ث-{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة البقرة، آية:143)
وتبين الآية الكريمة حرص المؤمنين على اخوانهم وحب الخير لهم:حينما نزلت الآيات التي تأمر المؤمنين بتحويل القبلة الى الكعبة تساءل المؤمنون مشفقين عن مصير عبادة اخوانهم الذين ماتوا وقد صلوا نحو بيت المقدس، فأخبر الله عزوجل أن صلاتهم مقبولة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما وجِّه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الكعبة قالوا: يارسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس(1)، فأنزل الله:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}(سورة البقرة، آية:143) وبين لهم بأنه رؤوف رحيم وبها يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة، ويذهب عنها القلق، ويفيض عليها الرضا والثقة واليقين(2).
__________
(1) انظر: سنن الترمذي (5/208) رقم الحديث 2964.
(2) في ظلال القرآن م1ج2/131-133.(5/98)
جـ-{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ صدق الله العظيم وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ ءَايَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ صدق الله العظيم الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ صدق الله العظيم وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ صدق الله العظيم } (سورة البقرة، آية:144-148)(5/99)
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على أن يتوجه في صلاته إلى كعبة أبيه إبراهيم عليه السلام، فهو أولى الناس به، لأنه من ثمرة دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام، وحامل لواء التوحيد بحق كما حملها إبراهيم عليه السلام، وهو - صلى الله عليه وسلم - كان يحرص على أن يكون مستقبلاً ومتميزاً عن أهل الديانات السابقة، الذين حرفوا وبدلوا وغيروا كاليهود والنصارى ولهذا كان ينهى عن تقليدهم والتشبه بهم، بل يأمر بمخالفتهم، ويحذر من الوقوع فيما وقعوا فيه من الزلل والخطل والانحراف، ومقتضى هذا الحرص أن يتوجه في صلاته بشكل دائم إلى قبلة إبي الأنبياء، وهو أول بيت وضع للناس(1) إن لحادثة تحويل القبلة أبعاداً كثيرة: منها السياسي، ومنها العسكري، ومنها الديني البحت، ومنها التاريخي. فبعدها السياسي أنها جعلت الجزيرة العربية محور الأحداث، وبعدها التاريخي أنها ربطت هذا العالم بالإرث العربي لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبعدها العسكري أنها مهدت لفتح مكة وإنهاء الوضع الشاذ في المسجد الحرام حيث أصبح مركز التوحيد مركزاً لعبادة الأصنام، وبعدها الديني أنّها ربطت القلب بالحنيفية وميزت الأمة الإسلامية عن غيرها، والعبادة في الإسلام عن العبادة في بقية الأديان(2).
__________
(1) انظر: الصراع مع اليهود (1/100).
(2) انظر: الأساس في السنّة (1/440).(5/100)
د-{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ صدق الله العظيم وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ صدق الله العظيم كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ صدق الله العظيم فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ صدق الله العظيم } (سورة البقرة، آية:149-152)
إن نعمة توجيهكم إلى قبلتكم، وتمييزكم بشخصيتكم من نعائم الله عليكم، وقد سبقتها الآلاء من الله كثيرة عليكم منها:
-{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ}، فوجود شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إمام المربين والدعاة، هو من خصيصة هذه النخبة القيادية التي شرفها الله تعالى بأن يكون هو المسؤول عن تربيتها، فقيه النفوس، وطبيب القلوب، ونور الأفئدة، فهو النور والبرهان والحجة.
-{يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا} فالمادة الأساسية للبناء والتربية، كلام الله تعالى، وكان يرافقه شحنة عظيمة لنزوله أول الأمر غصناً طرياً، فكان جيلاً متميزاً في تاريخ الإنسانية.(5/101)
-{وَيُزَكِّيكُمْ}: فالمعلم المربي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو المسؤول عن عملية التربية وهو الذي بلغ من الخلق والتطبيق لأحكام القرآن الكريم، ماوصفه الله
–تعالى- به هذا الوصف الجامع المانع الذي تفرد به من دون البشرية كافة {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (سورة القلم، آية:4). وهو الذي وصفته عائشة –رضي الله عنها- بأعظم مايملك بشر أن يصف به نبي فقالت:(كان خلقه القرآن)، فكان الصحابة يسمعون القرآن الذي يتلى من فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرون القرآن الذي يمشي على الأرض متجسداً في خلقه الكريم.
-{وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} فهذه المهمة الثالثة تعليم الصحابة الكرام الكتاب والحكمة، فالقرآن الكريم لكي يكون مؤثراً في الأمة لابد من المربي الرباني الذي يزكي النفوس ويطهر القلوب ويعلمها شرع الله تعالى من خلال القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -، فيشرح للمسلمين غامضه ويبين حكمه، ويفصل مجمله، ويسأل عن تطبيقه، ويصحح خطأ الفهم لهم إن وجد، كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم ويربي أصحابه لكي يعلموا ويربوا الناس على المنهج الرباني، فتعلم الصحابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهج التعليم، ومنهج التربية، ومنهج الدعوة، ومنهج القيادة للأمة من خلال ماتسمع وماتبصر، ومن خلال ماتعاني وتجاهد، فاستطاع - صلى الله عليه وسلم - أن يعد الجيل إعداداً كاملاً، ومؤهلاً لقيادة البشرية وانطلق أصحابه من بعده يحملون التربية القرآنية، والتربية النبوية إلى كل صقع، وأصبحوا شهداء على الناس.(5/102)
-{وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. ماذا كانوا قبل الوحي، والرسالة وماذا أصبحوا بعد ذلك؟ كانوا في حروب وصراع وجاهلية عمياء وأصبحوا بفضل الله ومنه وكرمه أمة عظيمة لها رسالة وهدف في الحياة لاهمّ لها إلا العمل ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى وحققوا العبودية لله وحده، والطاعة لله وحده، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وانتقلوا من نزعة الفردية والأنانية والهوى إلى البناء الجماعي، بناء الأمة، وبناء الدولة وصناعة الحضارة، واستحقت بفضل الله ومنه أعظم وسامين في الوجود(1) {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (سورة آل عمران، آية:110). ووسام {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة البقرة، آية:143).
-{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (سورة البقرة، آية:152). فهذه المنن، وهذه العطايا، وهذه الخيرات تحتاج لذكر الله في الغدو والآصال وشكره عليها، وحثهم المولى عزوجل على ذكره وبكرمه يذكرون في الملأ الأعلى بعدما كانوا تائهين في الصحاري ضائعين في الفيافي.
-{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (سورة البقرة، آية:152)
__________
(1) انظر: التربية القيادية (2/438-442).(5/103)
وحقَّ لهذه النعم جميعاً أن تشكر(1).
وهكذا الآيات الكريمة تربي الصحابة من خلال الأحداث العظيمة وتصوغ الشخصية المسلمة القوية التي لاترضى إلا بالإسلام ديناً والتي تعرفت على طبيعة اليهود من خلال القرآن الكريم وبدأت تتعمق في ثناياها طبيعتهم الحقيقية وانتهت إلى الصورة الكلية النهائية التي تربوا عليها من خلال القرآن الكريم والتربية النبوية قال تعالى:{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (سورة البقرة، آية:120).
8-من صفات اليهود في القرآن الكريم:
إن المتتبع لتاريخ اليهود ومواقفهم مع المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يشاهد تلك الأفعال القبيحة والأخلاق الرذيلة التي يتصف بها هؤلاء البشر، ولاغرابة في ذلك فهي طبيعة كل آدمي ينسلخ عن دينه الصحيح، وعقيدته السليمة.
__________
(1) انظر: التربية القيادية (2/442).(5/104)
كانت معاناة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من اليهود شديدة وأليمة، فالقرآن الكريم تحدث عن بعضها، وكتب السنة، والسير والتاريخ حافلة بالأحداث الجسيمة مع اليهود، وقد تحدث القرآن الكريم، وبينت السنة النبوية صفاتهم القبيحة، كالنفاق، وسوء الأدب مع الله ورسوله، والمكر والخداع، والمداهنة، وعدم الانتفاع بالعلم، والحقد والكراهية، والحسد، والجشع، والبخل، ونكران الجميل، وعدم الحياء، والغرور والتكبر، وحب الظهور، والإشراك في العبادة، ومحاربة الأنبياء والصالحين، والتقليد الأعمى، وكتمان العلم، وتحريف المعلومات، والتحايل على المحرمات، والتفرق، والطبقية في تنفيذ الأحكام، والرشوة، والكذب، والقذارة(1)، وسوف نشير إلى بعض هذه الصفات الذميمة التي جاءت في القرآن الكريم.
أ-الإشراك في العبادة:
فعبادة اليهود شركية باطلة، حيث يعتقدون أن لله ولداً، ويشركون معه في عبادته غيره، وقد سجل الله عزوجل عليهم بعض مظاهر الإشراك قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ صدق الله العظيم اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ صدق الله العظيم } (سورة التوبة، آية:30-31).
__________
(1) راجع الرسالة القيمة "اليهود في السنّة المطهرة"، د.عبدالله الشقاري.(5/105)
فهم لم يكتفوا في الإشراك بالقول المتقدم بل عبدوا أنبياءهم وصالحيهم واتخذوا قبورهم مساجد وأوثاناً يعبدونها من دون الله(1)، قال - صلى الله عليه وسلم - :(قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)(2).
ب-محاربة الأنبياء والصالحين:
في الوقت الذي يقدسون فيه أحبارهم ورهبانهم إلى درجة العبادة نجد اليهود في المقابل لايتورعون في محاربة أنبيائهم وصالحيهم ويشنون عليهم الحملات المغرضة بشتى الطرق، وكافة الوسائل، ولايمتنعون حتى عن قتلهم، كما فعلوا بزكريا ويحيى عليهم السلام(3)، وقد أخبرنا الله عزوجل عليهم بذلك، فبعد أن بين عزوجل ألواناً من العذاب أوقعه عليهم قال:{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (سورة البقرة، آية:61).
ت-كتمانهم العلم وتحريفهم للحقائق:
__________
(1) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (2/507).
(2) البخاري، كتاب الصلاة (1/532) رقم 437.
(3) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (2/509).(5/106)
إن كتمان العلم وتحريف الحقائق صفة ملازمة لليهود من قديم الزمن، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(قيل لبني إسرائيل: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} (سورة البقرة، آية:58) . فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاهم، وقالوا: حبة في شعره)(1).
ومن أعظم العلوم التي كتمها أحبار اليهود، وحاولوا إخفاء حقيقتها، علم نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رافع بن حارثة، وسلام بن مشكم، ومالك بن الصيف، ورافع بن حرمة، فقالوا: يامحمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم مافيها مما أخذ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ماأمرتم أن تبينوه للناس، فبرئت من إحداثكم، قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الهدى والحق، ولانؤمن بك ولانتبعك(2)، فأنزل الله عزوجل فيهم: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (سورة المائدة، آية68).
ث-التفرق:
__________
(1) البخاري،كتاب الانبياء (6/436) رمق 3403.
(2) انظر: سيرة ابن هشام (1/567)؛ وتفسير الطبري (6/200) ورجال إسناده موثقون.(5/107)
إن اليهود دائماً وأبداً مختلفون في الأفكار، مفترقون في الأحكام، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى تماماً كما وصفهم الباري عزوجل في قوله تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} (سورة الحشر، آية:14).
جـ- الرشوة:
إن من سمات اليهود في معالم مجتمعاتهم بحثهم عن تحقيق الغاية التي ينشدونها بشتى السبل والوسائل، ولو كانت مخالفة لشرعهم، كدفع الرشوة والمال الحرام، فأكل السحت من رشوة ومال حرام من طباعهم وقد وصفهم الحق سبحانه وتعالى بذلك {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(سورة المائدة، آية:42).
حـ- النفاق:
وقد أظهر بعض زعماء اليهود الإسلام حين قويت شوكة المسلمين بالمدينة وتستروا بالنفاق وقد سجل الله عليهم ذلك في قوله تعالى:{ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ صدق الله العظيم اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ صدق الله العظيم } (سورة البقرة، آية:14-15).
خـ- المداهنة:(5/108)
فكانوا يسايرون الواقع والمجتمع، ولاينكرون المنكر ولذلك لعنهم الله عزوجل وسجل لعنته عليهم في كتابه العزيز:{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ صدق الله العظيم كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ صدق الله العظيم } (سورة المائدة، آية:78-79).
د- عدم الانتفاع بالعلم:
وقد أخبرنا الله تعالى بذلك وصور هذه الصفة تصويراً دقيقاً(1) قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (سورة الجمعة، آية:5).
ذ- الحقد والكراهية:
من صفات اليهود المستقرة في أعماق نفوسهم الحقد على كل شيء ليس منهم، والكراهية لكل ماهو غير يهودي، مهما كان نوعه ومصدره، وخاصة إذا كان يمت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصلة، كما حصل في أمر القبلة، وماحصل في تحريم الخمر، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت تحريم الخمر، قالت اليهود: أليس إخوانكم الذين ماتوا كانوا يشربونها(2)، فأنزل الله عزوجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَءَامَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (سورة المائدة، آية:93).
ر-الحسد:
__________
(1) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (2/463-482).
(2) انظر: الحاكم في مستدركه، كتاب الاشربة (4/143،144) صحيح الاسناد.(5/109)
فقد حسد اليهود النبي - صلى الله عليه وسلم - على الرسالة، إذ كانوا يظنون أن الرسول الذي سيبعث سيكون منهم، يتجمعون حوله ويقاتلون به أعداءهم، فلما بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غيرهم جنّ جنونهم، وطار صوابهم، ووقفوا يعادونه عداوة شديدة ولقد حسدوا أصحابه على الإيمان ونعمة الهدى التي شرح الله صدورهم إليها(1)، وقد قال تعالى في ذلك: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ صدق الله العظيم الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ صدق الله العظيم } (سورة الناس، آية4-5).
وقال تعالى:{ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة البقرة، آية:109).
ز- الغرور والتكبر:
__________
(1) انظر: الصراع مع اليهود (1/70).(5/110)
اتصف اليهود بالغرور والتكبر على الخلق من قديم الزمان، فهم يرون أنهم أرقى من الناس، وأفضل من الناس، ويزعمون أنهم شعب الله المختار، ويعتقدون أن الجنة لليهودي وأن طريق اليهودية هي طريق الهداية وسواها ظلال، وقد أخبر المولى عزوجل في كتابه عن هذه الخصلة الذميمة(1) فيهم قال تعالى:{ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (سورة البقرة، آية:111) وقد مارسوا ذلك الغرور والتعالي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشتى الوسائل والصور، ومن ذلك هذه الصورة(2)، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعمان بن أضاء وبحري بن عمرو، وشاس بن عدي، فكلموه وكلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته، فقالوا: ماتخوفنا يامحمد نحن أبناء الله وأحباؤه(3) –كقول النصارى- فأنزل الله تعالى فيهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (سورة المائدة، آية:18).
س- البخل:
__________
(1) نفس المصدر (1/71).
(2) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (2/495،496).
(3) انظر: تفسير الطبري (6/105).(5/111)
من صفات اليهود القديمة بخلهم بالمال، وعدم إنفاقه في سبيل الخير، فكانوا يأتون رجالاً من الأنصار ويقولون لهم: لاتنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولاتسارعوا في النفقة، فإنكم لاتدرون علام يكون(1)، فأنزل الله فيهم: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (سورة النساء، آية:37). أي من التوراة التي فيها تصديق ماجاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - :{ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا}(سورة النساء، آية:39).
ش- العناد:
رغم قيام الأدلة والبراهين على صدق نبوة ورسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا أن اليهود بسبب عنادهم امتنعوا عن الإيمان، وانغمسوا في الكفر والتكذيب، لأن العناد يقفل العقول بأقفال الهوى وقد بين المولى عزوجل هذه الصفة في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ ءَايَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (سورة البقرة، آية:145) نعم لو قدمت لهم يامحمد ألف دليل ودليل مااقتنعوا وما غيروا وبدلوا، ويصدق(2) فيهم قول الله تعالى:{ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (سورة يونس، آية:101).
__________
(1) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (2/487،488).
(2) انظر: الصراع مع اليهود (1/72).(5/112)
هذه بعض الصفات التي تجسدت في الشخصية اليهودية، والتي أشار القرآن الكريم إليها، لنعرف اليهود على حقيقتهم حتى لاينغر المسلمون بهم في أي وقت أو أي زمان أو أي مكان.
رابعاً:(إن الله لايصلح عمل المفسدين):
إن هذه الوثيقة وضحت مدى العدالة التي تميزت بها معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود وأعطت لمواطني الدولة مفهوم الحرية الدينية وضربت عرض الحائط مبدأ التعصب ومصادرة الأفكار والمعتقدات ولم تكن المسألة مسألة تكتيك مرحلي ريثما يتسنى للرسول - صلى الله عليه وسلم - تصفية أعدائه في الخارج لكي يبدأ تصفية أخرى إزاء أولئك الذين عاهدهم.. وحاشاه وإنما صدر هذا الموقف وفق سياسة إسلامية منبثقة من شريعة ربانية(1).
لقد عقد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود المعاهدات التي تؤمن لهم الحياة الكريمة، في ظل الدولة الإسلامية بحكم أنهم أهل كتاب (أهل الذمة) ولكن طبيعة اليهود الغدر والخيانة وعدم الوفاء، ولم يستطيعوا –ولن يستطيعوا لؤما وخسة- أن يتخلوا عن تلك الصفات الذميمة فنقضوا عهودهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت نهايتهم بما يتلاءم مع تلك الأفعال حيث أجلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني قينقاع وبني النضير، وقتل رجال بني قريظة(2)، وهذا ماسوف نراه بإذن الله تعالى في هذا الكتاب ولقد أشار القرآن الكريم إلى طبيعة اليهود مع العهود، فقال تعالى:{ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} (سورة الأنفال، آية:56).
والعهد هنا ماعقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود من عهود ومواثيق بألا يحاربوه ولايعاونوا عليه، كما بين ذلك المفسرون(3).
__________
(1) انظر: دراسة في السيرة، ص151.
(2) انظر: العهد والميثاق في القرآن الكريم، د. ناصر العمر، ص121.
(3) انظر: تفسير الطبري (8/30)؛ والتحرير والتنوير (10/48).(5/113)
لقد سلك اليهود وسائل عدة، ومتغايرة ومتنوعة للكيد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه ومقاومتهم، إلا أن هذه الوسائل لم تفلح ولم تؤت ثمارها المرجوة منها، وهي القضاء على جماعة المسلمين ودولتهم وكيانهم السياسي، فما أسباب ذلك؟
بسبب تلك التربية النبوية الرشيدة التي غرست معاني الإيمان في القلوب، وحققت العبودية الخالصة لله وحاربت الشرك بجميع أشكاله، وعلمت الصحابة الأخذ بأسباب النهوض والتمكين المعنوية والمادية، فقد ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على العزة، والنخوة، والرجولة، والشجاعة، ورفض الذل، ومقاومة الظلم، وعدم الاستسلام لمؤامرات اليهود وغيرهم، بل مقاومتها والقضاء عليها وعلى أهلها، فثابروا وصابروا حتى انتصروا على أعدائهم(1).
كان مكر اليهود في غاية الدهاء تكاد تزول منه الجبال، ولكنه لم يفلح مع الرعيل الأول بسبب القيادة النبوية والمنهج الرباني الذي سار عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2).
إن المسلمين اليوم يتساقطون أمام المخططات اليهودية، ومؤامراتها، لبعدهم عن المنهاج النبوي في تربية الأمة وكيفية التعامل مع اليهود، فالأمة في أشد الحاجة للقيادة الربانية الحكيمة الواعية الموفقة من عند الله، الخبيرة بأخلاق اليهود وصفاتهم، فتتعامل معهم معاملة واعية مستمدة أصولها من السياسة النبوية الراشدة في التعامل مع هذا الصنف المنحرف من البشر.
إن في عصرنا هذا تغلفت الأصابع اليهودية القذرة في مجالات عديدة من حياة الشعوب والدول، تلك الأصابع التي تهدف إلى غاية محدودة هي(الفساد في الأرض) وهذا هو التعبير القرآني: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ} (سورة المائدة، آية:33).
__________
(1) انظر: الصراع مع اليهود (1/80).
(2) نفس المصدر (1/79).(5/114)
إن استعمال الفعل المضارع في الجملة يدل على التجدد والاستمرار، فليس سعيهم للفساد مرحلة تاريخية انتهت، لكنه قدرهم الكوني إلى يوم يبعثون، وقد استطاع اليهود أن يهيمنوا على كثير من مقدرات الأمم من خلال كيدهم المدروس، وفي غيبة الوجود الإسلامي القادر على إحباط مؤامراتهم وفضح ألاعيبهم.
إن العبقرية اليهودية في الهدم والتخريب ليست موضع جدل، تلك العبقرية التي (تستغل) الأحداث وتستثمرها لصالحها، إن لليهود وجود مؤثر في الدول الكبرى، اقتصادياً، وسياسياً، وإعلامياً، ولم يكونوا غائبين في النظامين العالميين، الرأسمالية والشيوعية ولا عن الثورات الكبرى في العالم، وهناك عدد من المنظمات العالمية تبذل جهداً ضخماً في تحقيق أهداف اليهود، أبرزها الماسونية، ..(الليونز) و (الروتاري) و (شهوديهوه)...الخ.
ألا يحس الباحث الواعي أن في الأمر نوعاً من المبالغة المقصودة أو غير المقصودة؟
هذه الصورة الجاثمة في عقول الكثيرين أن اليهود هم الذين يحركون العالم، وهم زعماؤه السياسيون ومفكروه ومبدعوه و.. و.. وأن الشخصيات المهمة من غير اليهود ماهي إلا (أحجار على رقعة الشطرنج). على حد تعبير وليام غاي كار(1).
إن هذا الكم الهائل من الكتب تتحدث عن اليهود ودورهم العالمي الخطير تساهم في تهيئة الجو للتسليم بالأمر الواقع وتمنح تفسيراً جاهزاً لجميع الهزائم التي منيت بها الأمة، الهزائم الحضارية والعسكرية على حد سواء.
إن إحساس الناس بأن (كل شيء) مدبر ومبيت ومدروس من قبل اليهود أو محافلهم يقعد بهم عن المقاومة والمواجهة والجهاد، ومايقال عن اليهود يمكن أن يقال عن أي عدو آخر ينتهج سياسة الإرهاب الفكري والعسكري، فمثلاً الجماعات الباطنية في العالم الإسلامي التي أصبحت ذات وجود قوي في عدد من المواقع والدول، بل وأصبح لهم وجود قائم بذاته في أكثر من بلد إسلامي.
__________
(1) انظر: قضايا في المنهج، سلمان العودة، ص84،85.(5/115)
هذه الجماعات تجد أحياناً من يهول من شأنها ويعطيها أكبر من حجمها، فكل من يتحدث –مثلاً- عن هذه الفئة الغالية المنحرفة أو يكتب أو يحاضر فهو مهدد في رزقه وحياته، إذن فيسكت الجميع حفاظاً على أرزاقهم وأرواحهم(1)، إن هذا التضخيم الرهيب لأعدائنا اليهود ليس له حقيقة، لأن أولياء الشيطان كيدهم مهما عظم وكبر ضعيف قال تعالى: {الَّذِينَ ءَامَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (سورة النساء، آية:76) إن قوتهم بسبب ضعف إيماننا وبعدنا عن منهج ربنا، لأن الإيمان الصحيح تنهار أمامه جميع المؤامرات، وتفشل جميع الخطط، لكن لابد من نزع عنصر الخوف الذي قتل كثيراً من الهمم، وأحبط كثيراً من الأعمال والأحداث تؤكد أن (الوهم) قد يقتل.
وحين توجد الفئة المؤمنة الصابرة يتحطم الكيد كله –يهودياً- كان أم غير يهودي- أمام عوامل التصدي والنهوض قال تعالى:{ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (سورة آل عمران،آية:120).
وهذا لايعني –بحال من الأحوال- تجاهل قوة العدو أو التقليل من شأنه، حتى لو كان عدواً حقيراً، فضلاً عن عدو مدجج وقديماً.
والمطلوب أن نسلك طريق الاعتدال في تقدير حجم العدو، فلا نبالغ في تهويل قوته بما يوهن قوانا ويفتت عزيمتنا ويسوغ لنا الهزيمة، وفي المقابل لانستهين به أو نتجاهل وجوده(2).
وستمضي في اليهود وغيرهم سنة الله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (سورة يونس، آية:81).
__________
(1) انظر: قضايا في المنهج، ص86.
(2) انظر: قضايا في المنهج، ص86،87.(5/116)
المبحث الرابع
سنة التدافع وحركة السرايا
أولاً: إن من السنن التي تعامل معها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة التدافع وتظهر جلياً في الفترة المدنية مع حركة السرايا والبعوث والغزوات التي خاضها النبي - صلى الله عليه وسلم - ضد المشركين وهذه السنة متعلقة تعلقاً وطيداً بالتمكين لهذا الدين وقد أشار الله تعالى إليها في كتابه العزيز وجاء التنصيص عليها في قوله تعالى:{ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (سورة البقرة، آية:251).
وفي قوله تعالى:{ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (سورة الحج، آية:40).
ونلاحظ في آية البقرة أنها جاءت بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل المتمثل هنا في طالوت وجنوده المؤمنين، وجالوت وأتباعه، ويذيَّل الله تعالى الآية بقوله تعالى:{ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (سورة البقرة، الآية 251) (مما يفيد أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم)(1).
وتأتي آية الحج بعد إعلان الله تعالى أنه يدافع عن أوليائه المؤمنين، وبعد إذنه لهم –سبحانه- بقتال عدوهم ويختتم الآية بتقرير الله تعالى- لقاعدة أساسية:{... وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
__________
(1) انظر: مفاتيح الغيب، فخر الرازي (3/514).(5/117)
لقد أدرك الصحابة هذه السنة وعلموا أن القضاء على الباطل وتدميره لابد له من أمة لها قيادة ومنهج وقوة تدمغ الباطل وتزهقه وأيقنوا أن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به، وسواعد تمضي به، وقلوب تحنوا عليه وأعصاب ترتبط به، لقد علمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف يتعاملوا مع هذه السنة فاستجابوا لأمر الله تعالى عندما أمرهم بالجهاد في سبيل الله تعالى، فقد شرع الله عزوجل-الجهاد لهذه الأمة، وجعله فريضة ماضية إلى يوم القيامة لايبطله جور جائر ولاعدل عادل، وماتركه قوم إلا أذلهم الله، وسلط عليهم عدوهم، وقد شرع الله –عزوجل الجهاد على مراحل ليكون أروض للنفس، وأكثر ملائمة للطبع البشري، وأحسن موافقة لسير الدعوة وطريقة تخطيطها(1)، فكان تشريع القتال على مراحل:
المرحلة الأولى: الحظر وذلك عندما كان المسلمون في مكة، وكانوا يطالبون النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإذن لهم في القتال فيجيبهم:(اصبروا فإني لم أومر بالقتال)(2).
المرحلة الثانية: الإذن به من غير إيجاب، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (سورة الحج، آية:39).
المرحلة الثالثة: وجوب قتال من قاتل المسلمين، قال تعالى:{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (سورة البقرة، آية:190).
__________
(1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص438.
(2) انظر: تفسير الآلوسي (6/108).(5/118)
المرحلة الرابعة: فرض قتال عموم الكفار على المسلمين قال تعالى:{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (سورة التوبة، آية:36).
إن هذا التدرُّج في حكم-القتال، كان يقتضيه وضع الدولة الإسلامية الناشئة، وحالة الجيش الإسلامي الذي كان ياخذ في التكوين من حيث العَدَدُ والعُدَدُ والتدريب،وما إلى ذلك، فكان لابُدَّ من مُضيَّ فترة من الوقت يكون التعرَّضُ فيها لأعداء الدعوة الإسلامية من كفار قريش الذين آذوا المسلمين، واضطروهم إلى الخروج من ديارهم.. يكون فيها ذلك التعرُّض لأعداء الدعوة، إنما هو على سبيل الاختيار، لاعلى سبيل الإجبار، وذلك إلى أن يَصْلُبَ عودُ الدولة الإسلامية ويشتد بأس القوة الإسلامية، بحيث تستطيع الصمود أمام قوى الكفر في الجزيرة العربية فيما لو عملت قريش على تأليبها ضد المسلمين، كما وقع فيما بعد! وحينئذ يأتي وجوب القتال، في حالة تكون فيها أوضاع الدولة الإسلامية، والجيش الإسلامي على أُهبةِ الاستعداد لمواجهة كافة الاحتمالات هذا فيما يتصل بالقتال الذي يتعرض فيه المسلمون لكفار قريش، جاء النص بالإذن، أي بالإباحة لا بالوجوب أما في حالة مالو تعرض فيه المسلمون- وهم في دولتهم في المدينة – لهجوم الأعداء عليهم، فالقتال هنا فرض، لا مجال فيه للخيار، وليس مجرد أمر مأذون فيه، وذلك تطبيقاً لبيعة الحرب، بيعة العقبة الثانية التي أوجبت على الأنصار حرب الأحمر والأسود من الناس في سبيل الذود عن الدعوة الإسلامية، وصاحبها، واتباعها(1).
__________
(1) انظر: القتال والجهاد، محمد خير هيكل (1/463،364).(5/119)
ومع نزول الأذن بالقتال شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تدريب أصحابه على فنون القتال والحروب، واشترك معهم في التمارين والمناورات، والمعارك، وعدّ السعي في هذه الميادين من أجل القربات وأقدس العبادات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى وقد قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتطبيق قول الله تعالى :{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (سورة الأنفال، آية:60) وكان منهجه - صلى الله عليه وسلم - في تكوين المجاهد المسلم يعتمد على نهجين متوازنين، التوجيه المعنوي، والتدريب العملي.
1-التوجيه المعنوي:
فكان - صلى الله عليه وسلم - يسعى إلى رفع معنويات المجاهدين، يمنحهم أملاً يقينياً بالنصر أو الجنة، ومنذ تلك اللحظات وفيما بعد ظلَّ هذا (الأمل) يحدو الجندي المسلم في ساحات القتال ويدفعه إلى بذل كل طاقاته النفسية والجسدية والفنية من أجل كسب المعارك أو الموت تحت ظلال السيوف(1)، فمن أقواله - صلى الله عليه وسلم - في حث أصحابه على الجهاد:(والذي نفسي بيده، لولا أن رجالاً من المؤمنين لاتطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ماتخلفت عن سرية تغدو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل)(2).
__________
(1) انظر: دراسة في السيرة، ص161.
(2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب تمني الشهادة (3/268) رقم 2797.(5/120)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -:(ماأحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ماعلى الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرأى من الكرامة)(1).
2-الأسلوب العملي:
فقد سعى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اعتماد كل طاقات الأمة القادرة على البذل والعطاء، رجالاً ونساءً وصبياناً وشباباً وشيوخاً، وإلى التمرس على كل مهارة في القتال طعناً بالرمح وضرباً بالسيف، ورمياً بالنبل، ومناورة على ظهور الخيل، وكان - صلى الله عليه وسلم - يمزج خطى التربية العسكرية المتوازنين: التوجيه والتدريب والأمل بالنصر أو الجنة وتقديم الجهد في ساحات القتال، ويحض المسلمين على اتقان ماتعلموا من فنون الرماية قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا)(2)، فهي دعوة إلى عموم الأمة وحتى من دخلوا في سن الشيخوخة على دربتهم في إصابة الهدف ومهارة اليد، ونشاط الحركة، إن الإسلام يهتم بطاقات الأمة جميعها ويوجهها نحو المعالي وعلو الهمة.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يهتم بالأعداء على حسب كل ظرف وحال ويحث على كل وسيلة يستطيعها المسلمون، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(وأعدوا لهم مااستطعتم من قوة ألا إن القوة الرّمي، ألا إن القوة الرّمي، ألا إنّ القوة الرمي)(3).
__________
(1) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب تمني الرجوع للدنيا (3/274) رقم 2817.
(2) مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه (3/1523) رقم 1919.
(3) مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرمي والحث عليه (3/1523) رقم 1919.(5/121)
إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة تعلم المسلمين الإعداد على كافة الأصعدة المعنوية والمادية وأن يأخذوا حذرهم قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} (سورة النساء، آية:71) وهذا يدل على وجوب العناية بالأسباب والحذر من مكائد الأعداء ويدخل في ذلك جميع أنواع الإعداد المتعلقة بالأسلحة والأبدان، وتدريب المجاهدين على أنواع الأسلحة، وكيفية استعمالها وتوجيههم إلى مايعينهم على جهاد عدوهم والسلامة من مكائده، والله عزوجل – أطلق الأمر بالاعداد وأخذ الحذر ولم يذكر نوعاً دون نوع ولاحالاً دون حال، وماذلك إلا أن الأوقات تختلف، والأسلحة تتنوع، والعدو يقل ويكثر، ويضعف ويقوى.(5/122)
كان الجهاد في فهم الصحابة مدرسة عظيمة في تزكية النفس، وأيقنوا لكي يثمر الجهاد ثمراته المرجوة أن يخلصوا لله سبحانه في جهادهم، وأن يعملوا بما آمنوا به ودعوا الناس إليه، فقد بين لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - خطورة الرياء في الأعمال قال - صلى الله عليه وسلم -:(إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتى به فعرّفه نعمه، فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: جرئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأتي به، فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال، ماتركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيها لك. قال: كذبت، ولكن فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار(1).
ولذلك أخلص الصحابة في جهادهم لله تعالى طمعاً في ثوابه وخوفاً من عقابه، فكان كلامهم لله وأنفقوا أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وقدموا أنفسهم دفاعاً عن دين الله ومن أجل إعلاء كلمة الله تعالى وكان لجهاد الصحابة في سبيل الله تعالى آثاره العظيمة في تزكية نفوسهم والتي تتجلى في الجوانب التالية:
-تحرير النفس من حب الحياة والتعلق بها:
__________
(1) مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة رقم 1905.(5/123)
فالجهاد في سبيل الله تدريب عملي على الزهد في الدنيا والتطلع إلى الآخرة والتشوق لما أعده الله لعباده في الجنة، وهذا من أعظم ما يهدف إليه المنهج الإسلامي في تزكية النفس، فالمجاهد يبيع نفسه لله تعالى ابتغاء مرضاته والله سبحانه واهب الأنفس والأموال ومالكها يكرم عباده المجاهدين بأن يشتري منهم ماوهبهم إذا بذلوها في سبيله(1) قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ صدق الله العظيم التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم }(سورة التوبة، آية:111-112).
-تمحيص النفس وتدريبها على الصبر والفداء:
__________
(1) منهج الاسلام في تزكية النفس، د. أنس احمد (1/293)ز(5/124)
أيقن الصحابة الكرام من تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم أن الجنة محفوفة بالمكاره ولاتنال براحة البدن، ولابد من تعويد النفس على المشاق والصعاب ليقوى بنيانها وتصمد في وجه الشدائد والأهوال، وتدع الخمول والكسل والتواني، وتعلموا من القرآن الكريم أن حكمة الله سبحانه اقتضت أن تتعرض النفوس للتمحيص ليظهر ثباتها ويستقيم حالها، وأن ميدان الجهاد من أكبر الميادين لهذا التمحيص(1)، قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ صدق الله العظيم وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ صدق الله العظيم أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ صدق الله العظيم وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، آية:140-143).
-الجهاد عزة للنفس وقوة لها:
__________
(1) نفس المصدر (1/294).(5/125)
وتعلم الصحابة رضي الله عنهم من الهدى النبوي الكريم أن الجهاد في سبيل الله تعالى وسيلة عظيمة لتنمية العزة في نفس المسلم وتقوية كيانها وتطهيرها من الذلة، والمهانة والخمول وغيرها من الصفات المهلكة للفرد والمجتمع، فقد بين لهم سبحانه وتعالى في كتابه العزيز أن المؤمن عزيز الجانب لأنه يستمد العزة من إيمانه بربه وتمسكه بدينه قال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} (سورة المنافقون، آية:8).
فإذا تخلى المسلم عن الجهاد وشغل بالدنيا عن الآخرة، تعودت نفسه الذلة والهوان والاستكانة والخنوع قال - صلى الله عليه وسلم -:(إذا تبايعتم بالعِينة(1)، وأخذتم أذناب البقر(2)، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لاينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)(3).
ويخشى على من جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، ولايعمل إلا لها ولايفكر إلا من أجلها أن يكون ممن قال الله تعالى فيهم:{ إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَاتِنَا غَافِلُونَ صدق الله العظيم أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ صدق الله العظيم } (سورة يونس، الآية:7-8).
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:(من مات ولم يَغْزُ ولم يُحدِّث به نفسه مات على شعبة من النفاق)(4).
__________
(1) أي أن يبيع الرجل لغيره سلعة ثم يشتريها منه بثمن أقل.
(2) معناه: اتخذتم الماشية للحرث والري وعكفتم على ذلك فلم تنشغلوا إلا به.
(3) ابو داود، كتاب البيوع، باب من في النهي عن العينة رقم 3462 وهو صحيح.
(4) مسلم، كتاب الإمارة، باب ذم من مات ولم يغزو رقم 1910.(5/126)
إن الصحابة الكرام سلكوا طريق الجهاد بأنواعه، وبذلك حظوا بالبشارة العظمى وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (سورة العنكبوت،آية:69).
ثانياً-من أهداف الجهاد في سبيل الله تعالى:
1-حماية حرية العقيدة:
قال تعالى:{ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ صدق الله العظيم وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ صدق الله العظيم }(سورة الأنفال، آية:39-40).
قال صاحب الظلال: هناك واجب آخر على الجماعة المسلمة، وهو أن تحطم كل قوة تعترض طريق الدعوة وإبلاغها للناس في حرية، أو تهدد حرية اعتناق العقيدة وتفتن الناس عنها، وأن تظل تجاهد حتى تصبح الفتنة للمؤمنين بالله غير ممكنة لقوة في الأرض، ويكون الدين لله .. لابمعنى إكراه الناس على الإيمان. ولكن بمعنى استعلاء دين الله في الأرض، بحيث لايخشى أن يدخل فيه من يريد الدخول، ولايخاف قوة في الأرض تصده عن دين الله أن يبلغه، وأن يستجيب له، وأن يبقى عليه، وبحيث لايكون في الأرض وضع أو نظام يحجب نور الله وهداه عن أهله ويضلهم عن سبيل الله بأية وسيلة وبأية أداة وفي حدود هذه المبادئ العامة كان الجهاد في الإسلام .. إنه الجهاد للعقيدة، لحمايتها من الحصار، وحمايتها من الفتنة، وحماية منهجها وشريعتها في الحياة، وإقرار رايتها في الأرض بحيث يرهبها من يهم بالإعتداء عليها، وبحيث يلجأ إليها كل راغب فيها لايخشى قوة أخرى في الأرض تتعرض له أو تمنعه أو تفتنه.
وهذا هو الجهاد الوحيد الذي يأمر به الإسلام، ويقره ويثبت عليه، ويعتبر الذين يقاتلون فيه شهداء والذين يحتملون أعباءه أولياء(1).
2-حماية الشعائر والعبادات:
__________
(1) في ظلال القرآن (1/187).(5/127)
قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور صدق الله العظيم أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ صدق الله العظيم الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ صدق الله العظيم الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ صدق الله العظيم } (سورة الحج، آية:
38-41)
قال النسفي -رحمه الله- أي لولا إظهاره وتسليطه المسلمين على الكافرين بالمجاهدة، لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، وعلى متعبداتهم فهدموها، ولم يتركوا للنصارى بيعاً، ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود صلوات أي كنائس، ولا للمسلمين مساجد، أو لغلب المشركون في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين، وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم، وهدموا متعبدات الفريقين، وقدم غير المساجد عليها لتقدمها وجوداً، أو لقربها من التهديم(1).
3-دفع الفساد عن الأرض:
__________
(1) تفسير النسفي (3/106)؛ الكشاف (3/16) ؛ تفسير المراغي (6/119).(5/128)
قال تعالى:{ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ صدق الله العظيم فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ صدق الله العظيم } (سورة البقرة، آية:250-252)
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ}. أي لولا الله يدفع عن قوم بآخرين كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا(1).
وقال صاحب الكشاف في تفسير هذه الآية: ولولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم لغلب المفسدون، وفسدت الأرض، وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر مايعمر الأرض(2).
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسيره: إن في هذه الآية عبر كثيرة للأمة، منها: فضيلة الجهاد في سبيله، وفوائده، وثمراته، وأنه السبب الوحيد في حفظ الدين، وحفظ الأوطان، وحفظ الأبدان، والأموال.
وأن المجاهدين، ولو شقت عليهم الأمور، فإن عواقبهم حميدة، كما أن الناكلين، ولو استراحوا قليلاً، فإنهم سيتعبون طويلاً(3).
4-الابتلاء والتربية والإصلاح:
__________
(1) تفسير ابن كثير (1/262).
(2) تفسير الكشاف (1/382)؛ تفسير ابي السعود (1/245).
(3) تفسير ا لسعدي (1/309).(5/129)
قال تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ صدق الله العظيم سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ صدق الله العظيم وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ صدق الله العظيم } (سورة محمد، آية:4-6).
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم وليبلوا أخباركم(1)، كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في قوله تعالى: { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}(سورة آل عمران، آية:142)
قال صاحب الظلال: إنما يتخذ الله المؤمنين- حين يأمرهم بضرب رقاب الكفار وشد وثاقهم بعد إثخانهم – إنما يتخذهم سبحانه ستاراً لقدرته ولو شاء لانتصر من الكافرين جهرة، كما انتصر منهم من غير هذه الأسباب كلها، ولكنه إنما يريد لعباده المؤمنين الخير، قال تعالى:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة، آية:216). وهو يبتليهم، ويربيهم، ويصلحهم، وييسر لهم أسباب الحسنات الكبار:
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/154).(5/130)
أ- يريد ليبتليهم. وفي هذا الابتلاء يستجيش في نفوس المؤمنين أكرم مافي النفس البشرية من طاقات واتجاهات، فليس أكرم في النفس من أن يعز عليها الحق الذي تؤمن به، حتى تجاهد في سبيله، فتقتل وتقتل، ولاتسلم في هذا الحق الذي تعيش له وبه، ولاتستطيع الحياة بدونه، ولاتحب هذه الحياة في غير ظله.
ب- ويريد ليربيهم، فيظل يخرج من نفوسهم كل هوى وكل رغبة في أعراض هذه الأرض الفانية مما يعز عليهم أن يتخلوا عنه ويظل يقوي في نفوسهم كل ضعف ويكمل كل نقص، وينفي كل زغل ودخل، حتى تصبح رغائبهم كلها في كفة وفي الكفة الأخرى تلبية دعوة الله للجهاد، والتطلع إلى وجه الله ورضاه وتشيل تلك(1). ويعلم الله من هذه النفوس أنها خيرت فاختارت، وأنها تربت فعرفت، وأنها لاتندفع بلاوعي ولكنها تقدر وتختار.
جـ-ويريد ليصلحهم، ففي معاناة الجهاد في سبيل الله، والتعرض للموت في كل جولة، مايعود النفس الاستهانة بخطر المخوف، الذي يكلف الناس الكثير من نفوسهم وأخلاقهم وموازينهم وقيمهم ليتقوه، وهو هين، هين عند من يعتاد ملاقاته، سواء سلم منه أو لاقاه، والتوجه به لله في كل مرة يفعل في النفس في لحظات الخطر شيئاً يقربه للتصور فعل الكهرباء بالأجسام، وكأنه صياغة جديدة للقلوب والأرواح على صفاء ونقاء وصلاح.
__________
(1) شال الميزان: ارتفعت إحدى كفتيه. لسان العرب (11/375).(5/131)
ثم هي الأسباب الظاهرة لإصلاح الجماعة البشرية كلها، عن طريق قياداتها بأيدي المجاهدين الذين فرغت نفوسهم من كل أعراض الدنيا وكل زخارفها، وهانت عليهم، الحياة وهم يخوضون غمار الموت في سبيل الله، ولم يعد في قلوبهم مايشغلهم عن الله والتطلع إلى رضاه. وحين تكون القيادة في مثل هذه الأيدي تصلح الأرض كلها ويصلح العباد ويصبح عزيزاً على هذه الأيدي أن تسلم في راية القيادة للكفر والضلال والفساد، وهي قد اشترتها بالدماء، والأرواح، وكل عزيز وغال أرخصته لتتسلم هذه الراية لا لنفسها ولكن لله(1).
5-إرهاب الكفار وإخزاؤهم وإذلالهم وتوهين كيدهم:
قال تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}(سورة الأنفال، آية:60).
وقال تعالى:{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ صدق الله العظيم }(سورة التوبة، آية:14-15).
وقال تعالى:{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ صدق الله العظيم ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ صدق الله العظيم } (سورة الأنفال، آية:17-18).
6-كشف المنافقين:
__________
(1) في ظلال القرآن (6/3286).(5/132)
قال تعالى:{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(سورة آل عمران، آية:179).
قال ابن كثير: أي لابد أن يعقد شيء من المحنة، يظهر فيه وليه، ويفضح به عدوه، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر، يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهتك به أستار المنافقين، فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -(1).
7-إقامة حكم الله ونظام الإسلام في الأرض:
إن إقامة حكم الله في الأرض هدف من أهداف الجهاد، قال تعالى:{ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (سورة النساء، آية:105).
8-دفع عدوان الكافرين:
إن من أهداف الجهاد في الإسلام دفع عدوان الكافرين وهذا الجهاد أنواع منها:
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/371).(5/133)
أ-أن يعتدي الكفار على فئة مؤمنة مستضعفة في أرض الكفار- لاسيما إذا لم تستطع أن تنتقل إلى بلاد تأمن فيها على دينها، فإن الواجب عل الدولة الإسلامية أن تعد العدة لمجاهدة الكفار الذين اعتدوا على تلك الطائفة حتى يخلصوها من الظلم والاعتداء الواقع عليها(1) قال تعالى:{ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا صدق الله العظيم وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا صدق الله العظيم } (سورة النساء، آية:74-75).
قال القرطبي -رحمه الله- :(حض على الجهاد، ويتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب ويفتنونهم عن الدين، فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده، وإن كان في ذلك تلف النفوس، وتخليص الأسارى واجب على جماعة المسلمين إما بالقتال، وإما بالأموال وذلك أوجب لكونها دون النفوس، إذ هي أهون منها(2).
ب-أن يعتدي الكفار على ديار المسلمين:
__________
(1) انظر: الجهاد في سبيل الله، د. عبدالله القادري (2/162).
(2) انظر: تفسير القرطبي (5/279).(5/134)
قال تعالى:{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ صدق الله العظيم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ صدق الله العظيم فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ صدق الله العظيم }(سورة البقرة، آية:190-192)
فقد نص الفقهاء على أنه إذا اعتدى الكفار على ديار المسلمين يتعين الجهاد للدفاع عن الديار، لأن العدو إذا احتلها سام المسلمين عذاباً، ونفذ فيها أحكام الكفر، وأجبر أهلها على الخضوع له، فتصبح دار كفر بعد أن كانت دار إسلام قال ابن قدامة رحمه الله:(ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع)
الثاني: إذا نزل الكفار ببلد معين على أهله قتالهم ودفعهم(1)، وقال بعض علماء الحنفية (وحاصله إن كل موضع خيف هجوم العدو منه فرض على الإمام أو على أهل ذلك الموضع حفظه، وإن لم يقدروا فرض على الأقرب إليهم إعانتهم إلى حصول الكفاية بمقاومة العدو)(2).
ت-أن ينشر العدو الظلم بين رعاياه - ولو كانوا كفارا:
__________
(1) انظر: المغني (9/279).
(2) انظر: حاشية ابن عابدين (4/124).(5/135)
لأن الله سبحانه حرم على عباده الظلم، والعدل في الأرض واجب لكل الناس، وإذا لم يدفع المسلمون الظلم عن المظلومين أثموا، لأنهم مأمورون بالجهاد في الأرض لإحقاق الحق وإبطال الباطل ونشر العدل والقضاء على الظلم، ولافلاح لهم إلا بذلك، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما كانوا خير أمة أخرجت للناس إلا بذلك، كما قال تعالى:{ كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (سورة آل عمران، آية:11) قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(سورة المائدة، آية:8).
ومن العدل كف الظلم عن المظلوم الكافر الذي يبغضه المسلم لكفره قال السرخسي-رحمه الله- :(وإن كان –يقصد أحد ملوك أهل الحرب- طلب الذمة على أن يترك يحكم في أهل مملكته بما شاء من قتل أو صلب أو غيره بما لا يصلح في دار الإسلام لم يجب إلى ذلك، لأن التقرير على الظلم مع إمكان المنع منه حرام)(1).
جـ- الوقوف ضد الدعاة إلى الله ومنعهم من تبليغ دعوة الله:
إن المسلمين مفروض عليهم من قبل المولى عزوجل أن يبلغوا رسالات الله للناس كافة قال تعالى:{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(سورة يوسف، آية:108).
__________
(1) انظر: المبسوط للسرخسي (10/85).(5/136)
وأعداء الله يصدون أولياءه عن تبليغ عباده دعوته ولايتركون لهم سبيلاً إلى الناس، كما لايأذنون للدعاة أن يسمعوا الدعوة إلى الله للناس، ويضعون العراقيل، والعوائق، والحواجز بين الدعوة ودعاتها والناس، ولذلك أوجب الله عزوجل على عباده المؤمنين قتال كل من يصد عن سبيل الله تعالى(1).
قال تعالى:{ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ صدق الله العظيم وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَءَامَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ صدق الله العظيم ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ صدق الله العظيم فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ صدق الله العظيم }(سورة محمد، آية:1-4).
__________
(1) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم، للصّلابي، ص488.(5/137)
ومما تقدم يتضح لنا أن للجهاد أهدافاً سامية، ومصالح كريمة، وفوائد عظيمة، تتحقق للمسلمين وغيرهم، وأن الجهاد من آثار الهجرة ونتائجها المهمة، وأنه من الدعائم التي أقامها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبناء الدولة الإسلامية ولتوطيد أركان السلام(1). وذلك( لأن الأمة بغير جيش قوي عرضة للضياع، إذ يطمع فيها أعداؤها ولايهابون قوتها، فإذا كان لها جيش قوي احترم العدو إرادتها، فلا تحدثه نفسه باعتداء عليها فيسود عند ذلك السلام)(2).
ثالثاً: أهم السرايا والبعوث التي سبقت غزوة بدر الكبرى:
بمجرد الاستقرار الذي حصل للمسلمين بقيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وقيام الجماعة المؤمنة في المجتمع الجديد، كان لابد أن يتنبه المسلمون وقيادتهم إلى الوضع حولهم وماينتظرهم من جهة أعدائهم أعداء الدعوة، وكان لابد أن تنطلق الدعوة الإسلامية إلى غايتها التي أرسل الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بها وتحمل هو وأصحابه في سبيلها المشاق الكثيرة.
إن موقف قريش في مكة في أولى الأمور التي يجب أن تعالجها قيادة المدينة، لأن أهل مكة لن يرضوا بأن يقوم للإسلام كيان ولو كان في المدينة، لأن ذلك يهدد كيانهم، ويقوض بنيانهم، فهم يعلمون أن قيام الإسلام معناه انتهاء الجاهلية وعادات الآباء والأجداد، فلابد من الوقوف في وجهه.
__________
(1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص453.
(2) الحركات العسكرية للرسول الأعظم في كفتي الميزان، سيف الدين، ص62.(5/138)
وقد بذلت مكة وأهلها المحاولات لعدم وصول النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، واتخذت مواقف عدائية لضرب الإسلام والقضاء على المسلمين(1)، واستمر هذا العداء بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن أهم المواقف الدالة على ذلك، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. حدّث عن سعد بن معاذ أنه قال: كان صديقاً لأمية بن خلف، وكان (أمية) إذا مرَّ بالمدينة نزل على سعد وكان سعد إذا مرّ بمكة نزل على (أمية) فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة انطلق (سعد) معتمراً فنزل على أمية بمكة، فقال لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي اطوف بالبيت فخرج به قريباً من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان من هذا معك؟ فقال: هذا سعد فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمناً، وقد آويتم الصباة(2). وزعمتم أنكم تنصرونهم، وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان مارجَعْتَ إلى أهلك سالماً، فقال له (سعد) : ورفع صوته عليه، أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنَّك ماهو أشدُّ عليك منه، طريقك على المدينة...(3) وفي رواية عند البيهقي(والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن عليك متجرك إلى الشام)(4) تدل هذه الواقعة على أن (أبا جهل) يعتبر (سعد بن معاذ) من أهل الحرب بالنسبة إلى قريش، ولولا أنه دخل مكة في أمان زعيم من زعمائها لأهدر دمه وهذا تصرف جديد من رؤساء مكة حيال أهل المدينة لم يكن قبل الدولة الإسلامية فيها. فلم يكن أحد من أهل المدينة يحتاج إلى عقد أمان لكي يسمح له بالدخول إلى مكة! بل إن قريشاً كانت تكره أن تفكر في حدوث حالة حرب بينها وبين أهل المدينة قبل هذا الوضع الجديد، وقالوا في هذا الصدد، يخاطبون أهل المدينة
__________
(1) انظر: مرويات غزوة بدر، أحمد باوزير، ص79.
(2) جمع صابيء: أي الخارج عن دينه. وكان المشركين يسمون من اسلم صابي.
(3) صحيح البخاري رقم 3950.
(4) انظر: دلائل النبوة للبيهقي (3/25).(5/139)
مانصه:(والله مامن حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم، منكم)(1)، كما تدل هذه القصة على أن قوافل تجارة قريش في طريقها إلى الشام كانت في أمان إلى حدوث هذه الواقعة، لاتتعرض لها الدولة الإسلامية بمكروه. أي: كانت الدولة الإسلامية إلى هذا الوقت لم تعامل أهل مكة معاملة أهل الحرب، فلم تضرب عليهم الحصار الاقتصادي، ولم تصادر لهم أية قافلة، أو تقصدها بسوء! ومعنى هذا أن الأيدي الممسكة بزمام الأمور في مكة هي التي بادرت، وأعلنت الحرب على الدولة الإسلامية في المدينة، واعتبرت المسلمين أهل حرب لايسمح لهم بدخول مكة إلا بصفة مستأمنين(2).
-ودليل آخر على مبادرة رؤساء مكة في إعلان الحرب على الدولة الإسلامية في المدينة ماجاء في سنن أبي داود :(عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كفار قريش كتبوا إلى (ابن أبي) ومن كان يعبد معه الأوثان من الأوس والخزرج، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بالمدينة، قبل وقعة بدر إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم بالله لتُقاتِلنُه ولتخرجُنُّه، أو لنسيرنَّ إليكم بأجمعنا، حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح نساءكم، فلما اجتمعوا لقتال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما بلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيهم فقال:لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ماكانت تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم، تريدون أن تقاتلوا أبناءكم، وإخوانكم! فلما سمعوا ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا(3).
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام (الروض الأنف 2/192).
(2) انظر: الجهاد والقتال (1/476).
(3) سنن ابي داود (3/213) رقم الحديث 3004.(5/140)
وهنا تظهر عظمة النبوة وعظمة القائد المربي - صلى الله عليه وسلم - حيث قضى على هذه الفتنة في مهدها، وضرب على وتر العزة القبلية فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يدرك أغوار النفس البشرية التي يتعامل معها ولذلك كان خطابه مؤثراً في نفوس مشركي يثرب ونحن بحاجة إلى هذا الفقه العظيم في تفتيت محاولات المشركين للقضاء على الصف الإسلامي وزعزعة بنيانه الداخلي بعد أن بدأت قريش بإعلان حالة الحرب بينها وبين دولة الإسلام بالمدينة ونزل الأذن من الله تعالى بالقتال صار من الطبيعي أن تتعامل دولة المدينة مع قريش حسب ماتقتضيه حالة الحرب هذه، فقد اتجه نشاط الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أجل توطيد مكانة هذه الدولة، والرد على قريش في إعلانها حالة الحرب على المدينة، فاتجه نشاطه نحو إرسال السرايا، والخروج في الغزوات(1)، فكانت تلك السرايا والغزوات التي سبقت بدر الكبرى من أهمها:
1-غزوة الأبواء:
أول الغزوات التي غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة الأبواء(2)، وتعرف بغزوة ودان(3) أيضاً، وهما موقعان متجاوران بينهما ستة أميال أو ثمانية ولم يقع قتال في هذه الغزوة بل تمت موادعة بني ضمرة (من كنانة) وكانت هذه الغزوة في صفر سنة اثنتين من الهجرة، وكان عدد المسلمين مائتين بين راكب وراجل(4).
2-سرية عبيدالله بن الحارث:
__________
(1) انظرك الجهاد والقتال (1/477).
(2) قيل سميت بذلك لما فيها من الوباء.
(3) ودان: قرية جاعمة قريبة من الابواء.
(4) انظر: جيش النبي صلى الله عليه وسلم لمحمود شيت خطاب، ص54.(5/141)
وهي أول راية عقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1)، وكان عدد السرية ستين من المهاجرين وكانت قوة الأعداء من قريش أكثر من مائتي راكب وراجل، وكان قائد المشركين أبو سفيان بن حرب، وحصلت مناوشات بين الطرفين على ماء بوادي رابغ، رمى فيها سعد بن أبي وقاص أول سهم رمي في الإسلام، وكانت بعد رجوعه من الأبواء(2) .
3-سرية حمزة بن عبدالمطلب:
قال ابن اسحاق: وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في مقامه ذلك –أي لما وصل إلى المدينة بعد غزوة الأبواء- حمزة بن عبدالمطلب إلى سيف البحر(3) من ناحية العيص في ثلاثين راكباً من المهاجرين، فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، فحجر بين الفريقين مَجْديُّ بن عمرو الجهني، وكان موادعاً للفريقين جميعاً، فانصرف القوم عن بعض، ولم يكن بينهم قتال(4).
4-غزوة بواط(5):
وكانت غزوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواط في شهر ربيع الأول في السنة الثانية من مهاجره، وخرج في مائتين من أصحابه وكان مقصده أن يعترض عيراً لقريش كان فيها أمية بن خلف في مئة رجل وألفين وخمسمائة بعير فلم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - كيداً فرجع إلى المدينة.
5-غزوة العشيرة(6):
__________
(1) انظر: طبقات ابن سعد (2/7).
(2) انظر: حديث القرآن عن غزوات الرسول، د. محمد بكر آل عباد (1/40).
(3) سيف البحر: ساحله من ناحية العيص.
(4) انظر: سيرة ابن هشام (2/595).
(5) بواط: هو جبل من جبال جهينة، بناحية رضوى بقرب ينبع.
(6) العشيرة: موضع بين مكة والمدينة من ناحية ينبع على ساحل البحر الاحمر. (مراصد الاطلاع 2/943).(5/142)
وفيها غزا - صلى الله عليه وسلم - قريشاً، واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبدالأسد، وسميت هذه الغزوة بغزوة العشيرة، فأقام بها جمادي الأولى وليال من جمادي الآخرة، وادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً. وذلك أن العير التي خرجت لها قد مضت قبل ذلك بأيام ذاهبة إلى الشام(1)، فساحلت على البحر وبلغ قريشاً خبرها فخرجوا يمنعوها فلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووقعت غزوة بدر الكبرى(2).
6-سرية سعد بن أبي وقاص:
وبعد غزوة العشيرة بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن أبي وقاص في سرية قوامها ثمانية من المهاجرين، فخرج حتى بلغ الخرار(3) من أرض الحجاز ثم رجع ولم يلق كيداً(4).
7-غزوة بدر الأولى:
سببها: أن كرز بن جابر الفهري، قد أغار على سرح المدينة ونهب بعض الإبل والمواشي، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبه، حتى بلغ وادياً يقال له: سَفْوان من ناحية بدر، وفاته كرز بن جابر، فلم يدركه، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة(5).
8-سرية عبدالله بن جحش الأسدي إلى نخلة(6):
__________
(1) انظر: طبقات ابن سعد (2/10).
(2) نفس المصدر (2/11).
(3) علم لموضع بالحجاز قرب الجحفة (مراصد الاطلاع 1/455).
(4) انظر: سيرة ابن هشام (2/600).
(5) انظر: سيرة ابن هشام (2/601).
(6) نخلة اليمانية: واد عسكرت به هوازن يوم حنين.(5/143)
وأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن جحش في ثمانية من المهاجرين إلى نخلة جنوب مكة في آخر يوم من رجب للاستطلاع والتعرف على أخبار قريش لكنهم تعرضوا لقافلة تجارية لقريش فظفروا بها، وقتلوا قائدها عمرو بن الحضرمي وأسروا اثنين من رجالها وهم عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان، وعادوا بهم إلى المدينة، وقد توقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغنائم حتى نزل عليه قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (سورة البقرة، آية:217)
فلما نزل القرآن الكريم قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العير والأسيرين، وفي سرية عبدالله هذه غنم المسلمون أول غنيمة، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل قتله المسلمون، وعثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون(1).
رابعاً: فوائد ودروس وعبر:
1-متى شرع الجهاد:
__________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/43).(5/144)
ذهب الشيخ الدكتور محمد أبو شهبة أن تشريع الجهاد كان في أوائل السنة الثانية للهجرة، وعلل ذلك بسبب انشغال المسلمين في السنة الأولى بتنظيم أحوالهم الدينية والدنيوية كبنائهم المسجد النبوي، وأمور معايشتهم، وطرق اكتسابهم وتنظيم احوالهم السياسية: كعقد التآخي بينهم، وموادعتهم اليهود المساكنين لهم في المدينة، كي يأمنوا شرورهم(1)، وذهب الأستاذ صالح الشامي أن الأذن بالجهاد كان في أواخر السنة الأولى للهجرة(2).
2-الفرق بين السرية والغزوة:
يطلق كتاب السير في الغالب على كل مجموعة من المسلمين خرج بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلقى عدوه غزوة، سواء حدث فيها قتال أو لم يحدث، وسواء كان عددها كبيراً أو صغيراً، ويطلق على كل مجموعة من المسلمين يرسلها النبي - صلى الله عليه وسلم - لاعتراض عدو كلمة: سرية أو بعث، وقد يحدث فيها قتال وقد لايحدث، وقد تكون لرصد أخبار عدوه أو غيره، وغالباً مايكون عدد الذين يخرجون في السرايا قليلاً، لأن مهمتهم محددة في مناوشة العدو وإخافته وارباكه، وقد قاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعاً وعشرين غزوة، وأرسل مايقدر بثمان وثلاثين سرية وبعثاً، وقد خطط لها في فترة وجيزة في عمر الأمم بلغت عشر سنوات من الزمن(3).
3-تعدد سكان المدينة وعلاقته بالسرايا:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/75،76).
(2) انظر: معين السيرة، ص175.
(3) في ظلال السيرة غزوة بدر، لأبي فارس، ص12.(5/145)
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجراء تعداد سكاني في السنة الأولى من الهجرة، وبعد المؤاخاة مباشرة وكان الإحصاء للمسلمين فقط أو حسب نص أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما قال:(اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام من الناس) فلبغ تعداد المحاربين منهم فقط (1500) ألف وخمسمائة رجل(1)، فأطلق المسلمون بعد إجراء هذا الإحصاء تساؤل تعجب واستغراب (نخاف ونحن ألف وخمسمائة؟) لأنهم كانوا قبل لاينامون إلا ومعهم السلاح خوفاً على أنفسهم وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمنع خروجهم ليلاً فرادى حماية لهم من الغدر(2)، وبعد هذا التعدد مباشرة بدأت السرايا والغزوات وهذا الإجراء الإحصائي يدخل ضمن الإجراءات التنظيمية في تطوير الدولة الناشئة(3).
4-حراسة الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - الشخصية:
كان الصحابة رضي الله عنهم يحرسون النبي - صلى الله عليه وسلم - حراسة شخصية، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (أرق النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقال: ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة إذ سمعنا صوت السلاح، قال: من هذا؟ قال: سعد، يارسول الله جئت أحرسك، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فنام حتى سمعنا غطيطه)(4) وكان ذلك قبل غزوة بدر الكبرى(5)، وفي حديث عائشة، مشروعية الاحتراس من العدو، والأخذ بالحزم، وترك الإهمال في موضع الحاجة إلى الاحتياط وأن على الناس يحرسوا سلطانهم خشية القتل، وفيه الثناء على من تبرع بالخير وتسميته وإنما عانى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك مع قوة توكله للاستنان به في ذلك(6).
__________
(1) انظر: الوثائق السياسية حميد الله، ص65.
(2) انظر: الروض الأنف (5/43).
(3) انظر: دراسات في عهد النبوة للشجاع، ص163.
(4) صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب التمني (3/219).
(5) انظر: تفسير القرطبي (6/230).
(6) انظر: ولاية الشرطة في الاسلام، د.عمر محمد الحميداني، ص63.(5/146)
5-نص وثيقة المعاهدة مع بني ضمرة والتعليق عليها:
(بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأنَّ لهم النصر على من رامهم إلا أن يُحارِبُوا في دين الله مابَلَّ بحرٌ صوفه(1) وأن النبي إذا دعاهم لنصرة أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله وذمة رسوله، ولهم النصر على من برَّ منهم واتقى)(2).
انتهز النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الأبواء فرصة ذهبية، فعقد حلفاً عسكرياً مع شيخ بني ضمرة، فقد كان موقع بلاده ذا قيمة عسكرية لاتقدر بثمن في الصراع بين الدولة الإسلامية الناشئة وقريش ولذلك عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضمان حيدتهم في حالة وقوع صدام مسلح بين المدينة وأهل مكة، وكانت خطته - صلى الله عليه وسلم - حتى وقعة بدر، أن يزعج قوافل قريش بإرسال مجموعات صغيرة من المهاجرين، وخاصة أن هذه القوافل كانت غير مصحوبة بجيش يحميها، وهو أمر لم تفكر فيه قريش حتى تلك اللحظة(3).
كان قرب بني ضمرة وحلفائهم من المدينة التي كانت سوقهم ومصدر رزقهم، قد وضعهم في موقف لايسمح لهم بأي مسلك غير موادعة الدولة الإسلامية الناشئة، وهو حلف عدم اعتداء وفق المصطلح الحديث(4).
__________
(1) كناية على التأييد والأستمرار.
(2) الوثائق السياسية، محمد حميد الله، ص220 رقم 159.
(3) انظر: نشأة الدولة الاسلامية، د. عون الشريف، ص43.
(4) انظر: الفقه السياسي ، خالد سليمان الفهداوي، ص119.(5/147)
وقد دلت هذه الموادعة على أن مقتضيات السياسة الشرعية قد تدفع المسلمين إلى التحالف العسكري أو الاقتصادي أو التجاري مع أي من الكتل القائمة وأن التحالف السياسي له أصل في الشريعة وضرورة يوجبها استهداف رفع الضرر الحاصل أو المرتقب(1)، وأن التحالف مبني على قاعدة رفع الضرر والمصلحة المشتركة وأن تكون لأصل الحلف غاية شرعية معلومة، وأن يكون للمسلمين في الحلف قرار ورأي، أما إذا كانوا أتباعاً ومنفذين كما في الأحلاف الحديثة فهذا لاينطبق عليه الأصل الشرعي وعلى قيادة الأمة أن تستوعب هدى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حركته السياسية، وأن تفهم القاعدة الشرعية التي تقول: (لاضرر ولاضرار)(2). يقول الشيخ مصطفى الزرقا في معرض الحديث عن هذه القاعدة مانصه:
(وهذه القاعدة من أركان الشريعة وتشهد لها نصوص من الكتاب والسنة، ويشمل الضرر المنهيُّ عنه ماكان ضرراً عاماً أو خاصاً ويشمل ذلك دفعه قبل الوقوع بطرق الوقاية الممكنة، ودفعه بعد الوقوع بما يمكن من التدابير التي تزيل آثاره، وتمنع تكراره، كما يدل على وجوب اختيار أهون الشرين لدفع أعظمها، لأن في ذلك تخفيفاً للضرر عندما لايمكن منعه بتاتاً(3).
إن هذه الموادعة توضح جواز عقد الدولة الإسلامية معاهدة دفاعية بينها وبين دولة أخرى إذا اقتضت ذلك مصلحة المسلمين، ولم يترتب أي ضرر على مثل هذه المعاهدة ويجب على الدولة الإسلامية في هذه الحال نصرة الدولة الحليفة إذا دعيت إلى هذه النصرة ضد الكفار المعتدين، كما يجوز للدولة الإسلامية أن تطلب من الدولة الحليفة إمدادها بالسلاح والرجال ليقاتلوا تحت راية الدولة الإسلامية ضد الأعداء من الكفار(4).
__________
(1) نفس المصدر، ص124.
(2) هذه القاعدة أصلها حديث نبوي رواه ابن ماجة (2/39) رقم 1896 وهو صحيح.
(3) انظر: المدخل الفقهي ، الشيخ الزرقاء، ص972.
(4) انظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، د. محمد خير هيكل (1/479).(5/148)
وقد شرط النبي - صلى الله عليه وسلم - على بني ضمرة ألا يحاربوا في دين الله حتى يكون لهم النصر على من اعتدى عليهم أو حاول الاعتداء. وفي هذا إبعاد للعقبات التي يمكن أن تقف في طريق الدعوة، فقد أوجبت هذه المعاهدة على بني ضمرة ألا يحاربوا هذا الدين أو يقفوا في طريقه(1).
وتعتبر هذه المعاهدة كسباً سياسياً وعسكرياً للمسلمين لايستهان به(2).
6-(وإني لأول رجل رمي بسهم في سبيل الله)(3):
__________
(1) انظر: دولة الرسول من التكوين الى التمكين، ص530.
(2) انظر: الدعوة الاسلامية، ص296، د. عبدالغفار عزيز.
(3) انظر: صحيح سنن الترمذي (2/277).(5/149)
كانت سرية عبيدة بن الحارث رضي الله عنه أول سرية في تاريخ السرايا يلتقي فيه المسلمون مع المشركين في مواجهة عسكرية وقد اتخذ القتال بين الطرفين طابع المناوشة بالسهام وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (أول العرب رمى بسهم في سبيل الله)(1) في تلك المعركة التي لم تستمر طويلاً إذ قرر الفريقان الإنسحاب من أرضها وقد كان انسحاب المسلمين قوياً ومنظماً وكان بطل هذا الانسحاب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقد كان له الدور الأكبر في تثبيت وإحباط استعدادات العدو لشن أي هجوم مضاد وذلك بوابل من السهام المزعجة التي قذفها نحوه والتي كونت ساتراً دفاعياً مهد لإنسحاب سليم منظم بالنسبة للمسلمين، وقد فر عتبة بن غزوان، والمقداد بن الأسود رضي الله عنهما يومئذ إلى المسلمين وكانا قد أسلما قبل ذلك، وفي هذه السرية حقق سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سبقاً عسكرياً إسلاميَّاً، يسجل في سجله الحافل بالأعمال العظيمة لنصرة دين الله تعالى، كما أكدت هذه السرية استمرار سياسة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التعبوية الخاصة بحشد المهاجرين فقط في الغزوات والسرايا الأولى حتى بدر تنفيذاً لاتفاقية العقبة الثانية(2).
7-نص وثيقة الموادعة مع جهينة والتعليق عليها:
(إنهم آمنون على أنفسهم وأموالهم، وإن لهم النصر على من ظلمهم أو حاربهم إلا في الدين والأهل. ولأهل باديتهم من برَّ منهم وأتقى مالحاضرتهم)(3).
__________
(1) انظر: السرايا والبعوث ا لنبوية، د. بريكك العُمري، ص91.
(2) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص92.
(3) انظر: مجموعة الوثائق السياسية، محمد حميد الله، ص62.(5/150)
ويظهر أثر هذه الموادعة عندما تدخل مخشي بن عمرو الجهني في التوسط بين سرية حمزة بن عبدالمطلب والقافلة القرشية التي كان يقودها أبو جهل بن هشام ويحرسها ثلثمائة راكب من فرسان قريش(1) فقد التقوا ناحية العيص في منطقة نفوذ جهينة واصطفوا للقتال(2)، وقبل أن يندلع القتال بين الفريقين، تدخل مخشي بن عمرو زعيم من زعماء جهينة في وساطة سلام بينهم، واستطاع أن ينجح في مساعيه السلمية بين الطرفين، فقد كان مخشي وقومه حلفاء للفريقين جميعاً، فلم يعصوه فرجع الفريقان كلاهما إلى بلادهم، فلم يكن بينهم قتال(3).
ويظهر من هذه المعاهدة أن عقد المعاهدات بين الدولة الإسلامية والقبائل المجاورة كان سابقاً على الأعمال العسكرية التي قامت بها بدليل أن حركة السرايا الأولى الموجهة ضد قريش كان قد سبقها معاهدة سلام بين دولة الإسلام وقبيلة جهينة المقيمة على ساحل البحر الأحمر- وقد توسطت لمنع القتال بين المسلمين وكفار مكة.
ومن فقه هذه المعاهدة جواز عقد معاهدة سلام بين دولة الإسلام ودولة أخرى هي بدورها مرتبطة بمعاهدة سلام مع أعداء الدولة الإسلامية بشرط أن لاتتجاوز تلك المعاهدة إلى الاتفاق على أن تنصر الدولة المعاهدة للمسلمين تلك الدولة العدُوَّ إذا ما اشتبكت مع المسلمين في قتال، ويجوز للدولة الإسلامية أن تترك قتال أعداءها بعد أن تستعد لذلك، استجابة لوساطة دولة أخرى، إذا لم يترتب على ذلك ضرر للمسلمين(4).
__________
(1) انظر: المواهب اللدنية (1/75).
(2) انظر: طبقات ابن سعد (2/6)؛ وانظر: السرايا والبعوث، ص85.
(3) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص86.
(4) انظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (1/478،479).(5/151)
كانت نتائج سرية حمزة رضي الله عنه على المعسكر الوثني سيئة للغاية حيث هزت كيان قريش وبثت الرعب في نفوس رجالها، وفتحت أعينهم على الخطر المحدق بهم والذي أصبح يهدد طريق تجارتهم، وقوتهم الاقتصادية(1)، فقد (قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن حمزة: يامعشر قريش إن محمداً قد نزل يثرب وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئاً، فاحذورا أن تمروا طريقه، وأن تقاربوه فإنه كالأسد الضاري، إنه حنق(2) عليكم نفيتموه نفي القردان(3) على المناسم(4)، والله إن له لسحرة، مارأيته قط ولا أحد من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين وإنكم عرفتم عداوة ابني قيلة(5)، فهو عدو استعان بعدو)(6).
8-سرية عبدالله بن جحش ومافيها من دروس وعبر:
إن سرية عبدالله بن جحش حققت نتائج مهمة وفيها دروس وعبر وفوائد عظيمة منها:
أ-جاء في خبر هذه السرية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لأمير السرية كتاباً وأمره أن لاينظر فيه حتى يسير يومين، وهذا مثل لتطبيق مبدأ مهم من مبادئ الحرب، وهو إخفاء الخطط الحربية، ومنها خط السير، حتى يكون الجيش في أمان من كيد الأعداء، فالمدينة كانت آنذاك تضم اليهود والوثنيين ومن المتوقع أن يسارع هؤلاء إلى إخبار أهل مكة بخط سير تلك السرية الموجهة ضدهم، فلما سار أفراد السرية وهم بأنفسهم لايعلمون اتجاههم أصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - آمناً من انكشاف الهدف المقصود(7).
__________
(1) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص86.
(2) الحنق: محركة: الغيظ أو شدته.
(3) القردان: جمع قراد وهي دويبة تعض الأبل.
(4) المناسم: بكسر السين: طرف خف البعير والنعامة، والفيل والحافر، وقيل: هو للناقة كالظفر للإنسان.
(5) كناية عن الأوس والخزرج، فقيلة أمهم وكانوا ينسبون إليها.
(6) انظر: سيرة ابن هشام (1/218-219).
(7) انظر: التاريخ الاسلامي مواقف وعبر (4/71).(5/152)
وإن الباحث ليرأى أثر التربية النبوية في هذه السرية المباركة حيث سمعوا وأطاعوا جميعاً وساروا إلى منطقة أعدائهم، وتجاوزوها حتى أصبحوا من ورائهم، وهذا شاهد على قوة إيمان الصحابة رضي الله عنهم، واستهانتهم بأنفسهم في سبيل الله تعالى(1).
ب-حاولت قريش أن تستغل ماوقع من قتل في الشهر الحرام:
من قبل أفراد السرية فشنوا حرباً إعلامية وهجومية مركزاً تتخلله دعايات مغرضة ضد المسلمين استغلت فيها التعاليم الإبراهيمية التي لازالت بعض آثارها باقية في المجتمع الجاهلي حتى ذلك الوقت من تحريم القتال في الأشهر الحرم وغير ذلك فقد (انتهزت قريش هذه الفرصة للتشهير بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالمسلمين وإظهارهم بمظهر المعتدي الذي لايراعي الحرمات)(2)، (قالت قريش:قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال)(3).
ونجحت قريش في خطتها تلك بادئ الأمر حيث (كان لدعايتها صدىً كبير، وأثر ملموس حتى في المدينة نفسها، فقد كثر الجدل والنقاش بين المسلمين أنفسهم، وأنكروا على رجال السرية محاربتهم في الشهر الحرام، واشتد الموقف، ودخلت اليهود تريد إشعال الفتنة)(4) وقالوا بأن الحرب واقعة لامحالة بين المسلمين وقريش، بل بينهم وبين العرب جميعاً، جزاء ماانتهكوا من حرمة الشهر الحرام، وأخذوا يردّدون (عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبدالله، عمرو: عمرت الحرب، والحضرمي: حضرت الحرب، وواقد بن عبدالله: وقدت الحرب)(5) وهذا الكلام من اليهود يعبر عن حقد دفين في نفوسهم على الإسلام والمسلمين(6).
__________
(1) نفس المصدر (4/71).
(2) انظر: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، الشريف أحمد ، ص445.
(3) انظر: سنن البيهقي (9/59) نقلاً عن السرايا والبعوث النبوية، ص100.
(4) انظر: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، ص445.
(5) انظر: سيرة ابن هشام (1/603، 604).
(6) انظر: التاريخ الاسلامي (4/72).(5/153)
وعندما ظن أهل السرية أنهم قد هلكوا وسقط في أيديهم جاء الرد الرباني المفحم قطعاً لألسنة المشركين الذين يتترسون بالحرمات، ويتخذونها ستاراً لجرائمهم، ففضح القرآن هؤلاء المجرمين، وأبطل احتجاجهم وأجاب على استنكارهم القتال في الشهر الحرام، فالصد عن سبيل الله، والكفر به أكبر من القتال في الشهر الحرام، والمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر من القتال في الشهر الحرام، وفتنة الرجل في دينه أكبر من القتل في الشهر الحرام، لقد فعلت قريش كل هذه الجرائم، وارتكبت هذه الكبائر، ولكنها تناستها، أو استهانت بها، ولم تذكر إلا حرمة الشهر، واتخذها وسيلة لإثارة حرب شعواء على الإسلام ودولته، لتأليب القبائل الوثنية عليها، وتنفير الناس من الدخول في هذا الدين الذي يستحل الحرمات، ويستبيح المقدسات حتى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد لحقه الغم، ولام قائد السرية وأصحابه على مافعلوا(1)، فنزلت الآيات البينات ترد وبقوة على دعايات قريش المغرضة موضحة أنه وإن كان الشهر الحرام لايحل فيه القتال، ولكن لاحرمة عند الله لمن هتك الحرمات وصد عن سبيله(2).
ت-حرص القائد على سلامة الجنود:
عندما تخلف سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان بسبب بحثهما عن بعير لهما قد ضل، وجاءت قريش تريد أن تفدي الأسيرين، فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أخاف أن تكونوا قد أصبتم سعد بن مالك وعتبة بن غزوان، فلم يفادهما حتى قدم سعد وعتبة، ففوديا، فأسلم الحكم بن كيسان(3)، وأقام عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورجع عثمان بن عبدالله بن المغيرة كافراً(4).
ونفهم من المنهاج النبوي ضرورة أن يهتم القائد بسلامة جنده، لأنهم هم الذين يقدمون أنفسهم في سبيل نصرة دين الله وإقامة دولة الإسلام.
__________
(1) انظر: دولة الرسول من التكوين الى التمكين ، ص533.
(2) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص100.
(3) نفس المصدر، ص100.
(4) المصدر السابق، ص100.(5/154)
إن المدارس العسكرية الحديثة تقول:إن الجندي حين يحس باهتمام القيادة به وسلامته وبأمنه، لايتردد في أن يبذل غاية البذل، ويعطي أقصى العطاء(1).
ث-ظهور التربية الأمنية في الميدان:
كانت سرية عبدالله بن جحش قد حققت أهدافها، وظهرت قدرتها على التوغل في المناطق الخاضعة لنفوذ قريش مما أذهلها وزاد دهشتها وذهولها تلك السرية التامة، والدقة المتناهية التي تمت بها العملية، حتى أن جواسيس قريش لم تستطع رصدها ولامعرفة الوجهة التي قصدتها، وكان ذلك ماأراده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخطط له بابتكاره أسلوب الرسائل المكتوبة للمحافظة على الكتمان وحرمان العدو من الحصول على المعلومات التي تفيده عن حركات المسلمين (والكتمان أهم عامل من عوامل مبدأ (المباغتة) وهي أهم مبدأ من مبادئ الحرب)(2).
وقد أثبتت هذه السرية بما لايدع مجالاً للشك بأن سرايا النبي - صلى الله عليه وسلم - قوية تندفع للقيام بأصعب الأعباء والمهمات، وتتحلى بمزايا القتال، وقدرتها على إنجاز الواجبات بكل كفاءة واقتدار مما يدل على روحها المعنوية العالية.
وتظهر آثار التربية النبوية في الضبط العسكري الرفيع الذي تميز به قائد السرية وطاعته للأوامر النبوية العليا دون تردد أو تخاذل، فما أن قرأ الكتاب حتى امتثل فوراً للأمر بحذافيره، معطياً من نفسه القدوة الحسنة، وباثَّاً في نفوس جنوده الحماس وهو يقول لهم:(من كان منكم يريد الشهادة، ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم -)(3).
9-من أهداف السرايا:
__________
(1) انظر: غزوة بدر الكبرى، محمد ابو فارس، ص23.
(2) انظر: الرسول القائد، خطاب، ص94.
(3) انظر: سيرة ابن هشام (2/602) من رواية ابن اسحاق عن عروة.(5/155)
عندما ندرس حركة السرايا والغزوات التي قادها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدقة وعمق وتحليل نستطيع أن نتلمس كثيراً من الأهداف وندرك بعض ماتوحي به من دروس وعبر وفوائد، فإذا تأملنا في حركة السرايا التي سيرت قبل بدر نجد أن أفرادها كلهم من المهاجرين ليس فيهم واحد من الأنصار يقول ابن سعد رحمه الله:(والمجتمع عليه أنهم كانوا جميعاً من المهاجرين) ولم يبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحداً من الأنصار مبعثاً حتى غزا بهم بدراً(1) وهذا كان أمراً مدروساً له أهدافه منها، إحياء قضية المهاجرين في أنفسهم أولاً وإحيائها على المستوى الخارجي، وانهاك الاقتصاد القرشي ومحاصرته، واستعادة بعض الحقوق المسلوبة، وإضعاف قريش عسكرياً، تدريب الصحابة على اتقان فنون القتال، رصد تحركات قريش، ارهاب العدو الداخلي في المدينة وماحولها، اختبار قوة العدو(2)، وقد حققت تلك السرايا أهدافها والتي من أهمها:
أ-بسط هيبة الدولة في الداخل والخارج:
__________
(1) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/6).
(2) انظر: غزة بدر الكبرى لأبي فارس، ص14 الى 24.(5/156)
فقد استطاعت تلك السرايا والغزوات أن تلفت أنظار أعداء الدعوة والدولة الإسلامية إلى قوة المسلمين وقدرتهم على ضرب أية حركة مناوئة سواء في الداخل أو الخارج حتى لايحدث أحد نفسه بمهاجمة الدولة الإسلامية، التي لايتوقف جيشها ليل نهار، مما أرهب الأفاعي اليهودية، والقبائل الوثنية المحيطة بالمدينة وجعل الجميع يعمل ألف حساب قبل أن تحدثه نفسه بغزو المدينة، أو مناصرة أحد من الأعداء عليها والذي نلاحظه في حركة السرايا الزيادة المستمرة في أعداد قوة تلك الغزوات والسرايا، ومجيئها متتابعة ليس بينها فاصل زمني على الإطلاق، فلا تكاد السرية أو الغزوة تعود حتى تكون التي بعدها قد خرجت لتحقيق نفس الهدف وهو ضرب مصالح قريش الاقتصادية، وقطع طرق تجارتها، وخصوصاً إلى بلاد الشام مما كلفها زيادة عدد حراس قوافلها، وارتفاع قيمة بضائعها، عدا عن الرعب والخوف الذي شعر به رجال القوافل القرشية، وأصحاب الأموال في مكة على حد سواء(1).
ب-كسب بعض القبائل وتحجيم دور الأعراب:
فقد وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبيلة جهينة وحالفها وكذلك بعض القبائل الضاربة في تلك المنطقة، من أجل تحييدها في الصراع الدائر بين مكة والمدينة والعمل على كسبها في هذا الصراع وذلك: (لأن الأصل أن هذه القبائل تميل إلى قريش، وتتعاون معها، إذ بينهما مُحَالفَات تاريخية سمّاها القرآن الكريم بالإيلاف(2)، سعت قريش من خلالها لتأمين تجارتها مع الشام واليمن)(3).
وبعد أن اتفقت بعض القبائل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعقدت معه معاهدات، أصبحت تشكل خطراً على تجارة قريش، وصار المسلمون هم السادة في المنطقة(4).
__________
(1) انظر: دولة الرسول من التكوين الى التمكين، ص532.
(2) سورة قريش (1-4).
(3) انظر: المجتمع المدني، د. أكرم ضياء العمري، ص27.
(4) انظر: دراسات في السيرة، مؤنس ، ص19.(5/157)
وقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحجيم دور الأعراب عن أن يكون لهم وجود في طرق التجارة، فقد كان الأعراب يُشَكلون قوة تهديد للقوافل التجارية، وكان المار في مناطق نفوذهم لايمر إلا باءتاوة تدفع إليهم، وحينما قامت الدولة الإسلامية لم يجدوا شيئاً منها فجربوا مهاجمتها وتولى هذا كرز الفهري، ولكنه وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطارده إلى سفوان (بالقرب من بدر مسافة تبعد عن المدينة حوالي 150كيلومتراً) وقد سمي أهل السير هذه المطاردة غزوة بدر الصغرى وتعد هذه الغزوة درساً لكل الأعراب، فلم يحصل أن أعرابياً سوّلت له نفسه في مهاجمة المدينة بعد هذه المطاردة ومن ثم لم تدفع الأمة الإسلامية إتاوات لقطاع الطرق بل أجبرتهم على الإنسحاب والدخول في اتفاقات مع المسلمين فأمنوا شرهم(1).
جـ-علاقة هذه السرايا بحركة الفتوح الإسلامية:
استمرت حركة السرايا والبعوث وكانت بمثابة تمرينات عسكرية تعبوية، ومناورات حية لجند الإسلام وكان هذا النشاط المتدفق على شكل موجات متعاقبة من جند الإسلام الأوائل دلالة قاطعة على أن دولة الإسلام في المدينة وبقيادة النبي القائد - صلى الله عليه وسلم - كانت مثل خلية النحل لاتهدأ ولاتكل، وإن الباحث ليلحظ في حركة السرايا والبعوث والغزوات الكبرى في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرص الصحابة على المشاركة كقادة وجنود، فكان - صلى الله عليه وسلم - يعدهم لتثبيت دعائم الدولة والإستعداد للفتوحات المرتقبة والتي مافتئ عليه الصلاة والسلام يبشر بها أصحابه بين الفينة والأخرى في أوقات الحرب والسلم والخوف والأمن.
__________
(1) انظر: دراسات في عهد النبوة، د. عبدالرحمن الشجاع، ص131.(5/158)
إنه بنظرة فاحصة في قوّاد وجنود تلك السرايا والبعوث تطالعنا أسماء لمعت كثيراً في تاريخ الفتح الإسلامي فيما بعد، مثل قائد فتوحات الشام، أمين الأمة، أبي عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص صاحب القادسية، وفاتح المدائن، وخالد بن الوليد سيف الله المسلول هازم الروم في اليرموك، وعمرو بن العاص فاتح مصر وليبيا وغيرهم رضي الله عنهم، لقد التحق خالد وعمرو فيما بعد بحركة السرايا وقادوا بعضها بعد إسلامهم لقد كانت السرايا والغزوات التي أشرف عليها الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في حياته بمثابة تدريب حي نابض، بل يمكن اعتبارها دورات أركان للقادة الذين فتحوا مشارق الأرض ومغاربها فيما بعد.
إن حياة الصحابة رضي الله عنهم خلال الأربع والعشرين ساعة اليومية عبارة عن تدريب مستمر، فالبرنامج اليومي المنتظم يبدأ مبكراً من صلاة الفجر التي تؤدى في جماعة مع قائدهم الأعلى - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يحثهم على أداء هذه الصلاة جماعة وفي وقتها موضحاً لهم ولأمته أنها المفتاح العجيب ليوم ملئ بالنشاط والحيوية (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب مكان كل عقدة عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلَّت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدت، فإن صلَّى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطاً طيِّب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)(1).
ثم ينطلق كل منهم إلى عمله الذي تتخلله فترات الصلوات الباقية، حتى إذا ماصلَّوا الصلاة الآخرة (صلاة العشاء) ناموا، حتى إذا ما أخذوا قسطاً وافراً من النوم أوّل الليل إلى الثلث الأخير منه، قام معظمهم لأداء صلاة التهجد التي تملأ قلوبهم روحانية وتكسبهم مزيداً من النشاط لأدائها في وقت يكون الجسم فيه مرتاحاً.
__________
(1) مسلم، انظر، مختصر صحيح مسلم للألباني (106).(5/159)
هذا بالإضافة إلى الاستعداد الدائم واليقظة التامة لمتطلبات دولة الإسلام، فكانوا يقومون بنشاطات تدريبية مركزة تتمثل في ركوب الخيل، والسبق، والرماية، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحثهم على فعل ذلك، بل ويشاركهم فيه، معطياً من نفسه القدوة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يركز على تعلم الرماية كثيراً موضحاً أنها خير مايعدُّ من قوة استعداداً للكفار.
وكان عليه الصلاة والسلام يشجعهم على الصناعة الحربية المتمثلة في ذلك الوقت بصناعة الأسهم، وأن الأجر الذي غايته الجنة ينسحب على صانعها والمتنبل بها، والرامي بها، فيروي لنا عقبة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله:(إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه الذي احتسب في صنعته الخير، ومتنبله، والرامي، ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إليَّ من أن تركبوا، وليس من اللهو إلاَّ ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته زوجته، ورمية بنبله عن قوسه، ومن عُلِّم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها)(1).
فياله من عصر تمسك فيه الصحابة بالتعاليم القرآنية الربانية، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وقاموا بتطبيقها حرفيَّاً في شتى شئون حياتهم، فغزوا واستعلوا على أمم الأرض شرقاً وغرباً، رغم قلتهم وبساطتهم، وحين ابتعد المسلمون عن تلك التعاليم وألقوا بها وراء ظهورهم ركبهم الذُّلُّ والصغار، وتداعت عليهم الأمم من أقطارها بعد أن أصبحوا غثاء كغثاء السيل.
__________
(1) أخرجه أحمد، والحاكم وقال : صحيح. ووافقه الذهبي. انظر: الفتح الرباني (13/129)، والمستدرك (2/104).(5/160)
إن المهمات والأهداف التي سعت لتحقيقها السرايا والبعوث كانت تتفاوت تبعاً لاختلاف الظروف المحيطة والحادثة، فكانت السرايا الأولى في معظمها عبارة عن دوريات استطلاعية واستكشافية وجسِّ نبض، ثم تطورت إلى سرايا اعتراضية توقع الرعب والفزع في القوافل القرشية، وذلك قبل غزوة بدر الفاصلة، وعندما قويت شوكت المسلمين بعدها، أصبحت مهمة بعض السرايا والبعوث تنصب في تصفية الأفراد من أعداء الدولة الإسلامية الذين يحاولون النيل من مسيرتها مثل كعب بن الأشرف، والعصماء بنت مروان، وأبي عفك، فكان في قتل كعب ردعاً لليهود، وقتل العصماء وأبي عفك ردعاً للمشركين والمنافقين في المدينة.
وعندما انقلبت الأمور لغير صالح المسلمين بعد أحد، وعندما طمع الأعراب في خيرات المدينة، واستهانوا بالمسلمين لدرجة أنهم غدروا ببعض البعوث التعليمية كما في الرجيع وبئر معونة، غيّر تبعاً لذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (استراتيجيته) العسكرية، فانتقل بالسرايا من قريش إلى الأعراب لتأديبهم بطريقة صارمة وسريعة ومباغتة وكان أهم مايميِّز تلك السرايا هجومها التعرضي للأعراب قبل تحشدهم وجمع أمرهم بالهجوم على المسلمين.
وظلت السرايا والبعوث النبوية تؤدي دورها وتقوم بمهامها الخاصة لخدمة أهداف الدعوة، فمن دوريات قتالية، إلى سرايا تعقبية، وأخرى تمويهية، حتى إذا ماتوطّد الأمر للمسلمين بعد فتح مكة، اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإزالة كل مايمت للوثنية بصلة، فبعث السرايا والبعوث من مكة لتحطيم بقية رموز الشرك والوثنية، فانطلقت السرايا لتحطيم العزى ومناة، واللات وسواع، وذا الخلصة، وغيرها من الأصنام والطواغيت الوثنية(1).
__________
(1) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص61،62،63،64،65.(5/161)
وبعد ذلك انطلقت دعوة الإسلام في أرجاء الجزيرة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ثم تحركت الجيوش الراشدية بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنشر دين الله في المعمورة وإزالة كل العوائق والقوى التي تقف في وجه الدعوة لقد أدهشت النتائج السريعة الإيجابية لحركة الفتوح الإسلامية جميع المحللين على اختلاف دياناتهم وأفكارهم ومشاربهم.
ولكن ستزول دهشة المحللين المنصفين عندما يقرأوا تلك التعاليم والوصايا النبوية لقوّاد وجنود السرايا والبعوث والتي هي نواة حركة الفتوح الإسلامية والتي صارت تتكرر على ألسنة الخلفاء وقادة جيوش الفتوح وتظهر في أعمالهم فيما بعد(1).
عن أنس رضي الله عنه قال:(كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث جيشاً قال:(انطلقوا باسم الله، لاتقتلوا شيخاً فانياً، ولاطفلاً صغيراً، ولاامرأة، ولاتغلُّوا وضموا غنائمكم، وأصلحوا، وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين)(2).
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال:(كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: بشروا ولاتنفروا، ويسروا ولاتعسروا)(3).
وعن عبدالرحمن بن عائذ رحمه الله قال:(كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث جيشاً قال: تألفوا الناس وتأتوهم ولاتغيروا عليهم حتى تدعوهم إلى الإسلام، فما على الأرض من أهل بيت مدر ولا وبر إلا تأتوني بهم مسلمين أحب إليَّ من أن تقتلوا رجالهم وتأتوني بنسائهم)(4).
المبحث الخامس
استمرارية البناء التربوي والعلمي
__________
(1) نفس المصدر، ص65، 66.
(2) عون المعبود شرح سنن ابي داود (7/274).
(3) مسلم.
(4) انظر: سبل الرشاد للصالحي (6/17).(5/162)
كان من أوائل مانزل من القرآن الكريم في العهد المدني هو مقدمات سورة البقرة التي تحدثت عن صفات أهل الإيمان، وأهل الكفر، وأهل النفاق ثم إشارة لأهل الكتاب –اليهود والنصارى- وكان التركيز على بيان حقيقة اليهود لأنهم الذين تصدوا للدعوة الإسلامية من أول يوم دخلت فيه المدينة، وتتضمن سورة البقرة جانباً طويلاً منها لشرح صفة يهود وطباعهم(1).
والملاحظ أن سورة البقرة وهي من أوائل مانزل في العهد المدني كانت توجه الدعوة للناس أجمعين أن يدخلوا في دين الله، وأن يتوجهوا له بالعبادة قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ صدق الله العظيم الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ صدق الله العظيم } (سورة البقرة، آية:21-22).
__________
(1) انظر: الظلال (1/27) ومابعدها(5/163)
وكانت الآيات القرآنية في العهد المدني تحذر المسلمين من الإتصاف بصفات المنافقين وتوضح خطورة المنافقين على المجتمع الناشيء والدولة الجديدة ولم تظهر حركة النفاق ضد المجتمع والدولة المسلمة إلا في العهد المدني، لأن المسلمين في مكة (ولم يكونوا من القوة والنفوذ في حالة تستدعي وجود فئة من الناس ترهبهم أو ترجو خيرهم، فتتملقهم وتتزلف إليهم في الظاهر، وتتآمر عليهم وتكيد لهم وتمكر بهم في الخفاء، كما كان شأن المنافقين بوجه عام.. والآيات تتضمن أوصاف وأخبار ومواقف المنافقين، والحملات عليهم كثيرة جداً، حتى لاتكاد تخلو سورة مدنية منها، وخاصة الطويلة والمتوسطة، وهذا يعني أن هذه الحركة ظلت طيلة العهد المدني تقريباً، وإن كانت أخذت تضعف من بعد نصفه الأول)(1).
واستمر القرآن المدني يتحدث عن عظمة الله، وحقيقة الكون والترغيب بالجنة والترهيب من النار ويشرّع الأحكام لتربية الأمة، ودعم مقومات الدولة التي ستحمل نشر دعوة الله بين الناس قاطبة، وتجاهد في سبيل الله.
وكانت مسيرة الأمة العلمية تتطور مع تطور مراحل الدعوة وبناء المجتمع، وتأسيس الدولة، وقد أشاد القرآن الكريم بالعلم والذين يتعلمون، ورويت أحاديث عن تقدير الرسول - صلى الله عليه وسلم - للعلم.. وتضمنت كتب الحديث أبواباً عن العلم.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية، دروزة (2/73،76) نقلاً عن دراسات في عهد النبوة، د. عبدالرحمن الشجاع، ص172.(5/164)
لقد أيقنت الأمة أن العلم من أهم مقومات التمكين، لأن من المستحيل أن يمكن الله تعالى لأمة جاهلة، متخلفة عن ركاب العلم وإن الناظر للقرآن الكريم ليترائى له في وضوح أنه زاخر، بالآيات التي ترفع من شأن العلم، وتحث على طلبه وتحصيله، فقد جعل القرآن الكريم العلم مقابلاً للكفر(1) الذي هو الجهل والضلال قال تعالى:{ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ} (سورة الزمر، آية:9).
وإن الشيء الوحيد الذي أمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يطلب منه الزيادة هو العالم قال تعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (سورة طه، آية:114)، كما أن أول خاصية ميز الله تعالى بها آدم –عليه لاسلام- هي العلم- قال تعالى:{ وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (سورة البقرة، آية:31).
واستمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في منهجه التربوي لكي يعلم أصحابه ويذكرهم بالله عزوجل، ويحثهم على مكارم الأخلاق، ويوضح لهم دقائق الشريعة وأحكامها، وكان توجيهه - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه أحياناً فردياً ومرة جماعياً، وترك لنا الحبيب المصطفى ثروة هائلة في وسائله التربوية في التعليم وإلقاء الدروس، فقد راعى - صلى الله عليه وسلم - الوسائل التربوية التي تعين على الحفظ وحسن التلقي، وتؤدي إلى استقرار الحديث في نفوس وأفئدة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، فمن هذه الوسائل والمبادئ العظيمة النافعة(2) في العهد المكي والمدني.
__________
(1) التمكين للأمة الأسلامية، ص62.
(2) انظر: مناهج وآداب الصحابة في التعلم والتعليم، د. البرّ، ص59،60.(5/165)
أولاً: أهم هذه الوسائل والمبادئ:
1-تكرار الحديث وإعادته:
فذلك أسهل في حفظه، وأعون على فهمه، وأدعى لاستيعابه ووعي معانيه ولذلك حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تكرير الحديث في غالب أحيانه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه (كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً، حتى تفهم عنه)(1).
2-التأني في الكلام والفصل بين الكلمات:
كان - صلى الله عليه وسلم - يتأنَّى ولايستعجل في كلامه، بل يفصل بين كلمة وأخرى، حتى يسهل الحفظ، ولايقع التحريف والتغيير عند النقل، وبلغ من حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك أنه كان يَسْهُل على السامع أن يَعُدَّ كلماته - صلى الله عليه وسلم - لو شاء(2)، فقد روى عروة بن الزبير رحمه الله، أن عائشة رضي الله عنها قالت:(ألا يعجبك أبو هريرة؟ جاء فجلس إلى جانب حجرتي، يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، يُسْمِعُني ذلك، وكنت أسبِّح(3)، فقام قبل أن أقضي سُبْحتي، ولو أدركته لرددت عليه: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسرد الحديث كسردكم(4).
3-الاعتدال وعدم الإملال واختيار الوقت المناسب:
كان - صلى الله عليه وسلم - يقتصد في تعليمه في مقدار مايلقيه، وفي نوعه، وفي زمانه، حتى لايمل الصحابة، وحتى ينشطوا لحفظه، ويسهل عليهم عَقْلهُ وفهمه، فعن أبن مسعود رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخَّولُنا(5) بالموعظة في الأيام، كراهة السآمة علينا(6).
ضرب الأمثال:
__________
(1) البخاري، كتاب العلم، باب من أعاد الحديث (1/188).
(2) انظر: مناهج وآداب الصحابة، د. عبدالرحمن البر، ص62.
(3) أسبح: أصلي النافلة وهي السُّبحة وقيل صلاة الضحى.
(4) البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي (6/576) رقم 3568.
(5) ينخوَّلنا : يتعهدنا.
(6) البخاري، كتاب العلم، باب ماكان النبي يتخولهم بالمواعظة (1/162) رقم 68.(5/166)
للمثل أثر بالغ في إيصال المعنى إلى العقل والقلب، ذلك أنه يقدم المعنويَّ في صورة حسية، فيربطه بالواقع ويقرّبه إلى الذهن، فضلا عن أنَّ للمثل بمختلف صوره بلاغة تأخذ بمجامع القلوب، وتستهوي العقول، وبخاصة عقول البلغاء ولذلك استكثر القرآن من ضرب الأمثال، وذكر حكمة ذلك في آيات كثيرة، فقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ}(سورة العنكبوت، آية:43).
وقال تعالى:{ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(سورة الحشر، آية:21).
إلى غير ذلك من الآيات، وعلى هذا المنهج الكريم سار النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاستكثر من ضرب الأمثال، فقد قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما:(حفظت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف مثل)(1).
وقد ألفت كتب متعددة في الأمثال في الحديث النبوي، من أقدمها كتاب (أمثال الحديث) للقاضي أبي محمد الحسن بن عبدالرحمن بن خلاد الرامهرمزي، (ت360هـ)(2).
5-طرح المسائل:
__________
(1) انظر: مناهج وآداب الصحابة، ص65.
(2) نفس المصدر، ص65؛ كل وسائل التعليم النبوية اختصرتها من هذا الكتاب القيم.(5/167)
إن طرح السؤال من الوسائل التربوية المهمة في ربط التواصل القوي بين السائل والمسؤول وفتح ذهن المسؤول وتركيز اهتمامه على الإجابة وإحداث حالة من النشاط الذهني الكامل ولذلك استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - السؤال في صور متعددة لتعليم الصحابة، مما كان له كبير الأثر في حسن فهمهم وتمام حفظهم، فأحياناً يوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - السؤال لمجرد الإثارة والتشويق ولفت الإنتباه، ويكون السؤال عندئذ بصيغة التنبيه (ألا) غالبا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟، قالوا: بلى، يارسول الله، قال:(إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)(1).
وأحياناً يسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عما يعلم أنهم لاعلم لهم به، وأنهم سيكِلُون علمه إلى الله ورسوله، وإنما يقصد إثارة انتباههم للموضوع، ولفت أنظارهم إليه(2)، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(أتدرون من المفلس؟، قالوا: المفلس فينا من لادرهم له ولامتاع. فقال:(إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ماعليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار)(3).
__________
(1) مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل إسباغ الوضوء (1/219).
(2) انظر: منهاج وآداب الصحابة، ص67.
(3) مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم (4/1997).(5/168)
وأحياناً يسأل فيحسن أحد الصحابة الإجابة، فيثني عليه، ويمدحه تشجيعاً له، وتحفيزاً لغيره، كما فعل مع أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا أبا المنذر أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟، قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال:(يا أبا المنذر، أتدري أي آية في في كتاب الله معك أعظم؟، قال: قلت: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) قال: فضرب في صدري، وقال:(لِيَهْنِكَ العلم(1) أبا المنذر)(2).
فهذا الاستحسان والتشجيع يبعث المتعلم على الشعور بالإرتياح والثقة بالنفس، ويدعوه إلى طلب وحفظ المزيد من العلم وتحصيله(3) .
6-إلقاء المعاني الغريبة المثيرة للاهتمام والداعية إلى الاستفسار والسؤال:
ومن ألطف ذلك وأجمله، مارواه جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ بالسوق، داخلاً من بعض العالية، والناس كَنَفَتُه(4)، فمر بجديٍ أسك(5) ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال:(أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟)، فقالوا: مانحب أنه لنا بشئ وما نصنع به؟ قال:(أتحبون أنه لكم؟) قالوا:والله لو كان حياً كان عيباً فيه، لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال:(فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)(6).
7-استخدام الوسائل التوضيحية:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستخدم مايسمى اليوم بالوسائل التوضيحية، لتقرير وتأكيد المعنى في نفوس وعقول السامعين، وشغل كل حواسهم بالموضوع، وتركيز انتباههم فيه، مما يساعد على تمام وعيه وحسن حفظه بكل ملابساته، ومن هذه الوسائل:
__________
(1) أي ليكن العلم هنيئاً لك.
(2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي (556).
(3) انظر: مناهج وآداب الصحابة،ص69.
(4) كنفته: يعني عن جانبيه، والكنف بالتحريك: الناحية والجانب.
(5) اسك: مصطلح الأذنين مقطعوعهما (النهاية 2/384).
(6) مسلم، كتاب الزهد والرقائق (4/2272).(5/169)
أ- التعبير بحركة اليد: كتشبيكه - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه وهو يبين طبيعة العلاقة بين المؤمن وأخيه، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وشبَّك بين أصابعه(1).
ب- التعبير بالرسم، فكان - صلى الله عليه وسلم - يخُّط على الأرض خطوطاً توضيحية تلفت نظر الصحابة ثم يأخذ في شرح مفردات ذلك التخطيط وبيان المقصود منه، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: خطَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً بيده، ثم قال:(هذا سبيل الله مستقيماً)، ثم خط خطوطاً عن يمينه، وعن شماله، ثم قال:(وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه) ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(سورة الأنعام، آية:153).
جـ- التعبير برفع وإظهار الشيء موضع الحديث: كما فعل - صلى الله عليه وسلم - عند الحديث عن حكم لبس الحرير والذهب، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:إن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريراً فجعله في يمينه، وأخذ ذهباً فجلعه في شماله، ثم قال:(إن هذين حرام على ذكور أمتي) زاد في رواية (حلٌّ لإناثهم)(2)، فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين القول وبين رفع الذهب والحرير وإظهارهما، حتى يجمع لها السماع والمشاهدة، فيكون ذلك أوضح وأعون على الحفظ.
__________
(1) البخاري، كتاب المظالم، باب نصر المظلوم (5/99) رقم 2446.
(2) ابوداود ، كتاب اللباس، باب في الحرير للنساء (4/5) رقم 4057.(5/170)
د-التعليم العملي بفعل الشيء أمام الناس: كما فعل عندما صعد - صلى الله عليه وسلم - المنبر فصلَّى بحيث يراه الناس أجمعون، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على المنبر، فاستقبل القبلة وكبّر، وقام الناس خلفه، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القَهْقَري(1)، فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القَهقري(2)، فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري، حتى سجد بالأرض، فلما فرغ أقبل الناس، فقال:(أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتمَّوا بي، ولتَعَلَّموا(3) صلاتي)(4).
8-استعمال العبارات اللطيفة والرقيقة:
إن استعمال لطيف الخطاب ورقيق العبارات يؤلف القلوب، ويستميلها إلى الحق، ويدفع المستمعين إلى الوعي والحفظ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يمهِّد لكلامه وتوجيهه بعبارة لطيفة رقيقة، وبخاصة إذا كان بصدد تعليمهم ماقد يُسْتَحيا من ذكره، كما فعل عند تعليمهم آداب الجلوس لقضاء الحاجة، إذ قدّم لذلك بأنه مثل الوالد للمؤمنين، يعلمهم، شفقة بهم(5)، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -:(إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة، ولايستدبرها، ولايَسْتَطِبْ بيمينه)(6).
__________
(1) القهقِري: المشي الى خلف، من غير أن يعبد وجهة الى جهة مشية.
(2) القَهْقَري: المشي الى خَلف، من غير أن يعيبد وجهه الى جهة مشيه.
(3) أي لتتعلموا، فحذف إحدى التائين.
(4) البخاري، كتاب الصلاة، باب في السطوح والمنبر والخشب (1/486) رقم 377.
(5) انظر: مناهج وآداب الصحابة في التعلم والتعليم، ص74.
(6) ابو داود، كتاب الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة (1/3) رقم (8).(5/171)
لقد راعى المعلم الأول - صلى الله عليه وسلم - جملة من المبادئ التربوية الكريمة كانت غاية في السمو الخلقي والكمال العقلي، وذلك في تعليقه على ماصدر من بعض الصحابة، جعلت التوجيه يستقر في قلوبهم، وبقي ماثلاً أمام بصائرهم، لما ارتبط به من معان تربوية كريمة(1)، وهذه بعض المبادئ الرفيعة التي استعملها النبي - صلى الله عليه وسلم -:
أ-تشجيع المحسن والثناء عليه:
ليزداد نشاطاً وإقبالاً على العلم والعمل، مثلما فعل مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، حين أثنى على قراءته وحسن صوته بالقرآن الكريم، فعن أبي موسى رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له:(لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)(2).
ب-الإشفاق على المخطئ وعدم تعنيفه:
__________
(1) انظر: مناهج وآداب الصحابة في التعلم والتعليم، ص85.
(2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن (1/546).(5/172)
كان صلوات الله وسلامه عليه يقدر ظروف الناس، ويراعي أحوالهم، ويعذرهم بجهلهم، ويتلّطف في تصحيح أخطائهم، ويترفَّق في تعليمهم الصواب، ولاشك أن ذلك يملأ قلب المنصوح حباً للرسالة وصاحبها، وحرصاً على حفظ الواقعة والتوجيه وتبليغهما، كما يجعل قلوب الحاضرين المعجبة بهذا التصرف والتوجيه الرقيق مهيأة لحفظ الواقعة بكافة ملابساتها(1) ومن ذلك مارواه معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: (بينما أنا أصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واتُكْلَ أمِّياه(2)! ماشأنكم تنظرون إليّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما، رأيتهم يصمتونني، سكت، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبأبي هو وأمي! مارأيتُ معلِّما قبله ولابعده أحسن تعليماً منه، فوالله ماكَهَرني(3)، ولاضربني، ولاشتمني قال: (إن هذه الصلاة لايَصْلُح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(4).
فانظر –رحمك الله- إلى هذا الرفق البالغ في التعليم، وانظر أثر هذا الرفق في نفس معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، وتأثره بحسن تعليمه - صلى الله عليه وسلم -.
جـ-عدم التصريح والاكتفاء بالتعريض فيما يُذم:
__________
(1) انظر: مناهج وآداب الصحابة، ص86.
(2) وا: حرف للنُّدبة والحسرة، والنثكل فقدان المرأة ولدها، وأمياه: أي ياأماه.
(3) الكَهْر والقَهْر والنَّهرُ متقاربة، أي ماقهرني ولا نهرني.
(4) مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة (1/381).(5/173)
لما في ذلك من مراعاة شعور المخطئ، والتأكيد على عموم التوجيه ومن ذلك ماحدث مع عبدالله بن اللُّتْبيَّة رضي الله عنه حين استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدقات بني سليم، فقبل الهدايا من المتصدقين، فعن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً على صدقات بني سليم، يُدْعى ابن اللَّتْبيَّة، فلما جاء حاسبه، فقال: هذا مالكم، وهذا هدية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(فهلاّ جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً؟) ثم خطبنا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:(أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاَّني الله، فيأتي فيقول:هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته؟ والله لايأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله بحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رُغاء أو بقرة لها خُوار، أو شاةً تَيْعر)(1) ثم رفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه يقول:( اللهم بلغت. بَصُر عيني وسمع أذني)(2).
د- الغضب والتعنيف متى كان لذلك دواعٍ مهمة:
__________
(1) الرغاء: صوت الأبل عند رفع الاحمال عليها، الخوار: صوت البقر، تيعر: يعنى صاحت.
(2) البخاري، كتاب الحيل، باب احتيال العالم ليهدي له رقم 6979.(5/174)
وذلك كأن يحدث خطأ شرعي من أشخاص لهم حيثية خاصة، أو تجاوز الخطأ حدود الفردية والجزئية، وأخذ يمثل بداية فتنة أو انحراف عن المنهج، على أن هذا الغضب يكون غضباً توجيهياً، من غير إسفافٍ ولا إسراف، بل على قدر الحاجة ومن ذلك غضبه - صلى الله عليه وسلم - حين أتاه عمر ومعه نسخة من التوراة، ليقرأها عليه - صلى الله عليه وسلم -، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنسخة من التوراة، فقال: يارسول الله، هذه نسخة من التوراة، فسكت، فجعل يقرأ ووجه رسول الله يتغير، فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل، ماترى بوجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فنظر عمر إلى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ نبياً. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(والذي نفس محمد بيده لو بَدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حيا وأدرك نبوتي لاتبعني)(1).
ومن ذلك غضبه - صلى الله عليه وسلم - من تطويل بعض أصحابه الصلاة وهم أئمة، بعد أن كان - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، لما فيه من تعسير ومشقة، ولما يؤدي إليه من فتنة لبعض الضعفاء والمعذورين وذوي الأشغال، فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رجل: يارسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة ممّا يُطوِّل بنا فلان. فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشد غضباً من يومئذ فقال:( أيها الناس، إنكم منفرون، فمن صلى بالناس فلْيْخفِّف، فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة)(2).
__________
(1) مجمع الزوائد (1/173-174) له شواهد كثيرة تقوي الحديث .
(2) البخاري، كتاب العلم، باب الغضب في الموعظة والتعليم (1/186) رقم 90.(5/175)
ومن ذلك غضبه من اختصام الصحابة وتجادلهم في القدر، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال:خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، وهم يختصمون في القدر، فكأنما يُفْصَأُ في وجهه حبُّ الرمَّان من الغضب، فقال:(بهذا أُمرتم؟ أو لهذا خُلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض؟ بهذا هلكت الأمم قبلكم)(1).
ومن ذلك غضبه - صلى الله عليه وسلم - حين يخالف الصحابة أمره، ويصرون على المغالاة في الدين، والتشديد على أنفسهم، ظنَّاً أن ذلك أفضل مما أُمروا به، وأقرب إلى الله، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمرهم من الأعمال بما يطيقون قالوا: إنا لسنا كهيئتك يارسول الله، إن الله قد غفر لك ماتقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب، حتى يُعْرفَ في وجهه الغضب، يقول:( إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)(2).
ولم يكن غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك المواقف إلا عملاً توجيهياً وتعليمياً، تحريضاً للصحابة على التيقظ، وتحذيراً لهم من الوقوع في هذه الأخطاء، فالواعظ (من شأنه أن يكون في صورة الغضبان، لأن مقامه يقتضي تكلُّف الانزعاج، لأنه في صورة المنذر، وكذا المعلِّم إذا أنكر على من يتعلَّم منه سوء فهم ونحوه، لأنه قد يكون أدعى للقبول منه، وليس ذلك لازماً في حق كل أحد، بل يختلف باختلاف أحوال المتعلِّمين)(3).
ر-انتهاز بعض الوقائع لبيان وتعليم معان مناسبة:
__________
(1) مقدمة ابن ماجه باب في القدر (1/33) رقم 85.
(2) البخاري، كتاب الايمان، باب: أقوال النبي (أنا أعلمكم بالله) (1/70) رقم 20.
(3) فتح الباري (1/187).(5/176)
كان - صلى الله عليه وسلم - تحدث أمامه أحداث معينة، فينتهز مشابهة، مايرى لمعنى معين يريد تعليمه للصحابة، ومشاكلته لتوجيه مناسب يريد بثَّه لاصحابه، وعندئذ يكون هذا المعنى وذلك التوجيه أوضح مايكون في نفوسهم رضوان الله عليهم ومن ذلك مارواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - سبيٌ(1)، فإذا امرأة في السَّبي تحلَّب ثدياها(2) تسعى(3)، إذ وجدت صبياً في السَّبي، أخذته فألصقته ببطنها، وأرضعته، فقال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -:( أَتُرَوْن هذه طارحة ولدها في النار؟) قلنا: لا، وهي تقدر على أن لاتطرحه(4) فقال:(لله أرحم بعباده من هذه بولدها)(5).
(فانتهز - صلى الله عليه وسلم - المناسبة القائمة بين يديه مع أصحابه، المشهود فيها حنان الأم الفاقدة على رضيعها إذ وجدته، وضرب بها المشاكلة والمشابهة برحمة الله تعالى ليعرِّف الناس رحمة رب الناس بعباده)(6).
ثانياً: من أخلاق الصحابة عند سماعهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -:
حرص الصحابة رضوان الله عليهم على الالتزام آداب ومبادئ مهمة، كان لها عظيم الأثر في حسن الحفظ وتمام الضبط وقدرتهم في تبليغ دعوة الله للناس ومن هذه الآداب والأخلاق:
1-الإنصات التام وحسن السماع:
__________
(1) السَّبي: الأسرى.
(2) تَحلِّب ثديها: أي تهيأ لأن يحلبا.
(3) تسعى: من السَّعي ، وهو المشي بسرعة.
(4) أي لاتطرحه مادامت تقدر على حفظه معها ووقايته وعدم طرحه في النار.
(5) البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وقبلته ومعانقته رقم 5999.
(6) الرسول المعلم، عبدالفتاح أبو غدة، ص160.
... هذا المبحث اختصرته من مناهج وآداب الصحابة في التعلم والتعليم للدكتور عبدالرحمن البر.(5/177)
فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجل في نفوس الصحابة وأعظم من أن يلغوا إذا تحدث، أو ينشغلوا عنه إذا تكلم، أو يرفعوا أصواتهم بحضرته وإنما كانوا يلقون إليه أسماعهم ويشهدون عقولهم وقلوبهم، ويحفزون ذاكرتهم، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الحديث عن سيرته - صلى الله عليه وسلم - في جلسائه قال:(.. وإذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا...)(1).
قال الشيخ عبدالفتاح أبو غدة رحمه الله:(أصله: أن الغراب يقع على رأس البعير، فيلقط منه القُراد، فلا يتحرك البعير حينئذ، لئلا ينفر عنه الغراب ويبقى القراد في رأس البعير فيؤلمه، فقيل منه: كأن على رؤوسهم الطير)(2).
وأياً ماكان أصل المثل فهو يدل على السكون التام، والإنصات الكامل، هيبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعظيماً له، وإجلالاً لحديثه(3).
2-ترك التنازع وعدم مقاطعة المتحدث حتى يفرغ:
وهذا من تمام الأدب، المفضي إلى ارتياح جميع الجالسين، وإقبال بعضهم على بعض، والمعين على سهولة الفهم، والتعلم ففي حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه السابق في سيرته - صلى الله عليه وسلم - في جلسائه، قال:(لايتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم..)(4) أي أن من بدأ منهم الحديث والكلام سكتوا حتى يفرغ أولاً من حديثه، ولم يقاطعوه أو ينازعوه، وبذلك يبقى المجلس على وقاره وهيبته، ولاتختلط فيه الأصوات، ولايحصل أدنى تشويش(5).
3-مراجعته - صلى الله عليه وسلم - فيما أشكل عليهم حتى يتبين لهم:
__________
(1) الترمذي في الشمائل المحمدية، باب ماجاء في خلق رسول الله رقم 335.
(2) انظر: الرسول المعلم وأساليبه في التعليم، ص30.
(3) انظر: مناهج وآداب الصحابة، ص77.
(4) الترمذي في الشمائل المحمدية، باب ماجاء في خلق رسول الله، رقم 335.
(5) انظر: مناهج وآداب الصحابة، ص78.(5/178)
فمع كمال هيبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشدة تعظيمهم له، لم يكونوا يترددون في مراجعته - صلى الله عليه وسلم - لاستيضاح ما أشكل عليهم فهمه، حتى يسهل حفظه بعد ذلك، ولاشك أن هذه المراجعة تعين على تمام الفهم وحضور الوعي فمن ذلك حديث حفصة رضي الله عنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(إني لأرجو ألا يدخل النار أحد إن شاء الله ممن شهد بدراً والحديبية). قالت: قلت يارسول الله، أليس قد قال الله {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (سورة مريم، آية:71) قال:(قال: ألم تسمعيه يقول:{ ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً}(1) (سورة مريم، آية:72).
ومن ذلك حديث جابر بن عبدالله، عن عبدالله بن أنيس، رضي الله عنهم، الذي رحل جابر إليه فيه، قال ابن أنيس: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يحشر الله العباد –أو قال: الناس – عراةً غرلاً(2) بُهْماً) قال: قلنا: مابُهمْاً؟ قال:(ليس معهم شيءٌ، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بَعُد، كما يسمعه من قَرُب: أنا الملك، أنا الديَّان، لاينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولاينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وعنده مظلمة، حتى أُقصَّه(3) منه، حتى اللطمة). قال: قلنا: كيف ذا وإنما نأتي الله غُرْلاً بُهْماً؟ قال:(بالحسنات والسيئات)
قال: وتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(4) (سورة غافر، آية:17).
__________
(1) ابن ماجة، كتاب الزهد، باب ذكر البعث (2/1431).
(2) غُرلا: جمع أغرَل، وهو الأقلف والغرلة: القُلفة والقُلفة: هي القطعة التي تقطع من الذكر عند الختان.
(3) أُقصَّه: أمكِّنه من أخذ القصاص ممن ظلمه.
(4) أخرجه الحاكم (2/437) وصححه ووافقه الذهبي.(5/179)
وهكذا استفهم الصحابة عما خفي عليهم، واستوضحوا ما أشكل عليهم فهمه وهذه المناقشة والمراجعة كان لها أثر كبير في الفهم والوعي والحفظ(1).
4-مذاكرة الحديث:
كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا سمعوا شيئاً من النبي - صلى الله عليه وسلم - وحملوا عنه علماً، جلسوا فتذاكروه، فيما بينهم، وتراجعوه على ألسنتهم، تأكيداً لحفظه، وتقوية لاستيعابه وضبطه والعمل به، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:(كنا نكون عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنسمع منه الحديث، فإذا قمنا تذاكرناه فيما بيننا حتى نحفظه)(2)، وقد بقى مبدأ المذاكرة قائماً بين الصحابة حتى بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -، فعن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة رحمه الله قال:(كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمعوا تذاكروا العلم، وقرؤوا سوره)(3).
5-السؤال بقصد العلم والعمل(4):
كانت أسئلة الصحابة بقصد العلم والعمل، لا للعبث واللعب، فكانت اسئلتهم مشفوعة بهذا القصد، لما علموا من كرهة النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسائل العبثية التي لايحتاج إليها، ولما سمعوا من تحذيره - صلى الله عليه وسلم - من كثرة السؤال، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال:(كَرِه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسائل وعَابَها)(5).
__________
(1) انظر: مناهج وآداب الصحابة، ص80.
(2) أخرجه الخطيب في الجامع (1/363-364) وفيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف.
(3) أخرجه الخطيب في الجامع (2/86) رقم 1229 والسمعاني في أدب الأملاء والاستملاء، ص48.
(4) انظر: مناهج وآداب الصحابة، ص96.
(5) أخرجه ابو خيثمة زهير بن حرب بإسناد صحيح في كتاب العلم، ص20 رقم 77.(5/180)
قال النووي:(المراد: كراهة المسائل التي لايحتاج إليها، لاسيما ماكان فيه هتك ستر مسلم، أو إشاعة فاحشة أو شناعة على مسلم أو مسلمة قال العلماء: أما إذا كانت المسائل مما يُحتاج إليه في أمور الدين، وقد وقع، فلا كراهة فيها)(1).
6-ترك التنطُّع وعدم السؤال عن المتشابه:
وذلك تطبيقاً لتحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، وتشديده على المتنطِّعين، ونهيه عن مجالستهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية:{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ}(سورة آل عمران، آية:7) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(فإذا رأيت الذين يتبعون ماتشابه منه فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم)(2).
7-ترك السؤال عما سكت عنه الشارع:
__________
(1) شرح النووي على مسلم(3/741) طبعة الشعب.
(2) البخاري، كتاب التفسير ، سورة آل عمران رقم 4547.(5/181)
فقد التزموا رضوان الله عليهم بهذا الأدب، فلم يتكلَّفوا السؤال عما سكت عنه الشارع حتى لايؤدي السؤال عن ذلك إلى أيجاب مالم يوجبه الشرع، أو تحريم مالم يحرمه، فيكون السؤال قد أفضى إلى التضييق على المسلمين، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ صدق الله العظيم قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ صدق الله العظيم }(سورة المائدة، آية:101-102).
وحذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مثل ذلك، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(إنَّ أعظم المسلمين جُرْما من سأل عن شيء لم يُحَرَّم، فحُرِّم من أجل مسألته)(1).
8-اغتنام خلوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومراعاة وقت سؤاله:
كان الصحابة رضي الله عنهم يراعون الوقت المناسب للسؤال، ومن ذلك اغتنام ساعة خلوته - صلى الله عليه وسلم -، حتى لايكون في السؤال إثقالٌ أو إرهاق أو نحو ذلك، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:(كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر انحرفنا إليه، فمنَّا من يسأله عن القرآن، ومنا من يسأله عن الفرائض، ومنا من يسأله عن الرؤيا)(2).
9-مراعاة أحواله - صلى الله عليه وسلم - وعدم الإلحاح عليه بالسؤال:
__________
(1) الدارمي في مقدمته، باب من هاب الفتيا وكره التنطع (1/65) رقم 138.
(2) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/159) رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن عمر الرومي، ضعفه ابو داود وأبو زرعة، ووثقه ابن حبان.(5/182)
وبخاصة بعد أن نُهُوا عن السؤال، ولذلك كانوا يدفعون الأعراب لسؤاله - صلى الله عليه وسلم -، ويتحيَّنون وينتظرون مجئ العقلاء منهم، ليسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يسمعون، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قا:(نهينا أن نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية فقال: يامحمد، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال (صدق)...) الحديث(1).
وهكذا استمر البناء التربوي في المجتمع الجديد من خلال المواقف العملية الواضحة منسجماً مع غرس فريضة التعلم والتعليم بين أفراد المجتمع المسلم فكانت تلك التوجيهات تساهم في إعداد الفرد المسلم، والأمة المسلمة، والدولة المسلمة التي أسسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا جزء من كل، وغيض من فيض، وتذكير وتنبيه لأهمية استمرار البناء التربوي والعلمي في الأمة حتى بعد قيام الدولة.
المبحث السادس
أحداث وتشريعات
أولاً: معالجة الأزمة الاقتصادية:
__________
(1) مسلم، كتاب الإيمان، باب السؤال عن أركان الاسلام (1/41-42).(5/183)
أدّت هجرة المسلمين إلى المدينة إلى زيادة الأعباء الاقتصادية الملقاة على عاتق الدولة الناشئة، وشرع القائد الأعلى - صلى الله عليه وسلم - لحل هذه الأزمة بطرق عديدة، وأساليب متنوعة، فكان نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبناء الصفة التابعة للمسجد النبوي لاستيعاب أكبر عدد ممكن من فقراء المهاجرين واهتم - صلى الله عليه وسلم - بدراسة الأوضاع الاقتصادية في المدينة، فرأى أن القوة الاقتصادية بيد اليهود، وأنهم يملكون السوق التجارية في المدينة وأموالها ويتحكمون في الأسعار والسلع ويحتكرونها ويستغلون حاجة الناس، فكان لابد من بناء سوق للمسلمين لينافسوا اليهود على مصادر الثروة والاقتصاد في المدينة، وتظهر فيها آداب الإسلام واخلاقه الرفيعة في عالم التجارة، فحدد - صلى الله عليه وسلم - مكاناً للسوق في غرب المسجد النبوي وخطه برجله، وقال (هذا سوقكم فلا ينتقصن ولايضربن عليه خراج)(1).
وقد قامت السوق في عهده - صلى الله عليه وسلم - رحبة واسعة، وقد حظى السوق باهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورعايته، فتعهده بالإشراف والمراقبة، ووضع له ضوابطاً وسن له آداباً وطهره من كثير من بيوع الجاهلية المشتملة على الغبن، والغرر، والغش، والخداع، كما عني - صلى الله عليه وسلم - بحريته، وإتاحة الفرص المتكافئة فيها للبيع والشراء بين الجميع على السواء(2).
__________
(1) ابن ماجة، كتاب التجارات، باب الأسواق (2/751).
(2) انظر: احكام السوق في الاسلام، أحمد الدريويش، ص35،36.(5/184)
وقد أرسى - صلى الله عليه وسلم - آداب كثيرة، وحرمات عديدة لسوق المدينة لكي تصان ولاتنتهك، وتحفظ فلا تخدش، ولايستهان بها، ولكي يصبح قدوة لأسواق الأمة على مر الدهور، وكر العصور، وتوالي الأزمان، فمن سيرته يمكننا أن نستنبط جملة من الآداب التي كان يأمر بها أو ينهي عنها أثناء دخوله إلى السوق وإشرافه عليه، ومتابعته سير المعاملات فيه، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - لايرى منكراً إلا غيره وأزاله، ولامعروفاً إلا أقرَّه ورغب في المواظبة عليه، والالتزام به، مستمداً كل ذلك من توجيهات وتعليمات ربه –سبحانه وتعالى- قال تعالى:{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى صدق الله العظيم إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى صدق الله العظيم } (سورة النجم، آية: 3-4).
ومن هذه الآداب:
1-يسن في حق الداخل إلى السوق أن يذكر الله-تعالى- ابتداءً ويحمده ويثني عليه، وذلك لما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لاشريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو حي لايموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبنى له بيتاً في الجنة)(1).
(وإنما خص السوق بالذكر، لأنه مكان الغفلة عن ذكر الله والاشتغال بالتجارة، فهو في موضع سلطنة الشيطان، ومجمع جنوده، فالذكر هنا يحارب الشيطان، ويهزم جنوده فمن قال ذلك فهو خليق بما ذكر من الثواب)(2).
2-يكره لمن دخل السوق أن يرفع صوته بالخصام واللجاج
__________
(1) سنن الترمذي، أبواب الدعوات، باب مايقول إذا دخل السوق (5/155-156) قال المنذري في الترغيب: وإسناده متصل حسن، ورواته ثقات أثبات.
(2) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (9/386).(5/185)
فقد ورد في صفته - صلى الله عليه وسلم - (أنه ليس بفظ، ولاغليظ، ولاسخاب(1) في الأسواق، ولايدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر)(2).
فالسخب مذموم بذاته فكيف إذا كان في الأسواق؟ التي هي مجمع الناس من كل جنس(3).
3-ينبغي المحافظة على نظافة الأسواق، والابتعاد عن تلويثها بالأقذار والأوساخ لكي لايؤذي المسلمون في حركة سيرهم، ولا بالروائح الكريهة، وقد حث - صلى الله عليه وسلم - على النظافة ونهى عن عدمها وخاصة في طرقات الناس وأسواقهم، وذلك لما فيها من الضرر، قال - صلى الله عليه وسلم -:(اتقوا اللاعنين(4)، قالوا: وما اللاعنين، يارسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، أو في ظلهم)(5).
4-الاحتراز في حمل السلاح لمن دخل السوق ومعه سلاح، فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا مر أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ومعه نبل(6) فليمسك على نصلها(7) أو قال: فليقبض بكفه أن يصيب أحد من المسلمين منها بشئ) (8)، ويقاس فيه الأسلحة، مع مافيها من خطر محقق عند أدنى ملامسة لها(9).
__________
(1) سخاب: بمعنى الصياح.
(2) البخاري، كتاب البيوع، باب كراهية السخب في الأسواق(2/14).
(3) انظر: أحكام السوق في الاسلام، ص 41.
(4) اللاعنين: أي الأمرين الجالبين للعن.
(5) مسلم، كتاب الطهارة، باب مواضع النهي عن البول فيها.
(6) النبل: السهام العربية ولا واحد لها من لفظها.
(7) النصل: حديدة السهم والرمح والسيف مالم يكن له مقبض.
(8) البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي من حمل علينا سلاحنا (4/224).
(9) انظر: احكام السوق، ص44.(5/186)
5-الأمر بالوفاء بالعقود، والعهود وسائر الالتزامات، والتحذير من نقضهما أو الغدر فيهم، قال تعالى:{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (سورة النحل، آية:91).
6-السهولة واليسر والمسامحة في البيع والشراء ونحوهما من صنوف التجارة، قال - صلى الله عليه وسلم -:(رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى)(1).
7-الصدق والبيان وعدم الكتمان، من أهم الآداب التي يجب أن تسري بين الناس في معاملاتهم، فقد أثنى - صلى الله عليه وسلم - على التاجر الصادق في معاملته، الأمين في أخذه وعطائه، وبين أن يحشر يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا، قال - صلى الله عليه وسلم -: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء وفي لفظ "يوم القيامة")(2).
8-وجوب الابتعاد عن الأيمان الكاذبة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - :(الحلف منفقة(3) للسلعة، ممحقة للربح) وفي لفظ (ممحقة للبركة)(4).
وقال - صلى الله عليه وسلم - :(إياكم وكثرة الحلف في البيع فإنه ينفق ثم يمحق)(5).
(فالحالف يروج سلعته وينفقها لكن هذا الرواج، وذلك الإنفاق موضع لنقصان البركة، ومظنة له في المال، بأن يسلط الله عليه وجوها يتلف فيها إما سرقاً، أو حرقاً، أو غرقاً، أو غضباً، أو نهباً، أو عوارض ينفق فيها من أمراض وغيرها)(6).
__________
(1) موطأ الامام مالك، باب جامع البيوع (2/685).
(2) سنن الترمذي ، كتاب البيوع (2/341-342).
(3) منفقة: أي مظنة لنفاقها وموضع له.
(4) مسلم، كتاب المساقاة، باب النهي عن الحلف (3/1228).
(5) نفس المصدر (3/1228).
(6) شرح السيوطي على سنن النسائي (7/246).(5/187)
هذه بعض الآداب والتوجيهات النبوية تتعلق بآداب التعامل في السوق الإسلامي مما كان لها الأثر في تعمير أسواق المسلمين وضعف أسواق اليهود وبذلك استطاع المسلمون أن يسيطروا على الاقتصاد في المدينة، ويتحكموا فيه، وهكذا قهروا اليهود في أدق اختصاصاتهم(1).
ولقد تطورت تلك التعاليم والآداب مع توسع الدولة ونزول التشريعات وأصبح للتجارة علم وفقه ومبادئ، ولذلك قال عمر - رضي الله عنه -: (لايبيع في سوقنا إلا من تفقه في الدين)(2).
إن للأسواق في الإسلام مكانة عالية، ومنزلة سامية، وذلك نظراً لأهميتها المالية والاقتصادية في حياة الناس، حيث إنه موضع التعامل والمبادلات فيما بينهم، وعن طريقه يحصل كل فرد على أموره المعيشية، وحاجته الضرورية، ومستلزماته الخاصة والعامة، ولذلك حظى السوق الإسلامي بالتوجيهات النبوية(3).
__________
(1) في ظلال السيرة النبوية، الهجرة النبوية، لأبي فارس، ص70.
(2) انظر: أحكام السوق في الاسلام، ص53.
(3) نفس المصدر، ص585، 586.(5/188)
ولقد تحدث القرآن الكريم عن آفة اقتصادية واجتماعية خطيرة أثرت على دين الناس ودنياهم ألا وهي نقص الميزان والمكيال، فقد كان هذا العمل يخالف ويناقض النهج الذي أنزله الله من عنده ليتعامل الناس بمقتضاه، ذلك النهج هو العدل في كل شيء، قال تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} (سورة الشورى، آية:17) والميزان هو العدل(1)، والموازين والمكاييل آلات لإقامة العدل، ولذا أمر الله بإيفائها، ونهى عن نقصها، قال تعالى:{ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(سورة الأنعام، آية:152).
وقال تعالى:{ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا}(سورة الإسراء، آية:35).
وتوعد الله المطففين بالويل، فقال تعالى:{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ صدق الله العظيم الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ صدق الله العظيم وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ صدق الله العظيم أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ صدق الله العظيم لِيَوْمٍ عَظِيمٍ صدق الله العظيم }(سورة المطففين، آية:1-5).
فتعلم الصحابة رضي الله عنهم من قصة شعيب أن نقص الميزان والمكيال تعطيل للمنهج الإلهي، ومخالفة للأوامر الربانية، وتعرض لسخط الجبار وعذابه في الدنيا والآخرة.
