السيرة النبوية
الشيخ الدكتور ناصر بن محمد الأحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة في السيرة النبوية
الدرس (الأول)
مقدمة
- بيان أهمية السيرة النبوية.
- مقاصد دراسة السيرة النبوية.
- خصائص السيرة النبوية.
- ضوابط دراسة السيرة النبوية.
الدرس الأول:
مقدمة عن السيرة النبوية:
إن الحمد لله: أما بعد:
نبدأ على بركة الله -جل وتعالى- الدرس الشهري في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد خصصت هذا الدرس؛ ليكون مقدمة عن السيرة النبوية، وسأتحدث فيها عن أربعة عناصر:
أولاً: بيان أهمية السيرة النبوية.
ثانياً: مقاصد دراسة السيرة النبوية.
ثالثاً: خصائص السيرة النبوية.
رابعاً: ضوابط دراسة السيرة النبوية.
أولاً: بيان أهمية السيرة النبوية:
السيرة النبوية جزء من التاريخ باعتبار أحداثها ووقائعها؛ إذ إن موضوع التاريخ هو: "أحوال الأشخاص الماضية من الأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء والشعراء والملوك والسلاطين وغيرهم".
فالغرض من دراسة السيرة: هو أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الصورة العملية التطبيقية لهذا الدين، وجميع الطرق الموصلة إلى الله تعالى, ثم إلى الجنة موصدة ومغلقة إلا طريقه -صلى الله عليه وسلم-، ويمتنع أن تعرف دين الإسلام ويصح لك إسلامك بدون معرفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكيف كان هديه وعمله وأمره ونهيه ومنهجه وسنته؟
لقد سالم النبي -صلى الله عليه وسلم- وحارب، وأقام وسافر، وباع واشترى، وأخذ وأعطى، وما عاش -صلى الله عليه وسلم- وحده، ولا غاب عن الناس يوماً واحداً، ولا سافر وحده، وقد لاقى صنوف الأذى وقاسى أشد أنواع الظلم، وكانت العاقبة والنصر له.(1/1)
بعث -عليه الصلاة والسلام- على فترة من الرسل، وضلال من البشر، وانحراف في الفطر، وواجه ركاماً هائلاً من الضلال والانحراف والبعد عن الله تعالى، والإغراق في الوثنية، فاستطاع -بعون الله- أن يخرجهم من الظلام إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاء إلى السعادة، فأحبوه وفدوه بأنفسهم وأهليهم وأموالهم، واقتدوا به في كل صغيرة وكبيرة، وجعلوه نبراساً لهم يستضيئون بنوره، ويهتدون بهديه، فأصبحوا أئمة الهدى وقادة البشرية.
إن سيرته -صلى الله عليه وسلم- رسمت المنهج الصحيح الآمن في دعوة الناس، وهداية البشر، وما فشلت كثير من المناهج الدعوية المعاصرة في إصلاح الناس إلا بسبب الإخلال بهديه والتقصير في معرفة سنته، ونقص في دراسة منهجه -صلى الله عليه وسلم- في الهداية والإصلاح.
إن دراسة الهدي النبوي أمر له أهميته لكل مسلم، فهو يحقق عدة أهداف من أهمها:
الاقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خلال معرفة شخصيته وأعماله وأقواله وتقريراته، وتكسب المسلم محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتنميها وتباركها.
وكذلك التعرف على حياة الصحابة الكرام الذين جاهدوا معه، فتدعوه تلك الدراسة لمحبتهم والسير على نهجهم واتباع سبيلهم.
كما أن السيرة النبوية توضح للمسلم حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، بدقائقها وتفاصيلها، منذ ولادته وحتى وفاته، مروراً بطفولته وشبابه ودعوته وجهاده وصبره، وانتصاره على عدوه، وتظهر بوضوح أنه كان زوجاً وأباً وقائداً ومحارباً وحاكماً وسياسياً ومربياً وداعيةً وزاهداً وقاضياً، وعلى هذا فكل مسلم يجد بغيته في هذه السيرة العطرة.(1/2)
- فالداعية يجد له في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أساليب الدعوة ومراحلها المتسلسلة، ويتعرف على الوسائل المناسبة لكل مرحلة من مراحلها، فيستفيد منها في اتصاله بالناس ودعوتهم للإسلام، ويستشعر الجهد العظيم الذي بذله الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أجل إعلاء كلمة الله، وكيفية التصرف أمام العوائق والعقبات والصعوبات، وما هو الموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن؟.
- ويجد المربي في سيرته -صلى الله عليه وسلم- دروساً نبوية في التربية والتأثير على الناس بشكل عام، وعلى أصحابه الذين رباهم على يده وكلأهم بعنايته، فأخرج منهم جيلاً قرآنياً فريداً، وكوَّن منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وأقام بهم دولة نشرت العدل في مشارق الأرض ومغاربها.
- ويجد القائد المحارب في سيرته -صلى الله عليه وسلم- نظاماً محكماً ومنهجاً دقيقاً في فنون قيادة الجيوش والقبائل والشعوب والأمة، فيجد نماذج في التخطيط واضحة، ودقة في التنفيذ بينة، وحرصاً على تجسيد مبادئ العدل وإقامة قواعد الشورى بين الجند والأمراء والراعي والرعية.
- ويتعلم منها السياسي كيف كان -صلى الله عليه وسلم- يتعامل مع أشد خصومه السياسيين المنحرفين، كرئيس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر والبغض للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وكيف كان يحوك المؤامرات وينشر الإشاعات التي تسيء إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لإضعافه وتنفير الناس منه، وكيف عامله -صلى الله عليه وسلم-، وصبر عليه وعلى حقده حتى ظهرت حقيقته للناس فنبذوه جميعاً حتى أقرب الناس له وكرهوه والتفوا حول قيادة النبي -صلى الله عليه وسلم-.(1/3)
- ويجد العلماء فيها ما يعينهم على فهم كتاب الله تعالى؛ لأنها هي المفسرة للقرآن الكريم في الجانب العملي، ففيها أسباب النزول، وتفسير لكثير من الآيات، فتعينهم على فهمها والاستنباط منها ومعايشة أحداثها، فيستخرجون أحكامها الشرعية وأصول السياسة الشرعية، ويحصلون منها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وغيرها من العلوم، وبذلك يتذوقون روح الإسلام ومقاصده السامية.
- ويجد فيها الزهاد معاني الزهد وحقيقته ومقصده.
- ويستقي منها التجار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها.
- ويتعلم منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات، فتقوى عزائمهم على السير في طريق دعوة الإسلام وتعظم ثقتهم بالله -عز وجل-، ويوقنوا أن العاقبة للمتقين.
- وتتعلم منها الأمة كاملة الآداب الرفيعة والأخلاق الحميدة والعقائد السليمة والعبادة الصحيحة وسمو الأخلاق وطهارة القلب وحب الجهاد في سبيل الله وطلب الشهادة في سبيله، ولهذا قال علي بن الحسن: "كنا نُعلَّم مغازي النبي -صلى الله عليه وسلم- كما نُعلَّم السورة من القرآن"، وكان الزهري -رحمه الله- يقول: "في علم المغازي علم الآخرة والدنيا".
إن دراسة الهدي النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، يساعد العلماء والقادة والفقهاء والحكام على معرفة الطريق إلى عز الإسلام والمسلمين، من خلال معرفة عوامل النهوض وأسباب السقوط، ويتعرفون على فقه النبي -صلى الله عليه وسلم- في تربية الأفراد وبناء الجماعة المسلمة وإحياء المجتمع وإقامة الدولة، فيرى المسلم حركةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة، والمراحل التي مر بها وقدرته على مواجهة أساليب المشركين في محاربة الدعوة، وتخطيطه الدقيق في الهجرة إلى الحبشة، ومحاولته إقناع أهل الطائف بالدعوة، وعرضه لها على القبائل في المواسم، وتدرُّجه في دعوة الأنصار ثم هجرته المباركة إلى المدينة.(1/4)
إن المسلم يتعلم من المنهاج النبوي كل فنون إدارة الصراع، والبراعة في إدارة المرحلة، وفي الانتقال من مستوى إلى آخر، وكيف واجه القوى المضادة من اليهود والمنافقين والكفار والنصارى، وكيف تغلب عليها كلها بسبب توفيق الله تعالى والالتزام بشروط النصر وأسبابه التي أرشد إليها المولى -عز وجل- في كتابه الكريم.
إن التمكين لهذه الأمة وإعادة مجدها وعزتها وتحكيم شرع ربها منوط بمتابعة الهدي النبوي، قال الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [(54) سورة النور].
إن تأخر المسلمين اليوم عن القيادة العالمية لشعوب الأرض نتيجة منطقية لقوم نسوا رسالتهم، وحطوا من مكانتها وشابوا معدنها بركام هائل من الأوهام في مجال العلم والعمل على حد سواء، وأهملوا السنن الربانية، وظنوا أن التمكين قد يكون بالأماني والأحلام.
إن هذا الضعف الإيماني والجفاف الروحي والتخبط الفكري والقلق النفسي والشتات الذهني والانحطاط الخلقي الذي أصاب المسلمين، سببه الفجوة الكبيرة التي حدثت بين الأمة والقرآن الكريم والهدي النبوي الشريف وعصر الخلفاء الراشدين والنقاط المشرقة المضيئة في تاريخنا المجيد.(1/5)
أما ترى معي ظهور الكثير من المتحدثين اليوم باسم الإسلام؟ وهم بعيدون كل البعد عن القرآن الكريم والهدي النبوي وسيرة الخلفاء الراشدين، وأدخلوا في خطابهم مصطلحات جديدة ومفاهيم مائعة؛ نتيجة الهزيمة النفسية أمام الحضارة الغربية، وأصبحوا يتلاعبون بالألفاظ ويَلْوُونها ويتحدثون الساعات الطوال ويدبجون المقالات ويكتبون الكتب في فلسفة الحياة والكون والإنسان ومناهج التغيير، ولا نكاد نلمس في حديثهم أو نلاحظ في مقالاتهم عمقاً في فهم فقه التمكين وسنن الله في تغير الشعوب وبناء الدول من خلال القرآن الكريم والمنهاج النبوي الشريف أو دعوة الأنبياء والمرسلين لشعوبهم أو تقصيّاً لتاريخنا المجيد، فيخرجوا لنا عوامل النهوض عند نور الدين محمود، أو صلاح الدين، أو يوسف بن تاشفين أو محمود الغزنوي، أو محمد الفاتح، ممن ساروا على الهدي النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، بل يستدلون ببعض الساسة أو المفكرين والمثقفين من الشرق أو الغرب ممن هم أبعد الناس عن الوحي السماوي والمنهج الرباني.
ولسنا ممن يعارض الاستفادة من تجارب الشعوب والأمم، فالحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنَّى وجدها، ولكننا ضد الذين يجهلون أو يتجاهلون المنهاج الرباني وينسون ذاكرة الأمة التاريخية المليئة بالدروس والعبر والعظات، ثم بعد ذلك يحرصون على أن يتصدروا قيادة المسلمين بأهوائهم وآرائهم البعيدة عن نور القرآن الكريم والهدي النبوي الشريف.(1/6)
إننا في أشد الحاجة لمعرفة المنهاج النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، ومعرفة سنن الله في الشعوب والأمم والدول، وكيف تعامل معها النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما انطلق بدعوة الله في دنيا الناس، حتى نلتمس من هديه -صلى الله عليه وسلم- الطريق الصحيح في دعوتنا والتمكين لديننا ونقيم بنياننا على منهجية سليمة مستمدة أصولها وفروعها من كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [(21) سورة الأحزاب]، فقد كان فقه النبي -صلى الله عليه وسلم- في تربية الأمة وإقامة الدولة شاملاً ومتكاملاً ومتوازناً وخاضعاً لسنن الله في المجتمعات وإحياء الشعوب وبناء الدول، فتعامل -صلى الله عليه وسلم- مع هذه السنن في غاية الحكمة وقمة الذكاء، كسنة التدرج، وسنة التدافع، وسنة الابتلاء، وسنة الأخذ بالأسباب، وسنة تغيير النفوس، وغرس -صلى الله عليه وسلم- في نفوس أصحابه المنهج الرباني وما يحمله من مفاهيم وقيم وعقائد وتصورات صحيحة عن الله والإنسان والكون والحياة والجنة والنار والقضاء والقدر، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يتأثرون بمنهجه في التربية غاية التأثر، ويحرصون كل الحرص على الالتزام بتوجيهاته، فكان الغائب إذا حضر من غيبته يسأل أصحابه عما رأوا من أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن تعليمه وإرشاده، وعما نزل من الوحي حال غيبته، وكانوا يتبعون خطى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل صغيرة وكبيرة، ولم يكونوا يقصرون هذا الاستقصاء على أنفسهم، بل كانوا يلقنونه لأبنائهم ومن حولهم.
إن السيرة النبوية تعطي كل جيل ما يفيده في مسيرة الحياة، وهي صالحة لكل زمان ومكان ومصلحة كذلك.(1/7)
إن السيرة النبوية غنية في كل جانب من الجوانب التي تحتاج إليها مسيرة الدعوة الإسلامية، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن ترك سوابق كثيرة لمن يريد أن يقتدي به في الدعوة والتربية والثقافة والتعليم والجهاد وفي كل شؤون الحياة، كما أن التعمق في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يساعد القارئ على التعرف على الرصيد الخلقي الكبير الذي تميز به الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن كل البشر، والتعرف على صفاته الحميدة التي عاش بها في دنيا الناس، فيرى من خلال سيرته مصداق قول الشاعر:
وأجمل منك لم تر قط عيني ... وأفضل منك لم تلد النساء
خلقت مبرأً من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء
السيرة الشريفة مليئة بالذخائر والكنوز واللآلئ والدرر، ولابد من الغوص وراء أصدافها الحافظة لها، واستخراج دررها الفريدة من داخلها؛ عجائبها غزيرة، وعقودها باهرة، أتت بالعجائب والنجائب والمراتب في كل باب، وأنتجت الفتوحات المتنوعات في كل درب، وقدمت الصيغ الإنسانية التي تربّت على مائدة القرآن، أفضل النماذج التي يحتذى بها.
وقد احتوت السيرة النبوية ذلك كله، ولذلك فكلما عاشها الإنسان وعاشت به، عرفها أكثر وأدركها أعمق واقترب من مضامينها وأسرارها، ولهذا لا يكفي المسلم -خصوصاً المسلم العامل لدينه- أن يقرأ السيرة مرة واحدة، ولا يكفيه أن يسمع السيرة مرة واحدة، بل يجب أن تكون السيرة النبوية مصاحبة له دائماً، وكلما انتهى من قراءة كتاب من كتب السيرة، انتظر فترة ثم اختار كتاباً آخر وقرأ السيرة مرة ثانية، وفي كل قراءة تتكشف له أشياء وتتفتح له أبواب ويفهم أشياء من هذه السيرة ما فهمها في المرة السابقة، وكلما زاد إدراك الشخص ووعيه وكبر عقله زاد ذلك من فهمه واستنباطاته من سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثانياً: مقاصد دراسة السيرة النبوية:(1/8)
إن السيرة النبوية لا تدرس من أجل المتعة في التنقل بين أحداثها أو قصصها، ولا من أجل المعرفة التاريخية لحقبة زمنية من التاريخ مضت، ولا محبة وعشقاً في دراسة سير العظماء والأبطال، ذلك النوع من الدراسة السطحية، إن أصبح مقصداً لغير المسلم من دراسة السيرة، فإن للمسلم مقاصد أخرى من دراستها من ذلك:
أولاً: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو محل القدوة والأسوة، وهو المشرع الواجب طاعته واتباعه، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [(21) سورة الأحزاب]، وقال تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [(54) سورة النور]، وقال تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ} [(80) سورة النساء]، وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} [(31) سورة آل عمران]، فهو التجسيد العملي والصورة التطبيقية للإسلام، وبدونها لا نعرف كيف نطيع الله تعالى ونعبده.
لقد أصبحت سير كثير من العظماء أضحوكة للبشر على مدار التاريخ كله، فأين نمروذ الذي قال لإبراهيم: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [(258) سورة البقرة]؟! وأين مقالة فرعون وشأنه الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [(24) سورة النازعات]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [(38) سورة القصص]؟!
إن هؤلاء العظماء في زمانهم يسخر منهم اليوم الصغير والكبير والعالم والجاهل، فإن كانوا دلّسوا على أقوامهم في زمنهم واستخفوا بهم فأطاعوهم، فقد افتضح أمرهم بعد هلاكهم، وأصبحوا محل السخرية على مدار الزمان.(1/9)
إن سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- جاءت بإخراج الناس من ظلمات الشرك والأخلاق وفساد العبادة والعمل، إلى نور التوحيد والإيمان والعمل الصالح: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [(45-46) سورة الأحزاب].
ثانياً: المقصد الثاني: ليزداد إيماننا ويقيننا بصدقه، فالوقوف على معجزاته ودلائل نبوته مما يزيد في الإيمان واليقين في صدقه -صلى الله عليه وسلم-، فدراسة سيرته العطرة وما سطرته كتب السيرة من مواقف عظيمة وحياة كاملة كريمة تدل على كماله ورفعته وصدقه.
ومن الأمثلة على دلائل النبوة: حنين الجذع، وتكثير الطعام، ونبع الماء بين أصابعه، والإخبار بأمور غيبية مستقبلية وقعت كما أخبر، كقصة حرام بنت ملحان في ركوب ثبج البحر، وحديث أبي هريرة في الصحيحين: ((يهلك كسرى فلا يكون كسرى بعده))، وفي البخاري: ((إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتينن)) فحصل كما أخبر، وحديث: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرَّ والحرير والخمر والمعازف))، و((من أشراط الساعة أن يتباهى الناس في المساجد)) وغيرها كثير.
ثالثاً: لينغرس في قلوبنا حبه، فما حملته سيرته من أخلاق فاضلة، ومعاملة كريمة، وحرصه العظيم على هداية الناس وصلاحهم وجلب الخير لهم، وبذل نفسه وماله في سبيل إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة، وما كان من حرصه -صلى الله عليه وسلم- على أمته في إبعادها عما يشق عليها ويعنتها، ولا أعظم من وصف الله -جل وعلا- له في قوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [(128) سورة التوبة]، وقال تعالى واصفاً نبيه -صلى الله عليه وسلم-: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [(4) سورة القلم].(1/10)
وأنه لم ينتقم لنفسه قط، ولا فرح أو حزن أو ضحك أو غضب من أجل نفسه ومصالحه الشخصية قط، أو انتصر لنفسه مرة واحدة، بل كل ذلك من أجل الله تعالى.
رابعاً: لنعبد الله تعالى بذكره والصلاة والسلام عليه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب]، وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بها عَشْرًا)).
ثالثاً: خصائص السيرة النبوية:
للسيرة النبوية خصائص ومميزات، تميزها عن غيرها:
أولاً: أنها معلومة ومسجلة ولم يخف منها شيء: فما ترك علماء الإسلام على مر التاريخ باباً من أبواب السيرة إلا وقد ألفوا فيه مؤلفاً مستقلاً، شمل ذلك دقائقها وجزئياتها، حتى أصبح المسلم عند قراءته لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كأنه يعايشه ويشاهده تماماً؛ لوضوحها وشمولها.
ثانياً: ما تميزت به من الصدق والأمانة في نقلها: فقد حظيت كما حظي بذلك الحديث من التمحيص والتحقيق والمقارنة والتثبت من النقلة ومعرفة الصحيح منها من الضعيف، فأصبحت أصح سيرة نقلت إلينا عن نبي أو عظيم.
ثالثاً: أن رسالته عامة لجميع الخلق مع خلودها: فسيرته قدوة وأسوة لكل البشر، قد ساوت بين الملوك ومن هو دونهم من وجه استفادة الجميع منها، سيرة ينتفع بها صغار الناس وكبارهم، فهم في دين الله سواء، قد رفع من شأن الجميع.
ولا شك أنه ما من خير وصلاح وسعادة في الدنيا والآخرة إلا وهو مستقىً منها، وما من شر وفساد وشقاء وظلم وجور إلا بسبب جهلها والبعد عن الاقتداء بسيرته -صلى الله عليه وسلم-.(1/11)
لقد أنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بعد في مكة ومحاصر فيها قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [(107) سورة الأنبياء]، فهو الرحمة المسداة، والنعمة المهداة للبشرية جميعاً، رحمة لهم ومنقذٌ إياهم من الشقاء والضلال والظلم والفساد والضياع والانحطاط، إلى السعادة والهداية والعدل والصلاح والرفعة والعلو والكرامة، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [(28) سورة سبأ]، وقال -جل وعلا-: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [(1) سورة الفرقان]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّة)).
إن الإنسانية كلها تتطلع إلى مثلٍ أعلى تقتدي به، ولن تجد سيرة لعظيم أو نبي معلومة كاملة شاملة غير سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
اسأل البوذيين ماذا يعرفون عن بوذا وما أخلاقه؟ وما هي علاقاته مع أسرته؟ لن تجد جواباً.
واسأل النصارى عن عيسى -عليه السلام-، ماذا يعرفون عنه قبل النبوة؟ والتي يحددونها بثلاثين عاماً، وبعد النبوة ثلاثة أعوام، وكيف العلاقة بينه وبين أمه، أو بينه وبين ربه التي يزعمون بنوته له -تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً- فلن تجد عند جميع هؤلاء أي جواب، بل ستجد الدهشة بادية على وجوه جميع من تسأله من عالم وغيره، أما نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- فإنا نعلم تفاصيل حياته الخاصة والعامة.(1/12)
جل العظماء حالتهم مع الناس غير حالتهم مع أهلهم وفي بيوتهم، ولا يرضون لزوجاتهم أن تخبرنا عن أحوالهم، بل تعتبر حياتهم الخاصة سراً من الأسرار يعاقب على إفشائها، وكل الناس كذلك لا يرضون أبداً أن يطّلع أحد على كثير من حياتهم الأسرية الخاصة، ما عدا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو لم يرض فقط بل أمر أن ينقل عنه كل شيء، فبلّغ عنه أزواجه كل ما رأوه منه، حتى إنها لتُبلّغ عنه ما كان تحت اللحاف فيما بينه وبينها، وعن غسلها معه من الجنابة، حتى أن الرجل ليعرف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر مما يعرفه عن أبيه الملاصق له والساكن معه!.
رابعاً: الميزة الرابعة لهذه السيرة العطرة: كمالها بلا عيب أو نقص أو ضعف أو خلل: قلِّب بصرك وعقلك في ثنايا السيرة النبوية الشريفة، هل ثمت شيء تنتقده؟ أو عيب تجده؟.
إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقض وقته بين أحبابه وأصحابه، بل قضى أغلب عمره بين ألد أعدائه وهم المشركون، وفي آخر عمره كان يجاوره اليهود والمنافقون، فلم يستطيعوا أن يرموه بنقيصة في أخلاقه وشمائله وصدقه، على الرغم من حرصهم الشديد بالبحث والتنقيب عنها، فقد رماه أهل مكة بالألقاب السيئة وعيَّروه بالأسماء القبيحة، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يقدحوا بشيء من أخلاقه، أو يدنسوا عرضه الطاهر على الرغم من إنفاقهم أموالهم وإزهاقهم أرواحهم في عدائه، قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [(33) سورة الأنعام].
وقد أخرج البخاري عن ابن عباس في صعود النبي -صلى الله عليه وسلم- جبل الصفا لتبليغ الناس حيث قال: ((أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقا)).(1/13)
وعن المغيرة بن شعبة -رضي الله تعالى عنه- قال: "إن أول يوم عرفت فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي جهل: ((يا أبا الحكم، هلمَّ إلى الله ورسوله، إني أدعوك إلى الله))، فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منتهٍ عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أن قد بلّغت؟ فو الله لو أني أعلم أن ما تقول حقاً ما تبعتك!، فانصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأقبل عليَّ فقال: والله إني لأعلم ما يقول حقاً، ولكن بني قصيّ قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، قالوا: فينا الندوة، قلنا: نعم، قالوا: فينا اللواء، قلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم، ثم أطعموا وأطعمنا، حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبيّ! فلا والله لا أفعل".
خامساً: شمولها لجميع نواحي الحياة مع الوضوح التام فيها: لقد عاش النبي -صلى الله عليه وسلم- بين صحابته وتزوج بتسع نسوة، وأمر أن يبلّغ الشاهد منهم الغائب، وقال: ((بلّغوا عني ولو آية))، وقال: ((نضّر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع)).
وما سافر وحده قط، ولا اعتزل الناس في يوم من الأيام أبداً، وقد تضافر الصحابة على نقل كل شيء عنه بل تفرغ عدد منهم للرواية والمتابعة له كأهل الصفة.
لقد وصفوه في قيامه وجلوسه، وكيف ينام، وهيئته في ضحكه وابتسامته، وكيف اغتساله ووضوؤه، وكيف يشرب ويأكل وما يعجبه من الطعام، ووصفوا جسده الطاهر كأنك تراه، حتى ذكروا عدد الشعرات البيض في رأسه ولحيته، ولمحة في كتاب من كتب الشمائل تجد العجب من هذا الشمول وهذه الدقة في الوصف والنقل.(1/14)
سادساً: أنها بعمومها لم تتعد القدرة البشرية: أي أنها لم تتكئ على الخوارق، أو قامت فصولها على معجزة من المعجزات خارجة عن قدرات البشر، بل إنه من السهل التعرف عليها وتطبيقها والاقتداء بها، فليست مثالية التطيبق.
رابعاً: ضوابط دراسة السيرة النبوية:
هناك ضوابط مهمة يجب معرفتها للذي يدرس السيرة النبوية:
أولاً: فهم حقيقة الإسلام ومنهجه المتكامل: فلا يمكن الفصل بين الجانب السياسي والعسكري والجانب الخلقي والتشريعي خاصة في القرون الأولى من تاريخ الإسلام؛ حيث تتشابك العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية بالعقيدة تشابكاً وثيقاً بحيث يصعب فهم حركة التاريخ في تلك المرحلة دون فهم روح الإسلام ومبادئه.
الضابط الثاني: ينبغي أن تنطلق دراسة السيرة من اليقين بعزة الإسلام وأحقيته في الحكم والسيادة وأن الله لا يقبل ديناً سواه: وأنه لا يفهم إلا من خلال دراسة السيرة، ولذا وجب البعد عن الروح الانهزامية في تحرير السيرة وتحليلها، خذ على سبيل المثال: مسألة قتل يهود بني قريظة لما قبلوا حكم سعد بن معاذ فيهم وكان حليفهم في الجاهلية، فحكم فيهم بحكم الله: أن يقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم! هنا يصعب الموقف على من في قلبه انهزامية، فيسعى للتشكيك في ثبوت القصة. وهي ثابتة بلا شك.
الضابط الثالث: اعتبار القرآن الكريم مصدراً أولاً في تلقي السيرة وفهمها: فالقرآن يشتمل على إشارات تفصيلية لا توجد في مصدر آخر كما في أحداث زواج زينب -رضي الله عنها-.
أيضاً دقة وصف القرآن للأحداث والأشخاص، حتى يصور نبضات القلب وتقاسيم الوجه وخلجات الفؤاد، وهذه خصيصة تنقل القارئ إلى جو الحدث ليعيش فيه، وأيضاً تركيزه على خصائص سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- مثل: كونه بشراً، وأن رسالته عامة وأنه خاتم النبيين.(1/15)
وبدراسة السيرة من القرآن يتحول الحدث من قصة في زمان ومكان معينين إلى درس كبير متكامل يتعدى ظروفهما ويُتلى إلى قيام الساعة.
إن من يعيش السيرة من خلال القرآن وصحيح السنة لا تعود السيرة في حسه مجرد أحداث ووقائع، وإنما تصير شيئاً تتنامى معه مشاعره الإيمانية ووعيه الإيماني بالسنن الربانية.
الضابط الرابع: تمحيص الصحيح من الأخبار فيما يتعلق بالعقيدة والشريعة: فالمطلوب اعتماد الروايات الصحيحة وتقديمها ثم الحسنة ثم ما يعتضد من الضعيف؛ لبناء الصورة التاريخية لأحداث المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام، وعند التعارض يقدم الأقوى دائماً، أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى أو تعتضد فيمكن الإفادة منها في إكمال الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة على ألا تتعلق بجانب عقدي أو شرعي.
ولا يخفى أن عصر السيرة النبوية والخلافة الراشدة مليء بالسوابق الفقهية، والخلفاء الراشدون كانوا يجتهدون في تسيير دفة الحياة وفق تعاليم الإسلام، فهم موضع اقتداء ومتابعة فيما استنبطوا من أحكام ونظم لأقضية استجدت بعد توسع الدولة الإسلامية على إثر الفتوح.
الضابط الخامس: الالتزام بالمصطلحات الشرعية: قسم الله -تبارك وتعالى- الناس ثلاثة أقسام: مؤمناً وكافراً ومنافقاً، كما في صدر سورة البقرة، وجعلهم حزبين: أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فالواجب الالتزام بهذه التسميات وعدم العدول عنها إلا عند الحاجة للتعريف باتجاهات بعض الأفراد الذين يترتب على معرفة ذلك منهم مصلحة، مع الحرص على التحديد ما أمكن، وفائدة التحديد في تقليل التمييع والتضليل الذي يسعى إليه المفسدون وأشياعهم حيث يحرصون على التعمية وتجاهل الأسماء الشرعية التي يترتب عليها أحكام، وتستلزم ولاءً أو براءً.(1/16)
الضابط السادس: صدق العاطفة: من أسس دراسة السيرة توفر المحبة الصادقة لصاحبها -صلى الله عليه وسلم- والعاطفة الحية التي تُشعر بمدى الارتباط الحقيقي قلباً وقالباً، والتفاعل الحقيقي مع أحداث سيرته.
ولقد عبر الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- عن عاطفته الجياشة فقال في مقدمة كتابه الفذ (فقه السيرة): "إنني أكتب في السيرة كما يكتب جندي عن قائده، أو تابع عن سيده، أو تلميذ عن أستاذه، ولست كما قلت مؤرخاً محايداً مبتوت الصلة بمن يكتب عنه"، فدراسة السيرة هو تعبُّد لله -عز وجل- وتقرباً إليه.
الضابط السابع: الوفاء بحقوق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- دون غلو أو جفاء: ينأى عن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومنهج سلف الأمة في دراسة السيرة فريقان: قوم قصَّروا في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- وما يجب له من الإجلال والتوقير والتعظيم، فدرسوا سيرته كما يدرسون سائر الشخصيات الأخرى، فنظروا لجوانب العظمة البشرية والقيادة والعبقرية والبطولة والإصلاح الاجتماعي، مغفلين الجانب الأعلى في حياته وهو تشرفه بوحي الله -عز وجل- وختم النبوة والرسالة، ولهؤلاء يحسن سياق خبر أبي سفيان يوم فتح مكة، حيث قال للعباس لما رأى كتائب الصحابة -رضي الله عنهم-: والله لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم لعظيماً، فقال العباس: ويحك يا أبا سفيان إنها النبوة، قال: فنعم إذنً.
وآخرون بالغوا في التعظيم وغلوا في منزلة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلم يَرُقْ لهم وصفه بالبشرية، بل ربما خطر لبعضهم أنه ضربٌ من الجفاء مع أن كونه -صلى الله عليه وسلم- بشراً عبداً لله -عز وجل- من مسلَّمات العقيدة، وخلافه ضرب من الضلال، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)).
فالحق وسط بين الطرفين، ولدراسة السيرة انطلاقاً من ذلك أثر كبير في العقيدة والعبادة والسلوك والدعوة والتأسي والاقتداء.(1/17)
الضابط الثامن: تحديد هدف الدراسة وهو الاقتداء والتأسي: من العبث اعتبار سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لمجرد التسلية وإبراز عظمة الرجال، بل إن سيرته هداية للناس، وترجمة عملية لدين الله -عز وجل- وتصور للإسلام يتجسد في حياة صاحب الرسالة، تطبيقاً للمبادئ والقواعد والأحكام النظرية.
ولمَّا وعى الصحابة وسلف الأمة هذا الغرض اكتسبت السيرة في حياتهم مكانة علمية تليق بها وبهم.
الضابط التاسع: معرفة مواضع الاقتداء من فعله -صلى الله عليه وسلم-: فمعرفة أحوال أفعاله -صلى الله عليه وسلم- وأقسامها مبحث أصولي يهم دارس السيرة. وفعله -صلى الله عليه وسلم- لا يخلو إما أن يكون صدر منه بمحض الجِبِلَّة، أو بمحض التشريع، وهذا قد يكون عامّاً للأمة، وقد يكون خاصّاً به -صلى الله عليه وسلم-، فهذه ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الأفعال الجِبِلّية: كالقيام والقعود والأكل والشرب، فهذا القسم مباح؛ لأن ذلك لم يقصد به التشريع ولم نتعبد به، ولذلك نسب إلى الجِبِلَّة، وهي الخِلْقة.
القسم الثاني: الأفعال الخاصة به -صلى الله عليه وسلم- التي ثبت بالدليل اختصاصه بها كالجمع بين تسع نسوة، فهذا القسم يحرم فيه التأسي به.
القسم الثالث: الأفعال البيانية التي يقصد بها البيان والتشريع، كأفعال الصلاة والحج، فحكم هذا القسم تابع لما بيَّنه، فإن كان المبيَّن واجباً كان الفعل المبيِّن له واجباً، وإن كان مندوباً فمندوب.
الضابط العاشر: معرفة كيفية الاستفادة منها في الواقع: الدراسة المفيدة للسيرة تحصل حين تُدرَس على أنها سنن ربانية يمكن أن تتكرر كلما تكررت ظروفها، ولا تتحقق أبداً حين ننظر للسيرة على أنها مجرد أحداث مفردة قائمة بذاتها حدثت زمن البعثة النبوية، بل هي آيات وعبر في شؤون الحياة كلها، وإلا ضاع رصيدها وقوتها الدافعة لأجيال المسلمين، فهي تربط المسلم بالسنن الربانية، وتربط قلبه بالله تعالى.
وأخيراً:(1/18)
إن كل حركة إصلاح أو تغيير تعجز عن الاستفادة من السيرة في صياغة مناهجها وحل مشكلاتها هي بعيدة عن الاقتداء؛ لأن الواجب تجريد السيرة من قيد الزمان والمكان لتجيب عن أسئلة الواقع ومشكلاته.
والحمد لله أولاً وآخراً...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس (الثاني)
ما قبل البعثة والمولد
- أحوال العالم قبل البعثة.
- أحداث مهمة قبل المولد.
الدرس الثاني:
- أحوال العالم قبل البعثة:
كانت الإنسانية قبل بزوغ فجر الإسلام العظيم تعيش مرحلة من أحط مراحل التاريخ البشري في شؤونها الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتعاني من فوضى عامة في كافة شؤون حياتها، وهيمن المنهج الجاهلي على العقائد والأفكار والتصورات والنفوس، وأصبح الجهل والهوى والانحلال والفجور والتجبر والتعسف من أبرز ملامح المنهج الجاهلي المهيمن على دنيا الناس.
وضاع تأثير الديانات السماوية على الحياة، أو كاد بسبب ما أصابها من التبديل والتحريف والتغيير الذي جعلها تفقد أهميتها باعتبارها رسالة الله إلى خلقه، وانشغل أهلها بالصراعات العقدية النظرية التي كان سببها دخول الأفكار البشرية، والتصورات الفاسدة على هذه الأديان، حتى أدى إلى الحروب الطاحنة بينهم، ومن بقي منهم لم يحرّف ولم يبدل قليل نادر، وآثر الابتعاد عن دنيا الناس ودخل في حياة الخلوة والعزلة؛ طمعاً في النجاة بنفسه يأساً من الإصلاح، ووصل الفساد إلى جميع الأصناف والأجناس البشرية، ودخل في جميع المجالات بلا استثناء.
ففي الجانب الديني تجد الناس إما أن ارتدوا عن الدين، أو خرجوا منه، أو لم يدخلوا فيه أصلاً، أو وقعوا في تحريف الديانات السماوية وتبديلها.(1/19)
وأما في الجانب التشريعي فإن الناس نبذوا شريعة الله وراءهم ظهرياً, واخترعوا من عند أنفسهم قوانين وشرائع لم يأذن بها الله تصطدم مع العقل وتختلف مع الفطرة، وتزّعم هذا الفساد زعماء الشعوب والأمم من القادة والرهبان والقساوسة والدهاقين والملوك، وأصبح العالم في ظلام دامس وليل بهيم وانحراف عظيم عن منهج الله -سبحانه وتعالى-.
فاليهودية: أصبحت مجموعة من الطقوس والتقاليد لا روح فيها ولا حياة، وتأثرت بعقائد الأمم التي جاورتها واحتكت بها والتي وقعت تحت سيطرتها، فأخذت كثيراً من عاداتها وتقاليدها الوثنية الجاهلية.
أما المسيحية: فقد امتحنت بتحريف الغالين وتأويل الجاهلين، واختفى نور التوحيد وإخلاص العبادة لله وراء السحب الكثيفة، واندلعت الحروب بين النصارى في الشام والعراق، وبين نصارى مصر حول حقيقة المسيح وطبيعته، وتحولت البيوت والمدارس والكنائس إلى معسكرات متنافسة وظهرت الوثنية في المجتمع المسيحي في مظاهر مختلفة وألوان شتى.
لقد اندلعت الحروب بين النصارى وكفَّر بعضهم بعضاً، وقتل بعضهم بعضاً، وانشغل النصارى ببعضهم عن محاربة الفساد وإصلاح الحال ودعوة الأمم إلى ما فيه صلاح البشرية.
وأما المجوس: فقد عُرفوا من قديم الزمان بعبادة العناصر الطبيعية، أعظمها النار، وانتشرت بيوت النار في طول البلاد وعرضها وعكفوا على عبادتها وبنوا لها معابد وهياكل، وكانت لها آداب وشرائع دقيقة داخل المعابد، أما خارجها فكان أتباعها أحراراً يسيرون على هواهم لا فرق بينهم وبين من لا دين له.
وقد دان المجوس بالثنوية في كل عصر وأصبح ذلك شعاراً لهم، فآمنوا بإلهين اثنين، أحدهما النور، أو إله الخير، والثاني الظلام، أو إله الشر.
أما البوذية في الهند وآسيا الوسطى: فقد تحولت وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت، وتبني الهياكل، وتنصب تماثيل بوذا حيث حلت ونزلت.(1/20)
أما البرهمية: دين الهند الأصلي، فقد اتصفت بكثرة المعبودات والآلهة، وقد بلغت أوجها في القرن السادس الميلادي، ولا شك أن الديانتين الهندوكية والبوذية وثنيتان سواء بسواء.
لقد كانت الدنيا المعمورة من البحر الأطلسي إلى المحيط الهادي غارقة في الوثنية، وكأنما كانت المسيحية واليهودية والبوذية والبرهمية تتسابق في تعظيم الأوثان وتقديسها، وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عموم هذا الفساد لجميع الأجناس وجميع المجالات بلا استثناء فقد قال -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم في خطبته: ((ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل ما نحلته عبداً حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحَرَّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم: عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب..)).
والحديث يشير إلى انحراف البشرية في جوانب متعددة كالشرك بالله ونبذ شريعته وفساد المصلحين من حملة الأديان السماوية وممالأتهم للقوم على ضلالهم.
وأما العرب: فقد قسم المؤرخون أصول العرب إلى ثلاثة أقسام بحسب السلالات التي انحدروا منها:
1- العرب البائدة: وهي قبائل عاد، وثمود، والعمالقة، وطَسْم، وجَديس، وجُرهم وحضرموت ومن يتصل بهم، وهذه درست معالمها واضمحلت من الوجود قبل الإسلام، وكان لهم ملوك امتد ملكهم إلى الشام ومصر.
2- العرب العاربة: وهم العرب المنحدرة من صلب يَعْرُب بن يشجُب بن قحطان وتسمى بالعرب القحطانية، ويعرفون بعرب الجنوب ومنهم ملوك اليمن ومملكة مَعِين وسبأ وحمير.
3- العرب العدنانية: نسبة إلى عدنان الذي ينتهي نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- وهم المعروفون بالعرب المستعربة، أي الذين دخل عليهم دم ليس عربيَّاً، ثم تم اندماج بين هذا الدم وبين العرب، وأصبحت اللغة العربية لسان المزيج الجديد.(1/21)
وهؤلاء هم عرب الشمال موطنهم الأصلي مكة، وهم إسماعيل -عليه السلام- وأبناؤه، والجراهمة الذين تعلم منهم إسماعيل -عليه السلام- العربية وصاهرهم، ونشأ أولاده عرباً مثلهم، ومن أهم ذرية إسماعيل (عدنان) جد النبي -صلى الله عليه وسلم- الأعلى، ومن عدنان كانت قبائل العرب وبطونها، فقد جاء بعد عدنان ابنه معد، ثم نزار، ثم جاء بعده ولداه مُضَر وربيعة.
وقد نشأت من قديم الزمان ببلاد العرب حضارات أصيلة ومدنيات عريقة من أشهرها:
1- حضارة سبأ باليمن: وقد أشار القرآن الكريم إليها، ففي اليمن استفادوا من مياه الأمطار والسيول التي كانت تضيع في الرمال، وتنحدر إلى البحار، فأقاموا الخزانات والسدود بطرق هندسية متطورة، وأشهر هذه السدود (سد مأرب) واستفادوا بمياهها في الزروع المتنوعة، والحدائق ذات الأشجار الزكية، والثمار الشهية، قال عز شأنه: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ*ٍ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [(15-17) سورة سبأ].(1/22)
2- حضارة عاد بالأحقاف: وكانوا في شمال حضرموت وهم الذين أرسل الله إليهم نبيه هوداً -عليه السلام- وكانوا أصحاب بيوت مشيدة، ومصانع متعددة، وجنات وزروع وعيون، قال تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ* أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ* وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [(123-134) سورة الشعراء].
3- حضارة ثمود بالحجاز: حيث دل القرآن الكريم على وجود حضارة في بلاد الحِجْر، وأشار إلى ما كانوا يتمتعون به من القدرة على نحت البيوت في الجبال، وعلى ما كان يوجد في بلادهم من عيون وبساتين وزروع، قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ* أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ* وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [(141-150) سورة الشعراء].
لقد زالت كل تلك الحضارات من زمن طويل، ولم يبق إلا آثار ورسوم وأطلال، فقد اضمحلت القرى والمدن، وتخربت الدور والقصور، ونضبت العيون، وجفت الأشجار، وأصبحت البساتين والزروع أرضا جُرُزاً.
- وأما عن الحالة الدينية عند العرب:(1/23)
فقد كان العرب في تخلف ديني شديد، ووثنية سخيفة لا مثيل لها، وانحرافات خلقية واجتماعية وفوضى سياسية وتشريعية، ومن ثم قل شأنهم وصاروا يعيشون على هامش التاريخ، ولا يتعدون في أحسن الأحوال أن يكونوا تابعين للدولة الفارسية أو الرومانية، وقد امتلأت قلوبهم بتعظيم تراث الآباء والأجداد واتباع ما كانوا عليه مهما يكن فيه من الزيغ والانحراف والضلال، ومن ثم عبدوا الأصنام، فكان لكل قبيلة صنم، فكان لهذيل سواع، ولكلب ود، ولمذحج يغوث، ولخيوان يعوق، ولحمير نسر، وكانت خزاعة وقريش تعبد إسافاً ونائلة، وكانت مناة على ساحل البحر، تعظمها العرب كافة والأوس والخزرج خاصة، وكانت اللات في ثقيف، وكانت العزى فوق ذات عرق -وكانت أعظم الأصنام عند قريش- وإلى جانب هذه الأصنام الرئيسية يوجد عدد لا يحصى كثرة من الأصنام الصغيرة والتي يسهل نقلها في أسفارهم ووضعها في بيوتهم.
روى البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العُطاردي قال: "كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً آخر هو أخيرُ منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جُثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ثم طفنا به".
وقد هيمنت هذه الآلهة المزعومة على قلوبهم وأعمالهم وتصرفاتهم وجميع جوانب حياتهم وضعف توقير الله في نفوسهم.
أما البقية الباقية من دين إبراهيم -عليه السلام- فقد أصابها التحريف والتغيير والتبديل، فصار الحج موسماً للمفاخرة والمباهاة وانحرفت بقايا المعتقدات الحنيفية عن حقيقتها وألصق بها من الخرافات والأساطير الشيء الكثير.
وكان يوجد بعض الأفراد من الحنفاء الذين يرفضون عبادة الأصنام وما يتعلق بها من الأحكام والنحائر وغيرها، ومن هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل، وكان لا يذبح للأنصاب، ولا يأكل الميتة والدم.(1/24)
وممن كان يدين بشريعة إبراهيم وإسماعيل -عليهما الصلاة والسلام، قُس بن ساعدة الإيادي، فقد كان خطيباً حكيماً عاقلاً له نباهة وفضل، وكان يدعو إلى توحيد الله وعبادته وترك عبادة الأوثان، كما كان يؤمن بالبعث بعد الموت، وقد بشر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- ومات قبل البعثة.
وكان بعض العرب قد تنصر، وبعضهم دخل في اليهودية، أما الأغلبية فكانت تعبد الأوثان والأصنام.
- أما الحالة السياسية:
فقد كان سكان الجزيرة العربية ينقسمون إلى بدو وحضر، وكان النظام السائد بينهم هو النظام القبلي، والقبيلة العربية مجموعة من الناس تربط بينها وحدة النسب ووحدة الجماعة، وفي ظل هذه الرابطة نشأ قانون عرفي ينظم العلاقات بين الفرد والجماعة، على أساس من التضامن بينهما في الحقوق والواجبات، وهذا القانون العرفي كانت تتمسك به القبيلة في نظامها السياسي والاجتماعي، وزعيم القبيلة ترشحه للقيادة منزلته القبلية وصفاته وخصائصه من شجاعة ومروءة وكرم ونحوها، ولرئيس القبيلة حقوق أهمها: احترامه وتبجيله والاستجابة لأمره والنزول على حكمه وقضائه.
ومقابل هذه الحقوق عليه واجبات ومسئوليات، فهو في السلم جواد كريم، وفي الحرب يتقدم الصفوف، ويعقد الصلح، والمعاهدات.
وكانت كل قبيلة من القبائل العربية لها شخصيتها السياسية وهي بهذه الشخصية كانت تعقد الأحلاف مع القبائل الأخرى، وبهذه الشخصية أيضاً كانت تشن الحرب عليها، ولعل من أشهر الأحلاف التي عقدت بين القبائل العربية، حلف الفضول.(1/25)
وكانت الحروب بين القبائل على قدم وساق، ومن أشهر هذه الحروب حرب الفجار، وتقع إغارات فردية بين القبائل تكون أسبابها شخصية أحياناً، أو طلب العيش أحياناً أخرى، إذ كان رزق بعض القبائل في كثير من الأحيان في حد سيوفها، ولذلك ما كانت القبيلة تأمن أن تنقض عليها قبيلة أخرى في ساعة من ليل أو نهار لتسلب أنعامها ومؤنها، وتدع ديارها خاوية كأن لم تسكن بالأمس!.
- وأما الحالة الاقتصادية:
فكان يغلب على الجزيرة العربية الصحاري الواسعة الممتدة، وهذا ما جعلها تخلو من الزراعة إلا في أطرافها وخاصة في اليمن والشام، وبعض الواحات المنتشرة في الجزيرة، وكان يغلب على البادية رعي الإبل والغنم، وكانت القبائل تنتقل بحثاً عن مواقع الكلأ، وكانوا لا يعرفون الاستقرار إلا في مضارب خيامهم.
وأما الصناعة فكانوا أبعد الأمم عنها، وكانوا يأنفون منها، ويتركون العمل فيها للأعاجم والموالي، حتى عندما أرادوا بنيان الكعبة استعانوا برجل قبطي نجا من السفينة التي غرقت بجدة، ثم أصبح مقيماً في مكة.
وإذا كانت الجزيرة العربية قد حرمت من نعمتي الزراعة والصناعة، فإن موقعها الاستراتيجي بين إفريقيا وشرق آسيا جعلها مؤهلة لأن تحتل مركزاً متقدماً في التجارة الدولية آنذاك.
وكان الذين يمارسون التجارة من سكان الجزيرة العربية هم أهل المدن، ولا سيما أهل مكة فقد كان لهم مركز ممتاز في التجارة، وكان لهم بحكم كونهم أهل الحرم منزلة في نفوس العرب فلا يعرضون لهم ولا لتجارتهم بسوء، وقد امتن الله عليهم بذلك في القرآن الكريم بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [(67) سورة العنكبوت].
- وأما الحالة الاجتماعية:(1/26)
فقد هيمنت التقاليد والأعراف على حياة العرب، فكان الاعتزاز الذي لا حد له بالأنساب والأحساب والتفاخر بهما، فقد حرصوا على المحافظة على أنسابهم، فلم يصاهروا غيرهم من الأجناس الأخرى، ولما جاء الإسلام قضى على ذلك وبين لهم أن التفاضل إنما هو بالتقوى والعمل الصالح.
- أما المرأة فقد كانت عند كثير من القبائل كسقط المتاع، فقد كانت تورث، وكان الابن الأكبر للزوج من غيرها من حقه أن يتزوجها بعد وفاة أبيه أو يعضلها عن النكاح، حتى حَرَّم الإسلام ذلك، وكانوا لا يورثون البنات ولا النساء ولا الصبيان، ولا يورثون إلا من حاز الغنيمة وقاتل على ظهور الخيل، وبقي حرمان النساء والصغار من الميراث عرفا معمولاً به عندهم، وكان العرب يُعيّرون بالبنات؛ لأن البنت لا تخرج في الغزو، ولا تحمي البيضة من المعتدين عليها، ولا تعمل فتأتي بالمال شأن الرجال، وكثيراً ما كانوا يختارون دسها في التراب ووأدها حية، ولا ذنب لها إلا أنها أنثى، وكان بعض العرب يقتل أولاده من الفقر أو خشية الفقر، فجاء الإسلام وحرم ذلك.
- أما عن الحالة الأخلاقية:
فأخلاق العرب قد ساءت وأولعوا بالخمر والقمار، وشاعت فيهم الغارات وقطع الطريق على القوافل، والعصبية والظلم، وسفك الدماء، والأخذ بالثأر، واغتصاب الأموال، وأكل مال اليتامى، والتعامل بالربا، والسرقة والزنا.
وليس معنى هذا أنهم كانوا كلهم على هذا، لا، لقد كان فيهم كثيرون لا يزنون ولا يشربون الخمر ولا يسفكون الدماء ولا يظلمون، ويتحرجون من أكل أموال اليتامى، ويتنزهون عن التعامل بالربا، وكانت فيهم سمات وخصال من الخير كثيرة أهلتهم لحمل راية الإسلام، وهذا أحد الأسباب التي اختار الله العرب أن يكونوا هم حملة الدين الجديد من بين سائر الأمم والشعوب في وقتهم، ومن تلك الخصال والسمات:(1/27)
1- الذكاء والفطنة: فقد كانت قلوبهم صافية لم تدخلها تلك الفلسفات والأساطير والخرافات التي يصعب إزالتها، وكانوا أحفظ شعب عرف في ذلك الزمن، واتساع لغتهم دليل على قوة حفظهم وذاكرتهم، فإذا كان للعسل ثمانون اسماً، وللثعلب مائتان، وللأسد خمسمائة، فإن للجمل ألفاً، وكذا السيف، وللداهية نحو أربعة آلاف اسم، ولا شك أن استيعاب هذه الأسماء يحتاج إلى ذاكرة قوية حاضرة وقَّادة.
2- أهل كرم وسخاء: كان هذا الخُلُق متأصلاً في العرب، وكان الواحد منهم لا يكون عنده إلا فرسه أو ناقته، فيأتيه الضيف فيسارع إلى ذبحها أو نحرها له.
3- أهل شجاعة ومروءة ونجدة: كانوا يتمادحون بالموت قتلاً، ويتهاجون بالموت على الفراش، وكان العرب لا يقدمون شيئاً على العز وصيانة العرض وحماية الحريم، واسترخصوا في سبيل ذلك نفوسهم، وكان العرب بفطرتهم أصحاب شهامة ومروءة، فكانوا يأبون أن ينتهز القوي الضعيف، أو العاجز أو المرأة أو الشيخ، وكانوا إذا استنجد بهم أحد أنجدوه ويرون من النذالة التخلي عمن لجأ إليهم.(1/28)
4- عشقهم للحرية وإباؤهم للضيم والذل: كان العربي بفطرته يعشق الحرية، يحيا لها ويموت من أجلها، فقد نشأ طليقاً لا سلطان لأحد عليه، ويأبى أن يعيش ذليلاً، أو يُمس في شرفه وعرضه ولو كلفه ذلك حياته، فقد كانوا يأنفون من الذل ويأبون الضيم والاستصغار والاحتقار، وإليك مثال على ذلك: جلس عمرو بن هند ملك الحيرة لندمائه وسألهم: هل تعلمون أحداً من العرب تأنف أمه خدمة أمي؟ قالوا: نعم، أم عمرو بن كلثوم الشاعر الصعلوك، فدعا الملك عمرو بن كلثوم لزيارته، ودعا أمه لتزور أمه، وقد اتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمرو بن كلثوم بعد الطعام: ناوليني الطبق الذي بجانبك، فلما جاءت قالت لها ذلك، فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت عليها الكرة وألحت، فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم: وا ذلاه يا لتغلب، فسمعها ابنها فاشتد به الغضب فرأى سيفا للملك معلقا بالرواق فتناوله وضرب به رأس الملك عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب، وانتهبوا ما في الرواق، ونظم قصيدة يخاطب بها الملك قائلاً:
بأي مشيئة عمرو بن هند ... نكون لقيلكم فيها قطينا
بأي مشيئة عمرو بن هند ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وتوعدنا رويداً ... متى كنا لأمك مقتوينا
إذا ما الملك سام الناس خسفاً ... أبينا أن نقر الذل فينا
5- الوفاء بالعهد وحبهم للصراحة والوضوح والصدق: كانوا يأنفون من الكذب ويعيبونه، وكانوا أهل وفاء، ولهذا كانت الشهادة باللسان كافية للدخول في الإسلام، ويدل على أنفتهم من الكذب قصة أبي سفيان مع هرقل لما سأله عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكانت الحروب بينهم قائمة قال: "لولا الحياء من أن يؤثروا علي كذباً لكذبت عنه"، والوفاء خلق متأصل بالعرب، فجاء الإسلام ووجهه الوجهة السليمة.(1/29)
ومن القصص الدالة على وفائهم: أن الحارث بن عبّاد قاد قبائل بكر لقتال تغلب وقائدهم المهلهل الذي قتل ولد الحارث، فأَسر الحارث مهلهلاً وهو لا يعرفه، فقال دلني على مهلهل بن ربيعة وأخلي عنك، فقال له: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم، قال: فأنا هو، فجز ناصيته وتركه ولم يقتله. وهذا وفاء نادر ورجولة تستحق الإكبار.
6- الصبر على المكاره وقوة الاحتمال والرضا باليسير: كانوا يقومون من الأكل ويقولون: البطنة تذهب الفطنة، ويعيبون الرجل الأكول الجشع، وكانت لهم قدرة عجيبة على تحمل المكاره والصبر في الشدائد، وربما اكتسبوا ذلك من طبيعة بلادهم الصحراوية الجافة، قليلة الزرع والماء، فألِفوا اقتحام الجبال الوعرة، والسير في حر الظهيرة، ولم يتأثروا بالحر ولا بالبرد، ولا وعورة الطريق، ولا بعد المسافة، ولا الجوع، ولا الظمأ، ولما دخلوا الإسلام ضربوا أروع الأمثلة في الصبر، والتحمل وكانوا يرضون باليسير، فكان الواحد منهم يسير الأيام مكتفياً بتمرات يقيم بها صلبه، وقطرات من ماء يرطب بها كبده.
7- قوة البدن وعظمة النفس: واشتهروا بقوة أجسادهم مع عظمة النفس وقوة الروح، وإذا اجتمعت البطولة النفسية إلى البطولة الجسمانية صنعتا العجائب، وهذا ما حدث بعد دخولهم في الإسلام.
8- العفو عند المقدرة وحماية الجار: كما كانوا ينازلون أقرانهم وخصومهم، حتى إذا تمكنوا منهم عفوا عنهم وتركوهم، يأبون أن يجهزوا على الجرحى، وكانوا يرعون حقوق الجيرة، ولا سيما رعاية النساء والمحافظة على العرض قال شاعرهم:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
وكانوا إذا استجار أحد الناس بهم أجاروه، وربما ضحوا بالنفس والولد والمال في سبيل ذلك.(1/30)
كانت هذه الفصائل والأخلاق الحميدة رصيداً ضخماً في نفوس العرب، فجاء الإسلام فنماها وقواها، ووجهها وجهة الخير والحق، فلا عجب إذا كانوا انطلقوا من الصحاري كما تنطلق الملائكة الأطهار، فتحوا الأرض، وملؤوها إيماناً بعد أن ملئت كفراً، وعدلاً بعد أن ملئت جوراً، وفضائل بعد أن عمتها الرذائل، وخيراً بعد أن طفحت شراً.
هذه بعض أخلاق المجتمع الذي نشأ فيه الإنسان العربي فهو أفضل المجتمعات، لهذا اختير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واختير له هذا المجتمع العربي، وهذه البيئة النادرة، وهذا الوسط الرفيع مقارنة بالفرس والروم والهنود واليونان، فلم يختر من الفرس على سعة علومهم ومعارفهم ولا من الهنود على عمق فلسفاتهم، ولا من الرومان على تفننهم، ولا من اليونان على عبقرية شاعريتهم وخيالهم، وإنما اختير من هذه البيئة البكر؛ لأن هؤلاء الأقوام وإن كانوا على ما هم عليه وما هم فيه من علوم ومعارف، إلا أنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه العرب من سلامة الفطرة، وحرية الضمير، وسمو الروح.
- أحداث مهمة قبل المولد:
لقد سبق مولده الكريم -صلى الله عليه وسلم- أمور عظيمة دلت على اقتراب تباشير الصباح.
إن من سنن الله في الكون أن الانفراج يكون بعد الشدة، والضياء يكون بعد الظلام، واليسر بعد العسر، ومن أهم هذه الأحداث:
أولاً: قصة حفر عبد المطلب جد النبي -صلى الله عليه وسلم- لزمزم:
عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- قال: قال عبد المطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آتٍ فقال لي: احفر طيبة، قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني، قال: فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برَّة، قال: قلت وما برة؟ قال: ثم ذهب عني، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة. قال: قلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي، فنمت فيه فجاءني فقال: احفر زمزم. قال:(1/31)
قلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف أبداً ولا تُذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل.
قال: فلما بين شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صدق، غدا بمعول ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب، وليس معه يومئذ ولد غيره، فحفر فيها، فلما بدا لعبد المطلب الطيّ كبر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل، وإنا لنا فيها حق، فأشركنا معك فيها، قال: ما أنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم، قالوا له: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه، قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم، قال: نعم، وكانت في الشام.
فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، فخرجوا والأرض إذ ذاك مفاوز، حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبد المطلب وأصحابه، فعطشوا حتى استيقنوا الهلاك، فاستسقوا من كانوا معهم فأبوا عليهم، وقالوا: إنا بمفازة وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم، فقال عبد المطلب: إني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما لكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واراه، حتى يكون آخرهم رجلاً واحداً، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه، فقالوا: نعم ما أمرت به.
فحفر كل رجل لنفسه حفرة ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه:(1/32)
والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض، ولا نبتغي لأنفسنا لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحِلوا، فارتحَلوا حتى إذ بعث عبد المطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبر عبد المطلب، وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه، واستسقوا حتى ملؤوا أسقيتهم، ثم دعا قبائل قريش وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال، فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله، فجاءوا فشربوا، واستقوا كلهم، ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا، والله ما نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً، فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا إلى الكاهنة، وخلوا بينه وبين زمزم".
وقد ورد في فضل ماء زمزم أحاديث كثيرة منها: ((إنها طعام طعم))، ((ماء زمزم لما شرب له: إن شربته لتستشفي شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة جبريل، وسقيا الله إسماعيل)).
إن كان من تعليق على هذه القصة وربطها في واقعنا فهي أهمية الماء بالنسبة للشعوب والأمم والمجتمعات والدول، فالخلاف الذي حصل في مكة كان سببه ماء زمزم، والحرب القادمة كما يتوقعه المحللون والسياسيون في منطقتنا هي حرب المياه، وإذا كان الصراع على البترول قد شكل مساحة كبيرة من معادلات وأحداث المنطقة منذ عقود كثيرة وحتى الآن، فإن الصراع على المياه يمكن أن يكون أشد حدة، ذلك أن المياه في التحليل النهائي أهم وأغلى من البترول.
إن قضيةَ الماءِ هي مِنْ أكبرِ القضَايَا وأهمِهَا في مَنطقَةِ الشَرقِ الأوسطِ، اليومَ وغداً وبعدَ غدٍ، دونَ أن يُنقِصَ هذا مِنْ قضَايا مهمةٍ أخرى، مِثلَ: الأسلحةِ النوَويةِ الإسرائيليةِ منذ زمن والإيرانية الآن، وقضِيةِ القُدسِ، واحتلال الولايات المتحدة لعدد من الدول الإسلامية وغيرِهَا من القضايَا.(1/33)
إنَ كُبرَى الأنهارِ العربيةِ: النيلِ والفراتِ ودجلةَ، تَنبُعُ من غيرِ أراضِيها، وهذا القَدْرُ الجغرَافيُ السياسيُ لمياهِ المسلمين يجعلُ أغلبَ هذهِ الدولِ رهينةَ قرارَاتٍ خارجةٍ عن إرادتِهَا المباشرَةِ، فمثلاً نهرُ النيلِ تشتَركُ في حوضِهِ تِسعُ دُولٍ: السودانُ، مصرُ، أثيوبيَا، زائيرُ، أوغَندَا، رواندَا، بُورِندِي تنزَانيَا، وكينيَا.
وكذلك الحالُ بالنسبةِ لِنهرَيْ دجلةَ والفراتَ، فإنهمَا يَنبُعَانِ من هضَبةِ الأناضُولِ جنُوبِ شرقِ تُركيا، ويختَرِقُ الفراتُ سوريَا فالعِراقَ، وتتعرضُ اليومَ كلٌ مِنَ سوريا والعراقِ لنقصٍ كبيرٍ في كمياتِ مياهِ نهرِ الفراتِ، بسببِ بناءِ سَدِ أتاتُورْكَ، الذي يُعَدُ تاسِعَ أكبرِ سَدٍ في العالمِ، والذي يُكوِّنُ خَلفَهُ بحيرَةً ضخمةً، تُعتَبَرُ ثالثَ أكبرِ بحيرةٍ.
بل خذ هذهِ المعلومةَ العجيبةَ وهو أنهُ كانَ يُظَنُ إلى وقتٍ قريبٍ، أن تركيَا وسوريَا والعراقَ هي الدولُ الوحيدةُ المعنَيةُ بمياهِ نهرِ الفراتِ، ولكن عندمَا قطعَ الأتراكُ مياهَ الفراتِ لمدةِ شهرٍ لتخزِينهَا وراءَ سدِ أتاتوركَ، أدى ذلك إلى نتائجَ غيرِ مُتوقَعَةٍ، حيثُ أدى إلى هُبوطِ مُستَوياتِ مياهِ الآبارِ الجوفيةِ، في كلٍ من الأردنَ والكويتِ والمملكةِ.
ولم يَبعُدْ مِنَ الصوابِ كثيراً إن لم يكنْ صائباً 100% من قالَ: إن اللعبَ بالماءِ، أخطرُ بكثيرٍ جداً من اللعبِ بالنارِ.
إنَّ ما يُسمَى بالصرَاعِ العربيِّ الإسرَائِيليِ، هو صِراعٌ مائيٌ في جوانبَ كثيرةٍ منهُ؛ إنَّ إسرائيلَ تُدرِكُ جَيداً خُطورةَ الموقِفِ وخُطورَةَ عُنصرِ المياهِ على الأمْنِ القَوميِ وفي صراعِهَا مَع الدُولِ المجَاورةِ لها، ولا يُعَدُ سِراً الأَطماعُ الصُهيونيةُ في مياهِ الأردنِ والذي يُعدُ من أكبرِ وأقدمِ أطماعِهَا المائيةِ على الإطلاقِ في المنطقة.(1/34)
ولا يَخفى اليومَ الأطماعُ الإسرائيليةُ في المياهِ المصريةِ وما يُنشَرُ في الصحفِ وما تَتَناقلُهُ وكالاتُ الأنباءِ العالميةِ، بأنَّ كلَّ ما يطلبُونَهُ هو مياهُ الشتَاءِ الزائدةِ في النِيل، التي تجري عادةً إلى البحرِ ولا يُستَفَادُ منها، ولقد كررتْ إسرائيلُ وألحتْ كثيراً في هذا المطلبِ، سِياسياً وإعلامياً، طوالَ مرَاحلِ التفَاوضِ مع مصرَ، وإسرائيل تدعي أنَّ كلَّ ما تطلبُهُ هو 1% فقط من مياهِ النيلِ، وهذِه المحاولات من إسرائيلَ ليستْ وليدةُ اليومِ بل هي مُحاولاتٌ قديمةٌ.
يقول أحد الصهاينة: "إن مستقبل فلسطين بأكمله هو بين أيدي الدولة التي تبسط سيطرتها على الليطاني واليرموك ومنابع الأردن".
ويقول آخر: "إن اليهود يخوضون مع العرب معركة المياه، وعلى نتيجة هذه المعركة يتوقف مصير إسرائيل، وأننا إذا لم ننجح في هذه المعركة فإننا لن نبقى في فلسطين".
ومع كثرة البحوث والدراسات التي تناولت هذه المشكلة فإن سلاح الماء لم ينل حظاً وافراً من اهتمام الباحثين باعتباره سلاحاً سياسياً يستخدم أداةً للتكافل والاستفادة المشتركة أو أداة للخلاف وإثارة الصراعات.
ولا شك أن الإدراك المبكر لأهمية المياه، ومعرفة طبيعة الصراع القادم حولنا سيؤثر على أمتنا إذا ما أحسنوا الاستعداد بكثير من الجهد والتضحيات، ويؤمّن لهم مستقبلاً معقولاً، أما إذا ظل المسلمون في حالة غفلة عن هذه التقنية الخطيرة فإن مجرد وجودهم على سطح الأرض سيصبح أمراً صعباً!
ومن المهم هنا أن نقرر حقيقة بدهية، أن هناك علاقة مباشرة بين الأمن العربي بعامة -إن صح التعبير- ومسألة تأمين مصادر المياه.(1/35)
وإذا كان الأمن العام لدولة ما هو الإجراءات التي تتخذها تلك الدولة لتحافظ على كيانها ومصالحها في الحاضر والمستقبل، فإن فهم الأمن على أنه موضوع الدفاع العسكري داخلياً وخارجياً هو أمر سطحي وضيق؛ لأن الأمن العسكري هو وجه سطحي ضيق لمسألة الأمن الكبرى فهناك الكثير من الجوانب غير العسكرية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمسألة الأمن القومي، ومن هذه الجوانب بالطبع مسألة الأمن الغذائي والاقتصادي ومسألة المياه على رأس تلك الجوانب.
وإذا أخذنا مسألة الأمن الغذائي كمحدد لفهم مستقبل العالم العربي لوجدنا أن الأمر مفزع ذلك أنه إذا كان من يمتلك غذاءه يمتلك قراراً، فإن وجود فجوة غذائية في العالم العربي تصل إلى حوالي 30 مليار دولار سنوياً هي الفرق بين الصادرات والواردات العربية مما يمثل مشكلة خطيرة.
إن العالم اليوم يواجه أزمةً حقيقية فيما يتعلق بالمياه الصالحة للشّرب، فقد جاء في البيان الختامي الصادر عن مؤتمر "دبلن" أن كمية المياه الموجودة في الطبيعة عند بداية هذا القرن تبلغ 9000 كيلو متراً مربعاً عندما كان سكان الأرض ألف مليون نسمة فقط، والآن عدد سكان الأرض تجاوز 5000 مليون نسمة يتنافسون على الكمية نفسها.
بل إنّ المخابرات الأمريكية أحصت عشر مناطق حول العالم على الأقل مرشحة لقيام أزمات سياسية سببها المياه، فأين يقع العالم العربي من هذه الأزمة؟!.
الحدث الثاني: قصة أصحاب الفيل:
قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ* تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [(1-5) سورة الفيل].(1/36)
جاء في السيرة النبوية أن ملكاً كان باليمن غلب عليها، وكان أصله من الحبشة يقال له أبرهة، بنى كنيسة بصنعاء، وزعم أنه يصرف إليها حج العرب، وحلف أن يسير إلى الكعبة فيهدمها، فخرج ملك من ملوك حمير فيمن أطاعه من قومه يقال له: ذا نفر فقاتله، فهزمه أبرهة وأخذه، فلما أتى به قال له ذو نفر: أيها الملك لا تقتلني فإن استبقائي خير لك من قتلي، فاستبقاه وأوثقه، ثم خرج سائراً يريد الكعبة، حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج إليه النفيل بن حبيب الخثعمي ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ النفيل، فقال النفيل: أيها الملك، إني عالم بأرض العرب فلا تقتلني، فاستبقاه وخرج معه يدله، حتى إذا بلغ الطائف خرج إليه مسعود بن مُعَتَّب في رجال ثقيف فقال: أيها الملك نحن عبيد لك ليس لك عندنا خلاف، وليس بيننا وبينك الذي تريد -يعنون اللات- إنما تريد البيت الذي بمكة، نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه مولى لهم يقال له: أبو رغال، فخرج معهم حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال، وبعث أبرهة من المغمس رجلاً يقال له: الأسود بن مقصود على مقدمة خيله، فجمع إليه أهل الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير بالأرك، ثم بعث أبرهة حُناطة الحميري إلى أهل مكة فقال: سل عن شريفها ثم أبلغه أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت، فذهب ثم رجع ودخل على أبرهة فقال: أيها الملك! هذا سيد قريش وصاحب عين مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في الجبال يستأذن عليك، وأنه أحب أن تأذن له، فقد جاءك غير ناصب لك ولا مخالف عليك، فأذن له، وكان عبد المطلب رجلاً عظيماً جسيماً وسيماً، فلما رآه أبرهة عظمه وأكرمه، وكره أن يجلس معه على سريره وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه معه، فقال له عبد المطلب: أيها الملك، إنك قد أصبت لي مالاً عظيماً فاردده عليّ، فقال له: لقد أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت فيك، قال:(1/37)
ولِمَ؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك وعصمتكم ومنعتكم فأهدمه فلم تكلمني فيه، وتكلمني في مائتي بعير لك؟ قال: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه، قال: ما كان ليمنعه مني، قال: فأنت وذاك، قال: فأمر بإبله فردت عليه، ثم خرج عبد المطلب وأخبر قريشاً الخبر وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب، وأصبح أبرهة وقد تهيأ للدخول وعبأ جيشه، وقرب فيله وحمل عليه ما أراد أن يحمل وهو قائم، فلما حركه وقف ثم برك إلى الأرض، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى، فأدخلوا محاجن لهم تحت مراقه ومرافقه فأبى، فوجهوه إلى اليمن فهرول، فصرفوه إلى الحرم فوقف، ولحق الفيل بجبل من تلك الجبال، فأرسل الله الطير من البحر مع كل طير ثلاثة أحجار: حجران في رجليه وحجر في منقاره، فإذا غشين القوم أرسلنها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك وليس كل القوم أصيب، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، ورجعوا سراعاً يتساقطون في كل بلد، وجعل أبرهة تتساقط أنامله، كلما سقطت أنملة أتبعها مِدَّة من قيح ودم، فانتهى إلى اليمن وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه، ثم مات.
نختم ببعض الدروس والعبر والفوائد من حادثة الفيل:
1- بيان شرف الكعبة وأنه أول بيت وضع للناس: وكيف أن مشركي العرب كانت تعظمه وتقدسه، ولا يقدمون عليه شيئاً، وتعود هذه المنزلة إلى بقايا ديانة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام.(1/38)
2- حسد النصارى وحقدهم على مكة وعلى العرب: الذين يعظمون هذا البيت، ولذلك أراد أبرهة أن يصرف العرب عن تعظيم بيت الله ببناء كنيسة في اليمن، وعلى الرغم من استعماله أساليب الترغيب والترهيب إلا أن العرب امتنعوا، فحسد النصارى منطلقه ديني أكثر من أي شيء آخر، وما يمارسه النصارى اليوم بالتعاون مع اليهود في كل من فلسطين والعراق وأفغانستان منطلقه ديني، وإن زخرفوه بالكذب من أجل تحقيق الديمقراطية أو محاربة الإرهاب في العالم أو البحث عن أسلحة الدمار الشامل ونحو هذا الكلام.
3- التضحية في سبيل المقدسات: قام ملك من ملوك حمير في وجه جيش أبرهة ووقع الملك أسيراً، وقام النفيل بن حبيب الخثعمي ومن اجتمع معه من قبائل اليمن فقاتلوا أبرهة إلا أنهم انهزموا أمام الجيش العرمرم وبذلوا دماءهم دفاعاً عن مقدساتهم.
إن الدفاع عن المقدسات والتضحية في سبيلها شيء غريزي في فطرة الإنسان، لذا لا نستغرب تلك التضحيات العجيبة التي يقدمها أبناء فلسطين من أجل المقدسات هناك، حتى إنهم يقدمون أرواحهم رخيصة أمام صلف اليهود، ومثله حركات المقاومة والتضحيات التي تقدم من أجل إخراج المحتل، فكل هذا أمر فطري غريزي في الإنسان، بل الغريب والعجيب من يفسر ذلك بأنها إرهاب.(1/39)
4- خونة الأمة مخذولون: فهؤلاء العملاء الذين تعاونوا مع أبرهة وصاروا عيوناً له وجواسيس وأرشدوه إلى بيت الله العتيق ليهدمه، لُعنوا في الدنيا والآخرة، لعنهم الناس، ولعنهم الله -سبحانه وتعالى-، وأصبح قبر أبي رغال رمزاً للخيانة والعمالة، وصار ذاك الرجل مبغوضاً في قلوب الناس، وكلما مر أحد على قبره رجمه، فليحذر كل من ينتمي لهذه الأمة أن يخون أمته ويكون عميلاً لجهة معينة مقابل تحقيق مصالح شخصية لنفسه، مثل هذا الرجل يلعنه الناس في الدنيا وأما في الآخرة فحسابه عند ربه، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [(127) سورة طه]، ولا يعرف على مر التاريخ أن خونة عاشوا وماتوا ولم يعرفوا ولم تكتشف خياناتهم.
5- حقيقة المعركة بين الله وأعدائه: في قول عبد المطلب زعيم مكة: "سنخلي بينه وبين البيت فإن خلى الله بينه وبين بيته، فوالله ما لنا به قوة"، وهذا تقرير دقيق لحقيقة المعركة بين الله وأعدائه، فمهما كانت قوة العدو وحشوده فإنها لا تستطيع الوقوف لحظة واحدة أمام قدرة الله وبطشه ونقمته؛ فهو سبحانه واهب الحياة وسالبها في أي وقت شاء، لذا يجب على المسلمين اليوم أن يتوجهوا ويعتمدوا على الله في مواجهة أعدائهم من اليهود والنصارى وغيرهم مع الأخذ بالأسباب المادية.
6- تعظيم الناس للبيت وأهله: ازداد تعظيم العرب لبيت الله الحرام الذي تكفل بحفظه وحمايته من عبث المفسدين وكيد الكائدين، وأعظمت العرب قريشاً وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم العدو، وكان ذلك آية من الله ومقدمة لبعثة نبي يبعث من مكة ويطهر الكعبة من الأوثان، ويعيد لها ما كان لها من رفعة وشأن.(1/40)
7- قصة الفيل من دلائل النبوة: قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وكان ذلك عام مولد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان جيران البيت مشركين يعبدون الأوثان ودين النصارى خير منهم، فعلم بذلك أن هذه الآية لم تكن لأجل جيران البيت حينئذ، بل كانت لأجل البيت، أو لأجل النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي ولد في ذلك العام عند البيت أو لمجموعهما، وأي ذلك كان فهو من دلائل نبوته".
وقال ابن كثير -رحمه الله- عندما تحدث عن حادثة الفيل: "كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدرة يقول: لم ينصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيرتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق، الذي سنشرفه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء".(1/41)
8- حفظ الله للبيت العتيق: وهي أن الله لم يقدر لأهل الكتاب -أبرهة وجنوده- أن يدمروا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة، حتى والشرك يدنسه، والمشركون هم سدنته؛ ليبقى هذا البيت عتيقاً من سلطان المتسلطين، مصوناً من كيد الكائدين، وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة، لا يهيمن عليها سلطان، ولا يطغى فيها طاغية ولا يهيمن على هذا الدين الذي جاء ليهيمن على الأديان، وعلى العباد، ويقود البشرية ولا يُقاد، وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام. واليوم نطمئن، إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من قِبل الصليبية والصهيونية العالمية، ولا تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة، فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته من المشركين، سيحفظه -إن شاء الله- ويحفظ هذه الأمة "ولا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله"، وسيأتي ذلك اليوم، نقوله تحقيقاً لا تعليقاً، {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [(21) سورة يوسف].
والحمد لله أولاً وآخراً...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس الثالث
من المولد إلى نزول الوحي - الدعوة السرية
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- من أشرف الناس نسباً، وأكملهم خَلْقًا وخُلُقًا، وقد ورد في شرف نسبه أحاديث صحاح، منها ما رواه مسلم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن الله -عز وجل- اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)).(1/42)
وقد ذكر الإمام البخاري -رحمه الله- نسب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هو محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك بن النضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان". وقال البغوي: "ولا يصح حفظ النسب فوق عدنان".
إن معدن النبي -صلى الله عليه وسلم- طيب ونفيس، فهو من نسل إسماعيل واستجابة لدعوة إبراهيم، وبشارة أخيه عيسى -عليهما السلام- كما حدّث هو عن نفسه فقال: ((أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام)).
قال ابن كثير: وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى بن مريم بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها، ولهذا جاء في الصحيحين: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك))، وفي صحيح البخاري: ((وهم بالشام)).
ولد الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين بلا خلاف، والأكثرون على أنه لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، والمجمع عليه أنه -عليه الصلاة والسلام- ولد عام الفيل، وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم، وكانت حاضنته أم أيمن -بركة الحبشية- أَمَةَ أبيه، وأول من أرضعته ثويبة أَمةُ عمه أبي لهب، وحليمة السعدية هي مرضعته، ولها في ذلك خبر عجيب، ولنترك الحديث لمرضعته حليمة السعدية تحدثنا عن قصة رضاعها إياه.(1/43)
قالت: "خرجت مع زوجي وابني في نسوة من بني سعد بن بكر، نلتمس الرضعاء قالت: وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شيئًا، فخرجت على أتان لي قمراء ضعيفة، معنا شارف لنا، والله ما تبض بقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من بكاء صبينا من الجوع، وما في ثدييّ ما يغنيه، وما في ضرع شارفنا ما يغذّيه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله فتأباه إذا قيل لها: إنه يتيم، وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه، قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، قالت: فذهبت إليه فأخذته، وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره، قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلي، فلما وضعته في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن، فشرب هو وابني حتى رويا ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا هي حافلٌ، فحلب منها وشربت معه حتى انتهينا ريًا وشبعًا، فبتنا بخير ليلة، قالت: ثم خرجنا وركبت أتاني، وحملته معي عليها، فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حمرهم، حتى إن صواحبي ليقولن لي: يا ابنة أبي ذؤيب: ويحك، اربعي علينا أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟، فأقول لهنّ: والله إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها شأنًا، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به معنا شباعًا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبي ذؤيب، فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان(1/44)
يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتاه حتى كان غلامًا جفرًا: قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا، لما كنّا نرى من بركته فكلمنا أمه، وقلت لها: لو تركت ابني عندي - تعني محمداً - حتى يغلظ فإني أخشى عليه وباء مكة، وبقي رسول الله في بني سعد، قالت: وكان يشب شبابًا ما يشبُّه أحد من الغلمان، يشب في اليوم شباب السنة، فلما استكمل سنتين بعد فطامه أقدمناه مكة، أنا وأبوه - تعني زوجها -، فقلنا: والله لا نفارقه أبدًا ونحن نستطيع، فلما أتينا أمه، قلنا: والله ما رأينا صبيًا قط أعظم بركة منه، وإنا نتخوف عليه وباء مكة وأسقامها، فدعيه نرجع به حتى تبرئي من دائك، فلم نزل بها حتى أذنت، فرجعنا به، فأقمنا أشهرًا ثلاثة أو أربعة، فبينما هو يلعب خلف البيوت هو وأخوه في بهم لنا إذ أتى أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه: إن أخي القرشي أتاه رجلان عليهما ثياب بيض، فأخذاه وأضجعاه فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه يشتد، فوجدناه قائما قد انتقع لونه، فلما رآنا أجهش إلينا وبكى، قالت: فالتزمته أنا وأبوه، فضممناه إلينا: ما لك بأبي وأمي؟ فقال: أتاني رجلان وأضجعاني فشقا بطني ووضعا به شيئًا ثم رداه كما هو، فقال أبوه: والله ما أرى ابني إلا وقد أصيب، الحقي بأهله فرديه إليهم قبل أن يظهر له ما نتخوف منه، قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمه، فلما رأتنا أنكرت شأننا، وقالت: ما أرجعكما به قبل أن أسألكماه، وقد كنتما حريصين على حبسه؟ فقلنا: لا شيء إلا أن قضى الله الرضاعة وسرّنا ما نرى، فقالت: إن لكما شأنا فأخبراني ما هو، فلم تدعنا حتى أخبرناها، فقالت: كلا والله، لا يصنع الله ذلك به، إن لابني شأناً، أفلا أخبركما خبره، إني حملت به، فوالله ما حملت حملاً قط، كان أخف عليّ منه، ولا أيسر منه، ثم أريت حين حملته خرج مني نور أضاء منه قصور بصرى، ثم وضعته حين وضعته فوالله ما وقع كما يقع الصبيان، لقد وقع معتمدًا بيديه على الأرض رافعًا رأسه(1/45)
إلى السماء فدعاه عنكما فقبضته، وانطلقنا".
وفي خبر حليمة السعدية بعض الوقفات:
1- بركة النبي -صلى الله عليه وسلم- على حليمة السعدية: فقد ظهرت هذه البركة في كل شيء، ظهرت في إدرار ثدييها وغزارة حليبها، وقد كان لا يكفي ولدها، وظهرت بركته في سكون الطفل، وقد كان كثير البكاء مزعجًا لأمه يؤرقها ويمنعها من النوم، فإذا هو شبعان ساكن جعل أمه تنام وتستريح، وظهرت بركته في شياههم العجفاوات التي لا تدر شيئًا، وإذا بها تفيض من اللبن الكثير الذي لم يُعهد.
2- كانت هذه البركات من أبرز مظاهر إكرام الله له، وأكرم بسببه بيت حليمة السعدية التي تشرفت بإرضاعه، وليس من ذلك غرابة ولا عجب، فخلف ذلك حكمة أن يُحِبّ أهل هذا البيت هذا الطفل ويحنوا عليه ويحسنوا في معاملته ورعايته وحضانته، وهكذا كان فقد كانوا أحرص عليه وأرحم به من أولادهم.
3- خيار الله للعبد أبرك وأفضل: اختار الله لحليمة هذا الطفل اليتيم وأخذته على مضض؛ لأنها لم تجد غيره، فكان الخير كل الخير فيما اختاره الله، وبانت نتائج هذا الاختيار مع بداية أخذه، وهذا درس لكل مسلم بأن يطمئن قلبه إلى قدر الله واختياره والرضا به، ولا يندم على ما مضى وما لم يقدره الله تعالى.
وأما حادثة شق الصدر فتعد من إرهاصات النبوة ودلائل اختيار الله إياه لأمر جليل، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه حادثة شق الصدر في صغره، فعن أنس بن مالك: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون"، قال أنس: "وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره".(1/46)
ولا شك أن التطهير من حظ الشيطان هو إرهاص مبكر للنبوة، وإعداد للعصمة من الشر وعبادة غير الله، فلا يحل في قلبه إلا التوحيد الخالص، وقد دلت أحداث صباه على تحقق ذلك، فلم يرتكب إثمًا، ولم يسجد لصنم رغم انتشار ذلك في قريش.
بعدها توفيت أم النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة، وكانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة ودفنت بالأبواء، وبعد وفاة أمه كفله جده عبد المطلب، فعاش في كفالته، وكان يؤثره على أبنائه، أي أعمام النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان جده مهيبًا لا يجلس على فراشه أحد من أبنائه مهابة له، وكان أعمامه يتهيبون الجلوس على فراش أبيهم، وكان -صلى الله عليه وسلم- يجلس على الفراش ويحاول أعمامه أن يبعدوه عن فراش أبيهم فيقف الجد بجانبه ويرضى أن يبقى جالسًا على فراشه متوسمًا فيه الخير، وأنه سيكون له شأن عظيم وكان جده يحبه حبًا عظيمًا.
ثم توفي عبد المطلب والنبي -صلى الله عليه وسلم- في الثامنة من عمره، فأوصى جدّه به عمه أبا طالب فكفله عمه وحنّ عليه ورعاه.
أرادت حكمة الله أن ينشأ رسوله يتيمًا، تتولاه عناية الله وحدها، بعيدًا عن الذراع التي تمعن في تدليله، والمال الذي يزيد في تنعيمه، حتى لا تميل به نفسه إلى مجد المال والجاه، وحتى لا يتأثر بما حوله من معنى الصدارة والزعامة، فيلتبس على الناس قداسة النبوة بجاه الدنيا، وحتى لا يحسبوه يصطنع الأول ابتغاء الوصول إلى الثاني، وكانت المصائب التي أصابت النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ طفولته كموت أمه ثم جده بعد أن حُرم عطف الأب وذاق كأس الحزن مرة بعد مرة، كانت تلك المحن قد جعلته رقيق القلب مرهف الشعور، فالأحزان تصهر النفوس وتخلصها من أدران القسوة والكبر والغرور وتجعلها أكثر رقة وتواضعًا.(1/47)
كان أبو طالب مُقلاًّ في الرزق، فعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- برعي الغنم مساعدة منه لعمه، فلقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- عن نفسه الكريمة وعن إخوانه من الأنبياء أنهم رعوا الغنم، أما هو فقد رعاها لأهل مكة وهو غلام وأخذ حقه عن رعيه، ففي الحديث الصحيح قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنت؟ قال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)).
إن رعي الغنم كان يتيح للنبي -صلى الله عليه وسلم- الهدوء الذي تتطلبه نفسه الكريمة، ويتيح له المتعة بجمال الصحراء، ويتيح له التطلع إلى مظاهر جلال الله في عظمة الخلق، ويتيح له مناجاة الوجود في هدأة الليل وظلال القمر ونسمات الأشجار، يتيح له لونًا من التربية النفسية من الصبر والحلم والأناة والرأفة والرحمة والعناية بالضعيف حتى يقوى، وارتياد مشارع الخصب والري وتجنب الهلكة ومواقع الخوف من كل ما لا تتيحه حياة أخرى بعيدة عن جو الصحراء وهدوئها وسياسة هذا الحيوان الأليف الضعيف.
وتذكرنا رعايته للغنم بأحاديثه -صلى الله عليه وسلم- التي توجه المسلمين للإحسان للحيوانات، فكان رعي الغنم للنبي -صلى الله عليه وسلم- دربة ومرانًا له على سياسة الأمم. ورعي الغنم يتيح لصاحبه عدة خصال تربوية منها:
1- الصبر: على الرعي من طلوع الشمس إلى غروبها؛ نظراً لبطء الغنم في الأكل، فيحتاج راعيها إلى الصبر والتحمل، وكذا تربية البشر.
إن الراعي لا يعيش في قصر منيف ولا في ترف وسرف، وإنما يعيش في جو حار شديد الحرارة، وبخاصة في الجزيرة العربية، ويحتاج إلى الماء الغزير ليذهب ظمأه، وهو لا يجد إلا الخشونة في الطعام وشظف العيش، فينبغي أن يحمل نفسه على تحمل هذه الظروف القاسية، ويألفها ويصبر عليها.(1/48)
2- التواضع: إذ طبيعة عمل الراعي خدمة الغنم والإشراف على ولادتها، والقيام بحراستها والنوم بالقرب منها، وربما أصابه ما أصابه من رذاذ بولها أو شيء من روثها فلم يتضجر من هذا، ومع المداومة والاستمرار يبعد عن نفسه الكبر والكبرياء، ويرتكز في نفسه خلق التواضع.
3- الشجاعة: فطبيعة عمل الراعي الاصطدام بالوحوش المفترسة، فلا بد أن يكون على جانب كبير من الشجاعة تؤهله للقضاء على الوحوش ومنعها من افتراس أغنامه.
4- الرحمة والعطف: إن الراعي يقوم بمقتضى عمله في مساعدة الغنم إن هي مرضت أو كُسرت أو أصيبت، وتدعو حالة مرضها وألمها إلى العطف عليها وعلاجها والتخفيف من آلامها، فمن يرحم الحيوان يكن أشد رحمة بالإنسان، وبخاصة إذا كان رسولاً أرسله الله -تبارك وتعالى- لتعليم الإنسان وإرشاده وإنقاذه من النار وإسعاده في الدارين.
5- حب الكسب من عرق الجبين: إن الله قادر على أن يغني محمدا -صلى الله عليه وسلم- عن رعي الغنم، ولكن هذه تربية له ولأمته للأكل من كسب اليد وعرق الجبين، ورعي الغنم نوع من أنواع الكسب باليد.
روى البخاري عن المقدام –رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده)).
ولا شك أن الاعتماد على الكسب الحلال يكسب الإنسان الحرية التامة والقدرة على قول كلمة الحق والصدع بها، وكم من الناس يطأطئون رؤوسهم للطغاة، ويسكتون على باطلهم، ويجارونهم في أهوائهم خوفًا على وظائفهم عندهم.(1/49)
وبعدها تزوج النبي -صلى الله عليه وسلم- من خديجة بنت خويلد، وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت -رضي الله عنها-، وقد ولدت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- غلامين وأربع بنات، وابناه هما: القاسم، وبه كان -صلى الله عليه وسلم- يكنى، وعبد الله، ويلقب بالطاهر والطيب، وقد مات القاسم بعد أن بلغ سنًّا تمكنه من ركوب الدابة، ومات عبد الله وهو طفل، وذلك قبل البعثة.
أما بناته فهن: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وقد أسلمن وهاجرن إلى المدينة وتزوجن.
هذا وقد كان عمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين تزوج خديجة -رضي الله عنها- خمسًا وعشرين سنة، وكان عمرها أربعين سنة.
كان زواج الحبيب المصطفى من السيدة خديجة بتقدير الله تعالى، ولقد اختار الله -سبحانه وتعالى- لنبيه زوجة تناسبه وتؤازره، وتخفف عنه ما يصيبه، وتعينه على حمل تكاليف الرسالة، وتعيش همومه، وخديجة مثلٌ طيب للمرأة التي تكمّل حياة الرجل العظيم.
إن أصحاب الرسالات يحملون قلوبًا شديدة الحساسية ويلقون غَبنا بالغًا من الواقع الذي يريدون تغييره، ويقاسون جهادًا كبيرًا في سبيل الخير الذي يريدون فرضه، وهم أحوج ما يكونون إلى من يتعهد حياتهم الخاصة بالإيناس والترفيه، وكانت خديجة سباقة إلى هذه الخصال، وكان لها في حياة محمد -صلى الله عليه وسلم- أثر كريم.(1/50)
ثم نرى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذاق مرارة فقْد الأبناء، كما ذاق من قبل مرارة فقد الأبوين، وقد شاء الله -وله الحكمة البالغة- ألا يعيش له -صلى الله عليه وسلم- أحد من الذكور حتى لا يكون مدعاة لافتتان بعض الناس بهم، وادعائهم لهم النبوة، فأعطاه الذكور؛ تكميلًا لفطرته البشرية، وقضاء لحاجات النفس الإنسانية، ولئلا ينتقِص النبيّ في كمال رجولته شانئ، أو يتقول عليه متقول، ثم أخذهم في الصغر، وأيضًا ليكون ذلك عزاءً وسلوى للذين لا يرزقون البنين، أو يرزقون ثم يموتون، كما أنه لون من ألوان الابتلاء، وأشد الناس بلاء الأنبياء، وكأن الله أراد للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل الرقة الحزينة جزءًًا من كيانه، فإن الرجال الذين يسوسون الشعوب لا يجنحون إلى الجبروت إلا إذا كانت نفوسهم قد طبعت على القسوة والأثرة، وعاشت في أفراح لا يخامرها كدر، أما الرجل الذي خبر الآلام فهو أسرع الناس إلى مواساة المحزونين ومداواة المجروحين.
ولما بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- الأربعين من عمره وكان يخلو في غار حراء بنفسه، ويتفكر في هذا الكون وخالقه، وكان تعبده في الغار يستغرق ليالي عديدة حتى إذا نفد الزاد عاد إلى بيته فتزود لليال أخرى.(1/51)
وفي نهار يوم الاثنين من شهر رمضان جاءه جبريل بغتة لأول مرة داخل غار حراء، وقد نقل البخاري في صحيحه حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: ((فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني قال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [(1-4) سورة العلق]))، فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرجُف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: ((زملوني، زملوني))، فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: ((لقد خشيت على نفسي))، فقالت خديجة: "كلا والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان امرءاًً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت له خديجة: "يا ابن عم اسمع من ابن أخيك"، فقال له ورقة: "يا ابن أخي ماذا ترى؟"، فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر ما رأى: فقال له ورقة: "هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعًا، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك"، فقال رسول الله -صلى الله عليه(1/52)
وسلم-: ((أَوَمُخْرِجِيّ هم؟))، قال: "نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا"، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي".
وفي هذا الحديث العظيم أمور منها:
- الرؤيا الصالحة: ولعل الحكمة من ابتداء الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالوحي بالمنام، أنه لو لم يبتدئه بالرؤيا وأتاه الملك فجأة ولم يسبق له أن رأى ملكًا من قبل، فقد يصيبه شيء من الفزع فلا يستطيع أن يتلقى منه شيئا، لذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يأتيه الوحي أولا في المنام ليتدرب عليه ويعتاده.
- ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه: وكانت هذه الخلوة التي حببت إلى نفس النبي -صلى الله عليه وسلم- لونًا من الإعداد الخاص، وتصفية النفس من علائق المادية البشرية إلى جانب تعهده الخاص بالتربية الإلهية والتأديب الرباني في جميع أحواله، وكان تعبده -صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة بالتفكر في بديع ملكوت السماوات، والنظر في آياته الكونية الدالة على بديع صنعه وعظيم قدرته، ومحكم تدبيره، وعظيم إبداعه.
ومن سنن النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة الاعتكاف في رمضان، وهي مهمة لكل مسلم سواءً كان حاكمًا أو عالمًا أو قائدًا أو تاجرًا؛ لتنقية الشوائب التي تعلق بالنفوس والقلوب، ونصحح واقعنا على ضوء الكتاب والسنة، ونحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب.
ويمكن لأهل فقه الدعوة أن يعطوا لأنفسهم فترة من الوقت للمراجعة الشاملة والتوبة، والتأمل في واقع الدعوة وما هي عليه من قوة أو ضعف واكتشاف عوامل الخلل، ومعرفة الواقع بتفاصيله، خيره وشره.
إن حادثة نزول الوحي حادث ضخم، ضخم جدًا، ضخم إلى غير حد، ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا!.(1/53)
إنه حادث ضخم بحقيقته، وضخم بدلالته، وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعًا، وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد بغير مبالغة هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل.
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟
حقيقته أن الله جل جلاله، العظيم الجبار القهار المتكبر، مالك الملك كله، قد تكرم في عليائه فأراد أن يرحم هذه الخليقة المسماة بالإنسان، القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يُرى اسمه الأرض، وكرَّم هذه الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي، ومستودع حكمته، ومهبط كلماته، وممثل قدره الذي يريده سبحانه بهذه الخليقة. كانت بداية الوحي الإلهي فيها إشادة بالقلم وخطره، والعلم ومنزلته في بناء الشعوب والأمم، وفيها إشارة واضحة بأن من أخص خصائص الإنسان العلم والمعرفة.
وفي هذا الحادث العظيم تظهر مكانة ومنزلة العلم في الإسلام، فأول كلمة في النبوة تصل إلى رسول الله هي الأمر بالقراءة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [(1) سورة العلق].
إن مصدر العلم النافع من الله -عز وجل-، فهو الذي علّم بالقلم، وعلّم الإنسان ما لم يعلم، ومتى حادت البشرية عن هذا المنهج، وانفصل علمها عن التقيد بمنهج الله تعالى رجع علمها وبالاً عليها وسببًا في إبادتها.
- الدعوة السرية:
جاء جبريل -عليه السلام- للمرة الثانية للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل الله على نبيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [(1-4) سورة المدثر]، وتُعد هذه الآيات أول أمر بتبليغ الدعوة والقيام بالتبعة، وقد أشارت هذه الآيات إلى أمور هي خلاصة الدعوة المحمدية والحقائق الإسلامية التي بني عليها الإسلام كله، وهي الوحدانية والإيمان باليوم الآخر وتطهير النفوس ودفع الفساد عن الجماعة وجلب النفع.(1/54)
وبعد نزول آيات المدثر قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو إلى الله وإلى الإسلام سرًّا، وكان طبيعيًا أن يبدأ بأهل بيته وأصدقائه وأقرب الناس إليه.
كان أول من آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من النساء، بل أول من آمن به على الإطلاق السيدة خديجة -رضي الله عنها-، فكانت أول من استمع إلى الوحي الإلهي من فم الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وكانت أول من تلا القرآن بعد أن سمعته من صوت الرسول العظيم -صلى الله عليه وسلم-، وكانت كذلك أول من تعلم الصلاة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فبيتها هو أول مكان تُلي فيه أول وحي نزل به جبريل على قلب المصطفى الكريم -صلى الله عليه وسلم- بعد غار حراء. وبعد إيمان السيدة خديجة دخل علي بن أبي طالب في الإسلام، وكان أول من آمن من الصبيان، وكان عمره إذ ذاك عشر سنين، وقد أنعم الله عليه بأن جعله يتربى في حجر رسوله -صلى الله عليه وسلم- قبل الإسلام، حيث أخذه من عمه أبي طالب وضمه إليه.
وكان علي –رضي الله عنه- ثالث من أقام الصلاة بعد رسول الله وبعد خديجة -رضي الله عنها-، ثم أسلم زيد بن حارثة -رضي الله عنه- وهو أول من آمن بالدعوة من الموالي.
وكذلك سارع إلى الإسلام بنات النبي -صلى الله عليه وسلم-، كل من زينب وأم كلثوم وفاطمة ورقية، فقد تأثرن قبل البعثة بوالدهن في الاستقامة وحسن السيرة، والتنزه عما كان يفعله أهل الجاهلية من عبادة الأصنام والوقوع في الآثام، وقد تأثرن بوالدتهن فأسرعن إلى الإيمان، وبذلك أصبح بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أول أسرة مؤمنة بالله تعالى منقادة لشرعه في الإسلام، ولهذا البيت النبوي الأول مكانة عظمى في تاريخ الدعوة الإسلامية، لما حباه الله به من مزايا وخصه بشرف الأسبقية في الإيمان وتلاوة القرآن وإقام الصلاة.(1/55)
فالزوجة فيه طاهرة مؤمنة مخلصة وزيرة الصدق والأمان، وابن العم المحضون والمكفول مستجيب ومعضد ورفيق، والمتبنَى مؤمن صادق مساعد ومعين، والبنات مصدقات مستجيبات مؤمنات ممتثلات.
وكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أول من آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من الرجال الأحرار والأشراف، فهو من أخص أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- قبل البعثة، وفيه قال -صلى الله عليه وسلم-: ((ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر، ما عكم حين دعوته ولا تردد فيه)).
فأبو بكر صاحب رسول الله، وهو حسنة من حسناته -عليه الصلاة والسلام-، لم يكن إسلامه إسلام رجل، بل كان إسلامه إسلام أمة، فهو في قريش كما ذكر ابن إسحاق في موقع العين.
لقد كان أبو بكر كنزًا من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه، وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من الموطئين أكنافًا، من الذين يألفون ويؤلفون، والخلق السمح وحده عنصر كافٍ لألفة القوم، وهو الذي قال فيه -عليه الصلاة والسلام-: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)).(1/56)
تحرك الصديق بعد ذلك في دعوته للإسلام واستجاب له صفوة من خيرة الخلق وهم: عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، وكان هؤلاء الأبطال الخمسة أول ثمرة من ثمار الصديق –رضي الله عنه-، دعاهم إلى الإسلام فاستجابوا، وجاء بهم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فرادى فأسلموا بين يديه، فكانوا الدعامات الأولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العدة الأولى في تقوية جانب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبهم أعزه الله وأيده، وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، رجالاً ونساءً، وكان كل من هؤلاء الطلائع داعية إلى الإسلام، وأقبل معهم رعيل السابقين، الواحد والاثنين والجماعة القليلة، فكانوا على قلة عددهم كتيبة الدعوة وحصن الرسالة، لم يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق في تاريخ الإسلام.
إن تحرك الصديق –رضي الله عنه- في الدعوة إلى الله تعالى يوضح صورة من صور الإيمان بهذا الدين والاستجابة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، صورة المؤمن الذي لا يقر له قرار ولا يهدأ له بال، حتى يحقق في دنيا الناس ما آمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعة عاطفية مؤقتة سرعان ما تخمد وتذبل وتزول، وقد بقي نشاط أبي بكر وحماسته إلى أن توفاه الله -جل وعلا- لم يفتر أو يضعف أو يمل أو يعجز.
ومضت الدعوة سرية وفردية على الاصطفاء والاختيار للعناصر التي تصلح أن تتكون منها الجماعة المؤمنة التي ستسعى لإقامة دولة الإسلام ولدعوة الخلق إلى دين رب العباد والتي ستقيم حضارة ربانية ليس لها مثيل.
جاء بعد ذلك دور الدفعة الثانية بعد إسلام الدفعة الأولى، فأول من أسلم من هذه الدفعة: أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وعثمان بن مظعون الجمحي، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، وسعيد بن زيد، وفاطمة بنت الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر، وخباب بن الأرت -رضي الله عنهم-.(1/57)
ثم أسلم عمير بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وعياش بن أبي ربيعة، وامرأته أسماء بنت سلامة، وعبد الله بن جحش، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وعمار بن ياسر، وصهيب بن سنان.
ومن السابقين إلى الإسلام أيضاً: أبو ذر الغفاري، وبلال بن رباح.
قال ابن إسحاق: "ثم دخل الناس في الإسلام أرسالًا من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الإسلام في مكة وتُحدِّث به".
استمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في دعوته السرية يستقطب عددا من الأتباع والأنصار من أقاربه وأصدقائه، وخاصة الذين يتمكن من ضمهم في سرية تامة بعد إقناعهم بالإسلام، وهؤلاء كانوا نعم العون والسند للرسول -صلى الله عليه وسلم- لتوسيع دائرة الدعوة في نطاق السرية، وهذه المرحلة العصيبة من حياة الدعوة ظهرت فيها الصعوبة والمشقة في تحرك الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن آمن معه بالدعوة، فهم لا يخاطبون إلا من يأمنوا من شره ويثقون به، وهذا يعني أن الدعوة خطواتها بطيئة وحذرة، كما تقتضي صعوبة المواظبة على تلقي مطالب الدعوة من مصدرها، وصعوبة تنفيذها، إذا كان الداخل في هذا الدين ملزمًا منذ البداية بالصلاة ودراسة ما تيسر من القرآن مثلاً، ولم يكن يستطيع أن يصلي بين ظهراني قومه، ولا أن يقرأ القرآن، فكان المسلمون يتخفون في الشعاب والأودية إذا أرادوا الصلاة.(1/58)
إن من معالم هذه المرحلة، الكتمان والسرية حتى عن أقرب الناس، وكانت الأوامر النبوية على وجوب المحافظة على السرية واضحة وصارمة، وكان -صلى الله عليه وسلم- يكوّن من بعض المسلمين أُسرًا ومجموعات وكانت هذه الأسر تختفي اختفاء استعداد وتدريب، لا اختفاء جبن وهروب حسبما تقتضيه التدبيرات، فبدأ الرسول -عليه الصلاة والسلام- ينظم أصحابه من أسر ومجموعات صغيرة، فكان الرجل يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوة وسعة من المال، فيكونان معه ويصيبان منه فضل طعامه، ويجعل منهم حلقات، فمن حفظ شيئًا من القرآن علّم من لم يحفظ، فيكون من هذه الجماعات أسر أخوة، وحلقات تعليم.
إن السيرة النبوية غنية في أبعادها الأمنية منذ تربية الأفراد وحتى بعد قيام الدولة، وتظهر الحاجة للحركات الإسلامية والدول المسلمة لإيجاد أجهزة أمنية متطورة في زمننا المعاصر تحمي الإسلام والمسلمين من أعدائها اليهود والنصارى والملاحدة، وتعمل على حماية الصف المسلم في الداخل من اختراقات الأعداء فيه، وتجتهد لرصد أعمال المعارضين والمحاربين للإسلام، حتى تستفيد القيادة من المعلومات التي تقدمها لها أجهزتها المؤمنة الأمنية، ولا بد أن تؤسس هذه الأجهزة على قواعد منبعها القرآن الكريم والسنة النبوية، وتكون أخلاق رجالها قمة رفيعة تمثل صفات رجال الأمن المسلمين.
كانت الفترة الأولى من عمر الدعوة تعتمد على السرية والفردية، وكان التخطيط النبوي دقيقًا ومنظمًا، وكان تخطيطًا سياسيًا محكمًا، ومن السرية في تلك المرحلة أنه تم اختيار دار الأرقم بن أبي الأرقم مقرًا لقيادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والاجتماع مع تلك المجموعات القليلة.(1/59)
لم يكن اختيار الرسول -صلى الله عليه وسلم- لدار الأرقم لمجرد اجتماع المسلمين فيها لسماع نصائح ومواعظ وإرشادات، وإنما كانت مركزًا للقيادة ومدرسة للتعليم والتربية والإعداد والتأهيل للدعوة والقيادة، بالتربية الفردية العميقة الهادئة، وتعهد بعض العناصر والتركيز عليها تركيزًا خاصًّا، لتأهيلها لأعباء الدعوة والقيادة، فكان الرسول المربي قد حدد لكل فرد من هؤلاء عمله بدقة وتنظيم حكيم، اشترك في ذلك الكل، الكل يعرف دوره المنوط به، والكل يدرك طبيعة الدعوة والمرحلة التي تمر بها، والكل ملتزم جانب الحيطة والحذر والسرية والانضباط التام.
أصبحت دار الأرقم السرية مركزًا جديدًا للدعوة يتجمع فيه المسلمون، ويتلقون عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كل جديد من الوحي، ويستمعون له -عليه الصلاة والسلام- وهو يذكرهم بالله، ويتلو عليهم القرآن، ويضعون بين يديه كل ما في نفوسهم وواقعهم فيربيهم -عليه الصلاة والسلام- على عينه. وأصبح هذا الجمع هو قرة عين النبي -صلى الله عليه وسلم-.
في دار الأرقم وفق الله تعالى رسوله إلى تكوين الجماعة الأولى من الصحابة حيث قاموا بأعظم دعوة عرفتها البشرية. لقد استطاع الرسول المربي الأعظم أن يربي في تلك المرحلة السرية وفي دار الأرقم أفذاذ الرجال الذين حملوا راية التوحيد والجهاد والدعوة، فدانت لهم الجزيرة وقاموا بالفتوحات العظيمة في نصف قرن.
كانت دار الأرقم مدرسة من أعظم مدارس الدنيا وجامعات العالم، التقى فيها الرسول المربي بالصفوة المختارة من الرعيل الأول فكان ذلك اللقاء الدائم تدريبًا عمليًا لجنود المدرسة على مفهوم الجندية والسمع والطاعة والقيادة وآدابها وأصولها، ويشحذ فيه القائد الأعلى جنده وأتباعه بالثقة بالله والعزيمة والإصرار، ويأخذهم بالتزكية والتهذيب والتربية والتعليم، كان هذا اللقاء المنظم يشحذ العزائم، ويقوي الهمم، ويدفع إلى البذل والتضحية والإيثار.(1/60)
كانت نقطة البدء في حركة التربية الربانية الأولى لقاء المدعو بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فيحدث للمدعو تحول غريب واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فيخرج المدعو من دائرة الظلام إلى دائرة النور، ويكتسب الإيمان ويطرح الكفر، ويقوى على تحمل الشدائد والمصائب في سبيل دينه الجديد.
كانت المادة الدراسية التي قام بتدريسها النبي -صلى الله عليه وسلم- في دار الأرقم هي القرآن الكريم، فهو مصدر التلقي الوحيد، فقد حرص المصطفى -عليه الصلاة والسلام- على توحيد مصدر التلقي وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج الذي يتربى عليها الفرد المسلم والأسرة المسلمة والجماعة المسلمة، وكان روح القدس ينزل بالآيات غضة طرية على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيَسمعها الصحابة من فم الرسول -صلى الله عليه وسلم- مباشرة، فتسكب في قلوبهم وتتسرب في أرواحهم وتجري في عروقهم مجرى الدم، وكانت قلوبهم وأرواحهم تتفاعل مع القرآن وتنفعل به، فيتحول الواحد منهم إلى إنسان جديد، بقيمه ومشاعره وأهدافه وسلوكه وتطلعاته.
كان لاختيار دار الأرقم دون غيره من البيوتات عدة أسباب منها:
1- أن الأرقم بن أبي الأرقم –رضي الله عنه- لم يكن معروفًا بإسلامه، فما كان يخطر ببال أحد أن يتم لقاء محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه بداره.
2- أن الأرقم من بني مخزوم، وقبيلة بني مخزوم هي التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم، فلو كان الأرقم معروفًا بإسلامه فلا يخطر في البال أن يكون اللقاء في داره، لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو.
3- أن الأرقم كان فتى عند إسلامه، فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره، ويوم تُفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الإسلامي فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب محمد، بل يتجه نظرها وبحثها إلى بيوت كبار أصحابه، أو بيته هو -عليه الصلاة والسلام-.(1/61)
ومن أجل هذا نجد أن اختيار هذا البيت كان في غاية الحكمة من الناحية الأمنية، ولم نسمع أبدًا أن قريشًا داهمت ذات يوم هذا المركز وكشفت مكان اللقاء، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
والحمد لله أولاً وآخراً...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس الرابع
الجهر بالدعوة - حصار الشعب
الجهر بالدعوة:
بعد الإعداد العظيم الذي قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- في المرحلة السرية للدعوة لتربية أصحابه وبناء الجماعة المسلمة المنظمة الأولى على أسس عقدية وتعبدية وخلقية رفيعة المستوى، حان موعد إعلان الدعوة بنزول قول الله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [(214 -215) سورة الشعراء].
عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: لما نزلت: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصفا فجعل ينادي: ((يا بني فهر، يا بني عدي)) لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟))، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: ((فإنني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))، فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [(1-2) سورة المسد].
ومن الطبيعي أن يبدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، فبدء الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لا بد أن يكون له أثر خاص على بقية القبائل.(1/62)
ثم جاءت مرحلة أخرى بعدها، فأصبح يدعو فيها كل من يلتقي به من الناس على اختلاف قبائلهم وبلدانهم، ويتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم ومواقف الحج، ويدعو من لقيه من حُرٍّ وعبدٍ، وقوي وضعيف، وغني وفقير، حين نزول قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ* الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ* وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [(94-97) سورة الحجر].
كانت النتيجة لهذا الصدع هي الصدّ والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب والكيد المدبر المدروس، وقد اشتد الصراع بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه، وبين شيوخ الوثنية وزعمائها، وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان، وكان هذا في حد ذاته مكسبًا عظيمًا للدعوة.
كانت الوسيلة الإعلامية في ذلك العصر تناقل الناس للأخبار مشافهة، وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وصار هذا الحدث العظيم حديث الناس في المجالس ونوادي القبائل وفي بيوت الناس.
ولا شك أن الجهر بالدعوة يعرض أصحابها للابتلاء، والابتلاء مرتبط بالتمكين ارتباطاً وثيقاً، فلقد جرت سنة الله تعالى ألا يُمكِّن لأمة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختبار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث من الطيب، وهي سنة جارية على الأمة الإسلامية لا تتخلف.
وابتلاء المؤمنين قبل التمكين أمر حتمي؛ من أجل التمحيص ليقوم بنيانهم بعد ذلك على تمكن ورسوخ، وهذا الابتلاء للمؤمنين ابتلاء رحمة لا ابتلاء غضب، وابتلاء اختيار لا مجرد اختبار.(1/63)
والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مغيب عن علم البشر، فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه سبحانه من أمرهم، وهو فضل من الله من جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب.
بعدها بدأ المشركون بمحاربة الدعوة، وقد تعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لأشكال وأنواع وأصناف متعددة من الابتلاء.
وقد أجمع المشركون على محاربة الدعوة التي عرَّت واقعهم الجاهلي، وعابت آلهتهم وسفهت أحلامهم، فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولات لإيقاف الدعوة وإسكات صوتها، أو تحجيمها وتحديد مجال انتشارها، من ذلك: محاولة قريش إبعاد أبي طالب عن مناصرة وحماية الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
ذاع أمر حماية أبي طالب لابن أخيه وتصميمه على مناصرته وعدم خذلانه، فاشتد ذلك على قريش غمًّا وحسدًا ومكرًا، فمشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: "يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد، أنهد فتى في قريش وأجملهم، فلك عقله ونصره، واتخذه ولدًا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامنا، فنقتله فإنما هو رجل برجل"، قال: "والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني فتقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبدًا".(1/64)
وإن المرء ليسمع عجبًا، ويقف مذهولاً أمام مروءة أبي طالب مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد ربط أبو طالب مصيره بمصير ابن أخيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، بل واستفاد من كونه زعيم بني هاشم أن ضم بني هاشم وبني المطلب إليه في حلف واحد على الحياة والموت تأييدًا للرسول -صلى الله عليه وسلم-، مسلمهم ومشركهم على السواء، وأجار ابن أخيه محمداً إجارة مفتوحة لا تقبل التردد أو الإحجام، كانت هذه الأعراف الجاهلية والتقاليد العربية تسخر من قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- لخدمة الإسلام، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشًا تصنع ما تصنع في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه، من منع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب عدو الله اللعين.
إنها ظاهرة فذة أن تقوم الجاهلية بحماية من يسب آلهتها، ويعيب دينها، ويسفه أحلامها، وباسم هذه القيم يقدمون المهج والأرواح، ويخوضون المعارك والحروب، و لا يُمسُّ محمد -صلى الله عليه وسلم- بسوء.
لقد كان كسب النبي -صلى الله عليه وسلم- عمه في صف الدفاع عنه، نصرًا عظيمًا، وقد استفاد -صلى الله عليه وسلم- من العرف القبلي فتمتع بحماية العشيرة، ومُنع من أي اعتداء يقع عليه، وأعطى حرية التحرك والتفكير، وهذا يدل على فهم النبي -صلى الله عليه وسلم- للواقع الذي يتحرك فيه، وفي ذلك درس بالغ للدعاة إلى الله تعالى للتعامل مع بيئتهم ومجتمعاتهم والاستفادة من القوانين والأعراف والتقاليد لخدمة دين الله.(1/65)
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عظيم النجاح في دعوته، بليغًا في التأثير على من خاطبه، حيث يؤثر على من جالسه بهيئته وسمته ووقاره قبل أن يتكلم، ثم إذا تحدث أَسَرَ سامعيه بمنطقه البليغ، ومن أبرز الأمثلة على قوته في التأثير بالكلمة المعبرة والأخلاق الكريمة، وقدرته على اختراق الجدار الحديدي الذي حاول زعماء مكة ضربه عليه، ما كان من موقفه مع ضماد الأزدي.
وفد ضماد الأزدي إلى مكة، وتأثر بدعاوى المشركين عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى استقر في نفسه أنه مصاب بالجنون كما يتهمه بذلك زعماء مكة، وكان ضماد من أزد شنوءة، وكان يعالج من الجنون، فلما سمع سفهاء مكة يقولون: إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- مجنون، قال: "لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي"، فلقيه، فقال: "يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:..))، قال: "أعد عليّ كلماتك هؤلاء"، فأعادهن عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات، قال: "لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر"، فقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هات يدك أبايعك على الإسلام" فبايعه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وعلى قومك))، قال: "وعلى قومي".
