، إن هذا الفتى أنْهَدَ فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدًا فهو لك، وأسْلِمْ إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل، فقال : والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه ؟ هذا والله ما لا يكون أبدًا .، فقررت قريش سبيل الاعتداء على ذات الرسول - صلى الله عليه وسلم -وكان أبو لهب على رأسهم، وكانت امرأة أبي لهب ـ أم جميل - تحمل الشوك، وتضعه في طريق النبي - صلى الله عليه وسلم -وعلى بابه ليلًا، وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها، وتثير حربًا شعواء على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذلك وصفها القرآن بحمالة الحطب .
وكان أحدهم يطرح عليه - صلى الله عليه وسلم -رحم الشاة وهو يصلى، وآخر يطرحها في برمته إذا نصبت له، وكان من مقتضيات هذه الظروف المتأزمة أن اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطوتين حكيمتين كان لهما أثرهما في تسيير الدعوة وهما :
1 ـ اختيار دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومى مركزا للدعوة ومقرًا للتربية .(1/6)
2ـ أمر المسلمين بالهجرة إلى الحبشة .
دار الأرقم:-
كانت هذه الدار في أصل الصفا، بعيدة عن أعين قريش ومجالسهم، فاختارها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ليجتمع فيها بالمسلمين سرًا، فيتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ وليؤدى المسلمون عبادتهم وأعمالهم، ويتلقوا ما أنزل الله على رسوله وهم في أمن وسلام، وليدخل من يدخل في الإسلام ولا يعلم به الطغاة من أصحاب السطوة والنقمة .
الهجرة إلى الحبشة وملاحقة المشركين:
كانت بداية الاعتداءات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة، بدأت ضعيفة، ثم لم تزل تشتد حتى تفاقمت في أواسط السنة الخامسة، فنزلت سورة الزمر تشير إلى اتخاذ سبيل الهجرة، وتعلن بأن أرض الله ليست بضيقة { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ الله ِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10] .
فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فرارًا بدينهم.
وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الحرم، وفيه جمع كبير من قريش فقرا سورة النجم حتى قوله تعالى: { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } [ النجم : 62 ] ثم سجد، فلم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجدًا .
وبلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة، بأن قريشًا أسلمت، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار وعرفوا جلية الأمر رجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفيًا، أو في جوار رجل من قريش ، واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى، فهاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلًا، وثماني عشرة أو تسع عشرة امرأة .(1/7)
أرسلت قريش عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة ـ قبل أن يسلما ـ وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهدايا ثم كلماه فقالا له : أيها الملك، إنه قد ضَوَى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه .
وقالت البطارقة : صدقا أيها الملك، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى قومهم وبلادهم .
فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنًا ما كان ، فقال لهم النجاشي : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في دينى ولا دين أحد من هذه الملل ؟(1/8)
قال جعفر بن أبي طالب ـ وكان هو المتكلم عن المسلمين- : أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منا القوى الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم،وقذف المحصنات،وأمرنا أن نعبد الله وحده،لا نشرك به شيئًا،وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ فعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله ، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك .
فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ فقال له جعفر : نعم . فقال له النجاشي : فاقرأه على.
فقرأ عليه صدرًا من : { كهيعص } فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخْضَلُوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم.
ثم قال لهم النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون ـ يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه ـ فخرجا، فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة : والله لآتينه غدًا عنهم بما أستأصل به خضراءهم . فقال له عبد الله بن أبي ربيعة : لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصر عمرو على رأيه .(1/9)
فلما كان الغد قال للنجاشي : أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائنًا ما كان.
فلما دخلوا عليه وسألهم، قال له جعفر : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم - : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول.
فأخذ النجاشي عودًا من الأرض ثم قال : والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، ثم قال للمسلمين : اذهبوا فأنتم الآمنون بأرضي من سَبَّكم غَرِم –ثلاثا- ما أحب أن لي جبلا من ذهب وإني آذيت رجلًا منكم.
ثم قال لحاشيته : ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه .
ولما أخفق المشركون في مكيدتهم، اشتدت ضراوتهم وانقضوا على بقية المسلمين، ومدوا أيديهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسوء، وخلال هذا الجو الملبد بغيوم الظلم والعدوان ظهر برق أضاء الطريق، وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب في أواخر السنة السادسة من النبوة، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما فغير المشركون تفكيرهم في معاملتهم مع النبي- صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، واختاروا أسلوب المساومات وتقديم الرغائب والمغريات، فقد أرسلت قريش عتبة بن ربيعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرض عليه المال، والسيادة، والملك أو المعالجة إن كان مريضا! فلما فرغ قرأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم - { بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فصلت : 1 : 5 ] . ثم مضى رسول الله فيها، يقرؤها عليه .(1/10)
فلما سمعها منه عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما، يسمع منه، ثم انتهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة منها فسجد ثم قال : ( قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك ) .
حصار بني هاشم في الشعب (المقاطعة العامة):
دعا أبو طالب أقاربه لنصرة النبي- صلى الله عليه وسلم - فاجتمعت قريش وأجمعوا أمرهم على أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -للقتل وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق : أن لا يقبلوا من بني هاشم صلحا أبدا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل فأمرهم أبو طالب أن يدخلوا شعبه فلبثوا فيه ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء وقطعوا عنهم الأسواق فلا يتركون طعاما يدخل مكة ولا بيعا إلا بادروا فاشتروه ومنعوه أن يصل شئ منه إلى بني هاشم حتى كان يسمع أصوات نسائهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع واشتدوا على من أسلم ممن لم يدخل الشعب فأوثقوهم وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا
ثم بعد ذلك مشى هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي وكان يصل بني هاشم في الشعب خفية بالليل بالطعام - مشى إلى زهير بن أبي أمية المخزومي – وانضم إليهما أبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود والمطعم بن عدي وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة، وبعث الله على صحيفتهم الأرضة فأكلت ما فيها ألا ذكر الله سبحانه فذكر ذلك لعمه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قال كذا وكذا، فإن كان كان كاذبا خلينا بينكم وبينه وإن كان صادقا رجعتم عن قطعيتنا، فوافقوا، ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر فقالوا : هذا سحر من صاحبكم فارتكسوا وعادوا إلى شر ما هم عليه، وخرج رسول الله ومن معه من الشعب.
عام الحزن:(1/11)
ألم المرض بأبي طالب، فكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة، بعد الخروج من الشعب بستة أشهر ، وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين توفيت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وكانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك في الخمسين من عمره .
وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه، فخرج إلى الطائف رجاء أن يستجيبوا لدعوته، أو يؤووه وينصروه على قومه، فلم ير من يؤوى ولم ير ناصرًا، بل آذوه أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومه .
وفي شوال من هذه السنة (سنة 10 من النبوة) تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سودة بنت زمعة، وكانت ممن أسلم قديمًا وهاجرت الهجرة الثانية إلى الحبشة.
المرحلة الثالثة: دعوة الإسلام خارج مكة:-
في شوال سنة عشر من النبوة خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف، وهي تبعد عن مكة نحو ستين ميلًا، سارها ماشيًا على قدميه جيئة وذهابًا، ومعه مولاه زيد بن حارثة، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام، فلم تجب إليه واحدة منها .
وأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا : اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم.
فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له صفين وجعلوا يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء .
وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شِجَاج في رأسه، ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلاثة أميال من الطائف، فلما التجأ إليه رجعوا عنه.(1/12)
وأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حُبْلَة من عنب فجلس تحت ظلها إلى جدار ، ودعا: ( اللهم إليك أشكو ضَعْف قُوَّتِى، وقلة حيلتى، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُنى ؟ إلى بعيد يَتَجَهَّمُنِى ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سَخَطُك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك )
فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما، فدعوا غلامًا لهما نصرانيًا يقال له : عَدَّاس، وقالا له : خذ قطفًا من هذا العنب، واذهب به إلى هذا الرجل .
فلما وضعه بين يدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مد يده إليه قائلًا : ( باسم الله ) ثم أكل ، فقال عداس : إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.
فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أي البلاد أنت ؟ وما دينك ؟ قال : أنا نصراني من أهل نِينَوَى . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى ) . قال له : وما يدريك ما يونس ابن متى ؟
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي )
فأكب عداس على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ويديه ورجليه يقبلها .
ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق مكة محزونًا، فبعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا .(1/13)
وفي ذي القعدة سنة عشر من النبوة عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إلى مكة؛ ليستأنف عرض الإسلام على القبائل والأفراد، وكان ممن يسمى من القبائل: بنو عامر بن صَعْصَعَة، ومُحَارِب بن خَصَفَة، وفزارة، وغسان، ومرة، وحنيفة، وسليم، وعَبْس، وبنو نصر، وبنو البَكَّاء، وكندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعُذْرَة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد .
وفي شوال من هذه السنة ـ سنة 11 من النبوة ـ تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة الصديقة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين وبني بها بالمدينة في شوال في السنة الأولى من الهجرة وهي بنت تسع سنين .
الإسراء والمعراج:-
أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس راكبا على البراق صحبه جبريل عليه السلام فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماما وربط البراق بحلقة باب المسجد ثم عرج به إلى السماء الدنيا فرأى فيها آدم ورأى أرواح السعداء عن يمينه والأشقياء عن شماله.
ثم إلى الثانية فرأى فيها عيسى ويحيى، ثم إلى الثالثة فرأى فيها يوسف، ثم إلى الرابعة فرأى فيها إدريس، ثم إلى الخامسة فرأى فيها هارون، ثم إلى السادسة فرأى فيها موسى، فلما جاوزه بكى فقيل له : ما يبكيك ؟ قال: أبكي أن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي.
ثم عرج به إلى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم، ثم إلى سدرة المنتهى.
ثم رفع إلى البيت المعمور فرأى هناك جبريل في صورته له ستمائة جناح، وهو قوله تعالى : { ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى } وكلمه ربه وأعطاه الصلاة فكانت قرة عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/14)
فلما أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قومه وأخبرهم اشتد تكذيبهم له وسألوه أن يصف لهم بيت المقدس فجلاه الله له حتى عاينه وجعل يخبرهم به ولا يستطيعون أن يردوا عليه شيئا، وأخبرهم عن عيرهم التي رآها في مسراه ومرجعه، وعن وقت قدومها، وعن البعير الذي يقدمها فكان كما قال، فلم يزدهم ذلك إلا ثبورا.
بيعة العقبة الأولى:
لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الموسم عند العقبة : ستة نفر من الأنصار كلهم من الخزرج منهم أسعد بن زرارة وجابر بن عبد الله بن رئاب السلمي فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا ثم رجعوا إلى المدينة فدعوا إلى الإسلام فنشأ الإسلام فيها حتى لم تبق دار إلا دخلها.
فلما كان العام المقبل : جاء منهم اثنا عشر رجلا - الستة الأول خلا جابرا - ومعهم عبادة بن الصامت وأبو الهيثم بن التيهان وغيرهم، وكان الستة الأولون قد قالوا له لما أسلموا - إن بين قومنا من العداوة والشر ما بينهم وعسى الله أن يجمعهم بك وسندعوهم إلى أمرك فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
فلما انصرفوا بعث معهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -مصعب بن عمير وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام.
بيعة العقبة الثانية:
في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسًا من المسلمين من أهل يثرب،جاءوا ضمن حجاج قومهم من المشركين، وقد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم ـ وهم لم يزالوا في يثرب أو كانوا في الطريق : حتى متى نترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف ؟ فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - اتصالات سرية أدت إلى اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل .(1/15)
يقول كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه : خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حَرَام أبو جابر، سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا ـ وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا ـ فكلمناه وقلنا له : يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدًا . ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيانا العقبة، قال : فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبًا .
قال كعب : فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نتسلل تسلل القَطَا، مستخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعْب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلًا، وامرأتان من نسائنا؛ نُسَيْبَة بنت كعب ـ أم عُمَارة ـ من بني مازن بن النجار،وأسماء بنت عمرو ـ أم منيع ـ من بني سلمة ، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءنا، ومعه عمه : العباس بن عبد المطلب ـ وهو يومئذ على دين قومه ـ إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، وبايعوه- صلى الله عليه وسلم - :
على السمع والطاعة في النشاط والكسل .
وعلى النفقة في العسر واليسر .
وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وعلى أن يقوموا في الله ، لا تأخذهم في الله لومة لائم .