__________
(1) انظر: زاد المسير لابن الجوزي (7/77).(5/189)
إن هذا العمل له ضرره على دنيا الناس، لأنه يجلب الشدة بدل الرخاء، وغلاء الأسعار بدل رخصها، ويؤدي إلى أضرار على معايش الناس ولذلك حاربته الدولة الإسلامية في المدينة(1).
إن نقص المكيال والميزان كان من الأسباب التي أدت إلى هلاك قوم شعيب قال تعالى:{ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}(سورة هود، آية:95).
كانت قصة شعيب مع قومه من ضمن المنهاج النبوي في تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ولذلك فهموا أن الإنحراف عن المنهج الرباني معناه الدمار والهلاك وأن شمولية هذا الدين تدخل في كافة شؤون حياتهم.
إن المنهج الرباني عالج المشكلة الإقتصادية عن طريق القصص القرآني لكي يتعظ الناس ويعتبرون بمن مضى من الأقوام ولم يترك الجانب التشريعي التعبدي الذي له أثر في البناء التنظيمي التربوي، فقد كان المولى عزوجل يرعى هذه الأمة وينقل خطاها لكي تكون مؤهلة لحمل الأمانة وتبليغ الرسالة ولافرق في وسط هذه الدولة بين الأمور الصغيرة والأمور الكبيرة لأنها كلها تعمل لرفع بنائها، ووقوفها شامخة أمام الأعاصير التي تحتمل مواجهتها ومن هذه الشعائر التعبدية التي فرضت في السنتين الأولى من الهجرة، الزكاة، وزكاة الفطر، والصيام ونلاحظ سنة التدرج في بناء المجتمع المسلم ومراعاته لواقع الناس والانتقال بهم نحو الأفضل دون اعتساف أو تعجيل بل كل شيء في وقته(2).
ثانياً: بعض التشريعات
1-تشريع فريضة الصيام:
في السنة الثانية للهجرة من شهر شعبان فرض الله تعالى فريضة الصيام وجعله ركناً من أركان الإسلام، كما فرضه على الأمم السابقة، وفي ذلك تأكيد على أهمية هذه العبادة الجليلة ومكانتها:
__________
(1) انظر: اسباب هلال الأمم السالفة، سعيد محمد ، ص446.
(2) انظر: دراسات في عصر النبوة للشجاع، ص166،168.(5/190)
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة، آية:183).
وامتدح الله سبحانه شهر الصيام واختصه من بين سائر الشهور لإنزال القرآن العظيم، فقال عزوجل:{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (سورة البقرة، آية:185).
وقد وضحت الآية الكريمة الثمرة العظمى التي يحظى بها الصائمون المخلصون، ألا وهي بلوغ درجة التقوى :{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فالصيام بالنسة للأمة المسلمة مدرسة فريدة، ودورة تدريبية على طهارة النفوس لكي تنخلع من آفاتها وتتحلى بالفضائل، وترتقي في مدارج التقوى والصلاح(1).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/106)، ومنهج الاسلام في تزكية النفس (1/251،252).(5/191)
ولأهمية الصيام في تربية المجتمع المسلم، فقد رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام للصيام وحث على صيامها ورغب في الأجر والمثوبة من الله تعالى وبذلك أصبحت مدرسة الصيام مفتوحة أبوابها طيلة السنة لكي يبادر المسلم إليها كلما أحسَّ بقسوة في قلبه وحاجة لترويض نفسه ورغبة في المزيد من الأجر والفضل عند الله سبحانه(1) وقد جاء في الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(لايصوم عبد مسلم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً)(2).
2-تشريع زكاة الفطر:
وفي رمضان من نفس العام شرع الله سبحانه وتعالى زكاة الفطر وهي على كل حر أو عبد، وذكر أو أنثى، وصغير أو كبير من المسلمين، والحكمة من فرضية هذه الزكاة وإلزام المسلمين بها ظاهرة وجلية، قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات)(3) ففي هذا الحديث النص على أن الحكمة مركبة من أمرين:
أ-يتعلق بالصوم في شهر رمضان، فإن النفوس مجبولة على الخطأ والتقصير والوقوع في لغو القول الذي لافائدة فيه، أو فيه ضرر، من الكلام الباطل ونحو ذلك، مما لايسلم الإنسان منه غالباً، فجاءت هذه الزكاة في ختام الشهر تطهيراً للصائم مما خالط صومه من ذلك.
__________
(1) انظر: منهج الاسلام في تزكية النفس (1/268،269).
(2) البخاري، كتاب الجهاد، باب فضل الصوم في سبيل الله (3/213).
(3) ابو داود، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر رقم 1609.(5/192)
ب-إغناء المحتاج في يوم العيد الذي يعقب الفطر من رمضان، فهذا يوم يسعد فيه المجتمع المسلم كله، فينبغي أن يعم هذا السرور على الجميع، فشرعت هذه الزكاة لكف هؤلاء عن ذلّ السؤال واستجداء الناس، لذلك كانت خاصة بالفقراء والمساكين لاتعطى لغيرهم، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم:(طعمة للمساكين) ولذلك نرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجعلها شيئاً كثيراً يعجز كثير من الناس عنه، بل جعل الواجب شيئاً قليلاً، مما يسهل على الناس ولايشق عليهم، من غالب قوت البلد، حتى يتمكن من أدائها كثير من المسلمين، فيحصل الغناء بذلك لهؤلاء المحتاجين، فما أعظم هذا الدين(1) ولهذه الزكاة أحكام وتفصيلات تطلب من كتب الفقه(2).
3-صلاة العيد:
وفي هذه السنة صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العيد، فكانت أول صلاة صلاها، وخرج بالناس إلى المصلى يهلِّلون الله،و يكبِّرونه، ويعظِّمونه شكراً لله على ما أفاء عليهم من النعم المتتالية.
فالعيد موسم من مواسم الخير والتعاطف والتحابب، وكان من دأب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا صلَّى العيد ذكر وأنذر، ورغب ورهب، فيتسابق في مضمار البذل والعطاء الرجال والنساء والصغار والكبار(3).
4-تشريع الزكاة:
__________
(1) انظر: المال في القرآن الكريم، سليمان الحصن، ص334.
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة( 2/109).
(3) نفس المصدر (2/110).(5/193)
وفي السنة الثانية للهجرة شرع الله الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام وكان ذلك بعد شهر رمضان، لأن تشريع الزكاة العامة كان بعد زكاة الفطر، وزكاة الفطر كانت بعد فرض صيام رمضان قطعاً، يدل على هذا مارواه الأئمة أحمد وابن خزيمة والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال:(أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت فريضة الزكاة، فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله)(1) قال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح(2) وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً على أن مشروعية الزكاة إنما كانت بالمدينة في السنة الثانية(3).
فالزكاة في العهد المكي كانت مطلقة من القيود والحدود وكانت موكولة إلى إيمان الأفراد وأريحتهم وشعورهم بواجب الأخوة نحو إخوانهم من المؤمنين، فقد يكفي في ذلك القليل من المال، وقد تقتضي الحاجة بذل الكثير أو الأكثر(4).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/111).
(2) فتح الباري (3/207).
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/111).
(4) انظر: فقه الزكاة للقرضاوي (1/77).(5/194)
فكانت الآيات المكية تهتم بجانب التربية والتوجيه وتحث على رعاية الفقراء والمساكين بأساليب متنوعة منها، إطعام المساكين من لوازم الإيمان، ففي سورة (المدثر) وهي من أوائل مانزل من القرآن يعرض القرآن الكريم مشهداً من مشاهد الآخرة، مشهد أصحاب اليمين من المؤمنين في جنّاتهم يتساءلون عن المجرمين من الكفرة، وقد أطبقت عليهم النيران، فيسألونهم عما أحلَّ بهم هذا العذاب، فكان من أسبابه وموجباته: إهمال حق المسكين، وتركه لأنياب الجوع والعرى تنهشه وهم عنه معرضون(1)، قال تعالى:{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ صدق الله العظيم إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ صدق الله العظيم فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ صدق الله العظيم عَنِ الْمُجْرِمِينَ صدق الله العظيم مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ صدق الله العظيم قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ صدق الله العظيم وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ صدق الله العظيم وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ صدق الله العظيم وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ صدق الله العظيم }(سورة المدثر، آية:38-46)
__________
(1) انظر: فقه الزكاة (1/70).(5/195)
وقصّ الله على عباده قصة أصحاب الجنة الذين تواعدوا أن يقطفوا ثمارها بليل، ليحرموا منها المساكين الذين اعتادوا أن يصيبوا شيئاً من خيرها يوم الحصاد، فحلت بهم عقوبة الله العاجلة:{ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ صدق الله العظيم فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ صدق الله العظيم فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ صدق الله العظيم أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ صدق الله العظيم فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ صدق الله العظيم أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ صدق الله العظيم وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ صدق الله العظيم فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ صدق الله العظيم بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ صدق الله العظيم قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ صدق الله العظيم قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ صدق الله العظيم فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ صدق الله العظيم قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ صدق الله العظيم عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ صدق الله العظيم كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم }(سورة القلم، آية:19-33).(5/196)
ولم تقف عناية القرآن المكي عند الدعوة إلى الرحمة بالمسكين، والترغيب في إطعامه ورعايته، والترهيب من إهماله والقسوة عليه، بل تجاوز ذلك، فجعل في عنق كل مؤمن حقا للمسكين، أن يحض غيره على إطعامه ورعايته، وجعل ترك هذا الحضَّ قرين الكفر بالله العظيم، وموجباً لسخطه سبحانه وعذابه في الآخرة قال تعالى في شأن أصحاب (الشمال) من سورة الحاقة:{ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ صدق الله العظيم ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ صدق الله العظيم ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ صدق الله العظيم } (سورة الحاقة، الآيات:
30-32).
ولم كل هذا العذاب والهوان والخزي على رؤوس الأشهاد ؟ :{ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ صدق الله العظيم وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ صدق الله العظيم } (سورة الحاقة، آية:
33-34).
وهذه الآيات المزلزلة للقلوب، المنذرة بالعذاب هي التي جعلت مثل أبي الدرداء رضي الله عنه يقول لامرأته:(يا أم الدرداء! إن لله سلسلة ولم تزل تغلي بها مراجل النار منذ خلق الله جهنم، إلى يوم تُلقى في أعناق الناس، وقد نجانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم، فحُضِّي على طعام المسكين يا أم الدرداء)(1).
__________
(1) الأموال، ص35 نقلاً عن فقه الزكاة (1/70).(5/197)
أما القرآن المدني، فقد نزل بعد أن أصبح للمسلمين جماعة لها أرض وكيان وسلطان، فلهذا اتخذت التكاليف الإسلامية صورة جديدة ملائمة لهذا الطور: صور التحديد والتخصيص، بعد الإطلاق والتعميم، صورة قوانين إلزامية بعد أن كانت وصايا توجيهية فحسب، وأصبحت تعتمد في تنفيذها على القوة والسلطان، مع اعتمادها على الضمير والإيمان، وظهر هذا الإتجاه المدني في الزكاة: فحدد الشارع الأموال التي تجب فيها، وشروط وجوبها، والمقادير الواجبة، والجهات التي تُصرف لها وفيها، والجهاز الذي يقوم على تنظيمها وإدارتها(1) ، وأكد النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة فريضة الزكاة، وبين مكانها في دين الله، وأنها أحد الأركان الأساسية لهذا الدين، ورغّب في أدائها، ورهّب من منعها بأحاديث شتَّى وأساليب متنوعة، وأعلن الرسول عليه السلام في أحاديثه أن أركان الإسلام خمسة، بدأها بالشهادتين، وثنّاها بالصلاة، وثلثها بالزكاة، فالزكاة في السُّنة –كما هي في القرآن- ثالثة دعائم الإسلام، التي لايقوم بناؤه إلا بها، ولايرتكز إلا عليها(2) وعندما طبّق المسلمون هذا الركن كما أمر الله تعالى وكما شرع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، تحققت أهداف عظيمة في المجتمع وبرزت آثارها في حياة الفرد والمجتمع فمن آثار الزكاة على الفرد:
أ-الوقاية من الشح:
قال تعالى:{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة الحشر، آية:9).
ب-تنمية المال وزيادته:
__________
(1) انظر: فقه الزكاة (1/78).
(2) نفس المصدر (1/89).(5/198)
قال تعالى:{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}(سورة سبأ، آية:39).
وقال تعالى:{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (سورة إبراهيم، آية:7).
وقال تعالى:{ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (سورة البقرة، آية:276)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (مانقص مال من صدقة)(1).
وقال - صلى الله عليه وسلم -:(مامن يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما :(اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تَلَفاً)(2).
وهكذا يتم تطهير نفس المسلم من آفة الشح والبخل، ويسارع إلى الإنفاق موقناً بفضل الله ووعده الذي لا يتخلف بالرزق الواسع(3).
جـ-حصول الأمن في الدنيا والآخرة:
قال تعالى:{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}(سورة البقرة، آية:274)
فهم في أمن وسعادة وراحة بال، لأنهم أدوا ما أمرهم الله تعالى به، وانتهوا عما نهاهم الله عنه.
__________
(1) مسلم، كتاب البر والصلة، باب استحباب العفو والتواضع رقم 2588.
(2) البخاري، كتاب الزكاة، باب قوله تعالى {فأما من أعطى} (2/120).
(3) انظر: منهج الاسلام في تزكية النفس (1/249).(5/199)
ومن آثار الزكاة على المجتمع، حصول المحبة بين الأغنياء والفقراء وشيوع الأمن والطمأنينة في أوساطه، وشعور الأفراد في بينهم كالجسد الواحد قال - صلى الله عليه وسلم - : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى(1) ومن الآثار أيضاً، حفظ التوازن الإجتماعي(2).
عندما كانت الزكاة تجمع من كل من تجب عليه، وتنفق في سبلها المشروعة في صدر الإسلام، كان المجتمع الإسلامي في رخاء ورغداً، وتمتعاً بالطيبات، وتآلفاً وتآخياً وتحابباً، فقد روى الرواة أنه في عهد خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه أخصب الناس، واغتنوا حتى إنهم بحثوا عن مستحق للصدقة فلم يجدوا، فما كان منهم إلا أن اشتروا بها عبيداً وأعتقوهم لوجه الله، وهكذا بلغ الإسلام في عصوره الأولى، بمستوى حياة المسلمين ومعيشتهم حداً لم تبلغه إلا أمم قليلة اليوم، وذلك بفضل تشريع الزكاة(3).
5-زواجه - صلى الله عليه وسلم - بعائشة رضي الله عنها:
عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة في مكة قبل الهجرة وهي ابنة ست سنين وبعد وفاة خديجة – وبنى بها في المدينة وهي ابنة تسع سنين، وذلك في شهر شوال من السنة الأولى للهجرة(4).
فكانت حركة الدعوة والجهاد والتربية وبناء الدولة مستمرة ولم تتعطل حالات الزواج في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، بل الزواج والإكثار منه كان عادياً جداً في حياتهم كالطعام والشراب، وذلك من مظاهر أن الإسلام دين الفطرة والواقع، بل أن الزواج جزء مهم في بناء المجتمع المسلم(5).
__________
(1) مسلم، كتاب البر والصلة (4/1999) رقم 2586.
(2) انظر: المال في القرآن الكريم، ص240.
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/115).
(4) انظر: من معين السيرة ، ص168.
(5) انظر: الأساس في السنّة (1/420).(5/200)
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بنى بعائشة رضي الله عنها وهو في الرابعة والخمسين من عمره وحيثما يذكر هذا الرقم يتبادر للذهن الشيب والضعف ونفسية أصابتها الشيخوخة.. ولاشك أن مرور الأعوام هو مقياس أعمار الناس كقاعدة عامة، ولكن المقياس الحقيقي هو حيوية الإنسان ونشاطه وقدرته على المبادرة والعمل، فقد نجد إنساناً في الثلاثين يحمل في جسمه ونفسيته مرور الخمسين، وقد نجد بعض الأحيان إنسان الخمسين فلا نحكم عليه بأكثر من الثلاثين وشخصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذة في هذا الميدان فهو –وهو في الخمسين- كان رجلاً في عنفوان شبابه همة وعزماً ومضاء ورجولة إنه في هذا لايساويه أي إنسان والأدلة تؤيد ماذهبت إليه.
أ- لما عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه على القبائل مر على بني عامر بن صعصعة وعرض عليهم أمره فقال بحيرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب(1) ونلحظ في قول بحيرة:
-عبرعنه بـ (الفتى) والفتى هو الشاب في مقتبل العمر الممتلئ حيوية ونشاطاً.
- وفي قوله (لأكلت به العرب) يعبر عما لاحظه في شخصية الرسول الكريم من حيوية وهمة لاتقف في وجهها جموع العرب قاطبة كانت هذه نظرة بحيرة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - في الخمسين من العمر يومئذ، إنه الشباب شكلاً ومضموناً، مظهراً أو نفسية، همة وروحاً(2).
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام (1/424).
(2) انظر: معين السيرة، ص171.(5/201)
ب- وفي خبر الهجرة، روى البخاري عن أنس رضي الله عنه:(إنه - صلى الله عليه وسلم - أقبل إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، والنبي - صلى الله عليه وسلم - شاب لايعرف، قال: فيلقي الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر، من هذا الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير)(1)، وكان - صلى الله عليه وسلم - لم يشب، وكان أسن من أبي بكر(2).
ويلاحظ من النص بوضوح، أن أبا بكر كان يبدو في سنه الحقيقي شيخاً(3)، بينما كان - صلى الله عليه وسلم - يبدو شاباً، لعدم ظهور الشيب فيه، كما أوضح ذلك القسطلاني بقوله: وكان - صلى الله عليه وسلم - لم يشب، وكان أسن من أبي بكر(4).
وبذلك نستطيع أن نقول، إن الفارق في العمر بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين عائشة لم يكن ذلك الفارق الكبير من وجهة النظر العملية، فهاهو - صلى الله عليه وسلم - يسابق السيدة عائشة، فتسبقه مرة، ويسبقها أخرى، فيقول:(هذه بتلك)(5)، والأمثلة في حياته كثيرة(6).
ويستطيع كل ذي نظر أن يدرك الحكمة الجليلة التي كانت وراء زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عائشة رضي الله عنها، فقد تم هذا الزواج الميمون في مطلع الحياة في المدينة ومع بداية المرحلة التشريعية من حياته - صلى الله عليه وسلم - ومما لاشك فيه أن الإنسان يقضي جزءاً كبيراً من حياته في بيته ومع أسرته، وكان لابد من نقل سلوك الرسول الكريم في هذا الجانب من حياته إلى الناس، حتى يستطيعوا التأسي به، وكانت تلك مهمة السيدة عائشة على الخصوص وبقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
__________
(1) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب الهجرة.
(2) انظر: شرح الزرقاني على المواهب (1/355) نقلاً عن معين السيرة.
(3) انظر: معين السيرة ، ص171.
(4) انظر: معين السيرة ، ص171.
(5) نفس المصدر، ص172.
(6) المصدر السابق، ص172.(5/202)
فقد استطاعت السيدة عائشة بما وهبها الله من ذكاء وفهم أن تؤدي دورها على خير مايرام، وإن نظرة عابرة لأي كتاب من كتب السيرة تبين وتؤكد ماذهبت إليه. وقد ساعدها على ذلك أن الله تعالى كتب لها الحياة مايقرب من خمسين عام بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وساعدتها تلك المدة على أن تبلغ ماوعته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرضي الله عنها(1).
__________
(1) انظر: معين السيرة، ص173.(5/203)
الفصل الثامن
غزوة بدر الكبرى
المبحث الاول
مرحلة ماقبل المعركة
بلغ المسلمون تحرك قافلة تجارية كبيرة من الشام تحمل أمولاً عظيمة (1)، لقريش يقودها أبوسفيان ويقوم على حراستها بين ثلاثين وأربعين رجلاً (2)، فأرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسبس بن عمرو (3) ، لجمع المعلومات عن القافلة، فلما عاد بسبس بالخبر اليقين، ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه للخروج وقال لهم: (هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها) (4) ، وكان خروجه من المدينة في اليوم الثاني عشر من شهر رمضان المبارك من السنة الثانية للهجرة، ومن المؤكد أنه حين خروجه - صلى الله عليه وسلم - من المدينة لم يكن في نيته قتال وإنما كان قصده عير قريش، وكانت الحالة بين المسلمين وكفار مكة حالة حرب، وفي حالة الحرب تكون أموال العدو ودمائهم مباحة، فكيف إذا علمنا أن جزءاً من هذه الأموال الموجودة في القوافل القرشية كانت للمهاجرين المسلمين من أهل مكة قد استولى عليها المشركون ظلماً وعدواناً(5).
كلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن أم مكتوم بالصلاة بالناس في المدينة عند خروجه الى بدر، ثم أعاد أبالبابة من الروحاء الى المدينة وعيّنه أميراً عليها (6).
__________
(1) قُدّرت قيمة البضائع التي تحملها القافلة بحوالي 50 ألف دينار. انظر: موسوعة نظرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/286).
(2) جوامع السير لابن حزم ص107.
(3) ورد الاسم في صحيح مسلم بصيغة التأنيث مصَّحفاً الى بسيسة وصححه ابن حجر.
(4) ابن هشام السيرة (2/61) بسند صحيح الى ابن عباس رضي الله عنهما.
(5) انظر: حديث القران عن غزوات الرسول، د. محمد آل عابد (1/43).
(6) البداية والنهاية (3/260)، المستدرك للحاكم (3/632).(6/1)
أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - اثنين من أصحابه (1) الى بدر طليعة للتعرف عن أخبار القافلة، فرجعا إليه بخبرها (2) ، وقد حصل خلاف بين المصادر الصحيحة حول عدد الصحابة الذين رافقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوته هذه الى بدر، ففي حين جعلهم البخاري "بضعة عشر وثلاثمائة" (3) ، يذكر مسلم بأنهم ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً (4) ، في حين ذكرت المصادر أسماء ثلاثمائة وأربعين من الصحابة البدريين (5) ، كانت قوات المسلمين في بدر لاتمثل القدرة العسكرية القصوى للدولة الاسلامية، ذلك أنهم إنما خرجوا لاعتراض قافلة واحتوائها، ولم يكونوا يعلمون أنهم سوف يواجهون قوات قريش وأحلافها مجتمعة للحرب والتي بلغ تعدادها ألفاً (6)، معهم مائتا فرس يقودونها الى جانب جمالهم، ومعهم القيان يضربن بالدفوف، ويغنين بهجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه (7)، في حين لم يكن مع القوات الاسلامية من الخيل إلا فرسان، وكان معهم سبعون بعيراً يتعاقبون ركبوها (8).
أولاً: بعض الحوادث في أثناء المسير الى بدر:
وقد حدثت بعض الحوادث في أثناء مسير النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فيها من العبر والمواعظ الشيء الكثير:
1- إرجاع البراء بن عازب وابن عمر لصغرهما:
__________
(1) هما عدي بن الزغباء، وبسبس بن عمرو، الطبقات لابن سعد (2/24).
(2) الطبقات لابن سعد (2/42) بإسناد صحيح.
(3) فتح الباري (7/290-292).
(4) مسلم، شرح النووي (12/84).
(5) البداية والنهاية (3/314) وكذلك الطبقات، وخليفة بن خياط.
(6) مسلم، بشرح النووي (12/84).
(7) البداية والنهاية (3/260).
(8) المسند (1/411)، مجمع الزوائد (6/69)، جوامع السير ص108.(6/2)
وبعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المدينة في طريقهم الى ملاقاة عير أبي سفيان، وصلوا الى (بيوت السقيا) خارج المدينة، فعسكر فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - واستعرض - صلى الله عليه وسلم - من خرج معه فردّ من ليس له قدرة على المضي مع جيش المسلمين، وملاقاة من يحتمل نشوب قتال معهم، فرد على هذا الأساس البراء بن عازب، وعبدالله بن عمر لصغرهما، وكانا قد خرجا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - راغبين وعازمين على الاشتراك في الجهاد (1).
2- ارجع فلن استعين بمشرك:
وفي أثناء سير النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحيه، التحق أحد المشركين راغباً بالقتال مع قومه، فرده الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال: ارجع فلن استعين بمشرك وكرر الرجل المحاولة فرفض الرسول حتى أسلم الرجل وألتحق بالمسلمين (2).
3- مشاركة النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في الصعاب:
فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير كان أبو لبابة وعلي بن أبي طالب زميلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وكانت عقبة رسول الله قال: فقالا نحن نمشي عنك.
فقال: ماأنتما بأقوى مني ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما (3).
ثانياً: العزم على ملاقاة المسلمين ببدر:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/124).
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (2/355).
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (2/355).(6/3)
بلغ أبا سفيان خبر مسير النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه من المدينة بقصد اعتراض قافلته واحتوائها، فبادر الى تحويل مسارها الى طريق الساحل، في نفس الوقت أرسل عمرو بن ضمضم الغفاري الى قريش يستنفرها لإنقاذ قافلتها وأموالها (1)، فقد كان أبو سفيان يقظاً حذراً، يتلقط أخبار المسلمين ويسأل عن تحركاتهم، بل يتحسس أخبارهم بنفسه، فقد تقدم الى بدر بنفسه وسأل من كان هناك (هل رأيتم من أحد؟) قالوا: لا إلا رجلين قال: اروني مناخ ركابهما، فأروه، فأخذ البعر ففته فإذا هو فيه النوى. فقال: هذا والله علائف يثرب) (2)، فقد استطاع أن يعرف تحركات عدوه حتى خبر السرية الاستطلاعية عن طريق غذاء دوابها، بفحصه البعر الذي خلفته الابل، إذ عرف أن الرجلين من المدينة أي من المسلمين، وبالتالي فقافلته في خطر، فأرسل عمرو بن ضمضم الى قريش وغير طريق القافلة واتجه نحو ساحل البحر (3).
كان وقع خبر القافلة شديداً على قريش، التي اشتاط زعماؤها غضباً لما يرونه من امتهان للكرامة، وتعريض للمصالح الاقتصادية للأخطار الى جانب ماينجم عن ذلك من انحطاط لمكانة قريش بين القبائل العربية الاخرى ولذلك فقد سعوا الى الخروج لمجابهة الأمر بأقصى طاقاتهم القتالية(4).
لقد جاءهم عمرو بن ضمضم الغفاري بصورة مثيرة جداً، يتأثر بها كل من رآها، أو سمع بها، إذ جاءهم وقد حول رحله وجدع أنف بعيره، وشق قميصه من قبل ومن دبر ، ودخل مكة وهو ينادي بأعلى صوته: يامعشر قريش: اللطيمة، اللطيمة (5)، أموالكم مع أبي سفيان، قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث، الغوث (6).
__________
(1) انظر: موسوعة نظرة النعيم (1/287).
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/230).
(3) انظر: غزوة بدر الكبرى لأبي فارس ، ص33،34.
(4) انظر: موسوعة نظرة النعيم (1/287).
(5) اللطيمة: القافلة المحملة بشتى أنواع البضاعة غير الطعام.
(6) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/221).(6/4)
وعندما أمن ابو سفيان على سلامة القافلة أرسل الى زعماء قريش وهو بالجحفة برسالة أخبرهم فيها بنجاته والقافلة، وطلب منهم العودة الى مكة، وذلك أدى الى حصول انقسام حاد في آراء زعماء قريش، فقد أصر أغلبهم على التقدم نحو بدر من أجل تأديب المسلمين وتأمين سلامة طريق التجارة القرشية وإشعار القبائل العربية الاخرى بمدى قوة قريش وسلطانها وقد انشق بنو زهرة (1)، وتخلف في الأصل بنو عدي فعاد بنو زهرة الى مكة، أما غالبية قوات قريش وأحلافهم فقد تقدمت حتى وصلت بدر (2) .
ثالثاً: مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
__________
(1) نصحهم الأخنس بن شريق بذلك. انظر: ابن هشام (2/231).
(2) انظر: موسوعة نظرة النعيم (1/287).(6/5)
لما بلغ النبي- صلى الله عليه وسلم - نجاة القافلة وإصرار زعماء مكة على قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - استشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في الأمر (1) ، وأبدى بعض الصحابة عدم ارتياحهم لمسألة المواجهة الحربية مع قريش حيث أنهم لم يتوقعوا المواجهة ولم يستعدوا لها، وحاولوا اقناع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوجهة نظرهم، وقد صور القرآن الكريم موقفهم وأحوال الفئة المؤمنة عموماً في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ صدق الله العظيم يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ صدق الله العظيم وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ صدق الله العظيم لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ صدق الله العظيم } (الأنفال، الآيات
5-8) وقد أجمع قادة المهاجرين على تأييد فكرة التقدم لملاقاة العدو (2) وكان للمقداد بن الأسود موقفاً متميزاً، فقد قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إليَّ مما عُدِلَ به (3) :أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو على المشركين فقال: لانقول كما قال قوم موسى: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا
__________
(1) صحيح البخاري رقم (3952).
(2) انظر: موسوعة نظرة النعيم (1/288).
(3) المبالغة في عظمة ذلك المشهد، وأنه كان لو خير بين أن يكون صاحبه وبين أن يحصل له مايقابل ذلك لكان حصوله أحب إليه.(6/6)
هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة ، 24). ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك.
فرأيت الرسول أشرق وجهه وسره (1) وفي رواية (2) قال المقداد: يارسول الله، لانقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) ولكن امضي ونحن معك، فكأنه سُرى عن رسول الله.
وبعد ذلك عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أشيروا عليَّ أيها الناس) وكان إنما يقصد الأنصار، لأنهم غالبية جنده، ولأن بيعة العقبة الثانية لم تكن في ظاهرها ملزمة لهم بحماية الرسول - صلى الله عليه وسلم - خارج المدينة، وقد أدرك الصحابي سعد بن معاذ، وهو حامل لواء الانصار، مقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فنهض قائلاً: (والله لكانك تريدنا يارسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم - (أجل)، قال: (لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ماجئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضي يارسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ماتخلف منا رجل واحد، ومانكره أن تلقى بنا عدوّنا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك فسر على بركة الله) (3) .
سُرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - من مقالة سعد بن معاذ ونشطه ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم -: (سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر الىمصارع القوم) (4) .
__________
(1) البخاري ، كتاب المغازي (7/287).
(2) البخاري، كتاب التفسير (8/273).
(3) مسلم (3/1404) رقم (1779).
(4) انظر: البداية والنهاية (3/262) بإسناد صحيح، المسند (5/259) رقم (3698).(6/7)
كانت كلمات سعد مشجعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -وملهبة لمشاعر الصحابة فقد رفعت معنويات الصحابة وشجعتهم على القتال إن حرص النبي على استشارة اصحابه في الغزوات يدل على تأكيد أهمية الشورى في الحروب بالذات، ذلك لأن الحروب تقرر مصير الأمم، فأما الى العلياء، وأما تحت الغبراء (1) .
رابعاً: المسير الى لقاء العدو وجمع المعلومات عنه:
نظم النبي - صلى الله عليه وسلم - جنده بعد أن رأى طاعة الصحابة وشجاعتهم واجتماعهم على القتال، وعقد اللواء الأبيض وسلّمة الى مصعب بن عمير، وأعطى رايتين سوداوين الى سعد بن معاذ، وعلي بن أبي طالب ، وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة (2) .
وقام - صلى الله عليه وسلم - ومعه أبو بكر يستكشف أحوال جيش المشركين وبينما هما يتجولان في تلك المنطقة لقيا شيخاً من العرب، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جيش قريش، وعن محمد وأصحابه، ومابلغه - صلى الله عليه وسلم - من أخبارهم: فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أخبرتنا أخبرناك فقال: أو ذاك بذاك؟ قال: نعم. فقال الشيخ : فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي به جيش المسلمين- وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي فيه جيش المشركين فعلاً- ثم قال الشيخ: لقد أ خبرتكما عما أردتما، فأخبراني: ممن أنتما؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نحن من ماء. ثم انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر عن الشيخ، وبقي هذا الشيخ يقول: مامن ماء؟ أمن ماء العراق (3) .
__________
(1) انظر: غزوة بدر الكبرى لأبي فارس ، ص37.
(2) انظر: زاد المعاد (3/172).
(3) انظر: سيرة ابن هشام (2/228).(6/8)
وفي مساء ذلك اليوم الذي خرج فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر ، أرسل عليه الصلاة والسلام عليّ بن أبي طالب ، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه الى ماء بدر يتسقطون له الأخبار عن جيش قريش، فوجدوا غلامين يستقيان لجيش المشركين فأتوا بهما الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهما: أخبراني عن جيش قريش، فقالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى. فقال لهما: كم القوم؟ قالا: كثير. قال: ماعدتهم؟ قالا: لاندري. قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: كم ينحرون كل يوم؟ قال: يوماً تسعاً ويوماً عشراً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (القوم مابين التسعمائة والألف) فقال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش؟ فذكرا عتبة بن ربيعة وشيبة وأباجهل وأمية بن خلف في آخرين من صناديد قريش، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى أصحابه قائلاً: (هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها) (1) .
كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - حرصه على معرفة جيش العدو والوقوف على أهدافه ومقاصده، لأن ذلك يعينه على رسم الخطط الحربية المناسبة لمجابهته وصدّ عدوانه، فقد كانت اساليبه في غزوة بدر في جمع المعلومات تارة بنفسه وأخرى بغيره وكان - صلى الله عليه وسلم - يطبق مبدأ الكتمان في حروبه، فقد ارشد القرآن الكريم المسلمين الى أهمية هذا المبدأ قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا} (سورة النساء، آية 83).
__________
(1) مسلم (3/1404)، ابن هشام (2/229).(6/9)
وقد تحلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصفة الكتمان في عامة غزواته، فعن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلما يريد غزوة إلا ورّى بغيرها...) (1) وفي غزوة بدر ظهر هذا الخلق الكريم في الآتي:
1- سؤاله - صلى الله عليه وسلم - الشيخ الذي لقيه في بدر عن محمد وجيشه، وعن قريش وجيشها.
2- تورية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إجابته على سؤال الشيخ (ممن أنتما؟ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (نحن من ماء). وهو جواب يقتضيه المقام، فقد اراد به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كتمان أخبار جيش المسلمين عن قريش.
3- وفي انصرافه فور استجوابه كتمان - أيضاً- وهو دليل على مايتمتع به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحكمة، فلو أنه أجاب هذا الشيخ ثم وقف عنده لكان هذا سبباً في طلب الشيخ بيان المقصود من قوله - صلى الله عليه وسلم - (من ماء) (2) .
4- أمره - صلى الله عليه وسلم - بقطع الأجراس من الإبل يوم بدر، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر (3) .
5- كتمانه - صلى الله عليه وسلم - خبر الجهة التي يقصدها عندما أراد الخروج الى بدر، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: (...إن لنا طِلبة فمن كان ظهره حاضراً فليركب معنا.....) (4) .
وقد استدل الامام النووي بهذا الحديث على استحباب التورية في الحرب وأن لايبين القائد الجهة التي يقصدها لئلا يشيع هذا الخبر فيحذرهم العدو (5) .
__________
(1) مسلم (3/1383)، رقم (1767).
(2) انظر: سيرة ابن هشام (2/228).
(3) انظر: مرويات غزوة بدر، احمد محمد باوزير ، ص100.
(4) مسلم ، كتاب الامارة (3/1510) رقم (1901).
(5) شرح النووي لصحيح مسلم (13/45).(6/10)
ونلحظ أن التربية الأمنية في المنهاج النبوي مستمرة منذ الفترة السرية، والجهرية بمكة ولم تنقطع مع بناء الدولة وأصبحت تنمو مع تطورها وخصوصاً في غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
خامساً: مشورة الحباب بن المنذر في بدر:
بعد أن جمع - صلى الله عليه وسلم - معلومات دقيقة عن قوات قريش سار مسرعاً ومعه أصحابه الى بدر ليسبقوا المشركين الى ماء بدر وليحولوا بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عند أدنى ماء بدر من مياه بدر، وهنا قام الحباب بن المنذر وقال: يارسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يارسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض يارسول الله بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم - أي جيش المشركين- فننزله ونغوِّر -نخرب- ماوراءه من الآبار ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - برأيه ونهض بالجيش حتى أقرب ماء من العدو فنزل عليه ثم صنعوا الحياض وغوروا ما عداها من الآبار (1) ، وهذا يصور مثلاً من حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه حيث كان أي فرد من أفراد ذلك المجتمع يدلي برأيه حتى في أخطر القضايا، ولا يكون في شعوره احتمال غضب القائد الاعلى، ثم حصول مايترتب على ذلك الغضب من تدني سمعة ذلك المشير بخلاف رأي القائد وتأخره في الرتبة وتضرره في نفسه أو ماله.
__________
(1) انظر: مرويات غزوة بدر ، ص164. قصة الحباب تتقوى وترتفع الى درجة الحسن.(6/11)
إن هذه الحرية التي ربىّ عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه مكنت مجتمعهم من الاستفادة من عقول جميع أهل الرأي السديد والمنطق الرشيد، فالقائد فيهم ينجح نجاحاً باهراً وإن كان حديث السن لأنه لم يكن يفكر برأيه المجرد أو آراء عصبة مهيمنة عليه قد تنظر لمصاحلها الخاصة قبل أن تنظر لمصلحة المسلمين العامة، وإنما يفكر بآراء جميع أفراد جنده، وقد يحصل له الرأي السديد من أقلهم سمعة وأبعدهم منزلة من ذلك القائد، لأنه ليس هناك مايحول بين أي فرد منهم والوصول برأيه الى قائد جيشه (1) .
ونلحظ عظمة التربية النبوية التي سرت في شخص الحباب بن المنذر، فجعلته يتأدب أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتقدم دون أن يُطلب رأيه، ليعرض الخطة التي لديه، لكن هذا تم بعد السؤال العظيم الذي قدمه بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
يارسول الله ، أرايت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولانتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
إن هذا السؤال ليشي بعظمة هذا الجوهر القيادي الفذ الذي يعرف أين يتكلم ومتى يتكلم بين يدي قائده، فإن كان الوحي هو الذي اختار هذا المنزل، فلأن يقدم فتقطع عنقه أحب إليه من أن يلفظ بكلمة واحدة، وإن كان الرأي البشري فلديه خطة جديدة كاملة باستراتيجية جديدة.
إن هذه النفسية الرفيعة، عرفت أصول المشورة، وأصول إبداء الرأي، وأدركت مفهوم السمع والطاعة، ومفهوم المناقشة، ومفهوم عرض الرأي المعارض لرأي سيد ولد آدم - عليه الصلاة والسلام.
وتبدو عظمة القيادة النبوية في استماعها للخطة الجديدة، وتبني الخطة الجديدة المطروحة من جندي من جنودها، أو قائد من قوادها (2) .
سادساً: الوصف القرآني لخروج المشركين:
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/110).
(2) انظر: التربية القيادية (3/21).(6/12)
قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (سورة الأنفال، آية 47).
ينهى المولى عز وجل المؤمنين عن التشبه بالكافرين الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس وتفسير الآية الكريمة :
1- {بَطراً}: قال القرطبي (أي التقوية بنعم الله عز وجل وماألبسه من العافية على المعاصي) (1) .
2- {رِئَاءَ}: ومعناه القول أو الفعل الذي لايقصد معه الإخلاص وإنما يقصد به التظاهر وحب الثناء.
3- {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}: معطوفاً على بطراً، والسبيل: الطريق الذي فيه سهولة والمراد بسبيل الله: دينه لأنه يوصل الناس الى الخير والصلاح.
فقد وصف -سبحانه- الكافرين في هذه الآية بثلاثة أشياء:
الأول البطر، والثاني: {ورِئَاءَ الناس}، والثالث: قوله {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
ونلحظ أن الله تعالى عبر عن بطرهم بصيغة الاسم الدال على التمكين والثبوت، وعن صدهم بصيغة الفعل الدال على التجدد والحدوث (2) .
قال الامام الرازي : (إن أبا جهل ورهطه وشعيته، كانوا مجبولين على البطر والمفاخرة، والعجب، وأما صدهم عن سبيل الله فإنما حصل في الزمان الذي أكرم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة، ولهذا السبب ذكر البطر والرئاء بصيغة ا لاسم، وذكر الصد عن سبيل الله بصيغة الفعل والله أعلم) (3) .
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي (8/25).
(2) انظر: حديث القرآن عن غزوات الرسول (1/65،66).
(3) انظر: تفسير الرازي (15/173) بتصرف يسير.(6/13)
وقد جاء في تفسير هذه الآية عند القرطبي أن المقصود بالآية (يعني أبا جهل وأصحابه الخارجين يوم بدر لنصرة العير خرجوا بالقيان والمغنيات والمعازف فلما وردوا الجحفة بعث خفاف الكناني - وكان صديقاً لأبي جهل- بهدايا إليه مع ابن عم له، وقال: إن شئت أمددتك بالرجال وإن شئت أمددتك بنفسي مع ماخف من قومي. فقال أبو جهل: إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد، فوالله مالنا بالله من طاقة. وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله لانرجع عن قتال محمد حتى نرد بدراً فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدراً موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم، حتى تسمع العرب، بمخرجنا فتهابنا آخر الآبد. فوردوا بدراً ولكن جرى ماجرى من هلاكهم) (1) .
سابعاً: موقف المشركين لما قدموا الى بدر:
بين سبحانه وتعالى موقف المشركين لما قدموا الى بدر قال تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال، آية 19).
روى الامام أحمد عن عبدالله بن ثعلبة أن أبا جهل قال حين التقى القوم -في بدر- : اللهم اقطعنا للرحم، وآتانا مما لانعرفه فأحنه - أي أهلكه- الغداة. فكان المستفتح (2) .
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي (8/25).
(2) المسند (5/431).(6/14)
ومعنى الآية: إن تستنصروا الله على محمد فقد جاءكم النصر. وقد كانوا عند خروجهم من مكة سألوا الله أن ينصر أحق الطائفتين بالنصر فتهكم الله بهم، وسمى ماحل بهم من الهلاك نصراً، ومعنى بقية الآية على هذا القول {وَإِنْ تَنْتَهُوا} عما كنتم عليه من الكفر والعداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - {فَهُوَ} أي الانتهاء {خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا} الى ماكنتم عليه من الكفر والعداوة {نَعُدْ} بتسليط المؤمنين عليكم ونصرهم كما سلطانهم ونصرناهم في يوم بدر {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ} أي جماعتكم {شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ} أي لاتغني عنكم حال من الأحوال ولو في حال كثرتها ، ثم قال: {وأن الله مع المؤمنين} ومن كان الله معه فهو المنصور. ومن كان الله عليه فهو المخذول (1) .
ولما وصل جيش مكة الى بدر دبّ فيهم الخلاف وتزعزت صفوفهم الداخلية، فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: (لما نزل المسلمون وأقبل المشركون، نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى عتبة بن ربيعة وهو على جمل أحمر فقال ان عند أحد من القوم خير فهو عند صاحب الجمل الأحمر ان يطيعوه يرشدوا وهو يقول ياقوم أطيعوني في هؤلاء القوم فإنكم ان فعلتم لن يزال ذلك في قلوبكم ينظر كل رجل الىقاتل أخيه وقاتل أبيه، فاجعلوا حقها برأسي وارجعوا فقال أبو جهل:
انتفخ والله سحره (2) حين رأى محمد وأصحابه إنما محمد وأصحابه أكلة جزور لو قد التقينا.
فقال عتبة: ستعلم من الجبان المفسد لقومه، أما والله أني لأرى قوماً يضربونكم ضرباً، أما ترون كأن رؤوسهم الأفاعي وكأن وجههم السيوف...) (3) .
__________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/68).
(2) سحرك: رئتك، يقال ذلك للجبان.
(3) انظر: مجمع الزوائد (6/76) وقال رواه البزار ورجاله ثقات.(6/15)
وهذا حكيم بن حزام يحدثنا عن يوم بدر وكان في صفوف المشركين قبل إسلامه. قال: خرجنا حتى نزلنا العدوة التي ذكرها الله عز وجل، فجئت عتبة بن ربيعة فقلت: ياأبا الوليد هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم مابقيت؟
قال: أفعل ماذا؟
قلت: إنكم لاتطلبون من محمد إلا دم ابن الحضرمي (1) وهو حليفك فتحمل ديته وترجع بالناس، فقال أنت وذاك وأنا أتحمل بديته، واذهب الى ابن الحنظلية (2) - يعني أبا جهل- فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك؟
فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن ورائه، وإذا ابن الحضرمي (3) واقف على رأسه وهو يقول: قد فسخت عقدي من عبد شمس، وعقدي الى بني مخزوم فقلت له: يقول لك عتبة بن ربيعة هل لك أن ترجع اليوم عن ابن عمك بمن معك؟
قال: أما وجد رسولاً غيرك؟
قلت: لا ولم أكن لأكون رسولاً لغيره.
قال حكيم:
فخرجت مبادراً الى عتبة، لئلا يفوتني من الخبر شيء (4) ، فهذا عتبة بن ربيعة وهو في القيادة من قريش لايرى داعياً لقتال محمد، وقد دعا قريش بترك محمد فإن كان صادقاً فيما يدعو إليه فعزه عز قريش وملكه ملكها وستكون أسعد الناس به، وإن كان كاذباً فسيذوب في العرب وتنهيه.
ولكن كبرياء الجاهلية دائماً في كل زمان ومكان لايمكن أن يترك الحق يتحرك لأنها تعلم أن انتصاره معناه زوالها من الوجود وبقاؤه مكانها (5) .
__________
(1) تقدم ذكره في سرية عبدالله بن جحش.
(2) ابن الحنظلية هو أبو جهل وهي اسماء بنت مخربة من بني تميم .
(3) المقصود هنا عامر أخو عمرو المتقدم.
(4) سيرة ابن هشام (2/234،235).
(5) انظر: مرويات غزوة بدر، ص155.(6/16)
وهذا عمير بن وهب الجمحي ترسله قريش ليحرز لهم أصحاب محمد، فاستجال حول العسكر ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون، ولكن أمهلوني انظر أللقوم كمين أو مدد، قال فضرب في الوادي حتى أبعد فلم يرَ شيئاً، ولكن قد رأيت يامعشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم، والله ماأرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم، فإذا اصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم (1) ؟
وهذا أمية بن خلف رفض الخروج من مكة ابتداءً خوفاً من الموت، فأتاه أبو جهل فقال : ياأبا صفوان انك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك. فلم يزل به أبو جهل حتى قال:
أما إذا غلبتني ، فوالله لآشترين أجود بعير بمكة.
ثم قال أمية: ياأم صفوان جهزيني.
فقالت له: أبا صفوان وقد نسيت ماقل لك أخوك اليثربي؟ تقصد سعد بن معاذ عندما قال له سمعت رسول الله يقول إ نهم لقاتلوك (2) .
قال: لا -ماأريد أن أجوز معهم إلا قريباً فلما خرج أمية أخذ لايترك منزلاً إلا عقل بعيره، فلم يزل بذلك حتى قتله الله عز وجل ببدر (3) .
ومن دهاء أبي جهل لعنه الله أن سلط عقبة بن معيط على أمية بن خلف فأتاه عقبة بمجمرة حتى وضعها بين يديه فقال: إنما أنت من النساء.
فقال: قبحك الله (4) .
لقد كانت القوة المعنوية لجيش مكة متزعزعة في النفوس، وإن كان مظهره القوة والعزم والثبات إلا أن في مخبره الخوف والجبن والتردد (5) .
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (3/269).
(2) انظر: فتح الباري (7/238) الطبعة السلفية، مصر.
(3) انظر: مرويات غزوة بدر ، ص136.
(4) نفس المصدر، ص137.
(5) المصدر السابق، ص138.(6/17)
وكانت لرؤيا عاتكة بنت عبدالمطلب أثر على معنويات أهل مكة فقد رأت في المنام أن رجلاً استنفر قريشاً، وألقى بصخرة من راس جبل أبي قبيس بمكة فتفتتت ودخلت سائر دور قريش، وقد أثارت الرؤيا خصومة بين العباس وأبي جهل حتى قدم ضمضم واعلمهم بخبر القافلة فسكنت مكة وتأولت الرؤيا (1) ، كما أن جهيم بن الصلت بن المطلب بن عبد مناف رأى رؤيا عندما نزلت قريش الجحفة، فقد رأى رجل أقبل على فرس حتى وقف، ومعه بعير له؛ ثم قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وابو الحكم بن هشام وأمية بن خلف، وفلان وفلان، فعدد رجالاً من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لَبَّة بعيره، ثم أرسله في العسكر، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح (2) من دمه، فلما بلغت أبا جهل هذه الرؤيا، قال: وهذا أيضاً نبي من بني المطلب، سيعلم غداً من المقتول إن نحن التقينا (3) ، كانت تلك الرؤى قد ساهمت بتوفيق الله تعالى في إضعاف النفسية القرشية المشركة.
ثامناً: الوصف القرآني لمواقع المسلمين والمشركين في ارض المعركة:
قال تعالى {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (سورة الأنفال، آية 42).
__________
(1) انظر: المجتمع المدني في عصر النبوة للعمري ، ص41.
(2) نضح: لطخ.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/230).(6/18)
هذه الآيات الكريمة توضح الأماكن في غزوة بدر وصور لنا -سبحانه وتعالى- الحالة التي كان عليها الجيشان يوم اللقاء، فقد كان المسلمون بجانب الوادي وحافته الأقرب الى المدينة، وكانت أرضه رخوة تغوص فيها الأقدام، ولم يكن هناك ماء، وكان الكفار بالجانب الآخر من الوادي -الأبعد- من المدينة وكانت أرضه ثابتة، وكان فيها ماء، وكان ركب العير الذي يقوده أبوسفيان {أَسْفَلَ مِنْكُمْ} بالقرب من ساحل البحر (1) .
فقد ذكر المولى عز وجل المؤمنين بنعمته عليهم فقال: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} أي اذكروا أيها المؤمنون وقت أن خرجتم من المدينة فسرتم حتى كنتم {بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} أي بجانب الوادي وحافته الأقرب الى المدينة المنورة {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} أي والكفار بالجانب الأبعد الأقصى الذي هو بعيد بالنسبة للمدينة {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} أي وعير أبي سفيان ومن فيها كانت أسفل منكم من ناحية ساحل البحر الأحمر على بعد ثلاثة أميال منكم.
وفي الآيات تصوير مادبر - سبحانه - من أمر غزوة بدر، ليقضي أمراً كان مفعولاً من إعزاز دينه، وإعلاء كلمته، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج، وأقلق قريشاً مابلغهم من تعرض المسلمين لأموالهم ، فنفروا ليمنعوا عيرهم، وسبّب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى وراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب على ساق وكان ماكان (2) .
__________
(1) انظر: حديث القرآن عن غزوات الرسول (1/71).
(2) انظر: تفسير الكشاف (2/160) للزمخشري.(6/19)
وقوله تعالى {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} بيان لتدبير الله الحكيم، وإرادته النافذة أي ولو تواعدتم أنتم وهم على التلاقي للقتال هناك لاختلفتم في الميعاد لكراهتكم للحرب على قلتكم وعدم إعدادكم شيئاً من العدة لها، وانحصار همكم في أخذ العير، ولأن غرض الأكثرين منهم كان إنقاذ العير دون القتال أيضاً لأنهم كانوا يهابون قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يأمنون نصر الله له لأن كفر أكثرهم به كان عناداً أو استكباراً لا اعتقاداً .... {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا} أي ولكن تلاقيتم هنالك على غير موعد ولا رغبة في القتال ليقضي الله أمراً كان ثابتاً في علمه وحكمته أنه واقع لابد منه وهو القتال المفضي الى خزيهم ونصركم عليهم وإظهار دينه وصدق وعده لرسوله كما تقدم (1) .
وقوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
قال الآلوسي: أي ليموت من يموت عن حجة عاينها، ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها، فلا يبقى محل لتعليل بالأعداد ، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة والحجج الغر المحجلة (2) .
وقوله : {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} تذييل قصد به الترغيب في الإيمان، والترهيب من الكفر، أي لايخفى عليه شيء من أقوال أهل الإيمان عليم بما تنطوي عليه قلوبهم وضمائرهم، وسيجازي -سبحانه- كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب على حسب مايعلم ومايسمع عنه (3) .
المبحث الثاني
النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في ساحة المعركة
أولاً: بناء عريش القيادة:
__________
(1) انظر: تفسير الطبري (10/11).
(2) انظر: تفسير الآلوسي (10/7) بتصرف.
(3) نفس المصدر (10/7) بتصرف.(6/20)
بعد نزول النبي والمسلمين معه على أدنى ماء بدر من المشركين، اقترح سعد بن معاذ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناء عريش له يكون مقراً لقيادته ويأمن فيه من العدو، وكان مما قله سعد في اقتراحه: (يانبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ثم نلقي عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ماأحببنا، وإن كانت الاخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك، أقوام، يانبي الله، مانحن بأشدَّ لك حبَّا منهم، ولو ظنُّوا أنك تلقى حرباً متخلفوا عنك يمنعك الله بهم ويناصحونك ويجاهدون معك) فأثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - خيراً ودعا له بخير، ثم بنى المسلمون العريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تلِّ مشرف على ساحة القتال، وكان معه فيه أبو بكر - رضي الله عنه -، وكانت ثلة من شباب الانصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون عريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ويستفاد من بناء العريش أمور منها:
1- لابد أن يكون مكان القياد مشرفاً على ارض المعركة، يتمكن القائد فيه من متابعة المعركة وإدارتها.
2- ينبغي أن يكون مقر القيادة آمناً بتوفر الحراسة الكافية له.
3- ينبغي الاهتمام بحياة القائد، وصونها من التعرض لأي خطر.
4- ينبغي أن يكون للقائد قوة احتياطية أخرى تعوض الخسائر التي قد تحدث في المعركة (2) .
ثانياً: من نعم الله على المسلمين قبل القتال:
من المنن التي منّ الله بها على عباده المؤمنين يوم بدر أنه أنزل عليهم النعاس والمطر وذلك قبل أن يلتحموا مع أعدائهم قال تعالى {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} (سورة الانفال، آية 11).
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام (2/233).
(2) انظر: غزوة بدر الكبرى ، ص66.(6/21)
قال القرطبي : (وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها فكان النوم عجيباً مع ماكان بين أيديهم من الأمر المهم، وكان الله ربط جأشهم.
وعن علي - رضي الله عنه - قال: ماكان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا ومافينا إلا نائم، سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة يُصلي حتى أصبح. وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:
أحدهما: أن قوّاهم بالاستراحة على القتال من الغد .
الثاني: أن أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم كما يقال: الأمن منيم، والخوف مسهر (1) .
وبين سبحانه وتعالى -أنه أكرم المؤمنين بإنزال المطر عليهم في وقت لم يكن المعتاد فيه نزول الأمطار وذلك فضلاً منه وكرماً، وإسناد هذا الإنزال الى الله للتنبيه على أنه أكرمهم به.
قال الإمام الرازي: (وقد علم بالعادة أن المؤمن يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنباً، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب فلا جرم عدّ تعالى وتقدس تمكينهم من الطهارة من جملة نعمه....) (2) .
وقوله تعالى {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} فقد روى ابن جرير عن ابن عباس قال: نزل النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعني حين سار الى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دِعْصَةُ -أي كثير مجتمعة- فأصاب المسلمين ضعف شديد، والقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس بينهم تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين، فأمطر الله عليكم مطراً شديداً، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدواب فساروا الى القوم (3) .
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي (7/327).
(2) انظر: تفسير الفخر الرازي (15/133).
(3) انظر: تفسير الطبري (9/195).(6/22)
فقد بين سبحانه -أنه أنزل على عباده المؤمنين المطر قبل المعركة فتطهروا به حسياً ومعنوياً إذ ربط الله به على قلوبهم وثبت به أقدامهم، وذلك أن الناظر في منطقة بدر يجد في المنطقة رمالاً متحركة لازالت حتى اليوم ومن العسير المشي عليها، ولها غبار كبير، فلما نزلت الأمطار تماسكت تلك الرمال وسهل السير عليها وانطفأ غبارها وكل ذلك كان نعمة من الله على عباده (1) .
ثالثاً: خطة الرسول صلى الله عليه وسلم في المعركة:
اخترع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قتاله مع المشركين يوم بدر اسلوباً جديداً في مقتالة أعداء الله تعالى، لم يكن معروفاً من قبل حي قاتل - صلى الله عليه وسلم - بنظام الصفوف (2) ، وهذا الأسلوب أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (سورة الصف، آية 4).
وصفة هذا الاسلوب: أن يكون المقاتلون على هيئة صفوف الصلاة وتقل هذه الصفوف أو تكثر تبعاً لقلة المقاتلين أو كثرتهم.
وتكون الصفوف الاولى من أصحاب الرماح لصّد هجمات الفرسان وتكون الصفوف التي خلفها من أصحاب النبال، لتسديدها من المهاجمين على الأعداء، وكان من فوائد هذا الأسلوب في غزوة بدر:
1- إرهاب الأعداء ودلالة على حسن وترتيب النظام عند المسلمين.
2- جعل في يد القائد الأعلى - صلى الله عليه وسلم - قوة احتياطية عالج بها المواقف المافجئة في صد هجوم معاكس أو ضرب كميناً غير متوقع واستفاد منه في حماية الأجنحة من خطر المشاة والفرسان ويعد تطبيق هذا الاسلوب لأول مرة في غزوة بدر سبقاً عسكرياً تميزت به المدرسة العسكرية الاسلامية على غيرها منذ أربعة عشر قرناً من الزمان (3) .
__________
(1) انظر: حديث القرآن عن غزوات الرسول (1/91).
(2) انظر: القيادة العسكرية ، د. محمد الرشيد، ص401.
(3) انظر: الرسول القائد، خطاب ، ص111، 116، 117.(6/23)
يظهر للباحث في السيرة النبوية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يباغت خصومه ببعض الأساليب القتالية الجديدة، وخاصة تلك التي لم يعهدها العرب من قبل، على نحو ماقام به النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم بدر، وأحد وغيرهما.
فقد كاننت العرب تقاتل بأسلوب الكر والفر وقد علق اللواء محمود شيت خطاب على كلا الأسلوبين القتاليين بقوله:( إن القتال بأسلوب الكر والفر، هو أن يهاجم المقاتلون بكل قوتهم على العدو، النشابة منهم والذين يقاتلون بالسيوف ويطعنون بالرماح، مشاة وفرساناً، فإن ثبت لهم العدو أو أحسوا بالضعف نكصوا ثم أعادوا تنظيمهم وكروا من جديد، وهكذا يكرون ويفرون حتى يكتب لهم النصر أو الاندحار.
والقتال بأسلوب الصف يكون بترتيب المقاتلين صفين أو ثلاثة صفوف أو أكثر، على حسب عددهم، وتكون الصفوف الأمامية من المسلمين مسلحة بالرماح لصد هجمات الفرسان، وتكون الصفوف المتعاقبة الأخرى مزودة بالنبال، لرمي المهاجمين من الاعداء.
وتبقى الصفوف بقيادة قائدها وسيطرته، الى أن يفتقد هجوم اصحاب الكر والفر زخمه وشدته، عند ذاك تتقدم الصفوف متعاقبة متساندة للزحف على العدو ومطاردته عند هزيمته.
ويرى اللواء (خطاب) أن أسلوب الصف، يتميز عن اسلوب الكر والفر، بأنه يؤمن الترتيب (بالعمق) ، فتبقى دائماً بيد القائد قوة احتياطية يعالج بها المواقف التي ليست بالحسبان، كأن يصد هجوماً مقابلاً للعدو أو يضرب كميناً لم يتوقعه، أو يحمي الأجنحة التي يهددها العدو بفرسانه أو مشاته، ثم يستثمر الفوز بهذا الاحتياط عند الحاجة (1) .
__________
(1) انظر: غزوة بدر الكبرى الحاسمة، محمود خطاب ، ص23، 24.(6/24)
وقد تحدث ابن خلدون عن الاساليب القتالية الجديدة، التي استحدثها النبي - صلى الله عليه وسلم - في معاركه، والتي لم يكن للعرب عهد بها، فقال مشيراً الى ذلك: (وكان الحرب أول الاسلام كله زحفاً وكان العرب إنما يعرفون الكر والفر....) (1) .
وبين افضلية الاساليب التي استحدثها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: وقتال الزحف أوثق وأشد من قتال الكر والفر وذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف وتسوى كما تسوى القداح أو صفوف الصلاة ويمشون بصفوفهم الى العدو قدماً فلذلك تكون أثبت عند المصارع واصدق في القتال وأرهب للعدو، لأنه كالحائط الممتد والقصر المشيد لا يطمع في إزالته (2) .
ومن جهة النظرة العسكرية، فإن هذه الاساليب تدعو الى الإعجاب بشخصية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبراعته العسكرية، لأن التعليمات العسكرية التي كان يصدرها خلال تطبيقه لها، تطابق تماماً الأصول الحديثة في استخدام الاسلحة (3) .
__________
(1) انظر: ابن خلدون المقدمة، ص273.
(2) انظر: ابن خلدون، المقدمة ، ص271.
(3) المدخل الى العقيدة والاستراتيجية العسكرية، محمد محفوظ، ص121.(6/25)
وتفصيل ذلك فقد اتبع - صلى الله عليه وسلم - اسلوب الدفاع ولم يهاجم قوة قريش، وكات توجيهاته التكتيكية التي نفذها جنوده بكل دقة سبباً في زعزعة مركز العدو وإضعاف نفسيته وبذلك تحقق النصر الحاسم بتوفيق الله على العدو برغم تفوقه (1) بنسبة 3 الى 1، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتصرف في كل موقف حسب ماتدعو إليه المصلحة وذلك لاختلاف مقتضيات الأحوال والظروف وقد طبّق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجانب العسكري أسلوب القيادة التوجيهية في مكانها الصحيح، أما أخذه بالأسلوب الإقناعي في غزوة بدر فقد تجلّى في ممارسة فقه الاستشارة في مواضع متعددة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لايقود جنده بمتقتضى السلطة، بل بالكفاءة والثقة، وهو - صلى الله عليه وسلم - أيضاً لايستبد برأيه، بل يتبع مبدأ الشورى وينزل على الرأي الذي يبدو صوابه، ومارس - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر أسلوب القيادة التوجيهية، فقد تجلى في أمور منها،
1- الأمر الأول:أمره - صلى الله عليه وسلم - الصحابة برمي الأعداء إذا اقتربوا منهم، لأن الرمي يكون أقرب إلى الإصابة في هذه الحالة" إن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبل" (2)
2- الأمر الثاني:نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن سل السيوف إلى أن تتداخل الصفوف (3) "ولاتسلوا السيوف حتى يغشوكم" (4) .
3- الأمر الثالث:أمره - صلى الله عليه وسلم - الصحابة بالإقتصاد في الرمي (5) "واستبقوا نبلكم" (6) .
__________
(1) انظر: مقومات النصر، د. احمد ابو الشباب (2/154).
(2) صحيح السيرة النبوية برواية أخرى ونفس المعنى ، ص239.
(3) انظر: غزة بدر الكبرى ، ص63، 64 لابي فارس.
(4) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص239.
(5) انظر: غزة بدر الكبرى، لابي فارس، ص63، 64.
(6) البخاري، كتاب المغازي، باب من شهد بدراً رقم 3984،3985.(6/26)
وعندما تقارن هذه التعليمات الحربية بالمبادئ الحديثة في الدفاع تجد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان سباقاً إليها من غير عكوف على الدرس ولا التحاق بالكليات الحربية، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي من وراء تعليماته- التي استعرضناها آنفاً إلى تحقيق مايعرف حديثاً بكبت النيران إلى اللحظة التي يصبح فيها العدو في المدى المؤثر لهذه الأسلحة- وهذا ماقصده - صلى الله عليه وسلم - في قوله"استبقوا نبلكم" (1) .
أ-فرصة الاستفادة من الظروف الطبيعية أثناء قتال الأعداء:
ولم يهمل - صلى الله عليه وسلم - فرصة الاستفادة من الظروف الطبيعية أثناء قتال العدو فقد كان يستفيد من كل الظروف في ميدان المعركة لمصلحة جيشه، ومن الأمثلة على ذلك مافعله - صلى الله عليه وسلم - قبل بدء القتال يوم بدر، يقول المقريزي:(وأصبح - صلى الله عليه وسلم - ببدر قبل أن تنزل قريش فطلعت الشمس وهو يصفّهم فاستقبل المغرب وجعل الشمس خلفه فاستقبلوا الشمس)(2).
وهذا التصرف يدل على حسن تدبيره - صلى الله عليه وسلم -، لأن الحرب واستفادته حتى من الظروف الطبيعية لما يحقق المصلحة لجيشه، وإنما فعل ذلك لأن الشمس إذا كانت في وجه المقاتل تسبّب له عَشا (3) البصر فتقلّ مقاومته ومجابهته لعدوه (4) ، وفيما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر إشارة إلى أن الظروف الطبيعية كالشمس والريح والتضاريس الجغرافية وغيرها لها تأثير عظيم على موازين القوى في المعارك وهي من الأسباب التي طلب الله منا الأخذ بها لتحقيق النصر والصعود إلى المعالي (5) .
ب- سواد بن غزية في الصفوف:
__________
(1) البخاري، كتاب المغازي، باب من شهد بدراً رقم 3984،3985.
(2) انظر: القيادة العسكرية، ص453.
(3) سوء البصر بالليل والنهار يكون في الناس والدواب والإبل والطير.
(4) انظر: تحفة الاحوذي بشرح جامع الترمذي (7/175).
(5) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول ، ص454.(6/27)
كان - صلى الله عليه وسلم - في بدر يعدل الصفوف ويقوم بتسويتها لكي تكون مستقيمة متراصة، وبيده سهم لاريش له يعدل به الصف، فرأى رجلاً اسمه سواد بن غزية وقد خرج من الصف فطعنه - صلى الله عليه وسلم - في بطنه وقال له: استو ياسواد. فقال:يارسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني، فكشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بطنه وقال: استقد، فاعتنقه فقبل بطنه، فقال: ماحملك على هذا ياسواد، قال:يارسول الله حضر ماترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله بخير (1) .
ويستفاد من قصة سواد رضي الله عنه أمور منها،
1-حرص الإسلام على النظام.
2-العدل المطلق: فقد أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القود من نفسه.
3-حب الجندي لقائده.
4-تذكر الموت والشهادة.
5-جسد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبارك، ومسه فيه بركة ولهذا حرص عليها سواد.
6-بطن الرجل ليس بعورة بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كشف عنه ولو كان عورة لما كشف عنه (2) .
جـ- تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على القتال:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يربي أصحابه على أن يكونوا أصحاب إرادات قوية راسخة ثابتة ثبات الشم الرواسي، فيملأ قلوبهم شجاعة وجرأة وأملاً في النصر على الأعداء، وكان يسلك في سبيل تكوين هذه الإرادة القوية أسلوب الترغيب والترهيب الترغيب في أجر المجاهدين الثابتين والترهيب من التولي يوم الزحف، والفرار من ساحات الوغى، كما كان يحدثهم عن عوامل النصر وأسبابه ليأخذوا بها ويلتزموها، ويحذرهم من أسباب الهزيمة ليقلعوا عنها، وينأوا بأنفسهم عن الاقتراب منها (3) .
__________
(1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص236.
(2) انظر: غزوة بدر الكبرى، لأبي فارس، ص52.
(3) انظر: المدرسة النبوية العسكرية لأبي فارس ، ص140.(6/28)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يحثّ أصحابه على القتال ويحرضهم عليه امتثالاً لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} (سورة الأنفال:65).
وفي غزوة بدر الكبرى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه:يارسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال:نعم، قال:بخ بخ (كلمة تعجب)
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مايحملك على قولك:بخ بخ؟
قال:لاوالله يارسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها قال: فإنك من أهلها.
فأخرج ثمرات من قرنه(جعبة النشاب) فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. قال:فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل (1) .
وفي رواية قال:قال أنس: فرمى ماكان معه من التمر، وقاتل وهو يقول:
ركضا إلى الله بغير زاد
إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد
وكل زاد عرضة للنفاد
غير التقى والبر والرشاد
فقاتل رحمه الله حتى استشهد (2)
__________
(1) انظر: مختصر صحيح مسلم للمنذري (2/70) رقم (1157).
(2) انظر: صفة الصفوة (1/488)، زاد المعاد (3/182).(6/29)
ومن صور التعبئة المعنوية أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبشرهم بقتل صناديد المشركين، وزيادة لهم في التطمين كان يحدد مكان قتلى كل واحد منهم (1) ، كما كان يبشر المؤمنين بالنصر قبل بدء القتال فيقول: أبشر أبا بكر. ووقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول للصحابة رضوان الله عليهم: والذي نفس محمد بيده لايقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة (2) .
وقد أثرت هذه التعبئة المعنوية في نفوس أصحابه رضوان الله عليهم والذين جاءوا من بعدهم بإحسان (3)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يطلب من المسلمين أن لايتقدم أحد إلى شيء حتى يكون دونه، فعن أنس رضي الله عنه قال:(.. فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(لايقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون دونه) (4)، فدنا المشركون فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض) (5)
د-دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - واستغاثته:
قال تعالى:{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (الأنفال:9).
__________
(1) انظر: جامع الاصول (8/202).
(2) انظر: سيرة ابن هشام (1/239).
(3) المدرسة العسكرية الاسلامية لأبي فارس، ص143.
(4) انظر: مسلم (3/1510) رقم (1901).
(5) انظر: المنذري، مختصر صحيح مسلم (2/70) رقم (1157).(6/30)
لما نظم - صلى الله عليه وسلم - صفوف جيشه، وأصدر أوامره لهم وحرضهم على القتال، رجع الى العريش الذي بُني له ومعه صاحبه أبو بكر رضي الله عنه، وسعد بن معاذ على باب العريش لحراسته وهو شاهر سيفه واتجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه يدعوه ويناشده النصر الذي وعده ويقول في دعائه: (اللهم أنجز لي ماوعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً) ومازال - صلى الله عليه وسلم - يدعو ويستغيث حتى سقط رداؤه، فأخذ أبو بكر ورده على منكبيه وهو يقول:يارسول الله كفاك مناشدتك ربك فإنه منجز لك ماوعدك (1) وأنزل الله عزوجل :{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} وفي رواية ابن عباس قال:قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر:(اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد) فأخذ أبو بكر بيده، فقال:حسبك الله، فخرج - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول:(سيهزم الجمع ويولون الدبر) (2)
وروى ابن إسحاق: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني)(3) .
وهذا درس رباني مهم لكل قائد أو حاكم أو زعيم أو فرد في التجرد من النفس وحظها، والخلوص واللجوء لله وحده والسجود والجثي بين يدي الله سبحانه لكي ينزل نصره ويبقى مشهد نبيه، وقد سقط رداؤه عن كتفه وهو ماد يديه يستغيث بالله، يبقى هذا المشهد محفوراً بقلبه ووجدانه، يحاول تنفيذه في مثل هذه الساعات، وفي مثل هذه المواطن، حيث تناظ به المسؤولية وتلقى عليه أعباء القيادة(4).
هـ-ومارميت إذ رميت ولكن الله رمى:
__________
(1) انظر: مسلم ، كتاب الجهاد، باب الامداد بالملائكة ببدر (3/384).
(2) البخاري، كتاب المغازي، باب قصة بدر (5/6) رقم (3953).
(3) انظر: البداية والنهاية (3/267).
(4) انظر: التربية القيادية (3/36).(6/31)
بعد أن دعا - صلى الله عليه وسلم - ربه في العريش، واستغاث به خرج من العريش، فأخذ قبضة من التراب، وحصب بها وجوه المشركين وقال:(شاهت الوجوه)، ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ففعلوا، فأوصل الله تعالى تلك الحصاء إلى أعين المشركين فلم يبقى أحد منهم إلا ناله منها ماشغله عن حاله (1) ولهذا قال الله تعالى:{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} (الأنفال:17). ومعنى الآية: أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميته فالرمي يراد به الحذف والإيصال، فأثبت لنبيه الحذف، ونفى عنه الإيصال (2) ونلحظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخذ بالأسباب المادية والمعنوية وتوكل على الله فكان النصر والتأييد من الله تعالى، فقد اجتمع في بدر الأخذ بالأسباب بالقدر الممكن مع التوفيق الرباني في تهيئة جميع أسباب النصر متعاونة متكافئة مع التأييدات الربانية الخارقة والغيبية، ففي عالم الأسباب تشكّل دراسة الأرض والطقس ووجود القيادة والثقة بها والروح المعنوية لبناتٍ أساسية في صحة القرار العسكري، ولقد كانت الأرض لصالح المسلمين وكان الطقس مناسباً للمعركة، والقيادة الرفيعة موجودة والثقة بها كبيرة، والروح المعنوية مرتفعة، وبعض هذه المعاني كان من الله بشكل مباشر وتوفيقه وبعضها كان من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذاً بالأسباب المطلوبة فتضافر الأخذ بالأسباب مع توفيق الله وزيد على ذلك التأييدات الغيبية والخارقة فكان ماكان، وذلك نموذج على مايعطاه المسلمون بفضل الله إذا ما صلحت النيات عند الجند والقادة ووجدت الاستقامة على أمر الله، وأخذ المسلمون بالأسباب (3) .
المبحث الثالث
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/125).
(2) انظر: زاد المعاد (3/183).
(3) انظر: الاساس في السنّة وفقها السيرة النبوية (1/474).(6/32)
نشوب القتال وهزيمة المشركين
اندلع القتال بين المسلمين والمشركين بالمبارزات الفردية، فخرج من جيش المشركين عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد وطلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرجعهم لأنه أحبَّ أن يبارزهم بعض أهله وذوي قرباه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: قم ياعبيدة بن الحارث، وقم ياحمزة، وقم ياعلي، وبارز حمزة شيبة فقتله وبارز علي الوليد وقتله، وبارز عبيدة بن الحارث عتبة فضرب كل واحد منهما الآخر بضربة موجعة، فكّر حمزة وعلي على عتبة فقتلوه، وحملا عبيدة وأتباعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن مالبث أن استشهد متأثراً بجراحه (1) وفي هؤلاء الستة نزل قوله تعالى:{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ صدق الله العظيم يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ صدق الله العظيم وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ صدق الله العظيم كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ صدق الله العظيم إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ صدق الله العظيم وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ صدق الله العظيم } (سورة الحج، آية:19-24).
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/126).(6/33)
ولما شاهد المشركون قتل الثلاثة الذين خرجوا للمبارزة، استشاطوا غضباً وهجموا على المسلمين هجوماً عاماً، صمد وثبت له المسلمون، وهم واقفون موقف الدفاع، ويرمونهم بالنبل كما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان شعار المسلمين: أحد أحد. ثم أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالهجوم المضاد محرضاً لهم على القتال وقائلاً لهم (شدوا) وواعداً من يقتل صابراً محتسباً بأن له الجنة، ومما زاد في نشاط المسلمين واندفاعهم في القتال سماعهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (سورة القمر، آية:45) وعلمهم وإحساسهم بإمداد الملائكة وبتقليلهم في أعين المسلمين وتقليل المسلمين بأعين المشركين (1) .
فقد كان - صلى الله عليه وسلم - قد رأى في منامه ليلة اليوم الذي التقى فيه الجيشان رأى المشركين، عددهم قليل، وقد قصّ رؤياه على أصحابه فاستبشروا خيراً قال تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (الأنفال، آية:43).
__________
(1) انظر: الرحيق المختوم ، ص116-118.(6/34)
المعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآهم - أي رأى المشركين - في منامه قليلاً فقصّ ذلك على أصحابه فكان ذلك سبباً لثباتهم، قال مجاهد: ولو رآهم في منامه كثيراً لفشلوا وجبنوا عن قتالهم، ولتنازعوا في الأمر: هل يلاقونهم أم لا، والمضارع في الآية بمعنى الماضي لأن نزول الآية كان بعد الإراءة في المنام {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} أي عصمهم من الفشل والتنازع فقللهم في عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) ، فقصّ رؤياه على أصحابه، فكان في ذلك تثبيت لهم وتشجيعهم وجرأتهم على عدوهم، وعند لقاء جيش المسلمين مع جيش المشركين، رأى كل منهم عدد الآخر قليلاً، قال تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}(سورة الأنفال، آية: 44) وإنما قللهم في أعين المسلمين تصديقاً لرؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزدادوا يقيناً ويجّدوا في قتالهم ويثبتوا قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا له: كم كنتم؟ قال: ألفاً. وقوله تعالى:{ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} حتى قال قائل من المشركين إنما هم أكلة جزور. ووجه الحكمة واللطف بالمسلمين في هذا التقليل، هو أن إرادة المسلمين عدد الكافرين قليلاً ثبتهم ونشطهم وجرأهم على قتال المشركين ، ونزع الخوف
-من قلوب المسلمين- من أعدائهم. ووجه الحكمة في تقليل المسلمين في أعين المشركين هو أنهم إذا رأوهم قليلاً أقدموا على قتالهم غير خائفين ولامبالين بهم، ولا آخذين الحذر منهم، فلا يقاتلون بجد واستعداد ويقظة وتحرز، ثم إذا ماالتحموا بالقتال فعلاً تفجؤهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا، وتكسر شوكتهم حين يرون
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/125).(6/35)
مالم يكن في حسابهم وتقديرهم، فيكون ذلك من أسباب خذلانهم وانتصار المسلمين عليهم (1) .
أولاً- إمداد الله للمسلمين بالملائكة:
ثبت من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومرويات عدد من الصحابة البدريين أن الله تعالى ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب، قال تعالى:
{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال، آية:12).
وقال تعالى:{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ صدق الله العظيم إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ ءَالافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ صدق الله العظيم بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ صدق الله العظيم وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، آية:123-126).
وأورد البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل وغيرهم عدداً من الأحاديث الصحيحة التي تشير إلى مشاركة الملائكة في معركة بدر، و قيامهم بضرب المشركين وقتلهم (2) .
__________
(1) انظر: تفسير الزمخشري (2/225)، تفسير ابن كثير (2/315).
(2) انظر: موسوعة نظرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/291).(6/36)
فعن ابن عباس رضي الله عنه قال:(بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم (1) . فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو خطم أنفه (2) ، وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله فقال:(صدقت) ذلك مدد من السماء الثالثة (3) ، ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً قال: (إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر:"هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب" (4) ، ومن حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:(فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبدالمطلب أسيراً، فقال العباس: يارسول الله إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح (5) من أحسن الناس وجهاً على فرس أبلق (6) ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يارسول الله فقال:(أسكت فقد أيدك الله بملك كريم)(7) ، ومن حديث أبي داود المازني قال: (إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري)(8) .
__________
(1) حيزوم: اسم الفرس الذي يركبه الملك.
(2) خطم: الخطم الأثر على الأنف.
(3) مسلم في الجهاد، باب الإمداد بالملائكة رقم (1763).
(4) البخاري في المغازي، باب فضل من شهد بدراً رقم (3995).
(5) الأجلح: الذي انحسر شعره عن جانبي رأسه.
(6) الأبلق: ارتضع التحجيل الى فخذيه.
(7) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص247.
(8) نفس المصدر، ص247.(6/37)
إن إمداد الله تعالى للمؤمنين بالملائكة أمر قطعي ثابت لاشك فيه، وإن الحكمة من هذا الإمداد تحصيل مايكون سبباً لإنتصار المسلمين، وهذا ماحصل بنزول الملائكة، فقد قاموا بكل مايمكن أن يكون سبباً لانتصار المسلمين، وهذا ماحصل بنزول الملائكة، فقد قاموا بكل مايمكن أن يكون سبباً لنصر المسلمين: من بشارتهم بالنصر، ومن تثبيتهم بما ألقوه في قلوبهم من بواعث الأمل في نصرهم، والنشاط في قتالهم، وبما أظهروه لهم من أنهم معانون من الله تعالى، وأيضاً بما قام به بعضهم من الاشتراك الفعلي في القتال ولاشك أن هذا الاشتراك الفعلي في القتال قوّى قلوبهم وثبتهم في القتال، وهذا مادلت عليه الآيات، وصرحت به الأحاديث النبوية (1) .
وقد يسأل سائل ماالحكمة في إمداد المسلمين بالملائكة مع أن واحداً من الملائكة كجبريل عليه السلام قادر بتوفيق الله على إبادة الكفار؟
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/131،132).(6/38)
وقد أجاب الاستاذ عبدالكريم زيدان على ذلك فقال:لقد مضت سنة الله بتدافع الحق وأهله مع الباطل وأهله، وأن الغلبة تكون وفقاً لسنن الله في الغلبة والانتصار، وأن هذا التدافع يقع في الأصل بين أهل الجانبين: الحق والباطل ومن ثمرات التمسك بالحق والقيام بمتطلباته أن يحصلوا على عون وتأييد من الله تعالى، بأشكال وأنواع متعددة من التأييد والعون، ولكن تبقى المدافعة والتدافع يجريان وفقاً لسنن الله فيهما، وفي نتيجة هذا التدافع، فالجهة الأقوى بكل معاني القول اللازمة للغلبة هي التي تغلب، فالإمداد بالملائكة هو بعض ثمرات إيمان تلك العصبة المجاهدة، ذلك الإمداد الذي تحقق به مايستلزم الغلبة على العدو، ولكن بقيت الغلبة موقفة على ماقدمه أولئك المؤمنون في قتال ومباشرة لأعمال القتال، وتعرضهم للقتل، وصمودهم وثباتهم في الحرب، واستدامة توكلهم على الله، واعتمادهم عليه، وثقتهم به، وهذه معان جعلها الله حسب سننه في الحياة أسباباً للغلبة والنصر، مع الأسباب الأخرى المادية، مثل العُدة والعدد والاستعداد للحرب وتعلم فنونه .. الخ ولهذا فإن الإسلام يدعو المسلمين إلى أن يباشروا بأنفسهم إزهاق الباطل وقتال المبطلين، وأن يهيئوا الأسباب المادية والإيمانية للغلبة والإنتصار، وبأيديهم إن شاء الله تعالى ينال المبطلون مايستحقونه من العقاب (1) قال تعالى:{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ صدق الله العظيم } (سورة التوبة، الآية:
14-15).
إن نزول الملائكة عليهم السلام من السموات العلى إلى الأرض لنصر المؤمنين حدث عظيم.
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/131،132).(6/39)
إنه قوة عظمى، وثبات راسخ للمؤمنين حينما يوقنون بأنهم ليسوا وحدهم في الميدان، وأنهم إذا حققوا أسباب النصر واجتنبوا موانعه فإنهم أهل لمدد السماء، وهذا الشعور يعطيهم جرأة في مقابلة الأعداء وإن كان ذلك على سبيل المغامرة، لبُعد التكافؤ المادي بين جيش الكفار الكبير عدداً القوي إعداداً، وجيش المؤمنين القليل عدداً الضعيف إعداداً.
وهو في نفس الوقت عامل قوي في تحطيم معنوية الكفار وزعزعة يقينهم، وذلك حينما يشيع في صفوفهم احتمال تكرار نزول الملائكة الذي شاهدهم بعضهم عياناً إنهم مهما قدروا قوة المسلمين وعددهم فإنه سيبقى في وجدانهم رعب مزلزل من احتمال مشاركة قوى غير منظورة، لايعلمون عددها ولايقدِّرون مدى قوتها وقد رافق هذا الشعور المؤمنين في كل حروبهم التي خاضها الصحابة رضي الله عنهم في العهد النبوي وفي عهد الخلفاء الراشدين، كما رافق بعض المؤمنين بعد ذلك، فكان عاملاً قوياً في انتصاراتهم المتكررة الحاسمة مع أعدائهم (1) .
ثانياً- انتصار المسلمين على المشركين وحديث رسول الله لأهل القليب:
انتهت معركة بدر بانتصار المسلمين على المشركين، وكان قتلى المشركين سبعين رجلاً، وأسر منهم سبعون، وكان أكثرهم من قادة قريش وزعمائهم، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً، منهم ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار ولما تم الفتح وانهزم المشركون، أرسل - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن رواحة، وزيد بن حارثة، ليبشرا المسلمين في المدينة بنصر الله للمسلمين وهزيمة المشركين (2) .
ومكث - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أيام في بدر، فعن أنس رضي الله عنه قال:(أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاثة ليال...)(3) ولعل الحكمة في ذلك:
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/145).
(2) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/133).
(3) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص250.(6/40)
1-تصفية الموقف بالقضاء على أية حركة من المقاومة اليائسة التي يحتمل أن يقوم بها فلول المنهزمين الفارّين هرباً إلى الجبال.
2-دفن من استشهد من جند الله مما لاتكاد لاتخلو منه معركة، فقد دفن شهداء المسلمين في أرض المعركة ولم يرد مايشير إلى الصلاة عليهم، ولم يدفن أحد منهم خارج بدر (1) .
3-جمع الغنائم وحفظها، وإسناد أمرها إلى من يقوم بهذا الحفظ حتى تؤدي كاملة الى مستحقيها، وقد أسندت أنفال وغنائم بدر إلى ابن الحارث عبدالله بن كعب الأنصاري، أحد بني مازن (2) .
4-إعطاء الجيش الظافر فرصة يستروح فيها، بعد الجهد النفسي والبدني المضني الذي بذله أفراده في ميدان المعركة، ويضمد فيها جراح مجروحيه، ويذكر نعم الله عليه فيما أفاء الله عليه من النصر المؤزر الذي لم يكن داني القطوف، سهل المنال، ويتذاكر أفراده وجماعاته ماكان من أحداث ومفاجآت في الموقعة مما كان له أثر فعّال في استجلاب النصر، وماكان من فلان في شجاعته وفدائيته وجرأته على اقتحام المضائق وتفريج الأزمات، وماتكشفت عنه المعركة من دروس عملية في الكر والفر والتدبير المحكم الذي أخذ به العدو، ومافي ذلك من عبر، واستذكار أوامر القيادة العليا وموقفها في رسم الخطط، ومشاركتها الفعلية في تنفيذها، ليكون من كل ذلك ضياء يمشون في نوره في وقائعهم المستقبلية، ويجعلون منه دعائم لحياتهم في الجهاد الصبور المظفر بالنصر المبين.
__________
(1) انظر: موسوعة نظرة النعيم (1/291).
(2) انظر: محمد رسول الله، صادق العرجون (3/453).(6/41)
5-مواراة جيف قتلى الأعداء الذين انفرجت المعركة عن قتلهم، والتعرف عليهم وعلى مكانتهم في حشودهم وعلى من بقي منهم مصروعاً بجراحه لم يدركه الموت، للإجهاز على من ترى قيادة جيش الإسلام المصلحة في القضاء عليه إتقاء شره في المستقبل، كالذي كان في أمر الفاسق أبي جهل فرعون هذه الأمة، والذي كان في شأن رأس الكفر أمية بن خلف وأضرابهما، وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإلقاء هؤلاء الأخباث في ركيّ(1) من قُلُب (2) بدر خبيث مخبث ثم وقف على شفة الركيّ (3) ، وقد ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف على القتلى فقال:(بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني، وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس)(4) .
ثم أمر بهم، فسُحِبوا إلى قليب من قلب بدر، فطرحوا فيه، ثم وقف عليهم فقال:(ياعتبة بن ربيعة، وياشيبة بن ربيعة، ويافلان، ويافلان، هل وجدتم ماوعدكم ربكم حقا، فإني وجدت ماوعدني ربي حقا) فقال عمر بن الخطاب: يارسول الله! ماتخاطب من أقوام قد جيَّفوا؟ فقال:(والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لايستطيعون الجواب)(5) قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخاً، وتصغيراً، ونقمة، وحسرة، وندماً (6) .
__________
(1) ركي : حافة البئر.
(2) قُلُب: ابيار وفرد بئر.
(3) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (3/454).
(4) زاد المعاد (3/187).
(5) أخرجه البخاري (7/234) في المغازي، باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على كفار قريش.
(6) الأساس في السنّة وفقهها السيرة النبوية (1/479).(6/42)
إن مناداة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقتلى قريش بينت أمراً عظيماً، وهو أنهم بدأوا حياة جديدة، هي حياة البرزخ الخاصة، وهم فيها يسمعون كلام الأحياء، غير أنهم لايجيبون ولا يتكلمون، والإيمان بهذه الحياة من عقائد المسلمين، ونعيم القبر وعذابه ثابتان في صحاح الأحاديث، حتى إنه - صلى الله عليه وسلم - مرّ بقبرين،وقال (إنهما يعذبان ومايعذبان في كبير)(1) وذكر أن سبب تعذيبهما النمُّ بين الناس، وعدم الاستنزاه من البول (2) .
ولابد من التسليم بهذه الحقائق الغيبية، بعد أن تحدث عنها الصادق المصدوق وقطع بها القرآن الكريم في تعذيب آل فرعون قال تعالى:{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(سورة غافر، آية:46).
وأما الشهداء فقد قال الله تعالى فيهم:{ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(سورة آل عمران، آية:169).
المبحث الرابع
مشاهد وأحداث من المعركة
أولاً:مصارع الطغاة:
أ- مصرع أبي جهل بن هشام المخزومي:
قال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه :بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، نظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما (3) ، فغمزني (4) أحدهما فقال:ياعم هل تعرف أبا جهل؟ قال:قلت: نعم وما حاجتك إليه ياابن أخي؟ قال:أخبرت أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لئن رأيته لايفارق سوادي سواده، حتى يموت الأعجل منا. قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال مثالها.
__________
(1) رواه البخاري.
(2) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، د. محمد فوزي فضل الله، ص64.
(3) أضلع: أقوى وأعظم وأشد.
(4) عمزني: قرصني.(6/43)
قال: فلم أنشب (1) أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال:فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه، فقال:(أيكما قتله؟)فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال:(كلاكما قتله)، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء (2) ، وفي حديث أنس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر:(من ينظر ماصنع أبو جهل؟) فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضرباه (أبناء عفراء حتى برد (3) ، فأخذ بلحيته فقال: أنت أبو جهل، قال: وهل فوق رجل قتله قومه أو قال: (قتلتموه)(4) ، وفي حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال:(أدركت أبا جهل يوم بدر صريعاً، فقلت:أي عدو الله قد أخزاك الله؟
قال: وبما أخزاني؟من رجل قتلتموه، ومعي سيف لي، فجعلت أضربه ولايحتك فيه شيء، ومعه سيف له جيد، فضربت يده فوقع السيف من يده فأخذته، ثم كشفت المغفر عن رأسه، فضربت عنقه، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال:(الله الذي لا إله إلا هو).
قلت:الله الذي لا إله إلا هو.
قال: فانطلق فاستثبت فانطلقت وأنا أسعى مثل الطائر، ثم جئت وأنا أسعى مثل الطائر أضحك فأخبرته.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(انطلق) فانطلقت معه فأريته، فلما وقف عليه - صلى الله عليه وسلم - قال:(هذا فرعون هذه الأمة)(5) .
__________
(1) أنشب: ألبث.
(2) البخاري، كتاب المغازي، باب من شهد بدراً رقم (3988).
(3) برد: قارب على الموت وكان في النزع الأخير.
(4) البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل رقم (3963).
(5) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص242.(6/44)
كان الدافع من حرص الأنصاريين الشابين على قتل أبي جهل ماسمعاه من أنه كان يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا تبلغ محبة شباب الأنصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بذل النفس في سبيل الانتقام ممن تعرض له بالأذى.
وماجرى بين عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وأبي جهل وهو في الرمق الأخير من الحوار فيه عبرة بليغة، فهذا الطاغية الذي كان شديد الأذى للمسلمين في مكة قد وقع صريعاً بين أيدي من كان يؤذيهم.
ويشاء الله تعالى أن يكون الذي يقضي على آخر رمق من حياته هو أحد المستضعفين، ولقد كان أبو جهل مستكبراً جباراً حتى وهو صريع وفي آخر لحظات حياته (1) ، فقد جاء في رواية لابن إسحاق أنه قال لعبد الله بن مسعود لما أراد أن يحتزَّ رأسه (لقد ارتقيت مرتقىً صعباً يارويعي الغنم)(2) .
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/158، 159، 160).
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/247).(6/45)
(فالله تعالى لم يعجِّل لهذا الخبيث أبي جهل بضربات الأبطال من أشبال الأنصار، ولكنه أبقاه مصروعاً في حالة من الإدراك والوعي بعد أن أصابته ضربات أشفَتْ به على الهلاك الأبدي ليريه بعين بصره مابلغه من المهانة والذل والخذلان على يد من كان يستضعفه ويؤذيه، ويضطهده بمكة من رجال الرعيل الأول، السابقين الى مظلَّة الإيمان، وطهر العقيدة، والتعبد لله بشرائعه، التي أنزلها رحمة للعالمين عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، فيعلو على صدره، ويدوسه بقدميه، ويقبض على لحيته تحقيراً له، ويقرِّعه تقريعاً يبلغ من نفسه مجمع غروره واستكباره في الأرض، ويستل منه سيفه إمعاناً في البطش به فيقتله به، ويمعن في إغاظته بإخباره أن النصر عقد بناصية جند الله وكتيبة الإسلام، وأن شنار الهزيمة النكراء وعارها، وخزيها وخذلانها قد رزئت به كتائب الغرور الأجوف في حشود النفير الذي قاده هذا الكفور الخبيث...)(1) .
ب- مصرع أمية بن خلف:
قال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: كاتبت أمية بن خلف كتاباً بأن يحفظني في صاغيتي (2) بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة، فلما ذكرت (الرحمن) قال: لا أعرف الرحمن، كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته (عبدعمرو).
__________
(1) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (3/431،432).
(2) الصاغية: صاغية الرجل مايميل إليه، ويطلق على الأهل والمال.(6/46)
فلما كان في يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزَه (1) حين نام الناس، فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس من الأنصار، فقال:أمية بن خلف لانجوت إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه لأشغلهم فقتلوه ثم أبوا حتى يتبعونا - وكان رجلاً ثقيلاً - فلما أدركونا قلت له: ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتجللوه (2) ، بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه وكان عبدالرحمن بن عوف يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه (3) وفي رواية أخرى لعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: كان أمية ابن خلف لي صديقاً بمكة، وكان اسمي عبدعمرو فتسميت حين أسلمت عبدالرحمن، ونحن بمكة، فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: ياعبدعمرو أرغبت عن اسم سماك أبوك؟ قال:فأقول نعم.
قال: فإني لا أعرف الرحمن، فاجعل بيني وبينك شيئاً أدعوك به، أما أنت فلا تجبني باسمك الأول، وأما أنا فلا أدعوك بما لاأعرف!
قال: وكان إذا دعاني ياعبدعمرو لم أجبه، قال: فقلت: يا أبا علي اجعل ماشئت، قال:فأنت عبدالإله، قال:قلت: نعم.
قال: فكنت إذا مررت به قال:ياعبد الإله فأجبته فاتخذ معه، حتى إذا كان يوم بدر، مررت به وهو واقف مع ابنه علي، وهو آخذ بيده قال: ومعي أدراع لي قد استلبتها، فأنا احملها، فلما رآني قال: ياعبدعمرو فلم أجبه، فقال: ياعبدالإله، فقلت: نعم، قال:هل لك فيَّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟ قال: قلت: نعم ها لله؟
قال: فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيده وبيد ابنه وهو يقول:مارأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ ثم خرجت أمشي بهما، قال ابن هشام: يريد باللبن أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن (4) .
__________
(1) أحرزه: أحميه.
(2) تجللوه: طعنوه وأصابوه.
(3) البخاري، كتاب الوكالة، باب إذا وكل مسلم حربياً رقم (2301).
(4) انظر: سيرة ابن هشام (2/243) سنده صحيح وقد صرح ابن اسحاق بالقولين.(6/47)
ونلحظ من الروايات السابقة:
1-ماجرى من بلال رضي الله عنه حينما رأى عدوه اللدود أمية بن خلف الذي كان يسومه أقسى وأعنف أنواع العذاب في مكة فلما رآه في يد عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أسيراً صرخ بأعلى صوته (لانجوت إن نجا).
إنه موقف من مواقف التشفي في أعداء الله، والتشفي من كبار الكفرة الفجار في الحياة الدنيا نعمة يفرِّج الله بها عن المكروبين من المؤمنين الذين ذاقوا الذل والهوان على أيدي أولئك الفجرة الطغاة قال تعالى:{ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ صدق الله العظيم }(سورة التوبة،آية:14-15).
2-إن فيما جرى لأمية بن خلف من قتل مفزع درساً بليغاً للطغاة المتجبرين، وعبرة للمعتبرين، الذين يغترون بقوتهم وينخدعون بجاههم ومكانتهم، فيعتدون على الضعفاء، ويسلبونهم حقوقهم مآلهم إلى عاقبة سيئة ووخيمة في الآخرة، وقد يمكن الله للضعفاء منهم في الدنيا قبل الآخرة كما حدث لأمية بن خلف وأضرابه من طغاة الكفر (1) ، قال تعالى:{ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (سورة القصص، آية:5).
3-وفي قول عبدالرحمن بن عوف:(يرحم الله بلال ذهبت اذرعي وفجعني بأسيري) (2) مع ماجري من بلال من معارضة وانتزاع الأسيرين من يده بقوة الأنصار الذين استنجد بهم دليل على قوة الرباط الأخوي بين الصحابة الكرام (3) .
4-موقف لأم صفوان بن أمية:
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/152،153).
(2) انظر: سيرة ابن هشام (2/244).
(3) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/153).(6/48)
قيل لأم صفوان بن أمية بعد إسلامها، وقد نظرت إلى الحباب بن المنذر بمكة: هذا الذي قطع رجل علي بن أمية يوم بدر، قالت: دعونا من ذكر من قتل على الشرك! قد أهان الله عليا بضربة الحباب بن المنذر، وأكرم الله الحباب بضربه علياً، قد كان على الإسلام حين خرج من هاهنا، فقتل على غير ذلك (1) ، وهذا الموقف يدل على قوة إيمانها، ورسوخ يقينها حيث اتضحت لها عقيدة الولاء والبراء، فأصبحت تحب المسلمين وإن كانوا من غير قبيلتها وتكره الكافرين وإن كانوا من ابنائها (2) .
وقولها عن ابنها علي(قد كان على الإسلام حين خرج من ههنا فقتل على غير ذلك) تعني أنه كان ممن عُرف عنهم الإسلام بمكة وخرجوا مع قومهم يوم بدر مكرهين فلما التقى الصفان فتنوا حينما رأوا قلة المسلمين فقالوا: قد غر هؤلاء دينهم (3) ، فنزل فيهم قول الله تعالى:{ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(سورة الأنفال، آية:49).
جـ-مصرع عبيد بن سعيد بن العاص على يد الزبير:
قال الزبير بن العوام رضي الله عنه: لقيت يوم بدر عبيد ابن سعيد بن العاص وهو مدجج (4) لايرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه فطعنته في عينه فمات، قال هشام، فأخبرت أن الزبير قال:(لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطأت فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفاها).
__________
(1) نفس المصدر (4/154).
(2) المصدر السابق (4/154)
(3) انظر: تفسير الطبري (10/21).
(4) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/154).(6/49)
قال عروة: فسأله إياها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه، فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها، ثم طلبها أبو بكر فأعطاها، فلما قبض أبو بكر سأله إياها عمر فأعطاه إياها، فلما قتل عثمان وقعت عند آل علي، فطلبها عبدالله بن الزبير، فكانت عنده حتى قتل (1) .
(هذا الخبر يصور لنا دقة الزبير بن العوام رضي الله عنه في إصابة الهدف، حيث استطاع أن يضع الحربة في عين ذلك الرجل مع ضيق ذلك المكان وكونه قد وزع طاقته بين الهجوم والدفاع فلقد كانت إصابة ذلك الرجل بعيدة جداً لكونه قد حمى جسمه بالحديد الواقي، لكن الزبير استطاع إصابة إحدى عينيه، فكانت بها نهايته، ولقد كانت الإصابة شديدة العمق مما يدل على قوة الزبير الجسدية، إضافة إلى دقته ومهارته في إصابة الهدف)(2) .
د-مصرع الأسود المخزومي:
قال ابن اسحاق:وقد خرج الأسود المخزومي، وكان رجلاً شرساً سيء الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنَّه، أو لأموتن دونه، فلما خرج، خرج إليه حمزة بن عبدالمطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطنَّ (3) ، قدمه بنصف ساقه، وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تَشْخُب (4) رجله دما نحو اصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن يُبرّ يمينه وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض (5) .
وقد سأل أمية بن خلف عبدالرحمن بن عوف عن الرجل المُعْلمَ بريشة نعامة في صدره؟ فأجابه عبدالرحمن، ذاك حمزة بن عبدالمطلب، قال أمية: ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل (6) ، وهذه شهادة من أحد زعماء الكفر، وهذا يعني أنه رضي الله عنه قد أثخن في جيش الأعداء قتلا وتشريداً (7) .
__________
(1) انظر: صحيح البخاري ، المغازي رقم (3998).
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/163).
(3) أطن: أطار.
(4) تشخب: تسيل بصوت.
(5) انظر: سيرة ابن هشام (2/237).
(6) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/151).
(7) نفس المصدر (4/152).(6/50)
وكان هذا أول من قتل من المشركين بيد أسد الله تعالى حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه، فقد جاء هذا اللئيم الشرس يتحدى المسلمين، فتصدى له بطل الإسلام حمزة فقضى عليه ولقَّن أمثاله من الحاقدين المتكبرين درساً في الصميم (1) .
ثانياً: من مشاهد العظمة:
أ-استشهاد حارثة بن سراقة:
عن أنس رضي الله عنه قال: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه الى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يارسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر، وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع؟ فقال: (ويحك -أوهبلت- أو جنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في جنة الفردوس (2) ، وفي رواية: يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى (3) .
ب-استشهاد عوف بن الحارث:
قال ابن اسحاق حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة: (أن عوف بن مالك وهو ابن عفراء (4) ، قال: يارسول الله مايضحك الرب من عبده؟ قال: غمْسة يده في العدو حاسراً (5) فنزع درعاً كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل (6) .
وهذا الخبر يدل على قوة ارتباط الصحابة الكرام بالآخرة وحرصهم على رضوان الله تعالى ولذلك انطلق عوف بن الحارث رضي الله عنه كالسهم وهو حاسر غير متدرع يثخن في الأعداء حتى أكرمه الله بالشهادة، لقد تغيرت مفاهيم المجتمع الجديد، وتعلق أفراده بالآخرة وأصبحوا حريصين على مرضاته بعد أن كان جل همهم أن تتحدث عنهم النساء عن بطولاتهم، ويرضى سيد القبيلة عنهم، وتنشد الأشعار في شجاعتهم (7) .
جـ-سعد بن خيثمة وأبيه رضي الله عنهم:
__________
(1) المصدر السابق (4/121).
(2) البخاري في المغازي، باب فضل من شهد بدراً رقم (3982).
(3) الأساس في السنّة السيرة النبوية (1/475).
(4) عفراء بنت عبيد بن ثعلبة شارك أولادها السبعة في غزة بدر.
(5) حاسراً: غير لابس الدرع.
(6) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص245.
(7) انظر: التربية القيادية (2/31).(6/51)
قال الحافظ بن حجر: قال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: استهم يوم بدر سعد بن خيثمة وأبوه فخرج سهم سعد فقال له أبوه: يابني آثرني اليوم، فقال سعد: ياأبت لو كان غير الجنة فعلت، فخرج سعد إلى بدر فقتل بها، وقتل أبوه خيثمة يوم أحد (1) .
وهذا الخبر يعطي صورة مشرقة عن بيوتات الصحابة في تنافسهم وتسابقهم على الجهاد في سبيل الله تعالى، فهذا سعد بن خيثمة ووالده لايستطيعان الخروج معاً لاحتياج أسرتهما وعملهما لبقاء أحدهما، فلم يتنازل أحدهما عن الخروج رغبة في نيل الشهادة حتى اضطروا إلى الاقتراع بينهما، فكان الخروج من نصيب سعد رضي الله عنهما، وكان الابن في غاية الأدب مع والده ولكنه كان مشتاقاً إلى الجنة فأجاب بهذا الجواب البليغ (ياأبت لو كان غير الجنة فعلت)(2) .
د-دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة:
عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالقليب إلى أن قالت: (فلما أمر بهم فسحبوا عرف في وجه أبي حذيفة بن عتبة الكراهية، وأبوه يسحب إلى القليب فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(ياأبا حذيفة لكأنه ساءك ماكان في أبيك؟ فقال: والله يارسول الله ما شككت في الله وفي رسول الله ولكن إن كان حليماً سديداً ذا رأي، فكنت أرجوا أن لايموت حتى يهديه الله عزوجل إلى الإسلام، فلما رأيت أن قد فات ذلك ووقع حيث وقع أحزنني ذلك، قال: فدعا له رسول الله بخير (3) .
__________
(1) الإصابة (2/23-24) رقم (3118).
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/87).
(3) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص251،252.(6/52)
لما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر وعرض عليه جيش بدر فرد عمير بن أبي وقاص فبكى عمير فأجازه، فعقد عليه حمائل سيفه، ولقد كان عمير يتوارى حتى لايراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال سعد: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر يتوارى فقلت: مالك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيستصغرني ويردني وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة (1) وقد استشهد بالفعل.
هـ-عمير بن أبي وقاص:
إن هذا الموقف يبين قوة التجاذب بين الإيمان في ذروة اليقين، والعاطفة البشرية في قمة الوفاء النبوي، فإلإيمان لايميت المشاعر البشرية ولكنه يهذبها، فيحولها من عصبية جاهلية إلى وفاء لاينكره المنهج الرباني في تطبيقه العملي، فإيمان أبي حذيفة رضي الله عنه إيمان لاتهزه زلازل الأحداث، فهو إذ يرى أباه يقتل في أشراف قريش كافراً، ويُلقي معهم في قليب بدر يأخذه أسف العاطفة البشرية وفاء لهذا الأب، ويظل أبو حذيفة مزمَّلاً بإيمانه الراسخ رسوخ الأطواد الشامخات، فلايزيد على أن يعروه الاكتئاب على مافات أباه من خير يرجوه له بالهداية إلى الإسلام (2) ، ولهذا المقصد النبيل الذي أثار حزن أبي حذيفة دعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخير (3) .
المبحث الخامس
الخلاف في الأنفال والأسرى
أولاً: الخلاف في الأنفال:
__________
(1) انظر: السيرة النبوي لأبي فارس، ص317 نقل عن صفة الصفوة (1/294) والمستدرك (3/188) والإصابة (3/35).
(2) انظر: محمد رسول الله (3/446).
(3) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/174).(6/53)
عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فشهدت معه بدراً فالتقى الناس فهزم الله تبارك وتعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون فأكبت طائفة على العسكر يحوونه ويجمعونه وأحدقت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصيب العدو منه غرة حتى اذا كان الليل وفاء الناس بعضهم الى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حوّيناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخفنا أن يصيب العدو منه غرة واشتغلنا به فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (سورة الانفال الآية1) فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فواق بين المسلمين (1) وفي رواية قال عبادة بن الصامت عن الأنفال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله تبارك وتعالى من أيدينا فجعله الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقسمه رسول الله فينا عن سواء أي على سواء (2) ...
__________
(1) مسند الامام أحمد (5/324) ، تفسير ابن كثير (2/283).
(2) مسند الامام أحمد (5/322).(6/54)
لقد خلّد الله سبحانه وتعالى ذكرى غزوة بدر في سورة الأنفال، وجاءت مفصلة عن أحداثها وأسبابها ونتائجها وتعرضت الآيات الكريمة لعلاج النفس البشرية وتربيتها على معاني الإيمان العميق والتكوين الدقيق، فبدأت السورة بتبيان حكم أثر من آثار القتال وهو الغنائم، فبينت أن هذه الغنائم لله والرسول، فالله هو مالك كل شيء، ورسوله هو خليفته، ثم أمر الله المؤمنين ثلاثة أوامر: بالتقوى، وإصلاح ذات البين، والطاعة لله والرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي أوامر مهمة جداً في موضوع الجهاد، فالجهاد إذا لم ينشأ عن تقوى فليس جهاداً، والجهاد يحتاج الى وحدة صف، ومن ثم فلابد من إصلاح ذات البين، والانضباط هو الأساس في الجهاد، إذ لا جهاد بلا انضباط ثم بين الله عز وجل أن الطاعة لله والرسول - صلى الله عليه وسلم - علامة الإيمان.(6/55)
ثم حدد الله عز وجل صفات المؤمنين الحقيقيين، وهذا الوصف والتحديد مهمان في موضوع الجهاد الاسلامي، لأن الايمان الحقيقي هو الذي يقوم به الجهاد الاسلامي، لقد حدد الله عز وجل صفات المؤمنين، بأنهم إذا ذكر الله فزغت قلوبهم وخافت وفرقت، وإذا قرئ عليهم القرآن ازداد إيمانهم ونما، والصفة الثالثة: هي التوكل على الله، فلا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون ماشاء الله كان ومالم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الخلق وحده لاشريك له، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، والصفة الرابعة: إقامة الصلاة والمحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، ومن ذلك إسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. والصفة الخامسة: الإنفاق مما رزقهما الله، وذلك يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب، والخلق كلهم عباد الله فأحبهم الى أنفعهم لخلقه، ثم بين الله عز جل أن المتصفين بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان، وأن لهم عند الله منازل ومقامات ودرجات في الجنات، وأن الله يغفر لهم السيئات، ويشكر الحسنات، وبهذا تنتهي مقدمة السورة بعد أن رفعت الهمم لكل لوازم الجهاد، ونفت كل عوامل الخذلان، من اختلاف على غنائم، أو خلاف بسبب شيء داعية الى الطاعة، والارتفاع الى منازل الايمان الكامل (1) ، قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا
__________
(1) انظر: الأساس في التفسير (4/2113،2114).(6/56)
وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ صدق الله العظيم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ صدق الله العظيم أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (سورة الأنفال، الآية 1-4).
يقول الاستاذ محمد الأمين المصري : لم تذكر الآيات شيئاً من أعمال المؤمينن في بدر ولكن ذكرت عتاباً أليماً موجعاً يحمل المؤمنين على لارجوع الى أنفسهم والاستحياء عن ربهم وهناك نقاط أرسلت الآيات النقاط عليها وبينت نواحي الضعف فيه بياناً جلياً قوياً، بتصوير مافي النفوس وصفاً دقيقاً رائعاً تشاهد العين فيه الحركات والخلجات، وكل ذلك من شأنه أن ينبه ضمير المؤمن ليلمس المسافة بينه وبين درجات الايمان التي يهفو قلبه للوصول إليها. ولقد كانت الآيات من تربية الحكيم العليم ويشعر الذوق السليم هاهنا روعة الأسلوب في عرض العتاب بغير عتاب ولكنه تصوير مافي النفوس تصويراً يوقن معه العادي من الناس أنه ماكان لمؤمن صحيح الإيمان أن يتصف بها ولذلك اقترنت الآيات بتقديم خصائص الإيمان العالية وميزاته الرفيعة التي تصور الفجوة البعيدة بين المؤمن وبين أي إسفاف: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ صدق الله العظيم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ صدق الله العظيم أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ صدق الله العظيم } (سورة الانفال، الآيات 2،3،4).(6/57)
ماذكرت الآيات عتاباً ولكنها ذكرت واقعاً وكان ذكر الواقع أبلغ من كل عتاب، قال تعالى:{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} وفحوى الخطاب ماكان لهم أن يسألوا هذا السؤال. وقد بين سبحانه وتعالى حقيقة خروجهم من المدينة قال تعالى:{ كَمَا أَخْرَجَكَ} وهذا وصف بالغ الغاية في تصوير الجزع والرعب، صورة أناس يساقون إلى الموت سوقاً لامفر منه وهم يرون الموت بأم أعينهم، وقال تعالى:{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} وهذا تصوير لضعف في النفوس.. إلى أن يقول: دفعت الآيات الكريمة عن المؤمنين أي شعور بالاستعلاء وصرفت عن أنفسهم كل معنى من معاني الغرور وبسطت أمامهم نفوسهم أو نفوس فريق منهم ومابينها وبين الإيمان الصحيح من درجات وإذا جاء ذكر الثناء مصوراً بسورة المن والفضل بما أنعم الله ليس ثناء مستقلاً، الثناء عليهم ان الله منّ عليهم فاستجاب دعاءهم، ونزل عليهم الماء ليطهرهم وأنزل الملائكة لتثبتهم، وجمع بينهم وبين عدوهم لأمر كبير دبره الله وقدره (1) .
بدأت السورة بموضوع الأنفال واختلافهم في قسمتها وسؤلهم عنها فساقت في ذلك أربع آيات عالجت بها نفوس المؤمنين، وتطهيرها من الاختلاف الذي ينشأ عن حب المال والتطلع إلى المادة (2) .
ولأهمية هذا الموضوع في حياة المؤمنين بدأت به السورة وان كان اختلافهم في قسمة الأنفال متأخر في الوجود عن اختلافهم في الخروج إلى بدر وقتال الأعداء ومن سنة الله في كتابه أنه في ذكر القصص والواقع لايعرض لها مرتبة حسب وقوعها (3) .
__________
(1) انظر: من هدي سورة الأنفال، د. محمد المصري، ص95،96.
(2) انظر: من هدي سورة الأنفال، ص67.
(3) نفس المصدر، ص67،68.(6/58)
كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على الأنفال، هو الهتاف بتقوى الله(وسبحان خالق القلوب العليم بأسرار القلوب) إنه لايرد القلب البشري عن الشعور بتقوى الله، وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والأخرى. إن قلباً لايتعلق بالله يخشى غضبه، ويلتمس رضاه، لايملك أن يتخلص من ثقلة الأعراض، ولايملك أن يرف شاعراً بالانطلاق.
إن التقوى زمام هذه القلوب التي يمكن أن تقادمته طائفة ذلولة في يسر وفي هوادة وبهذا الزمام يقود القرآن هذه القلوب إلى إصلاح ذات بينهم {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}.
وبهذا الزمام يقودها إلى طاعة الله ورسوله {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وأول الطاعة هنا طاعته في حكمه الذي قضاه في الأنفال، فقد خرجت من أن تكون لأحد من الغزاة على الإطلاق، وارتدت ملكيتها ابتداءً لله والرسول، فانتهى حق التصرف فيها إلى الله ورسوله، فما على الذين آمنوا إلا أن يستسلموا فيها لحكم الله وقسم رسول الله، طيبة قلوبهم، راضية نفوسهم، وإلا أن يصلحوا علائقهم ومشاعرهم، ويضعوا قلوبهم بعضهم لبعضهم (1) .
هذه التربية الربانية تعيد زمام هذه النفوس مستسلمة لله عزوجل وتستعبدها نشوة الظفر، ولااستعلاء النصر، فتنسى ضعفها البشري وقصورها البشري، وتفكر بالاستعلاء والاستكبار على الآخرين.
وهذا العرض الرباني يؤكد حقيقة أكبر من النصر على المشركين يؤكد أن صلاح ذات البين، والانتصار الحقيقي على مسارب النفوس ومشارب القلوب، هو الأكبر في ميزان الله، وهو الأعظم في ميزان الله، ولاجدوى من نصر يعقبه صراع في الصف، واختلاف في القلوب.
وتبين الآيات أن قضية التقوى والإيمان تدخل في كافة شؤون حياة المسلم وبها ينبع تحركه في الحياة وجهاده لإعلاء كلمة الله تعالى (2) .
__________
(1) في ظلال القرآن الكريم (3/1473، 1474).
(2) المنهج التربوي للسيرة النبوية التربية الجهادية للغضبان (1/52).(6/59)
لقد استجاب الصحابة الكرام لهذا التوجيه الرباني ونزلت الآيات تبين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يتصرف في الأنفال.
بعد أن أصبحت الغنائم لله ورسوله بين المولى عزوجل كيف توزع هذه الغنائم قال تعالى:{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ ءَامَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(سورة الأنفال، آية:41). وهذا بعد ماطهرت قلوبهم من الأخلاط، وأخلصت إلى علاّم الغيوب في الطاعة، وتمثلت الآيات، فتحققت بمعنى العبودية الخالصة لله وهذا الحكم صريح في أن أربعة أخماس ماغنموه مقسوم بينهم، والخمس لله ورسوله، وهذا الخمس نفسه مردود فيهم أيضاً، وموزّع على الجهات المذكورة - كما ثبت بالسنة.(6/60)
إن التوجيه التربوي، في إرجاء إنزال جواب السؤال عن الغنائم، يشير إلى أن الأحكام الشرعية ينبغي أن يهيأ لها الجوّ النفسي الروحي المناسب، لتحتل مكانها اللائق في العقل والضمير، فتثبت وتتمكن، وتؤتي أطيب النتائج، إذ يتجلى فيها أكمل الحلول وهكذا صرف المولى- جلّ شأنه - عبادة المسلمين عن التعلق بالغير، أولاً، وبالغنائم ثانياً، ليكونوا له من المخلصين الجديرين بنصره، وإتمام نعمته، فلما تفرغوا للخالق، وأخلصوا في الجهاد، أكرمهم بالنصر من لدنه، وأسبغ عليهم من فضله، بأكثر مما كانوا يودون (1) ، فعن عبدالله بن عمرو قال:(خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً من أصحابه، فلما انتهى إليها قال:اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم. ففتح الله له يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا، ومامنهم رجل إلا وقد رجع بحمل أو حملين، واكتسوا وشبعوا)(2) .
__________
(1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص61،62.
(2) سنن ابي داود (5/525) حسنه الألباني صحيح ابي داود.(6/61)
ومن عدل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تقسيم الغنائم إعطائه من هذه الغنيمة من تخلف بأمر رسول الله لمهام أوكلها إليهم فضرب لهم بسهمهم من الغنيمة وبأجرهم فكانوا كمن حضرها (1) ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يراعي ظروف الجنود التي تمنعهم من المشاركة في القتال، لئن الله تعالى لم يكلف عباده شيئاً فوق طاقتهم قال تعالى:{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (سورة البقرة، آية:286).
ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لايكلف المسلمين فوق طاقتهم، سواء كان ذلك في السلم أو الحرب، وفي غزوة بدر أعفى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الصحابة لأن ظروفهم الأسرية تتطلب منهم القيام عليها ورعايتها، فقد أعفى عثمان بن عفان رضي الله عنه من الخروج يوم بدر لأن زوجته رقية كانت مريضة وبحاجة إلى من يرعى شؤونها روى البخاري في صحيحه أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أخبر عن سبب تغيب عثمان رضي الله عنه في غزوة بدر، فقال رضي الله عنه:(... وما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت مريضة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه...)(2) .
__________
(1) انظر: معين السيرة ، ص214.
(2) البخاري، كتاب الفضائل، باب مناقب عثمان (4/245) رقم (3699).(6/62)
وأمر - صلى الله عليه وسلم - أبا أمامة بالبقاء عند أمه حيث كانت مريضة وهي بحاجة إليه، فعن أبي أمامة بن ثعلبة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم بالخروج إلى بدر وأجمع الخروج معه فقال له خاله أبو بردة بن نيّار: أقِمْ على أمك، يا ابن أختي فقال له أبو أمامة: بل أنت فأقم على أختك، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر أبا أمامة بالمقام على أمه وخرج بأبي بردة، فقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد توفيت فصلى عليها (1) إن هذه الأخلاق الرفيعة ومراعاة شعور الجنود وأحوالهم العائلية تولد قوة ترابط بين القيادة والجنود وتدخل تحت مفهوم فقه التمكين وقد مارسه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أعلى صوره.
ومن الصحابة الذين كانت لهم مهمات خاصة أو أصيبوا أثناء الطريق فردهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
1-أبو لبابة : استخلفه على المدينة.
2-عاصم بن عدي: أرسله - صلى الله عليه وسلم - في مهمة لأهل العالية -في المدينة-.
3-الحارث بن حاطب: أرسله - صلى الله عليه وسلم - في مهمة إلى بني عمرو بن عوف.
4-الحارث بن الصمة:وقع أثناء الطريق فكسر فرد.
5-خوات بن جبير: أصابه في الطريق حجر في ساقه فرده من الصفراء (2) .
وكذلك أعطى لورثة الشهداء وذويهم نصيبهم من الغنائم وبذلك كان للاسلام السبق في تكريم الشهداء ورعاية أبنائهم وأسرهم من قرابة أربعة عشر قرناً(3).
ثانياً:الأسرى:
__________
(1) انظر: الطبراني في الكبير ورجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد (3/31).
(2) انظر: معين السيرة ، ص215.
(3) انظر: السيرة النبوي لأبي شهبة (2/176).(6/63)
قال ابن عباس رضي الله عنه:.. فلما أسروا الأسارى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر:(ماترون في هؤلاء الأسارى)؟فقال أبو بكر:يانبي الله هم بنو العم والعشيرة: أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ماترى يا ابن الخطاب)؟ قال: لاوالله يارسول الله، ما أرى الذي يراه أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننا منهم، فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان(نسيباً لعمر) فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماقال أبو بكر ولم يهو ماقلت: فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت يارسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء، ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرة قريبة من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - - وأنزل الله عزوجل - :{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى...} إلى قوله:{ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا...} فأحل الله لهم الغنيمة (1) ، وفي رواية: عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(ماتقولون في هؤلاء الأسرى)؟ فقال أبو بكر: يارسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: يارسول الله أخرجوك وكذبوك قربهم فاضرب أعناقهم. وقال عبدالله بن رواحة: يارسول الله انظر وادياً كثير الحطب، فادخلهم فيه ثم اضرم عليهم ناراً. فقال العباس: قطعت رحمك، فدخل رسول الله - صلى الله عليه
__________
(1) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم 3/1383.(6/64)
وسلم - ولم يرد عليهم شيئاً. فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبدالله بن رواحة، فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:(إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام إذ قال:{ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(سورة المائدة، آية118) وإن مثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (سورة نوح، آية:26).
وإن مثلك كمثل موسى إذ قال: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ ءَاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} (سورة يونس، آية:88).
ثم قال - صلى الله عليه وسلم - :(أنتم عالة فلا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق).
قال عبدالله بن مسعود: فقلت: يارسول الله، إلا سهيل بن بيضاء فإنه يذكر الإسلام قال فسكت. فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي حجارة من السماء في ذلك اليوم حتى قال إلا سهيل بن بيضاء فأنزل الله:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ....} إلى آخر الآية (1) .
وهذه الآية تضع قاعدة هامة في بناء الدولة حينما تكون في مرحلة التكوين والإعداد، وكيف ينبغي ألا تظهر بمظهر اللين، حتى ترهب من قبل أعدائها وفي سبيل هذه الكلية يطرح الاهتمام بالجزئيات حتى ولو كانت الحاجة ملحة إليها (2) .
__________
(1) مسند الامام أحمد (1/373)، تفسير ابن كثير (2/325).
(2) انظر: معين السيرة ، ص209.(6/65)
وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه لما شرع الصحابة في أسر المشركين كره ذلك، ورأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكراهية في وجه سعد لما يضع الناس فقال له رسول الله(والله لكأنك ياسعد تكره مايصنع القوم) قال أجل والله يارسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان بالقتل أحب إلى من استبقاء الرجل (1) .
كانت معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - للأسرى تحفها الرحمة، والعدل، والحزم والأهداف الدعوية ولذلك تعددت أساليبه وتنوعت طرق تعامله عليه الصلاة والسلام، فهناك من قتله، وبعضهم قبل فيهم الفداء، والبعض الآخر منّ عليهم، وآخرون اشترط عليهم تعليم عشرة من أبناء المسلمين مقابل المن عليهم.
أ-حفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجوار المطعم بن عدي:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسارى بدر:(لو كان مطعم بن عدي حياً، ثم كلمني في هؤلاء النتن لأطلقتهم له)(2) .
وهذا الحديث تعبير عن الوفاء والاعتراف بالجميل، فقد كان للمطعم مواقف تذكر بخير، فهو الذي دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جواره حينما عاد من الطائف، كما كان من أشد القائمين على نقض الصحيفة يوم حصر المسلمون وبنو هاشم (3) .
وهذا يدل على قمة الوفاء لمواقف الرجال -ولو كانوا مشركين (4) -
ب-مقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث:
__________
(1) انظر: التربية الجهادية للغضبان (1/141).
(2) ابو داود في الجهاد، باب المن على الأسير رقم 2689 وإسناده صحيح.
(3) انظر: معين السيرة ، ص208.
(4) انظر: التربية القيادية (3/54).(6/66)
وإذا كان هذا الوفاء لرجل مثله المطعم بن عدي، فلابد من الغرم مع مجرمي الحرب ورؤس الفتنة، فقد كان من أكبر دعاة الحرب ضد الإسلام والمتربصين بالمسلمين الدوائر، فبقاؤهما يعد مصدر خطر كبير على الإسلام، ولاسيما في تلك الظروف الحاسمة التي تمر بها الدعوة الإسلامية، فلو أطلق سراحهما لما تورّعا على سلوك أي طريق فيه كيد للإسلام وأهله، فقتلهما في هذا الظرف ضرورة تقتضيها المصلحة العامة لدعوة الإسلام الفتية (1) ولذلك أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلهما، عندما وصل إلى الصفراء (2) أثناء رجوعه للمدينة، فلما سمع عقبة بن معيط بأمر قتله قال: ياويلي علام أقتل يامعشر قريش من بين من هاهنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(لعدواتك لله ولرسوله) قال:يامحمد منُّك أفضل، فاجعلني كرجل من قومي، إن قتلتهم قتلتني، وإن مننت عليهم مننت عليَّ، وإن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم، يامحمد، من للصبية؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(النار قدّمه ياعاصم فاضرب عنقه)(3) ، فقدمه عاصم فضرب عنقه (4) ، وأما النضر بن الحارث، فقد كان من شياطين قريش، وممن يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينصب له العداوة وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسنفديار، فكان إذا جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلساً فذكَّر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه، في مجلسه إذا قام، ثم قال: أنا والله يامعشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلم إليَّ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثاً مني (5)
__________
(1) انظر: غزوة بدر الكبرى، محمد احمد باشميل ، ص162.
(2) الصَّفراء: واد كثير النخل والزرع والخير.
(3) انظر: مجمع الزوائد (6/89) قال فيه رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات.
(4) انظر: التربية القيادية (3/60).
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/439،440).(6/67)
.
إن هذا الرجل المتعالي على الله والمتألي عليه، والذي يزعم أنه سينزل أحسن ما أنزل الله، والذي يزعم أنه أحسن حديثاً من محمد، لابد لمثل من يمثل هذا التيار - وقد أصبح بين يدي رسول رب العالمين - لابد أن يَثأرُ لله ولرسوله منه، ومن أجل هذا لم يدخله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضمن نطاق الاستشارة (1) ، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله، فقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه (2) .
وبمقتل هذين المجرمين تعلم المسلمون أن بعض الطغاة العتاة المعادين لامجال للتساهل معهم، فهم زعماء الشر، وقادة الضلال، فلاهوادة معهم، لأنهم تجاوزوا حد العفو والصفح (3) بأعمالهم الشنيعة، فقد كان هذان الرجلان من شر عباد الله وأكثرهم كفراً وعناداً وبغياً وحسداً وهجاء للإسلام وأهله (4) .
ت-الوصية بأكرام الأسرى جانب من المنهج النبوي الكريم:
ولما رجع - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة فرق الأسرى بين أصحابه، وقال لهم:(استوصوا بهم خيراً)(5) وبهذه التوصية النبوية الكريمة ظهر تحقيق قول الله تعالى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (سورة الدهر، آية:8) فهذا أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير يحدثنا عما رأى قال: كنت في الأسرى يوم بدر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :استوصوا بالأسارى خيراً، وكنت في نفر من الأنصار فكانوا إذا قدّموا غدائهم وعشائهم أكلوا التمر وأطعموني البُرّ لوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6) .
__________
(1) انظر: التربية القيادية (3/57).
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/255).
(3) انظر: التربية القيادية (3/60).
(4) انظر: البداية والنهاية (3/306).
(5) نفس المصدر (3/307).
(6) مجمع الزوائد (6/86) وقال : رواه الطبراني في الصغير والكبير وإسناده حسن.(6/68)
وهذا أبو العاص بن الربيع يحدثنا قال: كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل، والتمر زادهم حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليّ. وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد. وكانوا يحملوننا ويمشون (1) .
كان هذا الخلق الرحيم الذي وضع أساسه القرآن الكريم في ثنائه على المؤمنين وذكر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه فاتخذوه خُلقاً وكان لهم طبيعة قد أثر في إسراع مجموعة من أشراف الأسرى وأفاضلهم إلى الإسلام، فأسلم أبو عزيز عقيب بدر بُعيد وصول الأسرى إلى المدينة وتنفيذ وصاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،وأسلم معه السائب بن عبيد (2) بعد أن فدى نفسه، فقد سرت دعوة الإسلام إلى قلوبهم وطهرت نفوسهم، وعاد الأسرى إلى بلادهم وأهليهم، يتحدثون عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ومكارم أخلاقه وعن محبته وسماحته، وعن دعوته ومافيها من البر والتقوى، والإصلاح والخير (3) ، إن هذه المعاملة الكريمة للأسرى شاهد على سمو الإسلام في المجال الأخلاقي، حيث نال أعداء الإسلام من معاملة الصحابة أعلى درجات مكارم الأخلاق، التي تتمثل في خلق الإيثار (4) .
جـ-فداء العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) انظر: المغازي للواقدي (1/119).
(2) انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/474).
(3) انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/473).
(4) انظر: التاريخ الاسلامي (4/175، 176).(6/69)
بعثت قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فداء أسراهم ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا، وقال العباس: يارسول الله قد كنت مسلماً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقولون فإن الله يجزيك وأما ظاهرك فقد كان علينا فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، وعقيل بن أبي طالب بن عبدالمطلب، وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر) قال: ماذاك عندي يارسول الله قال:(فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل ؟ فقلت لها إن أصبت في سفري هذا، فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبدالله وقثم). قال: والله يارسول الله إني لأعلم أنك رسول الله إن هذا الشيء ماعلمه أحد غيري وغير أم الفضل فأحسب لي يارسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك) ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه فأنزل الله عزوجل فيه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ صدق الله العظيم وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ صدق الله العظيم } (سورة الأنفال، آية:70-71).
قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين أوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به مع ماأرجو من مغفرة الله عزوجل (1) .
هذا والعبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب، فهذه الآية الكريمة وإن كانت نزلت في العباس إلا أنها عامة في جميع الأسرى (2) .
__________
(1) انظر: البخاري في المغازي، باب 12 حديث رقم 4018.
(2) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/132).(6/70)
استأذن بعض الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أئذن لنا فلنترك لابن اختنا العباس فداءه. فقال:(والله لاتذرون منه درهماً)(1) أي لاتتركوا للعباس من الفداء شيئاً ويظهر أدب الأنصار مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قولهم لرسول الله: ابن اختنا (2) ، لتكون المنة عليهم في إطلاقه بخلاف لوا قالوا: (عمَّك) لكانت المنة عليه - صلى الله عليه وسلم -. وهذا من قوة الذكاء وحسن الأدب في الخطاب، وإنما امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إجابتهم، لئلا يكون في الدين نوع محاباة (3) .
وهنا يتعلم الأسرى والمسلمون أيضاً درساً بليغاً في عدم محاباة ذوي القربى، بل كان الأمر على خلاف ذلك، فقد أغلا رسول الله الفداء على عمه العباس (4) .
ورجع العباس لمكة، وقد دفع فداءه وأبناء أخويه، وأخفى إسلامه وأصبح يقود جهاز استخبارات الدولة الإسلامية بمكة بمهارة فائقة، وقدرة نادرة حتى انتهى دوره في فتح مكة، فأعلن إسلامه قبلها بساعات (5) .
د-أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت الرسول:
قالت عائشة رضي الله عنها: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فداء أبي العاص بن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت لخديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، قال: فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رق لها رقة شديدة وقال:(إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها فافعلوا) فقالوا:(نعم فاطلقوه وردوا عليها الذي لها)(6) .
__________
(1) شرح العسقلاني لصحيح البخاري (7/321) نقلاً عن المستفاد من قصص القرآن (2/135).
(2) لئن جده العباس أم عبدالمطلب من بني النجار من يثرب.
(3) انظر: سبل الرشاد للصاحلي (4/135).
(4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/176).
(5) انظر: التربية القيادية (3/68).
(6) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص261.(6/71)
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ عليه، أو وعده، أن يخلي سبيل زينب إليه، وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار فقال:(كونا ببطن يأجج (1) حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها)(2) .
إن أبا العاص بن الربيع زوج زينب بنت الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف عنه قط موقفاً في مقاومة الدعوة بأي لون من ألوانها، وقد كف يده ولسانه عن أصحاب رسول الله، وشغله ماله وتجارته وحياؤه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مواقف الشراسة القرشية في مقاومة الدعوة إلى الله، وفي بدر كان أبو العاص صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بين الأسرى الذين لم يسمع لهم في المعركة صوت، ولم يعرف لهم رأي، ولاشوهدت لهم في قتال جولة، وبعد أن بدأت قريش تفادي أسراها، أرسلت السيدة زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزوجة أبي العاص بمال تفديه به، ومع المال قلادة كانت أمها السيدة خديجة رضي الله عنها أهدتها إليها فأدخلتها بها على زوجها لتتحلى بها، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلادة ابنته رق لها رقة شديدة، إذ كانت هذه القلادة الكريمة مبعث ذكريات أبويّة عنده - صلى الله عليه وسلم -، وذكريات زوجية، وذكريات أسرية، وذكريات عاطفية، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أب، له من عواطف الأبوة أرفع منازلها في سجل المكارم الإنسانية، وأشرفها في فضائل الحياة، فتواثبت إلى خبايا نفسه الكريمة، المكرمة أسمى مشاعر الرحمة، وتزاحمت على فؤاده الأطهر عواطف الحنان والحنين، فتوجه إلى أصحابه رضي الله عنه متلطفاً يطلب إليهم في رجاء الأعز الأكرم رجاء يدفعهم إلى العطاء ولايسلبهم حقهم في الفداء، لو أنهم أرادوا الاحتفاظ بهذا الحق وهو في أيديهم يملكون التصرف فيه، فقال لهم:(إن رأيتم أن
__________
(1) اسم مكان على ثمانية أميال من مكة.
(2) ابو داود في الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال رقم 2692.(6/72)
تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي هو لها).
وهذا أسلوب من أبلغ وألطف مايسري في حنايا النفوس الكريمة، فيطوّعها إلى الاستجابة الراغبة الراضية رضاء ينم عن الغبطة والبهجة (1) .
إن هذا الموقف ومايظهر منه من مظاهر الرحمة والعطف منه - صلى الله عليه وسلم - على ابنته، يحمل في طياته مقصداً آخر، وهو أنه كان يتألف صهره للإسلام بذلك، لما عرف عنه من العقل السديد والرأي الرشيد، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يثنى عليه وهو على شركه بحسن المعاملة (2) .
هـ- أبو عزة عمرو بن عبدالله الجمحي بين الرحمة والحزم النبوي:
كان محتاجاً ذا بنات قال يارسول الله لقد عرفت مالي من مال واني لذو حاجة وذو عيال فأمنني علي، فمنّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذ عليه أن لايظاهر عليه أحداً فقال أبو عزة يمدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك:
من مبلغ عني الرسول محمد
... ... ... بأنك حق والمليك حميد
وأنت امرؤ بُوئت فينا (مباءة) (3)
... ... ... لها درجات سهلة وصعود
فإنك من حاربته لمحاربٌ
... ... ... شقي ومن سالمته لسعيد
ولكن إذا ذكرتُ بدراً وأهله
... ... ... تأوَّبُ مابي، حسرة وقعود
قال ابن كثير: ثم إن أبا عزة هذا نقض ماكان عاهد الرسول عليه، ولعب المشركون بعقله فرجع إليهم فلما كان يوم أحد أسر أيضاً، فسأل من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمن عليه أيضاً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا أدعك تمسح عارضيك وتقول خدعت محمداً مرتين) ثم أمر به فضربت عنقه (4) .
__________
(1) انظر: محمد رسول الله ، عرجون (3/480،487).
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/183).
(3) مباءة : مكانة رفيعة.
(4) انظر: البداية والنهاية (3/313).(6/73)
فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - به رحيماً وعفى عنه وأطلق سراحه بدون فداء لما ذكر أبو عزة فقره ومالديه من بنات يعولهن ولكنه لم يفٍِ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما عاهده عليه من لزوم السلم وعدم إثارة الحرب ضده، فوقع أسيراً في معركة أحد، فكان موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - منه الحزم، فأمر بضرب عنقه.
ر- سهيل بن عمرو ووقوعه في الأسر وماذا قالت سودة رضي الله عنها:
قال عبدالرحمن بن أسعد بن زرارة - رضي الله عنه -: (قُدم بالأسارى حين قدم بهم المدينة، وسودة بنت زمعة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء وذلك قبل أن يضرب الحجاب - قالت سودة: فوالله إني لعندهم إذ أتينا فقيل: هؤلاء الأسارى قد أتي بهم، فرجعت الى بيتي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، فإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة ويداه مجموعتان الى عنقه بحبل، فوالله ماملكت حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت: أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراماً...فما انتبهت إلا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البيت: ياسودة أعلى الله ورسوله تحرضين، فقلت: يارسول الله والذي بعثك بالحق ماملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه الى عنقه بالحبل أن قلت ماقلت) (1) .