في هذه القصة عبرٌ وفوائد، منها:
- أن العرب قبل الإسلام كانت تعتقد بمس الجن ويسمونه الريح، وجاء الإسلام فأقر هذا الاعتقاد، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [(275) سورة البقرة].(1/66)
وقد أنكر بعض الناس في وقتنا هذا، بل وبعض المنتسبين للعلم مس الجن للإنس؛ بسبب جهلهم بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة الدالة على هذا الأمر، كما أن الواقع يصدق هذا ويؤكده.
ومس الجن للإنس له أسباب كثيرة: فقد يكون بسبب هجر المرء للقرآن والذكر وتلطخه بالمعاصي، وقد يكون بسبب عدم محافظته على الأذكار الشرعية التي تحفظ بإذن الله، وقد يكون ابتلاءً من الله -عز وجل- ليرى صبر عبده وصدق توكله.
وعلاج المسِّ إنما يكون بالرقى الشرعية من الكتاب والسنة، وأهم من ذلك صدق التوكل على الله وإخلاص الدعاء له، مع الحذر من الطرق البدعية في العلاج أو الذهاب إلى الكهنة والسحرة أو حتى الجهلة ممن تصدوا للعلاج، والواقع أنهم هم يحتاجون إلى علاج.
ومن فوائد القصة: أن ضماد -رضي الله عنه- يسمع خطبة الحاجة فيتأثر بها، ويطلب من الرسول -صلى الله عليه وسلم- إعادتها، ويسلم بسببها، بل يصير داعية إلى الإسلام بعد سماعها، ونحن كم من المرات قد سمعناها وكم مرة قد قرأناها ولم يحصل لنا شيء ولو يسير مما حصل لضماد -رضي الله عنه-، وهي قد اشتملت على حمد الله والاستعانة به وأنه هو المعبود وحده لا شريك له، وهذه خلاصة الدين وتاج الإسلام، فهلا إذا سمعناها بعد اليوم وقفنا عند معانيها واستشعرنا أثرها.
خذوا مثلاً قوله: ((ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)): إن نفوسنا لا تخلو من الشر، ولكنه يذهب بمراقبة الله والخوف منه، فكم من المصائب والبلايا إنما هي نتاج الشر الكامن في النفس، فإذا قلت: يا عبد الله خطبة الحاجة أو سمعتها مؤمناً بها أعاذك الله من شر نفسك التي ربما كانت من ألد أعدائك.
وخذ مثلاً قوله: ((من يهده الله فلا مضل له)): الهداية بيد من؟ بيد الله، فهو الهادي، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.(1/67)
ولو أراد الله هداية شخص فمن الذي سيقف دون ذلك؟ لا أحد، ولو اجتمعت قوى الأرض كلها، ولذا فإن ما يبذله أعداء الملة وخصوم الشريعة من محاولات وجهود وأموال واجتماعات وقرارات في نشر الفساد في أوساط المسلمين فإنه لن ينفع في شخص قد كتب الله له الهداية، فإنه من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
ولا يعني هذا أن يقف الدعاة والمصلحون يتفرجون بحجة أن من يهده الله فلا مضل له، بل إنهم يجب عليهم وجوباً أن يأخذوا بسنة التدافع حتى يحكم الله في خلقه ما يشاء، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [(40) سورة الحج].
قصة أخرى: إسلام عمرو بن عَبَسة –رضي الله عنه-:(1/68)
قال عمرو بن عبسة السلمي: "كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل في مكة يخبر أخبارًا، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مستخفيًا، جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: "ما أنت؟"، قال: ((أنا نبي))، فقلت: "وما نبي؟"، قال: ((أرسلني الله))، فقلت: "وبأي شيء أرسلك؟"، قال: ((أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يُشرك به شيء))، قلت له: "فمن معك على هذا؟"، قال: ((حر وعبد))، قال: "ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به فقلت: إني متبعك"، قال: ((إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني))، قال: "فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخير الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة، حتى قدم عليَّ نفر من أهل يثرب من أهل المدينة فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟"، فقالوا: الناس إليه سِراع، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك، فقدمت المدينة فدخلت عليه، فقلت: "يا رسول الله أتعرفني؟"، قال: ((نعم. أنت الذي لقيتني بمكة)).
في هذه القصة يتبين لنا أن الرسالة المحمدية تقوم على ركيزتين: حق الله، وحق الخلق، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان))، وفي هذا دليل على أهمية صلة الأرحام حيث كان هذا الخُلق العظيم ألصق ما يكون بدعوة الإسلام، مع اقترانه بالدعوة إلى التوحيد، وقد ظهر في هذا البيان الهجوم على الأوثان بقوة، مع أنها كانت أقدس شيء عند العرب، وفي هذا دلالة على أهمية إزالة معالم الجاهلية، وأن دعوة التوحيد لا تستقر ولا تنتشر إلا بزوال هذه المعالم.(1/69)
وفي اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم- المبكر بإزالة الأوثان مع عدم قدرته على تنفيذ ذلك في ذلك الوقت، دلالة على أن أمور الدين لا يجوز تأخير بيانها للناس بحجة عدم القدرة على تطبيقها، فالذين يبينون للناس من أمور الدين ما يستطيعون تطبيقه بسهولة وأمن، ويحجمون عن بيان أمور الدين التي يحتاج تطبيقها إلى شيء من المواجهة والجهاد، هؤلاء دعوتهم ناقصة، ولم يقتدوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي واجه الجاهلية وطغاتها وهو في قلة من أنصاره، والسيادة في بلده لأعدائه.
لقد فشلت محاولات التشويه والحرب الإعلامية والحجر الفكري الذي كان الكفار يمارسونه على الدعوة الإسلامية في بداية عهدها؛ لأن صوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أقوى من أصواتهم، ووسائله في التبليغ كانت أبلغ من وسائلهم، وثباته على مبدئه السامي كان أعلى بكثير مما كان يتوقعه أعداؤه، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يجلس في بيته، ولم ينزو في زاوية من زوايا المسجد الحرام ليستخفي بدعوته، وليقي نفسه من سهام أعدائه المسمومة، بل إنه غامر بنفسه، فكان يخرج في مضارب العرب قبل أن يفدوا مكة، وكان يجهر بتلاوة القرآن في المسجد الحرام ليسمع من كان في قلبه بقية من حياة وأثارة من حرية وإباء، فيتسرب نور الهدى إلى مجامع لبه وسويداء قلبه، وكان من هؤلاء ضماد الأزدي، وعمرو بن عبسة وغيرهم، وهذا دليل قاطع وبرهان ساطع على فشل حملات التشويه التي شنتها قريش ضد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعلينا أن نعتبر ونستفيد من الدروس والعبر.(1/70)
لم يفتر المشركون عن أذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ أن صدع بدعوته إلى أن خرج من بين أظهرهم وأظهره الله عليهم، ولم يقتصر الأمر على مجرد السخرية والاستهزاء والإيذاء النفسي، بل تعداه إلى الإيذاء البدني، بل قد وصل الأمر إلى أن يبصق عدو الله أمية بن خلف في وجه النبي -صلى الله عليه وسلم-. وحتى بعد هجرته -عليه السلام- إلى المدينة لم تتوقف حدة الابتلاء والأذى، بل أخذت خطًّا جديداً بظهور أعداء جدد، فبعد أن كانت العداوة تكاد تكون مقصورة على قريش بمكة، صار له -صلى الله عليه وسلم- أعداء من المنافقين المجاورين بالمدينة، ومن اليهود والفرس والروم وأحلافهم، وبعد أن كان الأذى بمكة شتمًا وسخرية وحصارًا وضربًا، صار مواجهة عسكرية مسلحة حامية الوطيس، فيها كر وفر وضرب وطعن، فكان ذلك بلاء في الأموال والأنفس على السواء، وهكذا كانت فترة رسالته -صلى الله عليه وسلم- وحياته سلسلة متصلة من المحن والابتلاء، فما وهن لما أصابه في سبيل الله، بل صبر واحتسب حتى لقي ربه.
وتحمل الصحابة -رضوان الله عليهم- من البلاء العظيم ما تنوء به الرواسي الشامخات، وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ، ولم يَسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء:
فلقد أوذي أبو بكر –رضي الله عنه- وحُثي على رأسه التراب، وضرب في المسجد الحرام بالنعال، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحُمل إلى بيته في ثوبه، وهو ما بين الحياة والموت.
- وممن أوذي أيضاً بلال -رضي الله عنه-، فقد كان المشركون يلبسونه أدرع الحديد ويصهرونه في الشمس ويعطونه للولدان يطوفون به شعاب مكة.(1/71)
لم يكن لبلال –رضي الله عنه- ظهر يسنده، ولا عشيرة تحميه، ولا سيوف تذود عنه، ومثل هذا الإنسان في المجتمع الجاهلي المكي يعادل رقمًا من الأرقام، فليس له دور في الحياة إلا أن يخدم ويطيع، ويباع ويشترى كالسائمة، أما أن يكون له رأي، أو يكون صاحب فكر، أو صاحب دعوة، أو صاحب قضية، فهذه جريمة شنعاء في المجتمع الجاهلي المكي، تهز أركانه وتزلزل أقدامه، ولكن الدعوة الجديدة التي سارع لها الفتيان، وهم يتحدون تقاليد وأعراف آبائهم الكبار لامست قلب هذا العبد المرمي المنسي، فأخرجته إنسانًا جديدًا على الوجود.
ما أصبر بلالاً وما أصلبه –رضي الله عنه-، فقد كان صادق الإسلام، طاهر القلب، ولذلك صَلُبَ ولم تلن قناته أمام التحديات وأمام صنوف العذاب، وكان صبره وثباته مما يغيظهم ويزيد حنقهم، خاصة أنه كان الرجل الوحيد من ضعفاء المسلمين الذي ثبت على الإسلام فلم يوافق الكفار فيما يريدون، مرددًا كلمة التوحيد: "أحدٌ أحد" بتحدٍّ صارخ، وهانت عليه نفسه في الله وهان على قومه.
- ولا ننسى عمار بن ياسر وأبوه وأمه -رضي الله عنهم-: فقد صبَّت قريش عليهم العذاب صباً فكانوا يخرجونهم إذا حميت الظهيرة، فيعذبونهم برمضاء مكة ويقلبونهم ظهرًا لبطن، فيمر عليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهم يعذبون فيقول: ((صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة)).
وجاء أبو جهل إلى سمية فقال لها: ما آمنتِ بمحمد إلا لأنك عشقته لجماله، فأغلظت له القول، فطعنها بالحربة في ملمس العفة فقتلها، فهي أول شهيدة في الإسلام -رضي الله عنها-، وبذلك سطرت بهذا الموقف الشجاع أعلى وأغلى ما تقدمه امرأة في سبيل الله، لتبقى كل امرأة مسلمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها ترنو إليها ويهفو قلبها في الاقتداء بها، فلا تبخل بشيء في سبيل الله بعد أن جادت سمية بدمها في سبيل الله.(1/72)
ثم لم يلبث ياسر أن مات تحت العذاب أيضاً، ولم يكن في وسع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقدم شيئًا لآل ياسر، رموز الفداء والتضحية، فليسوا بأرقاء حتى يشتريهم ويعتقهم، وليست لديه القوة ليستخلصهم من الأذى والعذاب، فكل ما يستطيعه -صلى الله عليه وسلم- أن يزف لهم البشرى بالمغفرة والجنة ويحثهم على الصبر، لتصبح هذه الأسرة المباركة قدوة للأجيال المتلاحقة، ويشهد الموكب المستمر على مدار التاريخ هذه الظاهرة: ((صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة)).
أما عمار –رضي الله عنه- فقد عاش بعد أهله زمنًا يكابد من صنوف العذاب ألوانًا، فهو يصنف في طائفة المستضعفين الذين لا عشائر لهم بمكة تحميهم، وليست لهم منعة ولا قوة، فكانت قريش تعذبهم في الرمضاء بمكة أنصاف النهار ليرجعوا عن دينهم، وكان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول، ولما أخذه المشركون ليعذبوه لم يتركوه حتى سب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وذكر آلهتهم بخير، فلما أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ما وراءك؟))، قال: "شرٌّ، والله ما تركني المشركون حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير"، قال: ((كيف تجد قلبك؟))، قال: "مطمئنًا بالإيمان"، قال: ((فإن عادوا فعد))، ونزل الوحي بشهادة الله تعالى على صدق إيمان عمار: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [(106) سورة النحل].(1/73)
- وممن لاقى العذاب أيضاً خباب بن الأرت -رضي الله عنه-: كان من المستضعفين الذين عذبوا بمكة لكي يرتد عن دينه، وصل به العذاب بأن ألصق المشركون ظهره بالأرض على الحجارة المحماة حتى ذهب ماء مَتْنه، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يألف خبابًا ويتردد عليه بعد أن أسلم، فلما علمت مولاته بذلك، وهي أم أنمار الخزاعية، أخذت حديدة قد أحمتها، فوضعتها على رأسه، فشكا خبابًا ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ((اللهم انصر خبابًا))، فاشتكت مولاته رأسها، فكانت تعوي مع الكلاب، فقيل لها: اكتوي، فجاءت إلى خباب ليكويها، فكان يأخذ الحديدة قد أحماها فيكوي بها رأسها.
إن في ذلك لعبرة لمن أراد أن يعتبر، ما أقرب فرج الله ونصره من عباده المؤمنين الصابرين، فانظر كيف جاءت إليه بنفسها تطلب منه أن يكويها على رأسها.
وذُكر أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- في خلافته سأل خبابًا عما لقي في ذات الله تعالى، فكشف خباب عن ظهره، فإذا هو قد برص، فقال عمر: "ما رأيت كاليوم"، فقال خباب: "يا أمير المؤمنين لقد أوقدوا لي نارًا ثم سلقوني فيها، ثم وضع رَجُل رجله على صدري فما اتقيت الأرض أو قال: برد الأرض إلا بظهري، وما أطفأ تلك النار إلا شحمي!".
وعدد من الصحابة الكرام تعرض للتعذيب، وهكذا نرى أولئك الرهط من الشباب القرشي قد أقبلوا على دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واستجابوا لها والتفوا حول صاحبها، على الرغم من مواقف آبائهم وذويهم وأقربائهم المتشددة تجاههم، فضحوا بكل ما كانوا يتمتعون به من امتيازات قبل دخولهم في الإسلام، وتعرضوا للفتنة رغبة فيما عند الله تعالى من الأجر والثواب، وتحملوا أذى كثيرًا، وهذا فعل الإيمان في النفوس عندما يخالطها، فتستهين بكل ما يصيبها من عنت وحرمان إذا كان ذلك يؤدي إلى الفوز برضا الله تعالى وجنته.(1/74)
كان المسلمون يرغبون في الدفاع عن أنفسهم وهم يعانون ما يعانون تحت التعذيب، ويبدو أن الموقف السلمي أغاظ بعضهم وخاصة الشباب منهم، وقد أتى عبد الرحمن بن عوف وأصحابه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة فقالوا: "يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة"، قال: ((إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم))، فكان التوجيه في تلك الفترة الكف عن القتال والمواجهة، والاهتمام بالبناء الداخلي وفي ذلك حكم كثيرة، منها والله أعلم:
1- أمروا بالكف عن القتال في مكة؛ لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معينة لقوم معينين وسط ظروف معينة، ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئة، تربية الفرد على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة، من الضيم حين يقع عليه، أو على من يلوذون به، ليخلص من شخصه ويتجرد من ذاته فلا يندفع لأول مؤثر، ولا يهتاج لأول مهيج، ومن ثم يتم الاعتدال في طبيعته وحركته، ثم تربيته على أن يتبع نظام المجتمع الجديد بأوامر القيادة الجديدة، حيث لا يتصرف إلا وفق ما تأمره مهما يكن مخالفًا لمألوفه وعادته، وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية المسلم لإنشاء المجتمع المسلم.
2- وربما كان ذلك أيضًا اجتنابًا لإنشاء معركة ومقتلة داخل كل بيت، فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة هي التي تعذب المؤمنين، وإنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد، ومعنى الإذن بالقتال في مثل هذه البيئة، أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت ثم يقال: هذا هو الإسلام، ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال، فقد كانت دعاية قريش في المواسم، إن محمدًا يفرق بين الوالد وولده، فوق تفريقه لقومه وعشيرته، فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي؟.(1/75)
3- وربما كان ذلك أيضًا لما يعلمه الله من أن كثيرًا من المعاندين الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ويعذبونهم، هم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته، ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟.
4- وربما كان ذلك أيضًا لقلة عدد المسلمين حينئذ وانحصارهم في مكة، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة، أو بلغت ولكن بصورة متناثرة، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، لترى ماذا يكون مصير الموقف، ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة، حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيُقتل منهم، ويبقى الشرك ولا يقوم للإسلام في الأرض نظام، ولا يوجد له كيان واقعي، وهو دين جاء ليكون منهج حياة ونظام دنيا وآخرة.
والناظر في الفترة المكية والتي كانت ثلاثة عشر عامًا، كلها في تربية وإعداد وغرس لمفاهيم لا إله إلا الله، يدرك ما لأهمية هذه العقيدة من شأن في عدم الاستعجال واستباق الزمن، فالعقيدة بحاجة إلى غرس يُتعهد بالرعاية والعناية والمداومة، بحيث لا يكون للعجلة والفوضى فيها نصيب، وما أجدر الدعاة إلى الله أن يقفوا أمام تربية المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه على هذه العقيدة وقفة طويلة، فيأخذوا منها العبرة والأسوة، لأنه لا يقف في وجه الجاهلية أيًّا كانت قديمة أو حديثة أم مستقبلة، إلا رجال اختلطت قلوبهم ببشاشة العقيدة الربانية، وتعمقت جذور شجرة التوحيد في نفوسهم.(1/76)
بعدها اتخذت قريش أسلوباً آخر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- محاولة منها لرده أو التخفيف من تأثيره على من حوله، فلجأت إلى أسلوب المفاوضات بعدما عجزت عن أسلوب التعذيب والإيذاء والقوة، فأرسلوا له عدد من كبار شخصيات قريش تفاوضه وتعرض عليه عدداً من المغريات، فكان الرد حاسمًا على زعماء قريش المشركين، لا مساومة، ولا مشابهة، ولا حلول وسط، ولا ترضيات شخصية، فإن الجاهلية جاهلية والإسلام إسلام في كل زمان ومكان، والفارق بينهم بعيد كالفرق بين التبر والتراب، والسبيل الوحيد هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته عبادة وحكما، وإلا فهي البراءة التامة والمفاصلة الكاملة والحسم الصريح بين الحق والباطل في كل زمان: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [(6) سورة الكافرون].
وعلى الدعاة اليوم الحذر من مثل هذه العروض والإغراءات المادية التي قد لا تعرض بطريق مباشر، فقد تأخذ شكلاً غير مباشر، في شكل وظائف عليا، أو عقود عمل مجزية، أو صفقات تجارية مربحة، وهذا ما تخطط له المؤسسات العالمية المشبوهة لصرف الدعاة عن دعوتهم وبخاصة القياديين منهم، وهناك تعاون تام في تبادل المعلومات بين هذه المؤسسات التي تعمل من مواقع متعددة لتدمير العالم الإسلامي.
ولقد جاء في تقرير قدمه أحد كبار العاملين في مجال الشرق الأوسط لرصد الصحوة الإسلامية، وتقديم النصح بكيفية ضربها، جاء في هذا التقرير وضع تصور لخطة جديدة يمكن من خلالها تصفية الحركات الإسلامية، فكان من بين فقرات هذا التقرير فقرة خاصة بإغراء قيادات الدعوة، فاقتُرح لتحقيق ذلك الإغراء ما يلي:
1- تعيين من يمكن إغراؤهم بالوظائف العليا، حيث يتم شغلهم بالمشروعات الإسلامية فارغة المضمون، وغيرها من الأعمال التي تستنفد جهدهم، وذلك مع الإغداق عليهم أدبيًّا وماديًا، وتقديم تسهيلات كبيرة لذويهم، وبذلك يتم استهلاكهم محليًّا، وفصلهم عن قواعدهم الجماهيرية.(1/77)
2- العمل على جذب ذوي الميول التجارية والاقتصادية إلى المساهمة في المشروعات ذات الأهداف المشبوهة التي تقام في المنطقة العربية لمصالح أعدائها.
3- العمل على إيجاد فرص عمل وعقود مجزية في البلاد العربية الغنية، الأمر الذي يؤدي إلى بُعدهم عن النشاط الإسلامي.
والمتدبر في النقاط الثلاث السابقة، يلاحظ أنها إغراءات مادية غير مباشرة، وبنظرة فاحصة للعالم الإسلامي اليوم، نلاحظ أن هذه النقاط تنفذ بكل هدوء، فقد أشغلت المناصب العليا بعض الدعاة، واستهلكت في بعض الدول العربية الغنية جمًا غفيرًا من الدعاة، وألهت التجارة بعضهم، والله المستعان.
حصار الشعب:
وبعد العديد من المحاولات والوسائل التي اتخذتها قريش لإيقاف انتشار الإسلام في مكة بعد الجهر بالدعوة، أمام صبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته على الأذى، وإزاء فشو الإسلام في القبائل، لجأت قريش إلى الحصار المادي والمعنوي والذي عرف في السيرة بحصار الشعب، وملخصه: أن قريش أجمعت أن يقتلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم، جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يُدخلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شِعبهم، ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانًا ويقينًا، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم، وعلى ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سببًا من أسباب الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحًا، ولا تأخذهم بهم رأفة، ولا يخالطوهم، ولا يكلموهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله للقتل، وكتبوا في ذلك صحيفة وتواثقوا عليه، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدًا على أنفسهم.(1/78)
فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعامًا يقدم من مكة ولا بيعًا إلا بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. واشتد الحصار على الصحابة، وبني هاشم، وبني المطلب، حتى اضطروا إلى أكل ورق الشجر، وحتى أصيبوا بظلف العيش وشدته، إلى حد أن أحدهم يخرج ليبول فيسمع بقعقعة شيء تحته، فإذا هي قطعة من جلد بعير فيأخذها فيغسلها ثم يحرقها ثم يسحقها ثم يستفها، ويشرب عليها الماء فيتقوى بها ثلاثة أيام، وحتى لتسمع قريش صوت الصبية يتضاغون من وراء الشِّعب من الجوع.
فلما كان رأس ثلاث سنين، قيض الله -سبحانه وتعالى- لنقض الصحيفة أناسًا من أشراف قريش أخذتهم الحمية وهم: هشام بن عروة، وزهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأبي البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وقاموا بنقض الصحيفة أمام قريش، وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا: (باسمك اللهم).
وهذه بعض الوقفات مع قصة حصار الشعب:
1- أن حماية أقارب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له، لم تكن حماية للرسالة التي بعث بها، وإنما كانت لشخصه من الغريب، فإذا أمكن أن تُستغل هذه الحماية من قبل المسلمين كوسيلة من وسائل الجهاد والتغلب على الكافرين والرد لمكائدهم وعدوانهم، فأنعم بذلك من جهد مشكور وسبيل ينتبهون إليها.
2- كانت هذه السنوات الثلاثة للجيل الرائد زادًا عظيمًا في البناء والتربية، حيث ساهم بعضه في تحمل آلام الجوع والخوف والصبر على الابتلاء، وضبط الأعصاب، والضغط على النفوس والقلوب، ولجم العواطف عن الانفجار.(1/79)
3- كانت حادثة المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية سببًا في خدمة الدعوة والدعاية لها بين قبائل العرب، فقد ذاع الخبر في كل القبائل العربية من خلال موسم الحج، ولفت أنظار جميع الجزيرة العربية إلى هذه الدعوة التي يتحمل صاحبها وأصحابه الجوع والعطش والعزلة لكل هذا الوقت، أثار ذلك في نفوسهم أن هذه الدعوة حق، ولولا ذلك لما تحمّل صاحب الرسالة وأصحابه كل هذا الأذى والعذاب.
4- لقد تجرع الصحابة الكرام -رضوان الله عليهم- مرارة هذا الحصار وتقلبوا في لظى هذه المؤامرة الخبيثة عندما أُطبِقَ عليهم بسياج من الظلم المكشوف المتمثل في تلك الصحيفة الجائرة، فصبروا حتى أتاهم نصر الله.
لقد كانو يُقدّرون مسؤولية تبليغ الرسالة الملقاة على كواهلهم، وكانوا يدركون حقيقة هذه الرسالة وطبيعتها، وأنها لا بد أن تبلَّغ للناس بجهد من البشر وفي حدود قدراتهم، فكان الصبر على مثل هذا البلاء نِعْمَ الزاد الذي يتناسب وطبيعة الطريق.
لقد كانت التربية الجادة على منهج القرآن الكريم عاملاً مهماً من عوامل الصمود والتحدي أمام الباطل وأهله، ولقد كانت تربية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه على الصبر مقصودة في حد ذاتها؛ لأنه يعلم ويريد أن يُعلمهم أن النصر مع الصبر، وأن البلاء سُنَّة ماضية، وأن أهل الإيمان لا بد أن يتعرضوا للفتن تمحيصاً وإعداداً. قال الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [(2) سورة العنكبوت].(1/80)
5- لا بد أن ندرك أن الأعداء يبذلون الكثير من المال من أجل نشر باطلهم والصد عن سبيل الله، فمن أجل تلكم الأزمة الاقتصادية دُفعت الأموال الطائلة للضغط على الأجساد والبطون، ولكنهم لم يجدوا إلى القلوب المؤمنة سبيلاً، وما زال الأعداء ولا يزالون ينفقون بسخاء في سبيل الظلم والطغيان ونشر الكفر والإلحاد وتشجيع الفجور والإباحية عن طريق المؤسسات الإعلامية والمؤسسات التنصيرية والمؤسسات الفكرية وغيرها، كل ذلك ليصدوا الناس عن الحق، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [(36) سورة الأنفال].
وإذا كان أهل الباطل يبذلون الكثير من المال من أجل باطلهم وفجورهم، فما بال الموسرين من المسلمين يمسكون -إلا ما شاء الله- عن الإنفاق في سبيل الله لنشر الحق ودعوة الحق ومواساة المعوزين من المسلمين؟
فالبذلَ البذلَ وإلا حق فينا قول الحق جل ثناؤه: {هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [(38) سورة محمد].
6- لا شك أن موقف أهل الباطل من الدعوة ليس بدرجة واحدة، بل يتفاوت تفاوتاً كبيراً، وكذلك ينبغي أن يكون موقف أهل الحق منهم؛ لأن منهم من يتعاطف مع الدعوة ويقف بجانبها حتى وإن كان مقيماً على فسقه وفجوره، ومنهم من يكرهها ويحقد على أهلها بكل حال وإن كانوا مظلومين استكباراً منه وعدواناً، ومنهم أناس بين ذلك: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [(132) سورة الأنعام].(1/81)
7- على كل شعب في أي وقت يسعى لتطبيق شرع الله، عليه أن يضع في حسبانه احتمالات الحصار والمقاطعة من أهل الباطل، فالكفر ملة واحدة، فعلى قادة الأمة الإسلامية تهيئة أنفسهم وأتباعهم لمثل هذه الظروف، وعليهم وضع الحلول المناسبة لها إذا حصلت، وأن تفكر بمقاومة الحصار بالبدائل المناسبة كي تتمكن الأمة من الصمود في وجه أي نوع من أنواع الحصار.
والأمة الإسلامية في الوقت الراهن تعاني أربعة أنواع من الحصار:
النوع الأول: الحصار المادي لبعض الشعوب الإسلامية المنكوبة: وهو أسلوب وإن استنكرته الجاهلية الأولى فإن من يفرضونه في جاهلية اليوم ممن يسمون بالدول الكبرى، يفتقدون بعض الخصائص التي كان يتميز بها أسلافهم من المشركين، مثل المروءة والشهامة والحياء، ويفتقد كبراؤهم بعض المبادئ الإنسانية الأولية التي يمكن أن ينبثق عنها العطف والرحمة لهذه الشعوب.
النوع الثاني: الحصار المعنوي للشعوب المسلمة: وذلك بإغراق الناس في الشهوات، بالإعلام الماجن الذي يشيع الفواحش وينشر الرذيلة على أمل أن ينجرف أكثر الشباب في تيار الإباحية والفجور، فلا ينفعهم نصح الناصحين ووعظ الواعظين.
النوع الثالث: الحصار المادي للدعاة والعلماء: وهذا وإن كان مما يؤلم القلوب المؤمنة، إلا أن له فوائد عظيمة وآثاراً بعيدة المدى في صقل نفوس الدعاة المأسورين، فإذا هي كالذهب الخالص، قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [(17) سورة الرعد].(1/82)
النوع الرابع: الحصار الفكري للدعاة: وذلك بصد الجماهير عنهم من خلال وصفهم بالألقاب المنفرة كالتطرف والإرهاب وغيرها، وذلك بواسطة الإعلام الذي يخدّر الشعوب ويقلب الحقائق ويفرق بين القلوب، فهو السحر الحديث الذي أفرزه الفكر الغربي، وهو المصيدة التي يمكن أن تؤدي الدور بالوجه المطلوب بعد أن ترفع راية الإرهاب وتلوِّح بها وتنادي الجميع للمشاركة في زوبعتها ليجعلوها دعوى يطعنون من خلالها في الدعوة الإسلامية، ومعولاً يضربون به حصونها، وسيفاً مصلتاً على رقاب الدعاة والمخلصين، وتهمة جاهزة تطرح على المجاهدين الصادقين.
والحمد لله أولاً وآخراً...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس الخامس
هجرتي الحبشة - رحلة الطائف
هجرتي الحبشة ورحلة الطائف:
اشتد البلاء على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعل الكفار يحبسونهم ويعذبونهم، بالضرب والجوع والعطش ورمضاء مكة والنار، ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء وقلبه مطمئن بالإيمان، ومنهم من تصلّب في دينه وعصمه الله منهم، فلما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية لحفظ الله له، ولمكانته من عمه أبي طالب ومحبته له، وأنه لا يقدر على أن يمنع أصحابه مما هم فيه من البلاء، قال لهم: ((لو خرجتم إلى أرض الحبشة؛ فإن بها ملكًا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل لكم فرجًا مما أنتم فيه)).
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة وفرارًا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام.
كانت الخطة الأمنية للرسول -صلى الله عليه وسلم- تستهدف الحفاظ على الصفوة المؤمنة، ولذلك رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الحبشة تعتبر مكانًا آمنًا للمسلمين ريثما يشتد عود الإسلام وتهدأ العاصفة، وقد وجد المهاجرون في أرض الحبشة ما أمنهم وطمأنهم، وفي ذلك.(1/83)
تقول أم سلمة -رضي الله عنها-: "لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أَمِنَّا على ديننا وعبدنا الله تعالى لا نؤذى".
وتم اختيار الحبشة دون غيرها من الأماكن؛ لأن قبائل العرب في تلك الفترة تدين بالولاء والطاعة لقريش، وتسمع وتطيع لأمرها في الغالب؛ إذ لها نفوذ عليها، وكانت القبائل في حاجة لقريش في حجها وتجارتها ومواسمها، وفوق ذلك كانوا يشاركون قريشًا في حرب الدعوة وعدم الاستجابة للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فإذا كان هذا في داخل الجزيرة، فلم يكن في حينها في خارج الجزيرة بلد أكثر أمنًا من بلاد الحبشة، ومن المعلوم بُعد الحبشة عن سطوة قريش من جانب، وهي لا تدين لقريش بالاتباع كغيرها من القبائل.
غادر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة في رجب من السنة الخامسة للبعثة، وكانوا عشرة رجال وخمس نسوة.
أما الرجال فهم: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة، وسهيل بن بيضاء، وأبو سبْرة بن أبي رُهم بن عبد العزى.
وأما النساء فهن: رقية بنت النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسهلة بنت سهيل بن عمرو، وأم سلمة، وليلى بنت أبي حثمة، وأم كلثوم بنت سهيل بن عمرو.
حاولت قريش أن تدركهم لتردهم إلى مكة، وخرجوا في أثرهم حتى وصلوا البحر، ولكن المسلمين كانوا قد أبحروا متوجهين إلى الحبشة.
ولما وصل المسلمون إلى أرض الحبشة أكرم النجاشي مثواهم، وأحسن لقاءهم ووجدوا عنده من الطمأنينة بالأمن ما لم يجدوه في وطنهم وأهليهم.
إن المتأمل في أسماء الصحابة الذين هاجروا لا يجد فيهم أحدًا من الموالي الذين نالهم من أذى قريش وتعذيبها أشد من غيرهم، كبلال وخباب وعمار -رضي الله عنهم- بل نجد غالبيتهم من ذوي النسب والمكانة في قريش، ويمثلون عددًا من القبائل.(1/84)
صحيح أن الأذى شمل ذوي النسب والمكانة كما طال غيرهم، ولكنه كان على الموالي أشد، في بيئة تقيم وزنًا للقبيلة وترعى النسب، وبالتالي فلو كان الفرار من الأذى وحده هو السبب في الهجرة، لكان هؤلاء الموالي المعذبون أحق بالهجرة من غيرهم.
إذن: هناك سبب آخر للهجرة غير النجاة من أذى قريش، وهو أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يبحث عن قاعدة أخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية، ويتاح فيها أن تتخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة، حيث تظفر بحرية الدعوة وحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة.
عاش المسلمون ثلاثة أشهر من بدء الهجرة، وحدث تغير كبير على حياة المسلمين في مكة، وهناك ظروف نشأت لم تكن موجودة من قبل، بعثت في المسلمين الأمل في إمكان نشر الدعوة في مكة، حيث أسلم في تلك الفترة حمزة بن عبد المطلب عمُّ النبي -صلى الله عليه وسلم- عصبية لابن أخيه، ثم شرح الله صدره للإسلام، فثبت عليه.
وكان حمزة أعزّ فتيان قريش وأشدهم شكيمة، فلما دخل في الإسلام عرفت قريش أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد عزّ وامتنع وأن عمه سيمنعه ويحميه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.
وبعد إسلام حمزة –رضي الله عنه- أسلم عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-، وكان عمر ذا شكيمة لا يرام، فلما أسلم امتنع به وبحمزة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كان إسلام الرجلين العظيمين بعد خروج المسلمين إلى الحبشة، فكان إسلامُهما عزةً للمسلمين وقهرًا للمشركين وتشجيعًا لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المجاهرة بعقيدتهم.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إن إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا ما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشًا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه".(1/85)
لقد أصبح المسلمون إذًا في وضع غير الذي كانوا فيه قبل الهجرة إلى الحبشة، فقد امتنعوا بحمزة وعمر -رضي الله عنهما-، واستطاعوا أن يصلوا عند الكعبة بعد أن كانوا لا يقدرون على ذلك، وخرجوا من بيت الأرقم بن أبي الأرقم مجاهرين حتى دخلوا المسجد، وكفت قريش عن إيذائهم بالصورة الوحشية التي كانت تعذبهم بها قبل ذلك، فالوضع قد تغير بالنسبة للمسلمين، والظروف التي كانوا يعيشون فيها قبل الهجرة قد تحولت إلى أحسن.
ولا شك أن أولئك الغرباء في أرض الحبشة قد فرحوا بذلك كثيرًا، ولا يستغرب أحد بعد ذلك أن يكون الحنين إلى الوطن -وهو فطرة فطر الله عليها جميع المخلوقات- قد عاودهم ورغبت نفوسهم في العودة إلى حيث الوطن العزيز مكة أم القرى، وإلى حيث يوجد الأهل والعشيرة، فعادوا إلى مكة في ظل الظروف الجديدة والمشجعة، وتحت إلحاح النفس وحنينها إلى حرم الله وبيته العتيق رجع المهاجرون إلى مكة؛ بسبب ما علموا من إسلام حمزة وعمر، واعتقادهم أن إسلام هذين الصحابيين الجليلين سيعتز به المسلمون وتقوى شوكتهم.
ولكن قريشًا واجهت إسلام حمزة وعمر -رضي الله عنهما- بتدبيرات جديدة يتجلى فيها المكر والدهاء من ناحية، والقسوة والعنف من ناحية أخرى، فزادت في أسلحة الإرهاب التي تستعملها ضد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنهم- سلاحًا قاطعًا، وهو سلاح المقاطعة الاقتصادية، وكان من جراء ذلك الموقف العنيف أن رجع المسلمون إلى الحبشة مرة ثانية، وانضم إليهم عدد كبير ممن لم يهاجروا قبل ذلك، وكانوا ثلاثة وثمانين رجلًا وثماني عشرة امرأة، ذلك عدا أبنائهم الذين خرجوا معهم صغارًا، ثم الذين ولدوا لهم فيها.(1/86)
ولما رأت قريش أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارًا واستقرارًا، وحسن جوار من النجاشي، وعبدوا الله لا يؤذيهم أحد، ائتمروا فيما بينهم أن يبعثوا وفدًا للنجاشي لإحضار من عنده من المسلمين إلى مكة بعد أن يوقعوا بينهم وبين ملك الحبشة، إلا أن هذا الوفد خدم الإسلام والمسلمين من حيث لا يدري، فقد أسفرت مكيدته عند النجاشي عن حوار هادف دار بين أحد المهاجرين وهو جعفر بن أبي طالب وبين ملك الحبشة، أسفر هذا الحوار عن إسلام النجاشي، وتأمين المهاجرين المسلمين عنده.
وبعد هذا العرض لا بد أن نقف بشأن هجرتي الحبشة الأولى والثانية عدد من الوقفات:
أولًا: مما يتبادر إلى الذهن من هذه الهجرة العظيمة، هو شفقة هذا الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه ورحمته بهم، وحرصه الشديد للبحث عما فيه أمنهم وراحتهم، ولذلك أشار عليهم بالذهاب إلى الملك العادل الذي لا يُظلم أحد عنده، فكان الأمر كما قال -صلوات الله وسلامه عليه- فأمنوا في دينهم ونزلوا عنده في خير منزل، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الذي وجَّه الأنظار إلى الحبشة، وهو الذي اختار المكان الآمن لجماعته ودعوته كي يحميها من الإبادة، وهذه تربية نبوية لقيادات المسلمين في كل عصر، أن تخطط بحكمة وبعد نظر لحماية الدعوة والدعاة، وتبحث عن الأرض الآمنة التي تكون عاصمة احتياطية للدعوة، ومركزًا من مراكز انطلاقها فيما لو تعرض المركز الرئيسي للخطر، أو وقع احتمال اجتياحه، فجنود الدعوة هم الثروة الحقيقية، وهم الذين تنصب الجهود كلها لحفظهم وحمايتهم، دون أن يتم أي تفريط بأرواحهم وأمنهم، ومسلم واحد يعادل ما على الأرض من بشر خارجين عن دين الله وتوحيده.(1/87)
ثانيًا: إن وجود ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعفر، وصهره عثمان، وابنته رقية -رضي الله عنهم- جميعًا في مقدمة المهاجرين، له دلالة عميقة تشير إلى أن الأخطار لا بد أن يتجشمها المقربون إلى القائد، أما أن يكون خواص القائد في منأى عن الخطر، ويدفع إليه الأبعدون غير ذوي المكانة، فهو منهج بعيد عن نهج النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثالثًا: مشروعية الخروج عن الوطن وإن كان الوطن مكة على فضلها إذا كان الخروج فرارًا بالدين وإن لم يكن إلى إسلام، فإن أهل الحبشة كانوا نصارى يعبدون المسيح، وقد أثنى الله عليهم بهذه الهجرة، وهم قد خرجوا من بيت الله الحرام إلى دار الكفر، لما كان فعلهم ذلك احتياطًا على دينهم، ورجاء أن يُخلّى بينهم وبين عبادة ربهم، وهذا حكم مستمر متى غلب المنكر في بلد وأوذي على الحق مؤمن، ورأى الباطل قاهرًا للحق، ورجا أن يكون في بلد آخر يخلى بينه وبين دينه ويُظهر فيه عبادة ربه، فإن الخروج على هذا الوجه حق على المؤمن، هذه هي الهجرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة، {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [(115) سورة البقرة].
رابعًا: يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين إذا دعت الحاجة إلى ذلك، سواء كان المجير من أهل الكتاب كالنجاشي -إذ كان نصرانيًّا عندئذ ولكنه أسلم بعد ذلك- أو كان مشركًا كأولئك الذين عاد المسلمون إلى مكة في حمايتهم عندما رجعوا من الحبشة، وكأبي طالب عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمُطعم بن عدي الذي دخل الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكة في حمايته عندما رجع من الطائف.
وهذا مشروط بألا تستلزم مثل هذه الحماية إضرارًا بالدعوة الإسلامية، أو تغييرًا لبعض أحكام الدين، أو سكوتًا على اقتراف بعض المحرمات، وإلا لم يجز للمسلم الدخول فيها.(1/88)
خامسًا: إن اختيار الرسول -صلى الله عليه وسلم- الهجرة إلى الحبشة يشير إلى نقطة استراتيجية هامة تمثلت في معرفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما حوله من الدول والممالك، فكان يعلم طيبها من خبيثها، وعادلها من ظالمها، الأمر الذي ساعد على اختيار دار آمنة لهجرة أصحابه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال قائد الدعوة الذي لا بد أن يكون ملمًّا بما يجري حوله، مطلعًا على أحوال وأوضاع الأمم والحكومات.
سادسًا: يظهر الحس الأمني عند الرعيل الأول في هجرتهم الأولى وكيفية الخروج، فيتمثل في كونه تم تسللًا وخفية حتى لا تفطن له قريش فتحبطه، كما أنه تم على نطاق ضيق لم يزد على ستة عشر فردًا، فهذا العدد لا يلفت النظر في حالة تسللهم فردًا أو فردين، وفي ذات الوقت يساعد على السير بسرعة، وهذا ما يتطلبه الموقف، فالركب يتوقع المطاردة والملاحقة في أي لحظة، ولعل السرية المضروبة على هذه الهجرة، فوتت على قريش العلم بها في حينها، فلم تعلم بها إلا مؤخرًا، فقامت في إثرهم لتلحق بهم لكنها أخفقت في ذلك، فعندما وصلت البحر لم تجد أحدًا، وهذا مما يؤكد على أن الحذر هو مما يجب أن يلتزمه المؤمن في تحركاته الدعوية، فلا تكون التحركات كلها مكشوفة ومعلومة للعدو بحيث يترتب عليها الإضرار به وبالدعوة.
سابعًا: من دروس هجرة الحبشة أن الجهل ببعض أحكام الإسلام لمصلحة راجحة لا يضر، قال ابن تيمية -رحمه الله- وهو يقرر العذر بالجهل: "ولما زيد في صلاة الحضر حين هاجر -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة كان مَنْ بعيدًا عنه مثل من كان بمكة وبأرض الحبشة يصلون ركعتين، ولم يأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بإعادة الصلاة".
وقال الذهبي -رحمه الله-: "فلا يأثم أحد إلا بعد العلم وبعد قيام الحجة، وقد كان سادة الصحابة بالحبشة ينزل الواجب والتحريم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يبلغهم إلا بعد أشهر، فهم في تلك الأمور معذورون بالجهل حتى يبلغهم النص".(1/89)
ثامنًا: من دروس هجرة الحبشة أيضًا، تفاضل الجهاد حسب الحاجة، فإذا كانت الهجرة للمدينة جهادًا ميز الله أصحابها وخصهم بالذكر والفضيلة، فقد نال هذا الفضل أصحاب هجرة الحبشة وإن تأخر لحوقهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى فتح خيبر، وذلك للحاجة لبقائهم في الحبشة، وهذا ما أكده النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحاب السفينتين، فعن أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه- قال: "دخلت أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم معنا، على حفصة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: "من هذه؟"، قالت: "أسماء بنت عميس"، قال عمر: "الحبشية هذه، البحرية هذه؟"، قالت أسماء: "نعم"، قال عمر: "سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- منكم"، فغضبت، وقالت: "كلا والله كنتم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار البُعداء البُغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وأيم الله لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونحن كنا نُؤذى ونُخاف، وسأذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه"، فلما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "يا نبي الله، إن عمر قال: كذا وكذا، قال: ((فما قلتِ له؟))، قالت: "قلت له: كذا وكذا"، قال: ((ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان))، قالت: "فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتون أرسالًا يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرحُ ولا أعظمُ في أنفسهم مما قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-". [والحديث متفق عليه].(1/90)
تاسعًا: يرتبط زواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأم حبيبة بهجرة الحبشة ارتباطًا وثيقًا، ويحمل هذا الزواج منه -صلى الله عليه وسلم- لأحد المهاجرات الثابتات معنىً كبيرًا، وكان عقد الزواج على أم حبيبة -رضي الله عنها- وهي في أرض الحبشة، وجاء تأكيده في كتب السنة، فقد روى أبو داود في سننه بسند صحيح عن أم حبيبة -رضي الله عنها- أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش، فمات بأرض الحبشة، فزوجها النجاشيُّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع شرحبيل بن حسنة.
ويستنتج الباحث من دلالات هذا الحديث المهم متابعةَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأحوال المهاجرين، ومشاركتهم في مصابهم، وتطييب أنفس الصابرين، وتقديرَ ثبات الثابتين.
وبالتتبع لأحوال المهاجرات لا نجد أم حبيبة -رضي الله عنها- هي الوحيدة التي يعني الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بأمرها، ويواسيها في مصابها، بل سبق ذلك صنيعه مع سودة -رضي الله عنها-، فلما رجعت مع زوجها إلى مكة من الحبشة توفي زوجها "السكران بن عمرو"، فلما حلت أرسل إليها -صلى الله عليه وسلم- وخطبها، فقالت: "أمري إليك يا رسول الله"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مري رجلًا من قومك يزوجك))، فأمرت حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود فزوجها، فكانت أول امرأة تزوجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد خديجة.
عاشرًا: كان للهجرة إلى الحبشة أثر في الحط من مكانة القرشيين عند سائر العرب وإدانة موقفهم من الدعوة وحملتها؛ إذ كانت البيئة العربية تفتخر بإيواء الغريب وإكرام الجار وتتنافس في ذلك، وتحاذر السبة والعار في خلافه، فهاهم الأحباش يسبقون قريشًا ويؤوون مَنْ طردتهم وأساءت إليهم من أشراف الناس ومن ضعفائهم.(1/91)
وفي آخر السنة العاشرة من البعثة توفي أبو طالب عمّ النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم توفيت خديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها- في العام نفسه، وبموت أبي طالب الذي أعقبه موت خديجة -رضي الله عنها-، تضاعف الأسى والحزن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بفقد هذين الحبيبين، اللذين كانا دعامتين من دعائم سير الدعوة في أزماتها، كان أبو طالب السند الخارجي الذي يدفع عنه القوم، وكانت خديجة السند الداخلي الذي يخفف عنه الأزمات والمحن، فتجرأ كفار قريش على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونالوا منه ما لم يكونوا يطمعون به في حياة أبي طالب، وابتدأت مرحلة عصيبة في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واجه فيها كثيرًا من المشكلات والمصاعب والمحن والفتن، حينما أصبح في الساحة وحيدًا لا ناصر له إلا الله -سبحانه وتعالى-، ومع هذا فقد مضى في تبليغ رسالة ربه إلى الناس كافة على ما يلقى من الخلاف والأذى الشديد الذي أفاضت كتب السير بأسانيدها الصحيحة الثابتة في الحديث عنه، وتحمل -صلى الله عليه وسلم- من ذلك ما تنوء الجبال بحمله، ولما تكالبت الفتن والمحن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بلده الذي نبت فيه وبين قومه الذين يعرفون عنه كل صغيرة وكبيرة، عزم -صلى الله عليه وسلم- على أن ينتقل إلى بلد غير بلده، وقوم غير قومه، يعرض عليهم دعوته ويلتمس منهم نصرتهم؛ رجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله -عز وجل-، فخرج إلى الطائف، وهي من أقرب البلاد إلى مكة لإيجاد مركز جديد للدعوة.(1/92)
كانت الطائف تمثل العمق الإستراتيجي لملأ قريش، بل كانت لقريش أطماع في الطائف، ولقد حاولت في الماضي أن تضم الطائف إليها، فإذا اتجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف فذلك توجه مدروس، وإذا استطاع أن يجد له فيها موضع قدم وعصبة تناصره، فإن ذلك سيفزع قريشًا ويهدد أمنها ومصالحها الاقتصادية تهديدًا مباشرًا، بل قد يؤدي لتطويقها وعزلها عن الخارج، وهذا التحرك الدعوي السياسي الاستراتيجي الذي يقوم به الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدل على حرصه في الأخذ بالأسباب لإيجاد دولة مسلمة أو قوة جديدة تطرح نفسها داخل حلبة الصراع؛ لأن الدولة أو إيجاد القوة التي لها وجودها من الوسائل المهمة في تبليغ دعوة الله إلى الناس.
عندما وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف اتجه مباشرة إلى مركز السلطة وموضع القرار السياسي في الطائف، اتجه إلى بني عمرو بن عمير الذين يترأسون الأحلاف ويرتبطون بقريش، وكان خروجه من مكة إلى الطائف على الأقدام، ورافقه في هذه الرحلة زيد بن حارثة.(1/93)
كان بنو عمرو قومًا لئامًا أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويرمون عراقيبه بالحجارة، حتى أدموا عقباه وتلطخت نعلاه، وسال دمه الزكيّ على أرض الطائف، وما زالوا به وبزيد بن حارثة حتى ألجؤوهما إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فلما أساء أهل الطائف للنبي -صلى الله عليه وسلم- رجع إلى مكة مرة ثانية، وكان قد عزم على دخولها، غير أن ظاهر الأحوال تدل على أن دخول مكة لم يكن أمرًا هينًا ولا آمنًا هذه المرة، وهنالك احتمال كبير للغدر به ولاغتياله من قبل قريش، التي لا يمكن أن تصبر أكثر، وهو قد أعلن الخروج عليها وذهب يستنصر بالقبائل الأخرى، ويوقع بينها وبين حلفائها، ثم إنه حتى لو لم تكن هناك خطورة على شخصه، فإن دخوله إلى مكة بصورة عادية وقد طردته الطائف، سيجعل أهل مكة يصورون الأمر كهزيمة كبيرة أصابت المسلمين ويجترئون عليهم ويزدادون سفهًا، فلم يدخل مكة مباشرة، بل توجه إلى حراء أولًا، ومن هناك بعث رجلًا إلى المُطعم بن عدي سيد قبيلة بني نوفل بن عبد مناف وطلب منه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدخل في جواره، فقبل المطعم ذلك ودعا بنيه وقومه فقال: "البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدًا".
فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: "يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم"، فانتهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الركن فاستلمه وصلى ركعتين وانصرف إلى بيته، والمطعم بن عدي وولده محدقون بالسلاح حتى دخل بيته.(1/94)
لقد تغير الوضع كثيرًا، فبدلًا من أن يدخل مكة منهزمًا مختفيًا دخلها ويحرسه بالسلاح سيد من سادات قريش على مسمع منهم ومرأى، وقد حفظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صنيع مطعم بن عدي، وعرف مدى الخطورة التي عرّض نفسه وولده وقومه لها من أجله، فقال عن أسارى بدر السبعين يوم أسرهم: ((لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له)) [رواه البخاري].
فمع العداء العقدي فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفرق بين من يعادي هذه العقيدة ويحاربها، وبين من يناصرها ويسالمها، إنهم وإن كانوا كفارًا فليس من سمة النبوة أن تتنكر للجميل.
لقد حققت رحلة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف انتصارات دعوية رفيعة المستوى مع أن أهلها أساؤوا استقباله ولم يقبلوا دعوته، فقد تأثر بالدعوة الغلام النصراني عدَّاس، الذي أسلم، كما وصلت الدعوة إلى الجن السبعة الذين أسلموا ثم انطلقوا إلى قومهم منذرين، وهذه تعتبر مكاسب دعوية.(1/95)
أما قصة عدَّاس: لما تعرض النبي -صلى الله عليه وسلم- للأذى من أهل الطائف وخرج من عندهم وألجؤوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، فلما رآه عتبة وشيبة رقَّا له، ودعوا غلامًا لهما نصرانيًّا يقال له: عدَّاس، فقالا له: خذ قطفًا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عدَّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال له: "كُل"، فلما وضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه يده قال: ((بسم الله))، ثم أكل، فنظر عدَّاس في وجهه، ثم قال: "والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد"، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ومن أهل أي البلاد أنت يا عدَّاس، وما دينك؟))، قال: "نصراني وأنا رجل من أهل نينوى"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من قرية الرجل الصالح يونس بن متى))، فقال له عدَّاس: "وما يدريك ما يونس بن متى؟"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي))، فأكبّ عدَّاس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل رأسه ويديه وقدميه، قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: "أما غلامك فقد أفسده عليك"، فلما جاءهما عدَّاس قالا له: "ويلك يا عدَّاس! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟"؟، قال:"يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي"، قالا له: "ويحك يا عدَّاس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه".(1/96)
وأما إسلام الجن: فلما انصرف النبي -صلى الله عليه وسلم- من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئس من خبر ثقيف، حتى إذا كان بنخلة، قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تعالى، وكانوا سبعة نفر من جن أهل نصيبين، فاستمعوا لتلاوة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فلما فرغ من صلاته، ولَّوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله تعالى خبرهم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ* قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} [(29-30) سورة الأحقاف].
هذه الدعوة التي رفضها المشركون بالطائف، تنتقل إلى عالم آخر هو عالم الجن، فتلقوا دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومضوا بها إلى قومهم: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [(31) سورة الأحقاف].(1/97)
وأصبح اسم محمد -صلى الله عليه وسلم- تهفو إليه قلوب الجن، وليس قلوب المؤمنين من الإنس فقط، وأصبح من الجن حواريون حملوا راية التوحيد، ووطنوا أنفسهم دعاة إلى الله، ونزل في حقهم قرآن يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا* وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا* وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا* وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا* وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا* وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا* وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا* وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا* وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا* وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا* وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} [(1-13) سورة الجن].(1/98)
وبعد عدة أشهر من لقاء الوفد الأول من الجن برسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء الوفد الثاني متشوقًا لرؤية الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- والاستماع إلى كلام رب العالمين، فعن علقمة قال: "سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الجن؟"، قال: "لا، ولكننا كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشِّعاب، فقلنا: استُطِير أو اغتيل، قال: فبتنا بشرِّ ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا شرَّ ليلة بات بها قوم"، فقال: ((أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن))، قال: "فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: ((لكم كل عظم ذُكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحمًا، وكل بعرة علف لدوابكم))، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم)) [رواه مسلم].
كان هذا الفتح العظيم والنصر المبين في عالم الجن إرهاصًا وتمهيدًا لفتوحات وانتصارات عظيمة في عالم الإنس، فقد كان اللقاء مع وفد الأنصار بعد عدة أشهر.
والحمد لله أولًا وآخرًا...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس السادس
بيعة العقبة الأولى - بيعة العقبة الثانية
بيعتا العقبة:(1/99)
وبعد سنين طويلة قضاها النبي -صلى الله عليه وسلم- في جهاد دائم، وعمل متواصل لا يعرف الكلل ولا الملل، وهو يطوف على القبائل، مبلغًا دعوة ربه، ملتمسًا الحليف والنصير، ملاقيًا في سبيل ذلك صنوف الأذى والصد والإعراض، أراد الله إتمام أمره، ونصر دينه، وإعزاز نبيه، فكانت البداية ونقطة التحول الحاسمة، وبصيص النور الذي أطلَّ من بين ركام الظلمات، عندما قيض الله أولئك النفر الستة من أهل المدينة، فالتقى بهم -صلى الله عليه وسلم- في موسم الحج من السنة الحادية عشرة للبعثة، وعرض عليهم الإسلام، فاستجابوا لدعوته وأسلموا، وكان هذا الموكب أولَ مواكب الخير التي هيأت للإسلام أرضًا جديدة، وملاذًا أمينًا، حيث لم يكتف هؤلاء النفر بالإيمان، وإنما أخذوا العهد على أنفسهم بدعوة أهليهم وأقوامهم، ورجعوا إلى المدينة وهم يحملون رسالة الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فلما كان موسم الحج من العام التالي جاء إلى الموسم اثنا عشر رجلًا من المؤمنين - عشرة من الخزرج واثنان من الأوس - فالتقوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند العقبة بمنى، وبايعوه البيعة التي سميت "بيعة العقبة الأولى"، وكانت بنود هذه البيعة نفس البنود التي بايع الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليها النساء فيما بعد، ولذلك عرفت أيضًا باسم "بيعة النساء".(1/100)
وقد روى البخاري في صحيحه نص هذه البيعة وبنودها في حديث عبادة بن الصامت الخزرجي -رضي الله عنه- وكان ممن حضر البيعة، وفيه: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لهم : ((تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه))، قال: "فبايعته"، وفي رواية: "فبايعناه على ذلك".
ثم بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- معهم مصعب بن عمير، يعلمهم شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، ويقرؤهم القرآن، وينشر الإسلام في ربوع المدينة، فأقام -رضي الله عنه- في بيت أسعد بن زرارة يعلّم الناس ويدعوهم إلى الله، وتمكن خلال أشهر معدودة من أن ينشر الإسلام في سائر بيوت المدينة، وأن يكسب للإسلام أنصارًا من كبار زعمائها، كسعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وقد أسلم بإسلامهما خلق كثير من قومهم، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون.
وعاد مصعب -رضي الله عنه- إلى مكة قبيل الموسم التالي، يحمل بشائر الخير، ويخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بما لقيه الإسلام في المدينة من قبول حسن، وأنه سوف يرى في هذا الموسم ما تقر به عينه، ويسر به فؤاده، فكانت هذه البيعة من أهم المنعطفات التاريخية في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام.
وهاهنا عدد من الدلالات والمعاني المهمة:(1/101)
أولًا: الحكمة الربانية والتدبير الإلهي لهذا الدين في أن يكون الذين يستجيبون للرسول -صلى الله عليه وسلم- ويدافعون عنه وعن دينه من خارج قريش ومن غير أهله وعشيرته، من أجل أن تقطع كل الشكوك حول طبيعة هذه الدعوة الجديدة ومصدرها وأهدافها، ولئلا يقع أي التباس بينها وبين غيرها من الدعوات والمطامع الدنيوية.
ثانيًا: أهمية وجود أرضية خصبة وسند قوي يحمي الدعوة ويحوطها ويحفظها من أن توأد في مهدها، ولذا كان -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على البحث عن قبيلة تسمح بنشر الدعوة بين ظهرانيها، وتعلن حمايتها لها؛ لأن الذين آمنوا به في مكة كانوا غرباء بين أقوامهم، وكانوا نُزَّاعًا متفرقين في القبائل، فكانوا بحاجة إلى ملاذ يفيؤون إليه، وقبيلة تدفع عنهم وتحميهم، وتمكنهم من نشر رسالتهم في العالمين، وهو ما فعله -صلى الله عليه وسلم-.
ثالثًا: أن اختيار الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمدينة وأهلها لحمل الرسالة، ونيل شرف النصرة لم يكن اعتباطًا، وإنما وقع الاختيار عليها؛ لأن المدينة كانت تعيش ظروفًا خاصة رشحتها لاحتضان دعوة الإسلام، فقد كان التطاحن والتشاحن بين الأوس والخزرج على أشده حتى قامت بينهم الحروب الطاحنة التي أنهكت قواهم، وأوهنت عزائمهم، كيوم بعاث وغيره، مما جعلهم يتطلعون إلى أي دعوة جديدة تكون سببًا لوضع الحروب والمشاكل فيما بينهم، ويمكن أن نلحظ ذلك من خلال قول أولئك النفر الستة: "إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك".(1/102)
كما أن هذه الحروب كانت قد أفنت كبار زعمائهم وقادتهم، ممن كان نظراؤهم في مكة والطائف وغيرهما حجر عثرة في سبيل الدعوة، ولم يبق إلا القيادات الجديدة الشابة المستعدة لقبول الحق، أضف إلى ذلك عدم وجود قيادة بارزة معروفة يتواضع الجميع على التسليم لها، فكانوا بحاجة إلى من يأتلفون عليه، ويلتئم شملهم تحت ظله.
ومن المعروف أن اليهود كانوا يسكنون المدينة مما جعل الأوس والخزرج على اطلاع بأمر الرسالات السماوية بحكم الجوار، فكانوا اليهود يهددونهم بنبي قد أظل زمانه، ويزعمون أنهم سيتبعونه، ويقتلونهم به قتل عاد وإرم، ولذا فبمجرد أن وصلت الدعوة إليهم، قال بعضهم لبعض: "تعلمون والله يا قوم، إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه".
رابعًا: أهمية معرفة الداعية والمربي لخصائص الناس وشخصياتهم، ومن يصلح منهم لهذه المهمة أو تلك، ندرك ذلك من خلال حسن اختياره -صلى الله عليه وسلم- لمصعب بن عمير للقيام بمهمة الدعوة ونشر الإسلام في المدينة، لما كان يمتاز به -رضي الله عنه- بجانب حفظه لما نزل من القرآن، من لباقة وهدوء وحكمة وحسن خلق، فضلًا عن قوة إيمانه وشدة حماسه للدين، ولذلك نجح أيما نجاح في دعوته، واستطاع أن يتخطى الصعاب والعقبات الكثيرة التي واجهته باعتباره أولًا نازحًا وغريبًا، وثانيًا يحمل رسالة جديدة تخالف ما عليه الناس، وتريد أن تنقلهم من موروثاتهم التي ألِفُوها، وألْفَوا عليها آباءهم وأجدادهم.
وهكذا مهدت هذه البيعة لما بعدها من الأحداث التي غيرت مجرى التاريخ، وكانت إيذانًا بأن عهد الذل والاستضعاف قد ولىّ إلى غير رجعة، وسيكون بعدها للإسلام قوته ومنعته، وستتوالى على مكة مواكب الخير، وطلائع الهدى والنور التي هيأها الله لحمل رسالته وتبليغ دعوته، والعاقبة للمتقين.(1/103)
بعدها شعر المسلمون الجدد في المدينة بمعاناة إخوانهم في مكة، وهم في مدينتهم سادة ممتنعون عن الأذى والضيم، ومع ذلك يؤذى رسولهم، ويلاحق في جبال مكة وشعابها، ويهان أصحابه، فرحل إلى مكة سبعون رجلًا من أهل المدينة، حتى قدموا في موسم الحج، وواعدوا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يلتقوا به في شعب العقبة، ولندع أحد النقباء يحدثنا عن هذه البيعة المباركة، وما وقع فيها من مواقف عظيمة، حقها أن تكتب بماء الذهب.(1/104)
يقول كعب بن مالك -رضي الله عنه-، فيما رواه الإمام أحمد في مسنده: "فنمنا تلك الليلة وهي الليلة الثانية من أيام التشريق مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتسلل مستخفين تسلل القطا، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلًا، ومعنا امرأتان، نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو بن عدي، قال: فاجتمعنا بالشِّعب ننتظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى جاءنا ومعه يومئذ عمه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلسنا كان العباس بن عبد المطلب أول متكلم، فقال: "يا معشر الخزرج: إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عزِّ من قومه، ومنعة في بلده"، قال: فقلنا قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، فتكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتلا، ودعا إلى الله -عز وجل-، ورغب في الإسلام، وقال: ((أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم))، فأخذ البراء بن معرور بيده، ثم قال: "نعم، والذي بعثك بالحقِّ، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنحن أهل الحروب، وأهل السلاح ورثناها كابرًا عن كابر"، فاعترض قول البراء وهو يكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبد الأشهل، فقال: "يا رسول الله، إن بيننا وبين اليهود حبالًا وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟"، قال: فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: ((بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم)).(1/105)
ثم تكلم العباس بن عبادة الأنصاري، مؤكدًا البيعة في أعناق الأنصار فقال: "يا معشر الخزرج، هل تدرون علامَ تبايعون هذا الرجل؟"، قالوا: نعم، قال: "إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلًا، أسلمتموه فمن الآن، فهو والله خزي في الدنيا والآخرة إن فعلتم، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكه الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير في الدنيا والآخرة"، فأجاب الأنصار: "نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، ابسط يدك يا رسول الله لنبايعك"، فبسط يده فبايعوه.
ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أَخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم))، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا منهم تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، وكان أول من أخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البراء بن معرور، ثم تتابع القوم على المبايعة، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ارفعوا إلى رحالكم))، قال: فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: "والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلنّ على أهل منى غدًا بأسيافنا"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لم أؤمر بذلك))، وطلب منهم الانصراف إلى رحالهم، وقد سمعوا الشيطان يصرخ منذرًا قريشًا، قال: فرجعنا فنمنا حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش، حتى جاؤنا في منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، والله إنه ما من العرب أحد أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينه منكم، فسكت المسلمون، وانبعث من هنالك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وقد صدقوا لم يعلموا ما كان منا.(1/106)
ولكن قريشا تيقنت خبر البيعة فخرجوا عليهم يظفرون بأهل يثرب ولكنهم لم يدركوا منهم إلا سعد بن عبادة، فكتفوه وعادوا به إلى مكة يضربونه ويجرونه من شعره، ولم يخلصه من بين أيديهم إلا المطعم بن عدى الذي أجاره فعاد إلى يثرب.
وهكذا تمت بيعة العقبة الثانية وتقرر فيها أن يهاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون إلى يثرب على أن يقوم الأنصار بحمايتهم ونصرتهم، وأصبح أمر الهجرة محققًا ولكنها مسألة وقت فقط.
هذه هي بيعة العقبة الثانية وتلك هي أحداثها، تكاد تتفجر بأمثلة الشجاعة والبطولة، ولو ذهبنا نتأمل بعض المواقف فيها لأصابنا العجب من عظمتها وجلالتها، ولنبدأ:
أولًا: بموقف النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكيف عرض دعوته بكلمات موجزة صافية صريحة من غير لبس أو غموض، ومن غير أن يقدم على قبولها أي عرض دنيوي، فلم يعدهم بملك أو سلطان، أو حتى مال يخفف به عنهم ضخامة الحمل الذي سيحملونه، بل ربطهم بالآخرة عندما سألوه ما لنا؟ قال: الجنة، حتى يتحقق فيهم كمال التجرد في قبول هذه الدعوة وتحمل تبعاتها، وفهم الصحابة -رضوان الله عليهم- هذا الدرس جيدًا، وأن في قبولهم هذه الدعوة معاداة العرب والعجم، وسخط الأحمر والأسود من الناس، وقطع علائقهم وعلاقاتهم، ومع ذلك أقدموا، وهنا تتجلى البطولة في الثبات على المبادئ رغم عظم الضريبة التي سيدفعونها، فقبلوا هذه البيعة لله -عز وجل- صافية نقية، فلله درها من بيعة، ولله درهم من رجال.(1/107)
ثانيًا: كانت هذه البيعة العظمى بملابساتها وبواعثها وآثارها وواقعها التاريخي فتح الفتوح؛ لأنها كانت الحلقة الأولى في سلسلة الفتوحات الإسلامية التي تتابعت حلقاتها في صور متدرجة مشدودة بهذه البيعة، منذ اكتمل عقدها بما أخذ فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عهود ومواثيق على أقوى طليعة من طلائع أنصار الله، الذين كانوا أعرف الناس بقدر مواثيقهم وعهودهم، وكانوا أسمح الناس بالوفاء بما عاهدوا الله ورسوله عليه من التضحية، مهما بلغت متطلباتها من الأرواح والدماء والأموال، فهذه البيعة في بواعثها هي بيعة الإيمان بالحق ونصرته، وهي في ملابساتها قوة تناضل قوى هائلة، تقف متألبة عليها، ولم يغب عن أنصار الله قدرها ووزنها في ميادين الحروب والقتال، وهي في آثارها تشمير ناهض بكل ما يملك أصحابها من وسائل الجهاد القتالي في سبيل إعلاء كلمة الله على كل عالٍ مستكبر في الأرض حتى يكون الدين كله لله، وهي في واقعها التاريخي صدق وعدل، ونصر واستشهاد، وتبليغ لرسالة الإسلام.
ثالثًا: إن حقيقة الإيمان وأثره في تربية النفوس تظهر آثارها في استعداد هذه القيادات الكبرى لأن تبذل أرواحها ودماءها في سبيل الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يكون لها الجزاء في هذه الأرض كسبًا ولا منصبًا ولا قيادة ولا زعامة، وهم الذين أفنوا عشرات السنين من أعمارهم يتصارعون على الزعامة والقيادة، إنه أثر الإيمان بالله وبحقيقة هذا الدين عندما يتغلغل في النفوس.
رابعًا: يظهر التخطيط العظيم في بيعة العقبة، حيث تمت في ظروف غاية في الصعوبة، وكانت تمثل تحديًّا خطيرًا وجريئًا لقوى الشرك في ذلك الوقت، ولذلك كان التخطيط النبوي لنجاحها في غاية الإحكام والدقة فهناك:(1/108)
- سرية الحركة والانتقال لجماعة المبايعين حتى لا ينكشف الأمر، فقد كان وفد المبايعة المسلم، سبعين رجلًا وامرأتين، من بين وفد يثربي قوامه نحو خمسمائة، مما يجعل حركة هؤلاء السبعين صعبة، وانتقالهم أمرًا غير ميسور، وقد تحدد موعد اللقاء في ثاني أيام التشريق بعد ثلث الليل، حيث النوم قد ضرب أعين القوم، وحيث قد هدأت الرِّجْل، كما تم تحديد المكان في الشعب الأيمن بعيدًا عن عين من قد يستيقظ من النوم لحاجة.
- وهناك أيضًا الخروج المنظم لجماعة المبايعين إلى موعد ومكان الاجتماع، فخرجوا يتسللون مستخفين، رجلًا رجلًا، أو رجلين رجلين.
- وكذا هناك ضرب السرِّية التامة على موعد ومكان الاجتماع، بحيث لم يعلم به سوى العباس بن عبد المطلب الذي جاء مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ليتوثق له، وعلي بن أبي طالب الذي كان عينًا للمسلمين على فم الشِّعب، وأبو بكر الصديق الذي كان على فم الطريق وهو الآخر عينٌ للمسلمين، أما من عداهم من المسلمين وغيرهم فلم يكن يعلم عن الأمر شيئًا، وقد أمر جماعة المبايعين أن لا يرفعوا الصوت، وأن لا يطيلوا في الكلام؛ حذرًا من وجود عين يسمع صوتهم، أو يجس حركتهم.
- ومن ضروب التخطيط متابعة الإخفاء والسرية حين كشف الشيطان أمر البيعة، فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرجعوا إلى رحالهم ولا يحدثوا شيئًا، رافضًا الاستعجال في المواجهة المسلحة التي لم تتهيأ لها الظروف بعد، وعندما جاءت قريش تستبرئ الخبر، موه المسلمون عليهم بالسكوت، أو المشاركة بالكلام الذي يشغل عن الموضوع.
- وأخيرًا اختيار الليلة الأخيرة من ليالي الحج، وهي ليلة الثالث عشر من ذي الحجة، حيث سينفر الحجاج إلى بلادهم ظهر اليوم التالي وهو اليوم الثالث عشر، ومن ثم تضيق الفرصة أمام قريش في اعتراضهم أو تعويقهم إذا انكشف أمر البيعة، وهو أمر متوقع وهذا ما حدث.
وعودٌ على المواقف العجيبة في هذه البيعة المباركة:(1/109)
خامسًا: كانت البنود الخمسة للبيعة من الوضوح والقوة بحيث لا تقبل التمييع والتراخي، إنه السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في اليسر والعسر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام في الله لا تأخذهم فيه لومة لائم، ونصر لرسول الله وحمايته إذا قدم المدينة.
سادسًا: سرعان ما استجاب قائد الأنصار دون تردد البراء بن معرور، قائلًا: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب، وأهل السلاح، ورثناها كابرًا عن كابر، فهذا زعيم الوفد يعرض إمكانيات قومه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقومه أبناء الحرب والسلاح، ومما تجدر الإشارة إليه في أمر البراء أنه عندما جاء مع قومه من يثرب قال لهم: "إني قد رأيت رأيًا، فوالله ما أرى أتوافقوني عليه أم لا؟"، فقالوا: وما ذاك؟ قال: "قد رأيت أن لا أدع هذه البنية يعني الكعبة مني بظهر، وأن أصلي إليها"، فقالوا له: "والله ما بلغنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي إلا إلى الشام ببيت المقدس، وما نريد أن نخالفه"، فكانوا إذا حضرت الصلاة صلوا إلى بيت المقدس، وصلى هو إلى الكعبة، واستمروا كذلك حتى قدموا مكة، وتعرفوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس مع عمه العباس بالمسجد الحرام، فسأل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- العباسَ: ((هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل))، قال: "نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الشاعر؟))، قال: "نعم"، فقصَّ عليه البراء ما صنع في سفره من صلاته إلى الكعبة، قال: "فماذا ترى يا رسول الله؟"، قال: ((قد كنت على قبلة لو صبرت عليها))، قال كعب: "فرجع البراء إلى قبلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وصلى معنا إلى الشام، فلما حضرته الوفاة أمر أهله أن يوجهوه قبل الكعبة، ومات في صفر قبل قدومه -صلى الله عليه وسلم- بشهر، وأوصى بثلث ماله للنبي(1/110)
-صلى الله عليه وسلم-، فقبله ورده على ولده، وهو أول من أوصى بثلث ماله".
ويستوقفنا في هذا الخبر عدد من الأمور منها:
- الانضباط والالتزام من المسلمين بسلوك رسولهم وأوامره، وأن أي اقتراح مهما كان مصدره يتعارض مع ذلك يعتبر مرفوضًا، وهذه من أولويات الفقه في دين الله، تأخذ حيزها من حياتهم وهم بعد ما زالوا في بداية الطريق.
- ومنها: أن السيادة لم تعد لأحد غير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن توقير أي إنسان واحترامه، إنما هو انعكاس لسلوكه والتزامه بأوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهكذا بدأت تنزاح تقاليد جاهلية لتحل محلها قيم إيمانية، فهي المقاييس الحقة التي بها يمكن الحكم على الناس تصنيفًا وترتيبًا.
سابعًا: كان أبو الهيثم بن التيِّهان صريحًا عندما قال للرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن بيننا وبين اليهود حبالًا وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟"، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: ((بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم))، وهذا الاعتراض يدلنا على الحرية العالية التي رفع الله تعالى المسلمين إليها بالإسلام، حيث عبر عمَّا في نفسه بكامل حريته وكان جواب سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- عظيمًا، فقد جعل نفسه جزءًا من الأنصار والأنصار جزءًا منه، وهذا شرف للأنصار ما بعده شرف.
ثامنًا: في اختيار النقباء دروس مهمة، من ذلك:
- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يعين النقباء، إنما ترك طريق اختيارهم إلى الذين بايعوا، فإنهم سيكونون عليهم مسؤولين وكفلاء، والأولى أن يختار الإنسان من يكفله ويقوم بأمره، وهذا أمر شوري، وأراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يمارسوا الشورى عمليًّا من خلال اختيار نقبائهم.(1/111)
- وأيضًا: التمثيل النسبي في الاختيار، فمن المعلوم أن الذين حضروا البيعة من الخزرج أكثر من الذين حضروا البيعة من الأوس، ثلاثة أضعاف من الأوس بل يزيدون، ولذلك كان النقباء ثلاثة من الأوس وتسعة من الخزرج.
- وأيضًا: جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- النقباء مشرفين على سير الدعوة في يثرب، حيث استقام عود الإسلام هناك وكثر معتنقوه، وأراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يشعرهم أنهم لم يعودوا غرباء لكي يبعث إليهم أحدًا من غيرهم، وأنهم غدوا أهل الإسلام وحماته وأنصاره.
تاسعًا: تأكد زعماء مكة من حقيقة الصفقة التي تمت بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- والأنصار، فخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، وكلاهما كان نقيبًا، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته، وكان ذا شعر كثير، واستطاع أن يتخلص من قريش بواسطة الحارث بن حرب بن أمية وجبير بن مطعم؛ لأنه كان يجير تجارتهم ببلده، فقد أنقذته أعراف الجاهلية، ولم تنقذه سيوف المسلمين، ولم يجد في نفسه غضاضة من ذلك، فهو يعرف أن المسلمين مطاردون في مكة، وعاجزون عن حماية أنفسهم.(1/112)
عاشرًا: في قول العباس بن عبادة بن نضلة: والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلنّ على أهل منى غدًا بأسيافنا، وقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم))، في هذا درس تربوي بليغ، وهو أن الدفاع عن الإسلام، والتعامل مع أعداء هذا الدين ليس متروكًا لاجتهاد أتباعه، وإنما هو خضوع لأوامر الله تعالى وتشريعاته الحكيمة، فإذا شُرع الجهاد فإن أمر الإقدام أو الإحجام متروك لنظر المجتهدين بعد التشاور ودراسة الأمر من جميع جوانبه، وكلما كانت عبقرية التخطيط السياسي أقوى أدت إلى نجاح المهمات أكثر، وإخفاء المخططات عن العدو وتنفيذها هو الكفيل بإذن الله بنجاحها، ولذا قال لهم: ((ولكن ارجعوا إلى رحالكم)).
الحادي عشر: كانت البيعة بالنسبة للرجال ببسط الرسول -صلى الله عليه وسلم- يده، وقالوا: له ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه، وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولًا، فما صافح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأة أجنبية قط، فلم يتخلف أحد في بيعته -صلى الله عليه وسلم- حتى المرأتان بايعتا بيعة الحرب وصدقتا عهدهما، فأما نسيبة بنت كعب فقد سقطت في أحد، وقد أصابها اثنا عشر جرحًا، وقد خرجت يوم أحد مع زوجها زيد بن عاصم بن كعب ومعها سقاء تسقي به المسلمين، فلما انهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت تباشر القتال، وتذب عنه بالسيف، وقد أصيبت بجراح عميقة، وشهدت بيعة الرضوان، وقطع مسيلمة الكذاب ابنها إربًا إربًا فما وهنت وما استكانت، وشهدت معركة اليمامة في حروب الردة مع خالد بن الوليد فقاتلت حتى قطعت يدها وجرحت اثني عشر جرحًا.
وأما الثانية فهي أسماء ابنة عمرو من بني سليمة قيل: هي والدة معاذ بن جبل، وقيل: ابنة عمة معاذ بن جبل -رضي الله عنهم جميعًا-.(1/113)
الثاني عشر وأخيرًا: عندما نراجع تراجم أصحاب بيعة العقبة الثانية من الأنصار في كتب السير والتراجم، نجد أن هؤلاء الثلاثة والسبعين قد استشهد قرابة ثلثهم على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده، ونلاحظ أنه قد حضر المشاهد كلها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرابة النصف، فثلاثة وثلاثون منهم كانوا بجوار الرسول -صلى الله عليه وسلم- في جميع غزواته، وأما الذين حضروا غزوة بدر فكانوا قرابة السبعين.
لقد صدق هؤلاء الأنصار عهدهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمنهم من قضى نحبه ولقي ربه شهيدًا، ومنهم من بقي حتى ساهم في قيادة الدولة المسلمة وشارك في أحداثها الجسام بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وبمثل هذه النماذج قامت دولة الإسلام، النماذج التي تعطي ولا تأخذ، والتي تقدم كل شيء ولا تطلب شيئًا إلا الجنة، ويتصاغر التاريخ في جميع عصوره ودهوره أن يحوي في صفحاته أمثال هؤلاء الرجال.
والحمد لله أولًا وآخرًا...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس السابع
الهجرة إلى المدينة
الهجرة إلى المدينة:
هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة هو ذلك الحدث الذي غيّر مجرى التاريخ.
إن حدث الهجرة يمثل أهمّ حدث من أحداث التاريخ الإسلامي، به بدأ بناء الدولة الإسلامية، وبناء الأمة التي تعبد الله وحده لا شريك له، وتبلّغ دينه الحنيف إلى كل الناس.
إن حدث الهجرة يرفع الإنسان من الذلّ إلى العزة إذا كان بين قوم لئام، فهذا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ناله من مشركي مكة ما ناله، فخرج منها مهاجرًا، وقال وهو على راحلته بعد أن خرج منها: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خرجت"، فهاجر إلى طيبة الطيبة، فكان من أمره ما كان، ثم عاد إليها وفتحها الله عليه.(1/114)
لقد هاجر النبي –صلى الله عليه وسلم- من أجل الدين لا من أجل الدنيا، فقد بقي في مكة طيلة هذه المدة رغم الأذى الذي يتعرض له هو وأصحابه، لأنه كان يسير بأمر الله سبحانه، وكان يريد أن يبلغ دين الله سبحانه وأن يهدي البشرية إلى طريق السعادة الأبدية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [(45-46) سورة الأحزاب].
لقد كانت الهجرة نتيجة صبر ثلاثة عشر عامًا من الخوف والجوع والحصار والأذى، فكانت الثمرة على قدر التعب وعلى قدر الصبر، وهكذا هذا الدين لا يعطي ثمرته إلا لمن صبر وثابر، أما من استعجل النتائج فإنه يُحرَم وهذه سنّة كونية، من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
فدولة المدينة التي شعّ منها النور إلى كلّ الأرض كانت نتيجة لصبر مكّة، ورسول الله الذي خرج من مكة سرًّا والناس يبحثون عنه، دخل المدينة في احتفال عظيم يحفّ به الناس من كلّ جانب، كلّ منهم يطلب منه أن ينزل عنده، وتحقق للنبي –صلى الله عليه وسلم- ولأصحابه قول الله تعالى ووعده لعباده الصالحين: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [(55) سورة النور].
لم تكنْ الهجرةُ إلى المدينة ترفًا ثقافيًا أو سياحةً أو متعةً أو استكشافًا لعالمٍ جديد، كلاَّ، لقد كانتْ خيارًا لا مفرّ منه، وحلًا أخيرًا بعد أنْ ضاقتْ بالمسلمينَ أرضُ مكةَ بما رحبت وتغيّرَ عليهم الناس، وأصبحتْ بضعُ ركعاتٍ في المسجدِ الحرامِ جريمةً لا تُغتفر، وغدتْ قراءةُ القُرآن رجعيةً وهمجيةً وإرهابًا وتطرفًا في نظر قريش.(1/115)
إن الهجرة في سبيل الله سنة قديمة، ولم تكن هجرة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- بدعًا في حياة الرسل لنصرة عقائدهم، فلئن كان قد هاجر من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة حفاظًا عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها، وتذود عنها، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا للهجرة، وذلك أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لا يخدمها بل يعوق مسارها ويشل حركتها، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر.
وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرسل وأتباعهم من الأمم الماضية لتبدو لنا في وضوح سنة من سنن الله في شأن الدعوات، يأخذ بها كل مؤمن من بعدهم إذا حيل بينه وبين إيمانه وعزته، واستخف بكيانه ووجوده واعتدى على مروءته وكرامته.
إن الهجرة من مكة كانت إيذانًا بفتح مكة، لماذا؟ لأن الهجرة النبوية لم تكن هروبًا من معركة أو فرارًا من مواجهة، بل كانت تجسيدًا للجهاد وترسيخًا لقواعد الإيمان.
ما كانت الهجرة طلبًا للراحة والاستجمام ولا حرصًا على الحياة، بل كانت استجابة لأمر رباني لاستئناف الحياة الإسلامية.
من كان يظن أن يكون أولئك النفر الستة سيكونون هم بداية مرحلة جديدة من العز والتمكين، والبذرة الأولى لشجرة باسقة ظلت تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟.
ومن كان يخطر بباله أن تشهد تلك الليلة من ليالي الموسم ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبو بكر يطوفان بمنى حتى إذا سمعا صوت رجال يتكلمون مالا إليهم فقالا وقالوا، وتحدثا وسمعوا، وبينا فأصغوا، فانشرحت القلوب، ولانت الأفئدة ونطقت الألسنة بالشهادتين، وإذا بأولئك النفر من شباب يثرب يطلقون الشرارة الأولى من نار الإسلام العظيمة التي أحرقت الباطل فتركته هشيمًا تذروه الرياح؟.(1/116)
من كان يظن أن تلك الليلة كانت تشهد كتابة السطور الأولى لملحمة المجد والعزة؟ يا سبحان الله، إن نصر الله يأتي للمؤمن من حيث لا يحتسب ولا يقدر، لقد طاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمجتمعات القبائل وقصد الرؤساء وتوجه بالدعوة إلى الوجهاء وسار إلى الطائف، فعل ذلك كله عشر سنوات وهو يرجو أن يجد عند أصحاب الجاه والمنعة نصرة وتأييدًا.
كان يقول -صلى الله عليه وسلم- في كل موسم: ((من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي))، ومع كل هذا لم يجد من يؤويه ولا من ينصره، بل لقد كان الرجل من أهل اليمن أو من مضر يخرج إلى مكة فيأتيه قومه فيقولون له: "احذر غلام قريش لا يفتنك"!
نعمْ لم تأت النصرة والحماية والتمكين من تلك القبائل العظيمة ذات المال والسلاح، وإنما جاءت من ستة نفر جاؤوا على ضعف وقلة.
إنها التقادير يوم يأذن الله بالفرج من عنده، ويأتي النصر من قلب المحنة، والنور من كبد الظلماء، والله تعالى هو المؤيد والناصر، والبشر عاجزون أمام موعود الله.
أرأيتم، يُعرض الكبراء والزعماء ويستكبر الملأ وتتألب القبائل وتتآمر الوفود وتُسد الأبواب، ثم تكون بداية الخلاص بعد ذلك كله في ستة نفر لا حول لهم ولا قوة، فهل يدرك هذا المعنى أولئك المتعلقون بأذيال المادية الصارخة والنافضون أيديهم من قدرة الله وعظمته؟ وهل يدرك هذا المعنى الغارقون في تشاؤمهم اليائسون من فرج قريب لهذه الأمة المنكوبة المغلوبة على أمرها؟
إن الله ليضع نصره حيث شاء وبيد من شاء وعلينا أن نعمل، وأن نحمل دعوتنا إلى العالمين، وألا نحتقر أحدًا ولا نستكبر على أحد، وعلينا أن نواصل سيرنا مهما أظلم الليل واشتدت الأحزان، فمن يدري لعل الله يصنع لنا في حلكات ليلنا الداجي خيوط فجر واعد؟ ومن يدري لعل آلامنا هذه مخاض العزة والتمكين؟.(1/117)
إن الهجرة النبوية الشريفةَ كانَت بحقٍّ فَتحًا مبِينًا ونَصرًا عَزيزًا وتمكِينًا وظهورًا لهذَا الدّينِ، وهزيمةً وذُلًا وصَغارًا على الكافرين.
وإنَّ هذه الأمةَ المسلِمة خليقةٌ بأَن تأخذَ من أحداث الهجرةِ المددَ الذي لا ينفَد والمَعينَ الذي لا يَنضَب والزَّادَ الذي لا يفنَى، فتختطَّ لنفسها خطّةَ رشدٍ ومناهج سير ومعالمَ هداية وسبيل سعادة، إذ هيَ جَديرة بأن تبعثَ في الأمة المسلِمة اليومَ ما قد بعثَته فيها بالأمسِ مِن روحِ العِزَّة وبواعثِ السموِّ وعواملِ النصر وأسبابِ التَّمكين.
إنه الحدث الذي ما تزال أنواره وأسراره تكشف لنا الكثير من الخلل والخطر الذي تعيشه أمتنا، إنه الحدث العظيم الذي غيّر وجه تاريخ البشرية كلها، إنه الحدث العظيم الذي أعلن مبادئ الأمة وشيد معالم الدولة.
لا تعرف الإنسانية ولا الحياة ولا الشعوب في تاريخها الطويل حدثًا كالهجرة كان له أبعد الآثار والنتائج على البشر أجمعين، وليس في تاريخ الإسلام ما يفوق الهجرة في جلالها وأهميتها وعظمتها، وفي بعيد أثرها على تاريخه وتاريخ المسلمين كافة.
واتفق الصحابة على جعل الهجرة مبدًأ للتاريخ الإسلامي؛ وذلك لأنهم رأوا في الهجرة أعظم نصر حققه الإسلام، وميلادًا جديدًا أحيا به عقولًا سممتها الشكوك والشبهات وحل به من الأغلال أفكارًا قيدتها الخرافات، والهجرة مثل رائع للثبات والصبر والتحمل وقوة الإيمان، فلقد قام الرسول –صلى الله عليه وسلَّم- بمكة يدعو الناس إلى الله، فأوذي وحورب وحوصر حتى أراد الله إظهار دينه فساق إليه نفرًا من الأنصار من أهل المدينة فآمنوا ورجعوا إلى المدينة فدعوا قومهم إلى الإسلام، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا ودخلها الإسلام، وهكذا هيأ الله لرسوله دار الهجرة.(1/118)
وقبل الهجرة إلى المدينة هاجر المهاجرون الأوائل إلى الحبشة، ففي الوقت الذي اشتد فيه أذى الكفار لرسول الله –صلى الله عليه وسلَّم- ولمن أسلم وجهه لله أذن الرسول –صلى الله عليه وسلَّم- في الهجرة إلى الحبشة وقال: ((إن بها ملكًا لا يُظلم الناس عنده))، فهاجر من المسلمين اثنا عشر رجلًا وأربع نسوة في مقدمتهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله –صلى الله عليه وسلَّم- فأقاموا في الحبشة في أحسن جوار وتوالت الهجرة إلى الحبشة ثم جاءت هجرة المدينة.
وملخص أحداثها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقام بمكة ثلاث عشرة سنة يبلغ رسالة ربه ويدعو إليه على بصيرة فلم يجد من أكثر قريش وأكابرهم سوى الرفض لدعوته والإعراض عنها والإيذاء الشديد للرسول –صلى الله عليه وسلَّم- ومن آمن به حتى آل الأمر بهم إلى تنفيذ خطة المكر والخداع لقتل النبي –صلى الله عليه وسلَّم- حيث اجتمع كبراؤهم في دار الندوة وتشاوروا ماذا يفعلون برسول الله –صلى الله عليه وسلَّم- حين رأوا أصحابه يهاجرون إلى المدينة وأنه لا بد أن يلحق بهم ويجد النصرة والعون من الأنصار الذين بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم وحينئذ تكون له الدولة على قريش، فقال عدو الله أبو جهل: "الرأي أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شابًا جلدًا ثم نعطي كل واحد سيفًا صارمًا ثم يعمدوا إلى محمد فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ونستريح منه، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يستطيع بنو عبد مناف أن يحاربوا قومهم جميعًا فيرضون بالدية فنعطيهم إياها".
فنزل جبريل -عليه السلام- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بوحي من ربه -تبارك وتعالى- فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة، وبين له خطة الرد على قريش فقال : "لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه" .(1/119)
وذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- في الهاجرة حين يستريح الناس في بيوتهم إلى أبي بكر -رضي الله عنه- ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة -رضي الله عنها- : "بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متقنعًا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر : "والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر"، قالت: فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستأذن، فأذن له فدخل، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر : (( أخرج مَنْ عندك ))، فقال أبو بكر : "إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله"، قال : (( فإني قد أذن لي في الخروج)) ، فقال أبو بكر : "الصحبة بأبي أنت يا رسول الله ؟ قال : ((نعم)) ، ثم أبرم معه خطة الهجرة، ورجع إلى بيته ينتظر مجيء الليل ، واستمر في أعماله اليومية حسب المعتاد حتى لا يشعر أحد بأنه يستعد لشيء.
أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد سرًا لتنفيذ الخطة المرسومة التي أبرمها برلمان مكة في دار الندوة صباحًا.(1/120)
وكان من عادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن ينام في أول الليل بعد صلاة العشاء، ويخرج بعد نصف الليل إلى المسجد الحرام يصلي فيه قيام الليل، فأمر عليًا -رضي الله عنه- تلك الليلة أن يضطجع على فراشه، ويتسجى ببرده الحضرمي الأخضر، وأخبره أنه لا يصيبه مكروه، فلما كانت عتمة من الليل وساد الهدوء ونام عامة الناس، جاء المجرمون إلى بيته -صلى الله عليه وسلم- سرًا، واجتمعوا على بابه يرصدونه، وهم يظنونه نائمًا حتى إذا قام وخرج وثبوا عليه، ونفّذوا ما قرّروا فيه، وكانوا على ثقة ويقين جازم من نجاح هذه المؤامرة الدنيئة، وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل في وقت خروجه -صلى الله عليه وسلم- من البيت، فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر، ولكن الله غالب على أمره بيده ملكوت السموات والأرض يفعل ما يشاء وهو يجير ولا يجار عليه فقد تحقق ما خاطب به الله الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما بعد : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [(30) سورة الأنفال] .
وقد فشلت قريش في خطتها فشلًا ذريعًا مع غاية التيقظ والتنبه؛ إذ خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من البيت واخترق صفوفهم وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره على رءوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو قوله -عز وجل-: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [(9) سورة يس]، فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ومضى إلى بيت أبي بكر فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلًا حتى لحقا بغار ثَوْر في اتجاه اليمن .(1/121)
وبقي المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، وقبيل حلولها تجلّت لهم الخيبة والفشل، فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال : "ما تنتظرون؟"، قالوا : "محمدًا"، قال : "خبتم وخسرتم، قد والله مرَّ بكم وذرَّ على رؤوسكم التراب وانطلق لحاجته"، قالوا : "والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم" .
وتطلعوا من صير الباب فرأوا عليًا، فقالوا : والله إن هذا لمحمد نائمًا عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا .
وقام علىٌّ عن الفراش فسقط في أيديهم وسألوه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : "لا علم لي به ".
غادر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيته وأتى إلى دار أبي بكر -رضي الله عنه- ثم غادرا المنزل وخرجا من مكة على عجل قبل أن يطلع الفجر .
ولما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن قريشًا سَتَجِدُّ في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالًا، فسلك الطريق الذي يضاده تمامًا وهو الطريق الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثَوْر، وهو جبل شامخ وَعِر الطريق صعب المرتقى ذو أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحمله أبو بكر حين بلغ إلى الجبل وطفق يشتد به حتى انتهي به إلى غار في قمة الجبل عرف في التاريخ بغار ثور .(1/122)
ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: "والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك"، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبًا فشق إزاره وسدها به، وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "ادخل، فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووضع رأسه في حجره ونام، فلُدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسقطت دموعه على وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال : (( ما لك يا أبا بكر ؟ ))، قال : "لدغت فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الموضع فذهب ما يجده .
وكَمُنَا في الغار ثلاث ليال، وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما ، قالت عائشة : وهو غلام شاب ثَقِف لَقِن، فيُدْلِج من عندهما بسَحَر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، و كان يرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي بكر فيتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليُعَفي عليه .
أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صباح ليلة تنفيذ المؤامرة ، فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليًا وسحبوه إلى الكعبة وحبسوه ساعة علهم يظفرون بخبرهما .
ولما لم يحصلوا من عليّ على جدوى جاؤوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها : أين أبوك ؟ قالت : لا أدرى والله أين أبي ؟ فرفع أبو جهل يده فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها .
وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة في جميع الجهات تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين كائنًا من كا ن.(1/123)
فجدت الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب وانتشروا في الجبال والوديان والوهاد والهضاب، لكن من دون جدوى، وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره.
روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: "كنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغار فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم فقلت : يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا"، قال: (( اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما)) ، وفي لفظ: (( ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)) .
وحين خمدت نار الطلب وتوقفت أعمال دوريات التفتيش وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى تهيأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه للخروج إلى المدينة ، وكانا قد استأجرا عبد الله بن أُرَيْقِط الليثي، وكان خِرِّيتًا ماهرًا بالطريق وكان على دين كفار قريش، وأمّناه على ذلك وسلّما إليه راحلتيهما وواعداه غار ثَوْر بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلة الاثنين غرة ربيع الأول للسنة الأولى من الهجرة جاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين وأتتهما أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- بسُفْرَتِهما، ونسيت أن تجعل لها عِصَامًا، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحد وانتطقت بالآخر فسميت: ذات النطاقين .
ثم ارتحل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر -رضي الله عنه-، وأول ما سلك بهم ابن أريقط بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربًا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه شمالًا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرًا .(1/124)
قال عروة بن الزبير: "سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحَرَّة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أَوْفي رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي إلاّ أن قال بأعلى صوته : يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح وتلقوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بظهر الحرة". وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يومًا مشهودًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها.
أقبل فتلك ديار يثرب تقبل *** يكفيك من أشواقها ما تحمل
القوم مذ فارقت مكة أعين *** تأبى الكرى وجوانح تتململ
يتطلعون إلى الفجاج وقولهم *** أفما يطالعنا النبي المرسل
رفت نضارتها وطاب أريجها *** تدفقت أنفاسها تتسلسل
فكأنما في كل دار روضة *** وكأنما في كل مغنى بلبل
ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقباء، وكان وصوله يوم الاثنين الثامن من شهر ربيع الأول، ومكث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- بمكة ثلاثًا حتى أدى عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمانات التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيًا على قدميه حتى لحقهما بقباء.(1/125)
وأقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقباء أربعة أيام : الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس يوم الجمعة ركب بأمر الله له، وأبو بكر رديفه، وأرسل إلى بني النجار أخواله فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة وهم حوله، وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلى بهم في المسجد الذي في بطن الوادي وكانوا مائة رجل ، ثم سار بعد الجمعة حتى دخل المدينة، ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكان يومًا مشهودًا ارتجت البيوت والسكك بأصوات الحمد والتسبيح، ولا يستطيع واصف أن يصف ذاك المشهد العظيم حين خرج أهل المدينة مهللين مكبرين فرحين بمقدم النبي الكريم.
وعند وصوله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة أخذ أهل المدينة يقولون: جاء نبي الله، جاء نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فأشرفوا ينظرون ويقولون: جاء نبي الله، جاء نبي الله، فكان يوم فرح وابتهاج لم تر المدينة يومًا مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد، ولقد كان حقًّا يوم عيد؛ لأنه اليوم الذي انتقل فيه الإسلام من ذلك الحيز الضيق في مكة إلى رحابة الانطلاق والانتشار بهذه البقعة المباركة المدينة، ومنها إلى سائر بقائع الأرض.
لقد أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به، وبالشرف الذي اختصهم به أيضًا، فقد صارت بلدتهم موطنًا لإيواء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته المهاجرين، ثم لنصرة الإسلام كما أصبحت موطنًا للنظام الإسلامي العام التفصيلي بكل مقوماته، ولذلك خرج أهل المدينة يهللون في فرح وابتهاج، ويقولون: يا رسول الله، يا محمد، يا رسول الله.(1/126)
والأنصار وإن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليه فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته: "هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة"، فكان يقول لهم: ((خلوا سبيلها فإنها مأمورة )) ، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوي اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلًا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول فنزل عنها، وذلك في بني النجار -أخواله -صلى الله عليه وسلم- وبادر أبو أيوب الأنصارى إلى رحله فأدخله بيته، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (( المرء مع رحله )) ، وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته فكانت عنده .
وبعد أيام وصلت إليه زوجته سَوْدَة وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأم أيمن، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، ومنهم عائشة، وبقيت زينب عند أبي العاص لم يُمَكّنها من الخروج حتى هاجرت بعد غزوة بدر .
شعّ الهدى والبشرُ في بسماتهِ *** واليُمن والإيمان في قسماتهِ
وتفجرت فينا ينابيع الهدى *** واستيقظ التأريخ من غفواتهِ
"اقرأ وربُّك" في حراء تحررت *** والدهر غافٍ في عميق سباتهِ
جبريل حاملها وأحمد روحها *** إن الحديث موثّقُ برواتهِ
إقرأ معاني الوحي في كلماته *** في نسكهِ وحياتهِ ومماته
لو نُظّمت كلّ النجوم مدائحًا *** كانت قلائدهنّ بعض صفاته
يا من بنى للكون أكرم أمّةٍ *** من علمه من حلمه وأناته
صاروا ملوكًا للأنام بُعيْد أن *** كانوا رعاءَ الشاءِ في فلواته
من حطّم الأصنام في تكبيره *** من عانق التوحيد في سجداتهِ
من أطلق الإنسان من أغلاله؟! *** من أخرج الموءود من دركاته؟!
من علّم الحيران درب نجاتهِ؟! *** من أورد العطشان عذب فراتهِ؟!
من هدّ بنيان الجهالة والعمى؟! *** وبنى الأمان على رميم رفاتهِ؟!
في الهجرة الغراء ذكرى معهدٍ *** نستلهمُ الأمجاد من خطراته(1/127)
تاريخ أمتنا ومنبع عزّنا *** ودروبنا تزهو بإشراقاته
فيه الحضارة والبشارة والتقى *** ومُقِيل هذا الكون من عثراته
فتألقي يا نفس في نفحاته *** واستشرفي الغايات من غاياته
إن هجرة النبي –صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة بحسب الظاهر ترك للوطن وتضييع له لكنها كانت في الواقع حفاظًا عليه وضمانة له، فقد عاد بعد بضع سنوات من هجرته، عاد إلى وطنه الذي أخرج منه عزيز الجانب منصورًا مظفرًا، من أجل كل ذلك أرخ المسلمون بالهجرة، فلقد كانت نصرًا وميلادًا جديدًا للإسلام.
إنه الحدث الذي يحمل في طياته معاني الشجاعة والتضحية والإباء والصبر والنصر والفداء والتوكل والقوة والإخاء والاعتزاز بالله وحده مهما بلغ كيد الأعداء، إنه حدث الهجرة النبوية الذي جعله الله سبحانه طريقًا للنصر والعزة ورفع راية الإسلام وتشييد دولته وإقامة صرح حضارته، فما كان لنور الإسلام أن يشع في جميع أرجاء المعمورة لو بقي حبيسًا في مهده، ولله الحكمة البالغة في شرعه وكونه وخلقه.
هذه هي قصة تلك الرحلة العظيمة رحلة الهجرة، رحلة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، رحلة خروج الداعية من بلده إلى أرض الله الواسعة ليمارس شعائر دينه وينشر دعوته على الناس فيعم الخير، رحلة المفارقة لقوم السوء الذين لا ينشرون الخير ولا يعينون عليه.(1/128)
تلك الهجرة التي غيرتْ مسارَ التاريخ, وفاجأت العالم بأحداثِها الضخمة ونتائجِها المُدهشة, فقدْ كانتْ سببًا رئيسًا لقيامِ دولةِ الإسلامِ في المدينة, تلك الدولة التي لم تقفْ عند حدودٍ سياسيةٍ أو خطوطِ تماسٍ مكهربة صنعها المُحتلُ الأجنبي، ولكنَّها أخذتْ في الانتشارِ يمنةً ويسرة, حتى نتجَ عنها دولةُ الإسلامِ العالميةِ, والتي غمرتْ الدنيا بفيضِ نورِها المُشع, وبددتْ الظلامَ المتراكم عبرَ السنين, وقدمتْ للبشريةِ أنموذجًا نادرًا للكيفيةِ التي تُبنى من خلالِها الدول، فتتصاغرُ أمامَ ذلك الأُنموذجِ الفريد كلُّ النماذجِ الأُخرى.
ما أحوجَ الأُمة اليومَ وهي تُعاني ما تعانيه من تمزقٍ وضعفٍ وتناحرٍ, ما أحوجَها إلى قراءةِ تاريخِها من جديد، ومراجعةِ سيرِ أسلافِها الأولين, لتأخذَ الدروسَ والعبر علَّها تستعيد ُمجدها الغابر وتاجَها المفقود, فهيهات هيهات أن يصلحَ حالُ آخرِ هذه الأمةِ إلاّ بما صلحَ به حالُ أولِها, فاعتبروا يا أولي الأبصار.
إن في هذا الحدث العظيم من الآيات البينات والآثار النيرات والدروس والعبر البالغات ما لو استلهمته أمة الإسلام اليوم وعملت على ضوئه وهي تعيش على مفترق الطرق لتحقق لها عزها وقوتها ومكانتها وهيبتها.
أولًا: إننا نعيش في وقتٍ كشَّر العدوُّ عن أنيابه وأطلَّتِ الرويبضةُ برأسِها القبيح: ألا إنَّ من أعظمِ دروسِ الهجرةِ الشريفةِ ما يجبُ أن نُدركَه جميعًا أنَّ الغايةَ الكُبرى من الوجودِ الإنسانيِ بأسرهِ هو عمارةُ الأرضِ بالتوحيدِ والإيمان , وإقامةُ حكم اللهِ وشرعهِ في عظائمِ الأُمورِ فما دُونها , أليس اللهُ يقولُ: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [(56) سورة العنكبوت].(1/129)
إذًا فمتى تعذَّرَ تحقيقُ هذه الغايةِ فوقَ أرضٍ ما، فلا بُدَّ من البحثِ عن غيرِها مهما كان الثمن, ومهما كانتِ التضحيات أملًا في إيجادِ أرضيةٍ صالحةٍ للانطلاقةِ العُظمى ونشرِ الإسلامِ في ربوعِ الأرض وعرضِ العقيدةِ بصفائِها ونقائِها على الناسِ دون ضغطٍ أو إكراه.
وهكذا كان الأمرُ في مكة, فيومَ رفضَ أهلُها الإيمانَ والتوحيد وآثروا الكفرَ والتقليد أصبحتْ مكةُ بلدَ كفرٍ ودارَ حربٍ, وحُرِّمَ البقاءُ فيها, وأصبحتْ مجاورتُها مع القدرةِ على مُغادرتِها واحدةً من كبائرِ الذنوب، {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [(97) سورة النساء].
ثانيًا: إنَّهُ لا قيمةَ للأرضِ ولا للوطنِ حين تفسدُ الأرضُ ويكفرُ الوطن: لقد هاجرَ النبيُ –صلى الله عليه وسلم- وأصحابهُ الوطنَ الذي تربَّوا فيه والأرضَ التي نشؤوا فوقها, وباعوها بأرخصِ الأثمانِ, واشتروا أنفسَهم وأموالَهم بأنَّ لهم الجنَّة، وفي هذا كلِّهِ صفعةٌ لكلِّ الذين يُمجّدون الأرضَ والرمال, ويُعظمونَ الصخورَ والترابَ على حسابِ العقيدة.(1/130)
إنَّ الولاءَ يَجبُ أن يكونَ للهِ وحده , فالأرواحُ لا تُبذلُ إلا في سبيلهِ, والدماءُ لا تُراقُ إلا من أجلهِ, والجهادُ لا يكونُ إلا لإعلاءِ دينهِ، أما حُبّ الوطنِ فإنَّما يَكونُ بمقدارِ حبِّ أهلهِ للإسلام وتمسكِ أهلهِ بالإسلام، وبغيرِ الإسلام تصبحُ الأوطانُ مجرّدَ أتربةٍ وحجارة لا وزنَ لها ولا قيمة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} [(38) سورة التوبة].
ثالثًا: إنَّ هذا الدينِ لا يَقومُ إلا بالتضحيةِ والبذلِ والعطاء: إنَّهُ دينٌ لا يُعلِّقُ كبيرَ أملٍ على الكُسالى والخانعين, ولا يمنحُ شرفَ حملهِ ونُصرتهِ للمتراجعينَ والمتثاقلين.
إنَّ الدينَ ليس قضية بيعٍ وشراء أو منّةً وأذى, إنَّما هو جهدٌ وعناء, وبذلٌ وعطاء, وتضحيةٌ وفداء, ودموعٌ ودماء, وجراحٌ وأشلاء.
قلِّبِ النظرَ أنَّى شئتَ في تاريخِ أسلافِك: أما خُلعتْ رؤوسٌ من أجلِ هذا الدين؟! أما بُقرتْ بطون؟! أما قُطِّعتْ أطراف؟! أما سُحلت أجسام وسمّلت عيون؟!
الجواب: بلى، لقد مضتْ قوافلُ الشهداء وقوافلُ المجاهدين إلى ربها، بعضُها إثرَ بعض، فماذا صنعت أنتَ أيُّها الأخُ الحبيب؟! ماذا قدَّمت لدينِك وأُمتِك المُعذّبة؟! ما مقدارُ الهمِّ الذي تحملهُ في قلبِك تِجاه قضايا الإصلاحِ والتغيير؟!.
رابعًا: إن من أعظم دروس الهجرة وأجل عبرها: صناعة الأمل: نعم، إن الهجرة تعلم المؤمنين فنّ صناعة الأمل، الأمل في موعود الله، الأمل في نصر الله، الأمل في مستقبل مشرق لـ(لا إله إلا الله)، الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة.(1/131)
لقد رأيتم كيف صنع ستة نفر من يثرب أمل النصر والتمكين، وها هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع الأمل مرة أخرى حين عزمت قريش على قتله.
إن الهجرة تعلمنا في كل فصل من فصولها كيف نصنع الأمل، ونترقب ولادة النور من رحم الظلمة، وخروج الخير من قلب الشر، وانبثاق الفرج من كبد الأزمات.
ما أحوجنا ونحن في هذا الزمن -زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فنّ صناعة الأمل- فمن يدري ربما كانت هذه المصائب بابًا إلى خير مجهول؟ ورب محنة في طيها منحة! أوليس قد قال الله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [(216) سورة البقرة]؟.
لقد ضاقت مكة برسول الله ومكرت به فجعل نصره وتمكينه في المدينة، وأوجفت قبائل العرب على أبي بكر مرتدة، وظنّ الظّانون أن الإسلام زائل لا محالة، فإذا به يمتد من بعد ليعم أرجاء الأرض، وهاجت الفتن في الأمة بعد عثمان حتى قيل لا قرار لها ثم عادت المياه إلى مجراها، وأطبق التتار على أمة الإسلام حتى أبادوا حاضرتها بغداد، وقتلوا في بغداد وحدها مليوني مسلم وقيل: ذهبت ريح الإسلام، فكسر الله أعداءه في عين جالوت وعاد للأمة مجدها، وتمالأ الصليبيون وجيشوا جيوشهم وخاضت خيولهم في دماء المسلمين إلى ركبها حتى إذا استيأس ضعيف الإيمان، نهض صلاح الدين فرجحت الكفة الطائشة وطاشت الراجحة، وابتسم بيت المقدس من جديد، وقويت شوكة الرافضة حتى سيطر البويهيون على بغداد والفاطميون على مصر وكتبت مسبة الصحابة على المحاريب ثم انقشعت الغمة واستطلق وجه السنة ضاحكًا، وهكذا يعقب الفرج الشدة، ويتبع الهزيمة النصر، ويؤذن الفجر على أذيال ليل مهزوم فلم اليأس والقنوط؟(1/132)
خامسًا: في مجال تربية الشباب والمرأة وميدان البيت والأسرة يبرز الأثر العظيم في حدث الهجرة المصطفوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، ففي موقف عبد الله بن أبي بكر -رضي الله عنهما- في خدمة ونصرة صاحب الهجرة -عليه الصلاة والسلام- ما يجلِّي أثر الشباب في الدعوة ودورهم في الأمة ونصرة الدين والملة، أين هذا مما ينادي به بعض المحسوبين على فكر الأمة وثقافتها من تخدير الشباب بالشهوات وجعلهم فريسة لمهازل القنوات وشبكات المعلومات في الوقت الذي يعدُّون فيه للاضطلاع بأغلى المهمات في الحفاظ على الدين والقيم والثبات على الأخلاق والمبادئ أمام المتغيرات المتسارعة ودعاوَى العولمة المفضوحة؟!.
وفي موقف أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- ما يجلِّي دور المرأة المسلمة في خدمتها لدينها ودعوتها، فأين هذا من دعاة المدنية المأفونة الذين أجلبوا على المرأة بخيلهم ورجلهم زاعمين زورًا وبهتانًا أن تمسك المرأة بثوابتها وقيمها واعتزازها بحجابها وعفافها تقييد لحريتها وفقد لشخصيتها وبئس ما زعموا؟! فخرجت من البيت تبحث عن سعادة موهومة وتقدميّة مزعومة تظنها في الأسواق والشوارع والملاهي والمصانع، فرجعت مسلوبة الشرف مدنسة العرض مغتصبة الحقوق عديمة الحياء موءودة الغيْرَة، وتلك صورة من صور إنسانيات العصر المزعومة وحريته المأفونة ومدنيته المدعاة، ألا فليعلم ذلك اللاهثون واللاهثات وراء السراب الخادع والسائرون خلف الأوهام الكاذبة.(1/133)
سادسًا: التغيير لا يأتي من الخارج: إن الدرس الذي ينبغي أن نؤكد عليه في هذا المقام هو أن إقامة دولة الإسلام الأولى كانت نتيجةً للتغيير الضخم الذي شهدته نفوس الجماعة المؤمنة الأولى التي ارتضت الإسلام دينًا، وتربَّت عليه وضحَّت من أجله، كما قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [(11) سورة الرعد]، ولذلك فقد كان نصرًا حقيقيًّا باقيًا وكلُّ تغييرٍ لا يأتي من داخل الأمة نفسها لا يؤتي ثمرتَه المرجوَّةَ، فكلُّ تغيير تصنعه القوة القاهرة أو القرارات الفوقية تغييرٌ محدود الأثر.
إنَّ أمتنا تشهد في هذه الفترة من تاريخها محاولاتٍ لتغيير واقعها الأليم، الذي يدرك كافةُ أبنائها أنه قد آنَ الأوانُ لتغييرِه، وإحداثِ تطورٍ حقيقيٍّ فيه، لكنَّ البعض منا يروِّجُ لمشاريع تغيير مستورَدة من الخارج في ظل العولمة والقطب الدولي الوحيد، ويتلمَّس لنفسه العذرَ في ذلك بأن أبواب التغيير من الداخل موصدة.
والحق أن واقعنا أليم قد أصابه التيبُّس والجمودُ، لكننا واثقون في الوقت ذاته أن الحلول المستوردة الجاهزة لن تحل مشكلاتنا، وأن أعداءَنا لا يريدون خيرًا بنا، وأن دغدغة مشاعر البسطاء والمضطَّهَدين بشعارات الحرية الغربية لن تُفيد، وقد رأينا ثمرة تلك الشعارات منذ أمد في فلسطين، التي يعاني أهلها ما لا يطيقه بشرٌ بفعل الاحتلال الصهيوني، الذي تباركه الإدارة الأمريكية، واليوم نراه في عدد من الدول، يدعي الاحتلال أنه يريد تحرير هذه الشعوب من الظلم كما في أفغانستان والعراق وغيرها، والحقيقة أنه هو الظلم نفسه.
سابعًا: إشارة إلى أمر يتعلق بحدث الهجرة النبوية في قضية تعبر بجلاء عن اعتزاز هذه الأمة بشخصيتها الإسلامية، وتُثبِت للعالم بأسره استقلال هذه الأمة بمنهجها المتميز المستقى من عقيدتها وتأريخها وحضارتها.(1/134)
إنها قضية إسلامية وسنة عُمرية أجمع عليها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، إنها التوقيت والتأريخ بالهجرة النبوية المباركة، وكم لهذه القضية من مغزًى عظيم يجدر بأمة الإسلام اليوم تذكره والتقيد به، كيف وقد فتن بعض أبنائها بتقليد غير المسلمين والتشبه بهم في تأريخهم وأعيادهم؟ أين عزة الإسلام؟! وأين هي شخصية المسلمين؟! هل ذابت في خضم مغريات الحياة؟! فإلى الذين تنكروا لثوابتهم وخدشوا بهاء هويتهم وعملوا على إلغاء ذاكرة أمتهم وتهافتوا تهافتًا مذمومًا وانساقوا انسياقًا محمومًا خلف خصومهم، وذابوا وتميعوا أمام أعدائهم ننادي نداء المحبة والإشفاق: رويدكم، فنحن أمة ذات أمجاد وأصالة وتأريخ وحضارة ومنهج متميز منبثق من كتاب ربنا وسنة نبينا –صلى الله عليه وسلم-، فلا مساومة على شيء من عقيدتنا وثوابتنا وتأريخنا، ولسنا بحاجة إلى تقليد غيرنا، بل إن غيرنا في الحقيقة بحاجة إلى أن يستفيد من أصالتنا وحضارتنا، لكنه التقليد والتبعية والمجاراة والانهزامية والتشبه الأعمى من بعض المسلمين هداهم الله، وقد حذر –صلى الله عليه وسلم- أمته من ذلك بقوله فيما أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) والله المستعان.
ثامنًا: ظهور مزية المدينة: فالمدينة لم تكن معروفة قبل الإسلام بشيء من الفضل على غيرها من البلاد، وإنما أحرزت فضلها بهجرة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه إليها، وبهجرة الوحي إلى ربوعها حتى أكمل الله الدين وأتم النعمة، وبهذا ظهرت مزايا المدينة، وأفردت المصنفات لذكر فضائلها ومزاياها.(1/135)
تاسعًا وأخيرًا: في الهجرة دروس في الامتثال لأمر الله، ودروس في الإيمان واليقين، ودروس في التخطيط وعدم التسرع، ودروس في التضحية والإيثار، ودروس في الحكمة وحسن التصرف، ودروس في الصبر والإصرار على الحق، ودروس في تقديم محبة الله ومراده على محبة المال والوطن والعشيرة، ودروس في أن الولاء لله تعالى والانتصار لدينه يجب أن يُقدّم على كلّ ولاء، ودروس في التوكل على الله تعالى وحده، ودروس في أن السريةّ في موضعها من حسن التدبير، ودروس في حسن اختيار الصحبة في المهام الكبيرة، ودروس في أن الدعوة تستلزم أحيانًا تغيير البيئة لاستكمال مسيرتها نحو أهدافها العليا، ودروس في أن مكر أعداء الدين مهما عظم فلن يبلغ إطفاء نور هذا الدين.