وعلى أن ينصروا النبي- صلى الله عليه وسلم - إذا قدم إليهم، ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، ولهم الجنة .(1/16)
وبعد أن تمت البيعة طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يختاروا اثني عشر زعيمًا يكونون نقباء على قومهم، يكفلون المسئولية عنهم في تنفيذ بنود هذه البيعة، فتم اختيارهم في الحال، وكانوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس .
طلائع الهجرة:-
وأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين في الهجرة إلى المدينة فبادروا إليها وأول من خرج : أبو سلمة بن عبد الأسد وزوجته أم سلمة ولكنها حبست عنه سنة وحيل بينها وبين ولدها ثم خرجت بعد هي وولدها إلى المدينة
ثم خرجوا أرسالا يتبع بعضهم بعضا ولم يبق منهم بمكة أحد إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعلي أقاما بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلا من احتبسه المشركون كرها وأعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج وأعد أبو بكر جهازه.
هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -:-
لما رأى المشركون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تجهزوا وخرجوا بأهليهم إلى المدينة عرفوا أن الدار دار منعة وأن القوم أهل حلقة وبأس فخافوا خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيشتد أمره عليهم فاجتمعوا في دار الندوة وحضرهم إبليس في صورة شيخ من أهل نجد فتذاكروا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشار كل منهم برأي والشيخ يرده ولا يرضاه إلى أن قال أبو جهل : قد فرق لي فيه برأي ما أراكم وقعتم عليه، قالوا : ما هو ؟
قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاما جلدا ثم نعطيه سيفا صارما ثم يضربونه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك ما تصنع ولا يمكنها معاداة القبائل كلها ونسوق ديته.
فقال الشيخ : لله در هذا الفتى هذا والله الرأي فتفرقوا على ذلك.
فجاء جبريل فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة(1/17)
وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -إلى أبي بكر نصف النهار - في ساعة لم يكن يأتيه فيها - متقنعا فقال : أخرج من عندك فقال : إنما هم أهلك يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله قال : نعم، فقال أبو بكر : فخذ -بأبي أنت وأمي - إحدى راحلتي هاتين فقال : بالثمن وأمر عليا أن يبيت تلك الليلة على فراشه.
واجتمع أولئك النفر يتطلعون من صير الباب ويرصدونه يريدون بياته ويأتمرون : أيهم يكون أشقاها ؟ فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ حفنة من البطحاء فذرها على رؤوسهم وهو يتلو : { وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون } وأنزل الله : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين{
ومضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إلى بيت أبي بكر فخرجا من خوخة في بيت أبي بكر ليلا فجاء رجل فرأى القوم ببابه فقال: ما تنتظرون ؟ قالوا : محمدا قال : خبتم وخسرتم قد والله مر بكم وذر على رؤوسكم التراب قالوا : والله ما أبصرناه وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم.
فلما أصبحوا قام علي رضي الله عنه عن الفراش فسألوه عن محمد ؟ فقال : لا علم لي به.
ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وأبو بكر إلى غار ثور فنسجت العنكبوت على بابه.
وكانا قد استأجرا عبد الله بن أريقط الليثي وكان هاديا ماهرا - وكان على دين قومه - وأمناه على ذلك وسلما إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث، وجدت قريش في طلبهما وأخذوا معهم القافة حتى انتهوا إلى باب الغار فوقفوا عليه فقال أبو بكر : يا رسول الله ! لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا فقال : ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ لا تحزن إن الله معنا.(1/18)
وكانا يسمعان كلامهم إلا أن الله عمى عليهم أمرهما وعامر بن فهيرة يرعى غنما لأبي بكر ويتسمع ما يقال عنهما بمكة ثم يأتيهما بالخبر ليلا فإذا كان السحر سرح مع الناس
قالت عائشة : فجهزناهما أحدث الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فأوكت به فم الجراب وقطعت الأخرى عصاما للقربة فبذلك لقبت ذات النطاقين.
ومكثا في الغار ثلاثا حتى خمدت نار الطلب فجاءهما ابن أريقط بالراحلتين فارتحلا وقد وقعت أثناء الهجرة عدة معجزات حتى وصل رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فاستقبله أهلها بالترحاب وابتدأ عصر جديد للدعوة الإسلامية.
والحمد لله(1/19)