__________
(1) انظر: السيرة النبوية ، لمحمد الصوياني (2/200) وسنده صحيح.(6/74)
وقد مكرز بن حفص بن الاخيف في فداء سهيل بن عمرو، فلما فاوض المسلمين وانتهى الى رضائهم قالوا: هات الذي لنا قال لهم مكرز بن حفص: اجعلوا رجلي مكان رجله وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرزاً عندهم، وجاء في حديث مرسل أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعني أنزع ثنية سهيل بن عمرو ويدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيباً في موطن آخر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبياً)(1) ثم قال رسول الله لعمر: (إنه عسى أن يقوم مقاماً لا تذمه) (2) .
قال ابن كثير: وهذا هو المقام الذي قامه سهيل بمكة حين مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتد العرب، ونجم النفاق بالمدينة وغيرها، فقام بمكة فخطب الله وثبتهم على الدين الحنيف (3) فقد قال في ذلك: (يامعشر قريش لا تكونوا آخر الناس إسلاماً وأولهم ردة، من رَابَنا ضربنا عنقه) (4) .
فقد أبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينزع ثنية سهيل ورأى أن ذلك من باب التمثيل وتشويه خلقة الانسان وقال لعمر: (لا أمثل به فيمثل الله بي، وإن كنت نبياً) وهذا نموذج من منهج رسالته - صلى الله عليه وسلم - وضعه ليكون نبراساً لأمته في انتصاراتها على أعدائها (5) .
س: التعليم مقابل الفداء:
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (3/311) وقال ابن كثير مرسل بل معضل.
(2) انظر: البداية والنهاية (3/311).
(3) نفس المصدر (3/311).
(4) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/181).
(5) انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/474).(6/75)
قال ابن عباس: كان ناس من الأسارى يوم بدر ليس لهم فداء فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة (1) ، وبذلك شرع الأسرى يعلمون غلمان المدينة القراءة والكتابة، وكل من يُعَلم عشرة من الغلمان يفدي نفسه (2) ، وقبول النبي - صلى الله عليه وسلم - تعليم القراءة والكتابة بدل الفداء في ذلك الوقت الذي كانوا فيه بأشد الحاجة الى المال يرينا سمو الاسلام في نظرته الى العلم والمعرفة، وإزالة الأمية، وليس هذا بعجيب من دين كان أول مانزل من كتابه الكريم :{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ صدق الله العظيم خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ صدق الله العظيم اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ صدق الله العظيم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ صدق الله العظيم } (سورة العلق، الآيات 1-4) واستفاضت فيه نصوص القرآن والسنّة في الترغيب في العلم وبيان منزلة العلماء، وبهذا العمل الجليل يعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أول من وضع حجر الاساس في إزالة الأمية وإشاعة القراءة والكتابة، وأن السبق في هذا للإسلام (3) .
و-حكم الأسرى:
إن حكم الأسرى في الاسلام مفوض الى رأي الإمام ليختار حكماً من أربعة، وعلى الإمام أن يراعي مصلحة المسلمين العامة والأحكام الأربعة هي:
1- القتل: وقد قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث.
2- المن: وهو اطلاق الأسير بدون مقابل وهذا مافعله رسول الله مع أبي عزة الجمحي.
3- الفداء: اطلاق سراح الأسير مقابل مبلغ من المال وهذا ماحدث مع العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ونوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب وغيرهم.
__________
(1) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص261.
(2) انظر: التربية القيادية (3/74).
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/164،165).(6/76)
4- الاسترقاق: وقد حكم سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في يهود بني قريظة أن يقتل المحاربون وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء (1) .
المبحث السادس
نتائج غزوة بدر ومحاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم
أولاً نتائج غزوة بدر:
1- كانت من نتائج غزوة بدر أن قويت شوكة المسلمين، وأصبحوا مرهوبين في المدينة وماجاورها، وأصبح من يريد أن يغزو المدينة أو ينال من المسلمين أن يفكر ويفكر قبل أن يقدم عل فعلته، وتعززت مكانة الرسول في المدينة، وارتفع نجم الاسلام فيها، ولم يعد المتشككون بالدعوة الجديدة والمشركون في المدينة يتجرؤون على إظهار كفرهم وعداوتهم للإسلام، لذا ظهر النفاق والمكر والخداع، فأعلنوا إسلامهم ظاهراً أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فدخلوا في عداد المسلمين، وأبقوا على الكفر باطناً، فظلوا في عداد الكفار، فلاهم مسلمون مخلصون في إسلامهم، ولا هم كافرون ظاهرون بكفرهم وعداوتهم للمسلمين، قال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} (سورة النساء، الآية 143). ومن أجل هذا الموقف المتذبذب، شنّع الله عليهم، وسمّع بهم في كثير من آياته، وتوعدهم بأشد أنواع العذاب، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (سورة النساء، الآية 145).
__________
(1) انظر: غزوة بدر الكبرى ، ص101.(6/77)
ومن نتائج موقعة بدر ازدياد ثقة المسلمين بالله سبحانه وتعالى وبرسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -، واشتداد ساعدهم وقوتهم، ودخول عدد كبير من مشركي قريش في الاسلام، وقد ساعد ذلك على رفع معنويات المسلمين المستضعفين الذين كانوا لايزالون في مكة، فاغتبطت نفوسهم بنصر الله، واطمأنت قلوبهم الى أن يوم الفرج قريب، فازدادوا إيماناً على إيمانهم وثباتاً على عقيدتهم.
والى جانب ذلك، فقد كسب المسلمون مهارة عسكرية، وأساليب جديدة في الحرب، وشهرة واسعة في داخل الجزيرة العربية وخارجها، إذ أصبحوا قوة يحسب لها حسابها في بلاد العرب فلا تهدد زعامة قريش وحدها، بل زعامة كافة القبائل العربية المنتشرة في مختلف الأصقاع والأماكن كما أصبح للدولة الجديدة مصدر للدخل من غنائم الجهاد وبذلك انتعش حال المسلمين المادي والاقتصادي، بما أفاء الله عليهم من غنائم، بعد بؤس وفقر شديدين داما تسعة عشر شهراً (1) .
2- أما قريش، فكانت خسارتها فادحة، فإضافة الى مقتل أبي جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة وغيرهم من زعماء الكفر الذين كانوا من أشد القرشين شجاعة وقوة وبأساً، ولم تكن بدر خسارة حربية لقريش فحسب، بل خسارة معنوية أيضاً، ذلك أن المدينة لم تعد تهدد تجارتها فقط، بل أصبحت تهدد أيضاً سيادتها ونفوذها في الحجاز كله (2) ، كان خبر الهزيمة على أهل مكة كالصاعقة ولم يصدقوا ذلك في بداية الأمر. قال ابن اسحاق رحمه الله: (وكان أول من قدم بمكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبدالله الخزاعي فقالوا له: ماوراءك؟
قال: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البختري ابن هشام، فلما جعل يعدد أشراف قريش قال: صفوان بن أمية: والله إن يعقل هذا فسلوه عنّي؟
__________
(1) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، د. علي معطي، ص274،275.
(2) المصدر نفسه، ص375،376.(6/78)
فقالوا: مافعل صفوان بن أمية؟
قال: هو ذاك جالس في الحجر، قد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا) (1) .
وهذا أبو رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقص علينا أثر خبر هزيمة قريش على أبي لهب لعنه الله حيث قال: كنت غلاماً للعباس بن عبدالمطلب، وكان الاسلام قد دخلنا أهل البيت وأسلمت أم الفضل وأسلمتُ، وكان العباس يهاب قوه ويكره أن يخالفهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، وكان أبو لهب
-عدو الله- قد تخلف عن بدر فبعث مكانه رجلاً، فلما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كَبَتهُ الله وأخزاه وجدنا في أنفسنا قوة وعزة.
__________
(1) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص257.(6/79)
قال: كنت رجلاً ضعيفاً،وكنت أعمل القداح وأنْحَتها في حجرة زمزم، فوالله أني لجالس فيها أنحت القداح وعندي أم الفضل (زوجة العباس بن عبدالمطلب) جالسة وقد سرّنا ماجاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشَرَّ حتى جلس على طنب الحجرة فكان ظهره الى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب قد قدم فقال: أبو لهب: هلمّ إليّ فعندك لعمري الخبر، قال: جلس إليه والناس قيام عليه، فقال: ياابن أخي أخبرني، كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ماهو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاؤوا ويأسروننا كيف شاؤوا، وإيْمُ الله مع ذلك ما لمُتُ الناس: لقينا رجالاً بيضاً على خيل بُلق بين السماء والأرض والله ماتُلق شيئاً، ويقوم لها شيء. قال ابو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت: تلك والله الملائكة، قال: فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة، قال: وثاورته فاحتملني وضرب بي الأرض ثم برك عليّ يضربني -وكنت رجلاً ضعيفاً- فقامت أم الفضل الى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربه فَلَعَتْ في راسه شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام مولياً ذليلاً ثم مات بعد سبع ليال بالعدسة(1) فقتلته(2) وأم الفضل بن الحارث زوجة العباس بن عبدالمطلب، وأخت ميمونة أم المؤمنين وخالة خالد بن الوليد، وهي أول امرأة أسلمت بعد خديجة (3) رضي الله عنهن.
__________
(1) العدسة: قرحة قاتلة كالطاعون. وقد عدس الرجل: إذا أصابه ذلك.
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/258).
(3) انظر: المرأة في العهد النبوي ، د. عصمة الدين كركر، ص162.(6/80)
لقد تركت غزوة بدر بنفوس أهل مكة المشركين كمداً وأحزاناً وآلاماً بسبب هزيمتهم ومن فقدوا وأسروا، فهذا أبو لهب لم يلبث أن أصيب بعلة ومات، وهذا ابو سفيان فقد ابناً له وأسر له إبناً آخر، ومامن بيت من بيوت مكة إلا وفيه مناحة على قتل عزيز أو قريب، أو أسر أسير، فلا عجب أن كانوا صمموا في أنفسهم على الأخذ بالثأر، حتى إن بعضهم حرم نفسه الاغتسال (1) ، يأخذ بالثأر ممن أذلوهم، وقتلوا أشرافهم وصناديدهم، وانتظروا يترقبون الفرصة للقاء المسلمين والانتصاف منهم، فكان ذلك في أحد (2) .
3- أما اليهود، فقد هالهم أن ينتصر المسلمون في بدر، وأن تقوى شوكتهم فيها، وأن يعزّ الاسلام ويظهر على دينهم، ويكون لرسوله دونهم الحُظوة والمكانة، فصمموا على نقض العهد الذي عاهدوا عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما قدم المدينة، وأظهروا عداوتهم التي كانت كامنة في نفوسهم، وأخذوا يجاهرون بها القول ويعلنون، ثم راحوا يكيدون للإسلام ولرسوله، ويعملون للقضاء عليه بكل الوسائل المتاحة لديهم (3) وبدأوا يتحرشون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، وماكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخفى عليه شيء من ذلك، فقد كان يراقبهم عن حذر ويقظة، حتى استخفوا بالمقررات الخلقية، والحرمات التي يعتز بها المسلمون، واستعلنوا بالعداوة، فلم يكن بدّ من حربهم وإجلائهم عن المدينة، كما سنفصل ذلك فيما بعد إن شاء الله (4) .
ثانياً: محاولة اغتيال النبي - صلى الله عليه وسلم - واسلام عمير بن وهب (شيطان قريش):
__________
(1) هو ابو سفيان بن حرب نذر إلا يمس رأسه من ماء جنابة حتى يغزو المسلمين.
(2) انظر: السيرة النبوية لابي شهبة (2/171).
(3) انظر: التاريخ السياسي العسكري، ص274.
(4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/171).(6/81)
قال عروة بن الزبير: جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية في الحجر، بعد مصاب أهل بدر بيسير وكان عمير بن وهب شيطاناً من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ويلقون منه عناء (1) وهو بمكة، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى بدر، فذكر أصحاب القليب ومصابهم، فقال صفوان: (والله إن في العيش بعدهم خير).
قال له عمير: صدقت، أما والله لولا دَينٌ عليّ ليس عندي قضاؤه وعيال أخشى عليهم الضيعة (2) ، بعدي ، لركبت الى محمد حتى أ قتله، فإن لي فيهم علة (3) ابني أسير في ايديهم.
قال: فاغتنمها صفوان بن أمية فقال: عليَّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم (4) مابقوا، لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال له عمير: فاكتم عليَّ شأني وشأنك.
قال: سأفعل.
قال: ثم أمر عمير سيفه، فشُحذ وسم، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون مااكرمهم الله به، وماأراهم في عدوهم، إذ نظر عمر الى عمير ابن وهب وقد أناخ راحلته على باب المسجد متوشحاً سيفه، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ماجاء إلا لشر وهو الذي حرش بيننا، وحرزنا للقوم يوم بدر.
ثم دخل عمر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يانبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحاً سيفه.
قال: فادخله عليّ، قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة (5) سيفه في عنقه فلببه (6) بها، وقال لمن كان معه من الانصار: ادخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون.
__________
(1) عناء: التعب.
(2) الضيعة: الضياع والتشتت.
(3) العلة: السبب.
(4) أواسيهم: اقوم على أمرهم ومؤونتهم.
(5) حمالة السيف: مايربط به السيف على الجسم.
(6) لببه: قيده.(6/82)
ثم دخل به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآه رسول - صلى الله عليه وسلم - وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: (أرسله ياعمر، ادن ياعمير).
فدنا ثم قال: انعموا صباحاً، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك ياعمير، بالسلام تحية أهل الجنة) (1) .
فقال: أما والله يامحمد إن كنت بها لحديث عهد.
فقال: (فما جاء بك ياعمير؟) قال: جئت لهذا الاسير الذي في ايديكم فأحسنوا فيه.
قال: (فما بال السيف في عنقك؟) قال: قبحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئاً.
قال (أصدقني، مالذي جئت له؟) قال : ماجئت إلا لذلك.
قال: (بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداًن فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك).
قال عمير: أشهد أنك لرسول الله، قد كنا يارسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وماينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ماأتاك به إلا الله، فالحمدلله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا.
__________
(1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص259.(6/83)
ثم قال: يارسول الله، إني كنت جاهداً على إطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله -عز وجل-، وأنا أحب أن تأذن لي، فأقدم مكة، فأدعوهم الى الله، والى رسوله، والى الاسلام، لعل الله يهديهم، وإلا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي اصحابك في دينهم. قال: فاذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلحق بمكة وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب، يقول: أبشروا بوقعة تأتيكم الآن في أيام، تنسيكم وقعة بدر، وكان صفوان يسأل عنه الركبان، حتى قدم راكب فأخبره بإسلامه، فحلف أن لايكلمه أبداً، ولا ينفعه بنفع أبداً) (1) .
وفي هذه القصة دروس وعبر منها؛
1- حرص المشركين على التصفية الجسدية للدعاة، فهذا صفوان بن أمية وعمير بن وهب يتفقان على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا يرشدنا الى أن أعداء الدعوة قد لايكتفون برفض الدعوة، والتشويش عليها، وصد الناس عنها، بل يريدون اغتيال الدعاة، وتدبير المؤامرات لقتلهم، وقد يستأجرون المجرمين لتنفيذ هذا الغرض الخسيس (2) ، وقد يستغل الأغنياء المترفون من أعداء الدعوة حاجة الفقراء وفقرهم فيوجهونهم لقاء مبلغ من المال الى خدمة مآربهم، وإن أدى ذلك الى هلاكهم، فهاهو صفوان قد استغل فقر عمير وقلة ذات يده وديَنه ليرسله الى هلاكه (3) .
__________
(1) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص260.
(2) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/159).
(3) انظر: غزوة بدر الكبرى لأبي فارس ، ص82.(6/84)
2-ظهور الحس الأمني الرفيع الذي تميز به الصحابة رضي الله عنهم، فقد انتبه عمر بن الخطاب لمجئ عمير بن وهب وحذر منه، وأعلن أنه شيطان ماجاء إلا لشر، فقد كان تاريخه معروف لدى عمر، فقد كان يؤذي المسلمين في مكة وهو الذي حرّض على قتال المسلمين في بدر، وعمل على جمع معلومات عن عددهم، ولذلك شرع عمر في أخذ الأسباب لحماية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فمن جهته فقد أمسك بحمالة لسيف عمير الذي في عنقه بشدة فعطله عن امكانية استخدامه سيفه للإعتداء على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمر نفراً من الصحابة بحراسة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
3-الاعتزاز بتعاليم هذا الدين، فقد رفض - صلى الله عليه وسلم - أن يتعامل بتحية الجاهلية ولم يرد على تحية عمير حين قال له: انعموا صباحاً، وأخبره بأنه لايحيي بتحية أهل الجاهلية لأن الله تعالى أكرم المسلمين بتحية أهل الجنة.
4-سمو أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد أحسن إلى عمير وتجاوز عنه وعفا عنه مع أنه جاء ليقتله (1) ، بل أطلق ولده الأسير بعد أن أسلم عمير وقال لأصحابه:فقهوا أخاكم في دينه، وأقرئوه القرآن وأطلقوا له أسيره (2) .
5-قوة إيمان عمير، فقد قرر أن يواجه مكة كلها بالإسلام وقد أذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفعل، وواجه، وتحدى، وعاد أدراجه إلى المدينة، وأسلم على يديه ناس كثير، وكان حين تعد الرجال يطرحه عمر رضي الله عنه ممن يزن عنده ألف رجل، وكان أحد الأربعة الذين أمد بهم أمير المؤمنين عمر، عمرو بن العاص رضي الله عنهم الذين كان كل واحد منهم بألف (3) .
المبحث السابع
بعض الدروس والعبر والفوائد من غزوة بدر
أولاً: حقيقة النصر من الله تعالى:
__________
(1) نفس المصدر، ص83.
(2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص260.
(3) انظر: التربية القيادية (3/73).(6/85)
إن حقيقة النصر في بدر كان من الله تعالى، قال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (سورة آل عمران، آية:133). فقد بين سبحانه وتعالى أن النصر لايكون إلا من عند الله تعالى في قوله:{ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}(سورة آل عمران، آية:126) وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة الأنفال، آية:10).
في هاتين الآيتين تأكيد على أن النصر لايكون إلا من عند الله عزوجل- والمعنى ليس النصر إلا من عند الله دون غيره، و(العزيز) أي: ذو العزة التي لاترام (1) و(الحكيم) أي:الحكيم فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى (2) .
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/411).
(2) انظر: تفسير ابن كثير (2/303) نقلاً عن حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم (1/97 الى 105).(6/86)
ويستفاد من هاتين الآيتين: تعليم المؤمنين الاعتماد على الله وحده، وتفويض أمورهم إليه مع التأكيد علىأن النصر إنما هو من عند الله وحده وليس من الملائكة أو غيرهم، فالأسباب يجب أن يأخذ بها المسلمون لكن يجب أن لايغتروا بها وأن يكون اعتمادهم على خالق الأسباب حتى يمده الله بنصره وتوفيقه ثم بين سبحانه -مظاهر فضله على المؤمنين وأن النصر الذي كان في بدر، وقتلهم المشركين، ورمي النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين بالتراب يوم بدر إنما كان في الحقيقة بتوفيق الله أولاً وبفضله ومعونته، وبهذه الآية الكريمة يربي القرآن المسلمين ويعلمهم الاعتماد عليه قال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(سورة الأنفال، آية:17).
ولما بين سبحانه وتعالى في أن النصر كان من عنده، وضح بعض الحكم من ذلك النصر، قال تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ صدق الله العظيم لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، آية:127-128).
وأمر سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتذكروا دائماً تلك النعمة العظيمة نعمة النصر في بدر، ولاينسوا من أذهانهم كيف كانت حالتهم قبل النصر قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (سورة الأنفال، آية:26).
ثانياً: يوم الفرقان:(6/87)
سمى يوم بدر يوم الفرقان ولهذه التسمية أهمية عظيمة في حياة المسلمين وقد تحدث الأستاذ سيد قطب عن وصف الله تعالى ليوم بدر بأنه يوم الفرقان في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ ءَامَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة الأنفال، آية:41).
فقال: كانت غزوة بدر - التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده فرقاناً بين الحق والباطل - كما يقول المفسرون إجمالاً - وفرقاناً بمعنى أشمل وأدق وأوسع وأعمق كثيراً.
كانت فرقاناً بين الحق والباطل فعلاً.. ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأحياء، والأشياء.. الحق الذي يتمثل في تفرد الله سبحانه - بالألوهية، والسلطان والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كله سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه، لهذه الألوهية المتفردة، ولهذا السلطان المتوحد، ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولاشريك والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك ويغشي على ذلك الحق الأصيل ، ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء، فهذا الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر، حيث فرق بين ذلك الحق الكبير، وهذا الباطل الطاغي، وزيل بينهما فلم يعودا يلتبسان.(6/88)
لقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق، على أبعاد وآماد: كانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير.. فرقاناً بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور، وفي الخلق والسلوك، وفي العبادة والعبودية، وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص، والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات وكانت فرقاناً بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك.. فرقاناً بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء، وللقيم والأوضاع، وللشرائع والقوانين، وللتقاليد والعادات .. وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره، ولا متسلط سواه، ولاحاكم دونه، ولامشرع إلا إياه، فارتفعت الهامات لاتنحني لغير الله، وتساوت الرؤوس فلا تخضع إلا لحاكميته وشرعه، وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة.
وكانت فرقاناً بين عهد في تاريخ الحركة الإسلامية،:عهد المصابرة والصبر والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع. والإسلام بوصفه تصويراً جديداً للحياة، ومنهجاً جديداً للوجود الإنساني ونظاماً جديداً للحياة، ومنهجاً جديداً للوجود الإنساني، ونظاماً جديداً للمجتمع، وشكلاً جديداً للدولة، بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير الإنسان في الأرض بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته، ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته (1) .
__________
(1) انظر: في ظلال القرآن (3/1521، 1522).(6/89)
إلى أن قال:وأخيراً فلقد كانت بدر فرقاناً بين الحق والباطل بمدلول آخر، ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى:{ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ صدق الله العظيم لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ صدق الله العظيم }، لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين، إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة. فأراد الله لهم غير ما أرادوا. أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان (غير ذات الشوكة) وأن يلاقوا نفير أبي جهل (ذات الشوكة) وأن تكون معركة وقتال وقتل وأسر، ولاتكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة، وقد قال الله - سبحانه - إنه صنع هذا: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة .. إن الحق لايحق وإن الباطل لايبطل - في المجتمع الإنساني - بمجرد البيان النظري للحق والباطل, ولابمجرد الاعتقاد النظري بأن هذا وهذا باطل، إن الحق لايحق، وإن الباطل لايبطل ولا يذهب من دنيا الناس، إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق، وذلك لايتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا ويهزم جند الباطل ويندحروا.. فهذا الدين منهج حركي واقعي، لامجرد نظرية للمعرفة والجدل: أو لمجرد الاعتقاد السلبي!
ولقد حق الحق وبطل الباطل بالموقعة، وكان هذا النصر العملي فرقاناً واقعياً بين الحق والباطل بهذا الاعتبار الذي أشار إليه قول الله تعالى في معرض بيان إرادته -سبحانه- من وراء المعركة، ومن وراء إخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من بيته بالحق، ومن وراء إفلات القافلة (غير ذات الشوكة) ولقاء الفئة ذات الشوكة.(6/90)
ولقد كان هذا كله فرقاناً بين منهج هذا الدين ذاته، تتضح به طبيعة هذا المنهج وحقيقته في حس المسلمين أنفسهم .. وإنه لفرقان ندرك اليوم ضرورته، حينما ننظر إلى ما أصاب مفهومات هذا الدين من تميع في نفوس من يسمون أنفسهم مسلمين! حتى ليصل هذا التميع إلى مفهومات بعض من يقومون بدعوة الناس إلى هذا الدين! وهكذا كان يوم بدر (يوم الفرقان يوم التقى الجمعان).
بهذه المدلولات المنوعة الشاملة العميقة. والله على كل شيء قدير، وفي هذا اليوم مثل من قدرته على كل شيء، مثل لايجادل فيه مجادل، ولايماري فيه ممار.. مثل من الواقع المشهود، الذي لاسبيل إلى تفسيره إلا بقدرة الله وأن الله على كل شيء قدير (1) .
ثالثاً: الولاء والبراء من فقه الإيمان:
رسمت غزوة بدر لأجيال الأمة صوراً مشرقة في الولاء والبراء، وجعلت خطاً فاصلاً بين الحق والباطل، فكانت الفرقان النفسي والمادي والمفاصلة التامة بين الإسلام والكفر، وفيها تجسدت هذه المعاني فعاشها الصحابة واقعاً مادياً وحقيقة نفسية، وفيها تهاوت القيم الجاهلية، فالتقى الابن بأبيه والأخ بأخيه:
1-كان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة في صف المسلمين وكان أبوه عتبة وأخوه الوليد وعمه شيبة في صف المشركين وقد قتلوا جميعاً في المبارزة الأولى.
2-كان أبو بكر الصديق في صف المسلمين.. وكان ابنه عبدالرحمن في صف المشركين.
__________
(1) انظر: في ظلال القرآن (3/1523،1524).(6/91)
3-كان مصعب بن عمير حامل لواء المسلمين، وكان أخوه أبو عزيز بن عمير في صف المشركين ثم وقع أسيراً في يد أحد الأنصار فقال مصعب للأنصاري شدّ يدك به فإن أمه ذات متاع، فقال أبو عزيز:يا أخي هذه وصيتك بي؟ فقال مصعب:إنه أخي دونك. تلك كانت حقائق وليس مجرد كلمات: إنه أخي دونك (1) ، إنها القيم المطروحة لتقوم الإنسانية على أساسها فإذا العقيدة هي آصرة النسب والقرابة وهي الرباط الاجتماعي (2) .
4-كان شعار المسلمين في بدر(أحد، أحد) وهذا يعني أن القتال في سبيل عقيدة تتمثل بالعبودية للإله الواحد، فلا العصبية ولا القبلية ولا الأحقاد والضغائن ولا الثأر هو الباعث والمحرك ولكنه الإيمان بالله وحده.
ومن هذا المنطلق كانت صور الإيمان مختلفة المظاهر واحدة في مضمونها (3) وللإيمان فقه عظيم ومن هذا الفقه حينما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، هاجر إليها كل من استطاع ذلك من المسلمين في مكة، وحبس من كان مضطهداً ولم يستطع ذلك، فلما كان يوم بدر كان بعض هؤلاء في صف المشركين منهم: عبدالله بن سهيل بن عمرو، والحارث بن زمعة بن الأسود، وأبو قيس بن الفاكه، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه.
فأما عبدالله بن سهيل بن عمرو فقد انحاز من صف المشركين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشهد المعركة، وكان أحد الصحابة الذين نالوا هذا الشرف العظيم (4) .
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (3/307).
(2) انظر: معين السيرة ، ص213.
(3) نفس المصدر، ص213.
(4) انظر: معين السيرة، ص217.(6/92)
وأما الآخرون فلم يفعلوا ذلك، وشهدوا المعركة في صف المشركين وقد أصيبوا جميعاً (1) ، فقتلوا تحت راية الكفر، فنزل في حقهم قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (سورة النساء، آية:97).
قال ابن عباس: كان قوم من المسلمين أقاموا بمكة -وكانوا يستخفون بالإسلام - فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم فقال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا على الخروج فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} إنهم لم يعذروا إذ كانت إمكانات الانتقال إلى صف المؤمنين متوفرة ولم يكن الفاصل كبيراً بين الصفين، ولن يعدموا - لو أرادوا - الفرصة في الإنتقال إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما فعل عبدالله بن سهل (2) .
إن للإيمان مستلزمات تعبر عن صدقه وقوته، ومن مستلزماته استعلاؤه على كل القيم مما سواه، فإذا كان كذلك كان لصحابه الأثر الفعال، والقوة الفاعلة في بناء الحق والخير الذي أراده الله، إن الإيمان يصبغ السلوك، فإذا به يشع من خلال الحركة والجهد، ومن خلال الكلمة والابتسامة، ومن خلال السمت والانفعال، ولذا لم يعذر الذين كانوا في صف المشركين لأن الإيمان الذي ادعوه لم توجد مستلزمات فلم يؤت ثماره (3) .
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/253).
(2) انظر: معين السيرة ، ص217.
(3) انظر: معين السيرة، ص218.(6/93)
ولهذا الفهم العميق لفقه الإيمان ضرب الصحابة الكرام في بدر مُثُلاً عليا لصدق الإيمان، التي تدل على أنهم آثروا رضاء الله ورسوله على حب الوالد والولد والأهل والعشيرة، فلا يعجب المسلم ثناء الله تعالى على هذه المواقف الصادقة في قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة المجادلة، آية:22).
رابعاً: المعجزات التي ظهرت في بدر وماحولها:
من المعجزات التي ظهرت على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدر، إخباره عن بعض المغيبات ومن المعلوم أن علم الغيب مختص بالله تعالى وحده، وقد أضافه الله تعالى إلى نفسه الكريمة في غير ما آية من كتابه العزيز، قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (سورة النمل، آية:65).
وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (سورة الأنعام، آية:59).(6/94)
ومن المعلوم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لايعلمون الغيب ولا اطلاع لهم على شيء منه، فقد قال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} (سورة الأنعام، آية:50). وكما جاءت الأدلة تدل على أن الله تبارك وتعالى قد اختص بمعرفة علم الغيب وأنه استأثر به دون خلقه، جاءت أدلة تفيد أن الله تعالى استثنى من خلقه من ارتضاه من الرسل فأودعهم، ماشاء الله من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (سورة آل عمران، آية:179).
وقال تعالى:{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا صدق الله العظيم إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا صدق الله العظيم } (سورة الجن، آية:26-27) فتخلص من ذلك أن ماوقع على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأخبار بالمغيبات فيوحي من الله تعالى وهو إعلام الله عزوجل لرسوله - صلى الله عليه وسلم - للدلالة على ثبوت نبوته وصحة رسالته وقد اشتهر وانتشر أمره - صلى الله عليه وسلم - بإطلاع الله له على المغيبات (1) وكان لأحداث غزوة بدر نصيب من تلك المعجزات الغيبية منها،
أ-قتل أمية بن خلف:
__________
(1) انظر: موسوعة نظرة النعيم (1/453).(6/95)
فعن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: انطلق سعد بن معاذ معتمراً، قال: فنزل على أمية بن خلف أبي صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمر بالمدينة نزل على سعد، فقال أمية لسعد: ألا تنتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت؟ فبينما سعد يطوف إذا أبو جهل، فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة، فقال سعد: أنا سعد. فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمناً وقد آويتم محمداً وأصحابه؟ فقال: نعم فتلاحيا (1) ، بينهما فقال أمية لسعد: لاترفع صوتك على أبي الحكم، فإنه سيد أهل الوادي. ثم قال سعد: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام، قال فجعل أمية يقول لسعد: لاترفع صوتك وجعل يمسكه فغضب سعد فقال: دعنا عنك فإني سمعت محمداً - صلى الله عليه وسلم - يزعم أنه قاتلك. قال: إياي؟ قال:نعم. قال:والله مايكذب محمد إذا حدث. فرجع إلى امرأته فقال: أما تعلمين ماقال لي أخي اليثربي؟ قالت وماقال؟ قال: زعم أنه سمع محمداً يزعم أنه قاتلي, قالت: فوالله مايكذب محمد. قال: فلما خرجوا الى بدر وجاء الصريخ قالت له امرأته: أما ذكرت ماقال لك أخوك اليثربي؟ قال فأراد أن لايخرج فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي، فسر يوما أو يومين، فسار معهم يومين فقتله الله (2) .
ب-مصارع الطغاة:
__________
(1) تلاحيا: تلاوما وتنازعا. انظر: النهاية (4/243).
(2) البخاري. انظر: الفتح (6/3632).(6/96)
فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- ،قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال، وكنت رجلاً حديد البصر (1) ، فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري. قال فجعلت أقول لعمر:أما تراه؟ فجعل يقول لايراه قال يقول عمر:سأراه وأنا مستلق على فراشي. ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال:إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول: هذا مصرع فلان غداً، إن شاء الله قال فقال عمر:فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا الحدود التي حد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
جـ-إخبار العباس بن عبدالمطلب بالمال الذي دفنه وإعلام عمير بن وهب بالحديث الذي حدث بينه وبين صفوان:
ومن ذلك لما طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عمه دفع الفداء، وأجابه العباس ماذاك عندي يارسول الله، فقال له:أين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلت لها إن أصبت في سفري هذا ،فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبدالله وقثم، قال والله يارسول الله إني لأعلم أنك رسول الله إن هذا الأمر ماعلمه أحد غيري وغير أم الفضل وماحدث به عمر بن وهب لما جاء متظاهراً بفداء ابنه، وهو يريد قتل النبي باتفاق مع صفوان بن أمية، فقد أنبأه نبأ المؤامرة، فكانت سبباً في إسلامه وصدق إيمانه (3) .
__________
(1) حديد البصر: أي نافذ.
(2) مسلم رقم (2873).
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/178).(6/97)
وذكر ابن القيم في زاد المعاد:أن سيف عكاشة بن محض انقطع يومئذ، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - جذلاً من حطب، فقال(دونك هذا)، فلما أخذه عكاشة وهزَّه، عاد في يده سيفاً طويلاً شديداً أبيض، فلم يزل عنده يقاتل به حتى قتل في الردة أيام أبي بكر (1) ، وقال رفاعة بن رافع: رُميتُ بسهم يوم بدر، ففقئت عيني، فبصق فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا لي، فما آذاني منها شيء (2) .
قال الدكتور أبو شهبة: وماينبغي لأحد أن يزعم أن المعجزات الحسية لاضرورة إليها بعد القرآن، فها هي قد بدت آثارها واضحة جلية في إسلام البعض، وتقوية يقين البعض الآخر، وإثبات أنه نبي يوحى إليه، فقد أخبر بمغيبات انتفى في العلم بها كل احتمال إلا أنه خبر السماء، وغير خفي مايحدثه من انقلاب عود أو عرجون في يد صاحبه سيفاً بتاراً في إيمانه وتقوية يقينه، وجهاده به جهاداً لايعرف التردد أو الخور، وحرصه البالغ على أن يخوض المعارك بسيف خرقت به العادة وصار مثلاً وذكرى في الأولين والآخرين (3) .
خامساً:حكم الاستعانة بالمشرك:
__________
(1) انظر: زاد المعاد (3/186) وذكر المحقق أن ابن اسحاق ذكرها من غير سند.
(2) انظر: زاد المعاد (3/186) والأثر فيه خلاف بين التصحيح والتضعيف.
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/178).(6/98)
في غزوة بدر في الأحداث التي سبقتها أراد مشرك أن يلحق بجيش المسلمين وطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - الموافقة على قبوله معهم والاشتراك فيما هم ذاهبون إليه فقال - صلى الله عليه وسلم -:ارجع فلن أستعين بمشرك (1) ، فالحديث يبين أن القاعدة والأصل عدم الاستعانة بغير المسلم في الأمور العامة، ولهذه القاعدة استثناء، وهو جواز الاستعانة بغير المسلم بشروط معينة وهي:تحقق المصلحة أو رجحانها بهذه الاستعانة، وأن لايكون ذلك على حساب الدعوة ومعانيها، وأن يتحقق الوثوق الكافي بمن يستعان به، وأن يكون تابعاً للقيادة الإسلامية، لامتبوعاً، ومقوداً فيها لاقائداً لها، وأن لاتكون هذه الاستعانة مثار شبهة لأفراد المسلمين، وأن تكون هناك حاجة حقيقية لهذه الاستعانة وبمن يُستعان به، فإذا تحققت هذه الشروط جازت الاستعانة على وجه الاستثناء، وإذا لم تتحقق لم تجز الاستعانة، وفي ضوء هذا الأصل رفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشتراك المشرك مع المسلمين في مسيرهم إلى عير قريش، إذ لاحاجة به أصلاً وفي ضوء الاستثناء وتحقق شروطه استعان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمشرك عبدالله بن أريقط - الذي استأجره النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر في هجرتهما إلى المدينة ليدلهما على الطريق إليها ...، وهكذا على هذا الاستثناء وتحقق شروطه قبل - صلى الله عليه وسلم - حماية عمه أبي طالب له، كما قبل جوار أو إجارة المطعم بن عدي له عند رجوعه عليه الصلاة والسلام من الطائف، وكذلك قبول الصحابة الكرام جوار من أجارهم من المشركين ليدفع هؤلاء الأذى عمن أجاروهم (2) ، وضبط هذه القاعدة مع فهم شروط الاستثناء في واقع الحياة يحتاج إلى فقه دقيق وإيمان عميق.
سادساً: حذيفة بن اليمان، وأسيد بن الحضير رضي الله عنهما:
أ-حذيفة بن اليمان ووالده:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (2/355).
(2) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/144،145).(6/99)
قال حذيفة: مامنعنا أن نشهد بدراً إلا أني وأبي أقبلنا نريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذنا كفار قريش فقالوا:إنكم تريدون محمداً، فقلنا: مانريده إنما نريد المدينة، فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لتصيُرن إلى المدينة ولاتقاتلوا مع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فلما جاوزناهم أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا له ماقالوا وماقلنا لهم فيما ترى؟ قال: نستعين الله عليهم ونفي بعهدهم، فانطلقنا إلى المدينة، فذاك الذي منعنا أن نشهد بدراً (1) .
هذه صورة مشرقة في حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - لحفظ العهود وتربية أصحابه على تطبيق مكارم الأخلاق الرفيعة وإن كان في ذلك اجحاف بالمسلمين ومفوت لهم جهد بعض أفراد المجاهدين.
ب- أسيد بن الحضير:
عندما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة قادماً من بدر لقي بالروحاء رؤوس الناس يهنؤنه بما فتح الله عليه، فقال أسيد بن الحضير: يارسول الله الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك، والله يارسول الله ماكان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدواً، ولكن ظننت أنها عير ولو ظننت إنه عدو ماتخلفت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدقت (2) .
سابعاً: الحرب الإعلامية في بدر:
قال حسان رضي الله عنه:
فما نخشى بحول الله قوما
... ... ... وإن كثروا وأجمعت الزحوف
إذا ماألبوا جمعاً علينا
... ... ... كفانا حدهم رب رؤف
سمونا يوم بدر بالعوالي
... ... ... سراعاً ماتضعفنا الحتوف (3)
فلم تُرَ عصبة في الناس أنكى
... ... ... لمن عادوا إذا لقحت كشوف
ولكنا توكلنا وقُلنا
... ... ... مآثرنا ومعقلنا السيوف
لقيناهم بها لما سمونا
__________
(1) انظر: المستدرك للحاكم (3/201-202) هذا حديث صحيح الاسناد وأقره الذهبي.
(2) انظر: البداية والنهاية (3/305).
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/26). الحتوف: جمع حتفن وهو الموت.(6/100)
... ... ... ونحن عصبة وهم ألوف (1)
وقال كعب بن مالك رضي الله عنه:
لما حامت فوارسكم ببدر
... ... ... ولا صبروا به عند اللِّقاء
وردناه بنور لله يجلو
... ... ... دجى الظلماء عنا والغِطاء
رسول الله يقدمنا بأمر
... ... ... من أمر الله أُحكَم بالقضاء
فما ظفرت فوارسكم ببدر
... ... ... ومارجعوا إليكم بالسواء
فلا تعجل أبا سفيان وارقب
... ... ... جياد الخيل تطلع من كداء
بنصر الله روحُ القدس فيها
... ... ... وميكالٌ، فيا طِيبَ الملاء(2)(3)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث شعراء المسلمين على القيام بواجبهم في الدفاع عن المسلمين وإيخافة الأعداء بشعرهم، فقد كان الشعر يمثل الحملات الإعلامية المؤثرة في دنيا العرب فيرفع أقواماً ويخفض آخرين ويشعل الحروب ويطفئها (4) كانت بوادر الحرب الإعلامية قد اندلعت منذ الهجرة، غير أن ظهورها أكثر بدأ مع حركة السرايا قبيل بدر، لكنها انفجرت انفجاراً ضخماً بعد بدر، لأن الجانب الإعلامي للقبائل المجاورة كان هدفاً مهماً من أهداف الفريقين، ويظهر أن القصائد سرعان ما تطير بها الركبان بين يثرب ومكة، فيأتي الرد من الطرف الآخر، فعند النصر تكثر أشعار الفريق المنتصر بينما تكثر المراثي عند الفريق الثاني، وكان الصف الإسلامي يضم شعراء متخصصين، كعب بن مالك وعبدالله بن رواحة وكان أشدهم على الكفار حسان (5) .
المبحث الثامن
أهم الأحداث التي وقعت بين غزوتي بدر وأحد
__________
(1) هذا محمول على المبالغة لأن جيش قريش ماكان يزيد على الألف.
(2) أي ماأطيب الملأ الذين يقودهم جبريل وميكائيل عليهما السلام.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/30).
(4) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/199).
(5) انظر: المنهج الحركي للسيرة النبوية ، ص354،355.(6/101)
في أعقاب غزوة بدر أخذت الهيبة العسكرية للمسلمين مداها الكبير في دائرة واسعة في الجزيرة العربية، وأحس ضعفاء المشركين بالخطر وشعر أقوياؤهم بغلبة الإسلام وبدأت النفوس تتطلع إلى الإيمان فتوسعت دائرة الدخول في الإسلام، ورأى الكثيرون أن يدخلوا في الإسلام نفاقاً أو خديعة وبهذا كله أصبحت الدولة الجديدة أمام أوضاع جديدة من المكر والتألب والتحالفات، ولكن تأييد الله تعالى ثم جهاز أمن الدولة المتيقظ أفشل مخططات أعداء الإسلام (1) .
أولاً: الغزوات التي قادها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد بدر وقبل أحد:
أ-ماء الكدر في بني سليم:
غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد سبع ليال من عودته إلى المدينة من غزوة بدر، وبلغ ماء الكدر في ديار بني سليم الذين قصدهم بغزوته هذه، غير أنه لم يلق حرباً فأقام ثلاث ليال على الماء ثم رجع إلى المدينة (2) ، كان سبب تلك الغزوة تجمع أفراد بني سليم لمقاتلة المسلمين والاعتداء عليهم بعد معركة بدر مباشرة، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجأهم بهجوم سريع غير متوقع، فهرب بنو سليم وتفرقوا على رؤوس الجبال، وبقيت إبلهم مع راع لها يدعى يسار، فاستاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإبل مع راعيها، وعند موضع صرار، على ثلاثة أميال من المدينة، قسّم النبي - صلى الله عليه وسلم - الإبل التي كان عددها خمسمائة بعير على أصحابه، فأصاب الواحد منهم بعيرين، ونال النبي - صلى الله عليه وسلم - خُمْسَها، وكان يسار من نصيبه، ولكنه اعتقه بعد ذلك (3) .
ب-غزوة السويق:
__________
(1) انظر: الأساس في السنّة وفقها السيرة النبوية (1/512).
(2) انظر: موسوعة نظرة النعيم (1/296).
(3) انظر: التاريخ السياسي والعسكري ، ص277.(6/102)
قدم أبو سفيان بمائتي فارس من مكة وسلك طريق النجدية حتى نزلوا حي بني النضير ليلاً واستقبلهم سلاّم بن مشكم سيد بني النضير، فأطعمهم وأسقاهم وكشف لهم عن أسرار المسلمين وتدارس معهم احدى الطرق لإيقاع الأذى بالمسلمين، ثم قام أبو سفيان بمهاجمة ناحية العُريض- واد بالمدينة في طرف حرة واقم - فقتل رجلين وأحرق نخلا وفر عائداً إلى مكة، فتعقبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مائتي رجل من المهاجرين والأنصار، ولكنه لم يتمكن من إدراكهم، لأن أبا سفيان ورجاله قد جدّوا في الهرب، وجعلوا يتخففون من أثقالهم ويلقون السويق (1) التي كانوا يحملونها لغدائهم، وكان المسلمون يمرون بهذه الجرب فيأخذونها، حتى رجعوا بسويق كثير، لذا سميت هذه الغزوة بغزوة السويق، وعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد أن غاب عنها خمسة أيام دون أن يلقى حرباً (2) .
جـ-غزوة ذي أمر:
__________
(1) السويق: هو أن تحمّص الحنطة والشعير ثم يطحن باللبن والعسل والسمن.
(2) انظر: السيرة لابن هشام (3/51)، التاريخ السياسي والعسكري، ص278، 279.(6/103)
جاءت الأخبار من قبل رجال الاستخبارات الإسلامية تفيد بأن رجال قبيلتي ثعلبة ومحارب تجمعوا بذي أمرّ بقيادة دُعْثُور بن الحارث المحاربي، يريدون حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإغارة على المدينة، فاستعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة عثمان بن عفان وخرج في أربعمائة وخمسين من المسلمين بين راكب وراجل، فأصابوا رجلاً بذي القَصَّة يقال له جبّار من بني ثعلبة، كان يحمل أخباراً عن قومه أسرّ بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد دخل في الإسلام، وانضمّ إلى بلال ليتفقه في الدين (1) ، أما المشركون من بني ثعلبة ومحارب مالبثوا أن فرّوا إلى رؤوس الجبال عند سماعهم بمسير المسلمين، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نجد مدة تقارب الشهر دون أن يلقى كيداً من أحد وعاد بعدها إلى المدينة (2) وفي هذه الغزوة أسلم دعثور بن الحارث الذي كان سيد مطاعاً بعد أن حدثت له معجزة على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أصاب المسلمون في هذه الغزوة مطر كثير فابتلت ثياب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل تحت شجرة ونشر ثيابه لتجف، واستطاع دعثور أن ينفرد برسول الله بسيفه، فقال:يامحمد من يمنعك مني اليوم؟ قال: الله. ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:من يمنعك مني. قال لا أحد وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعاً أبداً. فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفه فلما رجع إلى أصحابه فقالوا: ويلك، مالك؟ فقال: نظرت إلى رجل طويل فدفع صدري فوقعت لظهري فعرفت أنه ملك وشهدت أن محمداً رسول الله والله لا أكثر عليه جمعاً وجعل يدعو قومه إلى الإسلام (3) ونزل
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (4/3)، التاريخ الاسلامي والعسكري ، ص279.
(2) انظر: التاريخ السياسي والعسكري ، ص279.
(3) انظر: البداية والنهاية (4/3).(6/104)
في ذلك قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (سورة المائدة، آية:11).
د-غزوة بحران (1) :
كانت هذه الغزوة في شهر جمادي الأولى من السنة الثالثة للهجرة، وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثمائة من المسلمين حتى بلغ بحران بين مكة والمدينة يريد قتال بني سليم فوجدهم قد تفرقوا، فانصرف عنهم، وعاد إلى المدينة بعد أن أمضى خارجها عشر ليال (2) ونلحظ في هذه الغزوات قدرة القيادة الإسلامية على رصد تحركات العدو، ومعرفة قوته، وخططه، ومدده لكي تحطم هذه التجمعات المناوية للدولة الإسلامية الفتية قبل أن يستفحل أمر هذه القبائل، وتصبح خطراً على المدينة.
وهذه الغزوات في هذه الصحراء المترامية الأطراف كانت دورات تدريبية تربوية للصحابة الكرام، وسعدت سرايا الصحابة بقيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، فقد كانت تلك الدورات العملية التدريبية القتالية التربوية مستمرة وتمتد من خمسة أيام إلى شهر، تتم فيها الحياة الجماعية، ويتربى جنود الإسلام على السمع والطاعة، والتدريب المتقن، ويكتسبوا خبرات جديدة تساعدهم على تحطيم الباطل وتقوية الحق.
__________
(1) بحران: كتبها بعضهم بفتح الباء (بَحْران) وبعضهم بضمها.
(2) انظر: المجتمع المدني للعمري، ص61، التاريخ السياسي والعسكري، ص280.(6/105)
لقد كان المنهاج النبوي الكريم يهتم بتربية الصحابة في ميادين النزال ولايغفل عن المسجد النبوي ودوره في صقل النفوس، وتنوير العقول، وتهذيب الأخلاق من خلال وجود المربي العظيم - صلى الله عليه وسلم - الذي أصبحت تعاليمه تشع في أوساط المجتمع من خلال القدوة، والعبادة الخاشعة لله عزوجل، فالمنهاج النبوي الكريم جمع بين الدورات المسجدية، التربوية،والدورات العسكرية التربوية المكثفة لكي يقوي المجتمع الجديد، وترص صفوفه، ويكسب الخبرات لكي تقوم بنشر الإسلام في الآفاق (1) .
س-سرية زيد بن حارثة إلى القَرَدة:
أصبح مشركو مكة بعد هزيمتهم في بدر، يبحثوا عن طريق أخرى لتجارتهم للشام، فأشار بعضهم إلى طريق نجد العراق، وقد سلكوها بالفعل، وخرج منهم تجّار، فيهم أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وحويطب بن عبدالعزّى، ومعهم فضة وبضائع كثيرة، بما قيمته مائة ألف درهم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواسطة أحد أفراد جهاز الأمن الإسلامي يدعى سليط بن النعمان - رضي الله عنه -(2) ، فبعث زيد بن حارثة في مائة راكب لاعتراض القافلة، فلقيها زيد عند ماء يقال له القُرَدة، وهو ماء من مياه نجد، ففرّ رجالها مذعورين، وأصاب المسلمون العير وماعليها، وأسروا دليلها فُرات بن حيّان الذي أسلم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعادوا إلى المدينة، فخمسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووزع الباقي بين أفراد السرية (3) .
ثانياً: غزوة بني قينقاع:
__________
(1) انظر: التربية القيادية (3/118،119).
(2) نفس المصدر (3/132).
(3) انظر: سيرة ابن هشام (3/56).(6/106)
ذكر الزهري أنها وقعت في السنة الثانية للهجرة، وذكر الواقدي وابن سعد أنها وقعت يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثانية (1) ، واتفق معظم من كتب في مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيرته على أنها وقعت بعد معركة بدر، إذ لم يلتزم يهود بني قينقاع بالمعاهدة التي ابرمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - معهم، ولم يوفوا بالتزاماتهم التي حددتها، ووقفوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين مواقف عدائية، فأظهروا الغضب والحسد عندما انتصر المسلمون في بدر، وجاهروا بعداوتهم للمسلمين (2) ، وقد جمعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في سوقهم بالمدينة ونصحهم، ودعاهم إلى الإسلام، وحذّرهم أن يصيبهم ماأصاب قريشاً في بدر (3) ، غير أنهم واجهوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحدي والتهديد رغم ما يفترض أن يلتزموا به من الطاعة والمتابعة لبنود المعاهدة التي جعلتهم تحت رئاسته، فقد جابهوه بقولهم:(يامحمد لايغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لايعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت إنا نحن الناس، وإنك لم تلق مثلنا (4) ، وهكذا بدأت الأزمة تتفاعل إذ لم يكن في جوابهم مايشير إلى الالتزام والاحترام، بل على العكس فإنهم قد أظهروا روحاً عدائياً، وتحدِّ واستعلاء واستعداد للقتال، فأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ صدق الله العظيم قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/299).
(2) انظر: موسوعة نظرة النعيم (1/269).
(3) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (1/276).
(4) نفس المصدر (1/276).(6/107)
لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، آية:12-13).
أ-الأسباب المباشرة للغزو:
لما انتصر المسلمون في بدر وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لليهود ماقال، أضمرت بنو قينقاع نقض العهد الذي بينهم وبين المسلمين، وأخذوا يتحينون الفرصة السانحة لمناوشة المسلمين، حتى جاءتهم فرصتهم الحقيرة الدنيئة عندما جاءت امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ لها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهودياً، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع (1) .
فحين علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك سار إليهم على رأس جيش من المهاجرين والأنصار، وذلك يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثانية للهجرة (2) وكان الذي حمل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه، واستخلف - صلى الله عليه وسلم - على المدينة أبا لبابة بن عبدالمنذر العمري (3) واسمه بشير (4) . وحين سار إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبذ إليهم العهد كما أمره الله تعالى في قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (سورة الأنفال، آية:58).
ب- ضرب الحصار عليهم:
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام (3/54).
(2) انظر: المغازي للواقدي (1/176) ، الطبقات لابن سعد (2/28،29).
(3) انظر: تاريخ الطبري (2/481).
(4) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (1/279).(6/108)
وحين علم اليهود بمقدمه - صلى الله عليه وسلم - تحصنوا في حصونهم، فحاصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة ليلة - كما ذكر ابن هشام (1) واستمر الحصار حتى قذف الله في قلوبهم الرعب واضطروا للنزول على حكمه - صلى الله عليه وسلم -، فقد فاجأهم - صلى الله عليه وسلم - بهذا بأسلوب الحصار، فأربكهم وأوقعهم في حيرة من أمرهم بعد أن قطع عنهم كل مدد وجمد حركتهم، فعاشوا في سجن مما جعلهم في النهاية ييأسون من المقاومة والصبر، فبعد أن كانوا يهددون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبأنهم قوم يختلفون بأساً وشدة عن مشركي قريش، إذا بهم يضطرون للنزول على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) ، فأمر بهم فربطوا، فكانوا يكتفون أكتافاً، واستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي الأوسي (3) .
جـ-مصير يهود بني قينقاع:
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام (3/55).
(2) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس (1/144).
(3) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (1/280).(6/109)
حاول ابن سلول زعيم المنافقين أن يحلّ حلفائه من وثاقهم، فعندما مرّ عليهم قال: حلّوهم: فقال المنذر: أتحلون قوماً ربطهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ والله لايحلهم رجل إلا ضربت عنقه (1) فاضطر عبدالله بن أبي بن سلول أن يتراجع عن أمره ويلجأ إلى استصدار الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - بفك أسرهم (2) ، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال:يامحمد، أحسن في موالي - وكانوا حلفاء الخزرج- قال:فأبطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال يامحمد: أحسن في موالي، قال: فأعرض عنه، فأدخل ابن أبي يده في جيب ودرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرسلني، وغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رأوا لوجهه ظللاً (3) ، ثم قال:ويحك أرسلني، قال: لاوالله، لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربع مائة حاسر، وثلاثة مائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟ إني والله امرؤ أخشى الدوائر: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هم لك (4) .
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (5/32).
(2) نفس المصدر (5/33).
(3) ظللا: جمع ظلة وهي السحابة، استعارها لتغيير الوجه عند الغضب.
(4) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (1/281).(6/110)
فخلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبيلهم ثم أمر بإجلائهم، وغنم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ماكان لديهم من مال، وقد تولى جمع أموالهم وإحصاءها محمد بن مسلمة رضي الله عنه (1) وحاول ابن أبي بن سلول أن يحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يهود بني قينقاع لكي يُقرّهم في ديارهم، فوجد على باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عُويم بن ساعدة الأنصاري الأوسي، فردّه عويم وقال:لاتدخل حتى يأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك، فدفعه ابن أبي، فغلّظ عليه عويم حتى جحش وجه ابن أبي الجدار فسال الدم (2) .
ويظهر في هذا الخبر فقه النبي - صلى الله عليه وسلم - السياسي في تعامله مع ابن سلول حيث لبى طلبه، فلعل هذا الموقف يغسل قلبه، ويزيل الغشاوة عنه فتتم هدايته، فقال له: هم لك، ولعل الذين يسيرون وراء زعامة ابن أبي يصلحون بصلاحه فيتماسك الصف، ويلتحم فلا يتأثر من كيد أعداء الإسلام (3) .
__________
(1) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (1/281).
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (5/30).
(3) انظر: المنهج الحركي للسيرة النبوية للغضبان، 247.(6/111)
وهناك بُعدٌ آخر حيث حرص - صلى الله عليه وسلم - أن يتفادى حدوث فتنة في مجتمع المؤمنين حيث أن بعض الأنصار حديثي عهد بالإسلام ويُخشى أن يؤثر فيهم رأس المنافقين عبدالله بن أبي لسمعته الكبيرة فيهم (1) ، ولذلك سلك - صلى الله عليه وسلم - معه أسلوب المداراة والصبر عليه وعلى إساءاته تجنباً للفتنة وإظهاراً لحقيقة الرجل من خلال تصرفاته ومواقفه عند من يجهلها، ومن ثم يفر الناس من حوله ولايتعاطفون معه، وقد حقق هذا الأسلوب نجاحاً باهراً، فقد ظهرت حقيقة ابن سلول لجميع الناس حتى أقرب الناس إليه ومنهم ولده عبدالله، فكانوا بعدها إذا تكلم أسكتوه، وتضايقوا من كلامه (2) ، بل أرادوا قتله كما سيأتي بإذن الله تعالى .
د- تبرؤ عبادة بن الصامت منهم:
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (5/32).
(2) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس (1/148).(6/112)
لما نقضت العهد بنوقينقاع وكان عبادة بن الصامت أحد بني عوف - لهم من حلف بني قينقاع مثل الذي لهم من عبدالله بن أبي مشى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلعهم إليه، وتبرأ إلى الله عزوجل وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - من حلفهم وقال: يارسول الله، أتولى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم (1) ، ولما تقرر جلاء بني قينقاع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبادة بن الصامت أن يجليهم، فجعلت قينقاع تقول: يا أبا الوليد من بين الأوس والخزرج - ونحن مواليك - فعلت هذا بنا؟ قال لهم عبادة: لما حاربتم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يارسول الله إني أبرأ إليك منهم ومن حلفهم، وكان ابن أبي وعبادة بن الصامت منهم بمنزلة واحدة في الحلف فقال عبدالله بن أبي: تبرأت من حلف مواليك؟ ماهذا بيدهم عندك، فذكّره مواطن قد أبْلَوا فيها، فقال عبادة:يا أبا الحباب، تغيرت القلوب، ومحا الإسلام العهود، أما والله إنك لمُعْصِمٌ بأمر سنرى غِيَّه غداً، فقالت قينقاع: يامحمد، إن لنا ديْناً في الناس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تَعَجَّلوا وضعوا، وأخذهم عبادة بالرحيل والإجلاء، وطلبوا التنفس، فقال لهم: ولاساعة من نهار لكم ثلاث لا أزيد عليها هذا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كنت أنا ما نفستكم، فلما مضت ثلاث، خرج في آثارهم حتى سلكوا إلى الشام وهو يقول: الشرف الأبعد الأقصى فالأقصى، وبلغ خلف الذباب ثم رجع، ولحقوا بأذرعات (2) .
__________
(1) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (1/282،283).
(2) نفس المصدر (1/284،285).(6/113)
وهكذا خرج بنو قينقاع من المدينة صاغرين قد ألقوا سلاحهم وتركوا أموالهم غنيمة للمسلمين وهم كانوا من أشجع يهود المدينة وأشدهم بأساً، وأكثرهم عدداً وعدة ولذلك لاذت القبائل اليهودية بالصمت والهدوء فترة من الزمن بعد هذا العقاب الرادع، وسيطر الرعب على قلوبها وخضدت شوكتها (1) .
س- الآيات التي نزلت في موالاة بني سلول لليهود، وبراءة عبادة بن الصامت منهم:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ صدق الله العظيم فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ صدق الله العظيم وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ صدق الله العظيم يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ صدق الله العظيم إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ صدق الله العظيم وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
__________
(1) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس (1/149).(6/114)
وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ صدق الله العظيم } (سورة المائدة، الآيات:51-56) قال ابن عطية في هذه الآيات: لما انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتلهم، فقام دونهم عبدالله بن أبي بن سلول وكان حليفاً لهم، وكان عبادة بن الصامت من حلفهم مثل مالعبدالله، فلما رأى عبادة منزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وماسلكته اليهود من المشاقة لله ورسوله، جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله. إني أبرأُ إلى الله من حلف يهود وولائهم، ولا أُوالي إلا الله ورسوله، وقال عبدالله بن أبي: أما أنا فلا أبرأ من ولاء يهود، فإني لابد لي منهم، إني رجل أخاف الدوائر (1) .
إن الفرق واضح بين ابن سلول الذي انغمس في النفاق، ومرد عليه، وبين عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي تربى على المنهاج النبوي، فصفت نفسه، وتطهر قلبه، وقوي إيمانه، وتنور عقله، فتخلص من آثار العصبية الجاهلية، والأهواء،والمصالح الذاتية، وقدم مصلحة الإسلام على كل مصلحة، فكان مثلاً حياً للمسلم الصادق، المخلص لعقيدته(2).
ثالثاً: تصفية المحرضين على الدولة الإسلامية، مقتل كعب بن الأشرف:
إن خطر المحرضين على الفتنة لايقل عن خطر الذين يشهرون السيوف لقتال المسلمين، إذ لولا هؤلاء المحرضين لما قامت الفتنة، لذلك أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتتبع هؤلاء المحرضين ويقتلهم إطفاء لنار الفتنة، وتمكيناً للحق، وقد قتل منهم خلقاً بعد موقعة بدر (3) . منهم:
__________
(1) انظر: المحرر الوجيز لابن عطية (1/477،478).
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/302).
(3) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد قلعجي ، ص138.(6/115)
أ-عصماء بنت مروان التي كانت تحرض على النبي وتعيب الإسلام فقد أقدم عمير بن عدي الخطمي- رضي الله عنه - على قتلها، وحين سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك عما إذا كان عليه شيء؟ قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:(نصرت الله ورسوله ياعمير)(1) ، ثم قال:(لاينتطح فيها عنزان)(2) ، وقد أسلم نتيجة ذلك عدد من بني خطمة وجهر بالإسلام منهم من كان يستخفي (3) .
ب-مقتل أبي عفك اليهودي:
كان أبو عفك شيخاً كبيراً من بني عمرو بن عوف وكان يهودياً، يحرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول الشعر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(من لي بهذا الخبيث)؟ فخرج له الصحابي سالم بن عمير فقتله (4) .
وأهم حدث في تصفية المحرضين على الدولة مابين بدر وأحد هو مقتل كعب بن الأشرف.
جـ-مقتل كعب بن الأشرف:
ينتسب كعب بن الأشرف إلى بني نبهان من قبيلة طئ، كان أبوه قد أصاب دماً في الجاهلية فقدم المدينة وحالف يهود بني النضير وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق فولدت له كعب (5) ، وكان شاعراً، ناصب الإسلام وقد غاظه انتصار المسلمين على قريش في معركة بدر فسافر إلى مكة يهجو النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحرّض قريش على الثأر لقتلاهم الذين كان ينوح عليهم ويبكيهم في شعره، ويدعو إلى القضاء على الرسول والمسلمين (6) ومما قاله من الشعر في قتلى بدر من المشركين:
طحنت رحى بدر لمهلك أهله
... ... ... ولمثل بدر تستهل وتدمع
قُتلت سُراةُ الناس حول حياضهم
... ... ... لاتبعدوا إن الملوك تصرع
كم قد أصيب بها من أبيض ماجد ...
__________
(1) سنن ابي داود (4/528-529).
(2) سنن ابي داود، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن سبَّ النبي (4/528،529).
(3) انظر: نظرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/295).
(4) نفس المصدر (1/296).
(5) انظر: السيرة لابن هشام (3/58).
(6) انظر: نظرة النعيم في مكارم اخلاق الرسول الكريم (1/298).(6/116)
... ... ... ذي بهجة تأوي إليه الضّيعُ
ويقول أقوم أقوام أذّل (1) بسخطهم
... ... ... إن ابن الأشرف ظل كعبا يجزع
صدقوا، فليت الأرض ساعة قُتّلوا
... ... ... ظلت تسوخ بأهلها وتصدّع
نبئت أن بني كنانة كلهم
... ... ... خشعوا لقول أبي الوليد وجدّعوا (2)
واستمر كعب بن الأشرف في أذية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهجاء وتشجيع قريش لمحاربة المسلمين، واستغواهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أبو سفيان: أناشدك الله، أدينُنا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ قال: أنتم أهدى منهم سبيلا (3) ، ثم خرج مقبلاً قد أجمع رأي المشركين على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلناً بعد اوته وهجائه (4) .
ولما قدم المدينة أعلن معاداة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرع في هجائه وبلغت به الوقاحة والصلف أن يمتد لسانه إلى نساء المسلمين وشبب بأم الفضل بنت الحارث رضي الله عنها زوجة العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال فيها:
أذاهب أنت لم تَحْلُل بمنقبة
... ... ... وتارك أنت أم الفضل بالحرم
صفراء رادعة لو تعصر انعصرت
... ... ... من ذي القوارير والحنَّاء والكتم (5)
إحدى بني عامر هام الفؤاد بها
... ... ... ولو تشاء شَفَتْ كعباً من السَّقم
لم أر شمسا بليلٍ قبلها طلعت
... ... ... حتى تبدت لنا في ليلة الظُّلم (6)
1-حسان بن ثابت لابن الأشرف بالمرصاد:
__________
(1) انظر: تاريخ الاسلام للذهبي ، ص158.
(2) نفس المصدر ، ص158.
(3) المصدر السابق، ص158.
(4) انظر: تاريخ الاسلام للذهبي، ص158.
(5) رادعة: أي يفوح منها أثر الطيب والزعفران والكتم نبت يخلط بالحناء فيخضب به الشعر فيبقى لونه.
(6) انظر: تاريخ الاسلام للذهبي، ص160.(6/117)
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحث حساناً للتصدي لكعب بن الأشرف، فكان - صلى الله عليه وسلم - يعلم حساناً أين نزل بن الأشرف في مكة؟ فعندما نزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضميرة السهمي وزوجته عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص، فأبلغ - صلى الله عليه وسلم - حسان بن ثابت بذلك فهجاهم لايوائهم ابن الأشرف، فلما بلغ عاتكة بنت أسيد هجاء حسان نبذت رحل اليهودي كعب بن الأشرف وقالت لزوجها: مالنا ولهذا اليهودي؟ ألا ترى مايصنع بنا حسان (1) ؟
وتحول كعب الى أناس آخرين، وكان كلما تحول الى قوم آخرين دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسان وأخبره أين نزل ابن الأشرف فيهجو من نزل عندهم فيطردونه، وظل يلاحقه حتى لفظه كل بيت هناك فعاد الى المدينة راغماً بعد أن ضاقت في وجهه السبل ينتظر مصيره المحتوم وجزاءه الذي يستحقه (2) .
كانت الحرب الاعلامية التي شنها حسان ضد كعب بن الأشرف قد حققت أهدافها وهذه بعض الأبيات التي قالها حسان بن ثابت - رضي الله عنه - في الرد على كعب بن الأشرف:
أبَكَى لكَعْبِ ثم عُلَّ(3) بعبرة
... ... ... منه وعاش مجدعاً لايسمع؟
ولقد رأيت ببطن بدر منهم
... ... ... قتلى تسح لها العيون وتدمع
فابكى فقد أبكيت عبداً راضعاً
... ... ... شبه الكُليب الى الكُلَيْبة يَتْبَع
ولقد شفى الرحمان منا سيداً
... ... ... وأهان قوماً قاتلوه وصُرِّعوا
ونجا وأفْلتِ منهم من قَلْبُه
... ... ... شَغَفٌ يظل لخوفه يتصدع (4)
2- جزاء بن الأشرف:
__________
(1) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس (1/111).
(2) نفس المصدر (1/111).
(3) عل، من العلل، وهو الشرب بعد الشرب، يريد البكاء بعد البكاء.
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/59).(6/118)
لقد قام اليهودي بن الأشرف بجرائم كثيرة، وخيانات عديدة وإساءات متعددة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين والمسلمات القانتات العابدات، وكل جريمة من هذه الجرائم تعد نقضاً للعهد تستوجب عقوبة القتل، فكيف إذا اجتمعت هذه الجرائم كلها في هذا اليهودي الشرير (1) ؟
إن ابن الاشرف بهجائه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإظهاره التعاطف مع أعداء المسلمين ورثاء قتلاهم وتحريضهم على المسلمين يكون قد نقض العهد وصار محارباً مهدور الدم ولذلك (2) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله وقد فصل البخاري خبر مقتله، فقد روى في صحيحه بإسناده الى جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله)، فقام محمد بن مسلمة فقال: يارسول الله، أتحب أن أقتله؟
قال: نعم.
قال: فأذن لي أن أقول شيئاً.
قال: قل.
فأتاه محمد بن مسلمة (3) فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا، وإني قد أتيتك استسلفك، قال: وأيضاً والله لتملنه قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر الى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا وسقاً أو وسقين.
فقال: ارهنوني.
قالوا: أي شيء تريد؟
قال: أرهنوا نساءكم.
قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟
قال: فأرهنوني أبناءكم.
قالوا: كيف نرهنك ابناءنا، فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق أو سقين؟ هذا عار علينا، ولكن نرهنك الأمة.قال سفيان: يعنى السلاح.
فواعداه أن يأتيه، فجاء ليلاً ومعه أبونائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاهم الى الحصن فنزل إليهم، فقالت له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟
فقال: إنما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو نائلة.
__________
(1) انظر: الصراع مع اليهود (1/111).
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/304).
(3) الذي كتب في السيرة النبوية لابن هشام أن الذي جاء كعب بن الأشرف أبو نائلة واسمه سلكان بن سلامة.(6/119)
قالت: أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم.
قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة..
وجاء محمد بن مسلمة برجلين (1) ، وقال: إذا ماجاء فإني قائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فاضربوه فنزل منهم متوشحاً وهو ينفخ منه ريح الطيب..
فقال: أتاذن لي أن أشم رأسك؟
قال: نعم فشمه، ثم أشم أصحابه.
ثم قال: أتأذن لي؟
قال: نعم فلما استمكن منه قال: دونكم فقتلوه، ثم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه (2) .
وجاء في السيرة النبوية لابن هشام أن محمد بن مسلمة مكث ثلاثة أيام بعد أن استعد لقتل كعب بن الأشرف لا يأكل ولا يشرب إلاَّ مايُعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعاه، فقال له: (لم تركت الطعام والشراب)؟
فقال: يارسول الله ، قلت لك قولاً لا أدري هل أفين لك به أم لا؟
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما عليك الجهد).
فقال: لابد لنا من أن نقول. قال: (قولوا مابدالكم) (3) .
وجاء في السيرة النبوية عن ابن اسحاق، بإسناد حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مشى معهم الى بقيع الغرقد ثم وجههم فقال: (انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم) (4) .
__________
(1) وفي كتب السيرة أن الذين قاموا بقتله خمسة نفر هم: محمد بن مسلمة، وسلطان بن سلامة بن وقش، وهو أبو نائلة، أحد بني عبد الأشهل، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وقش، أحد بني عبد الأشهل وأبو عيسى بن جبر أحد بني حارثة هؤلاء قدموا أبا نائلة ليحدث كعب بن الأشرف.
(2) البخاري في المغازي، باب قتل كعب بن الأشرف رقم 4037.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/61).
(4) نفس المصدر (3/62).(6/120)
( إن في مقتل كعب بن الأشرف دروساً وعبراً وفوائداً في فقه النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعامله مع خصوم الاسلام والدولة الاسلامية، فقد أتضح أن عقوبة الناقض للعهد القتل وهذا ماحكم به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعقوبة المعاهد الذي يشتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويؤذيه بهجاء أو غيره هي القتل وهذا ماكان لابن الأشرف، ويؤخذ من هذا أن شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم - سواء كان معاهداً أو غيره تضرب عنقه عقوبة له، وقد أجاد شيخ الاسلام ابن تيمية في تفصيل هذه الاحكام في كتابه القيم الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
( يؤخذ من طريقة تنفيذ حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - باليهودي ابن الأشرف أن الحكم قد تقتضي المصلحة العامة للمسلمين أن ينفذ سراً، ويتأكد هذا إن كان يترتب على تنفيذه بغير هذه الصورة السرية فتنة أو خطر قد يكلف المسلمين باهظاً (1) . وقد بينت هذه الصورة على أن مواجهة الكفار أعداء الاسلام ومحاربي الدولة الاسلامية لا يقتصر على مواجهتهم في ميدان المعارك، وإنما يتعدى ذلك الى كل عمل تحصل به النكاية بالأعداء مالم يكن إثماً، وقد يوفر القضاء على رجل له دوره البارز في حرب المسلمين جهوداً كبيرة وخسائر فادحة يتكبدها المسلمون.
__________
(1) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس (1/115).(6/121)
وهذا مشروط بالأمن من الفتنة، وذلك بأن يكون للمسلمين شوكة، وقوة ودولة، بحيث لايترتب على نوعية هذا العمل فتك بالمسلمين، واجتثاث الدعاة من بلدانهم، وإفساد في مجتمعاتهم (1) ، وقد أخطأ بعض المسلمين في العالم الاسلامي وتعجل الصدام المسلح واستدلوا على ماذهبوا إليه بمثل هذه الحادثة ولا حجة لهم فيها لأن ذلك كان بالمدينة، وللمسلمين شوكة ودولة، أم هم فليس لهم دولة ولا شوكة، ثم كان ذلك إعزاز للدين وإرهاباً للكافرين وكانت كلها مصالح لا مفسدة معهأ، أما مايحدث في فترات الاستضعاف من هذ الحوادث فإنها يعقبها من الشر والفساد واستباحة دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم مالايخفى على بصير (2) .
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم بمحاولة تصفية لأي أحد من المشركين في مكة مع القدرة على قتل زعماء الشرك كأبي جهل، وأمية بن خلف، وعتبة، ولو أشار الى حمزة أو عمر بذلك أو غيرهم من الصحابة، لقاموا بتنفيذ ذلك، ولكن الهدي النبوي الكريم يعلمنا أن فقه قتل زعماء الكفر يحتاج الى شوكة وقوة، كما أن هذا الفقه يحتاج الى فتوى صحيحة من أهلها، واستيعاب فقه المصالح والمفاسد وهذا يحتاج الى علماء راسخين حيث تتشابك المصالح في عصرنا، وحيث للرأي العام دوره الكبير في قرارات الدول، وحيث احتمالات توسع الأضرار (3) .
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي (5/54).
(2) انظر: وقفات تربوية مع السيرة النبوية ، ص205.
(3) انظر: الأساس في السنّة وفقهها السيرة النبوية (2/537).(6/122)
( ونحلظ قيمة الكلمة عند الصحابة رضي الله عنهم في موقف محمد بن مسلمة - رضي الله عنه - بعد أن أعطى كلمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعهد فيها بقتل اليهودي بن الأشرف ثم أبطاءه في ذلك أعيته الحيلة بقيام صعوبات في سبيل تحقيق ماوعد حيث ا متنع عن الطعام والشراب وأصابه الغم والحزن لأنه قال قولاً يخشى أن لايستطيع الوفاء به، ونلاحظ في مجتمعاتنا المعاصرة أن كثير من الناس يعطون عهوداً ومواثيق ولا يقدرون قيمتها ويخفرون ذمتهم، ويتراجعون عن عهودهم ومواثيقهم وتبقى حبر على ورق، فهؤلاء ليسوا أصحاب مبادئ ومواقف يبتغى بها وجه الله، بل هم أصحاب مصالح ومنافع يخشى عليهم أن يعيدوها من دون الله.
إن أصحاب الدعوات يؤثرون أن تندق أعناقهم وأن تضوي أجسامهم وتزهق أرواحهم على أن يتراجعوا عن كلماتهم وعهودهم ومواثيقهم، يستعذبون الموت والعذاب في سبيل عقائدهم وإسلامهم (1) .
( في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما عليك الجهد)(2) فيه توجيه نبوي كريم أن النصر لايأتي إلا بعد بذل الجهد والصبر عند الابتلاء قال تعالى:{ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (سورة هود، آية49). وعلى المسلم أن يفرغ كل مافي وسعه من جهد فكري وطاقة جسمية في سبيل تحقيق ماوعد، ثم يتوكل على الله بعد ذلك في النتائج (3) .
__________
(1) انظر: الصراع مع اليهود (1/119).
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/61).
(3) انظر: الصراع مع اليهود (1/120).(6/123)
( وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (قولوا مابدالكم) (1) ، فقه نبوي كريم؛ فقد قالوا كلاماً هو في الأحوال العادية كفر، ومن هنا تعرف أنه من أجل تحقيق المهام العسكرية فلا حدود، للكلام الذي يقال، ولكن تأتي هنا مسألة أخرى وهي ماإذا كان النجاح في المهام العسكرية يقتضي افعالاً لا تجوز أو يقتضي ترك فرائض فما العمل؟ المعروف أنه ليس هناك من الذنوب أعظم من الكفر والشرك، فإذا جاز التظاهر بالكفر لذلك فمن باب أولى جواز غيره، على أن يتأكد طريقاً للوصول الى الهدف أو يغلب الظن على ذلك، وعلى أن يقتصر فيه على الحد الذي لابد منه، سواء كانت الوسيلة تأخير فريضة أو ارتكاب محظور، على أن هذا وهذا مقيدان بالفتوى فهناك محظورات لايصح فعلها بحال، كالزنا واللواط (2) .
هناك بعض القضايا تحتاج لأهل الفتوى المؤهلون لأن يفتوا فيها، خصوصاً في الظروف الاستثنائية والحالات الاضطرارية وفي المحكات السياسية والعسكرية لانها تحتاج الى الموازنات والفتاوى الاستثنائية التي لايستطيعها كل إنسان، فالأحكام الأصلية ليست مجهولة، وإنما الأحكام الاستثنائية التي تقتضيها الظروف الاستثنائية تحتاج الى علماء ربانيين، وفقهاء راسخين لهم القدرة على فهم مقاصد الشريعة، وواقعهم الذي يعيشون فيه (3) .
( وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (قولوا مابدأ لكم)، فقه عظيم يوضحه قوله - صلى الله عليه وسلم - (الحرب خدعة) (4) .
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/61).
(2) انظر: الأساس في السنّة وفقهها السيرة النبوية (2/537،538).
(3) نفس المصدر (2/537،538).
(4) صحيح مسلم رقم 1740، ص1362.(6/124)
( قوله - صلى الله عليه وسلم -: (انطلقوا على اسم الله، اللهم اعنهم)(1) كان لهذا التذكير بالاخلاص في الجهاد، انطلقوا على اسم الله والدعاء لهم بالتوفيق والعون كل ذلك كان حافزاً على الثبات ورافعاً للمعنويات فلم يعبأوا بقوة ابن الأشرف ومن حوله من الناس لأنهم استشعروا معية الله لهم ودعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ربه بإعانتهم وتحقيق مسعاهم، ونلحظ في الهدي النبوي الأخذ بكافة الأسباب المادية، والتخطيط السديد، ولا يُنسى جانب الدعاء النبوي الكريم فإنهم لم يغفلوا الأسباب الموصولة بهم الى نجاح مقصودهم لأن المسلم مأمور بالجمع بين التوكل على الله تعالى والأخذ بالأسباب التي شرعها الله سبحانه (2) ولذلك كانت خطة محمد بن مسلمة مع إخوانه محكمة واتقنوا فقه سنّة الأخذ بالأسباب، فقد كانت الأسباب التي ساعدت على نجاح الخطة كالتالي:
إن أبا نائلة كان أخاه من الرضاعة وهو يطمئن إليه ولا يتوجس منه خيفة.
وفي بعض الروايات، طمأن أبو نائلة كعب بن الأشرف وأدخل الأنس الى قلبه بمناشدته في الشعر قبل أن يحدثه عن حاجته.
ولم يحدثه عن حاجته الى كعب حتى أخرج كعب الذي عنده كان من سبل التوفيق، ولو بقي أولئك النفر لربما قد كشفوا حقيقة الأمر وحذروا كعباً من عاقبته، فحديثهم معه على انفراد كان في غاية التوفيق.
تظاهرهم بالنيل والتبرم والتظلم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - طمأن كعب بن الأشرف.
فكرة رهن السلاح كانت في غاية التوفيق حتى يكون اصطحابهم للسلاح غير مريب ولا يبعث على الريبة، ذلك لأنهم أحضروا ماسيرهنونه الى كعب، وفي نفس الوقت يستطيعون أن يستخدموا هذا السلاح في أي وقت التقوا به.
أخذ الموعد من كعب بن الأشرف كان إحكاماً في الخطة بحيث يتسنى لهم في أي وقت من الليل أن يأتوه ويطرقوا عليه الباب دون أن يشك فيهم وفي نيتهم.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/61).
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (5/56).(6/125)
اطمئنان ابن الأشرف الى أبي نائلة ومحمد بن سلمة جعله يخرج في وقت لايخرج فيه الإنسان من بيته عادة تحسباً لقتال عدو على حين غرة وغفلة (1) .
إن خطة إبعاد ابن الأشرف عن بيته الى مكان يخلو به دون رقيب أو نصير كانت موفقة.
استدراج أبي نائلة لابن الأشرف وشمه طيب راسه وأمساكه بشعره ليشمه كان موفقاً وتقدمة ليمسك بهذا الرأس الخبيث ويتمكن منه لتكون الفرصة سانحة لتنفيذ حكم الله في هذا اليهودي اللعين (2) .
وتظهر قدرة الصحابة الفائقة على الحفاظ على السرية وذلك من كتمان هذه الخطة مع كثرة من في المدينة من اليهود والمنافقين ومع تأخر تنفيذها وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض هذا الأمر في مشهد من الصحابة وجرت فيه مشورة، وهذا دليل على قوة إيمان هؤلاء الصحابة وإخلاصهم لدينهم (3) .
وقام هؤلاء المغاوير بتنفيذ أدوار الخطة المحكمة التي اتفقوا عليها وأدركوا مقصودهم الأسمى، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم بإحساسه الكبير ومشاعره الفياضة، فقد كانوا يقومون بتفيذ ا لعملية بعقولهم وأجسامهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتولى قيادتها العليا بالاتصال بالله تعالى ودعائه لهم بالنصر والإعانة (4) .
3- أثر مقتل اليهودي ابن الأشرف على اليهود:
__________
(1) انظر: الصراع مع اليهود (1/122).
(2) نفس المصدر (1/122).
(3) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (5/56).
(4) نفس المصدر (5/57).(6/126)
انتشر خبر مقتل ابن الأشرف في المدينة، فأسرع أحبار اليهود الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشتكون ويحتجون على مافعله أصحابه، فلم يحفل النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم، بل أكد مقتله الذي كان نتيجة حتمية لموقفه المعادي، وقد أوقعت هذه الحادثة الرعب في نفوس اليهود جميعهم، فلم يعد أحد من عظمائهم يجرؤ على الخروج من حصنه، كما لم يعد أحد من يهود المدينة إلا ويخاف على نفسه من المسلمين (1) ، واضطر اليهود لتجديد المعاهدة، وكان لمقتل كعب بن الأشرف أثر عميق في نفوسهم، فمضوا يكيدون للإسلام، كما سيتبين من الأحداث، ومن الجدير بالذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخد بني النضير بجريرة كعب بن الأشرف واكتفى بقتله جزاء غدره وجدد المعاهدة معهم (2) ، ومن الفقه النبوي في معاملة اليهود، نستفيد أن العلاج الأمثل لليهود هو زجرهم وإرهابهم وقتل أهل الفتن فيهم ومطاردتهم لأنه أهل شرور لايتخلصون منها ولا يتوقفون عنها (3) .
رابعاً: بعض المناسبات الاجتماعية:
أ- زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفصة بنت عمر:
قال عمر - رضي الله عنه -: حين تأيمت (4) حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوفي في المدينة، فقال عمر: (أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة بنت عمر، قال: فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالٍ، ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا.
قال عمر: فلقيت أبابكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فلم يرجع إليَّ شيئاً، فكنت عليه أوجد مني على عثمان.
__________
(1) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص188.
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/304).
(3) انظر: الصراع مع اليهود (1/126).
(4) تأيمت: مات عنها زوجها.(6/127)
فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنكحتها إياه، فلقيني ابوبكر فقال: لعلك وجدت عليّ حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟
قال عمر: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي، إلا أني كنت علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو تركها رسول الله قبلتها) (1) .
ب- زواج علي - رضي الله عنه - بفاطمة رضي الله عنها:
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: خطبت فاطمة الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت مولاة لي: هل علمت أن فاطمة قد خطبت الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت : لا. قالت: فقد خطبت، فما يمنعك أن تأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيزوجك. فقلت: وعندي شيء أتزوج به! فقالت: إنك إن جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجك.
قال: فوالله مازلت ترجيني حتى دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أن قعدت بين يديه أفحمت، فوالله مااستطعت أن أتكلم جلالة وهيبة.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ماجاء بك؟ ألك حاجة؟ فسكت، فقال: (لعلك جئت تخطب فاطمة؟ فقلت: نعم، فقال: (وهل عندك من شيء ستحلها به؟) فقلت: لا والله يارسول الله. فقال: (مافعلت درع سلحتكها؟ فوالذي نفس علي بيده إنها لحطمية ماقيمتها أربعة دراهم)، فقلت: عندي. فقال: (قد زوجتكها) فابعث إليها بها فاستحلها بها) فإنها كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) ، وقد جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة في خميل (3) وقربة ووسادة أدم (4) ، حشوها إذخر (5) ) (6) .
__________
(1) البخاري ، كتاب النكاح، رقم 5122.
(2) انظر: دلائل النبوة للبيهقي (3/160) اسناده حسن.
(3) خميل: القطيفة.
(4) الأدم: الجلد.
(5) إذخر:
(6) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص267.(6/128)
وهكذا كانت حياتهم في غاية البساطة بعيدة عن التعقيد وهي الى شظف العيش أقرب منها الى رغده (1) ، وهذه القصة تصور لنا حال السيدة فاطمة من التعب وموقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها عندما طلبت منه أن يعيطها خادماً من السبي، فقد جاء في مسند الإمام أحمد: (قال علي لفاطمة ذات يوم والله لقد سنوت (2) حتى لقد اشتكيت صدري، قال: وجاء الله أباك بسبي فاذهبي فا ستخدميه (3) ، فقالت: أنا والله قد طحنت حتى مجلت يدي (4) .
فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ماجاء بك أي بنية؟ قالت: جئت لاسلم عليك واستحيت أن تسأله ورجعت. فقال: مافعلت؟ قال: استحييت أن أسأله. فأتينا جميعاً. فقال: علي يارسول الله والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت: فاطمة قد طحنت حتى مجلت يداي وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله لاأعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى (5) ، بطونهم لا أجد ماأنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم فرجعا فأتاهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما، فثارا، فقال: مكانكما. ثم قال ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ قال: بلى. فقال كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام فقال: تسبحان في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدان عشراً، وتكبران عشر، وإذا أويتما الى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين (6) .
__________
(1) انظر: معين السيرة، ص255.
(2) سنوت: استقيت.
(3) أي اسأليه خادماً.
(4) مجلت يدي: ثخن جلدها وتعجر.
(5) نظوى: طوى من الجوع فهو طاو خالي البطن جائع لم يأكل .
(6) انظر: الفتح الرباني (17/260) رقم 90.(6/129)
وهكذا كان الهدي النبوي في تربية أهل بيته وأقربائه لقد أخفقت مساعي السيدة فاطمة وعلي رضي الله عنهما للحصول على خادم، لأن السبي يريد - عليه الصلاة والسلام- أن يبيعه، وينفق ثمنه على أهل الصفة الذي يتلوون من الجوع، فهم أيضاً من خاصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل علي وفاطمة، والطعام مقدم على الخدمة (1) ، ولقد تأثر علي - رضي الله عنه - بهذه التربية النبوية، ويمر الزمن بالفتى على فيصبح خليفة المسلمين، فاذا به من آثار هذه التربية يترفع عن الدنيا وزخارفها وبيده كنوز الأرض وخيراتها، لأن ذكر الله يملأ قلبه ويغمر وجوده، ولقد حافظ على وصية رسول الله له وقد حدثنا عن ذلك فقال: فوالله ماتركتهن منذ علمنيهن فسأله أحد أصحابه ولا ليلة صفين فقال: ولا ليلة صفين (2) ، وكان كما وصفه ضرار بن ضمرة في مجلس معاوية: (....يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ماقصر، ومن الطعام ماجشب...) (3) .
الفصل التاسع
غزوة أُحد
المبحث الأول
أحداث ماقبل المعركة
أولاً: أسباب الغزوة:
كانت أسباب غزوة أحد متعددة منها؛ الديني، والاجتماعي، والاقتصادي والسياسي.
أ- سبب الديني:
__________
(1) انظر: التربية القيادية (3/100).
(2) انظر: الإصابة في تميز الصحابة (8/159).
(3) انظر: صفة الصفوة لابن الجوزي (1/84).(6/130)
فقد أخبر المولى عز وجل أن المشركين ينفقون أموالهم في الصد عن سبيل الله، وإقامة العقبات أمام الدعوة الاسلامية، ومنع الناس في الدخول في الاسلام والسعي للقضاء على الاسلام والمسلمين ودولتهم النائشة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (سورة الانفال، الآية 36).
قال الطبري: يصرفون أموالهم وينفقونها؛ ليمنعوا الناس عن الدخول في الاسلام(1).
وقال ابن كثير: أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع الحق(2).
وقال الشوكاني: والمعنى أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم هو الصد عن سبيل الحق بمحاربة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمع الجيوش لذلك(3).
من هذا يظهر أن أهم أسباب غزوة أحد هو السبب الديني الذي كان من أهداف قريش للصد عن سبيل الله، واتباع طريق الحق، ومنع الناس من الدخول في الاسلام، ومحاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والقضاء على الدعوة الاسلامية(4).
ب- سبب اجتماعي:
__________
(1) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، محمد بامدحج، ص71.
(2) انظر: تفسير ابن كثير (2/341) طبع دار السلام.
(3) انظر: فتح القدير (309).
(4) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية ، ص71.(6/131)
كان للهزيمة الكبيرة في بدر، وقتل السادة والاشراف من قريش وقعاً كبيراً من الخزي والعار الذي لحق بهم، وجعلهم يشعرون بالمذلة والهزيمة ولذلك بذلوا قصارى جهدهم في غسل هذه الذلة والمهانة التي لصقت بهم ولذلك شرعوا في جمع المال لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فور عودتهم من بدر، قال ابن اسحاق: (لما اصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب، ورجع فَلُّهُم الى مكة، ورجع أبوسفيان بعيرهم فأوقفها بدار الندوة، وكذلك كانوا يصنعون، فلم يحركها ولا فرقها، فطابت أنفس أشرافهم أن يجهزوا منها جيشاً لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمشى عبدالله بن ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن هشام، وحويطب بن عبدالعزى، وصفوان بن أمية في رجال ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير تجارة من قريش، فقالوا: إن محمداً قد وتركم ، وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منا، فقال ابو سفيان: أنا أول من أجاب الى ذلك(1).
ودعا جبير بن مطعم غلاماً له حبشياً يقال له: وحشي، يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ لها فقال: اخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بعمي طعيمة بن عدي، فأنت عتيق(2).
ج- سبب اقتصادي:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/68).
(2) نفس المصدر (3/79).(6/132)
كانت حركة السرايا التي تقوم بها الدولة الاسلامية قد أثرت على اقتصاد قريش وفرضت عليهم حصاراً اقتصادياً قوياً، وكان الاقتصاد المكي قائماً على رحلتي الشتاء والصيف، رحلة الشتاء الى اليمن وتحمل إليها بضائع الشام ومحاصيلها، ورحلة الصيف الى الشام تحمل إليها محاصيل اليمن وبضائعها، وقطع أحد جناحي هاتين الرحلتين ضر للجناح الآخر، لأن تجارتهم الى الشام قائمة على سلع اليمن، وتجارتهم الى اليمن قائمة على سلع الشام(1) قال تعالى: { لإِيلافِ قُرَيْشٍ صدق الله العظيم إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ صدق الله العظيم فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ صدق الله العظيم الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَءَامَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ صدق الله العظيم }(سورة قريش).
ويشير الى هذا قول صفوان بن أمية: (إن محمداً وأصحابه قد عوزوا علينا متاجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه، وهم لايبرحون الساحل، قد وادعهم(2)، ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك، وإن أقمنا نأكل رؤوس أموالنا ونحن في ديارنا هذه مالنا بها بقاء، وإنما نزلناها على التجارة الى الشام في الصيف وفي الشتاء الى الحبشة) (3).
د- سبب سياسي:
فقد أخذت سيادة قريش في الانهيار بعد غزوة بدر، وتزعزع مركزها بين القبائل بوصفها زعيمة لها، فلابد من رد الاعتبار والحفاظ على زعامتها مهما كلفها الأمر من جهود ومال وضحايا، هذه أهم الأسباب التي جعلت قريش تبادر الى المواجهة العسكرية ضد الدولة الاسلامية بالمدينة(4).
ثانياً: خروج قريش من مكة الى المدينة:
__________
(1) انظر: غزوة احد دراسة دعوية، ص74.
(2) وادعهم: أي صالحهم وسالمهم.
(3) انظر: المغازي للواقدي (1/195-196).
(4) انظر: غزة أحد دراسة دعوية ، ص75.(6/133)
استكملت قريش قواها في يوم السبت لسبع خلون من شوال من السنة الثالثة من الهجرة(1)، وعبأت جيشها المكون من ثلاثة آلاف مقاتل مصحبين معهم النساء والعبيد ومن تبعها من القبائل العربية المجاورة، فخرجت قريش بحدها وحديدها وأحابيشها(2)، ومن تبعها من كنانة وأهل تهامة. وخرجوا بالظعن(3)، التماس الحفيظة، لئلا يفروا.
فخرج ابو سفيان، وهو قائد الناس بهند ابنة عتبة بن ربيعة(4)، وخرج صفوان بن أمية بن خلف ببرزة ابنة مسعود الثقية، وخرج عكرمة بن أبي جهل بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة، وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة(5)....فأقبلوا حتى نزلوا ببطن السبخة من قناة، على شفير الوادي مما يلي المدينة(6).
كانت التعبئة القرشية قد سبقتها حملة إعلامية ضخمة تولى كبرها، أبو عزة عمرو بن عبدالله الجمحي، وعمرو بن العاص، وهبيرة المخزومي، وابن الزبعرى وقد حققت نتائج كبيرة(7)، وبلغت النفقات الحربية لجيش قريش خمسين ألف دينار ذهباً(8).
ثالثا: الاستخبارات النبوية تتابع حركة العدو:
__________
(1) البداية والنهاية (4/11) ، الواقدي ، المغازي (1/199).
(2) الأحابيش: من اجتمع الى العرب وانضم إليهم.
(3) الظعن: النساء، واحدتها ظعينة والظعينة المرأة في الهودج .
(4) انظر: الإصابة (8/346) رقم 11860.
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/70).
(6) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص78.
(7) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص17.
(8) نفس المصدر، ص16(6/134)
كان العباس بن عبدالمطلب يرقب حركات قريش واستعداداتها العسكرية، فلما تحرك هذا الجيش بعث العباس رسالة مستعجلة الى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ضمنها جميع تفاصيل الجيش، وأسرع رسول العباس بإبلاغ الرسالة، وجدّ في السير حتى إنه قطع الطريق بين مكة والمدينة -التي تبلغ مساحتها الى خمسمائة كيلومتراً- في ثلاثة أيام وسلم الرسالة الى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مسجد قباء(1).
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتابع أخبار قريش بدقه بواسطة عمه العباس، قال ابن عبدالبر: (وكان -رضي الله عنه- يكتب بأخبار المشركين الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان المسلمون يتقوّوْن به بمكة، وكان يحب أن يقدم على رسول الله فكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مقامك في مكة خير)(2).
كانت المعلومات التي قدمها العباس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - دقيقة فقد جاء في رسالته: (إن قريش قد أجمعت المسير إليك فما كنت صانعاً إذا حلّوا بك فاصنعه، وقد توجهوا إليك وهم ثلاثة آلاف وقادوا مائتي فرس وفيهم سبعمائة دارع وثلاثة آلاف بعير وأوعبوا(3) من السلاح)(4).
فقد احتوت هذه الرسالة على أمور مهمة منها:
1- معلومات مؤكدة عن تحرك قوات المشركين نحو المدينة.
2- حجم الجيش وقدراته القتالية وهذا يعين على وضع خطة تواجه هذه القوات الزاحفة.
__________
(1) انظر: الرحيق المختوم، ص250 للمباركفوري.
(2) انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب (2/812).
(3) أوعبوا: خرجوا بجميع ماعندهم من السلاح.
(4) انظر: مغازي الواقدي (1/204).(6/135)
لم يكتفي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعلومات المخابرات المكية، بل حرص على أ ن تكون معلوماته على هذا العدو متجددة مع تلاحق الزمن، وفي هذا إرشاد لقادة المسلمين بأهمية متابعة الأخبار التي يتولد عنها وضع خطط واستراتيجيات نافعة ولذلك أرسل - صلى الله عليه وسلم - الحُباب بن المنذر بن الجموح الى قريش يستطلع الخبر، فدخل بين جيش مكة وحزر عَدَده وعُدَدَه ورجع، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مارأيت؟ قال: رأيت يارسول الله عدداً، حزرتهم ثلاثة آلاف يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، والخيل مائتي فرس، ورأيت دروعاً ظاهرة حزرتها سبعمائة درع، قال: (هل رأيت ظعنا؟) قال: رأيت النساء معهن الدفاف والأكبار(1)... فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أرَدْن أن يحرِّضنّ القوم ويذكرونهم قتلى بدر، هكذا جاءني خبرهم لاتذكر من شأنهم حرفاً، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بك أجول وبك أصول)(2).
كما أرسل - صلى الله عليه وسلم - أنساً ومؤنساً ابني فضالة يتسنطان أخبار قريش، فألفياها قد قاربت المدينة، وأرسلت خيلها وإبلها ترعى زروع يثرب المحيطة بها، وعادا فأخبراه بخبر القوم(3).
__________
(1) الأكبار: جمع كَبَر: والكَبَر، هو : الطبل الذي له وجه واحد وهو فارس معرب.
(2) انظر: مغازي الواقدي (1/207-208).
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/187).(6/136)
وبعد أن تأكد من المعلومات حرص - صلى الله عليه وسلم - على حصر تلك المعلومات على المستوى القيادي خوفاً من أن يؤثر هذا الخبر على معنويات المسلمين قبل أعداد العدة، ولذلك حين قرأ أبي بن كعب رسالة العباس أمره - صلى الله عليه وسلم - بكتمان الأمر، وعاد مسرعاً الى المدينة، وتبادل الرأي مع قادة المهاجرين والأنصار في كيفية مواجهة الموقف، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد أطلع سيد الأنصار سعد بن الربيع على خبر رسالة العباس فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيراً، فاستكتمه إياه؛ فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند سعد، قالت له امرأته، ماقال لك رسول الله ؟ فقال لها لا أم لك وأنت وذاك، فقال: قد سمعت ماقال لك، فأخبرته بما أسر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاسترجع سعد، وقال: يارسول الله، إني خفت أن يفشو الخبر فترى أني أنا المفشي له وقد استكتمتني إياه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خلّ عنها)(1).
وفي هذه الحادثة درس بالغ للعسكريين وتحذيرهم من اطلاع زوجاتهم على اسرارهم العسكرية، وخططهم وأوامرهم، وينبغي الحذر من إفشاء مثل هذه الأسرار لأن إفشائها يهدد الأمة ومستقبلها بكارثة كبرى.
إن تاريخ الأمم والشعوب في القديم والحديث يحدثنا أن كثيراً من الهزائم والمآسي والآلام قد حلت بكثير من الأمم نتيجة لتسرب أسرار الجيوش الى أعدائها عن طريق زوجة خائنة، أو خائن في ثوب صديق أو قريب في الظاهر عدو في الحقيقية والواقع(2).
رابعاً: مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
__________
(1) انظر: السيرة الحلبية (2/489).
(2) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص22.(6/137)
بعد أن جمع - صلى الله عليه وسلم - المعلومات الكاملة عن جيش كفار قريش جمع أصحابه رضي الله عنهم وشاورهم في البقاء في المدينة والتحصن فيها أو الخروج لملاقاة المشركين، وكان رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - البقاء في المدينة، وقال: (إنا في جُنَّة حصينة)(1)، فإن رأيتم أن تقيموا وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن دخلوا علينا قاتلناهم فيها. وكان رأي عبدالله بن أبي بن سلول(2) مع رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن رجالاً من المسلمين ممن كان فاته بدر قالوا: يارسول الله، اخرج بنا الى أعدائنا.
قال ابن كثير: (وأبى كثير من الناس إلا الخروج الى العدو ولم يتناهوا الى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأيه، ولو رضُوا بالذي أمرهم كان ذلك ولكن غلب القضاء والقدر، وعامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدراً، قد علموا الذي سبق لأهل بدر من الفضيلة)(3).
وقال ابن اسحاق: فلم يزل الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان من أمرهم حب لقاء القوم، حتى دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيته ، فلبس لأمته(4)، فتلاوم القوم فقالوا: عرض نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بأمر وعرضتم بغيره، فاذهب ياحمزة فقل لنبي الله - صلى الله عليه وسلم - (أمرنا لأمرك تبع)، فأتى حمزة فقال له: (يانبي الله إن القوم تلاوموا، فقالوا أمرنا لأمرك تبع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنه ليس لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل)(5).
كان رأي من يرى الخروج الى خارج المدينة مبني على أمور منها:
__________
(1) انظر: تاريخ الطبري (2/60).
(2) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص82.
(3) انظر: البداية والنهاية (4/14).
(4) لأمة الحرب: عدتها.
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/71).(6/138)
1- أن الأنصار قد تعاهدوا في بيعة العقبة الثانية على نصرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فكان أغلبهم يرى أن المكوث داخل المدينة تقاعس عن الوفاء بهذا العهد.
2- أن الأقلية من المهاجرين كانت ترى أنها أحق من الأنصار في الدفاع عن المدينة ومهاجمة قريش وصدها عن زروع الأنصار.
3- أن الذين فاتتهم غزوة بدر كانوا يتحرقون شوقاً من أجل ملاقاة الأعداء طمعاً في حصول الشهادة في سبيل الله.
4- أن الأكثرين كانوا يرون أن في محاصرة قريش للمدينة ظفراً يجب ألا تحلم به، كما توقعوا أن وقت الحصار سيطول أمده فيصبح المسلمون مهددين بقطع المؤن عنهم(1).
أما من وجهة نظر من يرى البقاء في المدينة فهو مبني على التخطيط الحربي الآتي:
1- أن جيش مكة لم يكن موحد العناصر وبذلك يستحيل على هذا الجيش البقاء زمناً طويلاً إذ لابد من ظهور الخلاف بينهم إن عاجلاً أو آجلاً.
2- أن مهاجمة المدن المُصممة على الدفاع عن حياضها وقلاعها وبيضتها أمر بعيد المنال وخصوصاً إذا تشابه السلاح عن كلا الجيشيين، وقد كان يوم أحد متشابهاً.
3- أن المدافعين إذا كانوا بين أهليهم فإنهم يستبسلون في الدفاع عن أبنائهم وحماية نسائهم وبناتهم وأعراضهم.
4- مشاركة النساء والأبناء في القتال وبذلك يتضاعف عدد المقاتلين.
5- استخدام المدافعين أسلحة لها أثر في صفوف الأعداء مثل الأحجار وغيرها وتكون إصابة المهاجمين في متناولهم(2).
__________
(1) انظر: غزوة أحد، احمد عز الدين ، ص51،52.
(2) انظر: القيادة العسكرية للرشيد ، ص374.(6/139)
من الواضح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عوّد أصحابه على التصريح بآرائهم عند مشاورته لهم حتى ولو خالفت رأيه، فهو إنما يشاورهم فيما لانص فيه تعويداً لهم على التفكير في الأمور العامة ومعالجة مشاكل الأمة، فلا فائدة من المشورة إذا لم تقترن بحرية إبداء الرأي، ولم يحدث أن لام الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحداً لأنه أخطأ في اجتهاده ولم يوفق في رأيه، وكذلك فإن الأخذ بالشورى ملزم للإمام، فلابد أن يطبق الرسول - صلى الله عليه وسلم - التوجيه القرآني {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (سورة آل عمران، آية:159). لتعتاد على ممارسة الشورى وهنا يظهر الوعي السياسي عند الصحابة رضوان الله عليهم، فرغم أن لهم إبداء الرأي إلا أنه ليس لهم فرصة على القائد فحسبهم أن يبينوا رأيهم ويتركوا للقائد حرية اختيار مايترجح لديه من الآراء فلما رأوا أنهم ألحوا في الخروج وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عزم على الخروج بسبب إلحاحهم عادوا فاعتذروا إليه، لكن الرسول الكريم علمهم درساً آخر هو من صفات القيادة الناجحة وهو عدم التردد بعد العزيمة والشروع في التنفيذ، فإن ذلك يزعزع الثقة بها ويغرس الفوضى بين الأتباع(1).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/380).(6/140)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عزم على الخروج وقد أعلن حالة الطوارئ العامة، وتجهز الجميع للقتال، وأمضوا ليلتهم في حذر كل يصحب سلاحه ولايفارقه حتى عند نومه، وأمر - صلى الله عليه وسلم - بحراسة المدينة، واختار خمسين من أشداء المسلمين ومحاربيهم بقيادة محمد بن مسلمة - رضي الله عنه -، واهتم الصحابة بحراسة رسول الله، فبات سعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وسعد بن عبادة في عدة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ليلة الجمعة مدججين بالسلاح في باب المسجد يحرسون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1).
خامساً: خروج جيش المسلمين إلى أحد:
أ-من الأسباب المهمة التي اتخذها - صلى الله عليه وسلم - لملاقاة أعدائه اختياره لوقت التحرك والطريق التي تناسب خطته، فقد تحرك بعد منتصف الليل، حيث يكون الجو هادئاً، والحركة قليلة وفي هذا الوقت بالذات يكون الأعداء - غالباً في نوم عميق، لأن الإعياء ومشقة السفر قد أخذ منهم مجهوداً كبيراً.
__________
(1) انظر: غزوة أحد، ص34،35 لأبي فارس.(6/141)
ومن المعروف من نام بعد تعب يكون ثقيل النوم فلا يشعر بالأصوات العالية والحركة الثقيلة قال الواقدي رحمه الله:ونام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أدلج، فلما كان في السَّحَر قال:(أين الأدلاء؟)(1) ثم أنه - صلى الله عليه وسلم - اختار الطريق المناسب الذي يسلكه حتى يصل إلى أرض المعركة وذكر صفة ينبغي أن تتوافر في هذا الطريق وهو السِّرية، حتى لايرى الأعداء جيش المسلمين، فقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه:(من رجل يخرج بنا على القوم من طريق لايمر بنا عليهم؟) فأبدى أبو خيثمة - رضي الله عنه - استعداده قائلاً:أنا يارسول الله، فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم، حتى سلك به في مال لربعي بن قيظي -وفي رواية ابن هشام لمربع بن قيظي-، وكان رجلاً منافقاً ضرير البصر، فلما أحس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المسلمين، قام يحثي في وجوههم التراب، وهو يقول: إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي، وقد ذكر أنه أخذ حفنة من تراب بيده، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يامحمد، لضربت بها وجهك، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال لهم: لاتقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر، وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني الأشهل(2) قبل نهي رسول الله عنه، فضربه بالقوس في رأسه فشجه(3).
__________
(1) انظر: المغازي للواقدي (1/217).
(2) بنو الأشهل: حي من الأنصار.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/73).(6/142)
ولاشك في أن مروره - صلى الله عليه وسلم - بين الأشجار والبساتين يدلنا على حرصه - صلى الله عليه وسلم - على الأخذ بالإحتياطات الأمنية المناسبة في أثناء السير، لأن الطرق العامة تكشف للأعداء عن مقدار قوات المسلمين، وهذا أمر محذور، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - علم الأمة الأخذ بالسرية من حيث المكان، ومن حيث الزمان، لئلا يتعرف الأعداء من معرفة قواتهم فيضعوا الخطط المناسبة لمجابهتها وبذلك يذهب تنظيم القادة وإعدادهم لجيوشهم في مهب الرياح.
وفي هذا الخبر تطبيق عملي لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة إذا تعارضت المصالح، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما مر بالجيش في أرض المنافق مربع بن قيظي وترتب على ذلك إفساد المزرعة لكن فيه مصلحة للجيش باختصار الطريق لهم إلى أحد، فبين - صلى الله عليه وسلم - أن مايكون به مصلحة للدين مقدم على ماسواه من المصالح الأخرى فهنا تعارضت مصلحتان مصلحة عامة ومصلحة خاصة، ومصلحة الدين في هذا الموقف مصلحة عامة وهي مقدمة على المصلحة الخاصة وهي مصلحة المال(1) وقد رتب الشارع الحكيم مقاصد الشرع في تحقيق المنافع لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها(2)، فإذا نظرنا إلى كليات الدين الخمس وأهميتها وجدنا أن هذه الكليات متدرجة حسب الأهمية: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، فما يكون به حفظ الدين مقدم على مايكون به حفظ النفس عند تعارضهما ومايكون به حفظ النفس مقدم على مابه يكون حفظ العقل، ومابه يكون حفظ النسل مقدم على مابه حفظ المال، والترتيب بهذا الشكل من هذه الكليات يحظى باتفاق العلماء(3).
__________
(1) انظر: غزوة أحد ، دراسة دعوية ، ص168.
(2) انظر: ضوابط المصلحة ، محمد رمضان البوطي ، ص23.
(3) انظر: المقاصد العامة للشريعة، يوسف حامد العالم، ص166.(6/143)
إن العلماء المتعمقين في دراسة السيرة النبوية والهدي النبوي الكريم قد استنبطوا قواعد مهمة في تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة منهم، الشاطبي، والعز بن عبدالسلام، فقد قال الشاطبي:(الضابط في ذلك التوازن بين المصلحة والمفسدة فما رجح منها غلب، وإن استويا كان محل إشكال، وخلاف بين العلماء قائم من مسألة انخرام المناسبة تلزم راجحة أو مساوية)(1) وقال العز بن عبدالسلام: (وتقديم المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن، ودرء المفاسد الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود حسن، اتفق الحكماء على ذلك، وكذلك الشرائع ... فإن تساوت الرتب تخيّر، وإن تفاوتت الرتب استعمل الترجيح عند عرفانه)(2)، وقال في موضع آخر: والضابط أنه مهما ظهرت المصلحة الخلية عن المفاسد يعسى في تحصيلها، ومهما ظهرت المفاسد الخلية عن المصالح يسعى في درئها(3).
ب-انسحاب المنافق ابن سلول بثلث الجيش:
__________
(1) انظر: الموافقات للشاطبي (2/651).
(2) انظر: قواعد الأحكام (1/6-7).
(3) نفس المصدر (1/47).(6/144)
عندما وصل جيش المسلمين الشوط(1)، انسحب المنافق ابن سلول بثلاثمائة من المنافقين، بحجة أنه لن يقع قتال مع المشركين، ومعترضاً على قرار القتال خارج المدينة، قائلاً:(أطاع الولدان ومن لارأي له، أطاعهم وعصاني، علام نقتل أنفسنا)(2) وكان هدفه الرئيس من هذا التمرد أن يحدث بلبلة واضطراباً في الجيش الإسلامي لتنهار معنوياته ويتشجع العدو، وتعلو همته، وعمله هذا ينطوي على خيانة عظيمة، وبغض للإسلام والمسلمين، وقد اقتضت حكمة الله أن يمحص الله الجيش ليظهر الخبيث من الطيب حتى لايختلط المخلص بالمغرض، والمؤمن بالمنافق(3)، قال تعالى:{ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} (سورة آل عمران، آية:179).
فالجبن والنكوص هما اللذان كشفا عن طوية المنافقين فافتضحوا أمام أنفسهم وأمام الناس قبل أن يفضحهم القرآن(4) .
ج-موقف عبدالله بن عمرو بن حرام من انخذال المنافقين:
__________
(1) الشواط: اسم حائط -أي بستان- بين المدينة وأحد.
(2) انظر: البداية والنهاية (4/14).
(3) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية ، ص84.
(4) انظر: مرويات غزوة أحد ، حسين أحمد ، ص71.(6/145)
حاول عبدالله بن حرام - رضي الله عنه - إقناع المنافقين بالعودة فأبوا، فقال: ياقوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم؛ فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لانرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه(1). وفي هؤلاء المنخذلين نزل قول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، الآيتين 166-167).
د- بنو سلمة، وبنو حارثة:
ولما رجع ابن ابي سلول وأصحابه همت بنو سَلَمة وبنو حارثة أن ترجعا، ولكن الله ثبتهما وعصمهما، وفي ذلك نزل قوله سبحانه: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (سورة آل عمران، الآية 122) قال جابر بن عبدالله نزلت هذه الآية فينا، بني سلمة، وبني حارثة وماأحب أنها لم تنزل والله يقول {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}(2) (سورة آل عمران، الآية 122).
__________
(1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص277.
(2) البخاري في المغازي، باب إذ همت طائفتان رقم 4051.(6/146)
لقد أثر موقف المنافقين في نفوس طائفتين من المسلمين ففكروا بالعودة الى المدينة، ولكنهم غالبوا الضعف الذي ألم بهم، وانتصروا على أنفسهم بعد أن تولاهم الله تعالى فدفع عنهم الوهن، فثبتوا مع المؤمنين.
وقد ظهر رأيان في أوساط الصحابة تجاه موقف ابن سلول؛ فالأول: يرى قتل المنافقين الذين خذلوا المسلمين بعودتهم وانشقاقهم عن الجيش، والثاني: لايرى قتلهم، وقد بين القرآن الكريم موقف الفريقين(1) في الآية: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا} (سورة النساء، الاية 88).
س- الاستعانة بغير المسلمين:
عندما وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى مكان يدعى الشيخين رأى كتيبة لها صوت وجلبة فقال: ماهذه؟
فقالوا: هؤلاء حلفاء عبدالله بن سلول بن أبي من يهود فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك(2) وهذا أصل وضعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدم الركون الى أعداء الاسلام في الاستنصار بهم(3).
و- رد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الصحابة لصغر سنهم:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (3/382).
(2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص278.
(3) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (3/561).(6/147)
رد النبي - صلى الله عليه وسلم - في معسكره بالشيخين جماعة من الفتيان لصغر أعمارهم، إذ كانوا في سن الرابعة عشر أو دون ذلك، منهم عبدالله بن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وزيد بن ارقم، والبراء بن عازب، وأبو سعيد الخدري، بلغ عددهم أربعة عشر صبياً وقد ثبت أن ابن عمر كان منهم(1)، وأجاز منهم رافع بن خديج لما قيل له: إنه رام، فبلغ ذلك سمرة بن جندب، فذهب الى زوج أمه مرّي بن سنان بن ثعلبة عم أبي سعيد الخدري وهو الذي ربى سمرة في حجره - يبكي وقال له: ياأبت أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رافعاً وردني، وأنا أصرع رافعاً، فرجع زوج أمه ذلك الى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - الى رافع وسمرة فقال لهما تصارعا، فصرع سمرة رافعاً فأجازه كما أجاز رافعاً وجعلهما من جنده وعسكر كتائبه، ولكل منهما مجاله واختصاصه(2).
ونلحظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز رافعاً وسمرة لامتياز عسكري امتازوا به على أقرانهم، وردوا صغار السن خشية أن لايكون لهم صبر على ضرب السيوف، ورمي السهام، وطعن الرماح، فيفروا من المعركة إذا حمي الوطيس، فيحدث فرارهم خلخة في صفوف المسلمين(3).
ونلحظ أن المجتمع الاسلامي يضج بالحركة، ويسعى للشهادة شيباً، وشباباً، وحتى الصبيان يقبلون على الموت ببسالة، ورغبة في الشهادة، تبعث على الدهشة، دون أن يجبرهم قانون التجنيد، أو تدفع بهم قيادة الى ميدان القتال وهذا يدل على أثر المنهج النبوي الكريم في تربية شرائح الأمة المتعددة على حب الآخرة والترفع عن أمور الدنيا.
سادساً: خطة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمواجهة كفار مكة:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/383).
(2) انظر: محمد رسول الله، (3/571).
(3) نفس المصدر (3/572).(6/148)
أ- وضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - خطة محكمة لمواجهة المشركين من قريش حيث اختارالموقع المناسب، وانتخب من يصلح للقتال، ورد من لم يكن صالحاً، واختار خمسين منهم للرماية وشدد الوصية عليهم، وقام بتقسيم الجيش الى ثلاث كتائب، وأعطى اللواء لأحد أفراد الكتيبة، وهذه الكتائب هي:
1- كتيبة المهاجرين، وأعطى لواءها مصعب بن عمير - رضي الله عنه -.
2- كتيبة الأوس من الأنصار، وأعطى لواءها أسيد بن حضير - رضي الله عنه -.
3- كتيبة الخزرج من الأنصار، وأعطى لواءها الحباب بن ا لمنذر- رضي الله عنه -(1).
ب- وكان - صلى الله عليه وسلم - من هديه يحرض أصحابه على قتال الأعداء ويحثهم على التحلي بالصبر في ميادين القتال لكي تتقوى روحهم المعنوية ويصمدوا عند ملاقاة أعدائهم ومن ذلك مافعله يوم أحد، وفي ذلك يقول الواقدي: (ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخطب الناس: ياأيها الناس أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته، والتناهي عن محارمه، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه ثم وطّن نفسه له على الصبر واليقين والجد والنشاط، فإن جهاد العدو شديد كريه، قليل من يصبر عليه إلا من عزم الله رشده، فإن الله مع من أطاعه وإن الشيطان مع من عصاه، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد، والتمسوا بذلك ماوعدكم الله، وعليكم بالذي آمركم فإني حريص على رشدكم، فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف مما لايحب الله ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر)(2).
ويتضح من هذه الخطبة عدة أهداف منها:
1- الحث على الجد والنشاط في ميدان الجهاد.
2- الحث على الصبر عند قتال الأعداء.
3- بيان مساوئ الاختلاف والتنازع(3).
__________
(1) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص89.
(2) انظر: مغازي الواقدي (1/221-222).
(3) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ص469.(6/149)
إن هذا الهدي المبارك الذي سنه - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا حقائق ثابتة وهي أن الجيوش مهما عظم تسليحها وتنظيمها فإن ذلك لايغني شيء إلا اذا حملته نفوس قوية تحرص على الموت أشد من حرصها على الحياة، وهذا يكون بتعبئة الجنود بالمواعظة والتوجيه وغرس حب الجهاد والشهادة في نفوسهم.
ج- أدرك الرسول - صلى الله عليه وسلم - أهمية جبل أحد لحماية جيش المسلمين، فعندما وصل جيش المسلمين الى جبل أحد جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظهورهم الى الجبل ووجوههم الى المدينة، وانتقى خمسين من الرماة تحت إمرة عبدالله بن جبير(1) ووضعهم فوق جبل عينين المقابل لجبل أحد، وذلك يمنع التفاف جيش المشركين حول جيش المسلمين، وأصدر أوامره إليهم قائلاً: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزَمْنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم)(2).
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجيش: لاتبرحوا حتى أوذنكم وقال: لا يقاتلن أحد حتى آمره بالقتال.
وقال لأمير الرماة: انضح الخيل عنا بالنبل لايأتونا من خلفنا، واثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا. وقال للرماة: الزموا مكانكم لا تبرحوا منه، فإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا وارشقوهم بالنبل فإن الخيل لاتقدّم على النبل، إنا لن نزال غالبين مامكثتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم)(3).
سيطر المسلمون على المرتفعات وتركوا الوادي لجيش مكة ليواجه أحد وظهره الى المدينة، وأصبحت مهمة الرماة في النقاط التالية: احتلال الموقع، حماية المسلمين من الخلف، صد الخيل عن المسلمين(4).
د- تسوية الصفوف، وتنظيم الجيش:
__________
(1) انظر: الاصابة (2/278).
(2) انظر: البخاري في المغازي، باب غزوة أحد رقم 4043.
(3) انظر: السيرة الحلبية (2/496).
(4) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص90.(6/150)
تقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وصفّهم على هيئة صفوف الصلاة، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي على رجليه يُسوي تلك الصفوف، ويبوئ أصحابه للقتال يقول: تقدم يافلان، وتأخر يافلان، فهو يقوِّمهم.....، حتى استوت الصفوف)(1)، فوضع - صلى الله عليه وسلم - في مقدمة الصفوف الأشداء؛ لكي يفتحوا الطريق لمن خلفهم، وقد أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاسلوب لأنه أبلغ في قتال الأعداء(2).
س- عدم القتال إلا بأمر من القائد:
قال الطبري: (فجعل ظهره وعسكره الى أحد، وقال: (لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال)(3).
وفي هذا التوجيه فائدة مهمة وهي توحيد القيادة والمسؤولية لأنه - صلى الله عليه وسلم - أدرى بالمصلحة.
المبحث الثاني
في قلب المعركة
أولاً: بدء القتال واشتداده، وبوادر الانتصار للمسلمين:
في بداية القتال حاول أبو سفيان أن يوجد شرخاً وتصدعاً في جبهة المسلمين المتماسكة، فأرسل الى الأنصار يقول: (خلو بيننا وبين ابن عمنا، فننصرف عنكم، فلا حاجة بنا الى قتال) فردوا عليه بما يكره(4).
ولما فشلت المحاولة الاولى لجأت قريش الى محاولة اخرى عن طريق عميل خائن من أهل المدينة، وهو أبو عامر الراهب، حيث حاول أبو عامر الراهب أن يستزل بعض الانصار، فقال: يامعشر الأوس، أنا ابو عامر، قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يافاسق فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتلهم قتالاً شديداً، ورماهم بالحجارة(5).
__________
(1) انظر: الواقدي، المغازي (1/219).
(2) انظر: العبقرية العسكرية في غزوات الرسول، محمد فرج، ص355، 356.
(3) انظر: تاريخ الطبري (2/507).
(4) انظر: إمتاع الأسماع للمقريزي (1/120).
(5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/192).(6/151)
وبدأ القتال بمبارزة بين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وطلحة بن عثمان حامل لواء المشركين يوم أحد، يقول صاحب السيرة الحلبية: خرج طلحة بن عثمان وكان بيده لواء المشركين وطلب المبارزة مراراً فلم يخرج إليه أحد فقال: ياأصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله تعالى يعجلنا بسيوفكم الى النار، ويعجلكم بسيوفنا الى الجنة، فهل أحد منكم يعجلني بسيفه الى النار أو أعجله بسيفي الى الجنة؟ فخرج إليه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال له علي - رضي الله عنه -: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي الى النار أو يعجلني بسيفك الى الجنة، فضربه علي فقطع رجله، فوقع على الأرض فانكشفت عورته، فقال: يابن عمي، أنشدك الله والرحم فرجع عنه ولم يجهزعليه، فكبر رسول الله، وقال لعلي بعض أصحابه أفلا أجهزت عليه؟ قال: إن ابن عمي ناشدني الرحم حين انكشفت عورته فاستحييت منه(1).
والتحم الجيشان وأشتد القتال، وشرع رسول الله يشحذ في همم أصحابه، ويعمل على رفع معنوياتهم وأخذ سيفاً وقال: (من يأخذ مني هذا؟) فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا أنا قال: (فمن يأخذه بحقه) قال: فأحجم القوم، فقال: سماك بن خرشة أبو دجانة، وماحقه يارسول الله؟ قال: أن تضرب به العدو حتى ينحني، قال: أنا آخذه بحقه. فدفعه إليه وكان رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب -اي يمشي مشية المتكبر- وحين رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبختر بين الصفين قال: (إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن)(2).
__________
(1) انظر: السيرة الحلبية (2/497، 498)؛ تفسير الطبري (7/218).
(2) مسلم، كتاب فضائل الصحابة رقم 2470.(6/152)
وهذا الزبير بن العوام يصف لنا مافعله أبودجانة يوم أحد قال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة وقلت أنا ابن صفية عمته ومن قريش وقد قمت إليه وسألته أياه قبله فأعطاه أبا دجانة وتركني والله لأنظرن مايصنع فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه فقالت الانصار أخرج أبو دجانة عصابة الموت وهكذا كانت تقول له إذا تعصب فخرج وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي
... ... ... ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول(1)؟
... ... ... اضرب بسيف الله والرسول(2)
فجعل لا يلقي أحداً إلا قتله وكان في المشركين رجل لايدع جريحاً إلا ذفف(3) عليه فجعل كل منهما يدنو من صاحبه فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا فاختلفا ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه وضربه أبودجانة فقتله، ثم رايته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بن عتبة ثم عدل السيف عنها فقلت الله ورسوله أعلم(4)، قال ابن اسحاق: قال ابو دجانة: رأيت انساناً يحمس الناس حماساً شديداً فصمدت له فلما حملت عليه السيف ولول فإذا امرأة فأكرمت سيف رسول الله أن أضرب به امرأة(5).
ثانياً: مخالفة الرماة لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) الكيول: مؤخرة الصفوف.
(2) انظر: البداية والنهاية (4/17).
(3) ذفف: اجهز عليه.
(4) انظر: البداية والنهاية (4/18).
(5) نفس المصدر (4/18).(6/153)
استبسل المسلمون في مقاتلة المشركين وكان شعارهم أمت، أمت، واستماتوا في قتال بطولي ملحمي سجل فيه أبطال الاسلام صوراً رائعة في البطولة والشجاعة(1)، وسجل التاريخ روائع بطولات حمزة بن عبدالمطلب، ومصعب بن عمير، وأبو دجانة وأبو طلحة الأنصاري، وسعد بن أبي وقاص، وأمثالهم كثير(2) وحقق المسلمون الانتصار في الجولة الاولى من المعركة(3) وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (سورة آل عمران، الآية 152).
__________
(1) انظر: نظرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/303).
(2) نفس المصدر (1/303).
(3) انظر: نظرة النعيم (1/303).(6/154)
ولما رأى الرماة الهزيمة التي حلت بقريش وأحلافها ورأوا الغنائم في أرض المعركة جذبهم ذلك الى ترك مواقعهم ظناً منهم أن المعركة انتهت، فقالوا لأميرهم عبدالله بن جبير: (الغنيمة الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبدالله بن جبير: أنسيتم ماقال لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة(1) ثم انطلقوا يجمعون الغنائم ولم يعبأوا بقول أميرهم، ووصف ابن عباس رضي الله عنهما حالة الرماة في ذلك الموقف، فقال: (فلما غنم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأباحوا عسكر المشركين، أكب الرماة جميعاً فدخلوا في المعسكر ينهبون، وقد التقت صفوف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم كذا- وشبك بن أصابع يديه- والتبسوا فلما أخل الرماة تلك الخَلة التي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فضرب بعضهم بعضاً، والتبسوا وقتل من المسلمين ناس كثير)(2).
__________
(1) البخاري، كتاب الجهاد، رقم 3039.
(2) مسند أحمد (1/287) رقم 2608.(6/155)
ورأى خالد بن الوليد -وكان على خيالة المشركين- الفرصة سانحة ليقوم بالاتفاف حول المسلمين، ولما رأى المشركون ذلك عادوا الى القتل من جديد وأحاطوا بالمسلمين من جهتين، وفقد المسلمون مواقعهم الاولى، وأخذوا يقاتلون بدون تخطيط، فأصبحوا يقاتلون متفرقين، فلا نظام يجمعهم ولا وحدة تشملهم، بل لم يعودوا يميزون بعضهم، فقد قتلوا اليمان -والد حذيفة بن اليمان- خطأ، وأخذ المسلمون يتساقطون شهداء في الميدان، وفقدوا اتصالهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وشاع أنه قتل(1)، واختلط الحابل بالنابل واشتدت حرارة القتال، وصار المشركون يقتلون كل من يلقونه من المسلمين، واستطاعوا الخلوص قريباً من النبي - صلى الله عليه وسلم - فرموه بحجر كسر أنفه الشريف ورباعيته(2)، وشجه(3) في وجهه الكريم فأثقله وتفجر الدم(4) منه - صلى الله عليه وسلم -، عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه، ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، وكسروا رباعيته، وهو يدعوهم الى الله؟ فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (سورة آل عمران، الآية 128)، وحمل ابن قمئة على مصعب بن عمير - رضي الله عنه - حيث كان شديد الشبه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقتله، فقال لقريش: قد قتلت محمداً(5). وشاع أن محمدا ًقد قتل فتفرق المسلمون، ودخل بعضهم المدينة، وانطلقت طائفة منهم فوق الجبل، واختلطت على الصحابة أحوالهم، فما يدرون كيف يفعلون من هول الفاجعة(6)، ففر جمع
__________
(1) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية ، ص98.
(2) الرباعية: إحدى الاسنان الأربع التي تكون بين الثنية والناب.
(3) الشج: كسر في الرأس.
(4) انظر: فقه السيرة للغزالي ، ص294.
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/81).
(6) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية ، ص100.(6/156)
من المسلمين من ميدان المعركة، وجلس بعضهم الى جانب ميدان المعركة بدون قتال، وآثر آخرون الشهادة بعد أن ظنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات؛ ومن هؤلاء أنس بن النضر الذي كان يأسف لعدم شهود بدراً والذي قال في ذلك: (والله لئن اراني الله مشهداً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرين الله كيف أصنع) وقد صدق في وعده، مرّ يوم أحد على قوم ممن أذهلتهم الشائعة وألقوا بسلاحهم فقال: مايجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله، فقال: ياقوم إن كان محمد قد قتل فإن ربَّ محمد لم يقتل، وموتوا على مامات عليه. وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء -يعني المسلمين- وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المشركين- ثم لقي سعد بن معاذ فقال: ياسعد إني لأجد ريح الجنة دون أحد، ثم ألقى بنفسه في أتون المعركة، ومازال يقاتل حتى استشهد، فوجد فيه بضع وثمانون مابين ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، فلم تعرفه إلا أخته ببنانه(1)، وفي هذا وأمثاله نزل قول الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} (سورة الأحزاب، الآية 23).
أما اولئك النفر الذين فروا لايلوون على شيء رغم دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بالصمود والثبات فقد نزل فيهم قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (سور آل عمران، الآية 153).
__________
(1) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص101.(6/157)
ولقد حكى القرآن الكريم خبر فرار هذه المجموعة من الصحابة الذين ترخصوا في الفرار بعد سماعهم نبأ مقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي شاع في ساحة المعركة، وكان أول من علم بنجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه حي هو الصحابي كعب بن مالك الذي رفع صوته بالبشرى فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسكوت حتى لايفطن المشركون الى ذلك(1). وقد نص القرآن الكريم على أن الله تعالى قد عفا عن تلك الفئة التي فرت، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (سورة آل عمران، الآية 155).
ثالثاً: خطة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إعادة شتات الجيش:
__________
(1) مجمع الزوائد للهيثمي (6/112).(6/158)
عندما ابتدأ الهجوم المعاكس من المشركين خلف المسلمين والهدف الرئيس فيه شخص النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يتزحزح عليه الصلاة والسلام من موقفه والصحابة يسقطون واحداً تلو الواحد بين يديه وحصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قلب المشركين، وليس معه إلا تسعة من أصحابه سبعة منهم من الانصار، وكان الهدف أن يفك هذا الحصار وأن يصعد في الجبل ليمضي الى جيشه، واستبسل الأنصار في الدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -واستشهدوا واحداً بعد الآخر(1)، ثم قاتل عنه طلحة بن عبيدالله حتى أثخن وأصيب بسهم شلت يمينه(2)، وأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - الى صخرة فلم يستطع، فقعد طلحه تحته حتى استوى على الصخرة، قال الزبير: فسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (أوجب طلحة)(3)، وقاتل سعد بن أبي وقاص بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يناوله النبال ويقول له: إرم ياسعد فداك أبي وأمي)(4)، كما قاتل بين يديه أبو طلحة الأنصاري الذي كان من أمهر الرماة، وهو الذي قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لصوت أبي طلحة في الجيش أشد على المشركين من فئة)(5) وقد كان متترساً على رسول الله بحجفة، وكان رامياً شديد النزع(6)، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة، وكان الرجل يمر معه الجعبة(7) من النبل، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (انثرها لأبي طلحة)، ثم يشرف الى القوم، فيقول أبو طلحة: يانبي الله بأبي أنت، لاتشرف الى القوم(8)، ألايصيبك سهم، نحري دون نحرك(9)
__________
(1) انظر: نظرة النعيم (1/304).
(2) البخاري، رقم 3724.
(3) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص296.
(4) نفس المصدر، ص295.
(5) المسند والفتح الرباني (22/589) بإسناده رجاله ثقات.
(6) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص296.
(7) الجعبة: الكنانة التي تجعل فيها السهام.
(8) لا تشرف : لاتتطلع.
(9) نحري دون نحرك: جعل الله نحري اقرب الى السهام من نحرك لأصاب بها دونك.(6/159)
)(1).
ووقفت نسيبة بنت كعب تذب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيف وترمي بالقوس وأصيبت بجراح كبيرة، وترس أبو دجانة دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحني عليه حتى كثر فيه النبل(2).
وألتف حول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تلك اللحظات العصيبة أبو بكر وأبوعبيدة وقام أبو عبيدة بنزع السهمين من وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسنانه ثم توارد مجموعة من الأبطال المسلمين، حيث بلغوا قرابة الثلاثين يذودون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم قتادة، وثابت بن الدحداح وسهل بن حنيف، وعمر بن الخطاب، وعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوام.
__________
(1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص296.
(2) انظر: البداية والنهاية (4/35،36).(6/160)
واستطاع عمر بن الخطاب أن يرد هجوماً مضاداً قاده خالد ضد المسلمين من عالية الجبل، واستبسل الصحابة الذين كانوا مع عمر في رد الهجوم العنيف وعاد المسلمون فسيطروا على الموقف من جديد(1) ويئس المشركون من إنهاء المعركة بنصر حاسم، وتعبوا من طولها ومن جلادة المسلمين، وانسحب النبي - صلى الله عليه وسلم - بمن معه ومن لحق به من أصحابه الى أحد شعاب جبل أحد، وكان المسلمون في حالة من الألم والخوف والغم لما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أصابهم رغم نجاحهم في رد المشركين(2)، فأنزل الله عليهم النعاس فناموا يسيراً ثم أفاقوا آمنين مطمئنين، قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (سورة آل عمران، الآية 154).
وقد أجمع المفسرون على أن الطائفة التي قد أهمتهم أنفسهم هم المنافقون(3).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لمنير الغضبان، ص468،470.
(2) انظر: نظرة النعيم (1/305).
(3) نفس المصدر (1/305)(6/161)
أما قريش فإنها يئست من تحقيق نصر حاسم وأجهد رجالها من طول المعركة، ومن صمود المسلمين وجلودهم، وخاصة بعد أن اطمأنوا وأنزل الله عليهم الأمنة والصمود فالتفوا حول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذلك كفوا عن مطاردة المسلمين وعن محاولة اختراق قواتهم(1).
رابعاً: من شهداء أحد:
أ-حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه سيد الشهداء عند الله تعالى يوم القيامة:
قاتل أسد الله حمزة قتالاً ضارياً، وأثخن في المشركين قتلاً، وأطاح برؤس نفر من حملة لواء المشركين من بني عبدالدار، وبينما هو على هذه الحال من الشجاعة والإقدام كمن له وحشي حتى تمكن منه ثم رماه بحربته، فأصاب منه مقتلاً، ولندع وحشياً يخبرنا عن هذا المشهد المؤلم، قال وحشي: إن حمزة قتل طعيمة بن عديّ بن الخيار ببدر، قال لي مولاي جُبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر، فلما خرج الناس عام عينين، وعينين جبل بجبال أحد، بينه وبينه واد- خرجت مع الناس إلى القتال، فلما أصطفوا للقتال خرج سباعُ فقال: هل من مبارز؟ قال فخرج إليه حمزة بن عبدالمطلب فقال: ياسباع، ياابن أم أنمار مقطعة البظور، أتحاد الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم شدّ عليه، فكان كأمس الذاهب قال: وكمنّتُ لحمزة تحت صخرة، فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها في ثُنَّيتِه(2) حتى خرجت من بين وَركيه، قال: فكان ذاك العهد به(3)، فلما رجع الناس رجعت معهم فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام ثم خرجت إلى الطائف فأرسلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل لي إنه لايَهيج الرُّسُل(4) قال: فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآني قال:(أنت وحشيُّ؟) قلت: نعم، قال:(أنت قتلت حمزة؟) قلت: قد كان من الأمر ماقد بلغك، قال:(فهل تستطيع أن تغيب وجهك
__________
(1) المصدر السابق (1/306).
(2) فاضعها في ثنيته: أي في عاتقه.
(3) ذلك العهد به: كناية عن موته.
(4) لايهيج الرسل أي لاينالهم منه مكروه.(6/162)
عني؟) قال: فخرجت فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج مسيلمة الكذاب قلت لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ماكان فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق(1) ثائر الرأس قال: فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه، قال:ووثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته قال: قال عبدالله بن الفضل فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبدالله بن عمر يقول: فقالت جارية على ظهر بيت وأمير المؤمنين قتله العبد الأسود(2).
1- سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مقتل حمزة - رضي الله عنه -:
بعد انتهاء المعركة سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه: من رأى مقتل حمزة؟ فقال رجل: أنا رأيت مقتله، قال:(فانطلق أرناه) فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى و قف على حمزة فرآه وقد شق بطنه، وقد مثل به، فقال: يارسول الله، مثل به والله(3)، وفي رواية (لما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل حمزة بكى فلما نظر إليه شهق)(4) ووقف بين ظهراني القتلى فقال:(أنا شهيد على هؤلاء كفنوهم في دمائهم فإنه ليس جرح يجرح في الله إلا جاء يوم القيامة يدمي، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك، قدموا أكثرهم قرآنا فاجعلوه في اللحد)(5).
__________
(1) اورق: لونه كالرماد.
(2) البخاري، المغازي رقم 4072.
(3) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص283.
(4) نفس المصدر ، ص284.