وأنّ من صدق في نصر دين الله تعالى فسيؤيدّه الله بالآيات، وأنّ الصراع بين الحق والباطل يمر بمراحل أولها بعث الدعوة إلى الحق، ثم الانتشار وكسب الأنصار، ثم المواجهة الحتمية مع الباطل بالحجة والبيان، ثم مواجهته بالقوة والسنان، ثم التمكين لأهل الحق، ولابد من الابتلاء والامتحان في مرحلتي المواجهة قبل التمكين، وأن تسلط الكفار وعلوهم في بعض مراحل الصراع بين الحق والباطل سنة ماضية لا تضر أهل الحق ولا تدل على هوانهم على الله تعالى.
والحمد لله أولًا وآخرًا...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس الثامن
مقومات دولة الإسلام في المدينة
شرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ دخوله المدينة يسعى لتثبيت دعائم الدولة الجديدة على قواعد متينة، وأسس راسخة، ويمكن أن نلخص الأركان التي قام عليها بناء الدولة الجديدة فيما يأتي:
أولًا: بناء المسجد.
ثانيًا: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
ثالثًا: إصدار وثيقة المدينة التي ينظم العلاقة بين المسلمين واليهود ومشركي المدينة.
رابعًا: إعداد الجيش لحماية الدولة.
خامسًا: استمرارية البناء التربوي والعلمي.
وإليك تفصيل ذلك:
أولًا: بناء المسجد:(1/136)
كان أول ما قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة بناء المسجد، وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين، وتنقي القلب من أدران الأرض وأدناس الحياة الدنيا.
روى البخاري بسنده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل المدينة راكبًا راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدًا للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين بركت به راحلته: ((هذا إن شاء الله المنزل))، ثم دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدًا فقالا: "لا، بل نهبه لك يا رسول الله"، فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما.
بعدها شرع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في العمل مع أصحابه، وضرب أول معول في حفر الأساس الذي كان عمقه ثلاثة أذرع، ثم اندفع المسلمون في بناء هذا الأساس بالحجارة، والجدران التي لم تزد عن قامة الرجل إلا قليلًا باللبن الذي يعجن بالتراب ويسوى على شكل أحجار صالحة للبناء، وفي الناحية الشمالية منه أقيمت ظلة من الجريد على قوائم من جذوع النخل، كانت تسمى "الصفة"، أما باقي أجزاء المسجد فقد تركت مكشوفة بلا غطاء، أما أبواب المسجد فكانت ثلاثة: باب في مؤخرته من الجهة الجنوبية، وباب في الجهة الشرقية كان يدخل منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإزاء باب بيت عائشة، وباب من الجهة الغربية يقال له: باب الرحمة أو باب عاتكة.(1/137)
وبُني لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حُجَر حول مسجده الشريف، لتكون مساكن له ولأهله، ولم تكن الحجر كبيوت الملوك والأكاسرة والقياصرة، بل كانت بيوت من ترّفع عن الدنيا وزخارفها، وابتغى الدار الآخرة، فقد كانت كمسجده مبنية من اللبن والطين وبعض الحجارة، وكانت سقوفها من جذوع النخل والجريد، وكانت صغيرة الفناء قصيرة البناء ينالها الغلام الفارع بيده.
وبعد اكتمال بناء المسجد تشاور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه لإيجاد عمل ينبه النائم ويذكر الساهي، ويعلم الناس بدخول الوقت لأداء الصلاة، فقال بعضهم: ترفع راية إذا حان وقت الصلاة ليراها الناس، فاعترضوا على هذا الرأي؛ لأنها لا تفيد النائم ولا الغافل، وقال آخرون: نشعل نارًا على مرتفع من الهضاب، فلم يقبل هذا الرأي أيضًا، وأشار آخرون ببوق، وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم، فكرهه الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه يجب مخالفة أهل الكتاب في أعمالهم، وأشار بعض الصحابة باستعمال الناقوس وهو ما يستعمله النصارى، فكرهه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أيضًا، وأشار فريق بالنداء فيقوم بعض الناس إذا حانت الصلاة وينادي بها، فَقُبل هذا الرأي.
وكان أحد المنادين عبد الله بن زيد الأنصاري، فبينما هو بين النائم واليقظان، إذ عرض له شخص، وقال: "ألا أعلمك كلمات تقولها عند النداء بالصلاة؟"، قال: "بلى"، فقال له: "قل: الله أكبر، مرتين، وتشهد مرتين، ثم قل: حي علي الصلاة مرتين، ثم قل: حي على الفلاح مرتين، ثم كبر مرتين: ثم قل: لا إله إلا الله".
فلما استيقظ توجه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأخبره خبر رؤياه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنها لرؤيا حق))، ثم قال له: ((لقن بلالًا فإنه أندى صوتًا منك))، وبينما بلال يؤذن للصلاة بهذا الأذان جاء عمر بن الخطاب يجر رداءه فقال: "والله لقد رأيت مثله يا رسول الله".(1/138)
وكان بلال بن رباح أحد مؤذنيه بالمدينة، والآخر عبد الله بن أم مكتوم، وكان بلال يقول في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين، وأقره الرسول -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، وكان يؤذن في البداية من مكان مرتفع ثم استحدث بعد ذلك المنارة.
المسجد أنشئ ليكون متعبدًا لصلاة المؤمنين وذكرهم وتسبيحهم لله، وتقديسهم إياه بحمده وشكره على نعمه عليهم، يدخله كل مسلم، ويقيم فيه صلاته وعبادته.
أنشئ المسجد ليكون ملتقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه والوافدين عليه، طلبًا للهداية ورغبة في الإيمان بدعوته وتصديق رسالته.
أنشئ المسجد ليكون جامعة للعلوم، وليكون مدرسة يتدارس فيها المؤمنون، ومعهدًا يؤمه طلاب العلم من كل صوب، ليتفقهوا في الدين ويرجعوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين، داعين إلى الله هادين، يتوارثونها جيلًا بعد جيل.(1/139)
أنشئ ليجد الغريب فيه مأوى، وابن السبيل مستقرًا لا تكدره منَّة أحد عليه، فينهل من رفده ويعب من هدايته ما أطاق استعداده النفسي والعقلي، لا يصده أحد عن علم أو معرفة أو لون من ألوان الهداية، فكم من قائد تخرج فيه، وبرزت بطولته بين جدرانه، وكم من عالم استبحر علمه في رحابه، ثم خرج به على الناس يروي ظمأهم للمعرفة، وكم من داعٍ إلى الله تلقى في ساحاته دروس الدعوة إلى الله فكان أسوة الدعاة، وقدوة الهداة، وريحانة جَذَبَ القلوب شذاها فانجفلت تأخذ عنها الهداية لتستضيء بأنوارها، وكم من أعرابي جلف لا يفرق بين الأحمر والأصفر، وفد عليه فدخله ورأى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حوله هالة تحف به، يسمعون منه وكأن على رؤوسهم الطير، فسمع معهم وكانت عنده نعمة العقل مخبأة تحت ستار الجهالة، فانكشف له غطاء عقله، فعقل وفقه، واهتدى واستضاء، ثم عاد إلى قومه إمامًا يدعوهم إلى الله، ويربيهم بعلمه الذي علم، وسلوكه الذي سلك فآمنوا بدعوته، واهتدوا بهديه، فكانوا سطرًا منيرًا في كتاب التاريخ الإسلامي. أنشئ المسجد ليكون قلعة لاجتماع المجاهدين إذا استُنفروا، تعقد فيه ألوية الجهاد والدعوة إلى الله، وتخفق فيه فوق رؤوس القادة الرايات للتوجه إلى مواقع الأحداث، وفي ظلها يقف جند الله في نشوة ترقب النصر أو الشهادة.
أنشئ المسجد ليجد فيه المجتمع المسلم الجديد ركنًا في زواياه، ليكون مشفى يستشفى فيه جرحى كتائب الجهاد ليتمكن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- من عيادتهم، والنظر في أحوالهم، والاستطباب لهم، ومداواتهم في غير مشقة ولا نصب تقديرًا لفضلهم.(1/140)
أنشئ المسجد ليكون مركزًا لبريد الإسلام، منه تصدر الأخبار، ويبرد البريد، وتصدر الرسائل، وفيه تتلقى الأنباء السياسية سلمًا أو حربًا، وفيه تتلقى وتقرأ رسائل البشائر بالنصر، ورسائل طلب المدد، وفيه ينعى المستشهدون في معارك الجهاد ليتأسى بهم المتأسون وليتنافس في الاقتداء بهم المتنافسون.
أنشئ المسجد ليكون مرقبًا للمجتمع المسلم، يتعرف منه على حركات العدو المريبة، ويرقبها ولا سيما الأعداء الذين معه يساكنونه ويخالطونه في بلده من شراذم اليهود وزمر المنافقين ونفايات الوثنية.
المسجد له تاريخه وله دوره في حياة المسلمين، يجهل كثير من المسلمين تاريخ مسجدهم ودور مسجدهم وما يجب عليهم تجاهه.
بنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجده ليكون روضة من رياض الجنة إمامه محمد -صلى الله عليه وسلم- وتلاميذه: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت، ومواده المقررة وحي الله -عز وجل-، وأما مطلبه فهو أن تكون كلمة الله هي العليا.
عمّار المساجد هم أولياء الله -عز وجل- وأحبابه من خلقه: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [(18) سورة التوبة]، لذلك فأعداء هذا الدين بجميع مللهم ونحلهم لا يريدون للمساجد أن تُعمر، ولعلمهم بأن المساجد تهدد بقاءهم وتحول بينهم وبين شهواتهم، وتُنهي تواجدهم في الأرض، فهم لذلك لا يريدون عمارتها، وإنما يسعون جاهدين إلى هدمها وإزالتها من الأرض، ولذلك وصفهم الحق -سبحانه وتعالى- بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ} [(114) سورة البقرة].(1/141)
المساجد بيوت الله -عز وجل- في الأرض، أطهر ساحات الدنيا، وأنقى بقاع الأرض، فيها تتآلف القلوب المؤمنة، وتنزل رحمات الرب، وتهبط ملائكة الله، وتحل السكينة والخشوع.
حق على هذه الأمة الاعتناء بمساجدها؛ لأنها مظهر للرقي والفلاح، كنا أمة مبعثرة قبل ظهور الإسلام، فلما بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- جمعنا في أعظم جامعة، آخت بين قلوبنا، وجمعت كلمتنا، ووحدت شملنا، ولمت شعثنا، ألا وهي المسجد، فكان حقًا علينا جميعًا أن نُظهر هذه المساجد بأجمل مظهر يعرفه الناس، فنعتني بها أكثر من بيوتنا ومنازلنا، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب".
المسجد هيئة لتأديب القلوب وتهذيب الأرواح، فالقلوب لا تتأدب إلا بالتربية المتأنية والكلمة اللينة والقدوة الحسنة، وهذه كلها وجدت في مسجده -عليه الصلاة والسلام-، ولذا فمن أراد أن يربي نفسه فليلزم المسجد، ومن أراد أن يربي ولده فليُلزمه المسجد، وننصح من يقومون على تربية الناشئة أن يعودوهم على لزوم المساجد فإنها خير معين على ذلك.
قد يستغرب البعض إذا قيل أنه من المسجد تصرف الأدوية الربانية، وفي المسجد يعالج المرضى.(1/142)
لم تعرف صيدليات العالم ولا عيادات التاريخ الإنساني أعظم من صيدلية محمد -صلى الله عليه وسلم- وعيادته المباركة التي كتب عليها: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [(80) سورة الشعراء]؛ وما ذلك إلا لأن دواءها وعلاجها يصل مباشرة إلى القلوب فيشفيها بإذن الله، وكثيرًا ما كان المرضى يأتون إلى مسجده -صلى الله عليه وسلم- الذي كان مكانًا لعلاج المرضى وبخاصة في أيام الحروب والمعارك، فعن عائشة -رضي الله عنها وعن أبيها- قالت: "أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق في الأكحل - وهو عرق في وسط الذراع - فضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- له خيمة في المسجد ليعوده من قريب" [متفق عليه]، وهذا يعني أن الجريح أو المريض له أن يُعالج في المسجد ليكون قريبًا للإمام وأعيان الناس فيتمكنون من عيادته إذا اقتضى الحال ذلك، ثم لأن المسجد مكان عبادة وبقعة طاهرة تحف بها الملائكة وتغشاها السكينة فيكون المريض بذلك قريبًا من دعوات إخوانه المؤمنين فيكون سببًا في شفائه وبرئه وسرعة استعادته لعافيته، وهذا سبب خفي قلَّ من يتنبه له أو يتذكره، ومن هنا نرى أن المسجد مكان طبيعي لعلاج مرض القلوب إضافة إلى أنه من أحسن البقاع وأفضلها في علاج الأبدان بإذن الله سبحانه.(1/143)
المسجد أعظم مصنع لصناعة رجال الأمة في كافة الميادين، فالمفسر للقرآن يتخرج من المسجد، والمحدث يتخرج من المسجد، والفقيه يتخرج من المسجد، والخطيب يخطب في المسجد، والمفتي يفتي في المسجد، والمجاهد ينطلق من المسجد، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر والحاكم بشرع الله والمنفذ لأوامر الله والداعي إلى سنة رسول الله وغيرهم كثير كلهم تخرجوا من المسجد، ولذلك فإن المساجد في عصور السلف الصالح خرّج قادة الدنيا وأصحاب التأثير في تاريخ الإنسانية. فالخلفاء الراشدون من أين تخرجوا؟ وأين تعلموا؟ العبادلة الأربعة والقادة الفاتحون والشهداء في سبيل الله جميعهم كانوا من المهاجرين والأنصار وغيرهم من الثلة الخيرة والنخبة المصطفاة الذين كانوا عبادًا للحجر فأصبحوا قادة وزعماء للبشر، وكانوا رعاة للغنم فأصبحوا سادة للأمم، جميعهم تخرجوا من مسجد المدينة، مسجد محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي كان مبنيًا من الطين ومسقوفًا بجريد النخل. فماذا فعلت مساجدنا التي بنيت بأرقى الخامات، وصممت على أحدث التصميمات؟ هل أثرت في مسيرة هذه الأمة؟ هل أخرجت لنا وللأمة المسلمة علمًا نافعًا وعملًا صالحًا؟ هل وقفت مساجدنا سدًا منيعًا أمام حملات الغزو الفكري والعسكري والتيارات الهدامة من العولمة والحداثة والعلمانية وغيرها؟ هل بعثت الفكر من مرقده وأيقظته من سباته؟ هل شحذت الهمم وحركت المشاعر في النفوس؟ هل بثت النور في قارات الأرض؟ وهل عبرت منها الكلمات الصادقة عبر المحيطات؟.
الجواب معروف: لا وألف لا، وذلك أمر يؤسف له، أما لماذا؟ فلأننا عمرنا مساجدنا بالبناء ولم نعمرها بالذكر والدعاء، ولأننا عمرناها بالزخارف والألوان ولم نعمرها بتلاوة القرآن، ولأننا لم نتعامل مع المسجد كما تعامل معه أولئك الكرام.(1/144)
عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد))، هذا هو الواقع الحالي في تعاملنا اليوم مع المساجد التي أصبحت مظاهر وأصبحت آيات في حسن البناء وروعة الهندسة تعجب الناظرين وتسرهم في مظهرها إلا أنها في مخبرها وجوهرها لم تؤد رسالة ولم تحقق هدفًا، فعقم جيلها، وسكتت ألسنتها، واختفت حلقاتها، وانطفأ نورها، وانعدم دورها.
المقوم الثاني من مقومات دولة الإسلام في المدينة: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:
كان مبدأ التآخي العام بين المسلمين قائمًا منذ بداية الدعوة في عهدها المكي، وقد أكد القرآن الكريم الأخوة العامة بين أبناء الأمة في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [(103) سورة آل عمران]، أما هنا فهو المؤاخاة الخاصة التي شرعت وترتبت عليها حقوق وواجبات أخص من الحقوق والواجبات العامة بين المؤمنين كافة.
لقد ساهم نظام المؤاخاة في ربط الأمة بعضها ببعض، فقد أقام الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الصلة على أساس الإخاء الكامل بينهم، هذا الإخاء الذي تذوب فيه عصبيات الجاهلية فلا حمية إلا للإسلام، وتسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه.(1/145)
وقد جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الأخوة عقدًا نافذًا لا لفظًا فارغًا، وعملًا يرتبط بالدماء والأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر، وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [(9) سورة الحشر].
إن التآخي الذي تم بين المهاجرين والأنصار، كان مسبوقًا بعقيدة تم اللقاء عليها والإيمان بها، فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى خرافة ووهم، خصوصًا إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين في الحياة العملية، ولذلك كانت العقيدة الإسلامية التي جاء بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عند الله تعالى هي العمود الفقري للمؤاخاة التي حدثت؛ لأن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة لله دون الاعتبار لأي فارق إلا فارق التقوى والعمل الصالح، إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء، والتعاون والإيثار بين أناس فرقتهم العقائد والأفكار المختلفة، فأصبح كل منهم ملكًا لأنانيته وأثرته وأهوائه.
وعبد الرحمن بن عوف –رضي الله عنه- يحدثنا عن هذه المعاني الرفيعة حيث قال: "لما قدمنا المدينة آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: "إني أكثر الأنصار مالًا فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها، فإذا حلت تزوجتها".(1/146)
لم يعرف تاريخ البشر كله حادثًا جماعيًا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم، وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الفعالة، وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء.
فهذه المقاسمة وهذا التكافل الاجتماعي، كان من أهم العناصر التي مهدت لإقامة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته المهاجرين معه وبعده إقامة طيبة تنبض بالإيثار على النفس وبود الأخوة الصادقة المؤمنة.
بهذه الروح العالية والإيمان الوثيق والصدق في المعاملة تمت المؤاخاة وتم الوفاق بين المهاجرين والأنصار.
وقد يحدث تساؤل فيقال: لماذا لم نسمع ولم تسجل المصادر ولم تكتب المراجع أن خلافات وقعت في هذه البيوت؟ وأين النساء وما اشتهرن به من مشاكسات؟
إنه الدين الحق الذي جعل تقوى الله أساسًا لتصرف كل نفس، والأخلاق السامية التي فرضت الأخوة بين المسلمين ونصرة الدعوة، وإنها المبايعة وأثرها في النفوس، إنه الصدق والعمل من أجل المجموعة خوفًا من العقاب ورهبة من اليوم الآخر، ورغبة في الثواب وطمعًا في الجنة، إنه دفء حضانة الإيمان، واستقامة النفس والسلوك وصدق الطوية، فكل من أسلم وكل من بايع وكل من أسلمت وبايعت يعملون جميعهم بما يُؤمرون به ويُخلصون فيما يقولون، يخافون الله في السر والعلن آمنت نفوسهم فاحتضنت الأنصارية المهاجرة فالكل يعمل من أجل مصلحة الكل، فهذا هو التكافل الاجتماعي في أجلى صورة وأقدس واقعة، رغب الكل في الثواب حتى أن الواحد منهم يخاف ذهاب الأنصاري بالأجر كله.(1/147)
إن جانب البذل والعطاء ظاهرة نحن بحاجة إلى الإشارة إليها في كل وقت، إننا في عالمنا المعاصر، وفي الصف الإسلامي، وفي رحلة لبضعة أيام تتكشف النفوس والعيوب والحزازات والظنون، وهذا مجتمع يبني ولما يصل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد، ومع ذلك تُفتح البيوت للوافدين الجدد ليس على مستوى فرد فقط، بل على مستوى جماعي كذلك، ويقيم المهاجرون في بيوت الأنصار أشهرًا عدة، والمعايشة اليومية مستمرة، والأنصار يبذلون المال والحب والخدمات لإخوانهم القادمين إليهم.
نحن أمام مجتمع إسلامي بلغ الذروة في لحمته وانصهاره، ولم يكن المهاجرون إلا القدوة للأنصار بالبذل والعطاء، فلم يكونوا أصلًا فقراء، بل كانوا يملكون المال ويملكون الدار، وتركوا ذلك كله ابتغاء مرضاة الله، وبذلوه كله لطاعته -جل وعلا-، فكانوا كما وصفهم القرآن الكريم: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [(8) سورة الحشر].
إن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى مثل هذه المؤاخاة التي حدثت بين المهاجرين والأنصار؛ لأنه يستحيل أن تستأنف حياة إسلامية عزيزة قوية إذا لم تتخلق المجتمعات الإسلامية بهذه الأخلاق الكريمة، وترتقي إلى هذا المستوى الإيماني الرفيع وإلى هذه التضحيات الكبيرة.(1/148)
وقد حققت المؤاخاة أهدافها في ذلك المجتمع الرباني، فمنها: إذهاب وحشة الغربة للمهاجرين ومؤانستهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، وشد أزر بعضهم بعضًا، ومنها: نهوض الدولة الجديدة؛ لأن أي دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها، ولا يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير عامل التآخي والمحبة المتبادلة، فكل جماعة لا تؤلف بينها آصرة المودة والتآخي الحقيقية، لا يمكن أن تتحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتحاد حقيقة قائمة في الأمة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألف منها دولة.
المقوم الثالث من مقومات الدولة الجديدة: الوثيقة أو الصحيفة:
نظم النبي -صلى الله عليه وسلم- العلاقات بين سكان المدينة وكتب في ذلك كتابًا أوردته المصادر التاريخية واستهدف هذا الكتاب أو الصحيفة توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة وتحديد الحقوق والواجبات، وقد سميت في المصادر القديمة بالكتاب أو الصحيفة، ومما جاء فيها:
- هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فَلَحق بهم وجاهد معهم.
- إنهم أمة واحدة من دون الناس.
- المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدُون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
- وبنو عوف على ربعتهم.
- وبنو ساعدة على ربعتهم. ثم عدّد عددًا من القبائل.
- وإن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم.
- ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن.
- وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
- وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
- وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.(1/149)
- وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا أو يُؤويه، وإن من نصره أو آواه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
- وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم-.
- وإن لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يُهلك إلا نفسه وأهل بيته.
- وإن بطانة يهود كأنفسهم.
- وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد -صلى الله عليه وسلم-.
- وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
- وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
- وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها.
هذه بعض المواد التي جاءت في تلكم الصحيفة أو الوثيقة، ولنا مع هذه الوثيقة بعض التأملات:
أولًا: تضمنت الصحيفة مبادئ عامة، درجت دساتير الدول الحديثة على وضعها فيها، وفي طليعة هذه المبادئ تحديد مفهوم الأمة، فالأمة في الصحيفة تضم المسلمين جميعًا مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم، ممن لحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس، وهذا شيء جديد كل الجدّه في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب، إذ نَقل الرسول -صلى الله عليه وسلم- قومه من شعار القبلية والتبعية لها، إلى شعار الأمة التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد، وقد جاء به القرآن الكريم في قول الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [(92) سورة الأنبياء]، وأصبحوا أمة واحدة تربط أفرادها رابطة العقيدة وليس الدم، فيتحد شعورهم وتتحد أفكارهم وتتحد قبلتهم ووجهتهم وولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف.(1/150)
ثانيًا: جعلت الصحيفة الفصل في كل الأمور بالمدينة يعود إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فقد نصت على مرجع فض الخلاف وقد جاء فيها: "وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم-": والمغزى من ذلك واضح وهو تأكيد سلطة عليا دينية تهيمن على المدينة وتفصل في الخلافات منعًا لقيام اضطرابات في الداخل من جرّاء تعدد السلطات، وفي نفس الوقت تأكيد ضمني برئاسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الدولة.
ثالثًا: تحديد إقليم الدولة: جاء في الصحيفة: "وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة": إن المدينة كانت بداية إقليم الدولة الإسلامية ونقطة الانطلاق ومركز الدائرة، وقد أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه ليثبتوا أعلامًا على حدود حرم المدينة من جميع الجهات، وحدود المدينة بين لابتيها شرقًا وغربًا، وبين جبل ثور في الشمال وجبل عَيْر في الجنوب.
ثم اتسع الإقليم باتساع الفتح، ودخول شعوب البلاد المفتوحة في الإسلام حتى عم مساحة واسعة في الأرض والبحر وما يعلوها من فضاء، حتى وصل حدود الدولة الإسلامية المحيط الأطلسي غربًا ومناطق واسعة من غرب أوربا وجنوبها ومناطق فسيحة من غرب آسيا وجنوبها، إلى أكثر أهل الصين وروسيا شرقًا وكل شمال إفريقيا وأواسطها.(1/151)
إن إقليم الدولة مفتوح وغير محدود بحدود جغرافية أو سياسية، فهو يبدأ من عاصمة الدولة المدينة، ويتسع حتى يشمل الكرة الأرضية بأسرها قال الله تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [(128) سورة الأعراف]، كما أن مفهوم الأمة مفتوح وغير منغلق على فئة دون فئة، بل هي ممتدة لتشمل الإنسانية كلها، إذا ما استجابت لدين الله تعالى الذي ارتضاه لخلقه ولبني آدم أينما كانوا، فالدولة الإسلامية دولة الرسالة العالمية، لكل فرد من أبناء المعمورة نصيب فيها، وهي تتوسع بوسيلة الجهاد في سبيل الله تعالى.
المقوم الرابع: إعداد الجيش لحماية الدولة:
إن من السنن التي تعامل معها النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة التدافع، وتظهر جليًا في الفترة المدنية مع حركة السرايا والبعوث والغزوات التي خاضها النبي -صلى الله عليه وسلم- ضد المشركين، وهذه السُنة متعلقة تعلقًا وطيدًا بالتمكين لهذا الدين، وقد أشار الله تعالى إليها في كتابه العزيز وجاء التنصيص عليها في قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [(251) سورة البقرة]، فقد شرع الله -عز وجل- الجهاد لهذه الأمة وجعله فريضة ماضية إلى يوم القيامة لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وما تركه قوم إلا أذلهم الله وسلط عليهم عدوهم.(1/152)
ومع نزول الإذن بالقتال شرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تدريب أصحابه على فنون القتال والحروب، واشترك معهم في التمارين والمناورات والمعارك، وعدّ السعي في هذه الميادين من أجلِّ القربات وأقدس العبادات التي يتقرب بها إلى الله -سبحانه وتعالى-، وقد قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بتطبيق قول الله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [(60) سورة الأنفال].
وقد سعى النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اعتماد كل طاقات الأمة القادرة على البذل والعطاء، رجالًا ونساءً وصبيانًا وشبابًا وشيوخًا، وإلى التمرس على كل مهارة في القتال طعنًا بالرمح وضربًا بالسيف ورميًا بالنبل ومناورة على ظهور الخيل، وكان -صلى الله عليه وسلم- يمزج خَطَّي التربية العسكرية المتوازنين: التوجيه والتدريب والأمل بالنصر أو الجنة وتقديم الجهد في ساحات القتال، ويحض المسلمين على إتقان ما تعلموا من فنون الرماية، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أوقد عصى))، فهي دعوة إلى عموم الأمة وحتى من دخلوا في سن الشيخوخة للتدريب على إصابة الهدف ومهارة اليد ونشاط الحركة.
إن الإسلام يهتم بطاقات الأمة جميعها ويوجهها نحو المعالي وعلو الهمة.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يهتم بالإعداد على حسب كل ظرف وحال، ويحث على كل وسيلة يستطيعها المسلمون، وقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)).(1/153)
إن موقف قريش في مكة من أولى الأمور التي يجب أن تعالجها قيادة المدينة، وأول خطوة في المعالجة إعداد الجيش؛ لأن أهل مكة لن يرضوا بأن يقوم للإسلام كيان ولو كان في المدينة؛ لأن ذلك يهدد كيانهم ويقوض بنيانهم، فهم يعلمون أن قيام الإسلام معناه انتهاء الجاهلية.
وبعد أن بدأت قريش بإعلان حالة الحرب بينها وبين دولة الإسلام بالمدينة، ونزل الإذن من الله تعالى بالقتال، صار من الطبيعي أن تتعامل دولة المدينة مع قريش حسب ما تقتضيه حالة الحرب هذه، فقد اتجه نشاط الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أجل توطيد مكانة هذه الدولة، والرد على قريش في إعلانها الحرب على المدينة، فاتجه نشاطه نحو إرسال السرايا، والخروج في الغزوات فكانت تلك السرايا والغزوات التي سبقت غزوة بدر الكبرى.
وأولى الغزوات التي غزاها النبي -صلى الله عليه وسلم- غزوة الأبواء، ولم يقع قتال في هذه الغزوة بل تمت موادعة بني ضمرة من كنانة، وكانت هذه الغزوة في صفر سنة اثنتين من الهجرة، وكان عدد المسلمين مائتين بين راكب وراجل.
وبعدها سرية عبيدة بن الحارث، وهي أول راية عقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان عدد السرية ستين من المهاجرين، وكانت قوة الأعداء من قريش أكثر من مائتي راكب وراجل، وكان قائد المشركين أبو سفيان بن حرب، وحصلت مناوشات بين الطرفين على ماء بوادي رابغ، رمى فيها سعد بن أبي وقاص أول سهم رمي في الإسلام، وكانت بعد رجوعه من الأبواء.
وبعدها سرية حمزة بن عبد المطلب إلى سِيف البحر في ثلاثين راكبًا من المهاجرين، فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، فحجز بين الفريقين مجدي بن عمرو الجهني، وكان موادعًا للفريقين جميعًا، فانصرف القوم عن بعض ولم يكن بينهم قتال.(1/154)
حصل بعدها أن بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- عددًا من السرايا وحصل أيضًا بعض الغزوات الصغيرة والتي لم يحصل فيها قتال إلا ما كان من سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة حيث أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن جحش في ثمانية رَهْط من المهاجرين إلى نخلة جنوب مكة في آخر يوم من رجب للاستطلاع والتعرف على أخبار قريش، لكنهم تعرضوا لقافلة تجارية لقريش فظفروا بها، وقتلوا قائدها عمرو بن الحضرمي، وأسروا اثنين من رجالها وهم: عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وعادوا بهم إلى المدينة، وقد توقف النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغنائم حتى نزل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [(217) سورة البقرة]، فلما نزل القرآن الكريم قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العير والأسيرين.
وفي سرية عبد الله هذه غنم المسلمون أول غنيمة، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل قتله المسلمون، وعثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون.
المقوم الخامس من مقومات دولة الإسلام في المدينة: استمرارية البناء التربوي والعلمي:
استمر القرآن المدني يتحدث عن عظمة الله وحقيقة الكون، والترغيب بالجنة والترهيب من النار، ويُشرّع الأحكام لتربية الأمة ودعم مقومات الدولة التي ستحمل نشر دعوة الله بين الناس قاطبة وتجاهد في سبيل الله.(1/155)
وكانت مسيرة الأمة العلمية تتطور مع تطور مراحل الدعوة وبناء المجتمع وتأسيس الدولة.
لقد أيقنت الأمة أن العلم من أهم مقومات التمكين؛ لأن من المستحيل أن يمكّن الله تعالى لأمة جاهلة متخلفة عن ركاب العلم.
واستمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في منهجه التربوي، يعلم أصحابه ويذكرهم بالله -عز وجل-، ويحثهم على مكارم الأخلاق، ويوضح لهم دقائق الشريعة وأحكامها، وكان توجيهه -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه أحيانًا فرديًا، ومرة جماعيًا، وترك لنا الحبيب المصطفى ثروة هائلة في وسائله التربوية في التعليم وإلقاء الدروس.
هذه باختصار شديد أهم الأركان الأساسية التي قامت عليها الدولة الجديدة، دولة الإسلام في المدينة مرة أخرى:
- بناء المسجد.
- المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
- إصدار وثيقة المدينة.
- إعداد الجيش لحماية الدولة.
- استمرارية البناء التربوي والعلمي.
والحمد لله أولًا وآخرًا...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس التاسع
غزوة بدر الكبرى
غزوة بدر الكبرى:
غزوة بدر هي أولى معارك المسلمين الكبرى وأبركها، لما حدث فيها من انتصار عظيم على الكفار، هو الأول من نوعه بهذا الحجم منذ بعثته -صلى الله عليه وسلم-، وقد كانت هذه الغزوة في السابع عشر من شهر رمضان المبارك من السنة الثانية للهجرة النبوية.(1/156)
وتبدأ فصول هذه الملحمة الكبرى عندما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة -رضي الله عنهم- أن قافلة لقريش قادمة من الشام، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتراضها وأخذ ما فيها عوضاً عن الأموال التي سلبتها قريش من المسلمين، فخرج -صلى الله عليه وسلم- ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، لكنهم أرادوا شيئاً وأراد الله غيره، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [(7) سورة الأنفال].
ففي جمادى الأولى من السنة الثانية للهجرة خرج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في مائتين من المهاجرين يعترضون عيراً لقريش متجهة نحو الشام فبلغوا ذا العشيرة قرب ينبع فوجدوا العير قد فاتتهم فعادوا, ولما قرب رجوعها من الشام أرسل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال لاستكشاف خبرها, فوصلا الحوراء حتى مرَّ بهم أبو سفيان بألف بعير موقرة بالأموال فأسرعا إلى المدينة وأخبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الخبر, فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((هذه عير قريش فيها أموالكم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها))، ولم يعزم على أحد بالخروج، فسار رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالجيش فيه ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً بفرسين وسبعين بعيراً يتعاقبونها, وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- وعليّ ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيراً واحداً, ودفع لواء القيادة لمصعب بن عمير وكان أبيض, وقسم الجيش إلى كتيبتين, كتيبة المهاجرين وأعطى رايتها علي بن أبي طالب, وكتيبة الأنصار أعطى رايتها سعد بن معاذ, وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام, وعلى الميسرة المقداد بن عمرو, وعلى الساقة قيس بن أبي صعصعة, وهو –صلى الله عليه وسلم- القائد الأعلى للجيش.(1/157)
واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء ردَّ أبا لبابة بن عبد المنذر، واستعمله على المدينة .
وكان أبو سفيان يتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان، ولم يلبث أن نقلت إليه استخباراته بأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير، فأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة, فصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره, وقد جدع أنفه وحول رحله وشق قميصه وهو يقول: "يا معشر قريش, اللطيمة اللطيمة, أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه, لا أرى أن تدركوها, الغوث الغوث".
فتحفّز الناس سراعاً وتجمع نحو ألف وثلاثمائة مقاتل، في مائة فرس وستمائة درع وجمال كثيرة لا يعرف عددها بقيادة أبي جهل {بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} [(47) سورة الأنفال], وأقبلوا كما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((بحدهم وحديدهم يحادون الله ويحادون رسوله)).
وأفلت أبو سفيان بالعير فسار باتجاه الساحل, وأرسل رسالة إلى جيش قريش وهم في الجحفة: إنكم خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها الله فارجعوا, فهمّ الجيش بالرجوع, عندها قام الطاغية الأشر أبو جهل, فقال: "والله لا نرجع حتى نرد بدراً, فنقيم بها ثلاثاً فننحر الجزور, ونطعم الطعام, ونسقي الخمر, وتعزف لنا القيان, وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا, فلا يزالون يهابوننا أبداً".
فرجعت بنو زهرة وكانوا حوالي ثلاثمائة رجل, فسار الجيش من ألف مقاتل حتى نزلوا قريباً من بدر وراء كثيب بالعدوة القصوى.(1/158)
ولما كان الأمر كذلك كان لا بد من موقف بطولي شجاع, يرد كيد أهل مكة في نحورهم ويكسر شوكتهم, وتَزَعزع قلوب فريق من الناس وخافوا اللقاء {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ* يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [(5-6) سورة الأنفال].
واستشار النبي –صلى الله عليه وسلم- أصحابه, فقام أبو بكر فقال وأحسن, ثم قام عمر فقال وأحسن, ثم قام المقداد بن عمرو فقال: "يا رسول الله, امض لما أراك الله فنحن معك, والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [(24) سورة المائدة]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه"، فقال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خيراً ودعا له.
وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين وهم قلة في الجيش، فقال -عليه السلام-: ((أشيروا عليَّ أيها الناس)) وإنما يريد الأنصار, فقال سعد بن معاذ: "والله لكأنك تريدنا يا رسول الله", قال: ((أجل))، فقال سعد: "لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم, وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت, وصل حبل من شئت, واقطع حبل من شئت, وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت, وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت, وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك, فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرنّ معك, ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك".(1/159)
الله أكبر: إنه الحب الحقيقي والولاء الحقيقي, فلا بأس في قاموس العقلاء الصادقين في انتمائهم أن تبذل الأنفس والأموال في سبيل رفع لا إله إلا الله محمد رسول الله, إنه صدق الاتباع، يتمثل في مواقف الصحابة من الرعيل الأول, فلا تلكأ ولا تردد ولا انهزام, بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
أين هذا من تلك الانهزامية وذلك التردد, وضعف الولاء عند عدد ليس باليسير من أبناء المسلمين، والله المستعان؟!.
وسُرَّ النبي –صلى الله عليه وسلم- بقول سعد ثم قال: ((سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين, والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)).
وتحرك النبي –صلى الله عليه وسلم- بأصحابه فنزلوا قريباً من بدر, وفي مساء ذلك اليوم بعث -صلى الله عليه وسلم- استخباراته من جديد؛ ليبحث عن أخبار العدو، وقام لهذه العملية ثلاثة من قادة المهاجرين، علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه، ذهبوا إلى ماء بدر فوجدوا غلامين يستقيان لجيش مكة فألقوا عليهما القبض وجاؤوا بهما إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو في الصلاة، فاستخبروهما القوم، فقالا : نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما ضرباً موجعاً حتى اضطر الغلامان أن يقولا نحن لأبي سفيان فتركوهما .(1/160)
ولما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة قال لهم كالعاتب: (( إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله، إنهما لقريش)) ، ثم خاطب الغلامين قائلًا : (( أخبراني عن قريش))"، قالا : "هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى"، فقال لهما : (( كم القوم ؟))، قالا : " كثير"، قال : (( ما عدتهم ؟)) قالا : لا ندرى، قال: (( كم ينحرون كل يوم ؟ ))، قالا : "يوماً تسعاً ويوماً عشراً"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف))، ثم قال لهما: (( فمن فيهم من أشراف قريش ؟))، قالا : "عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البَخْتَرىّ بن هشام، وحكيم بن حِزام، ونَوْفَل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطُعَيْمَة بن عدي، والنضر بن الحارث، وَزمْعَة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف"، فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الناس فقال: (( هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها )).
في هذه الأثناء بدأت أول بشائر النصر في أرض المعركة, أنزل الله المطر, فكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التحرك, وكان على المسلمين طلاً طهرهم الله به وأذهب عنهم رجس الشيطان, ووطّأ به الأرض, وصلّب به الرمل, وثبّت الأقدام, ومهّد به المنزل, وربط به على قلوبهم. وهكذا فالله مع أوليائه يحفظهم ويحرسهم ويحوطهم برعايته, وينصر جنده, وييسر لهم أمورهم, ويذلل العقبات لهم, متى ما ساروا على منهج الحق علماً وعملاً واعتقاداً، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [(7) سورة محمد].(1/161)
وتحرك النبي –صلى الله عليه وسلم- حتى نزل بدراً فقال الحباب بن المنذر: "يا رسول الله, أرأيت هذا المنزل, أمنزل أنزلك الله إياه, ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه, أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة))، قال: "يا رسول الله, فإن هذا ليس بمنزل, فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء القوم، فننزل ونغِّور ما وراءه من القَلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء ثم نقاتل القوم, فنشرب ولا يشربون", فقال رسول الله: ((لقد أشرت بالرأي)).
فنهض -عليه السلام- بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو فنزل عليه شطر الليل, واتخذ النبي –صلى الله عليه وسلم- له عريشاً على تل مرتفع في الشمال الشرقي لميدان القتال ليكون مقراً للقيادة، كما تم اختيار فرقة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حول مقر قيادته.(1/162)
ثم عبأ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- جيشه ومشى في موضع المعركة, وجعل يشير بيده ((هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله, وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله))، ثم بات -عليه السلام- يصلي إلى جذع شجرة, وبات المسلمون ليلهم بهدوء وسكينة, غمرت الثقة قلوبهم, وأخذوا من الراحة قسطهم, يأملون أن يروا بشائر نصر ربهم بأعينهم صباحاً وأما جيش مكة المشرك فنزل صباحاً على وادي بدر, فبعثت قريش عمير بن وهب الجمحي وقالوا له: احزر لنا أصحاب محمد فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع وقال: "ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون, ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد"، فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئاً، فرجع وقال: "ما وجدت شيئاً، ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع, يتلمظون تلمظ الأفاعي، لا يريدون أن ينقلبوا إلى أهليهم زرق العيون كأنهم الحصى تحت الحجف، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم, والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم, فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك, فرَوْا رأيكم".
ولما طلع المشركون وتراءى الجمعان قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم هذه قريش قد أقبلت بخُيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك, اللهم فنصرك الذي وعدتني, اللهم فأحنهم إلي الغداة)).
وأخذ النبي –صلى الله عليه وسلم- يعدل الصفوف بقدح في يده فضرب بطن سواد بن غزية وقال: ((استو يا سواد))، فقال سواد: "يا رسول الله, أوجعتني فأقدني", فكشف عن بطنه –صلى الله عليه وسلم- وقال: ((استقد))، فاعتنقه سواد, وقبّل بطنه, فقال: ((ما حملك على هذا يا سواد؟))، قال: "يا رسول الله, قد حضر ما ترى, فأردت أن يكون آخر العهد بك، أن يمس جلدي جلدك", فدعا له رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بخير.(1/163)
ثم أمرهم –صلى الله عليه وسلم- ألا يبدؤوا القتال حتى يأمرهم, وكان أول وقود القتال أن خرج من جيش المشركين الأسود بن عبد الأسد المخزومي وقال: "أعاهد الله لأشربنّ من حوضهم أو لأهدمنّه أو لأموتنّ دونه, فخرج إليه حمزة -رضي الله عنه- فضربه ضربة قطع بها نصف ساقه, ثم ثنى عليه بضربة أتت عليه.
ثم خرج ثلاثة من فرسان قريش هم عتبة وشيبة ابنا ربيعة, والوليد بن عتبة وطلبوا المبارزة فخرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة فما ارتضوهم ونادوا: "يا محمد, أَخرِج إلينا أكفاءنا من قومنا", فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((قم يا عبيدة بن الحارث, وقم يا حمزة، وقم يا عليّ)), فأما حمزة وعليّ فلم يمهلا قرينيهما أن قتلاهما, وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرينه في ضربتين فكرّ عليّ وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله, ومات بعد ذلك بخمسة أيام -رحمه الله ورضي عنه-.
وفي رواية أن الحارث بدل حمزة.
قال الإمام العلامة شمس الدين ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد في مبحث أن الأسماء لها دلالة قوية على مسمياتها، ولأن الأسماء قوالب للمعاني ودالة عليها، قال -رحمه الله-: "تأمل أسماء الستة المتبارزين يوم بدر كيف اقتضى القدر مطابقة أسمائهم لأحوالهم، فكان الكفار: شيبة وعتبة والوليد، ثلاثة أسماء من الضعف، فالوليد له بداية الضعف، وشيبة له نهاية الضعف كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [(54) سورة الروم]، وعتبة من العتب، فدلت أسماؤهم على عتب يحل بهم وضعف ينالهم.
وكان أقرانهم من المسلمين: علي وعبيدة والحارث -رضي الله عنهم- ثلاثة أسماء تناسب أوصافهم وهي: العلو والعبودية والسعي الذي هو الحرث، فعلَوْا عليهم بعبوديتهم وسعيهم في حرث الآخرة.(1/164)
ولم يزل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعد رجوعه من تعديل الصفوف يناشد ربه ويقول: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني, اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك, اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد, اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا))، وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه, فرده عليه الصديق وقال: "حسبك يا رسول الله ألححت على ربك".
وأغفى النبي –صلى الله عليه وسلم- إغفاءة ثم رفع رأسه وقال: ((أبشر يا أبا بكر, أتاك نصر الله, هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع)).
ثم خرج من باب العريش وهو يثب في الدرع ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [(45) سورة القمر]، ثم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشاً وقال: ((شاهت الوجوه)) ورمى بها في وجوههم, فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى} [(17) سورة الأنفال]، وحينئذ أصدر إلى جيشه أوامره الأخيرة بالهجمة المضادة فقال : (( شدّوا)) ، وحرضهم على القتال قائلًا: (( والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة ))، وقال وهو يحضهم على القتال: (( قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض))، وحينئذ قال عُمَيْر بن الحُمَام : "بَخ بَخ"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (( ما يحملك على قولك : بخ بخ ؟ )) قال : "لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها"، قال: ((فإنك من أهلها ))، فأخرج تمرات من قَرَنِه فجعل يأكل منهن، ثم قال : "لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل".
وسأله عوف بن الحارث فقال : "يا رسول الله، ما يُضحك الرب من عبده ؟ " قال: (( غَمْسُه يده في العَدُوّ حاسراً )) ، فنزع درعاً كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل .(1/165)
وحين أصدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمر بالهجوم كانت حدة هجمات العدو قد ذهبت وفتر حماسه، فكان لهذه الخطة الحكيمة أثر كبير في تعزيز موقف المسلمين، فإنهم حينما تلقوا أمر الشدّ والهجوم، وقد كان نشاطهم الحربي على شبابه، قاموا بهجوم كاسح مرير، فجعلوا يقلبون الصفوف، ويقطعون الأعناق .
وزادهم نشاطاً وحدة، أن رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يثب في الدرع، وقد تقدمهم فلم يكن أحد أقرب من المشركين منه، وهو يقول في جزم وصراحة : {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [(45) سورة القمر]، فقاتل المسلمون أشد القتال ونصرتهم الملائكة .
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذا سمع ضربة بالسوط فوقه, وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم, فنظر إلى المشرك أمامه! فخر مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله فقال: ((صدقت, ذاك مدد السماء الثالثة)).
وقال أبو داود المازني: "إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي, فعرفت أنه قد قتله غيري".(1/166)
قال عبد الرحمن بن عوف: "إني لفي الصف يوم بدر إذ التفتُّ, فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن إذ قال لي أحدهما سراً عن صاحبه: "يا عم أرني أبا جهل", فقلت: يا ابن أخي, فما تصنع به؟"، قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا", فتعجبت لذلك, قال: وغمزني الآخر, فقال لي مثلها, فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه, ثم انصرفا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: ((أيكما قتله؟))، فقال كل واحد منهما: "أنا قتلته", قال: ((هل مسحتما سيفيكما؟))، فقالا: "لا", فنظر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى السيفين فقال: ((كلاكما قتله))، وهما معاذ بن عمرو بن الجموح, ومعوذ بن عفراء.
الله أكبر، ما أهون الخلق على الله صنديد من صناديد قريش وعظيم من عظمائها يأبى الله إلا أن يكون حتفه على يد شابين يافعين.
أين أنتم يا شباب الإسلام من تلك الطموحات؟ ماذا سجلتم لأمتكم؟ وماذا عساكم أن تفعلوا بشبابكم وفراغكم وجدتكم؟ وما مدى صلتكم بتاريخ آبائكم وأجدادكم الذين صنع الله على أيديهم البطولات؟.
وبدأت أمارات الفشل والاضطراب في صفوف المشركين، وجعلت تتهدم أمام حملات المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين في الفرار والانسحاب، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون، حتى تمت عليهم الهزيمة .(1/167)
ولما انتهت المعركة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (( من ينظر ما صنع أبو جهل ؟ ))، فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال له : "هل أخزاك الله يا عدو الله ؟"، قال : "وبماذا أخزاني ؟ "، ثم سأله أبو جهل: "أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟" فقال ابن مسعود: "لله ورسوله"، فقال لابن مسعود وكان قد وضع رجله على عنقه : "لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رُوَيْعِىَ الغنم"، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم في مكة ، وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا رسول الله"، هذا رأس عدو الله أبي جهل"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((آلله الذي لا إله غيره ؟ ))، قال ابن مسعود: "والله الذي لا إله غيره"، وألقى رأس أبي جهل بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله وسجد شكراً لله وقال : (( الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، إن لكل أمة فرعوناً، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل))" .(1/168)
وقال عبد الرحمن بن عوف: "كاتبت أمية بن خلف كتاباً بأن يحفظني في خاصتي ومالي بمكة، وأحفظه بالمدينة، فلما كان يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس، فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس الأنصار فقال : "أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا أمية"، وكان أمية هو الذي يعذب بلالاً بمكة على ترك الإسلام، فيُخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: "لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد"، فيقول بلال: "أحدٌ أحد"، فلما رآه قال: "رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا"، قال عبد الرحمن بن عوف: "فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه ليشغلهم، فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلاً ثقيلاً، فلما أدركونا قلت: له : ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه "، وكان عبد الرحمن يقول: "يرحم الله بلالاً أذهب أدراعي، وفجعني بأسيري".
وقتل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة، ولم يلتفت إلى قرابته منه.
ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العريش، وسعد بن معاذ قائم على بابه يحرسه متوشحاً سيفه، رأي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له: ((والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم ؟ ))، قال : أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إليّ من استبقاء الرجال .(1/169)
وبعد أن أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببدر ثلاثة أيام تحرك بجيشه نحو المدينة ومعه الأسارى من المشركين، واحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين، وجعل عليه عبد الله بن كعب، فلما خرج من مَضِيق الصفراء نزل على كَثِيب بين المضيق وبين النَّازِيَة وقسم هنالك الغنائم على المسلمين على السواء بعد أن أخذ منها الخمس ، وعندما وصل إلى الصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث، وكان هو حامل لواء المشركين يوم بدر، وكان من أكابر مجرمي قريش، ومن أشد الناس كيداً للإسلام وإيذاءً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فضرب عنقه عليّ بن أبي طالب .
ولما وصل إلى عِرْق الظُّبْيَةِ أمر بقتل عُقْبَة بن أبي مُعَيْط؛ لأنه الذي كان ألقى سَلا الجَزُور على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في الصلاة، وهو الذي خنقه بردائه وكاد يقتله لولا اعتراض أبي بكر -رضي الله عنه- فلما أمر بقتله قال : "من للصِّبْيَةِ يا محمد ؟ "، قال : ((النا ر))، فقتله عاصم بن ثابت الأنصارى.
وكان قتل هذين الطاغيتين واجباً نظراً إلى سوابقهما، فلم يكونا من الأسارى فحسب، بل كانا من مجرمي الحرب بالاصطلاح الحديث .(1/170)
ولما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة استشار أصحابه في الأسارى، فقال أبو بكر : "يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعَشِيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (( ما ترى يا ابن الخطاب ؟ ))، قال : "قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عَقِيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم ، فهوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قال عمر، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر : "فغدوت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت : يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ((أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، فقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [(67-68) سورة الأنفال])).
هذه باختصار بعض أحداث غزوة بدر الكبرى.(1/171)
موقعة بدر هي أعظم غزوات الإسلام فضلاً وشرفاً؛ لأنها أول غزوة كان لها أثرها في إظهار قوة الإسلام، فكانت بدءَ الطريق ونقطة الانطلاق في انتشار الإسلام؛ لأنها رسمت الخط الفاصل بين الحق والباطل، فكانت الفرقان النفسي والمادي والمفاصلة التامة بين الإسلام والكفر، وفيها تجسدت هذه المعاني، فعاشها الصحابة واقعاً مادياً وحقيقة نفسية، وفيها تهاوت قيم الجاهلية، فالتقى الابن مقاتلاً لأبيه، والأخ مواجهةً لأخيه، خالفت بينهما المبادئ ففصلت بينهما السيوف.
ومهما وقفنا مع هذه المعركة الفاصلة فإننا لن نوفّيها بعض حقها، إذ هي معين لا ينضب، ومعروف لا ينقطع، وحسبنا في هذا المقام أن نشير إلى بعض سماتها والدروس المستقاة منها، لتكون ذكرى لنا ونبراساً ونهجاً؛ علَّ الله أن يوفقنا إلى سلوك مسلك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومسلك صحابته من بعده، فنصنع بعد بدر بدوراً:
أولاً: لقد أحدثت غزوة بدر تحولاً كبيراً في مجريات الأحداث داخل الجزيرة العربية كما غيّرت كثيراً من المعالم الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية ولعل أبرز ما أحدثته بادئ ذي بدء، ذلك الشرخ الكبير في موازين القوى بين التجمعات السكانية والعشائر العربية ولم يكن أحد من سكان الجزيرة يتوقع آنذاك أن تغير هذه المعركة مجريات الأمور وأحداث الحياة.
انقسمت الجزيرة بسكانها قسمين رئيسين، مجتمع الكفر والضلال والجاهلية، ويشمل فئات متعددة، أبرزها مجتمع مكة الجاهلي، ثم مجتمع العشائر والقبائل العربية التي تعيش في البادية، وهناك طائفة اليهود التي كانت تقبع حول المدينة، وتعتبر هذه التجمعات هي أركان المجتمع الكافر بين يدي غزوة بدر، وأما القسم الثاني من سكان الجزيرة، فهم المسلمون الذين اتخذوا المدينة سكناً لهم، وهم المهاجرون والأنصار.(1/172)
ثانياً: إن غزوة بدر الكبرى هي الغزوة الأولى من نوعها في تاريخ الإسلام، والتي أعز الله فيها الإسلام وأهله، ومرّغ أنف الشرك في أوحال الهزيمة بعد أن قذفت قريش في خضم هذه المعركة برجالها وصناديدها، ولكن الله جعل كيدهم في نحورهم؛ لأنهم خرجوا والغرور يملأ نفوسهم، والشيطان فيها حليفهم.
إنه يوم الفرقان، فرقاناً بين حقٍّ ظُلِم، وباطل ظَلَم، إنه اليوم الذي قتل فيه صناديد الشرك وأئمة الكفر من أهل مكة.
والجدير بالذكر أن المسلمين لم يكن خروجهم للقتال إنما كان للاستيلاء على قافلة قريش الذين أخرجوا المهاجرين من ديارهم وأموالهم، فأراد الله للعصبة المسلمة غير ما أرادت لنفسها من الغنيمة.
أراد الله أن تنفلت منها القافلة وأن تلقى عدوها من صناديد قريش الذين حاربوا دعوة السلام ومكروا مكرهم لقتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد ما بلغوا بأصحابه غاية التعذيب والتنكيل والأذى.
أرادها الصحابة أن تكون قصة غنيمة، فأرادها الله ملحمة كبرى فيُقتل منهم من يقتل، ويؤسر منهم من يؤسر، وتذل كبرياؤهم، وتعضد شوكتهم وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله.
أرادها الصحابة أن تكون قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها، وشاء الله أن تكون قصة عقيدة وموقعة بين الحق والباطل.
لقد أراد الله -سبحانه وتعالى- أن تكون هذه الغزوة فرقاناً بين الحق والباطل وفرقاناً في خط سير التاريخ الإسلامي، ومن ثَم فرقاناً في خط سير التاريخ الإنساني، فأراد الله -عز وجل- أن يظهر فيها الآمال البعيدة بتدبيره لهم ولو كرهوه في أول الأمر، كما أراد الله -سبحانه وتعالى- أن يتعلم المؤمنون عوامل النصر وعوامل الهزيمة، وأن يأخذوها مباشرة من الله -عز وجل-.(1/173)
كم يخطئ الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أن يختاروا لأنفسهم خيراً مما يختاره الله لهم، وحين يتضررون مما يريده الله لهم مما قد يعرضهم لبعض الخطر أو يصيبهم بشيء من الأذى، بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال ولا خيال.
ثالثاً: اتضح لنا في غزوة بدر أن التقوى سبيل النصر للمؤمنين وطريق الفلاح للمفلحين، {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} [(125) سورة آل عمران]، بالصبر والتقوى تنزلت ملائكة الرحمن نُصرةً لجند الإيمان، فمن صبر واتقى جعل له ربه من كل همّ فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا.
فصبراً يا أهل الإسلام في زمن عظمت كربه، في زمن اشتدت بلاياه ومحنه حيثما وليت بناظريك رأيت الأشجان والأحزان، نساء وأرامل وأطفال وثكالى لا يعلم مقدار ما يعانون ولا يعلم مقدار ما يكابدون إلا الله المطلع على الخفيات، عالم السر والنجوى، فاطر الأرض والسماوات.
فيا أهل الإسلام لئن ضاقت الأرض عليكم فلم تضق بالصبر والتقوى؛ إن وراء الليل فجراً، إن تحت الرماد ناراً، صبر جميل لعل الله أن يأتي بالفرج الجليل.
رابعاً: لما استقر الرسول –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في المدينة ونعموا بطيب العيش فيها وارتاحت نفوسهم واطمأنت أرواحهم بعد العناء والآلام التي كانوا يلاقونها في مكة وما جاورها, زاد غيظ الكفار فأرسلوا إلى عبد الله بن أُبي بن سلول حيث كان رئيس الأنصار قبل الهجرة كتاباً نصه: "إنكم آويتم صاحبنا وإنا نقسم بالله لنقاتلنّه أو لتخرجنّه أو لنسيرنّ إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم", وأرسلت قريش إلى المسلمين تقول: "لا يغرَّنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم".(1/174)
وهكذا هي سنة الحياة, يغيظ الكفار وأذنابهم أن ترتفع راية الإسلام, أو يهنأ أهله بطيب العيش أو رغد الحياة, بل يغيظ الكفار وأذنابهم أن يأكل المسلم أكلة هنية, أو يشرب شربة روية بل يحسدون المسلمين على هواء نقي يتنفسونه, هذا هو حال الكفار منذ قام الصراع بين الحق والباطل إلى اليوم, فكفار اليوم هم أبناء الآباء بالأمس, ومنافقو اليوم ورثوا النفاق صاغراً عن صاغر.
فأعداء الملة هم أعداء الملة، وإن أبدوا محبة وأظهروا ولاء اليهود هم اليهود, والنصارى هم النصارى, وعبدة الأوثان هم هم, لم يتغيروا ولن يتغيروا ما داموا على ملتهم ودينهم, يكيدون للإسلام وينصبون العداء له, وإن دافعوا عن الإنسان وحقوقه, أو رفعوا شعارات المساواة والتقريب، {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [(120) سورة البقرة].
قاعدتهم التي يسيرون عليها: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [(30) سورة الأنفال]، فيا ليت قومي يعلمون, أو يفيقون فيعقلون.(1/175)
الكفر ملة واحدة، والكافرون قديماً وحديثاً هم الكافرون، وهم في صراع مع الإسلام والحق إنما يسيرون إلى مصارعهم بأيديهم، وستهلكهم مكائدهم وخططهم، ولن يكون نصيبهم اليوم وغداً إلا ما كان بالأمس إنه الهزيمة المحتومة في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة، وهم كانوا وما زالوا يمضون إلى قدرهم المؤكد، قال الله تعالى: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ* قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} [(51-52) سورة التوبة].
خامساً: لقد أراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بخروجه لعير قريش أن ينفذ هدفاً من الدعوة، وهو تحطيم عنفوان المشركين.
إن هذه الدعوة هي حركة دائبة مستمرة، إن أهل هذه الدعوة لا يجلسون في بيوتهم يحوقلون ويسترجعون وهم يشاهدون قوى الكفر الطاغوتية توجه ضرباتها إلى أهل هذا الدين.
إن العادة في أهل هذه الدعوة الإيمانية الإسلامية أنهم دائما يأخذون بالحركة لإنهاء الصراع بين قوى الإيمان وقوى الكفر، ولولا حركتهم هذه لهدمت صوامع وبيع ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا.
تأمل فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد أن كذّبه قومه وأخرجوه من بلده، لو أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقد وجد في المدينة الاستقرار، لو أنه ركن إلى ذلك وأخلد إلى الهدوء والسكون والراحة والصمت، لو أن الرسول ما تحرك خطوة الجهاد.
هل كان الإسلام يصل إلى ما وصل إليه اليوم؟ هل كان يصل إلينا لنحظى بنعمة الهداية الكبرى؟(1/176)
فهناك قريش المشركة في مكة وهي تمثل الرأس الطاغوتي في الجزيرة العربية، وهناك قبائل الأعراب المشركة التي كانت تحيط بالمدينة النبوية وكان الشغل الشاغل لهذه القبائل هو الهجوم على المسلمين بغرض السلب والنهب، وكان هناك داخل المدينة اليهود الحاقدون المتربصون، وكان هناك المنافقون وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول،وبعد غزوة بدر انقلب كل أولئك مغلوبين وأظهروا إسلامهم خوفًا.
هذه النتائج العسكرية السياسية أو بعبارة أصح هذه النتائج الجهادية الحركية النبوية التي تحققت في غزوة بدر هي أهم نتائج هذه الغزوة.
وتأمل وصف القرآن الكريم لها: {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} [(126-127) سورة آل عمران].
سادساً: من الدروس العظيمة في هذه الغزوة، أنه إذا صدق المؤمنون في جهادهم فإن العاقبة هي النصر المبين، إذا كانت المقدمات صحيحة.
هذه هي سنة الله تعالى في كونه، فإذا كانت حركة المؤمنين الجهادية صحيحة فإن النتيجة هي النصر المبين، هذا هو وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، فإذا لم يتحقق النصر فإن سبب ذلك أنه حدث خلل في حركة المؤمنين.
ومن أجل ذلك جمع الله تعالى بين غزوتين في درس قرآني واحد هما غزوة بدر وغزوة أحد. ففي غزوة بدر كان النصر حليف المؤمنين بالرغم من أن موازين القوة المادية كانت للمشركين وفي ذلك قال القرآن في كلمة قصيرة: {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ}، {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} [(123) سورة آل عمران]، أي لا تملكون من القوى المادية شيئاً، فإذا بهذه الفئة القليلة في مواجهة أكبر قوة طاغوتية في ذلك الوقت، وبالرغم من اختلاف ميزان القوة المادية إلا أن الله نصر المؤمنين يوم بدر.(1/177)
أما في غزوة أحد، فإنه وإن كانت القوة المادية لدى المسلمين فيها أحسن وأفضل، وبدأت بوادر النصر في أول المعركة إلا أن معركة أحد انتهت بانتكاس عسكري مؤلم للمسلمين، فلماذا كان الانتصار يوم بدر والانتكاس يوم أحد، والأولياء هم الأولياء، لم يتغيروا وعلى رأسهم خاتم النبيين محمد -صلى الله عليه وسلم-؟
فلننظر ماذا يقول الدرس القرآني في ذلك: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [(152) سورة آل عمران].
نعم لقد عفا الله عنهم، إنهم أولياؤه يحبهم ويحبونه فقد كانوا أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصح هذه الأمة إيماناً وأقواهم عقيدةً، ولكنه كان درساً ربانياً موجعاً للرعيل الأول حتى يكونوا في حركاتهم المقبلة فيما بعد، أكثر وعياً وحرصاً على ألا يشوب حركتهم الجهادية أي خلل كذلك الخلل الذي أصاب صفوفهم يوم أحد من مخالفة الرماة أوامر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومبارحتهم أماكنهم انسياقاً وراء الغنائم رغم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الصريح لهم، أما في غزوة بدر فقد كانت حركة المؤمنين سليمة صحيحة.
سابعاً: إن الحق لا يحق والباطل لا يبطل في المجتمع الإنساني بمجرد البيان النظري للحق والباطل، ولا بمجرد الاعتقاد النظري بأن هذا حق وهذا باطل.(1/178)
إن الحق لا يحق ولا يمكن أن يوجد في واقع الناس، وإن الباطل لا يبطل ولا يمكن أن يذهب من دنيا الناس إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا، ويهزم جند الباطل ويندحروا، فهذا الدين دين واقعي لا مجرد نظرية للمعرفة والجدل أو لمجرد الاعتقاد السلبي، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ* لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [(7-8) سورة الأنفال].
ثامناً وأخيراً: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [(67) سورة الأنفال]: لقد عاتب الله المسلمين في استبقاء الأسرى وأخذ الفداء، والحكمة في ذلك والله أعلم، أن غزوة بدر هي المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين، وكان المسلمون ما يزالون قلة، والمشركون ما يزالون كثرة وكان نقص عدد المحاربين من المشركين مما يكسر شوكتهم، ويذل كبرياءهم، ويعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين، كان هذا هدفاً كبيراً لا يعدله المال الذي يأخذونه مهما يكونوا فقراء، وكان هنالك معنى آخر يراد تقريره في النفوس وتثبيته في القلوب، ذلك هو المعنى الكبير الذي عبّر عنه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في صرامة ونصاعة وهو يقول: "حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين"، لذلك عرّض القرآن بالمسلمين الذين قبلوا الفداء {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [(67) سورة الأنفال]، والمسلمون عليهم أن يريدوا ما أراد الله، {وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [(67) سورة الأنفال]، فهو خير وأبقى.
دروس بدر وعبرها لا تنتهي، دروس في الإيمان ودروس في الأسباب، وتوجيهات في الطاعة والتخطيط، وتربية في أدب المكاسب والمغانم.(1/179)
في بدر تجلت صور الحب الحقيقي لله ورسوله واتضحت حقيقة الإيمان بالله وبرزت صور البطولة والتضحية.
وأعظم درس في غزوة بدر أن الإسلام كلمة الله الباقية ورسالته الخالدة، باقية ما بقي الزمان، وتعاقب الليل والنهار، يُرفع شعارها ويُقدّس منارها، بعز عزيز وذل ذليل، هذا الإسلام الذي كتب الله العزة لمن والاه، وكتب الذلة والصغار على من عاداه، كلمة باقية ورسالة خالدة زاكية، رغم أنف جميع كفار الأرض.
بدر هي العصمة الكبرى لدعوتنا *** فالحق قرآنه يُحمى بأجنادِ
هي الحياة بلا خوف ولا وجل *** على العقيدة من طاغٍ وجلاّد
أقام في مكة المختار أحمدنا *** في الضيق والكرب في لمزٍ وإبعاد
وأنقذ الله خير الرسل من فتن *** ومن براثن أشرار وأوغاد
وحصّن الله بالأنصار دعوته *** من شر كفر طغى في كل أنجاد
وللجهاد دعاهم فاستجاب له *** أسدٌ غضابٌ وأشبالٌ كأطواد
ما شاهد الكون يوم البأس مثلهم *** وما لهم من نظير بين عبّاد
صفّ الرسول جنود الحق يحفزهم *** لجنة الخلد نعم الصبر من زاد
يقول يا رب إن تُهلك جماعتنا *** فلست تُعبد بعد اليوم يا هادي
فأنجز الله للمختار موعده *** فللملائك ضربٌ فوق أجياد
ومزق الله كفراً بعد حدّته *** وعاد جيشُ قريشٍ دونما حادي
بدر أقرت لدين الله عزته *** وحققت فخر آباءٍ وأجداد
فما التقى الكفر والإيمان بعدئذٍ *** إلا وللكفر خزي فاضح باد
بالرعب قد نصر المولى جحفلنا *** في البر في البحر في سهلٍ وفي واد
بدر تعلمنا في كل آونةٍ *** أن الحياة صراع بين أضداد
لا يرتضي الكفر للإيمان قائمة *** بل يبتغي سحقه والظالم البادي
بدر هي الصبر والإقدام رائدها *** وللصبور جزاء كل إسعاد
بدر هي المدد الأعلى لدعوتنا *** ولا يتم انتصار دون إمداد
ولا يضيّع رب العرش أمتنا *** إن كان من بدرها إشعاعها الهادي
ومالها غيرُ دين الله يرفعها *** إلى العلى بعد إخفاقٍ وإخلاد
دروس بدر عظات لا نظير لها *** لمن تجرد عن بغي وأحقاد(1/180)
وينفع الله بالذكرى ذوي نظر *** ويقمع الله فيها كل جحّاد
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس العاشر
أهم الأحداث بين غزوتي بدر وأحد
الأحداث التي حصلت بعد غزوة بدر وقبل أحد كثيرة، اخترنا أهم ثلاثة منها:
أولًا: الغزوات التي قادها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد بدر وقبل أحد:
أولًا: غزوة ماء الكدر في بني سليم: غزا النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد سبع ليالٍ من عودته إلى المدينة من غزوة بدر، وبلغ ماء الكدر في ديار بني سليم الذين قصدهم بغزوته هذه، غير أنه لم يلق حربًا، فأقام ثلاث ليالٍ على الماء ثم رجع إلى المدينة.
كان سبب تلك الغزوة تجمع أفراد بني سليم لمقاتلة المسلمين والاعتداء عليهم بعد معركة بدر مباشرة ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاجأهم بهجوم سريع غير متوقع، فهرب بنو سليم وتفرقوا على رؤوس الجبال، وبقيت إبلهم مع راعٍ لها يدعى يسارًا، فاستاق الرسول -صلى الله عليه وسلم- الإبل مع راعيها، وعند موضع صرار على ثلاثة أميال من المدينة، قسم النبي -صلى الله عليه وسلم- الإبل التي كان عددها خمسمائة بعير على أصحابه، فأصاب الواحد منهم بعيرين، ونال النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسها، وكان يسار من نصيبه، ولكنه أعتقه بعد ذلك.(1/181)
ثانيًا: غزوة السويق: قدم أبو سفيان بمائتي فرس من مكة، وسلك طريق النجدية حتى نزلوا حي بني النضير ليلًا، واستقبلهم سلام بن مشكم سيد بني النضير، فأطعمهم وأسقاهم وكشف لهم عن أسرار المسلمين، وتدارس معهم إحدى الطرق لإيقاع الأذى بالمسلمين، ثم قام أبو سفيان بمهاجمة ناحية العُريض - وادٍ بالمدينة في طرف حرة واقم - فقتل رجلين وأحرق نخلًا وفر عائدًا إلى مكة، فتعقبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مائتي رجل من المهاجرين والأنصار، ولكنه لم يتمكن من إدراكهم؛ لأن أبا سفيان ورجاله قد جدوا في الهرب، وجعلوا يتخففون من أثقالهم ويلقون السويق التي كان يحملونها لغذائهم، وكان المسلمون يمرون بهذه الجرب فيأخذونها، حتى رجعوا بسويق كثير، لذا سميت هذه الغزوة بغزوة السويق، وعاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بعد أن غاب عنها خمسة أيام دون أن يلقى حربًا.
ثالثًا: غزوة ذي أمر: جاءت الأخبار من قِبَل رجال الاستخبارات الإسلامية تفيد بأن رجال قبيلتي ثعلبة ومحارب تجمعوا بذي أمر بقيادة دُعثور بن الحارث المحاربي، يريدون حرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والإغارة على المدينة، فاستعمل النبي -صلى الله عليه وسلم- على المدينة عثمان بن عفان وخرج في أربعمائة وخمسين من المسلمين بين راكب وراجل، فأصابوا رجلًا بذي القصة يقال له: جبار من بني ثعلبة، كان يحمل أخبارًا عن قومه أسرَّ بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد دخل في الإسلام وانضم إلى بلال ليتفقه في الدين، أما المشركون من بني ثعلبة ومحارب ما لبثوا أن فروا إلى رؤوس الجبال عند سماعهم بمسير المسلمين، وبقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نجد مدة تقارب الشهر دون أن يلقى كيدًا من أحد وعاد بعدها إلى المدينة.(1/182)
وفي هذه الغزوة أسلم دعثور بن الحارث الذي كان سيدًا مطاعًا بعد أن حدثت له معجزة على يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد أصاب المسلمين في هذه الغزوة مطرٌ كثيرٌ فابتلت ثياب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنزل تحت شجرة ونشر ثيابه لتجف، واستطاع دُعثور أن ينفرد برسول الله بسيفه، فقال: "يا محمد من يمنعك مني اليوم؟"، قال: ((الله))، ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((من يمنعك مني)) قال: "لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعًا أبدًا"، فأعطاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيفه فلما رجع إلى أصحابه فقالوا: "ويلك، ما لك؟ فقال: "نظرت إلى رجل طويل فدفع صدري فوقعت لظهري, فعرفت أنه ملك، وشهدت أن محمدًا رسول الله، والله لا أكثر عليه جمعًا".
وجعل يدعو قومه إلى الإسلام، ونزل في ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [(11) سورة المائدة].
رابعًا: غزوة بحران: كانت هذه الغزوة في شهر جمادى الأولى من السنة الثالثة للهجرة، وقد خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثمائة من المسلمين حتى بلغ بحران بين مكة والمدينة يريد قتال بني سليم, فوجدهم قد تفرقوا فانصرف عنهم، وعاد إلى المدينة بعد أن أمضى خارجها عشر ليالٍ.(1/183)
خامسًا: سرية زيد بن حارثة إلى القُردة: أصبح مشركو مكة بعد هزيمتهم في بدر يبحثون عن طريق أخرى لتجارتهم للشام، فأشار بعضهم إلى طريق نجد العراق، وقد سلكوها بالفعل، وخرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية, وحويطب بن عبد العزى، ومعهم فضة وبضائع كثيرة، بما قيمته مائة ألف درهم، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بواسطة أحد أفراد جهاز الأمن الإسلامي يدعى سليط بن النعمان –رضي الله عنه-، فبعث -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة في مائة راكب لاعتراض القافلة، فلقيها زيد عند ماء يقال له القردة، وهو ماء من مياه نجد، ففر رجالها مذعورين، وأصاب المسلمون العير وما عليها، وأسروا دليلها فرات بن حيان الذي أسلم بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-, وعادوا إلى المدينة، فخمسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووزع الباقي بين أفراد السرية.
نلحظ في هذه الغزوات قدرة القيادة الإسلامية على رصد تحركات العدو، ومعرفة قوته وخططه ومدده، لكي تحطم هذه التجمعات المناوئة للدولة الإسلامية الفتية قبل أن يستفحل أمر هذه القبائل، وتصبح خطرًا على المدينة.
وهذه الغزوات في هذه الصحراء المترامية الأطراف كانت دورات تدريبية تربوية للصحابة الكرام، وسعدت سرايا الصحابة بقيادة النبي -صلى الله عليه وسلم- لها، فقد كانت تلك الدورات العملية التدريبية القتالية التربوية مستمرة، وتمتد من خمسة أيام إلى شهر، تتم فيها الحياة الجماعية، ويتربى جنود الإسلام على السمع والطاعة، والتدريب المتقن, ويكتسبون خبرات جديدة تساعدهم على تحطيم الباطل وتقوية الحق.(1/184)
لقد كان المنهاج النبوي الكريم يهتم بتربية الصحابة في ميادين النزال، ولا يغفل عن المسجد ودوره في صقل النفوس، وتنوير العقول، وتهذيب الأخلاق من خلال وجود المربي العظيم -صلى الله عليه وسلم- الذي أصبحت تعاليمه تشع في أوساط المجتمع من خلال القدوة والعبادة الخاشعة لله -عز وجل-، فالمنهاج النبوي الكريم جمع بين الدورات المسجدية التربوية والدورات العسكرية التربوية المكثفة؛ لكي يقوي المجتمع الجديد، وترص صفوفه، ويكسب الخبرات؛ لكي تقوم بنشر الإسلام في الآفاق.
ثانيًا: غزوة بني قينقاع: الحدث الثاني من الأحداث المهمة والتي حصلت بعد غزوة بدر وقبل غزوة أحد: غزوة بني قينقاع.
لم يلتزم يهود بني قينقاع بالمعاهدة التي أبرمها الرسول -صلى الله عليه وسلم- معهم، ولم يوفوا بالتزاماتهم التي حددتها، ووقفوا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين مواقف عدائية، فأظهروا الغضب والحسد عندما انتصر المسلمون في بدر، وجاهروا بعداوتهم للمسلمين.
وقد جمعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في سوقهم بالمدينة ونصحهم ودعاهم إلى الإسلام، وحذرهم أن يصيبهم ما أصاب قريشًا في بدر, غير أنهم واجهوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتحدي والتهديد رغم ما يفترض أن يلتزموا به من الطاعة والمتابعة لبنود المعاهدة التي جعلتهم تحت رئاسته، فقد جابهوه بقولهم: "يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وإنك لم تلق مثلنا".(1/185)
وهكذا بدأت الأزمة تتفاعل إذ لم يكن في جوابهم ما يشير إلى الالتزام والاحترام، بل على العكس فإنهم قد أظهروا روحًا عدائيًا، وتحديًا واستعلاء واستعدادًا للقتال، فأنزل الله -سبحانه وتعالى- فيهم قوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ* قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} [(12-13) سورة آل عمران].
أضمرت بنو قينقاع نقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين، وأخذوا يتحينون الفرصة السانحة لمناوشة المسلمين، حتى جاءتهم فرصتهم الحقيرة الدنيئة عندما جاءت امرأة من العرب قدمت بجَلَب لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديًا، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع، فحين علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك سار إليهم على رأس جيش من المهاجرين والأنصار، وذلك يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثانية للهجرة, وكان الذي حمل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب –رضي الله عنه-، واستخلف -صلى الله عليه وسلم- على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر العمري, وحين سار إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نبذ إليهم العهد كما أمره الله تعالى في قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [(58) سورة الأنفال].(1/186)
علم اليهود بمقدمه -صلى الله عليه وسلم- فتحصنوا في حصونهم، فحاصرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- خمس عشرة ليلة، واستمر الحصار حتى قذف الله في قلوبهم الرعب واضطروا للنزول على حكمه -صلى الله عليه وسلم-, فقد فاجأهم -صلى الله عليه وسلم- بأسلوب الحصار، فأربكهم وأوقعهم في حيرة من أمرهم بعد أن قطع عنهم كل مدد وجمّد حركتهم، فعاشوا في سجن مما جعلهم في النهاية ييأسون من المقاومة والصبر، فبعد أن كانوا يهددون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبأنهم قوم يختلفون بأسًا وشدة عن مشركي قريش، إذا بهم يضطرون للنزول على حكم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فأمر بهم فرُبطوا فكانوا يُكتّفون أكتافًا، واستعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي الأوسي.
حاول ابن سلول زعيم المنافقين أن يحل حلفاءه من وثاقهم، فعندما مر عليهم قال: حلوهم, فقال المنذر: "أتحلون قومًا ربطهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ والله لا يحلهم رجل إلا ضربت عنقه", فاضطر عبد الله بن أبي ابن سلول أن يتراجع عن أمره ويلجأ إلى استصدار الأمر من النبي -صلى الله عليه وسلم- بفك أسرهم.(1/187)
فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد أحسن في موالي - وكانوا حلفاء الخزرج - قال: فأبطأ عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا محمد، أحسن في موالي"، قال: فأعرض عنه، فأدخل ابن أبي يده في جيب درع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أرسلني))، وغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى رأوا لوجهه ظللًا, ثم قال: ((ويحك أرسلني))، قال: "لا والله، لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربع مائة حاسر، وثلاثة مائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هم لك))، فخلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبيلهم ثم أمر بإجلائهم، وغنم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون ما كان لديهم من مال.
ويظهر في هذا الخبر حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتفادى حدوث فتنة في مجتمع المؤمنين، حيث إن بعض الأنصار حديثو عهد بالإسلام، ويخشى أن يؤثر فيهم رأس المنافقين عبد الله بن أبي لسمعته الكبيرة فيهم, ولذلك سلك -صلى الله عليه وسلم- معه أسلوب المداراة والصبر عليه وعلى إساءته تجنبًا للفتنة وإظهارًا لحقيقة الرجل من خلال تصرفاته ومواقفه عند من يجهلها، ومن ثم يفر الناس من حوله ولا يتعاطفون معه، وقد حقق هذا الأسلوب نجاحًا باهرًا، فقد ظهرت حقيقة ابن سلول لجميع الناس حتى أقرب الناس إليه ومنهم ولده عبد الله، فكانوا بعدها إذا تكلم أسكتوه، وتضايقوا من كلامه, بل أرادوا قتله.(1/188)
ولما تقرر جلاء بني قينقاع أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبادة بن الصامت أن يجليهم، فقالت بنو قينقاع: "يا محمد، إن لنا دَينًا في الناس"، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((تعجلوا وضعوا))، وأخذهم عبادة بالرحيل والإجلاء، وطلبوا التنفس، فقال لهم: "ولا ساعة من نهار, لكم ثلاث لا أزيد عليها, هذا أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو كنت أنا ما نفستكم"، فلما مضت ثلاث، خرج في آثارهم حتى سلكوا إلى الشام وهو يقول: "الشرف الأبعد الأقصى فالأقصى"، ثم رجع ولحقوا بأذرعات.
وهكذا خرج بنو قينقاع من المدينة صاغرين قد ألقوا سلاحهم وتركوا أموالهم غنيمة للمسلمين، وهم كانوا من أشجع يهود المدينة، وأشدهم بأسًا، وأكثرهم عددًا وعدة؛ ولذلك لاذت القبائل اليهودية بالصمت والهدوء فترة من الزمن بعد هذا العقاب الرادع، وسيطر الرعب على قلوبهم وخضدت شوكتها.
ثالثًا: أيضًا من الأحداث المهمة: تصفية المحرضين على الدولة الإسلامية:
إن خطر المحرضين على الفتنة لا يقل عن خطر الذين يشهرون السيوف لقتال المسلمين، إذ لولا هؤلاء المحرضون لما قامت الفتنة، لذلك أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتتبع هؤلاء المحرضين ويقتلهم إطفاء لنار الفتنة، وتمكينًا للحق، وقد قتل منهم خلقًا بعد موقعة بدر منهم:
- عصماء بنت مروان: التي كانت تحرض على النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعيب الإسلام, فقد أقدم عمير بن عدي الخطمي –رضي الله عنه- على قتلها، وحين سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك عما إذا كان عليه شيء؟ قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((نصرت الله ورسوله يا عمير))، ثم قال: ((لا ينتطح فيها عنزان))، وقد أسلم نتيجة ذلك عدد من بني خطمة وجهر بالإسلام منهم من كان يستخفي.(1/189)
- كذلك مقتل أبي عفك اليهودي: كان أبو عفك شيخًا كبيرًا من بني عمرو بن عوف وكان يهوديًا، يحرض على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول الشعر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من لي بهذا الخبيث؟))، فخرج له الصحابي سالم بن عمير فقتله.
- وأهم حدث في تصفية المحرضين على الدولة ما بين بدر وأحد هو مقتل كعب بن الأشرف:
هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، وبدأ في وضع قواعد الدولة الجديدة، وكان أهل المدينة عندما قدم عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على ثلاثة أقسام: المسلمون من الأنصار، والمنافقون، واليهود، وكان المنافقون واليهود لا يعنيهم شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يلقون له بالًا، ويظنون أنه عما قريب سيُقتل ويهزم وينتهي أمره.
مضى الشهر الأول ثم الثاني ثم الخامس ثم العاشر، ثم انتهت السنة الأولى ودخلت السنة الثانية وحدث ما لم يكن في الحسبان، حدث ما لم يتوقعه المنافقون واليهود، التقى المسلمون مع كفار قريش من غير ميعاد، فكان يوم الفرقان -غزوة بدر- وانتصر النبي -صلى الله عليه وسلم- على من آذوه وأخرجوه، فتبعثرت أوراق اليهود المنافقين في المدينة، وحصلت ربكة غير طبيعية، وبدأت الجلسات السرية والمباحثات حول هذا الحدث، وشعروا منذ تلك اللحظة بخطورة هذا الكيان الجديد، وبدأت العداوة العملية للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين في المدينة.(1/190)
بدأ معسكر الكفر وقد اجتمعت أجنحة المكر الثلاثة اليهود والمنافقون ومشركو مكة، وأظهروا عداوتهم الشديدة بعد غزوة بدر، قال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} [(82) سورة المائدة]، وانبرى شعراء اليهود في هجاء المسلمين والوقيعة في أعراضهم، وهو ما نسميه اليوم الحرب الإعلامية على الدعوة، ولم يسلم حتى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان على رأس هؤلاء اليهود رجل يسمى كعب بن الأشرف.
ينتسب كعب بن الأشرف إلى بني نبهان من قبيلة طيء، كان أبوه قد أصاب دمًا في الجاهلية, فقدم المدينة وحالف يهود بني النضير، وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعب, فظاهره عربي أصيل لكن قلبه يركع تحت عرش اليهود، وكان شاعرًا ناصب الإسلام، وقد غاظه انتصار المسلمين على قريش في معركة بدر، فسافر إلى مكة يهجو النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحرض قريش على الثأر لقتلاهم الذين كان ينوح عليهم ويبكيهم في شعره، ويدعو إلى القضاء على الرسول والمسلمين.(1/191)
واستمر كعب بن الأشرف في أذية الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالهجاء وتشجيع قريش لمحاربة المسلمين، واستغوائهم على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال له أبو سفيان: أناشدك الله، أديننا أحبُّ إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟"، قال: "أنتم أهدى منهم سبيلًا", ثم خرج مقبلًا قد أجمع رأي المشركين على قتال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلنًا بعداوته وهجائه. ولما قدم المدينة أعلن معاداة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشرع في هجائه، وبلغت به الوقاحة والصلف أن يمتد لسانه إلى نساء المسلمين، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحث حسانًا للتصدي لكعب بن الأشرف، فكان -صلى الله عليه وسلم- يعلم حسانًا أين نزل ابن الأشرف في مكة؟ فعندما نزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضميرة السهمي وزوجته عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص, فأبلغ -صلى الله عليه وسلم- حسان بن ثابت بذلك فهجاهم لإيوائهم ابن الأشرف، فلما بلغ عاتكة بنت أسيد هجاء حسان نبذت رحل اليهودي كعب بن الأشرف وقالت لزوجها: "ما لنا ولهذا اليهودي؟ ألا ترى ما يصنع بنا حسان؟".
وتحول كعب إلى أناس آخرين، وكان كلما تحول إلى قوم آخرين دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حسانًا وأخبره أين نزل ابن الأشرف فيهجو من نزل عندهم فيطردونه، وظل يلاحقه حتى لفظه كل بيت هناك, فعاد إلى المدينة راغمًا بعد أن ضاقت في وجهه السبل ينتظر مصيره المحتوم وجزاءه الذي يستحقه.(1/192)
وكان ممن رافق كعب إلى مكة شيطان خيبر حيي بن أخطب، فقال أهل مكة لحيي وكعب: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد، فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا نحن نصل الأرحام وننحر الإبل ونسقي الماء على اللبن ونفك الأسير ونسقي الحجيج، أما محمد فصنبور قطع أرحامنا واتّبعه سرّاق الحجيج، فنحن خير أم هو؟ فقالا: أنتم خير وأهدى سبيلًا، فأنزل الله تعالى قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [(51-52) سورة النساء].
لقد قام اليهودي ابن الأشرف بجرائم كثيرة، وخيانات عديدة وإساءات متعددة للرسول -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين والمسلمات القانتات العابدات، وكل جريمة من هذه الجرائم تعد نقضًا للعهد تستوجب عقوبة القتل، فكيف إذا اجتمعت هذه الجرائم كلها في هذا اليهودي الشرير؟
إن ابن الأشرف بهجائه للنبي -صلى الله عليه وسلم- وإظهاره التعاطف مع أعداء المسلمين ورثاء قتلاهم وتحريضهم على المسلمين يكون قد نقض العهد وصار محاربًا مهدور الدم، ولذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتله، وقد ذكر البخاري -رحمه الله- في صحيحه خبر مقتله، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من لكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله))، فقام محمد بن مسلمة، فقال: "يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟" قال: ((نعم))، قال: "فأذن لي أن أقول شيئًا، قال: ((قل)).(1/193)
جلس بعدها محمد بن مسلمة ثلاثة أيام يفكر في كيفية قتل كعب بن الأشرف، رجع محمد بن مسلمة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستشيره في الأمر، فقال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تعجل حتى تشاور سعد بن معاذ))، وكان سعد منظرًا ذكيًا، فقال سعد لمحمد: اذهب إليه واشتكي إليه الحاجة، وسله أن يسلفكم طعامًا.
انطلق محمد بن مسلمة وذهب معه أبو نائلة -وهو أخو كعب بن الأشرف من الرضاع- فأتى ابن مسلمة إلى كعب في حصنه فقال له: إن هذا الرجل - يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد سألنا صدقةً ونحن لا نجد ما نأكل، وإنه قد أتعبنا وشق علينا وإني قد أتيتك أستسلفك، ثم تكلم أبو نائلة فقال: لقد كان قدوم هذا الرجل علينا بلاءً؛ عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة وقطعت عنا السبيل حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس"، فقال كعب: لم تروا شيئًا كثيرًا بعد، وهذا قليل من اتباع هذا الرجل.
فلما رأى ابن مسلمة أن الحيلة قد انطلت على كعب قال: إنا قد اتبعناه ولا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقًا أو وسقين.
فقال كعب: وأين طعامكم؟، قالا: أنفقناه على هذا الرجل وعلى أصحابه، فقال كعب: أسلفكم ولكن ارهنوني، قالوا: وأي شيء تريد؟"، قال: "ارهنوني نساءكم"، قالوا:" كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب تُعجب بك النساء؟"، فانتشى لسماع هذا الكلام وأعجبه هذا المديح، فقال: "فارهنوني أبناءكم"، قالوا: "كيف نرهنك أبناءنا وفي هذا عار علينا وستتكلم العرب؟ لكن نرهنك سلاحنا مع علمك بحاجتنا إليه". قال: "نعم"، وهذه الحيلة أيضًا انطلت عليه.
فقال أبو نائلة: "إن معي أصحابًا لي على مثل رأيي إن أردت آتيك بهم"، أراد أبو نائلة ألا ينكر كعب السلاح إذا جاؤوا بها.
تم الاتفاق بين الطرفين على أن يأتوه بالسلاح ليأخذوا منه الطعام.(1/194)
رجعا إلى المدينة -رضي الله عنهما- وأخبرا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما جرى، ثم أخذوا ما أرادوا من السلاح والرجال، فلما أرادوا الرجوع إلى كعب قام معهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ومشى معهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم فقال: ((انطلقوا على اسم الله))، ثم دعا لهم: ((اللهم أعنهم)).
رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته وكانت ليلة مُقمرة، فانطلقوا حتى أتوا حصنه، وكان معهم عباد بن بشر والحارث بن أوس وأبو عبس بن جبر -رضي الله عن الجميع- فرقة لمكافحة وإبادة العناصر الشريرة في البلد.
هتف أبو نائلة وصاح من تحت الحصن: يا أبا سعيد، كنية كعب بن الأشرف، فقال: سامعًا دعوت -وكان كعب حديث عهد بعرس- فوثب لما سمع النداء من تحت ملحفته، فدعاهم إلى الحصن ونزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟، فقال: إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة، فقالت له: أنت امرؤ مُحارب وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة، فقال كعب: إنه أبو نائلة لو وجدني نائمًا ما أيقظني، فقالت المرأة: والله إني لأعرف في صوته الشر، وإني أسمع صوتًا كأنه يقطر منه الدم، فتعلقت به الزوجة، لكن مع كل هذه النذر نزل إليهم في ظلام الليل ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
وجلست المرأة ترقب ما عسى أن يكون، فلما نزل إليهم جلس وتحدث معهم ساعة، وكان قد نزل إليهم متوشحًا بوشاح وهو ينفح منه رائحة الطيب.(1/195)
ولما اطمأن إليهم قالوا له: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم، فخرجوا ومشوا ساعة -وهذه أيضًا انطلت عليه- وهكذا لو كتب الله شيئًا، وأراد المولى حدوث شيء فإنه يهيئ لها الأسباب، وتفوت أتفه الأشياء على أكابر الرجال والعقول، وتتعجب كيف انطلت كل هذه الأمور على مثل كعب، إنها إرادة الله وتسخير جنوده لحفظ دينه، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [(82) سورة يس].
اتفق أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يمسك أبو نائلة برأس كعب ليشم رائحة الطيب فإذا استمكن منه ومن رأسه علوه بقية أصحابه بأسيافهم وأسلحتهم.
فأولًا مسك أبو نائلة يد كعب بن الأشرف وشمها ثم قال: ما رأيت كالليلة طيبًا أعطر من هذا، قال كعب: عندي أعطر نساء العرب وأكمل العرب، فقال له: أتأذن لي يا أبا سعيد أن أشم رأسك وأمسح به عيني ووجهي، قال الغبي: نعم، فمكنه من رأسه، ثم مشى معه ساعة، وأصحابه حوله -رضوان الله عليهم- فعاد لمثلها وشم رأسه ثم مشى معه ساعة حتى اطمأن كعب تمامًا ثم قال له: أتأذن لي؟ قال نعم، فلما تمكن منه صاح أبو نائلة بأصحابه وقال: دونكم اضربوا عدو الله، فاختلفت أسيافهم عليه، فأخذ محمد بن مسلمة بقرون شعره وقال: اقتلوا عدو الله، فالتفت عليه السيوف، وأصاب حدّ بعض السيوف الحارث بن أوس -رضي الله عنه- في ظلمة الليل فنزف دمه، عندها صاح كعب بن الأشرف صيحة لم يبق حصن من حصون اليهود إلا أوقدت عليه نار لينظروا ما الخبر، فصاحت امرأة كعب وكانت ترقب ما يحدث تحت ضوء القمر وصاحت يا آل قريظة والنضير، يا آل قريظة والنضير، فأخرج محمد بن مسلمة سيفًا صغيرًا فوضعه في سُرَّة كعب واتكأ عليه حتى انتهى إلى عانته ثم احتزوا رأسه وأخذوه معهم.(1/196)
بدأ اليهود في هذا الوقت بالخروج من حصونهم لرؤية ما حدث ولعلهم يمسكوا بأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن محمد بن مسلمة وأصحابه قد خرجوا وتركوا تلك المنطقة إلى مناطق مجاورة، فخرجوا من حرة إلى حرة، ومن شعب إلى آخر، حتى بلغوا حرة العريض، وعندما وصلوا إليها افتقدوا الحارث بن أوس فإن السيف الذي أصابه أثر فيه فصار ينزف دمًا، فوقفوا ينتظرون ساعة حتى وصل -رضي الله عنه- وهو في جهد جهيد فاحتملوه، ثم أقبلوا سراعًا حتى دخلوا المدينة، واجتمعت يهود وأخذوا يبحثون عن أحد يرونه فلم يعثروا على أحد ولا أثر.
ولما بلغ أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بقيع الغرقد كبّروا، وقد قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تلك الليلة يصلي، فلما سمع تكبيرهم كبر وعرف أنهم قد قتلوه، فانتهوا إليه، فلما رآهم قال: ((أفلحت الوجوه))، فقالوا: "ووجهك يا رسول الله"، ورموا برأسه بين يديه، فحمد الله على قتله.
إن في مقتل كعب بن الأشرف دروسًا وعبرًا وفوائد في فقه النبي -صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع خصوم الإسلام والدولة الإسلامية، فقد اتضح أن عقوبة الناقض للعهد القتل, وهذا ما حكم به النبي -صلى الله عليه وسلم-, وعقوبة المعاهد الذي يشتم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويؤذيه بهجاء أو غيره هي القتل, وهذا ما كان لابن الأشرف، ويؤخذ من هذا أن شاتم الرسول -صلى الله عليه وسلم- سواء كان معاهدًا أو غيره تضرب عنقه عقوبة له، وقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية في تفصيل هذه الأحكام في كتابه القيم "الصارم المسلول على شاتم الرسول -صلى الله عليه وسلم-".
ويؤخذ من طريقة تنفيذ حكم الرسول -صلى الله عليه وسلم- باليهودي ابن الأشرف, أن الحكم قد تقتضي المصلحة العامة للمسلمين أن ينفذ سرًّا، ويتأكد هذا إن كان يترتب على تنفيذه بغير هذه الصورة السرية فتنة أو خطر قد يكلف المسلمين ثمنًا باهظًا.(1/197)
وقد بينت هذه الصورة على أن مواجهة الكفار أعداء الإسلام ومحاربي الدولة الإسلامية لا تقتصر على مواجهتهم في ميدان المعارك، وإنما تتعدى ذلك إلى كل عمل تحصل به النكاية بالأعداء، ما لم يكن إثمًا، وقد يوفر القضاء على رجل له دوره البارز في حرب المسلمين جهودًا كبيرة وخسائر فادحة يتكبدها المسلمون، وهذا مشروط بالأمن من الفتنة، وذلك بأن يكون للمسلمين شوكة وقوة ودولة بحيث لا يترتب على نوعية هذا العمل فتك بالمسلمين، واجتثاث الدعاة من بلدانهم وإفساد في مجتمعاتهم.
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقم بمحاولة تصفية لأي أحد من المشركين في مكة مع القدرة على قتل زعماء الشرك كأبي جهل، وأمية بن خلف، وعتبة، ولو أشار إلى حمزة أو عمر بذلك أو غيرهما من الصحابة لقاموا بتنفيذ ذلك، ولكن الهدي النبوي الكريم يعلمنا أن فقه قتل زعماء الكفر يحتاج إلى شوكة وقوة، كما أن هذا الفقه يحتاج إلى فتوى صحيحة من أهلها، واستيعاب فقه المصالح والمفاسد, وهذا يحتاج إلى علماء راسخين، حيث تتشابك المصالح في عصرنا، وحيث احتمالات توسع الأضرار.
انتشر خبر مقتل ابن الأشرف في المدينة فأسرع أحبار اليهود إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يشتكون ويحتجون على ما فعله أصحابه، فلم يحفل النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم، بل أكد مقتله الذي كان نتيجة حتمية لموقفه المعادي، وقد أوقعت هذه الحادثة الرعب في نفوس اليهود جميعهم، فلم يعد أحد من عظمائهم يجرؤ على الخروج من حصنه، كما لم يعد أحد يهود المدينة إلا ويخاف على نفسه من المسلمين.
واضطر اليهود لتجديد المعاهدة، وكان لمقتل كعب بن الأشرف أثر عميق في نفوسهم، فمضوا يكيدون للإسلام.
ومن الجدير بالذكر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يؤاخذ بني النضير بجريرة كعب بن الأشرف، واكتفى بقتله جزاء غدره وجدد المعاهدة معهم.(1/198)
ومن الفقه النبوي في معاملة اليهود، نستفيد أن العلاج الأمثل لليهود هو زجرهم وقتل أهل الفتن فيهم ومطاردتهم؛ لأنهم أهل شرور لا يتخلصون منها ولا يتوقفون عنها.
لقد كانت حادثة قتل كعب بن الأشرف بداية سلسلة المواجهة مع اليهود بالمدينة، وكانت غزوة بدر هي التي أخرجت كوامن نفوسهم، يزعجهم جدًا أن يروا التمكين للإسلام وأهله وللإيمان ودعاته، فغلت قلوبهم بالحقد فكانت بداية تناثر الخرز المهين من عِقد الحقد اليهودي على المسلمين، وكانت أول خرزة تغادر هذا العقد بغير رجعة هي خرزة كعب بن الأشرف، ثم تلتها باقي المنظومة تتهاوى وتتساقط أمام سيوف لا إله إلا الله.
لقد أتعب كعب نفسه كثيرًا بمكره وخداعه وشعره، سافر إلى مكة ليواسي المشركين وليحرضهم ويحمسهم لقتال المسلمين، وعقد هناك اجتماعات سرية وعلنية مع كبراء قريش، لكن ماذا كانت النتيجة؟ حُز رأسه ومات كافرًا خالدًا مخلدًا في نار جهنم.
القضية ليست قضية قصيدة قالها وهجا بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، القضية قضية محاربة للدين، فهذا الرجل تبنى قضية حرب الإسلام وأهله واستفرغ كل طاقته، لكن ما علم الغبي أن هذا الدين هو دين الله -عز وجل-، والله حافظ دينه وناصر لعباده وسيبقى هذا الدين في الأرض إلى آخر الزمان، يذهب فلان ويجيء فلان، يموت هذا ويولد هذا، فالقضية غير متعلقة بأشخاص {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [(32) سورة التوبة].
يخططون ويسهرون ويجتمعون ويتفقون ويكتبون ويوقعون ويمكرون، وفي النهاية ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [(30) سورة الأنفال]، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [(227) سورة الشعراء].
والحمد لله...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية(1/199)
الدرس الحادي عشر
غزوة أحد
إن الحمد لله..
لم تزل مكة تغلي نار الحقد في أرجائها، ويتعالى لهب العداوة في جنباتها بعد الهزيمة المخزية التي لحقتهم من المسلمين في معركة بدر، فبقيت قريش تعالج الهموم والآلام على فقد أشرافها وصناديدها، ومن ذلك الحين وهي تعد العدة لأخذ الثأر، واسترداد الكرامة، والنيل من أعدائهم كما نالوا منهم.
وكان عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وأبو سفيان بن حرب وعبد الله بن أبي ربيعة من أكثر زعماء قريش نشاطاً وتحمساً لخوض المعركة حتى إن قريشاً كانوا قد منعوا البكاء على قتلاهم، ومنعوا الاستعجال في فداء الأسرى حتى لا يتفطن المسلمون إلى مدى مأساتهم وحزنهم، واتفقت قريش على القيام بحرب شاملة ضد المسلمين، وأول ما فعلوه بهذا الصدد أنهم احتجزوا عير أبا سفيان وقالوا لأربابها: يا معشر قريش، إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأراً، فأجابوا لذلك فباعوها وكانت ألف بعير وخمسين ألف دينار، لكن الأمر كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [(36) سورة الأنفال].
ولما استدارت السنة كانت مكة قد استكملت عدتها واجتمع لها ثلاثة آلاف مقاتل من قريش والحلفاء والأحابيش، وكان في الجيش ثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس وسبعمائة درع، وقائدهم أبا سفيان، وقائد الفرسان خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل.(1/200)
ولما تحرك جيش المشركين بعث العباس -رضي الله عنه- رسالة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضمنها جميع تفاصيل الجيش، قرأ الرسالة على النبي -صلى الله عليه وسلم- أبي بن كعب، فأمره بالكتمان، وعاد مسرعاً إلى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار ، وظلت المدينة في حالة استنفار لمدة عام لا يفارق رجالها السلاح حتى وهم في الصلاة؛ استعداداً للطوارئ .
وقام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة بحراسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فكانوا يبيتون على بابه وعليهم السلاح، وقامت على مداخل المدينة وأنقابها مجموعات تحرسها؛ خوفًا من أن يؤخذوا على غِرّة، وقامت دوريات من المسلمين لاكتشاف تحركات العدو تتجول حول الطرق التي يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين، ووصل جيش مكة إلى أحد، وهو الجبل الذي حول المدينة الذي قال فيه -صلى الله عليه وسلم-: ((أحد جبل يحبنا ونحبه)).
سمّي أحد؛ لأنه جبل شاهق مستقل لا يتصل به أي جبل من الجبال المحيطة به ولذلك سمي بهذا الاسم لتوحده وتفرده بين الجبال.(1/201)
فنزلوا قريباً من جبل أحد في مكان يقال له: عينين يوم الجمعة السادس من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة، واستشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه وأخبرهم عن رؤيا رأها قال: ((إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة))، وتأول البقر بنفر من أصحابه يُقتلون، وتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته، وتأول الدرع بالمدينة، ورأى -صلى الله عليه وسلم- ألا يخرجوا من المدينة بل يتحصنوا بها، فإن أقام المشركون أقاموا بشر مقام وبغير جدوى، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت وكان هذا هو الرأي، وأشار جماعة من الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر بالخروج إليهم، وألحوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان في مقدمتهم حمزة بن عبد المطلب، فاستقر الرأي على الخروج إليهم، ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيته مع صاحبيه أبي بكر وعمر فألبساه وعمّماه، فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعين وتقلد السيف، وندم الناس كأنهم استكرهوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت، إن أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه))، فسار الجيش وكان قوامه ألف مقاتل في مائة درع، واستعرض -عليه السلام- جيشه وردّ من كان صغيراً منهم كعبد الله بن عمر وأسامة بن زيد والبراء بن عازب وغيرهم، وممن ردّهم أيضاً سعد بن حبتة -عُرف بأمه -رضي الله عنه- وهي حبتة بنت مالك الأنصارية- ردّه لصغر سنه، فلما كان يوم الخندق رآه يقاتل قتالاً شديداً، فدعاه ومسح على رأسه ودعا له بالبركة في ولده ونسله، فكان عماً لأربعين، وخالاً لأربعين، وأباً لعشرين، ومن ولده أبو يوسف صاحب أبي حنيفة.(1/202)
وأجاز رافع بن خديج؛ لأنه كان ماهراً في رماية النبل، وسمرة بن جندب حيث قال: أنا أقوى من رافع، فأمرهما أن يتصارعا أمامه، فصرع سمرة رافعاً فأجازه أيضاً.
وعقد -عليه الصلاة والسلام- ثلاثة ألوية، لواء للأوس ودفعه لأسيد بن حضير ولواء للخزرج ودفعه للحباب بن المنذر وقيل: لسعد بن عبادة ولواء للمهاجرين ودفعه لعلي بن أبي طالب.
وصل المسلمون إلى مكان يقال له: الشيخان، وسميت المنطقة بالشيخين لأُطُمَين كانا هناك في كل أطم عجوز، وكانا هذان العجوزان يتناجيان فسميت المنطقة باسم الأطمين وكل أطم باسم الشيخين ويقصدون هذين العجوزين.
فباتوا ليلتهم وقبل طلوع الفجر بقليل اقترب الجيش الإسلامي من عدوه حتى أضحوا يرونه ويراهم، عندها تمرّد عبد الله بن أبيّ المنافق، فانسحب بنحو ثلث العسكر، ثلاثمائة مقاتل قائلاً: "ما ندري علام نقتل أنفسنا"، وكاد أن يحدث الاضطراب في الجيش الإسلامي بعد انسحاب المنافق ومن معه، فليس يسيراً على النفوس الضعيفة أن يخسر الجيش ثلثه وهم قاب قوسين أو أدنى من قتال العدو، وتبعهم عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله وهو يقول: "تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا"، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فقال عبد الله: "أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه"، ولله الحكمة البالغة فإن انسحاب عبد الله بن أبي بثلث الجيش صفى الجيش النبوي من الطابور الخامس {وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [(167) سورة آل عمران].(1/203)
وسار النبي -صلى الله عليه وسلم- بمن بقي معه من الجيش حتى نزل الشعب من جبل أحد، فعسكر بجيشه مستقبلاً المدينة جاعلاً ظهره إلى هضاب جبل أحد، وهناك عبّأ جيشه وهيأهم صفوفاً للقتال، واختار فصيلة من الرماة الماهرين قوامهما خمسون مقاتلاً، وجعل قائدهم عبد الله بن جبير بن النعمان وأمرهم بالتمركز على جبل يقع على الضفة الجنوبية من وادي قناة -وهو ما يعرف اليوم بجبل الرماة- وقال لهم كما روى البخاري: ((إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم)).
أما بقية الجيش فجعل على الميمنة المنذر بن عمرو، وجعل على الميسرة الزبير بن العوام، يسانده المقداد بن الأسود، وكان إلى الزبير مهمة الصمود في وجه فرسان خالد بن الوليد، وجعل في مقدمة الصفوف نخبة ممتازة من شجعان المسلمين ورجالاتهم المشهورين بالنجدة والبسالة، والذين يوزنون بالآلاف .
وحض النبي -صلى الله عليه وسلم- جيشه على القتل فجرد سيفاً باتراً ونادى بأصحابه: ((من يأخذ هذا السيف بحقه))، فقام إليه رجال فأمسكه عنهم، منهم علي -رضي الله عنه- قام ليأخذه فقال له: ((اجلس))، وعمر بن الخطاب فأعرض عنه، والزبير بن العوام طلبه ثلاث مرات والرسول -صلى الله عليه وسلم- يعرض عنه، فقام أبو دجانه فقال: "وما حقه يا رسول الله"، قال: ((أن تضرب به وجوه العدو حتى ينحني))، قال: "أنا آخذه بحقه يا رسول الله"، فأعطاه إياه.
وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يعتصب بعصابة حمراء، إذا اعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل حتى الموت فلما أخذ السيف عصب رأسه بتلك العصابة وجعل يتبختر بين الصفين وحينئذ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن)).(1/204)
ولما تقارب الجمعان كان أول وقود المعركة حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة، وكان من أشجع فرسان قريش، خرج وهو راكب على جمل يدعو إلى المبارزة، فأحجم الناس لفرط شجاعته، ولكن تقدم إليه الزبير، ولم يمهله بل وثب إليه وثبة الليث، حتى صار معه على جمله، ثم اقتحم به الأرض، فألقاه عنه وذبحه بسيفه، فكبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وكبر المسلمون وقال: ((إن لكل نبي حوارياً، وحواريي الزبير))، ثم اندلعت نيران المعركة واشتد القتال، وتعاقب على حمل لواء المشركين عشرة من بني عبد الدار كلما قُتل أحدهم حمل الراية آخر، إلى أن سقطت الراية على الأرض، لم يبق أحد يحملها، وانطلق المسلمون في كل نقاط المعركة كالأسود، وعصب أبو دجانة عصابته الحمراء، فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله، وكان في المشركين رجل شديد لا يدع جريحاً للمسلمين إلا قتله، فدنا منه أبو دجانة فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرعه، فضربه أبو دجانة فقتله.
وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتال الليوث، فقد اندفع إلى قلب جيش المشركين يغامر مغامرة منقطعة النظير، ينكشف عنه الأبطال كما تتطاير الأوراق أمام الرياح الهوجاء، فبالإضافة إلى مشاركته الفعالة في إبادة حاملي لواء المشركين فعل الأفاعيل بأبطالهم الآخرين، حتى صُرع وهو في مقدمة المبارزين، ولكن لا كما تصرع الأبطال وجهاً لوجه في ميدان القتال، وإنما كما يغتال الكرام في حلك الظلام .(1/205)
يقول قاتل حمزة وحْشِي بن حرب : "كنت غلاماً لجبير بن مُطْعِم، وكان عمه طُعَيمَة بن عدي قد أصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى أحد قال لي جبير : إنك إن قتلت حمزة عمّ محمد بعمّي فأنت عتيق، قال : فخرجت مع الناس وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قلّما أخطئ بها شيئاً، فلمّا التقي الناس خرجت أنظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأوْرَق، يهُدُّ الناس هدّاً ما يقوم له شيء، فوالله إني لأتهيأ له أريده، فأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني، قال : وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه فوقعت في أحشائه حتى خرجت من بين رجليه وذهب لينوء نحوي فَغُلِبَ وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة عتقت" .
وهكذا دارت رحى الحرب وظل الجيش الإسلامي مسيطراً على الموقف كله، وفرّ معسكر المشركين.
قال البراء بن عازب كما عند البخاري: "فلما لقيناهم هربوا، وتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح، ويأخذون الغنائم، وبينما كان الحال كذلك، كان الرماة فوق الجبل يرقبون الموقف، ويرون نصر الله يتنزل، فقال بعضهم لبعض: الغنيمة الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟، فقال لهم قائدهم عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالوا: والله لنأتينّ الناس فلنصيبنّ من الغنيمة، فنزل أربعون منهم والتحقوا بسواد الجيش، ولم يبق على جبل الرماة إلا عبد الله بن جبير وتسعة معه، عندها انتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة، فاستدار بسرعة خاطفة حتى وصل إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه، ثم انقض على المسلمين من خلفهم وصاح فرسانه فعاد المنهزمون من جيش المسلمين ورفعت امرأة يقال لها عمرة بنت علقمة الحارثية لواء المشركين فالتفوا حوله، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف.(1/206)
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في تسعة نفر من أصحابه يرقب المسلمين ومطاردتهم المشركين إذ بوغت من الخلف بفرسان خالد بن الوليد فكان أمامه طريقان إما أن ينجو بنفسه ومن معه بسرعة وإما أن يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، فنادى بأعلى صوته: ((إليّ عباد الله)) كما قال تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} [(153) سورة آل عمران]
فخلص إليه المشركون قبل أن يصل إليه المسلمون، وتزعزع الناس في معسكر المسلمين فلاذ بعضهم بالفرار إلى المدينة وصعد بعضهم جبل أحد ثم صاح صائح: "إن محمداً قد قتل"، فانهارت روح المؤمنين، أو كادت تنهار، فتوقف من توقف عن القتال، وألقى بعضهم السلاح، فمر بهؤلاء أنس بن النضر فقال: "ما تنتظرون، فقالوا: قتل رسول الله قال: "ما تصنعون بالحياة بعده؟، قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين، وأبرأ إليك من صنع هؤلاء يعني المشركين"، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ فقال: إلى أين يا أبا عمرو، فقال أنس: "واهاً لريح الجنة يا سعد، إني لأجده دون أحد"، ثم مضى فقاتل حتى قتل فما عرفه أحدٌ إلا أخته من بنانه، وبه بضع وثمانون، ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم".
ومرّ رجل من المهاجرين برجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال: "يا فلان أشعرت أن محمداً قد قتل، فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلّغ، فقاتلوا عن دينكم".(1/207)
وبمثل هذه المواقف عادت الروح إلى قلوب المؤمنين، وطوق المشركون رسول الله ومن معه وكانوا تسعة فقتل سبعة منهم بعد قتال عنيف ولم يبق معه غير سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، فطمعوا في القضاء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى، وجرحت شفته السفلى، وتقدم إليه عبد الله الزهري فشجه في جبهته، وجاء عبد الله بن قمئة فضربه على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة شكا لأجلها أكثر من شهر، وضربه ضربة أخرى شديدة حتى دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته فقال -عليه السلام- والدم يسيل عن وجهه: ((كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
وقال ابن قمئة وهو يضرب النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خذها وأنا ابن قمئة"، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أقمأك الله))، فلما كان بعد المعركة على سفح جبل نطحه تيس فتدهده من الجبل فمات، فارس من فرسان المشركين يقتله ذلك التيس المبارك بسبب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-.
واستبسل سعد وطلحة في الدفاع عن رسول الله فقد نثل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنانته لسعد بن أبي وقاص وقال: ((ارم فداك أبي وأمي)).
وأما طلحة فقد قاتل حتى شلّت يده، فقد تلقى بيده سهماً رمى به نحو رسول الله أحد أمهر رماة المشركين، فتلقى طلحة السهم بيده فشلت أصابعه بعد، وظل يقاتل دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى سقط مغمياً عليه من كثرة الجراح والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((أوجب طلحة))، أي وجبت له الجنة -رضي الله عنه وأرضاه-.
وكان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا ذكر يوم أحد قال: "ذلك اليوم كله لطلحة".
وروى الترمذي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال فيه يومئذ: ((من ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله)).(1/208)
وخلال هذا الموقف العصيب تسارع المسلمون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقاموا حوله سياجاً من أجسادهم وسلاحهم وبالغوا في الدفاع عنه.
قام أبو طلحة على رسول الله يُسوّر نفسه بين يدي رسول الله ويرفع صدره ليقيه عن سهام العدو، وكان رامياً يرمي، فكلما رمى أشرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليرى موضع سهمه، فيقول له أبو طلحة: "بأبي أنت وأمي لا تشرف يصبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك".
وقام أبو دجانة أمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فترّس عليه ظهره والنبل يقع عليه، وهو لا يتحرك. ومص مالك بن سنان الدم عن وجنته -صلى الله عليه وسلم- وأنقاه فقال: ((مُجَّه))، فقال: "والله لا أمجه أبداً، ثم أدبر يقاتل فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا))، فقتل شهيداً -رضي الله عنه-.
قال -عليه الصلاة والسلام- حين غشيه القوم: ((من رجل يشري لنا نفسه؟))، فقام زياد بن السَّكن في نفر من الأنصار فقاتلوا دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً ثم رجلاً يقتلون دونه، حتى كان آخرهم زياد -رضي الله عنه-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أدنوه مني))، فأدنوه منه فوسّده قدمه فمات وخده على قدم النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومصعب بن عمير حامل اللواء يوم أحد ضربوه بيده اليمنى حتى قطعت فأخذ اللواء بيده اليسرى فقطعت، ثم برك على صدره وعنقه حتى قتل، فأخذ الراية بعده علي بن أبي طالب.
وقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فعرفه كعب بن مالك فنادى بأعلى صوته: "يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله"، فأشار إليه أن اصمت؛ لئلا يعرف المشركون موضعه، فلاذ إليه المسلمون فأخذ بالانسحاب المنظّم إلى شعب الجبل.(1/209)
وثبت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه المرحلة خمسة عشر رجلاً ثمانية من المهاجرين وهم: أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح، وسبعة من الأنصار وهم: الحباب بن المنذر وأبو دجانة وعاصم بن ثابت والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف وسعد بن معاذ وقيل: سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة.