(5) المصدر السابق، ص283.(6/163)
وباستشهاد حمزة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحد تحققت رؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد أخبر أصحابه عن رؤياه قبل الخروج إلى أحد فقال:( رأيت في سيفي ذي الفقار فلاً(1)، فأولته فلاً يكون فيكم (أي انهزاماً) ورأيت أني مردف كبشاً، فأولته كبش الكتيبة، ورأيت أني في درع حصينة، فأولتها المدينة، ورأيت بقراً تذبح، فبقر والله خير، فبقر والله خير) فكان الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2).
2-صبر صفية بنت عبدالمطلب على شقيقها حمزة:
قال الزبير بن العوام رضي الله عنه: إنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى كادت أن تشرف على القتلى، قال فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تراهم فقال: المرأة المرأة. قال الزبير فتوسمت أنها صفية قال: فخرجت أسعى إليها، قال فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، قال: فلدمت(3) في صدري وكانت امرأة جلدة قالت: إليك عني لا أرض لك، فقلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزم عليك.
قال: فوقفت وأخرجت ثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة فقد بلغني مقتله، فكفنوه فيهما قال فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل فعل به كما فعل بحمزة، قال: فوجدنا غضاضة وخنى أن يكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لاكفن له، فقلنا لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب، فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر فأقرعنا بينهما، فكفنا كل واحد منهما في الثوب الذي صار له(4).
3- من شعر صفية في بكاء حمزة:
أسائلة أصحاب أحد مخافةً
... ... ... بناتُ أبي من أَعْجَم(5) وخَبير
فقال الخبير إن حمزة قد ثوى
... ... ... وزير رسول الله خير وزير
دعاه إله الحق ذو العرش دعوة
__________
(1) الفل: الثلم في السيف.
(2) الترمذي، كتاب السير في النفل، رقم 1561.
(3) لدمت: ضربت ودفعت.
(4) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص285.
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/185).(6/164)
... ... ... إلى جنّة يحيا بها وسُرور
فذلك ماكنّا نرجّي ونرْتجي
... ... ... لحمزة يوم الحشر خير مصير
فوالله لا أنساك ماهبت الصّبا
... ... ... بكاء وحزناً محضري ومسيري
على أسد الله الذي كان مِدْرَهاً(1)
... ... ... يذود عن الإسلام كلّ كفور
فياليت شلْوى(2) عند ذاك وأعظمي
... ... ... لدى أضبع تعتادني ونسور
أقول وقد أعْلى النَّعِي عشيرتي
... ... ... جزى الله خيراً من أخ ونصير(3)
... 4- حمزة لابواكي له:
لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحد سمع نساء الأنصار يبكين فقال:( لكن حمزة لابواكي له) فبلغ ذلك نساء الأنصار فبكين حمزة فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم استيقظ وهن يبكين فقال:( ياويحهن مازلن يبكين منذ اليوم فليبكين ، ولايبكين على هالك بعد اليوم )(4) وبذلك حرّمت النياحة على الميت وبعد فترة من الزمن نزل الوحي يشدّد تحريم النياحة على الميت - يجعلها من كبائر الذنوب وهو بذلك يتغلغل داخل أعماق المؤمنين والمؤمنات .. يتتبع آثار الجاهلية لكي يمحوها، ويغرس مكانها تعاليم الإسلام(5) قال - صلى الله عليه وسلم -:( النياحة على الميت من أمر الجاهلية، وإن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت، فإنها تبعث يوم القيامة عليها سرابيل من قطران، ثم يغلي عليها بدروع من لهب النار)(6) وقال - صلى الله عليه وسلم -:( اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت)(7)، فتوقف النواح ولم تتوقف الدموع.
5- رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمي غلاماً للأنصار بحمزة:
__________
(1) مدرها: الذي يدفع عن القوم.
(2) الشلْو: البقية: تعادني: تتعاهدني.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/185).
(4) انظر: صحيح ابن ماجة للألباني (1/265).
(5) انظر: السيرة النبوية للصوياني (3/90).
(6) انظر: صحيح الجامع الصغير للألباني (2/1151).
(7) انظر: صحيح الجامع للألباني (1/90).(6/165)
قال جابر بن عبدالله: ولد لرجل منا غلام، فقالوا: مانسميّه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سموه بأحب الأسماء إليّ، حمزة بن عبدالمطلب(1)، فحمزة متجذر في القلب النبوي، عالق بالذاكرة الكريمة ... ولكن الله سبحانه ينزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيما بعد أحب الأسماء إليه.. فيقولها - صلى الله عليه وسلم - لمن حوله:(إن أحب أسمائكم إلى الله: عبدالله وعبدالرحمن)(2).
6- فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني:(3)
__________
(1) وراه الحاكم (3/196) سنده حسن.
(2) مسلم، كتاب الأدب رقم 2132.
(3) البخاري، المغازي رقم 4072.(6/166)
في هذا التوجيه الكريم لايوجد فيه شيء من المؤاخذة والتأثيم لوحشي وإنما هو تذكير له بأن رؤيته إياه تجلب له شيئاً من المتاعب النفسية، وتحرك في نفسه ذكريات حادث القتل وما تبعه من تمثيل شنيع بشع بعمه، فتثير عنده حزازات بشرية ربما لايكون من المستطاع منعها ومقاومتها إلا بشيء من العسر والعنت الشديد مما قد يشغل النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقلقه(1)، فأشار عليه - صلى الله عليه وسلم - بأن يغيب وجهه حتى يفقد مصدر التذكير بتلك المصيبة(2) وفي رواية صحيحة قال وحشي: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي:(وحشي) قلت: نعم، قال:(قتلت حمزة؟)، قلت: نعم الحمد لله الذي أكرمه بيدي ولم يهني بيده، فقالت له قريش: أتحبه وهو قاتل حمزة؟ فقلت: يارسول الله فاستغفر لي، فتفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض ثلاثة، ودفع في صدري ثلاثة وقال: (وحشي أخرج فقاتل في سبيل الله، كما قاتلت لتصد عن سبيل الله)(3) فهذا من التوجيه الإرشادي النبوي إلى مكفِّرات ماسلف من الكفر ومحادة الله تعالى ورسوله، وذكر القتال في سبيل الله بيان للأمر الأنسب في التكفير، وفي حضٌّ من النبي - صلى الله عليه وسلم - لإعلاء راية الجهاد، ولعل مخرج وحشي إلى اليمامة وقتله مسيلمة الكذاب كان أثراً من آثار توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أفضل مايمحو الخطايا، ويحثُّ الذنوب، ويطهِّر الآثام.
وقد أدرك وحشي ذلك فقال حين قتل مسيلمة الكذاب: قتلت خير الناس يعني سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، وقتلت شر الناس مسيلمة الكذاب(4).
ب- مصعب بن عمير رضي الله عنه:
__________
(1) انظر: محمد رسول الله (3/603) عرجون.
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (5/141).
(3) رواه الطبراني في الكبير، اسناده حسن (22/139) رقم 370 نقلاً عن صحيح السيرة النبوية، ص286.
(4) انظر: محمد رسول الله (3/602) عرجون.(6/167)
قال خباب رضي الله عنه: هاجرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرنا على الله فمنا من مضى في سبيله ولم يأكل من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد، ولم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(غطوا رأسه،واجعلوا على رجليه الأذخر)(1)، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها(2)، ومن حديث عبدالرحمن بن عوف أنه أتي بطعام وكان صائماً، فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كفن في بردة، إن غطي رأسه، وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا أو قال: أعطينا من الدنيا ماأعطينا - وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام(3)، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه، ودعا له، ثم قرأ هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} (سورة الأحزاب، آية:23). ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لايسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه)(4) .
ت- سعد بن الربيع رضي الله عنه:
__________
(1) الأذخر: نوع من العشب.
(2) البخاري في الجنائز رقم 1286.
(3) البخاري في الجنائز رقم 1274،1275.
(4) انظر:المستدرك (3/200) صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.(6/168)
هذا الذي استكتمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر مسير قريش وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحبه، فلما انتهت معركة أحد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من رجل ينظر مافعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو أم في الأموات؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رأى الأسنة شرعت إليه، فقال أبي بن كعب رضي الله عنه: أنا أنظره لك يارسول الله، فقال له: إن رأيت سعد بن الربيع فاقرأه مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يجدك؟ فنظر أبي فوجده جريحاً به رمق
فقال له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات، فقال: قد طعنت اثنتي عشرة طعنة وقد انفذت إلى مقاتلي(1)، وفي رواية صحيحة قال: على رسول الله وعليك السلام، قل له: يارسول الله أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لاعذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيكم شفر(2) يطرف، قال:وفاضت نفسه رحمه الله(3)، وهذا نصح لله ورسوله في سكرات الموت يدل على قوة الإيمان، والحرص على الوفاء بالبيعة لم يتأثر بالموت ولا آلام القروح.
ث- عبدالله بن جحش رضي الله عنه:
__________
(1) انظر: السيرة الحلبية (2/532).
(2) شفر: العين.
(3) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص294.(6/169)
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن عبدالله بن جحش قال له يوم أحد ألا تدعو الله، فخلوا في ناحية فدعا سعد فقال: يارب إذا لقيت العدو، فلقني رجلاً شديداً بأسه، شديداً حرده، أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله، وآخذ سلبه، فأمن عبدالله بن جحش، ثم قال: اللهم ارزقني رجلاً شديداً حرده، شديداً بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غداً، قلت: من جدع أنفك وأذنك، فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول صدقت: قال سعد يابني كانت دعوة عبدالله بن جحش خيراً من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أنفه وأذنه لمعلقان في خيط(1)، وفي هذا الخبر جواز دعاء الرجل أن يقتل في سبيل الله، وتمنيه ذلك وليس هذا من تمني الموت المنهي عنه(2).
جـ- حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنه (غسيل الملائكة):
لمّا انكشف المشركون ضرب حنظلة فرس أبي سفيان بن حرب فوقع على الأرض، فصاح وحنظلة يريد ذبحه، فأدركه الأسود بن شدّاد، ويقال له ابن شعوب، فحمل على حنظلة بالرمح فأنفذه ومشى إليه حنظلة بالرمح وقد أثبته، ثم ضرب الثانية فقتله، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:( إني رأيت الملائكة تغسِّله بين السماء والأرض بماء المزن، في صحاف الفضة) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(فأسالوا أهله ماشأنه؟) فسألوا صاحبته عنه فقالت: خرج وهو جُنُب حين سمع الهاتفة(3)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( فلذلك غسلته الملائكة)(4).
__________
(1) نفس المصدر، 293.
(2) انظر: زاد المعاد (3/212).
(3) أي: سمع منادي رسول الله يدعو للخروج لملاقاة العدو.
(4) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص289.(6/170)
وفي رواية الواقدي: وكان حنظلة بن أبي عامر تزوج جميلة بنت عبدالله بن أبي سلول، فأدخلت عليه في الليلة التي في صبحها قتال أحد. وكان قد استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت عندها فأذن له، فلّما صلَّى بالصبح غدا يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولزمته جميلة فعاد فكان معها، فأجنب منها ثم أراد الخروج، وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها، فقيل لها بَعْدُ: لم أشهدت عليه؟ قالت: رأيت كأن السماء فُرجَتْ فدخل فيها حنظلة ثم أطبقت، فقلت: هذه الشهادة، فأشهدت عليه أنه قد دخل بها. وتَعْلَق بعبدالله بن حنظلة ثم تزوجها ثابت بن قيس بعد فولدت له محمد بن ثابت بن قيس(1).
وفي هذا الخبر مواقف وعبر منها:
1- في تعلق جميلة بنت عبدالله بن أبي بحنظلة بن أبي عامر حين رأت له تلك الرؤيا التي فسرتها بالشهادة، فالمظنون في مثل هذه الحال أن تحاول الابتعاد عنه حتى لاتحمل منه فتكون بعد ذلك غير حظيَّة لدى الخطّاب، لكنها تعلقت به رجاء أن تحمل منه فتلد ولداً ينسب لذلك الشهيد الذي بلغ درجات عليا في الصلاح أولاً ثم بما ترجوه من نيله الشهادة. ولقد حصل لها ما أمّلت به فحملت منه وولدت ولداً ذكراً سمِّي عبدالله، وكان له ذكر بعد ذلك، وكان من أعلى مايفتخر به أن يقول: أنا ابن غسيل الملائكة.
2- في حرص حنظلة القوي على مقارعة أعداء الله الذي يتمثل في سرعة خروجه إلى الميدان، الأمر الذي لم يتمكن معه من غسل الجنابة.
3- شجاعته الفائقة تظهر في تصديه لقائد المشركين أبي سفيان بن حرب والقائد غالباً يكون حوله من يحميه، وهو فارس وحنظلة راجل.
4- تشريف رباني كريم في نزول الملائكة لتغسيل حنظلة بمياه المزن في صحاف الفضة.
__________
(1) انظر: المغازي للواقدي (1/273).(6/171)
5- معجزة نبوية في أخبار الصحابة عما قامت به الملائكة من تغسيل حيث رأى - صلى الله عليه وسلم - الملائكة وهي تغسل و لم ير الصحابة ذلك(1).
6- إذا كان الشهيد جنباً، غسل، كما غسلت الملائكة حنظلة بن أبي عامر(2).
ح- عبدالله بن عمرو بن حرام - رضي الله عنه -:
أصر عبدالله بن عمرو بن حرام على الخروج في غزوة أحد، فخاطب أبنه جابر بقوله: ياجابر.. لاعليك أن تكون في نظاري المدينة حتى تعلم إلى مايصير أمرنا، فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي لأحببت أن تقتل بين يدي(3).
وقال لابنه أيضاً: ماأراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإني لا أترك بعدي أعزّ علي منك غير نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن عليَّ ديناً فاقض واستوص بأخواتك خيراً(4).
وخرج مع المسلمين ونال وسام الشهادة في سبيل الله، فقد قتل في معركة أحد وهذا جابر يحدثنا عن ذلك حيث يقول:( لما قتل أبي يوم أحد، جعلت أكشف عن وجهه وأبكي، وجعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهوني وهو لاينهاني، وجعلت عمتي تبكيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: تبكيه أولا تبكيه مازالت الملائكة تظلّله بأجنحتها حتى رفعتموه(5).
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ياجابر: مالي أراك منكسراً؟ قال: يارسول الله، استشهد أبي وترك عيالاً وديناً. قال - صلى الله عليه وسلم - : أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال: بلى يارسول الله، قال - صلى الله عليه وسلم -:( ماكلم الله أحداً قط إلاّ من وراء حجاب، وكلّم أباك كفاحاً) ياجابر أما علمت أن الله أحيا أباك فقال: ياعبدي .. تمنَّ علي أعطك. قال: يارب تحييني فأقتل فيك ثانية. فقال الرب سبحانه:
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (5/129،130).
(2) انظر: زاد المعاد (3/214).
(3) البخاري رقم 4097.
(4) البخاري رقم 1351.
(5) البخاري رقم 1244.(6/172)
إنه سبق مني أنهم إليها لايرجعون قال: يارب .. فأبلغ من ورائي(1)، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ( سورة آل عمران، آية:169) وقد رأى عبدالله بن عمرو رؤية في منامه قبل أحد قال: رأيت في النوم قبل أحد، مبشِّر بن عبدالمنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيام، فقلت: وأين أنت؟ فقال: في الجنة نَسْرَحُ فيها كيف نشاء. قلت له: ألم تقتل يوم بدر؟ قال: بلى ثم أُحييتُ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال هذه الشهادة يا أبا جابر(2)، وقد تحققت تلك الرؤيا بفضل الله ومنه.
ح- خيثمة أبو سعد رضي الله عنه:
قال خيثمة أبو سعد، وكان ابنه استشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر، لقد أخطأتني وقعة بدر، وكنت والله عليها حريصاً، حتى ساهمتُ ابني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها، ويقول: الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ماوعدني ربي حقاً، وقد والله يارسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سِنِّي، ورقَّ عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يارسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعد في الجنة، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقتل بأحد شهيداً(3).
د- وهب المزني وابن أخيه رضي الله عنهم:
__________
(1) صحيح ابن ماجة للألباني رقم 190، (2800).
(2) انظر: زاد المعاد (3/208).
(3) نفس المصدر (3/208).(6/173)
أقبل وهب بن قابوس المزني، ومعه ابن أخيه الحارث بن عقبة بن قابوس، بغنم لهما من جبل مُزَينة، فوجدا المدينة خلواً فسألا: أين الناس؟ فقالوا بأحد، خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقاتل المشركين من قريش. فقالا: لانبتغي أثراً بعد عين فخرجا حتى أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحد فيجدان القوم يقتتلون والدولة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فأغارا مع المسلمين في النهب، وجاءت الخيل من وراءهم، خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، فاختلطوا، فقاتلا أشد القتال، فانفرقت فرقة من المشركين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من لهذه الفرقة؟ فقال وهب بن قابوس: أنا يارسول الله. فقام فرماهم بالنبل حتى انصرفوا ثم رجع.
فانفرقت فرقة أخرى فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لهذه الكتيبة؟ فقال المزني: أنا يارسول الله. فقام فذبها بالسيف حتى ولَّوا، ثم رجع المُزَنيّ. ثم طلعت كتيبة أخرى فقال: من يقوم لهؤلاء؟ فقال المزني: أنا يارسول الله. فقال: قم وأبشر بالجنة، فقام المزني مسروراً يقول: والله لا أقيل ولا أستقيل، فقام فجعل يدخل فيهم فيضرب بالسيف، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى المسلمين، حتى خرج من أقصاهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم ارحمه ثم يرجع فيهم فما زال كذلك، وهم مُحدقون به، حتى اشتملت عليه أسيافهم ورماحهم فقتلوه، فوجد به يومئذ عشرون طعنة برمح، كلها قد خلصت إلى مقتل، ومثل به أقبح المثل يومئذ. ثم قام ابن أخيه فقاتل قتاله حتى قتل، فكان عمر بن الخطاب يقول: إنّ أحبَّ ميتة أموت لما مات عليها المزني(1).
__________
(1) انظر: المغازي للواقدي (1/275).(6/174)
وكان بلال بن الحارث المزني يُحدّث يقول: شهدنا القادسية مع سعد بن أبي وقاص، فلما فتح الله علينا وقُسمت بيننا غنائمنا، فأسقط فتى من آل قابوس من مُزينة(1)، فجئت سعداً حين فرغ من نومه فقال: بلال؟ قلت: بلال! قال: مرحباً بك من هذا معك؟ قلت: رجل من قومي من آل قابوس. قال سعد: ما أنت يافتى من المُزني الذي قتل يوم أحد؟ قال: ابن أخيه. قال سعد: مرحباً وأهلاً وأنْعَمَ الله بك عَيْناً، ذلك الرجل شهدتُ منه يوم أحد مشهداً ماشهدته من أحد، لقد رأيتنا وقد أحدق المشركون بنا من كل ناحية، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسطنا والكتائب تطلع من كل ناحية، وإنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرمي ببصره في الناس يتوسمّهم(2) يقول: من لهذه الكتيبة؟ كلّ ذلك يقول المزنيّ: أنا يارسول الله! كل ذلك يرده، فما أنسى آخر مرة قامها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قم وأبشر بالجنة! قال سعد: وقمت على أثره، يعلم الله أني أطلب مثل مايطلب يومئذ من الشهادة، فخضنا حَومتهم حتى رجعنا فيهم الثانية، وأصابوه رحمه الله وودت والله أني كنت أصبت يومئذ معه، ولكن أجلي استأخر ثم دعا سعد من ساعته بسهمه فأعطاه وفضَّله وقال: اختر في المقام عندنا أو الرجوع إلى أهلك، فقال بلال: إنه يستحب الرجوع، فرجعنا.
__________
(1) نفس المصدر (1/277).
(2) انظر: المغازي للواقدي (1/277).(6/175)
وقال سعد: أشهدُ لرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفاً عليه وهو مقتول، وهو يقول: رضي الله عنك فإني عنك راض. ثم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على قدميه وقد نال النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجراح ماناله وإني لأعلم أن القيام ليشقُ عليه على قبره حتى وُضع في لحده، وعليه بُرْدة لها أعلام خضر، فمدّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البُردة على رأسه فخمّره، وأدرجه فيها طولاً وبلغت نصف ساقيه، وأمرنا فجمعنا الحَرْمَل فجعلناه على رجليه وهو في لحده، ثم انصرف. فما حالٌ أموتٌ عليها أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله تعالى على حال المُزَنيّ(1).
وهكذا يفعل الإيمان بأصحابه فهذا وهب المزني وابن أخيه تركوا الأغنام بالمدينة والتحقوا بصفوف المسلمين وحرصوا على نيل الشهادة، فأكرمهم الله بها، وقد كانت تلك الملحمة التي سطرها المزني محفورة في ذاكرة الصحابة، فهذا سعد بن أبي وقاص يتذكرها بعد مرور ثلاث عشرة سنة تقريباً على غزوة أحد لمجرد سماع اسم رجل من عشيرة المزني ويتمنى أن يموت ويلقى الله على مثل حالة المزني.
ذ- عمرو بن الجموح رضي الله عنه:
كان عمرو بن الجموح رضي الله عنه أعرج شديد العرج، وكان له بنون أربعة مثل الأُسْد يشهدون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد، وهم خلاد ومُعوَّذ ومُعاذ وأبو أيمن، فلما كان يوم أُحد أرادوا حبسه وقالوا: إن الله عزوجل قد عذرك، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن بنيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه وللخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (أمّا أنت فقد عذرك الله تعالى، فلا جهاد عليك)، وقال لبنيه: ماعليكم ألاّ تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة، فخرج وهو يقول مستقبل القبلة: اللهم لاتردّني إلى أهلي خائباً، فقتل شهيداً.
__________
(1) نفس المصدر (1/277).(6/176)
وفي رواية أتى عمرو بن الجموح رضي الله عنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول: أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة – وكانت رجله عرجاء – فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نعم) فقتلوه يوم أحد هو وابن أخيه ومولى لهم، فمر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجُعلوا في قبر واحد(1).
وفي هذا الخبر دليل على أن من عذره الله في التخلف عن الجهاد لمرض أو عرج، يجوز له الخروج إليه، وإن لم يجب عليه، كما خرج عمرو بن الجموح وهو أعرج(2).
وفيه دليل على شجاعة عمرو بن الجموح ورغبته في نيل الشهادة وصدقه في طلبها وقد أكرمه الله بذلك.
ر- أبو حذيفة بن اليمان وثابت وقش رضي الله عنهم:
لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أحد، رُفع حُسَيْل بن جابر، وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان وثابت بن وقش في الآطام(3)، مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران: لا أبالك، ماتنتظر؟ فوالله ما بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء(4) حمار، إنما نحن هامة اليوم أو غد(5)، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لعل الله يرزقنا شهادة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
__________
(1) انظر: المسند (5/299)، السيرة النبوية لابن هشام (3/101).
(2) انظر: زاد المعاد (3/218).
(3) الآطام: الحصون.
(4) ظمء حمار: أي مقدار مابين شربتي حمار.
(5) أي نموت اليوم أو غداً.(6/177)
فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس ولم يُعلم بهما، فأمّا ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر فاختلفت عليه أسيافُ المسلمين فقتلوه ولايعرفونه، فقال حذيفة: أبي، فقالوا: والله إن عرفناه، وصدقوا. قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يديه، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين، فزاده ذلك عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1) خيراً وفي هذا الخبر، يظهر أثر الإيمان في نفوس الشيوخ الكبار الذين عذرهم الله في الجهاد وكيف تركوا الحصون وخرجوا إلى ساحات الوغى طلباً للشهادة وحباً وشوقاً للقاء الله تعالى، وفيه موقف عظيم لحذيفة حيث تصدق بدية والده على المسلمين، ودعا لهم بالمغفرة لكونهم قتلوا والده خطأً، وفيه أيضاً: أن المسلمين إذا قتلوا واحداً منهم في الجهاد يظنونه كافراً، فعلى الإمام ديته من بيت المال، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يديَّ اليمان أبا حذيفة، فامتنع من أخذ الدية، وتصدق بها على المسلمين(2).
س- الأمور بخواتيمها:
إن الأمور بخواتيمها وقد وقع في غزوة أحد مايحقق هذه القاعدة الهامة في هذا الدين، فقد وقع حادثان، يؤكدان هذا الأمر، وفيهما عظة وعبرة لكل مسلم متعظ ومعتبر(3).
شأن الأصيرم رضي الله عنه:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/98).
(2) انظر: زاد المعاد (3/218).
(3) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص117.(6/178)
واسمه عمرو بن ثابت بن وقش، عرض عليه الإسلام فلم يسلم، وروى قصته أبو هريرة رضي الله عنه: أن الأصيرم كان يأبى الإسلام على قومه، فجاء ذات يوم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بأحد فقال: أين سعد بن معاذ؟ فقيل بأحد، فقال: أين بنو أخيه؟ قيل: بأحد، فسأل عن قومه فقيل: بأحد، فبدا له الإسلام فأسلم، وأخذ سيفه، ورمحه، وأخذ لأمته وركب فرسه فعدا حتى دخل في عُرْض الناس، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا ياعمرو، قال إني قد آمنت. فقاتل حتى أثخنته الجراحة، فبينما رجال من بني عبدالأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به، فقالوا: والله إن هذا للأصيرم، ماجاء به؟ لقد تركناه وإنه منكر لهذا الحديث، فسألوه: ماجاء بك؟ أحَدَبٌ على قومك أم رغبة في الإسلام؟ فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأسلمت ثم أخذت سيفي فغدوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قاتلت حتى أصابني ما أصابني وإن مت فأموالي إلى محمد يضعها حيث شاء، فذكروه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنه من أهل الجنة.
وقيل: مات فدخل الجنة وماصلى من صلاة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :( عملاً يسيراً وأجراً كثيراً)(1)، وكان أبو هريرة يقول: حدّثوني عن رجل دخل الجنة ولم يُصلّ قط فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو قال: هو أُصيرم بن عبدالأشهل(2).
شأن مخيريق:
لما كانت غزوة أحد وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقاتل المشركين، جمع قومه اليهود وقال لهم: يامعشر يهود، والله لقد علمتم أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: ان اليوم يوم السبت، قال: لاسبت لكم.
__________
(1) انظر: البخاري ، الجهاد، رقم 2808.
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/100،101).(6/179)
فأخذ سيفه وعدته، وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ماشاء، ثم غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقاتل معه حتى قتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مخيريق خير يهود(1).
وقد اختلف في إسلامه، فنقل الذهبي في التجريد وابن حجر في الإصابة عن الواقدي(2) أن مخيريق مات مسلماً، وذكر السهيلي في الروض الأنف أنه مسلم، وذلك حين قال معقباً على رواية ابن إسحاق عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(مخيريق خير يهود) قال: ومخيريق مسلم، ولايجوز أن يقال في مسلم هو خير النصارى ولاخير اليهود لأن أفعل من كذا، إذا أضيف فهو بعض ما أضيف إليه، فإن قيل: وكيف جاز هذا؟ قلنا: لأنه قال: خير يهود، ولم يقل خير اليهود، ويهود اسم علم كثمود، يقال إنهم نسبوا إلى يهوذا بن يعقوب ثم عربت الذال دالاً(3)، وقد حقق هذه المسألة الدكتور عبدالله الشقاري في كتابه اليهود في السنة المطهرة وذهب إلى أن مخيريق قد اسلم ودفعه ذلك إلى القتال مع المسلمين، والى التصدق بماله مع كثرته، ومع ماعرف عن اليهود من حب المال والتكالب عليه(4).
ك- إنما الأعمال بالنيات:
__________
(1) انظر: المغازي للواقدي (1/263)، والسيرة لابن هشام (3/99).
(2) انظر: تجريد أسماء الصحابة (2/70)، الاصابة (3/393).
(3) انظر: الروض الأنف للسهيلي (4/408، 409).
(4) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (1/306).(6/180)
كان ممن قاتل مع المسلمين يوم أحد رجل يدعى قزمان، كان يعرف بالشجاعة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا ذُكر له: إنه من أهل النار، فتأخر يوم أحد فعيَّرته نساء بني ظَفَر، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسوي الصفوف حتى انتهى إلى الصف الأول، فكان أول من رمى من المسلمين بسهم، فجعل يرسل نبلا كأنها الرماح ويكتُّ كتيت الجمل ثم فعل بالسيف الأفاعيل حتى قتل سبعة أو تسعة وأصابته جراحه، فوقع، فناداه قتادة بن النعمان: يا أبا الغْيداق هنيئاً لك الشهادة، وجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم ياقُزمان فأبشر، قال بماذا؟ فوالله ماقاتلت إلا على أحساب قومي، فلولا ذلك ماقاتلت. فذكرذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنه من أهل النار، إن الله تعالى يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر(1).
وفي هذا الخبر بيان لمكان النية في الجهاد، وأنه من قاتل حمية عن قومه أو ليقال شجاع ... ولم تكن أعماله لله تعالى لايقبل الله منه.
خامساً: من دلائل النبوة:
عين قتادة بن النعمان رضي الله عنه:
أصيبت عين قتادة رضي الله عنه حتى سقطت على وجنتيه فردها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده فكانت أحسن عينيه وأحدّهما، وأصبحت لاترمد إذا رمدت الأخرى(2)، وقد قدم ولده على عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، فسأله من أنت؟
فقال له مرتجلاً:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه
... ... ... فردت بكف المصطفى احسن الرد
فعادت كما كانت لأول أمرها
... ... ... فيا حسنها عينا ويا حسن ماخد
فقال عمر بن عبدالعزيز عند ذلك:
تلك المكارم لاقعبان من لبن
... ... ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ثم وصله فأحسن جائزته(3)
مقتل أبي بن خلف:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/99)، غزوة أحد دراسة دعوية ، ص113.
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/388).
(3) انظر: البداية والنهاية (4/35).(6/181)
كان أبي بن خلف يلقى رسول الله بمكة، فيقول: يامحمد، إن عندي العَوْد، فرساً أعْلفه كل يوم، أقتلك عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل أنا أقتلك إن شاء الله، فلما كان يوم أحد، وأسند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشِّعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: أي محمد لانجوتُ إن نجوت، فقال القوم: يارسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوه. فلما دنا تناول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحربة من الحارث بن الصِّمة، فلما أخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه انتفض بها انتفاضة تطاير عنه من حوله تطاير الشَّعراء(1) عن ظهرالبعير إذا انتفض بها ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ(2) منها عن فرسه مراراً، فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خَدْشا غير كبير، فاحتقن الدم، قال: قتلني والله محمد قالوا له: ذهب والله فؤادك ! والله إن بك من بأس، قال: إنه قد كان قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بَصَق عليّ لقتلني، فمات عدو الله بسرف(3) وهم قافلون به إلى مكة(4).
__________
(1) الشَّعراء: ذباب له لدغ.
(2) تدأدأ: تقلب عن فرسه فجعل يتدحرج.
(3) سرف: موضع على ستة أميال من مكة.
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/93،94).(6/182)
وفي هذا الخبر مثل رفيع على شجاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان أبي بن خلف مدجج بالسلاح ومتدرعاً بالحديد الواقي ومع ذلك استطاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطعنه بالرمح من فرجة صغيرة في عنقه بي الدرع والبيضة وهذا يدل على قدرة رسول الله القتالية ودقته في إصابة الهدف، وفي هذا الخبر معجزة للنبي فقد أخبر أبياً بأنه سوف يقتله بمشيئة الله وتم ذلك، وفي الخبر عبرة في إيمان المشركين بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه إذا قال شيئاً وقع فقد كان أبي بن خلف على يقين بأنه سيموت من تلك الطعنة، ومع ذلك لم يدخلوا في الإسلام لعنادهم وعبادة أهوائهم(1) وقد خلد حسان بن ثابت هذه الحادثة في شعره فقال:
لقد ورث الضَّلالة عن أبيه
... ... ... أبيُّ يوم بارزه الرسول
أتيت إليه تحمل رِمّ عظم
... ... ... وتوعده وأنت به جهول(2)
المبحث الثالث
أحداث مابعد المعركة
أولاً: حوار أبي سفيان مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه:
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (5/169).
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/94).(6/183)
قال البراء رضي الله عنه: وأشرف أبو سفيان فقال أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - لاتجيبوه، فقال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال لاتجيبوه، فقال أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء القوم قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر رضي الله عنه – نفسه فقال: كذبت ياعدوّ الله، أبقى الله عليك مايخزيك. قال أبو سفيان: أعلُ هُبل(1)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أجيبوه. قالوا مانقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان: لنا العُزّى ولاعزى لكم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أجيبوه. قالوا: مانقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولامولى لكم. قال أبو سفيان يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مُثْلةً لم آمُرْ بها ولم تَسُؤْني(2) وفي رواية قال عمر: (لاسواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار)(3).
كان في سؤال أبي سفيان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر دلالة واضحة على اهتمام المشركين بهؤلاء دون غيرهم لأنه في علمهم أنهم أهل الإسلام وبه قام صرحه وأركان دولته وأعمدة نظامه، ففي موتهم يعتقد المشركون أنه لايقوم الإسلام بعدهم.
وكان السكوت عن إجابة أبي سفيان أولاً تصغيراً له حتى إذا انتشى وملأه الكبر أخبروه بحقيقة الأمر وردوا عليه بشجاعة(4).
__________
(1) أعل هبل: ظهر دينك.
(2) البخاري، المغازي، رقم 4043، السيرة النبوية الصحيحة (2/392).
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/392).
(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/392).(6/184)
وفي هذا يقول ابن القيم في تعليقه على هذا الحوار: فأمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته، وبشركه، تعظيماً للتوحيد، وإعلاماً بعزة من عبده المسلمون، وقوة جانبه، وأنه لا يغلب، ونحن حزبه وجنده ولم يأمرهم باجابته حين قال: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر؟ بل روى انه نهاهم عن إجابته، وقال: لاتجيبوه، لأن كلمهم لم يكن برد في طلب القوم، ونار غيظهم بعد متوقدة، فلما قال لأصحابه: أما هؤلاء فقد كفيتموهم، حمي عمر بن الخطاب واشتد غضبه وقال: كذبت ياعدو الله، فكان في هذا الاعلام من الاذلال، والشجاعة وعدم الجبن، والتعرف إلى العدو في تلك الحال مايؤذيهم بقوة القوم وبسالتهم، وأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا، وأنه وقومه جديرون بعدم الخوف منهم، وقد أبقى الله لهم مايسؤوهم منهم، وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة وهلة بعد ظنه وظن قومه أنهم قد أصيبوا من المصلحة، وغيظ العدو وحزبه، والضتِّ في عضده ماليس في جوابه حين سأل عنهم واحداً واحداً، فكان سؤاله عنهم ونعيهم لقومه آخر سهام العدو وكيده، فصبر له النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى استوفى كيده، ثم انتدب له عمر، فرد بسهام كيده عليه، وكان ترك الجواب عليه أحسن، وذكره ثانياً أحسن، وأيضاً فإن في ترك إجابته حين سأله عنهم إهانة له، وتصغيراً لشأنه، فلما منَّته نفسه موتهم، وظن أنهم قد قتلوا، وحصل له بذلك من الكبر والأشر ماحصل، كان في جوابه إهانة له، وتحقير، وإذلال، ولم يكن هذا مخالفاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :(لاتجيبوه) فانه إنما نهى عن اجابته حين سأل: أفيكم محمد؟ أفيكم فلان؟ ولم ينه عن إجابته حين قال: أما هؤلاء فقد قتلوا، وبكل حال فلا أحسن من ترك اجابته أولاً، ولا أحسن من إجابته ثانياً(1).
ثانياً: تفقد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشهداء:
__________
(1) انظر: زاد المعاد (3/202،203).(6/185)
بعد أن انسحب أبو سفيان من أرض المعركة ذهب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليتفقد أصحابه رضي الله عنهم، فمر على بعضهم، ومنهم حمزة بن عبدالمطلب، ومصعب بن عمير، وحنظلة بن أبي عامر، وسعد بن الربيع والأصيرم، وبقية الصحابة رضي الله عنهم فلما أشرف عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أنا شهيد على هؤلاء، إنه مامن جريح يجرح في الله إلا والله بعثه يوم القيامة، يدمي جرحه اللون لون دم، والريح ريح المسك، انظروا أكثر هؤلاء جمعاً للقرآن، فاجعلوه أمام أصحابه في القبر(1).
وقال جابر بن عبدالله في رواية البخاري :(أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى واحد قدّمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا)(2).
وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدفنوا حيث صرعوا، وأعيد من أخذ ليدفن داخل المدينة(3).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/109).
(2) البخاري، كتاب المغازي، رقم 3079.
(3) سنن النسائي بشرح السيوطي وحاشية السندي، كتاب الجنائز، باب أين يدفن الشهيد (4/79) رقم 2006.(6/186)
ولما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمزة بن عبدالمطلب وقد مثل به حزن حزناً شديداً، وبكى حتى نشغ(1) من البكاء(2) وقال - صلى الله عليه وسلم - :(لولا أن تحزن صفية، ويكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم) فلما رأى المسلمون حزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيظه على من فعل بعمه مافعل، قالوا: والله لئن ظفرنا الله بهم يوماً من الدهر لنمثلن بهم مُثلَة لم يمثلها أحد من العرب(3)، فنزل قول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (سورة النحل، آية:126). لقد ارتكب المشركون صوراً من الوحشية، حيث قاموا بالتمثيل في قتلى المسلمين فبقروا بطون كثير من القتلى وجدعوا أنوفهم، وقطعوا الآذان ومذاكير بعضهم(4) ومع ذلك صبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه واستجابوا لتوجيه المولى عزوجل، فعفا وصبر وكفّر عن يمينه ونهى عن المثلة روى ابن اسحاق بسنده عن سمرة بن جندب قال:(ماقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مقام قط ففارقه، حتى يأمرنا بالصدقة وينهانا عن المثلة)(5).
ثالثاً: دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد:
__________
(1) النشغ: الشهيق حتى يكاد يبلغ به الغَشيَ.
(2) انظر: مختصر سيرة الرسول، لمحمد عبدالوهاب، ص331.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/106).
(4) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص104.
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/107).(6/187)
صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه الظهر قاعداً لكثرة مانزف من دمه، وصلى وراءه المسلمون قعود، وتوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الصلاة الى الله بالدعاء والثناء على مانالهم من الجهد والبلاء، فقال لأصحابه:(استووا حتى أثني على ربي عزوجل) فصاروا خلفه صفوفاً ثم دعا بهذه الكلمات الدالة على عمق الإيمان(1) فقال - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم لك الحمد كله، اللهم لاقابض لما بسطت، ولاباسط لما قبضت، ولاهادي لما أضللت، ولامضل لمن هديت، ولامعطي لما منعت، ولامانع لما أعطيت، ولامقرب لما باعدت، ولامبعد لما قرّبت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لايحول ولايزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم الغلبة والأمن يوم الخوف، اللهم عائد بك من شر ماأعطيتنا وشر مامنعت. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولانادمين ولامفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الخلق)(2) ثم ركب فرسه ورجع إلى المدينة(3).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/210).
(2) انظر: مجمع الزوائد (6/121، 122) وقال الهيثمي رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/394).(6/188)
وهذا أمر عظيم شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته لكي يطلبوا النصر والتوفيق من رب العالمين وبين لأمته أن الدعاء مطلوب في ساعة النصر والفتح، وفي ساعة الهزيمة، لئن الدعاء مخ العبادة، كما أنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، ويجعل القلوب متعلقة بخالقها، فينزل عليها السكينة والثبات والاطمئنان، ويمدها بقوة روحية عظيمة، فترتفع المعنويات نحو المعالي وتتطلع إلى ماعند الله تعالى.
في أعقاب المعركة، يتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - أُهْبَتَه وينظم المسلمين، صفوفاً، لكي يثني على ربه عزوجل، إنه لموقف عظيم، يجلي إيماناً عميقاً، ويكشف عن العبودية المطلقة لرب العالمين الفعال لما يريد.. فهو القابض والباسط، والمعطي والمانع، لاراد ولامعقب لحكمه.
إن هذا الموقف من أعظم مواقف العبودية التي تسمو بالعابدين، وتجلّ المعبود، كأعظم مايكون الإجلال والإكبار، وأبرز مايكون الحمد والثناء(1).
رابعاً: معرفة وجهة العدو:
بعد أن انسحب جيش المشركين من أرض المعركة أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد الغزوة مباشرة، وذلك لمعرفة اتجاه العدو، فقال له: أخرج في آثار القوم وانظر ماذا يصنعون ومايريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لاناجزنهم قال علي: فخرجت في أثرهم ماذا يصنعون فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة(2)، فرجع علي رضي الله عنه وأخبر رسول الله بخبر القوم.
__________
(1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، د. محمد فيض الله، ص132،133.
(2) انظر: البداية والنهاية (4/41).(6/189)
وفي هذا الخبر عدة دروس وعبر منها، يقظة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومراقبته الدقيقة لتحركات العدو، وقدرته - صلى الله عليه وسلم - على تقدير الأمور، وظهور قوته المعنوية العالية ويظهر ذلك في استعداده لمقاتلة المشركين لو أرادوا المدينة، وفيه ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلي رضي الله عنه ومعرفته بمعادن الرجال، وفيه شجاعة علي رضي الله عنه، لأن هذا الجيش لو أبصره ماتورع في محاولة قتله(1) ونلحظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام في أرض المعركة بعد أن انتهت، تفقد خلالها الجرحى والشهداء، وأمر بدفنهم، ودعا ربه وأثنى عليه سبحانه، وأرسل علي ليتتبع خبر القوم، كل ذلك من أجل أن يحافظ على النصر الذي أحرزه المسلمون في غزوة أحد وهذا من فقه سنن الله تعالى في الحروب والمعارك، فقد جعل سبحانه من سننه في خلقه أن جعل للنصر أسباباً، وللهزيمة أسباب، فمن أخذ بأسباب النصر، وصدق التوكل على الله سبحانه وتعالى حقيقة التوكل نال النصر بإذن الله عزوجل، كما قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} (سورة الفتح، آية:23).
ويتجلى فقه النبي - صلى الله عليه وسلم - في ممارسة سنة الأخذ بالأسباب في غزوة حمراء الأسد.
خامساً: غزوة حمراء الأسد:
__________
(1) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص95،96.(6/190)
نجد في بعض الروايات: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تابع أخبار المشركين بواسطة بعض اتباعه حتى بعد رجوعهم إلى مكة وبلغه مقالة أبي سفيان يلوم فيها جنده لكونهم لم يشفوا غليلهم من محمد وجنده، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما انصرف أبو سفيان والمشركون من أحد وبلغوا الرّوحاء(1)، قال أبو سفيان: لامحمداً قتلتم ولا الكواعب أردفتم شر ماصنعتم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2) وتفيد هذه الرواية خبر استطلاع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعدائه حتى بعد انتهاء المعركة وذلك لكي يطمئن على عدم مباغتتهم له.
وعندما سمع ماكانت تعزم عليه قريش من العودة إلى المدينة خرج بمن حضره يوم أحد من المسلمين دون غيرهم إلى حمراء الأسد.
__________
(1) الروّحاء: تبعد عن المدينة 73 كيلومتراً في طريق مكة.
(2) انظر: مجمع الزوائد للهيثمي (6/121) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن منصور الجوّاز.(6/191)
قال ابن اسحاق: كان أحد يوم السبت للنصف من شوال فلما كان الغد يوم الأحد سادس عشر من شوال: أذّن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس بطلب العدو وأن لايخرج معنا إلا من حضر بالأمس، فاستأذنه جابر بن عبدالله في الخروج معه فأذن له، وإنما خرج مرهباً للعدو، وليظنوا أن الذي أصابهم لم يوهنهم عن طلب عدوهم(1)، وقد استجاب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لنداء الجهاد حتى الذين أصيبوا بالجروح، فهذا رجل من بني عبدالأشهل يقول: شهدت أحداً أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج في طلب العدو قلت لأخي وقال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ والله مالنا من دابة نركبها ومامنا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكنت أيسر جرحاً منه، فكان اذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة (نوبة) حتى انتهينا إلى ماانتهى إليه المسلمون(2).
وسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حمراء الأسد واقترب بجنوده من جيش المشركين، فأقام فيه ثلاثة أيام يتحدى المشركين، فلم يتشجعوا على لقائه ونزاله، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بإشعال النيران فكانوا يشعلون في وقت واحد خمسمائة نار(3).
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (4/50).
(2) نفس المصدر (4/50).
(3) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص144 نقلاً عن الطبقات الكبرى لابن سعد (2/43).(6/192)
وأقبل معبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، فأمره أن يلحق بأبي سفيان، فيخذِّله، فلحقه بالروحاء ولم يعلم بإسلامه، فقال ماوراءك يامعبد؟ فقال: محمد وأصحابه، فقد تحرقوا عليكم، وخرجوا في جمع لم يخرجوا في مثله، وقد ندم من كان تخلف عنهم من أصحابهم، فقال: ماتقول؟ فقال: ماأرى أن ترتحل حتى يطلع أول الجيش من وراء هذه الأكمة(1)، فقال أبو سفيان والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصلهم، قال معبد: فإني أنهاك عن ذلك، ووالله لقد حملني مارأيت على أن قلت فيه أبياتاً من شعر:
قال وماقلت؟ قال قلت:
كادت تُهدُّ من الأصوات راحلتي
... ... ... إذ سالت الأرض بالجرد(2) الأبابيل
تُرْدِي(3) بأسد كرام لاتنابلة(4)
... ... ... عند اللقاء ولاميل(5) معازيل(6)
فظلت عدْواً أظن الأرض مائلة
... ... ... لمّا سمو برئيس غير مخذول
فقلتُ: ويلَ ابنِ حربٍ من لقائكم
... ... ... إذا تغطمطتِ البطحاء بالجيل(7)
إني نذيرٌ لأهل البَسْل ضاحية
... ... ... لكل ذي أُربَةٍ منهم ومعقول
من جيشِِ أحمدَ لا وخشُ(8) قنابله
... ... ... وليس يوصف ماأنذرت بالقيل(9)
__________
(1) انظر: زاد المعاد (3/245).
(2) الجرد: جمع أجرد وهو الضرسي قصير الشعر، والأبابيل: الفرق الكثيرة.
(3) تردى: تسرع.
(4) تنابلة: جمع تنبال وهو القصير.
(5) الميل: جمع أميل، وهو الجبان.
(6) معازيل: جمع معزال وهو من لا رُمح معه.
(7) تغطمطت: اضطربت وثارت.
(8) وخش: رديء.
(9) انظر: البداية والنهاية (4/51).(6/193)
فثنى ذلك أبو سفيان ومن معه، وحاول أبو سفيان أن يغطي انسحابه هذا بشن حرب نفسية على المسلمين، لعله يرهبهم فأرسل مع ركب عبدالقيس وكانوا يريدون المدينة للميرة رسالة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفادها أن أبا سفيان وجيشه قد أجمعوا على السير إليه وإلى أصحابه ليستأصلهم من الوجود وواعد أبو سفيان الركب أن يعطيهم زبيباً عندما يأتوه في سوق عكاظ، ومر الركب برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال هو والمسلمون حسبنا الله ونعم الوكيل(1) ، واستمر المسلمون في معسكرهم وآثرت قريش السلامة والأوبة، فرجعوا إلى مكة، وبعد ذلك عاد المسلمون إلى المدينة بروح قوية متوثبة، غسلت عار الهزيمة، ومسحت مغبة الفشل، فدخلوها أعزة رفيعي الجانب، عبثوا بانتصار المشركين، وهزوا أعصابهم، وأحبطوا شماتة المنافقين واليهود في المدينة وأشار القرآن الكريم إلى هذه الحرب الباردة، وسجل ظواهرها(2) بقوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ صدق الله العظيم الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ صدق الله العظيم فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ صدق الله العظيم إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، آية:172-175) ووقع في أسر النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل رجوعه
__________
(1) تاريخ الاسلام للذهبي ، المغازي، ص226.
(2) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة ، ص142.(6/194)
إلى المدينة أبو عزة الجمحي الشاعر فقتل صبراً لأنه أخلف وعده للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن لايقاتل ضده عندما منّ عليه ببدر وأطلقه فعاد فقاتل في أحد، وقد حاول أبو عزة أن يتخلص من القتل وقال يارسول الله أقلني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لاوالله، لاتمسح عارضك(1) بمكة بعدها وتقول خدعت محمداً مرتين، اضرب عنقه يازبير)(2)، فضرب عنقه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ: (لايلدغ المؤمن من جحر مرتين)(3). فصار هذا الحديث مثلاً ولم يسمع قبل ذلك.
ويعد هذا العمل من قبيل السياسة الشرعية، لأن هذا الشاعر من المفسدين في الأرض، الداعين إلى الفتنة، ولأن في المنّ عليه تمكيناً له من أن يعود حرباً على المسلمين.
ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي(4).
وأما عدد القتلى من المسلمين في أحد فقد انجلت المعركة عن سبعين شهيداً من المسلمين ويؤيد هذا تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة آل عمران، آية:165) أنها نزلت تسلية للمؤمنين عمن أصيب منهم يوم أحد، قال ابن عطية رحمه الله: وكان المشركون قد قتلوا منهم سبعين نفراً، وكان المسلمون قد قتلوا من المشركين ببدر سبعين وأسروا سبعين(5) أما عدد الذين قتلوا يوم أحد من المشركين اثنان وعشرون قتيلاً(6) كان خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لملاحقة المشركين في غزوة حمراء الأسد يهدف لتحقيق مجموعة من المقاصد المهمة منها:
__________
(1) عارضيك: هما جانبا الوجه. لسان العرب (2/742).
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/116).
(3) البخاري ، كتاب الأدب، باب لايلدغ المرء (7/134) رقم 6133.
(4) انظر: البداية والنهاية (4/53).
(5) المحرر الوجيز لابن عطية (3/411).
(6) مرويات غزوة أحد للباكري، ص367، 369.(6/195)
1- أن لايكون آخر ماتنطوي عليه نفوس الذين خرجوا يوم أحد هو الشعور بالهزيمة.
2- إعلامهم أن لهم الكرَّة على أعدائهم متى نفضوا عنهم الضعف والفشل واستجابوا لدعوة الله ورسوله.
3- تجرئة الصحابة على قتال أعدائهم.
4- إعلامهم أن ماأصابهم في ذلك اليوم إنما هو محنة وابتلاء اقتضتها إرادة الله، وحكمته، وأنهم أقوياء وأن خصومهم الغاليين في الظاهر ضعفاء(1).
كما أن في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حمراء الأسد إشارة نبوية إلى أهمية استعمال الحرب النفسية للتأثير على معنويات الخصوم حيث خرج - صلى الله عليه وسلم - بجنوده إلى حمراء الأسد ومكث فيها ثلاثة أيام وأمر بإيقاد النيران فكانت تشاهد من مكان بعيد وملأت الأرجاء بأنوارها حتى خُيِّل لقريش أن جيش المسلمين ذو عدد كبير لاطاقة لهم به فانصرفوا وقد ملأ الرعب أفئدتهم(2).
قال ابن سعد:(ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه حتى عسكروا بحمراء الأسد.. وكان المسلمون يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار حتى تُرى من المكان البعيد وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه فكبت الله تعالى بذلك عدوهم)(3).
سادساً: مشاركة نساء المسلمين في معركة أحد:
__________
(1) انظر: في ظلال القرآن (1/519).
(2) انظر: غزوة أحد لأبي فارس، ص51.
(3) انظر: الطبقات لابن سعد (2/49).(6/196)
كانت غزوة أحد أول معركة في الإسلام تشارك فيها نساء المسلمين، وكان لهذا أثر بالغ في سقي المحاربين وتضميد الجرحى وقد ظهرت بطولات النساء وصدق إيمانهن في هذه المعركة، فقد خرجن لكي يسقين العطشى ويداوين الجرحى، ومنهن من قامت برد ضربات المشركين الموجهة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وممن شاركن في غزوة أحد أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، وأم عمارة، وحَمْنَة بنت جَحْش الأسدية، وأم سُليْط، وأم سُلَيْم، ونسوة من الأنصار(1) قال ثعلبة بن أبي مالك رضي الله عنه:(إن عمر بن الخطاب قسم مُرُوطاً بين نساء المدينة، فبقي مِرْطٌ جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين أعْطِ هذا ابنة رسول الله التي عندك يريدون أم كلثوم بنت علي، فقال عمر رضي الله عنه: أم سليط أحق به من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنها كانت تزفر(2) لنا القرب يوم أحد(3).
أ- سقي العطشى من المجاهدين:
عن أنس رضي الله عنه قال:(لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم، وإنهما لمشمِّرتان أرى خَدَمَ سوقهن تنقران(4) القرب - وقال غيره: تنقلان القِرَبَ - على متونهما ثم تضرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئا فتفرغانه في أفواه القوم(5).
وقال كعب بن مالك - رضي الله عنه - :(رأيت أم سليم بنت ملحان وعائشة على ظهورهما القرب يحملانها يوم أحد، وكانت حمنة بنت جحش تسقي العطشى وتداوي الجرحى، وكانت أم أيمن، تسقي الجرحى)(6).
ب- مداواة الجرحى ومواساة المصابين:
__________
(1) مسلم، كتاب الجهاد، باب غزو النساء رقم 1779.
(2) تزفر: تحمل القرب مملؤة بالماء.
(3) البخاري، كتاب المغازي رقم 4071.
(4) تنقزان: أي تحملان وتفقزان بها وثباً.
(5) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب غزو النساء رقم 2880.
(6) انظر: المغازي للواقدي (1/249).(6/197)
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بأم سليم، ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيسقين الماء ويداوين الجرحى(1).
وأخرج عبدالرزاق عن الزهري: (كان النساء يشهدن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - المشاهد ويسقين المقاتلة ويداوين الجرحى)(2) وعن الرُبيِّع بنت مَعَوِّذ قالت: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - نسقي القوم، ونداوي الجرحى ونرد القتلى إلى المدينة وفي رواية كنا نغزو مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنسقي القوم ونخدمهم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة(3). وعن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد رضي الله عنه وهو يسأل عن جرح رسول الله، فقال: أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله، ومن كان يسكب الماء وبما دُووي. قال: كانت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تغسله، وعلي يسكب الماء بالمِجَنْ، فلما رأت فاطمة أن الماء لايزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم..(4).
جـ- الدفاع عن الإسلام ورسوله بالسيف:
__________
(1) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزو النساء رقم 1779.
(2) البخاري فتح الباري لابن حجر (6/92) عند حديث رقم 2880.
(3) البخاري، كتاب الجهاد والسير رقم 2882، 2883.
(4) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4075.(6/198)
لم تقاتل المشركين يوم أحد إلا أم عمارة نسيبة المازنية رضي الله عنها وهذا ضمرة بن سعيد يحدث عن جدّته، وكانت قد شهدت أحداً تسقي الماء قالت: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان وكان يراها تُقاتل يومئذ أشدّ القتال، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها، حتى جُرحت ثلاثة عشر جرحاً فلما حضرتها الوفاة كنت فيمن غسّلها، فعددت جراحها جرحاً جرحاً فوجدتها ثلاثة عشر جرحاً. وكانت تقول: إني لأنظر إلى ابن قميئة وهو يضربها على عاتقها - وكان أعظم جراحها، لقد داوته سنة - ثم ناد منادي النبي - صلى الله عليه وسلم -: إلى حمراء الأسد! فشدّت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم، ولقد مكثنا ليلنا نكمّد الجراح حتى أصبحنا، فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحمراء، ماوصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبدالله بن كعب المازني(1) - أخو أم عمارة - يسأل عنها، فرجع إليه يخبره بسلامتها فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك(2).
وقد علق الأستاذ حسين الباكري عن مشاركة نسيبة بنت كعب في القتال فقال: وخروج المرأة للقتال مع الرجال لم يثبت في ذلك منه شيء غير قصة نسيبة وقتال نسيبة إنما كان اضطرارياً حين رأت أن رسول الله أصبح في خطر حين انكشف عنه الناس، فأم عمارة إذا كانت في موقف أصبح حمل السلاح واجباً على من يقدر على حمله رجلاً كان أو امرأة(3).
__________
(1) أخو أم عمارة. انظر: الذهبي سير أعلام النبلاء (2/278).
(2) المغازي للواقدي (1/269-270).
(3) انظر: مرويات غزوة أحد، ص254.(6/199)
وعلق الدكتور أكرم ضياء العمري على الآثار الدالة في مشاركة النساء في أحد بقوله: وهذه الآثار تدل على جواز الانتفاع بالنساء عند الضرورة لمداواة الجرحى وخدمتهم إذا أمنت فتنتهن مع لزومهن الستر والصيانة، ولهن أن يدافعن عن أنفسهن بالقتال إذا تعرض لهن الأعداء، مع أن الجهاد فرض على الرجال وحدهم إلا إذا داهم العدو ديار المسلمين فيجب قتاله من الجميع رجالاً ونساء(1).
وأما الأستاذ محمد أحمد باشميل فقد قال: وقد كانت معركة أحد أول معركة قاتلت فيها المرأة المسلمة المشركين في الإسلام ومن الثابت أن امرأة واحدة فقط اشتركت في هذه المعركة، وهي تدافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما أنه من الثابت أيضاً أن المرأة التي اشتركت في معركة أحد، لم تخرج بقصد القتال فهي لم تكن مجندة فيها كالرجال، وإنما خرجت لتنظر مايصنع الناس لتقوم بأية مساعدة يمكنها القيام بها للمسلمين كإغاثة الجرحى بالماء وماشابه ذلك، يضاف إلى هذا أن هذه المرأة التي خاضت معركة أحد هي امرأة قد تخطت سن الشباب، كما أنها لم تخرج إلى المعركة إلاّ مع زوجها وابنيها الذين كانوا من الجند الذين قاتلوا في المعركة، يضاف إلى هذا الرصيد الهائل الذي لديها من المناعة الخلقية والتربية الدينية، فلا يقاس على هذه الصحابية الجليلة مجنّدات هذا الزمان اللواتي يرتدين لباس الميدان وعنصر الاغراء والفتنة هو أهم عنصر يتميزن به ويحرصن على إظهاره للرجال فأين الثرى من الثريا؟؟
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/391).(6/200)
كذلك رجال ذلك العصر لايقاس عليهم أحد من رجال هذا الزمان من ناحية الشهامة والاستقامة والعفة والرجولة، فكل المحاربين الذين اشتركت معهم امرأة في معركة أحد كانوا صفوة الأمة الإسلامية ورمز نبلها وشهامتها وعنوان رجولتها واستقامتها .. فلا يصح مطلقاً جعل اشتراك تلك المرأة في معركة أحد قاعدة تقاس عليها (من الناحية الشرعية) إباحة تجنيد المرأة في هذا العصر لتقاتل بجانب الرجل (كعنصر أساسي من عناصر الجيش) فالقياس في هذه الحالة قياس مع الفارق وهو قياس باطل قطعاً(1).
سابعاً: دروس في الصبر تقدمها صحابيات للأمة:
أ- صفية بنت عبدالمطلب رضي الله عنها:
لما استشهد أخوها حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه في أحد وجاءت لتنظر إليه وقد مثل به المشركون فجدعوا أنفه وبقروا بطنه، وقطعوا أذنيه ومذاكيره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابنها الزبير بن العوام:(القها فأرجعها، لاترى ما بأخيها، فقال لها: يا أمه إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه قد مثل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك ! لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله.
فلما جاء الزبير بن العوام رضي الله عنه إلى رسول الله فأخبره بذلك، قال: خل سبيلها، فأتته، فنظرت إليه، فصلت عليه واسترجعت(2)، واستغفرت له(3).
ب- حمنة بنت جحش رضي الله عنها:
__________
(1) انظر: غزوة أحد، محمد باشميل، ص171، 172، 173.
(2) استرجعت: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/108).(6/201)
لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دفن أصحابه رضي الله عنهم ركب فرسه وخرج المسلمون حوله راجعين إلى المدينة، فلقيته حَمْنَةُ بنت جحش، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ياحمنة: احتسبي، قالت: من يارسول الله؟ قال:( خالك حمزة بن عبدالمطلب، قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، غفر الله له، هنيئاً له الشهادة، ثم قال لها: احتسبي: قالت: من يارسول الله؟ قال: زوجك مصعب بن عمير، قالت: واحزناه، وصاحت وولولت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن زوج المرأة منها لبمكان، لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها، وصياحها على زوجها ثم قال لها: ولم قلت هذا؟ قالت: يارسول الله، ذكرت يُتْمُ بنيه فراعني فدعا لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولِوَلدها أن يحسن الله تعالى عليهم من الخلف(1)، فتزوجت طلحة بن عبيدالله فولدت منه محمداً وعمران(2)، وكان محمد بن طلحة أوصل الناس لولدها(3).
جـ- المرأة الدينارية رضي الله عنها:
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأحد، فلما نعوا لها قالت: فما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها اليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل(4)، تريد صغيرة وهكذا يفعل الإيمان في نفوس المسلمين.
د- أم سعد بن معاذ وهي كبشة بنت عبيد الخزرجية رضي الله عنها:
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (4/47)، غزوة أحد دارسة دعوية ، ص236.
(2) انظر: الإصابة (8/88) رقم 11060.
(3) انظر: غزوة أحد لأبي فارس ، ص109.
(4) انظر: البداية والنهاية (4/48).(6/202)
خرجت أم سعد بن معاذ تعدو نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف على فرسه، وسعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه، فقال سعد: يارسول الله، أمِّي فقال رسول الله مرحباً بها، فدنت حتى تأمّلت رسول الله فقالت: أما إذا رأيتك سالماً، فقد أشوَت(1) المصيبة، فعزّاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعمرو بن معاذ ابنها، ثم قال: يا أم سعد، أبشري وبشرِّي أهليهم أنَّ قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعاً- وهم اثنا عشر رجلاً- وقد شُفّعوا في أهليهم. قالت: رضينا يارسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: ادع يارسول الله لمن خُلِّفوا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم أذهب حُزن قلوبهم واجْبُر مصيبتهم، وأحسن الخَلَف على من خُلّفوا(2) .
المبحث الرابع
بعض الدروس والعبر والفوائد
لقد وصف القرآن الكريم غزوة أحد وصفاً دقيقاً وكان التصوير القرآني للغزوة أقوى حيوية ووضوحاً من الروايات التي جاءت في الغزوة، كما أن أسلوب الآيات المطمئنة المبشرة واللائمة، والمسكنة والواعظة كان رائعاً وقوياً، فبين القرآن الكريم نفوس جيش النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا تميز لحديث القرآن عن الغزوة، ينفرد به عن ماجاء في كتب السيرة فسلط القرآن الكريم الأضواء على خفايا القلوب، التي ماكان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم والناظر عموماً في منهج القرآن في التعقيب على غزوة أحد، يجد الدقة والعمق والشمول... يقول سيد قطب: الدقة في تناول كل موقف، وكل حركة، وكل خالجة، والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة، والشمول لجوانب النفس وجوانب الحادث.
__________
(1) أشوَت: صارت صغيرة خفيفة.
(2) انظر: مغازي الواقدي (1/315-316).(6/203)
كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء، بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجاً عميقاً عنيفاً، ولاتملك أن تقف جامدة أمام الوصف، والتعقيب فهو وصف حي، يستحضر المشاهد - كما لو كانت تتحرك - ويشيع حولها النشاط المؤثر والإشعاع النافذ، والإيحاء المثير(1).
إن حركة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تربية الأمة وإقامة الدولة والتمكين لدين الله يعتبر انعكاساً في دنيا الحياة لمفاهيم القرآن الكريم التي سيطرت على مشاعره وأفكاره وأحاسيسه - صلى الله عليه وسلم - ولذلك نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في علاجه لأثر الهزيمة في أحد تابع للمنهج القرآني الكريم ونحاول تسليط الأضواء على بعض بالنقاط المهمة في هذا المنهج.
أولاً: تذكير المؤمنين بالسنن ودعوتهم للعلو الإيماني:
قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ صدق الله العظيم هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ صدق الله العظيم وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، آية:137،138،139).
إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة يجد أن الله -سبحانه- وتعالى لم يترك المسلمين لوساوس الشيطان في محنة غزوة أحد، بل خاطبهم بهذه الآيات التي بعث بها الأمل في قلوبهم، وأرشدهم إلى مايقويهم ويثبتهم، ويمسح بتوجيهاته دموعهم ويخفف عنهم آلامهم(2).
قال القرطبي: هو تسلية من الله تعالى للمؤمنين(3).
__________
(1) في ظلال القرآن (1/532).
(2) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/190).
(3) انظر: تفسير القرطبي (4/216).(6/204)
ففي الآيات السابقة دعوة للتأمل في مصير الأمم السابقة التي كذبت بدعوة الله تعالى وكيف جرت فيهم سنته على حسب عادته، وهي الإهلاك والدمار بسبب كفرهم وظلمهم وفسوقهم على أمره.
وجاء التعبير بلفظ كيف الدال على الاستفهام، المقصود به تصوير حالة هؤلاء المكذبين التي تدعو إلى التعجب، وتثير الاستغراب، وتغرس الاعتبار والاتعاظ في قلوب المؤمنين، لأن هؤلاء المكذبين مكن الله لهم في الأرض ومنحهم الكثير من نعمه.. ولكنهم لم يشكروه عليها، فأهلكهم بسبب طغيانهم(1).
وفي قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} دعاهم إلى ترك الضعف، ومحاربة الجبن، والتخلص من الوهن، وعدم الحزن، لأنهم هم الأعلون بسبب إيمانهم.
ثانياً: تسلية المؤمنين وبيان حكمة الله فيما وقع يوم أحد:
قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ صدق الله العظيم وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ صدق الله العظيم أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ صدق الله العظيم وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، آية:
140-143).
__________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/191).(6/205)
بين لهم أن الجروح والقتلى يجب أن لاتؤثر في جسدهم واجتهادهم في جهاد العدو، وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله من قبل ذلك، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب، فبأن لايلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى(1).
وقال صاحب الكشاف: والمعنى: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم، ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أولى أن لاتضعفوا(2).
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنه كان يوم أحد بيوم بدر، قتل المؤمنون يوم أحد، اتخذ الله منهم شهداء، وغلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر المشركين فجعل الدولة عليهم(3).
وجواب الشرط في قوله تعالى:{ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ....}الخ، محذوف والتقدير: إن يمسكم قرح فاصبروا عليه واعقدوا عزمكم على قتال أعدائكم، فقد مسهم قرح مثله قبل ذلك.
وعبر عما أصاب المسلمين في أحد بصيغة المضارع (يمسسكم) لقربه من زمن الحال، وعما أصاب المشركين بصيغة الماضي لبعده، لأن ماأصابهم كان في غزوة بدر.
وقوله: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} بيان لسنة الله الجارية في كونه وتسلية للمؤمنين عما أصابهم في أحد(4).
وقوله:{ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا}. قال القرطبي: معناه وإنما كانت هذه المداولة ليُرَى المؤمن من المنافق فيميز بعضهم من بعض(5) وقوله:{ وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}. قال ابن كثير: يعني يقتلون في سبيله ويبذلون مهجهم في مرضاته(6).
__________
(1) انظر: تفسير الرازي (9/14).
(2) انظر: تفسير الكشاف (1/465).
(3) انظر: تفسير الرازي (4/105).
(4) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/195).
(5) انظر: تفسير القرطبي (4/218).
(6) انظر: تفسير ابن كثير (1/408).(6/206)
ثم ختم سبحانه - الآية الكريمة بقوله:{ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} ثم ذكر -سبحانه- حكمتين أخريين لما جرى للمؤمنين في غزوة أحد فقال:{ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} وقوله:{ وَلِيُمَحِّصَ} من المحص بمعنى التنقية والتخليص أو من التمحيص بمعنى الابتلاء والاختبار.
وقوله:{وَيَمْحَقَ} من المحق وهو محو الشيء والذهاب به قال الطبري: والمعنى: وليختبر الله الذين صدقوا الله ورسوله فيبتليهم بإزالة المشركين منهم حتى يتبين المؤمن منهم المخلص الصحيح الإيمان من المنافق(1).
وقال ابن كثير: قوله: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا}اي يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به.
وقوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم(2) والمعنى: ولقد فعل -سبحانه- مافعل في غزوة أحد، لكي يطهر المؤمنين ويصفيهم من الذنوب، ويخلصهم من المنافقين المندسين بينهم، ولكي يهلك الكافرين ويمحقهم بسبب بغيهم وبطرهم.
وقد ذكر الله تعالى أربع حكم لما حدث للمؤمنين في غزوة أحد وهي: تحقق علم الله تعالى وإظهاره للمؤمنين، وإكرام بعضهم بالشهادة التي توصل صاحبها إلى أعلى الدرجات وتطهير المؤمنين وتخليصهم من ذنوبهم ومن المنافقين، ومحق الكافرين واستئصالهم رويداً رويداً(3).
__________
(1) انظر: تفسير الطبري (4/107).
(2) انظر: تفسير ابن كثير (1/408).
(3) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/199).(6/207)
ثم قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (سورة آل عمران، آية:142) والمعنى: أحسبتم يامن انهزم يوم أحد أن تدخلوا الجنة كما دخل الذين قتلوا وصبروا على ألم الجراح والقتل غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم؟ لا حتى {يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} أي علم شهادة حتى يقع عليه الجزاء {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}(1).
وقال ابن كثير: أي لايحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله، والصابرين على مقاومة الأعداء(2)، ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (سورة آل عمران، آية:143).
قال ابن كثير: قد كنتم - أيها المؤمنون- قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو وتحترقون عليه وتودون مناجزتهم ومصابرتهم فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه فدونكم فقاتلوا وصابروا(3).
ثالثاً: كيفية معالجة الأخطاء:
ترفق القرآن الكريم وهو يعقب على ماأصاب المسلمين في (أحد) على عكس مانزل في بدر من آيات، فكان أسلوب القرآن الكريم في محاسبة المنتصر على أخطائه أشد من حساب المنكسر فقال في غزوة بدر{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ صدق الله العظيم لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ صدق الله العظيم } (سورة الأنفال، آية:67-68).
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي (4/220).
(2) انظر: تفسير ابن كثير (1/409).
(3) نفس المصدر (1/409).(6/208)
وقال في أحد: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (سورة آل عمران، آية:152) وفي هذا حكمة عملية، وتربية قرآنية، يحسن أن يلتزمها أهل التربية والقائمون على التوجيه(1).
رابعاً: ضرب المثل بالمجاهدين السابقين:
قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ صدق الله العظيم وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ صدق الله العظيم فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، آية:146-148).
قال ابن كثير: عاتب الله بهذه الآيات والتي قبلها من انهزام يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمداً قد قتل فعذلهم الله على فرارهم وتركهم القتال(2).
__________
(1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة ، ص137.
(2) انظر: تفسير ابن كثير (1/410).(6/209)
وضرب الله لهم مثلاً بإخوانهم المجاهدين السابقين، وهم جماعات كثيرة، ساروا وراء أنبيائهم في درب الجهاد في سبيل الله، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وماضعفوا عن الجهاد بعد الذي أصابهم منه وما استكانوا للعدو، بل ظلوا صابرين ثابتين في جهادهم، وفي هذا تعريض بالمسلمين الذين أصابهم الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم، وضرب الله مثلاً للمؤمنين لتثبيتهم بأولئك الربانيين وبما قالوه: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (سورة آل عمران، آية:147). وهذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى نفوسهم مع كونهم ربانيين هضم لها واعتراف منهم بالتقصير ودعاؤهم بالاستغفار من ذنوبهم مقدّم على طلبهم تثبيت أقدامهم أمام العدو، ليكون طلبهم إلى ربهم النصر عن زكاة وطهارة وخضوع، وفي هذا تعليم للمسلمين إلى أهمية التضرع، والاستغفار وتحقيق التوبة وتظهر أهمية ذلك في إنزال النصر على الأعداء {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . أي وبذلك نالوا ثواب الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والثواب الحسن في الآخرة، جزاء إحسانهم في أدب الدعاء والتوجه إلى الله وإحسانهم، في موقف الجهاد وكانوا بذلك مثلاً يضربه الله للمسلمين المجاهدين، وخص الله تعالى ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه على ثواب الدنيا وأنه هو المعتمد عنده(1).
خامساً: مخالفة ولي الأمر تسبب الفشل لجنوده:
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/204).(6/210)
ويظهر ذلك في مخالفة الرماة لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ووقوعهم في الخطأ الفظيع الذي قلب الموازين، وأدى إلى الخسائر الفادحة التي لحقت بالمسلمين ولكي نعرف أهمية الطاعة لولي الأمر، نلحظ أن انخزال عبدالله بن أبي ومن معه من المنافقين لم يؤثر على المسلمين، بينما الخطأ الذي ارتكبه الرماة الذين أحسن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تربيتهم وأسند لكل واحد منهم عملاً ثم خالفوا أمره - صلى الله عليه وسلم - كان ضرره على المسلمين عامة، حيث سلط الله عليهم عدوهم، وذلك بسبب عصيان الأوامر ثم اختلطت أمورهم وتفرقت كلمتهم، أن يقضي على الدعوة الإسلامية وهي في مهدها.
ونلحظ من خلال أحداث غزوة أحد: أن المسلمين انتصروا في أول الأمر حينما امتثلوا لأوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وانقادوا لتعليمات قائدهم وأميرهم عبدالله بن جبير رضي الله عنه، بينما انهزموا حينما خالفوا أمره - صلى الله عليه وسلم - ونزل الرماة من الجبل لجمع الغنائم مع بقية الصحابة(1) رضي الله عنهم، قال تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (سورة آل عمران، آية:152).
__________
(1) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية ، ص207، 208، 209.(6/211)
يقول الشيخ محمد بن عثيمين:(ومن آثار عدم الطاعة ماحصل من معصية بعض الصحابة رضي الله عنهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم، وهم يجاهدون في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله .. والذي حصل أنه لما كانت الغلبة للمؤمنين، ورأى بعض الرماة أن المشركين انهزموا، تركوا الموضع الذي أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يبرحوه، وذهبوا مع الناس، وبهذا كر العدو عليهم من الخلف، وحصل ماحصل من الابتلاء والتمحيص للمؤمنين، وقد أشار الله تعالى إلى هذه العلة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (سورة آل عمران، آية:152). هذه المعصية الذي فات بها نصر انعقدت أسبابه، وبدأت أوائله، هي معصية واحدة، والرسول عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم، فكيف بالمعاصي الكثيرة؟ ولهذا نقول: إن المعاصي من آثارها أن الله يسلط بعض الظالمين على بعض بما كانوا يكسبون، ويفوتهم من أسباب النصر والعزة بقدر ماظلموا فيه أنفسهم(1).
__________
(1) انظر: الطاعة والمعصية وأثرهما في المجتمع، محمد بن الكثيمين نقلاً عن غزة أ؛د ، ص211.(6/212)
إن طاعة ولي الأمر أمر ضروري تأتي بعد طاعة الله ورسوله قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (سورة النساء، آية:59) قال العلماء:(نزلت الآية في الرعية من الجيوش وغيرهم، عليهم أن يطيعوا ولاة الأمر، الفاعلين لذلك، في قسْمِهم وحُكمهم، ومغازيهم، وغير ذلك)(1).
إن طاعة ولي الأمر (أصل عظيم من أصول الواجبات الدينية حتى أدرجها الأئمة في جملة العقائد الإيمانية)(2).
ولها أهمية في تربية الأمة وإقامة الدولة ويمكن أن نلخص أهمية الطاعة في النقاط الآتية:
الامتثال لأمر الله عزوجل وطاعته فيما أمر قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (سورة النساء، آية:59).
إن طاعة ولي الأمر وسيلة وليست غاية، وسيلة لإقامة شرع الله في الأرض، وإحقاق الحق، وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لتحقيق خيرية هذه الأمة وإعلاء كلمة التوحيد، وإفراد العبودية لله عزوجل.
إجتماع كلمة المسلمين، لأن في الخلاف فساد أحوالهم في دينهم ودنياهم(3).
أن يستعينوا بها على إظهار دينهم، وطاعة ربهم.
أن فيها سعادة الدنيا.
__________
(1) انظر: مجموع الفتاوى (28/246).
(2) بدائع السالك في طبائع الملك لابن الأزرق (1/77).
(3) انظر: غزوة احد دراسة دعوةي ، ص200.(6/213)
ولهذا كان من أصول مذهب أهل السنة والجماعة أننا:(لانرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولاندعو عليهم، ولاننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزوجل فريضة، مالم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة)(1).
سادساً: خطورة إيثار الدنيا على الآخرة:
وردت نصوص عديدة من آيات وأحاديث تبين منزلة الدنيا عند الله وتصف زخارفها وأثرها على فتنة الإنسان، وتحذر من الحرص عليها قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (سورة آل عمران، آية:14).
وقد حذر الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أمته من الاغترار بالدنيا، والحرص الشديد عليها في أكثر من موضع، وذلك لما لهذا الحرص من أثره السيء على الأمة عامة وعلى من يحملون لواء الدعوة خاصة ومن ذلك:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)(2) ويظهر للباحث أثر الحرص على الدنيا في غزوة أحد.
__________
(1) انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي، تحقيق د.عبدالله التركي (2/540).
(2) مسلم، رقم 2742.(6/214)
قال ابن عباس رضي الله عنه: لما هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرماة: (ادركوا الناس و نبي الله لايسبقوكم إلى الغنائم، فتكون لهم دونكم) وقال بعضهم:(لا نريم(1) حتى يأذن لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -)(2) فنزلت: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} (سورة آل عمران، آية:152).
قال الطبري: قوله سبحانه{ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} (سورة آل عمران، آية:152) يعني الغنيمة قال ابن مسعود: ماكنت أرى أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد(3) {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} (سورة آل عمران، آية:152).
إن الذي حدث في أحد عبرة عظيمة للدعاة وتعليماً لهم بأنّ حب الدنيا قد يتسلل إلى قلوب أهل الإيمان ويخفى عليهم، فيؤثرون الدنيا ومتاعها على الآخرة ومتطلبات الفوز بنعيمها، ويعصون أوامر الشرع الصريحة كما عصى الرماة أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصريحة بتأويل ساقط، يرفعه هوى النفس وحب الدنيا، فيخالفون الشرع وينسون المحكم من أوامره، كل هذا يحدث ويقع من المؤمن وهو غافل عن دوافعه الخفية، وعلى رأسها حب الدنيا، وإيثارها على الآخرة ومتطلبات الإيمان، وهذا يستدعي من الدعاة التفتيش الدائم الدقيق في خبايا نفوسهم واقتلاعه حب الدنيا منها، حتى لاتحول بينهم وبين أوامر الشرع، ولاتوقعهم في مخالفته بتأويلات ملفوفة بهوى النفس وتلفتها إلى الدنيا ومتاعها(4).
سابعاً: التعلق والارتباط بالدين:
__________
(1) لا نرم: لا نبرح المكان.
(2) انظر: تفسير الطبري (3/474).
(3) نفس المصدر (3/474).
(4) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/197).(6/215)
قال ابن كثير: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان، ألا إن محمداً قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمداً، وإنما كان قد ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، وجوزوا عليه ذلك، كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام، فحصل ضعف ووهن وتأخر، عن القتال، ففي ذلك أنزل الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (سورة آل عمران، آية:144). أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه..(1).
وقد جاء في تفسير الآية السابقة: إن الرسل ليست باقية في أقوامها أبداً فكل نفس ذائقة الموت، ومهمة الرسول تبليغ ماأرسل به وقد فعل، وليس من لوازم رسالته البقاء دائماً مع قومه، فلا خلود لأحد في هذه الدنيا، ثم قال تعالى منكراً على من حصل له ضعف لموت النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قتله، فقال تعالى:{ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُم} اي رجعتم القهقري وقعدتم عن الجهاد، والانقلاب على الأعقاب يعني الأدبار عما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم به من أمر الجهاد ومتطلباته، {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} الذين لم ينقلبوا أو ظلوا ثابتين على دينهم متبعين رسوله حيا أو ميتاً(2).
__________
(1) انظر: تفسير القرآن العظيم (1/441).
(2) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/200).(6/216)
لقد كان من أسباب البلاء والمصائب التي حدثت للمسلمين يوم أحد أنهم ربطوا إيمانهم وعقيدتهم ودعوتهم إلى الله لإعلاء كلمته بشخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الربط بين عقيدة الإيمان بالله رباً معبوداً وحده وبين بقاء شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد فيهم خالطه الحب المغلوب بالعاطفة، الربط بين الرسالة الخالدة وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - البشر الذي يلحقه الموت كان من أسباب مانال الصحابة رضي الله عنهم من الفوضى والدهشة والاستغراب ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أساس وجوب التأسي به في الصبر على المكاره، والعمل الدائب على نشر الرسالة، وتبليغ الدعوة ونصرة الحق، وهذا التأسي هو الجانب الأغر من جوانب منهج رسالة الإسلام، لأنه الدعامة الأولى في بناء مسيرة الدعوة لإعلاء كلمة الله ونشرها في آفاق الأرض وعدم ربط بقاء الدين واستمرار الجهاد في سبيله ببقاء شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الدنيا لايلحقه فناء بموت أو قتل، وإيجاب متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتأسي به علماً وعملاً هما الوشيجة العظمى لتماسك المجتمع المسلم، ولاسيما الدعاة إلى الله من أتباعه(1).
__________
(1) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون، (3/616).(6/217)
قال ابن القيم: إن غزوة أحد كانت مقدمة وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فثبتهم، ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو قتل، بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه، أو يقتلوا، فإنهم إنما يعبدون رب محمد، وهو لايموت فلو مات محمد أو قتل، لاينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه، وماجاء به فكل نفس ذائقة الموت، ومانُعتَ محمد - صلى الله عليه وسلم - ليخلَّد، لاهو ولاهم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لابد منه، سواء مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بقى، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان. إن محمداً قد قتل، فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (سورة آل عمران. آية:144). والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا فظهر أثر هذا العتاب، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وارتد من ارتد على عقبيه وثبت الشاكرون على دينهم، فنصرهم الله، وأعزهم وظفّرهم بأعدائهم وجعل العاقبة لهم)(1).
__________
(1) انظر: زاد المعاد (3/224).(6/218)
قال القرطبي: (فهذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين، أي لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد، والنبوة لاتدرأ الموت، والأديان لاتزول بموت الأنبياء)(1)، وكلامه رحمه الله نفيس جداً، فالذين ظنوا من قبل أن الإسلام قد انتهى بموت النبي - صلى الله عليه وسلم -، والذين يظنون أن ظهور الإسلام ودعوته متوقف على شخص بعينه، فهؤلاء وأولئك قد أخطأوا ولم يقدروا هذا الدين قدره ولم يوفوه حقه، لأن ظهور هذا الدين وهيمنته على كل الأديان، هو قدر الله عزوجل وسنته، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (سورة التوبة، آية:33).
فسبب ظهور هذا الدين أنه حق وأنه هدى(2).
في غزوة أحد نزل التشريع الإلهي بالعتاب على ماحدث منهم أثناء أحداث غزوة أحد وعند موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء التطبيق حيث (لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على فرس من مسكنه بالسُّنْحِ، حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها فتيمم(3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مغَشّى بثوب حَبرة(4)، فكشف عن وجهه - صلى الله عليه وسلم -، ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لايجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها)(5).
__________
(1) انظر: تفسيرالقرطبي (4/222).
(2) انظر: مرض النبي ووفاته وأثر ذلك على الأمة، خالد أبو صالح، ص20 نقلاً عن غزوة أحد دراسة دعوية ، ص191.
(3) فتيمّم : قصد.
(4) الحبرة: نوع من برود اليمن مخططة غالية الثمن.
(5) البخاري، كتاب المغازي، باب مرض رسول الله ووفاته رقم 2252.(6/219)
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال:(أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس ياعمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر - رضي الله عنه - فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: أما بعد من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لايموت قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (سورة آل عمران، آية:144). وقال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها. فأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه قال: والله ماهو إلا أن سمعت أبا بكر رضي الله عنه تلاها فعقرت(1)، حتى ماتقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها علمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات(2).
ثامناً: معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - للرماة الذين أخطأوا والمنافقين الذين انخذلوا:
أ- الرماة:
__________
(1) عقرت: دهشت وتحيرت، وسقطت.
(2) انظر: البخاري، كتاب المغازي ، رقم 4452.(6/220)
إن الرماة الذين أخطأوا الاجتهاد في غزوة أحد لم يخرجهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - خارج الصف، ولم يقل لهم، إنكم لاتصلحون لشيء من هذا الأمر، بعدما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف، بل قبل ضعفهم هذا في رحمة وعفو وفي سماحة، ثم شمل سبحانه وتعالى برعايته وعفوه جميع الذين اشتركوا في هذه الغزوة رغم ماوقع من بعضهم من أخطاء جسيمة وماترتب عليه من خسائر فادحة فعفا سبحانه وتعالى عفواً غسل به خطاياهم ومحا به آثار تلك الخطايا قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (سورة آل عمران، آية:152). وهناك أمر مهم يتصل بهذا العفو قد يترك أثراً في نفوسهم يعوقها بعض الشيء ذلك هو موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما حدث منهم، إنهم يشعرون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو وحده الذي تحمل نتيجة تلك الأخطاء فلابد أن ينالوا منه عفواً تطيب به نفوسهم، وتتم به نعمة الله عليهم، لهذا أمر الله سبحانه وتعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يعفو عنهم وحثهم على الاستغفار لهم، كما أمره أن يأخذ رأيهم والاستماع إلى مشورتهم، ولايجعل ماحدث صارفاً له عن الاستفادة من خبراتهم ومشورتهم(1) قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}
__________
(1) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص218.(6/221)
(سورة آل عمران، آية:159).
ب- انخذال ابن سلول المنافق:
كان هدف عبدالله بن سلول بانسحابه بثلاثمائة من المنافقين، كان يريد أن يحدث بلبلة واضطراباً في الجيش الإسلامي، لتنهار معنوياته ويتشجع العدو، وتعلو همته وعمله هذا ينطوي على استهانة بمستقبل الإسلام، وغدر به، في أحلك الظروف، وقد حاول عبدالله بن حرام أن يمنعهم من ذلك الانخزال إلا أنهم رفضوا دعوته(1) وفيهم نزل قول الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، آية:166-167).
__________
(1) انظر: غزوة أحد دراسة دعوية، ص219.(6/222)
فبالرغم من خطورة الموقف وحاجة المسلمين لهذا العدد، لقلة جيش المسلمين وكثرة جيش قريش إلا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك هؤلاء المنافقين وشأنهم، ولم يعرهم أي اهتمام، واكتفى بفضح أمرهم أمام الناس(1) وكان لهذا الأسلوب أثره في توبيخ وإهانة ابن سلول، فعندما رجع رسول الله من غزوته من حمراء الأسد، أراد ابن سلول أن يقوم كعادته لحث الناس على طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الإمام الزهري: كان عبدالله بن أبي له مقام بقومه كل جمعه لاينكسر له شرفاً في نفسه وفي قومه وكان فيهم شريفاً إذا جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزكم به فانصروه وعزروه فقال: أيها الناس، هذا رسول الله بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزكم به فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ماصنع ورجع الناس قام يفعل ذلك كما كان يفعله فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا اجلس اي عدو الله والله لست لذلك بأهل وقد صنعت ماصنعت فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول والله لكأنما قلت بُجراً(2)، ان قمت أشدد أمره، فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك مالك؟ قال: قمت أشدد أمره فوثب إلي رجال من أصحابه يجبذونني ويعنفوني لكأنما قلت بُجراً أن قمت أشدد أمره قالوا ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله. قال: والله ما أبغي أن يستغفر لي(3).
تاسعاً: (أحد جبل نحبه ويحبنا):
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلع له أحد فقال: هذا جبل يحبنا ونحبه(4).
__________
(1) نفس المصدر، ص220.
(2) بُجراً: شراً.
(3) انظر: البداية والنهاية (4/53).
(4) انظر: صحيح البخاري ، المغازي ، رقم 4084.(6/223)
وهذا يدل على دقة شعور النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قارن بين ماكسبه المسلمون من منعة التحصن والاحتماء بذلك الجبل وما أودعه الله تعالى فيه من قابلية لذلك، فعبر عن ذلك بأرقى وشائج الصلة وهي المحبة، أفلا يُعتبر هذا الوجدان الحي والإحساس المرهف مثلاً أعلى على التخلق بخلق الوفاء؟
ألا وإن الذي يعترف بفضل الحجارة الصماء ويُفضي عليها من الأخلاق السامية مالا يتصف به إلا أفاضل العقلاء لجدير به أن يعترف بأدنى فضل يكون من بني الإنسان، وإذا كان وفاؤه - صلى الله عليه وسلم - للجماد قد سَمَى حتى حاز أرقى العبارات وأرقَّها فأخْلقْ ببني الإنسان الأوفياء أن ينالوا منه أعظم من ذلك، فضلاً عن من تجمعه بهم الأخوة في الله تعالى(1).
والحديث النبوي الشريف فيه كثير من المعاني منها ماذكره الحميدي ومنها ماقاله الاستاذ صالح الشامي حيث قال: والإنسان كثيراً مايربط بين المصيبة وبين مكانها أو زمانها.. وحتى لاتنسحب هذه العادة وتستمر بعد أن جاء الإسلام كان هذا القول الكريم بياناً للحق وابتعاداً عن الطيرة والتشاؤم، وذلك المعنى الذي يبقي الآثار السيئة في نفس الإنسان ولاشك أن المسلمين سيقفون على أحد يتذكرون تلك المعركة فحتى لايرتبط بفكرهم ذلك المعنى السيء، بيّن لهم أن المكان والزمان مخلوقات لله لاعلاقة لهما ولا أثر بما يحدث فيهما، وإنما الأمور بيد الله تعالى، والاستشهاد في سبيل الله كرامة لصاحبه لامصيبة، وهكذا تتساوق المفاهيم في إطارها الإيماني وإذا (أحد) يكرم ويحب انطلاقاً من هذا القول الكريم، وكيف لايكرم وقد اختاره الله ليثوي فيه حمزة وأصحابه ممن اختارهم الله في ذلك اليوم فجادوا بأنفسهم ابتغاء مرضاته(2).
عاشراً: الملائكة في أحد:
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي (5/198).
(2) انظر: معين السيرة النبوية ، ص427.(6/224)
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: رأيت عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن شماله، يوم أحد، رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال، مارأيتهما قبل ولابعد -يعني جبريل وميكائيل- عليهما السلام(1).
وهذا خاص بالدفاع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الله تكفل بعصمته من الناس، ولم يصح أن الملائكة قاتلت في أحد سوى هذا القتال، وإن وعدهم الله تعالى أن يمدهم، لأنه جعل وعده معلقاً على ثلاثة أمور: الصبر والتقوى وإتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الأمور فلم يحصل الإمداد(2)، قال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ ءَالافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ صدق الله العظيم بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، آية:124-125).
الحادي عشر: قوانين النصر والهزيمة من سورة الأنفال وآل عمران:
تحدثت سورة الأنفال عن غزوة بدر بشيء من التفصيل، وتحدثت سورة آل عمران عن غزوة أحد لكي تتعلم الأمة كثيراً من المفاهيم، تتعلق بمفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الحياة والموت، ومفهوم النصروالهزيمة، ومفهوم الربح والخسارة، ومفهوم الإيمان والنفاق، ومفهوم المحنة والمحق، ... ومن المفاهيم التي تعلمها الصحابة رضي الله عنهم من خلال أحداث بدر وأحد وسورتي الأنفال، وآل عمران، قوانين النصر والهزيمة وهذه القوانين قد بينتها الآيات الكريمة ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
__________
(1) مسلم، كتاب الفضائل، باب في قتال جبريل وميكائيل (4/1802).
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/391).(6/225)
النصر ابتداء وانتهاء، بيد الله عزوجل، وليس ملكاً لأحد من الخلق، يهبه الله لمن يشاء ويصرفه عمن يشاء، مثله مثل الرزق، والأجل والعمل: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة الأنفال، آية:10).
وحين يقدّر الله تعالى النصر، فلن تستطيع قوى الأرض كلها الحيلولة دونه، وحين يقدر الهزيمة، فلن تستطيع قوى الأرض أن تحول بينه وبين الأمة قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (سورة آل عمران، آية:160).
ج- ولكن هذا النصر له نواميس ثابتة عند الله عزوجل نحن بحاجة إلى فقهها، فلابد أن تكون الراية خالصة لله سبحانه عند الذين يمثلون جنده قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (سورة محمد، آية:7).
ونصر الله في الاستجابة له، والاستقامة على منهجه والجهاد في سبيله.
د- ووحدة الصف ووحدة الكلمة أساس في النصر، وتفريق الكلمة والاختلاف في الرأي دمار وهزيمة قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (سورة الأنفال، آية:46).
هـ- وطاعة أمر الله تعالى ورسوله وعدم الخروج عليها أساس في النصر، أما المعصية فتقود إلى الهزيمة قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (سورة الأنفال، آية:46).(6/226)
و- وحب الدنيا والتهافت عليها يفقد الأمة عون الله ونصره قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ....} (سورة آل عمران، آية:152).
ز- ونقص العدد والعدة، ليس هو سبب الهزيمة، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (سورة آل عمران، آية:123).
ح- ولكن لابد من الإعداد المادي والمعنوي لمواجهة العدو(1) قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (سورة الأنفال، آية:60).
ط- والثبات عند المواجهة، والصبر عند اللقاء من العوامل الرئيسية في النصر قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة الأنفال، آية:45).
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} (سورة الأنفال، آية:15).
__________
(1) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص461، 462.(6/227)
ي- ولاشيء يعين على الثبات والصبر عند اللقاء، مثل ذكر الله الكثير باتجاه القلب إلى الله وحده منزّل النصر، وطلب العون منه، والتوكل عليه، وعدم الاعتماد على العدد أو العدة أو الذات والتبرؤ من الحول والقوة، هو عامل أساسي من عوامل النصر(1) قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (سورة الأنفال، آية:45).
الثاني عشر: فضل الشهداء وماأعده الله لهم من نعيم مقيم:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طيرٍ خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: ياليت إخواننا يعلمون ماصنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولاينكلوا عن الحرب، فقال عزوجل: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عزوجل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيات(2) قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ صدق الله العظيم فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ صدق الله العظيم يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، آية:169-171).
__________
(1) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان ، ص463.
(2) انظر: تفسير الطبري (4/170).(6/228)
وقد جاء في تفسير الآيات السابقة مارواه الواحدي عن سعيد بن جبير أنه قال: لما أصيب حمزة بن عبدالمطلب، ومصعب بن عمير يوم أحد، ورأوا مارزقوا من الخير، قالوا: ليت إخواننا يعلمون ماأصابنا من الخير كي يزدادوا في الجهاد رغبة فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى:{ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} إلى قوله{وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}(1).
وروى مسلم بسنده عن مسروق، قال: سألنا عبدالله بن مسعود عن هذه الآية:{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.
قال: أما إنا سألنا عن ذلك، فقال:(أرواحهم في جوف طير خضر. لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث تشاء. ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يارب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى تقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا)(2).
الثالث عشر: الهجوم الإعلامي على المشركين:
كان الإعلام في العهد النبوي يقوم على الشعر، وكان شعراء المشركين في بدر في موقف الدفاع والرثاء وفي أحد حاول شعراء قريش أن يضخموا هذا النصر، فجعلوا من الحبة قبة وأمام هذه الكبرياء المزيفة، انبرى حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة للرد على حملات المشركين الإعلامية التي قادها شعراءهم كهبيرة بن أبي وهب، وعبدالله الزبْعري وضرار بن الخطاب وعمرو بن العاص(3).
__________
(1) انظر: أسباب النزول للواحدي، ص125؛ تفسير الطبري (4/269).
(2) مسلم، كتاب الامارة، باب ارواح الشهداء في الجنة (3/1502).
(3) انظر: معين السيرة، ص252، 253.(6/229)
وكانت قصائد حسان كالقنابل على المشركين، وقد أشاد بشجاعة المسلمين، حيث استطاعوا أن يقتلوا حملة المشركين، ويُوبِّخ المشركين ويصفهم بالجبن حينما لم يستطيعوا حماية لوائهم حتى كان في النهاية بيد امرأة منهم، وولَّى أشرافهم وتركوه، وفي هذا الهجاء تذكير للمشركين بمواقف الذل والجبن التي تعرضوا لها في بداية المعركة حتى لايغتروا بما حصل في نهايتها من إصابة المسلمين.
ولقد أصاب حسان من المشركين مقتلاً حينما عيرهم بالتخلي عن اللواء وإقدام امرأة منهم على حمله، وهذا يتضمن وصفهم بالجبن الشديد حيث أقدمت امرأة على مانكلوا عنه(1).
ومما قاله في شأن عَمْرة بنت عَلقمة الحارثية ورفعها اللواء:
إذا عَضَلٌ سقيت إلينا كأنها
... ... ... جداية شِرْك معلمات الحواجب(2)
أقمنا لهم طعناً مُبيراً مُنكِّلاً
... ... ... وحزناهم بالضرب من كل جانب(3)
فلولا لواء الحارثية أصبحوا
... ... ... يُباعون في الأسواق بيع الجلائب(4)
وعندما أخذ اللواء من الحارثية غلام حبشي لبني طلحة، كان لواء المشركين قد أخذه صؤاب من الحارثية وقاتل به قتالاً عنيفاً قتل على أثره فرمى حسان بن ثابت أبياته في هذا الموضوع فقال:
فخرتم باللواء وشرُّ فخر
... ... ... لواء حين رُدَّ إلى صُؤاب
جعلتم فخركم فيه بعبد
... ... ... وألأم من يطا عَفَر التراب
ظننتم، والسفيه له ظنون
... ... ... وما إن ذاك من أمر الصَّوَاب(5)
ومما قاله كعب بن مالك رضي الله عنه في الرد على بعض شعراء قريش قال:
أبلغ قريشاً وخير القول أصدقه
... ... ... والصدق عند ذوي الألباب مقبول(6)
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي (5/21).
(2) عضل: اسم قبيلة بن خزيمة، الجدابة: الصغير من أولاد الظباء.
(3) مبيراً: مهلكاً. ومنكلاً: قامعاً لهم ولغيرهم.
(4) الجلابيب: مايجلب الى الاسواق ليباع فيها.
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/87).
(6) الألباب: العقول.(6/230)
أن قد قتلنا بقتلانا سَرَاتَكم
... ... ... أهل اللواء ففيما يكثر القيل
ويوم بدر لقيناكم لنا مداد
... ... ... فيه مع النَّصر ميكال وجبريل
إن تقتلونا فدين الحق فطرتنا
... ... ... والقتل في الحق عند الله تفضيل
وإن تروا أمرنا في رأيكم سفهاً
... ... ... فرأي من خالف الإسلام تضليل(1)
ومن أعجب ماقرأت في المعركة الإعلامية بين المسلمين والمشركين محاولة ضرار بن الخطاب قبل إسلامه أن يفتخر ببدر على اعتبار النصر كان لرسول الله والمهاجرين وفي ذلك قوله:
فإن تظفروا في يوم بدر فإنما
... ... ... بأحمد أمسى جدُّكم وهو ظاهر
وبالنفر الأخيار هم أولياؤه
... ... ... يحامون في اللأواء والموت حاضر
يعد أبو بكر وحمزة فيهم
... ... ... وبُدْ عن عليُّ وسْط من أنت ذاكر
ويدعى أبو حفص وعثمان منهم
... ... ... وسعد إذا ماكان في الحرب حاضر
أولئك لامن نتَّجت من ديارها
... ... ... بنو الأوس والنجار حين تفاخر(2)
وهكذا حوّلها إلى لغة قبلية تقوم على مفاهيم جاهلية ولقد أجابه كعب رضي الله عنه:
وفينا رسول الله والأوس حوله
... ... ... له معقل منهم عزيز وناصر
وجمع بني النجار تحت لوائه
... ... ... يمسون في المأذى والنقع ثائر
إلى أن قال:
وكان رسول الله قد قال أقبلوا
... ... ... فولّوا وقالوا: إنما أنت ساحر
لأمر أراد الله أن يهلكوا به
... ... ... وليس لأمر حمَّه النار زاجر
كما أجابه بقوله:
وبيوم بدر إذ نرد وجوههم
... ... ... جبريل تحت لوائنا ومحمد
وهو أفخر بيت قالته العرب كما قال صاحب العقد الفريد(3).
الفصل العاشر
أهم الأحداث مابين أحد والخندق
المبحث الأول
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/164).
(2) انظر: معين السيرة، ص252.
(3) انظر: معين السيرة، ص252.(6/231)
محاولات المشركين لزعزعة الدولة الإسلامية
كانت غزوة أحد مشجعة لأعداء الدولة الإسلامية على مواجهتها، وساد الشعور لدى الأعراب المشركين، بإمكان مناوشة المسلمين والتغلب عليهم، واتجهت انظار المشركين من الأعراب إلى غزو المدينة لاستئصال شأفتهم، وكسر شوكتهم، فطمعت بنو أسد في الدولة الإسلامية، وشرع خالد بن سفيان الهزلي لجمع الحشود لكي يهاجم بها المدينة، وتجرأت عَضَل والقارة على خداع المسلمين، وقام عامر بن الطفيل يقتل القرّاء الدعاة الآمنين، وحاولت يهود بني النضير أن تغتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتصدى لهذه المحاولات الماكرة الحبيب المصطفى بشجاعة فائقة، وسياسة ماهرة، وتخطيط سليم، وتنفيذ دقيق.
أولاً: طمع بني أسد في الدولة الإسلامية:(6/232)
بلغت النبي - صلى الله عليه وسلم - بواسطة عيونه المنبثة في الجزيرة العربية أخبار الاستعدادات التي قام بها بنو أسد بن خزيمة بقيادة طليحة الأسدي من أجل غزو المدينة طمعاً في خيراتها، وانتصاراً لشركهم، ومظاهرة لقريش في عدوانها على المسلمين، فسارع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تشكيل سرية في مئة وخمسين رجلاً من المهاجرين والأنصار وأمرّ عليهم أبا سلمة بن عبدالأسد(1)، المخزومي، وعقد له لواء، وقال له: سر حتى تنزل أرض بني أسد، فأغر عليهم قبل أن تتلاقى عليك جموعهم(2)، فسار إليهم أبو سلمة في المحرم(3)، فأغار على أنعامهم، ففروا من وجهه فأخذها، ولم يلق عناء في تشتيت أعداء الإسلام وعاد إلى المدينة مظفراً، وأبو سلمة يعد من السابقين إلى الإيمان ومن خيرة الرعيل الأول، وقد عاد من هذه الغزوة متعباً، إذ نغر جرحه الذي أصابه في (أحد) فلم يلبث حتى مات(4) ونلحظ في هذه السرية عدة أمور منها: الدقة في التخطيط الحربي، عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث فرق أعداءه قبل أن يجتمعوا، فذهلوا لمجئ سرية أبي سلمة وهم يظنون أن المسلمين قد أضعفتهم وقعة أحد وأذهلتهم عن أنفسهم، فأصيب المشركون بالرعب من المسلمين ووهت عزيمتهم، وانشغلوا بأنفسهم عن مهاجمة المدينة، وتظهر دقة المسلمين في الرصد الحربي واختيارهم التوقيت الصحيح والطريق المناسب حيث وصلوا إلى الأعداء قبل أن يعلموا عنهم أي شيء رغم بعد المسافة، وكان هذا هو أهم عوامل نجاح المسلمين في هذه السرية وتركت هذه السرية في نفوس الأعداء شعوراً مؤثراً على معنوياتهم، ألا وهو قناعتهم بقدرة المسلمين على الاستخفاء والقيام بالحروب الخاطفة المفاجئة تجعلهم يمتلئون رعباً منهم ويتوقعون الإغارة في أي وقت، وهذا الشعور حملهم على
__________
(1) انظر: نظرة النعيم (1/313).
(2) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، ص162، 163.
(3) انظر: زاد المعاد (3/243).
(4) فقه السيرة للغزالي ، ص274.(6/233)
الاعتراف بقوة المسلمين، ومسالمتهم(1).
ثانياً: خالد بن سفيان الهذلي وتصدي عبدالله بن أنس له رضي الله عنه:
قام خالد بن سفيان الهذلي يجمّع المقاتلة من هذيل وغيرها في عرفات وكان يتهيأ لغزو المسلمين في المدينة مظاهرة لقريش، وتقرباً إليها، ودفاعاً عن عقائدهم الفاسدة، وطمعاً في خيرات المدينة، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابي عبدالله بن أنيس الجهني إليه بعد أن كلّفه مهمته قتله(2) وهذا عبدالله بن أنيس يحدثنا بنفسه قال رضي الله عنه: دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني) وهو بعرنة فأته فاقتله، قال: قلت: يارسول الله انعته حتى أعرفه، قال:(إذا رأيته وجدت له قشعريرة).
قال: فخرجت متوشحاً بسيفي، حتى وقعت عليه بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلاً، وحين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدت ماوصف لي رسول الله من القشعريرة، فأقبلت نحوه، وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أومي برأسي الركوع والسجود، فلما انتهيت إليه قال: من الرجل، قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لهذا، قال: أجل أنا في ذلك، قال: فمشيت معه شيئاً، حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآني فقال: (أفلح الوجه)، قال: قلت: قتلته يارسول الله، قال:(صدقت)، قال: ثم قام معي رسول الله فدخل في بيته فأعطاني عصا، فقال: (أمسك هذه عندك ياعبدالله بن أنيس).
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/23).
(2) انظر: نظرة النعيم (1/313).(6/234)
قال: فخرجت بها على الناس، فقالوا: ماهذه العصا؟ قال: قلت أعطانيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمرني أن أمسكها، قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتسأله عن ذلك؟ قال: فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يارسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟ قال:( آية بيني وبينك يوم القيامة، أن أقل الناس المختصرون(1) يومئذ يوم القيامة، فقرنها عبدالله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها، فضمت معه في كفنه، ثم دفنا جميعاً)(2).
وفي هذا الخبرفوائد ودروس وعبر منها:
دقة الرصد الحربي:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي للجانب الأمني أهميته، ولذلك كان يتابع تحركات الأعداء، ويعد بعد ذلك الحلول المناسبة للمشكلات والأزمات في وقتها الملائم، ولذلك لم يمهل خالد بن سفيان حتى يكثر جمعه ويشتد ساعده، بل عمل على القضاء على الفتنة وهي في أيامها الأولى بحزم وبذلك حقق للأمة مكاسب كبيرة وقلل التضحيات المتوقعة من مجئ خالد بن سفيان بجيش لغزو المدينة وهذا العمل يحتاج لقدرة في الرصد الحربي، وسرعة في اتخاذ القرار.
فراسة النبي - صلى الله عليه وسلم - في اختيار الرجال:
__________
(1) المختصرون: أو المتخصرون: والمراد هنا يأتون يوم القيامة ومعهم أعمال صالحة يتكئون عليها.
(2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص319.(6/235)
كان - صلى الله عليه وسلم - يتمتع بفراسة عظيمة في اختيار الرجال ومعرفة كبيرة لذوي الكفاءات من أصحابه، فكان يختار لكل مهمة من يناسبها، فيختار للقيادة من يجمع بين سداد الرأي وحسن التصرف والشجاعة، ويختار للدعوة والتعليم من يجمع بين غزارة العلم ودماثة الخلق والمهارة في اجتذاب الناس، ويختار للوفادة على الملوك والأمراء من يجمع بين حسن المظهر وفصاحة اللسان وسرعة البديهة، وفي الأعمال الفدائية يختار من يجمع بين الشجاعة الفائقة وقوة القلب والمقدرة على التحكم في المشاعر(1)، فقد كان عبدالله بن أنيس الجهني قوي القلب ثبت الجنان، راسخ اليقين، عظيم الإيمان(2)، وبجانب هذه الصفات العظيمة التي أهلته لهذه المهمة، فهناك سبب آخر فقد كان يمتاز بمعرفة مواطن تلك القبائل لمجاورتها ديار قومه (جُهَينة)(3).
المكافأة على هذا العمل أخروية:
لم تكن المكافأة على هذا العمل العظيم الجرئ مادية دنيوية كما يتمناه الكثير ممن يقوم بالمهمات الشاقة في جيوش العالم قديماً وحديثاً، بل كانت أسمى من ذلك وأعظم فهي وسام شرف أخروي قليل من يناله(4)، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم وسائر المتقين لاينتظرون جزاء في الدنيا ولو حصلوا على شئ من متاع الدنيا فإنه لايعتبر عندهم شيئاً كبيراً، وإنما ينتظرون جزاءهم في الآخرة ولهذا كانت مكافأة عبدالله بن أنيس تلك العصا التي ستكون علامة بينه وبين رسول الله يوم القيامة وهذا يدل على علو مكانته في الآخرة(5).
بعض الأحكام الفقهية:
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/27).
(2) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (4/50،51).
(3) انظر: غزوة أحد، محمد باشميل، ص31.
(4) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص159، 160.
(5) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/29).(6/236)
تضمن هذا الخبر بعض الأحكام والفوائد منها (صلاة الطالب)، قال الخطابي: واختلفوا في صلاة الطالب، فقال عوام أهل العلم: إذا كان مطلوباً كان له أن يصلي إيماءً، وإذا كان طالباً نزل إن كان راكباً وصلى بالأرض راكعاً وساجداً(1)، وكذلك قال ابن المنذر(2)، أما الشافعي فشرط شرطاً لم يشترطه غيره، قال: إذا قل الطالبون عن المطلوبين وانقطع الطالبون عن أصحابهم فيخافون عودة المطلوبين عليهم فإذا كان هكذا كان لهم أن يصلوا يؤمئون إيماء.
قال الخطابي: وبعض هذه المعاني موجودة في قصة عبدالله بن أنيس(3).
وقد ذكر بدر العيني في عمدة القاري مذاهب الفقهاء في هذا الباب، فعند أبي حنيفة إذا كان الرجل مطلوباً فلابأس بصلاته سائراً، وإن كان طالباً فلا، وقال مالك وجماعة من أصحابه: هما سواء كل واحد منهما يصلي على دابته.
وقال الأوزاعي والشافعي في آخرين كقول أبي حنيفة، وهو قول عطاء والحسن والثوري وأحمد وأبي ثور.
وعن الشافعي: إن خاف الطالب فوت المطلوب أومأ وإلا فلا(4).
جواز الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
يجوز الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعبدالله بن أنيس رضي الله عنه أداه اجتهاده أن يصلي هذه الصلاة، ولم ينكر عليه - صلى الله عليه وسلم - مما يدل على جواز الصلاة عند شدة الخوف بالإيماء(5).
وهذا الاستدلال صحيح لاشك فيه، لأن عبدالله بن أنيس فعل ذلك في حياة النبي وذلك زمن الوحي، ومحال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلع عليه(6).
من دلائل النبوة:
__________
(1) انظر: السرايا والبعوث النبوية ، ص160.
(2) نفس المصدر، ص160.
(3) معالم السنن للخطابي (2/42) حاشية واحد على سنن أبي داود.
(4) انظر: عمدة القارئ شرح صحيح البخاري (6/263).
(5) انظر: السرايا والبعوث ، ص161.
(6) انظر: عون المعبود، العظيم آبادي (4/129).(6/237)
فقد وصف - صلى الله عليه وسلم - خالد بن سفيان الهذلي لعبدالله بن أنيس وصفاً دقيقاً دون أن يراه حتى إن ابن أنيس عندما رد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متعجباً كما وقع في رواية الواقدي:(يارسول الله مافرقت من شيء قط، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بلى آية مابيني وبينه أن تجد له قشعريرة إذا رأيته(1)، وقد وجد عبدالله بن أنيس خالد الهذلي على الصفة التي ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول عبدالله :(فلما رأيته هبته وفرقت منه، فقلت: صدق الله ورسوله)(2).
ماقاله عبدالله بن أنيس من الشعر في قتله لخالد الهذلي:
تركت ابن ثور كالحوار وحوله
... ... ... نوائح تفري كل جيب مُقدّد
تناولته والظعْن خلفي وخلفه
... ... ... بأبيض من ماء الحديد المهند
أقول له والسيف يعجم رأسه
... ... ... أنا ابن أنيس فارساً غير قُعْدُد
وقلت له خذها بضربة ماجد
... ... ... حنيف على دين النبي محمد
وكنت إذا هم النبي بكافر
... ... ... سبقت إليه باللسان وباليد(3)
ثالثاً: غدر قبيلتي عَضَل والقارة، وفاجعة الرجيع:
__________
(1) انظر: مغازي الواقدي (2/532).
(2) انظر: البيهقي دلائل النبوة (4/41) من رواية موسى بن عقبة.
(3) انظر: البداية والنهاية (4/143).(6/238)
اختلفت مرويات سرية الرجيع فيما بينها كثيراً حول السبب الذي من أجله بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي الوقت الذي يورد البخاري بأنه إنما بعث عيناً لتجمع المعلومات عن العدو(1)، فإن مرويات أخرى بأسانيد صحيحة ورد فيها أنه قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهط من قبيلتي عضل والقارة المضريتين إلى المدينة وقالوا: (إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهونا ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام)(2) ويظهر أن قبيلة هذيل قد سعت للثأر من المسلمين لخالد بن سفيان الهذلي فلجأت إلى الخديعة والغدر، وقد جزم الواقدي(3) بأن السبب هو أن بني لحيان وهم حي من هذيل، مَشَتْ إلى عضل والقارة وجعلت لهم جعلاً ليخرجوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويطلبون منه أن يُخرج معهم من يدعوهم إلى الإسلام ويفقههم في الدين، فيكمنوا لهم ويأسروهم ويصيبوا بهم ثمناً في مكة(4).
وهكذا بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه السرية التي تتألف من عشرة من الصحابة(5)، وجعل عليهم عاصم بن ثابت بن الأقلح أميراً، حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة أغار بنو لحيان – وهم قريب من مائتي مقاتل – فألجأوهم إلى تل مرتفع بعد أن أحاطوا بهم من كل جانب، ثم أعطوهم الأمان من القتل، ولكن قائد السرية أعلن رفضه أن ينزل في ذمة كافر(6)، وقال عاصم بن ثابت: إني نذرت ألا أقبل جوار مشرك أبداً، فجعل عاصم يقاتلهم وهو يقول:
ماعِلَّتي وأنا جلد نابل
... ... ... النَّبْلُ والقوس لها بلابل(7)
تزل عن صفحتها المعابل
... ... ... الموت حق والحياة باطل
وكل ماحمّ الإله نازل
... ... ... بالمرء والمرء إليه آئلُ
__________
(1) البخاري رقم 4086.
(2) انظر: مغازي الواقدي (1/354-355).
(3) نفس المصدر (1/354-355).
(4) انظر: نظرة النعيم (1/314).
(5) البخاري رقم 4086.
(6) انظر: نظرة النعيم (1/314).
(7) بلابل: جمع بلبلة وبلبال، وهو شدة الهم.(6/239)
إن لم أقاتلكم فأمِّي هابل(1)
فرماهم بالنبل حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم بالرمح حتى كُسر رمحه، وبقى السيف فقال: اللهم حميت دينك أول نهاري فاحْم لي لحمي آخره! وكانوا يجِّردون كل من قتل من أصحابه فكسر غمد سيفه ثم قاتل حتى قتل، وقد جرح رجلين وقتل واحداً وكان يقول وهو يقاتل:
أنا أبو سليمان ومثلي رامي
... ... ... ورثتُ مجداً معشراً كراماً
ثم شرعوا فيه الأسنّة حتى قتلوه، وكانت سُلافة بنت سعد بن الشُّهَيد قد قتل زوجها وبنوها أربعة، قد كان عاصم قتل منهم اثنين، الحارث، ومُسافعا، فنذرت لئن أمكنها الله منه أن تشرب في قحف(2) رأسه الخمر، وجعلت لمن جاء برأس عاصم مائة ناقة، قد علمت بذلك العرب وعلمته بنو لحيان فأرادوا أن يحتزُّوا رأس عاصم ليذهبوا به إلى سُلافة بنت سعد ليأخذوا منها مائة ناقة، فبعث الله تعالى عليهم الدَّبْر فحمته فلم يَدْنُ إليه أحد إلا لدغت وجهه، وجاء منها شيء كثير لاطاقة لأحد به، فقالوا: دعوه إلى الليل، فإنه إذا جاء الليل ذهب عنه الدَّبْر، فلما جاء الليل بعث الله عليه سيلاً ولم يكن في السماء سحاباً في وجه من الوجوه، فاحتمله فذهب به فلم يصلوا إليه(3).
لقد قتل عاصم في سبعة من أفراد السرية بالنبال، ثم أعطى الأعراب الأمان من جديد للثلاثة الباقين، فقبلوا غير أنهم سرعان ماغدروا بهم بعد ماتمكنوا منهم وقد قاومهم عبدالله بن طارق فقتلوه واقتادوا الاثنين إلى مكة – وهما خبيب وزيد بن الدثّنة فباعوهما لقريش(4) وكان ذلك في صفر سنة 4هـ(5).
__________
(1) انظر: مغازي الواقدي (1/355).
(2) نفس المصدر (1/355).
(3) انظر: المغازي للواقدي (1/356).
(4) انظر: نظرة النعيم (1/314).
(5) جوامع السير لابن حزم، ص176.(6/240)
فأما خبيب فقد اشتراه بنو الحارث بن عامر بن نوفل ليقتلوه بالحارث الذي كان خبيب قد قتله يوم بدر، فمكث عندهم أسيراً حتى إذا أجمعوا قتله استعار موس من بنات الحارث، استحدّ بها فأعارته، وغفلت عن صبي لها فجلس على فخذه، ففزعت المرأة لئلا يقتله انتقاماً منه، فقال خبيب: أتخشين أن أقتله ماكنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى، فكانت تقول: مارأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب ومابمكة يومئذ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد وماكان إلا رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا مابي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سنَّ الركعتين عند القتل هو(1) ثم قال:(اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا(2)، ولاتُبق منهم أحداً) ثم قال:
لقد أجمع الأحزاب حولي وألّبُوا
... ... ... قبائلهم واستجموا كل مجمع
وكلهم مبدي العداوة جاهدٌ
... ... ... عليَّ لأنَّي في وثاق بمضيع
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم
... ... ... وقُرِّبتُ من جذع طويل مُمَنَّع
إلى الله أشكو غُربتي بعد كُربتي
... ... ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على مايُرادُ بي
... ... ... فقد بضَّعُوا لحمي وقد يَاسَ(3) مطمعي
وقد خيروني الكفر، والموت دونه
... ... ... فقد ذرفت عيناي من غير مجزع
ومابي حذار الموت إني لميت
... ... ... وإن إلى ربي إيابي ومرْجعي
ولست أبالي حين أقتل مسلماً
... ... ... على أي شقٍّ كان في الله مضجعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
... ... ... يبارك على أوصال شلوٍ مُمَّزع
فلست بمبد للعدو تخشُّعا
... ... ... ولاجزعاً إني إلى الله مرجعي(4)
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/399).
(2) أي متفرقين في القتل واحداً بعد واحد من التبديد.
(3) يَاَس: لغة في يئس.
(4) انظر: زاد المعاد (3/245).(6/241)
فقال له أبو سفيان: أيسرُّك أن محمداً عندنا يُضربُ عنقه وإنك في أهلك، فقال: لاوالله، مايسُّرني أني في أهلي، وأن محمداً في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه(1) ثم قتل وصلبوه، ووكَّلوا به من يحرس جُثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بجذعه ليلاً، فذهب به ودفنه(2) وأما زيد بن الدثنَّة فاشتراه صفوان بن أمية وقتله بأبيه (أمية بن خلف الذي قتل ببدر)، وقد سأله أبو سفيان قبل قتله: أنشدك الله يازيد أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي.
فقال أبو سفيان: مارأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً(3).
وقد عرفت هذه الحادثة المفجعة بالرجيع نسبة إلى ماء الرجيع الذي حصلت عنده وفي هذه الحادثة دروس وعبر وفوائد منها:
فوائد ذكرها بن حجر:
وفي الحديث أن للأسير أن يمتنع من قبول الأمان ولايمكن من نفسه ولو قتل، أنفة من أن يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإن أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأمن. قال الحسن البصري: لابأس بذلك وقال سفيان الثوري: أكره ذلك، وفيه الوفاء للمشركين بالعهد، والتورع عن قتل أولادهم، والتلطف بمن أريد قتله وإثبات كرامة الأولياء، والدعاء على المشركين بالتعميم، والصلاة عند القتل وفيه إنشاد الشعر، وإنشاده عند القتل دلالة على قوة يقين خبيب وشدته في دينه.
__________
(1) نفس المصدر (3/245).
(2) المصدر السابق (3/246).
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/400).(6/242)
وفيه أن الله يبتلي عبده المؤمن بما شاء كما سبق في علمه ليثيبه، ولو شاء ربك مافعلوه، وفيه استجابة دعاء المسلم وإكرامه حياً وميتاً، وغير ذلك من الفوائد مما يظهر بالتأمل. وإنما استجاب الله له من حماية لحمه من المشركين ولم يمنعهم من قتله لما أراد من إكرامه بالشهادة ومن كرامته حمايته من هتك حرمته بقطع لحمه(1)
بين التسليم والقتال حتى الموت:
يستدل مما سبق أن للأسير في يد العدو أن يمتنع من قبول الأمان، ولايمكِّن من نفسه ولو قتل، ترفعاً عن أن يجري عليه حكم كافر، كما فعل عاصم، فإن أراد الترخص، فله أن يستأمن، مترقباً الفرصة مؤملاً الخلاص كما فعل خبيب وزيد ولكن لو قدر الأسير على الهرب لزمه ذلك في الأصح، وإن أمكنه إظهار دينه بينهم، لأن الأسير في يد الكفار مقهور مهان، فكان من الواجب عليه تخليص نفسه من هوان الأسر ورقه(2).
وهذا الحدث يفتح أمام المسلمين باباً واسعاً في التعامل مع الأحداث في اختيارهم الأسر إذ طلبوا مظلومين أو اختيارهم القتال حتى الموت مادام الطالب لايطلبهم بعدل ومادامت السلطة غير إسلامية(3).
تعظيم سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -:
وفي الحديث يظهر تعظيم الصحابة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكيف أن خبيباً مع أنه في أسر المشركين، ويعلم أنه سيقتل بين عشية أو ضحاها ومع ذلك كان حريصاً على سنة الاستحداد، واستعار السكين لذلك، وفي هذا تذكير لمن يستهين بكثير من السنن، بل والواجبات بحجة أن لاينبغي أن ينشغل المسلمون بذلك للظروف التي تمر بها الأمة، وفي الواقع لامنافاة بين تعظيم السنة والدخول في شرائع الإسلام، كافة(4).
الإسلام ينتزع الغدر والأحقاد:
__________
(1) انظر: فتح الباري (7/444-445).
(2) انظر: السيرة للبوطي، ص188-189.
(3) انظر: الأساس في السنّة لسعيد حوى (2/622).
(4) انظر: وقفات تربوية مع السيرة النبوية، أحمد فريد ، ص234.(6/243)
عندما استعار خبيب موس من بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعارته، قالت المرأة: فغفلت عن صبي لي، تدرج إليه حتى أتاه، فوضعه على فخذه فلما رأته فزعت منه فزعة عرف ذلك مني، وفي يده الموس، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ماكنت لأفعل ذلك إن شاء الله(1).
إنه موقف رائع يدل على سمو الروح، وصفا النفس، والالتزام بالمنهج الإسلامي فقد قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (سورة الإسراء، آية:15).
إنه الوفاء يتعلمه الناس ممن غدر بهم، إن الاستقامة طبيعة سلوك المسلم في حالتي الرخاء والشدة(2).
وفي قول خبيب رضي الله عنه:(ماكنت لأفعل إن شاء الله) يشير هذا الأسلوب في البيان العربي إلى أن هذا الفعل غير وارد ولامتصوَّر ولا هو في الحسبان، في هذا الظرف الحاسم، الذي قد يتعلق فيه الاستثناء، لموقع الضرورة، وإنقاذ المهج، لكن المبدأ الأصلي، الوفاء والكف عن البرءاء، لاتنهض له هذه الاعتبارات الموهومة(3) وهذا مثل من عظمة الصحابة رضي الله عنهم حين يطبقون أخلاق الإسلام على أنفسهم مع أعدائهم وإن كانوا قد ظلموهم، وهذا دليل على وعيهم وكمال إيمانهم(4).
حب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الصحابة:
إن حظ الصحابة من حبه - صلى الله عليه وسلم - كان أتم وأوفر، ذلك أن المحبة ثمرة المعرفة وهم بقدره - صلى الله عليه وسلم - ومنزلته أعلم وأعرف من غيرهم فبالتالي كان حبهم له - صلى الله عليه وسلم - أشد وأكبر(5).
__________
(1) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص320 رواية غريبة.
(2) انظر: معين السيرة ، ص259.
(3) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص153.
(4) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/38).
(5) انظر: حقوق النبي على أمته، د. محمد التميمي (1/314).(6/244)
ففي حادثة الرجيع يظهر هذا الحب في الحوار الهادئ بين أبي سفيان وبين زيد بن الدثنة، إذ قال له أبو سفيان: أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك تضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال زيد: والله ماأحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة ، وإني جالس في أهلي(1).
وهذا الحب من الإيمان فقد قال - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لايحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار(2).
مما قاله حسان في ذم بني لحيان:
تأثر المسلمون بمقتل أصحاب الرجيع تأثراً بالغاً وكان حسان رضي الله عنه بشعره يعبر عن حال المسلمين، فمن يستحق الهجاء هجاه ومن يستحق المدح مدحه فقال في هجاء بني لحيان:
إن سرّك الغدر صِرفا لا مِراج له
... ... ... فأت الرجيع فَسَلْ عن دار لحيان
قوم تواصوا بأكل الجار بينهم
... ... ... فالكلب والقرد والانسان مثلان
لو ينطق التّيس يوما قام يخطبهم
... ... ... وكان ذا شرف فيهم وذا شان(3)
رابعاً: طمع عامر بن الطفيل في المسلمين وفاجعة بئر معونة (4هـ):
__________
(1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة ، ص154.
(2) البخاري، كتاب الايمان (1/72) رقم 21.
(3) انظر: البداية والنهاية (4/70).(6/245)
عامر بن الطفيل زعيم من زعماء بني عامر كان متكبراً متغطرساً، طامعاً في الملك وكان يرأى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوف تكون له الغلبة على الجزيرة العربية ولذلك جاء هذا المشرك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: أخيرك بين ثلاث خصال: أن يكون لك السهل، ولي أهل المدر. أو أن أكون خليفتك من بعدك أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء(1)، فرفض - صلى الله عليه وسلم - تلك المطالب الجاهلية وجاء إلى المدينة ملاعب الأسنة سيد بني عامر عمّ عامر بن الطفيل وقدّم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هدية، فعرض عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - الإسلام فأبى أن يسلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فإني لاأقبل هدية من مشرك، فقال ملاعب الأسنة: فابعث إلى أهل نجد من شئت فأنا لهم جار، فبعث إليهم بقوم فيهم المنذر بن عمرو، وهو الذي يقال له – المعتق ليموت – أو أعتق الموت -فاستجاش(2) عليهم عامر بن الطفيل بني عامر فأبوا أن يطيعوه، وأبوا أن يخفروا ملاعب الأسنة، فاستجاش عليهم بني سليم، فأطاعوه، فاتبعهم بقريب من مائة رجل رام فأدركهم ببئر معونة، فقتلوهم إلا عمرو بن أمية(3) ومن حديث أنس رضي الله عنه قال: جاء ناس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أن ابعث معنا رجالاً يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم القراء فيهم خالي حرام، يقرأون القرآن، ويتدارسون بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فعرضوا لهم فقتلوهم، قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم بلغ عنا نبينا، أنا قد لقيناك فرضينا عنك، ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حراماً
__________
(1) البخاري رقم 4091 يقصد بألف أشقر وألف شقراء الخيل.
(2) استجاش: طلب لهم الجيش وجمعه.
(3) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص322.(6/246)
خال أنس من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك، فرضينا عنك ورضيت عنا(1).
وفي هذه الحادثة المؤلمة، والفاجعة المفجعة دروس وعبر وفوائد منها:
لابد للدعوة من تضحيات:
رأينا كيف غدر حلفاء هذيل بأصحاب الرجيع من القُرّاء، الذين أرسلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - معلمين ومفقهين في غزوة الرجيع، وهاهنا عامر بن الطفيل يغدر بالسبعين القراء، الذين استنفروا للدعوة إلى الله، والتفقيه في دين الله في مجزرة رهيبة دنيئة، وذلك في يوم بئر معونة.
وقد تركت هذه المصائب في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آثار غائرة، بعيدة الأعماق حتى إنه لبث شهر يقنت في صلاة الفجر، داعياً على قبائل سليم التي عصت الله ورسوله(2) فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهراً متتابعاً في الظهر والعصر والمغرب والعشاء صلاة الصبح، في دبر كل صلاة، إذ قال: (سمع الله لمن حمده) من الركعة الأخيرة، يدعو على أحياء من بني سليم، على رعل وذكوان وعصية ويؤمِّن من خلفه(3) قال أنس بن مالك رضي الله عنه: وذلك بدء القنوت وما كنّا نقنت(4).
لكن ذلك لم يفتَّ في عضد المسلمين، ولافتَّر من حميتهم في الدعوة إلى الله ولاكسر من عزمهم في مواصلة الدعوة وخدمة دين الله، لأن مصلحة الدعوة فوق الأنفس والدماء، بل إن الدعوة لايكتب لها النصر إذا لم تبذل في سبيلها الأرواح، ولاشيء يمكِّن للدعوة في الأرض، مثل الصلابة في مواجهة الأحداث والأزمات، واسترخاص التضحيات من أجلها.
__________
(1) مسلم في الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد رقم 677.
(2) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة ، ص151.
(3) انظر: سنن ابي داود في الصلاة، باب القنوت في الصلوات: 1443.
(4) البخاري، رقم 4088.(6/247)
إن الدعوات بدون قوى أو تضحيات، يوشك أن تكون بمثابة فلسفات وأخيلة، تلفها الكتب، وترويها الأساطير، ثم تطوى مع الزمن.
إن حادثتي الرجيع وبئر معونة تبصرنا بالمسؤولية الضخمة عن دين الله، والدعوة إليه، ووضعت نصب أعيننا نماذج من التضحيات العظيمة التي قدمها الصحابة الكرام من أجل عقيدتهم ودينهم ومرضاة ربهم.
إن للسعادة ثمناً، وإن للراحة ثمناً، وإن للمجد والسلطان ثمناً، وثمن هذه الدعوة: دم زكيٌّ يهراق في سبيل الله من أجل تحقيق شرع الله ونظامه وتثبيت معالم دينه على وجه البسيطة(1).
فزت ورب الكعبة :
صاحب الكلمة حرام بن ملحان رضي الله عنه، فعندما اخترق الرمح ظهره حتى خرج من صدره وأصبح يتلقى الدم بيديه، ويمسح به وجهه ورأسه ويقول: (فزت ورب الكعبة)(2) إن هذا المشهد يجعل أقسى القلوب وأعظمها تحجراً يتأثر، ويستصغر نفسه أمام هؤلاء العظماء الذين لاتصغرُّ وجوههم فزعاً من الموت وإنما يعلوها البشر والسرور، وتغشاها السكينة والطمأنينة(3) وهذا المنظر البديع الرائع الذي لايتصوره العقل البشري المجرد عن الإيمان جعل جبار بن سلمى وهو الذي طعن حرام بن ملحان يتسأل عن قول حرام فزت ورب الكعبة وهذا جبار يحدثنا بنفسه فيقول: ان مما دعاني إلى الإسلام، أني طعنت رجلاً منهم يومئذ برمح بين كتفيه فنظرت إلى سنان الرمح حين خرج من صدره فسمعته يقول: فزت ورب الكعبة! فقلت في نفسي: مافاز؟ ألست قد قتلت الرجل؟ حتى سألت بعد ذلك عن قوله، فقالوا: للشهادة، فقلت: فاز لعمر الله، فكان سبباً لإسلامه(4).
وهذا الموقف الخارق للعادة يدعونا للتساؤل: هل يتعرض الشهيد لألم الموت؟
__________
(1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص152.
(2) البخاري في المغازي رقم 4091.
(3) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/50).
(4) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص243، 244؛ وابن هشام (3/207).(6/248)
وتأتينا الإجابة الشافية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لاينطق عن الهوى في قوله: (مايجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة)(1).
فللشهيد منزلة خاصة عند الله، فجزاء الثمن الباهظ الذي يدفعه وهو روحه رخيصة في سيبل الله عزوجل لم يبخسه أعدل العادلين حقه فكافأه مكافأة بست جوائز كل وحدة منها تعدل الدنيا ومن فيها، فعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلَّى حلَّة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفَّع في سبعين إنساناً من أقاربه)(2).
هذا بالإضافة إلى الوسام المميز المشرف الذي يأتي به يوم القيامة، وجرحه كهيئة يوم جرح: اللون لون الدم، والريح ريح مسك(3).
كما أن حياة الشهداء لاتنتهي بمجرد موتهم، بل هم أحياء يرزقون ويتنعمون عند ربهم(4)، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (سورة آل عمران:169).
عدم معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - للغيب:
إن حادثتي بئر معونة والرجيع وغيرها تدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لايعلم الغيب، كما دلت على ذلك أدلة أخرى منها قوله عزوجل: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (سورة الأعراف، آية:188).
__________
(1) انظر: صحيح سنن الترمذي للألباني (2/133).
(2) نفس المصدر (2/129).
(3) المصدر السابق (2/128).
(4) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص245.(6/249)
فالله عزوجل وحده عالم الغيب، والرسل والملائكة لايعلمون عن الغيب إلا ماعلمهم ربهم عزوجل(1) : {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (سورة الجن، آية:26).
الوفاء بالعهد:
وقع عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه أسيراً في بئر معونة ولما علم عامر بن الطفيل أنه من مضر أطلقه، وجز ناصيته، وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه، فلما خرج عمرو قاصداً المدينة نزل في طريقه في ظل والتقى برجلين من بني عامر وكان معهم عقد من رسول الله وجوار، لم يعلم به عمرو بن أمية، وقد سألهما حين نزلا: ممن أنتما؟ فقال: من بني عامر، فأمهلهما، حتى ناما، عدا عليهما فقتلهما وهو يرى أنه قد اصاب بهما ثُؤرة من بني عامر، فيما أصابوا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله، فأخبره الخبر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد قتلت قتيلين لأدينَّهما(2) وهذا موقف رفيع فقد وَرَى - صلى الله عليه وسلم - ذينك الرجلين العامريين الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري لكونهما يحملان عقداً منه - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤاخذهما بما فعل بعض أفراد قومهما، وهذا يمثل منتهى القمة في الوفاء بالعهود.
قد كان بإمكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعتبر عمل عمرو بن أمية جزءاً من الانتقام الذي ينبغي أن يواجه به المجرمون المعتدون، ولكن ماذنب الأبرياء حتى يؤخذوا بجريرة المعتدين من قومهم؟
إن التوجيهات الإسلامية الرفيعة دفعت بالمسلمين ونبيهم - صلى الله عليه وسلم - إلى الرقي الأخلاقي الذي لانظير له في دنيا الناس(3).
الصحابي الجليل عامر بن فهيرة رضي الله عنه:
__________
(1) انظر: وقفات تربوية مع السيرة النبوية ، ص237.
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/206).
(3) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/50).(6/250)
لما قتل الذين ببئر معونة وأسر عمرو بن أمية الضمري، قال له عامر بن الطفيل: من هذا؟ فأشار إلى قتيل، فقال له عمرو بن أمية: هذا عامر ابن فهيرة. فقال: لقد رأيته بعدما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض، ثم وضع(1).
حسان بن ثابت رضي الله عنه يحرّض على قتل عامر بن الطفيل:
كان حسان رضي الله عنه من رجالات المؤسسة الإعلامية، فكان يشنّ الحرب النفسية على الأعداء وكان بجانبه كعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة رضي الله عنهم فلم يتركوا حدثاً من أحداث السيرة إلا قالوا فيه شعراً، وكل قصيدة للكافرين يردون عليها بقصائد وقد علمنا ماأحدثه شعر حسان في طرد كعب بن الشرف اليهودي، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتعهد شعراء الدولة الإسلامية ويشجعهم على خوض هذا الباب من الجهاد، فعلى المسلمين المعاصرين قادة وزعماء وعلماء وفقهاء وجماعات أن يرعوا شعراءهم ويشجعونهم لخوض هذا الجهاد العظيم(2).
ولما بلغ حسان خبر أصحاب بئر معونة نظم أبيات تناقلتها الركبان يحث فيها ربيعة بن عامر ملاعب الأسنة ويحرِّضه بعامر بن الطفيل بإخفاره ذمة أبي براء:
ألا من مبلغ عني ربيعاً
... ... ... فما أحدثت في الحادثان بعدي
أبوك أبو الفعال أبو براء
... ... ... وخالك ماجد حكم بن سعد
بني أم البنين ألم يرعكم
... ... ... وأنتم من ذوائب أهل نجد
تحكُّم عامر بأبي براء
... ... ... ليخفره وما خطأ كَعَمْد(3)
__________
(1) البخاري في المغازي رقم 4093.
(2) انظر: السيرة النبوية الأساس في السنّة وفقهها (2/656).