وفي أثناء الانسحاب عرضت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- صخرة من الجبل فنهض إليها ليعلوها فلم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض حتى استوى عليها فقال: ((أوجب طلحة)) أي وجبت له الجنة.
ولما أَسند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الشعب أدركه أبيُّ بن خلف وهو مقنّع في الحديد يركض على فرسه ويقول: "أين محمد لا نجوتُ إن نجا؟" فاعترض له رجال من المؤمنين فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للقوم: ((دعوه))، فلما دنا تناول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حربة من الزبير بن العوام فلما أخذها هزها فانتهض الصحابة من حوله وتطايروا تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض بها، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدحرج منها عن فرسه وجعل يخور كما يخور الثور، وصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الظهر قاعداً من أثر الجراح وصلى المسلمون خلفه قعوداً .
ولما تكامل تهيؤ المشركين للانصراف أشرف أبو سفيان على الجبل فنادى: "أفيكم محمد"، فلم يجيبوه فقال: "أفيكم ابن أبي قحافة؟"، فلم يجيبوه، فقال: "أفيكم عمر بن الخطاب؟"، فلم يجيبوه، فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يملك عمر نفسه أن قال: "يا عدو الله، إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله ما يسوءك"، ثم قال: "اعلُ هبل"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا تجيبونه))، فقالوا: ما نقول؟ قال: ((قولوا: الله أعلى وأجل)).(1/210)
ثم قال: "لنا العزى ولا عزى لكم"، فقال -عليه السلام-: ((ألا تجيبونه))، قالوا: ما نقول: قال: ((قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم)) ثم قال أبو سفيان: "يوم بيوم بدر والحرب سجال"، فأجاب عمر وقال: "لا سواء؛ قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار".
وكان أناس من الصحابة قد نقلوا قتلاهم إلى المدينة فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يردوهم فيدفنوهم في مضاجعهم وألا يغسّلوا، وأن يدفنوا كما هم بثيابهم بعد نزع الحديد والجلود .
وكان يدفن الاثنين والثلاثة في القبر الواحد، ويجمع بين الرجلين في ثوب واحد، ويقول : (( أيهم أكثر أَخْذًا للقرآن ؟))، فإذا أشاروا إلى الرجل قدمه في اللحد وقال : (( أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة)) .
ودفن عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد لما كان بينهما من المحبة، ودفن مع حمزة ابن أخته عبد الله بن جحش وكان قد مُثّل به غير أنه لم يُبقر بطنه.
وفقدوا نعش حنظلة فوجدوه في ناحية من الأرض يقطر ماءً وليس بقربه ماء، فأخبر الرسول -عليه السلام- أصحابه أن الملائكة تغسله، فسألوا امرأته فأخبرتهم أنه حديث عهد بعرس.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات فإني رأيت اثني عشر رمحاً شرعى إليه))، فقال محمد بن مسلمة: "أنا، فذهب يبحث عنه فوجده جريحاً في القتلى وبه رمق، فقال له: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسأل عنك"، فقال سعد: "أنا في الأموات، فأبلغ رسول الله عني السلام وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنّا خير ما جزى نبياً عن أمته، وقل له: إني أجد ريح الجنة، وأبلغ قولي للأنصار السلام وقل لهم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خُلِصَ إلى نبيكم -صلى الله عليه وسلم- وفيكم عين تطرِف"، ثم لم يبرح أن مات فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخبر فاستغفر له.(1/211)
ووجدوا في الجرحى الأُصَيرِِم عمرو بن ثابت وبه رمق يسير، وكانوا من قبل يعرضون عليه الإسلام فيأباه، فقالوا : إن هذا الأصيرم ما جاء به لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر؟ ثم سألوه : ما الذي جاء بك، أحَدَبٌ على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال : "بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله ثم قاتلت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أصابني ما ترون"، ومات من وقته، فذكروه للرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال: (( هو من أهل الجنة)) قال أبو هريرة : ولم يُصَلِّ لله صلاة قط .
ووجدوا أيضاً في الجرحي قُزْمَان وكان قد قاتل قتال الأبطال، قَتَلَ وحده سبعة أو ثمانية من المشركين، وجدوه قد أثبتته الجراح، فاحتملوه إلى دار بني ظَفَر، وبشره المسلمون فقال : والله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت، فلما اشتد به الجراح نحر نفسه، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول إذا ذُكر له : (( إنه من أهل النار)).
وكان ممن قُتل مع المسلمين مخيريق وكان من اليهود وقال: "إن أُصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء"، فقاتل حتى قتل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مخيريق خير يهود))، ثم جعل ماله وكانت سبع حوائط أوقافاً بالمدينة فكانت أول وقف بالإسلام.
ولما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ما بعمه حمزة اشتد حزنه، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باكياً قط أشد من بكائه على حمزة، وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نشج من البكاء".
وفي مضطرب المعركة نظر حذيفة بن اليمان إلى أبيه والمسلمون يريدون قتله لا يعرفونه وهم يظنونه من المشركين، فقال حذيفة: "أي عباد الله أبي"، فلم يفهموا قوله حتى قتلوه، فقال: "يغفر الله لكم"، فأراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يؤدي ديته، فقال حذيفة: "قد تصدقت بديته على المسلمين، فزاد ذلك حذيفة خيراً عند رسول الله".(1/212)
ولما انقضت المعركة انصرف المشركون فظنّ المسلمون أنهم قصدوا المدينة لسبي الذراري وإحراز الأموال فشق ذلك عليهم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي ابن أبي طالب -رضي الله عنه-: ((اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون؟ فإن هم جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن هم ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، فوالذي نفسي بيده لو أرادوها لأسيرنّ إليهم ثم لأناجزهم فيها))، قال علي: "فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون؟ فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا مكة".
روى الإمام أحمد قال: "لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((استووا حتى أثني على ربي -عز وجل-))، فصاروا خلفه صفوفاً فقال: ((اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت ولا مقرب لما باعدت ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق)).
ولما فرغ رسول الله من دفن الشهداء والثناء على الله والتضرع إليه انصرف راجعاً إلى المدينة.(1/213)
ونزل القرآن يلقي ضوءاً على جميع المراحل المهمة من هذه المعركة مرحلة مرحلة، فأنزل الله ستين آية من سورة آل عمران تبتدئ بذكر أول مرحلة من مراحل المعركة : {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [(121) سورة آل عمران]، وتترك في نهايتها تعليقاً جامعاً على نتائج هذه المعركة وحكمتها، {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [(179) سورة آل عمران].
هذه هي معركة أحد ولنا معها عشرون وقفة:
أولاً: يجب على الأمة أن تعلم أن الإيمان بهذا الدين يجب أن يصاحبه يقين تام بنصر الله -جل وعلا- لهذا الدين وتمكينه، قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [(51) سورة غافر]، والوعد الصادق من رسول الله: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)).(1/214)
فهذه الطائفة ظاهرة لا يضرها شيء فقد تخذلهم فئام من الناس وقد يخذلهم المرجفون الذين يقفون بين الصفين، {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [(141) سورة النساء]، كل هؤلاء لن يضروا الدين مهما فعلوا، وإن هذا الوعد الصادق ينبغي أن يكون يقينناً به كيقيننا بهذا الدين الذي نعتقده، ونحتاج هذا اليقين أكثر في ساعات الشدة وأوقات الكرب يوم تدلهم الخطوب وتكفهرُّ الأحداث فنوقظ في النفوس صدق هذا الموعود واليقين به، ولذا كان نبينا صلوات الله وسلامه عليه أشد ما يكون تفاؤلاً في ساعات الشدة وأوقات الكرب.
يأتي إليه خباب بن الأرت وقد أمضّه الألم من إيذاء المشركين ورسول الله محاَرَبٌ منهم ويلقى المسلمون من المشركين الشدة، يُطردون ويؤذون في شعاب مكة فيقول: "يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟"، فماذا أجابه الرسول الكريم؟: ((والله لينصرن الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الشرك، وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه))، يقوله في حين أن المسلم ذلك الوقت لا يأمن أن يسير في فجاج مكة آمناً.
ثم انظر إلى رسول الله وللمسلمين معه يوم الأحزاب حينما أحاط به المشركون حينما كبَّر وكبَّر المسلمون معه، وقال لهم: ((لقد أضاءت لي قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ورأيت القصور الحمر في أرض الروم وأمتي ظاهرة عليها، ورأيت قصور صنعاء وأمتي ظاهرة عليها))، فاستبشر المسلمون حينذاك.(1/215)
وكلما تكالبت على المسلمين الخطوب والكوارث واشتد عليهم الخطب يجب أن يفزعوا إلى يقينهم بصدق موعود الله -عز وجل- وأن هذا الدين له، وهو الذي تكفل بنصره والتمكين له في أرضه وسمائه ولو كره الكافرون.
حقيقٌة ينبغي ألا تغيب مهما غامت الرؤى أو غبشت الأجواء: لم يرتبط نصر هذا الدين مصيره بالدول أو الجماعات أو الأفراد.
إن كان الأنبياء قد قتلوا ومع ذلك لم يمتنع أتباعهم عن مواصلة الدعوة والعمل، بل لقد عاتب الله أصحاب نبيه في يوم أحد عندما سرى فيهم الوهن عندما أشيع بين ظهرانيهم أن النبي قد قتل فقال لهم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [(144) سورة آل عمران].
ثانياً: بذل الصحابة في هذه المعركة أمر يستحق التأمل: إن هذا الدين وصل إلينا بعد كفاح مرير من الصحابة والأسلاف، ذاقوا فيه مرارة المصائب والمحن: أنس بن النضر يصاب في هذه الغزوة ببضع وثمانين جرحاً، ثم مثّل به بعدها، فلم يعرفه أحد سوى أخته عرفته ببنانه.
وفي سعد بن الربيع سبعون طعنة. وحمزة بقرت بطنه ومُثّل به، ومصعب بن عمير قطعت ذراعاه ثم قتل.
فماذا قدمنا لديننا؟ وللصحابة الكرام الصحبة والسبق والإقدام، تقطعت منهم الأشلاء، وتمزقت الأجساد، وترمّل النساء، قدموا أرواحهم فداء لهذا الدين، حتى وصل إلينا كاملاً متمّماً.
إن الرجال الذين يكتبون التاريخ بدمائهم وجهادهم، ويوجهون سهامه بعزماتهم هم الذين صلوا هذه الحرب، وبهذه التضحية وحدها حفظوا مصير الإسلام في الأرض.(1/216)
إنها صور قوية للتضحية والبطولة اصطدم بها الكفر في أول المعركة وآخرها فانهزم أمامها، وانسحب من تحت أقدامه الأرض، فما ربح شيئاً في بداية القتال، ولا انتفع بما ربح آخره. وهذا اللون من البطولة مسطر في التاريخ ينتظر من يلقي عليه الضوء، ولن يقوم للإسلام صرح ولن ينكشف عنه طغيان إلا بهذه القوة المذخورة في أفئدة الصديقين والشهداء.
إن النفس البشرية ليست كاملة في واقعها ولكنها في الوقت ذاته قابلة للنمو والارتقاء حتى تبلغ أقصى الكمال المقدر لها في هذه الأرض.
ثالثاً: وبالمعاصي تدور الدوائر: لم يقف تعقيب القرآن على هذه المعركة العظيمة عند حدود المعركة القتالية ودروسها الحية، بل تعرض بوضوح وتفصيل لأعمال إيمانية كثيرة، ذلك أن القرآن كان يعالج المسلمين على أثر معركة لم تكن معركة في ميدان القتال وحده، إنما كانت معركة في القلوب أيضاً ومن ثم عرّج على الرِّبا فنهى عنه، وعرّج على الإنفاق في السراء والضراء فحضّ عليه، وعرّج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة، وعرّج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعرّج على الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار والتوبة وعدم الإصرار، فجعلها مناط الرضوان.
كما عرّج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول ولين قلبه، وعرّج على مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات، وعرّج على الأمانة التي تمنع الغلول، وعرّج على البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على هذه الغزوة من آيات، عرّج على كل هذه الأعمال الصالحة؛ لأن العمل يعتبر مادة مهمة لإعداد الإيمان في نفوس المسلمين، ولم تكن هذه التوجيهات الشاملة بمعزل عن المعركة، فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية، حين تنتصر على نفسها ومعاصيها، فإذا تطهرت الأمة من الذنوب ورجعت إلى الله كان ذلك من عدَّتها في المعركة ولم ينعزل ذلك عن الميدان.(1/217)
وإذا كانت معصيةً واحدة هي المخالفة الجزئية لخطة المعركة كما وقع من الرماة في معركة أحد وتطلّعت بعض النفوس إلى الغنائم المادية وتولى بعض الأفراد حين حمى الوطيس نذائرَ شؤم وأسبابَ هزيمة وخسارة لذلك الجيل الطاهر، جيل النبي وصحابته الكرام، فكيف تنتصر أمة الإسلام اليوم وهي تُلقي كتاب ربها وراءها ظهرياً، وتعبد الدرهم والدينار والريال والدولار، ولا يخطر على بالها جهاد قط حتى لو أُخذت مقدساتها وأخذت أراضيها واستنصرها إخوانها، وتستحل الربا والغلول، وتفعل ما تعرضت له هذه الآيات وما لم تتعرض له، ثم تستبطئ نصر الله الذي وعد به المؤمنين، وتحسب نفسها مؤمنة حق الإيمان؛ لأنها تُصدّق بقلوبها وتُقر بلسانها.
إن مقارنة يسيرة بين حال الأمة في يومها وبين حالها يوم هزمت في معركة أحد وجعلت الهزيمة بسبب معصيتها ومخالفتها لرسولها توحي بأن الأمة اليوم لم تستكمل أسباب النصر والتمكين التي وردت في كتاب الله تعالى وإنما هي في غفلة معرضة، لم ترفع بالدين رأساً في كثير من بقاعها وأصقاعها وفي كثير من أحوالها وأهوالها.
لقد فاضت أرواح في هذه المعركة بسبب خطيئة، وأُخرج آدم من الجنة بمعصيته، ودخلت امرأة النار في هرة.
فالزم يا عبد الله الطاعة والعبودية، يؤخذ بيدك في المضايق، وتُفرج لك الشدائد، ولا تجعل أعمالك جُنداً عليك، فيزداد بها عدوك قوة عليك.
رابعاً: في أحد وقع خطأ حربي مادي عندما خالف الرماة الأمر العسكري، فدفع المسلمون ثمن المخالفة، فمنع الله النصر عن المسلمين كي لا تتعلق القلوب بغير الله، فخطأ واحد مع كل الفضائل المجتمعة ما حال دون العقوبة والجزاء، فكانت أحد درساً مؤثراً، عَمَّق الإيمان، مع خالص الحب والطاعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ففازوا بكامل الإيمان فجاء النصر الدائم المستمر حتى فتح الله عليهم مكة.(1/218)
كانت أحد امتحاناً واختباراً ليعرف المسلمون مراحل إيمانهم، وإلى أية مرحلة وصلوا فمن آثر الآخرة على الدنيا ومغانمها ازداد إيماناً وعلوّا، ومن آثر الدنيا ومغانمها على الآخرة، استدرك ولحق بعد أحد بمن آثر الآخرة على الدنيا
خامساً: وبعد المخالفة جاء العزاء من الله سبحانه مع عفوه للمسلمين {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [(152) سورة آل عمران]، فكان تضميداً للجراح وتبديلاً للنفوس من الوهن إلى القوة ومن اليأس إلى الأمل، فانتقلوا إلى حمراء الأسد يحمل بعضهم بعضاً، فكأنما أحياهم بعد موت، وأوجدهم من عدم، مع أنهم كانوا لا يستطيعون المشي من كثرة جراحاتهم، حملهم إيمانهم لا أبدانهم، وحملهم يقينهم لا صحتهم وأجسامهم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((وأن لا يخرجنّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس))، فرفض -صلى الله عليه وسلم- بذلك الجندي سليم الجسد مريض القلب وقبل الجندي جريح الجسد معافى الإيمان صحيح القلب، فساروا وجراحاتهم في صدورهم وليست في ظهورهم واستجابوا بعد أن مسهم القرح.
سادساً: أراد الله أن يدرك المؤمنون سنة من سننه في خلقه، وهو أن النصر لا يكون إلا بأسبابه، وأن الهزيمة لها أسبابها أيضاً حتى لو كان رسول الله بين الصحابة في المعركة، وهذا يدل بوضوح على أن صلاح العقيدة وحده غير كاف لتحقيق النصر، فللنصر نواميسه وأسبابه، وأن الأخذ بهذه الأسباب من صلاح هذه العقيدة.(1/219)
سابعاً: هيأ الله -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين الصادقين منازل في دار كرامته، فقيض لهم أسباب الابتلاء ليصلوا إليها، بفضله ومنته أولاً، وبصبرهم وجهادهم واستشهادهم ثانياً، فالشهادة من أعلى مراتب المؤمنين المخلصين، فساقهم الله إليها إكراماً لهم، {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [(140-141) سورة آل عمران].
ثامناً: النفاق وما أدراك ما النفاق: لقد تميز الناس على حقيقتهم في معركة أحد فكانوا ثلاث طوائف سوى الكفار، وإذا كان قد مرَّ معنا خبر طائفة من المؤمنين ثبتت حول النبي -صلى الله عليه وسلم- تحوطه وتدافع عنه حتى استشهد من استشهد منهم، وجرح من جرح، فثمة طائفة أخرى من المؤمنين حصل منهم ما حصل من تول وفرار واستزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا، لكن الله عفا عنهم؛ لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق ولا شك، وإنما كان عارضاً كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [(155) سورة آل عمران].(1/220)
أما الطائفة الثالثة التي أراد الله لها أن تتكشف على حقيقتها في هذه المعركة فهي طائفة المنافقين، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وطار لهم الصيت دخل معهم في الإسلام ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حكمة الله -عز وجل- أن سَبّبَ لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأَطْلَعَ المنافقون رؤوسهم في هذه المعركة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه وظهرت مخابئهم، وعاد تلويحهم تصريحاً، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساماً ظاهراً، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم يجب الحذر منهم، قال الله تعالى: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء} [(179) سورة آل عمران]، وكذلك ينبغي أن تكون الشدائد والمحن في كل زمان فيصلاً لتمييز المؤمنين وفضح المنافقين.
تجنّب أخي الحبيب أصحاب السوء؛ فإنهم يخذّلونك في أحوج ما تكون إليهم، هم في النعماء لك أصدقاء، ولكنهم في الشدائد أعداء، وقد انخذل أهل النفاق عن الصحابة في أحلك المواقف، لذا فالزم الصحبة الصالحة، فهم حافظون لك في الغيب والشهادة، لنفعك يسعون، وعنك يذودون.
تاسعاً: الشباب هم عماد الأمة في أزماتها: في هذه المعركة قاتل سمرة ورافع وهما ابنا خمس عشرة سنة، وعلى دماء فتيان الصحابة علا هذا الدين، لا لهوٌ في الأوقات، ولا مرح في الشهوات، سعى الآباء لإصلاحهم، فجنوا ثمرة صلاحهم، فماذا قدّم شبابنا لدينهم؟ وما هي همتهم؟ وما همهم؟ وما تطلعاتهم؟ وبم تعلقهم؟.
عاشراً: الدعوة إلى الله هي الأساس: للحق جولة، وللباطل صولة، والعاقبة للتقوى، فلا تيأس من إصلاح المجتمع، ولا تقنط من هدايته، لقد صبر النبي على الأذى والجراح، حتى دخل الناس أفواجاً في دين الله.(1/221)
إن عواقب الأمور كلها بيد الله، فامض في الدعوة إلى الله، وداوم على الدعاء، وهداية البشر بيد خالق البشر.
أبو سفيان في معركة أحد قاد المشركين وكان شعاره: "اعلُ هُبل" وفي فتح مكة يقول: "لا إله إلا الله". ووحشي يقتل حمزة، ثم يسلم ويقتُل مدعي النبوة مسيلمة الكذاب.
الحادي عشر: احذر على نفسك التقلب، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، واسأله دوماً الثبات، والعبد وإن استغرق في العصيان فالتوبة تحط الأوزار وإن بلغت العنان.
خالد بن الوليد يقود خيَّالة الكفر في معركة أحد، وقُتِل على يديه فضلاء الصحابة ولما شرح الله صدره للإسلام أتى يبايع النبي وقال:" يا رسول الله، إني أشترط أن تغفَر زلتي"، فقال: ((يا خالد، أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن التوبة تجُبُّ ما قبلها؟))، فأنقذ نفسك من وحل الأوزار، وأَقبل على ربك بعيداً عن الآثام، فالحسنات يذهبن السيئات، ولا تستنكف عن التمسك بهذا الدين، فحوله سالت الدماء.
الثاني عشر: المرء قد يبتلى بذوي القربى والأرحام، فاصبر على ما تلاقيه منهم فأقارب النبي تركوا أوطانهم وأموالهم، وقدموا إلى المدينة لقتله وفعلوا ما لم يفعله غالب الكفار، من تمثيلهم بالقتلى، مع أنهم بنو عمه، وفي الفتح عفا عنهم وصفح، وقال: ((أنتم الطلقاء))، فاتخذ النبي قدوة لك في الحلم والعفو، وصل رحمك، وغض الطرف عما يسوؤك منهم.
الثالث عشر: في الفرقة والنزاع تبعثَر الجهود، وفي الألفة والاتفاق صفاء القلوب، فاحذر من تفرق الكلمة والاختلاف في الرأي، فهي الهزيمة، {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [(46) سورة الأنفال].
الرابع عشر: لا تأمن المعصية من جانب المسرة، وحلاوة الفرح قد تختلط بمرارة الحزن، والصحابة الكرام -رضي الله عنهم- فرحوا بالغنيمة، ونزل الرماة لجمعها فلحقتهم الهزيمة، والدنيا لا تدوم على حال، فكن صابراً على لأوائها، شاكراً لله في نعمائها.(1/222)
الخامس عشر: الأنبياء عبيد مخلوقون، يعتريهم ما يعتري البشر، لا يُرفعون فوق منزلة العبودية، ولا يُحَطُّ من شأنهم، والنبي ظاهر بين درعين ولبس لأْمة الحرب، وكافح معه الصحابة، وقاتل عنه جبريل وميكائيل أشد القتال، ومع هذا شُجَّ في وجهه، وكسرت رَباعيته، والأمر لله من قبل ومن بعد، وهو سبحانه وحده النافع الضار، ولو كان يملك لنفسه شيئاً ما سال الدم منه، فاصرف عبادتك للجبار، وتذلل بين يدي القهار، تتحقق لك بإذن الله المسارّ.
السادس عشر: من مروآت الأفعال العرفان لمن خدم الدين، ومن جميل الخلال الوفاء للأصحاب، ودماء شهداء أحد بقيت في نفس الرسول إلى السنة التي مات فيها، فصلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين، كالمودع لهم، فأَجِلّ نبلاء هذا الدين، واحفظ ودَّ خِلاَّنك، وارع حق صحبتهم واحفظ سرهم، يقول أبو سفيان: "ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً، كحب أصحاب محمد محمداً"، {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ* سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ* وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [(4-6) سورة محمد].(1/223)
السابع عشر: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم واستعمارهم واحتلالهم لبلدان المسلمين، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم، وقد أشار القرآن إلى ذلك ضمن الآيات التي تتحدث عن هذه المعركة فقال سبحانه: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ* وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [(139-141) سورة آل عمران].
الثامن عشر: إن المنهزم هو الذي هزم في دينه وعقيدته وولائه وبرائه، أما الذي انتصر في دينه وعقيدته وولائه وبرائه فهو الفائز فوزاً كبيراً ولو قتل وسحق ومحق؛ لأن الفوز هو فوز الآخرة لا فوز الدنيا، فأحدٌ نصر لا هزيمة، معركة فياضةٌ بالعبر والعظات، أحداثها صفحات ناصعة، يتوارثها الأجيال بعد الأجيال، أنزل الله فيها ستين آية في كتابه المبين، كان لها أثر عميق في نفس النبي ظل يذكره إلى قبيل وفاته.
إن عادة الرسل أن تُبتلى وتكون لها العاقبة، والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائماً دخل في المؤمنين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائماً لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين؛ لتمييز الصادق من الكاذب، ولو قطع الله كل يد امتدت إلى رسوله في حينه لما بقي إسلام بعده، فلا صبر لداعية، ولا تحمُّل لمسلم، وتحمّله -صلى الله عليه وسلم- أسوة وقدوة لتحمل الدعاة المجاهدين من بعده، وتأخير النصر في بعض المواطن حكمة فهو لتربية النفوس ولكسر شموخها وتعاظمها.(1/224)
التاسع عشر: جبل أُحُد لا يتبرَّك بترابه، ولا تلتقَط حصياته، فعنده قتِل سبعون، وبجانبه جرِح الرسول ولو كانت تغني شيئاً لما حل المصاب، ففوّض أمرك إلى الله، والجأ إليه في كشف الملمات.
ثم إن الإنسان كثيراً ما يربط بين المصيبة وبين مكانها أو زمانها، وحتى لا تنسحب هذه العادة وتستمر بعد أن جاء الإسلام قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أحد جبل يحبنا ونحبه))، فكان هذا القول الكريم بيناً للحق وابتعاداً عن الطيرة والتشاؤم.
العشرون: هذا الثبات العجيب من النبي -صلى الله عليه وسلم-، يقول لك: هكذا تكون القيادة الحقيقية: القائد يجب عليه أن يكون في مقدمة الصفوف مع جنده وذلك من أعظم أسباب رفع المعنويات ونحن نرى اليوم نماذج من القادة -نسأل الله العفو والسلامة -يُنشِبون الحروب ويوقعون شعوبهم في حروب عظيمة وهم إما في مخبأ تحت الأرض من الخرسانات المسلحة، أو على بعد آلاف الكيلومترات من أرض المعركة.
فسبحان الله الفرق بين هذه القيادة النبوية وبين غيرها من القيادات الفاشلة، ثم هذه الشجاعة الفائقة منه -صلى الله عليه وسلم-، جميع الأسلحة المستخدمة في ذلك العصر تفعل فعلها وتدور رحاها من حوله، الرماح والسيوف والسهام وهو ثابت لا يتزحزح -صلى الله عليه وسلم- فكانت هذه الشجاعة من أهم أسباب إنقاذ جيشه من الإبادة التامة والهزيمة الكاملة.
فيا حسرتا على المسلمين في هذا العصر إنهم محرومون من القيادات الحقيقية، فإلى جانب ما ابتلي به المسلمون اليوم من القيادات الهزيلة فقد ابتلوا أيضاً بالقيادات العميلة، التي جرّت على الأمة نكبات جسام وهزائم كبار فحسبنا الله ونعم الوكيل.
والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلى الله وسلم وبارك...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس الثاني عشر
أهمّ الأحداث بعد غزوة أحد
غزوة يهود بني النضير
غزوة ذات الرقاع
غزوة بني المصطلِق(1/225)
بعد غزوة أحد وقبل غزوة الأحزاب حصل عدد من الأحداث المهمة:
الحدث الأول: مقتل خالد بن سفيان الهذلي:
قام خالد بن سفيان الهذلي يجمع المقاتلة من هذيل وغيرها في عرفات، وكان يتهيأ لغزو المسلمين في المدينة مظاهرةً لقريش، وتقربًا إليها، ودفاعًا عن عقائدهم الفاسدة، وطمعًا في خيرات المدينة, فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحابي عبد الله بن أنيس الجهني إليه بعد أن كلّفه مهمة قتله.
وهذا عبد الله بن أنيس يحدثنا بنفسه قال –رضي الله عنه-: "دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان يجمع لي الناس ليغزوني وهو بعرنة فأته فاقتله))، قال: قلت: "يا رسول الله انعته حتى أعرفه"، قال: ((إذا رأيته وجدت له قشعريرة)).(1/226)
قال: "فخرجت متوشحًا بسيفي، حتى وقعت عليه بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلاً، حين كان وقت العصر, فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من القشعريرة، فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أوميء برأسي الركوع والسجود، فلما انتهيت إليه قال: من الرجل؟، قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لهذا، قال: أجل أنا في ذلك، قال: فمشيت معه شيئاً، حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرآني فقال: ((أفلح الوجه))، قال: قلت: قتلته يا رسول الله، قال: ((صدقت))، قال: ثم قام معي رسول الله فدخل في بيته فأعطاني عصا، فقال: ((أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس))، قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟ قال: قلت أعطانيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمرني أن أمسكها، قالوا: أوَلا ترجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتسأله عن ذلك؟ قال: فرجعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله لمَ أعطيتني هذه العصا؟ قال: ((آية بيني وبينك يوم القيامة))، فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت معه في كفنه، ثم دفنا جميعًا.
كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطي للجانب الأمني أهميته، ولذلك كان يتابع تحركات الأعداء، ويعدّ بعد ذلك الحلول المناسبة للمشكلات والأزمات في وقتها الملائم، ولذلك لم يمهل خالد بن سفيان حتى يكثر جمعه ويشتد ساعده، بل عمل على القضاء على الفتنة وهي في أيامها الأولى بحزم، وبذلك حقق للأمة مكاسب كبيرة وقلل التضحيات المتوقعة من مجيء خالد بن سفيان بجيش لغزو المدينة، وهذا العمل يحتاج لقدرة في الرصد الحربي، وسرعة في اتخاذ القرار.(1/227)
وأيضاً فراسة النبي -صلى الله عليه وسلم- في اختيار الرجال: كان -صلى الله عليه وسلم- يتمتع بفراسة عظيمة في اختيار الرجال ومعرفة كبيرة لذوي الكفاءات من أصحابه، فكان يختار لكل مهمة من يناسبها، فيختار للقيادة من يجمع بين سداد الرأي وحسن التصرف والشجاعة، ويختار للدعوة والتعليم من يجمع بين غزارة العلم ودماثة الخلق والمهارة في اجتذاب الناس، ويختار للوفادة على الملوك والأمراء من يجمع بين حسن المظهر وفصاحة اللسان وسرعة البديهة، وفي الأعمال الفدائية يختار من يجمع بين الشجاعة الفائقة وقوة القلب والمقدرة على التحكم في المشاعر، فقد كان عبد الله بن أنيس الجهني قوي القلب ثبت الجنان، راسخ اليقين، عظيم الإيمان، وبجانب هذه الصفات العظيمة التي أهلته لهذه المهمة فهناك سبب آخر فقد كان يمتاز بمعرفة مواطن تلك القبائل لمجاورتها ديار قومه جهينة.
الحدث الثاني: غدر قبيلتي عضل والقارة، وفاجعة الرجيع:
قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رهط من قبيلتي عضل والقارة المضريتين إلى المدينة وقالوا: "إن فينا إسلامًا فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهونا ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام".
ويظهر أن قبيلة هذيل قد سعت للثأر من المسلمين لخالد بن سفيان الهذلي فلجأت إلى الخديعة والغدر، حيث مشت إلى عضل والقارة، وجعلت لهم جعلًا ليخرجوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويطلبوا منه أن يخرج معهم من يدعوهم إلى الإسلام ويفقههم في الدين، فيكمنوا لهم ويأسروهم ويصيبوا بهم ثمنًا في مكة.(1/228)
وهكذا بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه السرية التي تتألف من عشرة من الصحابة، وجعل عليهم عاصم بن ثابت بن الأقلح أميرًا، حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة أغار بنو لحيان، وهم قريب من مائتي مقاتل، فألجؤوهم إلى تل مرتفع بعد أن أحاطوا بهم من كل جانب، ثم أعطوهم الأمان من القتل، ولكن قائد السرية أعلن رفضه أن ينزل في ذمة كافر, وقال عاصم بن ثابت: "إني نذرت ألا أقبل جوار مشرك أبدًا"، فجعل عاصم يقاتلهم، فرماهم بالنبل حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم بالرمح حتى كسر رمحه، وبقي السيف فقال: اللهم حميت دينك أول نهاري فاحم لي لحمي آخره، وكانوا يجردون كل من قتل من أصحابه, فكسر غمد سيفه ثم قاتل حتى قُتل، وقد جرح رجلين وقتل واحدًا، ثم شرعوا فيه الأسنة حتى قتلوه، وكانت سلافة بنت سعد قد قُتل زوجها وبنوها أربعة، قد كان عاصم قتل منهم اثنين، فنذرت لأن أمكنها الله منه أن تشرب في قحف رأسه الخمر، وجعلت لمن جاء برأس عاصم مائة ناقة، قد علمت بذلك العرب وعلمته بنو لحيان, فأرادوا أن يحتزوا رأس عاصم ليذهبوا به إلى سلافة بنت سعد ليأخذوا منها مائة ناقة، فبعث الله تعالى عليهم الدبر فحمته, فلم يدنُ إليه أحد إلا لدغت وجهه، وجاء منها شيء كثير لا طاقة لأحد به، فقالوا: دعوه إلى الليل، فإنه إذا جاء الليل ذهب عنه الدبر، فلما جاء الليل بعث الله عليه سيلاً ولم يكن في السماء سحاب في وجه من الوجوه، فاحتمله فذهب به فلم يصلوا إليه.
لقد قتل عاصم في سبعة من أفراد السرية بالنبال، ثم أعطى الأعراب الأمان من جديد للثلاثة الباقين, فقبلوا غير أنهم سرعان ما غدروا بهم بعد ما تمكنوا منهم, وقد قاومهم عبد الله بن طارق فقتلوه واقتادوا الاثنين إلى مكة، وهما خبيب وزيد بن الدثنة فباعوهما لقريش, وكان ذلك في صفر سنة 4 هـ.(1/229)
فأما خبيب فقد اشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل ليقتلوه بالحارث الذي كان خبيب قد قتله يوم بدر، فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله استعار خبيب موساً من بنات الحارث استحد بها فأعارته، وغفلت عن صبي لها فجلس على فخذه، ففزعت المرأة لئلا يقتله انتقاماً منه، فقال خبيب: "أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى"، فكانت تقول: "ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد, وما كان إلا رزقًا رزقه الله".
فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: "دعوني أصلي ركعتين"، ثم انصرف إليهم فقال: "لولا أن تروا ما بي جزع من الموت لزدت" فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو, ثم قال: "اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا ولا تبق منهم أحدًا" ثم قال:
لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وكلهم مبدي العداوة جاهد ... عليَّ لأني في وثاق بمضيع
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضَّعوا لحمي وقد ياس مطمعي
وقد خيروني الكفر، والموت دونه ... فقد ذرفت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت ... وإن إلى ربي إيابي ومرجعي
ولست أبالي حين أُقتل مسلمًا ... على أي شق كان في الله مضجعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلوٍ مُمزع
فلست بمبدٍ للعدو تخشعً ... ولا جزعًا إني إلى الله مرجعي
فقال له أبو سفيان: "أيسرك أن محمدًا عندنا يضرب عنقه وأنك في أهلك"، فقال: "لا والله، ما يسرني أني في أهلي، وأن محمدًا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه", ثم قُتل وصلبوه ووكلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بجذعه ليلاً، فذهب به ودفنه.(1/230)
وأما زيد بن الدثنة فاشتراه صفوان بن أمية وقتله بأبيه أمية بن خلف الذي قتل ببدر، وقد سأله أبو سفيان قبل قتله: "أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدًا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟"، فقال: "والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي"، فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد محمدًا، وقد عرفت هذه الحادثة المفجعة بالرجيع؛ نسبة إلى ماء الرجيع الذي حصلت عنده.
في هذه القصة:
- أن للأسير أن يمتنع من قبول الأمان ولا يمكّن من نفسه ولو قتل، أنفة من أن يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإن أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأمن.
- وفيها تعظيم سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وكيف أن خبيبًا مع أنه في أسر المشركين، ويعلم أنه سيقتل بين عشية أو ضحاها, ومع ذلك كان حريصًا على سنة الاستحداد، واستعار الموس لذلك، وفي هذا تذكير لمن يستهين بكثير من السنن، بل والواجبات بحجة أنه لا ينبغي أن ينشغل المسلمون بذلك للظروف التي تمر بها الأمة، وفي الواقع لا منافاة بين تعظيم السنة والدخول في شرائع الإسلام كافة.
وعندما استعار خبيب الموس من بعض بنات الحارث ليستحدّ بها فأعارته، قالت المرأة: "فغفلت عن صبي لي، تدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه، فلما رأته فزعت منه فزعة عرف ذلك مني، وفي يده الموس، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله".
إنه موقف رائع يدل على سمو الروح، وصفاء النفس، والالتزام بالمنهج الإسلامي فقد قال تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [(164) سورة الأنعام]، إنه الوفاء يتعلمه الناس ممن غدر بهم.
إن الاستقامة طبيعة سلوك المسلم في حالتي الرخاء والشدة.(1/231)
وفي قول خبيب –رضي الله عنه-: "ما كنت لأفعل إن شاء الله" يشير هذا الأسلوب في البيان العربي إلى أن هذا الفعل غير وارد ولا متصور ولا هو في الحسبان في هذا الظرف الحاسم، الذي قد يتعلق فيه الاستثناء لموقع الضرورة وإنقاذ المهج، لكن المبدأ الأصلي، الوفاء والكف عن البرءاء، لا تنهض له هذه الاعتبارات الموهومة.
وهذا مثل من عظمة الصحابة -رضي الله عنهم- حين يطبقون أخلاق الإسلام على أنفسهم مع أعدائهم, وإن كانوا قد ظلموهم، وهذا دليل على وعيهم وكمال إيمانهم.
الحدث الثالث: طمع عامر بن الطفيل في المسلمين وفاجعة بئر معونة:
عامر بن الطفيل زعيم من زعماء بني عامر كان متكبرًا متغطرسًا، طامعًا في الملك، وكان يرى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سوف تكون له الغلبة على الجزيرة العربية، ولذلك جاء هذا المشرك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال له: "أخيرك بين ثلاث خصال: أن يكون لك السهل، ولي أهل المدر، أو أن أكون خليفتك من بعدك, أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء"، فرفض -صلى الله عليه وسلم- تلك المطالب الجاهلية.
وجاء إلى المدينة ملاعب الأسنة سيد بني عامر عم عامر بن الطفيل وقدّم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هدية، فعرض عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- الإسلام فأبى أن يسلم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((فإني لا أقبل هدية من مشرك))، فقال ملاعب الأسنة: "فابعث إلى أهل نجد من شئت فأنا لهم جار"، فبعث إليهم بقوم فيهم المنذر بن عمرو، وهو الذي يقال له: المعتق ليموت، أو أعتق الموت، فاستجاش عليهم عامر بن الطفيل بني عامر فأبوا أن يطيعوه، وأبوا أن يخفروا ملاعب الأسنة، فاستجاش عليهم بني سليم فأطاعوه، فاتبعهم بقريب من مائة رجل رام فأدركهم ببئر معونة، فقتلوهم إلا عمرو بن أمية.(1/232)
ومن حديث أنس –رضي الله عنه- قال: جاء ناس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: أن ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم: القرّاء فيهم خالي حرام، يقرؤون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيؤون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فعرضوا لهم فقتلوهم، قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: "اللهم بلغ عنّا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا"، قال: وأتى رجل حرامًا خال أنس من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت وربِّ الكعبة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: ((إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنّا نبينا أنا قد لقيناك، فرضينا عنك ورضيت عنا)).
وفي هذه الحادثة المؤلمة، والفاجعة المفجعة عبر وفوائد منها:
- أنه لا بد للدعوة من تضحيات: رأينا كيف غدر حلفاء هذيل بأصحاب الرجيع من القراء، الذين أرسلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- معلمين ومفقهين في غزوة الرجيع، وها هنا عامر بن الطفيل يغدر بالسبعين القرّاء، الذين استُنفروا للدعوة إلى الله، والتفقيه في دين الله في مجزرة رهيبة دنيئة، وذلك في يوم بئر معونة، وقد تركت هذه المصائب في نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آثارًا غائرة، بعيدة الأعماق حتى إنه لبث شهرًا يقنت في صلاة الفجر، داعيًا على قبائل سليم التي عصت الله ورسوله، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح، في دبر كل صلاة، إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من بني سليم، على رعل وذكوان وعصية, ويؤمِّن من خلفه", قال أنس بن مالك –رضي الله عنه-: "وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت".(1/233)
لكن ذلك لم يفت في عضد المسلمين، ولا فتر من حميتهم في الدعوة إلى الله, ولا كسر من عزمهم في مواصلة الدعوة وخدمة دين الله؛ لأن مصلحة الدعوة فوق الأنفس والدماء، بل إن الدعوة لا يكتب لها النصر إذا لم تبذل في سبيلها الأرواح، ولا شيء يمكّن للدعوة في الأرض مثل الصلابة في مواجهة الأحداث والأزمات واسترخاص التضحيات من أجلها.
إن الدعوات بدون قوى أو تضحيات، يوشك أن تكون بمثابة فلسفات وأخيلة تلفها الكتب وترويها الأساطير ثم تطوى مع الزمن.
إن حادثتي الرجيع وبئر معونة تبصرنا بالمسؤولية الضخمة عن دين الله والدعوة إليه، ووضعت نصب أعيننا نماذج من التضحيات العظيمة التي قدمها الصحابة الكرام من أجل عقيدتهم ودينهم ومرضاة ربهم.
إن للسعادة ثمنًا، وإن للراحة ثمنًا، وإن للمجد والسلطان ثمنًا، وثمن هذه الدعوة دم زكي يهراق في سبيل الله من أجل تحقيق شرع الله ونظامه, وتثبيت معالم دينه على وجه البسيطة.
- الفائدة الثانية: في قول حرام بن ملحان -رضي الله عنه-: "فزت ورب الكعبة" عندما اخترق الرمح ظهره حتى خرج من صدره، وأصبح يتلقى الدم بيديه، ويمسح به وجهه ورأسه ويقول: "فزت ورب الكعبة".
إن هذا المشهد يجعل أقسى القلوب وأعظمها تحجرًا يتأثر ويستصغر نفسه أمام هؤلاء العظماء الذين لا تصفرّ وجوههم فزعًا من الموت، وإنما يعلوها البشر والسرور، وتغشاها السكينة والطمأنينة.
وهذا المنظر البديع الرائع الذي لا يتصوره العقل البشري المجرد عن الإيمان جعل جبّار بن سَلمى وهو الذي طعن حرام بن ملحان يتساءل عن قول حرام: "فزت ورب الكعبة"، وهذا جبّار يحدثنا بنفسه فيقول: "إن مما دعاني إلى الإسلام، أني طعنت رجلاً منهم يومئذ برمح بين كتفيه فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره فسمعته يقول: "فزت ورب الكعبة"، فقلت في نفسي: "ما فاز؟ ألست قد قتلت الرجل؟ حتى سألت بعد ذلك عن قوله، فقالوا: للشهادة، فقلت: فاز لعمر الله"، فكان سببًا لإسلامه.(1/234)
الحدث الرابع: غزوة يهود بني النضير:
أصاب يهود المدينة الخوف والرعب طيلة الفترة التي تفصل بين مقتل كعب بن الأشرف وبين معركة أحد، ولكن الهزيمة التي حلت بالمسلمين في تلك المعركة، أحيت في نفوس المشركين والمنافقين الأمل من جديد، بتحقيق مطامعهم وأغراضهم، وأزالت من قلوب اليهود الهلع على المصير، ومما ساهم في تبديد هذا الهلع عندهم مقتل أصحاب الرجيع، وبئر معونة, وبذلك لم يدم خوف اليهود طويلاً وعادوا إلى أساليب الدس والمكر والخداع، وشرعوا في حشد حصونهم بالسلاح والعتاد للانقضاض على المسلمين ودولتهم، ثم صمموا على قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- والغدر به.
هناك مجموعة من الأسباب حملت النبي -صلى الله عليه وسلم- على غزوة بني النضير وإجلائهم من أهمها:
- نَقْض بني النضير عهودهم التي تحتم عليهم ألا يؤووا عدوًا للمسلمين، ولم يكتفوا بهذا النقض، بل أرشدوا الأعداء إلى مواطن الضعف في المدينة.
وقد حصل ذلك في غزوة السويق حيث نذر أبو سفيان بن حرب حين رجع إلى مكة بعد غزوة بدر، نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو المدينة، فلما خرج في مائتي راكب قاصدًا المدينة قام سيد بني النضير، سلاّم بن مشكم بالوقوف معه وضيافته وأبطن له خبر الناس، ولم تكن مخابرات المدينة غافلة عن ذلك.
- وأيضاً محاولة اغتيال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فقد خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفر من أصحابه عن طريق قباء إلى ديار بني النضير يستعينهم في دية القتيلين العامرين اللذين ذهبا ضحية جهل عمرو بن أمية الضمري بجوار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهما، وذلك تنفيذاً للعهد الذي كان بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين بني النضير حول أداء الديات، وإقرارًا لما كان يقوم بين بني النضير وبين بني عامر من عقود وأحلاف.(1/235)
استقبل بنو النضير النبي -صلى الله عليه وسلم- بكثير من البشاشة والكياسة، ثم خلا بعضهم إلى بعض يتشاورون في قتله والغدر به، واتفقوا على إلقاء صخرة عليه -صلى الله عليه وسلم- من فوق جدار كان يجلس بالقرب منه، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي كان برعاية الله وحفظه أدرك مقاصد بني النضير، إذ جاءه الخبر من السماء بما عزموا عليه من شر، فنهض وانطلق بسرعة إلى المدينة، ثم تبعه أصحابه بعد قليل.
لم تكن مؤامرة بني النضير، التي أفشلها الله -سبحانه وتعالى- تستهدف شخص النبي -صلى الله عليه وسلم- فحسب، بل كانت تستهدف كذلك دولة المدينة والدعوة الإسلامية برمتها، لذا صمم النبي -صلى الله عليه وسلم- على محاربة بني النضير، الذين نقضوا العهد والمواثيق معه وأمر أصحابه بالتهيؤ لقتالهم والسير إليهم.
وقد ذكَّر القرآن الكريم المؤمنين بهذه النعمة الجليلة وكيف نجى الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- من مكر يهود بني النضير, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [(11) سورة المائدة].
أنذر النبي -صلى الله عليه وسلم- بني النضير بالجلاء خلال عشرة أيام، وقد أرسل محمد بن مسلمة إليهم، وقال له: ((اذهب إلى يهود بني النضير، وقل لهم: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي؛ لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم مما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشرًا، فمن رُئي بعد منكم ضربت عنقه))، ولم يجدوا جوابًا يردون به سوى أن قالوا لمحمد بن مسلمة: يا محمد، ما كنا نظن أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس, فقال محمد: "تغيرت القلوب، ومحا الإسلام العهود"، فقالوا: نتحمل، فمكثوا أياما يعدون العدة للرحيل.(1/236)
وفي تلك المدة أرسل إليهم عبد الله بن أبي بن سلول من يقول لهم: "اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم, ولا تخرجوا فإن معي من العرب وممن انضوى إلى قومي ألفين، فأقيموا؛ فهم يدخلون معكم حصونكم، ويموتون عن آخرهم قبل أن يصلوا إليكم".
فعادت لليهود بعض ثقتهم، وتشجع كبيرهم حيي بن أخطب وأرسل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول له: "إنا لن نبرح دارنا فاصنع ما بدا لك"، فكبَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكبَّر المسلمون معه، وقال: ((حاربت يهود)).
انقضت الأيام العشرة ولم يخرجوا من ديارهم، فتحركت جيوش المسلمين صوبهم، وضربت عليهم الحصار لمدة خمس عشرة ليلة.
وأمر -صلى الله عليه وسلم- بحرق نخيلهم، وقضى بذلك على أسباب تعلقهم بأموالهم وزروعهم, وضعفت حماستهم للقتال، وجزعوا وتصايحوا: "يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من يفعله, فما بال قطع النخيل وتخريبها؟"، وألقى الله في قلوبهم الرعب، وأدرك بنو النضير أن لا مفر من جلائهم، ودب اليأس في قلوبهم وخاصة بعد أن أخلف ابن أبيّ وعده بنصرهم، وعجز إخوانهم أن يسوقوا إليهم خيرًا أو يدفعوا عنهم شرًا, فأرسلوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يلتمسون منه أن يؤمنهم حتى يخرجوا من ديارهم، فوافقهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك وقال لهم: ((اخرجوا منها، ولكم دماؤكم وما حملت الإبل إلاّ الدروع والسلاح))، فرضوا بذلك.
ونقض اليهود سقف بيوتهم وعمدها وجدرانها لكي لا ينتفع منها المسلمون، وحملوا معهم كميات كبيرة من الذهب والفضة حتى أن سلام بن أبي الحقيق وحده حمل جلد ثور مملوءًا ذهبًا وفضة، وكان يقول: "هذا الذي أعددناه لرفع الأرض وخفضها، وإن كنا تركنا نخلاً ففي خيبر النخل".(1/237)
وحملوا أمتعتهم على ستمائة بعير، وخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن من خلفهم, حتى لا يشمت بهم المسلمون, فقصد بعضهم خيبر وسار آخرون إلى أذرعات الشام.
وقد تولى عملية إخراجهم من المدينة محمد بن مسلمة بأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان من أشرافهم الذين ساروا إلى خيبر: سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فلما نزلوها دان لهم أهلها.
تحدث القرآن الكريم عن غزوة بني النضير في سورة كاملة وهي سورة الحشر، وقد سمى حبر الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- سورة الحشر بسورة بني النضير، وقد بينت هذه السورة ملابسات هذه الغزوة، وفصلت القول فيها، وبينت أحكام الفيء, ومن هم المستحقون له، وأوضحت موقف المنافقين من اليهود، كما كشفت عن حقائق نفسيات اليهود، وضربت الأمثال لعلاقة المنافقين باليهود، وفي أثناء الحديث عن الغزوة وجه سبحانه خطابه إلى المؤمنين وأمرهم بتقواه وحذرهم من معصيته، ثم تحدث سبحانه عن القرآن الكريم، وأسمائه وصفاته، وهكذا كان المجتمع المسلم يتربى بالأحداث على التوحيد وتعظيم منهج الله، والاستعداد ليوم القيامة.(1/238)
ومن المستجدات بعد هذه الغزوة، تطوير السياسة المالية للدولة الإسلامية: فقد بيَّن -سبحانه وتعالى- حكم الأموال التي أخذها المسلمون من بني النضير بعد أن تم إجلاؤهم, فقال تعالى: {وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [(6) سورة الحشر]، وبيَّن -سبحانه وتعالى- أن الأموال التي عادت إلى المسلمين من بني النضير قد تفضل بها عليهم بدون قتال شديد؛ وذلك لأن المسلمين مشوا إلى أعدائهم ولم يركبوا خيلاً ولا إبلاً وافتتحها -صلى الله عليه وسلم- صلحًا، وأجلاهم، وأخذ أموالهم ووضعها حيث أمره الله، فقد كانت أموال بني النضير للنبي -صلى الله عليه وسلم- خاصة، ثم بيَّن المولى -عز وجل- أحكام الفيء في قرى الكفار عامة, فقال تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [(8) سورة الحشر]، فكانت هذه الغنيمة خالصة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولهذا تصرف فيه كما يشاء فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله -عز وجل- في هذه الآيات.(1/239)
ولما غنم -صلى الله عليه وسلم- أموال بني النضير، دعا ثابت بن قيس فقال: ((ادع لي قومك))، قال ثابت: "الخزرج؟"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((الأنصار كلها))، فدعا له الأوس والخزرج، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم في منازلهم وأموالهم، وأثرتهم على أنفسهم ثم قال: ((إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليَّ من بني النضير، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم))، فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: "يا رسول الله، بل نقسم بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا"، وقالت الأنصار: "رضينا وسلمنا يا رسول الله".
وقسم ما أفاء الله، وأعطى المهاجرين ولم يعط أحدًا من الأنصار شيئًا غير أبي دجانة وسهل بن حنيف لحاجتهما، ومع أنه -صلى الله عليه وسلم- يعلم أن الفيء كان خاصًّا له إلا أنه جمع الأنصار وسألهم عن قسمة الأموال لتطييب نفوسهم، وهذا من الهدي النبوي الكريم في سياسة الأمور.
وكانت الغاية من هذا التوزيع تخفيف العبء عن الأنصار، وهكذا انتقل المهاجرون إلى دور بني النضير، وأعيدت دور الأنصار إلى أصحابها، واستغنى بعض المهاجرين مما يمكن أن يقال فيه: إن الأزمة قد بدأت بالانفراج.
إن قسمة أموال بني النضير أوجدت تطورًا كبيرًا في السياسة المالية للدولة الإسلامية، فقد كانت الغنائم الحربية قبل هذه الغزوة تقسم بين المحاربين بعد أن تأخذ الدولة الإسلامية خمسها لتصرف في مصارف معينة حددها القرآن الكريم، وبعد غزوة بني النضير، أصبحت هناك سياسة مالية جديدة فيما يتعلق بالغنائم، وخلاصتها: أن الغنائم الحربية أصبحت حسب السياسة الجديدة على نوعين:
1- غنائم استولى عليها المجاهدون بحد سيوفهم، وهذه الغنائم تقسم بين المجاهدين بعد أن تأخذ الدولة خمسها لتصرفه في مصارفه الخاصة.(1/240)
2- غنائم يوقعها الله بأيدي المجاهدين دون قتال، وهذا النوع يختص رئيس الدولة الإسلامية بالتصرف فيه حسب ما يرى المصلحة في ذلك، يعالج به الأوضاع الاقتصادية في البلاد، فينقذ الفقراء من فقرهم، أو يشتري به سلاحًا، أو يبني به مدينة أو يصلح به طرقا أو غير ذلك، وهذا يعني أنه قد أصبح لرئيس الدولة الإسلامية ميزانية خاصة يتصرف فيها تصرفًا سريعًا حسب مقتضيات المصلحة.
الحدث الخامس: غزوة ذات الرقاع:
وكان سببها ما ظهر من الغدر لدى كثير من قبائل نجد بالمسلمين، ذلك الغدر الذي تجلى في مقتل أولئك الدعاة السبعين الذين خرجوا يدعون إلى الله تعالى، فخرج -صلى الله عليه وسلم- قاصدًا قبائل محارب وبني ثعلبة، عندما جاءه الخبر أن بني محارب وبني ثعلبة من غطفان قد جمعوا الجموع لحرب المسلمين، فما كان منه -صلى الله عليه وسلم- إلا أن سار إليهم في عقر دارهم على رأس أربعمائة مقاتل وقيل: سبعمائة مقاتل، ولما وصل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ديارهم خافوا وهربوا إلى رؤوس الجبال، تاركين نساءهم وأطفالهم وأموالهم، وحضرت الصلاة فخاف المسلمون أن يغيروا عليهم، فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف، وعاد بعدها إلى المدينة.
وقد حققت هذه الحملة العسكرية أغراضها، وتمكنت من تشتيت الحشد الذي قامت به غطفان لغزو المدينة فأرهب تلك القبائل وألقى عليها درسًا بأن المسلمين ليسوا قادرين فقط على سحق من تحدثه نفسه بالاقتراب من المدينة، بل قادرين على نقل المعركة إلى أرض العدو نفسه وضربه في عقر داره.(1/241)
وسميت بذات الرقاع؛ لأنهم كانوا يربطون على أرجلهم من الخرق والرقاع اتقاء الحر، روى الشيخان بسنديهما عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نتعقبه، فنقبت أقدامنا، ونقبت قدماي، وسقطت أظفاري، وكنا نَلُفُّ على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع؛ لما كنا نعصب بالخرق على أرجلنا".
وأنزل الله تعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف في هذه الغزوة، وبيَّن القرآن الكريم صفة الصلاة ساعة مواجهة العدو قال تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [(102) سورة النساء].
فقد صلى المسلمون صلاة الخوف، وصفة هذه الصلاة أن طائفة صفت معه، وطائفة في وجه العدو، فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت في صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم.
ولها صفات أخرى ذكرها العلماء في موضعها ليس هنا مجال التفصيل فيه.(1/242)
وكانت هذه الصلاة بمنطقة نخل تبعد عن المدينة يومين، ودل تشريع صلاة الخوف على أهمية الصلاة، فحتى في قلب المعركة لا يمكن التساهل فيها، ولا يمكن التنازل عنها مهما كانت الظروف، وبذلك تندمج الصلاة والعبادة بالجهاد وفق المنهاج النبوي في تربية الأمة الذي استمد من كتاب الله تعالى، فلا يوجد أي انفصال أو انفصام بين العبادة والجهاد.
وعندما قفل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة ذات الرقاع أدركته القائلة في أحد الأودية، فنزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرق الناس يستظلون الشجر، ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة علق بها سيفه.
قال جابر بن عبد الله: "فنمنا نومة، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتًا، فقال لي: من يمنعك مني؟ فقلت له: الله، فها هو ذا جالس)).
لم يعاقبه رسول الله، واسم الأعرابي: غورث بن الحارث. وقد عاهد غورث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا يقاتله، ولا يكون مع قوم يقاتلونه، فخلى سبيله، فجاء إلى أصحابه فقال: "جئتكم من عند خير الناس".
الحدث السادس: غزوة بني المصطلِق:
بني المصطلق من القبائل التي أيدت قريش واشتركت معها في معركة أحد ضد المسلمين، إضافة إلى سيطرة هذه القبيلة على الخط الرئيسي المؤدي إلى مكة، فكانت حاجزًا منيعًا من نفوذ المسلمين إلى مكة.
ثم إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلغه أن بني المصطلق يجمعون له، وكان قائدهم الحارث بن أبي ضرار ينظم جموعهم، فلما سمع بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع.
عندما شعر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحركة بني المصطلِق المريبة أرسل بريدة الأسلمي للتأكد من نيتهم، وأظهر لهم بريدة أنه جاء لعونهم فتأكد من قصدهم، فأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك.(1/243)
وفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من المدينة في سبعمائة مقاتل وثلاثين فارسًا متوجهًا إلى بني المصطلق، ولما كان بنو المصطلق ممن بلغتهم دعوة الإسلام، واشتركوا مع الكفار في غزوة أحد، وكانوا يجمعون الجموع لحرب المسلمين، فقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أغار عليهم وهم غافلون وأنعامهم تُسقى على الماء، فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم، ثم قسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبايا بني المصطلق على المجاهدين معه، وكان من بين الأسرى جويرية بنت الحارث، وكانت بركة على قومها، ولنسمع قصتها من السيدة عائشة -رضي الله عنها- حيث قالت: "لما قسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في سهم لثابت بن قيس بن شماس، فكاتبته على نفسها، وكانت امرأة جميلة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لتستعينه في كتابتها، قالت: فوالله ما هو أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت، فدَخَلَتْ عليه فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لا يخفى عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس فكاتبته على نفسي، فجئتك أستعينك على كتابتي. قال: ((فهل لك في خير من ذلك؟))، قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: ((أقض عنك كتابك وأتزوجك))، قالت: نعم يا رسول الله، قد فعلت، قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد تزوج جويرية بنت الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أُعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها".(1/244)
وجاء الحارث بن أبي ضرار بعد الوقعة بفداء ابنته إلى المدينة، فدعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام فأسلم.
تعتبر غزوة المريسيع من الغزوات الفريدة المباركة التي أسلمت عقبها قبيلة بأسرها، وكان الحدث الذي أسلمت القبيلة من أجله هو أن الصحابة حرروا وردوا الأسرى الذين أصابوهم إلى ذويهم بعد أن تملكوهم باليمين في قسم الغنائم، واستكثروا على أنفسهم أن يتملكوا أصهار نبيهم -عليه الصلاة والسلام-، وحيال هذا العتق الجماعي، وإزاء هذه الأريحية الفذة، دخلت القبيلة كلها في دين الله.
إن مرد هذا الحدث التاريخي وسببه البعيد هو حب الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتكريمهم إياه، وإكبارهم شخصه العظيم، وكذلك يؤتي الحب النبوي هذه الثمار الطيبة، ويصنع هذه المآثر الفريدة في التاريخ.
لقد كان زواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جويرية بنت الحارث له أبعاده، وتحققت تلك الأبعاد بإسلام قومها، فقد كان الزواج منها من أهدافه الطمع في إسلام قومها، وبذلك يكثر سواد المسلمين، ويعز الإسلام، وهذه مصلحة إسلامية بعيدة يسر الله هذا الزواج وباركه، وحقق الأمل البعيد المنشود من ورائه، فأسلمت القبيلة كلها بإسلام جويرية، وإسلام أبيها الحارث، فقد عاد هذا الزواج على المسلمين بالبركة والقوة، والدعم المادي والأدبي معًا للإسلام والمسلمين.
أصبحت جويرية بنت الحارث زوجة لسيد المرسلين وأُمًّا للمؤمنين، فكانت -رضي الله عنها- عالمة بما تسمع، وعاملة بما تعلم، فقيهة عابدة، تقية ورعة، نقية الفؤاد، مضيئة العقل، مشرقة الروح، تحب الله ورسوله، وتحب الخير للمسلمين، وكانت من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات في مجال مناجاة الله تعالى وتحميده وتقديسه وتسبيحه.(1/245)
تحدثنا فتقول: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال: ((ما زلت على الحال التي فارقتُكِ عليها؟))، قالت: نعم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)).
وقد توفيت -رضي الله عنها- سنة خمسين، وقيل: ست وخمسين للهجرة.
وفي أثناء رجوع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، وقد أغاظ المنافقون انتصاره -عليه الصلاة والسلام- وقلوبهم تتطلع إلى اليوم الذي يهزم فيه المسلمون.
يحكي جابر بن عبد الله ما حدث عند ماء المريسيع، وأدى إلى كلام المنافقين لإثارة العصبية وتمزيق وحدة المسلمين، قال: "كنا في غزاة فكسع - أي ضربه برجله - رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((ما بال دعوى الجاهلية؟))، قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال: ((دعوها فإنها منتنة))، فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقام عمر فقال: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((دعه؛ لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، ولكن أذن بالرحيل))، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرتحل فيها، فارتحل الناس.
وقد مشى عبد الله بن أبي ابن سلول إلى رسول الله حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلّغه ما سمعه منه، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به، فقال من حضر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأنصار من أصحابه: "يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه".(1/246)
فلما سار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال: "يا نبي الله، لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أو بلغك ما قال صاحبكم؟))، قال: "وأي صاحب يا رسول الله؟"، قال: ((عبد الله بن أبي؟))، قال: "وما قال؟"، قال: ((زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل))، قال: "فأنت يا رسول الله تخرجه منها إن شئت؛ هو الذليل وأنت العزيز"، ثم قال: "يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه يرى أنك استلبت ملكه".
ثم مشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نيامًا، وإنما فعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد الله بن أبي، ونزلت السورة التي ذكر فيها المنافقون في ابن أبي ومن كان على مثل أمره، فلما نزلت أخذ رسول الله بأذن زيد بن أرقم، ثم قال: ((هذا الذي أوفى الله بأذنه)).
كان لابن أبي بن سلول ولد مؤمن مخلص يسمى عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، فلما علم بالأحداث ونزول السورة أتى رسول الله فقال له: "يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي بن سلول فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا، فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبرّ بوالده مني، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي بين الناس فأقتله، فأقتل رجلاً مؤمنًا بكافر فأدخل النار"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا)).(1/247)
ولما وصل المسلمون مشارف المدينة تصدى عبد الله لأبيه عبد الله بن أبي، وقال له: "قف فوالله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك"، فلما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استأذنه في ذلك، فأذن له.
ومما حصل أيضاً في هذه الغزوة والنبي -صلى الله عليه وسلم- راجع إلى المدينة حادثة الإفك المشهورة، فقد حاك المنافقون في هذه الغزوة حادثة الإفك، بعد أن فشل كيدهم في المحاولة الأولى، وقد انتهت الحادثة بتبرئة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- بما رماها به المنافقون، وأنزل الله في ذلك آيات تتلى إلى يوم القيامة.
والحمد لله...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس الثالث عشر
غزوة الأحزاب
سبب غزوة الأحزاب:
إن يهود بني النضير بعد أن خرجوا من المدينة إلى خيبر خرجوا وهم يحملون معهم أحقادهم على المسلمين، فما أن استقروا بخيبر حتى أخذوا يرسمون الخطط للانتقام، فاتفقت كلمتهم على التوجه إلى القبائل العربية المختلفة لتحريضها على حرب المسلمين، وكونوا لهذا الغرض الخبيث وفدًا يتكون من سلام بن أبي الحقيق، وحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبي عمار.
وقد نجح الوفد نجاحًا كبيرًا في مهمته حيث وافقت قريش التي شعرت بمرارة الحصار الاقتصادي المضروب عليها من قبل المسلمين، ووافقت غطفان طمعًا في خيرات المدينة وفي السلب والنهب وتابعتهم قبائل أخرى.
وقد قال وفد اليهود لمشركي مكة: إن دينكم خير من دين محمد، وأنتم أولى بالحق منه، وعن ذلك يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلًا* أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [(51-52) سورة النساء].(1/248)
ولا ريب فإن قريشًا قد سُرَّت بما سمعت من مدح لدينها فازدادت حماسًا، وأصبحت أكثر تصميمًا على حرب المسلمين، ثم أعلنت موافقتها على هذه الدعوة والاشتراك في الحملة التي ستهاجم المدينة، وضربت لها موعدًا.
وقد أبرم الوفد اليهودي مع زعماء أعراب غطفان اتفاقية الاتحاد العربي الوثني اليهودي العسكري ضد المسلمين، وكان أهم بنود هذا الاتفاق هو أن تكون قوة غطفان في جيش الاتحاد هذا ستة آلاف مقاتل، وأن يدفع اليهود لقبائل غطفان مقابل ذلك كل تمر خيبر لسنة واحدة.
لقد استطاع وفد اليهود أن يرجع من رحلته إلى المدينة ومعه عشرة آلاف مقاتل، أربعة آلاف من قريش وأحلافها، وستة آلاف من غطفان وأحلافها، وقد نزلت تلك الأعداد الهائلة بالقرب من المدينة، وكان جهاز أمن الدولة الإسلامية على حذر تام من أعدائه، لذا فقد كان يتتبع أخبار الأحزاب ويرصد تحركاتهم، ويتابع حركة الوفد اليهودي منذ خرج من خيبر في اتجاه مكة، وكان على علم تام بكل ما يجري بين الوفد اليهودي وبين قريش أولًا، ثم غطفان ثانيًا، وبمجرد حصول المدينة على هذه المعلومات عن العدو شرع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في اتخاذ الإجراءات الدفاعية اللازمة، ودعا إلى اجتماع عاجل حضره كبار قادة جيش المسلمين من المهاجرين والأنصار، بحث فيه معهم هذا الموقف الخطير الناجم عن مساعي اليهود الخبيثة.
فأدلى سلمان الفارسي –رضي الله عنه- برأيه الذي يتضمن حفر خندق كبير لصد عدوان الأحزاب، فأعجب النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك.
وعندما استقر الرأي بعد المشاورة على حفر الخندق، ذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- هو وبعض أصحابه لتحديد مكانه والبدء بالعمل.(1/249)
لقد كانت خطة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الخندق متطورة ومتقدمة، حيث شرع بالأخذ بالأساليب الجديدة في القتال، ولم يكن حفر الخندق من الأمور المعروفة لدى العرب في حروبهم، بل كان الأخذ بهذا الأسلوب غريبًا عنهم، وبهذا يكون الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو أول من استعمل الخندق في الحروب في تاريخ العرب والمسلمين، فقد كان هذا الخندق مفاجأة مذهلة لأعداء الإسلام، وأبطل خطتهم التي رسموها، وكان من عوامل تحقيق هذه المفاجأة ما قام به المسلمون من إتقان رفيع لسرية الخطة وسرعة إنجازها، وكان هذا الأسلوب الجديد في القتال له أثر في إضعاف معنويات الأحزاب وتشتيت قواتهم.
لما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- بقدوم جيش الأحزاب وأراد الخروج إلى الخندق أمر بوضع ذراري المسلمين ونسائهم وصبيانهم في حصن بني حارثة، حتى يكونوا في مأمن من خطر الأعداء، وقد فعل ذلك -صلى الله عليه وسلم- لأن حماية الذراري والنساء والصبيان لها أثر فعال على معنويات المقاتلين؛ لأن الجندي إذا اطمأن على زوجه وأبنائه يكون مرتاح الضمير هادئ الأعصاب، فلا يشغل تفكيره أمر من أمور الحياة، ويسخر كل إمكاناته وقدراته العقلية والجسدية للإبداع في القتال، أما إذا كان الأمر بعكس ذلك فإن أمر الجندي يضطرب ومعنوياته تضعف ويستولي عليه القلق، مما يكون له أثر في تراجعه عن القتال، وبذلك تنزل الكارثة بالجميع.
ومن الأمور التي ساهمت في تقوية وتماسك الجبهة الداخلية مشاركة النبي -صلى الله عليه وسلم- جنده أعباء العمل، فقد شارك الرسول -صلى الله عليه وسلم- الصحابة في العمل المضني، فأخذ يعمل بيده الشريفة، في حفر الخندق، فعن ابن إسحاق قال: "سمعت البراء يحدث قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه، وكان كثير الشعر".(1/250)
فعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الصحابة بهمة عالية لا تعرف الكلل، فأعطى القدوة الحسنة لأصحابه حتى بذلوا ما في وسعهم لإنجاز حفر ذلك الخندق.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يشارك الصحابة -رضي الله عنهم- في آلامهم وآمالهم، بل كان يستأثر بالمصاعب الجمة دونهم، ففي هذه الغزوة نجد أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعاني من ألم الجوع كغيره، بل أشد، حيث وصل به الأمر إلى أن يربط حجرًا على بطنه الشريف من شدة الجوع.
واقترن حفر الخندق بصعوبات جمة، فقد كان الجو باردًا، والريح شديدة، والحالة المعيشية صعبة، بالإضافة إلى الخوف من قدوم العدو الذي يتوقعونه في كل لحظة، ويضاف إلى ذلك العمل المضني، حيث كان الصحابة يحفرون بأيديهم وينقلون التراب على ظهورهم، ولا شك في أن هذا الظرف بطبيعة الحال يحتاج إلى قدر كبير من الحزم والجد، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينسَ في هذا الظرف أن هؤلاء الجند إنما هم بشر كغيرهم، لهم نفوس بحاجة إلى الراحة من عناء العمل، كما أنها بحاجة إلى من يدخل السرور حتى تنسى تلك الآلام التي تعانيها فوق معاناة العمل الرئيسي.
ولهذا نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب:
اللهم لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأعادي قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا
ثم يمد صوته بآخرها. وعن أنس –رضي الله عنه- أن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا يقولون يوم الخندق:
نحن الذين بايعوا محمدًا ... على الجهاد ما بقينا أبدًا
والنبي يقول:
اللهم إن الخير خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة
لقد كان لهذا التبسط والمرح في ذلك الوقت أثره في التخفيف عن الصحابة مما يعانونه نتيجة للظروف الصعبة التي يعيشونها، كما كان له أثره في بعث الهمة والنشاط بإنجاز العمل الذي كلفوا بإتمامه، قبل وصول عدوهم.(1/251)
هذا وقد ظهرت خلال مرحلة حفر الخندق بعض دلائل النبوة، منها:
تكثير الطعام الذي أعده جابر بن عبد الله، في قصة مشهورة معروفة.
ومن دلائل النبوة أثناء حفر الخندق إخباره -صلى الله عليه وسلم- عمار بن ياسر وهو يحفر معهم الخندق بأنه ستقتله الفئة الباغية، فقتل في صفين وكان في جيش عليّ.
وعندما اعترضت صخرة الصحابة وهم يحفرون، ضربها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثلاث ضربات فتفتتت قال إثر الضربة الأولى: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة))، ثم ضربها الثانية فقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض))، ثم ضرب الثالثة، وقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة)).
وقد تحققت هذه البشارة التي أخبرت عن اتساع الفتوحات الإسلامية والإخبار عنها في وقت كان المسلمون فيه محصورين في المدينة يواجهون المشاق والخوف والجوع والبرد القارس.
كان الصحابة -رضي الله عنهم- على قدر كبير من الأدب مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكانوا يستأذنونه في الانصراف إذا عرضت لهم ضرورة، فيذهبون لقضاء حوائجهم، ثم يرجعون إلى ما كانوا فيه من العمل، رغبة في الخير واحتسابًا له.(1/252)
وقسم النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى مجموعات للحراسة، ومقاومة كل من يريد أن يخترق الخندق، وقام المسلمون بواجبهم في حراسة الخندق وحراسة نبيهم -صلى الله عليه وسلم-، واستطاعوا أن يصدوا كل هجوم حاول المشركون شنّه، وكانوا على أهبة الاستعداد جنودًا وقيادة، وقد أخذوا بكافة الاحتياطات في تأمين جبهتهم الداخلية، ومحاولة الدفاع عن الإسلام والمدينة من جيش الأحزاب الزاحف إلا أن سنة الله الماضية لا نصر إلا بعد شدة، ولا منحة إلا بعد محنة، وكلما اقترب النصر زاد البلاء والامتحان، وقد ازدادت محنة المسلمين في الخندق، فقد نقض اليهود من بني قريظة العهد ومحاولة ضرب المسلمين من الخلف، وكان المسلمون يخشون غدر يهود بني قريظة الذين يسكنون في جنوب المدينة فيقع المسلمون حينئذ بين نارين، اليهود خلف خطوطهم، والأحزاب بأعدادهم الهائلة من أمامهم، ونجح اليهودي زعيم بني النضير في استدراج كعب بن أسد زعيم بني قريظة لينضم مع الأحزاب لمحاربة المسلمين.
وسرت الشائعات بين المسلمين بأن قريظة قد نقضت عهدها معهم، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يخشى من ذلك؛ لأن اليهود قوم لا عهد لهم ولا ذمة، ولذلك انتدب النبي -صلى الله عليه وسلم- الزبير بن العوام ليأتيه بخبرهم، فذهب الزبير فنظر ثم رجع فقال: "يا رسول الله، رأيتهم يصلحون حصونهم ويدربون طرقهم، وقد جمعوا ماشيتهم".
وبعد أن كثرت القرائن الدالة على نقض بني قريظة للعهد، أرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبد الله بن رواحة وخوات بن جبير -رضي الله عنهم- وقال لهم: ((انطلقوا حتى تنظروا أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقًّا فالحنوا لي لحنًا أعرفه، ولا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس)).(1/253)
فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم قد نقضوا العهد، فرجعوا فسلموا على النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: "عضل والقارة"، فعرف النبي -صلى الله عليه وسلم- مرادهم.
واستقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- غدر بني قريظة بالثبات والحزم واستخدام كل الوسائل التي من شأنها أن تقوي روح المؤمنين وتصدع جبهات المعتدين، فأرسل في الوقت نفسه سلمة بن أسلم في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل، يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير ليرهبوا بني قريظة، وفي هذه الأثناء استعدت بنو قريظة للمشاركة مع الأحزاب، فأرسلت إلى جيوشها عشرين بعيرًا كانت محملة تمرًا وشعيرًا وتينًا لتمدهم بها وتقويهم على البقاء، إلا أنها أصبحت غنيمة للمسلمين الذين استطاعوا مصادرتها وأتوا بها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
زادت جيوش الأحزاب في تشديد الحصار على المسلمين بعد انضمام بني قريظة إليها، واشتد الكرب على المسلمين، وتأزم الموقف، وقد تحدث القرآن الكريم عن حالة الحرج والتدهور التي أصابت المسلمين ووصف ما وصل إليه المسلمون من جزع وخوف وفزع في تلك المحنة الرهيبة أصدق وصف، حيث قال تعالى: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [(10-11) سورة الأحزاب].
وكان ظن المسلمين بالله قويًا، وقد سجله القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [(22) سورة الأحزاب].(1/254)
وأما المنافقون فقد انسحبوا من الجيش، وزاد خوفهم حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: "كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط".
وطلب البعض الآخر الإذن لهم بالرجوع إلى بيوتهم بحجة أنها عورة، فقد كان موقفهم يتسم بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين.
وتزايدت محاولات المشركين لاقتحام الخندق، وأصبحت خيل المشركين تطوف بأعداد كبيرة كل ليلة حول الخندق حتى الصباح، وحاول خالد بن الوليد مع مجموعة من فرسان قريش أن يقتحم الخندق على المسلمين في ناحية ضيقة منه ويأخذهم على حين غرة، لكن أسيد بن حضير في مائتين من الصحابة يراقبون تحركاتهم، وقد حصلت مناوشات استشهد فيها الطفيل بن النعمان والذي قتله وحشي قاتل حمزة يوم أحد، رماه بحربة عبر الخندق فأصابت منه مقتلًا، واستطاع حبان بن العرقة من المشركين أن يرمي سهمًا أصاب سعد بن معاذ –رضي الله عنه- في أكحله، وقال: خذها وأنا ابن العرقة، وقد قال سعد بن معاذ عندما أصيب: "اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إليَّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة".
وقد استجاب الله دعوة هذا العبد الصالح، ثم وجه المشركون كتيبة غليظة نحو مقر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقاتلهم المسلمون يومًا إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت الكتيبة، فلم يقدر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا، وشغل بهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يصل العصر، ولم تنصرف الكتيبة إلا مع الليل، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس)).(1/255)
وكره فوارس من قريش أن يقفوا حول الخندق على هذا النحو، فتيمموا مكانًا ضيقًا من الخندق وضربوا خيلهم فاقتحمت منه فجالت بهم في أرض المدينة ومنهم الفارس المشهور عمرو بن عبد ود، الذي كان يقوم بألف فارس وكان قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراح فلم يشهد يوم أحد، فلما كان يوم الخندق خرج واضعًا علامة يعرف بها، فلما وقف قال: من يبارز؟ فبرز علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، فقال: "يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه"، قال: "أجل"، قال علي: "فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام"، قال: "لا حاجة لي بذلك"، قال: "فإني أدعوك إلى النزال"، فقال له: "لم يا ابن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك"، قال له علي: "لكني والله أحب أن أقتلك"، فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ثم أقبل علي -رضي الله عنه- فتنازلا وتجاولا فقتله علي -رضي الله عنه-.(1/256)
وظهرت حنكة النبي -صلى الله عليه وسلم- وحسن سياسته في خلخلة الأحزاب حين اختار قبيلة غطفان بالذات لمصالحتها على مال يدفعه إليها على أن تترك محاربته وترجع إلى بلادها، فهو يعلم أن غطفان وقادتها ليس لهم من وراء الاشتراك في هذا الغزو أي هدف سياسي يريدون تحقيقه، أو باعث عقائدي يقاتلون تحت رايته، وإنما كان هدفهم الأول والأخير من الاشتراك في هذا الغزو الكبير هو الحصول على المال بالاستيلاء عليه من خيرات المدينة عند احتلالها، ولهذا لم يحاول الرسول -صلى الله عليه وسلم- الاتصال بقيادة الأحزاب من اليهود كحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع، أو قادة قريش كأبي سفيان بن حرب؛ لأن هدف أولئك الرئيسي، لم يكن المال، وإنما كان هدفهم هدفًا سياسيًّا وعقائديًّا يتوقف تحقيقه والوصول إليه على هدم الكيان الإسلامي من الأساس، لذا فقد كان اتصاله فقط بقادة غطفان الذين فعلًا لم يترددوا في قبول العرض الذي عرضه عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد استجاب القائدان الغطفانيان عيينة بن حصن والحارث بن عوف لطلب النبي -صلى الله عليه وسلم- وحضرا مع بعض أعوانهما إلى مقر قيادة النبي -صلى الله عليه وسلم- واجتمعا به وراء الخندق مستخفين دون أن يعلم بهما أحد، وشرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مفاوضتهم، وكانت تدور حول عرض تقدّم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو فيه إلى عقد صلح منفرد بينه وبين غطفان، وأهم البنود التي جاءت في هذه الاتفاقية المقترحة، عقد صلح منفرد بين المسلمين وغطفان الموجودة ضمن جيوش الأحزاب، وتوادع غطفان المسلمين وتتوقف عن القيام بأي عمل حربي ضدهم وخاصة في هذه الفترة، وتفك الحصار عن المدينة وتنسحب بجيوشها عائدة إلى بلادها، على أن يدفع المسلمون لغطفان مقابل ذلك ثلث ثمار المدينة كلها من مختلف الأنواع.(1/257)
لقد أبرز النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه المفاوضات جانبًا من جوانب منهج النبوة في التحرك لفك الأزمات عند استحكامها وتأزمها؛ لتكون لأجيال المجتمع المسلم درسًا تربويًّا من دروس التربية المنهجية عند اشتداد البلاء.
وقبل عقد الصلح مع غطفان شاور رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحابة في هذا الأمر، فكان رأيهم في عدم إعطاء غطفان شيئًا من ثمار المدينة، وقال سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة: "يا رسول الله أمرًا تحبه، فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟"، فقال: ((بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما))، فقال له سعد بن معاذ: "يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أنت وذاك))، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
كان رد زعيمي الأنصار سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة في غاية الاستسلام لله تعالى والأدب مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وطاعته، فقد جعلوا أمر المفاوضة مع غطفان ثلاثة أقسام:
الأول: أن يكون هذا الأمر من عند الله تعالى فلا مجال لإبداء الرأي بل لا بد من التسليم والرضا.
والثاني: أن يكون شيئًا يحبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باعتباره رأيه الخاص، فرأيه مقدم وله الطاعة في ذلك.
الثالث: أن يكون شيئًا عمله الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمصلحة المسلمين من باب الإرفاق بهم، فهذا هو الذي يكون مجالا للرأي.(1/258)
ولما تبين للسعدين من جواب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه أراد القسم الثالث، أجاب سعد بن معاذ بجواب قويّ كبت به زعيمي غطفان حيث بين أن الأنصار لم يذلوا لأولئك المعتدين في الجاهلية، فكيف وقد أعزهم الله تعالى بالإسلام.
وقد أعجب النبي -صلى الله عليه وسلم- بجواب سعد، وتبين له منه ارتفاع معنوية الأنصار واحتفاظهم بالروح المعنوية العالية، فألغى بذلك ما بدأ به من الصلح مع غطفان.
في هذه الأثناء ساق المولى -عز وجل- نعيم بن مسعود الغطفاني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليعلن إسلامه، وقال له: "يا رسول الله، إن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة)).
فقام نعيم بزرع الشك بين الأطراف المتحالفة بأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأغرى اليهود بطلب رهائن من قريش؛ لئلا تدعهم وتنصرف عن الحصار، وقال لقريش بأن اليهود إنما تطلب الرهائن لتسليمها للمسلمين ثمنًا لعودتها إلى صلحهم، وهكذا قام نعيم بن مسعود بدور عظيم في غزوة الأحزاب.
وعندما اشتد الكرب على المسلمين أكثر مما سبق حتى بلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالًا شديدًا، فما كان من المسلمين إلا أن توجهوا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: "يا رسول الله هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر"، فقال: ((نعم، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا)).(1/259)
وجاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: "دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الأحزاب فقال: ((اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم))، فاستجاب الله سبحانه دعاء نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فأقبلت بشائر الفرج فقد صرفهم الله بحوله وقوته، وزلزل أبدانهم وقلوبهم، وشتت جمعهم بالخلاف، ثم أرسل عليهم الريح الباردة الشديدة، وألقى الرعب في قلوبهم، وأنزل جنودًا من عنده سبحانه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [(9) سورة الأحزاب]، وبعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الخيام، وأطفأت النيران وأكفأت القدور، وجالت الخيول بعضها في بعض، وأرسل عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب المعسكر.
عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: ((لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيء بعده)).
ودعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- ربه، واعتماده عليه وحده، لا يتناقض أبدًا مع التماس الأسباب البشرية للنصر، فقد تعامل -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة مع سنة الأخذ بالأسباب، فبذل جهده لتفريق الأحزاب، وفك الحصار، مع الدعاء.
وبعد حصار استمر خمسة وعشرين يومًا، أسفر عن هزيمة مخزية لجيوش الأحزاب وفي مقدمتها قريش، حيث اضطروا جميعًا للانسحاب من أرض المعركة وهم يجرون ذيول الهزيمة، لم ينالوا خيرًا وكفى الله المؤمنين القتال.(1/260)
لقد أدرك أبو سفيان ومن معه من القادة أنه لا قدرة لهم على اقتحام المدينة، وأن الإقامة على هذا الحال من الحصار ليست في صالحهم جميعًا، فالمواد التموينية للجيش أشرفت على النفاد، ولا مصدر مأمونًا يمولهم، وقد حاول اليهود إمدادهم بالزاد فأرسلوا عشرين بعيرًا فاستولى عليها المسلمون، أضف إلى ذلك أن جبهة الأحزاب قد تصدعت وتمزق شملهم، ولم تعد كلمتهم واحدة، وكل فقد ثقته بغيره، فانقطع حبل الود بين قريش وبني قريظة، وبين قريظة وغطفان، وبين غطفان وقريش، ودب اليأس والسآمة في قلوب المقاتلين من جراء هذا الحصار الطويل دون أن يحققوا شيئًا، وحالتهم تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، والجو يرميهم بالريح الشديدة والبرد والمطر الشديد.
هذا ويرابط خلف الخندق رجال مؤمنون أشداء على الكفار يستعذبون الموت في سبيل الله. ومع هذا فقد سخر الله أسبابًا أخرى للنصر لم تخطر على بال المسلمين، فقد أرسل الله ريحًا شديدة عاصفة في يوم بارد، خلعت الخيام وكفأت القدور، وذرت الرمال في أعينهم حتى استحالت أسباب الحياة في هذا المكان، وأنزل الله الملائكة تلقي الرعب في قلوب الكافرين وتقاتل مع المؤمنين.
كل هذه الأسباب حملت أبا سفيان على أن يدعو جيوش الأحزاب للانسحاب السريع، وأعلن انسحابه في الجيش قائلًا: "يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل"، ثم قام إلى جمله فوثب عليه وانطلق، وانطلق الناس معه.(1/261)
انتصر المسلمون في هذه الغزوة رغم قلة عددهم وضعف عدتهم على جيوش الأحزاب الوفيرة في عددها وسلاحها، وهيأ الله لهم من أسباب النصر وعوامله ما لم يكن في الحسبان، فالملائكة جند من جنود الله سخرها لتساعد المسلمين وتوهن كيد الكافرين وتلقي الرعب في قلوبهم، والريح جند من جنود الله سخرها الله لتكفأ القدور وتطفئ النار وتخلع الخيام، وسلمان الفارسي جند من جنود الله وفقه الله ليشير على النبي -صلى الله عليه وسلم- بحفر الخندق، والخندق جند من جنود الله حال بين المشركين وبين اقتحام المدينة، ونعيم بن مسعود جند من جنود الله وفَّقه الله لتمزيق شمل الأحزاب وانقسامهم، وصدق الله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [(31) سورة المدثر].(1/262)
وبعد عودة النبي -صلى الله عليه وسلم- من الخندق ووضعه السلاح أمر الله تعالى نبيه بقتال بني قريظة، فأمر الحبيب -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بالتوجه إليهم، وقد أعلمهم بأن الله تعالى قد أرسل جبريل ليزلزل حصونهم ويقذف في قلوبهم الرعب وأوصاهم بأن: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)). وضرب المسلمون الحصار على بني قريظة خمسًا وعشرين ليلة، ولما اشتد الحصار وعظم البلاء عليهم، أرادوا الاستسلام والنزول على أن يحكِّم الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيهم سعد بن معاذ –رضي الله عنه- ونزلوا على حكمه، ورأوا أنه سيرأف بهم بسبب الحلف بينهم وبين قومه الأوس، فجيء بسعد محمولًا؛ لأنه كان قد أصابه سهم في ذراعه يوم الخندق، فقضى أن تُقتل المقاتلة، وأن تُسبى النساء والذرية، وأن تُقسم أموالهم، فأقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال: ((قضيت بحكم الله))، ونفذ حكم الإعدام في أربعمائة في سوق المدينة، حيث حفرت أخاديد وقتلوا فيها بشكل مجموعات، وقد نجا مجموعة قليلة جدًا بسبب وفائها للعهد ودخولها في الإسلام، وقُسمت أموالهم وذراريهم على المسلمين، وهذا جزاء عادل نزل بمن أراد الغدر وتبرأ من حلفه للمسلمين، وكان جزاؤهم من جنس عملهم، حين عرّضوا بخيانتهم أرواح المسلمين للقتل، وأموالهم للنهب، ونساءهم وذراريهم للسبي، فكان أن عوقبوا بذلك جزاءً وفاقًا.
بالقضاء على بني قريظة خلت المدينة تمامًا من الوجود اليهودي، وصارت خالصة للمسلمين، وخلت الجبهة الداخلية من عنصر خطر لديه القدرة على المؤامرة والكيد والمكر، واضمحل حلم قريش؛ لأنها كانت تعول وتؤمل في يهود بأن يكون لهم موقف ضد المسلمين، وابتعد خطر اليهود الذي كان يمد المنافقين بأسباب التحريض والقوة.
إن حماية الجبهة الداخلية للدولة الإسلامية من العابثين منهج نبوي كريم رسمه الحبيب المصطفى للأمة المسلمة.(1/263)
وهاهنا وقفة تأمل في صبر وتحمل بعض الكفار، وكيف يقدمون على القتل إما وفاءً لعهد أو عصبية، ومن ذلك:
- مقتل حيي بن أخطب: فلما فضَّ الله جموع الأحزاب انطلق حييّ مع قومه بني النضير، حتى إذا كان بالروحاء ذكر العهد والميثاق الذي أعطاه لبني قريظة، فرجع حتى دخل معهم، فلما أقبلت بنو قريظة ليطبق فيهم القتل، أُتي بحيي مكتوفًا، فقال حيي للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يُخذل"، فأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- فضربت عنقه، ثم أنه أقبل على الناس قبل تنفيذ حكم الإعدام وقال لهم: "أيها الناس، إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه، وكان بإمكانه أن يرجع إلى قومه".
لقد تجلّد حيي وتقدم لتضرب عنقه حتى لا يشمت فيه شامت، وهو يعرف أنه على باطل، ظالم لنفسه، قد أوردها موارد الهلاك، ومع هذا يموت على ذلك، والعزة بالإثم تأخذه إلى جهنم وبئس المصير؛ لأنه يعبد هواه، ولا يعبد ربه، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [(23) سورة الجاثية].(1/264)
- وأيضًا مقتل كعب بن أسد القرظي رئيس بني قريظة: جيء به، وقبل أن يضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنقه، جرى بينه وبين كعب الحوار التالي: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كعب بن أسد؟))، قال كعب: "نعم يا أبا القاسم"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما انتفعتم بنصح ابن خراش لكم، وكان مصدقًا بي، أما أمركم باتباعي، وإن رأيتموني تقرئوني منه السلام؟))، قال كعب: "بلى والتوراة يا أبا القاسم، ولولا أن تعيرني يهود بالجزع من السيف لاتبعتك، ولكني على دين يهود"، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضرب عنقه فضربت.
ونلحظ خبر مقتل كعب بن أسد، أنه كان متعصبًا ليهوديته وهو يعلم بطلانها، وأنه على علم بصدق رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه لم يؤمن ولم يدخل الإسلام خوفًا من أن تعيره يهود بأنه جزع من السيف، فعدم إيمانه وبقاؤه على الكفر كان نتيجة ريائه، وحبه للثناء، وخوفه من ذمّه وتعييره.(1/265)
- والأعجب مما سبق الزبير بن باطا: أقبل ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله، هب لي الزبير اليهودي أُجزه، فقد كانت له عندي يد يوم بعاث"، فأعطاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إياه، فأقبل ثابت حتى أتى الزبير فقال: "يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفني؟"، فقال: "نعم، وهل ينكر الرجل أخاه"، قال ثابت: "أردت أن أجزيك اليوم بيد لك عندي يوم بعاث"، قال: "فافعل، فإن الكريم يجزي الكريم"، قال: "قد فعلت، قد سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوهبك لي"، فأَطلقه ونجّاه من القتل. فقال الزبير: "ليس لي قائد، وقد أخذتم امرأتي وابني"، فرجع ثابت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستوهبه امرأته وبنيه فوهبهم له، فرجع ثابت إلى الزبير فقال: "رد إليك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- امرأتك وبنيك"، فقال الزبير: "حائط لي فيه أعذق، وليس لي ولا لأهلي عيش إلا به"، فرجع ثابت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوهبه له، فرجع ثابت إلى الزبير فقال: "قد رد إليك رسول الله أهلك ومالك، فأسلم تسلم"، قال: "ما فعل الجليسان؟" وذكر رجال قومه، قال ثابت: "قد قتلوا وفُرغ منهم، ولعل الله -تبارك وتعالى- أن يكون أبقاك لخير"، قال الزبير: "أسألك بالله يا ثابت وبيدي التي عندك يوم بعاث إلا ألحقتني بهم، فليس في العيش خير بعدهم"، فذكر ذلك ثابت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمر بالزبير فقُتل.
تعجب من ثبات هؤلاء على مواقفهم وهم على كفر وضلال، فيجب على كل مسلم أن يكون أقوى من كل قوى الأرض على مبادئه ومنهجه.(1/266)
بعدها جمع صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الغنائم التي خلفها بنو قريظة، فكانت من السيوف ومن الرماح ومن الدروع ومن التروس، كما تركوا عددًا كبيرًا من الشياه والإبل، وأثاثًا كثيرًا وآنية كثيرة، فوزعت الغنائم وهي الأموال المنقولة كالسلاح والأثاث وغيرها بين المحاربين من أنصار ومهاجرين ممن شهدوا الغزوة، فأعطي أربعة أخماس الغنائم لهم، والخمس المتبقي هو سهم الله ورسوله المقرر في كتابه تعالى.
وقد أسهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لسويد بن خلاد الذي قتلته المرأة اليهودية بالرحى، وأعطى سهمه لورثته، ولصحابي آخر مات أثناء حصار بني قريظة.
وأما الأموال غير المنقولة كالأراضي والديار فقد أعطاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمهاجرين دون الأنصار، وأمر المهاجرين أن يردوا إلى الأنصار ما أخذوه منهم من نخيل وأرض، وكانت على سبيل العارية ينتفعون بثمارها، قال تعالى عن تلك الأراضي والديار: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [(27) سورة الأحزاب].
إن غزوة الأحزاب لها طابع خاص بين غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- كلها، ولها مكانة متميزة في نفوس الصحابة.
لقد كانت غزوة الأحزاب نهاية مرحلة من مراحل القتال بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-. في هذه الغزوة وما قبلها من الغزوات تجرأ المشركون منفردين ومجتمعين على غزو المسلمين في عقر دارهم، وأخذ المسلمون موقف الدفاع، وبعد هذه الغزوة تحول المسلمون إلى مهاجمة المشركين في عقر دارهم، وإقامة المعارك على أرضهم، ومن ثم فتح المسلمون أعتى قلاع الشرك في ذلك الوقت مكة.
لقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذا التحول قبل أن يباشر به عمليًا فقال: ((الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم)).(1/267)
وَدَاعًا أيُّها الجيش العَرَمْرَمْ ... فَمَوْعدنا قريبًا عندَ زَمْزَمْ
رَحَلْتَ كما أتيتَ فأيُّ شأن ... أصابك أيها الجيش المحطَّمْ
ظننتَ الحربَ راحلةً وسيفًا ... ولم تَعْلمْ بما هو منه أعظمْ
جنودُ اللهِ ما وضَعَتْ يديها ... بأمر إلهها لو كنت تعْلَمْ
ألاقيتم كهذا اليوم رعبًا ... وريحًا من بقايا الرّعْب تَلْهَمْ
سقيتَ الخزيَ يا جيشًا تربّى ... على كفِّ الهنا عيش المنعَّمْ
فَلَمْلِمْ جيشك الباقي وغادرْ ... فقد يَفنَى غدًا إن لم يُلَمْلَمْ
أأنت القوة العظمى؟ محالٌ ... فلم نعهدْك ذا الوجه المذمَّمْ!
قريشُ بأي بأسٍ قد لقيتم ... جنودَ الله إنَّ العوْدَ أَسْلَمْ
محمّدُ يضربُ الصخر ابتهاجًا ... ستفتح فارسٌ والرُّوم تُهزَمْ
تألمنا وما خاضَ المنايا ... جوادٌ في الوغى إلا تألّمْ
وزُلْزِلْنا ولكنّا انتصرنا ... وأنجزَ وعدَه ربي وَتمَّمْ
لنا في الحسنيين مُنىً عِظَامٌ ... وما للكافرين سوى جهنَّمْ
فيا لجحافل الأحزاب ذاقت ... مرارة خزيِها والخزي عَلْقَمْ
سيُسمعكم بلال غدًا أذانًا ... به تدرون من فينا المعظّمْ
أرى لبني قريظة وجهَ غدر ... ووجهًا بالظغينة قد تجهَّمْ
رأتْ نصر الإلهِ فألفُ ويلٍ ... لها جند الإله لها تقدَّمْ
لقد هُزمت جيوش الكفر قهرًا ... ولو بالظنّ قلنا ليس تُهْزَمْ
سلوا في ليلة الأحزاب نصرًا ... نراه ولو له ثغر تكلَّمْ
تبسمْ أيها المحزون هذي ... حكايا النصر تصرخ أن تبسمْ
أرى بجحافل الأحزاب درسًا ... من الآمال لمَّا بَعْدُ يُفْهَمْ
إن معركة الأحزاب ليست معركة خسائر، وإنما هي معركة عقيدة وإيمان، فقتلى الفريقين من المؤمنين والكفار يعدّون على الأصابع، ومع هذه الحقيقة فهي من أهم المعارك في تاريخ الإسلام، فلقد كانت ابتلاءً كاملًا وامتحانًا دقيقًا وتمييزًا بين المؤمنين والمنافقين، فلقد اشترك الجميع في الشعور بالكرب، ولم يختلف الشعور من قلب إلى قلب، وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب وظنها بالله، وسلوكها في الشدة، ويقينها بالنصر، واطمئنانها وقت الزلازل.(1/268)
وحين تُبذل الطاقة البشرية كلها، جهدًا ومالًا وقوة في الدفاع والذود عن حياض الإسلام، ثم تنقص الوسائل ويتفوق الكافرون بما عندهم من السلاح والعتاد والأحلاف، فالله بعد ذلك هو الذي يتولى عباده المؤمنين.
والحمد لله...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس الرابع عشر
سرايا بعد الأحزاب
وبعد غزوة الأحزاب تغيرت موازين القوى، وأصبح المسلمون لهم القدرة على الهجوم أكثر من قبل، فأرسل -صلى الله عليه وسلم- أكثر من عشرة سرايا، كان القصد منها المزيد من إنهاك قوى قريش وحلفاؤها بإحكام الحصار عليهم وتقليم أظافرهم، ومن هذه السرايا:
أولًا: سرية محمد بن مسلمة إلى بني القرطاء:
كانت العشائر النجدية من أجرأ العناصر البدوية الوثنية على المسلمين؛ لأن النجديين أهل قوة وبأس وعدد غامر، وقد رأينا كيف أن العمود الفقري لقوات الأحزاب الضاربة كان من هذه القبائل النجدية، حيث كان رجال هذه القبائل الشرسة يشكلون الأغلبية الساحقة من تلك القوة الضاربة، ستة آلاف مقاتل من غطفان وأشجع وأسلم وفزارة وأسد، كانت ضمن الجيوش التي قادها أبو سفيان لحرب المسلمين فحاصرهم أهل المدينة، ولهذا فإن أول حملة عسكرية وجهها النبي -صلى الله عليه وسلم- لتأديب خصومه بعد غزوة الأحزاب هي تلك الحملة التي جردها على القبائل النجدية من بني بكر بن كلاب الذين كانوا يقطنون القرطاء على مسافة سبع ليالٍ من المدينة.
ففي أوائل شهر المحرم عام خمس للهجرة وبعد الانتهاء مباشرة من القضاء على يهود بني قريظة وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- سرية من ثلاثين من أصحابه عليهم محمد بن مسلمة لشن الغارة على بني القرطاء من قبيلة بكر بن كلاب، وذلك في العاشر من محرم سنة 6هـ، وقد داهموهم على حين غرة فقتلوا منهم عشرة وفر الباقون، وغنم المسلمون إبلهم وماشيتهم.(1/269)
وفي طريق عودتهم أسروا ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة وهم لا يعرفونه، فقدموا به المدينة وربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((ماذا عندك يا ثمامة؟)) فقال: "عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت"، فتركه حتى كان الغد فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟))، فقال: "عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعِم على شاكر"، فتركه حتى كان بعد الغد فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟))، فقال: "عندي ما قلت لك"، فقال: ((أطلقوا ثمامة))، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليَّ، والله ما كان دين أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إليَّ، والله ما كان بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبحت بلدك أحب البلاد إليَّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟"، فبشره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: "لا والله ولكني أسلمت مع محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-".
وقد أبر بقسمه مما دفع وجوه مكة إلى أن يكتبوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة ليخلي لهم حمل الطعام، فاستجاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجاء قومه بالرغم أنه في حالة حرب معهم، وكتب إلى سيد بني حنيفة ثمامة: ((أن خَلِّ بين قومي وبين ميرتهم))، فامتثل ثمامة أمر نبيه، وسمح لبني حنيفة باستئناف إرسال المحاصيل إلى مكة، فارتفع عن أهلها كابوس المجاعة.
وقد أخذ العلماء من قصة ثمامة:
1- جواز ربط الكافر في المسجد.
2- يستحب الاغتسال عند الإسلام كما فعل ثمامة حين أسلم.(1/270)
3- الإحسان يزيل البغض وينبت الحب.
4- يشرع للكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم أن يستمر في عمل ذلك الخير، حيث أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمامة بإتمام عمرته وكان قد نواها قبل الإسلام.
5- ينبغي أن يخلع المؤمن على عتبة الإيمان وعند تركه للكفر كل علاقاته السابقة، ثم يلتزم بأوامر رب العالمين بعد إيمانه.
ثانيًا: سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر:
تعتبر سرية أبي عبيدة إلى سيف البحر استمرارًا لسياسية النبي -صلى الله عليه وسلم- العسكرية لإضعاف قريش ومحاصرتهم اقتصاديًّا على المدى الطويل، فقد بعث -صلى الله عليه وسلم- أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة راكب قِبَل الساحل ليرصدوا عيرًا لقريش، وعندما كانوا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع، فكان قدر مزود تمر يقوتهم منه كل يوم قليلًا قليلًا، حتى كان أخيرًا نصيب الواحد منهم تمرة واحدة، وقد أدرك الجنود صعوبة الموقف فتقبلوا هذا الإجراء بصدور رحبة دون تذمر أو ضجر، بل إنهم ساهموا في خطة قائدهم التقشفية فصاروا يحاولون الإبقاء على التمرة أكبر وقت ممكن.
يقول جابر –رضي الله عنه- أحد أفراد هذه السرية: "كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل"، وقد سأل وهب بن كيسان جابرًا –رضي الله عنه-: "ما تغني عنكم تمرة؟"، فقال: "لقد وجدنا فقدها حين فنيت".
وقد اضطر ذلك الجيش إلى أكل ورق الشجر، قال جابر –رضي الله عنه-: "وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله"، فسمى ذلك الجيش جيش الخبط، وقد أثّر هذا الموقف في قيس بن سعد بن عبادة -رضي الله عنهما- أحد جنود هذه السرية الشجاعة وهو رجل من أهل بيت اشتهر بالكرم، فنحر للجيش ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه.(1/271)
فبينما هم كذلك من الجوع والجهد الشديدين إذ زفر البحر زفرة أخرج الله فيها حوتًا ضخمًا، فألقاه على الشاطئ، ويصف لنا جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- مقدار ضخامة هذا الحوت العجيب فيقول: "انطلقنا على ساحل البحر، فرُفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، قال: قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليها شهرًا ونحن ثلاثمائة حتى سمَّنا، قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينيه بالقلال الدهن، ونقتطع منه قطعة اللحم قدر الثور، فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعًا من أضلاعه فأقامها، ثم رحّل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((ما حبسكم؟))، قلنا: كنا نتبع عيرات قريش، وذكرنا له من أمر الدابة، فقال: ((هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟))، قال: فأرسلنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه فأكله.
قصة عجيبة، وكرامة من الله تعالى لجنوده في سبيل الله.
نلحظ:
- كرم قيس بن سعد بن عبادة -رضي الله عنهما- في وقت عصيب، ليس بيده يومها ما يخفف عن الناس، ففي رواية الواقدي: "أن قيس بن سعد –رضي الله عنه- استدان هذه النوق من رجل جهني، وأن أبا عبيدة –رضي الله عنه- نهاه قائلًا: تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك، فأراد أبو عبيدة الرفق به، وقد بدأ سعد ينحر وينحر حتى نهاه أبو عبيدة، فقال له سعد: يا أبا عبيدة، أترى أن أبا ثابت يقضي ديون الناس ويحمل الكل، ويطعم في المجاعة، لا يقضي عني تمرًا لقوم مجاهدين في سبيل الله؟(1/272)
وقال ذلك قيس لأبي عبيدة؛ لأنه قد اتفق مع رجل من جهينة على أن يشتري منه نوقًا ينحرها للجيش على أن يعطيه بدل ذلك تمرًا بالمدينة وقد وافق الجهني على تلك الصفقة، وعندما علم سعد بن عبادة بنهي أبي عبيدة لقيس بحجة أنه لا مال له وإنما المال لأبيه، وهب ابنه أربع حوائط أدناها يُجذ منه خمسون وسقًا.
إن المسلمين في هذه السرية بلغ بهم الجوع غايته، فكانت التمرة الواحدة طعام الرجل طوال يوم كامل في سفر ومشقة، ويمرون وهم على تلك الحال من فقد التمر وأكل الخبط على الجهني الذي اشترى منه قيس أو على قومه، فما يخطر بفكرهم أن يغيروا عليهم لينتزعوا منهم طعامهم كما كانت الحال في الجاهلية؛ لأنهم اليوم ينطلقون بدين الله الذي جاء ليحفظ على الناس أموالهم في جملة ما حفظ وهم اليوم يفرقون بين الحلال والحرام الذي تعلموه من منهج رب العالمين.
- وتدل القصة على جواز أكل ميتة البحر، وفي السنن عن ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا وموقوفًا: ((أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدَّمان فالكبد والطحال)).
- قال النووي -رحمه الله-: في هذا الحديث جواز صد أهل الحرب واغتيالهم والخروج لأخذ مالهم واغتنامه، وأن الجيوش لا بد لها من أمير يضبطها، وينقادون لأمره ونهيه، وأنه ينبغي أن يكون الأمير أفضلهم، أو من أفضلهم، قالوا: ويستحب للرفقة من الناس وإن قلّوا أن يؤمروا بعضهم عليهم وينقادوا له.
قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: يستحب للرفقة من المسافرين خلط أزوادهم ليكون أبرك وأحسن في العشرة، وألا يختص بعضهم بأكل دون بعض، والله أعلم.
ثالثًا: سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل:(1/273)
كانت هذه السرية قد وجهت إلى أبعد مدى وصلت إليه الجيوش النبوية في الجزيرة العربية، ودومة الجندل قريبة من تخوم الشام، فهي أبعد ثلاثة أضعاف عن المدينة بعدها عن دمشق، وهي تقوم في قلب الصحراء العربية واسطة الصلة بين الروم في أرض الشام والعرب في الجزيرة، وسكانها من قبيلة كلب الكبرى، وقد دخلوا في النصرانية نتيجة جوارهم وتأثرهم بجوار الروم النصارى، وهذه السرية تدخل ضمن مخطط النبي -صلى الله عليه وسلم- في احتكاكه مع الإمبراطورية الرومانية.
وأما أمير السرية فهو عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن رجال الرعيل الأول، فقد كان إحدى الدعائم الكبرى للدعوة الإسلامية منذ دخوله فيها على يد الصديق –رضي الله عنه-.
ومهمة هذه السرية ذات جانبين: مهمة دعوية، ومهمة حربية، لذلك انتدب لها عبد الرحمن بن عوف الذي تربى على محض الإسلام منذ أيامه الأولى.(1/274)
وعن هذه السرية حدثنا عبد الله بن عمر فقال: "دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن بن عوف فقال: ((تجهّز فإني باعثك في سرية في يومك هذا، أو من غد إن شاء الله))، قال ابن عمر: فسمعت ذلك فقلت: لأدخلنّ فلأصلينّ مع النبي الغداة، فلأسمعنّ وصيته لعبد الرحمن بن عوف، قال: فغدوت فصليت فإذا أبو بكر وعمر، وناس من المهاجرين فيهم عبد الرحمن بن عوف، وإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كان أمره أن يسير من الليل إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن: ((ما خلفك عن أصحابك؟))، قال ابن عمر: وقد مضى أصحابه في السحر، فهم معسكرون بالجرف وكانوا سبعمائة رجل، فقال: أحببت يا رسول الله أن يكون آخر عهدي بك وعليّ ثياب سفري، قال: وعلى عبد الرحمن بن عوف عمامة قد لفها على رأسه، قال ابن عمر: فدعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فأقعده بين يديه فنقض عمامته بيده، ثم عممه بعمامة سوداء فأرخى بين كتفيه منها، ثم قال: ((هكذا فاعتم يا ابن عوف))، قال: وعلى ابن عوف السيف متوشحه، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اغزُ باسم الله، وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، لا تغل ولا تغدر ولا تقتل وليدًا))، قال ابن عمر: ثم بسط يده، فقال: ((يا أيها الناس، اتقوا خمسًا قبل أن يحل بكم: ما نقص مكيال قوم إلا أخذهم الله بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يرجعون، وما نكث قوم عهدهم إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما منع قوم الزكاة إلا أمسك الله عليهم قطر السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الطاعون، وما حكم قوم بغير آي القرآن إلا ألبسهم الله شيعًا، وأذاق بعضهم بأس بعض))، قال: فخرج عبد الرحمن حتى لحق أصحابه فسار حتى قدم دومة الجندل، فلما حل بها دعاهم إلى الإسلام فمكث بها ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، وقد كانوا أول ما قدم يعطونه إلا السيف، فلما كان(1/275)
اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانيًّا وكان رأسهم، فكتب عبد الرحمن إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يخبره بذلك، وبعث رجلًا من جهينة يقال له رافع بن مكيث، وكتب يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قد أراد أن يتزوج فيهم، فكتب إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتزوج بنت الأصبغ تماضر، فتزوجها عبد الرحمن وبنى بها، ثم أقبل بها.
نرى في قصة هذه السرية: تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه وشفقته عليهم، حيث ألبس عبد الرحمن بن عوف عمامته بيده، وهذا التواضع منه -صلى الله عليه وسلم- يرفع من معنويات الصحابة -رضي الله عنهم-، ويدفعهم إلى بذل المزيد من الطاقة في سبيل خدمة هذا الدين؛ لأن التلاحم والمودة بين القائد وجنوده، من أهم عوامل نجاح العمل وتحقيق الأهداف.
كان جيش عبد الرحمن جيش مبادئ، فتحرك ضاربًا في هذه الصحراء المترامية يحمل شرع الله إلى خلقه، وهَدي رسوله إلى أمته، مستوعبًا لمقاصد الجهاد وأحكامه، فالجهاد ليس باسم محمد -صلى الله عليه وسلم- فهو عبد الله ورسوله، ولا مكان لزعيم أو أمة أو قبيلة أو راية أو وطن أو جيش أو قومية بجوار هذه الراية الخفاقة في هذا الوجود، راية الله تعالى: ((اغزُ باسم الله))، فحزب الله تعالى هو الذي يحيي هذه الصحراء الظمأى بغيث العقيدة الخالصة، عقيدة التوحيد، وهدفهم من هذا التحرك في سبيل الله وحده، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [(162-163) سورة الأنعام]، قتالهم لمن كفر بالله، وليس القتال على المبدأ الجاهلي:
وأحيانا على بكر أخينا ... إذا لم نجد إلا أخانا
أما هذا الجيش القوي الفتي فهو يمضي في الأرض قدمًا ليقاتل من كفر بالله.(1/276)
ثم نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن بن عوف عن الغلول وهو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، ونهاه عن الغدر في العهود وعن قتل الولدان، وتلك نماذج من الأدب الإسلامي في الجهاد، فالقتال نوع من العنف والقسوة، ولكنه بالنسبة للمسلمين الذين طهر الله تعالى قلوبهم من الغل والحسد أمر عارض لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وحماية المحقين من المبطلين، ولذلك كان محفوفًا بالآداب السامية التي تجعل الإنسان الواحد جامعًا بين منتهى القوة والبطش ومنتهى الرحمة والعطف.
كان عبد الرحمن بن عوف –رضي الله عنه- سيدًا من سادات هذه الأمة، وواحدًا من أكبر دعاتها، فهو يملك من الحلم والحكمة والثقافة والتجربة والعبقرية والقدم في الإسلام والبلاء فيه ما لا يملكه غيره، ولهذا بذل كل طاقته لتحقيق الهدف الرئيسي الأول، وهو الدخول في الإسلام، وكان متريثًا هاديًا خبيرًا بالنفوس والقلوب، فشحن كل الإمكانات الفكرية والحركية، لإنجاح هذه المهمة العظمى، وتكلل عمله بفضل الله تعالى بالنجاح الكبير، وخاصة أن الجهد انصب على إقناع الرئيس، حسب توجيهات المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
إن إسلام سيد بني كلب في دومة الجندل الأصبغ بن عمرو على يد عبد الرحمن بن عوف يذكرنا بجعفر بن أبي طالب الذي أسلم على يديه النجاشي ملك الحبشة، ومصعب بن عمير بالمدينة حيث استجاب له سادات الأوس والخزرج وزعامتهم للإسلام، وهذه الشخصيات العظمى الثلاثة هم من الرواد الأوائل، ومن المؤسسين في المدرسة الإسلامية الأولى بمكة المكرمة.(1/277)
هذا عبد الرحمن بن عوف الذي أصيب بأحد عشر جرحًا أدت بعضها إلى أن يكون عنده عرج من شدتها، يصنع ركائز العقيدة الإسلامية بجيشه المظفر شمال الجزيرة العربية، وينضم الكثيرون إلى الإسلام، لتغدو دومة الجندل موقعًا جديدًا من المواقع الإسلامية، في هذه الأطراف المتنامية، فلا غنى للمسلمين عن هذه القلعة، وعن هذه الموقعة للمستقبل القريب في المواجهة مع العرب والروم المناوئين للإسلام.
وهذه أول مرة يحكم الإسلام خارج حدوده ويتعايش المسلمون والنصارى في دولة واحدة، فالذين أسلموا تطبق عليهم أحكام الإسلام، والذين بقوا على نصرانيتهم تؤخذ منهم الجزية، وكان هذا الانفتاح تدريبًا جديدًا للصحابة على المجتمعات الجديدة التي سينتقلون إليها فيما بعد، وينساحون في العراق والشام وفي قلب فارس والروم، ليعلموا الناس أن العقيدة تنبني من خلال الحوار لا من خلال السيف، وأن مبادئ الإسلام لها قوتها الذاتية التي تشع أنوارها على المجتمعات التي قد انغمست في الظلام البهيم.
إن زواج عبد الرحمن بن عوف من ابنة سيد بني كلب زعيم دومة الجندل يقوي الروابط بين الزعيم المسلم الجديد بدومة الجندل وبين دولة الإسلام في المدينة، ويربط مصيره بمصير دولة الإسلام ومصير الإسلام نفسه حين يشعر أن فلذة كبده مقيمة في العرين الإسلامي الذي أصبح يحن له حنينه لأرضه وبلده.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يحرص على أن يتزوج هو وقادته ببنات سادة القبائل؛ لأن ذلك كسبًا كبيرًا لدعوة الإسلام، حيث تكون المصاهرة سببًا في القرب وامتصاص أسباب العداء ثم الدخول في الإسلام.
رابعًا: غزوة بني لحيان، وغزوة الغابة:(1/278)
بعد رحيل الأحزاب انتقل المسلمون من دور الدفاع إلى دور الهجوم وأصبحوا يمسكون بأيديهم زمام المبادرة، وحان الوقت لتأديب بني لحيان الذين غدروا بخبيب وأصحابه يوم الرجيع، وأخذ ثأر الشهداء، فخرج إليهم -صلى الله عليه وسلم- في مائتي صحابي، في ربيع الأول سنة ست من الهجرة.
كانت أرض بني لحيان من هذيل تبعد عن المدينة أكثر من مائتين من الأميال، وهي مسافة بعيدة، يلاقي مشاقَّ كبيرة كل من يريد قطعها، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان حريصًا على الاقتصاص لأصحابه من الذين استشهدوا غدرًا على يد هذه القبائل الهمجية التي لا قيمة للعهود عندها.