(3) انظر: محمد رسول الله ، صادق عرجون (4/64).(6/251)
فلما بلغ ربيعة بن أبي براء هذا الشعر، وكان الشعر عندهم أوجع من رشق النبل، وقطع السيوف للرقاب، وطعن النحور بالرماح، قام ربيعة بأخذ ثأر أبيه فضرب عامر بن الطفيل ضربة أشواه بها -أي لم تصب منه مقتلاً- فوثب عليه قومه، وقالوا لعامر: اقتص، فقال: قد عفوت، وإن عشت فسأرى رأيي فيما أتى إليَّ(1) ومما قاله حسان وهو يبكي قتلى بئر معونة، ويخص المنذر بن عمرو رضي الله عنه:
على قتلى معونة فاستهلِّي
... ... ... بدمع العين سَحَّا غير نَزْر(2)
على خيل الرسول غداة لاقوا
... ... ... مناياهم ولاقَتْهم بقَدْر(3)
أصابهم الفناء بعقد قوم
... ... ... تُحُوّن عَقْدُ حَبْلهِم بغَدْر(4)
فيالهفي لمنذر إذ تولّى
... ... ... وأعنَق في منيّته بصَبْر(5)
مصير عامر بن الطفيل العامري:
استجاب الله لدعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقد دعا - صلى الله عليه وسلم - على عامر بن الطفيل فقال: اللهم اكفني عامراً(6)، فأصيب الطاغية بمرض عضال وصفه - صلى الله عليه وسلم - بقوله:(غدة كغدة البعير(7)، وسماه - صلى الله عليه وسلم - بـ (الطاعون).. وهو وصف دقيق للطاعون الدبلي الذي يتميز (بارتفاع درجة الحرارة وتضخم العقد الليمفية في منطقة الإرب وتحت الإبط وكذا تضخم الطحال)(8)، وهو ماأصيب به عامر بن الطفيل حتى أصبح حبيساً في بيت امرأة من قومه.
__________
(1) نفس المصدر (4/64).
(2) استهلي: أسبلى. دمعك: السح. والنزر: القليل.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/209).
(4) تُحُون: تنقضي (بالبناء للمجهول).
(5) أعنق: أسرع. والعنق: ضرب من السير السريع. ابن هشام (3/209).
(6) انظر: الأساس في السنّة وفقها السيرة النبوية (2/631).
(7) انظر: السيرة النبوية ، محمد الصوياني، ص130.
(8) انظر: تعليق الدكتورة قلعجي على الدلائل (3/346).(6/252)
لقد أصيب عامر بن الطفيل وتلاشت أحلامه بالتملك على أهل المدن في الجزيرة العربية، أو خلافة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما تلك الجيوش التي هددّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، فقد تحولت إلى آلام تحبسه في بيت امرأة قد ولّى عنه الناس ونفروا منه خشية العدوى ففقد صوابه، وصرخ بمن بقي حوله فقال:(غدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني فلان، ائتوني بفرسي، فركبه فمات على ظهر فرسه)(1)، هلك ذلك الجبار العنيد كالمجنون بعد أن تطاير الناس من حوله خوفاً على أنفسهم من العدوة(2).
المبحث الثاني
زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم المساكين وأم سلمة وأحداث متفرقة
أولاً: زينب بنت خزيمة أم ا لمساكين رضي الله عنها:
هي زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية، فهي من بني عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصة، وكانت تسمى في الجاهلية أم المساكين لإطعامهم إياهم. تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان على رأس واحد وثلاثين شهراً من الهجرة، فمكثت عنده ثمانية أشهر، وتوفيت في حياته - صلى الله عليه وسلم - في آخر ربيع الأول على رأس تسعة وثلاثين شهراً، ودفنت في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3).
كانت زينب بنت خزيمة تحت عبدالله بن جحش بن رئاب الذي قتل في معركة أحد شهيداً في سبيل الله تعالى، فتزوجها - صلى الله عليه وسلم - إكراماً لها بعد أن فجعت بقتل زوجها في معركة أحد، ولم يتركها أرملة وحيدة، فكأنه كافأها - صلى الله عليه وسلم - على فضائلها بعد مصاب زوجها(4).
ثانياً: زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم سلمة رضي الله عنها:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية للصّوياني، ص131.
(2) نفس المصدر ، ص131.
(3) انظر: تفسير القرطبي (14/166).
(4) انظر: المفصل في أحكام المرأة، عبدالكريم زيدان (11/469).(6/253)
هي هند بنت أبي أمية حذافة بن المغيرة القرشية المخزومية، كانت زوجة ابن عمها أبي عبدالله بن عبدالأسد، وزوجها هذا هو ابن عمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، برّة بنت عبدالمطلب، وهو أيضاً أخو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة وقد هاجرت أم سلمة – رضي الله عنها وزوجها أبو سلمة إلى الحبشة فراراً بدينهما من المشركين، ثم رجعا إلى مكة وهاجرا إلى المدينة بعد أن هاجر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون(1).
حديث أم سلمة لأبي سلمة رضي الله عنهم:
قالت أم سلمة لأبي سلمة: بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنة، ثم لم تُزّوج، إلا جمع الله بينهما في الجنة فتعال أعاهدك ألا تزوَّج بعدي، ولا أتزوج بعدك قال: أتطيعينني؟ قالت: نعم. قال: إذا مت تزوجي، اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني، لايُحزنها ولايؤذيها. فلما مات قلت: من خير من أبي سلمة؟ فما لبث وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام على الباب فذكر الخطبة إلى ابن أخيها، أو ابنها فقالت: أرد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أتقدم عليه بعيالي، ثم جاء الغد فخطب(2).
دعاء أم سلمة لما توفي زوجها:
لما توفي زوجها أبو سلمة من أثر جراحات أصابته في قتاله للمشركين، وكانت تحبه وتجلّه، فلما مات أبو سلمة جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يارسول الله إن أبا سلمة قد مات قال( قولي: اللهم اغفر لي وله وأعقبني(3) منه عُقبى حسنة) قالت. فقلت: فأعقبني الله من هو خير لي منه محمد - صلى الله عليه وسلم -(4).
حوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة عندما خطبها:
__________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء (2/202).
(2) نفس المصدر (2/203) وقال المحقق أخرجه ابن سعد ورجاله ثقات.
(3) وأعقبني : أي بدلني وعوضني منه، أي في مقابلته عقبي حسنه أي بدلاً صالحاً.
(4) مسلم في الجنائز رقم 919.(6/254)
قال عمر بن أبي سلمة رضي الله عنهم: إن أم سلمة لما انقضت عدتها خطبها أبو بكر فردته، ثم خطبها عمر فردته، فبعث إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت مرحباً: أخبر رسول الله أني غيرى(1)، وأني مُصبية(2) وليس أحد من أوليائي شاهد.
فبعث إليها: (أما قولك: إني مصبية، فإن الله سيكفيك صبيانك، وأما قولك: إني غيرى فسأدعو الله أن يذهب غيرتك، وأما الأولياء فليس أحد منهم إلا سيرضى بي)(3) وفي رواية: إني امرأة قد أدبر من سني، فكانت إجابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها: وأما السن فأنا أكبر منك(4)، وهكذا أحسن إليها - صلى الله عليه وسلم - الجواب، وماكان إلا محسناً(5).
قالت أم سلمة: ياعمر (اي ابنها) قم فزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(6)، قال ابن كثير في تعليقه على قول أم سلمة قم ياعمر فزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تعني قد رضيت وأذنت، فتوهم بعض العلماء أنها تقول لابنها عمر بن أبي سلمة وقد كان ذاك صغيراً لايلي مثله العقد، وقد جمعت في ذلك جزءاً مفرداً بينت فيه الصواب في ذلك ولله الحمد والمنة، وان الذي ولي عقدها عليه ابنها سلمة بن أبي سلمة وهو أكبر(7) ولدها.
تأثيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبيت زينب ومعاملته لها:
فلما وافقت على الزواج قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(أما أني لاأنقصك مما أعطيت فلانة رحيين وجرتين ووسادة من أدم حشوها ليف)(8).
__________
(1) غيرى: كثيرة الغيرة.
(2) مُصيبة: أي ذات صبيان وأولاد صغار.
(3) انظر: سير أعلام النبلاء (2/203، 204) وإسناده صحيح.
(4) انظر: الطبقات لابن سعد (8/90) رجاله ثقات، لكنه مرسل.
(5) انظر: المفصل في أحكام المرأة (11/470).
(6) انظر: سير أعلام النبلاء (2/204) وإسناده صحيح.
(7) انظر: البداية والنهاية (4/92).
(8) انظر: سير أعلام النبلاء (2/204).(6/255)
وكانت أم سلمة قد ولدت طفلة من زوجها أبي سلمة بعد موته، فعندما تزوجها - صلى الله عليه وسلم - جعل يأتيها، فإذا جاء أخذت زينب فوضعتها في حجرها لترضعها، وكان - صلى الله عليه وسلم - حيياً كريماً يستحي فيرجع ففعل ذلك مراراً(1)، ففطن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - وهو أخ لأم سلمة من أمها (سمية) الشهيدة التي قتلها أبو جهل، فأطلق قدميه نحو بيت أخته أم سلمة، فأخذ ابنة أخته ليسترضعها في بيته أو عند أحد النساء، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أين زناب؟ فقالت قريبة ابن أبي أمية – ووافقها عندها(2) – أخذها عمار بن ياسر. فقال - صلى الله عليه وسلم - : إني آتيكم الليلة.
قالت أم سلمة: فقمت فوضعت ثفالي(3)، وأخرجت حبات من شعير كانت في جرتي، وأخرجت شحماً فعصدته، ثم بات، ثم أصبح وقال حين أصبح: إن بك على أهلك كرامة، فإن شئت سبّعت(4) لك، وإن أسبع لك أسبع لنسائي(5)، وإن شئت ثلثت ثم درت قالت: ثلِّث(6)، فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام عند أم سلمة ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: (للبكر سبع، وللثيب ثلاث)(7) .. هي مدة إقامة المتزوج عند زوجته إذا كان عنده غيرها.
أقام - صلى الله عليه وسلم - عند أم سلمة رضي الله عنها ثلاثة أيام سعيدة ثم رتب لها يوماً كبقية زوجاته.
تغيير اسم برة بنت أبي سلمة:
__________
(1) نفس المصدر (20/204).
(2) أي: توافق مجيئ النبي - صلى الله عليه وسلم - مع زيارة تلك المرأة لأم سلمة.
(3) هو مايبسط تحت الرحى عند الطحن.
(4) أي أقمت عندك سبعة أيام.
(5) حديث حسن رواه ابن سعد (8/93).
(6) انظر: السيرة النبوية كما جاءت من الأحاديث الصحيحة للصوياني (3/136).
(7) حديث صحيح. صحيح الجامع للألباني (2/919).(6/256)
تقول تلك الطفلة اليتيمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على أم سلمة حين تزوجها واسمي برة، فسمعها تدعوني برة، فقال: لاتزكوا أنفسكم، فإن الله هو أعلم بالبرة منكن والفاجرة، سميها زينب.
فقالت أم سلمة: فهي زينب(1).
وهذا من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان يحب الأسماء الجميلة، ولم يكن - صلى الله عليه وسلم - يغير أسماء الأطفال فقط، بل كان للرجال والنساء والعجائز نصيب من ذلك الذوق النبوي الرفيع فقد (ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل يقال له: شهاب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل أنت هشام)(2).
و( كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه الرجل وله اسم لايحبه حوّله)(3) إلى اسم أجمل وألطف وكان يفعل ذلك مع العجائز - صلى الله عليه وسلم - فهذه عائشة رضي الله عنها تحدثنا حيث تقول رضي الله عنها:( جاءت عجوز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عندي، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أنت؟ قالت: جثامة المزنية.
فقال: بل أنت حسانة المزنية. كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟
قالت: بخير بأبي أنت وأمي يارسول الله.
فقرب إليه لحم، فجعل يناولها، فقلت يارسول الله لاتغمر يدك. فلما خرجت قلت: يارسول الله تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ فقال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة وإن حسن العهد من الإيمان(4).
الحكمة في زواج أم سلمة:
__________
(1) سنده قوي رواه ابن إسحاق ومن طريقه البخاري في الأدب المفرد (821).
(2) سنده حسن رواه البخاري في الأدب المفرد (825).
(3) حديث حسن رواه الطبراني (17/119).
(4) سنده قوي رواه الحاكم (1/62) والبيهقي في شعب الايمان (6/517).(6/257)
والحكمة في هذا الزواج، كما يقول صاحب تفسير المنار: ليس لأجل التمتع المباح له، وإنما كان لفضلها الذي يعرفه المتأمل بجودة رأيها يوم الحديبية، ولتعزيتها – اي بوفاة زوجها(1) ولاننسى كذلك أن أم سلمة من بني مخزوم أعز بطون قريش، وهي التي كانت تحمل لواء الحراب والمواجهة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووراء هذا الزواج تفتيت حقد هذه القبيلة وتقريب قلوب أبنائها، وتوطئة وتحبب إليهم ليدخلوا في الإسلام بعد أن صاروا أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2).
وفي هذا الزواج فقه النبي - صلى الله عليه وسلم - في البناء الداخلي للأمة وتأدية حق الشهداء في زوجاتهن، وحق هذه الزوجات من أن ينهلن من نور النبوة مايشاء الله أن ينهلن لكي يبلغن عن رسول الله(3).
وكانت أم سلمة آخر من مات من أمهات المؤمنين وكان وفاتها سنة إحد وستين، وقد روت عن رسول أحاديث، يبلغ مسندها ثلاث مئة وثمانية وثمانين حديثاً واتفق البخاري ومسلم على ثلاثة عشر، وانفرد البخاري بثلاثة ومسلم بثلاثة عشر(4)، لقد ساهمت في نشر العلم والحكمة عن رسول الله وبموتها انطفأ آخر مصباح من مصابيح أمهات المؤمنين طالما شع النور والهدى والعلم فرضى الله عنها وأرضاها(5).
ثالثاً: مولد الحسن بن علي رضي الله عنهم:
قال الإمام القرطبي رحمه الله ولد الحسن في شعبان من السنة الرابعة وعلى هذا ولد الحسين قبل تمام السنة من ولادة الحسن ويؤيده ماذكره الواقدي أن فاطمة علقت بالحسين بعد مولد الحسن بخمسين ليلة وجزم النواوي في التهذيب أن الحسن ولد لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة(6).
__________
(1) انظر: تفسير المنار (4/372).
(2) انظر: التربية القيادية (3/356).
(3) نفس المصدر (3/357).
(4) انظر: سير أعلام النبلاء (2/210).
(5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/248، 249).
(6) انظر: شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (1/10).(6/258)
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لما ولد الحسن سميته حرباً، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أروني ابني .. ماسميتموه؟ قلت: حرباً، قال - صلى الله عليه وسلم -: بل هو حسن(1).
غيّر - صلى الله عليه وسلم - ذلك الاسم الحاد باسم جميل يدخل السرور والفرحة على القلوب.
فحمل المولود الجديد اسمه الجميل، وحمله - صلى الله عليه وسلم - بين يديه وقبله وهذا أبو رافع يخبرنا عن ماذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أذّن في أذني الحسن حين ولدته فاطمة بالصلاة(2).
وحدثنا أبو رافع عن عقيقة الحسن فقال: لما ولدت فاطمة حسناً قالت: ألا أعقّ عن ابني بدم (بكبشين؟) قال - صلى الله عليه وسلم -: لا ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره من فضة على المساكين والأوفاض -وكان الأوفاض ناساً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محتاجين في المسجد أو الصفة- ففعلت ذلك(3).
وأحب - صلى الله عليه وسلم - أن يقدم عقيقة الحسن، فعقّ عنه كبشين(4).
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في العقيقة:(كل غلام مرتهن بعقيقته، يذبح عنه يوم سابعه، ويحلق رأسه ويسمى)(5).
رابعاً: زيد بن ثابت رضي الله عنه يتعلم لغة اليهود سنة 4هـ:
__________
(1) البخاري في الأدب (286).
(2) ابو داود رقم 5105.
(3) رواه الطبراني (3/30) بسند حسن.
(4) انظر: السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة للصّوياني (3/106).
(5) انظر: صحيح الجامع (2/835).(6/259)
وفي هذه السنة تعلّم زيد بن ثابت كتابة اليهود، فعن خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يتعلم كتابة يهود ليقرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كتبوا إليه(1)، فتعلمه في خمسة عشر يوماً، وفي رواية أخرى أن رسول لما قدم المدينة ذُهب بزيد إلى رسول الله وقالوا: يارسول الله، هذا غلام من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشر سورة، فأعجب ذلك رسول الله وقال: (يازيد تعلّم لي كتاب يهود، فإني والله ماآمن يهود على كتاب) قال زيد: فتعلمت له كتابهم، مامرّت خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب(2).
وبهذا الخبر يتضح أن للترجمان مكانة رفيعة في الدولة، إذ هوالذي يطلّع على أسرار الدولة وما يأتيها من مراسلات، أو ماترسله من مخاطبات، إذ لايصح أن يطلع كل إنسان على تلك الكتب الصادرة والواردة، لئلا تختلَّ الدولة وتكشف أسرارها، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت يتعلم لغة اليهود(3) وتعلم زيد بن ثابت لغة يهود في خمس عشرة يوماً يدل على ذكاء مفرط، وقوة حافظة، وقد كان رضي الله عنه ممن حفظ القرآن كله على عهد رسول الله، ومن أشهر كتاب الوحي بين يديه، وهو الذي تولى كتابة القرآن وحده في الصحف في عهد الصديق، وكان أحد كاتبي المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيداً بتعلم لغة اليهود وكتابتهم يدل على أن الإسلام يحبب إلى المسلم أن يتعلم لغة غيره وكتابتهم، ويتعرف على علومهم، ومعارفهم ولاسيما إذا دعت لذلك ضرورة(4).
__________
(1) البخاري ، كتاب الاحكام رقم 7195.
(2) انظر: سير أعلام النبلاء (2/429).
(3) انظر: زيد بن ثابت، كاتب الوحي وجامع القرآن، صفوان داوودي، ص80،81.
(4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/249).(6/260)
المبحث الثالث
إجلاء يهود بني النضير
أصاب يهود المدينة، الخوف والرعب، طيلة الفترة التي تفصل بين مقتل كعب بن الأشرف، وبين معركة أحد التي جرت في شوال عام 3هـ، ولكن الهزيمة التي حلت بالمسلمين في تلك المعركة، أحيت في نفوس المشركين والمنافقين الأمل من جديد، بتحقيق مطامعهم وأغراضهم، وأزالت من قلوب اليهود الهلع على المصير، ومما ساهم في تبديد هذا الهلع عندهم مقتل أصحاب الرجيع، وبئر معونة وبذلك لم يدم خوف اليهود طويلاً وعادوا إلى أساليب الدس والمكر والخداع، وشرعوا في حشد حصونهم بالسلاح والعتاد للانقضاض على المسلمين ودولتهم ثم صمّموا على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - والغدر به(1).
أولاً: تاريخ الغزوة وأسبابها:
أ- تاريخ الغزوة:
يرى المحققون من المؤرخين أن غزوة بني النضير كانت بعد أحد في ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة وقد رد ابن القيم على من زعم أن غزوة بني النضير بعد بدر بستة أشهر بقوله: وزعم محمد بن شهاب الزهري: أن غزوة بني النضير كانت بعد بدر بستة أشهر، وهذا وهم منه، أو غلط عليه، بل الذي لاشك فيه: أنها بعد أحد والذي كانت بعد بدر بستة أشهر، هي غزوة بني قينقاع، وقريظة بعد الخندق، وخيبر بعد الحديبية(2).
وقال ابن العربي: والصحيح أنها بعد أحد(3)، وإلى هذا الرأي ذهب ابن كثير(4).
ب- أسباب الغزوة:
هناك مجموعة من الأسباب حملت النبي - صلى الله عليه وسلم - على غزوة بني النضير وإجلائهم من أهمها:
نقض بنو النضير عهودهم التي تحتم علهيم ألا يؤوا عدواً للمسلمين ولم يكتفوا بهذا النقض بل أرشدوا الأعداء إلى مواطن الضعف في المدينة.
__________
(1) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص188، 189.
(2) انظر: زاد المعاد (3/249).
(3) انظر: أحكام القرآن لابن العربي (4/1765).
(4) انظر: حديث القرآن على الغزوات (1/254).(6/261)
وقد حصل ذلك في غزوة السويق(1) حيث نذر أبو سفيان بن حرب حين رجع إلى مكة – بعد غزوة بدر – نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو المدينة فلما خرج في مائتي راكب قاصداً المدينة قام سيد بني النضير سلام بن مشكم بالوقوف معه وإضافته وبطن له خبر الناس ولم تكن مخابرات المدينة غافلة عن ذلك(2).
قال موسى بن عقبة -صاحب المغازي- (كانت بنو النضير قد دسوا إلى قريش وحصونهم على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودلوهم على العورة)(3).
محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم:
خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه عن طريق قباء إلى ديار بني النضير يستعينهم في دية القتيلين العامرييّن اللذين ذهبا ضحية جهل عمرو بن أمية الضمري بجوار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهما وذلك تنفيذاً للعهد الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين بني النضير حول أداء الدّيات، وإقراراً لما كان يقوم بين بني النضر وبين بني عامر من عقود وأحلاف.
استقبل بنو النضير النبي - صلى الله عليه وسلم - بكثير من البشاشة والكياسة، ثم خلا بعضهم إلى بعض يتشاورون في قتله والغدر به، ويبدو أنهم اتفقوا على إلقاء صخرة عليه - صلى الله عليه وسلم -، من فوق جدار كان يجلس بالقرب منه، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، الذي كان برعاية الله وحفظه أدرك مقاصد بني النضير، إذ جاءه الخبر من السماء بما عزموا عليه من شر، فنهض وانطلق بسرعة إلى المدينة، ثم تبعه أصحابه بعد قليل(4).
__________
(1) غزوة السويق كانت بعد بدر وقد تحدثت عنها.
(2) انظر: تاريخ الطبري (2/284).
(3) انظر: فتح الباري (7/332).
(4) انظر: الواقدي (1/365)، التاريخ السياسي والعسكري ، ص190.(6/262)
لم تكن مؤامرة بني النضير، الذي أفشلها الله سبحانه وتعالى، تستهدف شخص النبي فحسب، بل كانت تستهدف كذلك دولة المدينة والدعوة الإسلامية برمتها، لذا صمّم محمد - صلى الله عليه وسلم - على محاربة بني النضير، الذين نقضوا العهد والمواثيق معه وأمر أصحابه بالتهيؤ لقتالهم والسير إليهم(1).
هذه الأسباب وغيرها أدت إلى غزوة بني النضير وقد ذكر القرآن الكريم المؤمنين بهذه النعمة الجليلة وكيف نجى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - من مكر يهود بني النضير قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (سورة المائدة، آية:11).
وقد أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة روايات منها:
أخرج الطبري عن أبي زياد قال: جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني النضير ليستعينهم في عقل أصحابه ومعه أبو بكر وعمر وعلي فقال: أعينوني في عقل أصابني، فقالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه ينتظرون وجاء رأس القوم، وهو الذي قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماقال، فقال لأصحابه: لاترون أقرب منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه، ولاترون شراً أبداً.
__________
(1) انظر: التاريخ السياسي والعسكري لدولة المدينة ، ص190.(6/263)
فجاءوا إلى رحى لهم عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم حتى جاء جبريل عليه السلام فأقامه من ثم فأنزل الله عزوجل :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فأخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما أرادوا به(1).
وذكر محمد بن اسحاق ومجاهد وعكرمة وغير واحد(2) أنها نزلت في شأن بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين ووكلوا عمرو بن جحاش بذلك أن جلس النبي - صلى الله عليه وسلم -
-تحت الجدار– واجتمعوا عنده أن يلقي الرحى من فوقه، فأطلع الله النبي - صلى الله عليه وسلم - على ماتماروا عليه، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه فأنزل الله في ذلك هذه الآية(3).
وقد رجح ابن جرير أن تكون الآية قد نزلت بسبب ماأضمره بنو النضير من كيد وسوء للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فقال:( وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك قول من قال: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية نعمته على المؤمنين به ورسوله التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، مما كانت يهود بني النضير همت به من قتله وقتل من معه يوم سار إليهم في الدية التي تحملها عن قتيلي عمرو بن أمية، وإنما قلنا أولى بالصحة في تأويل ذلك، لأن الله عقب ذلك برمي اليهود بسوء ضائعها وقبيح فعالها، وخيانتها ربها وأنبيائها..)(4).
__________
(1) انظر: تفسير ابن جرير (6/144-145).
(2) هذه الآثار وإن كان فيها ضعف يمكن أن تعضد لتصبح بمجموعها صالحة للاحتجاج بها. انظر: المجتمع المدني في عهد النبوة ، ص145.
(3) تفسير ابن كثير (2/31).
(4) انظر: تفسير الطبري (6/144-145).(6/264)
وقد وافق الدكتور محمد آل عابد ترجيح الطبري وقال لامانع أن تكون الآية الكريمة نزلت بعد تلك الحوادث مجتمعة، فقد تعددت الحوادث والمنزل واحد كما قال العلماء(1).
ومعنى الآية الكريمة: أي اذكروا نعمة الله عليكم، التي من أكبر مظاهرها كفه عنكم أيدي اليهود الذين هموا أن يمدوا أيديهم بالسوء إلى نبيكم، وشارفوا أن ينفذوا مؤامرتهم الخبيثة، ولكن الله أحبط مكرهم ونجى نبيكم - صلى الله عليه وسلم - من شرورهم.
ثم أمر –سبحانه- بتقواه والتوكل عليه فقال تعالى:{ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
اي اتقوا الله –أيها المؤمنون- في رعاية حقوق نعمته ولا تخلوا بشكرها فقد أراكم قدرته، وتوكلوا عليه وحده، فقد أراكم عنايته بكم وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون(2).
ثانياً: إنذار بني النضير بالجلاء وحصارهم:
أ- إنذار بني النضير:
سجلت معظم كتب السيرة النبوية خبر إنذار النبي - صلى الله عليه وسلم - لبني النضير بالجلاء خلال عشرة أيام، وقد أرسل - صلى الله عليه وسلم - محمد بن مسلمة إليهم وقال له: اذهب إلى يهود بني النضير وقل لهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلني إليكم أن أخرجوا من بلادي لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم مما هممتم به من الغدر، وقد أجلتكم عشراً، فمن رئي بعد منكم ضربت عنقه(3) ولم يجدوا جواباً يردون به، سوى أن قالوا لمحمد بن مسلمة: يامحمد، ماكنا نظن أن يجيئنا بهذا رجل من الأوس فقال محمد: تغيرت القلوب، ومحا الإسلام العهود فقالوا: نتحمل فمكثوا أياماً يعدون العدة للرحيل(4).
__________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/251).
(2) نفس المصدر (1/252).
(3) انظر: طبقات بن سعد الكبرى (2/57)، مغازي الواقدي (1/363-370).
(4) انظر: تاريخ الطبري (2/552).(6/265)
وفي تلك المدة أرسل إليهم عبدالله بن أبي سلول من يقول لهم: اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم(1)، ولاتخرجوا فإن معي من العرب وممن انضوى إلى قومي ألفين، فأقيموا فهم يدخلون معكم حصونكم، ويموتون عن آخرهم قبل أن يصلوا إليكم(2).
فعادت لليهود بعض ثقتهم وتشجع كبيرهم (حيي بن أخطب) وأرسل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جدي بن أخطب يقول له: إنا لن نريم – اي لن نبرح – دارنا فاصنع مابدا لك، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبر المسلمون معه، وقال: حاربت يهود(3).
ب- ضرب الحصار وإجلائهم:
وانقضت الأيام العشرة ولم يخرجوا من ديارهم، فتحركت جيوش المسلمين صوبهم وضربت عليهم الحصار لمدة خمس عشرة ليلة.
وأمر - صلى الله عليه وسلم - بحرق نخيلهم وقضى بذلك على أسباب تعلقهم بأموالهم وزروعهم وضعفت حماستهم للقتال وجزعوا وتصايحوا: يامحمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من يفعله فما بال قطع النخيل وتخريبها؟
وألقى الله في قلوبهم الرعب، وأدرك بنو النضير أن لامفر من جلائهم، ودب اليأس في قلوبهم وخاصة بعد أن أخلف ابن أبي وعده بنصرهم، وعجز إخوانهم أن يسوقوا إليهم خيراً أو يدفعوا عنهم شراً فأرسلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يلتمسون منه أن يؤمنهم حتى يخرجوا من ديارهم
فوافقهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وقال لهم:(اخرجوا منها و لكم دماؤكم وماحملت الإبل إلا الحلقة- وهي الدروع والسلاح – فرضوا بذلك)(4).
ونقض اليهود سقف بيوتهم وعمدها وجدرانها لكي لاينتفع منها المسلمون.
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام (3/212).
(2) انظر: تاريخ الطبري (2/553).
(3) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (3/146).
(4) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/257).(6/266)
وحملوا معهم كميات كبيرة من الذهب والفضة حتى أن سلام بن أبي الحقيق وحده حمل جلد ثور مملوء ذهباً وفضة وكان يقول هذا الذي أعددناه لرفع الأرض وخفضها وإن كنا تركنا نخلا ففي خيبر النخل(1).
وحملوا أمتعتهم على ستمائة بعير، وخرجوا ومعهم الدفوف والمزامير والقيان يعزفن من خلفهم حتى لايشمت بهم المسلمون، فقصد بعضهم خيبر وسار آخرون إلى أذرعات الشام(2).
وقد تولى عملية إخراجهم من المدينة محمد بن مسلمة، بأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3).
وكان من أشرافهم الذين ساروا إلى خيبر: سلام بن أبي الحقيق، وحي بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، فلما نزلوها دان لهم أهلها(4).
ثالثاً: الدروس والعبر في هذه الغزوة:
تحدث القرآن الكريم عن غزوة بني النضير في سورة كاملة وهي سورة الحشر، وقد سمى حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما سورة الحشر بسورة بني النضير، ففي البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما سورة الحشر، قال: سورة بني النضير(5).
__________
(1) انظر: السيرة الحلبية (2/566).
(2) انظر: السيرة الحلبية (2/565)، حديث القرآن الكريم (1/257).
(3) انظر: المغازي للواقدي (1/374)، اليهود في السنّة المطهرة (1/321).
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/212).
(5) البخاري، كتاب المغازي، باب حديث بني النصير رقم 4029.(6/267)
وقد بينت هذه السورة ملابسات هذه الغزوة، وفصلت القول فيها، وبينت أحكام الفئ ومن هم المستحقون له؟ وأوضحت موقف المنافقين من اليهود، كما كشفت عن حقائق نفسيات اليهود، وضربت الأمثال لعلاقة المنافقين باليهود، وفي أثناء الحديث عن الغزوة وجه سبحانه خطابه إلى المؤمنين وأمرهم بتقواه وحذرهم من معصيته، ثم تحدث سبحانه عن القرآن الكريم وأسمائه وصفاته وهكذا كان المجتمع المسلم يتربى بالأحداث على التوحيد وتعظيم منهج الله، والاستعداد ليوم القيامة وبالتأمل في السورة يمكننا استخراج بعض الدروس والعبر من أهمها:
أ- الثناء على الله وتمجيده:
ابتدأت السورة بالثناء على الله، وأن الكون كله بجميع مافيه من مخلوقات من إنسان، وحيوان، ونبات وجماد، ينزه الله ويمجده ويشهد بوحدانيته وقدرته وجلاله وناطق بعظمته وسلطانه(1).
قال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سورة الحشر، آية:1).
كان استفتاح هذه السورة، بالإخبار أن جميع من في السموات والأرض، تسبح بحمد ربها، وتنزهه عما لايليق بجلاله، وتعبده وتخضع لعظمته، لأنه العزيز، الذي قهر كل شيء، فلا يمتنع عليه شيء، ولايستعصي عليه عسير.
الحكيم في خلقه وأمره، فلا يخلق شيئاً عبثاً، ولا يشرع مالا مصلحه فيه، ولايفعل إلا ماهو مقتض حكمته ومن ذلك نصره لرسوله - صلى الله عليه وسلم - على الذين كفروا من أهل الكتاب، من بني النضير، حين غدروا برسوله، فأخرجهم من ديارهم وأوطانهم، التي ألفوها وأحبوها(2).
ب- الرعب جند من جند الله:
__________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/327).
(2) انظر: تفسير السعدي (3/327).(6/268)
قال تعالى {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَار صدق الله العظيم وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّار صدق الله العظيم ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ صدق الله العظيم } (سورة الحشر، الآيات 2،3،4).
إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة يتبين له أن الله هو الذي أخرج يهود بني النضير من ديارهم الى الشام حيث أول الحشرهم في حين أن كل الأسباب المادية معهم حتى اعتقدوا أنه لا أحد يستطيع أن يخرجهم من حصونهم لمتانتها وقوتها.
لكن الله خالف الأسباب والمسببات جاءهم من حيث لم يحتسبوا جاءهم من قلوبهم التي لم يتوقعوا أنهم يهزمون بها فقذف فيها الرعب فإذا بهم يهدمون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وهذا الأسلوب القرآني الفريد يربي الأمة بالأحداث والوقائع وهو يختلف تماماً عن طريقة أهل السير، ويمتاز بأنه يكشف الحقائق ويوضح الخفايا، ويربط الأحداث بفاعلها الحقيقي وهو رب العالمين، ومن ذلك أنها بينت أن الذي أخرج بني النضير هو الله جل جلاله {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}.(6/269)
واستمرت الآية الكريمة تبين أن يهود بني النضير حسبوا كل شيء وأحاطوا بجميع الأسباب الأرضية لكن جاءتهم الهزيمة من مكان اطمأنوا إليه وهو أنفسهم فإذا الرعب يأتي من داخلهم فإذا بهم ينهارون في أسرع لحظة، لذلك يجب على كل إنسان عاقل أن يعتبر بهذه الغزوة وأن يعرف أن الله هو المتصرف في الأمور وأنه لاتقف أمام قدرته العظيمة لا الأسباب ولا المسببات فهو القادر على كل شيء فعلى الناس أن يؤمنوا به تعالى ويصلحوا أمرهم فإذا اتبعوا أمر الله أصلح الله لهم كل شيء وأخرج أعداءهم من حيث لم يحتسبوا.
إن هذه الغزوة درس للأمة في جميع عصورها تذكرهم أن طريق النصر قريب وهو الرجوع إلى الله والاعتماد عليه والتسليم لشريعته، وتقديره حق قدره، فإذا عرف ذلك المؤمنون نصرهم الله ولو كان عدوهم قوياً وكثيراً فإن الله لايعجزه شيء وأقرب شاهد واقعي لذلك هو إجلاء بني النضير، وهي عبرة فليعتبر بها، والسعيد من اعتبر بغيره.
ثم أوضح سبحانه أنه لو لم يعاقبهم بالجلاء لعذبهم في الدنيا بالقتل أما في الآخرة فلهم عذاب النار(1).
ج- تخريب ممتلكات الأعداء:
لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيشه وحاصر بني النضير تحصنوا منه في الحصون، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع النخل والتحريق فيها، فنادوه يامحمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما بال قطع النخل وتحريقها؟(2) . فأنزل الله عزوجل: { ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}(3).
وقد توسع الشيخ محمد أبو زهرة في شرح هذه الآية فقال ماملخصه بعد أن ساق آراء الفقهاء في ذلك:
__________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم (1/270،271).
(2) نفس المصدر (1/274).
(3) انظر: تفسير الطبري (28/34).(6/270)
(والذي ننتهي إليه بالنسبة لما يكون في الحرب من هدم وتحريق وتخريب أنه يستفاد من مصادر الشريعة وأعمال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حروبه:
أن الأصل هو عدم قطع الشجر وعدم تخريب البناء، لأن الهدف من الحرب ليس إيذاء الرعية، ولكن دفع أذى الراعي الظالم وبذلك وردت الآثار.
أنه إذا تبين أن قطع الشجر وهدم البناء توجبه ضرورة حربية لامناص منها كأن يستتر العدو به ويتخذه وسيلة لإيذاء جيش المؤمنين فإنه لامناص من قطع الأشجار، وهدم البناء، على أنه ضرورة من ضرورات القتال كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هنا وفي حصن ثقيف.
أن كلام الفقهاء الذين أجازوا الهدم والقلع يجب أن يخرج على أساس هذه الضرورات، لاعلى أساس إيذاء العدو والإفساد المجرد، فالعدو ليس الشعب إنما العدو هم الذين يحملون السلاح ليقاتلوا(1).
ت- تطوير السياسة المالية للدولة الإسلامية:
بين سبحانه وتعالى حكم الأموال التي أخذها المسلمون من بني النضير بعد أن تم إجلاؤهم فقال تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة الحشر، آية:6).
وبين سبحانه وتعالى أن الأموال التي عادت إلى المسلمين من بني النضير قد تفضل بها عليهم بدون قتال شديد، وذلك لأن المسلمين مشوا إلى أعدائهم ولم يركبوا خيلاً ولا إبلاً وافتتحها - صلى الله عليه وسلم - صلحاً وأجلاهم وأخذ أموالهم ووضعها حيث أمره الله، فقد كانت أموال بني النضير للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل مابقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله(2).
__________
(1) انظر: خاتم النبيين للشيخ محمد ابو زهرة (2/265-269).
(2) مسلم، كتاب الجهاد، باب حكم الفيء (3/1376) رقم 1757.(6/271)
ثم بين المولى عزوجل أحكام الفئ في قرى الكفار عامة فقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سورة الحشر، آية:8).
فكانت هذه الغنيمة خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهذا تصرف فيه –اي الفئ- كما يشاء فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله عزوجل في هذه الآيات.
ولما غنم - صلى الله عليه وسلم - أموال بني النضير، دعا ثابت بن قيس فقال :(ادع لي قومك)، قال ثابت:الخزرج؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (الأنصار كلها) فدعا له الأوس والخزرج:
فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين وإنزالهم إياهم في منازلهم وأموالهم، وأثرتهم على أنفسهم ثم قال:(إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله عليَّ من بني النضير، وكان المهاجرون على ماهم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم، وإن أجبتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم).
فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ: يارسول الله، بل نقسم بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا وقالت الأنصار: رضينا وسلمنا يارسول الله(1).
وقسم ما أفاء الله، وأعطى المهاجرين ولم يعط أحداً من الأنصار شيئاً، غير أبي دجانة، وسهل بن حنيف لحاجتهما(2)، ومع أنه - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن الفئ كان خاص له إلا أنه جمع الأنصار وسألهم عن قسمة الأموال لتطييب نفوسهم وهذا من الهدي النبوي الكريم في سياسة الأمور.
__________
(1) مسلم ، كتاب الجهاد، باب حكم الفيئ (3/1376) رقم 1757.
(2) انظر: شرح الزرقاني على المواهب (2/86).(6/272)
وكانت الغاية من هذا التوزيع تخفيف العبء عن الأنصار، وهكذا انتقل المهاجرون إلى دور بني النضير، وأعيدت دور الأنصار إلى أصحابها، واستغنى بعض المهاجرين مما يمكن أن يقال فيه: إن الأزمة قد بدأت بالانفراج(1).
إن قسمة أموال بني النضير أوجد تطوراً كبيراً في السياسة المالية للدولة الإسلامية: فقد كانت الغنائم الحربية قبل هذه الغزوة تقسم بين المحاربين بعد أن تأخذ الدولة الإسلامية خمسها لتصرف في مصارف معينة حددها القرآن الكريم، وبعد غزوة بني النضير، أصبحت هناك سياسة مالية جديدة فيما يتعلق بالغنائم، وخلاصتها: أن الغنائم الحربية أصبحت – حسب السياسة الجديدة على نوعين:
غنائم استولى عليها المجاهدون بحد سيوفهم، وهذه الغنائم تقسم بين المجاهدين بعد أن تأخذ الدولة خمسها لتصرفه في مصارفه الخاصة.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لصالح الشامي ، ص222.(6/273)
غنائم يوقعها الله بأيدي المجاهدين دون قتال، وهذا النوع يختص رئيس الدولة الإسلامية بالتصرف فيه حسب مايرى المصلحة في ذلك، يعالج به الأوضاع الإقتصادية في البلاد فينقذ الفقراء من فقرهم، أو يشتري به سلاحاً، أو يبني به مدينة، أو يصلح به طرقاً أو .. وهذا يعني أنه قد أصبح لرئيس الدولة الإسلامية ميزانية خاصة يتصرف فيها تصرفاً سريعاً حسب مقتضيات المصلحة(1) وقد ذكر سبحانه وتعالى في الآيتين اللتين أوضحتا سياسته عليه الصلاة والسلام في تفسيم فئ بني النضير إذا اختص به أناساً دون آخرين العلة في ذلك في قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (سورة الحشر، آية:7) اي لكي لا يكون تداول المال محصوراً فيما بين طبقة الأغنياء منكم فقط والتعليل لهذه الغاية يؤذن بأن سياسة الشريعة الإسلامية في شؤون المال، قائمة في جملتها على تحقيق هذا المبدأ. وأن كل ماتفيض به كتب الشريعة الإسلامية من الأحكام المتعلقة بمختلف شؤون الاقتصاد والمال يُبغى من ورائه إقامة مجتمع عادل تتقارب فيه طبقات الناس وفئاتهم ويُقضى فيه على أسباب الثغرات التي قد تظهر فيما بينها، والتي قد تؤثر على سير العدالة وتطبيقها.
__________
(1) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد قلعجي ، ص169.(6/274)
ولو طبقت أحكام الشريعة الإسلامية وأنظمتها الخاصة بشؤون المال من إحياء لشريعة الزكاة ومنع للربا وقضاء على مختلف مظاهر الاحتكارات لعاش الناس كلهم في بحبوحة من العيش، قد يتفاوتون في الرزق ولكنهم جميعاً مكتفون، وليس فيهم كلٌّ على آخر وإن كانوا جميعاً يتعاونون(1) وبعد بيان العلة في توزيع أموال الفئ عقب سبحانه بأمر المسلمين بأن يأخذوا ماأتى به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن ينتهوا عمّا نهاهم عنه، وأن هذا من لوازم الإيمان، وأمرهم بالتقوى، فإن عقابه شديد وأليم للعصاة. قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (سورة الحشر، آية:7).
أي: ماأمركم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فافعلوه، ومانهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بكل خير وصلاح، وينهى عن كل شر وفساد.
وقوله:{ وَاتَّقُوا اللَّهَ}: خافوا ربكم بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
__________
(1) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص194.(6/275)
وقوله:{ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}:أي فإن عقابه أليم وعذابه شديد لمن عصاه وخالف ماأمره به، قال المفسرون: والآية وإن نزلت في أموال الفئ، إلا أنها عامة في كل ماأمر الله به النبي - صلى الله عليه وسلم - أو نهى عنه من واجب أو مندوب، أو مستحب، أو محرم، فيدخل فيها الفئ وغيره(1)، وقد جاءت آيات كثيرة تربي الأمة على وجوب الانقياد لحكم الله تعالى، ولحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذلك في كل الأمور قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (سورة النساء، آية:65).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (دعوني ماتركتم، إنما هلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)(2).
ج- فضل المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان:
فضل المهاجرين:
بينت الآيات الكريمة في سورة الحشر فضل المهاجرين على غيرهم، فهم لهم الدرجة الأولى، فقد اشتملت الآيات على أوصافهم الجميلة وشهد الله لهم بالصدق قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سورة الحشر، آية:8).
فضل الأنصار:
__________
(1) انظر: تفسير الرازي (29/28)، صفوة التفاسير (3/351).
(2) مسلم، كتاب الفضائل، باب توقيره - صلى الله عليه وسلم - وترك إكثار سؤاله (4/1830).(6/276)
فقد وضحت الآيات فضل الأنصار وقد وصفهم الله بهذه الصفات قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة الحشر، آية:9).
فضل التابعين لهم بإحسان:
وهم المتتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة، الداعون في السروالعلانية لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان(1) قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة الحشر، آية10).
وهكذا تحدثت السورة الكريمة عن صور مشرقة للمهاجرين، والأنصار والتابعين بإحسان.
ح- موقف المنافقين في المدينة:
__________
(1) انظر : حديث القرآن الكريم (1/291).(6/277)
بينت الآيات الكريمة حالة المنافقين، ووضحت موقفهم وتحالفهم مع إخوانهم من اليهود، وكشفت أيضاً موقفهم من المسلمين، وموقف اليهود ونفسياتهم(1) قال تعالى: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ صدق الله العظيم لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ صدق الله العظيم لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ صدق الله العظيم لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ صدق الله العظيم كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ صدق الله العظيم كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ صدق الله العظيم } (سورة الحشر، آية:11-17).
__________
(1) انظر : حديث القرآن الكريم (1/264).(6/278)
يخبرنا المولى عزوجل عن المنافقين كعبدالله بن أبي وأضرابه حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم بمناصرتهم، وقوله (لإخوانهم) اي الذين بينهم وبينهم أخوة الكفروهم يهود بني النضير، وجعلهم إخواناً له لكون الكفر قد جمعهم، وإن اختلف نوع كفرهم، فهم إخوان في الكفر. (لئن أخرجتم) اي والله لئن أخرجتم من دياركم (لنخرجن معكم) من ديارنا في صحبتكم (ولانطيع فيكم) اي في شأنكم ومن أجلكم، (أحداً) ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم وإن طال الزمان ثم لما وعدوهم بالخروج معهم وعدوهم بالنصرة لهم فقالوا: (وإن قوتلتم) اي وإن قاتلكم المسلمون (لننصرنكم) اي على المسلمين الذين يقاتلونكم ثم كذبهم الله تعالى فقال {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيما وعدوهم به من الخروج ولما أجمل سبحانه وتعالى كذب المنافقين فيما وعدوا به بني النضير، فصّل ماكذبوا فيه(1)، وزاد في تأكيد الرد عليهم فقال تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} اي لئن أخرج المسلمون اليهود فإن المنافقين لن يخرجوا معهم.
وقوله تعالى:{ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ}.
أي: ولئن قاتل المسلمون اليهود فإن المنافقين لن ينصروهم.
وقوله تعالى:{ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}.
أي: ولئن نصر المنافقون اليهود – على سبيل الفرض – فإن نصرهم لن يضر المسلمين شيئاً، بل إن الفريقين سيولون الأدبار أمام المسلمين ثم لاينصر الله بني النضير.
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/282).(6/279)
ثم قرر القرآن الكريم حقيقة قائمة في نفوس اليهود والمنافقين قال تعالى: {لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} أي لأنتم يامعشر المسلمين أشد خوفاً وخشية في صدوراليهود والمنافقين من الله تعالى، فهم يخافونكم أكثر من خوفهم من الله تعالى وهذه الحال منهم (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) اي لايعلمون الله وعظمته حتى يخشوه حق خشيته(1) ثم أكد سبحانه وتعالى هذه الحقيقة بصفات أخرى فيهم، فقال تعالى:{ لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} فقد كشف سبحانه وتعالى عن حقائق نفسية اليهود فهم جبناء لايستطيعون أن يواجهوا المسلمين في مواطن مكشوفة، بل لا يقاتلون إلا من وراء قراهم المحصنة بالخنادق وجدرانهم وحوائطهم التي يتسترون من خلفها.
ثم كشف القرآن عن بعض أسباب ضعفهم وخورهم فقال تعالى:{ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}.
فهؤلاء اليهود في الظاهر تراهم مجتمعين صفاً واحداً ضد المسلمين لكن الآية تبين أنهم عكس ذلك في الحقيقة فهم (بأسهم بينهم شديد)، أي: عداوتهم بعضهم لبعض شديدة (تحسبهم جميعاً) أي: تظنهم مجتمعين على أمر ورأي ولكنهم في الحقيقة (قلوبهم شتى) أي متفرقة.
وقوله سبحانه: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}.
أي: بسبب أنهم قوم لايعقلون الحق ولايدورون معه، وإنما يدورون في ركاب الباطل(2).
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/283).
(2) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول(1/293،294).(6/280)
وفي الآية تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتال اليهود، لأنهم عرفوا من رب العالمين بأن اليهود جبناء ثم بين سبحانه أن مانزل ببني النضير من بلاء بسبب غدرهم، قد نزل مايشبه بإخوانهم من بني قينقاع فذاقوا جزاء خيانتهم وغرورهم قال تعالى:{ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ثم ضرب الله مثلاً آخر للمنافقين، الذين أغروا بني النضير بالمقاومة ثم خذلوهم عند المحنة، فقال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ صدق الله العظيم } يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين وقول المنافقين لهم لئن قوتلتم لننصرنكم ثم لما حقت الحقائق وجد بهم الحصار والقتال تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ سول للإنسان -والعياذ بالله- الكفر فإذا دخل فيما سوله له تبرأ منه، وتنصل وقال:{ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} وقوله:{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}.
أي: فكان عاقبة الآمر بالكفر وهو الشيطان والفاعل له وهو المستجيب للشيطان، أنهما في النار خالدين فيها أبد الآبدين {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} أي جزاء كل ظالم(1).
د- وعظ المؤمنين وتذكيرهم باليوم الآخر وبيان الفرق الشاسع بين أصحاب الجنة وأصحاب النار:
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/284).(6/281)
قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ صدق الله العظيم لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ صدق الله العظيم } (سورة الحشر، آية:19-20).
وهذه الآيات الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها.
ومع الانتصارات العظيمة التي حققها المسلمون بالقضاء على يهود بني النضير والتوسع الاقتصادي الذي حدث للصحابة مع توسع موارد الدولة بدخول مصدر الفئ يأتي القرآن الكريم في هذه الحادثة ليؤكد على معاني العقيدة، وأصولها والتذكير باليوم الآخر والاستعداد له، فيأمر المولى عزوجل افراد المجتمع المسلم بما يوجبه الإيمان، ويقتضيه من لزوم التقوى سراً وعلانية، ومراعاة ماأمرهم الله به من أوامره وحدوده، وينظروا مالهم وماعليهم، وماذا قدموا من الأعمال وهل تنفعهم أو تضرهم يوم القيامة؟
وطلب منهم المولى عزوجل أن يجعلوا الآخرة نصب أعينهم، وقبلة قلوبهم، وأن يهتموا بشأنها ويجتهدوا في كثرة الأعمال التي توصلهم إلى رضا الله عزوجل وأن يتغلبوا على القواطع، ويزيلوا العوائق التي توقفهم عن السير نحو مرضاة الله سبحانه وتعالى(1).
وجاء التعبير القرآني بقوله:لغد: يريد يوم القيامة، فقرب الله تعالى القيامة حتى جعلها غداً، وذلك لأنها آتية لامحالة، وكل آت قريب(2).
وأعلمهم سبحانه وتعالى: أنه خبير بما يعملون، ولاتخفى عليه أعمالهم، ولاتضيع لديه، ولايهملها لكي يجدوا ويجتهدوا(3).
وحذرهم من أن يكونوا كالذين غفلوا عن ذكر الله، فأنساهم الله العمل لمصالح نفوسهم فصاروا من الفاسقين عن أمره الخارجين عن حدود دينه.
__________
(1) انظر: تفسير السعدي (7/340).
(2) انظر: المحرر الوجيز (14/390).
(3) تفسير السعدي (4/342).(6/282)
ثم نفى سبحانه وتعالى المساواة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وبين بأن أصحاب الجنة هم الفائزون بالنعيم الخالد الناجون من عذاب الله(1) أما أصحاب النار فهم الخاسرون.
وهذا التفصيل والتذكير والوعظ وتقريب الآخرة من الأذهان والقلوب موجب لأهل الإيمان إلى المبادرة والمشاركة في الخيرات.
ذ- عظمة القرآن الكريم وعلو منزلته وبعض صفات الله الجليلة التي تليق به سبحانه وتعالى:
قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة الحشر، آية:21).
ومعنى الآية: لو جعلنا في الجبل عقلاً كما جعلنا فيكم أيها الناس، ثم أنزلنا عليه القرآن لخشع هذا الجبل وخضع وتشقق من خشية الله، وهذا تمثيل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير مافيه من المواعظ والزواجر، وفيه توبيخ للإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشعه حين قراءة القرآن وتدبر مافيه من القوارع التي تذل لها الجبال الراسيات(2) ثم بين سبحانه وتعالى أنه يضرب للناس الأمثال، ويوضح لعباده الحلال والحرام، لأجل أن يتفكروا في آياته ويتدبروها ، لئن التفكير فيها يفتح للعبد خزائن العلم ويبين له طريق الخير والشر، ويحثه على مكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، ويزجره عن مساوئ الأخلاق.
فلا أنفع للعبد من التفكير في القرآن، والتدبر لمعانيه(3).
__________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم (1/
(2) انظر: تفسيرالمراغي (28/57) بتصرف يسير.
(3) انظر: تفسير السعدي (7/344).(6/283)
وفي نهاية سورة الحشر تحدثت الآيات الكريمة عن بعض أسماء الله الحسنى وأوصافه العلى، قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ صدق الله العظيم هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ صدق الله العظيم هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صدق الله العظيم } (سورة الحشر، آية:22،23،24).
وهكذا ختمت السورة الكريمة بما يليق بجلاله من صفات جليلة، لكي يتربى المجتمع المسلم على تحقيق العبودية لله ويتعرف عليه من خلال أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وذلك لكماله العظيم وإحسانه الشامل، وتدبيره العام وكل إله غيره، فإنه باطل، لايستحق من العبادة مثقال ذرة، لأنه فقير عاجز ناقص، لايملك لنفسه ولا لغيره شيئاً.
ثم وصف نفسه بعموم العلم الشامل، لما غاب عن الخلق، ومايشاهدونه، وبعموم رحمته، التي وسعت كل شيء ووصلت إلى كل حي، ثم كرر ذكر عموم ألهيته وانفراده بها، وأنه المالك لجميع الممالك، فالعالم العلوي والسفلي، وأهله الجميع، مماليك لله، فقراء مدبرون.
{القدوس السلام} أي: المقدس السالم من كل عيب ونقص، المعظم الممجد، لأن القدوس، يدل على التنزيه من كل نقص، والتعظيم لله في أوصافه وجلاله.
{المؤمن} أي: المصدق لرسله وأنبيائه، بما جاءوا به، بالآيات البينات والبراهين القاطعات، والحجج الواضحات.
{العزيز} الذي لايغالب ولايمانع، بل قد قهر كل شيء، وخضع له كل شيء.
{الجبار} الذي قهر جميع العباد، وأذعن له سائر الخلق الذي يجبر الكسير، ويغني الفقير.(6/284)
{المتكبر} الذي له الكبرياء والعظمة المتنزه عن جميع العيوب والظلم والجور.
{سبحان الله عما يشركون} وهذا تنزيه عام، عن كل ماوصفه به من أشرك به وعانده.
{هو الله الخالق} لجميع المخلوقات.
{البارئ} للمبروءات.
{المصور} للمصورات.
وهذه الأسماء متعلقة بالخلق والتدبير والتقدير، وأن ذلك كله، قد انفرد الله به، لم يشاركه فيه مشارك.
{له الأسماء الحسنى} أي: له الأسماء الكثيرة جداً، التي لايحصيها ولايعلمها أحد إلا هو، ومع ذلك فكلها حسنى، أي: صفات كمال بل تدل على أكمل الصفات وأعظمها، لانقص في شيء منها، بوجه من الوجوه.
ومن حسنها، أن الله يحبها، ويحب من يحبها، ويحب من عباده أن يدعوه ويسألوه بها.
ومن كماله، وأن له الأسماء الحسنى والصفات العليا، أن جميع من في السموات والأرض مفتقرون إليه على الدوام، يسبحون بحمده ويسألونه حوائجهم، فيعطيهم من فضله وكرمه، ماتقتضيه رحمته وحكمته.
{وهو العزيز الحكيم} الذي لايريد شيئاً إلا ويكون، ولا يكون شيئاً إلا لحكمة ومصلحة(1).
إن معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، ولذلك تربى الصحابة على معرفتها والعمل بها، فأنواع التوحيد هي روح الإيمان وروحه، وأصله وغايته، فكلما إزداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته ازداد إيمانه وقوى يقينه، فهذا العلم رسخ في قلوب الصحابة، فأوجب خشية الله لهم ومعرفته حق المعرفة فعملوا بموجبها(2).
س- تحريم الخمر:
__________
(1) انظر: تفسير السعدي (7/346،347).
(2) انظر: الوسطية في القرآن الكريم، للصّلابي، ص296.(6/285)
حرمت الخمر ليالي حصار بني النضير(1) في ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة(2)، وقد خضع تحريم الخمر لسنة التدرج وكان ذلك التحريم على مراحل معروفة في تاريخ التشريع الإسلامي حتى نزلت الآيات الحاسمة في النهي عنها من سورة المائدة، وفي ختامها {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (سورة المائدة، آية:91) قال المؤمنون في قوة وتصميم: قد انتهينا يارب(3).
وفي قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (سورة البقرة، آية:219).
يقول سيد قطب رحمه الله: وهذا النص الذين بين أيدينا كان أول خطوة من خطوات التحريم، فالأشياء والأعمال قد لاتكون شراً خالصاً فالخير يلتبس بالشر، والشر يلتبس بالخير في هذه الأرض ولكن مدار الحل والحرمة هو غلبة الخير أو غلبة الشر، فإذا كان الإثم في الخمر والميسر من النفع، فتلك علة تحريم ومنع وإن لم يصرح هنا بالتحريم والمنع.
هنا يبدو لنا طرف من منهج التربية الإسلامية القرآنية الربانية الحكيمة وهو المنهج الذي يمكن استقراؤه في الكثير من شرائعه وفرائضه وتوجيهاته، ونحن نشير إلى قاعدة من قواعد هذا المنهج بمناسبة الحديث عن الخمر والميسر عندما يتعلق الأمر أو النهي بقاعدة من قواعد التصور الإيماني أي بمسألة اعتقادية، فإن الإسلام يقضي فيها قضاء حاسماً منذ اللحظة الأولى.
__________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/253).
(2) انظر: تفسير القرطبي (18/10).
(3) انظر: الخصائص العامة للإسلام، للقرضاوي، ص181.(6/286)
ولكن عندما يتعلق الأمر أو النهي بعبادة وتقليد، أو بوضع اجتماعي معقد، فإن الإسلام يتريث به ويأخذ المسألة باليسر والتدرج، ويهيئ الظروف الواقعة التي تيسر التنفيذ والطاعة فعندما كانت المسألة مسألة التوحيد أو الشرك: أمضى أمره منذ اللحظة الأولى في ضربة حازمة جازمة لاتردد فيها ولاتلفت، ولامجاملة فيها ولامساومة، ولالقاء في منتصف الطريق لأن المسألة هنا مسألة أساسية للتصور، لايصلح بدونها إيمان ولايقام إسلام.
فأما الخمر والميسر، فقد كان الأمر أمر عادة وألفة، والعادة تحتاج إلى علاج، فبدأ بتحريك الوجدان الديني المنطقي التشريعي في نفوس المسلمين، بأن الإثم في الخمر والميسر أكبر من النفع، وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأولى ثم جاءت الخطوة الثانية بآية سورة النساء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} (سورة النساء، آية:43).(6/287)
والصلاة في خمسة أوقات، معظمها متقارب، لايكفي مابينها للسكر والإفاقة! وفي هذا تضييق لفرص المزاولة العملية لعادة الشرب، وكسر لعادة الإدمان التي تتعلق بمواعيد التعاطي، إذ المعروف أن المدمن يشعر بالحاجة إلى ما أدمن عليه من مسكر أو مخدر في الموعد الذي اعتاد تناوله، فإذا تجاوز هذا الوقت وتكرر هذا التجاوز فترة حد العادة وأمكن التغلب عليها .. حتى إذا تمت هاتان الخطوتان جاء النهي الجازم الأخير لتحريم الخمر والميسر(1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (سورة المائدة، آية:91).
و- لايحيق المكر السئ إلا بأهله:
كان مكر اليهود، وتآمرهم على حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والدولة الإسلامية في غاية الخسة والوضاعة، وكانوا يريدون من مكرهم وغدرهم عزة ورفعة ومجداً، وغلبة لكن الله سخر منهم، ونجى رسوله والمسلمين من مكرهم وأذلهم وأخزاهم، فزال مجدهم، وكسر غلبتهم، وخرب بيوتهم، ورحّلهم عن ديارهم ولم يكلف ذلك المسلمين اصطداماً مسلحاً، ولاقتالاً ضارياً، ولكن الله قذف في قلوبهم الرعب والفزع، فطلبوا النجاة بأرواحهم في ذلة وخزي، مخلفين وراءهم ثروة، وملكاً، حازه المسلمون غنيمة باردة وقد قال تعالى في شأنهم: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ} (سورة الحشر، آية:2).
__________
(1) انظر: في ظلال القرآن (1/229).(6/288)
هذه عاقبة المكر السيء، والغدر المشين، وانظر بعد ذلك كيف أشار القرآن الكريم إلى مواطن العبرة، في هذه الموقعة وإلى هذا التهديد الذي أعلنه لكل من يسلك سبل المكر المزري، والحقد المستبد(1) وقال {يَاأُولِي الأَبْصَارِ} (سورة الحشر، آية:2).
ويظهر لي من الآية الكريمة الاعتبار من وجوه:
ان الذي يقف في وجه الحق، ويصد الناس عنه، ويطارد دعاة الحق منهزم لامحالة، قال تعالى: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (سورة آل عمران، آية:12).
الصراع بين الحق والباطل لايتوقف وباق حتى يرث الله الأرض وماعليها، وستكون للباطل جولات وللحق جولات ولكن العاقبة لأهل الحق في نهاية المطاف.
الاعتبار يكون بتجنب ماارتكبه اليهود من خيانة وغدر حتى لايحدث نفس المصير الذي حدث لهم من الهزيمة والذل والهوان(2).
هـ- لاإكراه في الدين:
كان في بني النضير أناس من أبناء الأنصار قد تهوّدُوا بسبب تربيتهم بين ظهراني اليهود فأراد أهلوهم المسلمون منعهم من الرحيل معهم فأنزل الله عزوجل {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (سورة البقرة، آية:256).
__________
(1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص167،168.
(2) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس، ص179.(6/289)
روى أبو داود في سننه عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه قال: كانت المرأة تكون مُقْلاة(1)، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهَوِّده، فلما أجليت بنو النضير، كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لاندع أبنائنا فأنزل الله عزوجل:{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(سورة البقرة، آية:256)(2).
__________
(1) المِقْلاة: التي لايعيش لها ولد. سنن أبي داود (3/133).
(2) ابوداود، كتاب الجهاد، باب الأسير يكره على الاسلام (3/132) رقم 2682.(6/290)
المبحث الرابع
غزوة ذات الرقاع
أولاً: تاريخها وأسبابها ولماذا سميت بذات الرقاع:
اختلف أهل المغازي والسير في تاريخ هذه الغزة، وقد ذهب البخاري(1) الى أنها كانت بعد خيبر، وذهب ابن اسحاق(2)، الى أنها بعد غزوة بني النضير، وقيل بعد الخندق سنة أربع، وعند الواقدي(3)، وابن سعد(4)، أنها كانت في المحرم سنة خمس ورجح ابن حجر ماذهب إليه البخاري(5)، لأن أبا موسى الأشعري شهدها وقد قدم من الحبشة بعد فتح خيبر مباشرة وشهدها أبوهريرة وقد أسلم حين فتح خيبر، وصلى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف، ولم تكن شرعت في الخندق، بل شرعت في عسفان أيام الحديبية، والحديبية سنة ست(6).
__________
(1) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع (5/62) رقم 4128.
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/225).
(3) انظر: المغازي للواقدي (1/395).
(4) انظر: الطبقات لابن سعد (2/61).
(5) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله، ص424.
(6) نفس المصدر، ص424.(7/1)
أما الدكتور البوطي(1)، فقد جزم أنها قبل الخندق، واحتج في ذلك ماثبت في الصحيح من أن جابراً رضي الله عنه استأذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الخندق وأخبر امرأته بما رأى من جوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه قصة الطعام الذي دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومجئ كل الجيش ومعجزة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تكثير طعام جابر وفيه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لزوجة جابر: (كلي هذا وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة) وماثبت في الصحيحين أيضاً من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سأل جابراً في غزوة ذات الرقاع إن كان قد تزوج بعد فأجاب بنعم، مما يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن علم شيئاً عن زواجه، وأخذ البوطي في رد أدلة ابن حجر في كونها بعد خيبر، فقال أما ما استدل به الحافظ ابن حجر من أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل صلاة الخوف في الأحزاب وصلاها قضاء فيجاب عنه بأنه ربما كان سبب تأخير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها إذ ذاك استمرار الرمي بين المشركين والمسلمين بحيث لم يدع مجالاً للانصراف إلى الصلاة، وربما كان العدو في جهة القبلة... أو ربما أخرها لبيان مشروعية قضاء الفائتة كيفما كانت، كما يجاب عن استدلاله بحديث أبي موسى الأشعري بما ذكره كثير من علماء السيرر والمغازي من أن أبا موسى إنما قصد بها غزوة أخرى سميت هي أيضاً بذات الرقاع – بدليل أنه قال عنها: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نتعقبه ... الخ وغزوة ذات الرقاع التي نتحدث عنها كان العدد أكثر من ذلك(2).
__________
(1) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص210.
(2) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص425.(7/2)
ومال الدكتور الحكمي(1)، والدكتور العمري(2) إلى ماذهب إليه البخاري وابن حجر، ومال الدكتور مهدي رزق الله أحمد إلى ماذهب إليه البوطي(3) وقال بأن حجة الدكتور البوطي بزواج جابر قبل الخندق لاتدفع وهي في الصحيحين، إضافة إلى أن البخاري قد ذكر رأيه معلقاً، وحجته فقط مجئ أبي موسى بعد خيبر وهي حجة دفعها البوطي بترجيح تعدد الغزوة(4) وقد ذكر البوطي بأن تاريخ الغزوة كان في السنة الرابعة للهجرة بعد مرور شهر ونصف تقريباً على إجلاء بني النضير وقال بأن هذا الرأي ذهب إليه أكثر علماء السير والمغازي(5) وإليه ذهبت وأما سبب الغزوة ماظهر من الغدر لدى كثير من قبائل نجد بالمسلمين، ذلك الغدر الذي تجلى في مقتل أولئك الدعاة السبعين الذين خرجوا يدعون إلى الله تعالى فخرج عليه الصلاة والسلام قاصداً قبائل محارب وبني ثعلبة(6) وقد ذكر الدكتور محمد أبو فارس أن قادماً قدم المدينة فأخبر المسلمين أن بني محارب وبني ثعلبة من غطفان قد جمعوا الجموع لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما كان منه - صلى الله عليه وسلم - إلا أن سار إليهم في عقر دارهم على رأس أربعمائة مقاتل وقيل سبعمائة مقاتل ولما وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ديارهم خافوا وهربوا إلى رؤوس الجبال، تاركين نساءهم وأطفالهم وأموالهم، وحضرت الصلاة فخاف المسلمون أن يغيروا عليهم، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف وعاد رسول الله إلى المدينة(7).
__________
(1) انظر: مرويات الحديبية ، ص73-86.
(2) انظر: المجتمع المدني، ص130.
(3) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص425.
(4) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص425.
(5) انظر: فقه السيرة النبوية، ص194.
(6) نفس المصدر، ص194،195.
(7) انظر: غزوة الاحزاب لأبي فارس، ص14.(7/3)
وقد حققت هذه الحملة العسكرية أغراضها وتمكنت من تشتيت الحشد الذي قامت به غطفان لغزو المدينة فأرهب تلك القبائل وألقى عليها درساً بأن المسلمين ليسوا قادرين فقط على سحق من تحدّثه نفسه بالاقتراب من المدينة بل قادرين على نقل المعركة إلى أرض العدو نفسه وضربه في عقر داره(1).
وسميت بذات الرقاع لأنهم كانوا يربطون على أرجلهم من الخرق والرقاع اتقاء الحر، وقيل لأنهم رقعوا راياتهم، وقيل لشجرة كانت اسمها ذات الرقاع(2)، وقيل لأن المسلمين نزلوا في أرض كان فيها بقع بيض وسود مختلفة، فسميت لذلك(3) والصحيح: لأنهم كانوا يربطون على أرجلهم من الخرق، فقد روى الشيخان بسنديهما عن أبي موسى الأشعري قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نتعقبه فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري وكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع لما كنا نعصب بالخرق على أرجلنا(4).
ثانياً: صلاة الخوف، وحراسة الثغور:
1-صلاة الخوف:
__________
(1) انظر: غزوة الاحزاب، محمد احمد باشميل، ص77،78.
(2) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/309).
(3) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص170.
(4) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة ذات الرقاع (5/145).(7/4)
أنزل الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف في هذه الغزوة وبين القرآن الكريم صفة الصلاة ساعة مواجهة العدو وهي قال تعالى:{ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (سورة النساء، آية:102).
فقد صلى المسلمون صلاة الخوف، وصفة هذه الصلاة أن طائفة صفت معه، وطائفة في وجه العدو. فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت في صلاته، ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم(1).
وفي رواية أنه صلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات وللقوم ركعتان(2) قال الدكتور البوطي: ووجه التوفيق بين الحديثين أنه عليه الصلاة والسلام صلى بأصحابه صلاة الخوف أكثر من مرة فصلاها مرة على النحو الأول وصلاها مرة أخرى على النحو التالي.
__________
(1) انظر: السيرة في ضوء المصادر الاصلية، ص425.
(2) مسلم (2/576) رقم 311.(7/5)
وكانت هذه الصلاة بمنطقة نخل التي تبعد عن المدينة بيومين(1) ودّل تشريع صلاة الخوف على أهمية الصلاة، فحتى في قلب المعركة لايمكن التساهل فيها، ولايمكن التنازل عنها، مهما كانت الظروف وبذلك تندمج الصلاة والعبادة بالجهاد وفق المنهاج النبوي في تربية الأمة الذي استمد من كتاب الله تعالى، فلايوجد أي انفصال أو انفصام بين العبادة والجهاد(2).
2-حراسة الثغور:
عندما رجع الجيش الإسلامي من غزوة ذات الرقاع، سبوا امرأة من المشركين، فنذر زوجها ألا يرجع حتى يهريق دما في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فجاء ليلاً وقد جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رجلين على الحراسة أثناء نومهم، وهما عبّاد بن بشر، وعمار بن ياسر، فضرب عباداً بسهم وهو قائم يصلي فنزعه، ولم يقطع صلاته، حتى رشقه بثلاث سهام، فلم ينصرف منها حتى سلم، فأيقظ صاحبه، فقال: سبحان الله، هلا نبهتني، فقال كنت في سورة اقرؤها فلم أحب أن أقطعها، فلما تابع على الرمي ركعت فآذنتك، وايم الله، لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها(3) ومن هذه الحادثة يمكننا أن نستخلص دروساً وعبراً منها:
أ-اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمن الجنود ويظهر ذلك في اختياره رجلين من خيار الصحابة لحراسة الجيش ليلاً.
ب-تقسيم الحراسة ونلاحظ أن الرجلين الذين أنيطت بهما حراسة الجيش قد اقتسما الليل نصفين، نصفاً للراحة ونصفاً للحراسة، إذ لابد من راحة جسم الجندي بعض الوقت.
جـ-التعلق بالقرآن الكريم وحب تلاوته: فقد كان حبه للتلاوة قد أنساه آلام السهام التي كانت تنغرس في جسمه وتثج الدم منه بغزارة(4).
__________
(1) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص207.
(2) انظر: التربية القيادية (3/303،304).
(3) انظر: السيرة في ضوء المصادر الأصلية، ص427.
(4) انظر: غزوة الاحزاب لأبي فارس، ص30،31.(7/6)
د-الشعور بمسؤولية الحراسة: فلم يقطع عبّاد صلاته لألم يشعر به وإنما قطعها استشعاراً بمسؤلية الحراسة التي كلف بها وهذا درس بليغ في مفهوم العبادة والجهاد(1).
هـ-مكان الحراسة استراتيجي: اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - فم الشعب مكان إقامة الحرس وكان هذا الاختيار في غاية التوفيق، لأنه المكان الذي يتوقع العدو منه لمهاجمة المعسكر.
و-قرب مهجع الحرس من الحارس: ولذلك استطاع الحارس أن يوقظ أخاه النائم، ولو كان المهجع بعيداً عن الحارس لما تمكن من إيقاظ أخيه، وبالتالي يحدث مالا تحمد عقباه(2).
ثالثاً: شجاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعاملته لجابر بن عبدالله:
1-شجاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
عندما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة ذات الرقاع أدركته القائلة في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرق الناس يستظلون الشجر، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة علق بها سيفه، قال جابر بن عبدالله: (فنمنا نومة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعونا، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي:من يمنعك مني؟ فقلت له الله، فهاهو ذا جالس... لم يعاقبه رسول الله واسم الأعرابي: غورث ابن الحارث)(3).
وقد عاهد غورث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لايقاتله ولايكون مع قوم يقاتلونه، فخلى سبيله، فجاء إلى أصحابه فقال: (جئتكم من عند خير الناس)(4).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، 428.
(2) انظر: غزوة الاحزاب لأبي فارس، ص32.
(3) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص426.
(4) نفس المصدر ، ص427.(7/7)
وفي هذه القصة دليل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وفرط شجاعته وقوة يقينه وصبره على الأذى وحلمه على الجهال، وفيها جواز تفرق العسكر في النزول ونومهم إذا لم يكن هناك مايخافون منه(1).
إن هذه القصة ثابتة وصحيحة، وهي تكشف عن مدى رعاية الباري جلّ جلاله وحفظه لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، ثم هي تزيدك يقيناً بالخوارق التي أخضعها الله جل جلاله له عليه الصلاة والسلام مما يزيدك تبصراً ويقيناً بشخصيته النبوية، فقد كان من السهل الطبيعي بالنسبة لذلك المشرك، وقد أخذ السيف ورفعه فوق النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أعزل غارق في غفلة النوم –أن يهوي به عليه فيقتله، وإنك لتلمس من ذلك المشرك هذا الاعتداد بنفسه والزهو بالفرصة الذهبية التي أمكنته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله:من يمنعك مني؟ فما الذي طرأ بعد ذلك حتى عاقه عن القتل؟(2)
__________
(1) انظر: فتح الباري (15/317) نقلاً عن السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص427.
(2) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص200.(7/8)
ليس هذا تفسير إلا العناية الإلهية، والإعجاز الإلهي، الذي يتخطى العادات والسنن، ويتجاوز قوى الناس، لنصرة نبيه، والذود عن دعوته(1)، فقد كانت العناية الإلهية كافية لأن تملأ قلب المشرك بالرعب وأن تقذف في ساعديه تياراً من الرجفة، فيسقط من يده السيف ثم يجلس متأدباً مطرقاً بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وماحدث مصداق لقوله تعالى:{ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (سورة المائدة، آية:67) فليست العصمة المقصودة في الآية، أن لايتعرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأذى أو محنة من قومه، إذ تلك هي سنة الله في عباده كما قد علمت، وإنما المراد من العصمة أن لاتطول إليه أي يد تحاول اغتياله وقتله لتُغتال فيه الدعوة الإسلامية التي بعث لتبليغها(2).
2-معاملته - صلى الله عليه وسلم - لجابر بن عبدالله:
قال جابر بن عبدالله رضي الله عنه: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى غزوة ذات الرقاع من نخل، على جمل لي ضعيف فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: جعلت الرفاق تمضي، وجعلت أتخلف، حتى أدركني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مالك ياجابر؟ قال: قلت يارسول الله أبطأني جملي هذا، قال: أنخه، فأنخته،وأناخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: أعطني هذه العصا من يدك، أو اقطع لي عصاً من شجرة، قال: ففعلت. قال: فأخذها رسول الله فنخسه بها نخسات، ثم قال: اركب، فركبت، فخرج -والذي بعثه بالحق- يواهق ناقته مواهقة. (أي يسابقها ويعارضها في المشي لسرعته).
__________
(1) انظر: دورس وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص178.
(2) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص200.(7/9)
قال: وتحدثت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: أتبيعني جملك هذا ياجابر؟
قال: قلت يارسول الله! بل أهبه لك، قال: لا، ولكن بعنيه. قال: قلت: فَسُمنيه يارسول الله! قال: قد أخذته بدرهم، قال: قلت: لا، إذن تغبنني يارسول الله! قال: فبدرهمين، قال: قلت: لا، قال: فلم يزل يرفع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثمنه، حتى بلغ الأوقية، قال: فقلت: أفقد رضيت يارسول الله! قال: نعم، قلت: فهو لك، قال: قد أخذته.
قال: ثم قال: ياجابر: هل تزوجت بعد؟ قال: قلت: نعم يارسول الله، قال: أثيِّباً أم بكراً؟ قال: قلت: لا، بل ثيِّباً، قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك؟
قال: قلت يارسول الله! إن أبي أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعاً، فنكحت امرأة جامعة، تجمع رؤوسهنَّ، وتقوم عليهنَّ، قال: أصبت- إن شاء الله –أما إنا لو قد جئنا صراراً(1) أمرنا بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذاك، وسمعت بنا فنفضت نمارقها(2) قال: قلت: والله يارسول الله مالنا من نمارق، قال: إنها ستكون، فإذا قدمت فاعمل عملاً كيِّساً.
قال: فلما جئنا صراراً، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجزور فنحرت، وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دخل ودخلنا، قال: فحدثت المرأة الحديث، وماقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: فدونك فسمع وطاعة، قال: فلما أصبحت أخذت برأس الجمل، فأقبلت به، حتى أنخته على باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: ثم جلست في المسجد قريباً منه، قال: وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأى الجمل، فقال: ماهذا؟ قالوا: يارسول الله! هذا جمل جاء به جابر، قال: فأين جابر؟
__________
(1) موضع على بعد ثلاثة أميال من المدينة.
(2) نمارقها: وسائدها.(7/10)
قال: فدعيت له ، قال: فقال: يا ابن أخي، خذ برأس جملك فهو لك، ودعا بلالاً فقال له: اذهب بجابر، فأعطه أوقية، قال: فذهبت معه، فأعطاني أوقية، وزادني شيئاً يسيراً. قال: فوالله مازال يَنْمى عندي، ويرى مكانه من بيتنا...)(1).
في هذه القصة صورة جميلة ورفيعة لخلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه من حيث لطف الحديث، والتواضع الرفيع، ورقة الحديث وفكاهة المحاورة ومحبة شديدة لأصحابه والوقوف على أحوالهم والمواساة في مشكلاتهم الإجتماعية مادياً ومعنوياً، فقد شعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن سبب تأخر جابر عن الركب هو ضعف جمله الذي لايملك غيره لبؤس حاله، حيث إن والده مات شهيداً في أحد وترك له مجموعة من البنات والأولاد ليرعاهم، وهو مقل في الرزق، فأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ينتهز هذه الفرصة ليواسيه ويقدم له مايستطيع من مال مبارك(2).
أي لطف هذا، وأية مواساة هذه، وأية طمأنة وإحسان صحبة، في أوبة من غزوة، بلا تكلف، ولاتهيؤ ولااستعداد سابق: أبرأ جمله وقواه له، بلمسه خارقة، ومعجزة ظاهرة، ثم وهبه إياه بعد أن نفذه ثمنه، ثم احتفى به فأمر فنحر القوم الجزور لتستعد عروسه لاستقباله، ثم طمأنه عن نعيم منظور، وغنى مذخور في جيب الأيام.
تلك من نماذج الأخلاق النبوية، التي تحلى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي حلاه بها ربه الذي بعثه ليتم به مكارم الأخلاق وبهذا الأسلوب الهادئ الورع، الرفيق الرقيق، يتعلِّم الربانيون، حسن الصحبة، وصدق الأخوة وبر الخلة والمصاحبة(3).
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (4/88) قال ابن كثير هذا الحديث له طرق كثيرة عن جابر وألفاظه كثيرة وفيه اختلاف كثير.
(2) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص212،213؛ وانظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص429.
(3) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص181.(7/11)
المبحث الخامس
غزوة بدر الموعد، ودومة الجندل
أولاً:غزوة بدر الموعد:
تنفيذاً للموعد الذي كان أبو سفيان قد اقترحه في أعقاب معركة أحد، والتزام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة على رأس جيش من أصحابه قوامه ألف وخمسمائة مقاتل بينهم عشرة من الخيالة وذلك في ذي القعدة سنة 4هـ وحمل لواء الجيش علي بن أبي طالب رضي الله عنه فوصلوا بدراً فأقاموا فيها ثمانية أيام بانتظار وصول قوات المشركين من قريش بقيادة أبي سفيان بحسب الموعد بين الطرفين، غير أن أحداً من المشركين لم يصل إلى بدر، وكان أبو سفيان قد جمّع قوات قريش وحلفائها التي تألفت من ألفي مقاتل معهم خمسون فرساً، فلما وصلوا إلى مر الظهران، نزلوا على مياه مجنّة على بعد أربعين ميلاً من مكة ثم عاد لهم أبو سفيان إلى مكة(1) بعد أن خطب فيهم وقال: يامعشر قريش إنه لايصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا عام جدب وإني راجع فارجعوا(2) وأقبل مخشي بن عمرو الضمري وهو الذي وادع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني ضمرة في غزوة ودان، فالتقى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدر وقال: يامحمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال نعم، يا أخا بني ضمرة، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ماكان بيننا وبينك، ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك، قال. لا والله يامحمد مالنا بذلك منك من حاجة(3).
__________
(1) انظر: موسوعة نظرة النعيم (1/318،319).
(2) انظر: غزوة الاحزاب، محمد احمد باشميل، ص88.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/232).(7/12)
ففي هذا اللقاء أكد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معنى كبير في اظهار قوة المسلمين، وأن العقد الذي كان بين الفريقين يستمر بعامل قوة المسلمين لابعامل ضعفهم وبناء على طلب الطرف الثاني وفي هذا مافيه من القوة للمسلمين وإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم(1) لقد كانت تحركات الجيش الإسلامي من المدينة حتى بدر مناورة رائعة ناجحة أثبت بها وجوده وأعطى الدليل القاطع لأعداء الإسلام داخل المدينة وخارجها، أنه أصبح أقوى قوة مرهوبة، في الجزيرة العربية كلها، ولا أدّل على ذلك من أن جيش مكة، وهو من أعظم الجيوش في الجزيرة من حيث كثرة العدد وقوة التنظيم وجودة التسلح قد هاب الجيش الإسلامي ونكل عن حربه بعد أن خرج للقائه بموجب ميعاد سابق حدده (في أحد) قائد عام جيش مكة(2).
إن الحملة الإعلامية التي قام بها المشركون لإثبات انتصارهم في أحد وتفوقهم الحربي قد انتكست على رؤوسهم وأصبحوا مثار السخرية عند العرب، وثبت للناس أن ارتباك المسلمين للمفاجأة في أحد وسقوط القتلى منهم لايعني انهزامهم ولاضعفهم العسكري(3) فقد ساهمت هذه الغزوة في المحافظة على السمعة العسكرية للمسلمين(4)، وكسبوا انتصاراً معنوياً عظيماً على أعدائهم بدون قتال، وشاركوا في الموسم التجاري ببدر وربحوا في تجارتهم ربحاً طيباً(5).
لقد كان لإخلاف قريش الموعد أثر في تقوية مكانة المسلمين وإعادة هيبتهم(6).
ثانياً: دومة الجندل:
__________
(1) انظر: معين السيرة للشامي، ص264،265.
(2) انظر: غزوة الأحزاب، باشميل، ص88،89.
(3) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/66).
(4) انظر: التربية القيادية (3/463).
(5) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/67).
(6) انظر: المجتمع المدني في عهد النبوة للعمري، ص91.(7/13)
كانت غزوة دومة الجندل من ضمن حركة تثبيت أركان الدولة الإسلامية، فبعد غزوة بدر الموعد، تحركت القوات الإسلامية بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو قضاعة التي كانت تنزل شمال قبائل أسد وغطفان، وفي حدود الغساسنة الموالين للدولة الرومية (بيزنطة)، ولها إشراف على سوق (دومة الجندل) الشهير (على بعد 450 كيلومتراً شمال المدينة) كانت هذه القبيلة أول من احتك بها المسلمون فغزاها رسول الله تلك الغزوة المعروفة بغزوة دومة الجندل (ربيع الأول 5هـ/أغسطس 626م)(1) فقد وصلت الأنباء إلى المدينة بتجمع بعض القبائل عند دومة الجندل للإغارة على القوافل التي تمر بهم، والتعرض لمن في القافلة بالأذى والظلم، كما وردت الأنباء بأنهم يفكرون في القرب من المدينة لعجم عودها(2).
إن دومة الجندل تعتبر بلاد نائية بالنسبة للمدينة المنورة، لأنها تقع على الحدود بين الحجاز والشام، وفي منتصف الطريق بين البحر الأحمر والخليج العربي –وهي علىمسيرة ست عشرة ليلة من المدينة، ولو أن المسلمين أغفلوا أمرها، وسكتوا على وجود هذا التجمع فيها ما لامهم أحد ولاضرهم هذا التجمع في شيء على المدى القريب ولكن النظرة السياسية البعيدة والعقلية العسكرية الفذة أوجبت على المسلمين أن يتحركوا لفض هذا التجمع(3) والقضاء عليه قبل أن يستفحل شأنه للأسباب الآتية، وكذلك بغية تحقيق بعض الأهداف:
1-لأن السكوت على هذا التجمع وماشاكله يؤدي بلاشك إلى تطوره واستفحاله، ثم يؤدي بعد ذلك إلى إضعاف قوة المسلمين وإسقاط هيبتهم، وهو الأمر الذي يجاهدون من أجل استرداده.
__________
(1) انظر: دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة للشجاع، ص144.
(2) انظر: تأملات في سيرة الرسول لمحمد الوكيل ، ص169.
(3) انظر: تأملات في سيرة الرسول، ص169.(7/14)
2-وجود مثل هذا التجمع في الطريق إلى الشام قد يؤثر على الوضع الإقتصادي للمسلمين، فلو أن المسلمين سكتوا على هذا التجمع لتعرضت قوافلهم أو قوافل القبائل التي تحتمي بهم للسلب والنهب، مما يضعف الاقتصاد، ويؤدي إلى حالة من التذمر والاضطراب.
3-وهناك أمر أهم من الأمرين السابقين وهو فرض نفوذ المسلمين على هذه المنطقة كلها، وإشعار سكانها بأنهم في حمايتهم وتحت مسؤوليتهم، لذلك فهم يؤمنون لهم الطرق، ويحمون لهم تجارتهم ويحاربون كل إرهاب من شأنه أن يزعجهم أو يعرضهم للخطر(1).
4-حرمان قريش من أي حليف تجاري قد يمدها بما تحتاج من التجارة، وصرف أنظارهم عن هذه المنطقة التجارية الهامة، لأن ظهور الدولة الإسلامية بهذه القوة يؤثر على نفسية قريش العدو الأول للدولة الإسلامية ويجعلها تخشى المسلمين على تجارتها(2).
5-الحرص على إزالة الرهبة النفسية عند العرب الذين ماكانوا يحلمون بمواجهة الروم، والتأكيد عملياً للمسلمين بأن رسالتهم عالمية(3) وليست مقصورة على العرب ورأى بعض المؤرخين كالذهبي، والواقدي، ومحمد أحمد باشميل، وغيرهم إن من أهداف تلك الغزوة إرهاب الروم الذين تقع المنطقة التي وصل إليها بجيشه على حدودهم وعلى مسافة خمس ليال من عاصمة ملكهم الثانية دمشق(4).
لهذا ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -المسلمين للخروج، وخرج في ألف من أصحابه وكان يسير الليل، ويكمن النهار حتى يخفي مسيره(5) ولاتشيع أخباره وتنقل أسراره، وتتعقبه عيون الأعداء(6).
__________
(1) نفس المصدر، ص169.
(2) انظر: دراسات في عهد النبوة للشجاع، ص144،145.
(3) انظر: دراسات في عهد النبوة، ص144.
(4) انظر: غزوة الاحزاب، باشميل، ص93؛ تاريخ المغازي للذهبي، ص258.
(5) انظر: تأملات في سيرة الرسول، ص170.
(6) انظر: غزوة الاحزاب لأبي فارس، ص40.(7/15)
واتخذ له دليلاً من بني عذرة يسمى مذكور، وسار حتى دنا من القوم عندئذ تفرقوا، ولم يلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -منهم أحداً، فقد ولوا مدبرين، وتركوا نعمهم وماشيتهم غنيمة باردة للمسلمين وأسر المسلمون رجلاً منهم، واحضروه إلى الرسول فسأله عنهم، فقال: هربوا لما سمعوا بأنك أخذت نعمهم، فعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام فأسلم وأقام بساحتهم أياماً، وبعث البعوث، وبث السرايا، وفرق الجيوش، فلم يصب منهم أحد وعاد المسلمون إلى المدينة، وفي أثناء عودتهم وادع الرسول عيينة بن حصن الفزاري واستأذن عيينة رسول الله في أن ترعى إبله وغنمه في أرض قريبة من المدينة على ستة وثلاثين ميلاً منها.
إن وصول جيوش المسلمين إلى دومة الجندل، وهي على هذه المسافة البعيدة من المدينة وموادعة عيينة بن حصن للمسلمين، واستئذانه في أن يرعى بإبله وغنمه في أرض بينها وبين المدينة ستة وثلاثون ميلاً- أي مايقرب من خمسة وستين كيلومتراً- لدليل قاطع على ماوصت إليه قوة المسلمين، وعلى شعورهم بالمسؤولية الكاملة تجاه تأمين الحياة للناس في هذه المنطقة، وأن هذه المناطق النائية كانت ضمن الدولة الإسلامية، وأن الدولة أصبحت منيعة، ليس في مقدور أحد أن يعتدي عليها، ولو كان ذلك في استطاعة أحد لكان هو عيينة بن حصن الذي كان يغضب لغضبه عشرة آلاف فتى(1).
__________
(1) انظر: تأملات في سيرة الرسول، ص170.(7/16)
كانت غزوة دومة الجندل بعيدة عن المدينة من جهة الشام، إذ بينها وبين دمشق مالايزيد عن خمس ليال، وقد كانت بمثابة إعلان عن دعوة الإسلام بين سكان البوادي الشمالية وأطراف الشام الجنوبية، وأحسوا بقوة الإسلام وسطوته كما كانت لقيصر وجنده، كما أن سير الجيش الإسلامي هذه المسافات الطويلة قد كان فيه تدريب له على السير إلى الجهات النائية، وفي أرض لم يعهدوها من قبل ولذلك تعتبر هذه الغزوة فاتحة سير الجيوش الإسلامية للفتوحات العظيمة في بلاد آسيا وإفريقيا فيما بعد(1).
كانت خطة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة ترمي إلى أهداف عديد، فهي غزوة، وحرب استطلاعية تمسح الجزيرة العربية، وتتعرف على مراكز القوى فيها، وهي حرب إعلامية تأتي على أعقاب بدر الموعد، وتستثمر انتصاراتها، وهي حرب عسكرية تريد أن تصد هجوماً محتملاً على المسلمين حيث ضوى إليها قوم من العرب كثير يريدون أن يدنوا من المدينة، وهي حرب سياسية تريد أن تجهض من تحركات القبائل المحتمل أن تتحرك بعد أنباء غزوة أحد لتقصد المدينة وتسبيحها(2).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة، ص251،252.
(2) انظر: التربية القيادية (3/372).(7/17)
كانت هذه الغزوة دورة تربوية رائعة وقاسية وشاملة يقودها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين يديه ألف من أصحابه، فيتلقون فيها كل لحظة دروساً في الطاعة والانضباط، ودروساً في التدريب الجسمي والعسكري والتحمل لمشاق الحياة وصعوباتها، وأحكاماً وفقهاً في الحلال والحرام، وعمليات صهر وتذويب لقواعد الجيش الإسلامي في بوتقة واحدة خارج إطار العشيرة، وخارج كيان القبيلة، حيث أخذت تفد إلى المدينة عناصر كثيرة من أبناء القبائل المجاورة، والتخلي عن الأطر القبلية وعصاباتها للإنصهار في بوتقة الأمة الواحدة التي تجعل الولاء لله ورسوله وفوق هذا كله تتيح الفرصة لجيل بدر الرائد أن يقوم بمهمة التربية للوافدين الجدد وتعليمهم وتثقيفهم، كما تتيح الفرصة لكشف ضعاف النفوس، ومن له صلة بمعسكر النفاق من خلال مراقبة تصرفاته وسلوكه. إنها ليست ساعات محدودة أو أياماً معدودة بل هي دورة قرابة شهر، لايمكن إلا أن تبرز فيها كل الطبائع وكل النوازع، فيتلقاها عليه الصلاة والسلام ليصوغها على ضوء الإسلام ويعلم الجيل الرائد فن القيادة، وعظمة السياسة.(7/18)
كانت معركة صامتة، وتربية هادئة، وكان الجيش مع قائده يقطع ماينوف عن ألف ميل في هذه الصحراء يتربى ويتثقف ويتدرب، ويمتحن ويقوّم ليكون هذا استعداداً لمعارك قادمة(1) وفي غيابه في غزوة دومة الجندل عين - صلى الله عليه وسلم - سباع بن عرفطة الغفاري والياً على المدينة في تجربة جديدة، فهو ليس أوسياً ولاخزرجياً ولاقرشياً بل من غفار التي كانت تعتبر من سراق الحجيج عند العرب، فلابد لهذا الجيل أن يتربى على الطاعة والإنضباط للأمير أياً كان شأن هذا الأمير وهذا يدل على عظمة المنهج النبوي في تربية الأمة والإرتقاء بها وعلى عظمة قيادة النبي وفراسته في اتباعه وثقته فيهم ومعرفته لمواهبهم، فهو - صلى الله عليه وسلم - على معرفة بكفاءة سباع بن عرفطة الغفاري وعبقريته وقدرته على الإدارة الحازمة، فكان - صلى الله عليه وسلم - يربي أصحابه وهو غائب عن المدينة لكي يهيمن منهج رب العالمين على المسلمين ويصنع منها أمة واحدة تسمع وتطيع لكتاب ربها وسنة نبيها(2).
المبحث السادس
غزوة بني المصطلق
أولاً: من هم بنو المصطلق ومتى وقعت الغزوة وأسبابها:
1-بنو المصطلق:
هم بطن(3) من خزاعة والمصطلق(4) جدهم وهو جذيمة بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر ماء السماء(5).
__________
(1) نفس المصدر (3/373).
(2) انظر: التربية القيادية (3/374).
(3) فرع.
(4) المُصْطلِق: بضم الميم سكون الطاء المهملتين وكسر اللام .
(5) انظر: حديث القرآن عن غزوات الرسول (1/311).(7/19)
واختلفوا في خزاعة(1) فمنهم من قال إنها قبيلة عدنانية ومنهم من ذهب إلى أنها قبيلة قحطانية يمنية والراجح ماذهب إليه أكثر العلماء من أنها قبيلة قحطانية يمنية(2).
2-تاريخ الغزوة:
اختلف العلماء في ذلك وانحصرت أقوالهم فيها في ثلاثة أقوال، فمن قائل أنها سنة ست، قال بذلك ابن إسحاق أمام المغازي وتبعه على ذلك خليفة بن خياط، وابن جرير الطبري، وابن حزم، وابن عبدالبر، وابن العربي، وابن الأثير، وابن خلدون، فقد صرح كل منهم بأن غزوة بن المصطلق كانت في شعبان من السنة السادسة للهجرة(3).
وهناك من قال بأنها في شعبان من العام الرابع للهجرة وذهب إلى هذا القول المسعودي، وابن العربي المالكي وغيرهم .
وذهبت طائفة إلى أنها كانت في شعبان من السنة الخامسة، فمن هؤلاء العلماء كل من موسى بن عقبة، وابن سعد، وابن قتيبة، والبلاذري، والذهبي، وابن القيم، وابن حجر العسقلاني، وابن كثير رحمهم الله ومن المحدثين الخضري بك، والغزالي، والبوطي، وأبو شهبة، والشيخ السعاتي، ومحمد أبو زهرة، وسيد قطب، وحسن مشاط، محمد علي الصابوني، ومحمد بكر آل عابد، ومهدي رزق الله أحمد(4) ويبدو لي أن هذا الرأي أقرب للصواب لأسباب منها:
أ-أن هذا القول هو ماذهب إليه جمهورأصحاب السيروالمغازي كما أنه سار عليه عدد كبير ممن كتب في السيرة من المعاصرين.
ب-أن في شعبان سنة أربع من الهجرة كانت غزوة بدر الموعد فيتعين أن غزوة بني المصطلق كانت في غيرها.
__________
(1) خزاعة من التخزع وهو التأخر والمفارقة، وذلك أن خزاعة انخزعت من ولد عمرو بن عامر حين أقبلوا من اليمن يريدون الشام، فنزلت بمر الظهران وأقامت بهما.
(2) انظر: مرويات غزوة بني المطلق من ص45 الى 51.
(3) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص329؛ حديث القرآن الكريم (1/312،313).
(4) انظر: حديث القرآن الكريم (1/312).(7/20)
جـ-أن هذا القول يؤيده وجود سعد بن معاذ- رضي الله عنه –في الغزوة فقد جاء ذكره في حديث الإفك الذي كان في أعقاب غزوة بني المصطلق والذي أخرجه الإمام البخاري:(فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يارسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا ففعلنا أمرك... الحديث)(1).
وقد كانت وفاة سعد بن معاذ في أعقاب غزوة بني قريظة، وغزوة بني قريظة كانت في ذي القعدة من السنة الخامسة على القول الراجح فيتعين أن تكون غزوة بني المصطلق قبلها(2).
3-أسباب هذه الغزوة:
من أهم الأسباب لهذه الغزوة:
أ-تأييد هذه القبيلة لقريش واشتراكها معها في معركة أحد ضد المسلمين، ضمن كتلة الأحابيش التي اشتركت في المعركة تأييداً لقريش.
ب-سيطرة هذه القبيلة على الخط الرئيسي المؤدي إلى مكة، فكانت حاجزاً منيعاً من نفوذ المسلمين إلى مكة(3).
جـ-أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغه أن بني المصطلق يجمعون له، وكان قائدهم الحارث بن أبي ضرار ينظم جموعهم، فلما سمع بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فهزمهم شر هزيمة(4).
4- أحداث غزوة بني المصطلق:
عندما شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحركة بني المصطلق المريبة أرسل بريدة بن الحصيب الأسلمي للتأكد من نيتهم، وأظهر لهم بريدة أنه جاء لعونهم، فتأكد من قصدهم، فأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك.
__________
(1) البخاري، كتاب التفسير، سورة النور (6/9) رقم 4750.
(2) من أراد مزيداً من التفصيل فليرجع الى مرويات غزة بني المصطلق، ص97.
(3) انظر: صحيح السيرة النبوية للعلي، ص332.
(4) حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/315).(7/21)
وفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المدينة في سبعمائة مقاتل(1)، وثلاثين فارساً(2) متوجهاً إلى بني المصطلق ولما كان بنو المصطلق ممن بلغتهم دعوة الإسلام، واشتركوا مع الكفار في غزوة أحد، وكانوا يجمعون الجموع لحرب المسلمين، فقد روى البخاري(3) ومسلم(4)، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغار عليهم وهم غارون –أي غافلون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار(5).
ثانياً: زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جويرية بنت الحارث رضي الله عنها:
قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا بني المصطلق وكان من بين الأسرى جويرية بنت الحارث وكانت بركة على قومها ولنسمع قصتها من السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت: (لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في سهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملاحة لايراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتستعينه في كتابتها.
قالت: فوالله ماهو أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها مارأيت، فدخلت عليه فقالت: يارسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء مالم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسي فجئتك استعينك على كتابتي.
قال: فهل لك في خير من ذلك؟
__________
(1) انظر: تاريخ الاسلام، المغازي للذهبي، ص259.
(2) انظر: الواقدي (1/405).
(3) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص433.
(4) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز الاغارة على الكفار (3/1356) رقم 1730.
(5) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص433.(7/22)
قالت: وماهو يارسول الله؟ قال: أقض عنك كتابك واتزوجك، قالت: نعم يارسول الله قد فعلت.
قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تزوج جويرية بنت الحارث.
فقال الناس: أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسلوا مابأيديهم.
قالت: فلقد اعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها(1).
وجاء الحارث بن أبي ضرار-بعد الوقعة- بفداء ابنته إلى المدينة فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام فأسلم(2).
تعتبر غزوة بني المريسيع من الغزوات الفريدة المباركة التي أسلمت عقبها قبيلة بأسرها. وكان الحدث الذي أسلمت القبيلة من أجله هو أن الصحابة حرروا وردوا الأسرى الذين أصابوهم إلى ذويهم بعد أن تملكوهم باليمين في قسم الغنائم، واستكثروا على أنفسهم أن يتملكوا أصهار نبيهم عليه الصلاة والسلام، وحيال هذا العتق الجماعي، وإزاء هذه الأريحية الفذة، دخلت القبيلة كلها في دين الله.
إن مرد هذا الحدث التاريخي وسببه البعيد، هو حب الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتكريمهم إياه، وإكبارهم شخصه العظيم، وكذلك يؤتي الحب النبوي هذه الثمار الطيبة، ويصنع هذه المآثر الفريدة في التاريخ.
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (4/160،161).
(2) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/317).(7/23)
لقد كان زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جويرية بنت الحارث له أبعاده وتحققت تلك الأبعاد بإسلام قومها، فقد كان الزواج منها من أهدافه الطمع في إسلام قومها، وبذلك يكثر سواد المسلمين، ويعز الإسلام وهذه مصلحة إسلامية بعيدة يسر الله هذا الزواج، وباركه، وحقق الأمل البعيد المنشود من ورائه، فأسلمت القبيلة كلها بإسلام جويرية، وإسلام أبيها الحارث، فقد عاد هذا الزواج على المسلمين بالبركة والقوة، والدعم المادي والأدبي معاً للإسلام والمسلمين(1).
أصبحت جويرية بنت الحارث زوجة لسيد المرسلين وأماً للمؤمنين، فكانت رضي الله عنها عالمة بما تسمع، وعاملة بما تعلم، فقيهة عابدة، تقية ورعة، نقية الفؤاد مضيئة العقل، مشرقة الروح، تحب الله ورسوله، وتحب الخير للمسلمين.
__________
(1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص199،200.(7/24)
وكانت رضي الله عنها تروي من حديث رسول الله، ناقلة لحقائق الدين من خزائنها عند من تنزلت عليه - صلى الله عليه وسلم - يرويه عنها سدنة العلم من علماء الصحابة رضي الله عنهم، لينشروه في المجتمع المسلم علماً وعملاً، وفي عامة المجتمع الإنساني دعوة وهداية(1)، فقد حدث عنها ابن عباس، وعبيد بن السباق، وكريب مولى ابن عباس ومجاهد، وأبو أيوب يحيى بن مالك الأزدي بلغ مسندها في كتاب بقي بن مخلد سبعة أحاديث(2) منها أربعة في الكتب الستة، عند البخاري حديث، وعند مسلم حديثان، وقد تضمنت مروياتها أحاديث في الصوم في عدم تخصيص يوم الجمعة بالصوم، وحديث في الدعوات في ثواب التسبيح، وفي الزكاة في إباحة الهدية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان المهدي ملكها بطريق الصدقة، كما روت في العتق، وبسبعة أحاديث شريفة خلدت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها اسمها في عالم الرواية، لتضيف إلى شرف صحبتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأمومتها للمسلمين، تبليغها الأمة سنن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ماتيسر لها ذلك(3).
__________
(1) انظر: محمد رسول الله، محمد صادق عرجون (4/250).
(2) انظر: دور المرأة في خدمة الحديث، آمال قرداش، ص88.
(3) انظر: دور المرأة في خدمة الحديث، آمال قرداش، ص88،89.(7/25)
وكانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات القانتات الصابرات في مجال مناجاة الله تعالى وتحميده وتقديسه وتسبيحه(1) فهذه أم المؤمنين جويرية تحدثنا عن ذلك فتقول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بكرةً حين صلى الصبح وهي في مسجدها(2) ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة. فقال: (مازلت على الحال التي فارقتك عليها؟، قالت: نعم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته)(3).
وقد توفيت رضي الله عنها سنة خمسين، وقيل ست وخمسين(4).
ثالثاً: محاولة المنافقين في هذه الغزوة إثارة الفتنة بين المهاجرين والأنصار:
خرج في غزوة بني المصطلق عدد كبير من المنافقين مع المسلمين وكان يغلب عليهم التخلف في الغزوات السابقة، لكنهم لما رأوا اطراد النصر للمسلمين خرجوا طمعاً في الغنيمة(5).
__________
(1) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (4/250).
(2) مسجد: المكان الذي تصلي فيه في بيتها.
(3) مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب التسبيح أو النهار (4/209) رقم 2726.
(4) انظر: الطبقات لابن سعد (8/121)، خليفة بن خياط تاريخه، ص234.
(5) انظر: حديث القرآن الكريم (1/318).(7/26)
وعند ماء المريسيع كشف المنافقون عن الحقد الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين، فكلما كسب الإسلام نصراً جديداً ازدادوا غيظاً على غيظهم، وقلوبهم تتطلع إلى اليوم الذي يهزم فيه المسلمون لتشفى من الغل، فلما انتصر المسلمون في المريسيع سعى المنافقون إلى إثارة العصبية بين المهاجرين والأنصار، فلما أخفقت المحاولة سعوا إلى إيذاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وأهل بيته فشنوا حرباً نفسية مريرة من خلال حادثة الإفك التي اختلقوها ولنترك الصحابي زيد بن أرقم وهو شاهد عيان ومشارك في الحادث الأول يحكي خبر ذلك(1) قال:(كنت في غزاة(2) فسمعت عبدالله بن أبي يقول: لاتنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذلَّ، فذكرت ذلك لعمي(3)، فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - فدعاني فحدثته، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عبدالله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ماقالوا. فكذبني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقه، فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ماأردت إلى أن كذبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومقتك؟ فأنزل الله تعالى:{ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (سورة المنافقين، آية:1) فبعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ، فقال:(إن الله قد صدقك يازيد)(4).
__________
(1) انظر: السيرة الصحيحة للعمري (2/408).
(2) غزاة: صرحت الروايات الأخرى بأنها بني المصطلق.
(3) يريد بعمة سعد بن عبادة وهو رأس الخزرج وليس عمه حقيقة.
(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/408).(7/27)
ويحكي شاهد عيان آخر هو جابر بن عبدالله الأنصاري ماحدث عند ماء المريسيع، وأدى إلى كلام المنافقين لإثارة العصبية وتمزيق وحدة المسلمين، قال:(كنا في غزاة فكسع(1) رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال الأنصاري: ياللأنصار. وقال المهاجري: ياللمهاجرين. فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مابال دعوى الجاهلية؟
قالوا يارسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال: دعوها فإنها منتنة. فسمع بذلك عبدالله ابن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام عمر فقال: يارسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعه لايتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه(2).
وفي رواية قال عمر بن الخطاب: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فكيف ياعمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه! لا. ولكن أذِّن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتحل فيها، فارتحل الناس(3).
وقد مشى عبدالله بن أبي بن سلول إلى رسول الله حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ماسمعه منه، فحلف بالله ماقلت ماقال ولاتكلمت به –فقال من حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار من أصحابه: يارسول الله، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه.
فلما سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال: يانبي الله لقد رحت في ساعة منكرة، ماكنت تروح في مثلها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو بلغك ماقال صاحبكم؟
قال: وأي صاحب يارسول الله؟
قال: عبدالله بن أبي؟
قال:وماقال؟
__________
(1) كسع: ضربه برجله.
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/409).
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/319).(7/28)
قال: زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل،
قال: فأنت يارسول الله تخرجه منها إن شئت، هو الذليل وأنت العزيز.
ثم قال: يارسول الله، أرفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه ليظلمون له الخرز ليتوجوه فإنه يرى أنك استلبت ملكه.
ثم مشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً.
وإنما فعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبدالله بن أبي ونزلت السورة التي ذكر فيها المنافقون في ابن أبي ومن كان على مثل أمره، فلما نزلت أخذ رسول بأذن زيد بن أرقم، ثم قال: هذا الذي أوفى الله بأذنه(1).
إن هذه الحادثة من السيرة النبوية العطرة مليئة بالدروس والعبر فمن أهم تلك الدروس:
1-الحفاظ على السمعة السياسية ووحدة الصف الداخلية:
وهذا الدرس يظهر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: فكيف ياعمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه(2).
إنها المحافظة التامة على السمعة السياسية، والفرق كبير جداً بين أن يتحدث الناس عن حب أصحاب محمد محمداً، ويؤكدون على ذلك بلسان قائدهم الأكبر أبي سفيان: مارأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً(3). وبين أن يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه، ولاشك أن وراء ذلك محاولات ضخمة ستتم في محاولة الدخول إلى الصف الداخلي في المدينة من العدو، بينما هم يائسون الآن من قدرتهم على شيء أمام ذلك الحب وتلك التضحيات(4).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/319،320).
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/409).
(3) انظر: التربية القيادية (3/463).
(4) نفس المصدر (3/463).(7/29)
ولم يقف النبي - صلى الله عليه وسلم - موقفاً سلبياً حيال تلك المؤامرة التي تزعمها ابن سلول لتصديع الصف المسلم، وإحياء نعرات الجاهلية في وسطه بل اتخذ إزاءها الخطوات الإيجابية التالية:
أ-سار رسول بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم الثاني حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مسّ الأرض فوقعوا نياماً(1).
وبهذا التصرف البالغ الغاية في السياسة الرشيدة قضى على الفتنة قضاءً مبرماً، ولم يدع مجالاً للحديث فيما قال ابن أبيّ.
ب-لم يواجه النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن سلول ومؤامراته المدبرة بالقوة واستعمال السلاح، حرصاً على وحدة الصف المسلم، وذلك لأن لابن أبي اتباعاً وشيعة مسلمين مغرورين، ولو فتك به لأرعدت له أنوف، وغضب له رجال متحمسون له، وقد يدفعهم تحمسهم له إلى تقطيع الوحدة المسلمة، وليس في ذلك أي مصلحة للمسلمين ولا للإسلام وإنها لسياسة شرعية حكيمة رشيدة في معالجة المواقف العصيبة في حزم وقوة أعصاب وبعد نظر(2)، وهذه البراعة في الحكمة والسياسة وتدبير الأمور متفرعة عن كونه - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً إلى الناس(3) لكي تقتدي به الأمة في تصرفاته العظيمة.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/255).
(2) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة ، ص202.
(3) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي ، ص409.(7/30)
وقد كان لتسامح الرسول مع رأس المنافقين أبعد الآثار فيما بعد، فقد كان ابن أبي سلول كلما أحدث حدثاً كان قومه هم الذين يعاتبونه، ويأخذونه، ويعنّفونه، ويعرضون قتله على النبي، والرسول يأبى ويصفح، فأراد رسول الله أن يكشف لسيف الحق عن آثار سياسته الحكيمة، فقال: (كيف ترى ياعمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي لأرعدت له آنف لو أمرتها اليوم لقتلته!!) فقال عمر قد -والله- علمت لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم بركة من أمري(1).
2-(بل نترفق به، ونحسن صحبته مابقي معنا):
كان لابن أبي بن سلول ولد مؤمن مخلص يسمى عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول، فلما علم بالأحداث ونزول السورة، أتى رسول الله فقال له: (يارسول الله! بلغني أنك تريد قتل أبي بن سلول فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً، فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج، ماكان بها من رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي بين الناس، فأقتله، فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر، فأدخل النار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل نترفق به ونحسن صحبته مابقي معنا(2).
ولما وصل المسلمون مشارف المدينة، تصدى عبدالله لأبيه عبدالله بن أبي، وقال له:قف، فوالله لاتدخلها حتى يأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استأذنه في ذلك، فأذن له(3).
3-مثل أعلى في الإيمان:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/257).
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/321).
(3) انظر: الولاء والبراء في الاسلام، ص209 للقحطاني.(7/31)
جسده عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول في موقفه من والده، وتقديمه وإخلاصه لله ولرسوله، وتقديم محبتهما ومراضيهما على محبة ومراضي الأبوة(1) لقد ضرب الابن أروع مثل في الإيمان والتضحية بعاطفة الأبوة، فقابله - صلى الله عليه وسلم - صاحب القلب الكبير والخلق العظيم بمثل رفيع في العفو والرحمة وحسن الصحبة (بل نترفق به، ونحسن صحبته مابقي معنا) يالروعة العفو، ويالجلال العظمة النبوية(2) فقد تلطف النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الصحابي الجليل وهدأ من روعه، وأذهب هواجسه(3).
4-محاربة العصبية الجاهلية:
__________
(1) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (3/163).
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/257).
(3) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (3/162).(7/32)
إن العصبية الممقوتة والتي نصفها بالجاهلية غير مقصورة على العصبية القبلية أي الاشتراك في النسب الواحد، نسب القبيلة التي ينتمون إليها وإنما الإشتراك في معنى أو وصف معين يجعل المشتركين فيه يتعاونون ويتناصرون فيما بينهم بالحق وبالباطل، ويكون ولاؤهم فيما بينهم على أساس هذا المعنى أو الوصف المشترك، فعندما كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، قال الأنصاري: ياللأنصار وقال المهاجري: ياللمهاجرين، فسمع ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:(مابال دعوى الجاهلية؟) قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(دعوها فإنها منتنة)(1) ووجه الدلالة بهذا الخبر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر هذه المناداة لما تشعره من معنى العصبية، مع أن المنادي استعمل اسماً استعمله القرآن وهو (المهاجرين) (والأنصار). فالمهاجري استنصر بالمهاجرين مع أنه هو الذي كسع، فكأنه بندائه هذا يريد عونهم، لاشتراكه وإياهم بمعنى واحد وهو (المهاجرة)، وكذلك الأنصاري استنصر بالأنصار، لأنه منهم ويشترك وإياهم بوصف واحداً ومعنى واحد وهو مدلول كلمة (الأنصار). وكان حق الاثنين -إذا كان لابد من الاستنصار بالغير- أن يكون الاستنصار بالمسلمين جميعاً. وعلى هذا فالمطلوب من الدعاة التأكيد على نبذ العصبية بجميع أنواعها سواء كانت عصبية تقوم على أساس الاشتراك بالقبيلة الواحدة، أو على أي أٍساس آخر، من بلد أو مذهب، أو حزب، أو عرق، أو لون، أو دم، أو جنس، وأن يكون الولاء والتناصر على أساس الاشتراك بالأخوة الإسلامية التي أقامها وأثبتها واعتبرها الله تعالى بين المسلمين بقوله تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ...} (سورة الحجرات، آية10).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/209).(7/33)
وأن يكون التناصر فيما بينهم تناصر على الحق لاعلى الباطل بمعنى أن ينصروا المحق وأن يكونوا معه لا مع المعتدي(1).
لقد أوضح الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن العصبيات هي من دعاوي الجاهلية وقال:(لينصر الرجل أخاه ظالماً أو مظلوماً، إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نصر، وإن كان مظلوماً فلينصره)(2)، فجعل التناصر في طلب الحق والإنصاف وأبطل المفهوم الجاهلي: أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً(3).
إن مهمة الدعاة وطلاب العلم، والعلماء والفقهاء في التخلص من العصبية، ودعوة المسلمين إلى نبذها كما أمر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهمة صعبة، ولكنها ليست مستحيلة، ولأهميتها الكبيرة علينا أن نبذل مافي وسعنا لقلعها من النفوس(4).
رابعاً: توجيه القرآن الكريم للمجتمع الإسلامي في أعقاب غزوة بني المصطلق:
نزلت سورة المنافقون في أعقاب غزوة بني المصطلق حيث كان المسلمون راجعين إلى المدينة وذلك بدليل رواية الإمام الترمذي (فلما أصبحنا قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة المنافقون)(5).
فقد تحدثت السورة بإسهاب عن المنافقين، وأشارت إلى بعض الحوادث والأقوال التي وقعت منهم ورويت عنهم وفضحت أكاذيبهم، إلا أنها في الختام حذرت المؤمنين من الإنشغال بزينة الدنيا ومتاعها وحثت على الإنفاق ويمكن لدارس هذه السورة يلاحظ عدة محاور مهمة منها:
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (2/301،302).
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/209).
(3) نفس المصدر (2/209).
(4) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (2/302).
(5) انظر: سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورةالمنافقون (5/415).(7/34)
1-تحدثت السورة الكريمة في البداء عن أخلاق المنافقين، وفضحت كذبهم في أقوالهم ووصفت حالهم(1)، فابتدأت هذه السورة بإيراد صفات المنافقين التي من أهمها الكذب في ادعاء الإيمان، وحلف الإيمان الكاذبة، وجبنهم وضعفهم وتآمرهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى المؤمنين، وصدهم الناس عن دين الله(2) قال تعالى:{ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ صدق الله العظيم اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ صدق الله العظيم ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ صدق الله العظيم وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ صدق الله العظيم وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ صدق الله العظيم } (سورة المنافقون، آية:1،2،3،4،5).
2-ثم بينت الآيات عنادهم وتصميمهم على الباطل، وعصيانهم لمن يدعوهم إلى الحق وبينت مقالاتهم الشنيعة بالتفصيل خاصة ماقالوه في غزوة بني المصطلق من أنهم سيطردون الرسول والمؤمنين من المدينة وأن العزة لهم إلى غير ذلك من الأقوال الفظيعة(3).
__________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/327).
(2) انظر: التفسير المنير، د. وهبة الزحيلي (28/213).
(3) انظر: حديث القرآن الكريم (1/327).(7/35)
قال تعالى:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ صدق الله العظيم سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ صدق الله العظيم هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ صدق الله العظيم يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم } (سورة المنافقون، آية:5-8).(7/36)
3-ثم ختمت السورة بتحذير الذين آمنوا من الانشغال بزينة الدنيا وعدم التشبه بالمنافقين، وحثتهم على الصدقة -التي هي برهان على الإيمان باليوم الآخر- قبل فوات الأوان(1)، فقد كانت الآيات تحث المجتمع المسلم على الاشتغال بطاعة الله تعالى، وقراءة القرآن، وإدامة الذكر، وأداء الصلوات، والقيام بجميع الفرائض، وحذرتهم من أن ينشغلوا بالأموال والاهتمام بشؤون الأولاد عن أداء حقوق الله، كما فعل المنافقون، إذ قالوا بسبب الشح بأموالهم: لاتنفقوا على من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن يشتغل بالمال والولد عن طاعة ربه، فأولئك هم الخاسرون(2)، قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ صدق الله العظيم وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ صدق الله العظيم وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ صدق الله العظيم } (سورة المنافقون، آية:9،10،11).
كانت خاتمة السورة الكريمة تحذيراً للمؤمنين من الانشغال بزينة الدنيا التي هي من أخلاق المنافقين(3).
وهكذا كان المجتمع المدني يتربى بالأحداث والقرآن الكريم يقوم بتوجيهه وتعليمه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم بالإشراف على ذلك.
خامساً: محاولة المنافقين الطعن في عرض النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإفتراء على عائشة رضي الله عنها مايعرف بحديث الإفك:
__________
(1) نفس المصدر (1/327).
(2) انظر: التفسير المنير (28/230،231).
(3) انظر: حديث القرآن الكريم (1/243).(7/37)
حاك المنافقون في هذه الغزوة حادثة الإفك، بعد أن فشل كيدهم في المحاولة الأولى لإثارة النعرة الجاهلية، فقد ألمت بالبيت النبوي هذه النازلة الشديدة والمحنة العظيمة التي كان القصد منها النيل من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن أهل بيته الأطهار.
هذا وقد أجمع أهل المغازي والسير(1) على أن حادثة الإفك كانت في أعقاب غزوة بني المصطلق، وتابعهم في ذلك المفسرون(2)، والمحدثون(3).
وقد أخرج البخاري ومسلم حديث الإفك في صحيحهما وهذا سياق القصة من صحيح البخاري.
قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها(4) فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد مانزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي(5) وأنزل فيه.
__________
(1) كالواقدي، والذهبي، والطبري، وابن سعد، وابن حزم.......
(2) كابن كثير، والرازي، والطبري وغيرهم.
(3) كانب حجر، والنووي.
(4) هي غزوة بني المصطلق.
(5) الهودج: محمل له قبة تستر بالثياب يوضع على ظهر البعير تركب فيه النساء.(7/38)
فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار(1) قد انقطع، فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط(2) الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم إنما نأكل العُلقْة(3) من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السنة فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فأقمت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليَّ فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي(4) ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج(5) فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه(6) حين عرفني فخمرت(7) وجهي بجلبابي والله ماكلمني كلمة ولاسمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين(8) في نحر الظهيرة(9) فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبدالله بن أبي بن سلول.
1-انتشار الدعاية بالمدينة:
__________
(1) جزع ظفار: هو خرز معروف في سواده بياض كالعروق وهي مدينة باليمن.
(2) الرهط:
(3) العلقة: البلغة من الطعام.
(4) صحابي جليل كان صاحب ساقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزواته.
(5) فأدلج: بالتشديد سار آخر الليل.
(6) أي بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون.
(7) فخمرت: أي غطيت.
(8) موغرين: الوغرة: شدة الحر.
(9) نحر الظهر: أولها وهو وقت شدة الحر.(7/39)
وقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني(1) إني لا أعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟(2) ثم ينصرف، وذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع(3) وهو متبرزنا وكنا لانخرج إلا ليلاً إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف(4) قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة(5) فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها(6) فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ماقلت أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ قالت: (أي -هنتاه(7) أولم تسمعي ماقال قلت: وماقال. فأخبرتني بخبر أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي قالت فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -تعني فسلم- ثم قال كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن استيقن الخبر من قبلهما قالت: فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه مايتحدث الناس؟ قالت: يابنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة(8) عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن
__________
(1) يريبني: يشككني.
(2) كيف تيكم: وهي للمؤنث مثل ذاكم للذكر.
(3) المناصع: المواضع التي يتخلى فيها لقضاء الحاجة.
(4) الكنف: جمع كنيف: المكان الساتر.
(5) مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، توفي في خلافة عثمان.
(6) فعثرت في مرطها: أي وطئته برجلها فسقطت.
(7) هنتاه: يابلهاء كأنها نسبت الى قلة المعرفة بمكائد الناس وشرورهم.
(8) وضيئة: الوضاءة الحسن والبهجة.(7/40)
عليها(1) قالت: فقلت سبحان الله لقد تحدث الناس بهذا؟
فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لايرقأ لي دمع(2)، ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي.
2-استشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه عند تأخر نزول الوحي:
فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد رضي الله عنهما حين استلبث(3) الوحي يستأمرهما في فراق أهله، قالت فأما أسامة فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم من الود فقال: يارسول الله أهلك ومانعلم إلا خيراً، وأما علي بن أبي طالب فقال: يارسول الله لم يضيق الله عليك النساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك.
قالت: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً أغمضه(4) عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن(5) فتأكله فقام رسول الله فاستعذر(6) يومئذ من عبدالله بن أبي بن سلول قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: يامعشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ماعلمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً(7) ماعلمت عليه إلا خيراً، وماكان يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يارسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
3-آثار فتنة الإفك:
__________
(1) إلا أكثرن عليها: أي القول في عيبها.
(2) لا يرقأ لي دمع: لاينقطع ولا يسكت.
(3) استلبث: وهو الإبطاء والتأخر.
(4) أغمضه عليها: أي أعيبها به وأطعن بها عليه.
(5) الداجن: هي الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم.
(6) فاستعذر: أي قال من يقوم بعذري إن كفأنه على سوء صنيعه.
(7) هو صفوان بن المعطل السلمي.(7/41)
قالت : فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج – وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية(1) – فقال لسعد: كذبت لعمر الله لاتقتله ولا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة لنقتله فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتشاور الحيان(2) الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت: فمكثت يومي لايرقأ لي دمع ولاأكتحل بنوم، قالت فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً، لا أكتحل بنوم، ولا يرقأ لي دمع يظنان أن البكاء فالق كبدي، قالت فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلم ثم جلس، قالت ولم يجلس عندي منذ ماقيل قبلها.
4-مفاتحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعائشة وجوابها له:
__________
(1) احتملته الحمية: أي حملته الأنفة والغضب على الجهل.
(2) فتشاور الحيان: أي تناهضوا للنزاع والعصبية.(7/42)
وقد لبث الوحي شهراً(1) لايوحى إليه من شأني قالت: فتشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جلس، ثم قال أما بعد: يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا(2) فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه،ثم تاب إلى الله تاب الله عليه فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته قلص(3) دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي أجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عني فيما قال، قال: والله ماأدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: ماأدري ما أقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: إني والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم بأمر، والله يعلم أني منه لبريئة لاتصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة لتصدقن، والله ما أجد لكم مثلاً إلا قول أبي يوسف(4) قال: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (سورة يوسف، آية:18)، قالت ثم تحولت فاضطجت على فراشي، قالت: وأنا حينئذ أعلم أني بريئة، وإن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ماكنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئني الله بها.
5-نزول الوحي ببراءة عائشة:
__________
(1) التقيد بالشهر فهو المدة التي أولها إتيان عائشة الى بيت أبويها.
(2) كناية عما رميت به من الأفك.
(3) قلص دمعي: أي ارتفع وذهب.
(4) هو يعقوب عليه السلام.(7/43)
قالت: فوالله مارام(1) -رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولاخرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ماكان يأخذه من البرحاء(2) حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان(3) من الفرق، وهو يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه.
قالت فلما سري(4) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه وهو يضحك فكانت أول كلمة تكلم بها: ياعائشة أما الله عزوجل فقد برأك فقالت أمي: قومي إليه، قالت: والله لاأقوم إليه ولا أحمد إلا الله عزوجل.
__________
(1) مارام: مابرح ومافراق مجلسه.
(2) البرحاء: شدة الكرب من ثقل الوحي.
(3) الجمان: اللؤلؤ الصغار وقيل حب يتخذ من الفضة أمثال اللؤلؤ.
(4) سري: انكشف عنه مايجده من الهم والثقل.(7/44)
وأنزل الله:{ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ صدق الله العظيم لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ صدق الله العظيم لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ صدق الله العظيم وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ صدق الله العظيم إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ صدق الله العظيم وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ صدق الله العظيم يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ صدق الله العظيم إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ صدق الله العظيم وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ صدق الله العظيم } (سورة النور، آية:11-20).
6-موقف أبي بكر الصديق ممن تكلم في عائشة رضي الله عنها:(7/45)
فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لاأنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ماقال، فأنزل الله:{ وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة النور، آية:22).
قال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي، فأرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال والله لاأنزعها منه أبداً.
قالت عائشة: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل زينب بنت جحش(1) عن أمري، فقال: يازينب ماذا علمت أو رأيت؟، فقالت: يارسول الله أحمي(2) سمعي وبصري، وماعلمت إلا خيراً، قالت: وهي التي كانت تساميني(3) من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعصمها الله(4) بالورع(5) وطفقت(6) أختها حمنة(7) تحارب لها، فهلكت ممن هلك من أصحاب الإفك(8).
__________
(1) هي زينب بنت جحش أم المؤمنين رضي الله عنها وهي بنت عمته رضي الله عنها.
(2) أحمى سمعي وبصري: أي أمنعهما من العذاب بسبب الكذب.
(3) تسامين: أي تعاليني وتفاخرني أي تطاولني عنده صلى الله عليه وسلم.
(4) ومعن عصمها: حفظها ومنعها.
(5) الورع: الكف عن المحارم والتحرج منها.
(6) طفقت: شرعت.
(7) حمنة بنت جحش بنت عمته - صلى الله عليه وسلم - وهي أخت زينب رضي الله عنهم.
(8) البخاري، كتاب التفسير، باب {لولا إذ سمعتموه...} (6/6) رقم 4750.(7/46)
كانت قصة الإفك حلقة من سلسلة فنون الإيذاء والمحن التي لقيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعداء الدين، وكان من لطف الله تعالى بنبيه وبالمؤمنين أن كشف الله زيفها وبطلانها، وسجل التاريخ بروايات صحيحة مواقف المؤمنين من هذه الفرية، لاسيما موقف أبي أيوب وأم أيوب، وهي مواقف يتأسى بها المؤمنون عندما تعرض لهم في حياتهم مثل هذه الفرية. فقد انقطع الوحي، وبقيت الدروس لتكون عبرة وعظة للأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها(1).
سادساً: أهم الآداب والأحكام التي تؤخذ من آيات الإفك:
أخذ العلماء من الآيات التي نزلت في حادثة الإفك أحكاماً وآداباً من أهمها مايأتي:
1-تبرئة السيدة عائشة رضي الله عنها من الإفك بقرآن يتلى إلى آخر الزمان قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}.
2-أن حكمة الله – تعالى – اقتضت أن يبزغ الخير من ثنايا الشر، فقد كان ابتلاء أسرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بحديث الإفك خيراً لهم حيث كتب لهم الأجر العظيم على صبرهم وقوة إيمانهم قال تعالى:{ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
3-الحرص على سمعة المؤمنين، وعلى حسن الظن فيما بينهم قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}.
4-تكذيب القائلين بالإفك، قال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}.
5-بيان فضل الله على المؤمنين ورأفته بهم: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ .. }.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص440.(7/47)
6-وجوب التثبت من الأقوال قبل نشرها والتأكد من صحتها، قال تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}.
7-النهي عن اقتراف مثل هذا الذنب العظيم أو العودة إليه قال تعالى: {يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
8-النهي عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
9-بيان فضل الله –سبحانه- على عباده المؤمنين ورأفته بهم وكرر ذلك تأكيداً له، قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.
10-النهي عن تتبع خطوات الشيطان التي تؤدي للهلاك قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
11-الحث على النفقة على الأقارب وإن أساءوا(1) قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
__________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/385،386).(7/48)
12-غيرة الله –تعالى- على عباده المؤمنين الصادقين، ودفاعه عنهم وتهديده لمن يرميهم بالفحشاء باللعن في الدنيا والآخرة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ صدق الله العظيم يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ صدق الله العظيم يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ صدق الله العظيم }.
قال صاحب الكشاف عند تفسيره لهذه الآيات:
ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد، والعقاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ماركب من ذلك، واستفطام ما أقدم عليه، ماأنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة، كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الآيات الثلاث {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ... } إلى قوله: {هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}.
لكفى بها حديث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعاً وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما افكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الذي هم أهله(1).
13-بيان سنة من سنن الله الجارية في الكون وهي أن الطيبين يجعلهم الله من نصيب الطيبات والطيبات يجعلهن من نصيب الطيبين. قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
__________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (1/386) نقل عن تفسير الكشاف (3/223).(7/49)
14-والناس عندما رميت الصديقة بنت الصديق بالإفك كانوا على أربعة أقسام(1):
قال فضيلة الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد -عند تعليقه على حديث يتعلق بقصة الإفك:- إن الناس عندما رميت الصديقة بنت الصديق بالإفك كانوا أربعة أقسام:
قسم وهو أكثر الناس، حموا أسماعهم وألسنتهم فسكتوا ولم ينطقوا إلا بخير ولم يصدقوا ولم يكذبوا وقسم سارع إلى التكذيب وهم أبو أيوب الأنصاري وأم أيوب رضي الله عنهما فقد وصفوه عند سماعه بأنه إفك وبرؤوا عائشة مما نسب إليها في الحال.
أما القسم الثالث فكانوا جملة من المسلمين لم يصدقوا ولم يكذبوا ولم ينفوا، ولكنهم يتحدثون بما يقول أهل الإفك وهم يحسبون أن الكلام بذلك أمر هين لايعرضهم لعقوبة الله لأن ناقل الكفر ليس بكافر وحاكي الإفك ليس بقاذف ومن هؤلاء حمنة بنت جحش وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة.
أما القسم الرابع فهم الذين جاءوا بالإفك وعلى رأس هؤلاء عدو الله عبدالله بن أبي بن سلول رأس المنافقين لعنه الله وهو الذي تولى كبره.
وقد أشار الله عزوجل إلى فضل القسم الثاني من هذه الأقسام وأنه كان ينبغي لجميع المسلمين أن يقفوا هذا الموقف فقال:{ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}.
أما القسم الثالث فقد أشار الله عزوجل إلى أنه ماكان ينبغي لهم أن يتحدثوا بمثل هذا الحديث حيث يقول:{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ صدق الله العظيم وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}.
__________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم (1/387).(7/50)
وقد أثبت الله عزوجل لأهل هذا القسم فضائلهم التي عملوها حيث أثبت لمسطح هجرته وإيمانه عندما حلف أبو بكر أنه لن ينفق على مسطح ولن يتصدق عليه وهو من ذوي قرابته فقال عزوجل:{ وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
أما القسم الرابع وهو جماعة عبدالله بن أبي الذين جاءوا بالإفك واخترعوا هذا الكذب فقد أشار الله إلى موتهم على الكفر، وأنه لن يقبل منهم توبة، وأنه أنزل عليهم لعنته في الدنيا والآخرة(1) حيث قال:{ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ صدق الله العظيم يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ صدق الله العظيم يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ صدق الله العظيم }.
سابعاً: فوائد وأحكام ودروس من حادثة الإفك وغزوة بني المصطلق:
1-بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) انظر: فقه الاسلام شرح بلوغ المرام، لفضيلة الشيخ عبدالقادر شيبة الحمد (9/5).(7/51)
جاءت محنة الإفك منطوية على حكمة إلهية استهدفت إبراز شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - وإظهارها صافية مميزة عن كل ماقد يلتبس بها، فلو كان الوحي آمراً ذاتياً غير منفصل عن شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما عاش الرسول - صلى الله عليه وسلم - تلك المحنة بكل أبعادها شهراً كاملاً. ولكن الحقيقة التي تجلت للناس بهذه المحنة أن ظهرت بشرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونبوته، فعندما حسم الوحي اللغط الذي دار حول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عادت المياه إلى مجاريها بينها وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفرح الجميع بهذه النتيجة بعد تلك المعاناة القاسية، فدل ذلك على حقيقة الوحي، وأن الأمر لو لم يكن من عند الله تعالى لبقيت رواسب المحنة في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصفة خاصة ولانعكس ذلك على تصرفاته مع زوجته عائشة رضي الله عنها. وهكذا شاء الله أن تكون هذه المحنة دليلاً كبيراً على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -(1).
2-حد القذف وأهميته في المحافظة على أعراض المسلمين:
كان المجتمع الإسلامي يتربى من خلال الأحداث، فعندما وقعت حادثة الإفك أراد المولى عزوجل أن يشرّع بعض الأحكام التي تساهم في المحافظة على أعراض المؤمنين ولذلك نزلت سورة النور، التي تحدثت عن حكم الزاني والزانية، وعن قبح فاحشة الزنا، وعما يجب على الحاكم أن يفعله إذا مارمى أحد الزوجين صاحبه، وعن العقوبة التي أوجبها الله على الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء إلى غير ذلك من الأحكام(2).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص441.
(2) انظر: حديث القرآن الكريم (1/357).(7/52)
إن الإسلام حرم الزنا، وأوجب العقوبة على فاعله، فقد حرم أيضاً كل الأسباب المسببة له، وكل الطرق الموصلة إليه ومنها إشاعة الفاحشة والقذف بها لتنزيه المجتمع من أن تسري فيه ألفاظ الفاحشة والحديث عنها لأن كثرة الحديث عن فاحشة الزنا وسهولة قولها في كل وقت يهون أمرها لدى سامعيها، ويجرئ ضعفاء النفوس على ارتكابها، لهذا حرمت الشريعة الإسلامية القذف بالزنا، وأوجبت على من قذف عفيفاً أو عفيفة طاهراً أو طاهرة بريئاً أو بريئة من الزنا حد القذف وهو الجلد ثمانون جلدة، وعدم قبول شهادته إلا بعد توبته توبة صادقة نصوحاً(1).
هذا وقد أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حد القذف على مسطح وحسان وحمنة، وروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد في الإفك رجلين وامرأة: مسطحاً وحساناً وحمنة وذكره الترمذي(2) قال القرطبي والمشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حُدَّ حسان ومسطح وحمنة ولم يسمع بحد عبدالله بن أبي(3) وقد وردت آثار ضعيفة تدل على أن عبدالله بن أبي أقيم عليه الحد ولكنها كلها ضعيفة لاتقوم بها حجة(4).
وقد ذكر ابن القيم وجه الحكمة في عدم حد عبدالله بن أبي فقال:
أ-قيل: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة، والخبيث ليس أهلاً لذلك وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة ويكفيه عن الحد.
ب-وقيل كان يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لاينسب إليه.
جـ-وقيل الحد لايثبت إلا ببينة أو إقرار وهو لم يقر بالقذف ولاشهد به عليه أحد، فإنه كان يذكره بين أصحابه ولم يشهدوا عليه ولم يكن يذكره بين المؤمنين.
__________
(1) انظر: آثار تطبيق الشريعة، د. محمد الزاحم، ص117.
(2) انظر: تفسير القرطبي (12/197).
(3) نفس المصدر (12/201).
(4) انظر: مرويات غزوة بني المصطلق، ص242.(7/53)
د-وقيل بل ترك حده لمصلحة هي أعظم من إقامته عليه، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه وتكلمه بما يوجب قتله مراراً وهي تأليف قومه وعدم تنفيرهم من الإسلام.
ثم قال -في ختام كلامه- ولعله ترك لهذه الوجوه كلها(1).
3-اعتذار حسان رضي الله عنه للسيدة عائشة رضي الله عنها:
قد بينت الروايات أن من خاض في الإفك قد تاب -ماعدا أبن أبي- وقد اعتذر حسان رضي الله عنه عما كان منه وقال يمدح عائشة بما هي أهل له(2):
رأيتك وليغفر لك الله حرة
... ... ... من المحصنات غير ذات غوائل
حصان رزانٌ ماتزن بريبة
... ... ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
وإنّ الذي قد قيل ليس بلائق
... ... ... بك الدهر بل قيل امرئ متناحل
فإن كنت أهجوكم كما بلَّغُوكم
... ... ... فلا رفعت سوطي إليَّ أناملي
فكيف ووُدّي ماحييت ونصرتي
... ... ... لآل رسول الله زين المحافل
وإن لهم عزاً يرى الناس دونه
... ... ... قصاراً، وطال العزّ كل التطاول(3)
4-من الأحكام المستنبطة من غزوة بني المصطلق:
__________
(1) انظر: زاد المعاد (3/263، 264).
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/263).
(3) انظر: تاريخ الاسلام للذهبي، المغازي، ص281.(7/54)
جواز الإغارة على من بلغتهم دعوة الإسلام دون إنذار، ومنها صحة جعل العتق صداقاً كما فعل - صلى الله عليه وسلم - مع جويرية بنت الحارث في هذه الغزوة، ومنها مشروعية القرعة بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن، ومنها جواز استرقاق العرب كما حدث في الغزوة وهو قول جمهور العلماء(1)، وقد أجمع العلماء قاطبة على أن من سب عائشة رضي الله عنها بعد براءتها براءة قطعية بنص القرآن، ورماها بما اتهمت به فإنه كافر لأنه معاند للقرآن(2)، ومن الأحكام التي عرفت في هذه الغزوة حكم العزل عن النساء حيث سأل الصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنه فأذن به وقال:(ما عليكم ألا تفعلوا، مامن نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة)(3). فذهب الجمهور إلى جواز العزل عن الزوجة الحرة بإذنها(4)، ونزلت آية التيمم في هذه الغزوة، تنويهاً بشأن الصلاة، وتنبيهاً على عظيم شأنها، وأنه لايحول دون أدائها فقد الماء، وهو وسيلة الطهارة التي هي أعظم شروطها، كما لايحول الخوف وفقد الأمن من إقامتها(5).
الفصل الحادي عشر
غزوة الأحزاب 5هـ
المبحث الأول
تاريخ الغزوة، وأسبابها، وأحداثها
أولاً: تاريخ الغزوة وأٍسبابها:
1-تاريخ الغزوة:
__________
(1) انظر: كتاب الام للشافعي (4/186).
(2) شرح صحيح مسلم للنووي (5/643).
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (2/415).
(4) انظر: نيل الاوطار للشوكاني (6/222-224).
(5) صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة ، ص210، 211.(7/55)
ذهب جمهور أهل السير والمغازي على أن غزوة الأحزاب كانت في شهر شوال من السنة الخامسة(1) وقال الواقدي(2) إنها وقعت في يوم الثلاثاء الثامن من ذي القعدة في العام الخامس الهجري، وقال ابن سعد(3)، إن الله استجاب لدعاء الرسول فهزم الأحزاب يوم الأربعاء من شهر ذي القعدة سنة خمس من مهاجره. ونقل عن الزهري، ومالك بن أنس، وموسى بن عقبة أنها وقعت سنة أربع هجرية(4).
ويرى العلماء أن القائلين بأنها وقعت سنة أربع كانوا يعدون التاريخ من المحرم الذي وقع بعد الهجرة ويلغون الأشهر التي قبل ذلك إلى ربيع الأول وهو مخالف لما عليه الجمهور من جعل التاريخ من المحرم سنة الهجرة(5) وجزم ابن حزم(6)، أنها وقعت سنة أربع لقول ابن عمر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رده يوم أحد -وهي في السنة الثالثة باتفاق وهو ابن أربع عشر سنة(7) ولكن البيهقي(8)، وابن حجر(9) وغيرهما فسروا ذلك بأن ابن عمر كان يوم أحد في بداية الرابعة عشرة ويوم الخندق في نهاية الخامسة عشرة وهو الموافق لقول الجمهور(10).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص443.
(2) انظر: المغازي (2/440) بدون اسناد.
(3) الطبقات (2/65،73) بإسناد متصل.
(4) انظر: البداية والنهاية (4/105).
(5) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص443.
(6) انظر: جوامع السير، ص185.
(7) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص444.
(8) انظر: دلائل النبوة للبيهقي (3/396).
(9) انظر: الفتح (3/396).
(10) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص444.(7/56)
وإلى ماذهب إليه الجمهور وهو الراجح لدى مال ابن القيم حيث قال: وكانت سنة خمس من الهجرة في شوال على أصح القولين إذ لاخلاف أن أحداً كانت في شوال سنة ثلاث، وواعد المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العام المقبل وهو سنة أربع، ثم أخلفوه من أجل جدب تلك السنة، فرجعوا فلما كانت سنة خمس جاءوا لحربه(1).
2-أسبابها:
أن يهود بني النضير بعد أن خرجوا من المدينة إلى خيبر خرجوا وهم يحملون معهم أحقادهم على المسلمين فما أن استقروا بخيبر حتى أخذوا يرسمون الخطط للانتقام من المسلمين، فاتفقت كلمتهم على التوجه إلى القبائل العربية المختلفة لتحريضها على حرب المسلمين وكوّنوا لهذا الغرض الخبيث وفداً يتكون من سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس الوائلي وأبي عمار(2).
وقد نجح الوفد نجاحاً كبيراً في مهمته، حيث وافقت قريش التي شعرت بمرارة الحصار الاقتصادي المضروب عليها من قبل المسلمين، ووافقت غطفان طمعاً في خيرات المدينة وفي السلب والنهب وتابعتهم قبائل أخرى.
وقد قال وفد اليهود لمشركي مكة أن دينكم خير من دين محمد وأنتم أولى بالحق منه(3) وعن ذلك يقول الله تعالى :{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا سَبِيلا صدق الله العظيم أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا صدق الله العظيم } (سورة النساء، آية:51-52).
__________
(1) انظر: زاد المعاد (2/288).
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/237).
(3) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، د. علي معطي، ص310.(7/57)
وحول هذه المقالة أشار الأستاذ ولفنسون إلى الخطأ الكبير الذي وقع فيه هؤلاء اليهود بتفضيلهم دين قريش الوثني على دين الإسلام الذي يدعو إلى عبادة الإله الواحد، فقال:(والذي يؤلم كلّ مؤمن بإله واحد من اليهود والمسلمين على السواء، إنّما هو تلك المحادثة التي جرت بين نفر من اليهود وبين قريش الوثنيين حيث فضّل هؤلاء النفر من اليهود أديان قريش على دين صاحب الرسالة الإسلامية)(1) ولاريب فإن قريشاً قد سُرّت بما سمعت من مدح لدينها، فازدادت حماساً، وأصبحت أكثر تصميماً على حرب المسلمين، ثم أعلنت موافقتها على هذه الدعوة والاشتراك في الحملة التي ستهاجم المدينة، وضربت لها موعداً(2).
وقد أبرم الوفد اليهودي مع زعماء أعراب غطفان اتفاقية الاتحاد العربي الوثني اليهودي العسكري ضد المسلمين، وكان أهم بنود هذا الاتفاق هو:
أ-أن تكون قوة غطفان في جيش الاتحاد هذا ستة آلاف مقاتل.
ب-أن يدفع اليهود لقبائل غطفان (مقابل ذلك) كل تمر خيبر لسنة واحدة(3).
لقد استطاع وفد اليهود أن يرجع من رحلته إلى المدينة ومعه عشرة آلاف مقاتل، أربعة آلاف من قريش وأحلافهما، وستة آلاف من غطفان وأحلافها، وقد نزلت تلك الأعداد الهائلة بالقرب من المدينة.
ثانياً: متابعة المسلمين للأحزاب:
__________
(1) انظر: تاريخ اليهود في بلاد العرب، ولفنسون ، ص142.
(2) انظر: تاريخ اليهود في بلاد العرب، ولفنسون، ص310.
(3) انظر: غزوة الآحزاب، محمد احمد باشميل، ص141.(7/58)
كان جهاز أمن الدولة الإسلامية على حذر تام من أعدائه لذا فقد كان يتتبع أخبار الأحزاب ويرصد تحركاتهم ويتابع حركة الوفد اليهودي منذ خرج من خيبر في اتجاه مكة، وكان على علم تام بكل مايجري بين الوفد اليهودي وبين قريش أولاً ثم غطفان ثانياً، وبمجرد حصول المدينة على هذه المعلومات عن العدو شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في اتخاذ الإجراءات الدفاعية اللازمة، ودعا إلى اجتماع عاجل حضره كبار قادة جيش المسلمين من المهاجرين والأنصار، بحث فيه معهم هذا الموقف الخطير الناجم عن مساعي اليهود الخبيثة(1)، فأدلى سلمان الفارسي رضي الله عنه برأيه الذي يتضمن حفر خندق كبير لصدّ عدوان الأحزاب، فأعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك قال الواقدي رحمه الله فقال سلمان: يارسول الله: إنا إذا كنا بأرض فارس وتخوّفنا الخيل، خندقنا علينا، فهل لك يارسول الله أن تخندق؟ فأعجب رأي سليمان المسلمين)(2).
وعندما استقر الرأي -بعد المشاورة- على حفر الخندق، ذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وبعض أصحابه لتحديد مكانه واختار للمسلمين مكاناً تتوافر فيه الحماية للجيش، فقد ذكر الواقدي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب فرساً له ومعه نفر من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعاً ينزله فكان أعجب المنازل إليه أن يجعل سَلْعاً خلف ظهره ويخندق من المذاد إلى ذباب(3) إلى راتج(4) وقد استفاد - صلى الله عليه وسلم - من مناعة جبل سَلْع(5) في حماية ظهور الصحابة.
__________
(1) نفس المصدر، ص144،145.
(2) انظر: مغازي الواقدي (2/444) والطبقات الكبرى (2/66).
(3) ذباب: أكمة صغيرة في المدينة يفصل بينها وبين جبل سلع ثنية الوداع.
(4) راتج: حصن من حصون المدينة لأناس من اليهود.
(5) جبل سلع: هو أشهر جبال المدينة. انظر: معجم البلدان (3/236).(7/59)
كان اختيار تلك المواقع موفقاً، لأن شمال المدينة هو الجانب المكشوف أمام العدو والذي يستطيع منه دخول المدينة وتهديدها أما الجوانب الأخرى فهي حصينة منيعة، تقف عقبة أمام أي هجوم يقوم به الأعداء، فكانت الدور من ناحية الجنوب متلاصقة عالية كالسور المنيع وكانت حرة واقم(1) من جهة الشرق، وحرة الوبرة من جهة الغرب، تقومان كحصن طبيعي، وكانت آطام بني قريظة في الجنوب الشرقي كقبلة بتأمين ظهر المسلمين، وكان بين الرسول وبني قريظة عهد ألاَّ يمالوا عليه أحد، ولايناصروا عدواً ضده(2).
ويستفاد من بحث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن مكان ملائم لنزول الجند أهمية الموقع الذي ينزل فيه الجند وأنه ينبغي أن يتوافر فيه شرط أساسي وهو الحماية التامة للجند، لأن ذلك له أثر واضح على سير المعركة ونتائجها(3).
لقد كانت خطة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الخندق متطورة، ومتقدمة حيث شرع بالأخذ بالأساليب الجديدة في القتال ولم يكن حفر الخندق من الأمور المعروفة لدى العرب في حروبهم بل كان الأخذ بهذا الأسلوب غريباً عنهم، وبهذا يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أول من استعمل الخندق في الحروب في تاريخ العرب والمسلمين، فقد كان هذا الخندق مفاجأة مذهلة لأعداء الإسلام وأبطل خطتهم التي رسموها، وكان من عوامل تحقيق هذه المفاجأة ماقام به المسلمون من اتقان رفيع لسرّية الخطة وسرعة إنجازها وكان هذا الأسلوب الجديد في القتال له أثر في إضعاف معنويات الأحزاب وتشتيت قواتهم.
ثالثاً: اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجبهة الداخلية:
__________
(1) هي حرة المدينة الشرقية: انظر: معجم معالم الحجاز (2/283،285).
(2) انظر: العبقرية العسكرية في غزوات الرسول، ص442.
(3) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص426.(7/60)
1-لما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدوم جيش الأحزاب وأراد الخروج إلى الخندق أمر بوضع ذراري المسلمين ونسائهم وصبيانهم، في حصن بني حارثة حتى يكونوا في مأمن من خطر الأعداء، وقد فعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - لأن حماية الذراري والنساء والصبيان لها أثر فعال على معنويات المقاتلين، لأن الجندي إذا اطمأن على زوجه وأبنائه يكون مرتاح الضمير هادئ الأعصاب فلا يشغل تفكيره أمر من أمور الحياة يُسخر كل إمكاناته وقدراته العقلية والجسدية للإبداع في القتال، أما إذا كان الأمر بعكس ذلك فإن أمر الجندي يضطرب ومعنوياته تضعف ويستولي عليه القلق، مما يكون له أثر في تراجعه عن القتال وبذلك تنزل الكارثة بالجميع(1).
2-ومن الأمور التي ساهمت في تقوية وتماسك الجبهة الداخلية مشاركة النبي - صلى الله عليه وسلم - جنده أعباء العمل، فقد شارك الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصحابة في العمل المضني فأخذ يعمل بيده الشريفة، في حفر الخندق، فعن ابن اسحاق، قال:سمعت البراء يحدث قال: لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني التراب جلدة بطنه وكان كثير الشعر(2).
فعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع الصحابة بهمة عالية لاتعرف الكلل، فأعطى القدوة الحسنة لأصحابه حتى بذلوا مافي وسعهم لإنجاز حفر ذلك الخندق.
__________
(1) انظر: غزوة الأحزاب، د. محمد عبدالقادر ابو فارس، ص98.
(2) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الأحزاب (5/57) رقم 4106.(7/61)
3-وكان - صلى الله عليه وسلم - يشارك الصحابة رضي الله عنهم في آلامهم، وآمالهم، بل كان يستأثر بالمصاعب الجمة دونهم، ففي غزوة الأحزاب نجد أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعاني من ألم الجوع كغيره، بل أشد، حيث وصل به الأمر إلى أن يربط حجراً على بطنه الشريف من شدة الجوع(1)، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - شاركهم في آمالهم فحين وجد مايسدّ رمقه بعد هذا الجوع الذي استمر ثلاثاً، لم يستأثر بذلك دونهم وهذا ماسوف نعرفه بإذن الله عند الحديث عن وليمة جابر بن عبدالله رضي الله عنه.
4-رفع معنويات الجنود وإدخال السرور عليهم:
اقترن حفر الخندق بصعوبات جمة، فقد كان الجو بارداً، والريح شديدة، والحالة المعيشية صعبة، بالإضافة إلى الخوف من قدوم العدو الذي يتوقعونه في كل لحظة، ويضاف إلى ذلك العمل المضني حيث كان الصحابة يحفرون بأيديهم وينقلون التراب على ظهورهم، ولاشك في أن هذا الظرف -بطبيعة الحال- يحتاج إلى قدر كبير من الحزم والجد، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينسى في هذا الظرف أن هؤلاء الجند إنما هم بشر كغيرهم، لهم نفوس بحاجة إلى الراحة من عناء العمل، كما أنها بحاجة إلى من يدخل السرور حتى تنسى تلك الآلام التي تعانيها فوق معاناة العمل الرئيسي، ولهذا نجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب
اللهم لولا الله مااهتدينا
... ... ... ولاتصدقنا ولاصلينا
فأنزلن سكينة علينا
... ... ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأعادي قد بَغوا علينا
... ... ... وإن أرادوا فتنة أبينا
ثم يمد صوته بآخرها(2)
وعن أنس - رضي الله عنه - أن اصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون يوم الخندق:
نحن الذين بايعوا محمداً
... ... ... على الإسلام مابقينا أبداً
__________
(1) غزوة الأحزاب، د.محمد ابو فارس، ص116، 117.
(2) البخاري، كتاب المغازي، باب غزة الخندق (5/57) رقم 4106.(7/62)
أو قال على الجهاد والنبي يقول:
اللهم إن الخير خير الآخرة
... ... ... فاغفر للأنصار والمهاجرة(1)
لقد كان لهذا التبسط والمرح في ذلك الوقت أثره في التخفيف عن الصحابة مما يعانونه نتيجة للظروف الصعبة التي يعيشونها، كما كان له أثره في بعث الهمة والنشاط، بإنجاز العمل الذي كُلِّفوا بإتمامه، قبل وصول عدوهم(2)
5-تقدير ظروف الجند والإذن بالإنصراف عند الحاجة:
كان الصحابة -رضي الله عنهم- على قدر كبير من الأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانوا يستأذنونه في الإنصراف إذا عرضت لهم ضرورة، فيذهبون لقضاء حوائجهم ثم يرجعون إلى ماكانوا فيه من العمل، رغبة في الخير واحتساباً له فأنزل الله فيهم:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة النور، آية:62).
ومعنى الآية الكريمة: إذا استأذنك يامحمد الذين لايذهبون عنك إلا بإذنك في هذه المواطن لقضاء بعض حاجاتهم التي تعرض لهم فأذن لمن شئت منهم في الإنصراف عنك لقضائها، واستغفر لهم(3)، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخيار، إن شاء أذن له إذا رأى ذلك ضرورة للمستأذن ولم ير فيه مضرة على الجماعة، فكان يأذن أو يمنع حسب ماتقتضيه المصلحة ويقتضيه مقام الحال(4).
6-تقسيم الصحابة إلى دوريات للحراسة:
__________
(1) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الاحزاب (3/1432) رقم 129.
(2) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص482.
(3) انظر: صفوة التفاسير للصابوني (2/351).
(4) أحكام القرآن لأبن العربي (3/1410).(7/63)
قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه إلى مجموعات للحراسة ومقاومة كل من يريد أن يخترق الخندق وقام المسلمون بواجبهم في حراسة الخندق وحراسة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - واستطاعوا أن يصدوا كل هجوم حاول المشركون شنه، وكانوا على أهبة الاستعداد جنوداً وقيادة، حتى انهم استمروا ذات يوم من السحر إلى هوي من الليل في اليوم الثاني، ويفوت المسلمون الصلوات الأربع، ويقضونها لعجزهم عن التوقف لحظة واحدة أثناء الاشتباك المباشر للقتال، واستطاع علي بن أبي طالب مع مجموعة من الصحابة أن يصدوا محاولة عكرمة بن أبي جهل بل تصدى علي لبطل قريش عمرو بن عبد ود وقتله(1) وكانت هناك مجموعة من الأنصار تقوم بحراسة النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ليلة على رأسهم عبّاد بن بشر رضي الله عنه فالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو القائد الأعلى وهو المشرف المباشر على إدارة المعركة فهو الذي يرسم الخطط ويراقب تنفيذها فهو الذي:
أ-أمر بحفر الخندق، بعد أن تمت المشاورة في ذلك، فاختار مكاناً مناسباً لذلك وهي السهولة الواقعة شمال المدينة إذ كانت هي الجهة الوحيدة المكشوفة أمام الأعداء.
ب-أنه قسّم أعمال حفر الخندق بين الصحابة، كل أربعين ذراعاً لعشرة من الصحابة، ووكل بكل جانب جماعة يحفرون فيه.
جـ-إنه - صلى الله عليه وسلم - سيطر على العمل، فلا يستطيع أحد ترك عمله إلا بإذن منه - صلى الله عليه وسلم -.
د-أنه قسم - صلى الله عليه وسلم - واجبات احتلال الموضع بنفسه بحيث تستمر الحراسة على كل شبر من الخندق ليلاً ونهاراً، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم بمهمة الإشراف العام على الجند بتشجيعهم ورفع معنوياتهم.
__________
(1) انظر: فقه السيرة لمنير الغضبان، ص504.(7/64)
هـ-أنه - صلى الله عليه وسلم - استطاع لما يتمتع به من حنكة وبراعة سياسية مستمدة من شخصيته النبوية أن يمسك بزمام الأمور وينقذ المؤمنين من الموقف الحرج الذي حدث لهم عندما وصلت الأحزاب إلى المدينة وأصبح الخطر يهدد المدينة وماحولها(1)، فقد توحدت قيادة المسلمين تحت زعامته - صلى الله عليه وسلم -، فكان ذلك من أسباب كسب المعركة والفوز بها.
المبحث الثاني
اشتداد المحنة بالمسلمين
مع أن المسلمين أخذوا بكافة الاحتياطات في تأمين جبهتهم الداخلية ومحاولة الدفاع عن الإسلام والمدينة من جيش الأحزاب الزاحف إلا أن سنة الله الماضية لانصر إلا بعد شدة، ولامنحة إلا بعد محنة، وكلما اقترب النصر زاد البلاء، والامتحان، وقد ازدادت محنة المسلمين في الخندق عندما:
أولاً: نقض اليهود من بني قريظة العهد ومحاولة ضرب المسلمين من الخلف:
كان المسلمون يخشون غدر يهود بني قريظة الذين يسكنون في جنوب المدينة، فيقع المسلمون حينئذ بين نارين، اليهود خلف خطوطهم، والأحزاب بأعدادهم الهائلة من أمامهم، ونجح اليهودي زعيم بني النضير في استدراج كعب بن أسد زعيم بني قريظة لينظم مع الأحزاب لمحاربة المسلمين.
وسرت الشائعات بين المسلمين بأن قريظة قد نقضت عهدها معهم، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخشى أن تنقض بنو قريظة العهد الذي بينهم وبينه، لأن اليهود قوم لاعهد لهم ولاذمة، ولذلك انتدب النبي - صلى الله عليه وسلم - الزبير بن العوام (رجل المهمات الصعبة) ليأتيه من أخبارهم، فذهب الزبير، فنظر ثم رجع فقال: يارسول الله: رأيتهم يصلحون حصونهم ويُدرّبون(2) طرقهم، وقد جمعوا ماشيتهم(3).
__________
(1) انظر: القيادة العسكرية في عصر الرسول، ص11.
(2) يُدربون طرقهم: يسهلون طرقهم من أجل السير الى المسلمين.
(3) انظر: مغازي الواقدي (2/457).(7/65)
وبعد أن كثرت القرائن الدالة على نقض بني قريظة للعهد، أرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وعبدالله بن رواحة وخوات بن جبير -رضي الله عنهم- وقال لهم: انطلقوا حتى تنظروا أحق مابلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقاً فالحنو لي لحناً(1) أعرفه ولاتفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس(2).
فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم قد نقضوا العهد فرجعوا فسلَّموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: عضل والقارة(3)، فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - مرادهم(4).
واستقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - غدر بني قريظة بالثبات والحزم واستخدم كل الوسائل التي من شأنها أن تقوي روح المؤمنين، وتصدع جبهات المعتدين، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوقت نفسه (سلمة بن أسلم) في مائتين رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل، يحرسون المدينة، ويظهرون التكبير ليرهبوا بني قريظة وفي هذه الأثناء استعدت بنو قريظة للمشاركة مع الأحزاب، فأرسلت إلى جيوشها عشرين بعيراً كانت محملة تمراً، وشعيراً وتيناً لتمدهم بها وتقويهم على البقاء إلا أنها أصبحت غنيمة للمسلمين الذين استطاعوا مصادرتها واتوا بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -(5).
ثانياً: تشديد الحصار على المسلمين وإنسحاب المنافقين ونشرهم الأراجيف:
__________
(1) لحناً: أي كلام لايفهمه أحد سواي.
(2) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (3/199).
(3) قبيلتان من هذيل سبق منهما الغدر بأصحاب النبي في ذات الرجيع.
(4) انظر: البداية والنهاية (4/95).
(5) انظر: السيرة الحلبية (2/323).(7/66)
زادت جيوش الأحزاب في تشديد الحصار على المسلمين بعد انضمام بني قريظة إليها واشتد الكرب على المسلمين وتأزم الموقف، وقد تحدث القرآن الكريم عن حالة الحرج والتدهور التي أصابت المسلمين ووصف ماوصل إليه المسلمون من جزع وخوف، وفزع في تلك المحنة الرهيبة أصدق وصف حيث قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا صدق الله العظيم هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا صدق الله العظيم } (سورة الأحزاب، آية:10-11).
وكان ظن المسلمين بالله قوياً وقد سجله القرآن الكريم بقوله تعالى:{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (سورة الأحزاب، آية:22).
وأما المنافقون فقد انسحبوا من الجيش وزاد خوفهم حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأجدنا لايأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط وطلب البعض الآخر الأذن لهم بالرجوع إلى بيوتهم بحجة أنها عورة، فقد كان موقفهم يتسم بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين، وقد وردت روايات ضعيفة تحكي أقوالهم في السخرية والإجاف والتخذيل(1)، ولكن القرآن الكريم يتكفل بتصوير ذلك أدق تصوير(2) والآيات هي:
__________
(1) انظر: المعجم الكبير للطبراني (11/376)؛ مجمع الزوائد (6/131).
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/424).(7/67)
{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا صدق الله العظيم وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا صدق الله العظيم وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا صدق الله العظيم قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا صدق الله العظيم قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا صدق الله العظيم قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا صدق الله العظيم أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا صدق الله العظيم يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا صدق الله العظيم } (سورة الأحزاب، آية:13-20).(7/68)
إن الآيات السابقة أشارت إلى النفاق وما تولد عنه من القلق في النفوس والجبن في القلوب وانعدام الثقة بالله عند تعاظم الخطوب والجرأة على الله تعالى بدل اللجوء إليه عند الإمتحان، ولايقف الأمر عند الاعتقاد بل يتبعه العمل المخذل المرجف، فهم يستأذنون الرسول - صلى الله عليه وسلم - للانصراف عن ميدان العمل، والقتال بحجج واهية زاعمين أن بيوتهم مكشوفة للإعداد، وإنما يقصدون الفرار من الموت لضعف معتقدهم وللخوف المسيطر عليهم، بل ويحثون الآخرين على ترك موقعهم والرجوع إلى بيوتهم، ولم يراعوا عقد الإيمان وعهود الإسلام(1).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/425).(7/69)
وتزايدة محاولات المشركين لاقتحام الخندق، وأصبحت خيل المشركين تطوف بأعداد كبيرة كل ليلة حول الخندق حتى الصباح، وحاول خالد بن الوليد مع مجموعة من فرسان قريش أن يقتحم الخندق على المسلمين في ناحية ضيقة منه ويأخذهم على حين غرة، لكن أسيد بن حضير في مئتين من الصحابة يراقبون تحركاتهم وقد حصلت مناوشات استشهد فيها الطفيل بن النعمان والذي قتله وحشي -قاتل حمزة يوم أحد- رماه بحربة عبر الخندق فأصبت منه مقتلاً(1)، واستطاع حبان بن العرقة من المشركين أن يرمي سهماً أصاب سعد بن معاذ رضي الله عنه في أكحله(2) وقال خذها وأنا بن العرقة وقد قال سعد بن معاذ عندما أصيب: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها، فإنه لاقوم أحب إليَّ أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه. اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها شهادة ولاتميتني حتى تقر عيني من بني قريظة(3)، وقد ثم استجاب الله دعوة هذا العبد الصالح وهو الذي سيحكم فيهم ثم وجه المشركون كتيبة غليظة نحو مقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقاتلهم المسلمون يوماً إلى الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت كتيبة، فلم يقدر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا، وشغل بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يصل العصر، ولم تنصرف الكتيبة إلا مع الليل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس)(4).
__________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (2/424).
(2) الأكحل: عرق في وسط الذراع في كل عضو منه شعبة إذا قطع لم يرقأ الى الدم.
(3) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود (3/1389) رقم 1769.
(4) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق (5/58) رقم 4111.(7/70)
ثالثاً: محاولة النبي - صلى الله عليه وسلم - تخفيف حدة الحصار بعقد صلح مع غطفان، وبث الإشاعات في صفوف الأعداء:
1-سياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المفاوضات مع غطفان: ظهرت حنكته - صلى الله عليه وسلم - وحسن سياسته حين اختار قبيلة غطفان بالذات لمصالحتها على مال يدفعه إليها على أن تترك محاربته وترجع إلى بلادها، فهو يعلم - صلى الله عليه وسلم - أن غطفان وقادتها ليس لهم من وراء الإشتراك في هذا الغزو أي هدف سياسي يريدون تحقيقه أو باعث عقائدي يقاتلون تحت رايته، وإنما كان هدفهم الأول والأخير من الاشتراك في هذا الغزو الكبير هو الحصول عل المال بالإستيلاء عليه من خيرات المدينة عند احتلالها ولهذا لم يحاول الرسول - صلى الله عليه وسلم - الاتصال بقيادة الاحزاب من اليهود (كحيي بن أخطب، وكنانة بن الربيع) أو قادة قريش كأبي سفيان بن حرب، لأن هدف أولئك الرئيسي، لم يكن المال وإنما كان هدفهم، هدفاً سياسياً وعقائدياً يتوقف تحقيقه والوصول إليه على هدم الكيان الإسلامي من الأساس، لذا فقد كان اتصاله (فقط) بقادة غطفان، الذين (فعلاً) لم يترددوا في قبول العرض الذي عرضه عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -(1)، فقد استجاب القائدان الغطفانيان (عيينة بن حصن، والحارث بن عوف) لطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وحضرا مع بعض أعوانهما إلى مقر قيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - واجتمعا به وراء الخندق مستخفين دون أن يعلم بهما أحد، وشرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مفاوضتهم وكانت تدور حول عرض تقدم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو فيه إلى عقد صلح منفرد بينه وبين غطفان، وأهم البنود التي جاءت في هذه الاتفاقية المقترحة:
أ-عقد صلح منفرد بين المسلمين وغطفان الموجودين ضمن جيوش الأحزاب.
__________
(1) انظر: غزوة الاحزاب، محمد احمد باشميل، ص201.(7/71)
ب-توادع غطفان المسلمين وتتوقف عن القيام بأي عمل حربي ضدهم (وخاصة في هذه الفترة).
جـ-تفك غطفان الحصار عن المدينة وتنسحب بجيوشها عائدة إلى بلادها.
د-يدفع المسلمون لغطفان (مقابل ذلك) ثلث ثمار المدينة كلها من مختلف الأنواع، ويظهر أن ذلك لسنة واحدة(1)، فقد ذكر الواقدي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لقائدي غطفان: أرأيت أن جعلت لكم ثلث تمر المدينة ترجعان بمن معكم وتخذلا بين الأعراب؟ قالا: تعطينا نصف تمر المدينة، فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك، وجاءا في عشرة من قومهما حين تقارب الأمر(2).
ويعني قبول قائدي غطفان ماعرضه عليهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوجهة العسكرية، وضوح الهدف الذي خرجت غطفان من أجله، وهو الوقود الذي يشعل نفوس هؤلاء ويحركها في جبهة القتال، ولاشك في أن اختفاء هذا الدافع يعني أن المحارب فقد ثلثي قدرته على القتال وبذلك تضعف عنده الروح المعنوية التي تدفعه إلى الاستبسال في مواجهة خصمه وبذلك استطاع - صلى الله عليه وسلم - أن يفتت ويضعف من قوة جبهة الأحزاب(3).
__________
(1) انظر: غزوة الأحزاب، محمد باشميل، ص201،202.
(2) انظر: المغازي للواقدي (2/477).
(3) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص413.(7/72)
فقد أبرز - صلى الله عليه وسلم - في هذه المفاوضات جانباً من جوانب منهج النبوة في التحرك لفك الأزمات عند استحكامها وتأزماتها لتكون لأجيال المجتمع المسلم درساً تربوياً من دروس التربية المنهجية عند اشتداد البلاء(1) وقبل عقد الصلح مع غطفان شاور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابة في هذا الأمر، فكان رأيهم في عدم إعطاء غطفان شيء من ثمار المدينة وقال السعدان سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة: يارسول الله أمراً تحبه، فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به لابدّ لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ فقال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم، من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما فقال له سعد بن معاذ: يارسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لانعبد الله ولانعرفه، وهم لايطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قِرىً أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ مالنا بهذا من حاجة، والله لانعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت وذاك.
__________
(1) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (4/176).(7/73)
فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا مافيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا(1) كان رد زعيمي الأنصار سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة في غاية الاستسلام لله تعالى والأدب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وطاعته، فقد جعلوا أمر المفاوضة مع غطفان ثلاثة أقسام: الأول أن يكون هذا الأمر من عند الله تعالى فلامجال لإبداء الرأي بل لابد من التسليم والرضى، والثاني: أن يكون شيئاً يحبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باعتباره رأيه الخاص، فرأيه مقدم وله الطاعة في ذلك، الثالث: أن يكون شيئاً عمله الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمصلحة المسلمين من باب الإرفاق بهم، فهذا هو الذي يكون مجالاً للرأي.
ولما تبين للسعدين من جواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أراد القسم الثالث أجاب سعد بن معاذ بجواب قوي كبت به زعيمي غطفان حيث بين أن الأنصار لم يذلُّوا لأولئك المعتدين في الجاهلية فكيف وقد أعزهم الله تعالى بالإسلام وقد أُعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - بجواب سعد وتبين له منه ارتفاع معنوية الأنصار واحتفاظهم بالروح المعنوية العالية، فألغى بذلك مابدأ به من الصلح مع غطفان(2).
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -(إني قد علمت أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة)(3) دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستهدف من عمله ألاّ يجتمع الأعداء عليه صفاً واحداً وهذا يرشد المسلمين إلى عدة أمور منها:
أن يحاول المسلمون التفتيش عن ثغرات القوى المعادية.
أن يكون الهدف الاستراتيجي للقيادة المسلمة تحييد من تستطيع تحييده ولاتنسى القيادة الفتوى والشورى والمصلحة الآنية والمستقبلية للإسلام(4).
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (4/106).
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/125).
(3) انظر: البداية والنهاية (4/106).
(4) انظر: الأساس في السنّة (2/687)(7/74)
وفي استشارة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصحابة يبين لنا أسلوبه في القيادة وحرصه على فرض الشورى في كل أمر عسكري يتصل بالجماعة، فالأمر شورى ولاينفرد به فرد حتى ولو كان هذا الفرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طالما الأمر في دائرة الاجتهاد ولم ينزل به وحي(1).
إن قبول الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأي الصحابة في رفض هذا الصلح يدل على أن القائد الناجح هو الذي يربط بينه وبين جنده رباط الثقة، حيث يعرف قدرهم ويدركون قدره، ويحترم رأيهم ويحترمون رأيه، ومصالحة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قائدي غطفان تعد من باب السياسة الشرعية التي تراعى فيها المصالح والمفاسد حسب ماتراه القيادة الرشيدة للأمة(2).
إن موقف الصحابة من هذا الصلح يحمل في طياته ثلاثة معان:
أ-أنه يؤكد شجاعة المسلمين الأدبية في إبداء الرأي، والمشورة في أي أمر يخص الجماعة، إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
ب-أنه يكشف عن جوهر المسلمين وعن حقيقة اتصالهم بالله ورسوله وبالإسلام.
جـ-أنه يبين ماتمتلئ به الروح المعنوية لدى المسلمين من قدرة على مواجهة المواقف الحرجة بالصبر والرغبة القوية، في قهر العدو مهما كثر عدده وعتاده أو تعدد حلفاؤه(3).
2-اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ببث الإشاعات في صفوف الأعداء:
__________
(1) انظر: العبقرية العسكرية في غزوات الرسول، ص414.
(2) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص414.
(3) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص415،416.(7/75)
استخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - سلاح التشكيك والدعاية لتمزيق مابين الأحزاب من ثقة وتضامن، فلقد كان يعلم - صلى الله عليه وسلم - أن هناك تصدعاً خفيفاً بين صفوف الأحزاب فاجتهد أن يبرزه ويوسع شقته ويستغله في جانبه فقد سبق أن أطمع غطفان ففكك عزمها والآن ساق المولى عزوجل نعيم بن مسعود الغطفاني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعلن إسلامه وقال له: يارسول الله: إن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة(1).
فقام نعيم بزرع الشك بين الأطراف المتحالفة بأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأغرى اليهود بطلب رهائن من قريش لئلا تدعهم وتنصرف عن الحصار، وقال لقريش بأن اليهود إنما تطلب الرهائن لتسليمها للمسلمين ثمناً لعودتها إلى صلحهم، لقد اشتهرت قصة نعيم بن مسعود في أنها لاتتنافى مع قواعد السياسة الشرعية فالحرب خدعة(2).
وقد نجحت دعاية نعيم بن مسعود أيما نجاح، فغرست روح التشكيك، وعدم الثقة بين قادة الأحزاب مما أدى إلى كسر شوكتهم، وتهبيط عزمهم. وكان من أسباب نجاح مهمة نعيم قيامها على الأسس التالية:
أ-أنه أخفى إسلامه عن كل الأطراف، بحيث وثق كل طرف فيما قدمه له من نصح.
ب- أنه ذكرّ بني قريظة بمصير بني قينقاع وبني النظير، وبصرّهم بالمستقبل الذي ينتظرهم إن هم استمروا في حروبهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - فكان هذا الأساس سبباً في تغيير أفكارهم وقلب مخططاتهم العدوانية.
جـ-أنه نجح في إقناع كل الأطراف بأن يكتم كل طرف ماقال له وفي استمرار هذا الكتمان نجاح في مهمته، فلو انكشف أمره لدى أي طرف من الأطراف لفشلت مهمته.
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (4/113).
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/430).(7/76)
وهكذا قام نعيم بن مسعود بدور عظيم في غزوة الأحزاب(1).
المبحث الثالث
مجئ نصر الله والوصف القرآني لغزوة الأحزاب
أولاً: شدة تضرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونزول النصر:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير التضرع والدعاء والاستعانة بالله وخصوصاً في مغازيه وعندما اشتد الكرب على المسلمين أكثر مما سبق حتى بلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالاً شديداً، فما كان من المسلمين إلا أن توجهوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقالوا يارسول الله هل من شيء نقوله؟
فقد بلغت القلوب الحناجر، فقال: نعم اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا(2) وجاء في الصحيحين من حديث عبدالله بن أبي أوفى قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الأحزاب فقال: اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم، وزلزلهم(3) فاستجاب الله -سبحانه- دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - فأقبلت بشائر الفرج، فقد صرفهم الله بحوله وقوته، وزلزل أبدانهم وقلوبهم وشتت جمعهم بالخلاف، ثم أرسل عليهم الريح الباردة الشديدة، وألقى الرعب في قلوبهم وأنزل جنوداً من عنده سبحانه قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (سورة الأحزاب، آية:9).
__________
(1) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص477.
(2) مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري (4/18).
(3) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الأحزاب (5/59) رقم 4114.(7/77)
قال القرطبي -رحمه الله- وكانت هذه الريح معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين كانوا قريباً منهم، ولم يكن بينهم إلا عرض الخندق، وكانوا في عافية منها، ولاخبر عندهم لها ... وبعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت أطناب الفساطيط(1)، وأطفأت النيران وأكفأت القدور وجالت الخيول بعضها في بعض، وأرسل عليهم الرعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب المعسكر حتى كان سيد كل خباء يقول: يابني فلان هلم إليّ، فإذا اجتمعوا قال لهم: النجاء النجاء، لما بعث الله عليهم الرعب(2).
وحرص الرسول عليه الصلاة والسلام أن يؤكد لصحبه ثم للمسلمين في الأرض، أن هذه الأحزاب التي تجاوزت عشرة آلاف مقاتل لم تُهزم بالقتال من المسلمين -رغم تضحياتهم- ولم تهزم بعبقرية المواجهة، إنما هزمت بالله وحده {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (سورة الأحزاب، آية:9).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول :(لا إله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلاشيء بعده)(3).
ودعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه، واعتماده عليه وحده، لايتناقض أبداً مع التماس الأسباب البشرية للنصر، فقد تعامل - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة مع سنة الأخذ بالأسباب، فبذل جهده لتفريق الأحزاب، وفك الحصار، وغير ذلك من الأمورالتي ذكرناها(4).
__________
(1) الفساطيط: جمع فسطاط نوع من الأبنية في السفر وهو دون السرادق.
(2) انظر: تفسير القرطبي (14/144).
(3) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق (5/59) رقم 4114.
(4) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص503.(7/78)
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا سنة الأخذ بالأسباب وضرورة الإلتجاء إلى الله وإخلاص العبودية له، لأنه لاتجدي وسائل القوة كلها إذا لم تتوفر وسيلة التضرع إلى الله والإكثار من الإقبال عليه بالدعاء والاستغاثة، فقد كان الدعاء والتضرع إلى الله من الأعمال المتكررة الدائمة التي فزع إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته كلها(1).
ثانياً: تحري انصراف الأحزاب:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتابع أمر الأحزاب وأحب أن يتحرى عن ماحدث عن قرب فقال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة(2)، فاستعمل - صلى الله عليه وسلم - أسلوب الترغيب وكرره ثلاث مرات وعندما لم يُجْدِ هذا الأسلوب لجأ إلى أسلوب الجزم والحزم في الأمر، فعين واحداً بنفسه فقال: قم ياحذيفة فائتنا بخبر القوم ولاتذعرهم علي(3).
وفي هذا معنى تربوي وهو أن القيادة الناجحة هي التي توجه جنودها إلى أهدافها عن طريق الترغيب والتشجيع ولاتلجأ إلى الأمر والحزم إلا عند الضرورة.
قال حذيفة رضي الله عنه: فمضيت كأنما أمشي في حمام فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار فوضعت سهماً في كبد القوس وأردت أن أرميه ثم ذكرت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاتذعرهم عليَّ ولو رميته لأصبته فرجعت كأنما أمشي في حمام، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصابني البرد حين رجعت وقررت، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والبسني فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أبرح نائماً حتى الصبح فلما أن أصبحت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قم يانومان(4).
ويؤخذ من قصة حذيفة دروس وعبر منها:
__________
(1) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص222.
(2) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الاحزاب (3/1414) رقم 1788.
(3) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الاحزاب رقم 1788.
(4) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة الاحزاب (3/1414) رقم 1788.(7/79)
1-معرفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعادن الرجال حيث اختار حذيفة ليقوم بمهمة التجسس على الأحزاب، وأن معدن حذيفة معدن ثمين فهو شجاع ولايقوم بهذه الأعمال إلا من كان ذا شجاعة نادرة وهو بالإضافة إلى ذلك لبق ذكي خفيف الحركة، سريع التخلص من المآزق الحرجة.
2-الإنضباط العسكري الذي كان يتحلى به حذيفة: لقد مرت فُرصة سانحة يقتل فيها قائد الأحزاب وهم بذلك، ولكنه ذكر أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألا يذعرهم وأن مهمته الإتيان بخبرهم، فنزع سهمه من قوسه(1).
3-كرامات الأولياء: إن ماحدث لحذيفة بن اليمان عندما سار لمعرفة خبر الأحزاب في جو بارد ماطر شديد الريح وإذا به لايشعر بهذا الجو البارد، ويمشي وكأنما يمشي في حمام، وتلازمه هذه الحالة مُدة بقائه بين الأحزاب وحتى عاد إلى معسكر المسلمين: لاشك هذه كرامة يمن الله بها على عباده المؤمنين(2).
4-لطف النبي - صلى الله عليه وسلم - مع حذيفة عند رجوعه، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يترفق بأصحابه ولم تمنعه صلاة الليل وحلاوة المناجاة من التلطف بحذيفة الذي جاء بأحسن الأنباء وأصدق الأخبار وأهمها، فشمله بكسائه الذي يصلي فيه، ليدفئه، وتركه ملفوفاً به حتى أتم صلاته، بل حتى بعد أن أفضى إليه بالمهمة، فلما وجبت المكتوبة أيقظه بلطف وخفة ودعابة، قائلاً: هيا يانومان، دعابة تقطر حلاوة وتفيض بالحنان، وتسيل رقة، إنها صورة نموذجية للرأفة والرحمة، اللتين تحلى بهما فؤاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتطبيق فريد رفيع لهما في أصحابه الكرام(3) وصدق الله العظيم في قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة التوبة، آية:128).
__________
(1) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص505؛ السيرة النبوية لأبي فارس، ص367.
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص367.
(3) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص246.(7/80)
5-وتستوقفنا سرعة البديهة لدى الصحابي الكريم، وقد دخل في القوم، كما في رواية الزرقاني وقال أبو سفيان، ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه، قال حذيفة: فضربت بيدي على يد الذي على يميني فقلت من أنت؟ قال: معاوية بن أبي سفيان، ثم ضربت بيدي على يد الذي عن شمالي، فقلت من أنت؟ قال: عمرو بن العاص... (1).
وهكذا بدرهم بالمسألة حتى لايتيح لهم فرصة ليسألوه وبهذا تخلص من هذا المأزق الحرج الذي ربما كان أودى بحياته(2).
ثالثاً: الوصف القرآني لغزوة الأحزاب ونتائجها:
تحدث القرآن الكريم عن غزوة الأحزاب ورد الأمر كله لله سبحانه وقد سجل القرآن الكريم غزوتي الأحزاب وقريظة، والقرآن كعهدنا به يسجّل الخالدات التي تسع الزمان والمكان، فالمسلمون معرّضون دائماً لأن يُغزوا في عقر دارهم وفي عواصم بلدانهم، ومعرّضون لأن يتكالب عليهم الأعداء جميعاً، فأن يسجل القرآن حادثتي الأحزاب وقريظة فذلك من سمة التكرار على مدى العصور(3) لكي يستفيد المسلمون من الدروس والعبر من الحوادث السابقة التي ذكرت في القرآن الكريم على وجه الخصوص. والذي يتدبر حديث القرآن عن غزوة الأحزاب يراه قد اهتم ببيان أمور من أهمها مايلي:
1-تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم كما قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (سورة الأحزاب، آية:9).
2-التصوير البديع لما أصاب المسلمين من هم بسبب إحاطة الأحزاب بالمدينة:{ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (سورة الأحزاب، آية:10).
__________
(1) انظر: شرح الزرقاني (2/120)
(2) انظر: من معين السيرة ، ص293.
(3) انظر: الأساس في السنّة (2/662).(7/81)
3-الكشف عن نوايا المنافقين السيئة، وأخلاقهم الذميمة، وجبنهم الخالع ومعاذيرهم الباطلة ونقضهم للعهود قال تعالى:{ وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} (سورة الأحزاب، آية:12).
4-حض المؤمنين في كل زمان ومكان على التأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله وجهاده وكلّ أحواله استجابة لقوله تعالى:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (سورة الأحزاب، آية:21).
5-مدح المؤمنين على مواقفهم النبيلة وهم يواجهون جيوش الأحزاب بإيمان صادق، ووفاء بعهد الله تعالى قال تعالى:{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} (سورة الأحزاب، آية:23).
6-بيان سنة من سنن الله التي لاتتخلف وهي جعل العاقبة للمؤمنين والهزيمة لأعدائهم قال تعالى:{ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} (سورة الأحزاب، آية:25).(7/82)
7-امتنانه سبحانه على عباده المؤمنين حيث نصرهم على بني قريظة وهم في حصونهم المنيعة بدون قتال يذكر حيث ألقى -سبحانه- الرعب في قلوبهم فنزلوا على حكم الله ورسوله(1) قال تعالى:{ وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا صدق الله العظيم وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا صدق الله العظيم } (سورة الأحزاب، آية:26-27).
لقد كانت غزوة الأحزاب من الغزوات الهامة التي خاضها المسلمون ضد أعدائهم وحققوا فيها نتائج مهمة منها:
( انتصار المسلمين وانهزام أعدائهم وتفرقهم ورجوعهم مدحورين بغيظهم قد خابت آمانيهم وآمالهم.
( تغير الموقف لصالح المسلمين فانقلبوا من موقف الدفاع إلى الهجوم وقد أشار إلى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال:(الآن نغزوهم ولايغزونا نحن نسير إليهم)(2).
( كشف هذه الغزوة حيث يهود بني قريظة وحقدهم على المسلمين وتربص الدوائر بهم، فقد نقضوا عهدهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحلك الظروف وأصعبها.
( كشفت غزوة الأحزاب حقيقة صدق إيمان المسلمين وحقيقة المنافقين وحقيقة يهود بني قريظة فكان الابتلاء بغزوة الأحزاب تمحيصاً للمسلمين وإظهار حقيقة المنافقين واليهود.
( كانت غزوة بني قريظة نتيجة من نتائج غزوة الأحزاب حيث تمّ فيها محاسبة يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحلك الظروف وأقساها(3).
رابعاً: التخلص من بني قريظة:
__________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (2/490،491).
(2) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق (5/58) رقم 4109.
(3) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (2/442).(7/83)
بعد عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخندق ووضعه السلاح أمر الله تعالى نبيه بقتال بني قريظة، فأمر الحبيب - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالتوجه إليهم وقد أعلمهم بأن الله تعالى قد أرسل جبريل ليزلزل حصونهم ويقذف في قلوبهم الرعب وأوصاهم بأن (لايصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)(1).
وضرب المسلمون الحصار على بني قريظة خمساً وعشرين ليلة(2)، ولما اشتد الحصار وعظم البلاء على بني قريظة، أرادوا الاستسلام والنزول على أن يحكّم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه ونزلوا على حكمه ورأوا أنه سيرأف بهم بسبب الحلف بينهم وبين قومه الأوس، فجئ بسعد محمولاً لأنه كان قد أصابه سهم في ذراعه يوم الخندق فقضى أن تقتل المقاتلة وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم أموالهم، فأقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: قضيت بحكم الله(3)، ونفذ حكم الإعدام في أربعمائة في سوق المدينة حيث حفرت أخاديد وقتلوا فيها بشكل مجموعات، وقد نجا مجموعة قليلة جداً بسبب وفائها للعهد ودخولها في الإسلام، وقسمت أموالهم وذراريهم على المسلمين.
وهذا جزاء عادل نزل بمن أراد الغدر وتبرأ من حلفه للمسلمين وكان جزائهم من جنس عملهم حين عرّضوا بخيانتهم أرواح المسلمين للقتل وأموالهم للنهب، ونساءهم وذراريهم للسبي، فكان أن عوقبوا بذلك جزاء وفاقاً(4).
__________
(1) البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - للأحزاب (5/60) رقم 4119.
(2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص373.
(3) البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع رسول الله من الأحزاب (5/61) رقم 4122.
(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/315،316،317).(7/84)
ولم تقتل من نساء بني قريظة إلا واحدة ونترك السيدة عائشة رضي الله عنها تحدثنا عنها قالت السيدة عائشة: لم يقتل من نسائهم إلا إمرأة واحدة قالت: والله إنها لعندي تتحدث معي تضحك ظهر وبطناً(1) ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتل رجالهم بالسوق إذ هتف هاتف باسمها: أين فلانة؟ قالت: أنا والله، قالت: قلت: ويلك ومالك؟ قالت: أقتل: قلت: ولم؟ قالت: حدثاً أحدثته(2) قالت: فانطلق بها، فضربت عنقها، وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: والله ما أنسى عجبي من طيب نفسها، وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل(3).
بالقضاء على بني قريظة خلت المدينة تماماً من الوجود اليهودي، وصارت خالصة للمسلمين، وخلت الجبهة الداخلية من عنصر خطر، لديه القدرة على المؤامرة والكيد والمكر، واضمحل حلم قريش لأنها كانت تعوِّل، وتؤمل في يهود بأن يكون لهم موقف ضد المسلمين، وابتعد خطر اليهود الذي كان يمد المنافقين بأسباب التحريض والقوة(4).
إن حماية الجبهة الداخلية للدولة الإسلامية من العابثين منهج نبوي كريم رسمه الحبيب المصطفى للأمة المسلمة.
المبحث الرابع
فوائد ودروس وعبر
أولاً: المعجزات الحسية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) ظهراً وبطناً: لايبدو على ملامحها أثر الحزن.
(2) طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته، فقتلها رسول الله به.
(3) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص377.
(4) انظر: سيرة الرسول، دروزة (2/76) نقلاً عن دراسات في عهد النبوة للشجاع، ص153.(7/85)
ظهرت خلال مرحلة حفر الخندق معجزات حسّية للنبي - صلى الله عليه وسلم - منها تكثير الطعام الذي أعدّه جابر بن عبدالله، فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: إنا يوم الخندق مُحفر(1)، فعرضت كدية شديدة، فجاؤوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لانذوق ذواقاً، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - المعول، فضرب في الكدية فعاذ كثيباً أهيل(2) أو أهيم(3).
__________
(1) محفر: اسم فاعل من حفر.
(2) أهيل: رملاً سائلاً. انظر: النهاية في غريب الحديث (5/289).
(3) أهيم: الرمل الذي لايتمالك. انظر: لسان العرب (3/858).(7/86)
قال جابر: فقلت يارسول الله، ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً ماكان في ذلك صبر فعندك شيء؟ فقالت عندي شعير وعناق(1)، فذبحت العناق وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم بالبرمة(2)، ثم جئت النبي - صلى الله عليه وسلم - والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي(3)، قد كادت أن تنضج، فقلت: طُعَيم لي، فقم أنت يارسول الله ورجل أو رجلان، قال: كم هو؟ فذكرت له، فقال (كثير طيب) قال: قل لها لاتنزع البرمة ولاالخبز من التنور حتى آتي. فقال: قوموا، فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت نعم، فقال: ادخلوا ولاتضاغطوا(4)، فجعل يكسِّر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع فلم يزل يكسّر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية، قال: كلي هذا وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة(5).
__________
(1) العناق: الأنثى من أولاد المعاز. انظر: النهاية في غريب الحديث (3/310).
(2) البرمة: هي القدر مطلقاً. انظر: النهاية في غريب الحديث (1/121).
(3) الأثافي: الحجارة التي تنصب ويجعل القدر عليها. انظر:القاموس المحيط (3/120).
(4) ولا تضاغطوا: أي لاتزاحموا. انظر: لسان العرب (2/537).
(5) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق (5/55) رقم 4101.(7/87)
وهذه ابنة بشير بن سعد تقول: دعتني أمي عمرة بنت رواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي ثم قالت: أيّ بُنيَّة، إذهبي إلى أبيك وخالك عبدالله بن رواحة بغدائهما، قالت: فأخذتها فانطلقت بها فمررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ألتمس أبي وخالي فقال: تعالي يابنية ماهذا معك؟ فقلت: يارسول الله، هذا تمر بعثتني به أمي إلى أبي بشير بن سعد، وخالي عبدالله بن رواحة يتغذيانه، قال: هاتيه قالت: فصببته في كفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما ملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط له ثم دعا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ثم قال لإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أن هلمّ إلى الغذاء، فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنه ليسقط من أطراف الثوب(1).
ففي هذين الخبرين معجزات حسية ظاهرة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما يظهر دور المرأة المسلمة في مشاركة المسلمين في جهادهم، فعندما اشتغل المسلمون بحفر الخندق تركوا أعمالهم، وبعدت عنهم أرزاقهم، وقلّ عنهم القوت وأصاب الناس جوع وحرمان حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه يشدون على بطونهم الحجارة من شدة الجوع، فكانت المرأة المسلمة تعين المسلمين بإعداد ماقدرت عليه من الطعام(2).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/241).
(2) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص175.(7/88)
ومن دلائل النبوة أثناء حفر الخندق، أخباره - صلى الله عليه وسلم - عمار بن ياسر، وهو يحفر معهم الخندق، بأن ستقتله الفئة الباغية، فقتل في صفين وكان في جيش علي(1)، وعندما اعترضت صخرة الصحابة وهم يحفرون، ضربها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثلاث ضربات فتفتت قال إثر الضربة الأولى:(الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة، ثم ضربها الثانية، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض، ثم ضرب الثالثة، وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة(2)
وقد تحققت هذه البشارة التي اخبرت عن اتساع الفتوحات الإسلامية والإخبار عنها في وقت كان المسلمون فيه محصورين في المدينة، يواجهون المشاق والخوف والجوع والبرد القارص(3).
ثانياً: بين التصور والواقع:
قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبدالله، أرأيتم رسول الله وصحبتموه؟ قال: نعم يا ابن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد، قال: فقال والله لو أدركناه ماتركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا، فقال حذيفة يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بالخندق(4) ... ثم ذكر حديث تكليفه بمهمة الذهاب إلى معسكر المشركين.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص448.
(2) نفس المصدر، ص449.
(3) انظر: نظرة النعيم (1/325).
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/255).(7/89)
هذا تابعي يلتقي بالصحابي حذيفة ويتخيل أنه لو وجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاستطاع أن يفعل مالم يفعله الصحابة الكرام، والخيال شيء والواقع شئ آخر، والصحابة رضي الله عنهم بشر، لهم طاقات البشر، وقدراتهم، وقد قدموا كل مايستطيعون، فلم يبخلوا بالأنفس فضلاً عن المال والجهد، وقد وضع - صلى الله عليه وسلم - الأمور في نصابها بقوله، خير القرون قرني، فبين أن عملهم لايعدله عمل.
إن الذين جاءوا من بعد، فوجدوا سلطان الإسلام ممتداً، وعاشوا في ظل الأمن والرخاء والعدل، بعيدين عن الفتنة والابتلاء، هم بحاجة إلى نقلة بعيدة يستشعرون من خلالها أجواء الماضي بكل مافيه من جهالات وضلالات وكفر ... وبعد ذلك يمكنهم تقدير الجهد المبذول من الصحابة حتى قام الإسلام في الأرض(1).
ثالثاً: سلمان منا أهل البيت(2):
قال المهاجرون يوم الخندق سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سلمان منا أهل البيت(3). وهذا الوسام النبوي الخالد لسلمان يشعر بأن سلمان من المهاجرين لأن أهل البيت من المهاجرين(4).
رابعاً: الصلاة الوسطى:
قال - صلى الله عليه وسلم -: ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم ناراً كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس(5).
وقد استدل طائفة من العلماء بهذا الحديث على كون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر كما هو منصوص عليه وألزم القاضي الماوردي مذهب الشافعي بهذا لصحة الحديث، وقد استدل طائفة من العلماء بهذا الصنيع على جواز تأخير الصلاة لعذر القتال كما هو مذهب مكحول والأوزاعي(6).
__________
(1) انظر: من معين السيرة للشامي، ص291.
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/247).
(3) نفس المصدر (3/247) ضعفه الألباني في ضعيف جامع الصغير.
(4) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/108).
(5) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق رقم 4111.
(6) انظر: الأساس في السنّة (2/682).(7/90)
قال الدكتور البوطي: لقد فاتت النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر كما رأيت في هذه الموقعة، لشدة انشغاله، حتى صلاها قضاء بعدما غربت الشمس وفي روايات أخرى غير الصحيحين أن الذي فاته أكثر من صلاة واحدة، صلاها تبعا بعدما خرج وقتها وفرغ لأدائها وهذا يدل على مشروعية قضاء الفائتة ولاينقض هذه الدلالة ماذهب إليه البعض من أن تأخير الصلاة لمثل ذلك الانشغال كان جائزاً إذ ذاك ثم نسخ حينما شرعت صلاة الخوف للمسلمين رجالاً وركباناً عند التحام القتال بينهم وبين المشركين، إذ النسخ -على فرض صحته ليس وارداً على مشروعية القضاء، وإنما هو وارد على صحة تأخير الصلاة بسبب الإنشغال. أي أن نسخ صحة التأخير ليس نسخاً لما كان قد ثبت من مشروعية القضاء أيضاً، بل هي مسكوت عنها، فتبقى على مشروعيتها السابقة(1).
خامساً: الحلال والحرام:
عرضت قريش فداءاً مقابل جثة عمرو بن ود. فقال - صلى الله عليه وسلم - إدفعوا إليهم جيفته فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية فلم يقبل منهم شيئاً.
حدث هذا والمسلمون في ضنك من العيش ومع ذلك فالحلال حلال والحرام حرام، إنها مقاييس الإسلام في الحلال والحرام، فأين هذا من الناس المحسوبين على المسلمين الذين يحاولون إيجاد المبررات لأكل الربا وماشابهه(2) ؟
سادساً: شجاعة صفية عمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) انظر: فقه السيرة النبوية ، ص223.
(2) انظر: من معين السيرة، ص294.(7/91)
كان - صلى الله عليه وسلم - قد وضع النساء والأطفال في حصن فارع وهو حصن قوي، حماية لهم، لأن المسلمين في شغل عن حمايتهم لمواجهتم جيوش الأحزاب، فعندما نقض يهود بني قريظة عهدهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلت يهودياً ليستطلع وضع الحصن الذي فيه نساء المسلمين وأطفالهم فأبصرته صفية بنت عبدالمطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذت عموداً ونزلت من الحصن فضربته بالعمود فقتلته، فكان هذا الفعل من صفية رادعاً لليهود من التحرش بهذا الحصن الذي ليس فيه إلا النساء والأطفال، حيث ظنت يهود بني قريظة أنه محمي من قبل الجيش الإسلامي، أو أن فيه على الأقل من يدافع عنه من الرجال(1) ففي هذا الخبر دليل للمرأة في الدفاع عن نفسها إن لم تجد من يدافع عنها(2).
سابعاً: عدم صحة مايروى عن جبن حسان - رضي الله عنه -:
ففي قصة صفية عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقتلها لليهودي جاء في رواية سندها ضعيف(3) أن صفية رضي الله عنها قالت لحسان بن ثابت إن هذا اليهودي يطيف بالحصن كما ترى، ولا آمنه أن يدل على عورتنا من ورائنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فانزل إليه فاقتله. فقال: يغفر الله لك يابنت عبدالمطلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا، قالت صفية، فلما قال ذلك، احتجزت عموداً ثم نزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت الحصن، فقلت ياحسان أنزل فاستلبه، فإنه لم يمنعني أن استلبه إلا أنه رجل، فقال: مالي بسلبه من حاجة يابنت عبدالمطلب(4).
وهذا الخبر لايصح لأمور منها:
__________
(1) انظر: الرحيق المختوم، ص283،284.
(2) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة الدعاة (2/246).
(3) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص365.
(4) نفس المصدر، ص365.(7/92)
1-من حيث الإسناد فالخبر ليس مسنداً وهو ساقط لايصح ولايجوز أن يروى، فيساء إلى صحابي من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينافح عن الدعوة وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمره كله.
2-لو كان حسان بن ثابت رضي الله عنه معروفاً بالجبن الذي ذكر عنه لهجاه أعداؤه ومبغضوه بهذه الخصلة الذميمة لاسيما الذين كان يهاجيهم، فلم يسلم من هجاته أحد من زعماء الجاهلية، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يؤيده ويدعو له، ويشجعه على هجاء زعماء المشركين(1).
ثامناً: أول مستشفى إسلامي حربي:
أنشأ المسلمون أول مستشفى إسلامي حربي في غزوة الأحزاب فقد ضرب الرسول صلوات الله وسلامه عليه خيمة في مسجده الشريف في المدينة، عندما دارت رحى غزوة الأحزاب، فأمر - صلى الله عليه وسلم - أن تكون رُفَيْدَة الأسلمية الأنصارية رئيسة ذلك المستشفى النبوي الحربي، وبذلك أصبحت أوّل ممرضة عسكرية في الإسلام(2)، وجاء في السيرة النبوية لابن هشام ... وكان - صلى الله عليه وسلم - قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لأمرأة من أسلم، يقال لها رُفيدة، في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من به ضيعة من المسلمين، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: (إجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب...)(3).
__________
(1) انظر: غزوة الاحزاب، الدكتور ابو فارس.
(2) انظر: المستشفيات الاسلامية، الدكتور عبدالله السعيد، ص43.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/263).(7/93)
ويفهم من النص السابق أن من أصيب من المسلمين، إن كان له أهل، اعتنى به أهله، وإن لم يكن له أهل، جئ به إلى المسجد حيث ضربت خيمة فيه لمن كانت به ضيعة من المسلمين، وسعد بن معاذ الأوسي، وليس به ضيعة، ولكن لما أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الاطمئنان عليه باستمرار، جعله في تلك الخيمة التي أعدت لمن به ضيعة وليس له أهل، ذلك أن هؤلاء هم في رعاية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلا فلمَ ضربت الخيمة في المسجد وكان بالإمكان ضربها في أي مكان آخر؟
إن سعد بن معاذ يكرم لمآثره ومابذله في سبيل الله تعالى، ومابذله في سبيل الله تعالى، فيكون هذا التكريم أن يجعل في خيمة أعدت لمن به ضيعة، وهكذا حينما يرتفع السادة يجعلون مع المغمورين الذين اخصلوا أعمالهم لله تعالى فاستحقوا أن يكونوا في رعاية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1)، وهذا منهج نبوي كريم أصبح دستوراً للمسلمين على مدى الزمن.
تاسعاً: المسلم يقع في الإثم ولكنه يسارع في التوبة:
__________
(1) انظر: من معين السيرة، ص294.(7/94)
أرسل بنو قريظة إلى أبي لبابة بن عبدالمنذر وكانوا حلفاؤه فاستشاروه في النزول على حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشار إلى حلقه -يعني الذبح- ثم ندم فتوجه إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فارتبط به حتى تاب الله عليه، وقد ظل مرتبطاً بالجذع في المسجد ست ليال تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة ثم يعود فيرتبط في الجذع(1)، وقد قال أبو لبابة: لاأبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليَّ مما صنعتُ: قالت أم سلمة فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السحر وهو يضحك فقلت: مم تضحك يارسول الله؟ أضحك الله سنَّك. قال: تِيبَ على أبي لبابة، قالت: قلت: أفلا أبشرّه يارسول الله؟ قال: بلى إن شئت، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهنّ الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك قالت: فثار الناس ليطلقوه فقال: لاوالله حتى يكون رسول الله هو الذي يُطلقني بيده. فلما مرّ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه(2) عنه وذلك في الاعتراف بالذنب والتوبة النصوح، وإن موطن العبرة في هذا الموقف يكمن في تصرف أبي لبابة بعدما وقعت منه هذه الزلة التي أفشى بها سراً حربياً خطيراً، فأبو لبابة لم يحاول التكتم على مابدر منه والظهور أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين بمظهر الرجل الذي أدى مهمته بنجاح وأنه لم يحصل منه شيء من المخالفات، وكان بإمكانه أن يخفي هذا الأمر حيث لم يطلّع عليه أحد من المسلمين، وأن يستكتم اليهود أمره، ولكنه تذكر رقابة الله عليه وعلمه بما يُسرُّ ويعلن، وتذكر حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العظيم عليه وهو الذي ائتمنه على ذلك السر، ففزع لهذه الزلة فزعاً عظيماً(3)، وأقرّ بذنبه واعترف به وبادر إلى
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/286).
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/262).
(3) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/165).(7/95)
العقوبة الذاتية التلقائية، دون انتظار التحقيق وتوقيع العقوبة الواجبة إنها صورة تطبيقية لقوله تعالى:{ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (سورة النساء، آية:17).
إنها صورة فريدة لتوقيع العقوبة من الإنسان نفسه على نفسه ... ولايفعل ذلك إلا أهل الإيمان، وماذلك إلا من آثار الإيمان العميق الراسخ، الذي لايرضى لصاحبه أن يخالطه إثم أو فسوق.
وقد فرح الصحابة وفرح النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه، بتوبة الله على أبي لبابة، وتسابقوا إلى تهنئته، حتى كانت أم سلمة زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي التي بادرت بالتهنئة بعد الإذن فبشرته بقبول الله توبته(1).
وقد أنزل الله تعالى في أبي لبابة قوله تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (سورة الأنفال، آية:27)
ونزل في توبته قوله تعالى:{ وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة التوبة، آية:102)(2).
عاشراً: من فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه:
ظهرت لسعد بن معاذ - رضي الله عنه - في هذه الغزوة فضائل كثيرة تدل على فضله ومنزلته عند الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - منها:
__________
(1) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص261.
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/262).(7/96)
-استجابة الله تعالى لدعائه عندما قال:(اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إليّ أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجوه، اللهم فإن بقي من حرب قريش شيء فأبقني له حتى أجاهدهم فيك) وقد استجيب دعاؤه فتحجر جرحه وتماثل للشفاء(1) حتى كانت غزوة بني قريظة، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحكم فيهم إليه، فحكم فيهم بالحق ولم تخذه في الله لومة لائم وهذا دليل على تجرد قلبه لله تعالى(2).
ومن إكرام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله للأنصار عندما جاء سعد للحكم في بني قريظة: قوموا إلى سيدكم(3).
وهذا تكريم لسعد، وتقدير لشجاعته، حيث سماه سيداً، وأمر بالقيام له(4).
وعندما نفذ حكم الله في يهود بني قريظة رفع سعد يده يدعو الله ثانية يقول: اللهم فإني أظن أنك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم (يعني قريشاً والمشركين) فإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجروها واجعل موتي فيها(5)، وقد استجيب دعاؤه فانفجر جرحه تلك الليلة ومات رحمه الله(6).
ومن خلال دعاؤه الأول والثاني، نلحظ هذا الدعاء العجيب، دعاء العظماء الذين يعرفون أن رسالتهم في الحياة ليست الاستشهاد فقط، بل متابعة الجهاد إلى اللحظة الأخيرة، فهو المسؤول عن نصرة الإسلام في قومه وأمته(7).
ونرى من سيرته أنه لو أقسم على الله لأبره، فهو وجيه في السماوات والأرض. فقد شاءت إرادة المولى -تعالى- أن يعيد الأمر في بني قريظة كله إليه، وأن يطلب بني قريظة أن يكون الحكم فيهم لسعد بن معاذ.
__________
(1) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص228.
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/170).
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/263).
(4) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص265.
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/275).
(6) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص228.
(7) انظر: التربية القيادية (3/70).(7/97)
إنه لايحرص كثيراً على الحياة، بعد انتهاء الجهاد، وانتهاء المسؤولية، وتأدية الأمانة المناطة به في قيادة قومه لحرب الأحمر والأسود من الناس، فإذا انتهت الحرب ووضعت بين المسلمين وقريش، وشفى غيظ قلبه في الحكم في بني قريظة، وبدأ قطف الثمار للإسلام، فلاثمرة أشهى عنده من الشهادة (فافجر جرحي واجعل موتتي فيه)(1).
وقد تحققت آماله، فقد أصدر حكمه في بني قريظة وشهد مصرع حلفاء الأمس أعداء اليوم، وهاهو جرحه ينفجر(2).
وعندما انفجر جرحه نقله قومه فاحتملوه إلى بني عبدالأشهل إلى منازلهم، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل: انطلقوا فخرج وخرج معه الصحابة، وأسرع حتى تقطعت شسوع نعالهم، وسقطت أرديتهم إليه أصحابه، فقال: إني أخاف أن تسبقنا الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة، فانتهى إلى البيت وهو يُغسل، وأمه تبكيه وتقول:
ويل أم سعد سعداً
... ... حزامة وجداً
فقال: كل نائحة تكذب إلا أم سعد، ثم خرج به قال: يقوم له القوم: ماحملنا يارسول الله، ميتاً أخف علينا منه. قال: ومايمنعه أن يخف، وقد هبط من الملائكة كذا وكذا لم يهبطوا قط قبل يومهم قد حملوه معكم(3).
وقد جاء في النسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما عدد الملائكة الذين شاركوا في تشييع جنازة سعد فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: هذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش، وفُتحت أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك، لقد ضُمَّ ضمَّة ثم أفرج عنه(4) يعني سعداً.
__________
(1) انظر: التربية القيادية (4/71).
(2) نفس المصدر (4/74).
(3) انظر: سير أعلام النبلاء (1/287) إسناده حسن.
(4) انظر: سير أعلام النبلاء (1/295) إسناده صحيح، أخرجه النسائي (4/100) في الجنائز.(7/98)
وهاهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يودع سعداً كما روي عبدالله بن شداد: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يكيد نفسه فقال: جزاك الله خيراً من سيد قوم. فقد أنجزت ماوعدته، ولينجزك الله ماوعدك(1).
لقد أثنى النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا العبد الصالح بعد موته كثيراً أمام الصحابة ليتعرف الناس على أعماله الصالحة فيتأسوا به(2)، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: اهتزَّ عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ(3) وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلة حرير فجعل أصحابه يلمسونه ويعجبون من لينها، فقال: أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين(4).
ومع كل هذه المآثر والمحاسن والأعمال الجليلة التي قدمها لخدمة دين الله، فقد تعرض لضمة القبر: لما انتهوا إلى قبر سعد - رضي الله عنه - نزل فيه أربعة: الحارث بن أوس، وأسيد بن الحضير، وأبو نائلة سلكان، وسلمة بن سلامة بن وقش، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف، فلما وضع في قبره، تغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسبح ثلاثاً، فسبح المسلمون حتى ارتج البقيع، ثم كبَّر ثلاثاً، وكبَّر المسلمون، فسئل عن ذلك فقال: تضايق على صاحبكم القبر وضم ضمة لو نجا منها أحد لنجا هو، ثم فرّج الله عنه(5).
__________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء (1/288) رجاله ثقات.
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/171).
(3) مسلم، فضائل الصحابة رقم 2466، ص1915.
(4) مسلم، فضائل الصحابة رقم 2468، ص1916.
(5) انظر: التربية القيادية (4/77) نقل عن مسند الامام أحمد (6/141).(7/99)
إن هذا الصحابي الجليل قد استشهد وهو في ريعان شبابه، فقد كان في السابعة والثلاثين من عمره، يوم وافته منيته، وهذا يعني أنه قاد قومه إلى الإسلام وهو في الثلاثين من عمره ... فقد كانت هذه السيادة في العشرينات من عمره، وقبل أن يكون على مشارف الثلاثين، وإنما تتفجر الطاقات الكامنة والمواهب بعد سن الأربعين، التي هي غاية الأشد قال تعالى:{ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (سورة الأحقاف، آية:15).
فأي طراز هذا الذي حفل تاريخه بهذه المآثر، واستبشر أهل السموات بقدومه واهتز عرش الرحمن فرحا لوفاته، من دون خلق الله أجمعين(1) كان سعد بن معاذ، رجلاً أبيض، طوالاً، جميلاً، حسن الوجه، أعين، حسن اللحية(2) رحمة الله عليه ورضى عنه وأعل ذكره في المصلحين.
الحادي عشر: مقتل حيي بن أخطب، وكعب بن أسد:
مقتل حيي بن أخطب النضري:
__________
(1) انظر: القيادة الربانية (4/78).
(2) انظر: سير أعلام النبلاء (1/290).(7/100)
روى عبدالرزاق في مصنفه بالسند إلى سعيد بن المسيب ... فذكر بعض خير الأحزاب وقريظة ... إلى أن قال: فلما فض الله جموع الأحزاب، انطلق
-يعني حيي- حتى إذا كان بالروحاء ذكر العهد والميثاق الذي أعطاهم، فرجع حتى دخل معهم، فلما أقبلت بنو قريظة أتي به مكتوفاً بعد، فقال حيي للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أما والله مالمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يَخْذِل الله يُخْذَل، فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فضربت عنقه(1).
ثم أنه أقبل على الناس قبل تنفيذ حكم الإعدام وقال لهم: أيها الناس، إنه لابأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه(2).
وفي مقتل حيي بن أخطب دروس وعبر منها:
أ-لايحيق المكر السيء إلا بأهله:
فقد ألب القبائل العربية واليهودية على محاربة الإسلام ونبيه - صلى الله عليه وسلم - وأقنع بني قريظة بظرورة نقض العهد مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطعنه من الخلف، فجعل الله كيده في نحره وكبته، وفي النهاية قادته محاولاته إلى حتفه.
إن الله لايهمل الظالمين، ولكن يمهلهم ويستدرجهم، حتى إذا أخذهم، أخذهم أخذ عزيز مقتدر، فكان أخذه إليم شديد، قال - صلى الله عليه وسلم -: إن الله ليملي للظالم حتى أخذه لم يفلته(3) ثم تلا قوله تعالى:{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (سورة هود، الآية:102).
ب-التجلد في مواطن الشدة:
__________
(1) انظر: مصنف عبدالرزاق (5/371) رقم 9737.
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/265).
(3) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس (2/112).(7/101)
لقد تجلد حيي وتقدم لتضرب عنقه حتى لايشمت فيه شامت وهو يعرف أنه على باطل، ظالم لنفسه، قد أوردها موارد الهلاك، ومع هذا يموت على ذلك، والعزة بالإثم تأخذه إلى جهنم وبئس المصير، لأنه يعبد هواه، ولم يعبد ربه قال تعالى:{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (سورة الجاثية، آية:23).
جـ-من يَخذُلِ الله يُخذل:
إن الله تعالى إذا خذل أحداً ليس له نصير يمنعه أو يدفع عنه، قال سبحانه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (سورة آل عمران، آية:160).
كما أن عداوة حيي للرسول - صلى الله عليه وسلم - باعثها الحسد والحقد ولذلك عبر حيي صراحة أن الله لم يكن معه يوماً من الأيام، بل كان حيي في شق الشيطان عدواً لأولياء الرحمن، يشاقق الله، فالله خاذله ومسلمه لكل مايؤذيه ويتعبه، ولاتوجد قوة في الأرض ولافي السماء تنصره وتحول بينه وبين الهزيمة، لأن إرادة الله هي النافذة وقدره هو الكائن، لاراد لقضائه، لايعجزه شئ في الأرض ولافي السماء(1) قال تعالى:{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة الأنعام، آية:17).
2-مقتل كعب بن أسد القرظي:
وجئ برئيس بني قريظة، كعب بن أسد، وقبل أن يضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنقه جرى بينه وبين كعب الحوار التالي:
قال رسول الله: كعب بن أسد؟
قال كعب بن أسد: نعم يا أبا القاسم.
__________
(1) انظر: الصراع مع اليهود (2/113،114).(7/102)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أنتفعتم بنصح ابن خراش لكم، وكان مصدقاً بي، أما أمركم باتباعي، وإن رأيتموني تقرئوني منه السلام؟
قال كعب: بلى والتوراة يا أبا القاسم، ولولا أن تعيرني يهود بالجزع من السيف لاتبعتك، ولكني على دين يهود.
فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضرب عنقه فضربت(1).
ومما ترويه كتب السيرة النبوية عن يهود بني قريظة أنهم كانوا يرسلون طائفة تلو طائفة لتضرب أعناقهم قد سألوا زعيمهم كعب بن أسد فقالوا: ياكعب ماتراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لاتعقلون؟ ألا ترون الداعي لاينزع، وأنه من ذهب به منكم لايرجع؟ هو والله القتل(2).
ونلحظ خبر مقتل كعب بن أسد، أنه كان متعصباً ليهوديته وهو يعلم بطلانها، وأنه على علم بصدق رسالة رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ولكنه لم يؤمن ولم يدخل الإسلام خوفاً من أن تعيره يهود بأنه جزع من السيف، فعدم إيمانه وبقاؤه على الكفر كان نتيجة ريائه، وحبه للثناء وخوفه من ذمه وتعييره، وهذا دليل على السفه والحمق وخذلان الله لهذا اليهودي المخادع(3).
الثاني عشر:شفاعة ثابت قيس في الزبير بن باطا، وسلمى بنت قيس في رفاعة بن سمؤال:
1-شفاعة ثابت بن قيس في الزبير بن باطا:
__________
(1) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (1/368).
(2) نفس المصدر (1/368).
(3) انظر: الصراع مع اليهود (2/115).(7/103)
أقبل ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هب لي الزبير اليهودي أجزه فقد كانت له عندي يد يوم بعاث، فأعطاه إياه، فأقبل ثابت حتى أتاه فقال: يا أبا عبدالرحمن، هل تعرفني؟ فقال: نعم وهل ينكر الرجل أخاه قال ثابت: أردت أن أجزيك اليوم بيد لك عندي يوم بعاث، قال: فافعل، فإن الكريم يجزي الكريم، قال: قد فعلت، قد سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوهبك لي، فأطلق عنه إساره، فقال الزبير: ليس لي قائد وقد أخذتم امرأتي وابني، فرجع ثابت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستوهبه امرأته وبنيه فوهبهم له، فرجع ثابت إلى الزبير فقال: رد إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأتك وبنيك، فقال الزبير: حائط لي فيه أعذق، وليس لي ولا لأهلي عيش إلا به، فرجع ثابت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوهبه له، فرجع ثابت إلى الزبير فقال: قد رد إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهلك ومالك، فأسلم تسلم، قال: مافعل الجليسان(1)؟ وذكر رجال قومه، قال ثابت: قد قتلوا وفرغ منهم، ولعل الله تبارك وتعالى أن يكون أبقاك لخير، قال الزبير: أسألك بالله ياثابت وبيدي التي عندك يوم بعاث إلا ألحقتني بهم، فليس في العيش خير بعدهم، فذكر ذلك ثابت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بالزبير فقتل(2).
2-شفاعة سلمى بنت قيس في رفاعة بن سمؤال القرظي:
كانت سلمى بنت قيس وكنيتها أم المنذر أخت سليط بن قيس، وكانت إحدى خالات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد صلت معه القبيلتين، وبايعته بيعة النساء، سألته رفاعة بن سمؤال القرظي، وكان رجلاً قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفهم قبل ذلك، فقالت: يانبي الله، بأبي أنت وأمي، هب لي رفاعة، فإنه قد زعم أنه سيصلي ويأكل لحم الجمل، فوهبه لها، فاستحيته(3).
__________
(1) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (1/372).
(2) نفس المصدر (1/373).
(3) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (1/373).(7/104)
وفي هذا الخبر دليل على أن الإسلام يكرم المرأة ويعتبر شفاعتها! هذه هي معاملة المرأة في هذا الدين، إنه يكرمها، ويساعدها ويشجعها على فعل الخير(1).
الثالث عشر: من أدب الخلاف:
في اختلاف الصحابة في فهم كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)(2) فبعضهم فهم منه المراد الاستعجال، فصلى العصر لما دخل وقته وبعضهم أخذ بالظاهر فلم يصلي إلا في بني قريظة ولم يعنف النبي - صلى الله عليه وسلم - أحداً منهم أو عاتبه، ففي ذلك دلالة هامة على أصل من الأصول الشرعية الكبرى وهو تقرير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع، واعتبار كل من المتخالفين معذوراً ومثاباً، كما أن فيه تقريراً لمبدأ الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية، وفيه مايدل على أن استئصال الخلاف في مسائل الفروع التي تنبع من دلالات ظنية أمر لايمكن أن يتصور أو يتم(3).
إن السعي في محاولة القضاء على الخلاف في مسائل الفروع، معاندة للحكمة الربانية والتدبير الإلهي في تشريعه، عدا أنه ضرب من العبث الباطل، إذ كيف تضمن انتزاع الخلاف في مسألة مادام دليلها ظنياً محتملاً؟ .. ولو أمكن ذلك أن يتم في عصرنا، لكان أولى العصور به عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكان أولى الناس بأن لايختلفوا هم أصحابه، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما رأيت(4) وفي الحديث السابق من الفقه أنه لايعاب على من أخذ بظاهر حديث نبوي أو آية من كتاب الله، كما لايعاب من استنبط من النص معنى يخصه. وفيه أيضاً أن المختلفين في الفروع من المجتهدين لا إثم على المخطئ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)(5).
__________
(1) انظر: الصراع مع اليهود (2/116).
(2) البخاري، كتاب المغازي، (5/60) رقم 4119.
(3) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص226.
(4) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص226.
(5) سنن ابي داود (3557).(7/105)
وحاصل ماوقع أن بعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته ولم يبالوا بخروج الوقت -وقت الصلاة- توجيهاً لهذا النهي الخاص على النهي العام عن تأخير الصلاة عن وقتها(1).
وقد علق الحافظ بن حجر على هذه القصة فقال: ثم الاستدلال بهذه القصة على أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه، وحاصل ماوقع في القصة أن بعض الصحابة حملوا النص على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحاً للنهي الثاني على النهي الأول، وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ماوقع في تلك الأيام بالخندق، والبعض الآخر حملوا النهي عن غير الحقيقة، وأنه كناية على الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة، وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعنف أحداً من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم(2).
الرابع عشر: توزيع غنائم بني قريظة وإسلام ريحانة بنت عمرو:
1-جمع صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغنائم التي خلفها بنو قريظة، فكانت كما يلي، من السيوف ألفاً وخمسمائة سيف، ومن الرماح ألفي رمح، ومن الدروع ثلاثمائة درع، ومن التروس ألفاً وخمسمائة ترساً وجحفة، كما تركوا عدداً كبيراً من الشياه والإبل وأثاثاً كثيراً وآنية كثيرة، ووجد المسلمون دناناً من الخمر، فوزعت الغنائم وهي الأموال المنقولة كالسلاح والأثاث وغيرها بين المحاربين من أنصار ومهاجرين ممن شهدوا الغزوة، فأعطى أربعة أخماس الغنائم لهم، إذ جعل للفرس سهمين، وللراجل سهماً، فالفارس يأخذ ثلاثة أسهم لهم ولفرسه، وغير الفارس يأخذ سهماً واحداً له، والخمس المتبقي هو سهم الله ورسوله المقرر في كتابه تعالى(3).
__________
(1) المستفاد من قصص القرآن (2/286).
(2) اختصار من فتح الباري (7/473).
(3) انظر: الصراع مع اليهود (2/96،97).(7/106)
وأما ماوجده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من الخمر عند بني قريظة فقد أراقوه ولم يأخذوا منه شيئاً، ولم ينتفعوا به كذلك، وقد أسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسويد بن خلاد الذي قتلته المرأة اليهودية بالرحى وأعطى سهمه لورثته(1) ولصحابي آخر مات أثناء حصار بني قريظة(2)، كما رضخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنساء اللواتي حضرن ولم يسهم لهن، منهن: صفية بنت عبدالمطلب، وأم عمارة، وأم سليط، وأم العلاء، والسميراء بنت قيس، وأم سعد بن معاذ(3) وأما الأموال غير المنقولة كالأراضي والديار فقد أعطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين دون الأنصار، وأمر المهاجرين أن يردوا إلى الأنصار ما أخذوه منهم من نخيل وأرض، وكانت على سبيل العارية، ينتفعون بثمارها(4)، قال تعالى عن تلك الأراضي والديار:{ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} (سورة الأحزاب، آية:27).
__________
(1) نفس المصدر (2/97).
(2) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (1/375).
(3) نفس المصدر (1/375).
(4) انظر: الصراع مع اليهود (2/98).(7/107)
قال الاستاذ محمد دروزة: أما عبارة وأرضاً لم تطأوها فقد قال المفسرون: إنها أرض خيبر، وإن الجملة بشرى سابقة لفتحها، غير أن الذي تلهم روح الآية ومضمونها على مايتبادر لنا أنها أرض لبني قريظة بعيدة عن مساكنهم، آلت إلى المسلمين دون حرب أو حصار، ونتيجة للمصير الذي صار إليه أصحابها(1) هذا وقد أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن عبادة - رضي الله عنه - بالخمس من الذرية والنساء إلى الشام فباعها، واشترى بالثمن سلاحاً وخيلاً ليستعين به المسلمون في معاركهم مع الأعداء من يهود ومشركين، وكذلك بعث إلى نجد سعد بن زيد فباع سبياً واشترى سلاحاً(2).
2-إسلام ريحانة رضي الله عنها:
وكان من بين السبي ريحانة بنت عمرو بن خنافة إحدى نساء بني عمرو من بني قريظة قد أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوجها بعد أن تسلم، فترددت، وبقيت وقتاً على دينها، ثم شرح الله صدرها للإسلام فأسلمت، فبعثها إلى بيت أم منذر بنت قيس حتى حاضت ثم طهرت، فجاءها وخيّرها: أيعتقها ويتزوجها أو تكون في ملكه - صلى الله عليه وسلم -؟ فاختارت أن تكون في ملكه رضي الله عنها(3).
الخامس عشر: الإعلام الإسلامي في غزوة الأحزاب:
قام شعراء الصحابة بدورهم الجهادي، فقالوا قصائد رائعة وضحوا بها موقف المسلمين في غزوة الأحزاب نقتطف منها أبياتاً منها كنماذج لهذه القصائد، فمن ذلك قول كعب ابن مالك، اخو بني سلمة:
وسائلة تسائل مالقينا
... ... ولو شهدت رأتنا صابرين
صبرنا لانرى لله عْدلا
... ... على مانابنا مُتَوَكِّلينا
وكان لنا النبي وزير صدق
... ... ... به نعلو البريَّة أجمعينا
نقاتل معشراً ظلموا وعَقُّوا
... ... ... وكانوا بالعداوة مرصدينا(4)
نعالجهم إذا نهضوا إلينا
__________
(1) انظر: سيرة الرسول لعزة دروزة (2/202).
(2) انظر: الصراع مع اليهود (2/98).
(3) نفس المصدر (2/99).
(4) المرصد: المعد للأمر عدته.(7/108)
... ... ... بضرب يُعْجِل المتسرعينا
ترانا في فضافِضَ سابغات
... ... ... كغُدران المَلا متسرْبِلينا(1)
إلى أن قال:
لنَنْصُر أحمداً واللهَ، حتى
... ... ... نكون عباد صدْق مُخلصينا
ويعلم أهلُ مكة حين ساروا
... ... ... وأحزاب أتو متحزّبينا
بأن الله ليس له شريك
... ... ... وأنَّ الله مَوْلى المُؤمنينا
فإمّا تَقْتلوا سعداً سفاهاً
... ... ... فإن الله خير القادرينا
سيدخله جناناً طيِّبات
... ... ... تكون مقامة للصالحين
كما قد رَدَّكم فَلاَّ شريداً
... ... ... بغيظكم خزايا خائبينا
خزايا لم تنالوا ثم خيراً
... ... ... وكدْتم أن تكونوا دامرينا
بريح عاصف هبت عليكم
... ... ... فكنتم تحتها مُتَكمهِّينا(2)
وقال كعب بن مالك في قصيدة طويلة يرد فيه على عبدالله بن الزبعري :
ومواعظ من ربنا نُهدى بها
... ... ... بلسان أَزْهَرَ طَيَّب الأثواب
عُرضت علينا فاشتهينا ذِكرها
... ... ... من بعد ماعرضت على الأحزاب
حكماً يراها المجرمون بزعمهم
... ... ... حَرجاً(3) ويفهمها ذوو الألباب
جاءت سخينة كي تغالب ربها
... ... ... فليُغلَبَن مُغالبُ الغلاّب
قال ابن هشام: حدثني من أثق به، قال حدثني عبدالملك بن يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، قال: لما قال كعب بن مالك:
جاءت سخينة كي تغالب ربها
... ... ... فليغلبن مغالبُ الغلاب
قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد شكرك الله ياكعب على قولك هذا(4).
__________
(1) متسربلينا: لابسون الدروع.
(2) متكمهِّينا: العمَّي الذين لايبصرون.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/286).
(4) حرجاً: حراماً.(7/109)
الفصل الثاني عشر
مابين غزوة الأحزاب والحديبية من أحداث مهمة
المبحث الأول
زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش رضي الله عنها
ومع استمرار حركة السرايا، وبناء الدولة، وبسط هيبتها في الجزيرة العربية، كانت حركة البناء التشريعي والاجتماعي للأمة الإسلامية تتكامل فنظام التبني يُهدم، والحجاب يفرض، وأدب الولائم يقرّر، وضرورة الإلتزام بطاعة الله ورسوله يؤكد على وجوبها، وتحارب الأعراف التي تعارض بشرع الله تعالى ففي زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيدة زينب بنت جحش حكم ودروس وعبر بقت خالدة على مر العصور وكر الدهور وتوالي الأزمان وهذه قصة أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها:
أولاً: اسمها ونسبها:
هي زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر الأسدية، أخت عبدالله ابن جحش، وحمنة بنت جحش رضي الله عنها.
أمها: أميمة بنت عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قصي، عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخت حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه(1).
يقال كان اسمها: برة، فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب، وكانت تكنى أم الحكم(2).
وكانت زينب رضي الله عنها من المهاجرات الأول، ورعة صوامة قوامة، كثيرة الخير والصدقة، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً قالت: فكانت أطولنا يداً زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق(3).
__________
(1) انظر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبدالبر (1/372).
(2) نفس المصدر (4/1849).
(3) مسلم في فضائل الصحابة (4/1907) رقم 2452.(8/1)
وقد مدحتها السيدة عائشة رضي الله عنها كثيراً وقالت في حقها: لم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق له، وتقربه إلى الله تعالى، ماعدا سورة من حدِّة كانت فيها تسرع منها الفيئة(1).
ثانياً: زواجها من زيد بن حارثة رضي الله عنه:
أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يحطم تلك الفوارق الطبقية الموروثة في الأمة المسلمة من عادات الجاهلية، ليكون الناس سواسية كأسنان المشط لافضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وكان الموالي -وهم الذين جرى عليهم الرق ثم تحرروا طبقة أدنى من طبقة السادة، ومن الموالي كان زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أعتقه ثم تبناه فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يزوج زيداً من شريفة أسد وهي ابنة عمته زينب بنت جحش رضي الله عنها، ليبطل تلك الفوارق الطبقية بنفسه في أسرته، وكانت هذه الفوارق من العمق والعنف بحيث لايحطمها إلا فعل واقعي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لتتخذ منه الأمة المسلمة أسوة وقدوة، وتسير البشرية على هداه في هذا الطريق.
وأيضاً لعل من الحكمة في هذا الزواج أنه كان مقدمة لتشريع آخر لايقل أهمية في حفظ توازن المجتمع وحماية الأسرة عن الأول، وإن لم تظهر هذه الحكمة في بداية الأمر(2).
__________
(1) مسلم في فضائل الصحابة (4/1892) رقم 2442.
(2) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات حفصة بنت عثمان الخليفي، ص205.(8/2)
انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخطب على فتاه زيد بن حارثة رضي الله عنه، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها فخطبها، فقالت: لست بناكحته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(بلى فانكحيه) قالت، يارسول الله أؤامرَ في نفسي؟ فبينما هما يتحادثان أنزل الله تعالى هذه الآية:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(سورة الأحزاب، آية 36).
فقالت: يارسول الله قد رضيته لي زوجاً؟ قال: نعم، قالت: لاأعصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد زوجته نفسي(1).
وكان زيد بن حارثة إذ ذاك لايزال يدعى زيد بن محمد، فتزوجها زيد، وأصدقها في هذا الزواج عشرة دنانير، وستين درهماً، وخماراً، وملحفة، ودرعاً، وخمسين مداً من طعام، وعشرة أمداد من تمر(2).
ثالثاً: طلاق زيد لزينب رضي الله عنها:
شاءت حكمة الله تعالى أن لايتوافقا زيد وزينب في زواجهما وأصبحت حياة الزوجين لاتطاق، وصمم زيد على فراق زوجه زينب وكان قبل ذلك يشتكي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عدم استطاعته البقاء مع زينب ورسول الله يأمره بإمساك زوجه مع تقوى الله في شأنها، حتى أذن الله بالطلاق فطلقها زيد وانفصمت العلاقة بينهما بعد أن قضى زيد وطره، وبعد أن مكث معها مايقرب من سنة، قال ابن كثير: فمكثت عنده قريباً من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما (يعني الخلاف) فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له: أمسك عليك زوجك واتق الله(3).
__________
(1) انظر: جامع البيان للطبري (22/11).
(2) انظر: تفسير ابن كثير (3/489).
(3) انظر: تفسير القرآن العظيم (3/491).(8/3)
لم يبقى لزيد رغبة في إبقاء العلاقة الزوجية معها، لأنه كان كريم النفس، لايريد أن يبني سعادته وراحته على شقاء الآخرين وتعاستهم والإضرار بهم، ولهذا صمم على الفراق وعدم الإضرار بها، لأنها كانت تعيش في قلق واضطراب، وانتهى زواج زيد بن حارثة رضي الله عنه بزينب بنت جحش على هذا الوضع دون أي تدخل خارجي بينهما، ووقع ذلك الطلاق بمحض اختياره وإرادته، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينهاه عن ذلك، ويأمره بتقوى الله وإمساك زوجته(1)، قال ابن كثير بعد أن ذكر هذا السبب:(ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير آثاراً عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحاً لعدم صحتها فلا نوردها)(2).
رابعاً: الحكمة من زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زينب :
كانت عادة التبني متغلغلة في نفوس الناس ومشاعرهم، وليس من السهل التغلب عليها وإلغاء الآثار المترتبة عليها، هذه العادة في صدر الإسلام في مكة، وفي أول الهجرة إلى المدينة، ثم شاء الله تعالى فنزلت الآيات في نفي أن يكون الأدعياء أبناء لمن ادعاهم في الحقيقة، وإنما ذلك حسب دعوى المدعي فقط، وذلك لايغير من الواقع شيئاً، فقال تعالى:{ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (سورة الأحزاب، آية:4).
__________
(1) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص209.
(2) انظر: تفسير القرآن العظيم (3/491).(8/4)
ثم أمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، فهذا من العدل والقسط والبر، فقال تعالى:{ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (سورة الأحزاب، آية:5).
فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال:(إن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماكنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن)(1).
ولم يجعل الله سبحانه وتعالى عدم معرفتهم لآبائهم الحقيقيين مبرراً لإبقاء تبنيهم لهم، بل حرم التبني في هذه الحالة، وأخبر أنهم حينئذ إخوانهم ومواليهم، فقال تعالى:{ ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (سورة الأحزاب، آية:5). أي فإن لم تعرفوا آباءهم فليس بينكم وبينهم إلا الأخوة في الدين، والموالاة، وذلك عوضاً عما فاتهم من النسب، فيقال: فلان مولى فلان، أو مولى بني فلان(2).
__________
(1) البخاري في التفسير باب {ادعوهم لآبائهم} (3/276) رقم 4782).
(2) انظر: تفسير السعدي (4/136).(8/5)
وهذه الأخوة في الدين والموالاة لها أهمية كبرى، فهي ثابتة حتى للذين عرف آباؤهم، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة رضي الله عنه: (أنت أخونا ومولانا)(1)، أي أخونا في الإسلام والولاية، كما قال تعالى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (سورة الحجرات، آية:10).
وجاءت نصوص أخرى تعالج هذا الأمر من جهة أخرى، وهي جهة الابن، فجاء تحريم الانتساب إلى غير الأب الحقيقي والمنتسب يعلم ذلك -تحريماً قاطعاً لاشبهة فيه(2) قال - صلى الله عليه وسلم -: من ادعى إلى غير أبيه أو انتهى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لايقبل الله تعالى منه صرفاً ولا(3) عدلا(4).
وقد جعل الشارع لنشوء النسب سبباً واضحاً هو الاتصال بالمرأة عن طريق الزواج أو ملك اليمين، وأبطل ماكان يجري عليه أهل الجاهلية من إلحاق الأولاد عن طريق العهر والزنا، قال - صلى الله عليه وسلم - :(الولد للفراش وللعاهر الحجر)(5)، ومعناه أن من يجئ من الأولاد ثمرة لفراش صحيح قائم على عقد الزواج أو ملك اليمين يلتحق نسبه بأبيه، وأن العهر والزنا لايصلح أن يكون سبباً للنسب، وإنما يكون سبباً لشيء آخر هو الرجم والحجارة(6).
__________
(1) البخاري في الصلح، (2/267) رقم 2699.
(2) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص189.
(3) صرفاً: توبة، وقيل : نافلة، عدلاً: أي فدية وقيل : فريضة.
(4) البخاري في فضائل المدينة (2/411) رقم 3172).
(5) البخاري في الحدود (4/254) رقم 6818.
(6) انظر: علاقة الآباء بالأبناء في الشريعة الاسلامية، د. سعاد الصانع، ص52،53.(8/6)
ثم إن الله سبحانه وتعالى بعد أن منع وحرم دعوة الابن بنسبته إلى من تبناه، وأمر بدعوته منسوباً إلى أبيه الحقيقي إن عرف، أو إلى الأخوة في الدين والموالاة بعد ذلك بين حكم من أخطأ أو تعمد مخالفة هذا التشريع الإلهي، قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (سورة الأحزاب، آية:5).
فقد نفى الله سبحانه وتعالى الجُناح (الإثم) عمن أخطأ في نسبة الابن إلى غير أبيه في الحقيقة، وذلك بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع أو نسي فنسب الابن إلى غير أبيه بجريان لسانه بذلك، وأثبت الحرج والإثم لمن تعمد الباطل وهو دعوة الرجل لغير أبيه بعد علمه بتحريم ذلك(1).
كانت عادة التبني مستحكمة في نفوس الناس وقد أخذت أبعادها مع مرور الزمن فكان زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسيدة زينب إلغاء عملياً وليس إلغاء ذهنياً فحسب(2).
إن الحكمة في زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السيدة زينب حكمة واضحة وظاهرة، وقد بينها الله تعالى بقوله عزوجل:{ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا}(سورة الأحزاب، آية 37).
__________
(1) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص191،192.
(2) انظر: من معين السيرة، ص311.(8/7)
وقد ذكر المبطلون من الكفار وفروخهم ومقلدوهم بما ينعقون به ويردده الجهال متعلقين بروايات مكذوبة خلاصتها كما يفترون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد هوى زينب بنت جحش بعد أن تزوجت بزيد بن حارثة، فلما علم زيد بذلك أراد طلاقها ليتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم -(1) ... فهذا قول باطل وقد نسف الإمام بن العربي هذا القول من جذوره فقال: فأما قولكم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رآها -أي رأى زينب بنت جحش- فوقعت في قلبه، فباطل فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - كان معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذ حجاب، فكيف تنشأ معه، وينشأ معها، ويلحظها في كل ساعة ولاتقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج؟ حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة وقد قال تعالى:{ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} والنساء أفتن الزهرات، فيخالف هذا في المطلقات، فكيف في المنكوحات؟ ثم إن قوله تعالى:{ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} يعني من نكاحك لها وهو الذي أبداه لاسواه أقول: فلو كان الذي أخفاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو حبه لها لأبداه الله تعالى وأظهره، فتيقنا أن الذي أخفاه رسول الله من أمر زينب هو نكاحه إياها وليس ماتخيله المبطلون من حبه لها(2).
إن الشرع أراد تأكيد إبطال نظام التبني وإبطال كل نتائجه وتعميق هذا الإبطال في النفوس وتأكيده بالتطبيق العملي، والقدوة والتأسي بمن يقتدي به في تطبيق هذه الأحكام الجديدة الناسخة، وهذا مافعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزواجه بزينب بأمر من الله تعالى العزيز الحكيم(3).
__________
(1) انظر: المفصل في أحكام المرأة، عبدالكريم زيدان (11/474،475).
(2) انظر: احكام القرآن لابن العربي (3/1531،1532).
(3) انظر: المفصل في أحكام المرأة (11/476).(8/8)
خامساً: قصة زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زينب ومافيها من دروس وعبر:
لما انقضت عدة زينب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد: اذهب فاذكرها عَليَّ فانطلق، قال: فلما رأيتها عظمت في صدري فقلت: يازينب أبشري!! أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤمر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودخل عليها بغير إذن(1)، وأصدقها أربعمائة درهم، وكان زواجه - صلى الله عليه وسلم - بزينب في السنة الخامسة على المشهور وقال الحافظ البيهقي: تزوجها بعد بني قريظة(2).
وأولم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عرس زينب وليمة كبيرة، فأولم بشاة وقد دعى إلى الوليمة كل من لقيه أنس رضي الله عنه بناءً على أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فعن أنس رضي الله عنه قال: مارأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنه ذبح شاة(3).
وهكذا تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -بأمر ربه- زينب بنت جحش رضي الله عنها، بعد طلاق زيد لها وانقضاء عدتها، وفي زواجه - صلى الله عليه وسلم - بزينب ومانزل فيه من القرآن وماواكبه من احداث -عظات وعبر(4) وقفنا عند بعضها ويجدر بنا أن نتأمل في بعض الدروس والعبر التي لم نقف عليها منها:
__________
(1) مسلم في النكاح (2/1048) رقم 1428.
(2) انظر: البداية والنهاية (4/147).
(3) البخاري في النكاح باب من أولم على بعض نسائه (3/3870) رقم 5171.
(4) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص312.(8/9)
1-كان خاطب زينب للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو زوجها الأول زيد بن حارثة رضي الله عنه، ولعل اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد مقصود لذاته، ليقطع بذلك ألسنة المتقولين وماقد يزعمونه من أن طلاقها وقع بغير اختيار منه، وأنه قد بقي في نفسه من الرغبة فيها شيء، وفي هذا يقول ابن حجر:(هذا من أبلغ ماوقع في ذلك، وهو أن يكون الذي كان زوجها هو الخاطب، لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهراً بغير رضاه، وفيه أيضاً اختبار ماكان عنده منها هل بقي منه شيء أم لا؟)(1).
وفي هذا من الحكمة أيضاً أن مايقع بين الزوجين من نفرة وخلاف ثم طلاق لايجوز أن يكون مانعاً من نصح أحد الزوجين للآخر، وأن يراعي فيه حقوق الأخوة الإيمانية، فهذا زيد رغم ماوقع بينه وبين زينب، ورغم أن هذا كان بسببها إلا أنه ذهب يخطبها لرسول الله، بل ويقول لها:(يازينب أبشري).
2-في الآية التي نزلت بشأن هذا الزواج عتاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - من ربه، إذ كان حين يأتيه زيد يشكو زينب ومعاملتها له ورغبته في طلاقها يقول: (أمسك عليك زوجك واتق الله)، أي اتق الله ودع طلاقها، أو اتق الله فيما تذكره من سوء عشرتها، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخفي في نفسه ما أبلغه الله به أن زيداً سيطلقها، وأنها ستكون زوجة له، ويخشى متى وقع هذا من كلام الناس في قولهم: تزوج مطلقة من تبناه وهو زيد بن حارثة.
روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال:(جاء زيد بن حارثة يشكو، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اتق الله، وأمسك زوجك، قال أنس: لو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية)(2).
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر (8/524).
(2) البخاري في التوحيد (4/388) رقم 7420.(8/10)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - كاتماً شيئاً مما أنزل عليه لكتم هذه الآية:{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} (سورة الأحزاب، آية 37)(1).
قال الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسيره للآية:{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}:(أي أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعمت عليه بالعتق والإرشاد والتعليم، حين جاءك مشاوراً في فراقها، فقلت له- ناصحاً له ومخبراً بمصلحته، مقدماً لها على رغبتك، مع وقوعها في قلبك:(أمسك عليك زوجك ولاتفارقها، واصبر على ماجاءك منها، واتق الله في أمورك عامة، وفي أمر زوجك خاصة، فإن التقوى تحث على الصبر وتأمر به) {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} الذي أخفاه أنه لو طلقها زيد لتزوجها - صلى الله عليه وسلم -(2).
قال سيد قطب: الذي أخفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وهو يعلم أن الله مبديه، وهو ما أعلمه الله أنه سيفعله ولم يكن أمراً صريحاً من الله، وإلا ماتردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله، ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها من إعلانه، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان أمام ما أعلمه الله، ويتوجس في الوقت ذاته من مواجهته، ومواجهة الناس به، حتى أذن الله بكونه، فطلق زيد زوجه في النهاية، وهو لايفكر لاهو ولازينب فيما سيكون بعد، لأن العرف السائد كان يعد زينب مطلقة ابن لمحمد لاتحل له(3).
__________
(1) مسلم في الايمان (1/160) رقم 177.
(2) تفسير السعدي (3/154).
(3) في ظلال القرآن (5/2869).(8/11)
3-في قوله تعالى:{ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا}، منقبة عظيمة لزيد بن حارثة رضي الله عنه، فقد انفرد بهذا، إذ لم يُسَم القرآن أحد من الصحابة غيره، قال السهيلي:(كان يقال: زيد بن محمد حتى نزل:{ادعوهم لآبائهم}، فقال: أنا زيد بن حارثة، وحرم عليه أن يقول: أنا زيد بن محمد، فلما نُزع عنه هذا الشرف وهذا الفخر، وعلم الله وحشته من ذلك شرّفه بخصيصة لم يكن يَخُصّ بها أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي أنه سماه في القرآن، فقال تعالى:{ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} يعني من زينب، ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم حتى صار اسمه قرآنا يتلى في المحاريب، نوه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوّة محمد - صلى الله عليه وسلم - له ألا ترى إلى قول أبي بن كعب حين قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - :(إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة كذا)، فبكى وقال: أوذكرت هنالك؟ وكان بكاؤه من الفرح حين أخبر أن الله تعالى ذكره، فكيف بمن صار اسمه قرآناً يتلى مخلداً لايبيد، يتلوه أهل الدنيا إذا قرؤوا القرآن، وأهل الجنة أبداً لايزال على ألسنة المؤمنين، كما لم يزل مذكوراً على الخصوص عند رب العالمين، إذ القرآن كلام الله القويم وهو باق لايبيد، فاسم زيد هذا في الصحف المكرمة المرفوعة المطهرة تذكره في التلاوة السفرة الكرام البررة، وليس ذلك لإسم من أسماء المؤمنين إلا لنبيّ من الأنبياء ولزيد بن حارثة تعويضاً من الله تعالى له مانُزع منه(1).
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي (14/194).(8/12)
4-زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بزينب بنت جحش رضي الله عنها كان بأمر ربه، وهو الذي زوجه إياها، قال تعالى:{ وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} (سورة الأحزاب، آية:37). وفي هذا شرف عظيم ومنقبة جليلة لزينب رضي الله عنها، كانت تفاخر بها –وحق لها ذلك- فعن أنس رضي الله عنه قال: كانت تفخر على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات، وفي رواية أخرى:(كانت تفخر على نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت تقول: إن الله أنكحني في السماء)(1).
ولعل هذه المنقبة وهذا الشرف لزينب رضي الله عنها كان جزاء لها حين أذعنت وخضعت لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمرها بالزواج من مولاه زيد بن حارثة، وكانت لذلك كارهة، ثم لما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرها بذلك قبلت الزواج منه(2).
5-في وليمته - صلى الله عليه وسلم - على زينب علامة من علامات نبوته ودلالة من دلائلها، وهي تكثير الطعام بدعوته، وفي هذه الوليمة أيضاً كان نزول آية حجاب نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وماشرع من آداب الضيافة(3).
__________
(1) البخاري في التوحيد، باب وكان عرشه على الماء (4/388) رقم 7420.
(2) انظر: قضايا نساء النبي والمؤمنات، ص218.
(3) نفس المصدر، ص218.(8/13)
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل بأهله، قال: فصنعت أمي أم سليم حيساً فجعلته في تور(1)، فقالت: يا أنس: اذهب بهذا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقل: بعثت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام وتقول: إن هذا لك منا قليل يارسول الله! قال: فذهبت بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إن أمي تقرئك السلام وتقول: إن هذا لك منا قليل يارسول الله! فقال: ضعه، ثم قال: اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً، ومن لقيت، وسمى رجالاً، قال: فدعوت من سمى ومن لقيت، قال: قلت لأنس: عدد كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة.
__________
(1) تور: الإناء.(8/14)
وقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(ياأنس: هات التور، قال: فدخلوا حتى امتلأت الصفة والحجرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليتحلق عشرة عشرة، وليأكل كل إنسان مما يليه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، قال: فخرجت طائفة ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم، فقال لي: يا أنس: ارفع، قال: فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت، قال وجلس طوائف منهم يتحدثون في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نسائه ثم رجع، فلما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه، قال: فابتدروا الباب فخرجوا كلهم، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أرخى الستر ودخل، وأنا جالس في الحجرة، فلم يلبث إلا يسيراً حتى خرج عليَّ، وأنزلت هذه الآية، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرأهن على الناس:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} (سورة الأحزاب، آية:53).(8/15)
قال الجعد(1): قال أنس بن مالك: أنا أحدث الناس عهداً بهذه الآيات، وحجبن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -(2).
وقد حجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه لنزول آية الحجاب التي قال المولى عزوجل فيها:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا صدق الله العظيم إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا صدق الله العظيم } (سورة الأحزاب، آية:53-54).
وقد كان نزول آية الحجاب من موافقات عمر رضي الله عنه. روى البخاري في صحيحه عن أنس قال. قال عمر رضي الله عنه: قلت: يارسول الله يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب(3).
__________
(1) الجعد بن دينار، ابو عثمان اليشكري، البصري من أصحاب أنس.
(2) البخاري في النكاح، باب (الهدية للعروس) (3/378) رقم 5163.
(3) البخاري في التفسير (6/29) رقم 4790.(8/16)
وبنزول هذه الآية كان تشريع الحجاب في الإسلام بالنسبة لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد عدم إبداء شيء من أجسامهن للأجانب عنهن، وعدم محادثتهن أو طلب شيء منهن إلا من وراء حجاب، أي ستر يكون بينهن وبين غيرهن، ولما نزلت قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ونحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب؟ فأنزل الله قوله:{ لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي ءَابَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} (سورة الأحزاب، آية:55).
ونزل أيضاً في شأن نساء النبي في أدب الخطاب والإقامة في البيوت قوله تعالى:{ يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا صدق الله العظيم وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَءَاتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا صدق الله العظيم } (سورة الأحزاب، آية:32-33).(8/17)
وجمهور المفسرين على أن هذه الآية وإن كانت خطاباً لأزواج النبي فحكمها لجميع نساء الأمة، وإنما خص نساء النبي لمنزلتهن وعظم فضلهن ومكانتهن من النبي - صلى الله عليه وسلم -(1)، وقد قال الإمام القرطبي في تفسيره:(معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت وإن كان الخطاب لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن؟ والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة على ماتقدم من غير موضع)(2).
وقد فصّل سبحانه وتعالى في كتابه الكريم مايتعلق بالنساء المسلمات: من غض البصر، وحفظ الفروج، وعدم إبداء مواضع الزينة من عنق وساق وعضد وساعد وشعر، ونحوها من العورة الظاهرة إلا للمحارم(3) وقد جاء ذلك في سورة النور، وقد بينت السنة النبوية كل مايتعلق بالنساء من احتجاب وتصون وتعفُّف، وعدم السفور والخلاعة والابتذال بما لامزيد عليه(4).
هذه بعض الدروس والعبر استخرجت من قصة زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش وماواكب ذلك الزواج من نزول آيات بينت في أحكام الحجاب، وماشرع من آداب الضيافة.
__________
(1) انظر: السنّة النبوية لأبي شهبة (2/312).
(2) انظر: تفسير القرطبي (14/179).
(3) انظر: السنّة النبوية لأبي شهبة (2/312).
(4) نفس المصدر (2/314).(8/18)
هذا وقد توفيت زينب بنت جحش رضي الله عنها سنة عشرين من الهجرة، وعمرها ثلاث وخمسون سنة، وكانت كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أول نسائه لحوقاً به(1)، وقد بلغت مروياتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفق كتاب بقي بن مخلد أحد عشر حديثاً(2)، ولها في الكتب الستة خمس أحاديث(3)، اتفق لها في البخاري ومسلم عن حديثين(4)، فقد تركت ذكراً طيباً في تاريخ الأمة الإسلامية(5).
المبحث الثاني
الآن نغزوهم ولايغزون(6)
__________
(1) انظر: الطبقات الكبرى (8/115).
(2) انظر: تلقيح الفهوم لابن الجوزي، ص370.
(3) انظر: تحفة الاشراف للمزي (11/321-323).
(4) انظر: سير أعلام النبلاء (2/121).
(5) انظر: دور المرأة في خدمة الحديث، ص85.
(6) البخاري في المغازي (5/58) رقم 4110.(8/19)
كان - صلى الله عليه وسلم - يعمل حساب كل القوى المجاورة، ولايغفل عن اي قوة منها، وقد صرح بعد غزوة الخندق بأن الخطة القادمة هي غزو قريش فقد تغيرت موازين القوى وأصبح المسلمون لهم القدرة على الهجوم أكثر من قبل، فسعى - صلى الله عليه وسلم - لبسط سيادة الدولة على ماتبقى من قوى حول المدينة، لأن ذلك له صلة بالإعداد لغزو قريش في مرحلة لاحقة، فقد قام - صلى الله عليه وسلم - خلال عام واحد -العام السادس- بغزوتين وأرسل أربع عشرة سرية، غيرما قام به في نهاية العام الخامس الهجري ... وهذه الأعمال والتحركات قصد منها المزيد من إنهاك قوى قريش بإحكام الحصار، وتقليم أظفارها من خلال اقتطاع كل مايمدها بالقوة من حلفائها(1) فقد استثمر رسول الله وأصحابه ماحققوه من نجاح في صد الأحزاب وإفشال خططهم، وردهم كيد يهود بني قريظة في نحورهم، فباشروا نشاطاً واسع النطاق ضد خصومهم على كافة الجبهات، فقد ضيّقوا الخناق الاقتصادي على قريش من جديد كما نفذوا العديد من السرايا لمعاقبة المشركين في الأحزاب من جهة أو للثأر من القبائل التي كانت قد غدرت بالدعاة أو ناصبت الإسلام العداء وقد تمثل النشاط العسكري الإسلامي خلال هذه الفترة في مايلي:
أولاً: سرية محمد مسلمة إلى بني القرطاء:
كانت العشائر النجدية من أجرأ العناصر البدوية الوثنية على المسلمين، لأن النجديين أهل قوة وبأس وعدد غامر، وقد رأينا كيف أن العمود الفقري لقوات الأحزاب الضاربة، كان من هذه القبائل النجدية حيث كان رجال هذه القبائل الشرسة يشكلون الأغلبية الساحقة من تلك القوة الضاربة، ستة آلاف مقاتل من غطفان وأشجع وأسلم وفزارة وأسد، كانت ضمن الجيوش التي قادها أبو سفيان لحرب المسلمين، فحاصرهم أهل المدينة.
__________
(1) انظر: دراسات في عهد النبوة للشجاع، ص139.(8/20)
ولهذا فإن أول حملة عسكرية وجهها النبي لتأديب خصومه بعد غزوة الأحزاب هي تلك الحملة التي جرّدها على القبائل النجدية من بني بكر بن كلاب الذين كانوا يقطنون القرطاء بناحية ضرية(1) على مسافة سبع ليال من المدينة، ففي أوائل شهر المحرم عام خمس للهجرة وبعد القضاء مباشرة من القضاء على يهود بني قريظة وجّه - صلى الله عليه وسلم -(2) سرية من ثلاثين من أصحابه عليهم محمد بن مسلمة لشن الغارة على بني القرطاء من قبيلة بكر بن كلاب، وذلك في العاشر من محرم سنة 6هـ(3)، وقد داهموهم على حين غرّة فقتلوا منهم عشرة، وفر الباقون وغنم المسلمون إبلهم وماشيتهم(4)، وفي طريق عودتهم أسروا ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة وهم لايعرفونه فقدموا به المدينة وربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ماذا عندك ياثمامة؟ فقال: عندي خير يامحمد، إن تقتلني تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ماشئت، فترك حتى كان الغد فقال: ماعندك ياثمامة؟ فقال: عندي ماقلت لك. إن تنعم تنعم على شاكر فتركه حتى كان بعد الغد فقال: ماعندك يا ثمامة، فقال عندي ماقلت لك فقال: أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يامحمد: والله ماكان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليَّ. والله ماكان دين أبغض إليّ من دينك فأصبح دينك أحب الدين إليّ: والله ماكان بلد أبغض إليّ من بلدك فأصبحت بلدك أحب البلاد إليّ، وأن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يعتمر، فلما قدم
__________
(1) قرية عامرة قديمة على وجه الدهر في طريق مكة من البصرة من نجد.
(2) انظر: صلح الحديبية، باشميل، ص24.
(3) انظر: تاريخ الاسلام للذهبي، المغازي، ص351.
(4) مسلم (3/1386) رقم 1764.(8/21)
مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا والله ولكني أسلمت مع محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا والله لايأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -(1)، وقد أبر بقسمه مما دفع وجوه مكة إلى أن يكتبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة ليخلي لهم حمل الطعام(2)، فاستجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجاء قومه بالرغم أنه في حالة حرب معهم، وكتب إلى سيد بني حنيفة حمامة: ان خَليَّ بين قومي وبين ميرتهم .. فامتثل ثُمامة أمر نبيه وسمح لبني حنيفة باستئناف إرسال المحاصيل إلى مكة فارتفع عن أهلها كابوس المجاعة(3) وفي هذه القصة دروس وعبر منها:
1-جواز ربط الكافر في المسجد.
2-جواز المن على الأسير الكافر، وتعظيم أمر العفو عن المسئ، لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حباً في ساعة واحدة لما أسداه النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه من العفو والمن بغير مقابل.
3-الاغتسال عند الإسلام كما فعل ثمامة حين أٍسلم.
4-الإحسان يزيل البغض وينبت الحب.
5-يشرع للكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم أن يستمر في عمل ذلك الخير.
6-الملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولاسيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه(4).
7-الإسلام يغير سلوك المؤمن حين يضع المسلم قدراته تحت الإسلام والمسلمين كما فعل ثمامة بعدم إرساله القمح لأهل مكة إلا بإذن من الرسول عليه السلام.
8-ينبغي أن يخلع المؤمن على عتبة الإيمان وعند تركه للكفر كل علاقاته السابقة، والتزامه بأوامر رب العالمين بعد إيمانه(5).
ثانياً: سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر:
__________
(1) انظر: نضرة النعيم (1/330).
(2) نفس المصدر (1/330).
(3) انظر: السيرة الحلبية (2/298)؛ الاستيعاب لابن عبد البر ترجمة ثمامة بن اثالة الحنفي.
(4) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص386، 387.
(5) نفس المصدر، ص387.(8/22)
تعتبر سرية أبي عبيدة إلى سيف البحر، استمراراً لسياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - العسكرية لإضعاف قريش ومحاصرتها اقتصادياً على المدى الطويل، فقد بعث - صلى الله عليه وسلم - أبا عبيدة بن الجراح في ثلثمائة راكب قبل الساحل ليرصدوا عيراً لقريش، وعندما كانوا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع فكان قدر مزود تمر، يقوتهم منه كل يوم قليلاً قليلاً، حتى كان أخيراً نصيب الواحد منهم تمرة واحدة وقد أدرك الجنود صعوبة الموقف فتقبلوا هذا الإجراء بصدور رحبة دون تذمر أو ضجر، بل إنهم ساهموا في خطة قائدهم التقشفية فصاروا يحاولون الإبقاء على التمرة أكبر وقت ممكن(1)، يقول جابر رضي الله عنه أحد أفراد هذه السرية: (كنا نمصها كما يمص الصبي ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل)(2) وقد سأل وهب بن كيسان جابراً رضي الله عنه: ماتغني عنكم تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت(3).
وقد اضطر ذلك الجيش إلى أكل ورق الشجر، قال جابر - رضي الله عنه -: وكنا نضرب بعصينا الخبط(4)، ثم نبله بالماء فنأكله(5) (فسمى ذلك الجيش جيش الخبط)(6)، وقد أثر هذا الموقف في قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما أحد جنود هذه السرية الشجاعة وهو رجل من أهل بيت اشتهر بالكرم، فنحر للجيش ثلاث جزائر(7)، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه(8).
__________
(1) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص118.
(2) مسلم شرح النووي (13/84).
(3) فتح الباري (8/77).
(4) الخبط: ضرب الشجر بالعصا ليناثر ورقها واسم الورق الساق خَبَط.
(5) شرح النووي (13/84).
(6) فتح الباري (8/78).
(7) جمع جزور، والجزور: البعير، أو خاص بالناقة.
(8) فتح الباري (8/78).(8/23)
فبينما هم كذلك من الجوع والجهد الشديدين إذ زفر البحر زفرة أخرج الله فيها حوتاً ضخماً، فألقاه على الشاطئ، ويصف لنا جابر بن عبدالله رضي الله عنهما مقدار ضخامة هذا الحوت العجيب فيقول: وانطلقنا على ساحل البحر، فرُفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم(1)، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر(2)، قال: قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لابل نحن رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهراً، ونحن ثلثمائة حتى سمنَّا، قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب(3) عينيه بالقلال(4) الدهن. ونقتطع منه الفدر(5) كالثور، أو قدر الثور، فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها، ثم رجل أعظم بعير منا فمر من تحتها(6) وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(7). فقال:(ماحبسكم؟) قلنا: كنا نتبع عيرات قريش، وذكرنا له من أمر الدابة(8). فقال: هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا، قال: فأرسلنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فأكله(9). كانت هذه السرية على الأرجح قبل صلح الحديبية، وليس في رجب سنة ثمان كما ذكر ابن سعد(10) وذلك لسببين: السبب الأول: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يغز ولم يبعث سرية في الشهر الحرام، والثاني: أن رجب سنة ثمان هو ضمن فترة سريان صلح الحديبية(11)
__________
(1) الكثيب: التل من الرمل.
(2) العنبر: سكمة كبيرة يتخذ من جلدها التراس.
(3) الوقب: النقرة التي تكون فيها العين.
(4) القلال: الجرة العظيمة.
(5) الفدر: جمع فدرة وهي القطعة من اللحم.
(6) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص121.
(7) انظر: شرح النووي (13/85-87).
(8) صحيح سنن النسائي للألباني (3/910).
(9) شرح النووي (13/87).
(10) انظر: الطبقات لابن سعد (2/132)؛ والذهبي في المغازي، ص519.
(11) انظر: المجتمع المدني للعمري، ص125.(8/24)
.
وذكر ابن سعد والواقدي(1)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثهم إلى حي من جهينة، وقال ابن حجر(2)، إن هذا لايغاير ظاهره مافي الصحيح، لأنه يمكن الجمع بين كونهم يتلقون عيراً لقريش ويقصدون حياً من جهينة، ويحتمل أن يكون تلقيهم للعير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة. ويقوي هذا الجمع ماعند مسلم(3)، أن البعث كان إلى أرض جهينة(4) وفي هذه القصة دروس وعبر منها:
1-حكمة أبي عبيدة رضي الله عنه حيث جمع الأزواد، وسوى بين المجاهدين في التوزيع ليستطيع تجاوز الأزمة بهم، وذلك درس تعلمه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عملياً أكثر من مرة.
2-كرم قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما، في وقت عصيب، ليس بيده يومها مايخفف عن الناس، ففي رواية الواقدي:(أن قيس بن سعد رضي الله عنه استدان هذه النوق من رجل جهني، وأن أبا عبيدة رضي الله عنه نهاه قائلاً: تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك(5)، فأراد أبو عبيدة الرفق به(6).
وقد بدأ سعد ينحر وينحر حتى نهاه أبو عبيدة فقال له سعد: يا أبا عبيدة أترى أن أبا ثابت يقضي ديون الناس ويحمل الكل ويطعم في المجاعة، لايقضي عني تمر القوم مجاهدين في سبيل الله(7)، وقال ذلك قيس لأبي عبيدة لأنه قد اتفق مع رجل من جهينة على أن يشتري منه نوق ينحرها للجيش على أن يعطيه بدل ذلك تمراً بالمدينة وقد وافق الجهني على تلك الصفقة.
__________
(1) انظر: المغازي (2/774)؛ السيرة النبوية على ضوء مصادرها الأصلية، ص480.
(2) انظر: السيرة النبوية على ضوء مصادرها الأصلية، ص480.
(3) مسلم (3/1537) رقم 1935.
(4) انظر: السيرة النبوية على ضوء مصادرها الأصلية، ص480.
(5) انظر: معين السيرة، ص323؛ السرايا والبعوث النبوية ، ص119.
(6) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص119.
(7) انظر: من معين السيرة، ص323 نقلاً عن الزرقاني في شرحه (2/282).(8/25)
وعندما علم سعد بن عبادة بنهي أبي عبيدة لقيس بحجة أنه لامال له، وإنما المال لأبيه، وهبُ ابنه اربع حوائط أدناها يُجذ منه خمسون وسقا(1).
3-الحلال والحرام:
إن المسلمين في هذه السرية بلغ بهم الجوع غايته، فكانت التمرة الواحدة طعام الرجل طوال يوم كامل في سفر ومشقة، ويمرون وهم على تلك الحال من فقد التمر وأكل الخبط على الجهني -الذي اشترى منه قيس- أو على قومه، فما يخطر بفكرهم أن يغيروا عليهم لينتزعوا منهم طعامهم، كما كانت الحال في الجاهلية، لأنهم اليوم ينطلقون بدين الله الذي جاء ليحفظ على الناس أموالهم -في جملة ماحفظ- وهم اليوم يفرقون بين الحلال والحرام الذي تعلموه من منهج رب العالمين(2).
4-جواز أكل ميتة البحر:
__________
(1) انظر: معين السيرة، ص323.
(2) نفس المصدر، ص324.(8/26)
وتدل القصة على جواز أكل ميتة البحر، وأنها لم تدخل في قوله عزوجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة المائدة، آية:3). وقد قال تعالى:{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (سورة المائدة، آية:96). وقد صح عن أبي بكر الصديق وعبدالله ابن عباس وجماعة من الصحابة (أن صيد البحر ماصيد منه، وطعامه مامات فيه)، وفي السنن عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً (أحلت لنا ميتتان، ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان الكبد والطحال) حديث حسن وهذا الموقوف في حكم المرفوع، لأن قول الصحابي: (أحل لنا كذا، وحرم علينا) ينصرف إلى إحلال النبي - صلى الله عليه وسلم - وتحريمه(1)، كما أن في أكل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من لحم الحوت الذي تغذى منه المسلمون مدة دليل على مشروعية أكل ميتة البحر(2)، كما يستحب للمفتي أن يتعاطى بعض المباحات التي يشك فيها المستفتي إذا لم يكن فيه مشقة على المفتي، وكان فيه طمأنينة للمستفتي، قاله النووي(3)
__________
(1) انظر: السرايا والبعوث النبوية، ص123.
(2) انظر: السيرة في ضوء مصادرها الأصلية، ص480.
(3) شرح النووي على مسلم (13/86).(8/27)
.
5-بعض الأحكام التي ذكرها الإمام النووي:
قال النووي: في هذا الحديث جواز صدَّ أهل الحرب واغتيالهم والخروج لأخذ مالهم واغتنامه، وأن الجيوش لابد لها من أمير يضبطها، وينقادون لأمره ونهيه، وأنه ينبغي أن يكون الأمير أفضلهم، أو من أفضلهم، قالوا: ويستحب للرفقة من الناس وإن قلوا أن يؤمروا بعضهم عليهم، وينقادوا له، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: يستحب للرفقة من المسافرين خلط أزوادهم ليكون أبرك، وأحسن في العشرة وأن لايختص بعضهم بأكل دون بعض والله أعلم(1).
ثالثاً: سرية عبدالرحمن بن عوف إلى دومة الجندل:
كانت هذه السرية قد وجهت إلى أبعد مدى وصلت إليه الجيوش النبوية في الجزيرة العربية، ودومة الجندل قريبة من تخوم الشام، فهي أبعد ثلاثة أضعاف عن المدينة بعدها عن دمشق، وهي تقوم في قلب الصحراء العربية واسطة الصلة بين الروم في أرض الشام والعرب في الجزيرة، وسكانها من قبيلة كلب الكبرى، وقد دخلوا في النصرانية، نتيجة جوارهم وتأثرهم بجوار الروم النصارى، وهذه السرية تدخل ضمن مخطط النبي - صلى الله عليه وسلم - في احتكاكه مع الامبراطورية الرومانية.
وأما أمير السرية فهو عبدالرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن رجال الرعيل الأول، فقد كان أحد الدعائم الكبرى للدعوة الإسلامية منذ دخوله فيها على يد الصديق رضي الله عنه، ومهمة هذه السرية ذات جانبين: مهمة دعوية، ومهمة حربية لذلك انتدب لها عبدالرحمن بن عوف الذي تربى على محض الإسلام منذ أيامه الأولى(2).
وعن هذه السرية حدثنا عبدالله بن عمر فقال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدالرحمن بن عوف فقال: تجهّز فإني باعثك في سرية في يومك هذا، أو من غد إن شاء الله. قال ابن عمر: فسمعت ذلك فقلت: لأدخلنَّ فلأُصلين مع النبي الغداة، فلأسمعنَّ وصيته لعبدالرحمن بن عوف.
__________
(1) شرح النووي على مسلم (13/86).
(2) التربية القيادية (4/167،168).(8/28)
قال: فغدوتُ فصليت فإذا أبو بكر وعمر، وناس من المهاجرين فيهم عبدالرحمن بن عوف، وإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان أمره أن يسير من الليل إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبدالرحمن: ماخلفَّك عن أصحابك؟ قال ابن عمر: وقد مضى أصحابه في السحر، فهم معسكرون بالجُرْف وكانوا سبعمائة رجل، فقال أحببت يارسول الله أن يكون آخر عهدي بك، وعلي ثياب سفري.
قال: وعلى عبدالرحمن ابن عوف عمامة قد لفّها على رأسه قال ابن عمر: فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقعده بين يديه فنقض عمامته بيده، ثم عممه بعمامه سوداء، فأرخى بين كتفيه منها، ثم قال: هكذا فاعتم يا ابن عوف! قال: وعلى ابن عوف السيف مُتوشِّحه. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أغزُ باسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله، لاتَغُلَّ ولاتغدر ولاتقتل وليداً. قال ابن عمر: ثم بسط يده، فقال: يا أيها الناس، اتقوا خمساً قبل أن يُحلّ بكم: مانقص مكيال قوم إلا أخذهم الله بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يرجعون، ومانكث قوم عهدهم إلا سلّط الله عليهم عدوهم، ومامنع قوم الزكاة إلا أمسك الله عليهم قطر السماء، ولولا البهائم لم يُسقطوا، وماظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الطاعون، وماحكم قوم بغير أي القرآن إلا ألبسهم الله شيعاً، وأذاق بعضهم بأس بعض(1).
__________
(1) هذا الحديث أخرجه ابن ماجة في سننه، كتاب الفتن رقم 4019.(8/29)
قال: فخرج عبدالرحمن حتى لحق أصحابه فسار حتى قدم دُومة الجندل، فلما حلّ بها دعاهم إلى الإسلام، فمكث بها ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، وقد كانوا أول ماقدم يعطونه إلا السيف، فلما كان اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو والكلبي وكان نصرانياً وكان رأسهم. فكتب عبدالرحمن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبره بذلك، وبعث رجلاً من جهينة يقال له رافع بن مكيث، وكتب يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد أراد أن يتزوج فيهم، فكتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوج بنت الأصبغ تماضر. فتزوجها عبدالرحمن وبنى بها، ثم أقبل بها، وهي أم أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف وذكر الواقدي أن هذه السرية في شعبان سنة ست(1).
وفي هذه السرية دروس وعبر منها:
1-تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه وشفقته عليهم، حيث ألبس عبدالرحمن بن عوف عمامته بيده، وهذا التواضع منه - صلى الله عليه وسلم - يرفع من معنويات الصحابة رضي الله عنهم، ويدفعهم إلى بذل المزيد من الطاقة في سبيل خدمة هذا الدين، لأن التلاحم والمودة بين القائد وجنوده من أهم عوامل نجاح العمل وتحقيق الأهداف(2).
__________
(1) انظر: مغازي الواقدي (2/560-561).
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/184).(8/30)
2-كان جيش عبدالرحمن جيش مبادئ وعقيدة فتحرك ضارباً في هذه الصحراء المترامية يحمل شرع الله إلى خلقه، وهدى رسوله إلى أمته مستوعباً لمقاصد الجهاد وأحكامه، فالجهاد ليس باسم محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو عبدالله ورسوله، ولامكان لزعيم أو أمة أو قبيلة أو راية أو وطن أو جيش أو قومية بجوار هذه الراية الخفاقة في هذا الوجود راية الله تعالى.(اغزو باسم الله) فحزب الله تعالى هو الذي يحي هذه الصحراء الظمأى بغيث العقيدة الخالصة عقيدة التوحيد(1)، وهدفهم من هذا التحرك في سبيل الله وحده قال تعالى:{ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ صدق الله العظيم } (سورة الأنعام، آية:162-163).
قتالهم لمن كفر بالله وليس القتال على المبدأ الجاهلي.
وأحيانا على بكر أخينا
... ... ... إذا لم نجد إلا أخانا
أما هذا الجيش القوي الفتي، فهو يمضي في الأرض قدماً ليقاتل من كفر بالله(2).
3-ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدالرحمن بن عوف عن الغلول وهو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، ونهاه عن الغدر في العهود وعن قتل الولدان، وتلك نماذج من الأدب الإسلامي في الجهاد، فالقتال نوع من العنف والقسوة، ولكنه بالنسبة للمسلمين الذين طهر الله تعالى قلوبهم من الغلِّ والحسد أمر عارض لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وحماية المحقين من المبطلين، وليس متأصلاً في نفوسهم، ولذلك كان محفوفاً بالآداب السامية التي تجعل الإنسان الواحد جامعاً بين منتهى القوة والبطش ومنتهى الرحمة والعطف(3).
__________
(1) انظر: التربية القيادية (4/171).
(2) انظر: التربية القيادية (4/172).
(3) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/184).(8/31)
4-كان عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه سيداً من سادات هذه الأمة، وواحداً من أكبر دعاتها، فهو يملك من الحلم، والحكمة والثقافة، والتجربة والعبقرية، والقدم في الإسلام، والبلاء فيه مالايملكه غيره، ولهذا بذل كل طاقاته لتحقيق الهدف الرئيسي الأول، وهو الدخول في الإسلام وكان متريثاً هادياً خبيراً بالنفوس والقلوب، فشحن كل الإمكانات الفكرية والحركية، لإنجاح هذه المهمة العظمى، وتكلل عمله بفضل الله تعالى بالنجاح الكبير، وخاصة أن الجهد انصب على إقناع الرئيس، حسب توجيهات المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
5-إن اسلام سيد بني كلب في دومة الجندل الأصبغ بن عمرو علي يد عبدالرحمن بن عوف، يذكرنا بجعفر بن أبي طالب الذي أسلم على يديه النجاشي ملك الحبشة، ومصعب بن عمير بالمدينة، حيث استجاب له سادات الأوس والخزرج وزعامتهم للإسلام وهذه الشخصيات العظمى الثلاثة هم من الرواد الأوائل، ومن المؤسسين في المدرسة الإسلامية الأولى بمكة المكرمة.