وكما هي عادة النبي -صلى الله عليه وسلم- في تضليل العدو الذي يريد مهاجمته اتجه بجيشه نحو الشمال، بينما تقع منازل بني لحيان في أقصى الجنوب، وقد أعلن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل تحركه نحو الشمال أنه يريد الإغارة على الشام، وحتى أصحابه لم يعلموا أنه يريد بني لحيان إلا عندما انحرف بهم نحو الجنوب، بعد أن اتجه بهم متوغلًا نحو الشمال حوالي عشرين ميلًا في حركة تمويهية على العدو.
وكان تغيير خط سيره من الشمال إلى الجنوب عند مكان يقال له البتراء، ففي ذلك المكان عطف بجيشه نحو الغرب حتى استقام على الجادة منصبًا نحو الجنوب.
كانت بنو لحيان على غاية التيقظ والانتباه، فقد بثت الأرصاد والجواسيس في الطرق ليتحسسوا لها ويتجسسوا لذلك، فما كاد النبي -صلى الله عليه وسلم- يقترب بجيشه من منازلهم حتى انسحبوا منها فارين، وهربوا في رؤوس الجبال، وذلك بعد أن نقلت إليهم عيونهم خبر اقتراب جيش المسلمين من ديارهم.(1/279)
ولما وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- بجيشه عسكر في ديارهم ثم بث السرايا من رجاله ليتعقبوا هؤلاء الغادرين، ويأتون إليه بمن يقدرون عليه، واستمرت السرايا النبوية في البحث والمطاردة يومين كاملين إلا أنها لم تجد أي أثر لهذه القبائل التي تمنعت في رؤوس تلك الجبال الشاهقة، وأقام -صلى الله عليه وسلم- في ديارهم يومين لإرهابهم وتحديهم، وليظهر للأعداء مدى قوة المسلمين وثقتهم بأنفسهم، وقدرتهم على الحركة حتى إلى قلب ديار العدو متى شاؤوا.
رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يغتنم فرصة وجوده بجيشه قريبًا من مكة فقرر أن يقوم بمناورة عسكرية يرهب بها المشركين في مكة، فتحرك بجيشه حتى نزل به وادي عسفان، وهناك استدعى أبا بكر الصديق، وأعطاه عشرة فوارس من أصحابه وأمره بأن يتحرك بهم نحو مكة ليبث الذعر والفزع في نفوسهم، فاتجه الصديق بالفرسان العشرة نحو مكة حتى وصل بهم كراع الغميم، وهو مكان قريب جدًا من مكة، فسمعت قريشٌ بذلك فظنت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ينوي غزوها فانتابها الخوف والفزع والرعب، وساد صفوفها الذعر، هذا هو الذي هدف إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الحركة التي كلف الصديق أن يقوم بها.
أما الصديق وفرسانه العشرة فبعد أن وصلوا كراع الغميم وعلموا أنهم قد أحدثوا الذعر والفزع في نفوس أهل مكة عادوا سالمين إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فتحرك بجيشه عائدًا إلى المدينة.
وعندما وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بطن غران حيث لقي الشهداء من أصحابه مصرعهم على أيدي الخونة من هذيل، ترحم على هؤلاء الشهداء ودعا لهم.(1/280)
لم تكد تمضي ليالٍ قلائل على عودة النبي -صلى الله عليه وسلم- من غزوته لبني لحيان، حتى أغار عيينة بن حصن الفزاري في خيل لغطفان كان عددها أربعين على لقاح الإبل الحوامل ذوات الألبان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالغابة، وقتلوا ذر بن أبي ذر الغفاري، وأسروا زوجته ليلى، واستاقوا الإبل التي كان عددها عشرين، ولما علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بخبر عيينة، خرج في خمسمائة من أصحابه في إثره، بعد أن استخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة، وعند جبل ذي قرد أدرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العدو، فقتل بعض أفراده واستنقذ الإبل.
وقد أبدى سلمة بن الأكوع في هذه الغزوة بطولة نادرة وخاصة قبل وصول كتيبة الفرسان النبوية، حيث كان من ضمن الرعاة في منطقة الغابة، وظل بمفرده يشاغل المغيرين ويراميهم بالنبل، وكان من أعظم الرماة في عصره، وقد استخلص مجموعة من الإبل المنهوبة قبل قدوم كتيبة الفرسان.
أما المرأة التي أسرها المغيرون من غطفان وهي زوجة ابن أبي ذر الذي قتله المشركون أثناء الغارة في الغابة فقد عادت سالمة إلى المدينة بعد أن تمكنت من الإفلات من القوم على ظهر ناقة تابعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقد نذرت إن نجاها الله -عز وجل- لتنحرن تلك الناقة، فلما أخبرت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نذرها تبسم وقال: ((بئسما جزيتيها))، أي أنها حملتك ونجت بك من الأعداء فيكون جزاؤها النحر؟ ثم قال لها -صلى الله عليه وسلم-: ((لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا تملكين))".
وقد عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بعد أن أمضى خمس ليالٍ خارجها.
وهذه الغزوة من أكبر الغزوات التأديبية التي قادها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه ضد أعراب نجد بعد غزوة الأحزاب وبني قريظة وقبل غزوة خيبر.(1/281)
إن حركة السرايا والبعوث التي كان يقودها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترشد المسلمين إلى أهمية متابعة أخبار الأعداء وجمع المعلومات عنهم، فقد كانت المعلومات تتجمع عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مصادر متعددة عن طريق سراياه الاستطلاعية، والمسلمين المتخفين، والمتعاطفين مع المسلمين، والمعاهدين، والفراسة، واستكشاف ما وراء السطور، المهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كان يفاجأ بتآمر داخلي أو تهديد خارجي، وهذا يجعل المسلمين في عصرنا أمام قضية يجب أن يعطوها كامل الاعتبار، مع ملاحظة الضوابط الشرعية.
خامسًا: سرية عبد الله بن عتيك لقتل سلاّم بن أبي الحُقيق:
كان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق من يهود بني النضير كثير التحريض على الدولة الإسلامية، حتى إنه جعل لغطفان ومن حولها من قبائل مشركي العرب الجعل العظيم إن هي قامت لحرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وشاع أمر أبي رافع وانتشر، وكان ممن ألب الأحزاب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأصبح تحريضه على دولة الإسلام من الأخطار التي يجب أن يوضع لها الحد، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي رافع اليهودي رجالًا من الأنصار وأمّر عليهم عبد الله بن عتيك.
وكان أبو رافع في حصن له فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم، قال عبد الله بن عتيك لأصحابه: "اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب، لعلي أن أدخل"، فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة، وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل، فإني أريد أن أغلق الباب، قال: فدخلت، فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم غلق الأغاليق على وتد.
قال ابن عتيك: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب.
ولما دخل أبو عتيك –رضي الله عنه- ومن معه من أفراد سريته إلى داخل الحصن، وأخذوا ينتظرون الفرصة المناسبة لقتل هذا اليهودي الخبيث أبي رافع.(1/282)
وقد جاء في البخاري: "أن عبد الله بن عتيك أدرك نفرًا من أصحاب أبي رافع يسمرون عنده، وكان في علالي له، فكمن حتى ذهب عنه أهل سمره ثم صعد إليه، وكلما دخل بابًا أغلقه عليه من الداخل حتى لا يحول أحد بينه وبين تنفيذ العقوبة بحق أبي رافع، فانتهى إلى أبي رافع فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا يدري أين هو من البيت، قال ابن عتيك: فقلت: يا أبا رافع. قال: من هذا؟ قال ابن عتيك: فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش ما أغنيت شيئًا، وصاح، فخرجت من البيت، فمكثت غير بعيد ثم دخلت إليه، فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ قال: لأمك الويل إن رجلًا في البيت ضربني قبل بالسيف، قلت: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب بابًا بابًا، حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع، فانتهيت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فحدثته فقال: ((ابسط رجلك، فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط)).
وقد ذكرت كتب السيرة أن امرأة أبي رافع حينما ضُرب بالسيف صاحت فأراد قتلها ثم كف عن ذلك؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد نهاهم عن قتل النساء والصبيان، وأن ابن عتيك كان يرطن بلغة اليهود وأنه استخدمها مع زوجة أبي رافع اليهودي وأهل بيته.
وقد ذكرت كتب السيرة أسماء سرية عبد الله بن عتيك وهم: مسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن أسود.(1/283)
إن كل أعضاء هذه السرية كانوا من الخزرج فقد حرصوا على أن ينافسوا إخوانهم من الأوس الذين قتلوا كعب بن الأشرف، فقد كانوا كفرسي رهان في المسابقة في الخيرات.
كما نلاحظ فائدة تعلم لغة العدو: فقد استطاع عبد الله بن عتيك أن يصعد إلى حصن أبي رافع وأن يخاطب امرأته وأن يدخل بيته مطمئنًا؛ لأنه خاطبه بلغته -لغة اليهود- في ذلك الوقت.
ويؤخذ من ذلك استحباب تعلم لغة غير المسلمين لا سيما الأعداء منهم، خاصة لأولئك العسكريين الذين يذهبون لمهمات استطلاعية تجمع أخبار العدو وتزود القيادة بها.
ثم إنها عناية الله -عز وجل- بأوليائه، فهذا الصحابي الجليل استمر بعون من الله تعالى يمشي ويبذل طاقته حتى بعد أن أصيبت رجله وكأنه لا يشكو من علة حتى إذا انتهت مهمته تمامًا، وأصبح غير محتاج لبذل الجهد عاد إليه الألم، وحمله أصحابه، فلما حدّث النبي -صلى الله عليه وسلم- خبره قال له: ((ابسط رجلك))، قال: "فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم اشتكها قط".
إن وجود عبد الله بن أنيس جنديًا في هذه السرية وليس أميرًا فيها له دلالته الكبرى في عملية التربية والتعليم، فهو العقبي البدري المصلي للقبلتين، وهو من السابقين الأولين من الأنصار، وليس عبد الله بن أنيس نكرة في مجال الجهاد والبطولات، فلا بد أن نذكر أنه وحده الذي ابتعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اغتيال سفيان بن خالد الهذلي في أطراف مكة، وهو الذي كان يعد العدة لغزو المدينة، وهو الذي نجح نجاحًا باهرًا في مهمته تلك، وقتله في فراشه وداخل خيمته، وأعجز قومه هربًا، وعاد منتصرًا مظفرًا، فهو مليء بالمجد، ومع ذلك فلم يكن أمير المجموعة، إنما كان أحد أفرادها، وهو يحمل هذا التاريخ المشرق في سجلاته عند ربه -عز وجل- قبل أن يكون عند الناس.(1/284)
إنه درس تربوي خالد قد استوعبه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا النوع من التربية لا مثيل له في عالم الأرض، فالذي يحكم في الجيوش تسلسل الرتب حتى أن الرتبة الواحدة يتحكم فيها المتقدم بالمستجد، وعلى المستجد السمع والطاعة للمتقدم ولو بأشهر، وبهذا المنطق لا يجوز أن يتقدم على عبد الله بن أنيس أحد، ولكنها التربية النبوية العظيمة التي خطها النبي -صلى الله عليه وسلم- في أكثر من موقع، لتجعل هذا الجيل يتعلم من سابقه ويتدرب على يديه، فطالما أرسل -عليه الصلاة والسلام- سرايا فيها أبو بكر وعمر جنديان عاديان في غمار الجنود.
لقد شهد العام السادس من الهجرة تصعيدًا عنيفًا في عمليات المواجهة مع العدو، ولا يكاد يمر شهر دون سرية أو سريتين تضرب في الصحراء، وتفض جمعًا أو تحطم عدوًا أو تغتال طاغوتًا، فقد كان شعار المرحلة: ((الآن نغزوهم ولا يغزوننا))، فقد كان حزب الله ينطلق في الآفاق باسم الله، يحمل المبادئ الخالدة، والقيم العليا يقدمها للخلق كافة، ويزيح كل طاغوت يحول دون وصول هذه المبادئ، ونشهد حزب الله في أفراده جميعًا، والذين تلقوا أعلى مستويات التربية الخلقية والفكرية والعسكرية والسياسية كيف ينفذون هذا المنهج وكيف يكون واقعهم ترجمة عملية وحية لمبادئهم، وكيف يتقدمون ليتصدروا مرحلة جديدة تبدأ معالمها وملامحها مع صلح الحديبية الذي هو عنوان الدرس القادم إن شاء الله تعالى..
والحمد لله...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس الخامس عشر
غزوة الحديبية
في يوم الاثنين الأول من ذي القعدة سنة 6هـ خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- من المدينة متوجهًا بأصحابه إلى مكة؛ لأداء العمرة.(1/285)
وسببها أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- رأى رؤيا في منامه وهو في المدينة، وتتلخص هذه الرؤيا التي رآها أنه قد دخل مكة مع أصحابه المسلمين محرمًا مؤديًا للعمرة، وقد ساق الهدي معظمًا للبيت مقدسًا له، فبشر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه ففرحوا بها فرحًا عظيمًا، فقد طال عهدهم بمكة والكعبة التي رضعوا بلبان حبها ودانوا بتعظيمها، وما زادهم الإسلام إلا ارتباطًا بها وشوقًا إليها، وقد تاقت نفوسهم إلى الطواف حولها، وتطلعت إليها تطلعًا شديدًا، وكان المهاجرون أشدهم حنينًا إلى مكة؛ فقد ولدوا ونشؤوا فيها وأحبوها حبًّا شديدًا، وقد حيل بينهم وبينها، فلما أخبرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك، تهيؤوا لتلك الزيارة العظيمة، واستنفر -صلى الله عليه وسلم- أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه؛ لأنه كان يخشى أن تصده قريش عن البيت الحرام، وكانت استخبارات المدينة قد علمت بأمر التحالف العسكري الذي عقد بين قريش في جنوب المدينة المنورة وخيبر في شمالها، وكان هدف هذا التحالف جعل الدولة الإسلامية بين طرفي الكماشة، ثم إطباق فكيها عليها وإنهاء الوجود الإسلامي فيها، فقد حان الوقت لكسر ذلك التحالف سياسيًّا، فقد كانت الكعبة في نظر العرب قاطبة ليست ملكًا لقريش، بل هي تراث أبيهم إسماعيل، ولهذا فليس من حق قريش أن تمنع من زيارتها من تشاء، وتجيز من تشاء، فإذن من حق محمد وأصحابه زيارة الكعبة.(1/286)
وانتشر خبر خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين قبائل العرب، وكان انتشار الخبر له أثر في الرأي العام، وخصوصًا بعدما أكد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه لا يريد حربًا، وإنّما يريد أن يعتمر ويعظم شعائر الله، وحقق هذا الفعل الكريم مكاسب إعلامية رفيعة المستوى، وقد كان هدف النبي -صلى الله عليه وسلم- معلنًا ألا وهو زيارة بيت الله الحرام لأداء العمرة، فتجرد هو وأصحابه من المخيط، ولبسوا ثياب الإحرام، وأحرم بالعمرة من ذي الحليفة بعد أن قلد الهدي وأشعره.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- على جانب كبير من الحيطة والحذر، فقد أرسل بشر بن سفيان الخزاعي عينًا له، وقدّم بين يديه طليعة استكشافية مكونة من عشرين رجلًا، ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عباد بن بشر فقدمه أمامه طليعة في خيل المسلمين من عشرين فارسًا، وكان فيها رجال من المهاجرين والأنصار، وكان هدفه -صلى الله عليه وسلم- من ذلك الاستعداد للطوارئ التي يمكن أن يفاجأ بها، وأيضا فقد كانت مهمة هذه الطليعة استكشاف خبر العدو.
وأخذ -صلى الله عليه وسلم- بمشورة عمر في ذي الحليفة عندما قال له: "يا رسول الله تدخل على قوم هم لك حرب بغير سلاح ولا كراع؟"، فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة من يحمل له الكراع والسلاح، وكان قصده -صلى الله عليه وسلم- من ذلك الاستعداد لهؤلاء الأعداء الذين يملكون السلاح والعتاد ما يستطيعون به إلحاق الأذى بالمسلمين والنيل منهم، وهذا التعامل مع سنة الأخذ بالأسباب من هديه الكريم الذي جعله لأمته لتقتدي به من بعده -صلى الله عليه وسلم-؛ لما في ذلك من المصالح الكثيرة، ولما فيه من درء مكايد الأعداء الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر.(1/287)
ولما وصل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي الخزاعي، فقال: "يا رسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك ومعها العوذ المطافيل، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبدًا"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش؟ والله إني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهر الله له أو تنفرد هذه السالفة)).
وقد استشار -صلى الله عليه وسلم- أصحابه لما بلغه خبر استعداد قريش لصده عن دخول البيت الحرام، فتقدم أبو بكر الصديق برأيه الذي تدعمه الحجة الواضحة، حيث أشار على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بترك قتالهم والاستمرار على ما خرج له من أداء العمرة حتى يكون بدء القتال منهم، فاستحسن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الرأي، وأخذ به وأمر الناس أن يمضوا في هذا السبيل.
وعندما اقتربت خيل المشركين من المسلمين صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه صلاة الخوف بعسفان.
ولما بلغه أن قريشًا قد خرجت تعترض طريقه وتنصب كمينًا له ولأصحابه بقيادة خالد بن الوليد، وهو لم يقرر المصادمة، رأى أن يغير طريق الجيش الإسلامي تفاديًا للصدام مع المشركين، فقال: ((من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟))، فقال رجل من أسلم: "أنا يا رسول الله"، فسلك بهم طريقًا وعرًا بين شعاب شق على المسلمين السير فيه حتى خرجوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، وعند ذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للناس: ((قولوا: نستغفر الله ونتوب إليه))، فقالوا ذلك، فقال: ((والله إنها الحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها)).(1/288)
فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس أن يسلكوا ذات اليمين في طريق تخرجه إلى مهبط الحديبية من أسفل مكة، فسلك الجيش ذلك الطريق بخفة ودون أن يشعر به أحد، فما نظر خالد إلا وقترة جيش المسلمين قد ثارت، فعاد مسرعًا هو ومن معه إلى مكة يحذر أهلها ويأمرهم بالاستعداد لهذا الحدث المفاجئ، وقد أصاب الذعر المشركين وفوجئوا بنزول الجيش الإسلامي بالحديبية حيث تعرضت مكة للخطر، وأصبحت مهددة من المسلمين تهديدًا مباشرًا.
لم تكن حركة المسلمين على هذا الطريق خوفًا من قوات الجيش، فالذي يخاف من عدوه لا يقترب من قاعدته الأصلية وهي مركز قواته، بل يحاول الابتعاد عن قاعدة العدو حتى يطيل خط مواصلات العدو، وبذلك يزيد من صعوباته ومشاكله، ويجعل فرصة النصر أمامه أقل من حالة الاقتراب.
وعندما اقترب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الحديبية، بركت ناقته القصواء، فقال الصحابة -رضي الله عنهم-: "خلأت القصواء"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل))، ثم قال: ((والذي نفسي بيده، لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها))، ثم زجرها فوثبت ثم عدل عن دخول مكة، وسار حتى نزل بأقصى الحديبية على بئر قليل الماء، ما لبثوا أن نزحوه ثم اشتكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العطش، فتمضمض النبي -صلى الله عليه وسلم- في دلو وصبه في البئر، ونزع سهمًا من كنانته فألقاه فيها ودعا ففارت.
إن كل شيء في هذا الكون يسير بأمر الله ومشيئته، ولا يخرج في سيره عن مشيئته وإرادته، فتأمل في ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم- أين بركت؟ وكيف كره الصحابة بروكها وحاولوا إنهاضها لتستمر في سيرها فيستمروا في سيرهم إلى البيت العتيق مهما كانت النتائج، ولكن الله -سبحانه وتعالى- أراد غير ذلك.(1/289)
وهاهنا مسألة مهمة قلّ من تنبه لها: وهو أن أهل البدع والفجور، والبغاة والظلمة، إذا طلبوا أمرًا يعظّمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى، أجيبوا إليه وأعطوه، وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيعانون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويُمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوبٍ لله تعالى مُرْضٍ له، أجيب إلى ذلك كائنًا من كان، ما لا يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضيع وأصعبها، وأشقها على النفوس.
ثم إن الله -سبحانه وتعالى- قضى ألا يكون قتال بين المسلمين والمشركين من أهل مكة في هذه الغزوة بالذات، لحكم ظهرت فيما بعد منها:
- أن دخول المسلمين بالقوة يعني أن تحدث مذابح، وتزهق أرواح كثيرة، وتسفك دماء غزيرة من الطرفين.
- ثم إن من المحتمل أن ينال الأذى والقتل والتشريد على أيدي المؤمنين بعض المستضعفين من إخوانهم من المسلمين في مكة، وهذا فيه ما فيه من المعرّة التي لا يليق بمسلم أن يقع فيها، قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [(25) سورة الفتح].
- وأيضًا لقد سبق في علم الله -عز وجل- أن هؤلاء الذين يقفون اليوم صادين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضوان الله عليهم- عن المسجد الحرام هم الذين سيفتح قلوبهم إلى الإسلام، ويستفتح الله على أيديهم بلادًا كثيرة، حين يحملون هذه الرسالة للناس، وينيرون ظلمة الطريق للمدلجين.(1/290)
بذل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما في وسعه لإفهام قريش أنه لا يريد حربًا معهم، وإنما يريد زيارة البيت الحرام وتعظيمه، وهو حق للمسلمين، كما هو حق لغيرهم، وعندما تأكدت قريش من ذلك أرسلت إليه من يفاوضه ويتعرف على قوة المسلمين ومدى عزمهم على القتال إذا أُلجئوا إليه، وطمعًا في صد المسلمين عن البيت بالطرق السلمية من جهة ثالثة.
جاء بُدَيل بن ورقاء في رجال من خزاعة، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل تهامة، وبينوا أن قريشًا تعتزم صد المسلمين عن دخول مكة، فأوضح لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- سبب مجيئه، وذكر لهم الضرر الذي وقع على قريش من استمرار الحرب، واقترح عليهم أن تكون بينهم هدنة إلى وقت معلوم حتى يتضح لهم الأمر، وإن أبوا فلا مناص من الحرب ولو كان في ذلك هلاكه، فنقلوا ذلك إلى قريش وقالوا لهم: "يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد، إن محمدًا لم يأت لقتال، وإنما جاء زائرًا هذا البيت"، فاتهموهم وخاطبوهم بما يكرهون، وقالوا: "وإن كان إنما جاء لذلك فلا والله لا يدخلها علينا عنوة أبدًا ولا تتحدث بذلك العرب".
وقد ظهرت براعة النبي -صلى الله عليه وسلم- السياسية في عرضه على مشركي مكة الهدنة؛ لأن في ذلك فوائد كثيرة منها:
- أنه يضمن حياد قريش ويعزلها عن أي صراع يحدث في الجزيرة العربية، سواء كان هذا الصراع مع القبائل العربية الأخرى أم مع اليهود، ذلك العدو اللئيم الغادر الذي يتربص بالمسلمين الدوائر.
- أيضًا حرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أن يبقى الاتصال مفتوحًا بينه وبين قريش، ليسمع منهم ويسمعوا منه بواسطة الرسل والسفراء، وفي هذا تقريب للنفوس وتبريد لجو الحرب، وإضعاف لحماسهم نحو القتال.(1/291)
- ثم إن العقلاء الذين يفكرون بعقولهم حين يسمعون كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأنه جاء معظمًا للبيت والمشركون يردونه وهو يصرّ على تعظيمه، سيقف هؤلاء بجانبه ويتعاطفون معه فيقوى مركزه، ويضعُف مركز قريش الإعلامي والديني في نفوس الناس.
ومع ذلك لم تقبل قريش ما نقله بديل بن ورقاء الخزاعي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه جاء زائرًا للبيت ولم يأت مقاتلًا، واتهمتهم، بل وأسمعتهم ما يكرهون، فاقترح عليهم عروة بن مسعود الثقفي أن يقابل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويسمع منه، ثم يأتيهم بالخبر اليقين.
وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه فقال: "فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ، فلما بلحوا عليَّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آتيه، قالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- نحوًا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإنني والله لا أرى وجوهًا، وإني لأرى أشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك، فرد عليه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وكان بجوار النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال له: امصص بظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه؟ فقال: من ذاك؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك".(1/292)
لقد حاول عروة بن مسعود أن يشنَّ على المسلمين حربًا نفسية حتى يهزمهم معنويًّا، فاستخدم عنصر الإشاعة، ويظهر ذلك عندما لوّح بقوة قريش العسكرية، معتمدًا على المبالغة في تصوير الموقف بأنه سيؤول لصالح قريش لا محالة، وذلك بأن يوقع الفتنة والإرباك في صفوف المسلمين، وذلك حينما حاول إضعاف الثقة بين القائد وجنوده عندما قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأرى أشوابًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك"، حاول ذلك من أجل التأثير على نفسيات المسلمين ولخدمة أهداف قريش العسكرية والإعلامية، وحاول أيضًا أن يفتعل أزمة عسكرية كبيرة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وجنوده من أجل التأثير على معنوياتهم وتحطيم عزائمهم، وهذا من أقوى أساليب الحرب النفسية التي استخدمت ضد المسلمين أثناء تلك المفاوضات.
وحاول عروة أن يثير الرعب وذلك بتخويف المسلمين من قوة قريش التي لا تقهر، وتصوير المعركة بأنها في غير صالحهم.
لقد مارس عروة بن مسعود في مفاوضته عناصر الحرب النفسية من إشاعة وافتعال الأزمات وإثارة الرعب، إلا أن تلك العناصر تحطمت أمام الإيمان العميق والتكوين الدقيق والصف الإسلامي المرصوص.(1/293)
ومن المفارقات الرائعة التي حصلت أثناء المفاوضات مع عروة بن مسعود وهي من عجائب الأحداث التي يستشف منها الدليل القاطع على قوة الإيمان التي كان يتمتع بها أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى قدرة هذا الدين في تحويل الإنسان من شيطان مريد إلى إنسان فاضل نبيل، حيث كان أحد الذين يتولون حراسة النبي -صلى الله عليه وسلم- أثناء محادثاته مع عروة بن مسعود الثقفي في الحديبية هو المغيرة بن شعبة - ابن أخي عروة بن مسعود نفسه - وكان المغيرة هذا قبل أن يهديه الله للإسلام شابًّا فاتكًا سكيرًا قاطعًا للطريق غير أن دخوله للإسلام حوله إلى إنسان آخر، وقد أصبح بفضل الله تعالى من الصفوة المؤمنة، وقد وقع عليه الاختيار ليقوم بمهامّ حراسة النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الجو الملبد بغيوم الحرب، وكان من عادة الجاهلية في المفاوضات، أن يمسك المفاوض بلحية الذي يراه ندًّا له أثناء الحديث، وعلى هذه القاعدة كان عروة بن مسعود يمسك بلحية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثناء المناقشة، الأمر الذي أغضب المغيرة بن شعبة الذي كان قائمًا على رأس النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسيف يحرسه وعلى وجهه المغفر، فانتهر عمّه وقرع يده بقائم السيف قائلًا له: "اكففْ يدك عن مس لحية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن لا تصل إليك"، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبتسم للذي يجري بين عروة المشرك وبين ابن أخيه المؤمن، ولما كان المغيرة بن شعبة يقف بلباسه الحربي متوشحًا بسيفه ودرعه وعلى وجهه المغفر، فإن عمّه عروة لم يكن باستطاعته معرفته، فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في أشد الغضب: "ليت شعري من أنت يا محمد؟ من هذا الذي أرى من بين أصحابك؟"، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة))، فقال له عمّه: "وأنت بذلك يا غُدر؟ لقد أورثتنا العداوة من ثقيف أبد الدهر، والله ما غُسلت غدرتك إلا بالأمس".(1/294)
كان المغيرة صحب قومًا في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء)).
لقد فشل عروة في مفاوضاته، ورجع محذرًا قريشًا من أن تدخل في صراع مسلح مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وقال لهم: "يا قوم، والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، وإني والله ما رأيت ملكًا قط أطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمد وأصحابه، والله ما يشدّون إليه النّظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلا أن يشير إلى أمر فيُفعل، وما يتنخم وما يبصق إلا وقعت في يدي رجل منهم يمسح بها جلده، وما يتوضأ إلا ازدحموا عليه أيهم يظفر منه بشيء، وقد حزرت القوم، واعلموا إنكم إن أردتم السيف بذلوه لكم، وقد رأيت قومًا ما يبالون ما يُصنع بهم إذا منعوا صاحبهم، والله لقد رأيت نسيات معه، وإن كنّ ليسلمنه أبدًا على حال، فروا رأيكم، وإياكم وإضجاع الرأي فمادوه يا قوم، اقبلوا ما عرض فإني لكم ناصح مع أني أخاف ألا تُنصروا عليه، رجل أتى هذا البيت معظمًا له، معه الهدي، ينحره وينصرف".
فقالت قريش: لا تنكلم بهذا يا أبا يعفور، لو غيرك تكلم بها لَلُمناه، ولكن نرده عن البيت في عامنا هذا ويرجع قابل.
لقد انتقلت الحرب النفسية وتأثيرها في صفوف المسلمين لتعمل داخل جبهة قريش وفي نفوسهم، فقد كان تصوير عروة لما رآه صادقًا، حيث بيَّن لقريش وضع المسلمين في الحديبية، من طاعتهم لنبيهم الكريم وحبهم له وتفانيهم بالدفاع عنه، وبما يتمتعون به من معنويات عالية جدًّا، واستعداد عسكري ونفسي يفوق الوصف، فكان ذلك بمثابة التحذير الفعلي لقريش بعدم التعجيل والدخول في حرب مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، مما قد تكون نتائج هذه المعركة لصالح المسلمين، الأمر الذي أسقط في أيدي زعمائها، ولم تكن قريش تتوقعه أبدًا في تقويمها للأمور.(1/295)
لقد كان وقع كل كلمة قالها سيد ثقيف كالصاعقة على مسامع نفوس زعماء قريش، لقد كان -صلى الله عليه وسلم- موفقًا من قبل الله تعالى، ولذلك نجد أثره على عروة بن مسعود، مما جعل الانشقاق يدب في معسكر قريش، وأخذت جبهة قريش تتداعى أمام قوة الحق الصامدة، وكذلك فقد انهارت حجة قريش في جمعها للعرب ضد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
لقد نجح النبي -صلى الله عليه وسلم- بحكمته وذكائه نجاحًا عظيمًا باستخدام الأساليب الإعلامية والدبلوماسية المتعددة للحصول على الغاية المنشودة، وهي تفتيت جبهة قريش الداخلية، وإيقاع الهزيمة في نفوسهم، وإبعاد حلفائهم عنهم، وإن هذه النتيجة لتعد بحق نصرًا ساحقًا حققه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الجبهات السياسية والإعلامية والعسكرية.(1/296)
بعدها بعثت قريش الحلس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إن هذا من قوم يتألهون، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه))، وأمر برفع الصوت في التلبية، فلما رأى الحلس الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده رجع إلى قريش قبل أن يصل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك إعظامًا لما رأى، فقد كان الوادي مجدبًا لا ماء فيه ولا مرعى، وقد أكل الهدي أوباره من طول الحبس عن محله، ورأى المسلمين وقد استقبلوه رافعين أصواتهم بالتلبية وهم في زي الإحرام، وقد شعِثوا من طول المكوث على إحرامهم، ولذلك استنكر تصرف قريش بشدة، وانصرف سيد بني كنانة عائدًا من حيث أتى دون أن يفاتح النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء أو أن يفاوضه كما كان مقررًا من قبل، واعتبر عمل قريش عدوانيًّا ضد زوار بيت الله الحرام، ولا يجوز لأحد أن يؤيدها أو أن يناصرها على ذلك، فرجع محتجًّا على قريش التي أعلنت غضبها لصراحة الحلس، وحاولت أن تتلافى هذا الموقف الذي يهدد بانقسام خطير في جبهة قريش العسكرية، ونسف الحلف المعقود بين قريش والأحابيش، وقالوا لزعيم الأحابيش: إنما كل ما رأيت هو مكيدة من محمد وأصحابه، فاكفف عنّا حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.(1/297)
رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن من الضرورة إرسال مبعوث خاص من جانبه إلى قريش يبلغهم نواياه السلمية بعدم الرغبة في القتال، واحترام المقدسات، ومن ثم أداء مناسك العمرة والعودة إلى المدينة، فوقع الاختيار على أن يكون مبعوث الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى قريش خراش بن أمية الخزاعي، فلما دخل مكة على جمل عقرت به قريش، وأرادوا قتل خراش فمنعهم الأحابيش، فعاد خراش بن أمية إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبره بما صنعت قريش، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرسل سفيرًا آخر، ووقع الاختيار في بداية الأمر على عمر بن الخطاب فاعتذر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الذهاب إليهم، وأشار على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبعث عثمان مكانه، وعرض عمر –رضي الله عنه- رأيه هذا معززًا بالحجة الواضحة، وهي ضرورة توافر الحماية لمن يخالط هؤلاء الأعداء، وحيث إن هذا الأمر لم يكن متحققًا بالنسبة لعمر، فقد أشار على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعثمان –رضي الله عنه-؛ لأن له قبيلة تحميه من أذى المشركين حتى يبلغ رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال لرسول الله: "إني أخاف قريشًا على نفسي، قد عرفت عداوتي لها، وليس بها من بني عدي من يمنعني، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم"، فلم يقل رسول الله شيئًا، قال عمر: "ولكن أدلك يا رسول الله على رجل أعز بمكة مني، وأكثر عشيرة وأمنع، عثمان بن عفان".
فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عثمان –رضي الله عنه- فقال: ((اذهب إلى قريش وأخبرهم أنا لم نأتِ لقتال أحد، وإنما جئنا زوارًا لهذا البيت، معظمين لحرمته، معنا الهدي، ننحره وننصرف)).(1/298)
فخرج عثمان بن عفان –رضي الله عنه- حتى قرب من مكة فوجد قريشًا هنالك فقالوا: "أين تريد؟"، قال: "بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليكم يدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، تدخلون في الدين كافة، فإن الله مظهر دينه ومعز نبيه، وأخرى تكفون ويلي هذا منه غيركم، فإن ظفروا بمحمد فذلك ما أردتم، وإن ظفر محمد كنتم بالخيار أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون، إن الحرب قد نهكتكم، وأذهبت بالأماثل منكم".
فجعل عثمان يكلمهم فيأتيهم بما لا يريدون ويقولون: "قد سمعنا ما تقول ولا كان هذا أبدًا، ولا دخلها علينا عنوة، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا".
فقام إليه أبان بن سعد بن العاص فرحّب به وأجاره، وقال: لا تقصر عن حاجتك، ثم نزل عن فرس كان عليه، فحمل عثمان على السرج وردفه وراءه، فدخل عثمان مكة، فأتى أشرافهم رجلًا رجلًا، أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية وغيرهما، فجعلوا يردون عليه: إن محمدًا لا يدخلها علينا أبدًا.
وعرض المشركون على عثمان –رضي الله عنه- أن يطوف بالبيت فأبى، وقام عثمان بتبليغ رسالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المستضعفين بمكة، وبشّرهم بقرب الفرج والمخرج، وأخذ منهم رسالة شفهية إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء فيها: "اقرأ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منا السلام، إن الذي أنزله بالحديبية لقادر على أن يدخله بطن مكة".(1/299)
في هذه الأثناء بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن عثمان –رضي الله عنه- قُتل، مباشرة دعا رسول الله أصحابه إلى مبايعته على قتال المشركين ومناجزتهم، فاستجاب الصحابة وبايعوه على الموت، وكان أول من بايعه على ذلك سنان عبد الله بن وهب الأسدي فخرج الناس بعده يبايعون على بيعته، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات، في أول الناس وأوسطهم وآخرهم، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده اليمنى: ((هذه يد عثمان))، فضرب بها على يده، وكان عدد الصحابة الذين أخذ منهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- المبايعة تحت شجرة هناك ألفًا وأربعمائة صحابي، وقد تحدث القرآن الكريم عن أهل بيعة الرضوان، وورد فضلهم في نصوص كثيرة من الآيات القرآنية، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [(10) سورة الفتح].
بلغ قريشًا أمر بيعة الرضوان، وأدرك زعماؤها تصميم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على القتال، فأوفدوا سهيل بن عمرو في نفر من رجالهم لمفاوضة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سهيلًا قال: ((لقد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل)).
كان سهيل بن عمرو أحد زعماء قريش البارزين الذين كانوا يُعرفون بالحنكة السياسية والدهاء، فهو خطيب ماهر، ذو عقل راجح، ورزانة، وأصالة في الرأي.
شرع الفريقان المتفاوضان في بحث بنود الصلح، وذلك بعد رجوع عثمان بن عفان –رضي الله عنه-، وقد استعرض الفريقان النقاط التي يجب أن تتضمنها معاهدة الصلح، واستعرضا في مباحثاتهما مختلف القضايا التي كانت تشكل مثار الخلاف بينهما.(1/300)
هذا وقد اتفق الفريقان من حيث المبدأ على بعض النقاط، واختلفا على البعض الآخر، وقد طال البحث والجدل والأخذ والرد حول هذه البنود، وبعد المراجعات والمفاوضات تقاربت وجهات النظر بين الفريقين، وعند الشروع في وضع الصيغة النهائية للمعاهدة وكتابتها لتكون نافذة المفعول رسميًّا حدث خلاف بين الوفدين على بعض النقاط كاد أن يعثِّر سير هذه الاتفاقية، فعندما شرع النبي -صلى الله عليه وسلم- في إملاء صيغة المعاهدة المتفق عليها أمر الكاتب وهو علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، بأن يبدأ المعاهدة بكلمة: ((بسم الله الرحمن الرحيم))، وهنا اعترض رئيس الوفد القرشي سهيل بن عمرو قائلًا: لا أعرف الرحمن، اكتب: باسمك اللهم، فضج الصحابة على هذا الاعتراض قائلين: هو الرحمن، ولا نكتب إلا الرحمن، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- تمشيًا مع سياسة الحكمة والمرونة والحِلْم، قال للكاتب: ((اكتب باسمك اللهم)).
واستمر في إملاء صيغة المعاهدة، فأمر الكاتب أن يكتب: هذا ما اصطلح عليه رسول الله، وقبل أن يكمل الجملة اعترض رئيس الوفد القرشي على كلمة رسول الله قائلًا: لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟ اكتب اسمك واسم أبيك.
واعترض المسلمون على ذلك، ولكن رسول الله بحكمته وتسامحه وبُعد نظره حسم الخلاف وأمر الكاتب بأن يشطب كلمة رسول الله من الوثيقة فالتزم الصحابة الصمت والهدوء.(1/301)
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- وافق المشركين على ترك كتابة بسم الله الرحمن الرحيم، وكتابة باسمك اللهم بدلًا عنها، وكذا وافقهم في كتابة محمد بن عبد الله، وترك كتابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكذا وافقهم في رد من جاء منهم إلى المسلمين دون من ذهب منهم إليهم، وإنما وافقهم في هذه الأمور للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح، مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور، أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد، وكذا قوله: محمد بن عبد الله، هو أيضًا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وليس في ترك وصف الله -سبحانه وتعالى- في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك، ولا في ترك وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة ما ينفيها، فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك.
وتم عقد هذه المعاهدة وكانت صياغتها: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، واصطلحا على وضع الحرب على الناس عشر سنين، يأمن فيهنّ الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجًّا أو معتمرًا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازًا إلى مصر أو إلى الشام، يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا أسلال ولا أغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأنت ترجع عنّا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثًا معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تدخلها بغيرها، وعلى أن هذا الهدي ما جئناه ومحله فلا تقدمه علينا.(1/302)
وأشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين. فمن المسلمين: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن سلمة، وعلي بن أبي طالب كاتب المعاهدة -رضي الله عنهم أجمعين-، ومن المشركين: مكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو.
تعتبر هذه المعاهدة أساسًا للمعاهدات الإسلامية ونموذجًا فريدًا للمعاهدات الدولية، بما سبقها من مفاوضات، وما حوته من شروط، وما تمثل بها من خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- في النزول عند رضا الطرف الآخر، وفي كيفية الصياغة والالتزام.
عقدت هذه المعاهدة في الوقت الذي كان فيه المسلمون بمركز القوة لا الضعف، وكان باستطاعتهم ألا يقبلوا شروطها التي اغتاظ منها كثير من الصحابة، ولكن ما كان لهم أن يخرجوا عن طوع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى، وقد تمادى رسول قريش على رسول الله في مفاوضته، وكان فردًا بين جيش المسلمين، فلم ينله أذى، ولم يتمادَ عليه المسلمون بالقتل؛ لأن السفراء لا تقتل، ولكن رسول الله يرضيه ويسعه بالحلم واللين، حتى يصل إلى الغاية التي ينشدها الإسلام، وهي حقن الدماء، ورجاء أن يعقل القوم الحق، وأن يراجعوا المواقف، ويسمعوا كلام الله، وتدخل الدعوة الإسلامية طورًا جديدًا بصور أخرى في الانتشار والاتصال بالناس.
لقد كانت الصورة الظاهرة في شروط الحديبية فيها ضيم للمسلمين، وهي في باطنها عز وفتح ونصر، حيث كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى ما وراء المعاهدة من الفتح العظيم من وراء ستر رقيق، وكان يعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه، وهو -صلى الله عليه وسلم-
يعلم ما في ضمن هذا المكروه من محبوب.(1/303)
إن من أبلغ دروس صلح الحديبية درس الوفاء بالعهد، والتقيد بما يفرضه شرف الكلمة من الوفاء بالالتزامات التي يقطعها المسلم على نفسه، وقد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه أعلى مثل في التاريخ القديم والحديث، لاحترام كلمة لم تكتب، واحترام كلمة تكتب كذلك، وفي الجد في عهوده، وحبه للصراحة والواقعية، وبغضه التحايل والالتواء والكيد، وذلك حينما كان يفاوض سهيل بن عمرو في الحديبية، حيث جاءه ابن سهيل يرسف في الأغلال، وقد فرّ من مشركي مكة، وكان أبوه يتفاوض مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكان هذا الابن ممن آمنوا بالإسلام، جاء مستصرخًا بالمسلمين، وقد انفلت من أيدي المشركين، فلما رأى سهيل ابنه قام إليه وأخذ بتلابيبه وقال: "يا محمد، لقد لجت القضية بيني وبينك": أي فرغنا من المناقشة قبل أن يأتيك هذا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((صدقت)) فقال أبو جندل: "يا معشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟!"، فلم يغن عنه ذلك شيئًا، ورده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال لأبي جندل: ((إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهدًا، وإنا لا نغدر بهم)).
غير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إزاء هذه المأساة التي حالت بنود معاهدة الصلح بينه وبين أن يجد مخرجًا منها لأبي جندل المسلم، طمأن أبا جندل وبشّره بقرب الفرج له ولمن على شاكلته من المسلمين، وقال له وهو يواسيه: ((يا أبا جندل، اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا)).
وفي هذه الكلمات النبوية المشرقة العظيمة دلالة ليس فوقها دلالة على مقدار حرص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتمسكه بفضيلة الوفاء بالعهد مهما كانت نتائجه وعواقبه فيما يبدو للناس.(1/304)
لقد كان درس أبي جندل امتحانًا قاسيًا ورهيبًا لهذا الوفاء بالعهد أثبت فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون نجاحًا عظيمًا في كبت عواطفهم وحبس مشاعرهم، وقد صبروا لمنظر أخيهم أبي جندل وتأثروا من ذلك المشهد عندما كان أبوه يجتذبه من تلابيبه، والدماء تنزف منه، مما زاد في إيلامهم، حتى أن الكثيرين منهم أخذوا يبكون بمرارة إشفاقًا منهم على أخيهم في العقيدة، وهم ينظرون إلى أبيه المشرك وهو يسحبه بفظاظة الوثني الجلف ليعود به مرة أخرى إلى سجنه الرهيب في مكة.
وقد صبر أبو جندل واحتسب لمصابه في سبيل دينه وعقيدته، وتحقق فيه قول الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [(2-3) سورة الطلاق]، فلم تمر أقل من سنة حتى تمكن مع إخوانه المسلمين المستضعفين بمكة من الإفلات من سجون مكة، وأصبحوا قوة صار كفار مكة يخشونها، بعد أن انضموا إلى أبي بصير، وسيطروا على طرق قوافل المشركين الآتية من الشام.
بعد الاتفاق على معاهدة الصلح وقبل تسجيل وثائقها ظهرت بين المسلمين معارضة شديدة وقوية لهذه الاتفاقية، وخاصة في البندين اللذين يلتزم النبي -صلى الله عليه وسلم- بموجبهما برد من جاءه من المسلمين لاجئًا، ولا تلتزم قريش برد من جاءها من المسلمين مرتدًا، والبند الذي يقضي بأن يعود المسلمون من الحديبية إلى المدينة دون أن يدخلوا مكة ذلك العام، وقد كان أشد الناس معارضة لهذه الاتفاقية وانتقادًا لها، عمر بن الخطاب وأسيد بن حضير سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج.(1/305)
وقد ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله معلنًا معارضته لهذه الاتفاقية، وقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألست برسول الله؟"، قال: ((بلى))، قال: "أوَلسنا بالمسلمين؟"، قال: ((بلى))، قال: "أوَليسوا بالمشركين؟"، قال: ((بلى))، قال: "فعلام نعطي الدنية في ديننا؟"، قال: ((إني رسول الله ولست أعصيه)).
لما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قضية كتابة الصلح قال لأصحابه: ((قوموا فانحروا ثم احلقوا)) حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: "يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدنك، وتدعو حالقك فيحلقك"، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا.
كان رأي أم سلمة سديدًا ومباركًا، حيث فهمت -رضي الله عنها- وعن الصحابة أنه وقع في أنفسهم أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرهم بالتحلل أخذًا بالرخصة في حقهم، وأنه يستمر على الإحرام أخذًا بالعزيمة في حق نفسه، فأشارت على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال، وعرف النبي -صلى الله عليه وسلم- صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به، فلم يبق بعد ذلك غاية تنتظر، فكان ذلك رأيًا سديدًا ومشورةً مباركةً.
كما نلاحظ أهمية القدوة العملية، فقد دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أمر وكرره ثلاث مرات، وفيهم كبار الصحابة وشيوخهم، ومع ذلك لم يستجب أحد لدعوته، فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الخطوة العملية التي أشارت بها أم سلمة تحقق المراد، فالقدوة العملية في مثل هذه المواقف أجدى وأنفع.(1/306)
وقد شرع حكم الإحصار في العمرة والحج في صلح الحديبية وهذا من بركات هذا الفتح المبين: فدلَّ عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد الفراغ من أمر الصلح -من التحلل والنحر والحلق- على أن المحصر يجوز له أن يتحلل، وذلك بأن يذبح شاة حيث أحصر أو ما يقوم مقامها، ويحلق ثم ينوي التحلل مما كان قد أهلّ به، سواء كان حجًّا أو عمرة.
ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الحديبية قاصدًا المدينة حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح، وقد عبّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عظيم فرحته بنزولها وقال: ((أنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس))، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [(1) سورة الفتح]، فقال أصحاب رسول الله: "هنيئًا مريئًا، فما لنا؟"، فأنزل الله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [(5) سورة الفتح].
وقد أسرع الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو واقف على راحلته بكراع الغميم فقرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [(1) سورة الفتح]، فقال رجل: يا رسول الله، أفتح هو؟ قال: ((نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح)) فانقلبت كآبة المسلمين وحزنهم إلى فرح غامر، وأدركوا أنهم لا يمكن أن يحيطوا بالأسباب والنتائج، وأن التسليم لأمر الله ورسوله فيه كل الخير لهم ولدعوة الإسلام.
إننا بالتأمل نجد أن سورة الفتح نزلت بعد انتهاء النبي -صلى الله عليه وسلم- من الصلح وهو عائد إلى المدينة النبوية، وبعد أن خاض النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون تلك التجارب العظيمة من الأمل في العمرة، إلى مواجهة المشركين، إلى بيعة الرضوان، إلى الصلح الذي لم يكن بعض الصحابة راضين عنه، ودارت في أنفسهم أشياء كثيرة حول هذه الأحداث الجسام، ينزل القرآن الكريم ويبين للمسلمين بأن هذا الصلح هو فتح مبين.(1/307)
لقد أيقن الصحابة الكرام أن الدعوة قد دخلت في طور جديد وفتح أكيد، وآفاق أوسع، وامتداد أرحب، وأن من طبيعة هذا الدين أن ينمو ويعيش في أجواء السلم والأمن أكثر منه وقت الحرب، ولمسوا مع الأيام نتائج صلح الحديبية التي كان من أهمها:
أولًا: اعترفت قريش في هذه المعاهدة بكيان الدولة المسلمة، فالمعاهدة دائمًا لا تكون إلا بين ندّين، وكان لهذا الاعتراف أثره في نفوس القبائل المتأثرة بموقف قريش الجحودي؛ حيث كانوا يرون أنها الإمام والقدوة.
ثانيًا: دخلت المهابة في قلوب المشركين والمنافقين، وتيقن الكثير منهم بغلبة الإسلام، وقد تجلت بعض مظاهر ذلك في مبادرة كثير من صناديد قريش إلى الإسلام، مثل: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، كما تجلت في مسارعة الأعراب المجاورين للمدينة إلى الاعتذار عن تخلفهم.
ثالثًا: أعطت الهدنة فرصة لنشر الإسلام وتعريف الناس به، مما أدى إلى دخول كثير من القبائل فيه، والدليل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف.
رابعًا: أمن المسلمون جانب قريش فحولوا ثقلهم على اليهود ومن كان يناوئهم من القبائل الأخرى، فكانت غزوة خيبر بعد صلح الحديبية.
خامسًا: مكّن صلح الحديبية النبي -صلى الله عليه وسلم- من تجهيز غزوة مؤتة، فكانت خطوة جديدة لنقل الدعوة الإسلامية بأسلوب آخر خارج الجزيرة العربية.
سادسًا: ساعد صلح الحديبية النبي -صلى الله عليه وسلم- على إرسال رسائل إلى ملوك الفرس والروم والقبط يدعوهم إلى الإسلام.
سابعًا: كان صلح الحديبية سببًا ومقدمة لفتح مكة.
والحمد لله...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس السادس عشر
غزوة خيبر(1/308)
لم يُظهر يهود خيبر العداء للمسلمين حتى نزل فيهم زعماء بني النضير، الذي حزَّ في نفوسهم إجلاؤهم عن ديارهم، ولم يكن الإجلاء كافيًا لكسر شوكتهم، فقد غادروا المدينة ومعهم النساء والأبناء والأموال، وخلفهم القيان يضربن الدفوف والمزامير بزهاء وفخر ما رئي مثله في حي من الناس في زمانهم.
وكان من أبرز زعماء بني النضير الذين نزلوا في خيبر سلاّم بن أبي الحقيق وكنانة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب، فلما نزلوا دان لهم أهلها.
وكان تزعم هؤلاء ليهود خيبر كافيًا في جرها إلى الصراع والتصدي والانتقام من المسلمين، فقد كان يدفعهم حقد دفين ورغبة قوية في العودة إلى ديارهم داخل المدينة، وكان أول تحرك قوي ما حدث في غزوة الأحزاب، حيث كان لخيبر وعلى رأسها زعماء بني النضير دور كبير في حشد قريش والأعراب ضد المسلمين وتسخير أموالهم في ذلك، ثم سعيهم في إقناع بني قريظة بالغدر والتعاون مع الأحزاب، بل إنهم أنفقوا أموالهم واستغلوا علاقاتهم مع يهود بني قريظة من أجل نصرة الأحزاب وطعن المسلمين في ظهورهم، وهكذا أصبحت خيبر مصدر خطر كبير على المسلمين ودولتهم النامية.
تفرغ المسلمون بعد غزوة الحديبية لتصفية خطر يهود خيبر الذي أصبح يهدد أمن المسلمين، ولقد تضمنت سورة الفتح التي نزلت بعد الحديبية وعدًا إلهيًّا بفتح خيبر وحيازة أموالها غنيمة، قال الله تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا* وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [(20-21) سورة الفتح].(1/309)
سار الجيش إلى خيبر بروح إيمانية عالية على الرغم من علمهم بمنعة حصون خيبر وشدة بأس رجالها وعتادها الحربي، وكانوا يكبرون ويهللون بأصوات مرتفعة، فطلب منهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرفقوا بأنفسهم قائلا: ((أيها الناس، إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم)).
وكان سيره -صلى الله عليه وسلم- بالجنود ليلًا، فقد قال سلمة بن الأكوع –رضي الله عنه-: "خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى خيبر فسرنا ليلًا، وكان عامر بن الأكوع يحدو بالقوم ويقول:
اللهم لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اتقينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقين سكينة علينا ... إنا إذا صيح بنا أتينا
وبالصياح عولوا علينا
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من هذا السائق؟))، قالوا: "عامر بن الأكوع"، قال: ((يرحمه الله)).
وعندما وصل الجيش الإسلامي بالصهباء، وهي من أدنى خيبر، صلى العصر ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلاّ السويق، فأمر به فثري، فأكل وأكل معه الصحابة، ثم قام إلى المغرب فمضمض ثم صلى بالصحابة ولم يتوضأ.
وكان -صلى الله عليه وسلم- قد بعث عباد بن بشر –رضي الله عنه- في سرية استطلاعية يلتقط أخبار العدو ويستطلع إن كان هناك كمائن، فلقي في الطريق عينًا لليهود من أشجع فقال: "من أنت؟، قال: باغٍ ابتغى أبعرة ضلّت لي أنا على إثرها، قال عباد: ألك علم بخيبر؟، قال: عهدي بها حديث، فيم تسألني عنه؟ قال: عن اليهود؟ قال: نعم، كان كنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس ساروا في حلفائهم من غطفان، فاستنفروهم وجعلوا لهم ثمر خيبر سنة، فجاؤوا معدين مؤيدين بالكراع والسلاح يقودهم عتبة بن بدر، ودخلوا معهم في حصونهم، وفيهم عشرة آلاف مقاتل، وهم أهل الحصون التي لا ترام، وسلاح وطعام كثير لو حصروا لسنين لكفاهم، وماء وأنى يشربون في حصونهم، ما أرى لأحد بهم طاقة".(1/310)
فرفع عباد بن بشر السوط فضربه ضربات، وقال: "ما أنت إلا عين لهم، اُصدقني وإلا ضربت عنقك"، فقال الأعرابي: القوم مرعوبون منكم خائفون، وجلون لما صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود، وقال لي كنانة: اذهب معترضًا للطريق فإنهم لا يستنكرون مكانك واحزرهم لنا، وادن منهم كالسائل لهم ما تقوى به، ثم ألق إليهم كثرة عددنا ومادتنا، فإنهم لن يدعوا سؤلك، وعجل الرجعة إلينا بخبرهم".
وعندما وصل جيش المسلمين إلى مشارف خيبر قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: ((قفوا))، ثم قال: ((اللهم رب السماوات وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها، وشر ما فيها، اقدموا باسم الله))، وكان يقولها لكل قرية دخلها.
ولما أدرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الليل أمر الجيش بالنوم على مشارف خيبر، ثم استيقظوا مبكرين، وضربوا خيامهم ومعسكرهم بوادي الرجيع، وهو وادي يقع بين خيبر وغطفان، حتى يقطعوا المدد عن يهود خيبر من قبيلة غطفان.
ولما أصبح الصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا جيش المسلمين قالوا: "محمد والله، محمد والخميس"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين)).
هرب اليهود إلى حصونهم وحاصرهم المسلمون، وأخذوا في فتح حصونهم واحدًا تلو الآخر، وكان أول ما سقط من حصونهم ناعم والصعب بمنطقة النطاة، وأبي النزار بمنطقة الشق، وكانت هاتان المنطقتان في الشمال الشرقي من خيبر، ثم حصن القموص المنيع في منطقة الكتيبة، وهو حصن ابن أبي الحقيق، ثم أسقطوا حصني منطقة الوطيح والسلالم.(1/311)
وقد واجه المسلمون مقاومة شديدة وصعوبة كبيرة عند فتح بعض هذه الحصون، منها حصن ناعم الذي استُشهد تحته محمود بن مسلمة الأنصاري، حيث ألقى عليه مرحب رحى من أعلى الحصن، والذي استغرق فتحه عشرة أيام، فقد حمل راية المسلمين عند حصاره أبو بكر الصديق ولم يفتح الله عليه، وعندما جهد الناس، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنه سيدفع اللواء غدًا إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح له))، فطابت نفوس المسلمين، فلما صلى فجر اليوم الثالث دعا علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- ودفع إليه اللواء فحمله فتم فتح الحصن على يديه، وكان علي يشتكي من رمد في عينيه عندما دعاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فبصق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عينيه ودعا له فبرئ، ولقد أوصى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليًّا بأن يدعو اليهود إلى الإسلام قبل أن يداهمهم، وقال له: ((فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من أن تكون لك حمر النعم))، وعندما سأله علي: "يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟"، قال: ((قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك منعوا منكم دماءهم وأموالهم، إلا بحقها وحسابهم على الله)).
وعندما حاصر المسلمون هذا الحصن برز لهم سيده وبطلهم مرحب وكان سببًا في استشهاد عامر بن الأكوع، ثم بارزه علي فقتله.(1/312)
توجه المسلمون إلى حصن الصعب بن معاذ بعد فتح حصن ناعم، وأبلى حامل رايتهم الحباب بن المنذر بلاء حسنًا حتى افتتحوه بعد ثلاثة أيام، ووجدوا فيه الكثير من الطعام والمتاع، يوم كانوا في ضائقة من قلة الطعام، ثم توجهوا بعده إلى حصن قلعة الزبير الذي اجتمع فيه الفارون من حصن ناعم والصعب وبقية ما فتح من حصون يهود، فحاصروه وقطعوا عنه مجرى الماء الذي يغذيه، فاضطروهم إلى النزول للقتال، فهزموهم بعد ثلاثة أيام، وبذلك تمت السيطرة على آخر حصون منطقة النطاة التي كان فيها أشد اليهود، ثم توجهوا إلى حصون منطقة الشق وبدؤوا بحصن أبيّ فاقتحموه، وأفلت بعض مقاتلته إلى حصن نزار، وتوجه إليهم المسلمون فحاصروهم ثم افتتحوا الحصن، وفر بقية أهل الشق من حصونهم وتجمعوا في حصن القموص المنيع وحصن الوطيح وحصن السلالم، فحاصرهم المسلمون لمدة أربعة عشر يومًا حتى طلبوا الصلح.
وبذلك سقطت سائر خيبر بيد المسلمين، وسارع أهل فدك في شمالي خيبر إلى طلب الصلح، وأن يسيرهم ويحقن دماءهم، وبذلوا له الأموال فوافق على طلبهم، فكانت فدك خالصة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه لا يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وحاصر المسلمون وادي القرى، وهي مجموعة قرى بين خيبر وتيماء ليالي، ثم استسلمت، فغنم المسلمون أموالًا كثيرة، وتركوا الأرض والنخل بيد اليهود وعاملهم عليها مثل خيبر، وصالحت تيماء على مثل صلح خيبر ووادي القرى.
وبذلك تساقطت سائر الحصون اليهودية أمام قوات المسلمين، وقد بلغ قتلى اليهود في معارك خيبر ثلاثة وتسعين رجلًا، وسبيت النساء والذراري منهنّ صفية بنت حيي بن أخطب فأعتقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتزوجها، واستشهد من المسلمين عشرون رجلًا.(1/313)
جاء رجل من الأعراب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فآمن به واتبعه فقال: "أهاجر معك؟"، فأوصى به بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر، غنم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا فقسّمه، وقسم للأعرابي فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: "ما هذا؟"، قالوا: "قسم قسمه لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم"، فأخذه فجاء به للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما هذا يا رسول الله؟"، قال: ((قسم قسمته لك))، قال: "ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى هاهنا بسهم فأموت فأدخل الجنة"، وأشار إلى حلقه، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن تصدق الله يصدقك))، ثم نهض إلى قتال العدو، فأُتي به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مقتول، فقال: ((أهو هو؟))، قالوا: "نعم"، قال: ((صدق الله فصدقه))، فكفنه النبي -صلى الله عليه وسلم- في جبته ثم قدمه فصلى عليه، وكان من دعائه له: ((اللهم هذا عبدك خرج مهاجرًا في سبيلك، قُتل شهيدًا، وأنا عليه شهيد)).(1/314)
وجاء عبد أسود حبشي من أهل خيبر كان في غنم لسيده، فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح سألهم: "ما تريدون؟" قالوا: "نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي"، فوقع في نفسه ذكر النبي، فأقبل بغنمه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ماذا تقول؟ وما تدعو إليه؟" قال: ((أدعو إلى الإسلام، وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وألا تعبد إلا الله))، قال العبد: "فما لي إن شهدت وآمنت بالله -عز وجل-"، قال: ((لك الجنة إن مت على ذلك))، فأسلم ثم قال: "يا نبي الله، إن هذه الغنم عندي أمانة"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أخرجها من عندك وارمها بالحصباء فإن الله سيؤدي عنك أمانتك))، ففعل، فرجعت الغنم إلى سيدها، فعلم اليهودي أن غلامه قد أسلم، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس، فوعظهم وحضهم على الجهاد، فلما التقى المسلمون واليهود قتل فيمن قتل العبد الأسود واحتمله المسلمون إلى معسكرهم، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خيبر، ولقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين، ولم يصل لله سجدة قط)).
وكان في جيش المسلمين بخيبر رجل لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أما إنه من أهل النار))، فقالوا: "أينا من أهل الجنة إن كان من أهل النار؟" فقال رجل: "والله لا يموت على هذه الحال أبدًا"، فاتبعه حتى جرح، فاشتدت جراحته واستعجل الموت، فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فجاء رجل إلى رسول الله فقال: "أشهد أنك رسول الله"، قال: ((وما ذاك))، فأخبره، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وإنه من أهل النار، وإنه ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل الجنة)).(1/315)
وفي تلك الأثناء قدم جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- وصحبه من مهاجري الحبشة على رسول الله يوم فتح خيبر، فقبّله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين عينيه والتزمه وقال: ((ما أدري بأيهما أنا أسرّ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر))، وكان -صلى الله عليه وسلم- قد أرسل في طلبهم من النجاشي، عمرو بن أمية الضمري، فحملهم في سفينتين ووافق قدومهم عليه يوم فتح خيبر، وقد رافق جعفر في قدومه أبو موسى الأشعري ومن كان بصحبته من الأشعريين، فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "بلغنا مخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهم أبو بردة، والآخر أبو رهم، في ثلاثة وخمسين رجلًا من قومي، فركبنا السفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا جميعًا، فوافقنا النبي -صلى الله عليه وسلم- حين افتتح خيبر".
لقد مكث جعفر وإخوانه في الحبشة بضعة عشر عامًا، نزل خلالها قرآن كثير، ودارت معارك شتى مع الكفار، وتقلّب المسلمون قبل الهجرة العامة وبعدها في أطوار متباينة، حتى ظن البعض أن مهاجري الحبشة قد فاتهم هذا كله، وأنهم أقل قدرًا من غيرهم.(1/316)
فعن أبي موسى قال: "كان أناس يقولون لنا سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس على حفصة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- زائرة، وكانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت أسماء ابنة عميس، قال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم، قال عمر: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم، فغضبت، وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله يُطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسول الله، وايم الله، لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكر ما قلت لرسول الله وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاءت النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: كذا وكذا، قال: ((ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان))، فأخذت أسماء هذا الوسام ووزعته على جميع أعضاء الوفد حيث كانوا، وكما قالت: يأتون أرسالًا يسألونني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في نفوسهم مما قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقد أشركهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في مغانم خيبر بعد أن استأذن من الصحابة -رضي الله عنهم- الذين شاركوا في فتحها.
كانت غزوة خيبر من أكثر غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- غنيمة من حيث الأراضي والنخيل والثياب والأطعمة وغير ذلك، ومن خلال وصف كتب السيرة نلاحظ أن الغنائم تتكون من الطعام، فقد غنم المسلمون كثيرًا من الأطعمة من حصون خيبر، فقد وجدوا فيها الشحم والزيت والعسل والسمن، وغير ذلك، فأباح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأكل من تلك الأطعمة، ولم يخمسها. وغنموا أيضًا الثياب والأثاث والإبل والبقر والغنم، وقد أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خمسها ووضعه فيما وضعه الله فيه، ووزع أربعة أخماسها على المحاربين.(1/317)
وغنموا السبي، وقد سبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا من نساء اليهود، ووزع السبي على المسلمين.
أما الأراضي والنخيل فقد قسمها النبي إلى ستة وثلاثين سهمًا، وجمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين النصف من ذلك، وهو ألف وثمانمائة سهم، ووزع النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم لنوائبه، وما ينزل به من أمور المسلمين.
وكان من بين ما غنم المسلمون من يهود خيبر عدة صحف من التوراة فطلب اليهود ردَّها، فأمر بتسليمها إليهم، ولم يصنع -صلى الله عليه وسلم- ما صنع الرومان حينما فتحوا أورشليم وأحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم، ولا ما صنع النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حين أحرقوا كذلك صحف التوراة.
وقد أبقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يهود خيبر فيها على أن يعملوا في زراعتها وينفقوا عليها من أموالهم، ولهم نصف ثمارها، على أن للمسلمين حق إخراجهم منها متى أرادوا، وكان اليهود قد بادروا بعرض ذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: نحن أعلم بالأرض منكم، فوافق على ذلك بعد أن همّ بإخراجهم منها.
وقد اشترط عليهم أن يجليهم عنها متى شاء، وهنا تظهر براعة سياسة جديدة في عقد الشروط، فإن بقاء اليهود في الأرض يفلحونها يوفر للمسلمين الجنود المجاهدين في سبيل الله، ومن جهة أخرى فإن اليهود هم أصحاب الأرض وهم أدرى بفلاحتها من غيرهم، فبقاؤهم فيها يعطي ثمرة أكثر وأجود وبخاصة أنهم لن يأخذوا أجرًا، ولكنهم سيأخذون نصف ما يخرج من الأرض قلَّ أو كثر.(1/318)
وقد ضمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشرط إجلائهم متى شاء المسلمون، إخضاعهم وكسر شوكتهم؛ لأنهم يعلمون إذا فعلوا شيئًا يضر بالمسلمين سيطردونهم منها، ولا يعودون إليها أبدًا، وقد حدث ذلك فعلًا في عهد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- حيث اعتدوا على عبد الله ابن عمر ففدعوا يديه من المرفقين، وكانوا قبل ذلك في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- اعتدوا على عبد الله بن سهل فقتلوه، فلما تحقق عمر من غدرهم وخيانتهم أمر بإجلائهم.
وحاول يهود خيبر أن يخفوا الفضة والذهب وغيبوا مسكًا لحيي بن أخطب، وكان قد قتل مع بني قريظة، وكان احتمله معه يوم بني النضير حين أجليت النضير، فسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمّ حيي بن أخطب: ((أين مسك حيي بن أخطب؟)) قال: "أذهبته الحروب والنفقات"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((العهد قريب والمال أكثر من ذلك))، فدفعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الزبير بن العوام، فمسه بعذاب، وقد كان حيي قبل ذلك دخل خربة، فقال عمه: "قد رأيت حييًا يطوف في خربة هاهنا"، فذهبوا فطافوا، فوجدوا المسك في الخربة.
وبعد الاتفاق الذي تمّ بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويهود خيبر على إصلاح الأرض جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شدة خرصه، وأرادوا أن يرشوه فقال: "يا أعداء الله تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ، ولأنتم أبغض الناس إليَّ من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم"، فقالوا: "بهذا قامت السماوات والأرض".
لقد أصبحت خيبر ملكًا للمسلمين وصارت موردًا مهمًّا لهم، قال ابن عمر -رضي الله عنه-: "ما شبعنا حتى فتحت خيبر".
وقد تحسن الوضع الاقتصادي بعد خيبر، ورد المهاجرون المنائح التي أعطاهم إياها الأنصار من النخل.(1/319)
لما فتح المسلمون حصن بني أبي الحقيق، كانت صفية في السبي، فأعطاها دحية الكلبي، فجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قومها، وهي ما تصلح إلا لك"، فاستحسن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أشار به الرجل، وقال لدحية: ((خذ جارية من السبي غيرها))، ثم أخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعتقها وجعل عتقها صداقها، ثم تزوجها بعد أن طهرت من حيضتها، وبعد أن أسلمت. ولم يخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من خيبر حتى طهرت صفية من حيضها، فحملها وراءه فلما صار إلى منزل على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرس بها، فأبت عليه، فوجد في نفسه، فلما كان بالصهباء نزل بها هناك فمشطتها أم سليم وعطرتها، وزفتها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وبنى بها، فسألها: ((ما حملك على الامتناع من النزول أولًا))، فقالت: "خشيت عليك من قرب اليهود"، فعظُمت في نفسه.
ومكث رسول الله بالصهباء ثلاثة أيام، وأولم عليها ودعا المسلمين، وما كان فيها من لحم، وإنما التمر والأقط والسمن، فقال المسلمون: "إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه؟"، فلما ارتحل وطأ لها خلفه ومد عليها الحجاب، فأيقنوا أنها إحدى أمهات المؤمنين.
وهكذا أكرم الله أم المؤمنين صفية بالزواج من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأعتقها من النار، وجعلها أمًّا للمؤمنين، وزوجًا في الجنة لخاتم الأنبياء والمرسلين، وقد أكرمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غاية الإكرام، وكان يجلس عند بعيره فيضع ركبته لتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب، وقد بلغ من أدبها أنها كانت تأبى أن تضع رجلها على ركبته، فكانت تضع ركبتها على ركبته وتركب.(1/320)
وهذه صفية -رضي الله عنها- تحدثنا عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتقول: "ما رأيت أحدًا قط أحسن خلقًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لقد رأيته ركب بي في خيبر، وأنا على عجر ناقته ليلًا، فجعلت أنعس، فتضرب رأسي مؤخرة الرحل، فيمسني بيده، ويقول: ((يا هذه مهلًا)).
وعن صفية -رضي الله عنها- أنها بلغها عن عائشة وحفصة أنهما قالتا: "نحن أكرم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من صفية، نحن أزواجه وبنات عمه"، فدخل عليها -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فقال: ((ألا قُلتِ: وكيف تكونان خير مني وزوجي محمد وأبي هارون، وعمي موسى)).
لقد تأثرت صفية بأخلاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأصبح -صلى الله عليه وسلم- أحب إليها من أبيها وزوجها والناس أجمعين، بل أصبح أحب إليها من نفسها، تفديه بكل ما تملك حتى نفسها، وإذا ألمّ به مرض تمنت أن يكون فيها، وأن يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سليمًا معافى، فقد أخرج ابن سعد -رحمه الله- بإسناد حسن عن زيد بن أسلم –رضي الله عنه- قال: "اجتمع نساؤه -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي توفي فيه، فقالت صفية -رضي الله عنها-: "إني والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي"، فغمز بها أزواجه، فأبصرهنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((مَضمِضنَ))، فقلن: "من أي شيء؟" فقال: ((من تغامزكنّ بها، والله إنها لصادقة)).(1/321)
ومما له صلة بزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصفية بنت حيي، حراسة أبي أيوب الأنصاري لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أن دخل بصفية، فعن ابن إسحاق أنه قال: "ولما أعرس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصفية ببعض الطريق، فبات بها رسول الله في قبة له، وبات أبو أيوب خالد بن زيد أخو بني النجار متوشحًا سيفه، يحرس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويطيف بالقبة، حتى أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رأى مكانه قال: ((ما لك يا أبا أيوب؟))، قال: "يا رسول الله، خفت عليك من هذه المرأة" -وكانت امرأة قد قَتلتَ أباها وزوجها وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر- فخفتها عليك، فسر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعمله الذي ينبئ على غاية الحب والإيمان، وقال: ((اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحرسني)).
وكان زواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصفية فيه حكمة عظيمة، فهو لم يرد بزواجه منها قضاء شهوة، أو إشباعًا لغريزة، وإنما أراد إعزازها وتكريمها وصيانتها من أن تفترش لرجل لا يعرف لها شرفها ونسبها في قومها، وهذا إلى ما فيه من العزاء لها، قد قتل أبوها من قبل وزوجها وكثير من قومها، ولم يكن هناك أجمل مما صنعه الرسول معها، كما أن فيه رباط المصاهرة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- واليهود، عسى أن يكون هذا ما يخفف من عدائهم للإسلام والانضواء تحت لوائه والحد من مكرهم وسعيهم بالفساد، وكانت أم المؤمنين صفية عاقلة وحليمة وصادقة، يروى أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- فقالت: "إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود"، فبعث إليها فسألها عن ذلك، فقالت: "أما السبت فإني لم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحمًا فأنا أصلها"، فقبل منها، ثم قالت للجارية: "ما حملك على هذا؟"، قالت: "الشيطان"، فقالت لها: "اذهبي فأنت حرة".
وكانت وفاتها في رمضان سنة خمسين للهجرة في زمن معاوية -رضي الله عنهما جميعًا-.(1/322)
ولما أراد اليهود الانتقام من النبي -صلى الله عليه وسلم- أهدوا له شاةً مسمومة أهدتها إليه زينب بنت الحارث اليهودية، امرأة سلاّم بن مشكم، وكانت سألت أي عضو من الشاة أحب إليه؟ فقيل: الذراع، فأكثرت فيها من السم، فلما تناول الذراع لاك منها مضغة ولم يسغها، وأكل منها معه بشر بن البراء فأساغ لقمة ومات منها.
وجيء بالمرأة إلى رسول الله فقالت: "أردت قتلك"، فقال: ((ما كان الله ليسلطكِ عليّ))، قالوا: ألا تقتلها؟ قال: ((لا))، ولم يتعرض لها ولم يعاقبها، واحتجم على الكاهل، وأمر من أكل منها فاحتجم، فمات بعضهم، ولما مات بشر قتلها، ولقد كان السم الذي وضعته اليهودية قويًّا جدًّا إذ مات بشر بن البراء فورًا، وبقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعاوده ألم السم حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى بعد أن بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها.
وقد روى الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في مرض موته الذي مات فيه: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)).
إن فتح خيبر كان فتحًا جديدًا بالنسبة للعلاقات المالية التي يجري في ظلها التبادل المالي، فكانت فيها شرعية المزارعة والمساقاة ولم تكن تجري كثيرًا في المدينة النبوية.(1/323)
هذا وقد أحدث فتح خيبر وفدك ووادي القرى وتيماء دويًّا هائلًا في الجزيرة العربية بين مختلف القبائل، وقد أصيبت قريش بالغيظ والكآبة إذ لم تكن تتوقع ذلك، وهي تعلم مدى حصانة قلاع يهود خيبر، وكثرة مقاتليهم ووفرة سلاحهم ومؤونتهم ومتاعهم، أما القبائل العربية الأخرى المناصرة لقريش فقد أدهشها خبر هزيمة يهود خيبر، وخذلها انتصار المسلمين الساحق، ولذلك فإنها جنحت إلى مسالمة المسلمين وموادعتهم بعد أن أدركت عدم جدوى استمرارها في عدائهم، مما فتح الباب واسعًا لنشر الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية، بعد أن تعززت مكانة المسلمين في أعين أعدائهم إلى جانب ما تحقق له من خير وتعزيز لوضعهم الاقتصادي.
واستمرت حركة السرايا بعد خيبر وكانت كثيرة، وأمّر عليها -صلى الله عليه وسلم- كبار الصحابة، وكان في بعضها قتال، ولم يكن في بعضها قتال.
وبعد غزوة خيبر فإن الرسول لم يأل جهدًا لنشر الإسلام خارج حدود الحجاز، وكذلك خارج حدود الجزيرة العربية، وقد عبر -عليه الصلاة والسلام- عن هذا المنهج قولًا وعملًا من خلال إرساله عددًا من الرسل والمبعوثين إلى أمراء الجزيرة العربية وإلى ملوك العالم المعاصر خارج الجزيرة.
وتعد هذه الخطوة نقطة تحول هامة في تاريخ الإسلام، ليس لأن الرسول سوف يوحد عرب الجزيرة العربية تحت راية الإسلام فحسب؛ ولكن لأن هؤلاء العرب بعد أن اعتنقوا الإسلام وتمثلوا رسالة السماء أنيط بهم حمل الدعوة الإسلامية إلى البشرية كافة.
وقد أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- رسائله إلى كل من: هرقل عظيم الروم، وإلى كسرى ملك الإمبراطورية الفارسية، وإلى النجاشي ملك الحبشة، وإلى المقوقس حاكم مصر، وإلى المنذر بن الحارث الغساني صاحب دمشق، وإلى المنذر بن ساوى العبديّ أمير البحرين.(1/324)
وقد كان تلقي الملوك لهذه الرسائل يختلف، فأما هرقل والنجاشي والمقوقس، فتأدبوا وتلطفوا في جوابهم، وأكرم النجاشي والمقوقس رسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأرسل المقوقس هدايا منها جاريتان كانت إحداهما مارية أم إبراهيم ابن رسول الله، وأما كسرى، فلما قُرئ عليه الكتاب مزّقه وقال: "يكتب إليَّ هذا وهو عبدي؟"، فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((مزق الله ملكه)).
وهكذا، فإن رسائل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أمراء العرب والملوك المجاورين لبلاده تعتبر نقطة تحول في سياسة دولة الرسول الخارجية، فعظم شأنها، وأصبحت لها مكانة دينية وسياسية بين الدول، وذلك قبل فتح مكة، كما أن هذه السياسة مهدت لتوحيد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لسائر أنحاء بلاد العرب في عام الوفود.
وفي ذي القعدة في السنة السابعة من الهجرة خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة قاصدًا العمرة، كما اتفق مع قريش في صلح الحديبية، وقد بلغ عدد من شهد عمرة القضاء ألفين سوى النساء والصبيان، ولم يتخلف من أهل الحديبية إلا من استُشهد في خيبر، أو مات قبل عمرة القضاء.
وقد اتجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام من المدينة باتجاه مكة المكرمة في موكب مهيب يشق طريقه عبر القرى والبوادي، وكان كلما مر الموكب النبوي بمنازل قوم من الذين يسكنون على جانبي الطريق بين مكة والمدينة خرجوا وشاهدوا منظرًا لم يألفوه من قبل، حيث المسلمون بزي واحد من الإحرام، وهم يرفعون أصواتهم بالتلبية ويسوقون هديهم في علاماته وقلائده، في مظهر بهيّ لم تشهد المنطقة له مثيلًا.
تابع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيره نحو مكة على راحلته القصواء، فدخلها من الثنية التي تطلعه على الحجون، والمسلمون حوله متوشحون سيوفهم محدقون به كل جانب، يسترونه من المشركين مخافة أن يؤذوه بشيء، وأصواتهم تعج بالتلبية لله.(1/325)
لقد كان مظهرًا دعويًّا مؤثرًا عندما بدأ الموكب النبوي الكريم يقترب من بيوت مكة المكرمة وأبنيتها، شاقًّا طريقه باتجاه الكعبة المشرفة، وهم في مظهرهم المهيب، وأصواتهم تشق عنان السماء بالتلبية، فقد ذكرت معظم كتب السير والمغازي أن قسمًا من أهالي مكة خرج إلى رؤوس الجبال لينظر إلى المسلمين من الأماكن العالية، والقسم الأكبر وقف عند دار الندوة المجاورة للكعبة الشريفة آنذاك، ليشاهدوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام أثناء دخولهم مكة والبيت الحرام.
لقد كان تأثير هذه العمرة على قريش وعلى عرب الجزيرة تأثيرًا بالغًا، فقد حملت في مضمونها مهمة دعوية عظيمة، ولقد تأثر أهل مكة من هذه العمرة، فلم يكد يترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- مكة، حتى أسلم خالد بن الوليد، وأسلم بعد خالد عمرو بن العاص، وحارس الكعبة نفسها عثمان بن طلحة، بل وظهر الإسلام في كل بيت من قريش سرًّا وعلانية، وبهذه النتيجة الطيبة يمكننا القول بأن عمرة القضاء هذه قد فتحت أبواب قلوب أهل مكة قبل أن يفتح المسلمون أبواب مكة نفسها.
والحمد لله...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس السابع عشر
غزوة مؤتة(1/326)
أشعل عرب الشام فتيل الصراع بين المسلمين والبيزنطيين، فقد دأبت قبيلة كلب من قضاعة التي كانت تنزل على دومة الجندل على مضايقة المسلمين، وحاولت أن تفرض عليهم نوعًا من الحصار الاقتصادي عن طريق إيذائها للتجار الذين كانوا يحملون السلع الضرورية من الشام إلى المدينة، ولذلك غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبيلة كلب بدومة الجندل سنة 5هـ، لكنه وجدهم قد تفرقوا، كما أن رجالًا من جذام ولخم قطعوا الطريق على دحية بن خليفة الكلبي عند مروره بحسمى بعد إنجازه لمهمة أناطها به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستلبوا كل ما معه، فكانت سرية زيد بن حارثة إلى حسمى في سنة 6هـ، ويضاف إلى ذلك أيضًا ما قامت به قبيلتا مذحج وقضاعة من اعتداء على زيد بن حارثة وصحبه في العام المذكور 6هـ، وذلك عندما ذهبوا إلى وادي القرى في بعثة بغرض الدعوة إلى الله، وبعد صلح الحديبية أخذ هذا المسلك العدواني يأخذ منحنى أكثر خطورة بعد مقتل الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله إلى حاكم بصرى التابع لحاكم الروم، فقد قام شرحبيل بن عمرو الغساني بضرب عنق رسول رسول الله، فأوثقه رباطًا ثم قدّمه فضرب عنقه.
ولم تجر العادة بقتل الرسل والسفراء، وكان قتلُ السفراء والرسل من أشنع الجرائم، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب، كما أن الحارث بن أبي شمر الغساني حاكم دمشق أساء استقبال مبعوث رسول الله وهدد بإعلان الحرب على المدينة، ثم حدث بعد ذلك بما يزيد قليلًا عن العام أن بعث رسول الله سرية بقيادة عمرو بن كعب الغفاري ليدعو إلى الإسلام في مكان يقال له: ذات أطلاح، فلم يستجب أهل المنطقة إلى الإسلام وأحاطوا بالدعاة من كل مكان وقاتلوهم حتى قتلوهم جميعًا إلا أميرهم، كان جريحًا فتحامل على جرحه حتى وصل إلى المدينة فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.(1/327)
وقد قام نصارى الشام بزعامة الإمبراطورية الرومانية بالاعتداءات على من يعتنق الإسلام أو يفكر بذلك، فقد قتلوا والي مَعَانَ حين أسلم، وقتل والي الشام من أسلم من عرب الشام.
كانت هذه الأحداث المؤلمة وبخاصة مقتل سفير رسول الله الحارث بن عمير الأزدي، محركة لنفوس المسلمين، وباعثًا ليضعوا حدًّا لهذه التصرفات النصرانية العدوانية، ويثأروا لإخوانهم في العقيدة الذين سُفكت دماؤهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ونبينا محمد رسول الله.
كما أن تأديب عرب الشام التابعين للدولة الرومانية والذين دأبوا على استفزاز المسلمين وتحديهم وارتكاب الجرائم ضد دعاتهم أصبح هدفًا مهمًّا؛ لأن تحقيق هذا الهدف معناه فرض هيبة الدولة الإسلامية في تلك المناطق بحيث لا تتكرر مثل هذه الجرائم في المستقبل، وبحيث يأمن الدعاة المسلمون على أنفسهم ويأمن التجار المترددون بين الشام والمدينة من كل أذى يحول دون وصول السلع الضرورية إلى المدينة.
وفي سنة 8هـ أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسلمين بالتجهز للقتال، فاستجابوا للأمر النبوي وحشدوا حشودًا لم يحشدوها من قبل، إذ بلغ عدد المقاتلين في هذه السرية ثلاثة آلاف مقاتل، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب.
واختار النبي -صلى الله عليه وسلم- للقيادة ثلاثة أمراء على التوالي: زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة، وعقد لهم لواءً أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة، فقد روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: "أمَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن قُتل زيد فجعفر، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة)).(1/328)
وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الجيش الإسلامي أن يأتوا المكان الذي قتل فيه الحارث بن عمير الأزدي –رضي الله عنه- وأن يدعوا من كان هناك إلى الإسلام فإن أجابوا فبها ونعمت، وإن أبوا استعانوا بالله عليهم وقاتلوهم.
وقد زود الرسول -صلى الله عليه وسلم- الجيش في هذه السرية وغيرها من السرايا بوصايا تتضمن آداب القتال في الإسلام، فقد أوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بقوله: ((أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرًا، اغزوا باسم الله، في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تقتلوا وليدًا، ولا امرأة ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلًا بصومعة، ولا تقربوا نخلًا، ولا تقطعوا شجرًا، ولا تهدموا بناءً، وإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى إحدى ثلاث: فإما الإسلام، وإما الجزية، وإما الحرب)).
ولما تجهز الجيش الإسلامي وأتم استعداده، توجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون يودعون الجيش، ويرفعون أكف الضراعة لله -عز وجل- أن ينصر إخوانهم المجاهدين.
لقد سلموا عليهم وودعوهم بهذا الدعاء: "دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين".
ولما ودع الناس عبد الله بن رواحة وسلموا عليه بكى وانهمرت الدموع من عينيه ساخنة غزيرة، فتعجب الناس من ذلك، وقالوا: "ما يبكيك يا ابن رواحة؟"، فقال: "والله ما بي حب الدنيا وصبابة، ولكن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} [(71) سورة مريم]، فلست أدري كيف بي بالصدر بعد الورود؟"، فقال لهم المسلمون: "صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين".
فقال عبد الله بن رواحة:
لكني أسأل الرحمن مغفرة ... وضربة ذات فراغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ... أرشده الله من غاز وقد رشدا(1/329)
وودع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن رواحة، فقال ابن رواحة يخاطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
يثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرًا كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة ... فراسة خالفتهم في الذي نظروا
أنت الرسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منه فقد أزرى به القدر
لما وصل الجيش الإسلامي إلى معان من أرض الشام -وهي الآن محافظة من محافظات الأردن- بلغه أن النصارى الصليبيين من عرب وعجم قد حشدوا حشودًا ضخمة لقتالهم، إذ حشدت القبائل العربية مائة ألف صليبي من لخم وجذام وغيرهم، وعينت لهم قائدًا هو مالك بن رافلة، وحشد هرقل مائة ألف نصراني صليبي من الروم، فبلغ الجيش مائتي ألف مقاتل، مزودين بالسلاح الكافي يرفلون في الديباج لينبهر المسلمون بهم وبقوتهم.
لم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم، وهل يهجم جيش صغير قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فحسب على جيش كبير ضخم مثل البحر الخضم قوامه مائتا ألف مقاتل؟! أي: مقاتل واحد مقابل 66 مقاتلًا.
ولقد أقام المسلمون في معان يومين يتشاورون في التصدي لهذا الحشد الضخم فقال بعضهم: نرسل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة نخبره بحشود العدو، فإن شاء أمدنا بالمدد، وإن شاء أمرنا بالقتال، وقال بعضهم لزيد بن حارثة قائد الجيش: وقد وطئْتَ البلاد وأخفت أهلها، فانصرف فإنه لا يعدل العافية شيء، ولكن عبد الله بن رواحة حسم الموقف بقوله: "يا قوم، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون، الشهادة! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة".(1/330)
فألهبت كلماته مشاعر المجاهدين، واندفع زيد بن حارثة بالناس إلى منطقة مؤتة جنوب الكرك يسير حيث آثر الاصطدام بالروم هناك، فكانت ملحمة سجل فيها القادة الثلاثة بطولة عظيمة انتهت باستشهادهم، وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل في معركة عجيبة، يشهد لها التاريخ، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب.
أخذ الراية زيد بن حارثة حِبُّ رسول الله، وجعل يقاتل بضراوة بالغة وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال الإسلام، فلم يزل يقاتل وتوغل في صفوف الأعداء وهو يحمل راية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى شاط في رماح القوم وخر صريعًا.
ثم أخذ الراية جعفر وانبرى يتصدى لجموع المشركين الصليبيين، فكثفوا حملاتهم عليه، وأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، فلم تلن له قناة، ولم تهن له عزيمة، بل استمر في القتال، وطفق يقاتل قتالًا منقطع النظير، وزيادة في الإقدام نزل عن فرسه الشقراء فعقرها، وأخذ ينشد:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وباردًا شرابها
كافرة بعيدة أنسابها
والروم روم قد دنا عذابها
عليَّ إذا لاقيتها ضرابها
لقد أخذ –رضي الله عنه- اللواء بيده اليمنى فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه وانحنى عليه حتى استشهد وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ولقد أُثخن –رضي الله عنه- بالجراح إذ بلغ عدد جراحه تسعين، بين طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم، وليس من بينها جرح في ظهره بل كلها في صدره.
روى الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه بإسناده إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: "كنت في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى، ووجدنا ما في جسده بضعًا وتسعين من طعنة أو رمية".(1/331)
ولقد عوض الله -تبارك وتعالى- جعفر بن أبي طالب –رضي الله عنه- وأكرمه على شجاعته وتضحيته بأن جعل له جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء؛ فقد روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى عامر قال: "كان ابن عمر إذا حيّا ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين".
وبعد استشهاد جعفر بن أبي طالب استلم الراية عبد الله بن رواحة الأنصاري –رضي الله عنه- وامتطى جواده، وهو يقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة ... ما لي أراك تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنت مطمئنة ... هل أنت إلا نطفة في شنة
يا نفس إلا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هُديت
ويذكر أن ابن عم لعبد الله بن رواحة قد قدم له قطعة من لحم وقال له: "شد بهذا صلبك، فإنك لقيت في أيامك هذه ما لقيت"، فأخذها من يده ثم انتهس منها نهسة، ثم سمع جلبة وزخامًا في جبهة القتال، فقال يخاطب نفسه: "وأنت في الدنيا؟"، ثم ألقى قطعة اللحم من يده وتقدم يقاتل العدو حتى استُشهد –رضي الله عنه-، وكان ذلك في آخر النهار.
ولما استشهد عبد الله بن رواحة –رضي الله عنه-، وسقطت الراية من يده التقطها ثابت بن أقرم بن ثعلبة بن عدي الأنصاري، وقال: "يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم"، قالوا: "أنت"، قال: "ما أنا بفاعل"، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد فأخذه خالد بن الوليد –رضي الله عنه-، وأصبحت الخطة الأساسية المنوطة بخالد في تلك الساعة العصيبة من القتال، أن ينقذ المسلمين من الهلاك الجماعي، فبعد أن قدّر الموقف واحتمالاته المختلفة تقديرًا دقيقًا، ودرس ظروف المعركة درسًا وافيًا وتوقع نتائجها، اقتنع بأن الانسحاب بأقل خسارة ممكنة هو الحل الأفضل، فقوة العدو تبلغ 66 ضعفًا لقوة المسلمين، فلم يبق أمام هؤلاء إلا الانسحاب المنظم وهو الحيلولة بين جيش الروم وجيش المسلمين، ليضمن لهذا الأخير سلامة الانسحاب.(1/332)
ولبلوغ هذا الهدف، لا بد من تضليل العدو بإيهامه أن مددًا ورد إلى جيش المسلمين فيخفف من ضغطه وهجماته، ويتمكن المسلمون من الانسحاب، وصمد خالد حتى المساء عملًا بهذه الخطة، وغيّر في ظلام الليل مراكز المقاتلين في جيشه، فاستبدل الميمنة بالميسرة، ومقدمة القلب بالمؤخرة، وفي أثناء عملية الاستبدال اصطنع ضجة صاخبة وجلبة قوية، ثم حمل على العدو عند الفجر بهجمات سريعة متتالية وقوية ليدخل في روعه إن إمدادات كثيرة وصلت إلى المسلمين.
ونجحت الخطة؛ إذ بدا للعدو صباحًا أن الوجوه والرايات التي تواجهه جديدة لم يرها من قبل، وأن المسلمين يقومون بهجمات عنيفة، فأيقن أنهم تلقوا إمدادات، وأن جيشًا جديدًا نزل إلى الميدان، وكان البلاء الحسن الذي أبلاه المسلمون قد فت في عضد الروم وحلفائهم، فأدركوا أن إحراز نصر حاسم ونهائي على المسلمين أمر مستحيل، فتخاذلوا وتقاعسوا عن متابعة الهجوم، وضعف نشاطهم واندفاعهم، فخف الضغط عن جيش المسلمين، وانتهز خالد الفرصة فباشر الانسحاب.
وكانت عملية التراجع التي قام بها خالد في أثناء معركة مؤتة من أكثر العمليات في التاريخ العسكري مهارة ونجاحًا، بل إنها تتفق وتتلائم مع التكتيك الحديث للانسحاب، فقد عمد خالد إلى سحب الجناحين بحماية القلب، ولما أصبح الجناحان بمنأى عن العدو، وفي مأمن منه، عمد إلى سحب القلب بحماية الجناحين، إلى أن تمكن وضمن سلامة الانسحاب كليًّا.
ويقول المؤرخون: إن خسارة المسلمين لم تتعدَّ الاثني عشر قتيلًا في هذه المعركة، وأن خالدًا قال: "لقد انقطع في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي إلا صفيحة يمانية".
ويمكن القول: إن خالدًا بخطته تلك قد أنقذ الله المسلمين به من هزيمة ماحقة وقتل محقق، وأن انسحابه كان قمة النصر بالنسبة إلى ظروف المعركة، حيث يكون الانسحاب في ظروف مماثلة أصعب حركات القتال، بل أجداها وأنفعها.(1/333)
وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين، ألقت العرب كلها في الدهشة والحيرة؛ فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض، وكانت العرب تظن أن معنى جلادها وقتالها هو القضاء على النفس وطلب الحتف، فكان لقاء هذا الجيش الصغير الذي قوامه ثلاثة آلاف مقاتل مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير مائتي ألف مقاتل ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة تذكر، كان كل ذلك من عجائب الدهر، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته، وأنهم مؤيَّدون ومنصورون من عند الله، وأن صاحبهم رسول الله حقًّا، ولذلك نرى القبائل اللّدودة التي كانت لا تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام، فأسلمت بنو سُلَيْم وأشْجَع وغَطَفَان وذُبْيَان وفَزَارَة وغيرها، فكانت هذه المعركة توطئة وتمهيدًا لفتوح بلدان الروم على أيدي المسلمين.
ظهرت معجزة للرسول -صلى الله عليه وسلم- في أمر هذه السرية، فقد نعى المسلمين في المدينة زيدًا وجعفرًا وابن أبي رواحة قبل أن يصل إليه خبرهم، وحزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما وقع للسرية وذرفت عيناه الدموع، ثم أخبرهم بتسلم خالد الراية، وبشرهم بالفتح على يديه وأسماه سيف الله، وبعد ذلك قدم من أخبرهم بأخبار السرية، ولم يزد عما أخبرهم به النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ولما دنا الجيش من حول المدينة، تلقاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون، ولقيهم الصبيان ينشدون، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقبل مع القوم على دابة فقال: خذوا الصبيان واحملوهم، وأعطوني ابن جعفر، فأتي بعبد الله، فأخذه فحمله على يديه، وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: "يا فرار، أفررتم في سبيل الله؟"، ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى.(1/334)
وإن الإنسان ليعجب من هذه التربية النبوية التي صنعت من الأطفال الصغار، رجالًا وأبطالًا، يرون العودة من المعركة دون شهادة في سبيل الله، فرارًا من سبيل الله، لا يكافؤون عليه إلا بحثو التراب في وجوههم، فأين شبابنا المتسكعون في الشوارع، من هذه النماذج الرفيعة من الرجولة الفذة المبكرة؟ ولن تستطيع الأمة أن ترتفع إلى هذه الأهداف النبيلة والقمم الشوامخ إلا بالتربية الإسلامية الجادة القائمة على المنهاج النبوي الكريم.
تعتبر هذه المعركة من أهم المعارك التي وقعت بين المسلمين وبين النصارى الصليبيين من عرب وعجم؛ لأنها أول صدام مسلح ذي بال بين الفريقين، وأثرت تلك المعركة على مستقبل الدولة الرومانية، فقد كانت مقدمة لفتح بلاد الشام وتحريرها من الرومان.
ونستطيع أن نقول: إن تلك الغزوة هي خطوة عملية قام بها النبي -صلى الله عليه وسلم- للقضاء على دولة الروم المتجبرة في بلاد الشام، فقد هزّ هيبتها من قلوب العرب، وأعطت فكرة عن الروح المعنوية العالية عند المسلمين، كما أظهرت ضعف الروح المعنوية في القتال عند الجندي الصليبي النصراني، وأعطت فرصة للمسلمين للتعرف على حقيقة قوات الروم، ومعرفة أساليبهم في القتال.
إن الصبر والثبات والتضحية التي تجلت في كل واحد من الأمراء الثلاثة وسائر الجند كان مبعثها الحرص على ثواب المجاهدين، والرغبة في نيل الشهادة لكي يكرمهم الله برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ويدخلوا جنات الله الواسعة التي فيها ما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
لقد تميزت هذه المعركة عن سائر المعارك: فهي الوحيدة التي جاء خبرها من السماء، إذ نعى النبي -صلى الله عليه وسلم- استشهاد الأبطال الثلاثة قبل أن يصل الخبر من أرض المعركة، بل وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أحداثها.(1/335)
وتمتاز أيضًا عن غيرها بأنها الوقعة الوحيدة التي اختار النبي -صلى الله عليه وسلم- لها ثلاثة أمراء على الترتيب: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة.
لما أصيب جعفر دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أسماء بنت عميس فقال: ((ائتيني ببني جعفر))، فأتت بهم فشمّهم وقبلهم وذرفت عيناه، فقالت أسماء: "أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟"، قال: ((نعم أصيبوا هذا اليوم))، فجعلت تصيح وتولول، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعامًا، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم)).
هذا وقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن البكاء بعد ثلاث، فقد دخل على أسماء وقال لها: ((لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي بني أخي))، فجيء بهم كأنهم أفرخ، فدعا بالحلاق فحلق لهم رؤوسهم ثم قال: ((أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب، وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي))، ثم أخذ بيمين عبد الله وقال: ((اللهم اخلف جعفرًا في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه)) قالها ثلاثًا. ولما ذكرت له أمهم يتمهم وضعفهم قال لها: ((العيلة تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة؟!)).
وبعد أن انقضت عدة أسماء بنت عميس خطبها أبو بكر الصديق –رضي الله عنه- فتزوجها، وولدت له محمد بن أبي بكر، وبعدما توفي الصديق تزوجها بعده علي بن أبي طالب، وولدت له أولادًا –رضي الله عنه وعنها وعنهم أجمعين-.(1/336)
قال عوف بن مالك الأشجعي –رضي الله عنه-: "خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مَدَدِيّ من اليمن، ومضينا فلقينا جموع الروم، فيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وله سلاح مذهب، فجعل الرومي يضرب بالمسلمين، فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه بسيفه، وفر الرومي، فعلاه بسيفه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله للمسلمين، بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه بعض السلب، قال عوف: "فأتيت خالدًا، وقلت له: أما علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بالسلب للقاتل؟"، قال: "بلى، ولكني استكثرته"، قلت: لتردنها إليه أو لأعرفنكها عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، فأبى أن يرد عليه، قال عوف:" فاجتمعنا عند رسول الله فقصصت عليه قصة المددي، وما فعل خالد، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا خالد ما حملك على ما صنعت؟))، قال: "استكثرته"، فقال: ((ردَّ عليه الذي أخذت منه))، قال عوف: فقلت: "دونكها يا خالد، ألم أوف لك؟"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((وما ذلك؟))، فأخبرته قال: "فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: ((يا خالد لا ترد عليه؛ هل أنتم تاركون لي أمرائي، لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره)).(1/337)
هذا موقف عظيم من النبي -صلى الله عليه وسلم- في حماية القادة والأمراء من أن يتعرضوا للإهانة بسبب الأخطاء التي قد تقع منهم، فهم بشر معرضون للخطأ، فينبغي السعي في إصلاح خطئهم من غير تنقص ولا إهانة، فخالد حين يمنع ذلك المجاهد سلبه لم يقصد الإساءة إليه، وإنما اجتهد فغلَّب جانب المصلحة العامة، حيث استكثر ذلك السلب على فرد واحد، ورأى أنه إذا دخل في الغنيمة العامة نفع عددًا أكبر من المجاهدين، وعوف بن مالك أدى مهمته في الإنكار على خالد، ثم رفع الأمر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما لم يقبل خالد قوله، وكان المفترض أن تكون مهمته قد انتهت بذلك؛ لأنه والحال هذه قد دخل في أمر من أوامر الإصلاح، وقد تم الإصلاح على يديه، ولكنه تجاوز هذه المهمة حيث حول القضية من قضية إصلاحية إلى قضية شخصية، فأظهر شيئًا من التشفي من خالد، ولم يقره النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، بل أنكر عليه إنكارًا شديدًا وبيَّن حق الولاة على جنودهم.
وكون النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر خالدًا بعدم رد السلب على صاحبه لا يعني أن حق ذلك المجاهد قد ضاع؛ لأنه لا يمكن أن يأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنسانًا بجريرة غيره، فلا بد أن ذلك المجاهد قد حصل منه الرضا، إما بتعويض عن ذلك السلب أو بتنازل منه، أو غير ذلك فيما لم يذكر تفصيله في الخبر.
إن الأمة التي لا تقدر رجالها ولا تحترمهم لا يمكن أن يقوم فيها نظام.(1/338)
إن التربية النبوية استطاعت بناء هذه الأمة بناء سليمًا، وما أحرى المسلمين اليوم أن يكون كل إنسان في مكانه، وأن يحترم ويقدر بمقدار ما يقدم لهذا الدين، ويبقى الجميع بعد ذلك في الإطار العام الذي وصف الله به المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [(54) سورة المائدة].
وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((هل أنتم تاركون لي أمرائي))، وسام آخر يضاف إلى خالد –رضي الله عنه- حيث عُدَّ من أمراء الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهذا من المنهاج النبوي الكريم في تقدير الرجال.
توقف الجيش الإسلامي في معان يناقش كثرة جيش العدو، وكانت المقاييس المادية لا تشجعهم على خوض المعركة، ومع ذلك تابعوا طريقهم ودخلوا بمقاييس إيمانية، فهم خرجوا يطلبون الشهادة، فلماذا إذن يفرون مما خرجوا لطلبه؟.
إن التأمل بعمق في غزوة مؤتة يساعدنا في معالجة الهزيمة النفسية والروحية التي تمر بها الأمة، وإقامة الحجة على القائلين" بأن سبب هزيمتنا التفوق التكنولوجي لدى الأعداء.(1/339)
لقد سجل ابن كثير رأيه في هذه المعركة وقال: "هذا عظيم جدًا أن يقاتل جيشان متعاديان في الدين، أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلًا، وقد قتل من المشركين خلق كثير، هذا خالد وحده يقول: لقد اندقَّت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقى في يدي إلا صفيحة يمانية، فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها؟ دع غيره من الأبطال والشجعان من حملة القرآن، وقد تحكموا في عبدة الصلبان عليهم لعائن الرحمن في ذلك الزمان وفي كل أوان" انتهى..
لم تمضِ سوى أيام على عودة الجيش من مؤتة إلى المدينة حتى جهز النبي -صلى الله عليه وسلم- جيشًا بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل، وذلك لتأديب قضاعة التي غرّها ما حدث في مؤتة التي اشتركت فيها إلى جانب الروم، فتجمعت تريد الدنو من المدينة، فتقدم عمرو بن العاص في ديارها ومعه ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، ولما وصل إلى مكان تجمع الأعداء بلغه أن لهم جموعًا كثيرة، فأرسل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلب المدد فجاءه مدد بقيادة أبي عبيدة ابن الجراح، وقاتل المسلمون الكفار وتوغل عمرو في ديار قضاعة التي هربت وتفرقت وانهزمت، ونجح عمرو في إرجاع هيبة الإسلام لأطراف الشام، وإرجاع أحلاف المسلمين لصداقتهم الأولى، ودخول قبائل أخرى في حلف المسلمين، وإسلام الكثيرين من بني عبس، وبني مرة وبني ذبيان، وكذلك فزارة وسيدها عيينة بن حصن في حلف مع المسلمين، وتبعها بنو سليم، وعلى رأسهم العباس بن مرداس، وبنو أشجع، وأصبح المسلمون هم الأقوى في شمال بلاد العرب، وإن لم يكن في بلاد العرب جميعهًا.(1/340)
قال عمرو بن العاص: "بعث إليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني))، فأتيته وهو يتوضأ، فصعّد فيّ النظر، ثم طأطأ، فقال: ((إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك في المال رغبة صالحة))، قال: قلت: "يا رسول الله ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يا عمرو نعم المال الصالح للمرء الصالح)).
عندما وصل المدد الذي بعثه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقيادة أبي عبيدة بن الجراح لجيش عمرو في ذات السلاسل، أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس ويتقدم عمرو، فقال له عمرو: "إنما قدمت عليّ مددًا لي، وليس لك أن تؤمني، وأنا الأمير، وإنما أرسلك النبي -صلى الله عليه وسلم- إلي مددًا"، فقال المهاجرون: "كلا، بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه"، فقال عمرو: "لا، بل أنتم مدد لنا"، فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف، وكان حسن الخلق لين الطبع، قال: "لتطمئن يا عمرو، وتعلمن أن آخر ما عهد إليَّ رسول الله أن قال: ((إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا))، وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك"، فأطاع أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس.
لقد أدرك أبو عبيدة –رضي الله عنه- أن أي اختلاف بين المسلمين في سرية ذات السلاسل يؤدي إلى الفشل، ومن ثم تغلب العدو عليهم، ولهذا سارع إلى قطع النزاع، وانضم جنديًا تحت إمرة عمرو بن العاص امتثالًا لأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تختلفا)).(1/341)
اتجهت حملات المسلمين العسكرية بعد صلح الحديبية نحو الشمال، وأصبح غرب الجزيرة وجنوبها الغربي حيث تقبع مكة آمنة في ظلال الصلح، وحققت سرايا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهدافها ومقاصدها في شمال الجزيرة، فوصلت إلى حدود الروم، فأمنت حدود الدولة الإسلامية، وبسطت هيبتها وأفشلت محاولات الإغارة على المدينة، وبذلك حققت سياسية النبي -صلى الله عليه وسلم- في حركة السرايا هدفين عظيمين هما:
أولًا: تأمين حماية الدين الإسلامي في الداخل. وثانيًا: حمايته في الخارج.
وما من شك أن المتتبع لأحداث السيرة النبوية الشريفة والمطلع على تفاصيلها ودقائقها بإمعان يجد بحق أن صلح الحديبية هو من أهم المكاسب السياسية والعسكرية والإعلامية، بل هو حصيلة كسب لأعظم معركة دارت بين الإسلام والوثنية في العهد النبوي، من حيث النتائج الإيجابية التي رسخت دعائم الإسلام من جهة، وصدعت بفعلها قواعد الشرك والوثنية من جهة أخرى، وما حدث في خيبر من فتوح، وفي مؤتة من نصر، وفي ذات السلاسل من توسيع هيبة الدولة الإسلامية إلا نتائج تابعة لصلح الحديبية، وبسبب القدرة الفائقة في تعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع سنن الله في المجتمعات والشعوب وبناء الدول.
وختامًا نستطيع أن نخرج من هذه الغزوة بنتائج مهمة منها:
أولًا: أن النظرة المادية المجردة عند قياس معيار القوة والضعف بعيد كل البعد عن الواقعية والفهم العميق للحياة، وسبر أغوار بواطن الأمور؛ إذ الوقائع تشهد، والأحداث على مر العصور تبرهن، بأنه: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ} [(249) سورة البقرة]، فالأمر لله من قبل ومن بعد.(1/342)
ثانيًا: أن الإيمان في قلوب أهله أقوى من قوى العالم وإن اجتمعت، فكم من مجاهد أعزل من السلاح يرفع إصبع السبابه يناجي ربه، وكم من دعوة في جنح الظلام تفتح لها أبواب السماء، تفعل الأفاعيل في الأعداء، بل هي أشد عليهم من آلاف المقاتلين وقد قالوها، والحق ما شهدت به الأعداء.
ثالثًا: أن على الأمة أن تربي أبناءها على حب دينهم واعتزازهم به، والشعور بالنصر والعلو والفخر، ألا فلينقش على القلوب والصدور ولتردده الأفواه والسطور، {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [(139) سورة آل عمران].
رابعًا: على الآباء والأمهات والمربين أيًّا كانوا، وعلى الأمة جمعاء أن تعاود النظر في عرض القدوات للأجيال، فلا بد من نشر سير أولئك الأفذاذ من صحابة رسول الله وأتباعهم، ليرتسم الأبناء سير الأجداد منهجًا للحياة ودستورًا للواقع.
والسؤال المهم الذي نعلم إجابته ولكن واقعنا يخالفه: أي شيء يقدمه لدينه وأمته مغنٍّ أو ممثل هابط أو هابطة، ماذا عساه أن يقدم للإسلام والمسلمين ذاك اللاعب وهو يدحرج كرته، أو يجري خلفها، وقديمًا قيل:
يكفي اللبيب إشارة مرموزة ... وسواه يدعى بالنداء العالي
خامسًا: وبعد هذه الغزوة، دهش العرب كلهم فقد كانت الروم أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض لا يستطيع أحدٌ الصمود أمامها، كيف وقد عاد جيش صغير بدون خسائر تذكر، فأحدث هذا سمعة للمسلمين بلغت المشرق والمغرب وأضحت تلك الغزوة الخطوات الأولى لفتح بلاد الروم واحتلال المسلمين أقاصي الأرض.
سادسًا: إلى المرابطين في الثغور، والمجاهدين في ساحات الوغى، ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين.
إلى أهل الإسلام والحق الداعين إليه، المرابطين على ثغور الكلمة ونشر المبدأ، الساعين لإعادة الأمة إلى مجدها وعزها، ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين.(1/343)
إلى الجبناء المنكسرين المنهزمين، الذين يخترقون صف الأمة الواحد، يعيثون في الأرض فسادًا وينشرون الباطل والزيغ، يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين.
إنها كلمة عظيمة لا بد أن تبقى شعارًا تتعاقبه أجيال الأمة جيل بعد جيل، ينقله الأباء والأجداد إلى الأبناء والأحفاد، يرضعه الوليد مع لبن أمه، ويلقنه الصغير، ويحيا عليه الكبير، لا بد أن تبقى هذه الكلمات نبراسًا يضيء للأمة طريقها في نشر دين الله، في جهادها ودعوتها وعلمها وعملها.
سابعًا: إن هذه الغزوة لتذكرنا بمآسي المسلمين المتكررة في هذه العصور المتأخرة، فقد قامت غزوة مؤتة انتصارًا لمسلم واحدٍ قتله الأعداء في سبيل الله؛ لأن دم المسلم في الإسلام غالٍ ونفيس، بل إن زوال الدنيا بأسرها أهون على الله تعالى من قتل امرئٍ مسلم.
وهكذا كانت الغزوات في الإسلام انتصارًا للمسلمين والمستضعفين، وما فتح عمورية عنا ببعيد، والتي قامت من أجل صرخة امرأة مسلمة اعتدى عليها علج كافر فصاحت: "وامعتصماه!"، فلما بلغ الخبر المعتصم الخليفة العباسي أجابها بجيش عظيم أوله في عمورية وآخره عنده في العراق، فانتصر لها وردّ لها كرامتها وفتح عمورية فتحًا عظيمًا.
وفي زماننا هذا تتتابع صيحات الثكالى ونداءات اليتامى من المسلمين في كل مكان، في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان، فأين المعتصم؟
لقد أثقلتهم المحن والفتن على أيدي اليهود والنصارى بالعشرات يوميًا ولا مجيب ويبكي اليتامى والمستضعفون من المسلمين هناك ولا نصير ولا معتصم، ومع كل أسف إننا لا نتفاعل مع أية جهة منكوبة إلا إذا صعّد الإعلام قضيتهم، فأين مواساتنا لإخواننا؟
قال ابن القيم -رحمه الله-: "المواساة أنواع: فتكون بالمال وبالجاه وبالبدن والخدمة وبالنصيحة والإرشاد وبالدعاء والاستغفار لهم وبالتوجع"، قال: "وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة" انتهى كلامه.(1/344)
فأين أقل درجات المواساة؟ أين التوجع لأحوالهم؟ أين الدعاء والاستغفار لهم؟
لقد طال تقصيرنا في حق إخواننا! في كل يوم للجرحى أنين، ولكن أين الدواء؟ في كل يوم أشلاء تتطاير ودماء تسيل ونساء ترمّل وأطفال تُيتّم.
ما ذنب الطفلة الصغيرة تلعب في بيتها ثم تقتل، {بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [(9) سورة التكوير].
ما ذنب الشيخ الكبير الذي ربى أسرته سنوات طويلة فيرجع فيرى أن البيت قد دمّر عليهم جميعًا.
ما ذنب النساء وقد أصبحن أشلاء ممزقة بعد هتك أعراضهن.
في كل يوم للجرحى أنين، ولكن أين الدواء؟ في كل يوم يسكب دمع الحزين على طفل أخذ من بين يدي أمه.
أما آن لنا أن نفيق من غفلتنا، ونصحو من نومتنا؟
إن كنّا آمنين فإخواننا في شدة وخوف، إن كنّا ننام فإخواننا لا يذوقون للنوم طعمًا، ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
ثامنًا:
نُسبى ونطرد يا أبي ونبادُ ... فإلى متى يتطاول الأوغادُ
وإلى متى تدمي الجراح قلوبنا ... وإلى متى تتقرّح الأكباد
نصحو على عزف الرصاص كأننا ... زرعٌ وغارات العدو حصاد
ونبيت يجلدنا الشتاء بصوته ... جلدًا فما يَغشى العيون رُقاد
يتسامر الأعداء في أوطاننا ... ونصيبنا التشريد والإبعاد
وتفرّق الأمراض في أجسادنا ... أوّاه مما تحمل الأجساد
كم من مريض ملّ منه فراشه ... ما زاره آسٍ ولا عُوّاد
أين الأحبة يا أبي أو ما دروا ... أنّا إلى ساح الفداء نقاد
أو ما لنا في المسلمين أحبةٌ ... فيهم من العَوز المميت سداد
ما بال إخوتنا استكانوا يا أبي ... لا شامَنا انتفضت ولا بغداد
قالوا الحيادُ وتلك أكبرُ كِذبةٍ ... فحيادنا ألاّ يكون حياد
يا ويحنا ماذا أصاب رجالنا ... أو ما لنا سعدٌ ولا مقداد
سُلّت سيوف المعتدين وعربدت ... وسيوفنا ضاقت بها الأغماد
والحمد لله...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس الثامن عشر
فتح مكة(1/345)
ارتكبت قريش خطًأ فادحًا عندما أعانت حلفاءها بني بكر على خزاعة حليفة المسلمين بالخيل والسلاح والرجال، وهاجم بنو بكر وحلفاؤهم قبيلة خزاعة عند ماء يقال له: الوتير، وقتلوا أكثر من عشرين من رجالها، عندئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين من خزاعة حتى قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، وأخبروه بما كان من بني بكر وبمن أصيب منهم، وبمناصرة قريش بني بكر عليهم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((نُصرت يا عمرو بن سالم!))، فعرفت قريش أن هذا الأمر لا يمكن أن يمر بسلام، فبعثت أبا سفيان إلى المدينة لتمكين الصلح وإطالة أمده، وعندما وصل إلى المدينة ودخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرض حاجته، أعرض عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يجبه، فعاد أبو سفيان إلى مكة من غير أن يحظى بأي اتفاق أو عهد، فعزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فتح مكة وتأديب كفارها، وحرص على كتمان هذا الأمر حتى لا يصل الخبر إلى قريش فتعد العدة لمجابهته، فكتم أمره حتى عن أقرب الناس إليه وهو أبو بكر –رضي الله عنه- وزوجته عائشة -رضي الله عنها-، وبعث العيون لمنع وصول المعلومات إلى الأعداء، وتوجه إلى الله -عز وجل- بالدعاء والتضرع قائلا: ((اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة ولا يسمعوا بنا إلا فجأة)).(1/346)
وعندما أكمل النبي -صلى الله عليه وسلم- استعداده للسير إلى فتح مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابًا إلى أهل مكة يخبرهم فيه نبأ تحرك النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم، وأرسله مع امرأة مسافرة إلى مكة، ولكن الله -سبحانه وتعالى- أطلع نبيه -صلى الله عليه وسلم- عن طريق الوحي على هذه الرسالة، فقضى -صلى الله عليه وسلم- على هذه المحاولة وهي في مهدها، فأرسل عليًّا والزبير والمقداد فأمسكوا بالمرأة في روضة خاخ على بعد اثني عشر ميلًا من المدينة، وهددوها أن يفتشوها إن لم تخرج الكتاب فسلمته لهم، ثم استدعي حاطب –رضي الله عنه- للتحقيق، فقال: "يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرأ ملصقًا في قريش - أي حليفًا - ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أما إنه قد صدقكم))، فقال عمر: "يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)).(1/347)
إن ما قام به حاطب أمر عظيم، لكن لم ينظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب وإن كانت كبيرة، وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله تعالى، وإعزاز دينه، فوجد أنه قد شهد بدرًا، وفي هذا توجيه للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرة متكاملة، وذلك بأن ينظروا فيما قدموه لأمتهم من أعمال صالحة في مجال الدعوة والجهاد والعلم والتربية، فإن الذي يساهم في إسقاط فروض الكفاية عن الأمة يستحق التقدير والاحترام وإن بدرت منه بعض الأخطاء، هذا فيما إذا كان ما صدر من هؤلاء خطًا محضًا وزلة قدم، فكيف إذا كان ما صدر منهم رأيًا علميًا ناتجًا عن الاجتهاد وهم أهل لذلك.
خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاصدًا مكة في العاشر من رمضان من العام الثامن للهجرة واستخلف على المدينة كلثوم بن حصين بن عتبة الغفاري.
وكان عدد الجيش عشرة آلاف فيهم المهاجرون والأنصار الذين لم يتخلف منهم أحد، فسار هو ومن معه إلى مكة يصوم ويصومون، فلما وصل الجيش الكديد، أفطر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفطر الناس معه، وتابع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيره حتى أتى مرَّ الظهران فنزل فيه عشاء، فأمر الجيش فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، حتى ملأت الأفق، فكان لمعسكرهم منظر مهيب كادت تنخلع قلوب القريشيين من شدة هوله.
وقد قصد النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك تحطيم نفسيات أعدائه والقضاء على معنوياتهم حتى لا يفكروا في أية مقاومة، وإجبارهم على الاستسلام لكي يتم له تحقيق هدفه دون إراقة دماء، وجعل رسول الله على الحرس عمر بن الخطاب.(1/348)
وعندما وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ذي طوى وزع المهام، فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليمنى، وجعل الزبير على المجنبة اليسرى، وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي، وقال: ((يا أبا هريرة ادع لي الأنصار))، فدعاهم فجاؤوا يهرولون، فقال: ((يا معشر الأنصار، هل ترون أوباش قريش؟))، قالوا: "نعم"، قال: ((انظروا إذا لقيتموهم غدًا أن تحصدوهم حصدًا))، وأخفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال: ((موعدكم الصفا)).
وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم، وأمره أن يدخل من كداء من أعلى مكة وأمره أن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسليم وغيرهم، وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمرهم أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وبهذا كانت المسؤوليات واضحة، وكل قد عرف ما أسند إليه من مهام، والطريق الذي ينبغي أن يسير فيه.(1/349)
ودخلت قوات المسلمين مكة من جهاتها الأربع في آنٍ واحد ولم تلق تلك القوات مقاومة، وكان في دخول جيش المسلمين من الجهات الأربع ضربة قاضية لفلول المشركين، حيث عجزت عن التجمع وضاعت منها فرصة المقاومة، وهذا من التدابير الحربية الحكيمة التي لجأ إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أصبح في مركز القوة في العدد والعتاد، ونجحت خطة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلم يستطع المشركون المقاومة، ولا الصمود أمام الجيش الزاحف إلى أم القرى، فاحتل كل فيلق منطقته التي وجه إليها في سلم واستسلام، إلا ما كان من المنطقة التي توجه إليها خالد، فقد تجمع متطرفو قريش ومنهم صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وغيرهم مع بعض حلفائهم في مكان اسمه الخندمة، وتصدوا للقوات المتقدمة بالسهام، وصمموا على القتال، فأصدر خالد بن الوليد أوامره بالانقضاض عليهم، وما هي إلا لحظات حتى قضى على تلك القوة الضعيفة وشتت شمل أفرادها، وبذلك أكمل الجيش السيطرة الكاملة على مكة.
لقد أعلن في مكة قبيل دخول جيش المسلمين أسلوب منع التجول، لكي يتمكنوا من دخول مكة بأقل قدر من الاشتباكات وإراقة الدماء، وكان الشعار المرفوع: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن)).
وجعل -صلى الله عليه وسلم- لدار أبي سفيان مكانة خاصة كي يكون أبو سفيان ساعده في إقناع المكيين بالسلم والهدوء، ويستخدمه كمفتاح أمان يفتح أمامه الطريق إلى مكة دون إراقة دماء، ويشبع في نفسه عاطفة الفخر التي يحبها أبو سفيان حتى يتمكن الإيمان من قلبه.(1/350)
دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام، وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل، ودخل وهو يقرأ سورة الفتح مستشعرًا بنعمة الفتح وغفران الذنوب، وإفاضة النصر العزيز، وعندما دخل مكة فاتحًا وهي قلب جزيرة العرب ومركزها الروحي والسياسي رفع كل شعار من شعائر العدل والمساواة، والتواضع والخضوع، فأردف أسامة بن زيد وهو ابن مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يردف أحدًا من أبناء بني هاشم وأبناء أشراف قريش وهم كثير، وكان ذلك صبيحة يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان، سنة ثمانٍ من الهجرة.
إن هذا الفتح المبين ليذكّره بماض طويل الفصول، كيف خرج مطاردًا؟ وكيف يعود اليوم منصورًا مؤيدًا؟
وأي كرامة عظمى حفه الله بها هذا الصباح الميمون؟ وكلما استشعر هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعًا وانحناء.
هذا وقد حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على تأمين الجبهة الداخلية في مكة عند دخوله يوم الفتح، ولذلك عندما بلغته مقولة سعد بن عبادة لأبي سفيان: "اليوم يوم الملحمة، اليوم نستحل الكعبة"، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة))، وأخذ الراية من سعد بن عبادة وسلمها لابنه قيس بن سعد، وبهذا التصرف الحكيم حال دون أي احتمال لمعركة جانبية هم في غنى عنها، وفي نفس الوقت لم يثره ولا أثار الأنصار، فهو لم يأخذ الراية من أنصاري ويسلمها لمهاجر، بل أخذها من أنصاري وسلمها لابنه، ومن طبيعة البشر ألا يرضى الإنسان بأن يكون أحد أفضل منه إلا ابنه.(1/351)
ولما نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة واطمأن الناس خرج حتى جاء البيت فطاف به وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: {جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [(81) سورة الإسراء]، {جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [(49) سورة سبأ]، والأصنام تتساقط على وجوهها، وإنه لمظهر رائع لنصر الله وعظيم تأييده لرسوله، إذ كان يطعن تلك الآلهة الزائفة المنثورة حول الكعبة بعصا معه، فما يكاد يطعن الواحد منها بعصاه حتى ينكفئ على وجهه أو ينقلب على ظهره جذاذًا، ورأى في الكعبة الصور والتماثيل، فأمر بالصور وبالتماثيل فكسرت، وأبى أن يدخل جوف الكعبة حتى أخرجت الصور، وكان فيها صورة يزعمون أنها صورة إبراهيم وإسماعيل وفي يديهما من الأزلام، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((قاتلهم الله، لقد علموا ما استقسما بها قط)).
ثم دخل البيت وكبَّر في نواحيه ثم صلى، فقد روى ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل الكعبة هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فأغلقها عليه ثم مكث فيها، قال ابن عمر: "فسألت بلالًا حين خرج: ما صنع رسول الله؟"، قال: "جعل عمودين عن يساره وعمودًا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه - وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة - ثم صلى".(1/352)
وكان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة قبل أن يسلم، فأراد علي –رضي الله عنه- أن يكون المفتاح له مع السقاية، لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- دفعه إلى عثمان بعد أن خرج من الكعبة ورده إليه قائلًا: ((اليوم يوم بر ووفاء))، وكان -صلى الله عليه وسلم- قد طلب من عثمان بن طلحة المفتاح قبل أن يهاجر إلى المدينة، فأغلظ له القول ونال منه، فحلم عنه وقال: ((يا عثمان، لعلك ترى هذا المفتاح يومًا بيدي أضعه حيث شئت))، فقال: "لقد هلكت قريش يومئذ وذلت"، فقال: ((بل عمرت وعزّت يومئذ))، ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة موقعًا، وظن أن الأمر سيصير إلى ما قال، ولقد أعطى له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفاتيح الكعبة قائلًا له: ((هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء، خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم)).
وهكذا لم يشأ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يستبد بمفتاح الكعبة، بل لم يشأ أن يضعه في أحد من بني هاشم، وقد تطاول لأخذه رجال منهم، لما في ذلك من الإثارة، ولما به من مظاهر السيطرة وبسط النفوذ، وليست هذه من مهام النبوة بإطلاق، هذا مفهوم الفتح الأعظم في شرعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: البر والوفاء حتى للذين غدروا ومكروا وتطاولوا.
هذا وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بلالًا أن يصعد فوق ظهر الكعبة فيؤذن للصلاة، فصعد بلال وأذن للصلاة، وأنصت أهل مكة للنداء الجديد كأنهم في حلم، إن هذه الكلمات: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، تقصف في الجو فتقذف بالرعب في أفئدة الشياطين، فلا يملكون أمام دويها إلا أن يولوا هاربين، أو يعودوا مؤمنين.
ذلك الصوت الذي كان يهمس يومًا ما تحت أسواط العذاب: أحد أحد، ها هو اليوم يجلجل فوق كعبة الله تعالى قائلًا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والكل خاشع منصت خاضع.(1/353)
وبعد ذلك نال أهل مكة عفوًا عامًّا رغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعوته، ورغم قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم، وقد جاء إعلان العفو عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيهم، فقال: ((ما تظنون أني فاعل بكم؟))، فقالوا: "خيرًا أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ"، فقال: ((لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُم)).
وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل أو السبي، وإبقاء الأموال المنقولة والأراضي بيد أصحابها، وعدم فرض الخراج عليها، فلم تعامل مكة كما عوملت المناطق الأخرى المفتوحة عنوة لقدسيتها وحرمتها، فإنها دار النسك ومتعبد الخلق وحرم الرب تعالى.
إلى جانب ذلك الصفح الجميل كان هناك الحزم الأصيل الذي لا بد أن تتصف به القيادة الحكيمة الرشيدة، ولذلك استثنى قرار العفو الشامل بضعة عشر رجلًا أمر بقتلهم، وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة؛ لأنهم عظمت جرائمهم في حق الله ورسوله وحق الإسلام، ولما كان يخشاه منهم من إثارة الفتنة بين الناس بعد الفتح، وهم: عبد العزى بن خطل، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحويرث بن نقيد، ومقيس بن حبابة، وهبار بن الأسود، وسارة مولاة بني عبد المطلب، والحارث بن طلال الخزاعي، وكعب بن زهير، ووحشي بن حرب، وهند بنت عتبة، ومن هؤلاء من قُتل، ومنهم من جاء مسلمًا تائبًا فعفا عنه الرسول، وحسُن إسلامه.(1/354)
وفي غداة الفتح بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن خزاعة حلفاءه عدت على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك برجل قتل في الجاهلية، فغضب وقام بين الناس خطيبًا فقال: ((يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا، ولا يعضد فيها شجرًا، لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة غضبًا على أهلها، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قاتل فيها فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم)).
كان من أثر عفو النبي -صلى الله عليه وسلم- الشامل عن أهل مكة، والعفو عن بعض من أهدر دماءهم، أن دخل أهل مكة رجالًا ونساء وأحرارًا وموالي في دين الله طواعية واختيارًا، وبدخول مكة تحت راية الإسلام دخل الناس في دين الله أفواجًا، وتمت النعمة، ووجب الشكر، وبايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس جميعًا الرجال والنساء، والكبار والصغار، وبدأ بمبايعة الرجال، فقد جلس لهم على الصفا، فأخذ عليهم البيعة على الإسلام والسمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، وجاء مجاشع بن مسعود بأخيه مجالد بعد يوم الفتح فقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة"، فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((ذهب أهل الهجرة بما فيها))، فقال: "على أي شيء تبايعه؟"، قال: ((أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد)).(1/355)
ولما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من بيعة الرجال بايع النساء، وفيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة على ألا يشركن بالله شيئًا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصين في معروف، ولما قال النبي: ((ولا يسرقن))، قالت هند: "يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني ويكفي بنيَّ، فهل عليَّ من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟"، فقال لها -صلى الله عليه وسلم-: ((خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف))، ولما قال: ((ولا يزنين))، قالت هند: "وهل تزني الحرة؟!".
ولما عرفها رسول الله قال لها: ((وإنك لهند بنت عتبة؟))، قالت: "نعم، فاعف عما سلف عفا الله عنك".
وقد بايعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النساء من غير مصافحة، فقد كان لا يصافح النساء ولا يمس يد امرأة إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم منه.
وبعد أن طهر البيت الحرام من الأوثان التي كانت فيه، كان لا بد من هدم البيوت التي أقيمت للأوثان، فكانت معالم للجاهلية ردحًا طويلًا من الزمن، فكانت سرايا رسول الله تترى لتطهير الجزيرة منها، فتوجهت سرية قوتها ثلاثون فارسًا بقيادة خالد بن الوليد إلى الطاغوت الأعظم منزلة ومكانة عند قريش وسائر العرب (العزى)؛ لإزالته من الوجود نهائيًا، وعندما وصلت السرية إلى العزى بمنطقة نخلة قام إليها خالد فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليه وهو يردد: "كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك".(1/356)
ثم رجع خالد وأصحابه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقدم تقريره بإنجاز المهمة، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- استدرك على قائد السرية وقال له: ((هل رأيت شيئًا؟))، قال: "لا"، فقال: ((ارجع فإنك لم تصنع شيئا))، فرجع خالد وهو مغيظ حنق على عدم إنهاء مهمته على الوجه المطلوب، فلما وصل إليها ونظرت السدنة إليه عرفوا أنه جاء هذه المرة ليكمل ما فاته في المرة السابقة، فهربوا إلى الجبل وهم يصيحون: "يا عزى خبليه، يا عزى عوريه"، فأتاه خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراث على رأسها، فتقدم إليها خالد –رضي الله عنه- بشجاعته المعروفة وضربها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك فقال: ((تلك هي العزى)).
وبعث سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة، ومناة اسم صنم وكانت على ساحل البحر الأحمر، فذهب على رأس سرية قوتها عشرون فارسًا، وكان واجب السرية هو إزالة مناة من الوجود نهائيًا.
انطلق سعد بن زيد ومن معه لإنجاز المهمة المحددة حتى وصل إليها، فقابله سادنها متسائلًا: "ما تريد؟"، قال: "هدم مناة"، قال: "أنت وذاك".
فأقبل سعد يمشي إليها، وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها، فصاح بها السادن صيحة الواثق: مناة دونك بعض عصاتك، ولكن صيحته ذهبت أدراج الرياح، فلم يأبه سعد –رضي الله عنه- بكل ذلك وضربها ضربة قاتلة قضت عليها، ثم أقبل مع أصحابه على الصنم فهدموه، ولم يجدوا في خزانتها شيئًا، وانصرف راجعًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.(1/357)
وبعث سرية عمرو بن العاص إلى سواع، وسواع اسم صنم كان لقوم نوح -عليه السلام- ثم صار بعد ذلك لقبيلة هذيل المضرية، وظل هذا الوثن منصوبًا تعبده هذيل وتعظمه حتى إنهم كانوا يحجون إليه حتى فتحت مكة ودخلت هذيل فيمن دخل في دين الله أفواجًا، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرية بقيادة عمرو بن العاص –رضي الله عنه- لتحطيم سواع.
ويحدثنا قائد السرية عن مهمته، فيقول: "فانتهيت إليه وعنده السادن، فقال: ما تريد؟ قلت: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أهدمه، قال: لا تقدر على ذلك، قلت: لم؟ قال: تمنع، قلت: حتى الآن أنت في الباطل، ويحك! هل يسمع أو يبصر؟! قال: فدنوت منه فكسرته وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته فلم يجدوا شيئًا، ثم قلت للسادن: كيف رأيت؟ قال: أسلمتُ لله".
بعدها جاء بعض صناديد قريش فأسلموا، فأسلم سهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وأتى أبو بكر بأبيه يقوده، فلما رآه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه؟))، قال أبو بكر: "يا رسول الله، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت"، قالت: فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: ((أسلم))، فأسلم.
وأراد فضالة بن عمير الليثي قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أفضالة؟))، قال: "نعم، فضالة يا رسول الله"، قال: ((ماذا كنت تحدث به نفسك؟))، قال: "لا شيء، كنت أذكر الله"، قال: فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: ((استغفر الله))، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: "والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إليَّ منه"(1/358)
كان عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد أسلم وكتب الوحي ثم ارتد، فلما دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة وقد أهدر دمه، فر إلى عثمان وكان أخاه من الرضاعة، فلما جاء به ليستأمن له صمت عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طويلًا ثم قال: ((نعم))، فلما انصرف مع عثمان قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن حوله: ((أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني قد صمت فيقتله؟))، فقالوا: "يا رسول الله، هلا أومأت إلينا؟"، فقال: ((إن النبي لا يقتل بإشارة))، وفي رواية: ((إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين)).
وبعد فتح مكة تحققت أمنية الرسول -صلى الله عليه وسلم- بدخول قريش في الإسلام، وبرزت قوة كبرى في الجزيرة العربية لا يستطيع أي تجمع قبلي الوقوف في وجهها، وهي مؤهلة لتوحيد العرب تحت راية الإسلام ثم الانطلاق إلى الأقطار المجاورة لإزالة حكومات الظلم والطغيان، وتأمين الحرية لخلق الله لكي يدخلوا في دين الله، ويعبدوه وحده من دون سواه.
كان فتح مكة أهم فتح للإسلام والمسلمين، أكرم الله به نبيه -صلى الله عليه وسلم- خاصة والمسلمين عامة، فقد جاء هذا الفتح المبارك بعد سنوات متواصلة من الدعوة والجهاد لتبليغ رسالة الإسلام، فتوج مرحلة مهمة من مراحل الدعوة الإسلامية، وكان أشبه ما يكون بنهاية المطاف لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذه الدار، وبداية المطاف لمن بعده لإتمام مهمة نشر الدعوة في أرجاء الأرض كافة.
ولا نبعد عن الصواب إذا قلنا: إن فتح مكة يحمل من الدلالات والفوائد والعبر ما لا يحيط به كتاب، فضلًا أن يحيط به درس قصير كهذا.
وحسبنا في هذا المقام أن نقف عند بعض الفوائد والدلائل التي حملها ذلك الحدث التاريخي، لنعرف أهميته في تاريخ الإسلام، وندرك مكانته في مسيرة الدعوة إلى الله سبحانه:(1/359)
- إن من أولى فوائد فتح مكة أنه انتزع تلك البقعة المباركة من براثن الشرك، وضمها لحمى التوحيد، فقد دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة فكان من أول ما فعل أن كسَّر الأصنام المنصوبة حول الكعبة المشرفة، وهو يردد قوله تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [(81) سورة الإسراء]، {قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [(49) سورة سبأ]، وصعد بلال على سطح الكعبة وصدح بالأذان، فكانت كلماته تتردد في أرجاء مكة معلنة انتهاء عهد الخرافة والشرك، وبدء عصر النور والتوحيد.
- وقد كان من فوائد فتح مكة رفعُ سيف الكفر المسلط على رقاب المستضعفين من أهل مكة سواء ممن أسلم، أو ممن كان يرغب في الإسلام الذين أرهبهم سيف قريش، وسَلَبَ حقهم في اختيار الدين الحق، فجاء ذاك الفتح ليرفع السيف عن رقابهم وليدخلوا في دين الله دون خوف أو وجل.
- ومما أسفر عنه هذا الفتح العظيم تحطيم وإزالة رهبة قريش من قلوب قبائل العرب، التي كانت تؤخر إسلامها لترى ما يؤول إليه حال قريش من نصر أو هزيمة.
روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة: أن العرب كانت تنتظر بإسلامها الفتح، يقولون انظروا فإن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما جاءتنا وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم.
- وكان من فوائد هذا النصر المبارك زيادة إيمان المؤمنين بتحقق وعد ربهم -دخول البيت والطواف به- بعد أن منعهم منه المشركون، فقال سبحانه: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ} [(27) سورة الفتح].
- ومن فوائد فتح مكة اكتساب المسلمين شرف حماية البيت وخدمته، مما جعل لهم من المكانة عند العرب نظير ما كان لقريش من قبل، بل وأعظم.(1/360)
- ومن فوائد فتح مكة تضعضع مركز الكفر والشرك في جزيرة العرب، وتحول رؤوس الكفر إلى القتال على جبهات ليس لها منزلة ولا مكانة عند العرب كثقيف وهوازن، وما هي إلا جولة أو جولتان حتى خضعت جزيرة العرب للحكم الإسلامي، وأصبحت الجزيرة مركزًا لنشر الدين الجديد، وانطلقت الجيوش المسلمة الفاتحة لتدك عروش كسرى وقيصر، ولتخضع أكبر إمبراطوريات الشر لحكم الدين الإسلامي.
- ومن أهم الدلالات التي أفصح عنها فتح مكة موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أهلها الذين ناصبوه العداء منذ أن بدأ بتبليغ دعوته، فبعد أن أكرمه الله -عز وجل- بدخول مكة توجه إلى أهلها ليقول لهم: ((ما ترون أني فاعل بكم؟))، قالوا: "أخ كريم، وابن أخ كريم"، قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))، فيا له من موقف كريم يليق بمن أرسله الله رحمة للعالمين.
هذه بعض فوائد فتح مكة، ذلكم الفتح الذي ليس ثمة فتح يوازيه في مكانته وأهميته، حتى سماه العلماء الفتح العظيم؛ وذلك لما ترتب عليه من نتائج عظيمة ليس أقلها إعادة أعظم بقعة في الأرض من براثن الشرك إلى حمى التوحيد، وليس أدناها اقتران هذا الفتح المبارك بدخول الناس في دين الله أفواجًا، كما قال تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [(1-3) سورة النصر]، نسأل الله أن يفتح لهذه الأمة سبل العزة والكرامة، ويدفع عنها ما يراد بها.
والحمد لله...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس التاسع عشر
غزوة حنين(1/361)
لما فتح الله مكة على رسوله والمؤمنين وخضعت له قريش، خافت هوازن وثقيف وقالوا: قد فرغ محمد لقتالنا، فلنغزه قبل أن يغزونا، وأجمعوا أمرهم على هذا، وولوا عليهم مالك بن عوف، فاجتمع إليه هوازن وثقيف وبنو هلال، ولم يحضرها من هوازن كعب وكلاب، وكان معهم دريد بن الصُّمَّة، وكان معروفًا بشدة البأس في الحرب وأصالة الرأي، إلا أنه كان كبيرًا فلم يكن له إلا الرأي والمشورة.
وكان رأي مالك بن عوف أن يخرجوا وراءهم النساء والذراري والأموال حتى لا يفروا، فلما علم بذلك دريد سأله: لم ذلك؟ فقال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم، فقال دريد: راعي ضأن والله، وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، ولكنه لم يستمع لمشورته.
تحرك المسلمون باتجاه حنين في اليوم الخامس من شوال ووصلوا حنين في مساء العاشر من شوال، وقد استخلف الرسول -صلى الله عليه وسلم- عتاب بن أسيد على مكة عند خروجه، وكان عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفًا من المسلمين، أما عدد هوازن وثقيف فكانوا ضعف عدد المسلمين أو أكثر، ولما رأى بعض الطلقاء جيش المسلمين قالوا: لن نغلب اليوم من قلة، ودخل الإعجاب في النفوس.
اتخذ مالك بن عوف زعيم قبائل هوازن وثقيف تعبئة عالية ووقف خطيبًا في جيشه وحثهم على الثبات والاستبسال، ومما قال في هذا الجمع الحاشد: "إن محمدًا لم يقاتل قط قبل هذه المرة، وإنما كان يلقى قومًا أغمارًا لا علم لهم بالحرب فيُنصر عليهم".(1/362)
جرت عادة العرب في حروبهم أن يكسروا أجفان سيوفهم قبل بدء القتال، وهذا التصرف يؤذن بإصرار المقاتل على الثبات أمام الخصم حتى النصر أو الموت، وقد أمر مالك جنده بذلك تحقيقًا لهذا، وكانت عند مالك بن عوف معلومات وافية عن الأرض التي ستدور عليها المعركة، ولهذا رأى أن يستغل هذه الظروف الطبيعية لصالح جيشه، فعمل بمشورة الفارس المحنك دريد بن الصمة في نصب الكمائن لجيوش المسلمين، وقد كادت هذه الخطة تقضي على قوات المسلمين لولا لطف الله -سبحانه وتعالى- وعنايته.
كان ضمن الخطة التي رسمها القائد الهوازني الأخذ بزمام المبادرة ومهاجمة المسلمين؛ لأن النصر في الغالب يكون للمهاجم، أما المدافع فغالبًا ما يكون في مركز الضعف، ولهذا آتت هذه الخطة ثمارها بعض الوقت، ثم انقلبت موازين القوى بفضل الله تعالى ثم بثبات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث كسب المسلمون الجولة وانتصروا على أعدائهم.
كان من ضمن بنود الخطة الحربية التي رسمها القائد مالك بن عوف، استعمال سلاح معنوي له تأثير كبير في النفوس، فقد شنّ الحرب النفسية ضد المسلمين من أجل إلقاء الخوف في نفوسهم، وذلك بأن عمد إلى عشرات الآلاف من الجمال التي صحبها معه في الميدان فجعلها وراء جيشه ثم أركب عليها النساء، فكان لذلك المشهد منظر مهيب يحسب من يراه أن هذا الجيش مائة ألف مقاتل، وهو ليس كذلك.
لما بلغ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عزم هوازن على حربه أرسل عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي حتى يوافيه بخبر هوازن، فذهب –صلى الله عليه وسلم- ومكث بينهم يومًا أو يومين ثم عاد وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بما رأى.(1/363)
ولقد ذهب عبد الله إلى حيث أمره الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعاد على وجه السرعة بخبر هؤلاء الأعداء، إلا أنه قصّر –رضي الله عنه- في أداء هذا الواجب حيث لم يختلط بهوازن اختلاطًا كاملًا بحيث يسمع ويرى ما يدبر ضد المسلمين هناك، وكان من أهم ما يجب أن يُعنى به معرفة مواقع المشركين التي احتلوها، وقد فوجئ المسلمون باختفاء تلك الكمائن التي نصبها الأعداء في منحنيات الوادي حتى استطاعوا أن يمطروا المسلمين بوابل من سهامهم فانهزموا في الجولة الأولى، فكان الجهل بهذه الكمائن أحد الأسباب الرئيسية وراء هزيمة المسلمين في أول المعركة.
وفي طريق المسلمين إلى حنين مروا بشجرة للمشركين تسمى ذات أنواط، كانوا يأتونها كل سنة فيعلقون عليها أسلحتهم ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يومًا، فقال بعض المسلمين من حديثي العهد بالإسلام: "يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((الله أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [(138) سورة الأعراف]، إنها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم)).
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أعد جيشًا قوامه عشرة آلاف، وهم من خرجوا معه من المدينة، وألفان من مسلمة الفتح، فكان عدد من خرج في تلك الغزوة اثني عشر ألفًا، وسعى -صلى الله عليه وسلم- لتأمين عدة الجيش فطلب من ابن عمه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلاثة آلاف رمح إعارة، وطلب من صفوان بن أمية دروعًا، وتكفّل -صلى الله عليه وسلم- بالضمان، وكان نوفل وصفوان لا يزالان على شركهما.(1/364)
سبقت هوازن المسلمين إلى وادي حنين واختاروا مواقعهم وبثوا كتائبهم في شعابه ومنعطفاته وأشجاره، وكانت خطتهم تتمثل في مباغتة المسلمين بالسهام أثناء تقدمهم في وادي حنين، وفعلًا باغت المشركون المسلمين وأمطروهم من جميع الجهات، فاضطربت صفوفهم، وماج بعضهم في بعض، ونتيجة لهول هذا الموقف انهزم معظم الجيش ولاذوا بالفرار، كل يطلب النجاة لنفسه، وبقي الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونفر قليل في الميدان يتصدون لهجمات المشركين، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أي عباس، نادِ أصحاب السمرة))، فقال العباس - وكان رجلًا صيتًا -: "أين أصحاب السمرة؟" قال: "فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها"، فقالوا: "يا لبيك يا لبيك!"، قال: فاقتلوا الكفار، والدعوة في الأنصار، يقولون: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار، قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث من الخزرج، فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على بغلته، كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هذا حين حمي الوطيس)).
وقد أيد الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين بنزول الملائكة من السماء وسلاح الرعب وتأثير قبضتي الحصى والتراب في أعين الأعداء.
فمن الأسلحة المادية التي أيد الله بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- يوم حنين تأثير قبضتي الحصى والتراب اللتين رمى بهما وجوه المشركين، حيث دخل في أعينهم كلهم من ذلك الحصى والتراب فصار كل واحد يجد لها في عينيه أثرًا، فكان من أسباب هزيمتهم، قال العباس –رضي الله عنه-: "ثم أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: ((انهزموا وربِّ محمد))، قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلًا وأمرهم مدبرًا.(1/365)
بعدها قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمطاردة فلول الفارين إلى أوطاس والطائف، قال أبو موسى الأشعري –رضي الله عنه-: "لما فرغ النبي -صلى الله عليه وسلم- من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دُريد بن الصمة، فقتل دريد، وهزم الله أصحابه، وتوجه النبي -صلى الله عليه وسلم- وحاصر أهل الطائف، فنزل الجيش في مكان مكشوف قريب من الحصن، وما كاد الجند يضعون رحالهم حتى أمطرهم الأعداء بوابل من السهام، فأصيب من جراء ذلك ناس كثيرون، وحينئذ عرض الحباب بن المنذر على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فكرة التحول من هذا الموقع إلى مكان آمن من سهام أهل الطائف، فقبل -صلى الله عليه وسلم- هذه المشورة وكلف الحباب لكونه من ذوي الخبرات الحربية الواسعة في هذا المجال بالبحث عن موقع ملائم لنزول الجند، فذهب –رضي الله عنه- ثم حدد المكان المناسب، وعاد فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بذلك، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- جيشه بالتحول إلى المكان الجديد".
ولما اشتدت مقاومة أهل الطائف وقتلوا مجموعة من المسلمين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتحريق بساتين العنب والنخل في ضواحي الطائف للضغط على ثقيف، ثم أوقف هذا العمل بعد أثره في معنوياتهم وإضعافه روح المقاومة، وبعد أن ناشدته ثقيف بالله والرحم أن يترك هذا العمل، ووجه النبي -صلى الله عليه وسلم- ندائه لعبيد الطائف أن من ينزل من الحصن ويخرج إلى المسلمين فهو حر، فخرج ثلاثة وعشرون من العبيد منهم أبو بكرة الثقفي فأسلموا، فأعتقهم ولم يعدهم إلى ثقيف بعد إسلامهم.(1/366)
ثم أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابن الخطاب فأذن في الناس بالرحيل، فضج الناس من ذلك وقالوا: نرحل، ولم يفتح علينا الطائف؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((فاغدوا على القتال))، فغدوا، فأصابهم جراحات، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنا قافلون غدا إن شاء الله))، فسروا بذلك وأذعنوا، وجعلوا يرحلون ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضحك، فلما ارتحلوا واستقلوا، قال: ((قولوا: آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون))، وقيل: "يا رسول الله، ادع الله على ثقيف"، فقال: ((اللهم اهد ثقيفًا وائت بهم)).
وقد غنم المسلمون في هذه الغزوة غنائم عظيمة، ورأى -صلى الله عليه وسلم- أن يتألف الطلقاء والأعراب بالغنائم تأليفًا لقلوبهم؛ لحداثة عهدهم بالإسلام، فأعطى لزعماء قريش وغطفان وتميم عطاءً عظيمًا؛ إذ كانت عطية الواحد منهم مائة من الإبل، ومن هؤلاء: أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس، ومعاوية ويزيد ابنا أبي سفيان، وقيس ابن عدي.
وكان الهدف من هذا العطاء المجزي هو تحويل قلوبهم من حب الدنيا إلى حب الإسلام، أو كما قال أنس بن مالك: "إن كان الرجل ليُسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها".
وعبّر عن هذا صفوان بن أمية بقوله: "لقد أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ".(1/367)
وقد تأثر حدثاء الأنصار من هذا العطاء بحكم طبيعتهم البشرية، وترددت بينهم مقالة، فراعى -صلى الله عليه وسلم- هذا الاعتراض وعمل على إزالة التوتر، وبين لهم الحكمة في تقسيم الغنائم، وخاطب الأنصار خطابًا إيمانيًّا عقليًّا عاطفيًّا وجدانيًّا، ما يملك القارئ المسلم على مر الدهور وكر العصور وتوالي الزمان إلا البكاء عندما يمر بهذا الحدث العظيم، فعندما دخل سعد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء"، قال: ((فأين أنت من ذلك يا سعد؟))، قال: "يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي"، قال: ((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة؟))، قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردَّهم، فلما اجتمعوا أتى سعد، فقال: "قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار"، فأتاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: ((يا معشر الأنصار، ما مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها في أنفسكم؟، ألم آتكم ضُلاَّلا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟))، قالوا: "الله ورسوله أمنُّ وأفضل"، ثم قال: ((ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟))، قالوا: "بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المنّ والفضل"، قال: ((أما والله لو شئتم لقلتم فلصَدَقْتم ولصُدِّقتُم: أتيتنا مكذَّبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك، أوجدتم عليَّ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفتُ بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ولولا الهجرة لكنت امرءًا(1/368)
من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وواديًا، وسلكت الأنصار شعبًا وواديًا لسلكتُ شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار والناس دثار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار))، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: "رضينا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قسمًا وحظًّا"، ثم انصرف رسول الله وتفرقوا.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن هذه المقالة لم تصدر من الأنصار كلهم، وإنما قالها حديثو السن منهم.
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب للأنصار صورة مؤثرة: قوم يبشرون بالإيمان، يقابلهم قوم يبشرون بالجِمال، وقوم يصحبهم رسول الله، يقابلهم قوم يصحبهم الشاة والبعير، لقد أيقظتهم تلك الصور وأدركوا أنهم وقعوا في خطأ ما كان لأمثالهم أن يقع فيه، فانطلقت حناجرهم بالبكاء ومآقيهم بالدموع وألسنتهم بالرضا، وبذلك طابت نفوسهم واطمأنت قلوبهم بفضل سياسة النبي -صلى الله عليه وسلم- الحكيمة في مخاطبتهم.(1/369)
لما عاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الطائف بقي بالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبين فيرد عليهم ما فقدوا، فلما لم يأتوا شرع -صلى الله عليه وسلم- في تقسيم الغنائم، فقسمها في المهاجرين والطلقاء، ولم يعط الأنصار منها شيئًا، كما سبق، ثم أتاه وفد هوازن مسلمين وهو بالجعرانة، فسألوه أن يرد إليهم سبيهم وأموالهم، فقال لهم: ((اختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال))، فلما تبين لهم أن رسول الله غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا: فإنا نختار سبينا، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: ((أما بعد: فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤونا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يطيب بذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل))، فقال الناس: "قد طيبنا ذلك يا رسول الله".
وقد سر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بإسلام هوازن وسألهم عن زعيمهم مالك بن عوف، فأخبروه أنه في الطائف مع ثقيف، فوعدهم برد أهله وأمواله عليه، وإكرامه بمائة من الإبل إن قدم عليه مسلمًا، فجاء مالك مسلمًا فأكرمه وأمّره على قومه وبعض القبائل المجاورة.
وقد تأثر مالك بن عوف بمعاملة النبي -صلى الله عليه وسلم- له، وجادت قريحته بعد ذلك في مدحه.(1/370)
لقد كانت سياسته -صلى الله عليه وسلم- مع خصومه مرنة إلى أبعد الحدود، وبهذه السياسة الحكيمة استطاع -صلى الله عليه وسلم- أن يكسب هوازن وحلفاءها إلى صف الإسلام، واتخذ من هذه القبيلة القوية رأس حربة يضرب بها قوى الوثنية في المنطقة ويقودها زعيمهم مالك بن عوف الذي قاتل ثقيفًا في الطائف حتى ضيق عليهم، وقد فكر زعماء ثقيف في الخلاص من المأزق بعد أن أحاط الإسلام بالطائف من كل مكان فلا تستطيع تحركًا ولا تجارة، فمال بعض زعماء ثقيف إلى الإسلام، مثل عروة بن مسعود الثقفي الذي سارع إلى اللحاق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في طريقه إلى المدينة بعد أن قسم غنائم حنين واعتمر من الجعرانة، فالتقى به قبل أن يصل إلى المدينة، وأعلن إسلامه وعاد إلى الطائف، وكان من زعماء ثقيف محبوبًا عندهم، فدعاهم إلى الإسلام وأذّن في أعلى منزله، فرماه بعضهم بسهم فأصابوه، فطلب من قومه أن يدفنوه مع شهداء المسلمين في حصار الطائف.
إن الإنسان ليعجب من فقه النبي -صلى الله عليه وسلم- في معاملة النفوس، ومن سعيه الحثيث لتمكين دين الله تعالى.
لقد استطاع -صلى الله عليه وسلم- أن يزيل معالم الوثنية، وبيوتات العبادة الكفرية من مكة وما حولها، ورتب -صلى الله عليه وسلم- الأمور التنظيمية للأراضي التي أضيفت للدولة الإسلامية، فعين عتاب بن أسيد أميرا على مكة، وجعل معاذ بن جبل مرشدًا وموجهًا ومعلمًا ومربيًا، وعين على هوازن مالك بن عوف قائدًا ومجاهدًا، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة -صلى الله عليه وسلم-.(1/371)
وكان المسلمون قد ساقوا فيمن ساقوه إلى رسول الله الشيماء بنت الحارث، وبنت حليمة السعدية، أخت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة، وعنّفوا عليها في السوق وهم لا يدرون، فقالت للمسلمين: "تعلمون والله أني لأخت صاحبكم من الرضاعة"، فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله، ولما انتهت الشيماء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: "يا رسول الله، إني أختك من الرضاعة"، قال: ((ما علامة ذلك؟))، قالت: "عضة عضضتها في ظهري وأنا حاملتك على وركي"، وعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العلامة، وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، وخيَّرها، وقال: ((إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك فعلت))، فقالت: "بل تمتعني وتردني إلى قومي"، ومتعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلمت، وأعطاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أعبد وجارية ونعماء وشاء.
وبعد غزوة حنين توسعت الدولة الإسلامية وامتد نفوذها وأصبح لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمراء بمكة وعلى قبيلة هوازن، وصارت تلك الأماكن جزءًا من الدولة الإسلامية التي عاصمتها المدينة النبوية، وأصبح بالإمكان أن يرسل رسول الله بعوثًا دعوية بدون خوف أو وجل من أحد، وصارت المدينة بعد الفتح تستقبل وفود المستجيبين، وأخذت حركة السرايا تستهدف الأوثان والأصنام لتهديمها، فقد أصبح استئصال وجودها من الجزيرة سهلًا، ونظم رسول الله فريضة الزكاة، فكلف من يقوم على جمعها من القبائل التابعة للدولة.
وإذا كانت غزوة بدر الكبرى هي أولى معارك الإسلام مع مشركي العرب، وبها كُسرَت حدتهم وقلت هيبتهم، فقد كانت غزوة حنين وما تلاها من غزو أهل الطائف هي آخر تلك المعارك، وبها استُفرِغت قوى أولئك المشركين، واستُنفِدت سهامهم، وأُذل جمعهم، حتى لم يجدوا بدًا من الدخول في دين الله.(1/372)
بعد عودته -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة في أواخر ذي القعدة شرع في تنظيم الإدارة والجباية، وكان -صلى الله عليه وسلم- قد استخلف عتّاب بن أَسِيد على مكة حين انتهى من أداء العمرة، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس ويعلمهم القرآن.
وفي مطلع المحرم من العام التاسع وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- عماله إلى المناطق المختلفة ليجمع صدقاتهم، ويقدم عليه بجزيتهم.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بعث الطفيل بن عمرو من مقره في حنين وقبل أن يسير إلى الطائف، أمره بأن يهدم ذا الكفلين -صنم عمرو بن حُمَمَة الدوسي- ثم يستمد قومه ويوافيه مع المدد إلى الطائف، وقد نفذ الطفيل بن عمرو أوامر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فهدم ذا الكفلين وحرقه، وقاد أربعمائة من قومه فوصلوا إليه بعد مقدمه الطائف بأربعة أيام.
وفي ربيع الآخر خرجت سرية علي بن أبي طالب إلى الفُلس -صنم لطيئ- ليهدمه، وكان تعدادها خمسين ومائة رجل من الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرسًا، ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فشنوا الغارة على محلة آل حاتم الطائي الذي ضرب المثل بجوده مع الفجر فهدموا الفلس وخربوه، وملؤوا أيديهم من السبي والنعم والشاء، وفي السبي أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام.
وعندما وقعت أخت عدي بن حاتم في أسر المسلمين عاملها رسول الله معاملة كريمة، وبقيت معززة مكرمة، ثم كساها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأعطاها ما تتبلغ به في سفرها، وعندما وصلت إلى أخيها في الشام شجعته على الذهاب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتأثر بنصيحتها وقدم على المدينة وأسلم.(1/373)
ثم بعث -صلى الله عليه وسلم- سرية جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الخلصة، قال جرير بن عبد الله: "قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا تريحني من ذي الخلصة؟))، فقلت: "بلى، فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمَس، وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري فقال: ((اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا))، قال: "فما وقعت عن فرسي بعد"، قال: "وكان ذو الخلصة بيتًا باليمن لخشعم وبجيلة فيه نصب يقال له: الكعبة، قال: فأتاها فحرقها بالنار وكسرها".
وفي سنة ثمان للهجرة تزوج رسول الله فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي في ذي القعدة، فاستعاذت منه -عليه السلام- ففارقها.
وفي ذي الحجة منها ولد إبراهيم بن رسول الله من مارية القبطية فاشتدت غيرة أمهات المؤمنين منها حين رزقت ولدًا ذكرًا.
وفي عام 8 هـ توفيت زينب بنت رسول الله وزوج أبي العاص بن الربيع، ولدت قبل المبعث بعشر سنين، وكانت أكبر بناته -صلى الله عليه وسلم- تليها رقية ثم أم كلثوم ثم فاطمة -رضي الله عنهن-.
كان رسول الله محبًا لها، أسلمت قديمًا ثم هاجرت قبل إسلام زوجها بست سنين، وكانت قد أجهضت في هجرتها ثم نزفت وصار المرض يعاودها حتى توفيت، ولما ماتت قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((اغسلنها وترًا: ثلاثًا أو خمسًا، واجعلن في الآخرة كافورًا)).
والحمد لله...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس العشرون
غزوة تبوك(1/374)
خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لغزوة تبوك في رجب من العام التاسع الهجري بعد العودة من حصار الطائف بنحو ستة أشهر، واشتهرت هذه الغزوة باسم غزوة تبوك؛ نسبة إلى مكان هو عين تبوك، التي انتهى إليها الجيش الإسلامي، وأصل هذه التسمية جاء في صحيح مسلم، فقد روي بسنده إلى معاذ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي)).
وللغزوة اسم آخر وهو غزوة العسرة، وقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم حينما تحدث عن هذه الغزوة في سورة التوبة، قال تعالى: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [(117) سورة التوبة].
لقد سميت بهذا الاسم لشدة ما لاقى المسلمون فيها من الضنك، فقد كان الجو شديد الحرارة، والمسافة بعيدة، والسفر شاقًّا لقلة المؤونة وقلة الدواب التي تحمل المجاهدين إلى أرض المعركة، وقلة الماء في هذا السفر الطويل والحر الشديد، وكذلك قلة المال الذي يجهز به الجيش وينفق عليه.(1/375)
وصلت الأنباء للنبي -صلى الله عليه وسلم- من الأنباط الذين يأتون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت جموعًا وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من مستنصرة العرب، وجاءت في مقدمتهم إلى البلقاء فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يغزوهم قبل أن يغزوه، فحث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحابة على الإنفاق في هذه الغزوة لبعدها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كل حسب مقدرته، وكان عثمان –رضي الله عنه- صاحب القِدْح المُعَلَّى في الإنفاق في هذه الغزوة، فقال: "يا رسول الله، عليَّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم))، وأما عمر -رضي الله عنه- فقد تصدق بنصف ماله، وأتى أبو بكر –رضي الله عنه- بكل ما عنده، وروى أن عبد الرحمن بن عوف أنفق ألفي درهم، وجاء عاصم بن عدي بتسعين وسقًا من التمر، وكانت لبعض الصحابة نفقات عظيمة، كالعباس بن عبد المطلب، وطلحة بن عبيد الله، ومحمد بن مسلمة -رضي الله عنهم-، وبعثت النساء ما قدرن عليه من خلاخل وخواتم وذهب، رضي الله عن صحابة رسول الله وجزاهم الله خيرًا عن الأمة، وهم كما قال ابن القيم -رحمه الله-:
أولئك أتباع النبي وحزبه ... ولولاهم ما كان في الأرض مسلم
ولولاهم كادت تميد بأهلها ... ولكن رواسيها وأوتادها هم
ولولاهم كانت ظلامًا بأهلها ... ولكنهم فيها بدور وأنجم
وهكذا يفهم المسلمون أن المال وسيلة، واستطاع أغنياء الصحابة أن يبرهنوا أن مالهم في خدمة هذا الدين، يدفعونه عن طواعية ورغبة، وإن تاريخ الأغنياء المسلمين تاريخ مشرف؛ لأن تاريخ المال في يد الرجال لا تاريخ الرجال تحت سيطرة المال.(1/376)
وقد حزن الفقراء من المؤمنين؛ لأنهم لا يملكون نفقة الخروج إلى الجهاد، فهذا عُلَبة بن زيد أحد البكائين صلى من الليل وبكى، وقال: "اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ولم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في جسد أو عرض"، وأصبح الرجل على عادته مع الناس، فقال رسول الله: ((أين المتصدق هذه الليلة))، فلم يقم أحد، ثم قال: ((أين المتصدق هذه الليلة فليقم))، فقام إليه فأخبره، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أبشر فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة)).
وجاء الأشعريون يتقدمهم أبو موسى الأشعري يطلبون من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحملهم على إبل ليتمكنوا من الخروج للجهاد، فلم يجد ما يحملهم عليه حتى مضى بعض الوقت فحصل لهم على ثلاثة من الإبل.
وبلغ الأمر بالضعفاء والعجزة ممن أقعدهم المرض أو النفقة عن الخروج إلى حد البكاء شوقًا للجهاد وتحرجًا من القعود حتى نزل فيهم: {لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} [(91-92) سورة التوبة].
إنها صورة مؤثرة للرغبة الصحيحة في الجهاد على عهد رسول الله، وما كان يحسه صادقو الإيمان من ألم إذا ما حالت ظروفهم المادية بينهم وبين القيام بواجباتهم.(1/377)
عندما أعلن الرسول -صلى الله عليه وسلم- النفير ودعا إلى الإنفاق في تجهيز هذه الغزوة، أخذ المنافقون في تثبيط همم الناس قائلين لهم: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله تعالى فيهم: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ* فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلًا وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [(81-82) سورة التوبة].
وبلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ناسًا منهم يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأرسل إليهم من أحرق عليهم بيت سويلم، وهذا منهج نبوي يتعلم منه كل مسؤول في كل زمان ومكان كيف يقف من دعاة الفتنة ومراكز الشائعات المضللة التي تلحق الضرر بالأفراد والمجتمعات والدول؛ لأن التردد في مثل هذه الأمور يعرض الأمن والأمان إلى الخطر وينذر بزوالها.
أُعلن النفير العام للخروج لغزوة تبوك حتى بلغ عدد من خرج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك ثلاثين ألفًا، وقد عاتب القرآن الذين تباطؤوا.(1/378)
لقد استطاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحشد ثلاثين ألف مقاتل من المهاجرين والأنصار وأهل مكة والقبائل العربية الأخرى، ولقد أعلن -صلى الله عليه وسلم- على غير عادته في غزواته هدفه ووجهته في القتال، إذ أعلن صراحة أنه يريد قتال الروم، علمًا بأن هديه في معظم غزواته أن يوري فيها ولا يصرح بهدفه ووجهته، وقد صرح -صلى الله عليه وسلم- في هذه الغزوة على غير العادة؛ وذلك لبعد المسافة، وكثرة عدد الروم، وشدة الزمان، إضافة أنه لم يعد مجال للكتمان في هذا الوقت، حيث لم يبق في جزيرة العرب قوة معادية لها خطرها تستدعي هذا الحشد الضخم سوى الرومان ونصارى العرب الموالين لهم في منطقة تبوك ودومة الجندل والعقبة.
واستخلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وخلَّف علي بن أبي طالب على أهله، فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استثقالًا وتخففًا منه، فأخذ علي –رضي الله عنه- سلاحه، ثم خرج حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو نازل بالجرف فقال: "يا نبي الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني لأنك استثقلتني وتخففت مني"، فقال: ((كذبوا، ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي))، فرجع عليُّ إلى المدينة.
وعندما تجمع المسلمون عند ثنية الوداع بقيادة رسول الله، اختار الأمراءَ والقادة وعقد الألوية والرايات لهم، فأعطى اللواء الأعظم إلى أبي بكر الصديق، ورايته العظمى إلى الزبير بن العوام، ودفع راية الأوس إلى أسيد بن حضير، وراية الخزرج إلى أبي دجانة، وأمر كل بطن من الأنصار أن يتخذ لواء، واستعمل على حراسة تبوك من يوم قدم إلى أن رحل منها عباد بن بشر، فكان –رضي الله عنه- يطوف في أصحابه على العسكر، وكان دليل رسول الله في هذه الغزوة علقمة الخزاعي، فقد كان من أصحاب الخبرة والكفاءة في معرفة طريق تبوك.(1/379)
وبعد تعبئة الجيش وتوزيع المهام والألوية والرايات توجه الجيش الإسلامي بقيادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك، ولم ينتظر أحدًا قد تأخر، وقد تأخر نفر من المسلمين يظن فيهم خيرًا، وكلما ذكر لرسول الله اسم رجل تأخر قال -صلى الله عليه وسلم-: ((دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه)).
ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سائرًا، فجعل يتخلف عنه الرجل، فيقولون: "يا رسول الله، تخلف فلان"، فيقول: ((دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه))، حتى قيل: يا رسول الله، قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال: ((دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه)).
وتلوَّم أبو ذر على بعيره فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماشيًا، ونزل رسول الله في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: "يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كن أبا ذر))، فلما تأمله القوم قالوا: "يا رسول الله، هو والله أبو ذر"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)).
ومضى الزمان، وجاء عصر عثمان، ثم حدثت بعض الأمور وسُيِّر أبو ذر إلى الربذة، فلما حضره الموت أوصى امرأته وغلامه: "إذا مت فاغسلاني وكفناني ثم احملاني فضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولوا: هذا أبو ذر".(1/380)
فلما مات فعلوا به كذلك، فطلع ركب فما علموا به حتى كادت ركائبهم تطأ سريره، فإذا ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة، فقال: "ما هذا؟"، فقيل: "جنازة أبي ذر"، فاستهل ابن مسعود يبكي، فقال: "صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده))، فنزل فوليه بنفسه حتى دفنه.
ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيامًا إلى أهله في يوم حارّ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعامًا، فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه، وما صنعتا له، فقال: "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الضح والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟! ما هذا بالنصف، ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهيئا لي زادًا"، ففعلتا ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أدركه حين نزل تبوك.
إن هذه الصورة تبين لنا مثلًا من سلوك المتقين الذين تمر عليهم لحظات ضعف يعودون بعدها أقوى إيمانًا مما كانوا عليه إذا تذكروا وراجعوا أنفسهم، وفي بيان ذلك يقول الله -تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [(201) سورة الأعراف].(1/381)
ويتوجه -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك فيمر بديار ثمود، الذين جابوا الصخر بالواد، ديار غضب الله على أهلها فتلك بيوتهم خاوية، وآبارهم معطلة، وأشجارهم مقطعة، فاستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تشربوا من مائها ولا تتوضؤوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئًا))، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح -عليه السلام-.
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: "لما مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحجر قال: ((لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلاّ أن تكونوا باكين))، ثم قنع رأسه وأسرع بالسير حتى جاز الوادي".
واستمر -صلى الله عليه وسلم- في طريقه إلى تبوك، وقد بلغ به الجوع والتعب مبلغًا عظيمًا، ومع السَّحَر ينام -عليه الصلاة والسلام- من التعب على دابته حتى يكاد يسقط كما في صحيح مسلم، فيقرب منه أبو قتادة فيدعمه بيده حتى يعتدل، ثم يميل أخرى فيدعمه أبو قتادة حتى يعتدل، ثم يميل ميلة أخرى أشد حتى كاد يسقط فيدعمه أبو قتادة بيده، فيرفع رأسه -صلى الله عليه وسلم-، ويقول: ((من هذا))، قال: "أنا أبو قتادة"، فقال له: ((حفظك الله بما حفظت نبي الله يا أبا قتادة)).
يقول المؤرخون: فما زال أبو قتادة محفوظًا بحفظ الله في أهله وذريته ما أصابهم سوء حتى ماتوا.
إنه درس عظيم لمن حفظ أولياء الله، فإن الله يحفظه، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء.(1/382)
عندما وصل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك لم يجد أثرًا للحشود الرومانية ولا القبائل العربية، وبالرغم من أن الجيش مكث عشرين ليلة في تبوك لم تفكر القيادة الرومانية مطلقًا في الدخول مع المسلمين في قتال، حتى القبائل العربية المنتصرة آثرت السكون، أما حكام المدن في أطراف الشام فقد آثروا الصلح ودفع الجزية، فقد أرسل ملك أيلة للنبي -صلى الله عليه وسلم- هدية، وهي بغلة بيضاء وبرد، فصالحه على الجزية.
وأرسل خالد بن الوليد –رضي الله عنه- على رأس سرية من الفرسان بلغ عددها أربعمائة وعشرين فارسًا إلى دومة الجندل، واستطاع خالد بن الوليد أن يأسر أكيدر بن عبد الملك الكندي ملكها وهو في الصيد خارجها، فصالحه النبي -صلى الله عليه وسلم- على الجزية، وقد تعجب المسلمون من قباء كان أكيدر يلبسه، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا)).
وكتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معاهدات لكل من أهل جرباء وأذرح ولأهل مقنا، يؤدي بموجبها هؤلاء الناس من نصارى العرب الجزية كل عام، وتخضع لسلطان المسلمين.(1/383)
لقد انفرد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالإمارات الواقعة في شمال الجزيرة وعقد معها معاهدات، وبذلك أمن حدود الدولة الإسلامية الشمالية، وبهذه المعاهدات قص -صلى الله عليه وسلم- أجنحة الروم، فقد كانت هذه القبائل تابعة للروم ودخلوا في النصرانية، فإقدام من أقدم منها على مصالحة رسول الله والتزامها بالجزية يعد قصًا لهذه الأجنحة وبترًا لحبال تبعيتهم للروم، وتحريرًا لهم من هذه التبعية التي كانت تذلهم وتخضعهم لسلطان الروم لينالوا من تساقط فتاتهم شيئًا يعيشون به، وخوفًا من ظلمهم لقوتهم الباطشة، وقد وفوا بعهد الصلح والتزموا أداء الجزية، فأعطوها عن يدٍ وهم صاغرون، وهذه سياسة نبوية حكيمة اختطها رسول الله في بناء الدولة ودعوة الناس لدين الله، فقد استطاع أن يفصل بين المسلمين والروم بإمارات تدين للرسول بالطاعة وتخضع لحكم المسلمين، وأصبحت في زمن الخلفاء الراشدين نقاط ارتكاز سهلت مهمة الفتح الإسلامي في عهدهم، فمنها انطلقت قوات المسلمين إلى الشمال، وعليها ارتكزت لتحقيق هدفها العظيم.
إن الحق لا بد له من قوة تحرسه وترهب أعداءه، لا يكفي حق بلا قوة.
دعا المصطفى دهرًا بمكة لم يُجَبْ ... وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف بالكف مسلط ... له أسلموا واستسلموا وأنابوا
قال عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه-: "قمت من جوف الليل، وأنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، قال: فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر، وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حضرته، وأبو بكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: ((أدنيا إليَّ أخاكما))، فدلياه إليه، فلما هيأه بشقه، قال: ((اللهم إني أمسيت راضيًا عنه، فارض عنه))، فقال عبد الله بن مسعود: "يا ليتني كنت صاحب الحفرة".(1/384)
إن هذه صورة من البر والتكريم فريدة يتيمة، لن تجد في تاريخ الملوك والحكام من يبر ويتواضع إلى هذا المستوى إلى حيث يوسد الحاكم فردًا من رعيته بيده في مثواه الأخير، ثم يلتمس له المرضاة من رب العالمين، أما هو فقد أعلن أنه أمسى راضيًا عنه.
هذا وقد ظهرت في غزوة تبوك عدد من المعجزات منها:
- أن الله تعالى أرسل سحابًا لدعاء نبيه بالسقيا: لما جاز النبي -صلى الله عليه وسلم- حجر ثمود، أصبح الناس ولا ماء لهم، فشكوا ذلك إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ربه، واستسقى لمن معه من المسلمين، فأرسل الله -سبحانه وتعالى- سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، واحتملوا حاجتهم من الماء.
- وأيضًا: خبر ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سائرًا في طريقه إلى تبوك، ضلت ناقته فخرج أصحابه في طلبها، وعند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل من أصحابه يقال له: عمارة بن حزم، وكان عقبيًّا بدريًّا، وكان في رحله زيد بن اللصيت القينقاعي وكان منافقًا.
قال زيد وهو في رحل عمارة، وعمارة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أليس محمد يزعم أنه نبي؟ ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمارة عنده: ((إن رجلًا قال: هذا محمد يزعم أنه يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها، وهي في هذا الوادي، في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها))، فذهبوا فجاؤوا بها.(1/385)
- ومن المعجزات: الإخبار بهبوب ريح شديدة والتحذير منها: أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في تبوك بأن ريحًا شديدة ستهب، وأمرهم بأن يحتاطوا لأنفسهم ودوابهم فلا يخرجوا حتى لا تؤذيهم، وليربطوا دوابهم حتى لا تؤذى، وتحقق ما أخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهبت الريح الشديدة وحملت من قام فيها إلى مكان بعيد حتى ألقته بجبل طيء.
- وأيضًا: تكثير ماء عين تبوك والإخبار بما ستكون عليه في المستقبل: قال معاذ بن جبل –رضي الله عنه-: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئًا حتى آتي))، فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء، فسألهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((هل مسستما من مائها شيئا؟))، قالا: "نعم"، فسبهما النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلًا قليلًا، حتى اجتمع في شيء، وغسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه يديه ووجهه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر حتى استقى الناس.
وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل: "يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانًا".(1/386)
لقد كانت منطقة تبوك والوادي الذي كانت فيه العين منطقة جرداء لقلة الماء، ولكن الله -عز وجل- أجرى على يد رسوله -صلى الله عليه وسلم- بركة تكثير هذا الماء حتى أصبح يسيل بغزارة، ولم يكن هذا آتيًا لسد حاجة الجيش، بل أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيستمر وستكون هناك جنان وبساتين مملوءة بالأشجار المثمرة، ولقد تحقق ما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد فترة قليلة من الزمن، وما زالت تبوك حتى اليوم تمتاز بجنانها وبساتينها ونخيلها وتمورها، تنطق بصدق نبوة الرسول وتشهد بأن الرسول لا يتكلم إلا صدقًا، ولا يخبر إلا حقا، ولا ينبئ بشيء إلا ويتحقق.
- وأيضًا من المعجزات: تكثير الطعام: قال أبو سعيد الخدري –رضي الله عنه-: "لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله، لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وأدمنا، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((افعلوا))، فجاء عمر فقال: "يا رسول الله، إنهم إن فعلوا قل الظَّهْر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع لهم بالبركة لعل الله يجعل في ذلك"، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنطع فبسطه، ثم دعاهم بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجيء بكف الذرة، والآخر بكف التمر، والآخر بالكسرة حتى اجتمع على النطع في ذلك شيء يسير، ثم دعا عليه بالبركة، ثم قال لهم: ((خذوا في أوعيتكم))، فأخذوا من أوعيتهم حتى ما تركوا من المعسكر وعاء إلا ملؤوه، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت منه فضلة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى اللهَ بهما عبدٌ غير شاكٍّ فتحجب عنه الجنة)).
عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بعد أن مكث في تبوك عشرين ليلة، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهدم مسجد الضرار الذي بناه المنافقون وهو راجع إلى المدينة، ولما اقترب من المدينة خرج الصبيان إلى ثنية الوداع يتلقونه، وهم يرددون:(1/387)
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة ... مرحبًا يا خير داع
وقوبل جيش العسرة بحفاوة بالغة، ولم ينس النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذهابه وإيابه أصحاب القلوب الكبيرة الذين صعب عليهم أن يجاهدوا معه فتخلفوا راغمين والعبرات تملأ عيونهم.
روى البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة فقال: ((إن في المدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم))، فقالوا: "يا رسول الله وهم بالمدينة؟!"، قال: ((وهم بالمدينة حبسهم العذر)).
بهذه المواساة الرقيقة كرّم النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجال الذين شيعوه بقلوبهم، وهو ينطلق إلى الروم فأصلح بالهم، وأراح همًّا ثقيلًا عن أفئدتهم.
ودخل -عليه الصلاة والسلام- المدينة، فصلى في مسجده ركعتين، ثم جلس للناس، وجاء المخلفون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقدمون له الاعتذار، وكانوا أربعة أصناف: فمنهم من له أعذار شرعية وعذرهم الله تعالى، ومنهم من ليس له أعذار شرعية وتاب الله عليهم، ومنهم من منافقي الأعراب الذين يسكنون حول المدينة، ومنهم من منافقي المدينة.(1/388)
أما مسجد الضرار: فقد شرع المنافقون في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك، وجاؤوا فسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال: ((إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله))، فلما قفل -عليه السلام- راجعًا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم، مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة، فأمر عمار بن ياسر، ومالك بن الدخشم مع بعض أصحابه وقال لهم: ((انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه))، ففعلوا.
إن ما قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الأمر بهدم مسجد الضرار هو التصرف الأمثل، وهذا منهج نبوي سنّه لقادة الأمة في القضاء على أي عمل يراد منه الإضرار بالمسلمين وتفريق كلمتهم، فالداء العضال لا يعالج بتسكينه والتخفيف منه، وإنما يعالج بحسمه وإزالة آثاره، حتى لا يتجدد ظهوره بصورة أخرى.
مسجد الضرار الذي اتخذ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكيدة للإسلام والمسلمين، هذا المسجد ما يزال يتخذ في صور شتى، يتخذ في صورة نشاط ظاهره الإسلام وباطنه لسحق الإسلام أو تشويهه، ويتخذ في صورة أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتترس وراءها وهي ترمي هذا الدين، ويتخذ في صورة تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام لتخدّر القلقين الذين يرون الإسلام يُذبح ويمحق، فتخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب بما توحيه لهم من أن الإسلام بخير، وأنه لا داعي للخوف أو القلق عليه.(1/389)
ولا يزال أعداء الإسلام من المنافقين والملحدين، والمبشرين المنصِّرين والمستعمرين، يقيمون أماكن باسم العبادة وما هي لها، وإنما المراد بها الطعن في الإسلام وتشكيك المسلمين في معتقداتهم وآدابهم، وكذلك يقيمون مدارس باسم الدرس والتعليم ليتوصلوا بها إلى بث سمومهم بين أبناء المسلمين، وصرفهم عن دينهم، وكذلك يقيمون المنتديات باسم الثقافة والغرض منها خلخلة العقيدة السليمة في القلوب، والقيم الخلقية في النفوس، ومستشفيات باسم المحافظة على الصحة والخدمة الإنسانية والغرض منها التأثير على المرضى والضعفاء وصرفهم عن دينهم، وقد اتخذوا من البيئات الجاهلة والفقيرة لاسيما في بلاد إفريقيا ذريعة للتوصل إلى أغراضهم الدنيئة التي لا يقرها عقل ولا شرع ولا قانون.
إن مسجد الضرار ليس حادثة في المجتمع الإسلامي الأول وانقضت، بل هي فكرة باقية، يخطط لها باختيار الأهداف العميقة، وتختار الوسائل الدقيقة لتنفيذها، وخططها تصب في التآمر على الإسلام وأهله، بالتشويه وقلب الحقائق، والتشكيك، وزرع بذور الفتن لإبعاد الناس عن دينهم وإشغالهم بما يضرهم ويدمر مصيرهم الأخروي.
وأما الذين خلفوا، فأشهر قصة في ذلك قصة الثلاثة الذين خلفوا كما في الصحيحين، وهم هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة ابن الربيع، وكانوا قد تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمر ما مع الهمّ باللحاق به -عليه الصلاة والسلام-، فلم يتيسر لهم، ولم يكن تخلفهم عن نفاق وحاشاهم فقد كانوا من المخلصين.
فلما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان ما كان من المتخلفين قالوا: "لا عذر لنا إلا الخطيئة" ولم يعتذروا له -صلى الله عليه وسلم- ولم يفعلوا كما فعل أهل النفاق، وأمر رسول الله باجتنابهم، وشدد الأمر عليهم، وقد وقف أمرهم خمسين ليلة لا يدرون ما الله تعالى فاعل بهم، حتى نزلت توبتهم.(1/390)
وبهذه الغزوة المباركة ينتهي الحديث عن غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- التي قادها بنفسه، فقد كانت حياته المباركة غنية بالدروس والعبر التي تتربى عليها أمته في أجيالها المقبلة، ومليئة بالدروس والعبر في تربية الأمة وإقامة الدولة التي تحكم بشرع الله.
كلُّ العِدَا قَدْ جَنَّدوا طَاقَاتِهِم ... ضِدَّ الهُدَى والنُّورِ ضِدَّ الرِّفْعَةِ
إِسلامُنا هُو دِرْعُنَا وَسِلاحُنَا ... ومنارنا عَبْرَ الدُّجَى فِي الظُّلْمَةِ
هُو بِالعَقِيدةِ رَافِعٌ أَعْلامَهُ ... فَامْشِي بِظِلِّ لِوَائهَا يَا أُمَّتِي
لا الغَربُ يَقصِد عِزَّنَا كَلا وَلا ... شَرْقُ التَحَلُّلِ إنَّهُ كَالحَيَّةِ
الكُلُّ يَقْصدُ ذُلَّنَا وهَوَانَنَا ... أَفَغَيْرُ رَبِّي مُنْقِذٌ مِنْ شِدَّةِ؟
والحمد لله...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس الحادي والعشرون
حجة الوداع
الحج أحد الأركان الخمسة، وقد فرض في العام العاشر، ولم يحج النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة غير حجته التي كانت في العام العاشر، وعرفت هذه الحجة بحجة البلاغ، وحجة الإسلام، وحجة الوداع؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- ودع الناس فيها ولم يحج بعدها، وحجة البلاغ؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- بلغ الناس شرع الله في الحج قولًا وعملًا، ولم يكن بقي من دعائم الإسلام وقواعده شيء إلا وقد بينه.
كانت رحلة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الحج رحلة عظيمة جليلة فيها من التوحيد والعبادة والنسك والتعليم والتربية ما يعجز المرء عن وصفه.
عزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الحج وأعلم الناس أنه حاج، فتجهزوا وذلك في شهر ذي القعدة سنة عشر للخروج معه، وسمع بذلك من حول المدينة، فقدموا يريدون الحج مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- ووافاه في الطريق خلائق لا يحصون، فكانوا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله مد البصر، بلغ عددهم مائة ألف صحابي.(1/391)
سار النبي -صلى الله عليه وسلم- تحيط به القلوب، وترمقه المقل، وتفديه المهج، فهو معهم كواحد منهم، لم توطأ له المراكب، ولم تتقدمه المواكب، ولم تشق له الطرقات، ولم تنصب له السرادقات، وإنما سار بين الناس ليس له شارة تميزه عنهم إلا بهاء النبوة وجلال الرسالة، يسير معهم وفي غمارهم.
خرج -صلى الله عليه وسلم- من المدينة نهارًا بعد الظهر لخمس بقين من ذي القعدة يوم السبت، بعد أن صلى الظهر بها أربعًا، وخطبهم قبل ذلك خطبة علمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه.
ثم صلى -عليه الصلاة والسلام- بذي الحليفة ثم أهل بالتوحيد: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك))، ثم ركب -عليه الصلاة والسلام- ناقته القصواء وأهلّ أيضًا بالتوحيد، ثم رقى البيداء فأهلّ بالتوحيد أيضًا.
ولو تأملت في راحلته ورحله ومتاعه، لقد ركب -عليه الصلاة والسلام- راحلته وعليها رحل رث وقطيفة لا تساوي أربعة دراهم، فلما انبعثت به راحلته استقبل القبلة وحمد الله وسبح وكبر وقال: ((لبيك حجة لا رياء فيها ولا سمعة)).
وأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، قال أنس -رضي الله عنه-: "فما بلغنا فَجِّ الرَّوْحاء حتى بحت أصواتنا"، وفَجَّ الرَّوْحاء يبعد عن المدينة بما يقرب من سبعين كيلو متر وهذا مسيرة اليوم الواحد، فمن أول يوم بحت أصواتهم لكثرة ما لبوا، استجابة لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال لهم -عليه الصلاة والسلام-: ((أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية)) فاهتزت الصحراء وتجاوبت الجبال بضجيج الملبين، وهتافهم بتوحيد رب العالمين: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك إله الحق، لبيك ذا المعارج، لبيك وسعديك، والخير في يديك، والرغباء والعمل". زحفت تلك الجموع على هذه الحال، هتاف بالتلبية، وعجيج بالذكر، وإعلان بشعار الحج.(1/392)
ثم انطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى مكة ومر بفَجِّ الرَّوْحاء فلقي قومًا فقال: ((من أنتم؟))، قالوا: "المسلمون"، قالوا: من هذا؟! قال: ((رسول الله -صلى الله عليه وسلم-))، فرفعت له امرأة صبيها فقالت: "يا رسول الله ألهذا حج؟" قال: ((نعم، ولك أجر))، فتأمل حرص الصحابيات على العلم والسؤال، وتأمل الحرص على الخير للذرية.
ثم انطلق -عليه الصلاة والسلام- حتى إذا أتى سرِف -وهو وادٍ قبل مكة- فحاضت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- وكانت قد أحرمت بالعمرة متمتعة، فلما حاضت انسلت من الفراش وبكت -رضي الله عنها-، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((ما لكِ أنفستِ؟ ذاكِ شيء كتبه الله على بنات آدم، اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت)).
انطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقطع هذه الفيافي الفساح، وكأنما جبالها ووهادها وآكامها وأوديتها تروي له خبرها، وتحدثه بمن مر بها، فتراءت للرسول -صلى الله عليه وسلم- أطياف الأنبياء الذين ساروا يؤمون هذا البيت قبله، كأنما يراهم أمامه ويرافقهم في مسيره، فلما مر بوادي عسفان قال: ((يا أبا بكر، أي واد هذا؟))، قال: "وادي عسفان"، قال: ((لقد مر به هود وصالح على بكرات خطمها الليف، أُزُرُهُم العباء، وأرديتهم النمار، يحجون البيت العتيق))، ولما مر بوادي الأزرق قال: ((أي وادٍ هذا؟)) قالوا: وادي الأزرق، قال: ((كأني أنظر إلى موسى بن عمران منصبًا من هذا الوادي واضعًا أصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله بالتلبية مارًا بهذا الوادي)).
ولما مر بثنية قال: ((أي ثنية هذه؟))، قالوا: هرشى، قال: ((كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء جعدة، خطامها ليف، وهو يلبي وعليه جبة صوف)).
وعندما وصل فج الروحاء قال: ((لقد مر بالروحاء سبعون نبيًا، فيهم نبي الله موسى حفاة عليهم العباء، يؤمون بيت الله العتيق)).(1/393)
إنها شعيرة ضاربة في عمق الزمن، تتابع فيها أنبياء الله ورسله، فهل تتذكر أيها المؤمن وأنت تحج بيت الله، أنك تسير في إثر هذه القافلة العظيمة من أنبياء الله ورسله، في طريق سار فيه إبراهيم وهود وصالح وموسى ويونس ومحمد صلى الله عليهم وسلم؟
إنك وأنت تسير هذا المسير تستشعر أنك ذو نسب في الهداية عريق.
إنه مسير سار فيه الأنبياء والرسل، فادع ربك الذي سيّرك في طريقهم الذي سلكوه أن يجمعك بهم في نزلهم غدًا في الآخرة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
سار -صلى الله عليه وسلم- في الطريق بين المدينة ومكة، مسافرًا يتلقى ما يتلقاه المسافر من وعثاء السفر ونصب الطريق، فقد مرض -صلى الله عليه وسلم- في مسيره هذا واشتد به صداع الشقيقة فاحتجم في وسط رأسه.
وفي أحد منازله -صلى الله عليه وسلم- في الطريق في مكان يسمى العرج جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبجانبه زوجه عائشة وجلس صاحبه أبو بكر وبجانبه ابنته أسماء، وكان أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه غلامه براحلته التي كانت تحمل متاعه ومتاع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فطلع الغلام وليس معه بعيره فقال له أبو بكر: "أين بعيرك؟"، قال: "أضللته البارحة"، فطفق أبو بكر يضربه ويقول: "بعير واحد وتضله؟"، وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ينظر إليه ويبتسم ويقول: ((انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع!))، وجعل أبو بكر يتغيظ على غلامه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((هون عليك يا أبا بكر؛ فإن الأمر ليس إليك ولا إلينا))، ولم يلبثوا طويلًا حتى وُجدت الراحلة وجاء الله بها.(1/394)
قطع النبي -صلى الله عليه وسلم- الطريق بين المدينة ومكة في ثمانية أيام، تعرّض فيها لنصب الطريق ووعثاء السفر، ولذلك لما قرب من مكة بات قريبًا منها يستريح هناك، ويتهيأ لدخولها نهارًا، فبات عند بئر ذي طوى، فلما أصبح -صلى الله عليه وسلم- اغتسل ثم دخل مكة من ثنية كداء، وذلك ضحوة يوم الأحد جهارًا نهارًا، ليراه الناس فيقتدوا به، فأناخ راحلته -صلى الله عليه وسلم- عند المسجد، ثم دخل من الباب الذي كان يدخل منه يوم كان بمكة -باب بني شيبة- دخل -صلى الله عليه وسلم- الحرم فإذا هو على ملة أبيه إبراهيم، ليس حول الكعبة صنم، ولا يطوف بها عريان، ولم يحج إليها مشرك.
دخل النبي الحرم، هذه الساحة التي شهدت دعوته وبلاغه وبلاءه وصبره على أذى قومه وجرأتهم عليه.
أَمَا دخل الحرم ليصلي فيه قبل نحو عشر سنين فألقوا سلا الجزور على ظهره وهو ساجد؟ أما دخل الحرم فقام إليه ملأ من قريش فأخذوا مجامع ردائه فخنقوه به حتى جاء أبو بكر فخلّصه منهم وهو يقول: "أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله؟".
ولما وصل الحجر استلمه وكبر ثم فاضت عيناه بالبكاء، ثم قبّله وكان به حفيًا، وكان موقفًا تسكب فيه العبرات.
ثم بدأ -صلى الله عليه وسلم- بالطواف، فطاف -عليه الصلاة والسلام- السبعة الأشواط، وكان من هديه في طوافه أن ابتدأ فاستلم الحَجَر ثم اضطبع -عليه الصلاة والسلام- ورمل الأشواط الثلاثة الأول ومشى الأربعة الباقية.(1/395)
طاف -عليه الصلاة والسلام- سبعة أشواط متطهرًا متخشعًا متذللًا جاعلًا البيت عن يساره يبتدؤها من الحَجَر وينتهي بالحجر، ثم صلى ركعتي الطواف وأتى إلى المقام وجعله بينه وبين الكعبة ثم تلا الآية: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [(125) سورة البقرة]، ثم كبر فصلى -عليه الصلاة والسلام- وقرأ فيهما بسورتي الإخلاص، ثم قام وأتى بئر زمزم فشرب منها ثم رجع وقبّل الحجر، ثم انطلق إلى الصفا فتلا الآيات قبل أن يرقى جبل الصفا: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهٌِ} [(158) سورة البقرة]، ثم قال: ((أبدأ بما بدأ الله به))، ثم رقى جبل الصفا حتى رأى البيت فاستقبله فكبر الله -عز وجل- ثلاث تكبيرات ثم قال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، نصر عبده وأنجز وعده وهزم الأحزاب وحده))، ثم دعا -عليه الصلاة والسلام-، ثم كرر ذلك ثلاث مرات.
وبعد أن فرغ من دعائه نزل حتى إذا انصبت قدماه في الوادي وسعى واشتد سعيه والرداء يدور على ركبته من شدة سعيه وقال وهو يسعى: ((أيها الناس، إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا)).
ثم سار -صلى الله عليه وسلم- بمن معه من الصحابة حتى نزل بالأبطح شرق مكة، وهو مكان فسيح واسع، فنزل بالناس وأقام بهم أربعة أيام، يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، وكان رفيقًا بالناس، ومن رفقه بهم أنه لم يذهب إلى المسجد الحرام خلال تلك المدة للصلاة؛ لأنه لو ذهب لسارت معه هذه الجموع العظيمة، ولشق ذلك عليهم، ولكن صلى بهم هناك في الأبطح.(1/396)
وكان -صلى الله عليه وسلم- قريبًا من الناس والناس قريبون منه، يهابه كل أحد ويدنو منه كل أحد، يسعهم بالخُلق العظيم الذي جبله عليه ربه، فكان في قبة حمراء في الأبطح، فإذا توضأ لصلاته خرج بلال ببقية وضوئه فيفيضها على الناس، فمن أصاب منها شيئًا تمسح به، ومن لم يصب منها أصاب من بلل صاحبه، يبغون بركة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم يخرج فيصلي بهم.
وحدّث أبو جحيفة -رضي الله عنه- عن مشهد من مشاهده مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أيامه تلك فقال: "خرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالهاجرة وعليه حلة حمراء مشمرًا كأني أنظر إلى بريق ساقيه، فصلى بالناس ركعتين، فلما قضى صلاته قام الناس إليه فجعلوا يأخذون بيديه فيمسحون بها وجوههم، فأخذت بيده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحةً من المسك".
وتتابع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأبطح من لم يدركه في الطريق، وكان ممن أتاه هناك عليّ بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري -رضي الله عنهما- قادمين من اليمن.
وهكذا بقي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأبطح قريبًا من الناس، دانيًا إليهم، معلمًا ومبينًا ما يعرض لهم، فرُوي عنه أنه خطب الناس في اليوم السابع فأخبرهم بمناسكهم، وعلّمهم أحكام حجهم.
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى منى، وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبات تلك الليلة بمنى، ثم صلى بها الفجر.
وفي اليوم التاسع من ذي الحجة، أشرقت الشمس على خير يوم طلعت فيه الشمس، يوم الجمعة ويوم عرفة.
توجه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عرفات، وجموع الحجيج تسير معه، فخرج -عليه الصلاة والسلام- إلى عرفات من طريق ضب، وهو الطريق الذي بأسفل جمرة العقبة، وخرج بعد صلاة الفجر بمنى، وكان من هدي الصحابة -رضي الله عنهم- مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم خرجوا ذاكرين لله.(1/397)
قال أنس -رضي الله عنه-: "غدونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عرفات فمنّا الملبي ومنّا المهلل ومنّا المكبر فلم يعب أحدٌ منا على الآخر".
سار -صلى الله عليه وسلم- بالناس ومع الناس قريبًا منهم، يدنو منه من شاء، ويكلمه من شاء، فهذا أعرابي يعرض له بين عرفات ومزدلفة يمسك بخطام ناقته وهي سائرة، ويوقفه والناس حوله يتساءلون: "ماله؟"، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقطع عليهم تساؤلهم قائلًا: ((اتركوه))، ويسأل الأعرابي: "يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم، دع الناقة)).(1/398)
ويسير -صلى الله عليه وسلم- على حاله هذه رخاء حيث أصاب، حتى وصل إلى نمرة، فإذا قبة قد ضربت له هناك، فجلس فيها حتى زالت الشمس، فركب راحلته القصواء، ثم نزل بها إلى بطن وادي عُرَنَة، وهو أرض دمثة فسيحة يسهل اجتماع الناس عليها وجلوسهم فيها، فاجتمع الناس حوله في بطن الوادي ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- على راحلته مشرف عليهم، فعرفته العيون، وأصاخت له المسامع، واشْرَأبَّت له الأعناق، وخفقت بحبه القلوب، تتعلق بمحياه، وتتلقف قوله، فتطاول -صلى الله عليه وسلم- للناس، وقد أمكن قدميه في الغرز، واعتمد على مقدم الرّحل، وأشرف للناس ليخطبهم خطبة عظيمة، جمع فيها معاقد الدين، وعَصَمَ الملة، وعظّم الحرمات، فدوى صوته بين أهل الموقف، حامدًا ربه مثنيًا عليه، وكانت من أعظم المشاهد وأجلها؛ لأن الله أقر فيها عينه، فقد اجتمع في هذا اليوم قرابة مائة وعشرين ألف صحابي، وكان يومًا عظيمًا؛ لأن الناس كان كثير منهم حديث العهد بالإسلام، وحديث العهد بشرائع الدين، وهو بالأمس يُكَذَّب في مكة ويُؤْذَى أصحابه -صلوات الله وسلامه عليه- وإذا برب العزة والجلال الذي لا يُضَيِّع الحق وأهله إذا به يقر عينه بذلك المشهد العظيم، فتصغي له الناس صغارًا وكبارًا شبابًا وشيبًا وأطفالًا كلهم ينظرون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفَتَحَ الله له قلوبهم، وفتح الله له أسماعهم، وكانت خطبة عظيمة جامعة مانعة نافعة، أحل فيها الحلال وحرم فيها الحرام، وقف فيها -عليه الصلاة والسلام- شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وبيّن فيها المقاصد العظيمة، فأحيا ما اندرس من معالم الحنيفية، وطمس معالم الشرك والوثنية والجاهلية، وأذهب النعرات والعصيبة، فأحل حلال الله وحرم حرام الله.(1/399)
وكان من عجاب هذا الموقف، أن الذي كان يُبَلِّغ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للناس، ويصرخ فيهم بمقاله هو "ربيعة بن أمية بن خلف" هذا الذي قُتل أبوه في بدر هبرًا بالسيوف، وهو يقاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإذا ابنه يبلّغ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويصرخ في الناس بكلماته، ألا إنها أنوار النبوة وهدي الرسالة، أطفأت تراث الجاهلية في القلوب التي كانت تتوارث الحقد، وتستعر فيها حرارة الثأر، فتبدّلت وعادت خُلقًا آخر، لما هطلت عليها فيوض النبوة، فاهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم وقلوبهم التي بين جوانحهم، {ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء} [(88) سورة الأنعام].
وبعدما انتهى النبي -صلى الله عليه وسلم- من خطبته قال: ((ألا فليبلغ الشاهد الغائب))، ثم أمر بلالًا فأذن ثم أمره فأقام الصلاة، فصلى الظهر، ثم صلى بعدها العصر جمع تقديم، ثم حرك دابته القصواء -صلوات الله وسلامه عليه- ودخل إلى عرفات واستقبل القبلة، وجعل الجبل بين يديه، ثم رفع يديه وما زال يتضرع مستقبلًا القبلة رافعًا يديه داعيًا وملبيًا، وكان -صلى الله عليه وسلم- مع وقوفه في مقامه ذلك قائمًا بأمر الناس تعليمًا ورعايةً وتوجيهًا ودلالةً، يأتيه ناس من أهل نجد يسألونه عن الحج، فيقول لهم: ((الحج عرفة))، ويخاطب الناس قائلًا: ((وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)).
وأرسل للناس وهم في فجاج عرفة صارخًا يصرُخ بهم: ((أن كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم)).
ويسقط رجل من أهل الموقف عن راحلته فتنفصم عنقه ويموت، رجلٌ من غمار الناس، لا نعرف اسمه ولا قبيلته ولا بلده، ولكن ربه الذي خلقه يعلم حاله وإليه مآله، فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه طيبًا ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا)).(1/400)
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موقفه ذلك بارزًا للناس مشرفًا عليهم، يجيئه أعرابي من قيس يقال له: ابن المنتفق، وُصِف له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتَطلّبه حتى لقيه بعرفات قال: فزاحمت عليه، فقيل لي: إليك عنه، فقال: دعوا الرجل، قال: فزاحمت حتى خلصت إليه فأخذت بخطام راحلته، قال الأعرابي: "شيئين أسألك عنهما: ما ينجيني من النار، وما يدخلني الجنة؟"، قال: فنظر إلى السماء ثم أقبل إليّ بوجهه الكريم فقال: ((لئن كنت أوجزت المسألة لقد أعظمت فاعقل عليَّ، اعبد الله لا تشرك به شيئًا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأد الزكاة المفروضة، وصم رمضان)).
وينزل الروح الأمين على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- بالوحي من ربه في هذا الموقف العظيم بهذه الآية العظيمة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [(3) سورة المائدة]، فسري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأها على الناس معلنًا كمال الدين وتمام النعمة، فلما سمعها عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقهها واستشعر من معناها أن مهمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد انتهت بكمال الدين، وأنه يوشك أن يلحق بربه الذي أرسله، فاستعبر باكيًا وهو يقول: "ليس بعد الكمال إلا النقصان".
فلما آذنت الشمس بالغروب أقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على بلال فقال: ((يا بلال، استنصِت الناس))، فأنصتَ الناس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليفيض على قلوبهم البشرى بالفيض الغامر من رحمة الله وعفوه قائلًا: ((أيها الناس: أتاني جبريل آنفًا فأقرأني السلام من ربي، وقال: بشِّر أهل الموقف والمشعر أن الله قد غفر لهم وتحمّل عنهم التبعات))، فقال عمر: "يا رسول الله، هذه لنا خاصة؟"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((بل لكم ولمن بعدكم إلى يوم القيامة))، فقال عمر: "كثر خير الله وطاب".(1/401)
فلما غابت الشمس دفع -عليه الصلاة والسلام- إلى مزدلفة، وكان دفعه بعد مغيب الشمس وذهاب الصفرة.
يقول أنس -رضي الله عنه- يصف رسول الأمة وهو يدفع من عرفات: "كان يسير العَنَقَ فإذا وجد فجوة نص".
سار -عليه الصلاة والسلام- بين الصحابة كواحدٍ منهم، ما دفعهم ولا كهرهم، يقول جابر -رضي الله عنه- في هذا اليوم: "وما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُدفع أحد بين يديه -صلوات الله وسلامه عليه- ويقول: "كنت أرى الناس أمامي مد البصر، وأرى الناس ورائي مد البصر، وأرى الناس عن يميني وشمالي مد البصر، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((أيها الناس السكينة السكينة))، وأخَّر المغرب والعشاء إلى مزدلفة، فلما أتى الشعب - وهو الذي قبل المشعر - دخل -عليه الصلاة والسلام- فيه وقضى حاجته ثم توضأ وضوءًا خفيفًا، ولما وصل مزدلفة أمر بلالًا فأذن، ثم أمره فأقام فصلى بالناس المغرب، ثم انتظر بقدر ما يُحطّ الرحل، ثم أمره أن يقيم فصلى بالناس العشاء، وبات -عليه الصلاة والسلام- تلك الليلة بمزدلفة.
ثم في صبيحة يوم العيد غَلَّسَ -عليه الصلاة والسلام- بصلاة الفجر فصلى صلاة الفجر في أول وقتها، وذلك لكي يبقى معه وقت من أجل الدعاء، ولما قاربت الشمس من الطلوع، دفع النبي -صلى الله عليه وسلم- وخالف أهل الجاهلية الذين كانوا يدفعون من مزدلفة بعد طلوع الشمس، ثم مضى -عليه الصلاة والسلام- إلى منى، وكان رديفه الفضل -رضي الله عنه-، فلما بلغ وادي محسّر أسرع -صلوات الله وسلامه عليه- وضرب دابته كما هو هديه في مواطن العذاب، ولما أتى منى حياها برمي جمرة العقبة، ورماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ورماها من بطن الوادي -صلوات الله وسلامه عليه-.
وبعد الرمي نحر ثلاثًا وستين بدنة بيده الشريفة، ثم وَكَّلَ عليًا -رضي الله عنه- أن ينحر ما بقي منهنّ، وكان هديه -عليه الصلاة والسلام- تمام المائة.(1/402)
ثم دعا بالحلاق ليحلق رأسه، فجاء معمر بن عبد الله ومعه الموس، فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وجهه ثم قال له ملاطفًا: ((يا معمر، قد أمكنك رسول الله من شحمة أذنه وفي يدك الموس))، فقال معمر: "والله يا رسول الله، إن ذلك لمن نعم الله عليّ ومنّه"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((أجل))، ثم قال له: ((خذ))، وأشار إلى جانبه الأيمن، فأطاف به أصحابه، ما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل، فجعل يُقسم بين من يليه الشعرة والشعرتين، ثم قال للحلاق: ((خذ)) وأشار إلى جانبه الأيسر، ثم قال: ((أين أبو طلحة؟))، فجاء أبو طلحة، فدفع إليه شعر رأسه الأيسر كله، وكأنما استعاد -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين قضاها في المدينة، وبيت أبي طلحة وزوجه أم سليم وربيبه أنس بن مالك، كأنما هو من بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم-، خدمةً لرسول الله، وعنايةً بشأنه وقربًا وحفاوةً، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يختاره هذا اليوم على أهل هذا الموقف كلهم، فيعطيه شعر شق رأسه الأيسر كله، ويناوله ما لم يناول أحدًا مثله، وينطلق أبو طلحة يحوز شعر النبي -صلى الله عليه وسلم- وكأنما طلائع الأرض ذهبًا وفضة بين يديه -رضي الله عنه-.
وبعده تحلل النبي -صلى الله عليه وسلم- التحلل الأول، ووقف -عليه الصلاة والسلام- للناس يسألونه فخفف عليهم ويسر، ثم مضى إلى البيت وطاف طواف الإفاضة على بعيره؛ لأن الناس زاحموه وأحبوا أن يروا ما يفعله -عليه الصلاة والسلام- في مناسكه.
ثم جاء سقاية بني العباس فشرب منها، ثم انطلق إلى منى وصلى بها الظهر والعصر وبات بها ليلة الحادي عشر.
ولك أن تتساءل: كيف اتسع وقته لكل هذه الأعمال من الرمي والخطبة وإفتاء الناس وانزالهم منازلهم ثم النحر لثلاث وستين بدنة ثم الحلق والتهيؤ للطواف باللباس والطيب ثم القدوم للبيت والطواف ثم الرجوع بعد ذلك إلى منى ليصلي بها الظهر؟ فكيف اتسع لذلك كله ضحوة من نهار؟(1/403)
إنها البركة التي جعلها الله في وقته وعمله، ولذا أنجز في هذا الوقت القصير كل هذه الأعمال الكثيرة، فإن أبيت التساؤل، فانظر كيف اتسعت ثلاث وعشرون سنة من عمره لأعظم إنجاز في تاريخ البشرية، وهو بلاغ رسالات الله إلى الخلق واستنقاذهم من النار، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
وفي اليوم الحادي عشر انتظر -عليه الصلاة والسلام- حتى إذا زالت الشمس بدأ بالجمرة الصغرى التي تلي مسجد الخيف فرماها بسبع حصيات، ثم أخذ جهة الوادي فرفع كفيه ودعا دعاءً طويلًا، ثم بعد ذلك انطلق فرمى الجمرة الوسطى بسبع حصيات، ثم دعا دعاءً طويلًا، ثم انطلق ورمى جمرة العقبة من بطن الوادي ولم يدع، فأتم الرمي للثلاث الجمرات في هذا اليوم بعد الزوال، ثم بات ليلة الثاني عشر بمنى، ورمى -صلى الله عليه وسلم- يوم الثاني عشر كما رمى اليوم الذي قبله.
ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتعجل ورمى في اليوم الثالث عشر بعد الزوال، ثم نفر إلى المحصب، فصلى هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم هجع هجعة حتى ذهب جزء من الليل، واستيقظ ليسير بمن معه إلى الحرم، فيطوف طواف الوداع، فسار -صلى الله عليه وسلم- إلى المسجد الحرام فطاف بالكعبة طواف الوداع قبل الفجر، ثم صلى بالناس صلاة الصبح يترسل في قراءته، وقرأ بهم سورة الطور، وكانت هذه آخر صلاة صلاها والكعبة أمامه، وآخر نظرات تملتها عيناه من بيت الله المعظم.
ثم خرج -صلى الله عليه وسلم- من مكة من أسفلها، وخرجت معه القبائل إلى بلادها، وتفرقت جموعها في فجاج الأرض بعد أيام عظيمة مشهودة كانوا فيها مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما كانت هذه الجموع تدري أنه وهو يودعها كان يودع الدنيا، وأن أيامهم معه هي أيامه الأخيرة مع الحياة، وأنه قد أنهى مهمته على الأرض وقضى ما عليه، وإنما هي شهران وأيام ثم يلحق بالرفيق الأعلى والمحل الأسنى.(1/404)
وفي طريق العودة خطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الناس في غدير خم قريبًا من الجحفة في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وقد جاء في هذه الخطبة: ((أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي))، ولما أتى ذا الحليفة بات بها، فلما رأى المدينة كبَّر ثلاث مرات، وقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده))، ثم دخل المدينة نهارًا.
والحمد لله...
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
الدرس الثاني والعشرون
مشهد الاحتضار
جاءت الآيات القرآنية مؤكدة على حقيقة بشرية النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه كغيره من البشر، سوف يذوق الموت ويعاني سكراته كما ذاقه من قبل إخوانه من الأنبياء، ولقد فهم -صلى الله عليه وسلم- من بعض الآيات اقتراب أجله، وقد أشار -عليه الصلاة والسلام- في طائفة من الأحاديث الصحيحة إلى اقتراب وفاته، منها ما هو صريح الدلالة على الوفاة، ومنها ما ليس كذلك، حيث لم يشعر ذلك منها إلا الآحاد من كبار الصحابة الأجلاء، كأبي بكر والعباس ومعاذ -رضي الله عنهم-.(1/405)
قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [(144) سورة آل عمران]، وقال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [(30) سورة الزمر]، وقال -عز وجل-: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [(34) سورة الأنبياء]، ثم أعقب ذلك ببيان أن الموت حتم لازم وقدر سابق، فقال -عز وجل-: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [(35) سورة الأنبياء].
وقال تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [(1-3) سورة النصر]، فقد سأل عمر –رضي الله عنه- ابن عباس عن هذه الآية: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}؟ فقال: "أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعلمه إياه"، فقال عمر: "ما أعلم منها إلا ما تعلم".
عندما نزلت سورة النصر بكى أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فتعجب الصحابة لبكائه، وقالوا ما بال هذا الشيخ يبكي، ولم يعلموا أن الله ينعِي رسوله إلى أصحابه، ويعلمهم أنه بعد فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجا فلينتظر حتى يأتيه اليقين.(1/406)
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "اجتمع نساء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنده، لم يغادر منهن امرأة، فجاءت فاطمة تمشي لا تخطئ مشيتها مشية أبيها، فقال: ((مرحبًا يا بنيتي))، فأقعدها يمينه أو شماله، ثم سارَّها فبكت، ثم سارَّها فضحكت، فقلت لها: "خصك رسول الله بالسرار وأنت تبكين؟ فلما أن قامت قلت لها: "أخبريني ما سارَّك؟"، فقالت: "ما كنت لأفشي سرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، فلما توفي قلت لها: "أسألك لما لي عليك من الحق لما أخبرتني"، قالت: "أما الآن فنعم"، قالت: "سارني في الأول قال لي: ((إن جبريل كان يعارضني في القرآن كل سنة مرة، وقد عارضني في هذا العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا اقتراب أجلي، فاتقي الله واصبري، فنعم السلف أنا لك))، فبكيت، ثم سارني فقال: ((أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة؟)) فضحكت.
قال جابر –رضي الله عنه-: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: ((لتأخذوا عني مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
قال ابن رجب -رحمه الله-: "وما زال -صلى الله عليه وسلم- يعرض باقتراب أجله في آخر عمره، فإنه لما خطب في حجة الوداع قال للناس: ((خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا))، فطفق يودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع.
قال العباس بن عبد المطلب –رضي الله عنه-: "رأيت في المنام كأن الأرض تنزع إلى السماء بأشطان شداد، فقصصت ذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((ذاك وفاة ابن أخيك)).(1/407)
رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع في ذي الحجة، فأقام بالمدينة بقيته والمحرم وصفرًا من العام العاشر، فبدأ بتجهيز جيش أسامة، وأمَّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يتوجه نحو البلقان وفلسطين، فتجهز الناس وفيهم المهاجرون والأنصار، وكان منهم أبو بكر وعمر، وكان أسامة بن زيد ابن ثماني عشرة سنة، وتكلم البعض في تأميره وهو مولى وصغير السن على كبار المهاجرين والأنصار، فلم يقبل الرسول -صلى الله عليه وسلم- طعنهم في إمارة أسامة.
وبينما الناس يستعدون للجهاد في جيش أسامة ابتدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شكواه الذي قبضه الله فيه.
عن أبي مويهبة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جوف الليل فقال: ((يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي))، قال: فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: ((السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، والآخرة شر من الأولى))، ثم أقبل عليَّ فقال: ((يا أبا مويهبة، إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها، ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة))، قال: فقلت: "بأبي أنت وأمي، خذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة"، قال: ((لا والله يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي والجنة))، ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبدأ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعه الذي قبضه الله فيه".(1/408)
وعن عقبة بن عامر الجهني –رضي الله عنه- قال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم طلع المنبر فقال: ((إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها))، فقال عقبة: "فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وعن عائشة -رضي الله عنها-: "لما ثقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واشتد وجعه، استأذن أزواجه في أن يمرَّض في بيتي، فأَذنّ له، فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض، بين عباس ورجل آخر، ولما دخل بيتي اشتد وجعه، قال: ((أهريقوا عليَّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى الناس))، فأجلسناه في مخضب لحفصة، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن، ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم".
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "ما رأيت رجلًا أشد عليه الوجع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكًا شديدًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أجل: إني أوعك كما يوعك رجلان منكم))، قال: "فقلت: ذلك أن لك أجرين؟"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أجل))، ثم قال: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها)).(1/409)
مر العباس -رضي الله عنه- بقوم من الأنصار يبكون حين اشتد برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعه، فقال لهم: "ما يبكيكم؟" قالوا: "ذكرنا مجلسنا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"، فدخل العباس عليه -صلى الله عليه وسلم- فأخبره، فعُصِّب بعصابة دسماء أو قال: بحاشية برد، وخرج وصعد المنبر، ولم يصعد بعد ذلك اليوم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم)).
لقد ازدادت شدة المرض على رسول الله، بحيث كان يغمى عليه في اليوم الواحد مرات عديدة، ومع ذلك كله أحب -صلى الله عليه وسلم- أن يفارق الدنيا وهو مطمئن على أمته أن تضل من بعده، فأراد أن يكتب لهم كتابًا مفصلًا ليجتمعوا عليه ولا يتنازعوا، فلما اختلفوا عنده -صلى الله عليه وسلم- عدل عن كتابة ذلك الكتاب وأوصاهم بأمور ثلاثة، ذكر الراوي منها اثنين: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم به)).
وقبل وفاته بخمسة أيام أحس بخفة، فعصبوا رأسه وقام ودخل المسجد حتى جلس على المنبر، فاجتمع الصحابة حوله فتكلم -عليه الصلاة والسلام- وكم كان الصحابة في شوق لسماع صوته فقال: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)).
ثم عرض نفسه للقصاص قائلًا: ((من كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستقد منه)).
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولى في القصاص، فقال رجل: "إن لي عندك ثلاثة دراهم"، فقال: ((أعطه يا فضل)).
ثم أوصى بالأنصار قائلًا: ((أوصيكم بالأنصار، إن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام))، قال جابر –رضي الله عنه-: "سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل موته بثلاث: ((أحسنوا الظن بالله -عز وجل-)).(1/410)
وقبل وفاته بيوم، أعتق -صلى الله عليه وسلم- غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب أسلحته للمسلمين، قال أنس –رضي الله عنه-: "كانت وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين حضره الموت: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم)) حتى جعل يغرغر بها في صدره، ولا يفيض بها لسانه.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الستر، وهو معصوب في مرضه الذي مات فيه، فقال: ((اللهم بلغت -ثلاث مرات- أنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا، يراها العبد الصالح أو ترى له, ألا وإني قد نهيت عن القراءة في الركوع والسجود، فإذا ركعتم فعظموا الله، وإذا سجدتم فاجتهدوا في الدعاء، فإنه قمن أن يستجاب لكم)).
ولما اشتد المرض بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وحضرت الصلاة فأذن بلال، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((مروا أبا بكر فليصل)) فقيل: "إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس"، وأعاد فأعادوا له، فأعاد الثالثة فقال: ((إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس))، فخرج أبو بكر فوجد النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفسه خفة، فخرج يهادى بين رجلين، ورجلاه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر، فأومأ إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مكانك، ثم أتى به حتى جلس إلى جنبه، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي، وأبو بكر يصلي بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر".(1/411)
كان أبو بكر يصلي بالمسلمين حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في صلاة الفجر، كشف النبي -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة؛ ينظر إلى المسلمين، وهم وقوف أمام ربهم، ورأى كيف أثمر غرس دعوته وجهاده، وكيف نشأت أمة تحافظ على الصلاة، وتواظب عليها بحضرة نبيها وغيبته، وقد قرت عينه بهذا المنظر البهيج، وبهذا النجاح الذي لم يقدر لنبي أو داعٍ قبله، واطمأن أن صلة هذه الأمة بهذا الدين وعبادة الله تعالى صلة دائمة لا تقطعها وفاة نبيها، فملئ من السرور ما الله به عليم، واستنار وجهه وهو منير.
يقول الصحابة -رضي الله عنهم-: "كشف النبي -صلى الله عليه وسلم- ستر حجرة عائشة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، ثم تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح، وظننا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا أن أتموا صلاتكم، ودخل الحجرة وأرخى الستر".
ولما ارتفع الضحى، دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة فسارّها بشيء، فلما رأت ما بأبيها من الكرب قالت: "واكرب أباه"، فقال لها: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم))، ثم دعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصى بهما خيرًا ثم دعا أزواجه فوعظهنّ وذكرهنّ.
ثم بدأ -صلوات ربي وسلامه عليه- في الاحتضار، ولقي من الموت شدّة، وكان بين يديه إناء فيه ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ((لا اله إلا الله، اللهمّ أعنّي على كُرب الموت وسكراته، اللهمّ أعنّى على كُرب الموت وسكراته))، ويمسح وجهه، وعائشة تنظر إليه ولا تدري ماذا تصنع، وهو ينظر إلي السماء ويقول: ((بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)).(1/412)
وكان المسلمون لا يفارقون المسجد في مرضه -صلى الله عليه وسلم-، تركوا الطعام وتركوا الأهل وامتلأ المسجد، وتجد في الصفوف الأخيرة، عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف، لا يقرّ لهم قرار ولا يهنئون بمنام يتتبعون أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان مضطجعًا في حجر عائشة، فأصغت إليه وهو يقول: ((مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى))، ثم انحنى رأسه وخرج رذاذ بارد من فمه على يد عائشة، فأسلمت رأسه إلى الوسادة وخرجت تخبر الناس، فلما علموا صاح صائحهم، وأخذ الصحابة يبكون.
فارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدنيا وهو يحكم جزيرة العرب، ويرهبه ملوك الدنيا، ويفديه أصحابه بنفوسهم وأولادهم وأموالهم، وما ترك عند موته دينارًا ولا درهمًا، ولا عبدًا ولا أمة، ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضًا جعلها صدقة.
وتوفي -صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير، وكان ذلك يوم الاثنين 12من ربيع الأول سنة 11 للهجرة بعد الزوال وله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث وستون سنة، وكان أشد الأيام سوادًا ووحشةً ومصابًا على المسلمين، ومحنة كبرى للبشرية، كما كان يوم ولادته أسعد يوم طلعت فيه الشمس.
يقول أنس –رضي الله عنه-: "كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء".
وبكت أم أيمن فقيل لها: "ما يبكيك على النبي؟"، قالت: "إني قد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيموت، ولكن إنما أبكي على الوحي الذي رفع عنا".
قال ابن رجب -رحمه الله-: "ولما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية".(1/413)
لقد أذهل نبأ الوفاة عمر –رضي الله عنه- فصار يتوعد وينذر من يزعم أن النبي مات، ويقول: "ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم، والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات".
ولما سمع أبو بكر الخبر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مغشىً بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: "بأبي أنت وأمي! والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي عليك فقد متَّها".
ثم خرج أبو بكر –رضي الله عنه- وعمر يتكلم، فقال: "اجلس يا عمر"، وهو ماضٍ في كلامه وفي ثورة غضبه، فقام أبو بكر في الناس خطيبًا بعد أن حمد الله وأثنى عليه فقال: "أما بعد: فإن من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [(144) سورة آل عمران]"، قال عمر: "فوالله ما إن سمعت أبا بكر تلاها فهويت إلى الأرض ما تحملني قدماي، وعلمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات".(1/414)
إن هذا الموقف أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته، فإن الشجاعة والجراءة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فظهرت شجاعته وعلمه، قال الناس: لم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنهم عمر، وتوقف لسان عثمان، واستخفى علي، واضطرب الأمر، فكشفه الصديق بهذه الآية، فرحم الله الصديق الأكبر، كم من مصيبة درأها عن الأمة! وكم من فتنة كان المخرج على يديه! وكم من مشكلة ومعضلة كشفها بشهب الأدلة من القرآن والسنة، التي خفيت على مثل عمر –رضي الله عنه-!.
ولما أرادوا غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: "ما ندري أنجرده من ثيابه كما نجرد موتانا، أو نغسله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، فكلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه ثيابه، فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكون بالقميص دون أيديهم، قالت عائشة: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه".
وكفن -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة، وقد صلى عليه المسلمون.
قال ابن عباس: "لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدخل الرجال فصلوا عليه بغير إمام أرسالًا، حتى فرغوا، ثم أدخل النساء فصلين عليه، ثم أدخل الصبيان فصلوا عليه، ثم أدخل العبيد فصلوا عليه أرسالًا، لم يؤمهم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد.
اختلف المسلمون في موقع دفنه فقال بعضهم: يدفن عند المنبر، وقال آخرون: بالبقيع، وقال قائل: في مصلَّاه، فجاء أبو بكر الصديق –رضي الله عنه- فحسم مادة هذا الخلاف أيضًا بما سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.(1/415)
قالت عائشة: "لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغسل اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر: "ما نسيت ما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((ما قبض الله نبيًا إلا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه))، ادفنوه في موضع فراشه".
وكان الذين نزلوا في قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن عباس، وشقران مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ودفن في اللحد، وبنى عليه -صلى الله عليه وسلم- في لحده اللبن، يقال: إنها تسع لبنات، ثم أهالوا التراب، وقد دفن ليلة الأربعاء.
فلما دفن -صلى الله عليه وسلم- قالت فاطمة لأنس: "كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التراب؟!".
لقد كان لوفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أثر على الصحابة الكرام، فقد قال أنس –رضي الله عنه-: "وما نفضنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- الأيدي، إنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا".
ولقد تأثر حسان بن ثابت بموت حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- فرثاه بقصائد مبكية حزينة، حفظها لنا التاريخ ولم تهملها الليالي، ولم تفصلها عنا حواجز الزمن ولا أسوار القرون،
فمما قاله يبكي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
ما بال عينك لا تنام كأنها ... كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعًا على المهدي أصبح ثاويًا ... يا خير من وطئ الحصى لا تبعد
وجهي يقيك الترب لهفي ليتني ... غيبت قبلك في بقيع الغرقد
بأبي وأمي من شهدت وفاته ... في يوم الاثنين النبي المهتدي
فظللت بعد وفاته متبلدًا ... متلددًا يا ليتني لم أولد
أأقيم بعدك بالمدينة بينهم؟! ... يا ليتني صبحت سم الأسود
أو حلَّ أمر الله فينا عاجلًا ... في روحة من يومنا أو في غد
فتقوم ساعتنا فنلقى طيبًا ... محضًا ضرائبه كريم المحتد
يا بكر آمنة المبارك بكرها ... ولدته محصنة بسعد الأسعد
نورًا أضاء على البرية كلها ... من يهد للنور المبارك يهتدي
يا رب فاجمعنا معًا ونبينا ... في جنة تثني عيون الحُسَّد(1/416)
في جنة الفردوس فاكتبها لنا ... يا ذا الجلال وذا العلا والسؤدد
والله أسمع ما بقيت بهالك ... إلا بكيت على النبي محمد
يا ويح أنصار النبي ورهطه! ... بعد المغيَّب في سواء الملحد
ضاقت بالانصار البلاد فأصبحوا ... سودًا وجوههم كلون الإثمد
ولقد ولدناه وفينا قبره ... وفضول نعمته بنا لم تجحد
والله أكرمنا به وهدى به ... أنصاره في كل ساعة مشهد
صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمدِ
اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، اللهم أحسن خاتمتنا، اللهم توفنا وأنت راض عنا، اللهم هون علينا سكرات الموت، اللهم اغفر لآبائنا ولأمهاتنا ولمن له حق علينا، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم...
والحمد لله...
بسم الله الرحمن الرحيم
أبو بكر الصديق
الدرس الأول
مولده – إسلامه - هجرته
إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين مليء بالدروس والعبر، فتاريخ الخلافة إذا أحسن عرضه فإنه يغذي الأرواح، ويهذب النفوس، وينور العقول، ويشحذ الهمم، ويقدم الدروس، ويسهل العِبَر، وينضج الأفكار، فنستفيد من ذلك في إعداد الجيل المسلم وتربيته على منهاج النبوة، ونتعرف على حياة وعصر من قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [(100) سورة التوبة]، وقال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [(29) سورة الفتح].
وقال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم)).(1/417)
وقال فيهم عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "من كان مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد كانوا والله أفضل هذه الأمة، وأبرَّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم".
فالصحابة قاموا بتطبيق أحكام الإسلام ونشره في مشارق الأرض ومغاربها، فعصرهم خير العصور، فهم الذين علموا الأمة القرآن الكريم، ورووا لها السنن والآثار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فتاريخهم هو الكنز الذي حفظ مدخرات الأمة في الفكر والثقافة والعلم والجهاد وحركة الفتوحات والتعامل مع الشعوب والأمم، فتجد الأجيال في هذا التاريخ المجيد ما يعينها على مواصلة رحلتها في الحياة على منهج صحيح وهدي رشيد، وتعرف من خلاله حقيقة رسالتها ودورها في دنيا الناس.
وقد عرف الأعداء من اليهود والنصارى والعلمانيين والماركسيين والروافض وغيرهم خطورة التاريخ وأثره في صياغة النفوس وتفجير الطاقات، فعملوا على تشويهه وتزويره وتحريفه وتشكيك الأجيال فيه، فقد لعبت فيه الأيدي الخبيثة في الماضي وحرفته أيدي المستشرقين في الحاضر، ففي الماضي تعرض تاريخنا الإسلامي للتحريف والتشويه على أيدي اليهود والنصارى والمجوس والرافضة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر؛ إذ رأوا أن كيد الإسلام على الحيلة أشد نكاية فيه وفي أهله، فأخذوا يدبرون المؤامرات في الخفاء لهدم الإسلام وتفتيت دولته وتفريق أتباعه، وذلك عن طريق تزييف الأخبار وترويج الشائعات الكاذبة.(1/418)
لقد قام الأعداء بصياغة تاريخنا وفق مناهجهم المنحرفة، وتأثر بعض المؤرخين المسلمين بتلك المناهج المستوردة، فأصبحت كتابتهم في العقود الماضية ترجمة حرفية لما كتبه المستشرقون والماركسيون والروافض واليهود وغيرهم من أعداء الأمة؛ وذلك لأنهم لا يملكون تصورًا حقيقيًا لروح الإسلام وطبيعته، حيث إن كتابة التاريخ الإسلامي تحتاج حتمًا إلى إدراك طبيعة الفكرة الإسلامية ونظرتها إلى الحياة والأحداث والأشياء، ووزنها للقيم التي عليها الناس، وتأثيرها في الأرواح والأفكار وصياغتها للنفوس والشخصيات.
فأبو بكر –رضي الله عنه- سيد الصديقين وخير الصالحين بعد الأنبياء والمرسلين، فهو أفضل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأعلمهم وأشرفهم على الإطلاق، فقد قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي)).
وقد قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي عمر أيضًا: ((اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر)).
وشهد له عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بقوله: "أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وقال عنه علي بن أبي طالب لما سأله ابنه محمد ابن الحنفية بقوله: "أي الناس خير بعد رسول الله؟ قال: أبو بكر".
إن حياة أبي بكر -رضي الله عنه- صفحة مشرقة من التاريخ الإسلامي الذي بهر كل تاريخ وَفَاقَه، والذي لم تَحْوِ تواريخ الأمم مجتمعة بعض ما حوى من الشرف والمجد والإخلاص والجهاد والدعوة لأجل المبادئ السامية.
اسمه: عبد الله بن عثمان بن عامر القرشي التيمي، ويلتقي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في النسب في الجد السادس مُرَّة بن كعب، ويكنى بأبي بكر.(1/419)
لقبه النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعتيق، فقد قال له -صلى الله عليه وسلم-: ((أنت عتيق الله من النار))، ولقبه أيضاً بالصدّيق، ففي حديث أنس -رضي الله عنه- أنه قال: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد أحدًا، وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فقال: ((اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصدّيق وشهيدان)).
وقد لقب بالصدّيق؛ لكثرة تصديقه للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أجمعت الأمة على تسميته بالصدّيق؛ لأنه بادر إلى تصديق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولازمه الصدق فلم تقع منه هناة أبدًا.
ولد بعد عام الفيل، وقد نشأ نشأة كريمة طيبة في حضن أبوين لهما الكرامة والعز في قومهما، مما جعل أبا بكر ينشأ كريم النفس، عزيز المكانة في قومه.
كان أبيضاً تخالطه صفرة، حَسَن القامة، نحيفًا خفيف العارضين، لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه، رقيقاً معروق الوجه، غائر العينين، ويخضب لحيته وشيبه بالحناء والكتم.
أما والده فهو عثمان بن عامر بن عمرو، يكنى بأبي قحافة، أسلم يوم الفتح، وأقبل به الصدّيق على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((يا أبا بكر، هلا تركته حتى نأتيه؟))، فقال أبو بكر: "هو أولى أن يأتيك يا رسول الله".
فأسلم أبو قحافة وبايع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويروى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هنّأ أبا بكر بإسلام أبيه، وقال لأبي بكر: ((غيروا هذا من شعره))، فقد كان رأس أبي قحافة مثل الثغامة.
وأما والدة الصدّيق: فهي سلمى بنت صخر، وكنيتها أم الخير، وقد أسلمت مبكرًا.
وأما زوجاته: فقد تزوج -رضي الله عنه- من أربع نسوة، أنجبن له ثلاثة ذكور وثلاث إناث، عبد الرحمن وعبد الله ومحمد، وأسماء وعائشة وأم كلثوم.(1/420)
ولا يعرف أربعة متناسلون بعضهم من بعض صحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا آل أبي بكر الصديق، وهم: عبد الله بن الزبير، أمه أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة، فهؤلاء الأربعة صحابة متناسلون، وأيضا محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة -رضي الله عنهم-.
وليس من الصحابة من أسلم أبوه وأمه وأولاده، وأدركوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأدركه أيضاً بنو أولاده إلا أبو بكر من جهة الرجال والنساء، فكلهم آمنوا بالنبيّ وصحبوه، فهذا بيت الصديق، فأهله أهل إيمان، ولا يعرف في الصحابة مثل هذه لغير بيت أبي بكر -رضي الله عنهم-.