هذا عبدالرحمن بن عوف الذي أصيب بأحد عشرين جرحاً أدت بعضها إلى أن يكون عنده عرج من شدتها، يصنع ركائز العقيدة الإسلامية بجيشه المظفر شمال الجزيرة العربية وينضم الكثيرون إلى الإسلام، لتغدو دومة الجندل موقعاً جديداً من المواقع الإسلامية، في هذه الأطراف المتنامية، فلا غنى للمسلمين عن هذه القلعة، وعن هذه الموقعة للمستقبل القريب في المواجهة مع العرب والروم المناوئين للإسلام(1).
__________
(1) انظر: التربية القيادية (4/174).(8/32)
وهذه أول مرة يحكم الإسلام خارج حدوده ويتعايش المسلمون والنصارى في دولة واحدة، فالذين أسلموا تطبَّق عليهم أحكام الإسلام والذين بقوا على نصرانيتهم تؤخذ منهم الجزية، وكان هذا الإنفتاح تدريباً جديداً للصحابة على المجتمعات الجديدة التي سينتقلون إليها فيما بعد، وينساحون في العراق والشام وفي قلب فارس والروم، ليعلموا الناس أن العقيدة تنبني من خلال الحوار لا من خلال السيف، وأن مبادئ الإسلام لها قوتها الذاتية التي تشع أنوارها على المجتمعات التي قد انغمست في الظلام البهيم(1).
6-إن زواج عبدالرحمن بن عوف من ابنة سيد بني كلب زعيم دومة الجندل، يقوي الروابط بين الزعيم المسلم الجديد بدومة الجندل وبين دولة الإسلام في المدينة، ويربط مصيره بمصير دولة الإسلام، ومصير الإسلام نفسه حين يشعر أن فلذة كبده مقيمة في العرين الإسلامي الذي أصبح يحن له حنينه لأرضه وبلده(2).
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحرص على أن يتزوج هو وقادته ببنات سادة القبائل لأن ذلك كسباً كبيراً لدعوة الإسلام، حيث تكون المصاهرة سبباً في القرب وامتصاص أٍسباب العداء ثم الدخول في الإسلام(3).
رابعاً: تأديب الغادرين: غزوة بني لحيان، وغزوة الغابة وغيرها:
1-بعد رحيل الأحزاب انتقل المسلمون من دور الدفاع إلى دور الهجوم وأصبحوا يمسكون بأيديهم زمام المبادرة، وحان الوقت لتأديب بني لحيان الذين غدروا بخبيب وأصحابه يوم الرجيع وأخذ ثأر الشهداء، فخرج إليهم في مائتي صحابي، في ربيع الأول أو جماد الأولى سنة ست من الهجرة(4).
أ-تضليل العدو:
__________
(1) نفس المصدر (4/175).
(2) انظر: التربية القيادية (4/174).
(3) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/186).
(4) انظر: السيرة النبوية في ضوء مصادرها الأصلية، ص468.(8/33)
كانت أرض بني لحيان من هُذيل تبعد عن المدينة أكثر من مئتين من الأميال. وهي مسافة بعيدة، يلاقي مشاق كبيرة كل من يريد قطعها، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حريصاً على الاقتصاص لأصحابه من الذين استشهدوا (غدراً) على يد هذه القبائل الهمجية التي لاقيمة للعهود عندها.
وكما هي عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تضليل العدو الذي يريد مهاجمته اتجه بجيشه نحو الشمال بينما تقع منازل بني لحيان في أقصى الجنوب.
وقد أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل تحركه نحو الشمال: انه يريد الإغارة على الشام، وحتى أصحابه لم يعلموا أنه يريد بني لحيان إلا عندما انحرف بهم نحو الجنوب، بعد أن اتجه بهم متوغلاً نحو الشمال حوالي عشرين ميلاً ... في حركة تمويهية على العدو بارعة.
وكان تغيير خط سيره من الشمال إلى الجنوب عند مكان يقال له (البتراء) ففي ذلك المكان عطف بجيشه نحو الغرب حتى استقام على الجادة مْنَصبَّا نحو الجنوب(1).
ب-فرار اللحيانيون قبل وصول النبي:
كانت بنو لحيان على غاية التيقظ والانتباه، فقد بثّت الأرصاد والجواسيس في الطرق ليتحسسوا لها ويتجسسوا لذلك فما كاد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقترب بجيشه من منازلهم حتى انسحبوا منها فارين، وهربوا في رؤس الجبال، وذلك بعد أن نقلت إليهم عيونهم خبر اقتراب جيش المسلمين من ديارهم.
__________
(1) انظر: صلح الحديبية، باشميل، ص34،35.(8/34)
ولما وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - بجيشه عسكر في ديارهم ثم بث السرايا من رجاله ليتعقبوا هؤلاء الغادرين، ويأتون إليه بمن يقدرون عليه، واستمرت السرايا النبوية في البحث والمطاردة يومين كاملين إلا أنها لم تجد أيّ أثر لهذه القبائل تمنعت في رؤوس تلك الجبال الشاهقة، وأقام - صلى الله عليه وسلم - في ديارهم يومين لإرهابهم وتحديهم، وليظهر للأعداء مدى قوة المسلمين وثقتهم بأنفسهم، وقدرتهم على الحركة حتى إلى قلب ديار العدو متى شاؤوا(1).
جـ-إرهاب المشركين بمكة:
رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتنم فرصة وجوده بجيشه قريباً من مكة فقرر أن يقوم بمناورة عسكرية يرهب بها المشركين في مكة، فتحرك بجيشه حتى نزل به وادي عُسفان(2) وهناك استدعى أبا بكر الصديق، وأعطاه عشرة فوارس من أصحابه وأمره بأن يتحرك بهم نحو مكة ليبث الذعر والفزع في نفوسهم، فاتجه الصديق بالفرسان العشرة نحو مكة حتى وصل بهم كُراع الغميم(3)، وهو مكان قريب جداً من مكة، فسمعت قريش بذلك فظنت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينوي غزوها فانتابها الخوف والفزع والرعب، وساد صفوفها الذعر، هذا هو الذي هدف إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الحركة التي كلف الصديق أن يقوم بها.
أما الصديق وفرسانه العشرة فبعد أن وصلوا كُراع الغميم وعلموا أنهم قد أحدثوا الذعر والفزع في نفوس أهل مكة عادوا سالمين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فتحرك بجيشه عائداً إلى المدينة(4).
د-الترحم على الشهداء:
__________
(1) نفس المصدر، ص36.
(2) عسفان: قرية بين مكة والمدينة على نحو يومين من مكة.
(3) كراع الغميم: موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة وهو واد.
(4) انظر: صلح الحديبية، ص37.(8/35)
عندما وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بطن (غران)(1)، حيث لقي الشهداء من أصحابه مصرعهم على أيدي الخونة من هذيل، ترّحم على هؤلاء الشهداء ودعا لهم(2).
2-غزوة الغابة(3):
لم تكد تمضي ليالٍ قلائل على عودة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوته لبني لحيان، حتى أغار عيينة بن حصن الفزاري في خيل لغطفان، كان عددها أربعين على لقاح (الإبل الحوامل ذوات الألبان) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغابة، وقتلوا ذر بن أبي ذر الغفاري، وأسروا زوجته ليلى، واستاقوا الإبل التي عددها عشرين ولما علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخبر عيينة، خرج في خمسمائة من أصحابه في إثره، بعد ان استخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه، يحرسون المدينة(4).
وعند جبل من ذي قَردَ(5)، أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العدو، فقتل بعض أفراده واستنقذ الإبل(6).
وقد أبدى سلمة بن الأكوع في هذه المعركة بطولة نادرة وخاصة قبل وصول كتيبة الفرسان النبوية حيث كان من ظمن الرعاة في منطقة الغابة، وظل بمفرده يشاغل المغيرين ويراميهم بالنبل، وكان من أعظم الرماة في عصره، وقد استخلص مجموعة من الإبل المنهوبة قبل قدوم كتيبة الفرسان(7).
__________
(1) غران بضم أوله: واد بين ساية ومكة.
(2) انظر: صلح الحديبية، ص38.
(3) الغاية: موضع قرب المدينة من ناحية الشام فيه أموال لأهل المدينة.
(4) انظر: عيون الأثر، ابن سيد الناس (2/72،73).
(5) ذو قَرَد: ماء على نحو بريد من المدينة مما يلي غطفان.
(6) انظر: التاريخ السياسي العسكري، ص327.
(7) انظر: صلح الحديبية، ص43.(8/36)
أما المرأة التي أسرها المغيرون من غطفان وهي زوجة إبن أبي ذر الذي قتله المشركون أثناء الغارة في الغابة، فقد عادت سالمة إلى المدينة بعد أن تمكنت من الإفلات من القوم على ظهر ناقة تابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نذرت إن نجاها الله عزوجل لتنحرنّ تلك الناقة، فلما اخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نذرها تبسم وقال: بئسما جزيتيها (أي أنها حملتك ونجت بك من الأعداء فيكون جزاؤها النحر)، ثم قال لها - صلى الله عليه وسلم - :لانذر في معصية الله، ولافيما لاتملكين(1).
وقد عاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بعد أن أمضى خمس ليال خارجها(2).
وهذه الغزوة تعتبر من أكبر الغزوات التأديبية التي قادها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه ضد أعراب نجد بعد غزوة الأحزاب وبني قريظة وقبل غزوة خيبر(3) وتتابعت سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة قَرَد لتأديب المشركين، فنجت بعض هذه السرايا، وتعثر بعضها الآخر، وكان أبرزها سرية عكاشة بن محصن الأسدي التي عُرفت بسرية الغَمْر(4)، وقد بعثها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة، إلى بني أسد، فوصلت إلى موضع يقال له الغَمْر، فوجدت القوم قد هربوا وتفرقوا في الجبال القريبة فأغار عكاشة وأصحابه على نعم لهم فغنموا مائتي بعير، وعادوا إلى المدينة(5).
__________
(1) نفس المصدر، ص45.
(2) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص327.
(3) انظر: صلح الحديبية، ص45.
(4) الغمر: ماء لبني أسد على ليلتين من فيد الذي هو قلعة بطريق مكة.
(5) تاريخ الطبري (2/640).(8/37)
ومن أبرزها أيضاً سرية محمد بن مسلمة الأنصاري إلى ذي القصة(1) لإرهاب بني ثعلبة وعُوال ومنعهم من الإغارة على سرح المدينة، وفي شهر ربيع الثاني سنة ست من الهجرة خرج محمد بن مسلمة في عشرة من المسلمين حتى وردوا عليهم ليلاً فأحدق بهم القوم وهم مائة رجل، فتراموا ساعة من الليل، ثم حملت عليهم الأعراب بالرماح فقتلوهم ووقع محمد بن مسلمة جريحاً، ولم يتمكن من العودة إلا بعد أن مرّ به رجل من المسلمين، فحمله حتى ورد به المدينة(2).
وعلى الأثر بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا عبيدة عامر بن الجراح في أربعين رجلاً إلى منازلهم، فلم يجدوا أحداً، ولكنهم غنموا بعض نعمهم فساقوها وعادوا بها إلى المدينة(3).
وفي شهر جمادي الأولى من السنة نفسها، كانت سرية زيد بن حارثة الثانية إلى العِيص(4) في سبعين ومائة راكب، لاعتراض قافلة لقريش كانت مقبلة من الشام، فأدركها وأخذها ومافيها وأسر بعض أفرادها، كان منهم أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله، وأمّه هالة بنت خويلد أخت خديجة زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمغيرة بن معاوية بن أبي العاص(5) وفي شعبان سنة ست من الهجرة خرجت سرية بقيادة علي بن أبي طالب لتأديب بني سعد بن بكر الذين جمعوا الناس لإمداد يهود خيبر، وقد بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مائة من المسلمين، فأغار عليهم، وغنم بعض نعمهم وعاد بها إلى المدينة(6).
__________
(1) ذو القصة، موضع بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلاً في طريق الربدة.
(2) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص328.
(3) الواقدي (1/551).
(4) العيص: بينها وبين المدينة أربع ليال.
(5) انظر: محمد رسول الله، محمد رضا، ص245،246.
(6) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص330.(8/38)
كانت هذه السرية تأديباً لكل من تسول له نفسه مساعدة اليهود في بغيهم المتوقع. حيث علمت تلك القبائل أن عين المدينة يقظة لكل مايدور حولها. وأن جميع التحركات كانت تحت المراقبة(1) فقد تميزت الدولة الإسلامية بدقة رصدها لأعدائها، وهكذا يكون التخطيط الحربي السليم، وذلك بقطع الطريق على تجمع الأعداد الكبيرة حتى بالإمدادات الصغيرة(2).
إن حركة السرايا والبعوث التي كان يقودها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترشد المسلمين إلى أهمية متابعة أخبار الأعداء وجمع المعلومات عليهم، فقد كانت المعلومات تتجمع عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مصادر متعددة، سراياه الاستطلاعية، المسلمون المتخفون، المتعاطفون مع المسلمين، المعاهدون، الفراسة واستكشاف ماوراء السطور، المهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماكان يفاجأ بتآمر داخلي أو تهديد خارجي وهذا يجعل المسلمين في عصرنا أمام قضية يجب أن يعطوها كامل الاعتبار، مع ملاحظة الضوابط الشرعية(3).
خامساً: سرية كرز بن جابر الفهري إلى العرنيين:
__________
(1) انظر: من معين السيرة، ص325.
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (6/189).
(3) انظر: الأساس في السنّة (2/712).(8/39)
قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعة من عُكَل(1) وعرينة(2)، في شوال من العام السادس الهجري(3)، وتكلموا بالإسلام، فقالوا: يانبي الله، إنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذودٍ(4) وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه فيشربوا من ألبانها ويتمسحوا بأبولها، فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحَرَّة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا الذّود. فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - خبرهم فبعث الطلب في آثارهم(5)، فقبضوا عليهم فأمر بهم فسمروا أعينهم وقطعوا أيديهم وأرجلهم، وتركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم. قال قتادة راوي الحديث:- بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهي عن المثلة(6).
وقال أبو قلابة في حديثه: (هؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله)(7).
__________
(1) عكل: قبيلة من تيم الرباب.
(2) عرينة: حي من يجيلة.
(3) من رواية الواقدي (2/568) معلقة وابن سعد (2/93) معلقة.
(4) الذود: الابل مابين الثلاثة الى العشرة وقيل مابين الثنتين الى التسعة.
(5) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص478.
(6) نفس المصدر ، ص478.
(7) انظر: السيرة النبوية في ضوء مصادرها الأصلية، ص478.(8/40)
قال الجمهور إن الآية:{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (سورة المائدة، آية:33)، قد نزلت في هؤلاء العرنيين(1)، وقيلت أٍسباب أخرى في نزولها(2).
وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ لابخصوص الأسباب، فهذا الحكم باق حتى يومنا هذا، وأدل دليل على ذلك ما أجمع عليه المسلمون من وجود حكم الحرابة في الإسلام سواء كانت الآية نزلت في الكفار أم في المسلمين وهذه الآية نازلة في المشركين كما في البخاري، فدل ذلك على أن العبرة بعموم الألفاظ لابخصوص الأسباب.
وكون المثلة منسوخة أو منهياً عنها وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمل أعين العرنيين، لايستدل به في هذه القضية لكون العرنيين سملوا أعين الرعاة فصار سمل النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم قصاصاً لا مثلة(3).
إن حادثة العرانيين ترتب عليها تنفيذ حكم الحرابة ونزول آيات بينات في هذا الحكم، فقد حصر المولى عزوجل جزاء المحاربين في أربعة أمور وكان ذلك الحصر بأقوى أدوات الحصر.
__________
(1) انظر: سبل الهدى والرشاد للشامي (6/181-190) فيها تفصيل.
(2) انظر: تفسير الطبري (10/242-244).
(3) انظر: علاج القرآن الكريم للجريمة، د. عبدالله الشنقيطي، ص297،298.(8/41)
ثم إنه وصف هؤلاء المحاربين بأوصاف يشمئز منها كل عاقل، ذلك أنه وصفهم بأنهم حرب لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأنهم يريدون إفساد الأرض بتخويف سكانها، وتقتيلهم وسلبهم ونهب ممتلكاتهم ظلماً وجوراً لامستند لهم ولا باعث إلا الإفساد والطغيان، فكانت رحمة الله تعالى الرحيم بهم وبغيرهم من خلقه مقتضية الحكم عليهم بواحد من أمور أربعة وهي: القتل، والصلب، وقطع الأيدي، والأرجل من خلاف، والإبعاد من مخالطة العامة، وعزلهم عنها بالنفي والتغريب حتى لاتتكرر منهم تلك الجرائم الشنيعة وحتى يرتدع غيرهم عن ارتكاب مثل هذا الجرم الشنيع، ولكي يطهرهم مايوقع بهم من عقاب، من الذنوب والآثام إن هم تابوا ورجعوا إلى رشدهم وصوابهم.
ثم إن هؤلاء لهم ذلة ومهانة في الحياة الدنيا لأذيتهم المسلمين وقد علل تعالى لحوق تلك الرذيلة بهم مدة الحياة الدنيا بسبب ما اقترفوه من جريمة الحرابة، وباقية معهم إلى يوم القيامة، لكون الرب جل وعلا أعد لهؤلاء في الآخرة عذاباً عظيماً.
ثم استثنى جل وعلا من هؤلاء من أناب إليه ورجع في أسلوب حكيم مؤثر داع إلى رجوعهم وتوبتهم من هذه الجريمة المنكرة، فلقد عفا عنهم تعالى إذا مارجعوا وجاءوا تائبين قبل القدرة عليهم، لكون تلك التوبة مظنة لصدقهم في توبتهم ورجوعهم عن غيهم، لأنهم رجعوا قبل القدرة عليهم، وبتقييد العفو عنهم بتوبتهم قبل القدرة عليهم يفهم أنهم إن قدر عليهم قبل التوبة لاينالون من العفو ماينالونه لو تابوا قبل القدرة عليهم وهذا نوع من العلاج في غاية الدقة والإنصاف، وفيه من الحفز على التقليل من هذه الجريمة وتركها مالايخفى على ذي عقل لبيب.
وكذلك الشأن في جميع أساليب القرآن الكريم العلاجية، كلها توافق الذوق السليم والعقل الراجح المتزن المتمتع بصفاء الفطرة السليمة.(8/42)
ثم ختم تعالى الآيتين الكريمتين بأنه غفور رحيم لمن تاب منهم وأصلح، فلا يقنط أحد من رحمته الواسعة، ولايحول بين العبد ورحمة ربه، ومغفرته، عظيم ذنبه، وجسيم خطئه، مالم يقارف شركا وفي الجملة فقد عالجت الآيات القرآنية الحرابة في المجتمع الإسلامي علاجاً لامزيد عليه وذلك واضح مما يلي:
1-وصف المحارب بأنه محارب لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
2-عظم الجزاء المرتب على الحرابة أيا كان هو.
3-مكانته الدنيئة في الدنيا والآخرة إن لم يتب.
4-يظهر علاج القرآن الكريم لهذه الجريمة الشنعاء بفتحه باب التوبة لمتعاطيها على مصراعيه حتى لايكون سده في وجهه حافزاً له على التمادي في جرمه والاستمرار في عتوه(1).
قال تعالى:{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ صدق الله العظيم إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ صدق الله العظيم } (سورة المائدة، آية:33-34).
وهكذا كانت حركة بناء المجتمع وإقامة الدولة متشابكة في قضاياها العسكرية والسياسية والإجتماعية والأخلاقية والاقتصادية.
المبحث الثالث
تصفية المحرضين على الدولة
أولاً: سرية عبدالله بن عتيك لقتل سلام بن أبي الحقيق:
__________
(1) انظر: علاج القرآن الكريم للجريمة، ص313، 314، 315.(8/43)
كان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق من يهود بني النضير كثير التحريض على الدولة الإسلامية حتى إنه جعل لغطفان ومن حوله من قبائل مشركي العرب الجعل العظيم إن هي قامت لحرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشاع أمر أبي رافع وانتشر وكان ممن آلب الأحزاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصبح تحريضه على دولة الإسلام من الأخطار التي يجب أن يوضع لها الحد(1).
1-توجه السرية إلى خيبر ودخولها:
فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي رافع اليهودي رجالاً من الأنصار فأمر عليهم عبدالله بن عتيك ... وكان أبو رافع في حصن له فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم قال عبدالله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة، وقد دخل الناس، فهتف به البواب: ياعبدالله إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلت، فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم غلّق الأغاليق على وتد قال ابن عتيك، فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب(2).
2-تنفيذ العقوبة بحق أبي رافع:
ولما دخل أبو عتيك رضي الله عنه ومن معه من أفراد سريته إلى داخل الحصن وأخذوا ينتظرون الفرصة المناسبة لقتل هذا اليهودي الخبيث أبي رافع.
وقد جاء في البخاري: أن عبدالله بن عتيك أدرك نفراً من أصحاب أبي رافع يسمرون عنده، وكان في علالي له فكمن حتى ذهب عنه أهل سمره صعد إليه، وكلما دخل بابا أغلقه عليه، من الداخل حتى لايحول أحد بينه وبين تنفيذ العقوبة بحق أبي رافع، فانتهى إلى أبي رافع فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لايدري أين هو من البيت، قال ابن عتيك: فقلت: يا أبا رافع.
قال: من هذا؟
__________
(1) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد قلعجي، ص212.
(2) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص465.(8/44)
قال: ابن عتيك، فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش ما أغنيت شيئاً.
وصاح، فخرجت من البيت، فأمكث غير بعيد ثم دخلت إليه.
فقلت: ماهذا الصوت يا أبا رافع؟
قال: لأمك الويل إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف.
قلت: فأضربه ضربة أثخنته ولم اقتله، ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته.
فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته فلما صاح الديك قام الناعي على السور: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع فانتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ابسط رجلك، فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط(1) وفي رواية أخرى للبخاري قال عبدالله بن عتيك قلت: يا أبا رافع قال: من هذا؟
قال فعمدت نحو الصوت فأضربه وصاح فلم تغن شيئاً، ثم جئت كأني اغيثه.
فقلت: مالك يا أبا رافع وغيرت صوتي
فقال: ألا أعجبك لأمك الويل دخل علي رجل فضربني بالسيف قال: فعمدت له أيضاً فأضربه أخرى فلم تغن شيئاً، فصاح وقام أهله، ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث فإذا هو مستلق على ظهره فأضع بالسيف في بطنه ثم انكفئ عليه حتى سمعت صوت العظم...(2).
وقد ذكرت كتب السيرة أن امرأة أبي رافع حينما ضرب بالسيف صاحت فأراد قتلها ثم كف عن ذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهاهم عن قتل النساء والصبيان(3) وأن ابن عتيك كان يرطن بلغة اليهود وأنه استخدمها مع زوجة أبي رافع اليهودي وأهل بيته.
__________
(1) البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي رافع (5/33) رقم 4039.
(2) البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي رافع (5/34) رقم 4040.
(3) انظر: شرح المواهب اللدينة (2/168).(8/45)
ويذكر كتاب السيرة أن سرية ابن عتيك كلها شاركت في ضرب أبي رافع وأن كل واحد منهم ادعى انه ضربته كانت هي القاضية على أبي رافع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عجلوا بأسيافكم) فأتوا بأسيافهم فنظروا إليها، ثم قال:(هذا قتله)، وهو سيف عبدالله بن أنيس، هذا أثر الطعام في سيف عبدالله بن أنيس(1) وقد يتوهم القارئ الكريم أن هناك تناقضاً بين رواية البخاري ورواية كتب السيرة الأخرى التي تقول أن الضربة القاضية كانت من عبدالله بن أنيس والحق أنه ليس كذلك، ذلك لأن عبدالله بن عتيك يخبر عن نفسه وأنه غلب على ظنه أنه هو القاتل وأنه قد حكى عن دوره في ضرب اليهودي أبي رافع، ولايعني هذا أن غيره لم يشارك في قتله، إذ لم ينف هو مشاركة غيره له في قتل أبي رافع، والروايات يفسر بعضها بعضاً ويشرح بعضها بعضاً والروايات تذكر أن كل واحد من أفراد السرية كان يدعى أن ضربته هي القاضية والمميتة لأبي رافع، وقد نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعواهم وفحص سيوفهم وحكم بعد ذلك بأن الضربة القاضية كانت بسيف عبدالله بن أنيس رضي الله عنه لظهور أثر الطعام عليه، أي أن هذا السيف قد دخل جوف أبي رافع ومزق أحشاءه وقطع أمعاءه وخلط غذاءه في جوفه(2).
وقد ذكرت كتب السيرة أسماء سرية عبدالله بن عتيك وهم: مسعود بن سنان، عبدالله بن أنيس، الحارث بن ربعي أبو قتادة، خزاعي بن أسود(3).
وفي هذه السرية دروس وعبر كثيرة منها:
__________
(1) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/91-92)؛ المغازي للواقدي (1/294)؛ المغاز النبوية للزهري، ص114.
(2) انظر: الصراع مع اليهود (1/189).
(3) انظر: صلح الحديبية ، باشميل، ص91.(8/46)
1-إن كل أعضاء هذه السرية كانوا من الخزرج فقد حرصوا على أن ينافسوا إخوانهم من الأوس الذين قتلوا كعب بن الأشرف فقد كانوا كفرسي رهان في المسابقة في الخيرات فهم لايتنافسون على اغتنام مظاهر الحياة الدنيا من المال والمناصب، وإنما يتسابقون إلى الفوز بمرضاة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي مآلها رضوان الله تعالى والسعادة الأخروية(1).
قال كعب بن مالك: وكان مما صنع الله تعالى به لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن هذين الحيين من الأنصار، الأوس والخزرج كان يتصولان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصاول الفحلين -يعني يتسابقان في خدمته- لايصنع الأوس شيئاً فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غناء إلا قالت الخزرج: والله لاتذهبون بهذه فضلاً علينا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الإسلام، قال: فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها وإذا فعلت الخزرج شيئاً قالت الأوس مثل ذلك(2).
2-فائدة لغة العدو: فقد استطاع عبدالله بن عتيك أن يصعد إلى حصن أبي رافع وأن يخاطب امرأته وأن يدخل بيته مطمئناً لأنه خاطبه بلغته لغة اليهود في ذلك الوقت، ويؤخذ من ذلك استحباب تعلم لغة غير المسلمين لاسيما الأعداء منهم وخاصة لأولئك العسكريين الذين يذهبون لمهمات استطلاعية تجمع أخبار العدو وتزود القيادة بها، والقيادة ترسم(3).
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي (6/177).
(2) انظر: السيرة لابن هشام (6/177).
(3) انظر: الصراع مع اليهود (1/191).(8/47)
3-عناصر نجاح خطة ابن عتيك في قتل أبي رافع اليهود: ذهابه لوحده، فقد قرر أن يذهب وحيداً إلى الحصن ويحاول أن يدخله ومن ثم يفتش عن طريقة يدخل بها أفراد سريته، تصرفه العادي الذي لم يلفت انتباه أحد من الحراس، قدرته على التمويه على الحارس، وإيهامه أنه يقضي حاجته وهذا منع الحارس من النظر إليه وتفحصه وتفرسه في وجهه، مراقبة حركة الحارس الدقيقة بعد دخول الحصن وإغلاقه فقد كمن في مكان لم يشعر به الحارس وراقب الحارس حتى وضع مفتاح الحصن في مكان معين وتابعه حتى انصرف، وأخذ المفتاح وأصبح يستخدمه كيفما يشاء وفي أي وقت شاء(1).
4-عناية الله عزوجل بأوليائه المؤمنين، فهذا الصحابي الجليل استمر بعون من الله تعالى يمشي ويبذل طاقته حتى بعد أن أصيبت رجله، وكأنه لايشكو من علة حتى إذا انتهت مهمته تماماً وأصبح غير محتاج لبذل الجهد عاد إليه الألم، وحمله أصحابه، فلما حدّث النبي - صلى الله عليه وسلم - خبره قال له: ابسط رجلك، قال فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم اشتكها قط(2).
5-فوائد من القصة استخرجها ابن حجر حيث قال: وفي هذا الحديث من الفوائد جواز اغتيال المشرك الذي بلغته الدعوة وأصر، وقتل من أعان على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده أو ماله أو لسانه، وجواز التجسس على أهل الحرب وتطلب غرتهم، والأخذ بالشدة في محاربة المشركين، وجواز إيهام القول للمصلحة، وتعرض القليل من المسلمين للكثير من المشركين والحكم بالدليل والعلامة لاستدلال ابن عتيك على أبي رافع بصوته واعتماده على صوت الناعي بموته والله أعلم(3).
__________
(1) نفس المصدر (1/192،193).
(2) البخاري، المغازي رقم 4039.
(3) فتح الباري (7/345).(8/48)
6-وجود عبدالله بن أنيس جنديا في هذه السرية، وليس أميراً فيها له دلالته الكبرى في عملية التربية والتعليم، فهو العقبى البدري، المصلي للقبلتين فهو من السابقين الأولين من الأنصار، وليس عبدالله بن أنيس نكرة في مجال الجهاد والبطولات، فلابد أن نذكر أنه السرية وحده الذي ابتعثه رسول الله إلى اغتيال سفيان بن خالد الهذلي في أطراف مكة، وهو الذي كان يعد العدة لغزو المدينة وهو الذي نجح نجاحاً باهراً في مهمته تلك، وقتله في فراشه وداخل خيمته، وأعجز قومه هرباً، وعاد منتصراً مظفراً، فهو ملئ بالمجد، ومع ذلك فلم يكن أمير المجموعة، إنما كان أحد أفرادها، وهو يحمل هذا التاريخ المشرق في سجلاته عند ربه عز وجل قبل أن يكون عند الناس.
وهو درس تربوي خالد قد استوعبه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا النوع من التربية لامثيلاً له في عالم الأرض، فالذي يحكم في الجيوش تسلسل الرتب، حتى أن الرتبة الواحدة يحكم فيها المتقدم بالمستجد، وعلى المستجد السمع والطاعة للمتقدم ولو بأشهر. وبهذا المنطق لايجوز أن يتقدم على عبدالله بن أنيس أحد، ولكنها التربية النبوية العظيمة التي خطها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من موقع، لتجعل هذا الجيل يتعلم من سابقه ويتدرب على يديه، فطالما أرسل عليه الصلاة والسلام - سرايا فيها أبو بكر وعمر جنديان عاديان، في غمار الجنود(1).
ثانياً: سرية عبدالله بن رواحة إلى اليُسير بن رِزَام اليهودي:
__________
(1) انظر: التربية القيادية (4/148).(8/49)
بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن اليسير بن رزام أمير اليهود بخيبر بعد سلام بن أبي الحقيق، أخذ في جمع يهود الشمال وتحريضهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكتف بذلك، بل بدأ بتأليب قبائل غطفان وجمعها لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحين علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مايبيته اليهود له من الخديعة والمكر رأى - صلى الله عليه وسلم - أن يتأكد من ذلك قبل أن يقدم على أمر ما، فأرسل عبدالله ابن رواحة في نفر من المسلمين، رواداً يكتشفون ماتخبئه يهود ومن لف لفها من مشركي العرب(1).
__________
(1) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (1/388،389).(8/50)
وقد تأكدت المخابرات النبوية من أمر اليُسير بن رِزَام وكان هذا كافياً لقيام النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعث سرية في ثلاثين راكباً عليهم عبدالله بن رواحة، وفيهم عبدالله بن أنيس، فأتوه فقالوا: أرسلنا إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليستعملك على خيبر، فلم يزالوا به حتى تبعهم في ثلاثين رجلاً مع كل رجل منهم رديف من المسلمين، وكان هو رديف عبدالله بن أنيس على بعيره، حتى إذا كانوا بَقْرقَرة ثيار على ستة أميال من خيبر، ندم اليسير على مسيره إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأهوى بيده على سيف رديفه ابن أنيس، ففطن له، فاقتحم به، ثم ضربه بالسيف، فقطع رجله وضربه اليسير بِمِخْرَش(1) في يده من شواحط(2)، فضرب به وجه عبدالله فأمه(3)، ومال كل رجل من المسلمين على رديفه من اليهود فقتله، إلا رجلاً واحداً أفلت على رجليه، فلما قدم ابن أنيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفل على شجنه، فلم تقح ولم تؤذه(4).
وكانت هذه السرية في شوال سنة ست من الهجرة(5).
وفي هذه السرية دروس وعبر منها:
1-كانت الخطة النبوية هي محاولة إيقاف نهر الدم بين اليهود والمسلمين ابتداءً، فقد كان دور عبدالله بن رواحة في هذا الاتجاه، غير أن الحقد اليهودي الذي أشرب قلوبهم والسم الذي ينفثونه على المسلمين، هو الذي غلب آخر الأمر، وأفسد الخطة كلها، فقد حاولوا الغدر بالمسلمين فوقعت الدائرة عليهم.
__________
(1) المخرش: شبه المقرعة يضرب به، وهي معوجة الرأس.
(2) الشواحط: شجر ابن النبع، من أشجار الجبال التي يتخذ منها الفنسي.
(3) فأمه: أي جرحه في رأسه، والشجة المأمومة هي التي تبلغ أم الرأس.
(4) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص477.
(5) نفس المصدر، ص477.(8/51)
2-إن البأس في الحرب مالم تكن غليظة وشديدة، فلن تحسم المواجهة مع العدو، وستجعل الحرب تفنى كل شيء وتأكل كل شيء، فلابد من بث الرهبة والرعب في قلب العدو، ولابد من الشدة معه حين لايجدي الحوار أو المناقشة، ولابد من الغلظة التي تشعر العدو أن من يقاتله لايخشى في الله لومة لائم.
3-شهد العام السادس من الهجرة تصعيداً عنيفاً في عمليات المواجهة مع العدو، ولايكاد يمر شهر دون سرية أو سريتين تضرب في الصحراء،وتفض جمعاً أو تحطم عدواً أو تغتال طاغوتاً، فقد كان شعار المرحلة: الآن نغزوهم ولايغزونا، فقد كان حزب الله ينطلق في الآفاق باسم الله، يحمل المبادئ الخالدة، والقيم العليا يقدمها للخلق كافة، ويزيح كل طاغوت يحول دون وصول هذه المبادئ، ونشهد حزب الله في أفراده جميعاً والذين تلقوا أعلى مستويات التربية الخلقية، والفكرية، والعسكرية، والسياسية، كيف ينفذون هذا المنهج وكيف يكون واقعهم ترجمة عملية وحية لمبادئهم، وكيف يتقدمون ليتصدروا مرحلة جديدة تبدأ معالمها وملامحها مع صلح الحديبية(1).
الفصل الثالث عشر
الفتح المبين
(صلح الحديبية)
المبحث الأول
تاريخه وأسبابه ومخرج رسول الله إلى مكة
أولاً: تاريخه وأسبابه:
__________
(1) انظر: التربية القيادية (4/189 الى 192).(8/52)
في يوم الاثنين الأول من ذي القعدة سنة 6هـ(1)، خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المدينة متوجهاً بأصحابه إلى مكة لأداء العمرة(2). وسبب هذه الغزوة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رؤيا في منامه -وهو في المدينة- وتتلخص هذه الرؤيا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أنه قد دخل مكة مع أصحابه المسلمين محرماً مؤدياً للعمرة، وقد ساق الهدي معظماً للبيت مقدساً له، فبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ففرحوا بها(3)، فرحاً عظيماً فقد طال عهدهم بمكة والكعبة التي رضعوا بلبان حبها ودانوا بتعظيمها، ومازادهم الإسلام إلا ارتباطاً بها وشوقاً اليها، وقد تاقت نفوسهم إلى الطواف حولها، وتطلعت اليه تطلعاً شديداً، وكان المهاجرون أشدهم حنيناً إلى مكة، فقد ولدوا ونشأوا فيها وأحبوها حباً شديداً، وقد حيل بينهم وبينها، فلما أخبرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، تهيؤا لتلك الزيارة العظيمة(4)، واستنفر - صلى الله عليه وسلم - أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه، لأنه كان يخشى أن تصده قريش عن البيت الحرام، وكانت استخبارات المدينة قد علمت بأمر التحالف العسكري الذي عقد بين قريش في جنوب المدينة المنورة وخيبر في شمالها وكان هدف هذا التحالف جعل الدولة الإسلامية بين طرفي الكماشة، ثم إطباق فكيها عليها وإنهاء الوجود الإسلامي فيها، فقد حان الوقت لكسر ذلك التحالف سياسياً، فقد كانت الكعبة في نظر العرب قاطبة ليست ملكاً لقريش، بل هي تراث أبيهم إسماعيل، ولهذا فليس من حق قريش أن تمنع من زيارتها من تشاء، وتجيز من تشاء، فإذن من حق محمد وأصحابه زيارة الكعبة(5).
__________
(1) أجمع أهل العلم على تاريخها بدون خلاف. انظر: المجموع للنووي (7/78).
(2) انظر: نظرة النعيم (1/334).
(3) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (2/495).
(4) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص273.
(5) قراءة سياسية للسيرة النبوية، ص213، 214.(8/53)
وانتشر خبر خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين قبائل العرب، وكان انتشار الخبر له أثر في الرأي العام وخصوصاً بعدما أكد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه لايريد حرباً وإنما يريد أن يعتمر ويعظم شعائر الله، وحقق هذا الفعل الكريم مكاسب إعلامية رفيعة المستوى، وقد كان هدف النبي - صلى الله عليه وسلم - معلناً ألا وهو زيارة بيت الله الحرام لأداء العمرة، فتجرد هو وأصحابه من المخيط، ولبسوا ثياب الإحرام وأحرم بالعمرة من ذي الحليفة بعد أن قلد الهدي وأشعره(1).
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - على جانب كبير من الحيطة والحذر، فقد أرسل بشراً بن سفيان الخزاعي عيناً له(2)، وقدّم بين يديه طليعة استكشافية مكوّنة من عشرين رجلاً وفي ذلك يقول الواقدي: (دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبّاد بن بشر فقدّمه أمامه طليعة في خيل المسلمين عشرين فارساً وكان فيها رجال من المهاجرين والأنصار)(3) وكان هدفه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الاستعداد للطوارئ التي يمكن أن يفاجأ بها -وأيضاً- فقد كانت مهمة هذه الطليعة استكشاف خبر العدو(4).
__________
(1) أشعره: إشعار البدن أن يشق أحد جنبي سنام البدنة حتى يسيل دمها. مرويات الحديبية، ص55.
(2) انظر: مرويات غزوة الحديبية للحكمي ، ص58،59.
(3) انظر: مغازي الواقدي (2/974).
(4) انظر: صلح الحديبية، محمد باشميل، ص309.(8/54)
وأخذ - صلى الله عليه وسلم - بمشورة عمر في ذي الحليفة عندما قال له:يارسول الله تدخل على قوم هم لك حرب بغير سلاح ولاكراع؟ فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة من يحمل له الكراع والسلاح(1) وكان قصده - صلى الله عليه وسلم - من ذلك: الاستعداد لهؤلاء الأعداء، الذين يملكون السلاح والعتاد مايستطيعون به إلحاق الأذى بالمسلمين والنيل منهم(2)، وهذا التعامل مع سنة الأخذ بالأسباب من هديه الكريم الذي جعله لأمته لتقتدي به من بعده - صلى الله عليه وسلم - لما في ذلك من المصالح الكثيرة، ولما فيه من درء مكايد الأعداء الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر(3).
ثانياً: وصول النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان:
لما وصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي الخزاعي، فقال: يارسول الله، هذه قريش قد سمعت بمسيرك ومعها العوذ المطافيل(4)، قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله ألا تدخلها عليهم عنوة أبداً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ياويح(5) قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون(6)، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش؟ والله إني لاأزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له أو تنفرد هذه السالفة(7).
__________
(1) تاريخ الطبري (2/622).
(2) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص489.
(3) نفس المصدر، ص489.
(4) المراد: خرجوا ومعهم النساء والأولاد لئلا يفروا عنهم وهو على الاستعارة.
(5) ياويح: كلمة ترحم وتوجع. انظر: لسان العرب (3/996).
(6) وافرون: جمع وافر وهوالذي لم ينقص منه شيء. لسان العرب (3/958).
(7) البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد ((3/237) رقم 2732.(8/55)
وقد استشار - صلى الله عليه وسلم - أصحابه لما بلغه خبر استعداد قريش لصده عن دخول البيت الحرام وعرض - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة رضي الله عنهم المشورة في هذا الأمر على رأيين يحملان العزم والتصميم:
1-الميل إلى عيال وذراري الأحابيش الذين خرجوا لمعاونة قريش على مقاتلة المسلمين وصدهم عن البيت.
2-قصد البيت الحرام فمن صدّه عنه قاتله حتى يتمكن من تحقيق هدفه(1) ولما عرض - صلى الله عليه وسلم - المشورة في هذا الأمر على الصحابة تقدم أبو بكر الصديق برأيه الذي تدعمه الحجة الواضحة، حيث أشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بترك قتالهم والاستمرار على ماخرج له من أداء العمرة حتى يكون بدء القتال منهم، فاستحسن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الرأي وأخذ به وأمر الناس أن يمضوا في هذا السبيل(2)، وعندما اقتربت خيل المشركين من المسلمين صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه صلاة الخوف بعسفان.
ثالثاً: الرسول - صلى الله عليه وسلم - يغير الطريق وينزل بالحديبية:
ولما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قريشاً قد خرجت تعترض طريقه، وتنصب كميناً له ولأصحابه بقيادة خالد بن الوليد، وهو لم يقرر المصادمة، رأى أن يغير طريق الجيش الإسلامي تفادياً للصدام مع المشركين. فقال: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟ فقال رجل من أسلم: أنا يارسول الله، فسلك بهم طريقاً وعراً بين شعاب شق على المسلمين السير فيه حتى خرجوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي. وعند ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس: قولوا نستغفر الله ونتوب إليه، فقالوا ذلك.
فقال: والله إنها الحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها(3).
__________
(1) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ص489.
(2) انظر: ملامح الشورى في الدعوة الاسلامية للشيخ عدنان النحوي، ص160.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/338).(8/56)
فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس أن يسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمش في طريق تخرجه إلى ثنية المرار، فهبط الحديبية من أسفل مكة، فسلك الجيش ذلك الطريق بخفة ودون أن يشعر به أحد، فما نظر خالد إلا وقترة جيش المسلمين قد ثارت، فعاد مسرعاً هو ومن معه إلى مكة يحذر أهلها ويأمرهم بالاستعداد لهذا الحدث المفاجئ(1) وقد أصاب الذعر المشركين وفوجئوا بنزول الجيش الإسلامي بالحديبية حيث تعرضت مكة للخطر وأصبحت مهددة من المسلمين تهديداً مباشراً(2)، يقول اللواء محمود شيت في هذا الدرس الرائع: لم تكن حركة المسلمين على هذا الطريق خوفاً من قوات الجيش، فالذي يخاف من عدوه لايقترب من قاعدته(3) الأصلية، وهي مركز قواته، بل يحاول الابتعاد عن قاعدة العدو الأصلية حتى يُطيل خط مواصلات العدو، وبذلك يزيد من صعوباته ومشاكله ويجعل فرصة النصر أمامه أقل من حالة الاقتراب من قاعدته الأصلية(4).
وقد جاء في كتاب اقتباس النظام العسكري في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مايُبين الحكمة من تغيير الطرق مانصه: ويؤخذ من إتخاذ الأدلة والتحول إلى الطرق الآمنة أن القيادة الواعية البصيرة، تسلك في سيرها بالجيش بعيدة عن المخاطر والمهالك، وتتجنب الدروب التي تجعل الجيش خاضعاً تحت تصرفات العدو وهجماته(5).
رابعاً: ماخلأت القصواء، وماذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل:
__________
(1) غزوة الحديبية لأبي فارس، ص39.
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ، ص374.
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص374.
(4) انظر: الرسول القائد، شيت خطاب، ص186-187.
(5) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص374 نقلاً عن اقتباس النظم العسكرية، ص258.(8/57)
وعندما اقترب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية بركت ناقته القصواء، فقال الصحابة رضي الله عنهم: خلأت القصواء(1)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ماخلأت القصواء، وماذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل. ثم قال: والذي نفسي بيده، لايسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها(2)، ثم زجرها فوثبت، ثم عدل عن دخول مكة وسار حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد -بئر- قليل الماء، مالبثوا أن نزحوه ثم اشتكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العطش، فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فجاش لهم بالري فارتووا جميعاً(3)، وفي رواية أنه جلس على شفة البئر فدعا بماء فمضمض ومج في البئر(4) ويمكن الجمع بأن يكون الأمران معاً وقعا، كما ذكر ابن حجر(5) ويؤيده ماذكره الواقدي(6) وعروة(7) من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تمضمض في دلو وصبه في البئر ونزع سهماً من كنانته فألقاه فيها ودعا ففارت(8). وفي بروك ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقسمه بعد ذلك دروس وعبر منها:
1-كل شيء في هذا الكون يسير بأمر الله ومشيئته، ولايخرج في سيره عن مشيئته وإرادته، فتأمل في ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أين بركت، وكيف كره الصحابة بروكها وحاولوا انهاضها لتستمر في سيرها، فيستمروا في سيرهم إلى البيت العتيق مهما كانت النتائج، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد غير ذلك(9).
__________
(1) بركت وحرتت من غير علة ظاهرة، فلم تبرح مكانها.
(2) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص484.
(3) نفس المصدر ، ص484.
(4) الفتح (14/758) رقم 3577.
(5) الفتح (11/164) رقم 2731، 2732.
(6) المغازي (2/588).
(7) من رواية أبي الأسودعنه كما ذكر ابن حجر في الفتح (11/164).
(8) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص484.
(9) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص43.(8/58)
2-وقد استنبط ابن حجر العسقلاني رحمه الله فائدة جليلة من قوله - صلى الله عليه وسلم -: حبسها حابس الفيل(1)، فقال: وفي هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة، وإن اختلفت الجهة الخاصة، لأن أصحاب الفيل كانوا على باطل محض، وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض، لكن جاء التشبيه من جهة إرادة الله منع الحرم مطلقاً، أما من أهل الباطل فواضح، وأما من أهل الحق فللمعنى الذي تقدم ذكره(2).
3-ومن الفوائد أن المشركين، وأهل البدع والفجور، والبغاة والظلمة، إذا طلبوا أمراً يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى، اجيبوا إليه وأعطوه، وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيعانون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوب تعالى مرضٍ له، أجيب إلى ذلك كائناً من كان، مالم يترتب على اعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضيع وأصعبها، وأشقها على النفوس(3).
4-إن الله سبحانه وتعالى، جلت قدرته، وعزت عظمته قضى ألا يكون قتال بين المسلمين والمشركين من أهل مكة في هذه الغزوة بالذات لحكم ظهرت فيما بعد منها:
أ-دخول المسلمين بالقوة يعني أن تحدث مذابح، وتزهق أرواح كثيرة، وتسفك دماء غزيرة من الطرفين، وهذا أمر لم يرده البارئ سبحانه، وكان لمصلحة الفريقين المؤمنين والمشركين.
__________
(1) انظر: ابن حجر فتح الباري (6/260).
(2) نفس المصدر (6/61).
(3) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص47.(8/59)
ب-إن من المحتمل أن ينال الأذى والقتل والتشريد على أيدي المؤمنين بعض المستضعفين من اخوانهم المسلمين في مكة، وهذا فيه مافيه من المعرة التي لايليق بمسلم أن يقع فيها، قال سبحانه:{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (سورة الفتح، آية:25).
جـ-لقد سبق في علم الله عزوجل أن هؤلاء الذين يقفون اليوم صادين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم عن المسجد الحرام، هم الذين سيفتح الله قلوبهم إلى الإسلام، ويسفتح الله على أيديهم بلاداً كثيرة، حين يحملون هذه الرسالة للناس، وينيرون ظلمة الطريق للمدلجين(1).
خامساً: السفارة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقريش:
بذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مافي وسعه لإفهام قريش أنه لايريد حرباً معهم، وإنما يريد زيارة البيت الحرام وتعظيمه وهو حق للمسلمين، كما هو حق لغيرهم، وعندما تأكدت قريش من ذلك أرسلت إليه من يفاوضه ويتعرف على قوة المسلمين ومدى عزمهم على القتال إذا ألجئوا إليه، وطمعاً في صد المسلمين عن البيت بالطرق السليمة من جهة ثالثة(2).
1-ركب من خزاعة بقيادة بُدَيْل بن ورقاء:
__________
(1) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص45.
(2) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص485.(8/60)
جاء بُديل بن وَرْقَاء في رجال من خزاعة، وكانت خزاعة عَيْبة(1) نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل تهامة، وبينوا أن قريشاً تعتزم صد المسلمين عن دخول مكة، فأوضح لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - سبب مجيئة وذكر لهم الضرر الذي وقع على قريش من استمرار الحرب، واقترح عليهم أن تكون بينهم هدنة إلى وقت معلوم حتى يتضح لهم الأمر، وإن أبوا فلا مناص من الحرب ولو كان في ذلك هلاكه، فنقلوا ذلك إلى قريش(2)، وقالوا لهم: يامعشر قريش إنكم تعجلون على محمد، إن محمداً لم يأت لقتال وإنما جاء زائراً هذا البيت، فاتهموهم وخاطبوهم بما يكرهون، وقالوا: وإن كان إنما جاء لذلك فلا والله لايدخلها علينا عنوة أبداً ولاتتحدث بذلك العرب(3) وقد ظهرت براعة النبي - صلى الله عليه وسلم - السياسية في عرضه على مشركي مكة الهدنة والصلح لأن في ذلك فوائد كثيرة منها:
أ-فبالهدنة يضمن حياد قريش ويعزلها عن أي صراع يحدث في الجزيرة العربية سواء كان هذا الصراع مع القبائل العربية الأخرى أم مع اليهود ذلك العدو اللئيم الغادر الذي يتربص بالمسلمين الدوائر.
ب-حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن يبقى باب الاتصال مفتوحاً بينه وبين قريش، ليسمع منهم ويسمعوا منه بواسطة الرسل، والسفراء، وفي هذا تقريب للنفوس وتبريد لجو الحرب، واضعاف لحماسهم نحو القتال.
جـ-حرص - صلى الله عليه وسلم - على أن تدرك خزاعة بقيادة بديل والركب الذي معه أن حليفهم قوي، فتزداد ثقتهم به وحلفهم له ولبني هاشم من قبل الإسلام، فقد بقي ولم يلغ وتأكد في صلح الحديبية.
__________
(1) أي خاصة وأصحاب سره.
(2) البخاري، كتاب الشروط رقم 2731، 2732.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/340).(8/61)
د-إن العقلاء الذين يفكرون بعقولهم حين يسمعون كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه جاء معظماً للبيت والمشركون يردونه، وهو يصر على تعظيمه، سيقف هؤلاء بجانبه ويتعاطفون معه فيقوي مركزه، ويضعف مركز قريش الإعلامي والديني في نفوس الناس.
هـ-إن مشركي مكة لم يطمئنوا إلى كلام بديل الذي نقله إليهم، ذلك لأنهم يعلمون أن خزاعة كانت عيبة نصح لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويشعرون بود خزاعة للرسول والمسلمين(1).
و-ويؤخذ من جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبديل بن ورقاء حسن التلطف في الوصول إلى الطاعات وإن كانت غير واجبة، مالم يكن ذلك ممنوعاً شرعاً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب المشركين لما طلبوا منه، ولم يظهر لهم مافي النفوس من البغض لهم والكراهية فيهم لطفاً منه، عليه السلام فيما يؤمل من البلوغ إلى الطاعة التي خرج إليها(2).
2-سفارة عروة بن مسعود الثقفي:
__________
(1) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص67.
(2) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص68.(8/62)
لم تقبل قريش مانقله بديل بن ورقاء الخزاعي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه جاء زائراً للبيت ولم يأت مقاتلاً، واتهمتهم، بل وأسمعتهم مايكرهون فاقترح عليهم عروة بن مسعود الثقفي أن يقابل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويسمع منه، ثم يأتيهم بالخبر اليقين(1) وقد ذكر ذلك البخاري في صحيحه فقال: ... فقام عروة بن مسعود فقال: أيْ قوم، ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أولست بالولد؟ قالوا: بلى قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال، ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ(2)، فلما بلحوا(3) علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإنّ هذا عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته، قالوا: ائته، فأتاه فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - نحواً من قوله لبديل(4)، فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن الأخرى فإنني والله لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أشوابا(5) من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك. فقال أبو بكر: أمصص بظر(6) اللات، أنحن نفرُّ عنه وندعه؟(7) فقال من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
__________
(1) نفس المصدر، ص68.
(2) اسم سوق من أسواق العرب في الجاهلية في شمال الطائف يعقد كل عام.
(3) بلحوا علي: أبَوا، كأنهم أعيوا عن الخروج معه وإعانته.
(4) البخاري، كتاب الشروط في الجهاد (3/236) رقم 2732.
(5) أشوابا: أي أخلاطاً من قبائل شتى.
(6) البظر: ماتقطعه الخاتنة من بضع المرأة عند ختانها.
(7) البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد (3/237) رقم 2732.(8/63)
لقد حاول عروة بن مسعود أن يشن على المسلمين حرباً نفسية حتى يهزمهم معنوياً، فاستخدم عنصر الاشاعة ويظهر ذلك عندما لوح بقوة قريش العسكرية، معتمداً على المبالغة في تصوير الموقف بأنه سيؤول لصالح قريش لامحالة، وذلك وأن يوقع الفتنة والإرباك في صفوف المسلمين وذلك حينما حاول إضعاف الثقة بين القائد وجنوده عندما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك حاول ذلك من أجل التأثير على نفسيات المسلمين ولخدمة أهداف قريش العسكرية والإعلامية، وحاول -أيضاً- أن يفتعل أزمة عسكرية كبيرة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وجنوده من أجل التأثير على معنوياتهم وتحطيم عزائمهم. وهذا من أقوى أساليب الحرب النفسية التي استخدمت ضد المسلمين أثناء تلك المفاوضات وحاول عروة أن يثير الرعب وذلك بتخويف المسلمين من قوة قريش التي لاتقهر، وتصوير المعركة بأنها في غير صالحهم. لقد مارس عروة بن مسعود في مفاوضاته عناصر الحرب النفسية من إشاعة وافتعال الأزمات وإثارة الرعب(1) إلا أن تلك العناصر تحطمت أمام الإيمان العميق والتكوين الدقيق والصف الإسلامي المرصوص ومن المفارقات الرائعة التي حصلت أثناء المفاوضات مع عروة بن مسعود وهي من عجائب الأحداث التي يستشف منها الدليل القاطع على قوة الإيمان التي كانت يتمتع بها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى قدرة هذا الدين من تحويل الإنسان من شيطان مريد إلى إنسان فاضل نبيل، حيث كان أحد الذين يتولون حراسة النبي - صلى الله عليه وسلم - أثناء محادثاته مع عروة بن مسعود الثقفي في الحديبية هو المغيرة بن شعبة(2)، ابن أخ عروة بن مسعود نفسه، وكان المغيرة هذا قبل أن
__________
(1) انظر: منهج الأعلام الاسلامي في صلح الحديبية، سليم حجازي، ص131،132.
(2) أسلم قبل عمرة الحديبية وشهدها وشهد بيعة الرضوان، أصبيت عينه في اليرموك وكان رسول سعد بن أبي وقاص الى رستم. الإصابة(3/452).(8/64)
يهديه الله للإسلام شاباً فاتكاً سكيراً، قاطعاً للطريق، غير أن دخوله للإسلام حوله إلى إنسان آخر وقد أصبح بفضل الله تعالى من الصفوة المؤمنة، وقد وقع عليه الاختيار ليقوم بمهام حراسة النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الجو الملبد بغيوم الحرب، وكان من عادة الجاهلية في المفاوضات، أن يمسك المفاوض بلحية الذي يراه نداً له أثناء الحديث، وعلى هذه القاعدة كان عروة بن مسعود يمسك بلحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أثناء المناقشة، الأمر الذي أغضب المغيرة بن شعبة الذي كان قائماً على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيف يحرسه وعلى وجهه المغفر فانتهر عمه وقرع يده بقائم السيف قائلاً له: أكفف يدك عن مس لحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن لا تصل إليك. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبتسم للذي يجري بين عروة المشرك وبين ابن أخيه المؤمن، ولما كان المغيرة بن شعبة يقف بلباسه الحربي متوشحاً بسيفه ودرعه وعلى وجهه المغفر، فإن عمه عروة لم يكن باستطاعته معرفته، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في أشد الغضب: ليت شعري من أنت يامحمد من هذا الذي أرى من بين أصحابك؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة، فقال له عمه: وأنت بذلك ياغدر؟ لقد أورثتنا العداوة من ثقيف أبد الدهر، والله ماغسلت غدرتك إلا بالأمس كان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء(1).
__________
(1) البخاري، كتاب في الشروط (3/238) رقم 2732.(8/65)
لقد فشل عروة في مفاوضاته ورجع محذراً قريش من أن تدخل في صراع مسلح مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وقال لهم: ... ياقوم، إني قد وفدت على الملوك على كسرى، وهرقل، والنجاشي وإني والله مارأيت ملكاً قط أطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمد وأصحابه، والله مايشدون إليه النظر، ومايرفعون عنده الصوت، ومايكفيه إلا أن يشير إلى أمر فيفعل، وما يتنخم وما يبصق إلاّ وقعت في يدي رجل منهم يمسح بها جلده، ومايتوضأ إلا ازدحموا عليه أيُهُم يظفر منه بشئ. وقد حزرت القوم، واعلموا إنكم إن أردتم السيف، بذلوه لكم، وقد رأيت قوماً مايبالون مايُصنعُ بهم، إذا منعوا صاحبهم، والله لقد رأيت نسياتُ معه، إن كنّ ليسلمنه أبداً على حال، قرّوا رأيكم، وإياكم وإضجاع(1) الرأي فمادوه ياقوم. اقبلوا ماعرض فإني لكم ناصح مع اني أخاف ألا تُنْصَروا عليه: رجل أتى هذا البيت معظماً له، معه الهدي، ينحره وينصرف! فقالت قريش: لاتكلم بهذا يا أبا يعفور(2)، لو غيرك تكلم بهذا للمناه ولكن نُرَدهُ عن البيت في عامنا هذا ويرجع قابل(3).
__________
(1) إضجاع الرأي: أي الوهن في الرأي.
(2) أبا يعفور: كنية عروة بن مسعود الثقفي.
(3) انظر: مغازي الواقدي (2/598).(8/66)
لقد انتقلت الحرب النفسية وتأثيرها في صفوف المسلمين لتعمل داخل جبهة قريش وفي نفوسهم، فقد كان تصوير عروة لما رآه صادقاً حيث بين لقريش وضع المسلمين في الحديبية، من طاعتهم لنبيهم الكريم، وحبهم له، وتفانيهم بالدفاع عنه، وبما يتمتعون به من معنويات عالية جداً، واستعداد عسكري ونفسي يفوق الوصف، فكان ذلك بمثابة التحذير الفعلي لقريش بعدم التعجُّل والدخول في حرب مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، مما قد تكون نتائج هذه المعركة لصالح المسلمين، الأمر الذي أسقط في أيدي زعمائها، ولم تكن قريش تتوقعه أبداً في تقويمها للأمور. لقد كان وقع كل كلمة قالها سيد ثقيف كالصاعقة على مسامع نفوس زعماء قريش، لقد كان - صلى الله عليه وسلم - موفقاً من قبل الله تعالى، ولذلك نجد أثره على عروة بن مسعود مما جعل الانشقاق يدب في معسكر قريش وأخذت جبهة قريش تتداعى أمام قوة الحق الصامدة، وكذلك فقد انهارت حُجة قريش في جمعها للعرب ضد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
لقد نجح النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكمته وذكائه نجاحاً عظيماً، باستخدام الأساليب الإعلامية والدبلوماسية المتعددة للحصول على الغاية المنشودة، وهي تفتيت جبهة قريش الداخلية، وإيقاع الهزيمة في نفوسهم، وإبعاد حلفائهم عنهم وإن هذه النتيجة لتعد بحق نصراً ساحقاً حققه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجبهات السياسية والإعلامية والعسكرية(1).
3-سفارة الحُليس بن علقمة:
__________
(1) انظر: منهج الأعلام الاسلامي في صلح الحديبية، ص145.(8/67)
ثم بعثوا الحُليس بن علقمة الكناني سيد الأحابيش، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه(1)، وأمر برفع الصوت في التلبية، فلما رأى الحليس الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، رجع إلى قريش قبل أن يصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك إعظاماً لما رأى(2)، فقد كان الوادي مجدباً لا ماء فيه ولامرعى وقد أكل الهدي أو باره من طول الحبس عن محله، ورأى المسلمين وقد استقبلوه رافعين أصواتهم بالتلبية وهم في زي الإحرام، وقد شعثوا من طول المكوث على إحرامهم ... ولذلك استنكر تصرف قريش بشدة، وانصرف سيد بني كنانة عائداً من حيث أتى دون أن يفاتح النبي - صلى الله عليه وسلم - بشئ أو أن يفاوضه كما كان مقرراً من قبل، واعتبر عمل قريش عدوانياً ضد زوار بيت الله الحرام ولايجوز لأحد أن يؤيدها أو أن يناصرها على ذلك(3)، فرجع محتجاً على قريش التي أعلنت غضبها لصراحة الحليس وحاولت أن تتلافى هذا الموقف الذي يهدد بانقسام خطير في جبهة قريش العسكرية، ونسف الحلف المعقود بين قريش والأحابيش، وقالوا لزعيم الأحابيش: إنما كل مارأيت هو مكيدة من محمد وأصحابه، فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا مانرضى به(4).
__________
(1) البخاي، كتاب في الشروط رقم 2731، 2732.
(2) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص488.
(3) انظر: منهج الأعلام الاسلامي في صلح الحديبية، ص108.
(4) الواقدي، المغازي (2/600).(8/68)
لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عالماً ومستوعباً لشخصية الحليس ونفسيته، ويظهر ذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: هذا من قوم يتألهون(1) ... فالواضح من هذه المعلومة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على معرفة تامة بهذا الرجل، وبحكم هذه المعرفة قد درس شخصيته دراسة موضوعية، وذلك بما كان عنده من حب شديد من التعظيم للحرمات والمقدسات والعمل على الاستفادة الكاملة من هذا الجانب في كسب المعركة، وعلى هذا الأساس فقد قام - صلى الله عليه وسلم - بوضع خطة محكمة مناسبة تقضي بوضع الحقائق كاملة أمام هذا الرجل وإظهار موقف المسلمين أو على الأقل وقوفه على الحياد في هذا الصراع.
__________
(1) البخاري، كتاب في الشروط رقم 2731، 2732.(8/69)
والجدير بالذكر أن الحُليس كان يتمتع بسمعة طيبة بين العرب جميعاً وذلك لما يتميز به من رجاحة العقل، ولما يتمتع به من مركز ممتاز بوصفه زعيماً وقائداً لقوات الأحابيش، كما كان يتمتع باحترام وتقدير من جانب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقريش على حد سواء، لهذا فإنه إذا ماتبين له أن الحق والعدل في جانب المسلمين فإنه يستطيع أن يقوم بدور هام في إحلال السلام بين الطرفين المتنازعين والعمل على كبح جماح قريش، وإقناعها بالعدول عن موقفها العدائي ضد المسلمين وصدهم عن المسجد الحرام، ومن هنا فقد كانت الدراسة النفسية التي قام بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشخصية الحُليس تتناسب كليا مع المبادئ التي تؤمن بها وعلى ذلك فقد كانت درجة التأثير والاستجابة الناتجة عن هذه العملية إيجابية تماماً(1) ومرضية وهكذا استطاع - صلى الله عليه وسلم - أن يؤثر على عروة بن مسعود والحليس بن علقمة مما جعل الانشقاق يدب في صفوف مشركي مكة يقول الأستاذ العقاد عن قدرة الرسول في توظيف الطاقات وإدارة الصراع: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخبير بتجنيد بعوث الحرب وبعوث الاستطلاع خبيراً كذلك بتجنيد كل قوة في يده متى وجب القتال، إن كانت قوة رأي، أو قوة لسان، أو قوة نفوذ. فما نعرف أن أحداً وجه قوة الدعوة توجيهاً أشد ولا أنفع في بلوغ الغاية من توجيهه عليه السلام ثم يضيف الكاتب قائلاً:والدعوة في الحرب كما لايخفى، لها غرضان أصيلان من بين أغراضها العديدة: أحدهما إقناع خصمك والناس بحقك وثانيهما: إضعافه عن قتالك بإضعاف عزمه وإيقاع الشتات بين صفوفه، ثم يقول: وربما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - برجلٍ واحد في هذا الغرض مالم تبلغه الدول بالفِرق المنظمة(2).
4-سفارة مكرز بن حفص:
__________
(1) انظر: منهج الأعلام الاسلامي في صلح الحديبية، ص111.
(2) انظر: عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم، ص49.(8/70)
وكان من سفراء قريش يوم الحديبية مكرز بن حفص وقد روى البخاري ذلك فقال: ... فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا مكرز وهو رجل فاجر، فجعل يكلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو، قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة، أنه لما جاء سهيل بن عمرو، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قد سهل لكم من أمركم)(1) ولنا حديث مع سهيل بإذن الله تعالى.
سادساً: الوفود النبوية إلى قريش ووقوع بعض الأسرى في يد المسلمين:
__________
(1) البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد (3/239) رقم 2732.(8/71)
رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من الضرورة إرسال مبعوث خاص من جانبه إلى قريش يبلغهم فيها نواياه السلمية بعدم الرغبة في القتال، واحترام المقدسات، ومن ثم أداء مناسك العمرة، والعودة إلى المدينة، فوقع الاختيار على أن يكون مبعوث الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى قريش (خراش بن أمية الخزاعي) وحمله على جمل يقال له (الثعلب)، فلما دخل مكة عقرت به قريش وأرادوا قتل خراش فمنعهم الأحابيش، فعاد خراش بن أمية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بما صنعت قريش، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرسل سفيراً آخر بتبليغ قريش رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووقع اختيار الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بداية الأمر على عمر بن الخطاب(1)، فاعتذر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الذهاب إليهم، وأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث عثمان مكانه(2)، وعرض عمر رضي الله عنه رأيه هذا معززاً بالحجة الواضحة، وهي ضرورة توافر الحماية لمن يخالط هؤلاء الأعداء وحيث أن هذا الأمر لم يكن متحققاً بالنسبة لعمر رضي الله عنه، فقد أشار على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثمان رضي الله عنه، لأن له قبيلة تحميه من أذى المشركين حتى يبلغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3) وقال لرسول الله: إني أخاف قريشاً على نفسي، قد عرفت عداوتي لها، وليس بها من بني عدي من يمنعني، وإن أحببت يارسول الله دخلت عليهم(4) فلم يقل رسول الله شيئاً، قال عمر: ولكن أدلك يارسول الله على رجل أعز بمكة مني، وأكثر عشيرة وأمنع، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان رضي الله عنه فقال: اذهب إلى قريش فخيرهم أنا لم نأت لقتال أحد، وإنما جئنا زواراً لهذا البيت،
__________
(1) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص83.
(2) انظر: المغازي للواقدي (2/600).
(3) نفس المصدر (2/600).
(4) انظر: المغازي للواقدي (2/600).(8/72)
معظمين لحرمته، معنا الهدي، ننحره وننصرف، فخرج عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى أتى بلدح(1)، فوجد قريشاً هنالك فقالوا: أين تريد؟
قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليكم، يدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، تدخلون في الدين كافة، فإن الله مظهر دينه ومعز نبيه، وأخرى تكفون ويلي هذا منه غيركم فإن ظفروا بمحمد فذلك ماأردتم، وإن ظفر محمد كنتم بالخيار أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون، إن الحرب قد نهكتكم، وأذهبت بالأماثل منكم ... فجعل عثمان يكلمهم فيأتيهم بما لايريدون ويقولون: قد سمعنا ماتقول ولاكان هذا أبداً، ولادخلها علينا عنوة، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لايصل إلينا.
فقام إليه أبان بن سعيد بن العاص فرحب به وأجاره: وقال: لاتقصر عن حاجتك، ثم نزل عن فرس كان عليه، فحمل عثمان على السرج وردفه وراءه، فدخل عثمان مكة، فأتى أشرافهم رجلاً رجلاً، أبا سفيان ابن حرب، وصفوان بن أمية وغيرهم منهم من لقي ببلدح، ومنهم من لقي بمكة، فجعلوا يردون عليه: إن محمداً لايدخلها علينا أبداً(2).
وعرض المشركون على عثمان رضي الله عنه أن يطوف بالبيت فأبى(3)، وقام عثمان بتبليغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المستضعفين بمكة وبشرهم بقرب الفرج والمخرج(4)، وأخذ منهم رسالة شفهية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء فيها: اقرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منا السلام، إن الذي أنزله بالحديبية لقادر على أن يدخله بطن مكة(5).
__________
(1) مكان قريب من مكة.
(2) زاد المعاد (3/290)؛ السيرة النبوية لابن هشام (3/344).
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/344).
(4) انظر: زاد المعاد (3/290).
(5) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص85.(8/73)
واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلاً من الفريق الآخر، وكانت معركة، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقين كلاهما، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم(1) وقد تحدث القرآن الكريم عن ذلك قال تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (سورة الفتح، آية:24).
وقد روى مسلم سبب نزول الآية السابقة: أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جبل التنعيم متسلحين، يريدون غرة(2) النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فأخذهم سلماً(3)، فاستحياهم(4)، فأنزل الله عزوجل الآية المذكورة(5).
__________
(1) انظر: زاد المعاد (3/291).
(2) غرة) الغرة هي الغفلة: أي يريدون غفلته (شرح النووي 12/187).
(3) سلما: المراد به الاستسلام والإذعان (شرح النووي 12/187).
(4) فاستحياهم: فاستبقهم (المفردات للراغب، ص140).
(5) مسلم، كتاب الجهاد والسير (3/1442).(8/74)
وهذا سلمة بن الأكوع يحدثنا عما حدث: قال ثم أن المشركين راسلونا الصلح. حتى مشى بعضنا في بعض، واصطلحنا قال: وكنت تبيعاً(1) لطلحة بن عبيدالله ، أسقي فرسه، وأحسه(2)، وأخدمه وأكل من طعامه، وتركت أهلي ومالي، مهاجراً إلى الله ورسوله قال: فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة، واختلط بعضنا ببعض، أتيت شجرة فكسحت شوكها(3)، فاضطجعت في أصلها، قال: فأتاني أربعة من المشركين من أهل مكة، فجعلوا يقعون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأبغضتهم فتحولت إلى شجرة أخرى، وعلقوا سلاحهم، واضطجعوا. فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي: ياللمهاجرين ! قتل ابن زنيم قال: فاخترطت سيفي(4) ثم شددت على أولئك الأربعة وهم رقود، فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثاً(5) في يدي. قال: ثم قلت: والذي كرّم وجه محمد مايرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه(6)، قال: ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: وجاء عمي عامر برجل من العبلات(7) يقال له مكرز يقوده إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فرس مجفف(8) في سبعين من المشركين، فنظر إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:(دعوهم، يكن لهم بدءالفجور وثناه)(9) فعفا عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله:{ وَهُوَ
__________
(1) تبيعاً: خادماً أتبعه (شرح النووي 12/176).
(2) وأحسسه: أي احك ظهره بالمحسة لأزيل عنه الغبار. (شرح مسلم النووي 12/176).
(3) فكسحت شوكتها: أي كنست ماتحتها من الشوك. (شرح مسلم النووي 12/176).
(4) فاختطرت سيفي: أي سللته. (شرح مسلم النووي 12/176).
(5) ضعثاً: الضعث: الحزمة. (شرح مسلم النووي 12/176).
(6) الذي فيه عيناه: يريد رأسه.
(7) العبلات: قوم من قريش نسبوا الى أمهم عبلة بنت عبيد (شرح مسلم النووي 12/177).
(8) مجفف: أي عليه تجفاف وهو ثوب كالجل يلبسه الفرس ليقيه من السلاح.
(9) وثناه) أي عودة ثانية (شرح مسلم للنووي 12/176).(8/75)
الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (سورة الفتح، آية:24)(1).
قال ابن كثير: هذا امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين حيث كف أيدي المشركين عنهم فلم يصل إليهم منهم سوء وكف أيدي المؤمنين عن المشركين فلم يقاتلوهم عن المسجد الحرام، بل صان كلاً من الفريقين وأوجد بينهم صلحاً فيه خيرة للمؤمنين وعافية في الدنيا والآخرة(2).
والكف: منع الفاعل من فعل أراده أو شرع فيه، وهو مشتق من اسم الكف التي هي اليد لأن أصل المنع أن يكون دفعاً باليد، ويقال: كف يده عن كذا، إذا منعه من تناوله بيده(3).
وقوله: (ببطن مكة) قال الراغب: البطن خلاف الظهر في كل شيء ويقال للجهة السفلى بطن وللجهة العليا ظهر(4).
وجمهور المفسرين حملوا بطن مكة في الآية على الحديبية من إطلاق البطن من أسفل المكان، والحديبية قريبة من مكة وهي إلى مكة أقرب، وهي من الحل وبعض أرضها من الحرم وهي على الطريق بين مكة وجدة وهي إلى مكة أقرب(5).
وختم الآية سبحانه بقوله {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}. هذه إشارة إلى أن كف بعضهم عن بعض كان للمسلمين إذ منّوا على العدو بعد التمكن منه(6).
سابعاً: بيعة الرضوان:
__________
(1) مسلم، كتاب الجهاد والسير (3/1432).
(2) تفسير ابن كثير (4/192).
(3) انظر: التنوير والتحرير (26/178).
(4) انظر: المفردات للراغب ، ص51.
(5) انظر: التنوير والتحرير (26/184).
(6) انظر: حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول (2/230).(8/76)
لما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عثمان رضي الله عنه قتل: دعا رسول الله أصحابه إلى مبايعته على قتال المشركين، ومناجزتهم، فاستجاب الصحابة وبايعوه على الموت(1) ، سوى الجد بن قيس، وذلك لنفاقه(2) وفي رواية أن البيعة كانت على الصبر(3)، وفي رواية على عدم الفرار(4)، ولاتعارض في ذلك لأن المبايعة على الموت تعني الصبر وعدم الفرار(5).
وكان أول من بايعه على ذلك أبو سنان عبدالله بن وهب الأسدي(6) فخرج الناس بعده يبايعون على بيعته(7)، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات، في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم(8)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده اليمنى :(هذه يد عثمان) فضرب بها على يده(9) وكان عدد الصحابة الذين أخذ منهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - المبايعة تحت الشجرة ألف وأربعمائة صحابي(10) وقد تحدث القرآن الكريم عن أهل بيعة الرضوان وورد فضلهم في نصوص كثيرة من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية منها:
1-قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (سورة الفتح، آية:10).
__________
(1) البخاري رقم الحديث 4169.
(2) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص486.
(3) البخاري، رقم 4169.
(4) مسلم، رقم 1856.
(5) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص486.
(6) نفس المصدر ، ص486.
(7) المصدر السابق، ص486.
(8) انظر: زاد المعاد (3/291).
(9) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص404.
(10) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص482.(8/77)
وهذه الآية فيها ثناء ومدح عظيم لأهل بيعة الرضوان فقد جعل الله مبايعتهم لرسوله - صلى الله عليه وسلم - مبايعة له وفي هذا غاية التشريف والتكريم لهم رضي الله عنهم(1).
قال ابن القيم: وتأمل قوله: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فلما كانوا يبايعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأيديهم ويضرب بيده على أيديهم وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو السفير بينه وبينهم كانت مبايعتهم له مبايعة لله تعالى، ولما كان سبحانه فوق سماواته على عرشه وفوق الخلائق كلهم كانت يده فوق أيديهم كما أنه سبحانه فوقهم(2).
ومعنى قوله في الآية:{ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} أي: ثواباً جزيلاً وهو الجنة وما يكون فيها مما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولاخطر على قلب بشر(3).
2-وقال تعالى مخبراً برضاه عنهم:{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا صدق الله العظيم وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا صدق الله العظيم } (سورة الفتح، آية: 18-19).
__________
(1) انظر: عقيدة أهل السنّة في الصحابة، د. ناصر حسن الشيخ (1/205).
(2) انظر: مختصر الصواعق المرسلة (2/172).
(3) انظر: روح المعاني للآلوسي (26/97).(8/78)
فقد أخبر تعالى أنه رضي الله عن أولئك الصفوة الأخيار من أهل بيعة الرضوان ومن رضي الله عنه لايسخط عليه أبداً فلله ما أعظم هذا التكريم الذي ناله أهل بيعة الرضوان، وما أعلاه من منقبة ومعنى الآية {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} لقد رضي الله يامحمد عن المؤمنين {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } يعني: بيعة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب وعلى أن لايفروا، ولايولوهم الأدبار، تحت الشجرة وكانت بيعتهم إياه هنالك تحت شجرة السمرة {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: فعلم ربك يامحمد مافي قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة من صدق النية والوفاء بما يبايعونك عليه والصبر {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أي: فأنزل الطمأنينة والثبات على ماهم عليه من دينهم وحسن بصيرتهم بالحق الذي هداهم الله له {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} وهو فتح خيبر، وأما قوله تعالى{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} أي: وأثاب الله هؤلاء الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة مع ما أكرمهم به من رضاه عنهم، وإنزاله السكينة عليهم وإثابته إياهم فتحاً قريباً وهو ما أجرى الله
-عزوجل- على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم وماحصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم وماحصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة(1) ولهذا قال الله تعالى:{ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}.
__________
(1) انظر: تفسير الطبري (26/85-86)؛ تفسير القرطبي (16/178).(8/79)
3-أخبر الله تعالى عن أهل بيعة الرضوان أنه ألزمهم كلمة التقوى التي هي كلمة التوحيد وأنهم كانوا أحق بها وأهلها. قال تعالى:{ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (سورة الفتح، آية:26).
فلقد بين الله تعالى في هذه الآية أنه ألزم الصحابة رضي الله عنهم كلمة التقوى وأكثر المفسرين أن المراد بكلمة التقوى هي (لا إله إلا الله ) وبين أنهم أحق بها من كفار قريش وأنهم كانوا أهلها في علم الله لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه أهل الخير(1) ذلك هو الثناء في القرآن على الصحابة الذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان بالحديبية وقد ورد الثناء عليهم في السنة المطهرة في أحاديث كثيرة ومن ذلك مايلي:
أ-من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية :(أنتم خير أهل الأرض) وكنا ألفاً وأربعمائة ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة(2).
هذا الحديث صريح في فضل أصحاب الشجرة فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعة بمكة وبالمدينة وبغيرهما ... وتمسك به بعض الشيعة في تفضيل عليُّ على عثمان لأن علياً كان من جملة من خوطب بذلك وممن بايع تحت الشجرة، وكان عثمان حينئذ غائباً -وهذا التمسك باطل- لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايع عنه، فاستوى معهم عثمان في الخيرية المذكورة، ولم يقصد في الحديث إلى تفضيل بعضهم على بعض(3).
__________
(1) انظر: تفسير الطبري (26/103-106).
(2) مسلم (3/1485).
(3) فتح الباري (7/443).(8/80)
ب-وقال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أخبرتني أم مبشر: أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول عند حفصة :(لايدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها) قالت: بلى يارسول الله: فانتهرها فقالت حفصة: (وإن منكم إلا واردها) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(قد قال الله -عز وجل- :{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا صدق الله العظيم ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا صدق الله العظيم } (سورة مريم، آية:71-72).
قال النووي رحمه الله تعالى: قوله - صلى الله عليه وسلم -: لايدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها، قال العلماء: معناه لايدخلها أحد منهم قطعاً... وإنما قال إن شاء الله للتبرك لاللشك وأما قول حفصة بلى وانتهار النبي - صلى الله عليه وسلم - لها فقالت: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : وقد قال:{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} فيه دليل للمناظرة والجواب على وجه الاسترشاد وهو مقصود حفصة لا أنها أرادت رد مقالته - صلى الله عليه وسلم - والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط وهو جسر منصوب على جهنم فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون(1).
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (16/85).(8/81)
جـ-وروى الإمام مسلم بإسناده إلى جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يصعد الثنية ثنية المرار(1)، فإنه يحط عنه ماحط عن بني اسرائيل، قال: فكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج ثم تتام الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر، فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم، قال: وكان رجلاً ينشد ضالة له(2).
وهذا الحديث تضمن فضيلة عظيمة لأصحاب الحديبية رضي الله عنهم وتلك الفضيلة مغفرة الله لهم وأكرم بها من فضيلة منحهم إياها الرب -جل وعلا- لإخلاصهم في طاعتهم واستجابتهم لله والرسول بالسمع والطاعة(3).
إن جيل الحديبية له سمات كما في النصوص الصحيحة فهم، خير أهل الأرض، وغفر الله لهم، ولايدخل منهم أحد النار، وهذا الجيل مكون من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار من أهل بدر ومن صلى القبلتين، ومن التحق بهم من الذين اتبعوهم بإحسان.
__________
(1) ثنية المرار: مهبط الحديبية والمرار.
(2) مسلم (4/2144-2145).
(3) انظر: عقد أهل السنّة والجماعة (1/212).(8/82)
وحين نمعن النظر في هذا الجيل الفريد مقارنة مع أهل بدر نلاحظ ارتفاع عدد المهاجرين إلى النصف من الجيش، وهذا الارتفاع الهائل في عدد المهاجرين من ثلاث وثمانين في بدر إلى ثمانمائة كان معظمه من القبائل العربية المجاورة وهي قبائل صغيرة، إذا قيست بالقبائل الكبرى، لكن شبابها كانوا يغدون إلى المدينة، ينضوون تحت لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتلقون التربية اليومية في المسجد، والتربية العملية في المعارك والغزوات، فيتدربون على الجندية الخالصة ويفقهون دينهم مباشرة من رسول رب العالمين، وينشؤون في ظلال القدوة العليا لهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ويتنافسون في الطاعة والامتثال لأمر الله ورسوله، فنالت قبائلهم بذلك شرفاً ربا على القبائل الكبرى التي تخاذلت في الانضمام للإسلام، فقبيلة أسلم وغفار كانت على رأس هذه القبائل، ويعود الفضل
-بعد الله- في ذلك إلى الرعيل الأول منهم، واللبنات الأولى التي انضمت إلى الدعوة إلى أبي ذر الغفاري الذي كان من السابقين في إسلامه بمكة، ومضى داعيا في قومه حتى جاءه سبعين بيتاً من غفار يؤم بهم المدينة بعد أحد، وإلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، الذي تلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل دخوله المدينة، فأسلم ومعه سبعون من قومه كذلك(1).
أما القبائل الأخرى من مزينة وجهينة، وأشجع، وخزاعة، فقد بدأ شبابها يفدون إلى المدينة، لكن بأعداد ضئيلة وبقي كيان القبيلة على الشرك، وبقي أعرابياً بعيداً عن محضن التربية العظيم داخل المدينة، فلم يتح له هذا الفضل، والاغتراف من رحيق النبوة، ولهذا كانت الآيات التي نزلت في المخلفين من الأعراب كالصواعق على رؤوسهم، لتخلفهم عن الانضمام إلى الجيش الإسلامي الماضي إلى الحديبية(2).
المبحث الثاني
__________
(1) انظر: التربية القيادية (4/214).
(2) نفس المصدر (4/216).(8/83)
صلح الحديبية وماترتب عليه من أحداث
أولاً: مفاوضة سهيل بن عمرو لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
لما بلغ قريشاً أمر بيعة الرضوان، وأدرك زعماؤها تصميم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على القتال أوفدوا سهيل بن عمرو في نفر من رجالهم لمفاوضة النبي - صلى الله عليه وسلم -(1)، ولما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهيلاً قال: لقد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل(2).
كان سهيل بن عمرو أحد زعماء قريش البارزين الذين كانوا يعرفون بالحنكة السياسية والدهاء، فهو خطيب ماهر، ذو عقل راجح، ورزانة، وأصالة في الرأي.
__________
(1) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص339، 340.
(2) انظر: مغازي الواقدي (2/602، 604،605).(8/84)
شرع الفريقان المتفاوضان في بحث بنود الصلح، وذلك بعد رجوع عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد استعرض الفريقان النقاط التي يجب أن تتضمنها معاهدة الصلح، واستعرضا في مباحثاتهما مختلف القضايا التي كانت تشكل مثار الخلاف بينهما هذا وقد اتفق الفريقان من حيث المبدأ على بعض النقاط، واختلفا على البعض الآخر، وقد طال البحث والجدل والأخذ والرد حول هذه البنود، وبعد المراجعات والمفاوضات تقاربت وجهات النظر بين الفريقين، وعند الشروع في وضع الصيغة النهائية للمعاهدة وكتابتها لتكون نافذة المفعول رسمياً حدث خلاف بين الوفدين على بعض النقاط، كاد أن يعثِّر سيرهذه الاتفاقية، فعندما شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - في إملاء صيغة المعاهدة المتفق عليها، أمر الكاتب، وهو الإمام علي بن أبي طالب، بأن يبدأ المعاهدة بكلمة :(بسم الله الرحمن الرحيم)، وهنا اعترض رئيس الوفد القرشي سهيل بن عمرو قائلاً: لا أعرف الرحمن، اكتب (باسمك اللهم)، فضج الصحابة على هذا الاعتراض، قائلين: هو الرحمن، ولانكتب إلاَّ الرحمن: ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - تمشياً مع سياسة الحكمة والمرونة والحلم، قال للكاتب:(أكتب باسمك اللهم)(1)، واستمر في إملاء صيغة المعاهدة هذه، فأمر الكاتب أن يكتب (هذا ما أصطلح عليه رسول الله)، وقبل أن يكمل الجملة اعترض رئيس الوفد القرشي على كلمة رسول الله قائلاً: لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبدالله؟
اكتب اسمك واسم ابيك(2).
واعترض المسلمون على ذلك ولكن رسول الله بحكمته وتسامحه وبعد نظره، حسم الخلاف وأمر الكاتب بأن يشطب كلمة رسول الله من الوثيقة، فالتزم الصحابة الصمت والهدوء.
__________
(1) انظر: مغازي الواقدي (2/610).
(2) نفس المصدر (2/610).(8/85)
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وافق المشركين على ترك كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) وكتابة (باسمك اللهم) بدلاً عنها، وكذا وافقهم في كتابة محمد بن عبدالله وترك كتابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذا وافقهم في ردّ من جاء منهم إلى المسلمين دون من ذهب منهم إليهم، وإنما وافقهم في هذه الأمور للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح مع أنه لامفسدة في هذه الأمور، أما البسملة وباسمك اللهم فمعناها واحد، وكذا قوله (محمد بن عبدالله) هو أيضاً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس في ترك وصف الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ماينفي ذلك، ولافي ترك وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة ماينفيها، فلا ضرر ولامفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب مالا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك.
وأما شرط ردّ من جاء منهم وعدم رد من ذهب إليهم، فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - تعليل ذلك والحكمة فيه في هذا الحديث بقوله: من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً ثم كان كما قال - صلى الله عليه وسلم -(1).
وتم عقد هذه المعاهدة وكانت صياغتها من عشرة بنود جاءت على الشكل التالي:
1-باسمك اللهم.
2-هذا ماصالح عليه محمد بن عبدالله سهيل بن عمرو.
3-واصطلحا على وضع الحرب على الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض.
4-على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجاً أو معتمراً أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازاً إلى مصر أو إلى الشام، يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله.
5-على أنه من أتى محمداً من قريش بغير اذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه.
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (2/342).(8/86)
6-وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لااسلال ولااغلال(1).
7-وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه (فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش، وعهدهم).
8-وأنت ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثاً معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولاتدخلها بغيرها.
9-وعلى أن هذا الهدي ماجئناه ومحله فلا تقدمه علينا.
10-أشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين:
فمن المسلمين: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبدالرحمن بن عوف، وعبدالله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن سلمة، وعلي بن أبي طالب كاتب المعاهدة رضي الله عنهم أجمعين.
ومن المشركين: مكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو(2).
تعتبر هذه المعاهدة أساساً للمعاهدات الإسلامية ونموذجاً فريداً للمعاهدات الدولية، بما سبقها من مفاوضات، وماحوته من شروط، وماتمثل بها من خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في النزول عند رضا الطرف الآخر، وفي كيفية الصياغة والالتزام. هذه المعاهدة، سبقها مفاوضات من قبل المشركين والمسلمين، وفشل بعض الممثلين في الوصول إلى اتفاق، ودارت مشاورات شتى من الجانبين قبل الوصول إليه، حتى توصل الفريقان إلى اتفاق عن طريق ممثل المشركين (سهيل بن عمرو) ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملأ المسلمين.
__________
(1) العبية هنا مثل: والمعنى ان بيننا صدور سليمة في المحافظة على العهد الذي عقدناه بيننا، وقد يشبه صدر الانسان الذي هو مستودع سره، وقوله لا اسلال ولا اغلال: تعني الاسلال من السلة وهي السرقة، والاغلال أي الخيانة والمعنى العام ان بعضنا يأمن بعضاً في نفسه وماله، فلا يتعرض لدمه ولا لماله.
(2) المعاهدات في الشريعة الاسلامية والقانون الدولي، د. محمد الديك ، ص270،271.(8/87)
عقدت هذه المعاهدة في الوقت الذي كان فيه المسلمون بمركز القوة لا الضعف، وكان باستطاعتهم أن لايقبلوا شروطها التي اغتاظ منها كثير من الصحابة، ولكن ماكان لهم أن يخرجوا عن طوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لاينطق عن الهوى، وقد تمادى رسول قريش على رسول الله في مفاوضته وكان فرداً بين جيش المسلمين، فلم ينله أذى، ولم يتمادى عليه المسلمون بالقتل (لأن السفراء لاتقتل)، ولكن رسول الله يرضيه، ويسعه بالحلم واللين، حتى يصل إلى الغاية التي ينشدها الإسلام، وهي حقن الدماء واحلال السلام ورجاء أن يعقل القوم الحق، وأن يراجعوا المواقف، ويسمعوا كلام الله(1)، وتدخل الدعوة الإسلامية طوراً جديداً بصور أخرى في الانتشار والاتصال بالناس عندما نتأمل نصوص المعاهدة التي تمت في الحديبية فاننا نأخذ منها الآتي:
1-أن ديباجة المعاهدات الإسلامية كانت تبدأ باسم الله، أو باسمك اللهم، والقانون الدولي في صياغة المعاهدات يقول:(تبدأ كتابة المعاهدات بديباجة يتفق عليها طرفا التعاقد).
والذي يجب أن نلاحظه، بأن المعاهدات في الإسلام تستند إلى الله الذي تبدأ باسمه سبحانه، حيث هو الرقيب والحسيب على مافي النوايا والقلوب، واسم الله مقدس في كل قلب يؤمن به، حتى أولئك الذين فسدت عقائدهم، فانهم لاينكرون الله ولكنهم افسدوا تصورهم لذات الله، وقد جرت أعرف بعض الذين يستهوون قلوب العامة بالشعارات الجوفاء أن يقولوا بدل اسم الله: باسم الشعب، أو باسم الأمة، باعتبار قدسية مايبدأون به كما يزعمون، ولكن الذي يؤمن بالله لايعدل عن قدسية الله في اعتقاده، ولذلك كانت البداية (باسمك اللهم).
__________
(1) انظر: المعاهدات في الشريع الاسلامية والقانون الدولي، ص268،269.(8/88)
2-ذكر في المعاهدة طرفا التعاقد بعد (الديباجة) كما يسميها القانون الدولي، وهذا ماعليه القانون الدولي العام من أنه يذكر بعد الديباجة اسماء الممثلين أو الدول التي هي أطراف في عقد المعاهدة.
3-بواعث المعاهدة، فقد جاء في بداية هذه المعاهدة ذكر الصلح لأجل وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض، وهذا ماعليه القانون الدولي العام كذلك.
4-الدخول في صلب المعاهدة وشروطها، حيث ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه المعاهدة الشروط المتفق عليها بين الطرفين، وهذا ماعليه القانون الدولي العام.
5-في معاهدة صلح الحديبية جواز ابتداء الامام (رئيس الدولة الإسلامية) بطلب صلح العدو اذا رأى المصلحة للمسلمين فيه، ولايتوقف ذلك على أن يكون ابتداء الطلب منهم(1).
6-ان مصالحة المشركين ببعض مافيه ضيم على المسلمين جائز للمصلحة الراجحة ودفع ماهو شر منه، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال ادناها(2).
7-ان صلح الحديبية سماه الله فتحاً، لأن الفتح في اللغة هو فتح المغلق والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً مغلقاً ففتحه الله، والصلح كذلك يفتح القلوب المغلقة نحو الطرف الآخر.
لقد كانت الصورة الظاهرة في شروط الحديبية فيها ضيم للمسلمين وهي في باطنها عز وفتح ونصر، حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إلى ماوراء المعاهدة من الفتح العظيم من وراء ستر رقيق، وكان يعطي المشركين كل ماسألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحابه ورؤوسهم، وهو - صلى الله عليه وسلم - يعلم مافي ضمن هذا المكروه من(3) محبوب.
__________
(1) انظر: زاد المعاد لابن القيم (3/306).
(2) نفس المصدر (3/306).
(3) انظر: المعاهدات في الشريعة الاسلامية، ص272.(8/89)
8-إن المعاهدة قد تكون مفتوحة لمن يحب أن يدخل فيها من الأطراف أو الدول الأخرى، وهذا ماعليه القانون الدولي حيث أجاز أن تكون المعاهدة مفتوحة لمن يحب الدخول فيها من الأطراف الأخرى، فقد دخلت خزاعة وكنانة في الصلح الذي أنهى حالة الحرب القائمة بين هاتين القبيلتين والتي امتدت سنوات عديدة(1).
9-إن المعاهدة لابد لها من توقيع الأطراف والاشهاد عليها، وتوقيع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واشهاد أصحابه انما هو بمثابة التوقيع على المعاهدة والتصديق عليها كما هو في القانون الدولي العام.
10-إن المعاهدة يجوز أن يكون الوسيط فيها طرفاً محايداً، أو طرفاً يقرب بين وجهات النظر كوساطة سيد الأحابيش (الحليس بن علقمة) حليف قريش الأكبر، طلبت منه قريش أن يكون وسيطاً بينهم وبين المسلمين، وكان الحليس ذا عقل راجح وبصيرة نافذة، وكان سيداً مطاعاً، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرفه ويعرف فيه التأله الشديد والتعظيم للحرم.
وعندما اختارته قريش كانت تطمع في أن يكون لمركزه الممتاز بين العرب، ولما يتمتع به من تقدير لدى النبي - صلى الله عليه وسلم - تأثير على الرسول وأصحابه(2).
وهذا مايقره القانون الدولي، حيث أن المعاهدة قد تعقد بوساطة دولة أخرى ليست طرفاً في النزاع، أو أحد المبعوثين الذي لاعلاقة له أو لدولته في النزاع القائم بين طرفي التعاقد .
__________
(1) انظر: صلح الحديبية ، باشميل ، ص280.
(2) نفس المصدر ، ص199،200.(8/90)
11-إن المعاهدة في الاسم تعتبر نافذة المفعول بمجرد الاتفاق على المعاهدة وشروطها، حتى ولم تكتب ولم يوقع عليها الطرفان وذلك كما حدث لأبي جندل بن سهيل بن عمرو الذي رده الرسول - صلى الله عليه وسلم - بموجب قبوله عليه السلام بالبند الخامس من المعاهدة، والذي يقول: (على أنه من أتى محمداً من قريش بغير اذن وليه رده عليهم...) فمنذ أعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التزامه بهذا الشرط أجراه ولو لم تكن المعاهدة قد كتبت بعد، ولم يوقع عليها الطرفان.
12-ان المعاهدة تكتب من نسختين، ويأخذ كل طرف نسخة طبق الأصل عن المعاهدة، حيث أنه بعد أن تمت اجراءات الصلح النهائية في الحديبية أخذ كل من الفريقين نسخة من وثيقة الصلح التاريخية وانصرف الوفد القرشي راجعاً إلى مكة(1).
ثانياً: موقف أبي جندل والوفاء بالعهد:
__________
(1) انظر: المعاهدات في الشريعة الاسلامية، ص273.(8/91)
إن من أبلغ دروس صلح الحديبية درس الوفاء بالعهد والتقيد بما يفرضه شرف الكلمة من الوفاء بالالتزامات التي يقطعها المسلم على نفسه، وقد ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه أعلى مثل في التاريخ القديم والحديث، لاحترام كلمة لم تكتب، واحترام كلمة تكتب، واحترام كلمة تكتب كذلك وفي الجد في عهوده، وحبه للصراحة والواقعية، وبغضه التحايل والالتواء والكيد، وذلك حينما كان يفاوض (سهيل بن عمرو) في الحديبية، حيث جاءه ابن سهيل يرسف في الاغلال، وقد فر من مشركي مكة، وكان ابوه يتفاوض مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان هذا الابن ممن آمنوا بالاسلام جاء مستصرخاً بالمسلمين، وقد انفلت من أيدي المشركين فلما رأى سهيل ابنه قام اليه واخذه بتلابيبه وقال: يامحمد لقد لجت القضية بيني وبينك، أي فرغنا من المناقشة قبل أن يأتيك هذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صدقت، فقال أبو جندل: يامعشر المسلمين أأرد إلى المشركين يفتنونني في ديني، فلم يغني عنه ذلك شيئاً، ورده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لأبي جندل: إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهداً وإنا لانغدر بهم، غير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إزاء هذه المأساة التي حالت بنود معاهدة الصلح بينه وبين أن يجد مخرجاً منها لأبي جندل المسلم، طمأن أبا جندل وبشرَّه بقرب الفرج له ولمن على شاكلته من المسلمين وقال له:-وهو يواسيه- يا أبا جندل إصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا(1) وفي هذه الكلمات النبوية المشرقة العظيمة دلالة ليس فوقها دلالة على مقدار حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتمسكه بفضيلة الوفاء بالعهد مهما كانت نتائجه وعواقبه فيما يبدو للناس(2) لقد كان درس أبي جندل امتحاناً قاسياً ورهيباً
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبن هشام (3/347).
(2) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (4/275).(8/92)
لهذا الوفاء بالعهد أثبت فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون نجاحاً عظيماً في كبت عواطفهم وحبس مشاعرهم، وقد صبروا لمنظر أخيهم أبي جندل وتأثروا من ذلك المشهد عندما كان أبوه يجتذبه من تلابيبه، والدماء تنزف منه مما زاد في إيلامهم حتى أن الكثيرين منهم أخذوا يبكون بمرارة أشفاقاً منهم على أخيهم في العقيدة، وهم ينظرون إلى أبيه المشرك وهو يسحبه بفظاظة الوثني الجلف ليعود به مرة أخرى إلى سجنه الرهيب في مكة.
وقد صبر أبو جندل واحتسب لمصابه في سبيل دينه وعقيدته وتحقق فيه قول الله تعالى:{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا صدق الله العظيم وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا صدق الله العظيم } (سورة الطلاق، آية:2-3).
فلم تمرأقل من سنة حتى تمكن مع إخوته المسلمين المستضعفين بمكة من الإفلات من سجون مكة وأصبحوا قوة صار كفار مكة يخشونها بعد أن انظموا إلى أبي بصير وسيطروا على طرق قوافل المشركين الآتية من الشام(1) وسيأتي تفصيل ذلك لاحقاً بإذن الله تعالى.
ثالثاً: احترام المعارضة النزيهة:
بعد الاتفاق على معاهدة الصلح وقبل تسجيل وثائقها ظهرت بين المسلمين معارضة شديدة وقوية لهذه الإتفاقية، وخاصة في البندين اللذين يلتزم النبي - صلى الله عليه وسلم - بموجبها بردّ من جاءه من المسلمين لاجئاً، ولاتلتزم قريش برد من جاءها من المسلمين مرتداً، والبند الذي يقضي بأن يعود المسلمون من الحديبية إلى المدينة دون أن يدخلوا مكة ذلك العام، وقد كان أشد الناس معارضة لهذه الإتفاقية وانتقاداً لها، عمر بن الخطاب، وأسيد بن حضير سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج.
__________
(1) انظر: صلح الحديبية، باشميل، ص322 الى 325.(8/93)
وقد ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله معلناً معارضته لهذه الاتفاقية وقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نُعطي الدنية في ديننا؟ قال إني رسول الله ولست أعصيه(1)، وفي رواية: أنا عبدالله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني(2)، قلت أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت لا، قال فإنك آتيه ومطوف به قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت له: يا أبا بكر: أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر –ناصحاً الفاروق بأن يترك الاحتجاج والمعارضة- إلزم غرزه، فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ماأمر به، ولن نخالف أمر الله ولن يضيّعه الله(3).
وبعد حادثة أبي جندل المؤلمة المؤثرة عاد الصحابة الى تجديد المعارضة للصلح، وذهبت مجموعة منهم الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم عمر بن الخطاب لمراجعته، وإعلان معارضتهم مجدداً للصلح إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أعطاه الله من صبر وحكمة وحلم وقوة حجة استطاع أن يقنع المعارضين بوجاهة الصلح، وأنه في صالح المسلمين وأنه نصر لهم(4)، وأن الله سيجعل للمستضعفين من أمثال ابي جندل فرجاً ومخرجاً، وقد تحقق ماأخبر به - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) انظر: من معين السيرة، ص333.
(2) انظر: تاريخ الطبري (2/634).
(3) انظر: السيرة النبوية لأبن هشام (3/346).
(4) انظر: صلح الحديبية، باشميل، ص270.(8/94)
وبهذا يتبين أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وضع قاعدة احترام المعارضة النزيهة حيث قرر ذلك بقوله وفعله. وهو –والله أعلم- إنما أراد بهذا الفعل ارشاد القادة من بعده الى احترام المعارضة النزيهة التي تصدر من أتباعهم، وذلك بتشجيع الأتباع على إبداء الآراء السليمة التي تخدم المصلحة العامة(1).
وهذا الهدي النبوي الكريم بين أن حرية الرأي مكفولة في المجتمع الاسلامي، وأن للفرد في المجتمع المسلم الحرية في التعبير عن رأيه، ولو كان هذا الرأي نقداً لموقف حاكم من الحكام أو خليفة من الخلفاء، فمن حق الفرد المسلم أن يبين وجهة نظره في جو من الأمن والأمان دون ارهاب أو تسلط يخنق حرية الكلمة والفكر.
ونفهم من معارضة عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المعارضة لرئيس الدولة في رأي من الآراء وموقف من المواقف ليست جريمة تستوجب العقاب، ويغيب صاحبها في غياهب السجون(2).
رابعاً: التحلل من العمرة ومشورة أم سلمة رضي الله عنها:
لما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قضية كتابة الصلح قال لأصحابه، قوموا فانحروا ثم احلقوا ... حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها مالقي من الناس، فقالت أم سلمة يانبي الله أتحب ذلك؟ أخرج ثم لاتكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه ودعا حالقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غما(3).
__________
(1) انظر: القيادة العسكرية في عهد رسول الله، ص495.
(2) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص134،135.
(3) البخاري، كتاب الشروط (3/240) رقم 2732.(8/95)
وقد حلق رجال يوم الحديبية، وقَصّر آخرون. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرحم الله المحلقين: قالوا: والمقصرين يارسول الله؟ قال: يرحم الله المحلقين، قالوا والمقصرين يارسول الله؟ قال: يرحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يارسول الله؟ قال: والمقصرين(1).
وكان في هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية جملاً لابي جهل في رأسه برة(2) من فضة، يغيظ بذلك المشركين(3) وفي هذه الحادثة تسوقفنا أمور فيها دروس وعبر منها:
1-كان رأي أم سلمة سديداً ومباركاً حيث فهمت رضي الله عنها عن الصحابة أنه وقع في أنفسهم أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالتحلل أخذاً بالرخصة في حقهم وأنه يستمر على الإحرام أخذاً بالعزيمة، في حق نفسه، فأشارت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال، وعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - صواب ما أشارت به ففعله، فلما رأى الصحابة ذلك بادروا إلى فعل ما أمرهم به، فلم يبق بعد ذلك غاية تنتظر فكان ذلك رأياً سديداً ومشورة مباركة وفي ذلك دليل على إستحسان مشاورة المرأة الفاضلة مادامت ذات فكرة صائبة ورأي سديد(4)، كما أنه لافرق في الإسلام بين أن تأتي المشورة من رجل أو امرأة طالما أنها مشورة صائبة، وهذا عين التكريم للمرأة التي يزعم أعداء الإسلام أنه غمطها حقها وتجاهل وجودها، وهل هناك اعتراف واحترام لرأي المرأة أكثر من أن تشير على نبي مرسل ويعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشورتها لحل مشكلة اصطدم بها واغضبته(5).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/348).
(2) البرة: حلقة تجعل في أنف البعير ليذل ويرتاض.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/349).
(4) انظر: ملامح الشورى في الدعوة الاسلامية، ص161.
(5) انظر: المعاهدات في الشريعة الاسلامية، ص273.(8/96)
2-أهمية القدوة العملية، فقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمر وكرره ثلاث مرات وفيهم كبار الصحابة وشيوخهم، ومع ذلك لم يستجب أحد لدعوته، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخطوة العملية التي أشارت بها أم سلمة تحقق المراد، فالقدوة العملية في مثل هذه المواقف أجدى وأنفع(1).
3-حكم الإحصار في العمرة والحج: دل عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد الفراغ من أمر الصلح، من التحلل والنحر والحلق، على أن المحصر يجوز له أن يتحلل، وذلك بأن يذبح شاة حيث أحصر أو مايقوم مقامها ويحلق ثم ينوي التحلل مما كان قد أهلّ به، سواء كان حجّاً أو عمرة، كما دلّ على أن المتحلل لا يلزم بقضاء الحج أو العمرة إذا كان متطوعاً، وخالف الحنفية فرأوا أن القضاء بعد المباشرة واجب. بدليل أن جميع الذين خرجوا معه - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية خرجوا معه في عمرة القضاء، إلا من توفي أو استشهد منهم في غزوة خيبر(2).
خامساً: العودة إلى المدينة ونزول سورة الفتح:
ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية قاصداً المدينة حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح، قال تعالى:{ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (سورة الفتح، آية:11).
__________
(1) انظر: تأملات في السيرة النبوية لمحمد السيد الوكيل، ص211.
(2) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص243.(8/97)
وقد عبَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عظيم فرحته بنزولها: وقال: أنزلت عليَّ الليلة سورة لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس(1)، فقال أصحاب رسول الله: هنيئاً مريئاً فمالنا؟ فأنزل الله:{ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} (سورة الفتح، آية:5)(2).
وقد أسرع الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف على راحلته بكراع الغميم فقرأ عليهم:{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} فقال رجل: يارسول الله: أفتح هو؟ قال: نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح(3)، فانقلبت كآبة المسلمين وحزنهم إلى فرح غامر، وأدركوا أنهم لايمكن أن يحيطوا بالأسباب والنتائج، وأن التسليم لأمر الله ورسوله فيه كل الخير لهم ولدعوة الإسلام(4).
كان حديث القرآن الكريم عن هذا الحدث العظيم في سورة الفتح، وكان القرآن الكريم له منهجه الخاص في عرضه لغزوة الحديبية، فنجد في حديثه عن هذه الغزوة أنه سمي الصلح الذي وقع بين الفريقين مع عدم وقوع القتال فتحاً مبيناً.
إننا بالتأمل في أسباب النزول نجد أن سورة الفتح نزلت بعد انتهاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصلح وهو عائد إلى المدينة النبوية، وبعد أن خاض النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون تلك التجارب العظيمة من الأمل في العمرة، إلى مواجهة المشركين، إلى بيعة الرضوان، إلى الصلح الذي لم يكن بعض الصحابة راضين ودارت في أنفسهم أشياء كثيرة حول هذه الأحداث الجسام.
__________
(1) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية (5/80) رقم 4177.
(2) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، (5/78) رقم 4172.
(3) سنن ابي داود، معالم السنن، كتاب الجهاد رقم 2736.
(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/449).(8/98)
ينزل القرآن الكريم ويبين للمسلمين بأن هذا الصلح هو فتح مبين ويؤكد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على صواب في قبول الصلح، بل لتزداد ثقة المؤمنين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يبشره الله على الملأ من الدنيا بأن الله تعالى فتح بالصلح ليغفر له ماتقدم من ذنبه وما تأخر كرامة منه سبحانه لرسوله ليزداد المسلمون ثقة واطمئناناً بأنهم على الصواب وأن مافعلوه هو الحق ومآله السعادة، ثم بين سبحانه أن توفيق الله كان مع المؤمنين فهو الذي وفقهم للصبر مع رسوله وموافقتهم أخيراً على ماجنح له من أمر الصلح، وأن ذلك كان بسبب إنزال السكينة على قلوبهم حتى على قلوب من أنكر بعض شروط الصلح، واستسلم للأمر على مضض فلم يحصل رفض لهذا الصلح، بل كلهم نزلوا على أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بفضل السكينة التي أنزلها عليهم قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (سورة الفتح، آية 4).
فالقرآن الكريم يبين أن الله هو الذي أنزل السكينة عليهم ليتذكروا فضله، ويداوموا على شكره، وهذا الإعلام بإنزال السكينة مما يتميز به حديث القرآن الكريم عن هذه الغزوة إذ السكينة أمر معنوي لايعلم نزوله إلا الله، وأشار القرآن الكريم إلى بيعة الرضوان وهي مبايعة الصحابة للنبي على الموت فأثنى الله
-سبحانه وتعالى- على هذه البيعة، وكتب لها الخلود في القرآن وقرر أنها مبايعة لله عزوجل فقال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (سورة الفتح، آية:10).(8/99)
وبهذا نرى مايتميز به القرآن الكريم في حديثه عن الغزوات فهو يبين الحقائق ويصحح العقائد، ويربي النفوس، ويفضح المنافقين، وبشر المسلمين بغنائم قريبة تحققت في خيبر، وبين أصحاب الأعذار فليس كل من تخلف عن الجهاد يعاتب، وإنما هناك اسستثناء وهذا من كمال رحمته الإلهية، ثم لما تم صلح الحديبية وعاد المسلمون إلى المدينة ولم يتحقق ماقصدوه من دخول مكة أشار سبحانه وتعالى إلى الرؤيا التي سبقت أن رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبشر بها أصحابه وبين أنها رؤيا صدق، وأنها ستتحقق. قال تعالى:{ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} (سورة الفتح، آية:27).
ثم ختمت السورة الجليلة بصفات مدح للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه الكرام(1).
قال تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا صدق الله العظيم مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا صدق الله العظيم } (سورة الفتح، آية:28-29).
__________
(1) انظر: حديث القرآن الكريم (2/548 الى 555).(8/100)
هذه الآيات الكريمة وصفت أصحاب محمد في أحلى وأجمل صورة إنها صورة عجيبة يرسمها القرآن الكريم بأسلوبه البديع، صورة مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة حالاتها الظاهرة والمظمرة، فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }، أشداء على الكفار وفيهم آباؤهم وإخوتهم. وذوو قرابتهم وصحابتهم، ولكنهم قطعوا هذه الوشائج جميعاً {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } وهم فقط إخوة الدين، فهي الشدة لله، والرحمة لله.
اللقطة الثانية:{ رُكَّعًا سُجَّدًا} والتعبير يوحي كأنما هذه هي هيئتهم الدائمة التي يراها الرائي حين يراهم، ذلك أن هيئة الركوع والسجود تمثل حالة العبادة، وهي: الحالة الأصلية في حقيقة نفوسهم، فعبّر عنها تعبيراً يثبتها كذلك في زمانهم حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركعاً سجداً.
واللقطة الثالثة:مثلها، ولكنها لقطة لبواطن نفوسهم، وأعماق سرائرهم: {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} فهذه هي صورة مشاعرهم الدائمة الثابتة، كل مايشغل بالهم، كل ماتتطلع إليه أشواقهم هو فضل الله ورضوانه، ولاشيء وراء الفضل والرضوان يتطلعون إليه ويشتغلون به.(8/101)
واللقطة الرابعة: تثبت أثر العبادة الظاهرة، والتطلع المضمر في ملامحهم ونضجها على سماتهم {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} سيماهم في وجوههم من الإشراق والوضاءة والصفاء والشفافية ومن ذبول العبادة الحي الوضئ اللطيف وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عن سماع قوله:{مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} فالمقصود بأثر السجود هو: أثر العبادة، واختار لفظ السجود، لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها، فهو أثر هذا الخشوع، أثره في ملامح الوجه، حيث تتوارى الخيلاء والكبرياء والفراهة ويحل مكانها التواضع النبيل والشفافية الصافية والوضاءة الهادئة والذبول الخفيف الذي يزيد وجه المؤمن وضاءة وصباحة ونبلاً.
وهذه الصورة الوضيئة التي تمثلها هذه اللقطات ليست مستحدثة إنما هي ثابتة لهم في لوحة القدر، ومن ثم فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} وصفتهم التي عرفهم الله بها في كتاب موسى، وبشرَّ الأرض بها قبل أن يجيؤوا إليها {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ} وصفهم في بشارته بمحمد ومن معه إنهم {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} فهو زرع تام قوي يخرج فرخه من قوته وخصوبته، ولكن هذا الفرخ لايضعف العود بل يشده:{ فَآزَرَهُ} وأن العود آزر فرخه فشده {فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} الزرع، وضخمت ساقه وامتلأت {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} لا معوجاً ولامنحنياً، ولكن مستقيماً قوياً سوياً.(8/102)
هذه صورته في ذاته، فأما وقعه في نفوس أهل الخبرة والزرع والعارفين منه النامي، المثمر منه والبائر، فهو وقع البهجة والإعجاب:{ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} وهم رسول الله وأصحابه، وأما وقعه في نفوس الكفار فعلى العكس: فهو وقع الغيظ والكمد: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}، وتعمد إغاظة الكفار يوحي بأن هذه الزراعة زرعة الله أو زرعة رسوله، وأنهم ستار لقدره، وأداة لإغاظة أعداء الله.
وهذا المثل ثابت في الإنجيل في بشارته بمحمد ومن معه حين يجيؤون.
وهكذا يثبت الله في كتابه الخالد صفة هذه الجماعة المختارة -صحابة رسول الله- فتثبت في صلب الوجود كله، وتتجاوب بها أرجاؤه، وهو يستمع إليها من بارئ الوجود، وتبقى نموذجاً للأجيال تحاول أن تحققها ليتحقق معنى الإيمان في أعلى الدرجات.
وفوق هذا التكريم كله، وعد الله بالمغفرة والأجر العظيم:{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} وهو وعد يجئ في هذه الصيغة العامة بعدما تقدم من صفتهم التي تجعلهم أول الداخلين في هذه الصيغة العامة {مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}، وذلك التكريم وحده حسبهم، وذلك الرضى وحده أجر عظيم، ولكنه الفيض الإلهي بلا حدود ولاقيود، والعطاء الإلهي عطاء غير مجذوذ(1).
__________
(1) انظر: التربية القيادية (4/290، 291، 292).(8/103)
يقول سيد رحمه الله: ... ومرة أخرى أحاول من وراء أربعة عشر قرناً أن استشرف وجود هؤلاء الرجال السعداء وقلوبهم وهم يتلقون هذا الفيض الإلهي من الرضى والتكريم والوعد العظيم، وهم يرون أنفسهم هكذا في اعتبار الله وفي ميزان الله، وانظر إليهم وهم عائدون من الحديبية، وقد نزلت هذه السورة، وقد قرئت عليهم، وهم يعيشون فيها بأرواحهم وقلوبهم ومشاعرهم وسماتهم، وينظر بعضهم في وجوه بعض فيرى أثر النعمة التي يحسها وهو في كيانه(1) لقد أيقن الصحابة الكرام أن الدعوة قد دخلت في طور جديد وفتح أكيد، وآفاق أوسع، وامتداد أرحب، وأن من طبيعة هذا الدين أن ينموا وينتعش في أجواء السلم والأمن أكثر منه وقت الحرب ولمسوا مع الأيام نتائج صلح الحديبية التي كان من أهمها:
1-اعترفت قريش في هذه المعاهدة بكيان الدولة المسلمة، فالمعاهدة دائماً لاتكون إلا بين ندين، وكان لهذا الاعتراف أثره في نفوس القبائل المتأثرة بموقف قريش الجحودي حيث كانوا يرون أنها الإمام والقدوة.
2-دخلت المهابة في قلوب المشركين والمنافقين وتيقن الكثير منهم بغلبة الإسلام وقد تجلت بعض مظاهر ذلك في مبادرة كثير من صناديد قريش إلى الإسلام مثل خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، كما تجلت في مسارعة الأعراب المجاورين للمدينة إلى الاعتذار عن تخلفهم.
3-أعطت الهدنة فرصة لنشر الإسلام وتعريف الناس به مما أدى إلى دخول كثير من القبائل فيه، يقول الإمام الزهري: (فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضاً والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل ماكان في الإسلام قبل ذلك)(2).
__________
(1) في ظلال القرآن (6/26/3333).
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/351).(8/104)
وعقب عليه ابن هشام بقوله: والدليل على قول الزهري: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر بن عبدالله ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف(1).
4-أمن المسلمون جانب قريش فحولوا ثقلهم على اليهود ومن كان يناوئهم من القبائل الأخرى، فكانت غزوة خيبر بعد صلح الحديبية.
5-مفاوضات الصلح جعلت حلفاء قريش يفقهون موقف المسلمين ويميلون إليه، فهذا الحليس بن علقمة عندما رأى المسلمين يلبون رجع إلى أصحابه قال: لقد رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
6-مكن صلح الحديبية النبي - صلى الله عليه وسلم - من تجهيز غزوة مؤتة، فكانت خطوة جديدة لنقل الدعوة الإسلامية بأسلوب آخر خارج الجزيرة العربية.
7-ساعد صلح الحديبية النبي - صلى الله عليه وسلم - على إرسال رسائل إلى ملوك الفرس والروم والقبط يدعوهم إلى الإسلام.
8-كان صلح الحديبية سبباً ومقدمة لفتح مكة: يقول ابن القيم: كانت الهدنة مقدمة بين يدي الفتح الأعظم، الذي أعز الله به رسوله وجنده ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، فكانت هذه الهدنة بابا له ومفتاحاً ومؤذناً بين يديه، وهذه عادة الله في الأمور العظام التي يقضيها قدراً وشرعاً أن يوطئ لها بين يديها بمقدمات وتوطيئات وتؤذن لها وتدل عليها(2).
سادساً: أبو بصير في المدينة وقيادته لحرب العصابات:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/351،352).
(2) انظر: زاد المعاد (3/309).(8/105)
في أعقاب صلح الحديبية مباشرة استطاع أبو بصير عتبة بن أسيد أن يفر بدينه من سجون الشرك في مكة المكرمة، وأن يلتحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، فبعث قريش في إثره اثنين من رجالها إلى رسول الله، ليرجعا به، تنفيذاً لشرط المعاهدة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بصير: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ماقد علمت ولايصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، فانطلق إلى قومك. فقال أبو بصير: يارسول الله، أتردني إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ قال: يا أبا بصير، انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجا(1). فانطلق معهما، وقد شق ذلك على المسلمين وهم ينظرون بحزن إلى أخيهم في العقيدة، وهو يعود إلى سجنه بمكة بعد أن استطاع أن يفلت من ظلم قريش، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يهتم بالوفاء بالعهود والمواثيق ولم يكن عنده مجرد نظرية مكتوبة على الورق ولكنه كان سلوكاً عملياً في حياته وفي علاقته الدولية، فقد أوصى الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعهود، وحذر من نقض الأيمان بعد توكيدها في كثير من الآيات القرآنية قال تعالى:{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (سورة النحل، آية:91).
وقال جلّ وعلا:{ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا} (سورة الإسراء، آية:34).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/352).(8/106)
وبهذا يكون الوفاء بالعهد عند المسلمين قاعدة أصولية من قواعد الدين الإسلامي التي يجب على كل مسلم أن يلتزم بها(1).
لقد التزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعهده مع قريش وسلم أبا بصير إليهما وانطلق معهما، فلما كانا بذي الحليفة، قال لأحد صاحبيه: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ فقال: نعم. قال: أنظر إليه؟ قال: انظر، إن شئت، فاستله أبو بصير، ثم علاه به حتى قتله، ففر الآخر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قتل صاحبكم صاحبي، فما لبث أبو بصير أن حضر، متوشحاً السيف، وقال: يارسول الله وفت ذمتك، وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه، أو يعبث بي(2)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد)(3) فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم فخرج حتى أتى سيف البحر(4)، وقد فهم المستضعفون بمكة من عبارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أبا بصير بحاجة إلى الرجال، فأخذوا يفرون من مكة إلى أبي بصير في سيف البحر، فلحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو وغيره حتى اجتمع عند أبي بصير عصبة قوية، فما يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا طريقها وقتلوا من فيها، وأخذوا الأموال التي كانوا يتّجرون بها، فأرسل المشركون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يناشدونه بالله والرحم لما أرسل إلى أبي بصير ومن معه، ومن أتاه منهم فهو آمن، وتخلوا في ذلك عن أقسى شروطهم التي صبوا فيها كؤوس كبريائهم، فذلت قريش من حيث طلبت العز(5).
__________
(1) انظر: منهج الأعلام الاسلامي في صلح الحديبية، ص329.
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/353).
(3) البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد (3/241) رقم 4732.
(4) البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد (3/241) رقم 4732.
(5) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (4/281).(8/107)
فأرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -(1) وهم بناحية العيص، فقدموا عليه وكانوا قريباً من الستين أو السبعين(2) فآوى النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك العصبة المؤمنة التي أقضت مضاجع قريش، وأرغمتها على إسقاط شرطها التعسفي، فزادت بهم قوة المسلمين، وقويت بهم شوكتهم، واشتد بأسهم..
غير أن أبا بصير، رأس تلك العصابة ومؤسسها، لم يقدر له أن يكون معها، فقد وافاه كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعودة إلى المدينة، وهو على فراش الموت، فلفظ أنفاسه حيث كان في الثغر، وهواه في قلب المجتمع النبوي في المدينة(3).
__________
(1) البخاري، كتاب الشروط (3/241) رقم 4732.
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/451).
(3) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة ، ص296.(8/108)
إن قصة أبي جندل وأبي بصير وما احتملاه في سبيل العقيدة، وما أبدياه من الثبات والاخلاص والعزيمة والجهاد حتى مرّغوا رؤس المشركين بالتراب، وجعلوهم يتوسلون بالمسلمين لترك ما اشترطوه عليهم في الحديبية، هذه القصة نموذج يقتدى به في الثبات على العقيدة وبذل الجهد في نصرتها وفيها مايشير إلى مبدأ (قد يسع الفرد مالايسع الجماعة) فقد ألحق أبو بصير وجماعته الضرر بالمشركين في وقت كانت فيه دولة الإسلام لاتستطيع ذلك وفاء بالصلح، لكن أبا بصير وأصحابه خارج سلطة الدولة -ولو في ظاهر الحال- ولم يكن ماقام به أبو بصير والمستضعفون بمكة مجرد اجتهاد فردي لم يحظ باقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر أبا بصير بالكف عن قوافل المشركين ابتداء أو بالعودة إلى مكة، لكن ذلك لم يحدث فكان إقراراً له، إذ كان موقف أبي بصير وأصحابه في غاية الحكمة حيث لم يستكينوا لطغاة مكة يفتنونهم عن دينهم ويمنعونهم من اللحاق بالمدينة، فاختاروا موقفاً فيه خلاصهم وإسناد دولتهم بأعمال تضعف اقتصاد مكة وتزعزع إحساسها بالأمن في وقت الصلح، بل يمكن القول بأن اتخاذ هذا الموقف كان بإشارة وتشجيع من النبي - صلى الله عليه وسلم - حين وصف أبا بصير(1) بأنه (مسعر حرب لو كان معه أحد)(2).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/452).
(2) البخاري، كتاب الشروط (3/241) رقم 4732.(8/109)
إن المتأمل في هذه الأحداث يرأى رعاية الله التي أولاها لهؤلاء الصحابة الكرام، ولاشك أن هناك أسباباً بذلوها فأهلتهم لتلك الرعاية من الله سبحانه، فقد بين سبحانه في كتابه المؤهلات لرعايته وعنايته قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (سورة النحل، آية:128). وقال تعالى:{ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (سورة الأعراف، آية:56). وقال تعالى:{ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (سورة الطلاق، آية:2).
وقال تعالى:{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (سورة العنكبوت، آية:69).
فهذه الصفات قد توافرت في الصحابة رضوان الله عليهم فنالوا تلك الرعاية والعناية من الله، ومتى توافرت في شخص أو أمة في كل زمان ومكان فإن رعاية الله سوف تنزل عليهم لأن الله قد وعد بذلك ووعده الحق(1).
سابعاً: امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رد المهاجرات:
__________
(1) انظر: غزوة الحديبية للحكمي، ص320.(8/110)
صمم مجموعة من النساء المستضعفات في مكة على الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وفي مقدمة هؤلاء النساء أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فقد هاجرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد صلح الحديبية، فأراد كفار مكة أن يردوهن فأنزل الله تعالى في حقهن:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءَاتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ صدق الله العظيم } (سورة الممتحنة، آية:10-11).
ومعنى الآيات الكريمة قوله تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}، قال ابن عباس: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدالله ورسوله، وقوله تعالى:{ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، قال القرطبي: هذا أول دليل على أن الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها إسلامها لاهجرتها(1).
ثم قال تعالى:{ وَءَاتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}.
أي أعطوا أزواج المهاجرات من المشركين الذي غرموه عليهن من الأصدقة.
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي (18/63).(8/111)
وقوله:{ وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} قال ابن كثير: يعني إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن اي تزوجوهن بشرط انقضاء العدة والولي وغير ذلك(1).
وفي قوله:{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} العصم: جمع العصمة وأصل العصمة: الحبل، وكل ما أمسك شيئاً فقد عصمه، والمراد بالعصمة هنا النكاح، الكوافر جمع كافرة، والمعنى: أن الله تعالى نهى المؤمنين عن المقام على نكاح الكوافر، وأمرهم بفراقهن،وقد طلق عمر بن الخطاب امرأتين كانتا له في الشرك لما نزلت هذه الآية(2).
وقوله:{ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار: هاتوا مهرها. ويقال للمسلمين إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة: ردّوا إلى الكفار مهرها وكان ذلك نصفاً وعدلاً في الحالتين وكان هذا حكم الله مخصوصاً، بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة قاله ابن العربي(3).
قوله تعالى:{ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}.
إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة، وليس بينكم وبينهم عهد، ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم فاعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس(4)، وقال الزهري: يعطي من مال الفئ، وعنه يعطي من صداق من لحق بنا(5).
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (4/351).
(2) البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد (3/258).
(3) انظر: تفسير القرطبي (18/68) ؛ حديث القرآن الكريم (2/545).
(4) انظر: حديث القرآن الكريم (2/545).
(5) انظر: تفسير ابن كثير (4/352).(8/112)
وقال مجاهد:{ فَعَاقَبْتُمْ} أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم(1).
قال أبو السعود:{ فَعَاقَبْتُمْ} أي فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر، شبه ماحكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى، بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره(2).
وقوله:{ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}.
قال ابن كثير: فلو أنها ذهبت بعد هذه الآية امرأة من أزواج المؤمنين إلى المشركين رد المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العقب الذي بأيديهم الذي أمروا أن يردوه على المشركين من نفقاتهم التي أنفقوا على أزواجهم آمن وهاجرن ثم ردوا إلى المشركين فضلاً إن كان بقي لهم(3).
وختم الآية الكريمة بقوله:{ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} اي احذروا أن تعتدوا ما أمرتم به.
قال الزهري: ومانعلم أحداً من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها(4) وقال ابن حجر: أراد الزهري بذلك الإشارة إلى أن المعاقبة المذكورة بالنسبة إلى الجانبين إنما وقعت في الجانب الواحد لأنه لم يعرف أحداً من المؤمنات فرت من المسلمين إلى المشركين بخلاف عكسه(5).
لقد حدث خلاف في فهم البند القائل: من أتى محمداً - صلى الله عليه وسلم - من قريش بغير اذن وليه رده عليهم، فالمشركون يرون أن النص يشمل الرجال والنساء، والرسول - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) نفس المصدر (4/252).
(2) انظر: تفسير ابي السعود (8/240).
(3) انظر: تفسير ابن كثير (4/352).
(4) انظر: فتح الباري (5/333).
(5) نفس المصدر (5/352).(8/113)
يرى أن النص للرجال دون النساء، اذ النص جاء بصيغة المذكر، ولقد أيد الله رسوله فيما ذهب اليه، فلم يرجع مسلمة هاجرت إلى المدينة فراراً بدينها، بل امتحنها وقبلها بناء على أمر ربه سبحانه وتعالى(1).
يقول الاستاذ محمد عزة دروزة تعقيباً على آية الامتحان: والآية تفهم مع الاستئناس بالروايات المنسقة اجمالاً معها، ان بعض المؤمنات اللاتي لم يستطعن أن يهاجرن إلى المدينة قبل الصلح اغتنمن فرصة فهاجرن خلسة، وأن ذويهن جاؤا يطالبون بإعادتهن وفقاً لشروط الصلح، فنزلت الآية تنهي عن اعادتهن، وتأمر بالتعويض على أزواجهن، وقد تعددت الأقوال في حقيقة نص وثيقة الصلح، ومنها أنه كان مطلقاً وبصيغة التذكير، فرأى المكيون أنه شامل الرجال والنساء معاً فجاءوا يطالبون بالاعادة، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لايشمل النساء، فنزلت الآية حاسمة للأمر، وهذا هو المعقول(2).
وقال الاستاذ الغزالي، (وقد أبى المسلمون عقيب صلح الحديبية أن يردوا النسوة المهاجرات بدينهن إلى أوليائهن، أما لأنهم فهموا أن المعاهدة خاصة بالرجال فحسب، أو لأنهم خشوا على النساء اللاتي أسلمن أن يضعفن أمام التعذيب والاهانة، وهنّ لايستطعن ضرباً في الأرض، ورداً للكيد، كما فعل أبو جندل وأبو بصير وأضرابهما، وأيا كان الأمر فان احتجاز من أسلم من النساء تم بتعليم القرآن) (3).
المبحث الثالث
دروس وعبر وفوائد
كانت غزوة الحديبية غنية بالدروس العقائدية والفقهية، والأصولية والتربوية... الخ وسوف أذكر منها بعض الدروس على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: أحكام تتعلق بالعقيدة:
1-حكم القيام على رأس الكبير وهو جالس:
__________
(1) انظر: غزوة الحديبية ، ص178.
(2) انظر: سيرة الرسول، دروزة (2/354).
(3) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص367.(8/114)
في قيام المغيرة بن شعبة على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسيف ولم يكن من عادته أن يقام على رأٍسه وهو قاعد سنة يقتدى بها عند قدوم رسل العدو من اظهار العز والفخر وتعظيم الإمام وطاعته ووقايته بالنفوس وهذه هي العادة الجارية عند قدوم رسل المؤمنين على الكافرين وقدوم رسل الكافرين على المؤمنين وليس هذا من النوع الذي ذمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبؤا مقعده من النار)(1).
كما أن الفخر والخيلاء في الحرب ليسا من هذا النوع المذموم في غيره(2)، ويشبه هذا مافعله أبو دجانة في غزوة أحد، فكل مايدل على التكبر أو التجبر في المشي ممنوع شرعاً ولكنه جائز في حالة الحرب بخصوصها بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - عن مشية أبي دجانة: إنها مشية يكرهها الله إلا في هذا الموضع(3).
2-استحباب الفأل وأنه مغاير للطيرة:
لما جاء سهيل بن عمرو لمفاوضة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال رسول الله:(سهل أمركم)(4)، ففي الحديث استحباب التفاؤل وأنه ليس من الطيرة المكروهة(5).
وقد جاءت أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبين معنى الفأل، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لاطيرة وخيرها(6) الفأل، قالوا: وما الفأل يارسول الله؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم(7)، والفرق بين الفأل والطيرة: أن الفأل من طريق حسن الظن بالله والطيرة لاتكون إلا في السوء فلذلك كرهت(8).
__________
(1) أخرجه ابو داود في الأدب (5229): باب قيام الرجل للرجل.
(2) انظر: زاد المعاد (3/304).
(3) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص241.
(4) انظر: زاد المعاد (3/305).
(5) نفس المصدر (3/305).
(6) انظر: غزوة الحديبية للحكمي، ص303.
(7) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب 5756.
(8) فتح الباري (10/215).(8/115)
وقد ذكرت الطيرة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحسنها الفأل ولاترد مسلماً فإذا رأى أحدكم مايكره فليقل: اللهم لايأتي بالحسنات إلا أنت ولايدفع بالسيئات إلا أنت ولاحول ولاقوة إلا بك(1).
3-بيان كفر من اعتقد أن للكوكب تأثيراً في إيجاد المطر:
قال خالد الجهني رضي الله عنه: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية -على أثر سماء(2) كانت من الليلة- فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب. وأما من قال: بنو(3) كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب(4).
وقد حمل العلماء الكفر المذكور في الحديث على أحد نوعيه الإعتقادي أو كفر النعمة بحسب حال القائل.
فمن قال مطرنا بنوء كذا معتقداً أن للكوكب فاعلية وتأثيراً في إيجاد المطر فهو كافر كفراً مخرجاً من الملّة قال الشافعي: من قال مطرنا بنوء كذا وكذا على ماكان أهل الجاهلية يعنون من إضافة المطر إلى أنه بنوء كذا فذلك كفر كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن النوء وقت، والوقت مخلوق لايملك لنفسه ولا لغيره شيئاً. ومن قال مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا في وقت كذا فلا يكون كفراً وغيره من الكلام أحب إلى منه(5).
فالشافعي يقصد هنا الكفر الاعتقادي(6).
4-هل يجوز التبرك بفضلات الصالحين وآثارهم:
__________
(1) سنن ابي داود مع معالم السنن/ كتاب الطب: 3919.
(2) أثر سماء: المقصود المطر.
(3) الأنواء: ثمان وعشرون منزلة ينزل القمر كل ليلة في منزلة.
(4) البخاري مع الفتح، كتاب الآذان: 846.
(5) الأم (1/252).
(6) انظر: غزوة الحديبية للحكمي، ص304.(8/116)
ففي حديث عروة بن مسعود وهو يصف أصحاب رسول الله حوله قال: فوالله ماتنخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده ... وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه(1).
وقد علق الشاطبي على هذا الحديث وأحاديث أخرى تماثله فقال: فالظاهر في مثل هذا النوع أن يكون مشروعاً في حق من ثبت ولايته واتباعه لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يتبرك بفضل وضوءه ويتدلك بنخامته ويستشفي بآثاره كلها، ويرجى نحو مما كان في آثار المتبوع الأصل(2) - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه مشكل في تنزيله وهو أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته عليه السلام لم يقع من أحد منهم في شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه إذ لم يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه فهو كان خليفته ولم يفعل به شيء من ذلك ولا عمر رضي الله عنه وهو كان أفضل الأمة بعده ثم كذلك عثمان ثم علي ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركاً تبرك به على أحد تلك الوجوه أن نحوها بل اقتصروا على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو إذا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء(3).
__________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب الشروط رقم 2731، 2732.
(2) قال محقق كتاب الاعتصام: يظهر ان الجملة محرفة.
(3) انظر: غزوة الحديبية للحكمي، ص305.(8/117)
وقد أخرج بن وهب في جامعه من حديث يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: حدثني رجل(1) من الأنصار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضأ أو تنخم ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته فشربوه ومسحوا به جلودهم. فلما رآهم يصنعون ذلك سألهم (لم تفعلون هذا؟) قالوا: نلتمس الطهور والبركة بذلك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان منكم يحب أن يحبه الله ورسوله فليصدق الحديث وليؤد الأمانة ولايؤذ جاره(2).
وهذا الحديث أفاد أن الأولى ترك التبرك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولعل سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك يوم الحديبية ليرى عروة بن مسعود رسول قريش مدى تعلق الصحابة رضوان الله عليهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وحبهم له لاسيما وقد قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني لأرى أشوابا من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك(3) هذه بعض المسائل العقائدية.
ثانياً: أحكام فقهية وأصولية:
1-قصة كعب بن عجرة ونزول آية الفدية:
__________
(1) هو عبدالرحمن بن أبي قرد - رضي الله عنه -. الترغيب والترهيب (3/589).
(2) هذا الحديث قال عنه الألباني: هو حديث ثابت له طرق وشواهد في معجمي الطبراني وغيرها. السلسلة الصحيحة رقم 2998.