وكان يقال: للإيمان بيوت، فبيت أبي بكر من بيوت الإيمان من المهاجرين، وبيت بني النجار من بيوت الإيمان من الأنصار.
كان أبو بكر الصدّيق في الجاهلية من وجهاء قريش وأشرافهم وأحد رؤسائهم، وكان من خيارهم، ويستعينون به فيما نابهم، وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد، وقد اشتهر بالعلم بالأنساب والتجارة، وارتحل بين البلدان، وكان رأس ماله أربعين ألف درهم، وكان ينفق من ماله بسخاء وكرم، وكان موضع الألفة بين قومه وكانوا يحبونه ويألفونه، ويعترفون له بالفضل العظيم والخلق الكريم، وكانوا يأتونه ويألفونه، ولم يشرب الخمر في الجاهلية، وقد أجاب الصدّيق من سأله: هل شربت الخمر في الجاهلية؟ بقوله: "أعوذ بالله"، فقيل: ولِمَ؟ قال: "كنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مُضيّعًا لعرضه ومروءته".
ولم يسجد لصنم قط، قال أبو بكر -رضي الله عنه- في مجمع من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما سجدت لصنم قط، وذلك أني لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: هذه آلهتك الشم العوالي، وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني، فلم يُجبني، فقلت: إني عارٍ فاكسني، فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخرَّ لوجهه".(1/421)
فلا عجب على من كانت هذه أخلاقه أن ينضم لموكب دعوة الحق ويحتل فيها الصدارة، ويكون بعد إسلامه أفضل رجل بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: ((خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقُهوا)).
لله در الصدّيق -رضي الله عنه-، فقد كان يحمل رصيدًا ضخمًا من القيم الرفيعة، والأخلاق الحميدة والسجايا الكريمة في المجتمع القرشي قبل الإسلام، وقد شهد له أهل مكة بتقدمه على غيره في عالم الأخلاق والقيم والمثل، ولم يُعلم أحد من قريش عاب أبا بكر بعيب ولا نقصه، ولا استرذله كما كانوا يفعلون بضعفاء المؤمنين، ولم يكن له عندهم عيب إلا الإيمان بالله ورسوله.
كان إسلام أبي بكر -رضي الله عنه- وليد رحلة إيمانية طويلة في البحث عن الدين الحق الذي ينسجم مع الفطرة السليمة ويلبي رغباتها، وكان قد سبق أن سمع ببعثة نبي من حوار سمعه بين زيد بن عمرو بن نفيل وأمية بن أبي الصلت، قال: "ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبي يُنتظر ويبعث، قال:فخرجت أريد ورقة بن نوفل -وكان كثير النظر إلى السماء كثير همهمة الصدر- فاستوقفته، ثم قصصت عليه الحديث، فقال: نعم يا ابن أخي، إنا أهل الكتب والعلوم، ألا إن هذا النبي الذي يُنتظر من أوسط العرب نسبًا ولي علم بالنسب، وقومك أوسط العرب نسبًا"، قلت: "يا عم وما يقول النبي؟ قال: يقول ما قيل له؟ إلا أنه لا يَظلم، ولا يُظلم ولا يُظالم، فلما بُعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آمنت به وصدقته".
وقد رأى رؤيا لما كان في الشام فقصها على بَحيرا الراهب، فقال له: من أين أنت؟ قال: من مكة، قال: من أيها؟ قال: من قريش، قال: فأي شيء أنت؟ قال: تاجر، قال: إن صدق الله رؤياك، فإنه يبعث بنبي من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته، فأسرّ ذلك أبو بكر في نفسه.(1/422)
وعندما نزل الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ يدعو الأفراد إلى الله، وقع أول اختياره على الصدّيق -رضي الله عنه-، فهو صاحبه الذي يعرفه قبل البعثة بدماثة خلقه وكريم سجاياه، كما يعرف أبو بكر النبي -صلى الله عليه وسلم- بصدقه وأمانته وأخلاقه التي تمنعه من الكذب على الناس، فكيف يكذب على الله؟ فعندما فاتحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدعوة الله أسلم الصدّيق ولم يتلعثم وتقدّم ولم يتأخر، وعاهد رسول الله على نصرته، فقام بما تعهد، ولهذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حقه: ((إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟)).
وبذلك كان الصدّيق -رضي الله عنه- أول من أسلم من الرجال الأحرار، وبإسلام أبي بكر عمَّ السرور قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-.
لقد كان أبو بكر كنزًا من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه، وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من الموطئين أكنافاً، من الذين يألفون ويؤلفون، والخلق السمح وحده عنصر كاف لألفة القوم، وهو الذي قال فيه -عليه الصلاة والسلام-: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)).
أسلم الصدّيق -رضي الله عنه- وحمل الدعوة مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتعلم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الإسلام دين العمل، وقد كان الصدّيق كثير الحركة للدعوة الجديدة، وكثير البركة، أينما تحرك أثَّر وحقق مكاسب عظيمة للإسلام.
كانت أول ثمار الصدّيق الدعوية دخول صفوة من خيرة الخلق في الإسلام، وهم: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن مظعون، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم ابن أبي الأرقم -رضي الله عنهم-.(1/423)
وجاء بهؤلاء الصحابة الكرام فرادى فأسلموا بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكانوا الدعامات الأولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العُدَّة الأولى في تقوية جانب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبهم أعزه الله وأيده، وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، رجالاً ونساء، وكان كل من هؤلاء الطلائع داعية إلى الإسلام، وأقبل معهم رعيل السابقين، الواحد والاثنان، والجماعة القليلة، فكانوا على قلة عددهم كتيبة الدعوة وحصن الرسالة، لم يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق في تاريخ الإسلام.
اهتم الصدّيق بأسرته فأسلمت أسماء وعائشة وعبد الله وزوجته أم رومان وخادمه عامر بن فهيرة.
لقد كانت الصفات الحميدة والخلال العظيمة والأخلاق الكريمة التي تجسدت في شخصية الصدّيق عاملاً مؤثرًا في الناس عند دعوتهم للإسلام.(1/424)
لقد أوذي أبو بكر -رضي الله عنه- وحُثي على رأسه التراب، وضُرِبَ في المسجد الحرام بالنعال، حتى ما يُعرف وجهه من أنفه، وحُمل إلى بيته في ثوبه وهو ما بين الحياة والموت، فقد روت عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنه لما اجتمع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ألح أبو بكر -رضي الله عنه- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الظهور، فقال: ((يا أبا بكر، إنَّا قليل))، فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كلُّ رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبًا ورسول الله جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوه في نواحي المسجد ضربًا شديدًا، ووُطِئ أبو بكر وضُرب ضربًا شديدًا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويُحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر -رضي الله عنه- حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاءت بنو تيم يتعادون، فأجْلَتِ المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر فجعل والده وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: "ما فعل رسول الله؟!".
هذه صورة مشرقة تبين طبيعة الصراع بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والإيمان والكفر، وتوضح ما تحمَّله الصدّيق من الألم والعذاب في سبيل الله تعالى، كما تعطي ملامح واضحة عن شخصيته الفذّة، وشجاعته النادرة.
إن الصدّيق -رضي الله عنه- أول من أوذي في سبيل الله بعد رسول الله، وأول من دافع عن رسول الله، وأول من دعا إلى الله، وكان الذراع اليمنى لرسول الله، وتفرغ للدعوة وملازمة رسول الله.(1/425)
تضاعف أذى المشركين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولأصحابه مع انتشار الدعوة في المجتمع المكيّ الجاهليّ، حتى وصل إلى ذروة العنف وخاصة في معاملة المستضعفين من المسلمين، فنكلت بهم لتفتنهم عن عقيدتهم وإسلامهم، ولتجعلهم عبرة لغيرهم، ولتُنفس عن حقدها وغضبها بما تصبه عليهم من العذاب.
وقد تعرض بلال -رضي الله عنه- لعذاب عظيم، ولم يكن لبلال -رضي الله عنه- ظهر يسنده، ولا عشيرة تحميه، ولا سيوف تذود عنه، ومِثل هذا الإنسان في المجتمع الجاهلي المكي يعادل رقمًا من الأرقام، فليس له دور في الحياة إلا أن يخدم ويطيع ويباع ويشترى كالسائمة، أما أن يكون له رأي أو يكون صاحب فكر، أو صاحب دعوة أو صاحب قضية، فهذه جريمة شنعاء في المجتمع الجاهلي المكي تهز أركانه، وتزلزل أقدامه، ولكن الدعوة الجديدة التي سارع لها الفتيان وهم يتحدون تقاليد وأعراف آبائهم الكبار لامست قلب هذا العبد المرمي المنسي، فأخرجته إنسانًا جديدًا في الحياة، قد تفجرت معاني الإيمان في أعماقه بعد أن آمن بهذا الدين وانضم إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وإخوانه في موكب الإيمان العظيم.(1/426)
وعندما علم سيده أمية بن خلف راح يهدده تارة ويغريه أطوارًا، فما وجد عند بلال غير العزيمة وعدم الاستعداد للعودة إلى الوراء، إلى الكفر والجاهلية والضلال، فحنق عليه أمية وقرر أن يعذبه عذابًا شديدًا، فأخرجه إلى شمس الظهيرة في الصحراء بعد أن منع عنه الطعام والشراب يومًا وليلة، ثم ألقاه على ظهره فوق الرمال المحرقة الملتهبة، ثم أمر غلمانه فحملوا صخرة عظيمة وضعوها فوق صدر بلال وهو مقيد اليدين، ثم قال له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، وأجاب بلال بكل صبر وثبات: "أحد أحد"، وبقي أمية بن خلف مدة وهو يعذب بلالاً بتلك الطريقة البشعة، فقصد الصدّيق موقع التعذيب وفاوض أمية بن خلف وقال له: "ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟!" قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، فقال أبو بكر: "أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به"، قال: قد قبلت، فقال: "هو لك"، فأعطاه أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه- غلامه ذلك وأخذه فأعتقه.
واستمر الصدّيق في سياسة فك رقاب المسلمين المعذبين، فراح يشتري العبيد والإماء والمملوكين من المؤمنين والمؤمنات، منهم: عامر بن فهيرة، وأم عبيس، وزنيرة، وأعتق النهدية وبنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار.
ومرّ الصديق بجارية بني مؤمَّل، حي من بني عدي بن كعب، وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك يضربها، فابتاعها أبو بكر فأعتقها.
هكذا كان واهب الحريات، ومحرر العبيد، شيخ الإسلام الوقور، أنفق جزءًا كبيرًا من ماله في شراء العبيد، وأعتقهم لله وفي الله.(1/427)
وكان المجتمع المكي يتندر بأبي بكر -رضي الله عنه- الذي يبذل هذا المال كله لهؤلاء المستضعفين، أما في نظر الصدّيق فهؤلاء إخوانه في الدين الجديد، فكل واحد من هؤلاء لا يساويه عنده مشركو الأرض وطغاتها، وبهذه العناصر وغيرها تَبني دولة التوحيد، وتَصنع حضارة الإسلام الرائعة، ولم يكن الصدّيق يقصد بعمله هذا محمدةً ولا جاهًا ولا دنيا، وإنما كان يريد وجه الله ذا الجلال والإكرام.
لقد قال له أبوه ذات يوم: "يا بني، إني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك إذا فعلت أعتقت رجالاً جلدًا يمنعونك ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: "يا أبت، إني إنما أريد ما أريد لله -عز وجل-".
فلا عجب إذا كان الله سبحانه أنزل في شأن الصدّيق قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى* وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى* إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى* وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى* فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى* لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى* وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى* إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى* وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [5 - 21) سورة الليل].
لقد كان الصدّيق من أعظم الناس إنفاقا لماله فيما يرضي الله ورسوله، وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يحيوا هذا المثل الرفيع، والمشاعر السامية، ليتم التلاحم والتعايش والتعاضد بين أبناء الأمة التي يتعرض أبناؤها للإبادة الشاملة من قِبَل أعداء العقيدة والدين.(1/428)
وكان للصدّيق -رضي الله عنه- شرف صحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في رحلة الهجرة المباركة، تلك الرحلة التي بكى فيها أبو بكر من شدة الفرح.
تقول عائشة -رضي الله عنها- في هذا الشأن: "فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ"، إنها قمة الفرح البَشَري، أن يتحول الفرح إلى بكاء.
وَرَدَ الكتاب من الحبيب بأنه ... سيزورني فاستَعبرَتْ أجفاني
غلب السرور عليَّ حتى إنني ... من فرط ما قد سرني أبكاني
يا عين صار الدمع عندك عادة ... تبكين من فرح ومن أحزان
فالصدّيق –رضي الله عنه- يعلم أن معنى هذه الصحبة أنه سيكون وحده برفقة رسول رب العالمين بضعة عشر يومًا على الأقل، وهو الذي سيقدم حياته لسيده وقائده وحبيبه، فأي فوز في هذا الوجود يفوق هذا الفوز، أن ينفرد الصدّيق وحده من دون أهل الأرض ومن دون الصحب جميعًا برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة.
قام بعدها بتسخير جميع أفراد أسرته لخدمة النبي -صلى الله عليه وسلم- في هجرته، فكان لابنه عبد الله دور، ولعائشة دور، ولأسماء دور، بل حتى خادمه ومولاه عامر بن فهيرة كان له دور في الهجرة.
من العادة عند كثير من الناس إهمال الخادم وقلة الاكتراث بأمره، لكن الدعاة الربانيين لا يفعلون ذلك، إنهم يبذلون جهدهم لهداية من يلاقونه، لذا أدَّب الصدّيق –رضي الله عنه- عامر بن فهيرة مولاه وعلمه، فأضحى عامر جاهزًا لفداء الإسلام وخدمة الدين.
وإنه لدرس عظيم يستفاد من الصدّيق لكي يهتم المسلمون بالخدم الذين يأتونهم من مشارق الدنيا ومغاربها، ويعاملونهم على كونهم بَشَرًا أولاً، ثم يُعلّمونهم الإسلام، فلعل الله يجعل منهم من يحمل هذا الدين كما ينبغي.(1/429)
وبعد وصول النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر إلى المدينة من رحلة الهجرة والاستقرار بها، بدأت رحلة المتاعب والمصاعب والتحديات، فتغلب عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للوصول للمستقبل الباهر للأمة والدولة الإسلامية التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة على أسس من الإيمان والتقوى والإحسان والعدل، بعد أن تغلبت على أقوى دولتين كانتا تحكمان في العالم، وهما الفرس والروم، وكان الصدّيق –رضي الله عنه- الساعد الأيمن للنبي -صلى الله عليه وسلم- منذ بزوغ الدعوة حتى وفاته.
وكان أبو بكر –رضي الله عنه- ينهل بصمت وعمق من ينابيع النبوة حكمةً وإيمانًا، يقينًا وعزيمة، وتقوى وإخلاصًا، فإذا هذه الصحبة تثمر صلاحًا وصِدِّيقيَّة، ذكرًا ويقظة، حبًّا وصفاءً، عزيمة وتصميمًا، إخلاصًا وفهمًا، فوقف مواقفه المشهودة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في سقيفة بني ساعدة، وبعث جيش أسامة، وحروب الردة، فأصلح ما فسد، وبنى ما هُدم، وجمع ما تفرّق، وقوَّم ما انحرف.
اتفق أهل السنة على أن أبا بكر أعلم هذه الأمة، وسبب تقدمه على كل الصحابة في العلم والفضل ملازمته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان أدوم اجتماعًا به ليلاً ونهارًا، وسفرًا وحضرًا، وكان يسمر عند النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد العشاء، يتحدث معه في أمور المسلمين دون غيره من أصحابه، وكان إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو بكر في الشورى، وربما تكلم غيره وربما لم يتكلم غيره، فيعمل برأيه وحده، فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه، ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة.
وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله أخذه أنس من أبي بكر وهو أصح ما روي فيها، وعليه اعتمد الفقهاء وغيرهم، وفي الجملة لا يعرف لأبي بكر مسألة في الشريعة غلط فيها، وقد عرف لغيره، وكان –رضي الله عنه- يقضي ويفتي بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ويُقرّه، ولم تكن هذه المرتبة لغيره.(1/430)
وكان الصديق –رضي الله عنه- يجيد تأويل الرؤى، فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها رأت كأنه وقع في بيتها ثلاثة أقمار، فقصتها على أبيها فقال: "إن صدقت رؤياك ليدفننّ في بيتك من خير أهل الأرض ثلاثة"، فلما قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا عائشة هذا خير أقمارك".
ذكر أهل السير أن أبا بكر شهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بدرًا والمشاهد كلها، ولم يفته منها مشهدًا، وثبت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد حين انهزم الناس، ودفع إليه النبي -عليه الصلاة والسلام- رايته العظمى يوم تبوك وكانت سوداء.
أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- الصدّيق أميرًا على الحج سنة تسع من الهجرة، فخرج أبو بكر الصدّيق بركب الحجيج، ونزلت سورة براءة فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- عليًا –رضي الله عنه-، وأمره أن يلحق بأبي بكر، فخرج على ناقة رسول الله العضباء حتى أدرك الصدّيق بذي الحليفة، فلما رآه الصدّيق قال له: "أمير أم مأمور؟"، فقال: "بل مأمور"، فأقام أبو بكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية، وكان الحج في هذا العام في ذي الحجة، وقد خطب الصدّيق قبل يوم التروية، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم النفير الأول، فكان يُعرّف الناس مناسكهم في وقوفهم وإفاضتهم ونحرهم ونفيرهم ورميهم للجمرات، وعلي بن أبي طالب يخلفه في كل موقف من هذه المواقف فيقرأ على الناس صدر سورة براءة، ثم ينادي في الناس بهذه الأمور الأربعة: ((لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك)).
وقد أمر الصدّيق أبا هريرة في رهط آخر من الصحابة لمساعدة علي بن أبي طالب في إنجاز مهمته، وقد كانت هذه الحجة بمثابة التوطئة للحجة الكبرى، وهي حجة الوداع.(1/431)
لقد أُعلن في حجة أبي بكر أن عهد الأصنام قد انقضى، وأن مرحلة جديدة قد بدأت، وما على الناس إلا أن يستجيبوا لشرع الله تعالى، فبعد هذا الإعلان الذي انتشر بين قبائل العرب في الجزيرة، أيقنت تلك القبائل أن الأمر جدٌّ، وأن عهد الوثنية قد انقضى فعلاً، فأخذت ترسل وفودها معلنة إسلامها ودخلوها في التوحيد.
والحمد لله...
بسم الله الرحمن الرحيم
أبو بكر الصديق
الدرس الثاني
خبر السقيفة - إنفاذ جيش أسامة
لما علم الصحابة -رضي الله عنهم- بوفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه، وهو يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، وتداولوا الأمر بينهم في اختيار من يلي الخلافة من بعده، والتفّ الأنصار حول زعيم الخزرج سعد بن عبادة –رضي الله عنه-، ولما بلغ خبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة إلى المهاجرين، وهم مجتمعون مع أبي بكر الصدّيق –رضي الله عنه- لترشيح من يتولى الخلافة، قال المهاجرون لبعضهم: "انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم في هذا الحق نصيبًا"، قال عمر –رضي الله عنه-: "فانطلقنا نريدهم، فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلين صالحين، فذكر ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم، اقضوا أمركم، فقلت: والله لنأتينهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمّل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: يوعك، فلما جلسنا قليلاً تشهَّد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: "أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفت دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر".(1/432)
فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت قد زوَّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحِدّ، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رَسْلِك، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت، فقال: "ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارًا، وقد رضيت لكم هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم"، فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، فلم أكره مما قال غيرها، والله أن أُقدّم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إليَّ من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تُسوِّل إليَّ نفسي عند الموت شيئًا لا أجده الآن".
فقال قائل من الأنصار: منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فَرقتُ من الاختلاف فقلت: ابسط يدك، فبايعته وبايعه المهاجرين، ثم بايعته الأنصار.
وفي رواية الإمام أحمد: فتكلم أبو بكر –رضي الله عنه- فلم يترك شيئًا أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شأنهم إلا وذكره، وقال: "ولقد علمتم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار واديًا سلكت وادي الأنصار))، ولقد علمتَ يا سعد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وأنت قاعد: ((قريش ولاة هذا الأمر، فَبَرُّ الناس تبع لبرهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم))، فقال له سعد: "صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء".(1/433)
من رواية الإمام أحمد يتضح لنا كيف استطاع الصدّيق أبو بكر –رضي الله عنه- أن يَدخُل إلى نفوس الأنصار فيُقنعهم بما رآه هو الحق، من غير أن يعرض المسلمين للفتنة، فأثنى على الأنصار ببيان ما جاء في فضلهم من الكتاب والسنة، والثناء على المخالف منهج إسلامي يُقصد منه إنصاف المخالف وامتصاص غضبه، وانتزاع بواعث الأثرة والأنانية في نفسه؛ ليكون مهيأً لقبول الحق إذا تبين له، وقد كان في هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- الكثير من الأمثلة التي تدل على ذلك، ثم توصل أبو بكر من ذلك إلى أن فضلهم وإن كان كبيرًا لا يعني أحقيتهم في الخلافة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد نص على أن المهاجرين من قريش هم المقدمون في هذا الأمر.
وبيَّن الصدّيق في خطابه أن من مؤهلات القوم الذين يرشحون للخلافة أن يكونوا ممن يدين لهم العرب بالسيادة وتستقر بهم الأمور؛ حتى لا تحدث الفتن فيما إذا تولى غيرهم، وأبان أن العرب لا يعترفون بالسيادة إلا للمسلمين من قريش، لكون النبي -صلى الله عليه وسلم- منهم، ولما استقر في أذهان العرب من تعظيمهم واحترامهم.
وبهذه الكلمات النيرة التي قالها الصدّيق اقتنع الأنصار بأن يكونوا وزراء مُعينين وجنودًا مخلصين، كما كانوا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبذلك توحد صف المسلمين.
ولقد ظهر زهد أبي بكر -رضي الله عنه- في الإمارة في خطبته التي اعتذر فيها من قبول الخلافة حيث قال: "والله ما كنت حريصًا على الإمارة يومًا ولا ليلة قط، ولا كنت فيها راغبًا، ولا سألتها الله -عز وجل- في سر وعلانية، ولكني أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، ولكن قُلدت أمرًا عظيمًا ما لي به من طاقة ولا يد إلا بتقوية الله -عز وجل-، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني".(1/434)
وقد دلت نصوص عديدة على خلافة الصدّيق -رضي الله عنه-، فعن جبير بن مطعم قال: "أتت امرأة النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك -كأنها تقول الموت- قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إن لم تجديني فأتِ أبا بكر)).
وعن حذيفة قال: "كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- جلوسًا فقال: ((إني لا أدري ما قدرُ بقائي فيكم، فاقتدوا بالذين من بعدي -وأشار إلى أبي بكر وعمر- وتمسكوا بعهد عمّار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه)).
وقالت عائشة -رضي الله عنها-: "قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه: ((ادعِ لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)).
أجمع أهل السنة والجماعة سلفًا وخلفًا على أن أحق الناس بالخلافة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصدّيق –رضي الله عنه-؛ لفضله وسابقته، ولتقديم النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه في الصلوات على جميع الصحابة.
وقد فهم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مراد المصطفى -عليه الصلاة والسلام- من تقديمه في الصلاة، فأجمعوا على تقديمه في الخلافة ومتابعته ولم يتخلف منهم أحد، ولم يكن الرب -جل وعلا- ليجمعهم على ضلالة، فبايعوه طائعين وكانوا لأوامره ممتثلين ولم يعارض أحد في تقديمه.
وبعد أن تمت بيعة أبي بكر –رضي الله عنه- البيعة الخاصة في سقيفة بني ساعدة، كان لعمر –رضي الله عنه- في اليوم التالي موقف في تأييد أبي بكر، وذلك في اليوم التالي حينما اجتمع المسلمون للبيعة العامة.(1/435)
قال أنس بن مالك: "لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أيها الناس، إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدًا عهده إليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيدبر أمرنا، يقول: يكون آخرنا، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه"، فبايع الناس أبا بكر بعد بيعة السقيفة.
ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال: "أما بعد: أيها الناس، فإني قد وُليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أُرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذلّ، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله".
وقال عمر لأبي بكر يومئذ: "اصعد المنبر"، فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة.
وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب الإسلامية على إيجازها، وقد قرر الصدّيق فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم، وركّز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد.(1/436)
إن البيعة بمعناها الخاص هي إعطاء الولاء والسمع والطاعة للخليفة مقابل الحكم بما أنزل الله تعالى، وأنها في جوهرها وأصلها عقد وميثاق بين طرفين: الإمام من جهة وهو الطرف الأول، والأمة من جهة ثانية وهي الطرف الثاني، فالإمام يُبايَع على الحكم بالكتاب والسنة والخضوع التام للشريعة الإسلامية عقيدة وشريعة ونظام حياة، والأمة تُبايِع على الخضوع والسمع والطاعة للإمام في حدود الشريعة.
فالبيعة خصيصة من خصائص نظام الحكم في الإسلام تفرّد به عن غيره من النظم الأخرى في القديم والحديث، ومفهومه أن الحاكم والأمة كليهما مقيد بما جاء به الإسلام من الأحكام الشرعية، ولا يحق لأحدهما سواء كان الحاكم أو الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد الخروج على أحكام الشريعة، أو تشريع الأحكام التي تصادم الكتاب والسنة، أو القواعد العامة في الشريعة، ويعد مثل ذلك خروج على الإسلام، بل إعلان الحرب على النظام العام للدولة الإسلامية، بل أبعد من هذا نجد أن القرآن الكريم نفى عنهم صفة الإيمان، قال الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [(65) سورة النساء].
تسلّم الصدّيق -رضي الله عنه- الخلافة وضرب أمثلة في عدد من المجالات يعجز المرء عن تصوره لولا أنها نقلت إلينا عن طريق الثقات من المؤرخين.
روى ابن سعد وغيره أن أبا بكر –رضي الله عنه-، كان له بيت مال بالسُّنْح معروف، ليس يحرسه أحد، فقيل له: ألا تجعل على بيت المال من يحرسه؟ فقال: "لا يُخاف عليه"، قيل له: ولِمَ؟ قال: "عليه قفل!".(1/437)
وكان يعطي ما فيه حتى لا يُبقى فيه شيئًا، فلما تحول إلى المدينة حوله معه فجعله في الدار التي كان فيها، فكان يضع ذلك في بيت المال، فيقسمه بين الناس سويًا، بين الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير على السواء، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "فأعطى أول عام الحرَّ عشرة، والمملوك عشرة، وأعطى المرأة عشرة، وأَمَتَها عشرة، ثم قسم في العام الثاني، فأعطاهم عشرين عشرين، فجاء ناس من المسلمين فقالوا: يا خليفة رسول الله: إنك قسمت هذا المال فسويت بين الناس، ومن الناس أناس لهم فضل وسوابق وقِدم، فلو فضلت أهل السوابق والقدم والفضل، فقال: "أمّا ما ذكرتم من السوابق والقدم والفضل فما أعرفني بذلك، وإن ذلك شيء ثوابه على الله جل ثناؤه، وهذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة".
فقد كان توزيع العطاء في خلافته على التسوية بين الناس، وقد ناظر الفاروق عمر أبا بكر في ذلك فقال: "أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين، وبين من أسلم عام الفتح؟" فقال أبو بكر: "إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ للراكب".
ورغم أن عمر -رضي الله عنه- غيّر في طريقة التوزيع فجعل التفضيل بالسابقة إلى الإسلام والجهاد إلا أنه في نهاية خلافته قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لرجعت إلى طريقة أبي بكر فسويت بين الناس".
ورأى الصحابة ضرورة تفريغ الصدّيق للخلافة، فقد كان أبو بكر -رضي الله عنه- رجلاً تاجرًا يغدو كل يوم إلى السوق، فيبيع ويبتاع، فلما استخلف أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتّجر بها، فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: "السوق"، قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمور المسلمين؟ قال: "فمن أين أُطعم عيالي؟"، فقالا: انطلق معنا حتى نفرض لك شيئًا، فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاة.(1/438)
وجاء في "الرياض النضرة" أن رزقه الذي فرضوه له خمسون ومائتا دينار في السنة، وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارعها، فلم يكن يكفيه ذلك ولا عياله، قالوا: وقد كان قد ألقي كل دينار ودرهم عنده في بيت مال المسلمين، فخرج إلى البقيع ليبيع، فجاء عمر -رضي الله عنه- فإذا هو بنسوة جلوس، فقال: "ما شأنكنّ؟" قلن: نريد خليفة رسول الله يقضي بيننا، فانطلق فوجده في السوق فأخذه بيده فقال: تعالَ ها هنا، فقال: "لا حاجة لي في إمارتكم، رزقتموني ما لا يكفيني ولا عيالي"، قال: فإنا نزيدك، قال أبو بكر: "ثلاثمائة دينار والشاة كلها"، قال عمر: "أما هذا فلا"، فجاء علي -رضي الله عنه- وهما على حالهما تلك، قال: أكمِلها له، قال: ترى ذلك؟ قال: نعم، قال: قد فعلنا.
وانطلق أبو بكر -رضي الله عنه- فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس فقال: "أيها الناس، إن رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارعها، وإن عمر وعليا كمّلا لي ثلاثمائة دينار والشاة، أفرضيتم؟"، قال المهاجرون: اللهم نعم، قد رضينا.
أين البشرية اليوم من أولئك الصحابة -رضوان الله عليهم-؟ فإن الخزينة قد أضحت بعدهم بيد أشخاص ينفقون كيف يشاؤون، ويتصرفون كما يريدون، كما أصبحت لهم نفقات مستورة لا حصر لها، وفوق هذا فقد تكدست لهم الأموال لكثرتها، وأكثرها يعود إلى الساسة وأمراء الشعوب المستضعفة، مع أنه قد ظهر أن هذه الأموال مهما بلغت، والعقارات مهما كثرت، فإنها لا تكفي شيئًا، ولا تغني صاحبها شيئًا، هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فالأمر أشدُّ، والحساب عظيم.(1/439)
كان الصدّيق قبل الخلافة يحلب للحي، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا أغنام دارنا، فسمعها أبو بكر فقال: "لعمري لأحلبنّها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه عن خُلُقٍ كنت عليه"، فكان يحلب لهنّ، وهذا تواضع كبير من رجل كبير، كبير في سنه، وكبير في منزلته وجاهه، حيث كان خليفة المسلمين، وكان حريصًا على أن لا تغير الخلافة شيئًا من معاملته للناس، وإن كان ذلك سيأخذ منه وقتًا هو بحاجة إليه، ويقول: "أرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه"، وليس الذي دخل فيه بالأمر الهيّن، بل هو خلافة رسول الله، وسيادة العرب، وقيادة الجيوش التي ذهبت لتقلع من الأرض الجبروت الفارسي، والعظمة الرومانية، وتنشئ مكانهما صرح العدل والعلم والحضارة، ثم يرجو ألا يغيره هذا كله، ولا يمنعه من حلب أغنام الحي.
إن من ثمار الإيمان بالله تعالى أخلاقًا حميدة، منها خلق التواضع الذي تجسّد في شخصية الصدّيق في هذا الموقف وفي غيره من المواقف، وكان عندما يسقط خطام ناقته ينزل ليأخذه، فيقال له: لو أمرتنا أن نناولك، فيقول: "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا نسأل الناس شيئًا".
ولقد دفعه هذا الخلق إلى خدمة المسلمين وبخاصة أهل الحاجة منهم والضعفاء، فعن أبي صالح الغفاري أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يتعهد عجوزًا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل، فيسقي لها، ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يَسبق إليها فرصده عمر، فإذا هو أبو بكر الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة.
كانت الدولة الرومانية إحدى الدولتين المجاورتين للجزيرة العربية في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكانت تحتل أجزاء كبيرة من شمال الجزيرة، وكان أمراء تلك المناطق يُعيَنون من قبل الدولة الرومانية وينصاعون لأوامرها.(1/440)
بعث النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- الدعاة والبعوث إلى تلك المناطق، وأرسل دحية الكلبي بكتاب إلى هرقل ملك الروم يدعوه فيه إلى الإسلام، ولكنه عاند وأخذته العزة بالإثم، وكانت خطة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واضحة المعالم لهزّ هيبة الروم في نفوس العرب، ومن ثم تنطلق جيوش المسلمين لفتح تلك الأراضي، فأرسل -عليه الصلاة والسلام- في العام الثامن للهجرة جيشًا واشتبك مع نصارى العرب والروم في معركة مؤتة.
وفي العام التاسع للهجرة خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- بجيش عظيم إلى الشام ووصل إلى تبوك، ولم يشتبك جيش المسلمين بالروم ولا القبائل العربية وآثر حكّام المدن الصلح على الجزية وعاد الجيش إلى المدينة بعدما مكثوا عشرين ليلة بتبوك.
وفي العام الحادي عشر ندب النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس لغزو الروم بالبلقاء وفلسطين وفيهم كبار المهاجرين والأنصار، وأمرَّ عليهم أسامة -رضي الله عنهم-، وكان تجهيز جيش أسامة -رضي الله عنه- يوم السبت قبل موت النبي -صلى الله عليه وسلم- بيومين.
مرض النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد البدء بتجهيز هذا الجيش واشتد وجعه -عليه الصلاة والسلام- فلم يخرج هذا الجيش وظل معسكرًا بالجُرف، ورجع إلى المدينة بعد وفاة النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، وارتدت العرب قاطبة واشرأبّ النفاق.
ولما تولى الخلافة الصدّيق، أمَّر -رضي الله عنه- رجلاً في اليوم الثالث من مُتَوَفَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينادي في الناس: ليتم بعث أسامة -رضي الله عنه-، ألا لا يبقينّ بالمدينة أحد من جند أسامة -رضي الله عنه- إلا خرج إلى عسكره بالجرف.(1/441)
اقترح بعض الصحابة على الصدّيق -رضي الله عنه- بأن يُبقي الجيش فقالوا: إن هؤلاء جلُّ المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك فليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين، وأَرسلَ أسامة من معسكره من الجرف عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالناس وقال: "إن معي وجوه المسلمين وجلتهم ولا آمن على خليفة رسول الله وحرم رسول الله والمسلمين أن يتخطفهم المشركون"، ولكن أبا بكر خالف ذلك وأصر على أن تستمر الحملة العسكرية في تحركها إلى الشام مهما كانت الظروف والأحوال والنتائج، ولم يسترح أسامة وهيئة أركان حربه لإصرار الخليفة على رأيه.
وقد بذلوا لدى الخليفة عدة محاولات كي يقنعوه بصواب فكرتهم، وعندما كثر الإلحاح على أبي بكر دعا عامة المهاجرين والأنصار إلى اجتماع في المجلس لمناقشة هذا الأمر معهم، وفي هذا الاجتماع دار نقاش طويل متشعب، وكان أشد المعارضين لاستمرار حملة الشام عمر بن الخطاب، مبديًا تخوفه الشديد على الخليفة وحرم رسول الله وكل المدينة وأهلها من أن تقع في قبضة الأعراب المرتدين المشركين، وعندما أكثر وجوه الصحابة بهذا الصدد على الخليفة وخوفوه مما ستتعرض له المدينة من أخطار جسام إن هو أصر على تحريك جيش أسامة لغزو الروم، أمر بفض الاجتماع الأول بعد أن سمع الصدّيق لرأيهم واستوضح منهم إن كان لأحدهم ما يقول، وذلك حتى يعطي إخوانه وأهل الرأي كامل الفرصة لبيان رأيهم، ثم دعاهم إلى اجتماع عام آخر في المسجد، وفي هذا الاجتماع طلب من الصحابة أن ينسوا فكرة إلغاء مشروع وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه، وأبلغهم أنه سينفذ هذا المشروع حتى لو تسبب تنفيذه في احتلال المدينة من قبل الأعراب المرتدين، فقد وقف خطيبًا وخاطب الصحابة قائلاً: "والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته".(1/442)
نعم لقد كان أبو بكر مصيبًا فيما عزم عليه من بعث أسامة مخالفًا بذلك رأي جميع المسلمين؛ لأن في ذلك أمرًا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد أثبتت الأيام والأحداث سلامة رأيه وصواب قراره الذي اعتزم تنفيذه.
طلبت الأنصار رجلاً أقدم سنًّا من أسامة يتولى أمر الجيش، وأرسلوا عمر بن الخطاب ليحدث الصدّيق في ذلك، فقال عمر -رضي الله عنه-: "فإن الأنصار تطلب رجلاً أقدم سنًا من أسامة -رضي الله عنه-، فوثب أبو بكر -رضي الله عنه- وكان جالسًا- فأخذ بلحية عمر وقال له: "ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتأمرني أن أنزعه؟!"، فخرج عمر -رضي الله عنه- إلى الناس فقالوا: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم! ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ثم خرج أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه- حتى أتاهم فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب، وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر -رضي الله عنهم-، فقال له أسامة -رضي الله عنه-: "يا خليفة رسول الله: والله لتركبنّ أو لأنزلنّ"، فقال: "والله لا تنزل ووالله لا أركب، وما عليَّ أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة".(1/443)
ثم قال الصدّيق لأسامة -رضي الله عنهما-: "إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل"، فأذن له، ثم توجه الصدّيق -رضي الله عنه- إلى الجيش فقال: "يا أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تُغِلّوا ولا تغدروا ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منه شيئًا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها، وتلقون أقوامًا قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقًا، اندفعوا باسم الله".
وأوصى الصدّيق أسامة -رضي الله عنهما- أن يفعل ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: "اصنع ما أمرك به نبي الله -صلى الله عليه وسلم-، ابدأ ببلاد قضاعة ثم ائت آبل، ولا تُقصرنّ في شيء من أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا تعجلنّ لما خلفت عن عهده.
ومضى أسامة -رضي الله عنه- بجيشه، وانتهى إلى ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من بث الخيول في قبائل قضاعة والغارة على آبل فسلِم وغنم، وكان مسيره ذاهبًا وقافلاً أربعين يومًا.
وقدِمَ بنعي رسول الله على هرقل وإغارة أسامة في ناحية أرضه خبر واحد، فقالت الروم: ما بال هؤلاء يموت صاحبهم ثم أغاروا على أرضنا؟ وقال العرب: لو لم يكن لهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش، فكَفّوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه.(1/444)
سبحان الله.. ما أشد التحول وأخطره، وما أسرعه كذلك! سبحان الذي يقلب الأحول كيفما يشاء، تأتي وفود العرب مذعنة منقادة مطيعة وبهذه الكثرة، حتى سمي العام التاسع بعام الوفود، ثم تنقلب الأحوال فيُخشى من أن تأتي القبائل العربية للإغارة على المدينة عاصمة الإسلام، بل قد جاءت للإغارة للقضاء على حسب زعمها الباطل على الإسلام والمسلمين، ولا غرابة في هذا فإن من سنن الله الثابتة في الأمم أن أيامها لا تَبقى ثابتة على حال، بل تتغير وتتبدل، وقد أخبر بذلك الذي يقلب الأيام ويصرفها -عز وجل- بقوله: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [(140) سورة آل عمران].
من الدروس المستفادة من بعث جيش أسامة:
أن الشدائد والمصائب مهما عظمت وكبرت لا تشغل أهل الإيمان عن أمر الدين.
إن وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم تشغل الصدّيق عن أمر الدين، وأَمَرَ ببعث جيش أسامة في ظروف حالكة مظلمة بالنسبة للمسلمين، إن الاهتمام بأمر الدين مقدم على كل شيء.
وفي إنفاذ أبي بكر الصدّيق جيش أسامة -رضي الله عنهما- درس في أن مسيرة الدعوة لم ولن تتوقف على شخص بعينه، حتى لو كان هذا الشخص هو سيد الخلق وإمام الأنبياء وقائد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-(1/445)
ومما نستفيد من هذه القصة: أنه قد يحدث الخلاف بين المؤمنين الصادقين حول بعض الأمور، فقد اختلفت الآراء حول إنفاذ جيش أسامة –رضي الله عنه- في تلك الظروف الصعبة، وقد تعددت الأقوال حول إمارته، ولم يجرهم الخلاف في الرأي إلى التباغض والتشاجر والتدابر والتقاطع والتقاتل، ولم يصر أحد على رأي بعد وضوح فساده وبطلانه، وعندما رد الصدّيق الخلاف إلى ما ثبت من أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ببعث جيش أسامة وبيَّن –رضي الله عنه- أنه ما كان ليفرّط فيما أمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مهما تغيرت الأحوال وتبدلت، استجاب بقية الصحابة لحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدما وضحه لهم الصدّيق -رضي الله عنه-.
كما أنه لا عبرة لرأي الأغلبية إذا كان مخالفًا للنص: فقد رأى عامة الصحابة حبس جيش أسامة وقالوا للصدّيق: إن العرب قد انتقضت عليك وإنك لا تصنع بتفريق الناس شيئًا، فأولئك الناس لم يكونوا كعامة الناس بل كانوا من الصحابة الذين هم خير البشر وجدوا على الأرض بعد الأنبياء والرسل عليهم السلام، لكن الصدّيق –رضي الله عنه- لم يستجب لهم مبينًا أن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجل وأكرم وأوجب وألزم من رأيهم كلهم.
ولا يفوتنا منزلة الشباب العظيمة في خدمة الإسلام: فقد عين النبي -صلى الله عليه وسلم- الشاب أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أميراً على الجيش المعدّ لقتال الروم، تلك القوة العظيمة في زعم الناس في ذلك الوقت، وكان عمره آنذاك عشرين سنة، أو ثماني عشرة سنة، وأقره أبو بكر الصدّيق –رضي الله عنه- على منصبه رغم انتقاد الناس، وعاد الأمير الشاب بفضل الله تعالى من مهمته التي أسندت إليه غانمًا ظافرًا، وفي هذا توجيه للشباب في معرفة مكانتهم في خدمة الإسلام.(1/446)
ولو نعيد النظر في تاريخ الدعوة الإسلامية في المرحلتين المكية والمدنية لوجدنا شواهد كثيرة تدل على ما قام به شباب الإسلام في خدمة القرآن والسنة، وإدارة أمور الدولة، والمشاركة في الجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الله تعالى.
عاد جيش أسامة ظافرًا غانمًا بعدما أرهب الروم حتى قال لهم هرقل وهو بحمص بعدما جمع بطارقته: هذا الذي حذرتكم فأبيتم أن تقبلوا مني!! قد صارت العرب تأتي مسيرة شهر فتغير عليكم، ثم تخرج من ساعتها ولم تَكْلَمْ.
وأصاب القبائل العربية في الشمال الرعب والفزع من سطوة الدولة الإسلامية، وعندما بلغ جيش أسامة الظافر إلى المدينة تلقاه أبو بكر وكان قد خرج في جماعة من كبار المهاجرين والأنصار للقائه، وكلهم خرج وتهلل، وتلقّاه أهل المدينة بالإعجاب والسرور والتقدير، ودخل أسامة المدينة وقصد مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصلى لله شكرًا على ما أنعم به عليه وعلى المسلمين، وكان لهذه الغزوة أثر في حياة المسلمين وفي حياة العرب الذين فكّروا في الثورة عليهم، وفي حياة الروم الذين تمتد بلادهم على حدودهم، فقد فعل هذا الجيش بسمعته ما لم يفعله بقوته وعدده، فأحجم من المرتدين من أقدم، وتفرق من اجتمع، وهادن المسلمين من أوشك أن ينقلب عليهم، وصنعت الهيبة صنيعها قبل أن يصنع الرجال، وقبل أن يصنع السلاح.
حقًا لقد كان إرسال هذا الجيش نعمةً على المسلمين، إذ أمست جبهة الردة في الشمال أضعف الجبهات، ولعل من آثار هذا أن هذه الجبهة في وقت الفتوحات كان كسرها أهون على المسلمين من كسر جبهة العدو في العراق، كل ذلك يؤكد أن أبا بكر –رضي الله عنه- كان في الأزمات من بين جميع الباحثين عن الحل أثقبهم نظرًا وأعمقهم فهمًا.
والحمد لله..
بسم الله الرحمن الرحيم
أبو بكر الصديق
الدرس الثالث
حركة الردة(1/447)
بدأت حركة الردة منذ العام التاسع للهجرة المسمى بعام الوفود، وهو العام الذي أسلمت فيه الجزيرة العربية قيادها للرسول -صلى الله عليه وسلم- ممثلة بزعمائها الذين قدموا عليه من أصقاعها المختلفة، وكانت حركة الردة في هذه الأثناء لماّ تستعلن بشكل واسع، حتى إذا كان أواخر العام العاشر الهجري وهو عام حجة الوداع التي حجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونزل به وجعه الذي مات فيه وتسامع بذلك الناس، بدأ الجمر يتململ من تحت الرماد، وأخذت الأفاعي تطل برؤوسها من جحورها، وتجرأ الذين في قلوبهم مرض على الخروج، فوثب الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة، وطليحة الأسدي في بلاد قومه، ولما كان أخطر متمردين على الإسلام -وهما الأسود العنسي ومسيلمة- وأنهما مصممان كما يبدو على المضي في طريق ردتهما قدما دون أن يفكرا في الرجوع، وأنهما مشايعان بقوى غفيرة وإمكانيات وفيرة فقد أرى الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- من أمرهما ما تقر به عينه، ومن ثم ما تقر به عيون أمته من بعده، فقد قال يومًا وهو يخطب الناس على منبره: ((أيها الناس، إني قد أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، ورأيت أن في ذراعي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين: صاحب اليمن وصاحب اليمامة)).
وقد فسر أهل العلم بالتعبير هذه الرؤيا على هذه الصورة فقالوا: إن نفخه -صلى الله عليه وسلم- لهما يدل على أنهما يُقتلان بريحه؛ لأنه لا يغزوهما بنفسه، وإنّ وصفه لهما بأنهما من ذهب دلالة على كذبهما؛ لأن شأنهما زخرف وتمويه، كما دل لفظ: السوارين على أنهما ملكان؛ لأن الأساورة هم الملوك، ودلاّ بكونهما يحيطان باليدين أن أمرهما يشتد على المسلمين فترة لكون السوار مضيقًا على الذراع.(1/448)
إن الردة التي قامت بها القبائل بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لها أسباب، منها: الصدمة بموت النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورقَّة الدين والسَّقَم في فهم نصوصه، والحنين إلى الجاهلية ومقارفة موبقاتها، والتفلّت من النظام والخروج على السلطة الشرعية، والعصبية القبلية والطمع في الملك، والتكسب بالدين والشح بالمال، والتحاسد، والمؤثرات الأجنبية كدور اليهود والنصارى والمجوس.
وأما أصنافهم: فمنهم من ترك الإسلام جملة وتفصيلاً، وعاد إلى الوثنية وعبادة الأصنام، ومنهم من ادعى النبوة، ومنهم من دعا إلى ترك الصلاة، ومنهم من بقي يعترف بالإسلام ويقيم الصلاة ولكنه امتنع عن أداء زكاته، ومنهم من شمت بموت الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعاد أدراجه يمارس عاداته الجاهلية، ومنهم من تحيّر وتردد وانتظر على من تكون الدائرة.
وبهذا يكون المرتدون أربعة أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان والأصنام، وصنف اتبعوا المتنبئين الكذبة، وصنف أنكروا وجوب الزكاة وجحدوها، وصنف لم ينكروا وجوبها ولكنهم أبوا أن يدفعوها إلى أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-.
فلما ظهرت حركة الردة قام أبو بكر -رضي الله عنه- في الناس خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأعفى، إن الله بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، قد رثّ حبله وخَلَق ثوبه وضلَّ أهله منه، إن من حولكم من العرب قد منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم، وإن رجعوا إليه أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدم من بركة نبيكم، والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي لنا عهده، ويُقتل من قتل منا شهيدًا من أهل الجنة".(1/449)
وقد أشار بعض الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب على الصديق بأن يترك مانعي الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكون، فامتنع الصديق عن ذلك وأباه.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان أبو بكر -رضي الله عنه-، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر -رضي الله عنه-: "كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله))؟"، فقال: "والله لأقاتلنّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعها"، قال عمر: "فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق"، ثم قال عمر بعد ذلك: "والله لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعًا في قتال أهل الردة".
وفعلاً كان رأي أبي بكر في حرب المرتدين رأيًا ملهمًا، وهو الرأي الذي تمليه طبيعة الموقف لمصلحة الإسلام والمسلمين، وأي موقف غيره سيكون فيه الفشل والضياع والهزيمة والرجوع إلى الجاهلية، ولولا الله ثم هذا القرار الحاسم من أبي بكر لتغير وجه التاريخ وتحولت مسيرته ورجعت عقارب الساعة إلى الوراء، ولعادت الجاهلية تعيث في الأرض فسادًا.
لقد سمع أبو بكر وجهات نظر الصحابة في حرب المرتدين، وما عزم على خوض الحرب إلا بعد أن سمع وجهات النظر بوضوح، إلا أنه كان سريع القرار حاسم الرأي، فلم يتردد لحظة واحدة بعد ظهور الصواب له، وعدم التردد كان سمة بارزة من سمات أبي بكر في حياته كلها، ولقد اقتنع المسلمون بصحة رأيه ورجعوا إلى قوله واستصوبوه.
لقد كان أبو بكر -رضي الله عنه- أبعد الصحابة نظرًا، وأحقهم فهمًا، وأربطهم جنانًا، في هذه الطامة العظيمة، والمفاجأة المذهلة.(1/450)
كان موقف أبي بكر -رضي الله عنه- الذي لا هوادة فيه ولا مساومة فيه ولا تنازل موقفًا ملهمًا من الله، يرجع الفضل الأكبر بعد الله تعالى في سلامة هذا الدين وبقائه على نقائه وصفائه وأصالته، وقد أقر الجميع وشهد التاريخ بأن أبا بكر قد وقف في مواجهة الردة الطاغية ومحاولة نقض عرى الإسلام عروة عروة، موقفَ الأنبياء والرسل في عصورهم، وهذه خلافة النبوة التي أدى أبو بكر حقها، واستحق بها ثناء المسلمين ودعاءهم إلى أن يرث الله الأرض وأهلها.
انصرفت وفود القبائل المانعة للزكاة من المدينة بعدما رأت عزم الصديق وحزمه، فقرأ الصديق في وجوه القوم ما فيها من الغدر، ورأى فيها الخسة وتفرس فيها اللؤم، فقال لأصحابه: "إن الأرض كافرة وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلاً تُؤتَوْن أم نهارًا! وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم ونبذنا إليهم عهدهم فاستعدّوا وأعدّوا".
ووضع الصديق خطته فألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد حتى يكونوا على أكمل استعداد للدفاع، ونظم الحرس الذين يقومون على أنقاب المدينة ويبيتون حولها، حتى يدفعوا أي غارة قادمة، وعيّن على الحرس أمراءهم: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم-، وبعث أبو بكر -رضي الله عنه- إلى من كان حوله من القبائل التي ثبتت على الإسلام من أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب يأمرهم بجهاد أهل الردة فاستجابوا له حتى امتلأت المدينة بهم، وكانت معهم الخيل والجمال التي وضعوها تحت تصرف الصديق، ومما يدل على كثرة رجال هذه القبائل وكبر حجم دعمها للصديق أن جهينة وحدها قَدِمت إلى الصديق في أربعمائة من رجالها ومعهم الظهر والخيل، وساق عمرو بن مرة الجهني مائة بعير لإعانة المسلمين، فوزّعها أبو بكر في الناس.(1/451)
ومن ابتعد عن المرتدين وأبطأ خطره حاربه بالكتب، يبعث بها إلى الولاة المسلمين في أقاليمهم، كما كان رسول الله يفعل، يحرضهم على النهوض لقتال المرتدين ويأمر الناس للقيام معهم في هذا الأمر.
ومن أمثلة ذلك رسالته لأهل اليمن حيث المرتدة من جنود الأسود العنسي التي قال فيها: "أما بعد، فأعينوا الأبناء على من ناوأهم وحوطوهم واسمعوا من فيروز، وجدوا معه، فإني قد وليته".
وقد أثمرت هذه الرسالة وقام المسلمون من أبناء الفرس بزعامة فيروز يعاونهم إخوانهم من العرب بشن غارة شعواء على العصاة المارقين حتى رد الله كيدهم إلى نحورهم، وعادت اليمن بالتدرج إلى جادة الحق.
وأما من قرب منهم من المدينة واشتد خطره كبني عبس وذبيان فإنه لم ير بدًّا من محاربتهم على الرغم من الظروف القاسية التي كانت تعيشها مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكان أن آوي الذراري والعيال إلى الحصون والشعاب محافظة عليهم من غدر المرتدين، واستعد للنزال بنفسه ورجاله.(1/452)
وبعد ثلاثة أيام من رجوع وفود المرتدين طرقت بعض قبائل أسد وغطفان وعبس وذبيان وبكر المدينةَ ليلاً وخلفوا بعضهم بذي حُسَي ليكونوا لهم ردءًا، وانتبه حرس الأنقاب لذلك، وأرسلوا للصديق بالخبر، فأرسل إليهم أنِ الزموا أماكنكم ففعلوا، وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم، فهرب العدو فأتبعهم المسلمون على إبلهم، فظن القوم بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر، فقدموا عليهم اعتمادًا في الذين أخبرهم وهم لا يشعرون لأمر الله -عز وجل- الذي أراده وأحب أن يبلغه فيهم، فبات أبو بكر ليلته يتهيأ فعبَّى الناس، ثم خرج على تعبية من أعجاز ليلته يمشي، وعلى ميمنته النعمان بن مقرّن وعلى ميسرته عبد الله بن مقرّن، وعلى الساقة سويد بن مقرّن معه الركاب، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين همسًا ولا حسًا حتى وضعوا فيهم السيوف فاقتتلوا أعجاز ليلتهم، فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقُتل أخو طليحة الأسدي، وأتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة، وكان أول الفتح ووضع بها النعمان بن مُقَرن في عدد، ورجع إلى المدينة فذل بها المشركون، فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم كل قتلة، وفعل من وراءهم فعلهم، وعز المسلمون بوقعة أبي بكر، وحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين كل قتلة، وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، وصمم الصديق -رضي الله عنه- على أن ينتقم للمسلمين الشهداء، وأن يؤدب هؤلاء الحاقدين، ونفّذ قسمه وازداد المسلمون في بقية القبائل ثباتًا على دينهم، وازداد المشركون ذلاً وضعفًا وهوانًا، وبدأت صدقات القبائل تفد على المدينة، وفي ليلة واحدة أثرت المدينة بأموال زكاة ستة أحياء من العرب، وكان كلما طلع على المدينة أحد جباة الزكاة قال الناس: "نذير" فيقول أبو بكر: "بل بشير"، وإذا بالقادم يحمل معه صدقات قومه، وخلال هذه البشائر التي تحمل معها(1/453)
بعض العزاء وشيئًا من الثراء، عاد أسامة بن زيد بجيشه ظافرًا، وصنع كل ما كان الرسول قد أمره به وما أوصاه به أبو بكر الصديق، فاستخلفه أبو بكر على المدينة وقال له ولجنده: أريحوا وأريحوا ظهركم، ثم خرج في الذين خرجوا إلى ذي القصة والذين كانوا على الأنقاب على ذلك الظهر، فقال له المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تُعرّض نفسك! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو، فابعث رجلاً فإن أصيب أمرت آخر فقال: لا والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي.
لقد ظهر معدن الصديق النفيس في محنة الردة على أجلى صورة للقائد المؤمن الذي يفتدي قومه بنفسه، فالقائد في فهم المسلمين قدوة في أعماله، فكان من آثاره هذه السياسة الصديقية أن تَقَوّى المسلمون وتشجعوا لحرب عدوهم واستجابوا لتطبيق الأوامر الصادرة إليهم من القيادة، لقد خرج الصديق في تعبيته حتى نزل على أهل الرَّبذة بالأبرق فهزم الله الحارث وعوفًا وأخذ الحطيئة أسيرًا، فطارت عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أياماً.
وهكذا يتعلم المسلمون من سيرة الصديق بأنه لم يكن يرغب بنفسه عن نفوس أتباعه بأي أمر من أمور الدنيا، إن خروج الصديق -رضي الله عنه- للجهاد ثلاث مرات متتالية يعتبر تضحية كبيرة وفدائية عالية.
إن خروجه للجهاد ثلاث مرات متتاليات وهو الشيخ الذي بلغ الستين من عمره، قد أعطى بقية الصحابة دفعات قوية من النشاط والحيوية.(1/454)
إن من الحقائق الأساسية حول هذه الفتنة أنها لم تكن شاملة لكل الناس كشمولها الجغرافي، بل إن هناك قادة وقبائل وأفرادًا وجماعات، وأفرادًا تمسكوا بدينهم في كل منطقة من المناطق التي ظهرت فيها الردة، فقام الصديق -رضي الله عنه- بالاتصال بالثابتين على الإسلام وجعل منهم رصيدًا للجيوش المنظمة، فقد كان يعدّ الأمة لمواجهة منظمة مع المرتدين بعد عودة جيش أسامة، فقد راسل الصديق زعماء الردة والثابتين على الإسلام ليحقق بعض الأهداف، ككسب الوقت حتى يرجع جيش أسامة.
ولما وصل جيش أسامة بعد أربعين يومًا من مسيرهم واستراحوا، خرج أبو بكر الصديق بالصحابة -رضي الله عنهم- إلى ذي القصة، وهي على مرحلة من المدينة، وذلك لقتال المرتدين والمتمردين، فعرض عليه الصحابة أن يبعث غيره على القيادة، وأن يرجع إلى المدينة ليتولى إدارة أمور الأمة، وألحوا عليه بذلك، فجاء علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- فأخذ بزمام راحلته، فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله؟ أقول لك ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد: ((شِمْ سيفك ولا تفجعنا بنفسك، فو الله لئن أُصبنا بك لا يكون للإسلام بعدك نظام أبدًا))، فرجع.
وقد قسّم أبو بكر الجيش الإسلامي إلى أحد عشر لواء وجعل على كل لواء أميرًا، وأَمَرَ كل أمير جند باستنفار من مر به من المسلمين التابعين من أهل القرى التي يمر بها، وهكذا اتخذت قرية ذي القَصَّة مركز انطلاق أو قاعدة تحرك للجيوش المنظمة التي ستقوم بالتحرك إلى مواطن الردة للقضاء عليها.
وكان القائد العام لهذه الجيوش سيف الله المسلول خالد بن الوليد صاحب العبقرية الفذة في حروب الردة والفتوحات الإسلامية.(1/455)
انطلقت الألوية التي عقدها الصديق ترفرف عليها أعلام التوحيد، مصحوبة بدعوات خالصة من قلوب تعظم المولى -عز وجل- وتشربت معاني الإيمان، ومن حناجر لم تلهج إلا بذكر الله تعالى، فاستجاب الله -جل وعلا- هذه الدعوات النقية، فأنزل عليهم نصره وأعلى بهم كلمته، وحمى بهم دينه، حتى دانت جزيرة العرب للإسلام في شهور معدودة.
ومن أخبار المرتدين: ما حصل من بعض النسوة في اليمن، فقد قامت بعض بنات اليمن من يهود أو من لف لفهن في حضرموت، فقد طرن فرحاً بموت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأقمن الليالي الحمراء مع المُجَّان والفُسَّاق يشجعن على الرذيلة ويزرين بالفضيلة، فقد رقص الشيطان فيها معهنّ وأتباعه طربًا لنكوص الناس على الإسلام والدعوة إلى التمرد عليه وحرب أهله.
لقد حنَّت تلك البغايا إلى الجاهلية وما فيها من المنكرات، وانجذبن إليها انجذاب الذباب إلى أكوام من الأقذار، فقد تعودن على الفاحشة في حياتهنّ الجاهلية، فلما جاء الإسلام حجزتهنّ نظافته عنها، فشعرن وكأنهنّ بسجن ضيق يكدن يختنقن فيه، ولذا ما إن سمعن بموته -صلى الله عليه وسلم- حتى أظهرن الشماتة فخضبن أيديهن بالحناء، وقمن يضربن بالدفوف ويغنين فرحتهنّ، فقد تحقق لهن ما كنّ يتمنينه على السلطة الجديدة، وكان معظمهنّ من علية القوم هناك وبعضهنّ يهوديات.
لقد عُرفت هذه الحركة في التاريخ بحركة البغايا وكنّ نيفاً وعشرين بغيًّا متفرقات في قرى حضرموت. وصل الخبر إلى الصديق، وأرسل رجل من أهل اليمن إليه هذه الأبيات:
أبلغ أبا بكر إذا ما جئته ... أن البغايا رُمْنَ أيَّ مرام
أظهرن من موت النبي شماتة ... وخضبن أيديهن بالعُلاَّم
فاقطع هديت أكفَّهنّ بصارم ... كالبرق أمضى من متون غمام(1/456)
فكتب أبو بكر –رضي الله عنه- إلى عامله هناك المهاجر بن أبي أمية كتابًا في منتهى الحزم والصرامة جاء فيه: "فإذا جاءك كتابي هذا فَسِرْ إليهنّ بخيلك ورجلك حتى تقطع أيديهنّ، فإن دفعك عنهنّ دافع، فأعذر إليه باتخاذ الحجة عليه، وأعلمه عظيم ما دخل فيه من الإثم والعدوان، فإن رجع فاقبل منه وإن أبى فنابذه على سواء، إن الله لا يهدي كيد الخائنين".
فلما قرأ المهاجر الكتاب جمع خيله ورجله وسار إليهنّ، فحال بينه وبينهنّ رجال من كندة وحضرموت فأعذر إليهم، فأبوا إلا قتاله، ثم رجع عنه عامتهم، فقاتلهم فهزمهم وأخذ النسوة فقطع أيديهنّ فمات عامتهنّ وهاجر بعضهنّ إلى الكوفة.
لقد نلن جزاءهنّ في محكمة الإسلام العادلة، إذ أخذهنّ عامل أبي بكر على تلك البلاد وطبق عليهنّ حد الحرابة.
ومن المرتدين طليحة الأسدي: قدم مع وفد قومه أسد على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عام الوفود سنة تسع للهجرة فسلموا عليه، وقالوا له: جئناك نشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، ولما عادوا ارتد طليحة وتنبأ، وعسكر في منطقة في بلادهم، واتبعه العوام واستُكشف أمره.
ومن خزعبلاته أنه رفع السجود من الصلاة، وكان يزعم أن الوحي يأتيه من السماء.
وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يحسم أمر طليحة، وتولى الخلافة الصديق –رضي الله عنه-، وعقد الألوية للجيوش والأمراء للقضاء على المرتدين، وكان من ضمنهم طليحة، ووجه إليه الصديق جيشًا بقيادة خالد بن الوليد.(1/457)
سار خالد حتى نزل بأجأ وسلمى وعَبَّأ جيشه هنالك، والتقى مع طليحة الأسدي بمكان يقال له: "بزاخة"، ووقفت أحياء كثيرة من الأعراب ينظرون على من تكون الدائرة، وجاء طليحة فيمن معه من قومه ومن التف معهم وانضاف إليهم، وقد حضر معه عيينة بن حصن في سبعمائة من قومه بني فزارة، واصطف الناس وجلس طليحة ملتفًا في كساء له يتنبأ لهم ينظر ما يوحى إليه فيما يزعم، وجعل عيينة يقاتل حتى إذا ضجر من القتال جاء إلى طليحة وهو ملتف في كسائه وقال له: أجاءك جبريل؟ فيقول: لا، فيرجع فيقاتل، ثم يرجع فيقول له مثل ذلك ويرد عليه مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قال له: هل جاءك جبريل؟ قال: نعم، قال: فما قال لك؟ قال: قال لي: إن لك رحاً كرحاه وحديثًا لا تنساه، قال: يقول عيينة: أظنّ أنه قد علم الله سيكون لك حديث لا تنساه، ثم قال: يا بني فزارة انصرفوا، وانهزمَ وانهزم الناس عن طليحة، فلما جاءه المسلمون ركب على فرس كان قد أعدها له وأركب امرأته النوّار على بعير له، ثم انهزم بها إلى الشام وتفرق جمعه، وقد قتل الله طائفة ممن كان معه.
وقد كتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد حين جاءه أنه كسر طليحة ومن كان في صفه: "جِدّ في أمرك ولا تلن ولا تظفر بأحد من المشركين قتل من المسلمين إلا نكلت به".
فأقام خالد ببزاخة شهر يُصَعد عنها ويصوب ويرجع إليها في طلب الذي وصاه الصديق، فجعل يتردد في طلب هؤلاء شهرًا يأخذ بثأر من قتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم حين ارتدوا، فمنهم من حرقه بالنار، ومنهم من رضخه بالحجارة، ومنهم من رمى به من شواهق الجبال، كل هذا ليعتبر بهم من يسمع بخبرهم من مرتدة العرب.(1/458)
وكان عيينة بن حصن من بين الأسرى فأمر خالد بشد وثاقه تنكيلا به، وبعثه إلى المدينة ويداه إلى عنقه، إزراءً عليه وإرهابًا لسواه، فلما دخل المدينة على هيئته تلقاه صبيان المدينة مستهزئين، وأخذوا يلكزونه بأيديهم الصغيرة قائلين: "أي عدو الله، ارتددت عن الإسلام!!" فيقول: والله ما كنت آمنت قط.
وجيء به إلى خليفة رسول الله ولقي من الخليفة سماحة لم يصدقها، وأمر بفك يديه ثم استتابه، فأعلن عيينة توبة نصوحًا واعتذر عما كان منه وأسلم وحسن إسلامه.
أما طليحة فمضى حتى نزل كلب على النقع فأسلم، ولم يزل مقيمًا في كلب حتى مات أبو بكر، وكان إسلامه هنالك حين بلغه أن أسدًا وغطفان وعامرًا قد أسلموا، ثم خرج نحو مكة معتمراً في إمارة أبي بكر، واستحيا أن يواجهه مدة حياته، ومر بجنبات المدينة، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة، فقال: ما أصنع به، خلوا عنه فقد هداه الله للإسلام.
هذا وقد حسن إسلام طليحة وقد كان إسلامه صحيحًا وقال يعتذر ويذكر ما كان منه:
ندمت على ما كان من قتل ثابت ... وعكاشة الغنمي ثم ابن معبد
وأعظم من هاتين عندي مصيبة ... رجوعي عن الإسلام فعل التعمد
وتركي بلادي والحوادث جَمَّة ... طريدًا وقِدْمًا كنت غير مُطَرَّد
فهل يقبل الصديق أنى مراجع ... ومعطٍ بما أحدثت من حدثٍ يدي
وأني من بعد الضلالة شاهد ... شهادة حق لست فيها بملحد
بأن إله الناس ربي وأنني ... ذليل وأن الدين دين محمد
وقد منع الصديق المرتدين من المشاركة في فتوحاته بالعراق والشام، وهذا درس عظيم تتعلمه الأمة في عدم وضع الثقة بمن كانت لهم سوابق في الإلحاد ثم ظهر منهم العود إلى الالتزام بالدين، على أن أخذ الحذر من مثل هؤلاء لا يعني اتهامهم في دينهم ولا نزع الثقة منهم بالكلية.(1/459)
وممن ارتد عن الإسلام أيضاً أهل عمان: كان أهل عمان قد استجابوا لدعوة الإسلام، وبعث إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمرو بن العاص، ثم بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- نبغ فيهم رجل يقال له: لقيط بن مالك الأزدي، فادعى النبوة وتابعه الجهلة من أهل عمان، فتغلب عليها، فبعث إليه الصديق بأميرين هما: حذيفة بن محصن وعرفجة بن مهرة، وأمرهما أن يجتمعا ويتفقا، وأرسل عكرمة بن أبي جهل مددًا لهم، وبلغ لقيط بن مالك مجيء الجيش، فخرج في جموعه فعسكر بمكان يقال له: "دَبَا" وجعل الذراري والأموال وراء ظهورهم؛ ليكون أقوى لحربهم، فتقابل الجيشان هناك وتقاتلوا قتالاً شديدًا، وابتلي المسلمون وكادوا أن يولوا، فمنَّ الله بكرمه ولطفه أن بعث إليهم مددًا في الساعة الراهنة من بني ناجية وعبد القيس في جماعة من الأمراء، فلما وصلوا إليهم كان الفتح والنصر، فولَّى المشركون مدبرين وركب المسلمون ظهورهم، فقتلوا منهم عشرة آلاف مقاتل، وسبوا الذراري وأخذوا الأموال والسوق بحذافيرها، وبعثوا بالخمس إلى الصديق في المدينة.
وأيضاً ارتد أهل البحرين: فقد أسلم أهل البحرين بعدما أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- العلاء بن الحضرمي إلى ملكها وحاكمها المنذر بن ساوي العبدي، وقد أسلم هو وقومه وأقام فيهم الإسلام والعدل، فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوفي المنذر بن ساوي بعده بمدة قصيرة، ارتد أهل البحرين وملكوا عليهم المنذر بن النعمان.
وأرض البحرين تمتد من القطيف إلى عمان، فهي تشمل اليوم إمارات الخليج العربي والجزء الشرقي من المملكة عدا الكويت.(1/460)
بعث الصديق بجيش إلى البحرين بقيادة العلاء بن الحضرمي، فلما دنا من البحرين انضم إليه ثمامة بن أثال في محفل كبير من قومه، واستنهض المسلمين في تلك الأنحاء، فاجتمع إليه جيش كبير قاتل به المرتدين، فلما اقترب من الجيوش المرتدة وقد حشدوا وجمعوا خلقًا عظيمًا نزل ونزلوا وباتوا مجاورين في المنازل، فبينما المسلمون في الليل إذ سمع العلاء أصواتاً عالية في جيش المرتدين، فقال: من رجل يكشف لنا خبر هؤلاء؟ فقام عبد الله بن حذف فدخل فيهم فوجدهم سُكارى لا يعقلون من الشراب فرجع إليه فأخبره، فركب العلاء من فورهم والجيش معه فكبسوا أولئك فقتلوهم قتلاً عظيمًا وقلّ من هرب منهم، واستولى على جميع أموالهم وحواصلهم وأثقالهم، فكانت غنيمة عظيمة جسيمة، ثم ركب المسلمون في آثار المنهزمين يقتلونهم بكل مرصد وطريق، وذهب من فرّ منه أو أكثر إلى دارين، ركبوا إليها السفن، ثم شرع العلاء بن الحضرمي في قسمة الغنيمة ونفل الأنفال، ولما فرغ من ذلك قال للمسلمين: اذهبوا بنا إلى دارين لنغزو من بها من الأعداء، فأجابوا إلى ذلك سريعًا، فسار بهم حتى أتى ساحل البحر ليركبوا في السفن، فرأى أن الشقة بعيدة لا يصلون إليهم في السفن حتى يذهب أعداء الله، فاقتحم البحر بفرسه وهو يقول: يا أرحم الراحمين، يا حكيم يا كريم، يا أحد يا صمد، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت يا ربنا.(1/461)
وأمر الجيوش أن يقولوا ذلك ويقتحموا، ففعلوا ذلك فأجاز بهم الخليج بإذن الله على مثل رملة دمثة فوقها ماء لا يغمر أخفاف الإبل، ولا يصل إلى رُكَبِ الخيل، ومسيرته بالسفن يوم وليلة فقطعه إلى الجانب الآخر فعاد إلى موضعه الأول وذلك كله في يوم، ولم يترك من العدو مخبرًا، وساق الذراري والأنعام والأموال، ولم يفقد المسلمون في البحر شيئًا إلاّ عليقة فرس لرجل من المسلمين، ومع هذا رجع العلاء بها، ثم قسّم غنائم المسلمين فيهم، فأصاب الفارس ستة آلاف، والراجل ألفين مع كثرة الجيشين، وكتب إلى الصديق فأعلمه بذلك، فبعث الصديق يشكره على ما صنع، وقد قال رجل من المسلمين في مرورهم في البحر وهو عفيف بن المنذر:
ألم تر أن الله ذلل بحره ... وأنزل بالكفار إحدى الجلائل
دعونا إلى شق البحار فجاءنا ... بأعجب من فلق البحار الأوائل
وبعد هزيمة المرتدين رجع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين وضرب الإسلام بجرانه، وعز الإسلام وأهله وذل الشرك وأهله.
ومن المرتدين مسيلمة الكذاب: متنبئ من المعمّرين، وفي الأمثال: "أكذب من مسيلمة"، ولد ونشأ باليمامة وتلقب في الجاهلية بالرحمن، وعُرف برحمان اليمامة.
وكان مسيلمة يدعي النبوة والرسول -صلى الله عليه وسلم- بمكة، وكان يبعث بأناس إليها ليسمعوا القرآن ويقرؤوه على مسامعه، فينسج على منواله، وفي العام التاسع للهجرة الذي عمَّ فيه الإسلام ربوع الجزيرة العربية أقبل وفد بني حنيفة على مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلنون إسلامهم، وكان مسيلمة معهم، ولما رجع وفد بني حنيفة إلى اليمامة حيث ديارهم ادعى مسيلمة النبوة، وأعلن شراكته للرسول -صلى الله عليه وسلم- في النبوة، وفي العام العاشر للهجرة عندما أصيب النبي -صلى الله عليه وسلم- بمرض موته، تجرأ الخبيث فكتب رسالة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يزعم لنفسه فيها الشراكة معه في النبوة.(1/462)
وقد ذكر علماء التاريخ أنه كان يحاول أن يتشبه بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وبلغه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بصق في بئر فغزر ماؤه، فبصق مسيلمة في بئر فغاض ماؤه بالكلية، وفي أخرى فصار ماؤه أجاجًا، وتوضأ فسقي بوضوئه نخلاً فيبست وهلكت، وأتى بولدان يبرّك عليهم، فجعل يمسح رؤوسهم فمنهم من قرع رأسه ومنهم من لثغ لسانه، ويقال: إنه دعا لرجل أصابه وجع في عينيه فمسحهما فعمي.
كان أبو بكر –رضي الله عنه- قد أمر خالدًا إذا فرغ من أسد وغطفان ومالك بن نويرة أن يقصد اليمامة وأكد عليه في ذلك، سار خالد إلى قتال بني حنيفة باليمامة وعبأ معه المسلمين، وكان على الأنصار ثابت بن قيس بن شماس، فسار لا يمر بأحد من المرتدين إلا نكّل به، وسيّر الصديق جيشا كثيفًا مجهزًا بأحدث سلاح ليحمي ظهر خالد حتى لا يوقع به أحد من خلفه، وكان خالد في طريقه إلى اليمامة قد لقي أحياء من الأعراب قد ارتدت، فغزاها وردها إلى الإسلام، ولما سمع مسيلمة بقدوم خالد عسكر بمكان يقال له: "عقرباء" في طرف اليمامة، وندب الناس وحثهم على لقاء خالد، والتقى خالد بعكرمة وشرحبيل، فتقدم وقد جعل على مقدمة الجيش شرحبيل بن حسنة وعلى المجنبتين زيد بن الخطاب وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، ووضع خالد بن الوليد خطته الحربية وكان –رضي الله عنه- لا يستخف بعدوه، وكان في ميدان المعركة على أهبة وحذر دائمين مخافة أن يفجأه عدوه بغارة غادرة والتفاف مكر، وقد وصف –رضي الله عنه- بأنه: كان لا ينام ولا يبيت إلا على تعبأة، ولا يخفى عليه من أمر عدوه شيء.
وقد قدم خالد في هذه المعركة شرحبيل بن حسنة، وقسّم الجيش أخماسًا، على المقدمة خالد المخزومي، وعلى الميمنة أبو حذيفة، وعلى الميسرة شجاع، وفي القلب زيد بن الخطاب، وجعل أسامة بن زيد على الخيّالة.(1/463)
ولما تواجه الجيشان قال مسيلمة لأتباعه وقومه قبيل المعركة الفاصلة: اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم تُستنكح النساء سبيات، وينكحن غير حطيات، فقاتلوا على أحسابكم وامنعوا نساءكم، وتقدم خالد –رضي الله عنه- بالمسلمين حتى نزل بهم على كثيب يشرف على اليمامة فضرب به عسكره، واصطدم المسلمون والكفار فكانت جولة وانهزمت الأعراب حتى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد، وقتل زيد بن الخطاب، ثم تذامر الصحابة بينهم وقاتلت بنو حنيفة قتالاً لم يعهد مثله، وجعلت الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة بطل السحر اليوم، وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه وهو حامل لواء الأنصار بعدما تحنط وتكفن، فلم يزل ثابتًا حتى قتل هناك.
وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى أن تؤتى من قبلك؟ فقال: "بئس حامل القرآن أنا إذًا".
وقال زيد بن الخطاب:"أيها الناس عضوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم وامضوا قدمًا".
وقال: "والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكلمه بحجتي، فقتل شهيدًا –رضي الله عنه-.(1/464)
وقال أبو حذيفة:" يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال"، وحمل فيهم حتى أبعدهم، وأصيب –رضي الله عنه-، وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم وسار لقتال مسيلمة وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله، ثم رجع ثم وقف بين الصفين ودعا إلى المبارزة، وقال: أنا ابن الوليد، ثم نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ: "يا محمداه"، وجعل لا يبرز له أحد إلا قتله، وقد ميز خالد المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وكل بنى أب على رايتهم يقاتلون تحتها حتى يعرف الناس من أين يؤتون، وصبر الصحابة -رضي الله عنهم- في هذه المواطن صبرًا لم يعهد مثله، ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم وولى الكفار الأدبار واتبعوهم يقتلون في أقفائهم ويضعون السيوف في رقابهم حيث شاءوا، حتى ألجؤوهم إلى حديقة الموت، وقد أشار على المرتدين محكم اليمامة - وهو محكم بن الطفيل- بدخولها فدخلوها وفيها عدو الله مسيلمة، وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر محكم بن الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله، وأغلقت بنو حنيفة الحديقة عليهم وأحاط بهم الصحابة، وقدموا بطولات نادرة، منهم البراء بن مالك الذي قال: "يا معشر المسلمين، ألقوني عليهم في الحديقة"، فاحتملوه فوق الترس، ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقة من الباب الذي فتحه البراء، وفتح الذين دخلوا الأبواب الأخرى، وحوصر المرتدون وأدركوا أنها القاضية، وأن الحق جاء وزهق باطلهم، وخلص المسلمون إلى مسيلمة، وإذا هو واقف في ثلمة جدار كأنه جمل أورق، وهو يريد يتساند لا يعقل من الغيظ، وكان إذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه، فتقدم إليه وحشي بن حرب قاتل حمزة فرماه بحربته فأصابه، وخرجت من الجانب الآخر، وسارع إليه أبو دجانة سماك بن خرشة فضربه بالسيف فسقط، فكان جملة من قُتلوا في الحديقة وفي المعركة قريبًا من عشرة آلاف مقاتل، وقتل من المسلمين(1/465)
ستمائة، ثم بعث خالد الخيول حول اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي، وقد استشهد في معركة اليمامة عدد من سادات الصحابة منهم: ثابت بن قيس بن شماس.
وقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشره بالشهادة، وقتل يوم اليمامة شهيدًا، وكانت راية الأنصار يومئذ بيده.
واستشهد أيضاً زيد بن الخطاب –رضي الله عنه-: وهو أخو عمر بن الخطاب لأبيه وكان أكبر من عمر، أسلم قديمًا وشهد بدرًا وما بعدها، وقد آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين معن بن عدي الأنصاري وقد قتلا جميعًا باليمامة، وقد كانت راية المهاجرين يومئذ بيده فلم يزل يتقدم بها حتى قتل فسقطت، فأخذها سالم مولى أبي حذيفة، وقد قال عمر لما بلغه مقتل زيد بن الخطاب: "رحم الله أخي زيد سبقني إلى الحسنيين، أسلم قبلي واستشهد قبلي".
وقتل أيضاً عبد الله بن سهيل بن عمرو: ولما حج أبو بكر عزى أباه فيه، فقال سهيل: "بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((يشفع الشهيد لسبعين من أهله)) فأرجو أن يبدأ بي".
واستشهد أبو دجانة سماك بن خرشة: وكان أبو دجانة يوم اليمامة من أبطال المسلمين، فقد رمى بنفسه إلى داخل الحديقة فانكسرت رجله فقاتل وهو مكسور الرجل حتى قتل.
واستشهد أيضاً عبَّاد بن بشر: وقد أبلى يوم اليمامة بلاء حسنًا، فقد وقف على نشز مرتفع من الأرض، ثم صاح بأعلى صوته: "أنا عباد بن بشر، يا للأنصار يا للأنصار، ألا إليَّ ألا إليَّ"، فأقبلوا إليه جميعًا وأجابوه: لبيك لبيك، ثم حطّم جفن سيفه فألقاه، وحطّمت الأنصار جفون سيوفهم، ثم قال جملة صادقة: "اتبعوني"، فخرج حتى ساقوا بني حنيفة منهزمين حتى انتهوا بهم إلى الحديقة فأغلق عليهم.
ولما تمكن المسلمون من اقتحام باب الحديقة، ألقى درعه على بابها، ثم دخل بالسيف صلتا يجالدهم حتى قتل شهيدًا باليمامة وهو ابن خمس وأربعين سنة، ولم يعرف إلا بعلامة في جسده لكثرة ما فيه من الجراح –رضي الله عنه-.(1/466)
وقتل أيضاً الطفيل بن عمرو الدوسي: وقد رأى الرؤيا قبل استشهاده حيث قال: "خرجت ومعي ابني عمرو فرأيت كأن رأسي حُلق، وخرج من فمي طائر، وكأن امرأة أدخلتني فرجها، فأولتها: حلق رأسي قطعه، وأما الطائر فروحي، وأما المرأة فالأرض أدفن فيها"، فاستشهد يوم اليمامة.
وقد أبلى أبا سليمان خالد بن الوليد في معركة اليمامة بلاءً عجيباً وقدم بطولات نادرة، ففي معركة بزاخة: ضرَّس في القتال فجعل يقحم فرسه ويقولون له: الله الله! فإنك أمير القوم ولا ينبغي لك أن تتقدم، فيقول: "والله إني لأعرف ما تقولون، ولكن ما رأيتني أصبر وأخاف هزيمة المسلمين".
وفي معركة اليمامة لما اشتد القتال ولم يزد بني حنيفة ما قتل منهم إلا عنفًا وضراوة، برز حتى إذا كان أمام الصف دعا إلى المبارزة ونادى الناس بشعارهم يومئذ وكان: "يا محمداه"، فجعل لا يبرز له أحد إلا قتله ولا شيء إلا أكله، فقد كان يرغب في النصر ويتحرى الشهادة.
ولنترك لخالد يصف لنا جولة من المصارعة بينه وبين أحد جنود مسيلمة داخل حديقة الموت، قال: "ولقد رأيتني في الحديقة وعانقني رجل منهم وأنا فارس وهو فارس، فوقعنا عن فرسينا، ثم تعانقنا بالأرض، فأجؤه بخنجر في سيفي، وجعل يجؤني بمعول في سيفه، فجرحني سبع جراحات، وقد جرحته جرحًا أثبته به فاسترخى في يدي وما بي حركة من الجراح، وقد نزفت من الدم، إلا أنه سبقني بالأجل فالحمد لله على ذلك.
وقد شهد خالد لبني حنيفة على قوتهم وشدة بأسهم فقال: "شهدت عشرين زحفًا فلم أر قومًا أصبر لوقع السيوف ولا أضرب بها ولا أثبت أقدامًا من بني حنيفة يوم اليمامة، وما بي حركة من الجراح، ولقد أقحمت حتى أيست من الحياة وتيقنت الموت".(1/467)
وكان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من حفاظ القرآن، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر –رضي الله عنه- بمشورة عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- بجمع القرآن حيث جمع من الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال، وأسند الصدّيق هذا العمل العظيم إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري –رضي الله عنه-.
وقد استشهد كثير من المهاجرين والأنصار في هذه المعركة الفاصلة، وكانت المدينة على الرغم من فرحها بانتصار المسلمين على المرتدين ما زالت تبكي شهداءها، ففي حرب اليمامة وحدها قتل من المسلمين مائتان وألف، منهم عدد من كبار الصحابة، وفيهم أكثر حفاظ القرآن، نحو أربعين من القرّاء، وعصرت الأحزان قلب المدينة، وغمرت الدموع ابتسامات الفرح بالنصر، وضاقت الصدور، وثقلت المحنة على القلوب بقدر ما أضاء انتصار المسلمين غيابات النفوس، وقَوّى من إيمانهم، وغرس الثقة في أعماقهم.
لقد تركت حروب الردة آثارًا ونتائج لم تكن محدودة الزمان والمكان، وإنما شملت أجيالاً وآمادًا وتصورات، وأفكارًا وسلوكيات، وأحكامًا ما زالت تغذي الأجيال من بعدها وتمدها بالكثير.
ومن أهم تلك النتائج:
أولاً: تميز الإسلام عما عداه من تصورات وأفكار وسلوك: إن من نتائج أحداث الردة حفظ التصور الإسلامي من التحريف والتشويه، وأنْ تجردت الراية الإسلامية من العصبية الجاهلية والولاء المختلط، وصارت خالصة من أية شائبة.
ثانياً: أظهرت أحداث الردة معادن أصيلة في بنية قاعدة هذه الدولة، وكشفت عن عناصر صلبة، فلم يكونوا أفراداً متناثرين، ولكنهم كانوا يشكلون القاعدة لهذا المجتمع ولهذه الدولة، ولم تكن قاعدة رخوة أو هشة أو ساذجة، وإنما كانت قاعدة صلبة واعية، تدرك حقيقة نفسها وحقيقة عدوها وتعي أبعاد المخاطر من حولها، وتخطط بانتباه ويقظة كاملة في مواجهة كل الصعاب، وهي مع هذا وذاك موصولة بالقوي العزيز، ولهذا انتصرت على كل خصومها وأزالت كل العوائق من طريقها.(1/468)
ثالثاً: أصبحت جزيرة العرب بسكانها قاعدة الفتوح الإسلامية بعد ذاك، وصارت هي النبع الذي يتدفق منه الإسلام ليصل إلى أصقاع الأرض فاتحًا ومعلمًا ومربيًا.
رابعاً: ومن خلال أحداث الردة التي ميزت الصفوف وامتحنت الطاقات والقدرات، وكشفت عن الطبقة التي كانت تغطي معادن الأمة، ظهرت المعادن الخسيسة على حقيقتها وأعطيت القيادة للمعادن النفيسة الصلبة المصقولة لتمسك بزمام الأمور في حركة الفتوح القادمة.
خامساً: إن أية محاولة للتمرد على دين الإسلام سواء أقام بها فرد أم جماعة أم دولة، إنما هي محاولة يائسة مآلها الإخفاق الذريع والخيبة الشنيعة؛ لأن التمرد إنما هو تمرد على أمر الله المتمثل بكتابه الذي تكفّل بحفظه وحفظ جماعة تلتف حوله وتقيمه في نفوسها.
إن مصير الكائدين لدين الله هو البوار في الدنيا والآخرة، وما أجمل ما قال الشاعر:
كناطح صخرة يومًا ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
والحمد لله...
أبو بكر الصديق
الدرس الرابع
فتح العراق
ما إن انتهت حروب الردة واستقرت الأمور في الجزيرة العربية التي كانت ميدانًا لها، حتى شرع الصدّيق -رضي الله عنه- في تنفيذ خطة الفتوحات التي وضع معالمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجيَّش الصدّيق لفتح العراق جيشين:
الأول: بقيادة خالد بن الوليد، وكان يومئذ باليمامة، فكتب إليه يأمره بأن يغزو العراق من جنوبه الغربي، وقال له: "سر إلى العراق"، وأَمَره بأن يأتي العراق من أعاليها، وأن يتألف الناس ويدعوهم إلى الله -عز وجل-، فإن أجابوا وإلا أخذ منهم الجزية، فإن امتنعوا عن ذلك قاتلهم, وأَمَره أن لا يكره أحدًا على المسير معه، ولا يستعين بمن ارتد على الإسلام وإن كان عاد إليه، وأمره أن يستصحب كل امرئ مرّ به من المسلمين، وشرع أبو بكر في تجهيز السرايا والبعوث والجيوش إمدادًا لخالد -رضي الله عنه-.(1/469)
الجيش الثاني: بقيادة عياض بن غنم، وكان قريباً من الحجاز، فكتب إليه بأن يغزو العراق من شماله الشرقي بادئاً بالمصيخ، وقال له: "سر حتى المصيخ وابدأ بها، ثم ادخل العراق من أعلاها حتى تلقى خالدًا"، ثم أردف أَمْره هذا بقوله: "وأذن لمن شاء بالرجوع، ولا تستفتحا بمتكاره"، أي: لا تجبرا أحدًا على السير معكما للقتال إكراهًا، فمن شاء فليُقدم ومن شاء فليحجم.
وكتب الصدّيق -رضي الله عنه- إلى خالد وعياض بأن أيهما سبق إلى الحيرة صار أميراً على صاحبه، وقال: "إذا اجتمعتما إلى الحيرة وقد فضضتما مسالح فارس وأمنتما أن يُؤتَى المسلمون من خلفهم، فليكن أحدكما ردءًا للمسلمين ولصاحبه بالحيرة، وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم المدائن".
وكان المثنى بن حارثة قد قدم على أبي بكر وحثه على محاربة الفرس وقال له: "ابعثني على قومي، ففعل ذلك أبو بكر، فرجع المثنى وشرع في الجهاد بالعراق، ثم إنه بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبي بكر يستمده، فكتب معه أبو بكر إلى المثنى، أما بعد: "فإني قد بعثت إليك خالد بن الوليد إلى أرض العراق فاستقبله بمن معك من قومك، ثم ساعده ووازره وكانفه ولا تعصينّ له أمرًا ولا تخالفنّ له رأيًا، فما أقام معك فهو الأمير، فإن شخص عنك فأنت على ما كنت عليه".(1/470)
وكان من قوم المثنى رجل يدعى مذعور بن عدي، خرج عن المثنى بن حارثة وراسل الصدّيق وقال له: "أما بعد، فإني امرؤ من بني عجل -أحلاس الخيل أي: يلزمون ظهورها، وفرسان الصباح أي: يغيرون صباحًا- ومعي رجال من عشيرتي، الرجل خير من مئة رجل، ولي علم بالبلد وجراء على الحرب وبصر بالأرض، فولّني أمر السواد أكفِكَه إن شاء الله"، وكتب المثنى بن حارثة -رضي الله عنه- بشأن مذعور بن عدي إلى الصدّيق فقال له: "فإني أخبر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن امرءاً من قومي يقال له مذعور بن عدي أحد بني عجل في عدد يسير، وإنه أقبل ينازعني ويخالفني، فأحببت إعلامك ذلك لترى رأيك فيما هنالك".
ورد الصدّيق على مذعور بن عدي فقال له: "أما بعد: فقد أتاني كتابك وفهمت ما ذكرت وأنت كما وصفت نفسك وعشيرتك، وقد رأيت لك أن تنضم إلى خالد بن الوليد فتكون معه وتقيم معه ما أقام بالعراق، وتشخص معه إذا شخص".
وكتب إلى المثنى بن حارثة: "فإن صاحبك العجلي كتب إليَّ يسألني أمورًا، فكتبت إليه آمره بلزوم خالد حتى أرى رأيي، وهذا كتابي إليك آمرك أن لا تبرح العراق حتى يخرج منه خالد بن الوليد، فإذا خرج منه خالد بن الوليد فالزم مكانك الذي كنت به، وأنت أهلٌ لكل زيادة وجدير بكل فضل".
وهذا الموقف يُذكر للمثنى بن حارثة الشيباني الذي كان يقاتل الأعداء في العراق بقومه، ولما علم بذلك أبو بكر سرّه ما كان منه فأمَّره على مَنْ بناحيته وذلك قبل مجيء خالد، فلما توجهت همّة الصدّيق لغزو فارس رأى أن خالدًا أجدر القواد بهذه المهمة فوجهه لها، وكتب كتابًا إلى المثنى يأمره بالانضمام إلى خالد وطاعته، فما كان منه إلا أن سارع في الاستجابة ولحق بخالد هو وجيشه، وإن هذا موقف يُذكر للمثنى حيث لم يَغُرُّه كثرة جيشه ولا كونه أقدم من خالد في إمرة جيوش العراق، فلم يحمله ذلك على أن يرى أنه أحق بالقيادة من خالد.(1/471)
واستمد خالد أبا بكر أثناء سيره للعراق فأمده الصدّيق بالقعقاع بن عمرو التميمي فقيل له: أتمد رجلاً قد ارفضَّ عنه جنوده برجل؟ فقال: "لا يهزم جيش فيهم مثل هذا".
وهذه فراسة من أبي بكر بينتها أحداث العراق بعد ذلك، وقد كان أبو بكر أعلم الناس بالرجال وما يتصفون به من طاقات وكفاءات مختلفة.
لم يلبث خالد أن قدم العراق ومعه ألفا رجل ممن قاتل المرتدين وحشد ثمانية آلاف رجل من قبائل ربيعة، وكتب إلى ثلاثة من الأمراء في العراق قد اجتمعت لهم جيوش لغرض الجهاد وهم: مذعور بن عدي العجلي، وسُلمى بن القين التميمي، وحرملة بن مُريطَة التميمي، فاستجابوا وضموا جيوشهم التي بلغ تعدادها مع جيش المثنى ثمانية آلاف، فأصبح جيش المسلمين ثمانية عشر ألفًا.
وقد اتفقوا على أن يكون مكان تجمع الجيوش الأبلة، وقبل أن يسير خالد إلى العراق كتب إلى هرمز صاحب ثغر الأبلة كتاب إنذار يقول فيه: أما بعد: "فأسلم تسلم، أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقررْ بالجزية، وإلا فلا تلومنّ إلا نفسك، فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة".
وقد لجأ إلى هذا الأسلوب وهو نوع من الحرب النفسية؛ ليدخل الخوف والرعب في قلب هرمز وجنوده، وليوهن من قوتهم ويضعف من عزيمتهم، وحين قارب خالد العدو جعل الجيش ثلاث فرق، وأمر أن تسلك كل فرقة طريقًا، ولم يحملهم على طريق واحد، فجعل المثنى على فرقة المقدمة، ثم تلتها فرقة عليها عدي بن حاتم الطائي، وخرج خالد بعدهما وواعدهما الحضير، ليجتمعوا به ويصمدوا لعدوهم.
سمع هرمز بمسير خالد وعلم أن المسلمين تواعدوا الحضير، فسبقهم إليه وجعل على مقدمته القائدين قباذ وأنوشجان، ولما بلغ خالد أنهم يمموا الحضير عدل عنها إلى كاظمة فسبقه هرمز إليها، ونزل على الماء واختار المكان الملائم لجيشه، وجاء خالد فنزل على غير ماء، فقال لأصحابه: حطوا أثقالكم ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصيرنّ الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين.(1/472)
وحط المسلمون أثقالهم والخيل وقوف، وتقدم الراجلون وزحفوا إلى الكفار، ومنَّ الله تعالى بكرمه وفضله على المسلمين بسحابة فأمطرت وراء صفوف المسلمين، ونهلوا من غدرانها فتقوى بذلك المسلمون، وهذا مثل من الأمثلة الكثيرة الشاهدة على معية الله جل جلاله لأوليائه المؤمنين بنصره وإمداده.
وواجه المسلمون هرمز وكان مشهورًا بالخبث والسوء حتى ضُرب المثل بخبثه، فعمل مكيدة لخالد، وذلك أنه اتفق مع حاميته على أن يبارز خالدًا ثم يغدروا به ويهجموا عليه، فبرز بين الصفّين ودعا خالدًا إلى المبارزة فبرز إليه، والتقيا فاختلفا ضربتين واحتضنه خالد، فحملت حامية هرمز على خالد وأحدقوا به، فما شغله ذلك عن قتل هرمز، وما أن لمح ذلك البطل المغوار القعقاع بن عمرو حتى حمل بجماعة من الفرسان على حامية هرمز وكان خالد يجالدهم فأناموهم، وحمل المسلمون من وراء القعقاع حتى هزموا الفرس، وهذا هو أول المشاهد التي ظهر فيها صدق فراسة أبي بكر حينما قال عن القعقاع: "لا يهزم جيش فيه مثل هذا".
وأما خالد فقد ضرب أروع الأمثال في البطولة ورباطة الجأش، فقد أجهز على قائد الفرس وحاميته من حوله، فلم يستطيعوا تخليصه منه، ثم ظل يجالدهم حتى وصل إليه القعقاع ومن معه فقضى عليهم، وقد كان الفرس ربطوا أنفسهم بالسلاسل حتى لا يفروا فلم تغن عنهم شيئًا أمام الليوث البواسل.
وسميت هذه المعركة بمعركة ذات السلاسل، وغنم المسلمون من الفرس حمل ألف بعير، وبعث خالد سرايا تفتح ما حول الحيرة من حصون فغنموا أموالاً كثيرة، ولم يعرض خالد لمن لم يقاتلوه من الفلاحين بل أحسن معاملتهم كما أوصاه الصدّيق، وأبقاهم في الأرض التي يفلحونها ومكّنهم من إنتاجها ومتّعهم بثمرات عملهم، فمن دخل في الإسلام حدد له نصيب الزكاة، ومن بقي على دينه فرض عليه الجزية، وهو أقل بكثير مما كان ينهبه المالكون الفرس.(1/473)
ولم ينتزع الأرض من أيدي أصحابها الفرس، ولكنه أنصف العاملين فيها فأحسوا بأن عنصرًا جديدًا من العدل والإخاء الإنساني يشرف عليهم من خلال هذا الفتح المجيد، وأرسل خالد خمس الغنائم والأموال إلى الصدّيق ووزع الباقي على المجاهدين، وكان مما أرسله إلى الصدّيق قلنسوة هرمز، ولكن الصدّيق أهداها إلى خالد مكافأة له على حسن بلائه، وكانت قيمتها مائة ألف وكانت مفصصة بالجوهر، فقد كان أهل فارس يعملون قلانسهم على قدر أحسابهم في عشائرهم، فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف، فكان هرمز ممن تم شرفه في الفرس.
كان هرمز قد كتب إلى كسرى بكتاب خالد فأمده كسرى بجيش بقيادة "قارن"، ولكن هرمز استخف بجيش المسلمين فسارع إليهم قبل وصول قارن فنُكب ونَكب جيشه، وهرب فلول المنهزمين فالتقوا بجيش "قارن" وتذامروا فيما بينهم وتشجعوا على قتال المسلمين، وعسكروا بمكان يسمى "المذار"، وكان خالد قد بعث المثنّى بن حارثة وأخاه المعنّى في آثار القوم ففتحا بعض الحصون، وعلما بمجيء جيش الفرس فأبلغا خالدًا الخبر، وكتب خالد إلى أبي بكر بمسيره إليه، وسار وهو مستعد للقتال حتى لا يفاجأ بهم، والتقى المسلمون معهم في "المذار"، فاقتتلوا، والفرس قد أغضبهم وأثار حفيظتهم ما وقع لهم قبل ذلك، وخرج قائدهم "قارن" ودعا إلى المبارزة، فبرز إليه خالد ولكن سبقه إليه معقل بن الأعمش بن النبّاش فقتله.(1/474)
وكان "قارن" وضع على ميمنته "قباذ" وعلى ميسرته "أنوشجان"، وهما من القواد الذين حضروا اللقاء الأول وفروا من المعركة، فتصدى لهما بطلان من أبطال المسلمين، فأما "قباذ" فقتله عدي بن حاتم الطائي، وأما "أنوشجان"، فقتله عاصم بن عمرو التميمي، واشتد القتال بين الفريقين، ولكن الفرس انهزموا بعد مقتل قادتهم، وقتل منهم ثلاثون ألفاً، ولجأ بقيتهم إلى السفن فهربوا عليها، ومنع الماء المسلمين من ملاحقتهم، وأقام خالد بـ"المذار" وسلّم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت، وقسم الفيء ونفّل من الأخماس أهل البلاء، وبعث ببقية الأخماس إلى المدينة.(1/475)
وصل نبأ نكبة الفرس في "المذار" إلى كسرى، فبعث "الأندرزغر" على رأس جيش عظيم، وأردفه بجيش آخر عليه "بهمن جاذويه"، وتحرك "الأندرزغر" من المدائن حتى انتهى إلى "كسكر"، ومنها إلى "الولجة"، وخرج "بهمن جاذويه" سالكًا وسط السواد يريد أن يحشر جيش المسلمين بينه وبين "الأندرزغر"، واستطاع أن يحشر في طريقه عددًا من الأعوان والدهاقين، وتجمعت القوة الفارسية في "الولجة"، وعندما شعر "الأندرزغر" أن حشوده أصبحت كبيرة قرر الزحف على خالد، ولما بلغ خالد خبر تجمع الفرس ونزولهم "الولجة"، وكان بمكان قرب البصرة، رأى أن من الأفضل للمسلمين أن يهاجموا هذه الحشود الكبيرة من ثلاث جهات حتى يفرقوا جموعهم، وتكون المفاجأة للفرس مربكة، وأخذ يعد العدة لتنفيذ خطة الهجوم، ولكي يؤمّن خطوطه الخلفية أمر سويد بن مقرّن بلزوم "الحفير"، وتحرك بجيشه حتى وصل "الولجة" وبعد أن قام باستطلاع وافٍ للمنطقة وجد أن ميدان المعركة أرض مستوية وواسطة تصلح للقتال وتسمح بحرية الحركة، ولما كان خالد قد قرر أن يهاجم قوات الفرس من ثلاث جبهات فقد نفّذ خطته وبعث بفرقتين لمهاجمة حشود الفرس من الخلف والجانبين، وبدأت المعركة واشتد القتال بين الفريقين، وشدّد خالد بهجومه من المقدمة، وفي الوقت المناسب انقضّ الكمينان على مؤخرة جيش العدو فحلّت به الهزيمة المنكرة، وفر "الأندرزغر" مع عدد من رجاله ولكنهم ماتوا عطشًا، ثم خمّس الغنيمة وقسم أربعة أخماسها، وبعث الخمس إلى الصدّيق، وأسر من أسر من ذراري المقاتلة وأقرّ الفلاحون بالجزية.(1/476)
بعدها انضم بعض نصارى العرب إلى الأعاجم، وصاروا عونًا للفرس على المسلمين، وكان عليهم عبد الأسود العجلي وعلى الفرس "جابان"، وكان قد أَمَره "بهمن جاذويه" ألا ينازل المسلمين إلا أن يعجلوه، وبعد أن بلغ خالد تجمع نصارى العرب وعرب الضاحية من أهل الحيرة سار إليهم، وكان همّه متجهًا لمواقعتهم، ولا علم له بانضمام الفرس لجموع العرب، فلما أقبلت جنود المسلمين طلب "جابان" من جنده مهاجمتهم، فأظهروا عدم الاكتراث بخالد والتهاون بأمره وتداعوا إلى الطعام، إلا أن خالدًا لم يدعهم يهنؤون بطعامهم، واقتتلوا أشد القتال، وقد زاد في كلب الأعداء وشدتهم ما يتوقعون من لحاق "بهمن جاذويه" بهم في مدد كبير، وصبر المسلمون على هذا القتال العنيف، وقال خالد: "اللهم إن لك عليَّ إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدًا قدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم".
ثم إن الله كشفهم للمسلمين ومنحهم أكتافهم، فأمر خالد مناديه فنادى في الناس: الأسر الأسر، لا تقتلوا إلا من امتنع، فأقبلت الخيول بهم أفواجًا مستأسرين يساقون سوقاً، وقد وكّل بهم رجالاً يضربون أعناقهم في النهر، ففعل ذلك بهم يوماً وليلة، وطلبوهم الغد وبعد الغد حتى انتهوا.
ولما هُزموا وأُجلوا عن عسكرهم ورجع المسلمون من طلبهم ودخلوه، وقف خالد على الطعام فقال: "قد نفّلتُكموه فهو لكم"، وقال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أتى على طعام مصنوع نفّله"، فقعد عليه المسلمون لعشائهم بالليل، وجعل من لم ير الأرياف ولا يعرف الرقاق يقول: ما هذه الرقاق البيض؟! وجعل من قد عرفها يجيبهم ويقول لهم مازحًا: هل سمعتم برقيق العيش؟ فيقولون: نعم، فيقول: هو هذا، فسمي الرقاق، وكانت العرب تسميه القِرَى.
وصلت أخبار النصر إلى الصدّيق –رضي الله عنه- وما صنعه خالد والمسلمون فقال: "أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد".(1/477)
علم "مرزبان" الحيرة بما صنع خالد فأيقن أنه آتيه، فاستعد لذلك وأرسل جيشًا بقيادة ابنه ثم خرج في إثره، وأمر ابنه بسد الفرات ليعطل سفن المسلمين، وفوجئ المسلمون بذلك واغتموا له، فأرسلوا الفلاحين فأخبروهم بضرورة سد الأنهار حتى يسيل الماء، فماذا فعل خالد؟.
نهض خالد في خيل يقصد ابن المرزبان فلقي خيلاً من خيله ففاجأهم فأنامهم بالمقر، ثم نهض قبل أن تصل أخباره إلى "المرزبان" حتى لقي جندًا لابنه على فم الفرات فقاتلهم وهزمهم، وسد الأنهار وسلك الماء سبيله، ثم طلب خالد عسكره واتجه إلى الحيرة، وعلم "المرزبان" بموت ابنه وخبر موت "أزدشير"، فهاله الأمر فعبر الفرات هاربًا من غير قتال، فعسكر خالد مكانه وأهل الحيرة متحصنون، وأدخل خالد الخيل من عسكره، وتمت خطته حول قصور الحيرة بمحاصرتها، وعهد خالد إلى أمرائه أن يدعوا القوم إلى الإسلام، فإن أجابوا قبلوا منهم وإن أبوا أجَّلوهم يومًا وأمرهم أن لا يُمكنوا عدوًا منهم بل عليهم أن يناجزوهم، ولا يمنعوا المسلمين من قتال عدوهم ففعلوا، واختار القوم المنابذة وعمدوا لرمى المسلمين بالحذف، فرشقهم المسلمون بالنبل وشنوا غاراتهم وفتحوا الدور والديارات، فنادى القسيسون: يا أهل القصور ما يقتلنا غيركم، فنادى أهل القصور: يا معشر العرب قبلنا واحدة من ثلاث فكفوا عنا، وخرج رؤساء القصور فقابلهم خالد، كل أهل قصر على حدة، ولامهم على فعلهم، وتصالحوا مع خالد على الجزية، وصالحوه على مائة وتسعين ألفاً، وبعث خالد بالفتح والهدايا إلى أبي بكر، فقبل الهدايا وعدها لأهل الحيرة من الجزية تعففًا عما لم يأذن به الشرع، وقطعًا لدابر العادات الأعجمية التي كان يُحتال بها على سلب أموال الناس.
وكتب خالد معاهدة الصلح مع أهل الحيرة على دفع مائة وتسعين ألف درهم تقبل في كل سنة، وكانت كتابة هذا العهد في شهر ربيع الأول سنة 12 هـ.(1/478)
كان فتح الحيرة عملاً حربيًا عظيم القيمة, وسع أمل المسلمين في فتح بلاد فارس؛ لمكان هذا البلد الجغرافي والأدبي من العراق والمملكة الفارسية، فقد اتخذها القائد العام للجيوش الإسلامية مقرًا لقيادته ومركزًا رئيسيًا تتلقى منه جيوش الإسلام أوامر الهجوم والدفاع والإمداد والنظم، وكذلك جعلها قاعدة عامة للتدبير والسياسة التي يقوم عليها تنظيم من وقع في يد المسلمين، وبث خالد عمّاله على الولايات لجباية الخراج والجزاء، ووجه أمراءه إلى الثغور لحمايتها، وأقام هو ريثما يتم ما أراده من الاستقرار والنظام، وترامت أخباره إلى الدهاقين والرؤساء فأقبلوا إليه يصالحونه حتى لم يبقَ ما بين قرى سواد العراق إلى أطرافه من ليس مولى للمسلمين أو على عهد منهم.
بعد ذلك أجمع خالد أمره على منازلة الفرس في ساحات ملكهم بعد أن صفا له الجو في العراق وأمن ظهره بانحسار أمر فارس عن العرب, فيما بين الحيرة ودجلة، وكان أهل فارس في هذه الفترة على خلاف شديد فيمن يولّونه عليهم بعد موت كسراهم "أزدشير"، فانتهز خالد هذه الفرصة وكتب إلى خاصتهم يقول: "من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس: أما بعد، فالحمد لله الذي حلّ نظامكم، ووهن كيدكم، وفرّق كلمتكم، وأوهن بأسكم، وسلب أموالكم، وأزال عزّكم، فإذا أتاكم كتابي فأسلموا تسلموا أو اعتقدوا منا الذمة، وأجيبوا إلى الجزية، وإلا والله الذي لا إله إلا هو، لأسيرنّ إليكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدنيا".(1/479)
استقام الأمر لخالد في تلك الجهات فاستخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو التميمي، واتجه بتعبئة لإغاثة عياض بن غنم الذي أرسله الصدّيق لفتح العراق من الشمال ويلتقي بخالد، وصل خالد إلى الأنبار فوجد القوم قد تحصّنوا وخندقوا على أنفسهم وأشرفوا على أعلى الحصون، فضرب المسلمون عليهم الحصار، وأمر خالد جنوده أن يصوّبوا إلى عيون أهل الأنبار، فلما نشب القتال أصابوا في أول رمية ألف عين من عيونهم، ولذلك سميت هذه الوقعة "ذات العيون".
واخترق خالد الخندق الذي حول الأنبار بفطنة وذكاء، حيث عمد إلى الضعاف من الإبل بجيشه فنحرها وملأ الخندق في أضيق نقطة فيها بجثث الإبل، واقتحم المسلمون الخندق وجِسرُهم جثث الإبل، وصاروا مع عدوهم داخل الخندق، فالتجأ العدو إلى الحصن، واضطر "شيراز" قائد جند الفرس إلى قبول الصلح بشروط خالد على أن يخرج من الأنبار في عدد من الفرسان يحرسونه، فقبل خالد منه ذلك بشرط ألا يأخذ معه من المتاع أو من الأموال شيئًا.
استخلف خالد "الزبرقان بن بدر" على الأنبار وسار إلى عين التمر، فوجد "عقة بن أبي عقة" في جمع عظيم ومعهم من الفرس "مهران" بقواته، وطلب "عقة" من "مهران" أن يتركه لقتال خالد وقال له: إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالدًا، فقال له: دونكم وإياهم، وإن احتجتم إلينا أعنَّاكم، فلامت العجم أميرهم على هذا، فقال: دعوهم فإن غَلبوا خالدًا فهو لكم، وإن غُلبوا قاتلنا خالدًا وقد ضعفوا ونحن أقوياء، فاعترفوا له بفضل الرأي عليهم، وسار خالد وتلقاه "عقة"، فلما تواجهوا قال خالد لمجنبته: "احفظوا مكانكم فإني حامل، وأمر حماته أن يكونوا من ورائه".
وحمل على "عقة" وهو يسوي الصفوف فاحتضنه وأسره، وانهزم جيش "عقة" من غير قتال فأكثروا فيهم الأسر.(1/480)
وقصد خالد حصن عين التمر، فلما بلغ "مهران" هزيمة "عقة" وجيشه نزل من الحصن وهرب وتركه، ورجعت فلول نصارى الأعراب إلى الحصن فوجدوه مفتوحًا فدخلوه واحتموا به، فجاء خالد وأحاط بهم وحاصرهم أشد الحصار، واضطر أهل الحصن أن ينزلوا على حكم خالد، فأمر بضرب عنق "عقة" ومن كان أسر معه والذين نزلوا على حكمه أجمعين، وغنم جميع ما في ذلك الحصن، ووجد في الكنيسة التي به أربعين غلامًا يتعلمون الإنجيل وعليهم باب مغلق، فكسره خالد وفرقهم في الأمراء وأهل الغناء.
وكان "حمران" مولى عثمان بن عفان من ذلك الخمس، ومنهم "سيرين" والد محمد بن سيرين، أخذه مالك بن أنس، وأرسل خالد الخمس إلى الصدّيق.
بعدها أرسل أبو بكر الوليد بن عقبة إلى عياض مددًا له وهو محاصر دومة الجندل، فلما قدم عليه وجده في ناحية من العراق يحاصر قومًا، وهم قد أخذوا عليه الطرق فهو محصور أيضًا، فقال عياض للوليد: إن بعض الرأي خير من جيش كثيف، ماذا ترى فيما نحن فيه؟ فقال له الوليد: اكتب إلى خالد يمدك بجيش من عنده، فكتب إليه يستمده فقدم كتابه على خالد عقب وقعة عين التمر وهو يستغيث به، فكتب إليه: "من خالد إلى عياض: إياك أريد، لبِّث قليلاً تأتك الحلائب، يحملن آساداً عليها القشائب، كتائب تتبعها كتائب".
رحل خالد بجنده من عين التمر ووصلت أنباؤه إلى أهل دومة الجندل فاستنجدوا بحلفائهم، وكان أمر أهل دومة الجندل إلى زعيمين هما: أكيدر بن عبد الملك، والجودي بن ربيعة، فاختلفا، فقال أكيدر: أنا أعلم الناس بخالد، لا أحد أيمن طائرًا منه، ولا أحدَّ في حرب، ولا يرى وجه خالد قوم أبدًا قلُّوا أو كثروا إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوا القوم، فأبوا عليه فقال: لن أمالئكم على حرب خالد فشأنكم.(1/481)
نزل خالد على دومة الجندل وجعل أهلها بين فكي كماشة، ذراعها الأولى عسكره، والثانية عسكر عياض بن غنم، وتقدم الجودي بن ربيعة بجنوده نحو خالد، وتقدم "ابن الحدرجان" و"ابن الأيهم" بجنودهما ناحية عياض، ودارت المعركة وأنزل خالد الهزيمة بالجودي وأتباعه، وانتزع عياض النصر من ابن الحدرجان ومن معه بصعوبة، وحاولت فلول المنهزمين الاحتماء بالحصن ولكنه كان قد عجّ بمن فيه فأغلقوه عليهم وتركوا أصحابهم حوله في العراء، ولم يلبث خالد أن هاجم من بداخل الحصن بعد أن اقتلع بابه فقتل منهم جموعًا كثيرة.
وبفتح دومة الجندل أصبح للمسلمين موقع استراتيجي ذو أهمية فريدة، ولو أن دومة الجندل لم تذعن للمسلمين لبقي أمرهم في العراق تحفّه المخاطر.(1/482)
بعد أن بسط خالد راية الإسلام على العراق، واستسلمت له قبائل العرب قصد منطقة "الفِِرَاض"، وهي تخوم الشام والعراق والجزيرة، حتى يحفظ ظهره ويأمن من أن تكون وراءه عورة عند اجتيازه أرض السواد إلى فارس، فلما اجتمع المسلمون بالفِراض، غضب الروم وهاجوا واستعانوا بمن يليهم من مسالح الفرس، فلبسوا سراعًا؛ لأنهم كانوا حانقين على المسلمين الذين أذلوهم وكسروا شوكتهم، كما استمدوا العرب من تغلب وإياد والنمر فأمدوهم؛ لأنهم لم ينسوا بعد مصرع رؤسائهم وأشرافهم، فاجتمعت جيوش الفرس والروم والعرب على المسلمين في تلك الموقعة، فلما بلغوا الفرات قالوا للمسلمين: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم، فقال خالد: "بل اعبروا إلينا"، قالوا: فتنحوا حتى نعبر، فقال خالد: "لا نفعل ولكن اعبروا أسفل منا"، وذلك للنصف من ذي القعدة سنة اثنتي عشرة. فقالت الروم وفارس بعضهم لبعض: احتسبوا ملككم، هذا رجل يقاتل على دين وله عقل وعلم، والله ليُنْصرنّ ولنُخْذَلَنّ، ثم لم ينتفعوا بذلك، فعبروا أسفل من خالد، فلما تتاموا قالت الروم: امتازوا حتى نعرف اليوم ما كان من حَسنٍ أو قبيح من أينا يجيء! ففعلوا فاقتتلوا قتالًا شديدًا طويلاً، ثم إن الله -عز وجل- هزمهم، وقال خالد للمسلمين: ألحّوا عليهم ولا ترفهوا عنهم، فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه فإذا جمعوهم قتلوهم، وقتل من الأعداء عشرات الألوف، وأقام خالد في الفراض عشرة أيام، ثم أمر جيشه بالرجوع للحيرة.
وهكذا واجه المسلمون لأول مرة جيشًا مكوناً من الفرس الذين يمثلون دولة المشرق العظمى، والروم الذين يمثلون دولة المغرب العظمى، والعرب الموالين لهؤلاء وهؤلاء، ومع ذلك انتصر المسلمون عليهم انتصارًا ساحقًا، ولا شك أن هذه المعركة تعتبر من المعارك التاريخية الفاصلة، وإن لم تنل من الشهرة ما نالته المعارك الكبرى؛ لأنها حطمت معنويات الكفار على مختلف انتماءاتهم حيث هزموا جميعًا.(1/483)
وهذه المعركة تعتبر خاتمة المعارك التي خاضها سيف الله المسلول خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في العراق، وانكسرت شوكة الفرس بعد هذه المعركة، ولم تقم لهم قوة حربية يخشاها الإسلام بعد هذه الموقعة. ومما قاله القعقاع بعد عمرو في هذه المعركة:
لقينا بالفِراض جموع روم ... وفرس غَمَّها طول السلام
أَبَدْنَا جمعهم لما التقينا ... وبيَّتنا بجمع بني رزام
فما فتئت جنود السلم حتى ... رأينا القوم كالغنم السوام
أقام خالد بالفِراض عشرة أيام، ثم أذن بالقفول إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير في المقدمة، وأمر شجرة بن الأعز أن يسير في الساقة، وأظهر خالد أنه يسير في الساقة، ثم انطلق في كوكبة من أصحابه وقصد شطر المسجد الحرام وسار إلى مكة في طريق لم يُسلك قبله قط، وتأتّى له في ذلك أمر لم يقع لغيره، فجعل يسير معتسفًا على غير جادة حتى انتهى إلى مكة، فأدرك الحج هذه السنة، سنة 12هـ، ثم عاد فأدرك أمر الساقة قبل أن يصلوا الحيرة، ولم يعلم أبو بكر الصدّيق بذلك أيضًا إلا بعدما رجع أهل الحج من الموسم، فبعث يَعتَب عليه في مفارقته الجيش، وأَمَره بالذهاب لفتح الشام بعدما فتح العراق، وكان المرشح للبقاء على جيوش العراق بعد سفر خالد، المثنى بن حارثة الشيباني؛ لخبرته الواسعة بأرض العراق، ومهارته الفائقة في حرب الفرس.
كان تعيين الصدّيق للمثنى على العراق في محله ويدل على معرفته بأقدار الرجال ومعادنهم، وعندما حان وقت رحيل خالد بجيشه إلى الشام خرج معه المثنى لوداعه، ولما حانت لحظة الفراق قال له خالد: ارجع رحمك الله إلى سلطانك غير مقصر ولا وان.
وتسلم المثنى قيادة العراق بعد خالد، وما إن علم كسرى بذهاب خالد حتى حشد آلاف الجنود بقيادة "هرمز جاذويه"، وكتب للمثنى يهدد ويتوعد، فقال: إني قد بعثت إليكم جندًا من وحش أهل فارس، وإنما هم رعاة الدجاج والخنازير، ولست أقاتلك إلا بهم.(1/484)
وأجابه المثنى بعقل وفطنة، ولم ينس شجاعته في الرد على هذا المجوسي، فكتب يقول في رسالة لكسرى: "إنما أنت أحد رجلين: إما باغ فذلك شر لك وخير لنا، وإما كاذب فأعظم الكذّابين عقوبة وفضيحة عند الله وعند الناس الملوك، وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما اضطررتم إليهم، فالحمد لله الذي ردَّ كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير"، فجزع أهل فارس من هذا الكتاب ولاموا ملكهم على كتابه، واستهجنوا رأيه.
وسار المثنى من الحيرة إلى بابل، ولما التقى المثنى وجيشهم بمكان عند عدوة الصَّراة الأولى اقتتلوا قتالاً شديدًا جدًا، وأرسل الفرس فيلاً بين صفوف الخيل؛ ليفرق خيول المسلمين، فحمل عليه أمير المسلمين المثنى بن حارثة فقتله، وأمر المسلمين فحملوا، فلم تكن إلا هزيمة الفرس فقتلوهم قتلاً ذريعًا، وغنموا منهم مالاً عظيمًا، وفرّت الفرس حتى انتهوا إلى المدائن في شر حالة ووجدوا الملك قد مات.(1/485)
وعاد الاضطراب إلى بلاد فارس، وطارد المثنى أعداء الله حتى بلغ أبواب المدائن، ثم كتب إلى أبي بكر بانتصاره على الفرس، واستأذنه في الاستعانة بمن تابوا من أهل الردة، لكن انتظاره طال، وأبطأ عليه أبو بكر في الرد لتشاغله بأهل الشام وما فيه من حروب، فسار المثنى بنفسه إلى الصدّيق واستناب على العراق بشير بن الخصاصية، وعلى المسالح سعيد بن مرة العجلي، فلما وصل المدينة وجدوا أبا بكر –رضي الله عنه- على فراش المرض وقد شارف على الموت، واستقبله أبو بكر واستمع إليه واقتنع برأيه، ثم طلب عمر بن الخطاب فجاءه، فقال له: "اسمع يا عمر ما أقول لك ثم اعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا، فإن أنا مت فلا تمسينّ حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تشغلنّكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم، وقد رأيتني متوفَّى رسول الله وما صنعت ولم يصب الخلق بمثله، وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فإنهم أهله وولاة أمره وحدّه، وهم أهل الضراوة بهم والجراءة عليهم.
ونكمل بإذن الله تعالى درساً آخر بفتح الشام.
الحمد لله...
بسم الله الرحمن الرحيم
أبو بكر الصديق
الدرس الخامس
فتح الشام(1/486)
كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يفكر في فتح الشام، ويجيل النظر ويقلب الرأي في ذلك، وبينما كان الصديق مشغولًا بذلك الأمر جاء شرحبيل بن حسنة أحد قواد المسلمين في حروب الردة فقال: "يا خليفة رسول الله، أتُحدِّث نفسك أنك تبعث إلى الشام جندًا؟"، فقال: "نعم، قد حدثت نفسي بذلك وما أَطلعتُ عليه أحدًا وما سألتني عنه إلا لشيء"، قال: "أجل إني رأيت يا خليفة رسول الله فيما يرى النائم كأنك تمشي في الناس فوق خَرْشفة من الجبل -يعني مسلكًا وعرًا- حتى صعدتَّ قُنَّة من القنات العالية فأشرفتَ على الناس ومعك أصحابك، ثم إنك هبطت من تلك القنّات إلى أرض سهلة دمثة -يعني لينة- فيها الزرع والقرى والحصون، فقلت للمسلمين: شنوا الغارة على أعداء الله وأنا ضامن لكم بالفتح والغنيمة، وأنا فيهم معي راية، فتوجهتُ بها إلى أهل قرية فسألوني الأمان فأمّنتهم، ثم جئتُ فأجدُكَ قد انتهيت إلى حصن عظيم ففتح الله لك وألقوا إليك السلم، ووضع الله لك مجلسًا فجلست عليه، ثم قيل لك: يفتح الله عليك وتُنصر فاشكر ربك واعمل بطاعته، ثم قرأ: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [(1-3) سورة النصر]، ثم انتبهت"، فقال له أبو بكر: "نامت عينك، خيرًا رأيت، وخيراً يكون إن شاء الله"، ثم قال: "بُشِّرتُ بالفتح ونُعِيَتْ إليَّ نفسي"، ثم دمعت عينا أبي بكر، فدعا إلى عقد مجلس شورى بخصوص غزو الشام، فقد أخذ الصدّيق بالعزيمة والعمل والتوكل على الله واستأنس بالرؤيا.(1/487)
ولما أراد أبو بكر –رضي الله عنه- أن يجهّز الجنود إلى الشام دعا عمر وعثمان وعليًا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بن الجراح ووجوه المهاجرين والأنصار من أهل بدر وغيرهم، فدخلوا عليه، فاستشارهم في جهاد الروم بأرض الشام، فأشار عمر بن الخطاب برأي، وأشار عبد الرحمن بن عوف برأي آخر، فكان رأي عمر إرسال الجيوش تلو الجيوش حتى تتجمع في الشام فتكون قوة كبيرة تستطيع أن تصدر للأعداء، وكان رأي عبد الرحمن بن عوف أن يبدأ الغزو بقوات صغيرة تغير على أطراف الشام ثم تعود إلى المدينة، حتى إذا تم إرهاب العدو وإضعافه تبعث الجيوش الكبيرة، وقد أخذ أبو بكر برأي عمر في هذا الأمر، واستفاد من رأي عبد الرحمن بن عوف فيما يتعلق بطلب المدد بالجيوش من قبائل العرب، وخاصة أهل اليمن، فكتب الصدّيق إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله، وبعث هذا الكتاب مع أنس بن مالك –رضي الله عنه-، فخرج أهل اليمن ينساحون من جميع أرجاء اليمن بأعداد هائلة، خرجوا طواعية، وأقبلت جموعهم بنسائهم وأولادهم وكانوا من أسرع المستجيبين للنداء حبًّا ورغبة في الجهاد، بل إن ملوك اليمن قدموا على الصدّيق وقد تخلوا عن التيجان المثقلة بالجواهر، وتركوا حلل المخمل الموَشّى بخيوط الذهب والياقوت والدر والمرجان، واشتروا من سوق المدينة ثيابًا خشنة، ووضع الصدّيق في بيت المال ما تخلوا عنه جميعًا من نفائس.
عزم الصدّيق على تسيير الجيوش لبلاد الشام فدعا الناس إلى الجهاد، وعقد الألوية لأربعة جيوش أرسلها لفتح الشام، وهي:
أولاً: جيش يزيد بن أبي سفيان: وهو أول الجيوش التي تقدمت إلى بلاد الشام، وكانت مهمته الوصول إلى دمشق وفتحها ومساعدة الجيوش الأخرى عند الضرورة، وكان جيش يزيد أول الأمر ثلاثة آلاف، ثم عززه الخليفة بالإمدادات حتى صار معه بحدود السبعة آلاف رجل.(1/488)
ثانياً: جيش شرحبيل بن حسنة: حدّد أبو بكر الصدّيق لمسير شرحبيل ثلاثة أيام بعد مسير يزيد بن أبي سفيان، فلما مضى اليوم الثالث ودَّع أبو بكر شرحبيل، وكان جيش شرحبيل ما بين ثلاثة إلى أربعة آلاف، وأمره أن يسير إلى تبوك والبلقاء ثم بصرى، وهي آخر مرحلة.
وتقدم شرحبيل نحو البلقاء حيث لم يلق مقاومة تذكر، فأوغل في البلقاء حتى بلغ بصرى فأخذ يحاصرها، فلم يوفق في فتحها؛ لأنها كانت من المراكز الحصينة.
ثالثاً: جيش أبي عبيدة بن الجراح: وكان جيشه يتراوح ما بين ثلاثة إلى أربعة آلاف مجاهد، وهدف ذلك الجيش حمص، وكان في صحبة أبي عبيدة بن الجراح، فارس من فرسان العرب المشهورين، وهو: قيس بن هبيرة بن مسعود المرادي.
رابعاً: جيش عمرو بن العاص: وجه الصدّيق عمرو بن العاص بجيش إلى فلسطين، وكان تعداده يتراوح من ستة إلى سبعة آلاف مجاهد.
وأمر الصديق –رضي الله عنه- كل أمير أن يسلك طريقاً غير طريق الآخر؛ لما لحظ في ذلك من المصالح، وكانت الجيوش المكلفة بفتح بلاد الشام تلاقي صعوبة في تنفيذ المهمات الموكلة إليها، فقد كانت تواجه جيوش الإمبراطورية الرومانية التي تمتاز بقوتها وكثرة عددها، وقد بنت الحصون والقلاع للدفاع عن مراكز المدن، واستخدمت أسلوب الكراديس في تنظيم جيوشها.
لقد كان للروم في الشام جيشان كبيران أحدهما في فلسطين والآخر في أنطاكية، وتمركز هذان الجيشان في ستة مواضع: أنطاكية وقنِّسرين وحمص وعمَّان وأجنادين وقيسارية، أما مقر القيادة العامة فهو أنطاكية أو حمص.
وعندما شهد قائد الروم هرقل الذي كان يشرف على الموقف بنفسه في "إيليا" توغلَ الجيوش الإسلامية، أصدر أوامره إلى قواته بالتوجه لتدمير هذه الجيوش.(1/489)
استطاع المسلمون الحصول على المعلومات الدقيقة عن تفاصيل الخطة الرومية التي كان قد وضعها هرقل لتدمير الجيوش الإسلامية كل على انفراد، وراسل قادة المسلمين الخليفة بالمدينة، فشرع الصدّيق في إمداد الجيوش الإسلامية ببلاد الشام بالرجال والسلاح والخيول وما يحتاجونه، ودعا هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وأرسله مدداً إلى الشام وحث الناس للخروج معه، ثم انصرف أبو بكر –رضي الله عنه- إلى منزله ومال الناس على هاشم حتى كثروا عليه، فلما أتموا ألفًا أمره أبو بكر أن يسير، فسار حتى لحق بجيش أبي عبيدة.
وبعد ذهاب هاشم بن عتبة بمدة أمر أبو بكر بلالاً فنادى في الناس ألا انتدبوا أيها المسلمون مع سعيد بن عامر إلى الشام، فانتدب معه سبعمائة رجل في أيام يسيرة، وكان أبو بكر قد أمر سعيد بن عامر أن يسير حتى يلحق بيزيد بن أبي سفيان، وكانت وفود الجهاد تتوافد على المدينة، ويقوم الصدّيق بتوجيهها.
كانت قيادة الجيوش الإسلامية بالشام تتابع تطور حركة الجيوش الرومانية، وشعر القادة بخطورة الموقف فعقدوا مؤتمرًا بالجولان، وكتب أبو عبيدة إلى الخليفة يشرح له الموقف، وفي الوقت نفسه قرروا الانسحاب من جميع الأراضي التي تم فتحها وتجمعوا في مكان واحد ليتمكنوا من إحباط خطة الرومان وإجبارهم على خوض معركة فاصلة تخوضها كل الجيوش الإسلامية.
وكان عمرو بن العاص أشار على القادة أن يكون التجمع باليرموك، وجاء رأي الصدّيق مطابقًا لرأي عمرو بن العاص في اختيار مكان التجمع، واتفقوا أن يتم الانسحاب مع تجنب الاشتباك مع العدو، فانسحب أبو عبيدة من حمص، وانسحب شرحبيل بن حسنة من الأردن، وانسحب يزيد بن أبي سفيان من دمشق، وأخذ عمرو بن العاص في الانسحاب تدريجيًا من فلسطين، ولكنه لم يستطع الانسحاب منها حتى نجده خالد بن الوليد قبل اليرموك، فظل يناور في بئر السبع لمتابعة الروم له، وبذلك شنّ المسلمون هجومًا مضادًا فكانت معركة أجنادين.(1/490)
وقرر الصدّيق أن ينقل خالد بن الوليد بجيشه من العراق إلى الشام وأن يتولى قيادة الجيوش بها، فالأمر بالشام يحتاج إلى قائد يجمع بين قدرة أبي عبيدة، ودهاء عمرو، وحنكة عكرمة، وإقدام يزيد، وأن يكون صاحب قدرة عسكرية فائقة مع قدرة على حسم الأمور، وصاحب دهاء وحيلة وإقدام، وصاحب حنكة ودراية مع دقة في تقدير المواقف، وصاحب تجربة طويلة في المعارك، فوقع اختيار الصدّيق على خالد بن الوليد فكتب إليه بالعراق، ونفّذ ابن الوليد تعاليم الخليفة، ووصل بجيشه إلى الشام بعد رحلة عبر الصحراء لم يذكر التاريخ شبيهًا لها.
تهيأ خالد للسير إلى الشام، وانطلق ليعبر من العراق إلى الشام صحاري رهيبة غائبة النواحي مترامية الآفاق كأنما هي التيه، وسأل الأدلاء: كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم؟ فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين! قالوا له: لا نعرف إلا طريقًا لا يحمل الجيوش، فوالله إن الراكب المفرد ليخافه على نفسه! إنك لن تطيق ذلك الطريق بالخيل والأثقال، إنها لخمس ليال لا يصاب فيها ماء.
قال خالد: "إنه لا بد من ذلك لأخرج من وراء جموع الروم"، وعزم خالد على سلوك هذا الطريق مهما تكن مخاطره، فنصحه رافع بن عُمير أن يستكثر من الماء حتى يجتاز ذلك الطريق، فأمر خالد جنوده أن يخزنوا الماء في بطون الإبل العطاش، ثم يشدوا مشافرها لكيلا تجتر فتستنزف الماء، وقال لرجاله: "إن المسلم لا ينبغي أن يكترث بشيء يقع فيه مع معونة الله له".
وسار به الدليل رافع بن عمير في طريق تمتاز بوعورتها، وقلة مائها، وضياع معالمها، وقلة سكانها، إلا أنها أقصر الطرق، فأوضح خالد لجنده الاعتبارات التي تجعله يفضل سلوك هذا الطريق على غيره، وهي السرعة والسرية والمباغتة.(1/491)
وكان رافع قد طلب من خالد أن يهيئ عشرين ناقة كبيرة، فأعطاه ما أراد، فمنع عنها الماء أيامًا حتى عطشت، ثم أوردها إياه فملأت جوفها فقطع مشافرها وكممها فلا تجتر، ثم قال لخالد: "سر الآن بالخيول والأثقال"، وكلما نزلت منزلا نحرت من تلك الإبل وشرب الناس مما تزودوا.
فسار الجيش من "قراقر"، وهي آخر قرى العراق على حدود الصحراء، إلى "سوى" وهي أوائل قرى الشام، والمسافة بينهما خمس ليال يستريحون بالنهار ويسيرون بالليل، واعتمد خالد على رافع بن عمير دليلاً بعد أن وثق به ومن صحة دلالته، واختار محرز المحاربي لحذقه في الدلالة على النجوم، لذلك كان مسيرهم ليلاً وصباحًا مع تحاشي السير عند ارتفاع النهار والظهيرة لقطع مرحلتين في اليوم الواحد، ولم يترك خالد أحدًا من جنده يسير راجلاً وإنما أركب الجند الإبل للمحافظة على قابليتهم البدنية.
وسار خالد في الطريق، وكلما نزل منزلاً نحر عددًا من النوق فأخذ ما في أكراشها فسقاه الخيل، ثم شرب الناس مما حملوا من الماء، فلما كان اليوم الخامس نفد الماء، فخاف خالد على أصحابه من العطش، وقال لرافع وهو أرمد: "ما عندك؟"، فطلب رافع من الناس أن يبحثوا عن شجرة عوسج صغيرة في تلك المنطقة فلم يجدوا إلا جزءًا صغيرة من ساقها، فأمر رافع أن يحفروا هناك، فحفروا فظهرت عين للماء، فشربوا حتى روى الناس، فاتصلت بعد ذلك لخالد المنازل.
وقد قال بعض العرب لخالد في هذا المسير: "إن أنت أصبحت عند الشجرة الفلانية نجوت أنت ومن معك، وإن لم تدركها هلكت أنت ومن معك، فسار خالد بمن معه فأصبحوا عندها، فقال خالد: "عند الصباح يحمد القوم السُّرى"، فأرسلها مثلاً وهو أول من قالها –رضي الله عنه-.(1/492)
وصل خالد إلى "أدك" -وهي أول حدود الشام- فأغار على أهلها وحاصرهم فحررها صلحًا، ثم نزل "تدمر" فامتنع أهلها وتحصنوا، ثم طلبوا الأمان فصالحهم وواصل سيره، فأتى "القريتين" فقاتله أهلها فظفر بهم، ثم قصد "حوارين" وصار إلى موضع يعرف بالثّنية، فنشر رايته، وهي كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسمى "العُقَاب"، فسمي ذلك الموضع بثنية العُقاب، ولما مرَّ بعذراء أباحها وغنم لغسّان أموالاً عظيمة، وخرج من شرقي دمشق، ثم سار حتى وصل إلى قناة بصرى، فوجد الصحابة تحاربها فصالحه صاحبها وسلمها إليه، فكانت أول مدينة فتحت من الشام، وبعث خالد بأخماس ما غنم من غسان مع بلال بن الحرث المزني إلى الصدّيق، ثم سار خالد وأبو عبيدة ومرثد وشرحبيل إلى عمرو بن العاص، وقد قصده الروم، فكانت معركة أجنادين.(1/493)
وصل خالد إلى الشام وفتح بصرى واجتمع بقيادة المسلمين أبي عبيدة وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان، ودرس الموقف العسكري واطلع على أدق تفاصيله، كما اطلع على موقف عمرو بن العاص الذي كان ينسحب محاذاة ضفة نهر الأردن لكي يلتقي بجيوش المسلمين الأخرى، ومحاذرًا للاشتباك معه في معركة فاصلة، إلا أن عَمْرًا كان في تمام اليقظة والحذر وعلى علم تام بأنه ليس من مصلحته الاشتباك في مثل هذه المعركة؛ لأن جيشه لم يكن يتجاوز السبعة آلاف بينما كان جيش الروم يقارب السبعين ألفاً، وبعد أن درس خالد الموقف العسكري رأى أن أمامه خيارين: فإما أن يسرع وينضم إلى جيش عمرو ويخوض وإياه معركة فاصلة فيقضي على قوة الروم الكبيرة فيتعزز الموقف العسكري للجيش الإسلامي ويصون خط رجعته ويحمي جناحه الأيسر ويثبت أقدام المسلمين في فلسطين، وإما أن يقف مكانه ويوعز إلى عمرو بالانضمام إليه ثم ينتظر قوات الروم التي كانت تزحف نحوه من دمشق ليخوض معها معركة فاصلة، وقد فضّل خالد أن يأخذ الخيار الأول؛ لأن التغلب على جيش الروم في فلسطين وتشتيته يحفظ للمسلمين خط رجعتهم ويعزز مركزهم، ويجعلهم في موقف يستطيعون معه تهديد الجيش الرومي، ويجعلونه يتوقع حصول حركة التفاف من خلفه، فيضطر للأخذ بتدابير خاصة للحماية تشغل جانبًا من قواته، فيصبح بذلك مدافعًا بعد أن كان مهاجمًا.(1/494)
انحدر خالد من اليرموك إلى سهل فلسطين بعدما أصدر أمره إلى عمرو بأن ينسحب متدرجًا جيش الروم حتى يصل جيش خالد فيطبقان عليه، فارتد عمرو إلى أجنادين، وعندما وصلت قوات خالد أصبح جيش المسلمين بحدود ثلاثين ألف مقاتل، وكان وصول خالد في الوقت المناسب، فما أن اصطدمت قوات عمرو بالروم حتى انقض خالد بقواته الرئيسة، وجرت معركة عنيفة، وكان لمهارة القائدين خالد وعمرو العسكرية دور كبير في تحقيق النصر الحاسم، حيث تم توجيه قوة اقتحامية اخترقت صفوف العدو حتى وصلت إلى قائد الروم فقتلوه، وبمقتل القائد انهارت مقاومة الروم وهربوا في اتجاهات مختلفة.
وقد كانت أجنادين أولى المعارك الكبيرة في بلاد الشام بين المسلمين والروم، فلما انتهى خبر الهزيمة إلى قيصر الروم هرقل وهو في حمص شعر بمدى الكارثة.
عادت بواكير النصر من وقعة أجنادين بعد الانتصار الكبير الذي حققه المسلمون في هذه الموقعة وهزيمة الروم، واطمأن المسلمون إلى ما حققوه من نصر في أجنادين، واجتمعت جيوش المسلمين في اليرموك تنفيذًا لأمر الخليفة الصدّيق -رضي الله عنه-، وتحركت جيوش الروم بقيادة "تيدور"، ونزلت في منزل واسع الطعن واسع المطرد ضيق المهرب، فسارت حشود الروم حتى نزلوا الواقوصة قريبًا من اليرموك، وكان عدد المسلمين أربعون ألفاً، وعدد الروم مائتين وأربعون ألفاً.
وصل المسلمون بقيادة خالد بن الوليد اليرموك فعسكروا بها حتى اجتمعت الروم مع أمرائها على الضفة الجنوبية للنهر، وقال عمرو بن العاص: "أبشروا أيها الناس، فقد حُصرت والله الروم وقلما جاء محصور بخير"، وخرج خالد بن الوليد بأسلوب جديد لم يستخدمه العرب من قبل ذلك، وهو الكراديس، فقسم جيشه إلى أربعين كردوساً كما يلي:
فرقة القلب: مؤلفة من ثمانية عشر كردوسًا بقيادة أبي عبيدة بن الجراح ومعه عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو.
وفرقة الميمنة: مؤلفة من عشرة كراديس بقيادة عمرو بن العاص، ومعه شرحبيل بن حسنة.(1/495)
وفرقة الميسرة: مؤلفة من عشرة كراديس بقيادة يزيد بن أبي سفيان.
وفرقة المقدمة من الخيالة والمخافر الأمامية: ومهمتها المراقبة والاستطلاع والاحتفاظ على التماس مع العدو، ولذلك تكون فرقة صغيرة وخفيفة.
وفرقة المؤخرة: مؤلفة من خمسة آلاف مقاتل في خمسة كراديس بقيادة سعيد بن يزيد، ومهمتها قيادة الأمور الإدارية، وجعل القاضي أبو الدرداء، وعلى الأقباض عبد الله بن مسعود، ومهمته تأمين الأمور الإدارية والإعاشة وجمع الغنائم، والقارئ المقداد بن الأسود، وكان يدور على الناس ويقرأ سورة الأنفال وآيات الجهاد لرفع المعنويات، وخطيب الجيش أبو سفيان بن حرب، وهو يطوف على الصفوف يحث الجند على القتال، والقائد العام خالد بن الوليد في الوسط وحوله كبار الصحابة، وأخذ كل قائد من القواد يمر على جنده ويحثهم على الجهاد والصبر والمصابرة.
ورأى قادة المسلمين أن هذه المعركة هي معركة يتوقف عليها نتائج كبرى وأنها الحاسمة، وكان خالد يعلم أن هذه المعركة معركة اليوم الواحد، وأنه إن رد الروم إلى خندقهم فسيظل يردهم، وإن هزموه فلن يفلح بعدها، وأن هزيمة الروم في هذه المعركة تعني هزيمتهم في أرض الشام كلها وتفتح أبواب الشام على مصراعيها للمسلمين دون حواجز ولا عراقيل، والانطلاق منها إلى مصر فآسيا وأوربا.
ولما تراءى الجمعان وتبارز الفريقان، قال رجل من نصارى العرب لخالد بن الوليد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين!! فقال خالد: "ويلك، أتخوفني بالروم؟ إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر برأ من توجِّيه وأنهم أضعفوا في العدد"، وكان فرسه قد حفيَ واشتكى في مجيئه من العراق.
أقبلت الروم في خيلائها وفخرها وقد سدت أقطار تلك البقعة سهلها ووعرها، كأنهم غمامة سوداء يصيحون بأصوات مرتفعة ورهبانهم يتلون الإنجيل ويحثونهم على القتال.(1/496)
ونزلت الروم الواقوصة قريبًا من اليرموك، وصار الوادي خندقًا عليهم، وتعبأ الروم باستخدام أسلوب الكراديس في خطين، كل خمسة في دائرة يفصل بينهما وبين الخمسة الأخرى فاصل، ثم يأتي الخط الثاني وراء فرجات الخط الأول.
ولما تقارب الناس تقدم أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان نحو جيش الروم، ومعهما ضرار بن الأزور، والحارث بن هشام، ونادوا: إنما نريد أميركم لنجتمع به، فأُذن لهم في الدخول على "تذارق"، وإذا هو جالس في خيمة من حرير، فقال الصحابة: لا نستحل دخولها، فأُمر لهم بفراش بسط من حرير، فقالوا: ولا نجلس على هذه، فجلس معهم حيث أحبوا، وتفاوضوا على الصلح ورجع عنهم الصحابة بعدما دعوهم إلى الله -عز وجل- فلم يتم ذلك.
بعدها طلب "ماهان" من خالد ليبرز إليه فيما بين الصفوف فيجتمعا في مصلحة لهم، فقال ماهان: إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم إلا الْجَهْد والجوع، فهلمّوا إليَّ أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعامًا وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها، فقال خالد: "إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنا قوم نشرب الدماء، وأنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم، فجئنا لذلك".
فقال أصحاب ماهان: هذا والله ما كنا نُحدَّث به عن العرب.
ولما تكامل الاستعداد ولم تنجح المفاوضات تقدم خالد إلى عكرمة بن أبي جهل والقعقاع ابن عمر، وهما على مجنبتي القلب وأمرهما أن ينشبا القتال، فبدرا يرتجزان ودعوا إلى المبارزة، وتنازل الأبطال وتجاولوا وحميت الحرب وقامت على ساق، هذا وخالد مع كردوس من الحماة الشجعان الأبطال بين يدي الصفوف، والأبطال يتصاولون بين يديه وهو ينظر ويبعث إلى كل قوم من أصحابه بما يعتمدونه من الأفاعيل، ويدبر أمر الحرب أتم التدبير.(1/497)
تقدمت صفوف الروم وأقبلت كقطع الليل للقيام بهجوم عام على الجيش الإسلامي، وحملت ميسرتهم على ميمنة المسلمين فانكشف قلب الجيش الإسلامي من ناحية الميمنة، واستطاع الروم إحداث ثغرة في صفوف المسلمين والتسلل إلى مؤخرتهم، فصاح معاذ بن جبل: "يا عباد الله المسلمين إن هؤلاء شَدّوا للشَّد عليكم، ولا والله لا يردهم إلا صدق اللقاء والصبر في البلاء"، ثم نزل عن فرسه وقال: من أراد أن يأخذ فرسي ويقاتل عليه فليأخذه، وآثر بذلك أن يقاتل راجلاً مع المشاة.
وثبتت قبائل الأزد ومذحج وحضرموت وخولان حتى صدوا أعداء الله، ثم ركبهم من الروم أمثال الجبال فزال المسلمون من الميمنة إلى القلب، وانكشف طائفة من الناس إلى العسكر، وثبت سور من المسلمين عظيم يقاتلون تحت راياتهم، ثم تنادوا فتراجعوا حتى نهنهوا من أمامهم من الروم وأشغلوهم عن اتباع من انكشف من الناس، واستقبل النساء من انهزم من سَرعان الناس يضربنهم بالخشب والحجارة، فتراجعوا إلى مواقفهم، فقال عكرمة بن أبي جهل: "قاتلت رسول الله في مواطن وأفر منكم اليوم؟"، ثم نادى: "من يبايع على الموت؟"، فبايعه عمُّه الحارث بن هشام وضرار بن الأزور في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا أمام خيمة خالد حتى أُثْبِتوا جميعًا جراحًا، وقتل منهم خلق، منهم ضرار بن الأزور –رضي الله عنه-، وثبت كل قوم على رايتهم حتى صارت الروم تدور كأنها الرحا، فلم تر يوم اليرموك إلا مُخًّا ساقطًا، ومعصمًا نادرًا، وكفًا طائرةً من ذلك الموطن.(1/498)
حملت ميمنة الروم بقيادة "قناطر" على ميسرة المسلمين حملة شديدة، وكانت في ميسرة المسلمين قبائل كنانة وقيس وخثعم وجذام وقضاعة وعاملة وغسان، فأزيلت عن مواضعها، فانكشف قلب المسلمين من ناحية الميسرة وركب الروم أكتاف من انهرم من المسلمين، وتبعوهم حتى دخلوا معسكر المسلمين، فاستقبلتهم نساء المسلمين بالحجارة وأعمدة الخيام يضربنهم على وجوههم ويقلن لهم: أين عز الإسلام والأمهات والأزواج؟، أين تفرون وتدعوننا للعلوج؟ فإذا زجرنهم خجل أحدهم من نفسه ورجع إلى القتال، وقتلوا من الروم خلقًا كثيرًا، واستشهد في هذه المرحلة سعيد بن زيد.
وحاولت ميسرة الروم مرة أخرى بشن الهجوم على ميمنة المسلمين، فشدوا على عمرو بن العاص وجنده في محاولة اختراق الصفوف لكي يقوموا بعملية التطويق، وقاتل عمرو وجنده عن مواضعهم إلا أن الروم تمكنوا من دخول معسكرهم، ونزلت المسلمات من التل وأخذن يضربن وجوه الرجال المراجعين، وبذلك ارتدت إلى المسلمين عزائمهم، ودخلوا للقتال مرة أخرى، وحمل المسلمون على الروم من جديد حتى أزاحوهم عن المواضع التي كسبوها.
حمل خالد بمن معه من الخيالة على الميسرة التي حَملت على ميمنة المسلمين فأزالوهم إلى القلب، فقتل من الروم في حملته هذه ستة آلاف، ثم قال: والذي نفسي بيده لم يبق عندهم من الصبر والجلد غير ما رأيتم، وإني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم.(1/499)
ثم اعترضهم فحمل بمائة فارس معه على نحو من مائة ألف، فما وصل إليهم حتى انقض جميعُهم، وحَمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد فانكشفوا، وتبعهم المسلمون لا يمتنعون منهم. وقامت ميمنة المسلمين بإغلاق المنافذ والثغرات في وجوه الروم وحُصروا بين وادي اليرموك ونهر الزرقاء، ودارت رحى المعركة وأبلى المسلمون بها بلاء حسناً، واستطاع المسلمون أن يفصلوا فرسان الروم عن مشاتهم، فحَملوا على الروم وركبوا أكتافهم حتى أرهقوهم، وبذلك أراد فرسان الروم مخرجًا لهم للفرار منه، فأمر خالد بذكائه عمرو بن العاص بفسح المجال لهم في طريق الهرب، وفعل ذلك وهرب فرسان الروم، وبذلك تحرك مشاة الروم دون غطاء من خيالتهم، فجاء المشاة إلى الخنادق وهم مقيدون بالسلاسل حتى صاروا كأنهم حائط وقد هُدم، وجاءهم المسلمون إلى خندقهم في ظلال الليل وأخذ معظمهم ينهار بالوادي، فإذا منهم شخص قُتل سقط معه الجميع الذين كانوا مقيدين معه، وقَتل منهم المسلمون في هذه المرحلة خلقًا كثيرًا قدر عددهم بمائة ألف وعشرين ألفًا، والناجون منهم قد انسحب قسم منهم إلى فحل، والقسم الآخر إلى دمشق داخل بلاد الشام، وأخر الناس صلاتي العشاء حتى استقر الفتح، وأكمل خالد ليلته في خيمة "تذارق" أخي هرقل وهو أمير الروم كلهم يومئذ، وهرب فيمن هرب، وباتت الخيول تجول حول خيمة خالد يقتلون من مر بهم من الروم حتى أصبحوا، وقُتل تذارق وكان له ثلاثون سرادقًا وثلاثون رواقًا من ديباج بما فيها من الفرش والحرير، فلما كان الصباح حازوا ما كان هنالك من الغنائم، وكان عدد شهداء المسلمين ثلاثة آلاف بينهم من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- وشيوخ المسلمين وأقطابهم، وممن استشهد من هؤلاء: عكرمة بن أبي جهل وابنه عمرو، وسلمة بن هشام، وعمرو بن سعيد، وأبان بن سعيد، وغيرهم، وكان عدد قتلى الروم مائة وعشرين ألفًا، منهم ثمانون ألفا مقيدون بالسلاسل وأربعون ألفًا مطلقون سقطوا جميعهم في الوادي.(1/500)
لقد فرح المسلمون بهذا النصر العظيم، وعكّر ذلك الفرح وصول خبر وفاة الصدّيق -رضي الله عنه-، حيث حزنوا عليه حزنًا شديدًا، وعوضهم الله تعالى بالفاروق -رضي الله عنهم أجمعين-.
وقد كان البريد قد قدم بموت الصدّيق والمسلمون مصافو الروم، فكتم خالد ذلك عن المسلمين؛ لئلا يقع في صفوفهم وهن أو ضعف، فلما تم النصر وأصبحوا أجلى لهم الأمر، وكان الفاروق قد عيّن أبا عبيدة بن الجراح بدلاً من خالد بن الوليد على جيوش الشام، وتقبل خالد أمر الفاروق برحابة صدر، وعزّى المسلمين في خليفة رسول الله، وتولى أبو عبيدة القيادة العامة لجيوش الشام.
ومما قيل من الشعر في يوم اليرموك قول القعقاع بن عمرو:
ألم ترنا على اليرموك فزنا ... كما فزنا بأيام العراقِ
وعذراء المدائن قد فتحنا ... ومرج الصفر بالجراد العتاق
فتحنا قبلها بصرى وكانت ... محرمة الجناب لدى النعاق
قتلنا من أقام لنا وفينا ... نهابُهُمُ بأسياف رقاق
قتلنا الروم حتى ما تساوى ... على اليرموك معروق الوراق
فضضنا جمعهم لما استجالوا ... على الواقوص بالبتر الرقاق
غداة تهافتوا فيها فصاروا ... إلى أمر يعضِّل بالذواق
والحمد لله...
حركة الردة (1)
19/4/1429هـ
الخطبة الأولى:(2/1)
إن الحمد لله: أما بعد أيها المسلمون: حركة الردة بدأت منذ العام التاسع للهجرة المسمى بعام الوفود، وهو العام الذي أسلمت فيه الجزيرة العربية قيادها للرسول صلى الله عليه وسلم ممثلة بزعمائها الذين قدموا عليه من أصقاعها المختلفة، وكانت حركة الردة في هذه الأثناء لماّ تستعلن بشكل واسع، حتى إذا كان أواخر العام العاشر الهجري وهو عام حجة الوداع التي حجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل به وجعه الذي مات فيه وتسامع بذلك الناس، بدأ الجمر يتململ من تحت الرماد، وأخذت الأفاعي تطل برؤوسها من جحورها، وتجرأ الذين في قلوبهم مرض على الخروج، فوثب الأسود العنسي باليمن، ومسيلمة الكذاب باليمامة، وطليحة الأسدي في بلاد قومه، ولما كان أخطر متمردين على الإسلام وهما الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب وأنهما مصممان كما يبدو على المضي في طريق ردتهما قُدما دون أن يفكرا في الرجوع، وأنهما مشايعان بقوى غفيرة وإمكانيات وفيرة فقد أَرى الله نبيه صلى الله عليه وسلم من أمرهما ما تقر به عينه، ومن ثم ما تقر به عيون أمته من بعده، فقد قال يومًا وهو يخطب الناس على منبره: "أيها الناس، إني قد أُريت ليلة القدر ثم أنسيتها، ورأيت أن في ذراعي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين: صاحب اليمن وصاحب اليمامة". وقد فسر أهل العلم بالتعبير هذه الرؤيا على هذه الصورة فقالوا: إن نفخه صلى الله عليه وسلم لهما يدل على أنهما يُقتلان بريحه لأنه لا يغزوهما بنفسه، وإنّ وصفه لهما بأنهما من ذهب دلالة على كذبهما لأن شأنهما زخرف وتمويه، كما دل لفظ السوارين على أنهما ملكان، لأن الأساورة هم الملوك، ودلاّ بكونهما يحيطان باليدين أن أمرهما يشتد على المسلمين فترة لكون السوار مضيقًا على الذراع.(2/2)
إن الردة التي قامت بها القبائل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لها أسباب، منها: الصدمة بموت النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها رقة الدين والسَّقَم في فهم نصوصه، ومنها الحنين إلى الجاهلية ومقارفة موبقاتها، ومنها رغبة التفلّت من النظام والخروج على السلطة الشرعية، ومنها العصبية القبلية والطمع في الملك، ومنها التكسب بالدين والشح بالمال، ومنها التحاسد، ومنها المؤثرات الأجنبية كدور اليهود والنصارى والمجوس.
وأما أصنافهم: فمنهم من ترك الإسلام جملة وتفصيلاً وعاد إلى الوثنية وعبادة الأصنام، ومنهم من ادعى النبوة، ومنهم من دعا إلى ترك الصلاة، ومنهم من بقي يعترف بالإسلام ويقيم الصلاة ولكنه امتنع عن أداء زكاته، ومنهم من شمت بموت الرسول صلى الله عليه وسلم وعاد أدراجه يمارس عاداته الجاهلية، ومنهم من تحيّر وتردد وانتظر على من تكون الدائرة. وبهذا يكون المرتدون أربعة أصناف: صنف عادوا إلى عبادة الأوثان والأصنام، وصنف اتبعوا المتنبئين الكذبة، وصنف أنكروا وجوب الزكاة وجحدوها، وصنف لم ينكروا وجوبها ولكنهم أبوا أن يدفعوها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه.(2/3)
فلما ظهرت حركة الردة قام أبو بكر t في الناس خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأعفى، إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، قد رثّ حبله وخَلَق ثوبه وضل أهله منه، إن من حولكم من العرب قد منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم، وإن رجعوا إليه أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدم من بركة نبيكم، والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي لنا عهده، ويُقتل من قتل منا شهيدًا من أهل الجنة". وقد أشار بعض الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب على الصديق بأن يترك مانعي الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم، ثم هم بعد ذلك يزكون، فامتنع الصديق عن ذلك وأباه. فعن أبي هريرة t قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر t، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر t: كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله"؟ فقال: والله لأقاتلنّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق. ثم قال عمر بعد ذلك: والله لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعًا في قتال أهل الردة.
وفعلاً كان رأي أبي بكر في حرب المرتدين رأيًا ملهمًا وهو الرأي الذي تمليه طبيعة الموقف لمصلحة الإسلام والمسلمين، وأي موقف غيره سيكون فيه الفشل والضياع والهزيمة والرجوع إلى الجاهلية، ولولا الله ثم هذا القرار الحاسم من أبي بكر لتغير وجه التاريخ وتحولت مسيرته ورجعت عقارب الساعة إلى الوراء، ولعادت الجاهلية تعيث في الأرض فسادًا.(2/4)
لقد سمع أبو بكر وجهات نظر الصحابة في حرب المرتدين، وما عزم على خوض الحرب إلا بعد أن سمع وجهات النظر بوضوح، إلا أنه كان سريع القرار حاسم الرأي، فلم يتردد لحظة واحدة بعد ظهور الصواب له، وعدم التردد كان سمة بارزة من سمات أبي بكر في حياته كلها، ولقد اقتنع المسلمون بصحة رأيه ورجعوا إلى قوله واستصوبوه. لقد كان أبو بكر t أبعد الصحابة نظرًا، وأحقهم فهمًا، وأربطهم جنانًا، في هذه الطامة العظيمة، والمفاجأة المذهلة. كان موقف أبي بكر t الذي لا هوادة فيه ولا مساومة فيه ولا تنازل موقفًا ملهمًا من الله، يرجع الفضل الأكبر بعد الله تعالى في سلامة هذا الدين وبقائه على نقائه وصفائه وأصالته، وقد أقر الجميع وشهد التاريخ بأن أبا بكر قد وقف في مواجهة الردة الطاغية ومحاولة نقض عرى الإسلام عروة عروة، موقفَ الأنبياء والرسل في عصورهم، وهذه خلافة النبوة التي أدى أبو بكر حقها، واستحق بها ثناء المسلمين ودعاءهم إلى أن يرث الله الأرض وأهلها.(2/5)
انصرفت وفود القبائل المانعة للزكاة من المدينة بعدما رأت عزم الصديق وحزمه، فقرأ الصديق في وجوه القوم ما فيها من الغدر، ورأى فيها الخسة وتفرّس فيها اللؤم، فقال لأصحابه: إن الأرض كافرة وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلاً تُؤتَوْن أم نهارًا! وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يُأمّلون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم ونبذنا إليهم عهدهم فاستعدّوا وأعدّوا. ووضع الصديق خطته فألزم أهل المدينة بالمبيت في المسجد حتى يكونوا على أكمل استعداد للدفاع، ونظم الحرس الذين يقومون على أنقاب المدينة ويبيتون حولها، حتى يدفعوا أي غارة قادمة، وعيّن على الحرس أمراءهم: علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، وبعث أبو بكر t إلى من كان حوله من القبائل التي ثبتت على الإسلام من أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب يأمرهم بجهاد أهل الردة فاستجابوا له حتى امتلأت المدينة بهم، وكانت معهم الخيل والجمال التي وضعوها تحت تصرف الصديق رضي الله عنه، ومما يدل على كثرة رجال هذه القبائل وكبر حجم دعمها للصديق أن جهينة وحدها قَدِمت في أربعمائة من رجالها ومعهم الظهر والخيل، وساق عمرو بن مرة الجهني مائة بعير لإعانة المسلمين، فوزّعها أبو بكر في الناس.(2/6)
وبعد ثلاثة أيام من رجوع وفود المرتدين طرقت بعض قبائل أسد وغطفان وعبس وذبيان وبكر المدينةَ ليلاً، وانتبه حرس الأنقاب لذلك، وأرسلوا للصديق بالخبر، فأرسل إليهم أنِ الزموا أماكنكم ففعلوا، وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم، فهرب العدو فأتبعهم المسلمون على إبلهم، فظن القوم بالمسلمين الوهن، فبات أبو بكر ليلته يتهيأ فعبَّى الناس، ثم خرج يمشي، وعلى ميمنته النعمان بن مقرّن، وعلى ميسرته عبد الله بن مقرّن، وعلى الساقة سويد بن مقرّن معه الركاب، فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيد واحد، فما سمعوا للمسلمين همسًا ولا حسًا حتى وضعوا فيهم السيوف فاقتتلوا ليلتهم، فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار، وغلبوهم على عامة ظهرهم، وقُتل أخو طليحة الأسدي، وأتبعهم أبو بكر وكان أول الفتح، ووضع بها النعمان بن مُقَرن في عدد، ورجع إلى المدينة فذل بها المشركون، فوثب بنو ذبيان وعبس على من فيهم من المسلمين فقتلوهم كل قتلة، وفعل من وراءهم فعلهم، وعز المسلمون بوقعة أبي بكر، وحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين كل قتلة، وليقتلن في كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين، وصمم الصديق t على أن ينتقم للمسلمين الشهداء، وأن يؤدب هؤلاء الحاقدين، ونفّذ قسمه وازداد المسلمون في بقية القبائل ثباتًا على دينهم، وازداد المشركون ذلاً وضعفًا وهوانًا، وبدأت صدقات القبائل تفد على المدينة، وفي ليلة واحدة أثِرت المدينة بأموال زكاة ستة أحياء من العرب، وكان كلما طلع على المدينة أحد جباة الزكاة قال الناس: "نذير" فيقول أبو بكر: "بل بشير"، وإذا بالقادم يحمل معه صدقات قومه، وخلال هذه البشائر التي تحمل معها بعض العزاء وشيئًا من الثراء، عاد أسامة بن زيد بجيشه ظافرًا، وصنع كل ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمره به وما أوصاه به أبو بكر الصديق، فاستخلفه أبو بكر على المدينة وقال له ولجنده: أريحوا وأريحوا ظهركم، ثم خرج بالذين كانوا على الأنقاب على(2/7)
ذلك الظَهَر، فقال له المسلمون: ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تُعرّض نفسك! فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو، فابعث رجلاً فإن أصيب أمرت آخر فقال: لا والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي.
لقد ظهر معدن الصديق النفيس في محنة الردة على أجلى صورة للقائد المؤمن الذي يفتدي قومه بنفسه، فالقائد في فهم المسلمين قدوة في أعماله، فكان من آثاره هذه السياسة الصدّيقية أن تَقَوّى المسلمون وتشجّعوا لحرب عدوهم واستجابوا لتطبيق الأوامر الصادرة إليهم من القيادة، لقد خرج الصديق في تعبيته حتى نزل على أهل الرَّبذة بالأبرق فهزم الله الحارث وعوفًا وأخذ الحطيئة أسيرًا، فطارت عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر على الأبرق أياماً.
وهكذا يتعلم المسلمون من سيرة الصديق بأنه لم يكن يرغب بنفسه عن نفوس أتباعه بأي أمر من أمور الدنيا، إن خروج الصديق t للجهاد ثلاث مرات متتالية يعتبر تضحية كبيرة وفدائية عالية، إن خروجه للجهاد ثلاث مرات متتاليات وهو الشيخ الذي بلغ الستين من عمره، قد أعطى بقية الصحابة دفعات قوية من النشاط والحيوية.
قسّم أبو بكر الجيش الإسلامي إلى أحد عشر لواء وجعل على كل لواء أميرًا، وأَمَرَ كل أمير جند باستنفار من مر به من المسلمين التابعين من أهل القرى التي يمر بها، وهكذا اتخذت قرية ذي القَصَّة مركز انطلاق أو قاعدة تحرك للجيوش المنظمة التي ستقوم بالتحرك إلى مواطن الردة للقضاء عليها. وكان القائد العام لهذه الجيوش سيف الله المسلول خالد بن الوليد صاحب العبقرية الفذة في حروب الردة والفتوحات الإسلامية.(2/8)
انطلقت الألوية التي عقدها الصديق ترفرف عليها أعلام التوحيد، مصحوبة بدعوات خالصة من قلوب تعظم المولى عز وجل وتشربت معاني الإيمان، ومن حناجر لم تلهج إلا بذكر الله تعالى، فاستجاب الله جل وعلا هذه الدعوات النقية، فأنزل عليهم نصره وأعلى بهم كلمته، وحمى بهم دينه، حتى دانت جزيرة العرب للإسلام في شهور معدودة.
نسأل الله جل وتعالى الثبات على دينه ...
نفعني الله وإياكم بهدي ....
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد: أيها المسلمون: من أخبار المرتدين: ما حصل من بعض النسوة في اليمن، فقد قامت بعض بنات اليمن من يهود أو من لف لفهنّ في حضرموت، فقد طرن فرحاً بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقمن الليالي الحمراء مع المجّان والفسّاق يشجعن على الرذيلة ويزرين بالفضيلة، فقد رقص الشيطان فيها معهنّ وأتباعه طربًا لنكوص الناس على الإسلام والدعوة إلى التمرد عليه وحرب أهله، لقد حنَّت تلك البغايا إلى الجاهلية وما فيها من المنكرات، وانجذبن إليها انجذاب الذباب إلى أكوام من الأقذار، فقد تعودن على الفاحشة في حياتهنّ الجاهلية، فلما جاء الإسلام حجزهنّ نظافته عنها، فشعرن وكأنهنّ بسجن ضيق يكدن يختنقن فيه، ولذا ما إن سمعن بموته صلى الله عليه وسلم حتى أظهرن الشماتة، فخضبن أيديهنّ بالحناء، وقمن يضربن بالدفوف ويغنين فرحتهنّ، فقد تحقق لهنّ ما كنّ يتمنينه على السلطة الجديدة، وكان معظمهنّ من علية القوم هناك وبعضهنّ يهوديات. لقد عُرفت هذه الحركة في التاريخ بحركة البغايا، وكنّ نيفاً وعشرين بغيًّا متفرقات في قرى حضرموت. وصل الخبر إلى الصديق، وأرسل رجل من أهل اليمن إليه هذه الأبيات:
أبلغ أبا بكر إذا ما جئته ... أن البغايا رُمْنَ أيَّ مرام
أظهرن من موت النبي شماتةً ... وخضبن أيديهنّ بالعُلاَّم
فاقطع هُديت أكفَّهنّ بصارمٍ ... كالبرق أمضى من متون غمام(2/9)
فكتب أبو بكر t إلى عامله هناك المهاجر بن أبي أمية كتابًا في منتهى الحزم والصرامة جاء فيه: "فإذا جاءك كتابي هذا فَسِرْ إليهنّ بخيلك ورجلك حتى تقطع أيديهنّ، فإن دفعك عنهنّ دافع، فأعذر إليه باتخاذ الحجة عليه، وأعلمه عظيم ما دخل فيه من الإثم والعدوان، فإن رجع فاقبل منه، وإن أبى فنابذه على سواء، إن الله لا يهدي كيد الخائنين". فلما قرأ المهاجر الكتاب جمع خيله ورجله وسار إليهنّ، فحال بينه وبينهنّ رجال من كندة وحضرموت فأعذر إليهم، فأبوا إلاّ قتاله، ثم رجع عنه عامتهم، فقاتلهم فهزمهم، وأخذ النسوة فقطّع أيديهنّ، فمات عامتهنّ وهاجر بعضهنّ إلى الكوفة. لقد نلن جزاءهنّ في محكمة الإسلام العادلة، إذ أخذهنّ عامل أبي بكر على تلك البلاد وطبق عليهنّ حد الحرابة.(2/10)
ومن المرتدين طليحة الأسدي: قدم مع وفد قومه أسد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الوفود سنة تسع للهجرة فسلّموا عليه، وقالوا له جئناك نشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، ولما عادوا ارتد طليحة وتنبأ، وعسكر في منطقة في بلادهم، واتبعه العوام واستُكشف أمره. ومن خزعبلاته أنه رفع السجود من الصلاة، وكان يزعم أن الوحي يأتيه من السماء. وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحسم أمر طليحة، وتولى الخلافة الصديق t، وعقد الألوية للجيوش والأمراء للقضاء على المرتدين، وكان من ضمنهم طليحة الأسدي، ووجه إليه الصديق جيشًا بقيادة خالد بن الوليد. سار خالد حتى نزل بأجأ وسلمى وعَبَّأ جيشه هنالك، والتقى مع طليحة بمكان يقال له: "بزاخة" ووقفت أحياء كثيرة من الأعراب ينظرون على من تكون الدائرة، وجاء طليحة فيمن معه من قومه ومن التف معهم وانضاف إليهم، وقد حضر معه عيينة بن حصن في سبعمائة من قومه بني فزارة، واصطف الناس وجلس طليحة ملتفًا في كساء له يتنبأ لهم ينظر ما يوحى إليه فيما يزعم، وجعل عيينة يقاتل حتى إذا ضجر من القتال جاء إلى طليحة وهو ملتف في كسائه وقال له: أجاءك جبريل؟ فيقول: لا، فيرجع فيقاتل. ثم يرجع فيقول له مثل ذلك، ويرد عليه مثل ذلك، فلما كان في الثالثة قال له: هل جاءك جبريل؟ قال: نعم، قال: فما قال لك؟ قال: قال لي: إن لك رحا كرحاه وحديثًا لا تنساه، قال عيينة: أظنّ أنه قد علم الله سيكون لك حديث لا تنساه، ثم قال: يا بني فزارة انصرفوا، وانهزمَ وانهزم الناس عن طليحة، فلما جاءه المسلمون ركب على فرس كان قد أعدّها وأركب امرأته النوّار على بعير له، ثم انهزم بها إلى الشام وتفرق جمعه، وقد قتل الله طائفة ممن كان معه.(2/11)
وقد كتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد حين جاءه أنه كسر طليحة ومن كان في صفه: "جِدّ في أمرك ولا تلن، ولا تظفر بأحد من المشركين قَتل من المسلمين إلا نكّلت به"، فأقام خالد ببزاخة شهر في الطلب الذي وصاه الصديق، فجعل يتردد في طلب هؤلاء شهرًا يأخذ بثأر من قُتلوا من المسلمين الذين كانوا بين أظهرهم حين ارتدوا، فمنهم من حرقه بالنار، ومنهم من رضخه بالحجارة، ومنهم من رمى به من شواهق الجبال، كل هذا ليعتبر بهم من يسمع بخبرهم من مرتدة العرب. وكان عيينة بن حصن من بين الأسرى فأمر خالد بشد وثاقه تنكيلا به، وبعثه إلى المدينة ويداه إلى عنقه، إزراءً عليه وإرهابًا لسواه، فلما دخل المدينة على هيئته تلقاه صبيان المدينة مستهزئين، وأخذوا يلكزونه بأيديهم الصغيرة قائلين: "أي عدو الله، ارتددت عن الإسلام!" فيقول: والله ما كنت آمنت قط. وجيء به إلى خليفة رسول الله، ولقي من الخليفة سماحة لم يُصدّقها، وأمر بفك يديه ثم استتابه، فأعلن عيينة توبة نصوحًا واعتذر عما كان منه وأسلم وحسن إسلامه.
أما طليحة فمضى حتى نزل قبيلة كلب على النقع فأسلم، ولم يزل مقيمًا في كلب حتى مات أبو بكر رضي الله عنه. وكان إسلامه هنالك حين بلغه أن أسدًا وغطفان وعامرًا قد أسلموا، ثم خرج نحو مكة معتمراً في إمارة أبي بكر، واستحيا أن يواجهه مدة حياته، ومر بجنبات المدينة، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة، فقال: ما أصنع به، خلوا عنه فقد هداه الله للإسلام. هذا وقد حسن إسلام طليحة الأسدي وقد كان إسلامه صحيحًا، وقال يعتذر ويذكر ما كان منه:
ندمت على ما كان من قتل ثابتٍ وعُكّاشة الغنمي ثم ابن معبد
وأعظم من هاتين عندي مصيبة رجوعي عن الإسلام فعل التعمد
وتركي بلادي والحوادث جَمَّة طريدًا وقِدْمًا كنت غير مُطَرَّد
فهل يقبل الصديق أنى مراجع ومعطٍ بما أحدثت من حدثٍ يدي
وأني من بعد الضلالة شاهد شهادة حق لست فيها بملحد(2/12)
بأن إله الناس ربي وأنني ذليل وأن الدين دين محمد
وقد منع الصديق رضي الله عنه بعد ذلك المرتدين من المشاركة في فتوحاته بالعراق والشام، وهذا درس عظيم تتعلمه الأمة في عدم وضع الثقة بمن كانت لهم سوابق في الإلحاد ثم ظهر منهم العود إلى الالتزام بالدين، على أن أخذ الحذر من مثل هؤلاء لا يعني اتهامهم في دينهم ولا نزع الثقة منهم بالكلية.
وللحديث بقية ...
اللهم ...
حركة الردة (2)
26/4/1429هـ
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله: أما بعد أيها المسلمون: إكمالاً لحديثنا في الجمعة الماضية عن حركة الردة التي اجتاحت الجزيرة العربية زمن الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه، والموقف البطولي الذي اتخذه رضي الله عنه نحوها. ذكرنا أصناف المرتدين في زمنه، وبعض القبائل التي ارتدت، كقبيلة أسد وغطفان وعبس وذُبيان. وذكرنا أخبار المرتدين من نساء اليمن، ثم موقفه رضي الله عنه من طليحة الأسدي. نكمل في ذكر من ارتد من القبائل والمجتمعات:(2/13)
فممن ارتد عن الإسلام أيضاً أهل عُمَان: كان أهل عمان قد استجابوا لدعوة الإسلام، وبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه، ثم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم نبغ فيهم رجل يقال له: لقيط بن مالك الأزدي، فادعى النبوة وتابعه الجهلة من أهل عمان، فتغلّب عليها، فبعث إليه الصديق بأميرين هما: حذيفة بن محصن وعرفجة بن مهرة، وأمرهما أن يجتمعا ويتفقا، وأرسل عكرمة بن أبي جهل مددًا لهم، وبلغ لقيط بن مالك مجيء الجيش، فخرج في جموعه فعسكر بمكان يقال له: "دَبَا" وجعل الذراري والأموال وراء ظهورهم ليكون أقوى لحربهم، فتقابل الجيشان هناك وتقاتلوا قتالاً شديدًا، وابتلي المسلمون وكادوا أن يولّوا، فمنَّ الله بكرمه ولطفه أن بعث إليهم مددًا في الساعة الراهنة من بني ناجية وعبد القيس في جماعة من الأمراء، فلما وصلوا إليهم كان الفتح والنصر، فولَّى المشركون مدبرين، وركب المسلمون ظهورهم، فقتلوا منهم عشرة آلاف مقاتل، وسبوا الذراري وأخذوا الأموال والسوق بحذافيرها، وبعثوا بالخمس إلى الصدّيق في المدينة.
وأيضاً ممن ارتد أهل البحرين: فقد أسلم أهل البحرين بعدما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى ملكها وحاكمها المنذر العبدي، وقد أسلم هو وقومه وأقام فيهم الإسلام والعدل، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي المنذر بعده بمدة قصيرة، ارتد أهل البحرين وملكوا عليهم المنذر بن النعمان. وأرض البحرين تمتد من القطيف إلى عمان، فهي تشمل اليوم إمارات الخليج العربي والجزء الشرقي من المملكة عدا الكويت.(2/14)
بعث الصدّيق بجيش إلى البحرين بقيادة العلاء بن الحضرمي، فلما دنا من البحرين انضم إليه ثمامة بن أثال في محفل كبير من قومه، واستنهض المسلمين في تلك الأنحاء، فاجتمع إليه جيش كبير قاتل به المرتدين، فلما اقترب من الجيوش المرتدة وقد حشدوا وجمعوا خلقًا عظيمًا، نزل ونزلوا، وباتوا مجاورين في المنازل، فبينما المسلمون في الليل إذ سمع العلاء أصواتاً عالية في جيش المرتدين، فقال: من رجل يكشف لنا خبر هؤلاء؟ فقام عبد الله بن حذف فدخل فيهم فوجدهم سُكارى لا يعقلون من الشراب، فرجع إليه فأخبره، فركب العلاء من فورهم والجيش معه فكبسوا أولئك فقتلوهم قتلاً عظيمًا وقلّ من هرب منهم، واستولى على جميع أموالهم وحواصلهم وأثقالهم، فكانت غنيمة عظيمة جسيمة، ثم ركب المسلمون في آثار المنهزمين يقتلونهم بكل مرصد وطريق، وذهب من فرّ منه أو أكثر إلى دارين، ركبوا إليها السفن، ثم شرع العلاء بن الحضرمي في قسمة الغنيمة ونفل الأنفال، ولما فرغ من ذلك قال للمسلمين: اذهبوا بنا إلى دارين لنغزو من بها من الأعداء، فأجابوا إلى ذلك سريعًا، فسار بهم حتى أتى ساحل البحر ليركبوا في السفن، فرأى أن الشُقّة بعيدة لا يصلون إليهم في السفن حتى يذهب أعداء الله، فاقتحم البحر بفرسه وهو يقول: يا أرحم الراحمين، يا حكيم يا كريم، يا أحد يا صمد، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت يا ربنا.(2/15)
وأمر الجيش أن يقولوا ذلك ويقتحموا، ففعلوا ذلك فأجاز بهم الخليج بإذن الله على مثل رملة دمثة فوقها ماء لا يغمر أخفاف الإبل، ولا يصل إلى رُكَبِ الخيل، ومسيرته بالسفن يوم وليلة فقطعه إلى الجانب الآخر فعاد إلى موضعه الأول وذلك كله في يوم، ولم يترك من العدو مخبرًا، وساق الذراري والأنعام والأموال، ولم يفقد المسلمون في البحر شيئًا إلاّ عليقة فرس لرجل من المسلمين، ومع هذا رجع العلاء بها، ثم قسّم غنائم المسلمين فيهم، فأصاب الفارس ستة آلاف، والراجل ألفين مع كثرة الجيشين، وكتب إلى الصدّيق فأعلمه بذلك، فبعث الصدّيق يشكره على ما صنع، وقد قال رجل من المسلمين في مرورهم في البحر وهو عفيف بن المنذر:
ألم تر أن الله ذلّل بحره ... وأنزل بالكفار إحدى الجلائل
دعَونا إلى شق البحار فجاءنا ... بأعجب من فلق البحار الأوائل
وبعد هزيمة المرتدين رجع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين وضرب الإسلام بجرانه، وعز الإسلام وأهله وذل الشرك وأهله.
ومن المرتدين أيضاً مسيلمة الكذاب: متنبئ من المعمّرين، وفي الأمثال: "أكذب من مسيلمة". ولد ونشأ باليمامة وتلقب في الجاهلية بالرحمن، وعُرف برحمان اليمامة. وكان مسيلمة يدعي النبوة والرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، وكان يبعث بأناس إليها ليسمعوا القرآن ويقرؤوه على مسامعه، فينسج على منواله، وفي العام التاسع للهجرة الذي عمّ فيه الإسلام ربوع الجزيرة العربية أقبل وفد بني حنيفة على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم يعلنون إسلامهم، وكان مسيلمة معهم، ولما رجع وفد بني حنيفة إلى اليمامة حيث ديارهم، ادعى مسيلمة النبوة، وأعلن شراكته للرسول صلى الله عليه وسلم في النبوة، وفي العام العاشر للهجرة عندما أصيب النبي صلى الله عليه وسلم بمرض موته، تجرأ الخبيث فكتب رسالة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يزعم لنفسه فيها الشراكة معه في النبوة.(2/16)
وقد ذكر علماء التاريخ أنه كان يحاول أن يتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبلغه أن الرسول صلى الله عليه وسلم بصق في بئر فغزر ماؤه، فبصق مسيلمة في بئر فغاض ماؤه بالكلية، وفي أخرى فصار ماؤه أجاجًا، وتوضأ فسقي بوضوئه نخلاً فيبست وهلكت، وأتى بولدان يبرّك عليهم، فجعل يمسح رؤوسهم فمنهم من قرع رأسه، ومنهم من لثغ لسانه، ويقال: إنه دعا لرجل أصابه وجع في عينيه فمسحهما فعمي.
كان أبو بكر t قد أمر خالدًا إذا فرغ من أسد وغطفان ومالك بن نويرة أن يقصد اليمامة وأكّد عليه في ذلك، سار خالد إلى قتال بني حنيفة باليمامة وعبّأ معه المسلمين، وكان على الأنصار ثابت بن قيس بن شماس، فسار لا يمر بأحد من المرتدين إلا نكّل به، وسيّر الصدّيق جيشاً كثيفًا مجهزًا بأحدث سلاح ليحمي ظهر خالد حتى لا يوقع به أحد من خلفه، وكان خالد في طريقه إلى اليمامة قد لقي أحياء من الأعراب قد ارتدت، فغزاها وردّها إلى الإسلام، ولما سمع مسيلمة بقدوم خالد عسكر بمكان يقال له: "عقرباء" في طرف اليمامة، وندب الناس وحثهم على لقاء خالد، والتقى خالد بعكرمة وشرحبيل فتقدم وقد جعل على مقدمة الجيش شرحبيل بن حسنة وعلى المجنبتين زيد بن الخطاب وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، ووضع خالد بن الوليد خطته الحربية وكان t لا يستخف بعدوه، وكان في ميدان المعركة على أهبة وحذر دائمين مخافة أن يفجأه عدوه بغارة غادرة والتفاف مكر، وقد وُصف t بأنه: كان لا ينام ولا يبيت إلا على تعبأة، ولا يخفى عليه من أمر عدوه شيء. وقد قدّم خالد في هذه المعركة شرحبيل بن حسنة، وقسّم الجيش أخماسًا، على المقدمة خالد المخزومي، وعلى الميمنة أبو حذيفة، وعلى الميسرة شجاع، وفي القلب زيد بن الخطاب، وجعل أسامة بن زيد على الخيّالة.(2/17)
ولما تواجه الجيشان قال مسيلمة لأتباعه وقومه قبيل المعركة الفاصلة: اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم تُستنكح النساء سبيات، وينكحن غير حطيات، فقاتلوا على أحسابكم وامنعوا نساءكم، وتقدم خالد t بالمسلمين حتى نزل بهم على كثيب يشرف على اليمامة فضرب به عسكَره، واصطدم المسلمون والكفار فكانت جولة وانهزمت الأعراب حتى دخلت بنو حنيفة خيمة خالد بن الوليد، وقُتل زيد بن الخطاب، ثم تذامر الصحابة بينهم، وقاتلت بنو حنيفة قتالاً لم يعهد مثله، وجعلت الصحابة يتواصون بينهم ويقولون: يا أصحاب سورة البقرة بطل السحر اليوم، وحفر ثابت بن قيس لقدميه في الأرض إلى أنصاف ساقيه وهو حامل لواء الأنصار بعدما تحنّط وتكفّن، فلم يزل ثابتًا حتى قتل هناك. وقال المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: أتخشى أن تؤتى من قبلك؟ فقال: بئس حامل القرآن أنا إذًا. وقال زيد بن الخطاب: أيها الناس عضوا على أضراسكم واضربوا في عدوكم وامضوا قُدمًا. وقال: والله لا أتكلم حتى يهزمهم الله أو ألقى الله فأكلمه بحجتي، فقتل شهيدًا t.(2/18)
وقال أبو حذيفة: يا أهل القرآن زيّنوا القرآن بالفعال، وحمل فيهم حتى أبعدهم، وأصيب t، وحمل خالد بن الوليد حتى جاوزهم، وسار لقتال مسيلمة وجعل يترقب أن يصل إليه فيقتله، ثم رجع ثم وقف بين الصفّين ودعا إلى المبارزة، وقال: أنا ابن الوليد، ثم نادى بشعار المسلمين وكان شعارهم يومئذ: "يا محمداه"، وجعل لا يبرز له أحد إلا قتله، وقد ميّز خالد المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وكل بني أب على رايتهم يقاتلون تحتها حتى يعرف الناس من أين يُؤتَون، وصبر الصحابة رضي الله عنهم في هذه المواطن صبرًا لم يعهد مثله، ولم يزالوا يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم وولى الكفار الأدبار، واتبعوهم يقتلون في أقفائهم ويضعون السيوف في رقابهم حيث شاءوا، حتى ألجأوهم إلى حديقة الموت، وقد أشار على المرتدين محكم بن الطفيل بدخولها فدخلوها وفيها عدو الله مسيلمة، وأدرك عبد الرحمن بن أبي بكر محكم بن الطفيل فرماه بسهم في عنقه وهو يخطب فقتله، وأغلقت بنو حنيفة الحديقة عليهم وأحاط بهم الصحابة، وقدّموا بطولات نادرة، منهم البراء بن مالك الذي قال: "يا معشر المسلمين، ألقوني عليهم في الحديقة"، فاحتملوه فوق الترس، ورفعوها بالرماح حتى ألقوه عليهم، فلم يزل يقاتلهم دون بابها حتى فتحه، ودخل المسلمون الحديقة من الباب الذي فتحه البراء، وفتح الذين دخلوا الأبواب الأخرى، وحوصر المرتدون وأدركوا أنها القاضية، وأن الحق جاء وزهق باطلهم، وخلص المسلمون إلى مسيلمة، وإذا هو واقف في ثلمة جدار كأنه جمل أورق، وهو يريد يتساند لا يعقل من الغيظ، وكان إذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه، فتقدم إليه وحشي بن حرب قاتل حمزة فرماه بحربته فأصابه، وخرجت من الجانب الآخر، وسارع إليه أبو دجانة سِمَاك بن خرشة فضربه بالسيف فسقط، فكان جملة من قُتلوا في الحديقة وفي المعركة قريبًا من عشرة آلاف مقاتل، وقتل من المسلمين ستمائة، ثم بعث خالد الخيول حول(2/19)
اليمامة يلتقطون ما حول حصونها من مال وسبي، وقد استشهد في معركة اليمامة عدد من سادات الصحابة منهم: ثابت بن قيس بن شماس : وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشره بالشهادة، وقتل يوم اليمامة شهيدًا، وكانت راية الأنصار يومئذ بيده. واستشهد أيضاً زيد بن الخطاب t: وهو أخو عمر بن الخطاب لأبيه وكان أكبر من عمر، أسلم قديمًا وشهد بدرًا وما بعدها، وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين معن بن عدي الأنصاري وقد قتلا جميعًا باليمامة، وقد كانت راية المهاجرين يومئذ بيده فلم يزل يتقدم بها حتى قتل فسقطت، فأخذها سالم مولى أبي حذيفة، وقد قال عمر لما بلغه مقتل زيد بن الخطاب: رحم الله أخي زيد سبقني إلى الحسنيين، أسلم قبلي واستشهد قبلي. وقتل أيضاً عبد الله بن سهيل بن عمرو: ولما حج أبو بكر عزى أباه فيه، فقال سهيل: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يشفع الشهيد لسبعين من أهله". فأرجو أن يبدأ بي. واستشهد أبو دجانة سِمَاك بن خرشة: وكان أبو دجانة يوم اليمامة من أبطال المسلمين، فقد رمى بنفسه إلى داخل الحديقة فانكسرت رجله فقاتل وهو مكسور الرجل حتى قتل. واستشهد أيضاً عبَّاد بن بشر: وقد أبلى يوم اليمامة بلاء حسنًا، فقد وقف على نشز مرتفع من الأرض، ثم صاح بأعلى صوته: أنا عبّاد بن بشر، يا للأنصار يا للأنصار، ألا إليَّ ألا إليَّ، فأقبلوا إليه جميعًا وأجابوه: لبيك لبيك، ثم حطّم جفن سيفه فألقاه، وحطّمت الأنصار جفون سيوفهم، ثم قال جملة صادقة: اتبعوني، فخرج حتى ساقوا بني حنيفة منهزمين حتى انتهوا بهم إلى الحديقة فأغلق عليهم. ولما تمكن المسلمون من اقتحام باب الحديقة، ألقى درعه على بابها، ثم دخل بالسيف صلتا يجالدهم حتى قتل شهيدًا باليمامة وهو ابن خمس وأربعين سنة، ولم يعرف إلا بعلامة في جسده لكثرة ما فيه من الجراح t.(2/20)
وقتل أيضاً الطفيل بن عمرو الدوسي: وقد رأى الرؤيا قبل استشهاده حيث قال: خرجت ومعي ابني عمرو فرأيت كأن رأسي حُلق، وخرج من فمي طائر، وكأن امرأة أدخلتني فرجها، فأولتها: حلق رأسي قطعه، وأما الطائر فروحي، وأما المرأة فالأرض أدفن فيها، فاستشهد يوم اليمامة. رضي الله عن هؤلاء الأبطال من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين نالوا شرف إيقاف زحف حركة الردة في زمانهم، بتقديم هذه النماذج الرائعة والفريدة في التضحية والإخلاص لله جل وتعالى.
بارك الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...(2/21)
أما بعد: أيها المسلمون: وقد أبلى في معركة اليمامة أبا سليمان خالد بن الوليد بلاءً عجيباً وقدم بطولات نادرة، فقد ضرَّس في القتال فجعل يقحم فرسه ويقولون له: الله الله! فإنك أمير القوم ولا ينبغي لك أن تتقدم، فيقول: والله إني لأعرف ما تقولون، ولكن ما رأيتني أصبر وأخاف هزيمة المسلمين. ولما اشتد القتال ولم يزد بني حنيفة ما قتل منهم إلا عنفًا وضراوة، برز حتى إذا كان أمام الصف دعا إلى المبارزة ونادى الناس بشعارهم يومئذ وكان: "يا محمداه"، فجعل لا يبرز له أحد إلا قتله ولا شيء إلا أكله، فقد كان يرغب في النصر ويتحرى الشهادة. ولنترك لخالد يصف لنا جولة من المصارعة بينه وبين أحد جنود مسيلمة داخل حديقة الموت قال رضي الله عنه: ولقد رأيتني في الحديقة وعانقني رجل منهم وأنا فارس وهو فارس، فوقعنا عن فرسينا، ثم تعانقنا بالأرض، فأجؤه بخنجر في سيفي، وجعل يجؤني بمعول في سيفه، فجرحني سبع جراحات، وقد جرحته جرحًا أثبته به فاسترخى في يدي وما بي حركة من الجراح، وقد نزَفت من الدم، إلا أنه سبقني بالأجل فالحمد لله على ذلك. وقد شهد خالد لبني حنيفة على قوتهم وشدة بأسهم فقال: شهدت عشرين زحفًا فلم أر قومًا أصبر لوقع السيوف ولا أضرب بها ولا أثبت أقدامًا من بني حنيفة يوم اليمامة، وما بي حركة من الجراح، ولقد أقحمت حتى أيست من الحياة وتيقنت الموت.
وكان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من حفاظ القرآن، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر t بمشورة عمر بن الخطاب t بجمع القرآن حيث جُمع من الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال، وأسند الصدّيق هذا العمل العظيم إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري t.(2/22)
وقد استشهد كثير من المهاجرين والأنصار في هذه المعركة الفاصلة، وكانت المدينة على الرغم من فرحها بانتصار المسلمين على المرتدين ما زالت تبكي شهداءها، ففي حرب اليمامة وحدها قتل من المسلمين مائتان وألف، منهم عدد من كبار الصحابة، وفيهم أكثر حفّاظ القرآن، نحو أربعين من القرّاء، وعصرت الأحزان قلب المدينة، وغمرت الدموع ابتسامات الفرح بالنصر، وضاقت الصدور، وثقلت المحنة على القلوب بقدر ما أضاء انتصار المسلمين غيابات النفوس، وقَوّى من إيمانهم، وغرس الثقة في أعماقهم.
لقد تركت حروب الردة آثارًا ونتائج لم تكن محدودة الزمان والمكان، وإنما شملت أجيالاً وآمادًا وتصورات، وأفكارًا وسلوكيات، وأحكامًا ما زالت تُغذّي الأجيال من بعدها وتمدها بالكثير، ومن أهم تلك النتائج:
أولاً: تميز الإسلام عما عداه من تصورات وأفكار وسلوك: إن من نتائج أحداث الردة حفظ التصور الإسلامي من التحريف والتشويه، وأنْ تجردت الراية الإسلامية من العصبية الجاهلية والولاء المختلط، وصارت خالصة من أيّة شائبة.
ثانياً: أظهرت أحداث الردة معادن أصيلة في بنية قاعدة هذه الدولة، وكشفت عن عناصر صلبة، فلم يكونوا أفراداً متناثرين، ولكنهم كانوا يشكلون القاعدة لهذا المجتمع ولهذه الدولة، ولم تكن قاعدة رخوة أو هشة أو ساذجة، وإنما كانت قاعدة صلبة واعية، تدرك حقيقة نفسها وحقيقة عدوها وتعي أبعاد المخاطر من حولها، وتخطط بانتباه ويقظة كاملة في مواجهة كل الصعاب، وهي مع هذا وذاك موصولة بالقوي العزيز، ولهذا انتصرت على كل خصومها وأزالت كل العوائق من طريقها.
ثالثاً: أصبحت جزيرة العرب بسكانها قاعدة الفتوح الإسلامية بعد ذاك، وصارت هي النبع الذي يتدفق منه الإسلام ليصل إلى أصقاع الأرض فاتحًا ومعلمًا ومربيًا.(2/23)
رابعاً: ومن خلال أحداث الردة التي ميزت الصفوف وامتَحنت الطاقات والقدرات، وكَشفت عن الطبقة التي كانت تغطي معادن الأمة، ظهرت المعادن الخسيسة على حقيقتها، وأُعطيت القيادة للمعادن النفيسة الصلبة المصقولة لتمسك بزمام الأمور في حركة الفتوح القادمة.
خامساً: إن أية محاولة للتمرد على دين الإسلام سواء أقام بها فرد أم جماعة أم دولة، إنما هي محاولة يائسة مآلها الإخفاق الذريع والخيبة الشنيعة، لأن التمرد إنما هو تمرد على أمر الله المتمثل بكتابه الذي تكفّل بحفظه وحفظ جماعة تلتف حوله وتقيمه في نفوسها، إن مصير الكائدين لدين الله هو البوار في الدنيا والآخرة، وما أجمل ما قال الشاعر:
كناطح صخرة يومًا ليوهنها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
وللحديث بقية ...
اللهم ..
حركة الردة (3)
4/5/1429هـ
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله ..
أما بعد أيها المسلمون: انتهينا في جمعتين سابقتين من العرض التاريخي لحركة الردة الأولى التي حصلت، وكيف أن صدّيق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه تصدى لها وأوقف زحفها. واليوم تموج تيارات من الردة بلدان العالم الإسلامي، فكم نحن بحاجة ماسة إلى حزم الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وموقفه العظيم من المرتدين، الذي أصر فيه على حربهم حتى عادوا إلى الإسلام. ولكن صدق من قال: "ردة ولا أبا بكر لها".(2/24)
أيها المسلمون: من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن الله تعالى أتم هذا الدين وجعل شريعة الإسلام أكمل الشرائع وأحسنها، وقد جاء هذا الدين شاملاً لجميع جوانب الحياة البشرية، ولذا أوجب الله تعالى على عباده الالتزام بجميع أحكام الإسلام فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّة)، كما جاء هذا الدين موافقاً للفطرة السوية الصحيحة، فقال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) فإذا كان الشخص مسلماً لله تعالى، والتزم بدين الله تعالى، فأبى إلا أن ينسلخ من الهدى، ويتلبس بالضلال، فيمرق من الحق والنور إلى الباطل والظلمات، فهذا مرتد عن دين الإسلام، ناقض لعقد الإيمان، مصادم لما عليه هذا الكون الفسيح من سماء وأرض ونبات وحيوان من الاستسلام لله تعالى والخضوع له، كما قال سبحانه: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْض). وإذا كانت قوانين البشر مع ما فيها من القصور والتناقض والاضطراب توجب مخالفتها عند أصحابها الجزاءات والعقوبات، فكيف بمناقضة شرع الله تعالى، والانسلاخ من حكمه وهو أفضل الأحكام على الإطلاق؟.
لقد شرع الله تعالى إقامة الحدود، ومنها: حد الردة، تحقيقاً لأهم مقاصد الشريعة وهو حفظ الدين، وهو سبحانه الحكيم في شرعه، الرحيم بعباده، العليم بما يصلح أحوال خلقه في معاشهم ومعادهم. وفي الآونة الأخيرة تطاول شرذمة من السفهاء على هذه الشريعة، فوصفوا الأحكام الشرعية المترتبة على المرتد بأنها استبداد وقسوة ومناقضة للحرية الفكرية، فقام من يرد ذلك الإفك بضعف وتأوّل متكلف وانهزامية ظاهرة، فلا الإسلامَ نصروا ولا السفهاء كسروا.(2/25)
أيها المسلمون: الردة هي الرجوع عن الإسلام إما باعتقاد أو قول أو فعل، فقد تكون الردة قولاً قلبياً كتكذيب الله تعالى في خبره، أو اعتقاد أن خالقاً مع الله عز وجل، وقد تكون عملاً قلبياً كبغض الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الاتباع والاستكبار عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تكون الردة قولاً باللسان كسبِّ الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الاستهزاء بدين الله تعالى، وقد تقع الردة بعمل ظاهر من أعمال الجوارح كالسجود للصنم، أو إهانة المصحف. فإذا تقرر مفهوم الردة، فإن من تلبّس بشيء من تلك النواقض يكون مرتداً عن دين الإسلام، فيقتل بسيف الشرع، فالمبيح لدمه هو الكفر بعد الإيمان، وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا المقام: "فإنه لو لم يقتل ذلك المرتد لكان الداخل في الدين يخرج منه، فقتله حفظ لأهل الدين وللدين، فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه" انتهى. كما يقتل المرتد، فإنه لا يغسّل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث، بل يكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين.
وقد التزم الصحابة رضي الله عنهم بهذا الحكم، فعندما زار معاذ بن جبل أخاه
أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما، وكانا أميرين في اليمن، فإذا رجل موثق، فقال معاذ: ما هذا؟ قال أبو موسى: كان يهودياً فأسلم ثم تهوّد، ثم قال: اجلس، فقال معاذ: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله، فأمر به فقتل.(2/26)
وقد قام خلفاء وملوك الإسلام وفي عصور مختلفة بإقامة حكم الله تعالى في المرتدين تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مر معنا موقف الصديق رضي الله عنه تجاه المرتدين وقتاله لهم، وسار على ذلك بقية الخلفاء الراشدين ومن تبعهم بإحسان. واشتهر المهدي الخليفة العباسي بمتابعة الزنادقة المرتدين، حيث عيّن رجلاً يتولى أمور الزنادقة. وقَتل عبد الملك بن مروان رحمه الله معبد الجهني، لأنه أول من تكلم في القدر. قال الحسن البصري: "إياكم ومعبداً فإنه ضال مضل، صلبه عبد الملك بن مروان في سنة ثمانين بدمشق ثم قتله". وقَتل الأمير خالد بن عبد الله القسري للجعد بن درهم، لإنكاره لصفتين من صفات الله عز وجل، فعن حبيب بن أبي حبيب قال: "خطبنا خالد بن عبد الله القسري بواسط يوم الأضحى فقال: أيها الناس ارجعوا فضحوا تقبل الله منا ومنكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله تبارك وتعالى لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، سبحانه وتعالى عما يقوله الجعد بن درهم علواً كبيراً". ثم نزل فذبحه. وقَتل أسلم بن أحوز للجهم بن صفوان لإنكاره لصفات الله عز وجل متوهماً تنزيهه بذلك. قال الذهبي رحمه الله: "إن أسلم بن أحوز قتل جهمَ بن صفوان لإنكاره أن الله كلم موسى". وقَتل هشام بن عبد الملك لغيلان الدمشقي لإنكاره القدر، بعد أن تهدده عمر بن عبد العزيز بالقتل من قبل، ولكنه تظاهر بالتوبة.
ويعدّ الحلاّج من أشهر الزنادقة الذين تمّ قتلهم بسيف الشرع دون استتابة، وقد بسط الحافظ ابن كثير رحمه الله الحديث عن أحوال الحلاج وصفة مقتله، فكان مما قال: "قُدِّم الحلاج فضُرِبَ ألف سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه، وحز رأسه، وأحرقت جثته، وألقى رمادها في دجلة، ونصب الرأس يومين ببغداد على الجسر، ثم حمل إلى خراسان وطيف في تلك النواحي".(2/27)
ومما يجدر ذكره أن الردة التي جاهر بها بعض زنادقة هذا العصر أشنع من ردة الحلاج والله المستعان. لكن من أمن العقوبة أساء الأدب، والله حسبنا ونعم الوكيل، ورحم الله الإمام ابن العربي رحمه الله عندما وصف كفر غلاة الشيعة بأنه كفر بارد لا تسخنه إلا حرارة السيف.
أيها المسلمون: والحكمة في وجوب قتل المرتد أنه لما عرف الحق وتركه صار مفسداً في الأرض لا يصلح للبقاء لأنه عضو فاسد يضر المجتمع ويسيء إلى الدين، وقد يفتح المرتد لأعداء الأمة ثغرات للإضرار بها بما يقدمه لهم من معلومات، وقد تؤدي الردة إلى اضطراب المجتمع بإغراء البسطاء بالإقتداء بالمرتد حين يظفر بحماية أعداء الملة وما يغدقون عليه من رفاهية العيش. لذا كان من محاسن حكم الشريعة قطع رقبة المرتد.(2/28)
أيها المسلمون: وأنواع الردة كثيرة: أعظمها الشرك بالله تعالى بعد إسلام: ويدخل تحت هذا صوراً كثيرة من دعاء غير الله من الموتى والأولياء والصالحين، أو ذبح لقبورهم، أو نذر لها، أو طلب الغوث والمدد من الموتى، كما يفعل عباد القبور اليوم، قال الله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). ومن جحد بعض الرسل أو بعض الكتب الإلهية أو جحد الملائكة فهو مرتد. ومن جحد البعث بعد الموت فهو مرتد، ومن سب الله تعالى أو سب نبيه صلى الله عليه وسلم فهو مرتد. ومن جحد تحريم الزنا أو جحد تحريم شيئ من المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها كشرب الخمر وأكل الخنزير فهو مرتد، ومن حرّم شيئاً مجمعاً على حله فهو مرتد. ومن استهزأ بالدين أو سخر بوعد الله أو بوعيده أو امتهن القرآن الكريم أو زعم أن القرآن نُقص منه شيئ أو كُتم منه شيئ فهو مرتد، ومن جحد وجوب عبادة من العبادات الخمس الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام" فهو مرتد. ومن سوّغ لنفسه اتباع غير دين الإسلام ولو في جزئية، أو اتباع غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو مرتد. ومن لم يكفّر من دان بغير الإسلام كاليهود والنصارى والشيوعيين والملاحدة، أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فهو مرتد. ومن ادعى علم الغيب فهو مرتد. ومن اعتقد أن هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه فهو مرتد، ومن أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن عمل به فهو مرتد. ومن تولى وظاهر المشركين وأعان اليهود أو النصارى على المسلمين فهو مرتد. ومن حكّم القوانين الوضعية بدل الشريعة الإسلامية، ويرى أنها أصلح للناس من شريعة رب العالمين فهو مرتد.(2/29)
ومن سب الصحابة أو أحداً منهم كأن كان دينه سب أبي بكر وعمر واقترن بسبه دعوى أن علياً إله أو نبي فهم مرتد. ومن اعتنق فكر الشيوعية أو القومية العربية أو العلمانية أو الليبرالية بديلاً عن الإسلام فهو مرتد. ومن ترك الصلاة إما جحوداً أو تهاوناً مع الإقرار بوجوبها فهو مرتد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر"، ولقوله تعالى: (ما سلككم في سقر؟ قالوا لم نك من المصلين). وقد كثر التهاون بالصلاة والتكاسل عنها، والأمر جد خطير.
فنسأل الله جل وتعالى أن يهدي ضال المسلمين، إنه ولي ذلك والقادر عليه ..
نفعني الله وإياكم بهدي ....
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد: أيها المسلمون: للردة عن الدين أسباب:
منها: الذكاء والعقل والاعتداد بالرأي والاعتداد بالنفس والثقة المطلقة بها: لا شك بأن العقل نعمة من الله جل وتعالى على العبد، لكن ينبغي أن يعلم العبد بأن للعقل حدود، وهناك قضايا ينبغي للعبد أن لا يخوض فيها بعقله وإلاّ هلك، مثل قضايا الغيب ونحوها، فهناك من العباد من أعطاهم المولى عقولاً غير عادية، لكن هذا العقل كان سبباً في ردتهم، قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " أوتوا ذكاءً ولم يؤتوا زكاءً ". من هؤلاء عدد ذكرهم الذهبي في تاريخه "كالسهروردي" الذي كان يتوقد ذكاءً، وكان بارعاً في أصول الفقه، قال عنه الذهبي: "مفرط الذكاء لم يناظر أحداً إلا أربى عليه إلا أنه قليل الدين". فهذا الرجل مع ما أعطاه الله من الذكاء إلا أن علماء وقته أفتوا بقتله، لأن عقله أدخله في التعطيل والانحلال فُقتل بسبب عقله وذكائه ومات مرتداً والعياذ بالله.(2/30)
قال الإمام عبدالعزيز بن باز رحمه الله: "من قال أنه يؤمن بعقله فقط دون الشرع فإنه يبين له أن هذا كفر، فإن أصر على مقالته فهو كافر مرتد عن الإسلام يستتاب من جهة ولاة الأمر فإن تاب وإلاّ قتل مرتداً".
ومن أسباب الردة: الشهوات: سواء كانت شهوة الفرج أو شهوة المنصب ولكل ضحايا سقطوا فيها، وقد جمع بين الأمرين أحد أبناء الملك السلطان المعز التركماني حاكم مصر في القرن السادس الهجري، وكان ديّناً عاقلاً لكن أحد أولاده تعلق قلبه بامرأة نصرانية فتزوجها وأنجبت له أولاد تأثروا بأمهم فعاشوا على النصرانية ثم تنصر هو في النهاية وسمى نفسه ميخائيل، قال الذهبي رحمه الله في ترجمته: "نعوذ بالله من الشقاء، فهذا بعد سلطنة مصر كفر وتعثر".
وممن ترك الحق بسبب شهوة الملك والسطان "هرقل" وقصته معروفة مشهورة ذكرها البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، حيث ذكر اللقاء التي تم بين سفيان بن حرب وهرقل، حيث سأل هرقل عن بعض الأمور المتعلقة بالنبي صلى الله عليه وسلم، عن نسبه؟ وهل أتباعه يزيدون أم ينقصون؟ وهل يُتهم بينكم بالكذب؟ وهل يغدِر؟ ثم سأله بماذا يأمركم؟ فقال: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَة، فقال هرقل في آخر كلامه: فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ. فهرقل كان يعلم صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فماذا الذي جعله لا يتجشم الصعاب حتى يخلص إليه؟ ولماذا لم يسلم؟ إنها شهوة الملك، لأنه يعلم أنه بمجرد إسلامه سيفقد الحكم والسلطان.(2/31)
ومن أسباب الردة أيضاً: الفقر: فقد يكفر الإنسان بسبب الفقر، والذي لم يجرّب لا يمكن له أن يتصور الأمر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الفقر.
ومن أسباب الردة أيضاً: تبني الشخص لبعض الأفكار: وقد تكون البداية عبارة عن قراءات واطلاعات، ثم يبدأ بالاقتناع بهذه الأفكار، ثم يعتنقها ويعتقدها بديلاً عن الإسلام، ثم يبدأ بالدفاع عنها وترويجها وربما الكتابة والتأليف، ولو تتبعنا أغلب من اقتنع بمبادئ العلمانية أو الحداثة أو الليبرالية فإنهم بهذا الشكل، مطالعات وقرءات حتى تصل إلى حد القناعة والاقتناع ثم تصبح العلمانية أو الليبرالية هو الدين الجديد الذي يعتنقه بديلاً عن الإسلام، ومثلهم من اقتنع بمبادئ الشيوعية والماركسية وصاروا يعتقدون أنها أفضل من مبادئ الإسلام.
وتأسف كثيراً عندما تطالع على صفحات المجلات والجرائد كتابات من هذا النوع تطرح الفكر العلماني وتنادي بالحداثة وتهاجم أصول الدين بأنها من الموروثات القديمة البالية والتي يجب أن تستبدل بما عند الغرب، وسيأتي مزيد تفصيل عن هذه النقطة في الجمعة القادمة إن شاء الله تعالى.(2/32)
أيها المسلمون: إن الفوضى الفكرية التي يعيشها العالم المعاصر، والاضطراب الهائل في المفاهيم، والتناقض المكشوف في المعتقدات والمبادئ كان سبباً في الإخلال بالثوابت والتمرد على الدين والأخلاق. لقد وجد الانسلاخ من الدين في العالم الغربي، والخروج عما استقر في الفطر السليمة والعقول الصحيحة، وأجلب أعداء الله تعالى بخيلهم ورجلهم، وسعوا إلى بث هذا الانحراف في بلاد المسلمين، وجاء أقوام من هذه الأمة يتتبعون مسلك أولئك المنتكسين حذو القذة بالقذة. فلا عجب أن تظهر العلمانية والليبرالية في بلاد المسلمين، بعد أن ظهرت في العالم الغربي، والتي تنادي برفض ما هو قديم وثابت، بما في ذلك المعتقدات والأخلاق، وتغيير المسلّمات والحقائق الثابتة، وضرورة التحول والتطور من الأفكار القديمة إلى مواقف مستنيرة. ثم تؤصل هذه الردة، وتنشر في الآفاق عبر ملاحق أدبية، ومجلات متخصصة، ومن خلال محاضرات وندوات ومهرجانات.
فالحذر الحذر مما ينشر ويكتب ويقال، فإن هناك من يدس السم في العسل، وغالب الناس لا يميزون ولا يقرأون ما وراء السطور، ولو دقق الشخص وتأمل لرأى الردة عن الدين بعينها.
وللحديث بقية ..
اللهم ..
حركة الردة (4)
11/5/1429هـ
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله: أما بعد أيها المسلمون: نختم حديثنا عن حركة الردة بما نقرأ ونسمع هذه الأيام، عبر ما ينشر في وسائل الإعلام المختلفة، على أيدي عدد من العلمانيين والليبراليين الذين تجرأوا على الله تعالى جرأة غير عادية، وخُصص لهم أعمدة في زوايا الصحف والجرائد اليومية.
أيها المسلمون: ليس أضرَّ على الأمةِ والمجتمعِ مِنْ رواجِ فكرٍ دخيلٍ يُبلبل العقولَ ويُوحشُ القلوبَ، وحين تُخلخلُ الثقةُ بالمُسَلَّمَاتِ، وتَطالُ التهمُ علماءَ الأمة وروادَ الإصلاحِ والفكرِ فيها، فلا تَسألْ عنِ التشنيعِ بغيرِهم، والبُهتانِ لِمَنْ دونََهم.(2/33)
إنَّ مَنْ يُراقبُ ساحتَنا الفكريةَ، ويُتابعُ مُنتدياتِ الحوارِ، وأعمدةَ الصحفِ، وزوايا الإعلامِ الأخرى، يَرى مِنْ ذلك كلِّه عَجباً، وبوادرَ خطر، يرى العقلاءُ و ميضَ النارِ مِنْ خِلالِ الرماد، ويخشون ضرامَ النارِ مِنْ مُستَصْغَرِ الشرر، لقد بلغ السيلُ الزُبا، وتجرَّأ على الثوابت مَنْ لا يزن الأمور، أو يتحسبُ لعواقبِها، وأصبحتِ الكلمةُ بلا زمامٍ أو خُطام، تطيرُ في الآفاقِ تحملُ الهدمَ، وترسمُ معالمَ التشكيكِ، وتُؤذي الصالحين، ويَحتارُ لها العوامُ، ويَتحسَّسُ مِنْ آثارِها العالِمون، ويَتبرَّمُ منها العقلاءُ والمنصفون.(2/34)
أيها المسلمون: لقد بُلينا مِنْ قبلُ وظهرتِ البلوى أكثرَ في هذهِ الأيام، بدهاقنةٍ للعلمنةِ والتغريبِ، يطرحون غريبَ القولِ بلا خوفٍ ولا ترددٍ ولا حياء، وفي أطروحاتِهم طوام، وثَمَّةَ أُغَيْلِمَةٌ بدأت تقتحمُ المُهْلِكَاتِ، وتَتَسلَّقُ جُدرَ المُسَلَّمات، وتَرمِي بشررِها الأكابرَ مِنَ العلماءِ، تَلمزُ هذا، وتَتَّهمُ ذاك، وتَنسبُ إلى بعضِهم زُوراً وبهتاناً رديءَ القول، وترميهم بقبيحِ التُّهمِ، وتتجرأُ على الفتوى، وتُبيحُ لنفسِها الاجتهادَ، وتعاظمتْ في نقدِهَا حتَّى لم تُبقِ ولم تَذرْ، وآخرون شبابٌ أخيار، وإنْ كانوا قلةً لكنْ جَنحتْ بهم القراءةُ إلى مواقعَ الهوى ومصايدَ الشيطان، بدؤوا مُبَكِّرين، ودونَ مَناعةٍ تُذكَر، في قراءةِ كتبِ الروايات، وكتاباتٍ حديثةٍ تَنطوِيْ على العَصْرَنَةِ أو العلمنةِ والتغريبِ، وتَتَّخِذُ مِنَ الجدلِ وسيلةً لإسقاطِ الثوابت، وتَهْميشِ الحقائق، والتشكيكِ في المُسَلَّمات، وهذهِ الفئةُ وإنْ قلتْ، فإنا نخشى إنْ طال مسارُها في هذا الطريقِ أنْ تكونَ إشكاليةَ المستقبل، ومعوقاً عَنِ الإنتاجيةِ والبذلِ حِينَ تُشغِلَ نفسَها أو غيرَها في الجدل، وتُعنى بالنقدِ لكلِّ شيء ولكلِّ أحدٍ!. نعم إنَّ النقدَ الهادفَ سيبلٌ للتطويرِ والإصلاح، ولكن الجدلَ ما أُوتيَهُ قومٌ إلا ضَلُّوا، وفرقٌ بينَ مَنْ يُمارسُ العطاءَ والبذلَ مع النقدِ، وبينَ مَنْ هو حفيٌ بالنقد، مولعٌ بالجدلِ ليس إلا.
إنَّه حقٌ على الأغيارِ ورُبَّانِ السفينة، ورجالِ التربيةِ، وقادةِ الفكرِ، وأهلِ الذكرِ أنْ يَتهيَّئُوا لهذهِ المخاطر، وأنْ يسارعوا لعلاجِ هذه الظواهر، فالمسلمون نصَحةٌ، ومِنَ جُملِ الإيمانِ أنْ يُحبَّ المرءُ لأخيهِ ما يُحبُّهُ لنفسِه، وينبغي أنْ تُحفظَ الطاقاتُ وتُوجَّهَ الملكاتُ.(2/35)
أيها المسلمون: ولكي لا يكون الكلام عاماً، سأنقل لكم بعض ما يكتب وينشر في الصحف والمجلات من كلام مصادم لمسلّمات الدين وأصول المعتقد. وأعتذر إليكم بقراءة هذه المقاطع، وأتجاوز عن ذكرِ أسماءِ كاتبيها.
يقول أحدهم: (إن السلفية التقليدية المتغلغلة في أعماق وعينا الاجتماعي والثقافي، تزعم أن التوحيد هو مرتكز خطابها، وأنها كخطاب أيديولوجي نشط تسعى للقضاء على مظاهر التوثن، أياً كانت تمظهراتها في المجتمع، وهذا الزعم يكاد إبان محاولة موضعته في الواقع يقارب درجة الهوس الأيديولوجي).
ويقول أيضاً: (ربما كان من قَدَر المرأة لدينا، أن تواجه أكثر من سور منيع، يحول بينها وبين الحصول على أقل القليل من حقوقها الفطرية، تلك الحقوق التي منحتها إياها الطبيعة ابتداءً).
ويقول أيضاً: (لم ينهض التنوير الأوربي المجيد، الذي أخرج الإنسانية من ظلمات الجهل والتخلف والانحطاط، إلى نور العلم والتقدم والمدنية الإنسانية، إلا على إيمان راسخ وعميق بهذا الإنسان، إيمان متفائل، يتكئ على فعاليات عقلية، ومعطيات تجريبية من عالم الواقع المادية).
ويقول آخر: (التصور الحقيقي للولاء والبراء أن يكون مربوطاً بمصلحة الأمة ومصلحة الدولة ومصلحة المجتمع).
ويقول آخر: (نحن نحتاج إلى إسلام كإسلام الجيل الثالث اليوم من أبناء المسلمين في فرنسا).
ويقول أخر: (وصار غاية مطلب هؤلاء القوم فهم كلام ابن تيمية على وجهه، وقلما كانوا يفعلون ذلك، فضلا عن النظر في صحة هذا الكلام أو ما وراءه، وصار غاية بعضهم، وكدت أقول غالبهم، الاكتفاء بنقل كلام ابن تيمية دون تكلف فهم له أو دراسة، مما أدى إلى جمود الفكر، وضعف حال كثير من المنتسبين إلى وخريجي معاهده ومدارسه وجامعاته).(2/36)
ويقول أيضاً: (إن الفلسفة التي أبدعها اليونانيون ابتداء من القرن السابع قبل الميلاد والتي بلغت ذروة ازدهارها في القرن الخامس قبل الميلاد، والتي أحياها الأوربيون في العصر الحديث تمثل طفرة ثقافية هائلة على المستوى الإنساني كله، فهي أول انطلاقة ذاتية للعقل البشري خارج السائد والمورث، فقد كان الناس قبلها وما زالوا في المجتمعات التي لم تستفد من الفكر الفلسفي يستسيغون أن يبقوا نسخاً مكررة).
ويقول آخر: (الجنون الذي نراه اليوم عرض من أعراض المرض، والعلة التي استشرت في جسد هذه الأمة وثقافاتها، وهذه راجعة أساساً إلى تراث متعفن، وثقافة الصديد والضحالة التي يربى أبناؤنا عليها صباحاً ومساءً، في المساجد، وعبر خطب الجمعة، وفي دروس الدين، ومن إذاعة القران الكريم).
ويقول آخر: (ولو أن الحكومة والأغنياء اقتصروا على نشر الكتب المحايدة، لكان أولى من نشر الكتب الموغلة في المذهبية التي لها أثرها البالغ في زيادة الغلو وتفكيك وحدة المسلمين وزيادة تنازعهم، ككتب ابن تيمية وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله، فهذه الكتب تزرع من الشقاق أكثر مما تزرعه من الخير، ولا تكاد تدخل بيتاً إلا وانتشر فيه الخلاف والتهاجر والتباغض).
ويقول آخر: (ومما لا شك فيه أن ضخ هذا الكم الهائل من الرؤى التنويرية في المجتمع ساعد إلى حد كبير في مواجهة كتب الخرافة التي تبحث في عالم الأرواح والشياطين وأحوال الجان وثعابين القبور).
ويقول آخر: (أن العالم العربي ما زال يُحكم بسيف معاوية، بعد انطفاء الوهج الراشدي، وأن الثقافة العربية تستحم بالعنف منذ المصادرة الأموية، وتوديع حياة الراشد، واعتناق حياة الغي، وتفشي روح الغدر والقتل والانقلابات والتآمر، فليس بعد الرشد إلا الغي).(2/37)
ويقول أيضاً: (إن السلطان محمد الفاتح، وفتح مدنية القسطنطينية يذكِّر بشارون وهو يريد احتلال القدس وطرد أهلها منها. وبغض النظر عن فظاعات الفتح، وحجم النهب والسلب، والاغتصاب على يد الانكشارية، فإن أول ما فعله محمد الفاتح أن وضع يده على أقدس مقدساتهم: أياصوفيا، تلك التحفة التاريخية، ليحولها إلى مسجد. لم يكن هذا الفتح انتشاراً على منهج النبوة، بل اجتياحاً عسكرياً ونسميه إسلامياً).
ويقول: (يجب أن نحزن لحزن أمريكا، لأن فشلها فشل لكل الجنس البشري، ولأنها تمثل طليعة الجنس البشري).
ويقول آخر: (وصل الإرهاب المجنون إلى لندن قلب العالم المتحضر، إلى ذلك العالم الحي النابض بدماء الحرية والكرامة والإنسانية، لندن مدينة السلام بحق تفيق من سباتها الأمني المضمخ بعبق التاريخ والمعاصرة على النعيب الأصولي).
ويقول: (وفي المملكة المتحدة بريطانيا التي أشرق منها نور الحضارة المعاصرة، حيث شق الهدى، هدى الحضارة الإنسانية أكمامه، وتهادى موكباً دون موكب).
ويقول أيضاً: (لقد كانت الحضارة الغربية إبان لحظة اللقاء معجزة إنسانية لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري، بل لم يوجد ما يقاربها، ولو في أدنى مستوياتها البدائية التي أفرزتها فترات الإصلاح الديني).
ويقول: (هل ننكر أو نستنكر ما ورد في كتاب رائج عندنا، نوصي به أبناءنا، ككتاب إغاثة اللهفان، نوصي أبناءنا بمثل هذه الكتب التي كتبت في عصور الصراع العقائدي، دون تنقية لها من هذا العفن الشائن).
ويقول آخر: (المواطن العربي اليوم محاصر في مثلث من المحرمات، بين الدين والسياسة والجنس، كل ضلع فيه يمثل حاجزاً شاهقاً لا يستطيع أفضل حصان عربي رشيق أن يقفز إلا بالقفز إلى الإعدام، فأمام حائط الدين يطل مفهوم الردة، وأمام جدار السياسة يبرز مصطلح الخيانة، وعند حافة الجنس تشع كل ألوان الحرام والعيب، فالعقل مُصادر ومؤمم وملغى حتى إشعار آخر).(2/38)
ويقول آخر: (وكتب العقائد رغم ما فيها من حق قليل، إلا أن فيها الكثير من الباطل، بل هو الغالب عليها).
ويقول: (جرى الحدث التاريخي فيما يخص السلطة على التراتبية المعروفة بالنسبة للخلفاء الراشدين، رضوان الله عليهم أجمعين، ومع أنه أي الترتيب التاريخي للخلفاء كان حدثاً تاريخياً مجرداً، إلا أنه جرى تحميله معنى دينياً في تراتبية الأفضلية لهؤلاء).
ويقول آخر: (عند سكان استراليا الأصليين، تتدلى أثداء النساء بدون أن تثير الفتنة. وفي كهوف الفلبين، يعيش الناس رجالاً ونساءً مع أطفالهم في حالة عري كامل، فلا يصيح واعظهم أن هذا مخل بالأخلاق!. وبالمقابل فإن كشف يد امرأة متلفعة بالسواد من مفرق رأسها حتى أخمص القدم في بعض المناطق من العالم العربي، يثير الشهوة عند رجال يعيشون في حالة هلوسة جنسية عن عالم المرأة).
أيها المسلمون: هذا شيء يسير جداً مما يكتب وينشر على الناس يومياً عبر الصحف والجرائد والمجلات. وما لم يُصلحِ المُفسدون ما أفسدوا، أو يَتدخلْ ولاةُ الأمرِ مِنَ الأمراءِ والعلماءِ في وضعٍ حدٍ لهذه الأطروحات الفَجَّةِ، والمهاتراتِ المُفرقة، فسيَصطلي المجتمعُ بنارِها، وإنَّ أيةَ أمةٍ يتوفرُ لها أمنٌ وافرٌ، واستقامةٌ راشدةٌ، ورخاءٌ ونعمة ثمّ لم تكن شاكرةً لهذه النعمِ، قائمةً بحقوقِها، مجاهدةً لمن ينالُ منها، آطرةً للسفهاء، انقلب الأمنُ خوفاً، والاستقامةُ انحرافاً، والرخاءُ فقراً، وفي أمثلةِ القرآنِ عبرةٌ لمن اعتبر (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون).(2/39)
أيها المسلمون: إنَّ الانحرافَ الفكريَّ قديم لمن تأمّل حلقاتِ التاريخ، وطالما كان لأساطينِ الاعتزالِ والرفضِ والمتصوفةِ وأمثالِهم دورٌ وأثر، وكان لأئمةِ السلفِ وأصحابِ الدعوة دورٌ وأثر، ٌحتى نفع اللهُ بعلمِهم وجهادِهم، فعاد شاردون، وهدى اللهُ مِنَ الضلالةِ قوماً كانوا عَمِيْن، وبلغ الحالُ ببعضِهم أنْ قال:
وكنتُ جنداً من جنود إبليس حتى ارتمى بي الدهرُ فصار إبليسُ من جندي
نعم ينبغي أنْ تكونَ هناك مبادرةٌ مِنْ قِبَلِ كلِّ الأطراف، لردعِ أي تحفيزٍ أحمقَ نحوَ الانفصامِ الاجتماعي، وخَلقِ عداواتٍ محليةٍ نحن مُشغولون عنها بغيرِها، ولكنَّا معِ ذلكَ لا نرغبُ أن تصلَ الأمورُ إلى ما وصلتْ إليه.
نفعني الله وإياكم بهدي ....
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد: أيها المسلمون: وبعدما سمعتم طرفاً يسيراً مما يكتب وينشر في الصحف والمجلات، اسمعوا هذه الواقعة التاريخية كما دوّنها القاضي عياض رحمه الله في كتابه: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"، حيث قال:
وقد أفتى ابن حبيب وأصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل ابن أخي عَجَب، وكان خرج يوماً فأخذه المطر، فقال: "بدأ الخرّاز يرش جلوده". وكان الفقهاء بقرطبة: أبو زيد، وعبد الأعلى بن وهب، وابن عيسى، قد توقفوا عن سفك دمه، وأشاروا إلى أنه عبث من القول يكفي فيه الأدب، وأفتى بمثله القاضي حينئذ موسى بن زياد، فقال ابن حبيب: دمه في عنقي، أيشتمُ رباً عبدناه، ولا ننصر له؟ إنا إذاً لعبيد سوء، وما نحن له بعابدين، وبكى، ورُفع المجلس إلى الأمير بها عبد الرحمن بن الحكم الأموي. وكانت عجَب عمة هذا المطلوب من أحب الزوجات لعبدالرحمن بن الحكم، وأُعلم باختلاف الفقهاء، فخرج الإذن من عنده بالأخذ بقول ابن حبيب وصاحبه، وأمر بقتله، فقُتل وصُلب بحضرة الفقيهين: ابن حبيب وأصبغ، وعزل القاضي لتهمته بالمداهنة في هذه القصة، ووبّخ بقية الفقهاء.(2/40)
ولنا وقفة يسيرة مع هذه القصة فإن ابن أخي عجب تلفّظ بعبارة تقتضي استخفافاً بالربّ جل جلاله عندما أصابه المطر فقال: "بدأ الخرّاز يرش جلوده"، وقد لا تكون صريحة في ذلك، والرجل لم يجاهر بهذه العبارة عبر إعلام مقروء أو منطوق أو نظم أو منثور، ومع ذلك فهذه العبارة في غاية النشاز والاشمئزاز في المجتمع الإسلامي آنذاك، فلم يقبلها بالكلية، بل ونفر منها تماماً، حتى بلغت أهل العلم في قرطبة فاجتمعوا لها فحكموا على صاحبها. أين هذه المقالة في مقابل ما قرأت عليكم مما ينشر في الصحف والجرائد يومياً عبر مقالات تشّم منها رائحة الردة، يصرح بعض كتابها بأنهم ليبراليون.
وأيضاً: تتجلى روعة الموقف عندما يُمضي عبد الرحمن بن الحكم الأموي حكم القتل على ابن أخي زوجته عجب وهي أحب زوجاته إليه، ولا يكتفي بذلك بل ويعزل القاضي متهماً له بالمداهنة، ويعاتب بقية الفقهاء. فانظر رعاك الله إلى أثر الولاية الشرعية في تحقيق حفظ الدين وإقامة حكم الله تعالى على من تطاول على دينه.(2/41)
أخي الحبيب: بقي أن تعرف أن هؤلاء العلمانيون والليبراليون مدعومون من قبل دول أوربا وأمريكا، وأن الغرب الكافر يدعم كل من ارتد عن دينه من المسلمين، وهذه إحدى التوجهات الغربية الجديدة، فأوربا تحتضن هؤلاء المرتدين، وتنسِّق أنشطتهم، وتدعوهم إلى توحيد جهودهم؟ ففي إطار دعم مالي وإعلامي غربي لم يُعلَن عن مبرراته حتى الآن، أعلنت مجموعة من الجمعيات الأوروبية التي تم تأسيسها مؤخراً للمرتدين عن الإسلام عن عقد اجتماع لهم في لاهاي بهولندا في يوم الحادي عشر من سبتمبر 2007م، تزامناً مع ذكرى أحداث سبتمبر 2001م، للتعريف بمشروع الإعلان الأوروبي للتسامح، وهو إعلان دولي للتعريف بحقوق المرتدين عن الإسلام، ودعوة الإنسانية إلى الدفاع عن تلك الحقوق المزعومة. شاركت منظمات للمرتدين عن الإسلام من كلٍّ من ألمانيا وبريطانيا والسويد والنرويج والدانمارك وفنلندا في هذا الاجتماع، بهدف التأكيد على حقوق أولئك المرتدين.
فهل هذا حدث منفرد؟ أم مقدمة لهجوم جديد على الإسلام؟.
إننا نحذِّر أن العالم سيشهد في الفترة القادمة ضغطاً إعلامياً وفكرياً على العالم الإسلامي، ليس للحديث عن حكم الردة في الإسلام، أو موقف الدول والدعاة والمصلحين من مفارقة المسلم دينَ الإسلام فقط، وإنما ستنتقل الحملة حول موضوع الردة إلى مرحلة الهجوم، بمعنى: أن هناك من سيقود نقاش المرحلة القادمة لكي يتركز حول حقوق المرتدين، وكيف تضمن الدول العربية والإسلامية للمرتد العيش بأمان كونه إنساناً بلا دين، أو التحول إلى دين آخر دون أي تمييز ضده، وحق ذلك المرتد في انتقاد الإسلام تحت شعار حريات التعبير، وحقه كذلك في الحديث عن أسباب تركه وارتداده عن الدين الإسلامي، وكذلك تمكين المرتد من دعوة غيره إلى ترك الإسلام، إضافة إلى حق تكوين الجمعيات والمنظمات التي ترعى حقوق المرتدين في العالم الإسلامي والعربي. كل ذلك سينطلق تحت شعار التسامح المزعوم.(2/42)
أيها المسلمون: لاشك أن سب الرسول صلى الله عليه وسلم ردة عن الدين، وكم ساءنا جميعاً تلك الرسوم التي أساءت لنبينا صلى الله عليه وسلم، وزعموا أن ذلك من باب حرية الرأي وهم كاذبون، وقد تمادوا في غيِّهم حتى دخل في ذلك الإجرام المسؤولون والسياسيون والمفكرون والكتّاب، ووصل الأمر إلى كاهنهم الأكبر. والمسلم بلا شك يحزن لهذه الأمور، وحزنه وغيظه على المتطاولين دليل إيمانه. غير أننا نجد في الجانب الآخر إساءة تأتي من بعض بني جلدتنا ممن يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله وأن الإسلام هو الدين الحق الناسخ لما تَقَدَّمَهُ من الرسالات التي حرَّفها أصحابها، حيث يسارعون في السماح ببناء الكنائس والمعابد التي يُسَبُّ فيها الله تعالى في أرض المسلمين، وهل هناك من سبٍّ أعظم من أن يقال: إن لله تعالى ولداً، أو إن له صاحبة؟! تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علواً كبيراً.
الإسلام لا يُكْرِه أحداً على الدخول فيه، هذا حق، لكنه في المقابل لا يسمح بالتطاول على الدين والشرع وأن يُرخَّص لعُبَّاد الأوثان ببناء المعابد الشركية في بلاد المسلمين، وقد جاء في فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء: "السماح والرضا بإنشاء المعابد الكفرية مثل الكنائس أو تخصيص مكان لها في أي بلد من بلاد الإسلام، من أعظم الإعانة على الكفر، وإظهار شعائره" انتهى.
وإذا كانت تلك الرسوم الفاسدة قد عُدَّت من باب الإساءة، فإن الترخيص ببناء الكنائس في بلاد المسلمين والإعانة على ذلك بالتبرع والهبات ونحو ذلك هو من أشد أنواع الإساءة، والفرق أن الأُولى يقوم بها المشركون، والثانية يدعمها أناس من بني جلدتنا ويدينون بعقيدتنا. وكلام أهل العلم في من يتبرع للمعابد الشركية معروف معلوم، ومن أجل هذا نقول: إن الرسوم الفاسدة في بلاد الغرب وإحداث الكنائس في أرض المسلمين وجهان لعملة واحدة.
فنسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين، وأن يردهم إلى دينه رداً جميلاً ..
اللهم ..(2/43)