(3) البخاري، كتاب الشروط رقم 2732.(8/118)
قال كعب بن عجرة رضي الله عنه: وقف عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ورأسي يتهافت(1) قملاً فقال: أيؤذيك هوامك(2) قلت: نعم. قال: فاحلق رأسك. أو قال: (احلق) قال: فنزلت هذه الآية:{ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (سورة البقرة، آية:196) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق بين ستة أو انسك(3) بما تيسر(4) وفي رواية مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم وهو يوقد تحت قدر والقمل يتهافت على وجهه فقال: أيؤذيك هوامك هذا؟ قال نعم. قال: فاحلق رأسك وأطعم فرقاً بين ستة مساكين (والفرق ثلاث أصع) أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة(5)، وآية البقرة المذكورة تبين حكم من كان محرماً وبه أذى من رأسه وهي نزلت في كعب بن عجرة خاصة واصبح لكل مسلم يمر بنفس الحالة.
2-مشروعية الصلاة في الرحال:
روى ابن ماجة عن أبي المليح بن أسامة قال: خرجت إلى المسجد في ليلة مطيرة فلما رجعت استفتحت فقال أبي(6): من هذا؟ قال: أبو المليح. قال: لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية وأصابتنا سماء لم تبل أسافل نعالنا فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلوا في رحالكم(7). وهذا الحديث صحيح، فسنده متصل برواية الثقات وقد صححه ابن حجر(8).
3-انصراف المسلمين من الحديبية ونومهم عن صلاة الصبح:
__________
(1) يتهافت: يتساقط. النهاية (5/266).
(2) الهوام: جمع هامة وهي مايدب من الأخشاش والمراد القمل.
(3) انسك: اذبح. النهاية (5/48).
(4) صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المحصر: 1815.
(5) مسلم، كتاب الحج: 82.
(6) أسامة بن عمير الهذلي البصري صحابي تفرد ولده عنه.
(7) سنن ابن ماجة ، كتاب إقامة الصلاة: 936.
(8) فتح الباري (2/113)، غزوة الحديبية للحكمي، ص221.(8/119)
كانت مدة إقامة المسلمين بالحديبية بضعة عشر يوماً ويقال عشرين ليلة على قول الواقدي(1) وابن سعد(2).
وعن ابن عائذ:(أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام في غزوته هذه شهراً ونصفاً)(3).
والذي يبدو: أن الواقدي وابن سعد أرادا تحديد مدة إقامته - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية، أما ابن عائذ فقصد الزمن الذي استغرقته غيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ خروجه من المدينة إلى عودته إليها.
__________
(1) انظر: مغازي الواقدي (2/616).
(2) انظر: الطبقات الكبرى (2/98).
(3) انظر: شرح الزرقاني على المواهب (2/210).(8/120)
وبعد أن تحلل المسلمون من عمرتهم تلك قفلوا راجعين إلى المدينة فلما كان من الليل عدلوا عن الطريق للنوم ووكلوا بلالاً بحراستهم، فنام بلال ولم يوقظهم إلا حر الشمس(1) كما جاء في حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يكلؤونا؟(2) فقال بلال: أنا. فناموا حتى طلعت الشمس واستيقظ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: افعلوا كما كنتم تفعلون قال: ففعلنا. قال: فكذلك فافعلوا لمن نام أو نسى(3) وقد وردت أحاديث أخرى تفيد أن قصة نومهم عن صلاة الصبح وقعت في غير الحديبية وحاول بعض العلماء التوفيق بين هذه النصوص وذهب الدكتور حافظ الحكمي إلى أن ماورد من اختلاف بين حديث عبدالله بن مسعود في قصة الحديبية وغيره محمول على تعدد القصة كما رجح ذلك النووي(4)، وجنح إليه ابن كثير(5) وابن حجر(6)، والزرقاني، بل قال السيوطي لايجمع إلا بتعدد القصة(7).
4-مشروعية الهدنة بين المسلمين وأعدائهم ومقدار المدة التي تجوز المهادنة عليها:
استدل العلماء والأئمة بصلح الحديبية على جواز عقد هدنة بين المسلمين وأهل الحرب من أعدائهم إلى مدة معلومة، سواء أكان ذلك بعوض يأخذونه منهم أم بغير عوض، أما بدون عوض فلأن هدنة المدينة كانت كذلك، وأما بعوض فبقياس الأولى لأنها إذا جازت بدون عوض، فلأن تجوز بعوض أقرب وأوجه.
__________
(1) انظر: غزوة الحديبية، ص251.
(2) يكلؤونا: يحرسنا.
(3) انظر: سنن أبي داود مع معالم السنن، كتاب الصلاة: 447.
(4) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (5/181-182)؛ غزوة الحديبية ، ص258.
(5) انظر: البداية والنهاية (4/213).
(6) فتح الباري (1/449)؛ شرح الزرقاني على الموطأ (1/47).
(7) انظر: تنوير الحوالك (1/33).(8/121)
وأما إذا كانت المصالحة على مال يبذله المسلمون، فهو غير جائز عند جمهور المسلمين، لما فيه من الصغار لهم، ولأنه لم يثبت دليل من الكتاب أو السنة على جواز ذلك، قالوا: إلا إن دعت إليه ضرورة لامحيص عنها وهو أن يخاف المسلمون الهلاك أو الأسر فيجوز، كما يجوز للأسير فداء نفسه بالمال.
وقد ذهب الشافعي وأحمد رحمهم الله وكثير من الأئمة إلى أن الصلح لاينبغي أن يكون إلا إلى مدة معلومة، وأنه لايجوز أن تزيد المدة على عشر سنوات مهما طالت، لأنها هي المدة التي صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشاً عليها عام الحديبية(1).
وذهب آخرون إلى جواز الهدنة أكثر من عشر سنين على مايراه الإمام من المصلحة وهو قول أبي حنيفة(2).
والتحقيق: أن القول الأول هو الراجح لظاهر الحديث، وإن وجدت مصلحة في الزيادة على العشر جدد العقد، كما قال الشافعي(3).
وقال بعض المتأخرين(4) يجوز عقد صلح مؤبد غير مؤقت بمدة معينة واستدل بقوله تعالى:{ إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا} (سورة النساء، آية:90).
وهذا قول مبني على أن الأصل في علاقة المسلمين بالكفار هي السلم لا الحرب(5)، وأن الجهاد إنما شرع لمجرد الدفاع عن المسلمين فحسب(6).
وهذا القول مردود لما يلي:
__________
(1) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص242.
(2) انظر: فتح القدير (5/546) ؛ غزوة الحديبية ، ص294.
(3) انظر: غزوة الحديبية، ص295.
(4) الدكتور وهبة الزحيلي: آثار الحرب في الفقه الاسلامي، ص680.
(5) انظر: آثار الحرب في الفقه الاسلامي للزحيلي، ص675.
(6) نفس المصدر، ص675.(8/122)
أ-أن صاحب هذا القول قد خرق الإتفاق بعد أن حكاه بنفسه حيث قال: اتفق الفقهاء على أن عقد الصلح مع العدو لابد من أن يكون مقدوراً بمدة معينة، فلا تصح المهادنة مطلقة إلى الأبد من غير تقدير بمدة(1).
ب-الآية التي استدل بها منسوخة بقوله تعالى:{ فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَءَاتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة التوبة، آية:5). فقد نقل ذلك ابن جرير(2) عن عكرمة والحسن وقتادة وابن زيد، وحكاه القرطبي(3) عن مجاهد. ثم قال: وهو أصح شيء في معنى الآية.
جـ-الأصل الذي انبنى عليه هذا القول: مردود بآية براءة السابقة وبواقع سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وخلفائهم مع أعدائهم.
د-أما فكرة أن الجهاد إنما شرع للدفاع عن المسلمين، فهي فكرة دخيلة وقد تصدى لها سيد قطب(4) رحمه الله ففندها، وبين أن سبب نشوئها هو الإنهزام أمام هجمات المستشرقين، وعدم الفهم لمرحلية الدعوة(5).
5-المطلق يجري على اطلاقه:
__________
(1) المصدر السابق، ص675.
(2) انظر: تفسير الطبري (9/24-26).
(3) انظر: تفسير القرطبي (5/308).
(4) في ظلال القرآن (3/1433) ومابعدها.
(5) انظر: غزوة الحديبية للحكمي، ص296.(8/123)
هذه قاعدة أصولية يؤيدها مارواه ابن هشام عن أبي عبيد أنه قال: إن بعض من كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال له لما قدم المدينة: ألم تقل يارسول الله إنك تدخل مكة آمناً؟ قال: بلى، أفقلت لكم من عامي هذا؟ قالوا: لا، قال: فهو كما قال لي جبريل- عليه السلام-(1) وفي هذا الأثر، تبشير المؤمنين بفتح مكة، في المستقبل، وإيماء بالوحي الصادق إلى ذلك النصر، ولفت لهم إلى وجوب التسليم لأمره، بإطلاق، كلما ورد مطلقاً، دون تحميله زيادات وقيوداً تصرفه عن إطلاقه(2).
6-وجوب طاعته - صلى الله عليه وسلم - والانقياد لأمره وإن خالف ظاهر ذلك القياس أو كرهته النفوس:
جاء في قصة الحديبية أن عمر بن الخطاب وبعض الصحابة رضي الله عنهم كرهوا الصلح مع قريش(3) لما رأوا في شروطها من الظلم والإجحاف في حقهم، لكنهم ندموا بعد ذلك على صنيعهم ورأوا أنهم وقعوا في حرج، إذ كيف يكرهون شيئاً رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وظلت تلك الحادثة درساً لهم فيما استقبلوا من حياتهم، وكانوا يحذرون غيرهم من الوقوع فيما وقعوا فيه من الاعتماد على الرأي(4): فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:(أيها الناس اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأي اجتهاداً فوالله ماآلوا عن الحق وذلك يوم أبي جندل(5)).
وكان سهل بن حنيف رضي الله عنه يقول: اتهموا رأيكم رأيتني يوم أبي جندل ولو استطيع أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته(6).
ولقد بقي عمر بن الخطاب رضي الله عنه برهة من الزمن متخوفاً أن ينزل الله به عقاباً للذي صنع يوم الحديبية.
__________
(1) انظر: صورة وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص297.
(2) انظر: غزوة الحديبية للحكمي ، ص313.
(3) نفس المصدر، ص313.
(4) انظر: غزوة الحديبية، للحكمي، 313.
(5) نفس المصدر، ص179.
(6) المصدر السابق، ص313.(8/124)
فكان رضي الله عنه يتحدث عن قصته تلك ويقول: فما زلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيراً(1).
قال ابن الديبع الشيباني تعليقاً على هذه الحادثة: قال العلماء لايخفى مافي هذه القصة من وجوب طاعته - صلى الله عليه وسلم - والإنقياد لأمره وإن خالف ظاهر ذلك مقتضى القياس أو كرهته النفوس فيجب على كل مكلف أن يعتقد أن الخير فيما أمر به، وأنه عين الصلاح المتضمن لسعادة الدنيا والآخرة، وأنه جاء على أتم الوجوه وأكملها غير أن أكثر العقول قصرت عن إدراك غايته وعاقبة أمره(2).
ثالثاً: أنموذج من التربية النبوية:
في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ماحط عن بني إسرائيل(3).
يظهر في هذا الحديث جانب عظيم من جوانب التربية النبوية يستحق التأمل والتدبر، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشجع أصحابه على صعود الثنية ثم يخبرهم أن الذي يجتازها سينال مغفرة من الله تعالى، وحين نتأمل هذا الحديث تبرز لنا معان عظيمة منها:
1-أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يربط قلوب أصحابه باليوم الآخر في كل لحظة من لحظات حياتهم.
2-أنه يريد لفت أنظارهم إلى أن كل حركة يتحركونها وكل عمل يقومون به -حتى مايرون أنه من العادات أو من دواعي الغريزة- يجب استغلاله للتزود لذلك اليوم، وكان - صلى الله عليه وسلم - يسعى دائماً لترسيخ تلك المعاني في نفوس الصحابة فنراه يقول في موطن آخر :(وفي بضع أحدكم صدقة) قالوا: يارسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر(4).
__________
(1) انظر: حدائق الأنوار ومطالع الأسوار (2/622).
(2) انظر: مرويات غزوة الحديبية، ص315.
(3) مسلم، كتاب الزكاة: 53
(4) مسلم ، كتاب الزكاة: 53.(8/125)
ويقول في موطن ثالث: وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة حتى اللقمة التي ترفعها إلى في امرأتك(1).
إن تلك المعاني -إذا تمكنت في قلب المسلم- لكفيلة بأن تصبغ حياته كلها بصبغة العبودية لله وحده، وإذا شملت العبادة كل نواحي حياة المسلم فإن لهذا الشمول آثار مباركة سوف يشعر بها الفرد في نفسه ثم يلمسها فيمن حوله(2).
ومن أبرز تلك الآثار أمران:
أ-أن يصبغ حياة المسلم وأعماله بالصبغة الربانية ويجعله مشدوداً إلى الله في كل مايؤديه، فهو يقوم به بنية العابد الخاشع، وروح القانت المخبت، وهذا يدفعه إلى الاستكثار من كل عمل نافع وكل انتاج صالح، وكل ماييسر له ولأبناء نوعه الانتفاع بالحياة، على أمثل وجوهها، فإن ذلك يزيد رصيده من الحسنات والقربات عند الله تعالى كما يدعوه هذا المعنى إلى إحسان عمله الدنيوي وتجويده واتقانه، مادام يقدمه إلى ربه سبحانه ابتغاء رضوانه وحسن مثوبته.
ب-أنه يمنح المسلم وحدة الوجهة ووحدة الغاية في حياته كلها. فهو يرضى ربا واحداً في كل ما يأتي ويدع، ويتجه إلى هذا الرب بسعيه كله الديني والدنيوي، لا انقسام ولاصراع، ولا ازدواج في شخصية ولا في حياته(3).
ولقد عاش الصحابة الكرام تلك المعاني وحوّلوها إلى حقائق ملموسة في حياتهم كلها، وماحفظ الله سيرتهم إلا لكي نقتدي بهم في حياتنا وتكون حجة على كل من جاء بعدهم(4).
الفصل الرابع عشر
__________
(1) البخاري، مع الفتح، كتاب الوصايا: 2742.
(2) انظر: مرويات غزوة الحديبية للحكمي، ص315.
(3) انظر: العبادة في الاسلام للقرضاوي، ص66.
(4) انظر: مرويات غزوة الحديبية للحكمي، ص316؛ للحكمي لقد استفذت في فصل غزوة الحديبية استفادة كبير من كتاب مرويات غزوة الحديبية، للحكمي، وصلح الحديبية، باشميل، غزوة الحديبية لأبي فارس وكانت هذه الكتب هي العمدة في هذا الفصل كما استنفذت من غيرها كمراجع مصادر.(8/126)
أهم الأحداث مابين الحديبية وفتح مكة
المبحث الأول
غزوة خيبر
أولاً: تاريخها وأسبابها:
ذكر ابن اسحاق(1) أنها كانت في المحرم من السنة السابعة للهجرة، وذكر الواقدي(2) أنها كانت في صفر أو ربيع الأول من السنة السابعة للهجرة بعد العودة من غزوة الحديبية، وذهب ابن سعد(3) الى أنها في جمادى الاولى سنة سبع، وقال الإمامان الزهري ومالك إنها في محرم من السنة السادسة(4)، وظاهر الخلاف بين ابن اسحاق والواقدي يسير، وهو نحو الشهرين، وكذلك فإن الخلاف بينهما وبين الامامين الزهري ومالك مرجعه الى الاختلاف في ابتداء السنة الهجرية الاولى كما سبق الإشارة الى ذلك، وقد رجح ابن حجر(5) قول ابن اسحاق على قول الواقدي(6).
لم يُظهر يهود خيبر العداء للمسلمين حتى نزل فيهم زعماء بني النضير، الذي حز في نفوسهم إجلاؤهم عن ديارهم، ولم يكن الإجلاء كافياً لكسر شوكتهم، فقد غادروا المدينة ومعهم النساء والأبناء والأموال وخلفهم القيان يضربن الدفوف والمزامير بزهاء وفخر مارئي مثله في حي من الناس في زمانهم(7).
وكان من أبرز زعماء بني النضير الذين نزلوا في خيبر سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن أبي الحقيق، حيي بن أخطب فلما نزلوا دان لهم أهلها(8).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/455) - معلقاً.
(2) انظر: المغازي (2/634).
(3) انظر: الطبقات لابن سعد (2/106).
(4) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (1/33).
(5) انظر: الفتح (16/41)؛ السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص500.
(6) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص500.
(7) انظر: السيرة النبوية الأصلية (1/319).
(8) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/319).(8/127)
وكان تزعم هؤلاء ليهود خيبر كافياً في جرها الى الصراع والتصدي والانتقام من المسلمين، فقد كان يدفعهم حقد دفين ورغبة قوية في العودة الى ديارهم داخل المدينة، وكان أول تحرك قوي ماحدث في غزوة الأحزاب حيث كان لخيبر وعلى رأسها زعماء بني النضير دور كبير في حشد قريش والأعراب ضد المسلمين وتسخير أموالهم في ذلك، ثم سعيهم في إقناع بني قريظة بالغدر والتعاون مع الاحزاب(1)، بل إنهم أنفقوا أموالهم واستغلوا علاقاتهم مع يهود بني قريظة من أجل نصرة الأحزاب وطعن المسلمين في ظهورهم(2)، وهكذا أصبحت خيبر مصدر خطر كبير على المسلمين ودولتهم النامية.
تفرغ المسلمون بعد صلح الحديبية لتصفية خطر يهود خيبر الذي أصبح يهدد أمن المسلمين، ولقد تضمنت سورة الفتح التي نزلت بعد الحديبية وعداً إلهياً بفتح خيبر وحيازة أموالها غنيمة(3)، قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا صدق الله العظيم وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا صدق الله العظيم وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا صدق الله العظيم وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا صدق الله العظيم } (سورة الفتح، الآيات 18-21).
ثانياً: مسير الجيش الإسلامي الى خيبر:
__________
(1) نفس المصدر (1/319).
(2) انظر: نظرة النعيم (1/349).
(3) انظر: نظرة النعيم (1/349).(8/128)
سار الجيش الى خيبر بروح إيمانية عالية على الرغم من علمهم بمنعة حصون خيبر وشدة بأس رجالها وعتادها الحربي وكانوا يكبرون ويهللون بأصوات مرتفعة، فطلب منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرفقوا بأنفسهم: قائلاً: (أيها الناس تدعون سميعاً قريباً وهو معكم)(1).
وكان سيره - صلى الله عليه وسلم - بالجنود ليلاً، فقد قال سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الى خيبر فسرنا ليلاً(2) وكان عامر بن الأكوع يحدو بالقوم ويقول:
اللهم لولا أنت مااهتدينا
... ... ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأغفر فداء لك(3) مااتقينا
... ... ... وثبت الاقدام إن لاقينا
وألقين سكينة علينا
... ... ... إنا إذا صيح بنا أتينا
... ... وبالصياح عولوا علينا
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا السائق؟ قالوا عامر بن الأكوع.
قال: يرحمه الله.
قال رجل (وهو عمر بن الخطاب)(4) من القوم: وجبت يانبي الله، لولا متعتنا به(5).
وعندما وصل الجيش الاسلامي بالصهباء - وهي من أدنى خيبر- صلى العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلاّ السويق، فأمر به فثري، فأكل وأكل معه الصحابة، ثم قام الى المغرب فمضمض ثم صلى بالصحابة ولم يتوضأ(6).
__________
(1) البخاري، كتاب الدعوات رقم 6384.
(2) البخاري، كتاب المغازي رقم 4196.
(3) البخاري، كتاب المغازي رقم 4196.
(4) انظر: فتح الباري (7/466).
(5) البخاري، كتاب المغازي رقم 4196.
(6) انظر: الصراع مع اليهود (2/30).(8/129)
وكان - صلى الله عليه وسلم - قد بعث عباد بن بشر - رضي الله عنه - في سرية استطلاعية يتلقط أخبار العدو، ويستطلع إن كان هناك كمائن، فلقي في الطريق عيناً لليهود من أشجع، فقال: من أنت؟ قال: باغ ابتغي أبعرة ضلت لي، أنا على إثرها. قال عباد: ألك علم بخيبر؟ قال: عهدي بها حديث، فيم تسألني عنه؟ قال: عن اليهود؟ قال: نعم، كان كنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس ساروا في حلفائهم من غطفان، فاستنفروهم وجعلوا لهم ثمر خيبر سنة، فجاءوا معدين مؤيدين بالكراع والسلاح يقودهم عتبة بن بدر، ودخلوا معهم في حصونهم، وفيهم عشرة آلاف مقاتل، وهم أهل الحصون التي لا ترام، وسلاح وطعام كثير لو حصرو لسنين لكفارهم، وماء وأتى يشربون في حصونهم، ماأرى لأحد بهم طاقة، فرفع عباد بن بشر السوط فضربه ضربات، وقال: ماأنت إلا عين لهم، أصدقني وإلا ضربت عنقك! فقال الاعرابي: القوم مرعوبون منكم خائفون، وجلون لما صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود....وقال لي كنانة: اذهب معترضاً للطريق فإنهم لايستنكرون مكانك، واحزرهم لنا، وادن منهم كالسائل لهم ماتقوى به، ثم ألق إليهم كثرة عددنا ومادتنا، فإنهم لن يدعوا سؤلك، وعجل الرجعة إلينا بخبرهم(1).
وعندما وصل جيش المسلمين الى مشارف خيبر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: قفوا. ثم قال: اللهم رب السموات وما أظللن، ورب الأرضين وماأقللن، ورب الشياطين وماأظللن، ورب الرياح وما ذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها وخير مافيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها، وشر مافيها، أقدموا باسم الله، وكان يقولها لكل قرية دخلها(2).
__________
(1) انظر: المغازي للواقدي (2/610-641).
(2) انظر: المستدرك (2/100) قال الحاكم حديث صحيح الإسناد وأقره الذهبي.(8/130)
ولما أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الليل أمر الجيش بالنوم على مشارف خيبر، ثم استيقظوا مبكرين، وضربوا خيامهم ومعسكرهم بوادي الرجيع، وهو وادي يقع بين خيبر وغطفان، حتى يقطعوا المدد عن يهود خيبر من قبيلة غطفان(1).
ولما أصبح الصبح خرجت اليهود بمساحيهم(2) ومكاتلهم(3)، فلما رأوا جيش المسلمين قالوا: محمد والله، محمد والخميس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين(4).
ثالثاً: وصف تساقط حصون خيبر:
هرب اليهود الى حصونهم وحاصرهم المسلمون، وأخذوا في فتح حصونهم واحداً تلو الآخر، وكان أول ماسقط من حصونهم ناعم والصعب بمنطقة النطاة وأبى النزار بمطقة الشق، وكانت هاتان المنطقتان في الشمال الشرقي من خيبر، ثم حصن القموص المنيع في منطقة الكتيبة، وهو حصن ابن أبي الحقيق، ثم اسقطوا حصني منطقة الوطيح والسلالم(5).
__________
(1) انظر: الصراع مع اليهود (2/45).
(2) المساحي: جمع ومفردها مسحاة، والمسحاة المجرفة من الحديد.
(3) المكاتل: جمع مكتل، وهو المقطف الكبير.
(4) البخاري، كتاب المغازي، رقم 4210.
(5) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص501.(8/131)
وقد واجه المسلمون مقاومة شديدة وصعوبة كبيرة عند فتح بعض هذه الحصون، منها حصن ناعم الذي استشهد تحته محمود بن مسلمة الأنصاري، حيث ألقى عليه مرحب رحى من أعلى الحصن(1)، والذي استغرق فتحه عشرة أيام(2)، فقد حمل راية المسلمين عند حصاره أبو بكر الصديق، ولم يفتح الله عليه، وعندما جهد الناس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه سيدفع اللواء غداً الى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، لا يرجع حتى يفتح له، فطابت نفوس المسلمين، فلما صلى فجر اليوم الثالث دعا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ودفع إليه اللواء فحمله فتم فتح الحصن على يديه(3)، وكان علي يشتكي من رمد في عينيه عندما دعاه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عينيه ودعا له، فبرئ(4) ولقد أوصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - علياً بأن يدعو اليهود الى الاسلام قبل أن يداهمهم، وقال له: (فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن تكون لك حمر النعم)(5). وعندما سأله علي: يارسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: (قاتلهم حتى يشهدوا أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)(6).
وعندما حاصر المسلمين لهذا الحصن برز لهم سيده وبطلهم مرحب، وكان سبباً في استشهاد عامر بن الأكوع، ثم بارزه علي فقتله(7)، مما أثر سلبياً في معنويات اليهود ومن ثم هزيمتهم(8).
__________
(1) نفس المصدر ، ص501.
(2) انظر: الواقدي (2/657).
(3) انظر: المستدرك (3/37)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) مسلم (4/1872) رقم 2406.
(5) مسلم (2/1871) رقم 2404، 2405.
(6) مسلم (2/1872) رقم 1405.
(7) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، 502.
(8) نفس المصدر ، ص502.(8/132)
ووردت مجموعة من روايات تخبر بأن علي - رضي الله عنه - تترس بباب عظيم كان عند حصن ناعم بعد أن أسقط يهودي ترسه من يده، وكلها روايات ضعيفة(1)، وعدم الاعتماد عليها لا ينفي قوة علي وشجاعته، فيكفيه ماثبت في ذلك وهو كثير(2).
توجه المسلمون الى حصن الصَّعْب بن مُعاذ بعد فتح حصن ناعم، وأبلى حامل رايتهم الحباب بن المنذر بلاء حسناً حتى افتتحوه بعد ثلاثة أيام، ووجدوا فيه الكثير من الطعام والمتاع، يوم كانوا في ضائقة من قلة الطعام، ثم توجهوا بعده الى حصن قلعة الزبير الذي اجتمع فيه الفارون من حصن ناعم والصعب وبقية مافتح من حصون يهود -فحاصروه وقطعوا عنه مجرى الماء الذي يغذيه، فاضطروهم الى النزول للقتال، فهزموهم بعد ثلاثة أيام وبذلك تمت السيطرة على آخر حصون منطقة النَّطاة التي كان فيها أشد اليهود، ثم توجهوا الى حصون منطقة الشِّق وبدأو بحصن أُبَيّ، فاقتحموه، وأفلت بعض مقاتلته الى حصن نَزار وتوجه إليهم المسلمون فحاصروهم ثم افتتحوا الحصن، وفر بقية أهل الشق من حصونهم وتجمعوا في حصن القَمُوص المنيع وحصن الوطيح وحصن السُّلاَلم، فحاصرهم المسلمون لمدة أربعة عشر يوماً حتى طلبوا الصلح(3).
وهكذا فتحت خيبر عنوة(4)، إستناداً الى النظر في مجريات الأحداث التي سقناها، وماروى البخاري(5) ومسلم(6)، وأبوداود(7) من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا خيبر وافتتحها عنوة(8).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/324).
(2) نفس المصدر (1/34).
(3) انظر: الواقدي (2/658-671).
(4) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص504.
(5) نفس المصدر، ص504.
(6) مسلم (3/1427) رقم 1365.
(7) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص504.
(8) نفس المصدر، ص504.(8/133)
وبذلك سقطت سائر خيبر بيد المسلمين، وسارع أهل فدك في شمال خيبر الى طلب الصلح وأن يسيرهم ويحقن دماءهم وبذلوا له الأموال فوافق على طلبهم(1) فكانت فدك خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، وحاصر المسلمون وادي القرى، وهي مجموعة قرى بين خيبر وتيماء ليالي(2) ثم استسلمت فغنم المسلمون أمولاً كثيرة وتركوا الأرض والنخل بيد اليهود وعاملهم عليها مثل خيبر وصالحت تيماء على مثل صلح خيبر ووادي القرى(3).
وبذلك تساقطت سائر الحصون اليهودية أمام قوات المسلمين وقد بلغ قتلى اليهود في معارك خيبر ثلاثة وتسعين رجلاً(4)، وسبيت النساء والذراري، منهن صفية بنت حيي بن أخطب فاعتقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتزوجها(5).
واستشهد من المسلمين عشرون رجلاً فيما ذكر ابن اسحاق(6)، وخمسة عشر فيما ذكر الواقدي(7).
رابعاً: الأعرابي الشهيد، والراعي الاسود، وبطل الى النار:
1- الأعرابي الشهيد:
__________
(1) انظر: مغازي الواقدي (2/699).
(2) انظر: تاريخ خليفة 85 نقلاً عن ابن اسحاق.
(3) زاد المعاد (3/354،355).
(4) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص504.
(5) مسلم، كتاب النكاح (2/1045).
(6) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/327).
(7) انظر: المغازي (2/700).(8/134)
جاء رجل من الأعراب الى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فآمن به، واتبعه. فقال: أهاجر معك؟ فأوصى به بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر، غنم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فقسمه، وقسم للأعرابي، فأعطى أصحابه ماقسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه، فقال: ماهذا؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذه فجاء به للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ماهذا يارسول الله؟ قال: قسم قسمته لك، قال: ماعلى هذا اتبعك، ولكن اتبعتك على أن أرمي هاهنا ، وأشار الى حلقه، بسهم، فأموت فأدخل الجنة، فقال: إن تصدق الله يصدقك، ثم نهض الى قتال العدو، فأتي به الى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو مقتول، فقال: أهو هو؟ قالوا: نعم.
قال: صدق الله فصدقه.
فكفنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في جبته، ثم قدمه، فصلى عليه، وكان من دعائه له: اللهم هذا عبدك خرج مهاجراً في سبيلك، قتل شهيداً، وأنا عليه شهيد(1).
2- الراعي الأسود:
وجاء عبد أسود حبشي من أهل خيبر، كان في غنم لسيده، فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح، سألهم: ماتريدون؟ قالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي، فوقع في نفسه ذكر النبي، فأقبل بغنمه الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ماذا تقول؟ وماتدعو إليه؟ قال: أدعوا الى الاسلام، وأن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وألا نعبد إلا الله، قال العبد: فمالي إن شهدت وآمنت بالله عز وجل، قال: لك الجنة ان مت على ذلك.
__________
(1) اخرجه النسائي (4/60)؛ الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/291)؛ والحاكم (3/595)؛ والبيهقي (4/15،16)؛ واسناده صحيح نقلاً عن زاد المعاد (3/324).(8/135)
فأسلم ثم قال: يانبي الله: إن هذه الغنم عندي أمانة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخرجها من عندك وارمها بـ (الحصباء) فإن الله سيؤدي عنك أمانتك، ففعل، فرجعت الغنم الى سيدها، فعلم اليهودي أن غلامه قد أسلم، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فوعظهم وحضهم على الجهاد، فلما التقى المسلمون واليهود قتل - فيمن قتل- العبد الاسود، واحتمله المسلمون الى معسكرهم، فأدخل في الفسطاط فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اطلع في الفسطاط، ثم أقبل على أصحابه، وقال: لقد أكرم الله هذا العبد، وساقه الى خيبر، ولقد رأيت عند راسه اثنتين من الحور العين، ولم يصل لله سجدة قط(1).
3- بطل لكنه الى النار:
كان في جيش المسلمين بخيبر رجل لايدع للمشركين شاذة ولا فاذة(2) إلا أتبعها يضربها بسيفه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما إنه من أهل النار. فقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان من أهل النار؟ فقال رجل: والله لايموت على هذه الحال أبداً، فاتبعه حتى جرح، فاشتدت جراحته واستعجل الموت، فوضع سيفه بالأرض وذبابه بين ثدَييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه. فجاء رجل الى رسول الله فقال: أشهد إنك رسول الله، قال: (وماذاك) فأخبره. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وإنه من أهل النار، وإنه ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وإنه لمن أهل الجنة(3).
خامساً: قدوم جعفر بن ابي طالب ومن معه من الحبشة:
__________
(1) انظر: زاد المعاد (3/323، 324) ؛ السيرة الحلبية (3/39).
(2) الشاذ: الذي يفارق الجماعة، الفاذَ: الذي لم يختلط بالجماعة.
(3) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر رقم 4202، 4207.(8/136)
قدم جعفر بن أبي طالب وصحبه من مهاجري الحبشة على رسول الله يوم فتح خيبر، فقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين عينيه والتزمه وقال: ماأدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر، وكان - صلى الله عليه وسلم - قد ارسل في طلبهم من النجاشي، عمرو بن أمية الضمري، فحملهم في سفينتين ووافق قدومهم عليه يوم فتح خيبر، وقد رافق جعفر في قدومه أبو موسى الاشعري ومن كان بصحبته من الأشعريين(1)، فعن أبي موسى الاشعري - رضي الله عنه - قال: بلغنا مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم أحدهم أبو بردة، والآخر أبو رهم، إما قال: في بضع، وإما قال في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي، فركبنا السفينة فألقتنا سفينتنا الى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن ابي طالب فأقمنا جميعاً، فوافقنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح خيبر(2).
لقد مكث جعفر وإخوانه في الحبشة بضعة عشر عاماً، نزل خلالها قرآن كثير، ودارت معارك شتى مع الكفار، وتقلب المسلمون قبل الهجرة العامة وبعدها في أطوار متباينة، حتى ظن البعض أن مهاجري الحبشة -وقد فاتهم هذا كله- أقل قدراً من غيرهم(3).
__________
(1) انظر: معين السيرة، ص353.
(2) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر رقم 4230،4231.
(3) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص350.(8/137)
فعن أبي موسى: ........كان أناس يقولون لنا سبقناكم بالهجرة، ودخلت أسماء بنت عميس على حفصة زوج النبي زائرة -وكانت هاجرت الى النجاشي فيمن هاجر- فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال حين رأى أسماء: من هذه ؟ قالت أسماء: ابنة عميس. قال عمر: الحبشية هذه؟ البحربة هذه ؟ قالت: أسماء: نعم! قال عمر: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله منكم! فغضبت وقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم. وكنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة! وذلك في الله وفي رسول الله، وايم الله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ماقلت لرسول الله وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه. فلما جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: كذا وكذا. قال: أليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم -أهل السفينة- هجرتان(1).
فأخذت أسماء هذا الوسام ووزعته على جميع أعضاء الوفد حيث كانوا(2) كما قالت: يأتوني أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث، مامن الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في نفوسهم مما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -(3).
وقد أشركهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في مغانم خيبر بعد أن استأذن من الصحابة رضي الله عنهم الذين شاركوا في فتحها(4).
سادساً: تقسيم الغنائم:
1- كانت غزوة خيبر من أكثر غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - غنيمة، من حيث الأراضي والنخيل والثياب والأطعمة وغير ذلك ومن خلال وصف كتب السيرة نلاحظ الغنائم تتكون من :
__________
(1) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، رقم 4231.
(2) انظر: فقه السيرة للغضبان، ص535.
(3) مسلم، فضل الصحابة، رقم 2502،2503.
(4) انظر: الصراع مع اليهود لأبي فارس (3/96).(8/138)
أ- الطعام: فقد غنم المسلمون كثيراً من الأطعمة من حصون خيبر، فقد وجدوا فيها الشحم والزيت والعسل والسمن، وغير ذلك فأباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأكل من تلك الأطعمة، ولم يخمسها(1).
ب- الثياب والأثاث والابل والبقر والغنم، لقد أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسها ووضعه فيما وضعه الله فيه، ووزع أربعة أخماسها على المحاربين.
ج- السبي: لقد سبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير من نساء اليهود، ووزع السبي على المسلمين، فهو غنيمة ويأخذ حكم الغنيمة.
د- أما الأراضي والنخيل فقد قسمها النبي الى ستة وثلاثين سهماً، جمع كل سهم مائة سهم، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين النصف من ذلك، وهو ألف وثمانمائة سهم، ووزع النصف الآخر، وهو ألف وثمانمائة سهم لنوائبه وماينزل به من أمور المسلمين(2).
هـ- وكان من بين ماغنم المسلمون من يهود خيبر عدة صحف من التوراة، فطلب اليهود ردّها، فأمر بتسليمها إليهم ولم يصنع - صلى الله عليه وسلم - ماصنع الرومان حينما فتحوا أورشليم وأحرقوا الكتب المقدسة، وداسوها بأرجلهم ولا ماصنع النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حين أحرقوا كذلك صحف التوراة(3).
وقد أبقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود خيبر فيها على أن يعملوا في زراعتها وينفقوا عليها من أموالهم ولهم نصف ثمارها، على أن للمسلمين حق إخراجهم منها متى أرادوا وكان اليهود قد بادروا بعرض ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: نحن أعلم بالأرض منكم فوافق على ذلك بعد أن همّ بإخراجهم منها(4).
__________
(1) نفس المصدر (3/140).
(2) المصدر السابق (3/141،142).
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/419).
(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/328).(8/139)
وقد اشترط عليهم أن يجليهم عنها متى شاء، وهنا تظهر براعة سياسية جديدة في عقد الشروط، فإن بقاء اليهود في الأرض يفلحونها يوفر للمسليمن الجنود المجاهدين في سبيل الله، ومن جهة أخرى فإن اليهود هم أصحاب الأرض، وهم أدرى بفلاحتها من غيرهم، فبقاؤهم فيها يعطي ثمرة أكثر وأجود وبخاصة وأنهم لن يأخذوا أجراً، ولكنهم سيأخذون نصف مايخرج من الأرض قلّ أو كثر.
وقد ضمن الرسول بشرط إجلائهم متى شاء المسلمون أخضاعهم وكسر شوكتهم، لأنهم يعلمون إذا فعلوا شيئاً يضر بالمسلمين يطردونهم منها، ولا يعودون إليها أبداً.
وقد حدث ذلك فعلاً في عهد سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث اعتدوا على عبدالله بن عمر ففدعوا يديه من المرفقين، وكانوا قبل ذلك في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - اعتدوا على عبدالله بن سهل فقتلوه فلما تحقق عمر من غدرهم وخيانتهم أمر بإجلائهم(1) وحاول يهود خيبر أن يخفوا الفضة والذهب وغيبوا(2) مسكاً لحيي بن أخطب، وكان قد قتل مع بني قريظة، وكان احتمله معه يوم بني النضير حي أجليت النضير، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعية عم حيي بن أخطب أين مسك حيي بن أخطب؟
قال: أذهبته الحروب والنفقات(3).
__________
(1) انظر: تأملات في سيرة الرسول، لمحمد سيد الوكيل، ص228،229.
(2) المسك: الجلد عامة أو جلد السلخة خاصة (السلخة ولد الشاة).
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/326).(8/140)
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العهد قريب والمال أكثر من ذلك. فدفعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى الزبير بن العوام، فمسّه بعذاب، وقد كان حُييَّ قبل ذلك دخل خربة، فقال عمه: قد رأيت حُييَّا يطوف في خربة هاهنا: فذهبوا فطافوا. فوجدوا المسك في الخربة(1)، وبعد الاتفاق الذي تم بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويهود خيبر على إصلاح الأرض جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرصها عليه ثم يضمّنهم الشطر. فشكوا الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شدة خرصه(2)، وأرادوا أن يُرْشُوه فقال: ياأعداء الله تطعموني السُّحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي، ولأنتم أبغض الناس إليَّ من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض(3).
لقد أصبحت خيبر ملكاً للمسلمين وصارت مورداً مهما لهم قال ابن عمر - رضي الله عنه -: ماشبعنا حتى فتحت خيبر(4)، وقد تحسن الوضع الاقتصادي بعد خيبر ورد المهاجرون المنائح التي أعطاهم إياها الأنصار(5) من النخل.
سابعاً: زواج رسول الله من صفية بنت حيي بن أخطب:
__________
(1) تاريخ الاسلام للذهبي المغازي، ص424.
(2) الخرص: الحَرَز والحدس والتخمين.وخرصّ العدد قدره تقدريراً بظن لا إحاطة.
(3) انظر: تاريخ الاسلام للذهبي؛ المغازي، ص424.
(4) البخاري، كتاب المغازي، غزوة خيبر رقم 4243.
(5) انظر: معين السيرة ، ص352.(8/141)
لما فتح المسلمون القموص - حصن بني أبي الحقيق- كانت صفية في السبي، فأعطاها دِحية الكلبي، فجاء رجل الى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يارسول الله: أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قومها ، وهي ماتصلح إلا لك، فاستحسن النبي - صلى الله عليه وسلم - ماأشار به الرجل، وقال لدحية، خذ جارية من السبي غيرها(1)، ثم أخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعتقها وجعل عتقها صداقها(2)، ثم تزوجها بعد أن طهرت من حيضتها(3) وبعد أن أسلمت.
ولم يخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من خيبر حتى طهرت صفية من حيضها، فحملها وراءه، فلما صار الى منزل على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرّس بها فأبت عليه، فوجد في نفسه، فلما كان بالصهباء نزل بها هناك فمشطتها أم سليم، وعطرتها، وزفتها الى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبنى بها، فسألها (ماحملك على الامتناع من النزول أولاً) فقالت: خشيت عليك من قرب اليهود، فعظمت في نفسه، ومكث رسول الله بالصهباء ثلاثة أيام، وأولم عليها ودعا المسلمين، وماكان فيها من لحم وإنما التمر والأقط والسمن، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ماملكت يمينه، فلما أرتحل وطَّأ له خلفه ومدّ عليها الحجاب، فأيقنوا أنها إحدى أمهات المؤمنين(4).
وقد كانت أم المؤمنين صفية بنت حيي قد رأت رؤية، فقد روى البيهقي رحمه الله بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما في حديث طويل قال: ورأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعين صفية خضرة، فقال: ياصفية ماهذه الخضرة؟ فقالت: كان راسي في حجر ابن حقيق، وأنا نائمة، فرأيت كأن قمراً وقع في حجري، فأخبرته بذلك فلطمني، وقال تمنين ملك يثرب(5).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/383).
(2) نفس المصدر (2/383).
(3) انظر: الصراع مع اليهود (3/101).
(4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/384).
(5) انظر: السنن الكبرى (9/138) نقلاً عن الصراع مع اليهود (3/103).(8/142)
وهكذا صدق الله رؤيا صفية رضي الله عنها، وأكرمها بالزواج من رسوله - صلى الله عليه وسلم -، واعتقها من النار، وجعلها أماً للمؤمنين، وزوجاً في الجنة لخاتم الأنبياء والمرسلين(1) وقد أكرمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاية الأكرام وكان يجلس عند بعيره فيضع ركبته لتضع صفية رجلها على ركبتها حتى تركب، وقد بلغ من أدبها أنها كانت تأبى أن تضع رجلها على ركبته، فكانت تضع ركبتها على ركبته وتركب(2).
وهذه صفية رضي الله عنها تحدثنا عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتقول: مارأيت أحداً قط أحسن خلقاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد رأيته ركب بي في خيبر وأنا على عجر ناقته ليلاً، فجعلت أنعس، فتضرب رأسي مؤخرة الرجل، فيمسني بيده، ويقول: ياهذه مهلاً(3). وعن صفية رضي الله عنها أنها بلغها عن عائشة وحفصة أنهما قالتا: نحن أكرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صفية، نحن أزواجه وبنات عمه، فدخل عليها - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: ألا قلت وكيف تكونا خيراً مني، وزوجي محمد، وأبي هارون ، وعمي موسى(4).
__________
(1) انظر: الصراع مع اليهود (3/122).
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/384).
(3) انظر: السيرة الحلبية (3/45).
(4) انظر: شرح المواهب اللدنية (2/233).(8/143)
لقد تأثرت صفية بأخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصبح - صلى الله عليه وسلم - أحب إليها من أبيها وزوجها والناس أجمعين، بل أصبح أحب إليها من نفسها، تفديه بكل ماتملك حتى نفسها، وإذا ألم به مرض تمنت أن يكون فيها، وأن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سليماً معافى، فقد أخرج ابن سعد رحمه الله باسناد حسن عن زيد بن أسلم - رضي الله عنه - قال: اجتمع نساؤه - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفى فيه، فقالت صفية رضي الله عنها: اني والله يانبي الله لوددت أن الذي بك بي، فغمز بها أزواجه، فأبصرهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مضمضن. فقلن: من أي شيء فقال: من تغامزكن بها، والله إنها لصادقة(1). ومما له صلة بزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصفية بنت حيي، حراسة أبي ايوب الانصاري لرسول الله يوم أن دخل بصفية، فعن ابن اسحاق أنه قال: ولما أعرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصفية بخيبر، أو ببعض الطريق... فبات بها رسول الله في قبة له، وبات أبو أيوب خالد بن زيد، أخو بني النجار متوشحاً سيفه، يحرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويطيف بالقبة، حتى أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى مكانه قال: مالك ياأبا أيوب؟ قال: يارسول الله، خفت عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر، فخفتها عليك(2)، فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعمله الذي ينبئ على غاية الحب، والإيمان وقال: اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحرسني(3). وكان زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصفية فيه حكمة عظيمة فهو لم يرد بزواجه منها قضاء شهوة، أو اشباعاً للغريزة كما يزعم الأفاكون، وإنما أراد إعزازها وتكريمها، وصيانتها من أن تفترش لرجل لايعرف لها شرفها ونسبها
__________
(1) نفس المصدر (2/233).
(2) انظر: زاد المعاد (3/328).
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/385).(8/144)
في قومها، وهذا الى مافيه من العزاء لها فقد قتل أبوها من قبل وزوجها وكثير من قومها، ولم يكن هناك أجمل مما صنعه الرسول معها، كما أن فيه رباط المصاهرة بين النبي واليهود عسى أن يكون هذا مايخفف من عدائهم للإسلام والانضواء تحت لوائه، والحد من مكرهم وسعيهم بالفساد(1). وكانت أم المؤمنين صفية عاقلة وحليمة، وصادقة، يروى أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقالت: إن صفية تحب السبت، وتصل اليهود، فبعث إليها فسألها عن ذلك، فقالت: أما السبت فإني لم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً فأنا أصلها، فقبل منها، ثم قالت للجارية: ماحملك على هذا؟ قالت: الشيطان، فقالت لها: اذهبي فأنت حرة.
وكانت وفاتها في رمضان سنة خمسين للهجرة في زمن معاوية، وقيل سنة اثنتين وخمسين رضي الله عنها وأرضاها(2).
ثامناً: محاولة أثيمة لليهود: الشاة المسمومة:
قال ابو هريرة - رضي الله عنه -: لما فتحت خيبر، أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة فيها سم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اجمعوا لي من كان هاهنا من اليهود، فجمعوا له، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقي عنه؟).
فقالوا: نعم ياأبا القاسم.
فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من أبوكم؟).
قالوا: أبونا فلان.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كذبتم بل ابوكم فلان).
فقالوا: صدقت وبررت.
فقال: (هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟).
فقالوا: نعم ياأبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في ابينا.
قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أهل النار؟).
فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفوننا.
فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أخسؤوا فيها والله لانخلفكم فيها أبداً)
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/385).
(2) نفس المصدر (2/385).(8/145)
ثم قال لهم: (فهل أنتم صادقي عن شيء إن سالتكم عنه؟).
قالوا: نعم.
فقال: (هل جعلتم في هذه الشاة سماً).
فقالوا: نعم.
فقال: (ماحملكم على ذلك؟).
فقالوا: اردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك(1).
قال: صاحب بلوغ الأماني عن الشاة المسمومة: اهدتها اليه زينب بنت الحارث اليهودية امرأة سلام بن مشكم، وكانت سألت أي عضو من الشاة أحب إليه؟ فقيل: الذراع، فاكثرت فيها من السم، فلما تناول الذراع لاك منها مضغة، ولم يسغها، وأكل منها معه بشر بن البراء فأساغ لقمة ومات منها(2).
وفي المغازي عروة: فتناول الذراع فأنتهش منها، وتناول بشر عظماً آخر، فانتهش منه، فلما ارغم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ارغم بشر مافي فيه، فقال رسول الله: ارفعوا أيديكم، فإن كتف الشاة تخبرني أني قد بغيت فيها، فقال بشر بن البراء: والذي أكرمك لقد وجدت ذلك في اكلتي التي اكلت، ولم يمنعني ان الفظها إلا أني كرهت أن انغص طعامك، فلما أكلت مافي فيك لم ارغب بنفسي عن نفسك، ورجوت أن لا تكون رغمتها وفيها بغي(3).
وقال ابن القيم: وجيء بالمرأة الى رسول الله، فقالت: اردت قتلك، فقال: ماكان الله ليسلطك علي، قالوا: ألا تقتلها؟ قال: لا، ولم يتعرض لها، ولم يعاقبها، واحتجم على الكاهل، وأمر من اكل منها فاحتجم ، فمات بعضهم(4).
__________
(1) البخاري، كتاب الجهاد والسير (4/79) رقم 3169.
(2) انظر: بلوغ الأماني بحاشية الفتح الرباني (21/123).
(3) انظر: مغازي رسول الله، لعروة بن الزبير ، ص198.
(4) زاد المعاد (3/336).(8/146)
وقد اختلف في قتل المرأة والصحيح أنه لما مات بشر، قتلها(1) ولقد كان السم الذي وضعته اليهودية قوياً جداً إذ مات بشر بن البراء فوراً، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعاوده ألم السم حتى انتقل الى الرفيق الاعلى بعد أن بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها(2)، وقد روى الامام البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرض موته الذي مات فيه: ياعائشة، ماأزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع ابهري(3) من ذلك السم(4).
تاسعاً: الحجاج بن علاط السلمي وإرجاع أمواله من مكة:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: قال: لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر قال الحجاج بن علاط: يارسول! إن لي بمكة مالا وإن لي بها أهلاً، وإني أريد أن اكتبهم، فأنا في حل إن أنا نلت منك؟ وقلت شيئاً؟ فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول مايشاء، فأتى امرأته حين قدم، فقال: اجمعي لي ماكان عندك، فإني أريد أن اشتري من غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا، أو أصبت أموالهم، قال: ففشا ذلك في مكة فانقمع المسلمون، وأظهر المشركون فرحاً وسروراً، قال: وبلغ الخبر العباس - رضي الله عنه - فعقر، وجعل لايستطيع أن يقوم.
قال معمر: فأخبرني عثمان الجزري عن مقسم قال: فأخذ ابناً له يشبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له قثم، فاستلقى فوضعه على صدره وهو يقول:
حبِّي قثم، حبِّي قثم
... ... ... شبيه ذي الأنف الأشم
نبي رب ذي النعم
... ... ... برغم أنف من رغم
__________
(1) نفس المصدر (3/336).
(2) انظر: الصراع مع اليهود (3/121).
(3) ابهري: عرق مستبطن بالظهر متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه.
(4) صحيح البخاري بشرح فتح الباري (9/159-196) طبعة الحلبي.(8/147)
قال ثابت بن أنس: ثم أرسل غلاماً له الى الحجاج: ويلك ماجئت به؟ وماذا تقول؟ فما وعد الله خير مما جئت به، قال: فقال الحجاج بن علاط لغلامه: أقرأ على أبي الفضل السلام، وقل له: فيخل لي في بعض بيوته لآتيه، فإن الخبر على مايسره، فجاءه غلامه، فلما بلغ باب الدار قال: أبشر ياأبا الفضل، قال: فوثب العباس فرحاً، حتى قبل بين عينيه، فأخبره بما قال الحجاج، فأعتقه. قال: ثم جاء الحجاج فأخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد افتتح خيبر، وغنم أموالهم، وجرت سهام الله في أموالهم، واصطفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفية بنت حيي، فأخذها لنفسه وخيرها أن يعتقها، وتكون زوجته(1)، ولكني جئت لمالي، وإني استأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأذن لي، فأخف عليّ ياأبا الفضل ثلاثاً، ثم اذكُر ماشئت(2). فجمعت امرأته ماكان عندها من حلي ومتاع فجمعه، فدفعته إليه ثم انشمر به، فلما كان بعد ثلاث أتى العباس امرأة الحجاج، فقال: مافعل زوجك؟ فأخبرته أنه ذهب يوم كذا وكذا، وقالت: لايخزيك الله ياأبا الفضل، لقد شق علينا الذي بلغك، قال: أجل ، لايخزيني الله، ولم يكن بحمد الله إلا ماأحببنا، فتح الله خيبر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجرت فيها سهام الله، واصطفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفية بن حيي لنفسه، فإن كانت لك حاجة في زوجك فالحقي به، قالت: أظنك والله صادقاً، قال فإني صادق، الأمر على ماأخبرتك فقال: ثم ذهب حتى أتى مجالس قريش، وهم يقولون إذ امر بهم: لا يصيبك إلا خير ياأبا الفضل، قال لهم: لم يصبني إلا خير بحمدالله، قد أخبرني الحجاج بن علاط أن خيبر قد فتحها الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وجرت فيها سهام الله ، واصطفى صفية لنفسه، وقد سألني أن أخفي عليه ثلاثاً، وإنما جاء ليأخذ ماله، وماكان له من شيء هاهنا، ثم يذهب،
__________
(1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص459.
(2) انظر: تاريخ الذهبي المغازي ، ص439.(8/148)
قال: فرد الله الكابة التي كانت بالمسلمين على المشركين، وخرج المسلمون ومن كان دخل بيته مكتئباً حتى أتوا العباس، فأخبرهم الخبر وسر المسلمون، ورد الله -تبارك وتعالى- ماكان من كآبة أو غيظ أو حزن على المشركين(1) وفي هذا الخبر فقه غزير منه: جواز كذب الانسان على نفسه وعلى غيره، إذا لم يتضمن ضرر ذلك الغير إذا كان يُتوصل بالكذب الى حقه، كما كذب الحجاج بن علاط على المسلمين، حتى أخذ ماله من مكة من غير مضرة لحقت المسلمين من ذلك الكذب، وأما مانال من بمكة من المسلمين من الأذى والحزن، بمفسدة يسير في جنب المصلحة التي حصلت بالكذب، ولاسيما تكميل الفرح والسرور، وزيادة الايمان الذي حصل بالخبر الصادق بعد هذا الكذب، فكان الكذب سبباً في حصول هذه المصلحة الراجحة.
عاشراً: بعض الاحكام الفقهية المتعلقة بالغزوة:
وردت في غزوة خيبر أحكام شرعية كثيرة منها:
1- تحريم أكل لحوم الحمر الأنسية:
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية(2).
2- حرمة وطء السبايا الحوامل:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره(3).
3- حرمة وطء السبايا غير الحوامل قبل استبراء الرحم:
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند: (3/138-139)؛ عبدالرزاق في المصنف رقم 9771، وأبو يعلى برقم 3479، والبيهقي في السنن (9/151)؛ والدلائل (4/5266-267) وقال الهيثمي في المجمع (6/154-155) ؛ رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار والطبرني، ورجاله رجال الصحيح، وقال ابن كثير في البداية (4/23) عن سند أحمد: وهذا الإسناد على شرط الشيخين، نقلاً عن صحيح السيرة النبوية ص460.
(2) انظر: زاد المعاد (4/122-123) البخاري، كتاب المغازي رقم 4215.
(3) انظر: الطبقات (2/113).(8/149)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقضي على امرأة من السبي حتى يستبرئها(1).
والاستبراء إنما يكون بأن تطهر من حيضة واحدة فقط ولا تجب عليها العدة وإن كانت متزوجة من كافر سواء مات أو بقي حياً. لأن العدة وفاء للزوج الميت وحداد عليه، ولا يحد على الكافر كما علمت(2).
4- حرمة ربا الفضل:
عن ابي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلاً على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل تمر خيبر هكذا؟ فقال: لا والله يارسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة، فقال: لاتفعل، بعِ الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً(3).
فالتفاضل مع اتحاد الجنس هو ربا الفضل، إذ اشترى صاعاً بأكثر من صاع، فالزيادة هنا هي الربا، وهذا محرم كما رأيت، إذ نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وأرشد الى الحل السليم بأن يبيع مالديه من تمر ثم يشتري بما لديه من نقود مايشتهي من تمر، لأن الحاجة قد تدفع صاحبها الى قبول الربا(4).
5- حرمة بيع الذهب بالذهب العين، وتبر الفضة بالورق العين:
روى عن عبادة بن الصامت، أنه قال: نهانا رسول الله يوم خيبر أن نبيع أو نبتاع تبر الذهب بالذهب العين، وتبر الفضة بالورق العين، وقال: ابتاعوا تبر الذهب بالورق والعين، وتبر الفضة بالذهب والعين(5).
والمراد من الحديث أن يباع الذهب بالذهب مثلاً بمثل، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، بلا زيادة ولا نقص؛ وعندما يقابل الذهب بالفضة لا تشترك المماثلة، كما هو معلوم، وثابت في الصحاح(6).
__________
(1) انظر: الروض الأنف (4/41).
(2) انظر: الصراع مع اليهود (3/134).
(3) البخاري، كتاب المغازي رقم 4244.
(4) انظر: الصراع مع اليهود (3/134).
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام مع الروض الأنف (4/41).
(6) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص321.(8/150)
6- مشروعية المساقاة والمزارعة:
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر لليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر مايخرج منها(1).
وقد تسأل بعض الباحثين لم جاءت احكام هذه البيوع في خيبر وما الحكمة من ذلك؟
وأجاب الشيخ محمد ابو زهرة على هذا فقال: إن فتح خير كان فتحاً جديداً بالنسبة للعلاقات المالية التي يجري في ظلها التبادل المالي، فكانت فيها شرعية المزارعة والمساقاة ولم تكن تجري كثيراً في يثرب(2).
7- حل أكل لحوم الخيل:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر، ورخص في الخيل(3).
8- تحريم المتعة:
عن علي - رضي الله عنه - قال: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الأنسية(4).
9- مشاركة المرأة في غزوة خيبر:
__________
(1) البخاري، كتاب المغازي رقم 4248.
(2) انظر: خاتم النبيين (2/1104) ؛ الصراع مع اليهود (3/136).
(3) البخاري، كتاب المغازي رقم 4219.
(4) البخاري، كتاب المغازي رقم 4215.(8/151)
روت أمية بنت أبي الصلت عن امرأة من بني غفار قالت: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسوة من بين غفار فقلن: يارسول الله قد أردنا أن نخرج معك الى وجهك هذا -وهو السير الى خيبر- فنداوي الجرحى ونعين المسليمن بما استطعنا فقال: على بركة الله. قالت: فخرجنا معه، قالت: فوالله لنزل رسول لله - صلى الله عليه وسلم - الى الصبح ونزلت عن حقيبة رحله، قال: وإذا بها دم منّي -وكانت أول حيضة حضتها- قالت: فتقبضت الى الناقة واستحيت. فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مابي ورأى الدم قال: مالك؟ لعلك نفست؟ قال: قلت: نعم؟ قال: فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحاً ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك.قالت: فلما فتح الله خيبر رضخ لنا من الفيء وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها وعلقها بيده في عنقي، فوالله لاتفارقني أبداً(1)، وكانت في عنقها حتى ماتت، ثم أوصت أن تدفن معها. قالت: وكانت لا تطهر من حيضها، إلا جعلت في طهرها ملحاً، وأوصت به أن يجعل في غسلها حين ماتت(2).
وهي صورة حية أمام كل فتاة مسلمة، تحرص على أن تشارك في أجر الجهاد مع المسلمين(3).
وهكذا كانت حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تعليماً وتربية للأمة في السلم والحرب على معاني العقيدة، وحقيقة العبادة، وهذا غيض من فيض وجزء من كل.
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (4/205).
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (3/372،373).
(3) انظر: فقه السيرة لمنير الغضبان، ص534.(8/152)
هذا وقد أحدث فتح خيبر وفدك ووادي القرى وتيماء دويِّاً هائلاً في الجزيرة العربية بين مختلف القبائل وقد أصيبت قريش بالغيظ والكآبة إذ لم تكن تتوقع ذلك، وهي تعلم مدى حصانة قلاع يهود خيبر، وكثرة مقاتليهم ووفرة سلاحهم ومؤونتهم ومتاعهم(1)، أما القبائل العربية الاخرى المناصرة لقريش فقد أدهشها خبر هزيمة يهود خيبر وخذلها انتصار المسلمين الساحق، ولذلك فإنها جنحت الى مسالمة المسلمين وموادعتهم بعد أن أدركت عدم جدوى استمرارها في عدائهم، مما فتح الباب واسعاً لنشر الاسلام في ارجاء الجزيرة العربية، بعد أن تعززت مكانة المسلمين في أعين أعدائهم الى جانب ماتحقق لهم من خير وتعزيز لوضعهم الاقتصادي(2).
واستمرت حركة السرايا بعد خيبر، وكانت كثيرة، وأمرّ عليها - صلى الله عليه وسلم - كبار الصحابة وكان في بعضها قتال، ولم يكن في بعضها قتال(3).
المبحث الثاني
دعوة الملوك والأمراء
أولاً: كان صلح الحديبية إيذاناً ببداية المد الاسلامي، فقد انساح هذا المد الى أطراف الجزيرة العربية بل تجاوزها الى مارواء حدود الجزيرة العربية فمذ (أن عقد الرسول - صلى الله عليه وسلم - صلح الحديبية مع قريش وما تلا ذلك من إخضاع يهود شمال الحجاز في خيبر ووادي القرى وتيماء، وفدك، الى سيادة الاسلام، فإن الرسول لم يأل جهداً لنشر الاسلام خارج حدود الحجاز وكذلك خارج حدود الجزيرة العربية وقد عبّر عليه الصلاة والسلام عن هذا المنهج قولاً وعملاً من خلال إرساله عدداً من الرسل والمبعوثين الى أمراء أطراف الجزيرة العربية والى ملوك العالم المعاصر خارج الجزيرة العربية.
__________
(1) انظر: نظرة النعيم (1/353).
(2) نفس المصدر (1/353).
(3) انظر: السيرة النبوية للندوي ، ص221.(8/153)
وتُعَدَّ هذه الخطوة نقطة تحول هامة في تاريخ العرب والاسلام، ليس لأن الرسول سوف يوحد عرب الجزيرة العربية تحت راية الاسلام فحسب، ولكن لأن هؤلاء العرب بعد أن اعتنقوا الاسلام وتمثلوا رسالة السماء أنيط بهم حمل الدعوة الاسلامية الى البشرية كافة)(1).
ويشير المنهج النبوي في دعوة الزعماء والملوك الى ما يجب أن تكون عليه وسائل الدعوة، فإلى جانب دعوة الأمراء والشعوب، اختار الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسلوباً جديداً من أساليب الدعوة وهو مراسلة الملوك ورؤساء القبائل، وكان لأسلوب إرسال الرسائل الى الملوك والأمراء أثر بارز في دخول بعضهم الاسلام وإظهار الود من البعض الآخر، كما كشفت هذه الرسائل مواقف بعض الملوك والأمراء من الدعوة الاسلامية ودولتها في المدينة وبذلك حققت هذه الرسائل نتائج كثيرة واستطاعت الدولة الاسلامية من خلال ردود الفعل المختلفة تجاه الرسائل أن تنتهج نهجاً سياسياً وعسكرياً واضحاً ومتميزاً(2) وإليك أهم هذه الرسائل:
1- فقد وردت رواية صحيحة(3)، تضمنت نص كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثه مع دحية الكلبي الى هرقل عظيم الروم(4) وذلك في مدة هدنة الحديبية وهو كما يلي:
__________
(1) انظر: السفارات النبوية، د. محمد العقيلي، ص15.
(2) انظر: العلاقات الخارجية للدولة الاسلامية ، د. سعيد المهجر، ص112.
(3) مسلم، (3/1393-1397) رقم 1773.
(4) انظر: نظرة النعيم (1/344) اعتمدت عليه في توثيق مصادر الرسائل.(8/154)
(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبدالله ورسوله، الى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الاسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت عليك إثم الأريسيِّين {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(سورة آل عمران، الآية 64)(1).
ولقد تسلم هرقل رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودقق في الأمر كما في الحديث الطويل المشهور بين أبي سفيان وهرقل المروي في الصحيحين حين سأله عن أحوال النبي، وقال بعد ذلك لأبي سفيان: (إن كان ماتقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه)(2).
2- أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب الى كسرى ملك الامبراطورية الفارسية، مع عبدالله بن حذفة السهمي، (أمره أن يدفعه الى عظيم البحرين(3)، فدفعه عظيم البحرين الى كسرى، فلما قرأه مزقه، فدعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُمَزَّقُوا كُلَّ ممزق)(4)، ونص الرسالة كما أورده الطبري كالتالي:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، الى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، الى الناس كافة، لينذر من كان حياً، أسلم تسلم، فإن أبيت عليك أثم المجوس)(5).
__________
(1) مسلم شرح النووي، كتاب الجهاد ، كتب النبي (12/107).
(2) مسلم (3/1393) رقم 1773.
(3) شرح المواهب اللدنية (3/341).
(4) البخاري مع فتح الباري (8/26) رقم 4424، وكانت الرسالة في محرم سنة 7هـ كما في زاد المعاد.
(5) انظر: تاريخ الطبري (2/654-655).(8/155)
3- أما كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الى النجاشي ملك الحبشة فقد أرسلها مع عمرو بن أمية الضمري، وقد جاء في الكتاب:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، الى النجاشي ملك الحبشة، أسلم أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها الى مريم البتول الطيبة الحصينة فحملت به، فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده وإني أدعوك الى الله وحده لاشريك له، والموالاة عن طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك الى الله -عز وجل- وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى)(1).
4- أما كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الى المقوقس حاكم مصر(2)، وكذلك رد المقوقس إليه(3)، فلم تثبت من طرق صحيحة، ولا يعني ذلك نفي إرسال الكتاب إليه، كما أن ذلك لا يعني الطعن بصحة النصوص من الناحية التاريخية فربما تكون صحيحة من حيث الشكل والمضمون غير أنها لايمكن أن يحتج بها في السياسة الشرعية(4)، فقلد أورد محمد بن سعد في طبقاته(5) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث الى المقوقس، جُريح بن مينا ملك الاسكندرية وعظيم القبط، كتاباً مع حاطب بن ابي بلتعة اللخمي، وأنه قال خيراً وقارب الأمر، غير أنه لم يسلم وأهدى الى النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة هدايا كان بينها مارية القبطية ، وأنه لما ورد جواب المقوقس الى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (ضّنَّ الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه)(6).
__________
(1) انظر: نصب الراية للزيلعي (4/421) نقلاً عن نظرة النعيم (1/346).
(2) انظر: نظرة النعيم (1/346).
(3) نفس المصدر (1/346).
(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/459).
(5) انظر: الطبقات الكبرى (1/260-261).
(6) البداية والنهاية (5/340).(8/156)
5- وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شجاع بن وهب، أخا بني أسد ابن خزيمة، برسالة الى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني صاحب دمشق(1)، حين عودته والمسلمين من الحديبية وقد تضمن نص الرسالة قوله: سلام على من اتبع الهدى، وآمن به، اني أدعوك الى أن تؤمن بالله وحده لاشريك له يُبْقي لك ملكك(2).
6- وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سليط بن عمرو العامري بكتاب الى هوذة بن علي الحنفي(3) عند مقدمه من الحديبية وقد اشترط هوذة الحنفي على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد قراءته رسالته إليه أن يجعل له بعض الأمر معه، فرفض النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبل ذلك(4).
7- وأرسل - صلى الله عليه وسلم - ابا العلاء الحضرمي(5) بكتابه الى المنذر بن ساوى العبدي، أمير البحرين بعد انصرافه من الحديبية، ونقلت المصادر التاريخية أن المنذر قد استجاب لكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاسلم، وأسلم معه جميع العرب بالبحرين، فأما أهل البلاد من اليهود والمجوس فإنهم صالحوا العلاء والمنذر على الجزية من كل حالم دينار(6)، ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام نص كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الى المنذر بن ساوى برواية عروة بن الزبير، وجاء فيه:
(سلام أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله، وذمة الرسول، فمن أحب ذلك من المجوس فإن آمن ومن أبى فإن الجزية عليه(7).
__________
(1) انظر: تاريخ الطبري (2/652).
(2) نفس المصدر (2/652).
(3) كان صاحب اليمامة، ومات بعد فتح مكة بقليل.
(4) انظر: نصب الراية (4/425)؛ إعلام السائلين، ابن طولون، ص105،107.
(5) انظر: صبح الأعشى القلقشندي (6/368).
(6) الزيلعي تخريج أحاديث الهداية (4/419-420).
(7) الأموال لأبي عبيد، ص28.(8/157)
وفي ذي القعدة سنة 8هـ بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عمروبن العاص بكتابه الى جَيْفر وعبد ابني الجلندي الأزديين بعمان(1). وقد جاء فيه: (من محمد النبي رسول الله لعباد الله الأسبذيين ملوك عمان، وأسد عمان، ومن كان منهم بالبحرين إنهم إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الله ورسوله وأعطوا حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونسكوا نسك المؤمنين، فإنهم آمنون وأن لهم ماأسلموا عليه، غير أن مال بيت النار ثُنْياً لله ورسوله، وأن عشور التمر صدقة، ونصف عشور الحب، وأن للمسلمين نصرهم ونصحهم، وأن لهم على المسلمين مثل ذلك، وأن لهم أرحاءهم يطحنون بها ماشاءوا)(2).
وأوردت ا لمصادر بعد ذلك عدداً كبيراً من المرويات عن رسائل اخرى لم تثبت من الناحية الحديثية(3).
ثانياً: مواصفات رجل الدبلوماسية الاسلامية:
قام اللواء الركن محمود شيت خطاب بجمع الرسائل وتحدث عن الرسل في كتابه الفريد سفراء النبي - صلى الله عليه وسلم - استنبط من خلالها شروط ومواصفات رجل الدبلوماسية الاسلامية ومن أهم تلك الشروط والمواصفات:
1- الاسلام والدعوة إليه:
قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (سورة يوسف، آية 108).
وإذا كان المسلمون كلهم دعاة الى الله تعالى فرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - الى الملوك والأمراء في زمانه هم صفوة الدعاة(4).
2- الفصاحة والوضوح:
__________
(1) انظر: صبح الأعشى (6/376).
(2) انظر: الأموال لأبي عبيد، ص28،29.
(3) انظر: نظرة النعيم (1/348).
(4) انظر: سفراء الرسول، محمد شيت خطاب (2/258).(8/158)
الفصاحة وجزلة اللفظ والدقة في توصيل المعاني الى السامعين شرط أساس في الرجل الذي يتصدى للمهمة الدبلوماسية، وقد طلب موسى تدعيمه بموقف الفصاحة من هارون أخيه: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي صدق الله العظيم هَارُونَ أَخِي صدق الله العظيم اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي صدق الله العظيم } (سورة طه، آيات 29،30،31). وقد اختار الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل سفرائه ومبعوثيه من العرب الذين تربوا في الجزيرة العربية ومع البدو أحياناً فقد كانوا أصحاب نقاوة ولم تتكدر باختلاط الأعاجم بعد، فقد كانوا على قدر كبير من الفصاحة والوضوح.
3- حسن الخلق:
أخلاق السفير النبوي، هي أخلاق الاسلام التي بينها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم وفصلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته وأهمها في السفير الصدق والتواضع(1).
4- العلم:
لا نريد هنا أن نبين منزلة العلم لأن الكلام على هذه المسألة طويل ولكننا نؤكد هنا أن العلم بالشيء هو وسيلة نقل الفكرة والمبدأ، لذا عندما تنظر الى جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو يحاور النجاشي ثم يقرأ عليه سورة {كهيعص} تتيقن من دقة الاختيار النبوي ونصاعة خطاب العالم ودقة اختياره للألفاظ والعبارات(2).
5- الصبر:
قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (سورة الاحقاف، الآية 35). والحقيقة أن الصبر هو عدة الداعية، وزاده المستمر ولو تصفحت سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيرة صحابته الأجلاء لوجدتها حافلة بالصبر على الدعوة، وموقف الطائف شاهد على ذلك.
6- الشجاعة:
__________
(1) انظر: سفراء الرسول (2/278).
(2) الفقه السياسي للوثائق النبوية، خالد الهفداوي ، ص114.(8/159)
وقد تحدث التاريخ الاسلامي عن شجاعة السفراء والذين أرسلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الى الملوك وأنهم كانوا لايخافون لومة لائم.
7- الحكمة:
وقد كان سفراء الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتصفون بالحكمة، فهذا عمرو بن العاص كان في اقواله وأفعاله، قيل لعمرو: مالعقل؟ قال: (الإصابة بالظن، ومعرفة مايكون بما قد كان) ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، إنما العقل الذي يعرف خير الشرين(1).
8- سعة الحيلة:
يجب أن يكون السفير مدركاً لأبعاد المناورة السياسية، متأنياً كتوماً، وسعة الحيلة التي ترتكز أولاً وقبل كل شيء على الذكاء من أهم سمات السفير، وقد كان سفراء الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتصفون بالذكاء، والدهاء وتوقع الأحداث، والحساب لكل مايمكن أن يحدث وهذه مقومات سعة الحيلة.
9- المظهر:
تميز سفراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمظهر الحسن مع نقاء المخبر وقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على اختيار سفرائه من بين أصحابه الذين تتوافر فيهم صفات شكلية جميلة الى جانب سماتهم العقلية والنفسية سالفة الذكر(2).
هذه أهم الصفات التي استخلصها اللواء الركن محمود شيت خطاب من خلال دراسته القيمة لسفراء النبي - صلى الله عليه وسلم - والتي ينبغي للسفير المسلم أن يتحلى بها وتكون للدولة الاسلامية مقياس في اختيار من ترشحه لهذا المنصب الخطير.
ثالثاً: دورس وعبر وفوائد:
1- الآريسيون:
__________
(1) انظر: الفقه السياسي للوثائق النبوية وقد نقل عن سفراء الرسول (2/301).
(2) انظر: مقومات السفراء في الاسلام، حسن فتح الباب، ص60.(8/160)
وردت كلمة "الآريسيين" أو "اليريسيين" -على اختلاف الروايات- في الكتاب الذي وجه الى (هرقل) وحده، ولم ترد في كتاب من الكتب التي ارسلت الى غيره، واختلف علماء الحديث واللغة من مدلول هذ الكلمة، فالقول المشهور أن "الأريسيين" جمه "أريسي" وهم الخول، والخدم والأكارون(1).
وذهب العلامة أبو الحسن الندوي الى أن المراد بالأريسيين هم أتباع "أريوس" المصري وهو مؤسس فرقة مسيحية كان لها دور كبير في تاريخ العقائد المسيحية والإصلاح الديني، وقد شغلت الدولة البيزنطية والكنيسة المسيحية زمناً طويلاً، و"أريوس" هو الذي نادى بالتوحيد، والتمييز بين الخالق والمخلوق والأب والأبن -على حد تعبير المسيحيين- لعدة قرون(2).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية للندوي ، ص304.
(2) نفس المصدر، ص305.(8/161)
ودامت عقيدة "أريوس" ودعوته تصارعان الدعوة المكشوفة الى تأليه المسيح وتسويته بالإله الواحد الصمد وكانت الحرب سجالاً، وقد دان بهذه العقيدة عدد كبير من النصارى في الولايات الشرقية من المملكة البيزنطية الى أن عقد تيوسورس الكبير مجمعاً مسيحياً في القسطنطينية، قضى بألوهية المسيح وأبنيته، وقضى هذا الاعلان على العقيدة التي دعا إليها "أريوس" واختفت ، ولكنها عاشت بعد ذلك، ودانت بها طائفة من النصارى، اشتهرت بالفرقة الأريسية أو الأريسيين، فمن المرجح المعقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما عنى هذه الفرقة بقوله: (فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين) فإنها هي القائمة بالتوحيد النسبي في العالم المسيحي الذي تتزعمه الدولة البيزنطية العظمى، التي كان على رأسها (هرقل)(1).
وقد تحدث الإمام ابو جعفر الطحاوي عن هذه الفرقة فقال: وقد ذكر بعض أهل المعرفة بهذه المعاني أن في رهط هرقل فرقة تعرف بالأروسية، توحد الله، وتعترف بعبودية المسيح له عز وجل، ولا تقول شيئاً مما يقول النصارى في ربوبيته وتؤمن بنبوته، فإنها تمسك بدين المسيح مؤمنة بما في انجيله جاحدة لما يقوله النصارى سوى ذلك وإذا كان ذلك كذلك جاز أن يقال لهذه الفرقة "الأريسيون" في الرفع و"الأريسيين" في النصب والجر، كما ذهب إليه أصحاب الحديث)(2).
2- اعتبارات حكيمة خاصة بالملوك:
__________
(1) وقد ذهب الى ماذهب إليه العلامة الندوي، الدكتور معروف الدواليبي في الأريسيين يؤيد ماقاله الندوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما عنى بقوله: فإن توليتم فإن عليك إثم اليريسيين) أتباع أريوس الفرق المسيحية الوحيدة القائلة ببشرية المسيح النافية لألوهيته وقد جاء هذا البحث القيم في رسالة نظرات إسلامية، ص68-83. انظر: السيرة للندوي، ص307.
(2) انظر: مشكل الآثار (3/399).(8/162)
في رسائل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للملوك فوارق دقيقة مؤسسة على حكمة الدعوة روعي فيها مايمتاز به هؤلاء الملوك في العقائد التي يدينون بها، (والخلفيات) التي يمتازون بها، فلما كان هرقل والمقوقس يدينان بألوهية المسيح كلياً أو جزئياً، وكنه ابن الله، جاءت في الكتابين اللذين وجّها إليهما كلمة (عبدالله) مع اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب هاتين الرسالتين ، فيبتدئ الكتابان بعد التسمية بقوله: (من محمد عبدالله ورسوله الى هرقل عظيم الروم) وبقوله: (من محمد عبدالله ورسوله الى المقوقس عظيم القبط) بخلاف ماجاء في كتابه - صلى الله عليه وسلم - الى كسرى أبرويز، فاكتفى بقوله: (من محمد رسول الله الى كسرى عظيم الفرس) وجاءت كذلك آية: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (سورة آل عمران، آية 64) في هذين الكتابين، وما جاءت في كتابه الى كسرى ابرويز لأن الآية تخاطب أهل الكتاب الذين دانوا بألوهية المسيح، واتخذوا احبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، وقد كان هرقل امبراطور الدولة البيزنطية والمقوقس حاكم مصر قائدين سياسيين، وزعيمين دينيين كبيرين للعالم المسيحي، مع اختلاف يسير في الاعتقاد في المسيح هل له طبيعة أم طبيعتان(1).
__________
(1) انظر: ماذا خسر العالم الاسلامي للندوي، ص38-39.(8/163)
ولما كان كسرى ابرويز وقومه يعبدون الشمس النار، ويدينون بوجود الهين، احدهما يمثل الخير وهو يزدان، والثاني يمثل الشر وهو اهرمن، وكانوا بعيدين عن مفهوم النبوة والتصور الصحيح للرسالة السماوية، جاءت في الكتاب الذي وجه الى الامبراطور الايراني عبارة: (وأني رسول الله الى الناس كافة لينذر من كان حياً)(1).
وقد كان تلقي الملوك لهذه الرسائل يختلف، فأما هرقل، والنجاشي والمقوقس، فتأدبوا ، وتلطفوا في جوابهم، وأكرم (النجاشي والمقوقس رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرسل المقوقس هدايا منها جاريتان كانت احدهما مارية أم ابراهيم ابن رسول الله، وأما كسرى ابرويز فلما قرء عليه الكتاب مزقه، وقال: (يكتب إليَّ هذا وهو عبدي)؟ فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (مزق الله ملكه)(2).
وأمر كسرى باذان وهو حاكمه على اليمن بإحضاره، فأرسل بأبويه يقول له: إن ملك الملوك قد كتب الى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن الله سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله(3).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية للندوي ، ص290.
(2) انظر: تاريخ الطبري (3/90).
(3) انظر: تاريخ الطبري (3/90-91).(8/164)
وقد تحقق ماأنبأ به رسول الله بكل دقة، فقد استولى على عرشه ابنه (قباذ) الملقب بـ (شرويه) وقتل كسرى ذليلاً مهاناً بإيعاز منه سنة 628م وقد تمزق ملكه بعد وفاته وأصبح لعبة في أيدي أبناء الأسرة الحاكمة، فلم يعش (شرويه) إلا ستة أشهر، وتوالى على عرشه مدة أربع سنوات عشرة ملوك، واضطرب حبل الدولة الى أن اجتمع الناس على (يزدجرد) وهو آخر ملوك بني ساسان، وهو الذي واجه الزحف الاسلامي الذي أدى الى انقراض الدولة الساسانية التي دامت وازدهرت أكثر من أربعة قرون انقراضاً كلياً، وكان ذلك في سنة 637م، وهكذا تحققت هذه النبوءة في ظرف ثماني سنين(1).
3- الوصف العام لرسائل الرسول:
ويلاحظ الباحث أن الوصف العام لكتب الرسول الى الملوك والأمراء يكاد يكون واحداً، ويمكننا أن نستخرج منها الأمور التالية:
أ- نلاحظ أن جميع كتب الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي أرسلها الى الملوك والرؤساء يفتتحها - صلى الله عليه وسلم - بالبسلمة، والبسملة آية من كتاب الله تبارك وتعالى وفي تصدير الكتاب بها أمور مهمة؛ كإستحباب بدء الكتب ببسم الله الرحمن الرحيم اقتداءً برسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد واظب عليها في كتبه - صلى الله عليه وسلم -، كما فيها جواز كتابة آية من القرآن الكريم في كتاب، وان كان هذا الكتاب موجها الى الكافرين، وفيها جواز قراءة الكافر لآية أو أكثر من القرآن الكريم، لأن كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تضمنت البسملة وغيرها، وفيها جواز قراءة الجنب لآية أو أكثر من القرآن الكريم لأن هذا الكافر التي أرسلت إليه الرسالة تضمنت البسملة وغيرها لايحترز من الجنابة والنجاسة فيقرأ الرسالة التي اشتملت على آيات من القرآن الكريم وهو جنب.
ب- ونستنبط من رسائل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى الملوك والأمراء الآتي:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص300.(8/165)
( مشروعية ارسال السفراء المسلمين الى زعماء الكفر، لأن كل كتاب كان يكتبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكلف رجلاً من المسلمين يحمله الى المرسل.
( مشروعية الكتابة الى الكفار في أمر الدين والدنيا.
( ينبغي أن يكتب في الكتاب اسم المرسل والمرسل إليه وموضوع الكتاب وهو واحد في جميع الكتب ويتلخص في دعوتهم الى الاسلام.
( عدم بدء الكافر بتحية الاسلام، وهي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطرح السلام في كتبه على ملك من الملوك الكفر، بل كان يصدر كتبه بقوله: السلام على من اتبع الهدى، أي آمن بالاسلام ويؤخذ من هذا عدم جواز مخاطبة الكافر بتحية الاسلام.
( اتخاذ الخاتم: فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختم رسائله بعد كتابته بخاتمه وقد كتب عليه ثلاث كلمات:
الله
رسول
محمد(1)
فعن أنس - رضي الله عنه - قال: لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب الى الروم قيل له إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا أن يكون مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة، فكأني أنظر الى بيضة يده، ونقش فيه محمد رسول الله(2).
4- تقدير الرجال:
لما أسلم باذان بن ساسان وكان أميراً على اليمن لم يعزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل أبقاه أميراً عليها بعد اسلامه، حين رأى فيه الاداري الناجح والحاكم المناسب، مما يدلل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقدر الكفاءات في الرجال ويضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ومن الجدير بالذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد ولى ولده شهراً أميراً على اليمن بعد موته(3).
5- جواز أخذ الجزية من المجوس:
__________
(1) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص239،240.
(2) البخاري، باب دعوة اليهود والنصارى - فتح الباري (6/108).
(3) غزوة الحديبية لأبي فارس ، ص242.(8/166)
وهذا الحكم استخرج من كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الى المنذر بن ساوى يحدد فيه الموقف من اليهود والمجوس، اذ ورد فيه: (ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية)(1).
وقد ذهب ابن القيم مع طائفة من العلماء الى جواز أخذ الجزية من كل انسان يبذلها سواء أكان كتابياً أم غير كتابي كعبدة الأوثان من العرب وغيرهم فقد جاء في زاد المعاد: (وقد قالت طائفة في الأمم كلها اذا بذلوا الجزية، قبلت منهم؛ أهل الكتابين بالقرآن، والمجوس بالسنّة ، ومن عداهم ملحق بهم لأن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم، فأخذها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين وإنما لم يأخذها - صلى الله عليه وسلم - من عبدة الأوثان من العرب لأنهم أسلموا قبل نزول آية الجزية، فإنها نزلت بعد تبوك(2).
6- جواز أخذ هدية الكافر:
فقد أرسل المقوقس عظيم القبط حاكم مصر مع سفير رسول الله حاطب بن أبي بلتعة وهو كافر هدية تشتمل على جاريتين وكسوة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وبغلة يركبها فقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واحدى هاتين الجاريتين مارية القبطية(3).
7- من نتائج ارسال الكتب الى الملوك والأمراء:
أظهر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في سياسته الخارجية دراية سياسية فاقت التصور، وأصبحت مثالاً لمن جاء بعده من الخلفاء، كما أظهر - صلى الله عليه وسلم - قوة وشجاعة فائقتين، فلو كان غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخشي عاقبة ذلك الأمر، لاسيما وأن بعض هذه الكتب قد أرسلت الى ملوك أقوياء على تخوم بلاده كهرقل وكسرى والمقوقس، ولكن حرص رسول الله وعزيمته على إبلاغ دعوة الله، وإيمانه المطلق بتأييد الله سبحانه وتعالى، كل ذلك دفعه لأن يقدم على ماأقدم عليه وقد حققت هذه السياسة النتائج الآتية:
__________
(1) نفس المصدر، ص242.
(2) انظر: زاد المعاد (5/91).
(3) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص243.(8/167)
أ- وطد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذه السياسة أسلوباً جديداً في التعامل الدولي لم تكن تعرفه البشرية من قبل.
ب- أصبحت الدولة الاسلامية لها مكانتها وقوتها وفرضت وجودها على الخارطة الدولية لذلك الزمان.
ج- كشفت للرسول - صلى الله عليه وسلم - نوايا الملوك والأمراء وسياسيتهم نحوه وحكمهم على دعوته.
د- كانت مكاتبة الملوك خارج جزيرة العرب تعبيراً عملياً على عالمية الدعوة الاسلامية تلك العالمية التي اوضحتها آيات نزلت في العهد المكي مثل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (سورة الأنبياء، الآية 107).
وهكذا، فإن رسائل النبي - صلى الله عليه وسلم - الى أمراء العرب والملوك المجاورين لبلاده تعتبر نقطة تحول في سياسة دولة الرسول الخارجية، فعظم شأنها، وأصبحت لها مكانة دينية وسياسية بين الدول، وذلك قبل فتح مكة، كما أن هذ السياسة مهدت لتوحيد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لسائر أنحاء بلاد العرب في عام الوفود(1).
المبحث الثالث
عمرة القضاء
وفي ذي القعدة في السنة السابعة من الهجرة خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - الى مكة قاصداً العمرة، كما اتفق مع قريش في صلح الحديبية، وقد بلغ عدد من شهد عمرة القضاء ألفين سوى النساء والصبيان ولم يتخلف من أهل الحديبية إلا من استشهد في خيبر أو مات قبل عمرة القضاء(2).
__________
(1) انظر: التاريخ السياسي والعسكري لدولة المدينة، ص351.
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة، ص464.(8/168)
وقد اتجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام من المدينة باتجاه مكة المكرمة في موكب مهيب يشق طريقه عبر القرى والبوادي، وكان كلما مر الموكب النبوي بمنازل قوم من الذين يسكنون على جانبي الطريق بين مكة والمدينة خرجوا وشاهدوا منظر لم يألفوه من قبل حيث المسلمين بزي واحد من الأحرام وهم يرفعون أصواتهم بالتلبية ويسوقون هديهم في علاماته وقلائده في مظهر بهي لم تشهد المنطقة له مثيلاً(1).
أولاً: الحيطة والحذر من غدر قريش:
أصطحب النبي - صلى الله عليه وسلم - معه السلاح الكامل، ولم يقتصر على السيوف، تحسباً لكل طارئ قد يقع، خاصة وأن المشركين في الغالب لا يحافظون على عهد قطعوه، ولا عقد عقدوه(2).
وما أن وصل خبر مسير النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعه هذا العدد الضخم، وهذه الأسلحة المتنوعة، وفي مقدمة القافلة مائتا فارس بقيادة محمد بن مسلمة حتى أرسلت الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكرز بن حفص في نفر من قريش، ليستوضحوا حقيقة الأمر، فقابلوه في بطن يأجج(3) بمر الظهران فقالوا له: يامحمد! والله ماعرفناك صغيراً ولا كبيراً بالغدر! تدخل بالسلاح الحرم على قومك، وقد شرطت ألا تدخل إلا على العهد وأنه لن يدخل الحرم غير السيوف في أغمادها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لاندخلها إلا كذلك ثم رجع مكرز مسرعاً بأصحابه الى مكة فقال: إن محمداً لايدخل بسلاح وهو على الشرط الذي شرط لكم(4).
__________
(1) انظر: منهج الأعلام الأسلامي في صلح الحديبية، ص310.
(2) صلح الحديبية لأبي فارس ، ص267.
(3) موضع قرب مكة على ثمانية أميال منها.
(4) انظر: مغازي الواقدي (3/734)؛ طبقات ابن سعد (2/121).(8/169)
ووضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلاح خارج الحرم قريباً منه تحسباً لكل طارئ، وأبقى عنده مائتي فارس بقيادة محمد بن مسلمة يحرسونه وينتظرون أمر الرسول ليتحركوا في أي جهة وينفذوا أي أمر، ويقاتلوا متى دعت الضرورة لذلك(1).
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمن غدر مشركي قريش وخيانتهم فقد تسول لهم أنفسهم أن ينصبوا كميناً أو أكثر للمسلمين ويشنوا عليهم هجوماً مباغتاً ولذلك احتاط وأخذ الحذر ووفى بعهده ووعده لقريش وعلّم الأمة لكي تحذر من أعدائها(2)، وفي بقاء كوكبة من الصحابة في حراسة الأسلحة والعتاد لكي يراقبوا الموقف بدقة وتحفز معنى من معاني العبادة في هذا الدين(3).
ثانياً: دخول مكة والطواف والسعي:
ومن بطن يأجج تابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيره نحو مكة على راحلته القصواء، فدخلها من الثنية التي تطلعه على الحجون والمسلمون حوله متوشحون سيوفهم، محدقون به كل جانب، يسترونه من المشركين مخافة أن يؤذوه بشيء، وأصواتهم تعجّ بالتلبية لله العلي الكبير(4).
هذه التلبية الجماعية التي تعج أصوات المسلمين بها، والتي لم تنقطع منذ أن احرموا واستمرت حتى دخلوا مكة، فقد كان للتلبية مغزى ومعنى، فهي تعلن التوحيد وترفع شعاره، وتعني ابطال الشرك واسقاط رايته، وتعلن الحمد والثناء على الله الذي مكنهم من اداء هذا النسك(5) فهذه بعض معاني تلبية المسلم بقوله: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
وكان عبدالله بن رواحة آخذاً بزمام راحلته وهو يرتجز بشعره:
خلو بني الكفار عن سبيله
... ... ... خلو فكلُّ الخير في رسوله
يارب إني مؤمن بقيله
... ... ... أعرف حق الله في قبوله
ضرباً يزيل الهم عن مقيله
__________
(1) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص268.
(2) نفس المصدر، ص275.
(3) المصدر السابق، ص277.
(4) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، ص353.
(5) انظر: صلح الحديبية ، ص277.(8/170)
... ... ... ويذهل الخليل عن خليله(1)
وكان مظهراً دعوياً مؤثراً عندما بدأ الموكب النبوي الكريم يقترب من بيوت مكة المكرمة وأبنيتها شاقاً طريقه باتجاه الكعبة المشرفة وهم في مظهرهم المهيب، وأصواتهم تشق عنان السماء بالتلبية، فقد ذكرت معظم كتب السير والمغازي أن قسماً من أهالي مكة خرج الى رؤوس الجبال لينظر الى المسلمين من الأماكن العالية، والقسم الأكبر وقف عند دار الندوة المجاورة للكعبة الشريفة آنذاك، ليشاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابة الكرام أثناء دخولهم مكة المكرمة وبيت الله الحرام(2).
وكان المشركون قد أطلقوا شائعة ضد المسلمين مفادها أنهم وهنتهم(3) حُمَّى يثرب فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يرملوا في الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا مابين الركنين(4)، لكي يرى المشركون قوتهم، ودخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت الحرام واضطبع(5) بردائه فأخرج عضده اليمنى وشرع في الطواف وأصحابه يتابعونه ويقتدون به ولما رأى المشركون ذلك قالوا: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم. هؤلاء أجلد من كذا وكذا(6).
__________
(1) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص481.
(2) انظر: منهج الأعلام الاسلامي في صلح الحديبية، ص314.
(3) أضعفتهم.
(4) البخاري، كتاب المغازي (5/6) رقم 4256.
(5) الاضطباع: هو أن يدخل بعض رداءه تحت عضده اليمين ويجعل طرف على منكبه.
(6) صحيح السيرة النبوية، ص481.(8/171)
وقد قصد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذه الطريقة التي فعلها عند دخوله المسجد الحرام، وهي الاضّطباع، والهرولة، ورفع الأصوات بالتلبية، أن يرهب قريشاً، وأن يظهر لها قوة المسلمين وعزيمتهم وتمسكهم بدينهم، ومناعة جبهتهم وقد أثر هذا الأسلوب في نفوس المشركين(1) وبهذا الأسلوب النبوي الكريم أغاظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - المشركين وكايدهم، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتقرب الى الله بمكايدتهم وإغاظتهم، ففي غزوة أحد أذن - صلى الله عليه وسلم - لأبي دجانة أن يمشي متبختراً أمام المشركين لاظهار عزة المؤمن ولأن ذلك يغيظ المشركين، وزيادة في اغاظتهم كان يلبس العصابة الحمراء دون أن ينكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذلك وفي غزوة الحديبية ساق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهدي جمل أبي جهل الذي غنمه في بدر، ليراه المشركون فيزداود غيظاً حين يذكرون مصارع قتلاهم وذل أسراهم وهاهو ذا - صلى الله عليه وسلم - يأمر المسلمين في عمرة القضاء باظهار التجلد والهرولة لاغاظتهم ومكايدتهم ورد كيدهم في نحورهم(2)، وقد ذكر ابن القيم: (بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكيد المشركين بكل مايستطيع)(3).
فهذه حرب نفسية شنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المشركين وقد أتت أكلها ولقد أقام الرسول في مكة ثلاثة أيام، ومعه المسلمون يرفعون راية التوحيد، ويطوفون بالبيت العتيق، ويرفعون الأذان ويقيمون الصلاة، ويصلي بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس في جماعة، وكان بلال بن رباح بصوته الندي يرفع الأذان من علا ظهر الكعبة، فكان وقعه على المشركين كالصاعقة(4).
__________
(1) انظر: منهج الاعلام الاسلامي ، ص315.
(2) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص282.
(3) انظر: زاد المعاد (3/371).
(4) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص270.(8/172)
ولم ينس - صلى الله عليه وسلم - مجموعة الحراسة التي كانت تحرس الأسلحة والعتاد بأن يرسل من يقوم بمهمتهم ممن طاف وسعى مكانهم ويأتي هؤلاء ليؤدوا النسك، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتعامل مع نفوس يدرك حقيقة شوقها لبيت الله الحرام، وماجاءت للمرة الثانية وقطعت هذه المسافة الشاسعة إلا لتنال هذا الشرف، وتبل هذا الظمأ، فتطوف مع الطائفين وتسعى مع الساعين، فعمل - صلى الله عليه وسلم - على مراعاة النفوس، وساعادها ولبى مطالبها من أجل أصلاحها والرقي بها؛ أنه من منهج النبوة في التربية(1).
ثالثاً: زواجه من أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث:
كانت ميمونة، أخت أم الفضل، زوجة العباس بن عبدالمطلب، فتاة في السادسة والعشرين، قد جعلت أمر زواجها بعد وفاة زوجها أبو رهم بن عبدالعزى الى أختها أم الفضل، فجعلته أم الفضل الى زوجها العباس، فزوجها العباس من ابن أخيه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصدقها عنه أربعمائة درهم(2)، وهي خالة عبدالله بن عباس، وخالد بن الوليد ولما أنقضت الثلاثة أيام، التي نص عليها عهد الحديبية، أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ من زواجه من ميمونة وسيلة لزيادة التفاهم بينه وبين قريش، فجاءه سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبدالعزى، موفدين من نفر من قريش فقالوا: إنه قد انقضى أجلك، فأخرج عنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكر ابن اسحاق: وماعليكم لو تركتموني، فأعرست بين أظهركم، وصنعنا لكم طعماً فحضرتموه؟
قالوا: لاحاجة لنا في طعامك فاخرج عنا(3).
__________
(1) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص277.
(2) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، ص326.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/19).(8/173)
فخرج، وخلف ابا رافع مولاه على ميمونة، حتى أتاه بها في بسرف (موضع قرب التنعيم) فبنى بها هناك(1)، وهي آخر من تزوج الرسول - صلى الله عليه وسلم - من نسائه وآخر من مات من نسائه بعده، وأنه ماتت ودفنت بسرف، فمكان عرسها هو مكان دفنها، فرضي الله عنها وأرضاها(2).
وفي زواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بميمونة مسألة فقهية اختلف الفقهاء فيها وهي هل تزوج - صلى الله عليه وسلم - بميمونة وهو محرم (عقد نكاحها عليها فقط) أو عقد عليها بعد التحلل(3)؟ وقد أجاد الفقهاء في تفصيلها.
رابعاً: ألتحاق بنت حمزة بن عبدالمطلب بركب المسلمين:
لقد تغيرت النفوس والعقول بتأثير الاسلام تغيراً عظيماً، فعادت البنت -التي كان يتعير بها أشراف العرب، وجرت عادة وأدها في بعض القبائل فراراً من العار، وزهداً في البنات- حبيبة يتنافس في تربيتها المسلمون، وكانوا سواسية، لايرجع بعضهم على بعض إلا بفضل أو حق(4) فلما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - الخروج من مكة، تبعته ابنة حمزة تنادي ياعم! ياعم! فتناولها علي فأخذ بيدها وقال لفاطمة عليها السلام: دونك ابنة عمك، فأختصم فيها علي وزيد وجعفر.
قال علي: أنا أخذتها وهي بنت عمي وقال جعفر: هي ابنة عمي وخالتها تحتي وقال زيد: ابنة أخي فقضى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها وقال: الخالة بمنزلة الأم وقال لعلي: أنت مني وأنا منك وقال لجعفر: أشبهت خَلْقي وخُلُقي وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا وقال علي: ألا تتزوج بنت حمزة. قال: إنها إبنة أخي من الرضاعة(5).
وفي هذه القصة دورس وعبر وأحكام وفوائد منها:
1- الخالة بمنزلة الأم.
2- الخالة تقدم على غيرها في الحضانة اذا لم يوجد الابوان.
__________
(1) نفس المصدر(4/19).
(2) انظر: هذا الحبيب محمد يامحمد، للجزائري، ص375.
(3) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص258.
(4) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص321.
(5) البخاري، كتاب المغازي (5/100) رقم 4251.(8/174)
3- تزكية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - ووصفه له بقوله: أشبهت خُلقي وخَلقي.
4- منقبة علي تأمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: أنت مني وأنا منك، والمعنى أنت مني وأنا منك في النسب والصهر، والسابقة والمحبة.
5- منقبة زيد بن حارثة: يقول له الرسول أنت أخونا مولانا لأنه كان أخاً لحمزة بن عبدالمطلب فقد آخى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وهو باجتهاده يريد أن يكون عليه ماعلى الأخ الشقيق من واجبات والواجب هنا أن يكون ولياً على بنت حمزة - رضي الله عنه -.
6- الخالة تقدم على العمة في الحضانة: لقد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - الى زوجة جعفر بالحضانة وعمتها صفية بنت عبدالمطلب حية موجودة.
7- زواج المرأة لايسقط حقها في الحضانة: فقد حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالحضانة لخالة بنت حمزة وهي متزوجة من جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
8- لابد من موافقة الزوج على حضانة زوجته لابنة أختها، لأن الزوجة محتسبة لمصلحته ومنفعته، والحضانة قد تفوت هذه المصلحة جزئياً، فلابد من استئذانه، ونلاحظ هنا أن جعفر بن أبي طالب قد طالب بحضانة بنت عمه حمزة لخالتها وهي زوجة له، فدل على رضاه بذلك.
9- إن الطفل إذا رضع مع عمه يصبح أخاً له في الرضاعة، وتصبح بناته كلها بنات أخيه في الرضاعة، فيحرم عليه نكاحهن(1).
خامساً: أثر عمرة القضاء على الجزيرة واسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة:
لقد كان تأثير هذه العمرة على قريش وعلى عرب الجزيرة تأثيراً بالغاً، فقد حملت في مضمونها مهمة دعوية عظيمة، ولقد تأثر أهل مكة في هذه العمرة السلمية.
__________
(1) انظر: زاد المعاد فيه تفصيل كثير (3/374،375)؛ صلح الحديبية لأبي فارس، ص286،287.(8/175)
يقول اللواء محمود شيت خطاب: (أثرت عمرة القضاء في هذه الفترة على معنويات قريش تأثيراً كبيراً، فقد وقف الكثير من قريش عند دار الندوة بمكة، كما عسكر آخرون فوق الهضاب المحيطة بها ليشهدوا دخول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد اضطجع بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال: رحم الله امرأً اراهم اليوم من نفسه قوة)، ثم استلم الركن وأخذ يهرول وأصحابه معه. فلم يكد يترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكة، حتى وقف خالد بن الوليد يقول في جمع من قريش لقد استبان لكل ذي عقل أن محمداً ليس بساحر ولا شاعر وأن كلامه من كلام رب العالمين، فحق كل ذي لب أن يتبعه، وسمع أبوسفيان بما كان من قول خالد بن الوليد، فبعث في طلبه، وسأله عن صحة ماسمع فأكد له خالد صحته فاندفع ابو سفيان الى خالد في غضبه، فحجز عنه عكرمة، وكان حاضراً، وقال: مهلاً ياأباسفيان، فوالله خفتُ للذي خفت أن أقول مثل ماقال خالد وأكون على دينه، أنتم تقتلون خالداً على رأي رآه. وهذه قريش كلها تبايعت عليه، والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم: وأسلم من بعد خالد بن الوليد عمرو بن العاص، وحارس الكعبة نفسها عثمان بن طلحة؛ بل وظهر الاسلام في كل بيت من قريش سراً وعلانية، وبهذه النتيجة الطيبة يمكننا القول بأن عمرة القضاء هذه قد فتحت أبواب قلوب أهل مكة قبل أن يفتح المسلمون أبواب مكة نفسها)(1).
ويقول الاستاذ محمود العقاد: (.......وحسبك أن عمرة القضاء هذه قد جمعت في آثارها من أسباب الإقناع بالدعوة المحمدية ماأقنع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وهما في رجاحة العقل والخلق مثلان متكافئان يحتذى بهما)(2).
1- اسلام عمرو بن العاص - رضي الله عنه -:
__________
(1) انظر: الرسول القائد، ص209،210.
(2) انظر: عبقرية محمد، ص69.(8/176)
ونترك عمرو بن العاص يحدثنا عن إسلامه حيث قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالاً من قريش، كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله إني أرى أمر محمد يعلو الأمور علواً منكراً، وإني قد رأيت أمراً، فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي، فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن ظهر قومنا، فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا خير، قالو: إن هذا الرأي، قلت: فاجمعوا لنا مانهديه له، وكان أحب مايهدى إليه من أرضنا الأدم(1)، فجمعنا له أدماً كثيراً ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه، قال: فدخل عليه، ثم خرج من عنده، قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري، لو دخلت على النجاشي، وسألته إياه فأعطانيه، فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني أجزأت عنها(2)، حيث قتلت رسول محمد، قال: فدخلت عليه، فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحباً صديقي، أهديت إلي من بلادك شيئاً؟ قال: قلت: نعم، أيها الملك، قد أهديت إليك أدماً كثيراً، قال: ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه ثم قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطينه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فغضب، ثم مد يده، فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقاً منه، ثم قلت له: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ماسألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لقتله قال: قلت: أيها الملك، أكذلك هو؟ قال: ويحك ياعمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على
__________
(1) الأدم: الجلد.
(2) اجزأت عنها: كفيتها.(8/177)
فرعون وجنوده، قال: قلت: أفتبايعني له على الاسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعته على الاسلام، ثم خرجت الى أصحابي، وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت على أصحابي إسلامي ثم خرجت عامداً الى رسول الله لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قبيل الفتح، وهو مقبل من مكة، فقلت: أين ياأبا سليمان؟ قال: والله لقد استقام المنسم(1)، وإن الرجل لنبي، أذهب والله فأسلم، فحتى متى، قال: قلت: والله ماجئت إلا لأسلم. قال: فقدمنا المدينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتقدم خالد بن الوليد، فأسلم، وبايع، ثم دنوت، فقلت: يارسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إني أبايعك على أن يغفر لي ماتقدم من ذنبي، ولا أذكر ماتأخر. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ياعمرو، بايع، فإن الاسلام يجب ماكان قبله، وإن الهجرة تجب ماكان قبلها، قال: فبايعته ثم انصرفت(2). وفي رواية قال: ...فلما جعل الله الاسلام في قلبي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك. فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: مالك ياعمرو؟ قال: قلت: أردت أن اشترط. قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي. قال: أما علمت أن الاسلام يهدم ماكان قبله، وأن الهجرة تهدم ماكان قبلها، وأن الحج يهدم ماكان قبله؟........)(3).
2- اسلام خالد بن الوليد - رضي الله عنه -:
__________
(1) استقام المنسم: تبين الطريق ووضح.
(2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص494.
(3) مسلم، كتاب الايمان، باب كون الاسلام يهدم ماقبله رقم 121.(8/178)
وهذا خالد بن الوليد يحدثنا عن قصة إسلامه فيقول: (.....لما أراد الله بي من الخير ماأراد قذف في قلبي حُبّ الاسلام وحضرني رشدي، وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد، فليس موطنُّ أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفس أني مُوضع في غير شيء وأن محمداً سيظهر، فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى الحديبية خرجت في خيل المشركين فلقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اصحابه بعُسْفان، فقمت بإزائه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر آمناً منا، فهممنا أن نغير عليه، ثم لم يُعزَم لنا -وكانت فيه خيرة- فاطلع على مافي أنفسنا من الهموم فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك مني موقعاً وقلت: الرجل مَمنوع! وافترقنا وعدل عن سَنَن خلينا وأخذ ذات اليمين، فلما صالح قريشاً بالحديبية ودافعته قريش بالرّواح قلت في نفسي: أي شيء بقي؟ أين المذهب الى النجاشي؟ فقد اتبع محمداً، وأصحابه آمنون عنده، فأخرج الى هرقل؟ فأخرج من ديني الى نصرانية أو يهودية، فأقيم مع عجم تابعاً، أو أقيم في داري فيمن بقى؟ فأنا على ذلك إذ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عُمرة القضَّية، فتغيبت فلم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عُمرة القضية، فطلبني فلم يجدني فكتب إليَّ كتاباً فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني لم أرَ أعجب من ذهاب رأيك عن الاسلام وعَقْلُك عَقْلُك! ومثل الاسلام جَهَله أحد؟ وقد سألني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنك فقال: أين خالد؟ فقلت يأتي الله به؟ فقال: مامثله جهل الاسلام! ولو كان جعل نكايته وجدَّه مع المسلمين على المشركين، لكان خيراً له، ولقدمناه على غيره، فاستدرك ياأخي مافاتك، فقد فاتتك مواطن صالحة.(8/179)
قال: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبة في الاسلام وسرني مقالة رسول الله. قال خالد: وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة جديبة، فخرجت الى بلد أخضر واسع، فقلت إن هذه لرؤيا.....فلما قدمت المدينة قلت: لأذكرنَّها لأبي بكر. قال: فذكرتها فقال: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق الذي كفت فيه من الشرك، فلما أجمعت للخروج الى رسول الله قلت: من أصاحب الى رسول الله؟ فلقيت صفوان بن أمية فقلت: ياأبا وهب، أما ترى مانحن فيه؟ إنما نحن أكَلَةُ رأس(1)، وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد فاتبعناه فإن شرف محمد على العرب، فابى أشدَّ الإباء وقال: لو لم يبق غيري من قريش مااتبعته أبداً. فافترقنا وقلت: هذا رجل موتور يطلب وتراً، قد قُتل أبوه وأخوه ببدر. فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل الذي قلت لصفوان، فقال لي مثل ماقال صفوان، قلت: فاطو ماذكرت من قُتل من أبائه فكرهتُ أذكِّره، ثم قلت: وماعليَّ وأن راحل من ساعتي. فذكرت له ماصار الأمر إليه فقلت: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جُحر، لو صُبَّ عليه ذَنوب(2) من ماء لخرج. قال: وقلت له نحو مما قلت لصاحبيه، فأسرع في الاجابة وقال: لقد غدوت اليوم وأنا أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بضحّ مناخة. قال: فاتَّعدت أنا وهو بيأجج، إن سبقني أقام وإن سبقته أقمت عليه. قال: فادّلجنا سحراً فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدونا حتى انتهينا الى الهَدَّة، فنجد عمرو بن العاص بها فقال: مرحباً بالقوم! فقلنا: وبك! قال: مسيركم؟ قلنا: ماأخرجك؟ قال: فما الذي أخرجكم؟ قلنا: الدخول في الاسلام واتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال: وذلك الذي أقدمني.
__________
(1) أي هم قليل يشبعهم رأس واحد، وهو جمع آكل.
(2) الذنوب: الدلو العظيمة.(8/180)
قال: فاصطحبْنا جميعاً حتى قدمنا المدينة فانخنا بظاهر الحرّة ركابنا، فأخبر بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسُرَّ بنا، فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلقيني أخي فقال: أسرع فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بك فسُرَّ بقدومك وهو ينتظركم. فأسرعت المشي فطلعت عليه، فما زال يتبسم إليّ حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد علي السلام بوجه طلق، فقلت: إني اشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال: الحمدلله الذي هداك! قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا الى الخير. قلت: يارسول الله قد رأيت ماكنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً عن الحق فادع الله أن يغفرها لي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الاسلام يجُب ماكان قبله، قلت: يارسول الله، على ذلك؟ فقال: اللهم اغفر لخالد كلّ ما أوضع فيه من صدِّ عن سبيلك. قال خالد: وتقدم عمرو، وعثمان، فبايعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان قدومنا في صفر سنة ثمان، فوالله ماكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يوم أسلمت يعدل لي أحد من أصحابه فيما حَزَبه(1)، وفي إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد رضي الله عنهم دروس ولطائف وعبر منها:
أ- غضبة النجاشي تدل على صدق إيمانه وحبه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحبه للمسلمين، وصدق النجاشي كان له أثر في إيمان عمرو بن العاص ودخوله في الاسلام، وبذلك نال النجاشي أجراً عظيماً حيث جذب الى الاسلام رجلاً من عظماء قريش(2).
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (4/239،240) ؛ التاريخ الاسلامي (7/95).
(2) انظر: التاريخ الاسلامي (7/90).(8/181)
ب- كان إسلام عمرو بن العاص نصراً كبيراً للإسلام، والمسلمين فلقد سخَّر عقله الكبير ودهاءه العظيم لصالح دعوة الاسلام، وخسر الكفار بإسلامه خسارة كبيرة لأنهم كانوا يُعدُّونه لعظائم الأمور التي تحتاج الى دهاء ومقدرة على التأثير وخاصة فيما يتعلق بعدائهم مع المسلمين(1).
ج- أدرك خالد بن الوليد أن العاقبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتأمل قوله: لقد شهدت هذه المواطن كلها على محمد فليس موطن أشهده إلا انصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيء، وأن محمداً سيظهر(2) وفي هذا عبرة لكل الذين يحاربون الاسلام(3).
__________
(1) نفس المصدر (7/91).
(2) انظر: صلح الحديبية لأبي فارس، ص263.
(3) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (7/95).(8/182)
د- الاهتمام بالبشر طريق من طرق التأثير عليهم وكسبهم الى الصف المؤمن ولذلك قال رسول الله للوليد بن الوليد: مامثل خالد يجهل الاسلام ولو كان جعل نكايته وجدّه مع المسلمين على المشركين لكان خيراً له ولقدمناه على غيره(1)، فكانت لهذه الكلمات البليغة أعظم الأثر في تحول قلب خالد وتوجهه نحو الاسلام، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليماً في مخاطبة النفوس والتأثير عليها، فلقد أدرك مواهب خالد في القيادة والزعامة فوعد بتمكينه من ذلك وتقديمه على غيره في هذا المضمار، ومدح - صلى الله عليه وسلم - سداد رأيه ورجاحة عقله، ونضوج فكره، فانتزع - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمات كل الجوانب التي تجعل خالداً يظل على الشرك الذي لم يكن مقتنعاً به إلا بمقدار ماحصل له فيه من قيادة وتصدر، فلما كان ماهيأه له المشركون سيحصل له إذا دخل في الاسلام، واطمأن بأنه لو أسلم لن يكون في آخر القائمة ولن يكون مهملاً شجعه ذلك على التغلب على وساوس أبليس ورجح ماأطمأنت إليه نفسه من الميل الى الاسلام فعزم على الدخول فيه، لقد كان إسلام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد قوة للاسلام وضعفاً للشرك وكتب الله على أيديهم صفحات مشرقة من تاريخ المسلمين الجهادي أصبحت باقية في ذاكرة الأمة وتاريخها المجيد على مر الدهور وكر العصور، توالي الأزمان(2).
المبحث الرابع
سرية مؤتة (8هـ)
أولاً: أسبابها وتاريخها:
__________
(1) نفس المصدر (7/95).
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (7/96).(8/183)
أشعل عرب الشام فتيل الصراع بين المسلمين والبيزنطيين، فقد دأبت قبيلة كلب من قضاعة التي كانت تنزل على دومة الجندل على مضايقة المسلمين وحاولت أن تفرض عليهم نوعاً من الحصار الاقتصادي عن طريق إيذائها للتجار الذين كانوا يحملون السلع الضرورية من الشام الى المدينة، ولذلك غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبيلة كلب بدومة الجندل سنة (5هـ) لكنه وجدهم قد تفرقوا، كما أن رجالاً من جُذام ولَخِمْ قطعوا الطريق على دحية بن خليفة الكلبي عند مروره بِحِسمى بعد إنجازه لمهمة أناطها به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستلبوا كل مامعه، فكانت سرية زيد بن حارثة الى حسمى في سنة 6هـ، ويضاف الى ذلك أيضاً ماقامت به قبيلتا مذحج وقضاعة من اعتداء على زيد بن حارثة وصحبه في العام المذكور (6هـ) وذلك عندما ذهبوا الى وادى القرى في بعثه بغرض الدعوة الى الله، وبعد صلح الحديبية أخذ هذا المسلك العدواني يأخذ منحنى أكثر خطورة(1)، بعد مقتل الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله الى حاكم (بصرى) التابع لحاكم الروم، فقد قام شرحبيل بن عمرو الغساني بضرب عنق رسول رسول الله ولم تجر العادة بقتل الرسل والسفراء، كما أن الحارث بن أبي شمر الغساني حاكم دمشق أساء استقبال مبعوث رسول الله وهدد بإعلان الحرب على المدينة، ثم حدث بعد ذلك بما يزيد قليلاً عن العام أن بعث رسول الله سرية بقيادة عمرو بن كعب الغفاري ليدعو الى الاسلام في مكان يقال له (ذات اطلاح) فلم يستجب أهل المنطقة الى الاسلام وأحاطوا بالدعاة من كل مكان وقاتلوهم حتى قتلوهم جميعاً إلا أميرهم كان جريحاً فتحامل على جرحه حتى وصل الى المدينة فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2)، وقد قام نصارى الشام بزعامة الامبراطورية الرومانية بالاعتداءات على من يعتنق الاسلام أو يفكر
__________
(1) انظر: المسلمون والروم في عصر النبوة، عبدالرحمن أحمد سالم، ص87.
(2) انظر: تاريخ الطبري (3/103).(8/184)
بذلك، فقد قتلوا والي مَعَانَ حين أسلم، وقتل والي الشام من أسلم من عرب الشام(1).
كانت هذه الأحداث المؤلمة وبخاصة مقتل سفير رسول الله الحارث بن عمير الأزدي -محركة لنفوس المسلمين، وباعثاً له ليضعوا حداً لهذه التصرفات النصرانية العدوانية، ويثأروا لإخوانهم في العقيدة الذين سفكت دمائهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ونبينا محمد رسول الله(2)، كما أن تأديب عرب الشام التابعين للدولة الرومانية والذين دأبو على استفزاز المسلمين وتحديهم وارتكاب الجرائم ضد دعاتهم أصبح هدفاً مهماً، لأن تحقيق هذا الهدف معناه فرض هيبة الدولة الاسلامية في تلك المناطق بحيث لاتتكرر مثل هذه الجرائم في المستقبل وبحيث يأمن الدعاة المسلمون على أنفسهم ويأمن التجار المترددون بين الشام والمدينة من كل أذى يحول دون وصول السلع الضرورية الى المدينة(3).
وفي سنة 8هـ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين بالتجهز للقتال، فاستجابوا للأمر النبوي وحشدوا حشوداً لم يحشدوها من قبل، إذ بلغ عدد المقاتلين في هذه السرية ثلاثة آلاف مقاتل، واختار النبي - صلى الله عليه وسلم - للقيادة ثلاثة أمراء على التوالي: زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبدالله بن رواحة(4)، فقد روى البخاري في صحيحه بإسناده الى عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: أمّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة مؤتة زيد بن حارثة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبدالله بن رواحة(5).
__________
(1) انظر: خاتم النبيين (2/1139) نقلاً عن الصراع مع الصليبيين لأبي فارس، ص20.
(2) انظر: الصراع مع الصليبيين لأبي فارس، ص20.
(3) انظر: المسلمون والروم في عصر النبوة، ص89.
(4) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص20.
(5) البخاري، كتاب المغازي (5/102) رقم 4261.(8/185)
وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجيش الاسلامي أن يأتوا المكان الذي قتل فيه الحارث ابن عمير الأزدي - رضي الله عنه - وأن يدعوا من كان هناك الى الاسلام فإن أجابوا فبها ونعمت وإن أبوا استعينوا بالله عليهم وقاتلوهم(1).
وقد زود الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجيش في هذه السرية وغيرها من السرايا بوصايا تتضمن آداب القتال في الاسلام(2)، فقد أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بقوله: أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيراً، أغزوا باسم الله، في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً، ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقربوا نخلاً، ولا تقطعوا شجراً، ولا تهدموا بناءً، وإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم الى إحدى ثلاث: فإما الاسلام، وإما الجزية، وإما الحرب..)(3).
ثانياً: وداع الجيش الاسلامي:
لما تجهز الجيش الاسلامي وأتم استعداده، توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يودعون الجيش ويرفعون أكف الضراعة -لله عز وجل- أن ينصر إخوانهم المجاهدين، لقد سلموا عليهم وودعوهم بهذا الدعاء: دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين(4).
ولما ودع الناس عبدالله بن رواحة وسلموا عليه بكى: وانهمرت الدموع من عينيه ساخنة غزيرة فتعجب الناس من ذلك وقال: مايبكيك ياابن رواحة؟ فقال: والله مابي حب الدنيا وصبابة، ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (سورة مريم، الآية 71)، فلست أدري كيف بي بالصدر بعد الورود، فقال لهم المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال عبدالله بن رواحة:
__________
(1) انظر: السيرة الحلبية (2/787).
(2) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص21.
(3) انظر: المغازي (2/757-758).
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/21).(8/186)
لكني أسأل الرحمن مغفرة
... ... ... ... وضربة ذات فراغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة
... ... ... ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي
... ... ... ... أرشده الله من غاز وقد رشدا(1)
وودع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن رواحة فقال ابن رواحة يخاطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
يثبت الله ماآتاك من حسن
... ... ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
إني تفرست فيك الخير نافلة
... ... ... فراسة خالفتهم في الذي نظروا
أنت الرسول فمن يحرم نوافله
... ... ... والوجه منه فقد أزرى به القدر(2)
ثالثاً: الجيش يصل الى معان واستشهاد الأمراء الثلاثة:
__________
(1) نفس المصدر (4/21).
(2) انظر: مغازي رسول الله لعروة بن الزبير، ص204-205.(8/187)
لما وصل الجيش الاسلامي الى معان من أرض الشام وهي الآن محافظة من محافظات الأردن بلغه أن النصارى الصليبيين من عرب وعجم قد حشدوا حشوداً ضخمة لقتالهم، إذ حشدت القبائل العربية مائة ألف صليبي من لخم وجذام وبهراء وبلى وعينت لهم قائداً هو مالك بن رافله وحشد هرقل مائة ألف نصراني صليبي من الروم فبلغ جيشهم مائتي ألف مقاتل، مزودين بالسلاح الكافي يرفلون في الديباج لينبهر المسلمون بهم وبقوتهم(1)، ولقد قام المسلمون في معان يومين يتشاورون في التصدي لهذا الحشد الضخم فقال بعضهم: نرسل الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة نخبره بحشود العدو فإن شاء أمدنا بالمدد وإن شاء أمرنا بالقتال(2) وقال بعضهم لزيد بن حارثة قائد الجيش: وقد وطئت البلاد وأخفت أهلها، فانصرف، فإنه لايعدل العافية شيء(3)، ولكن عبدالله بن رواحة حسم الموقف بقوله: (ياقوم، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون الشهادة! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة؛ مانقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا؛ فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة، فألهبت كلماته مشاعر المجاهدين، واندفع زيد بن حارثة بالناس الى منطقة مؤتة جنوب الكرك يسير حيث آثر الاصطدام بالروم هناك، فكانت ملحمة سجل فيها القادة الثلاثة بطولة عظيمة انتهت باستشهادهم(4)، فقد استبسل زيد بن حارثة وتوغل في صفوف الأعداء وهو يحمل راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى شاط في رماح القوم(5).
__________
(1) انظر: شرح المواهب اللدنية (2/271).
(2) انظر: زاد المعاد (3/382).
(3) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (1/396).
(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/468).
(5) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/25).(8/188)
ثم أخذ الراية جعفر وانبرى يتصدى لجموع المشركين الصليبيين، فكثفوا حملاتهم عليه، وأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، فلم تلن له قناة، ولم تهن له عزيمة، بل استمر في القتال وزيادة في الإقدام ونزل عن فرسه وعقرها، وأخذ ينشد:
ياحبذا الجنة واقترابُها
... ... ... طيبة وبارداً شرابُها
والروم روم قد دنا عذابها
... ... ... كافرة بعيدة أنسابُها
... ... ... عليَّ إذ لاقيتها ضِرابُها(1)
لقد أخذ - رضي الله عنه - عنه اللواء بيده اليمنى فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه وانحنى عليه حتى استشهد وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ولقد أثخن - رضي الله عنه - بالجراح إذ بلغ عدد جراحه تسعين بين طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم وليس من بينهما جرح في ظهره بل كلها في صدره(2).
روى الامام البخاري -رحمه الله- في صحيحه بإسناده الى عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: كنت في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى ووجدنا مافي جسده بضعاً وتسعين من طعنة أو رمية(3).
ولقد عوض الله -تبارك وتعالى- جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأكرمه على شجاعته وتضحيته بأن جعل له جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء، فقد روى البخاري في صحيحه بإسناده الى عامر قال: كان ابن عمر إذا حيا ابن جعفر قال: السلام عليك ياابن ذي الجناحين(4).
وبعد استشهاد جعفر بن أبي طالب -استلم الراية عبدالله بن رواحة الأنصاري - رضي الله عنه - وامتطى جواده، وهو يقول:
اقسمت يانفس لتنزلنه
... ... ... لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجْلبَ(5) الناسُ وشدوا الرّنَّه(6)
... ... ... مالي أراك تكرهين الجنة
__________
(1) نفس المصدر (4/26).
(2) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص58.
(3) البخاري، كتاب المغازي (5/102) رقم 4261.
(4) البخاري، كتاب المغازي (5/103) رقم 4264.
(5) إن حْلبَ القوم: صاحوا واجتمعوا.
(6) الرنة: صوت ترجيع شبه البكاء.(8/189)
قد طال ماقد كنت مطمئنة
... ... ... هل أنت إلا نطفة في شنة
يانفس إلا تقتلى تموتي
... ... ... هذا حمام الموت قد صَليتِ
وماتمنيت فقد أعطيت
... ... ... إن تفعلي فِعْلهما هُديت(1)
ويذكر أن ابن عم لعبدالله بن رواحة قد قدم له قطعة من لحم وقال له: شد بهذا صلبك، فإنك لقيت في ايامك هذه مالقيت، فأخذه من يده ثم انتهش منه نهشة، ثم سمع جلبة وزخاماً في جبهة القتال، فقال يخاطب نفسه، وأنت في الدنيا، ثم ألقى قطعة اللحم من يده وتقدم يقاتل العدو حتى استشهد - رضي الله عنه - وكان ذلك في آخر النهار(2).
رابعاً: المسلمون يختارون خالد بن الوليد قائداً:
ولما استشهد عبدالله بن رواحة - رضي الله عنه - وسقطت الراية من يده فالتقطها ثابت بن أقرم بن تعلبة بن عدي بن العجلان البلوي الأنصاري وقال: يامعشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت ، قال: ماأنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد(3)، وجاء في إمتاع الأسماع أن ثابت بن أقرم نظر الى خالد بن الوليد فقال: خذ اللواء ياابا سليمان، فقال: لا آخذه ، أنت أحق به، أنت رجل لك سن، فقد شهدت بدراً، فقال ثابت: خذه أيها الرجل فوالله ماأخذته إلا لك، فأخذه خالد بن الوليد - رضي الله عنه -(4)، وأصبحت الخطة الأساسية المنوطة بخالد، في تلك الساعة العصيبة من القتال، أن ينقذ المسلمين من الهلاك الجماعي، فبعد أن قدر الموقف وإحتمالاته المختلفة قدراً دقيقاً، ودرس ظروف المعركة درساً وافياً وتوقع نتائجها، اقتنع بأن الانسحاب بأقل خسارة ممكنة هو الحل الأفضل، فقوة العدو تبلغ (66) ضعفاً لقوة المسلمين، فلم يبق أمام هؤلاء إلا الانسحاب المنظم وعلى هذا الأساس وضع خالد الخطة التالية:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/26،27).
(2) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص61.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/27).
(4) انظر: إمتاع الأسماع (1/348-349).(8/190)
أ- الحؤول بين جيش الروم وجيش المسلمين، ليضمن لهذا الأخير سلامة الانسحاب.
ب- لبلوغ هذا الهدف، لابد من تضليل العدو بإيهامه أن مدداً قد ورد الى جيش المسلمين فيخفف من ضغطه وهجماته ويتمكن المسلمون من الانسحاب، وصمد خالد حتى المساء عملاً بهذه الخطة، وغيرّ، في ظلام الليل، مراكز المقاتلين في جيشه، فاستبدل الميمنة بالميسرة، ومقدمة القلب بالمؤخرة. وفي أثناء عملية الاستبدال اصطنع ضجة صاخبة وجلبة قوية، ثم حمل على العدو، عند الفجر، بهجمات سريعة متتالية وقوية ليُدخل في روعه إن إمدادات كثيرة وصلت الى المسلمين(1).
ونجحت الخطة، إذ بدا للعدو صباحاً أن الوجوه والرايات التي تواجهه جديدة لم يرها من قبل، وأن المسلمين يقومون بهجمات عنيفة، فأيقن أنهم تلقوا إمدادات، وأن جيشاً جديداً نزل الى الميدان، وكان البلاء الحسن الذي أبلاه المسلمون قد فتَّ في عضد الروم وحلفائهم، فأدركوا أن إحراز نصر حاسم ونهائي على المسلمين أمر مستحيل، فتخاذلوا وتقاعسوا عن متابعة الهجوم، وضعف نشاطهم واندفاعهم، فخف الضغط عن جيش المسلمين، وانتهز خالد الفرصة فباشر الانسحاب وكانت عملية التراجع التي قام بها خالد في أثناء معركة (مؤتة) من أكثر العلميات في التاريخ العسكري مهارة ونجاحاً، بل إنها تتفق وتتلائم مع التكتيك الحديث للانسحاب، فقد عمد خالد الى سحب الجناحين بحماية القلب، ولما أصبح الجناحين بمنأى عن العدو، وفي مأمن منه، عمد الى سحب القلب بحماية الجناحين، الى أن تمكن وضمن سلامة الانسحاب كلياً(2)، ويقول المؤرخون إن خسارة المسلمين لم تتعد الاثنى عشر قتيلاً في هذه المعركة، وان خالداً قال: (لقد انقطع في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي إلا صفيحة يمانية(3).
__________
(1) البداية والنهاية (4/247)؛ الواقدي (2/764).
(2) انظر: معارك خالد بن الوليد، د. ياسين سويد، ص173.
(3) البخاري، كتاب المغازي (5/103) رقم 4266.(8/191)
ويمكن القول إن خالداً بخطته تلك، قد أنقذ الله المسلمين به من هزيمة ماحقة، وقتل محقق وان انسحابه كان قمة النصر بالنسبة الى ظروف المعركة، حيث يكون الانسحاب، في ظروف مماثلة، أصعب حركات القتال، بل أجداها وأنفعها(1).
خامساً: معجزة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وموقف أهل المدينة من الجيش:
ظهرت معجزة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في أمر هذه السرية فقد نعى المسلمين في المدينة زيداً وجعفراً وابن أبي رواحة قبل أن يصل إليه خبرهم، وحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وقع للسرية وذرفت عيناه الدموع ثم أخبرهم باستلام خالد للراية، وبشرهم بالفتح على يديه واسماه سيف الله(2)، وبعد ذلك قدم من أخبرهم بأخبار السرية، ولم يزد عما أخبرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم -(3).
ولما دنا الجيش من حول المدينة، تلقاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ولقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقبل مع القوم على دابة فقال: خذو الصبيان واحملوهم، وأعطوني ابن جعفر، فأتي بعبدالله، فأخذه، فحمله على يديه، وجعل الناس يحثون عل الجيش التراب ويقولون يافُرّار افررتم في سبيل الله، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شار الله تعالى(4).
__________
(1) انظر: معارك خالد بن الوليد، ص175.
(2) انظر: نظرة النعيم (1/360).
(3) انظر: البداية والنهاية، (4/255).
(4) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص328؛ تاريخ الذهبي، ص491.(8/192)
وإن الانسان ليعجب من هذه التربية النبوية التي صنعت من الاطفال الصغار، رجالاً وأبطالاً يرون العودة من المعركة دون شهادة في سبيل الله، فراراً من سبيل الله، لا يكافأون عليه إلا بحثو التراب في وجوههم، فأين شبابنا المتسكعون في الشوارع، من هذه النماذج الرفيعة من الرجولة الفذة المبكرة؟ ولن تستطيع الأمة أن ترتفع الى هذه الأهداف النبيلة والقمم الشوامخ إلا بالتربية الاسلامية الجادة القائمة على المنهاج النبوي الكريم(1).
سادساً: دروس وعبر وفوائد:
ففي هذه الغزة دروس وعبر كثيرة منها:
1- أهمية هذه المعركة:
تعتبر هذه المعركة من أهم المعارك التي وقعت بين المسلمين وبين النصارى الصليبيين من عرب وعجم، لأنها أول صدام مسلح ذي بال بين الفريقين، وأثرت تلك المعركة على مستقبل الدولة الرومانية، فقد كانت مقدمة لفتح بلاد الشام وتحريرها من الرومان ونستطيع أن نقول أن تلك الغزوة هي خطوة عملية قام بها النبي - صلى الله عليه وسلم - للقضاء على دولة الروم المتجبرة في بلاد الشام، فقد هز هيبتها من قلوب العرب وأعطت فكرة عن الروح المعنوية العالية عند المسلمين، كما أظهرت ضعف الروح المعنوية في القتال عند الجندي الصليبي النصراني(2)، وأعطت فرصة للمسلمين للتعرف على حقيقة قوات الروم، ومعرفة أساليبهم في القتال.
2- حب الشهاد باعث للتضحية:
إن الصبر والثبات والتضحية التي تجلت في كل واحد من الأمراء الثلاثة وسائر الجند كان مبعثها الحرص على ثواب المجاهدين والرغبة في نيل الشهادة لكي يكرمهم الله برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ويدخلون جنات الله الواسعة التي فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
3- تميز هذه المعركة عن سائر المعارك:
__________
(1) انظر: دروس وعبر من الجهاد النبوي، ص358.
(2) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص64.(8/193)
فهي الوحيدة التي جاء خبرها من السماء، إذ نعى النبي - صلى الله عليه وسلم - استشهاد الأبطال الثلاثة قبل أن يصل الخبر من أرض المعركة، بل وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحداثها، وتمتاز أيضاً عن غيرها بأن الوقعة الوحيدة التي اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - لها ثلاثة أمراء على الترتيب: زيد بن حارثة، جعفر بن ابي طالب، عبدالله بن رواحة(1).
4- اكرام النبي - صلى الله عليه وسلم - لآل جعفر:
لما أصيب جعفر دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اسماء بنت عميس فقال: (ائتني ببني جعفر)، فأتت بهم فشمهم وقبلهم وذرفت عيناه، فقالت أسماء: أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم، أصيبوا هذا اليوم، فجعلت تصيح وتولول فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاماً، فإنهم قد شُغلوا بأمر صاحبهم(2)، ونلحظ في هذا الخبر عدة أمور منها:
أ- جواز بكاء المرأة على زوجها المتوفي:
أخذ هذا من فعل أسماء بنت عميس رضي الله عنها حينما نعى النبي - صلى الله عليه وسلم - زوجها ومن معه، فبكت وصاحت ، فلم ينكر عليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينهها عن ذلك، ولو كان ممنوعاً لنهاها عن ذلك، والبكاء الذي نهى عنه الاسلام هو ماكان سائداً عند أهل الجاهلية من النواح واللطم وشق الجيوب، والتبرم بقضاء الله وقدره، وما الى ذلك مما يكون سبباً في معصية الخالق سبحانه.
ب- استحباب صنع الطعام لأهل الميت:
وقد ندب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناس أن يصنعوا طعاماً لآل جعفر، وهذا فيه مواساة لأهل المتوفى وتخفيف مصابهم، وفي الوقت نفسه تكافل بينهم وهذه السنّة خالفتها بعض الشعوب الاسلامية وأصبح أهل الميت يصنعون الطعام للقادمين، وهذا أمر قبيح ينبغي أن يبتعد عنه المسلمون(3).
__________
(1) نفس المصدر، ص66.
(2) انظر:السيرة النبوية لابن هشام (4/28).
(3) انظر: الصراع مع الصليبيين، ص68.(8/194)
هذا وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البكاء بعد ثلاث فقد دخل على أسماء وقال لها: (لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعو لي بني أخي) فجيئ بهم كأنهم أفرخ، فدعا بالحلاق فحلق لهم رؤوسهم ثم قال: أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب وأما عبدالله فشبيه خَلْقي وخُلُقي، ثم أخذ بيمين عبدالله وقال: (اللهم اخلُف جعفراً في اهله، وبارك لعبدالله في صفقة يمينه) قالها ثلاثاً(1). ولما ذكرت له أمهم يتمهم وضعفهم قال لها: (العيلة تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة)(2). وهذا منهج نبوي كريم خطه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرعاية وتكريم أبناء الشهداء لكي تسير الأمة على نهجه الميمون(3).
ج- زواج أبي بكر الصديق من أسمء بنت عميس:
وبعد أن انقضت عدة أسماء بنت عميس خطبها أبوبكر الصديق - رضي الله عنه - فتزوجها وولدت له محمد بن أبي بكر وبعدما توفي الصديق تزوجها بعده علي بن أبي طالب وولدت له أولاداً رضي الله عنه وعنها وعنهم أجمعين(4).
وقد ذكر ابن كثير أن أسماء بنت عميس رثت زوجها جعفر بن أبي طالب بقصيدة تقول فيها:
فآليت لا تنفك نفسي حزينة
... ... ... عليك ولا ينفكُّ جلدي أغبرا
فلله عينا من رأى مثله فتى
... ... ... أكر وأحمر في الهياج وأصبرا(5)
5- من فقه القيادة:
إنه درس عظيم يقدمه لنا الصحابي الجليل ثابت بن أقرم العجلاني، عندما أخذ اللواء بعد استشهاد عبدالله بن رواحة آخر الأمراء، وذلك أداء منه للواجب، لأن وقوع الراية معناه هزيمة الجيش، ثم نادى المسلمين أن يختاروا لهم قائداً. وفي زحمة الأحداث قالوا أنت، قال: ماأنا بفاعل....فاصطلح الناس على خالد.
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (4/252).
(2) نفس المصدر (4/252).
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/430).
(4) انظر: البداية والنهاية (4/353).
(5) نفس المصدر (4/352).(8/195)
وفي رواية أن ثابتاً مشى باللواء الى خالد فقال خالد: لا آخذه منك، أنت أحق به فقال: والله ماأخذته إلا لك.
إن مضمون كلا الروايتين واحد، أن ثابتاً جمع المسلمين أولاً وأعطى القوس باريها فأعطى الراية أبا سليمان خالد بن الوليد(1)، ولم يقبل قول المسلمين: أنت أميرنا. ذلك أنه يرى فيهم من هو أكفأ منه لهذا العمل، وحينما يتولى العمل من ليس له بأهل، فإن الفساد متوقع، والعمل حينما يكون لله تعالى، لا يكون فيه أثر لحب الشهرة، أو حظ النفس.
إن ثابتاً لم يكن عاجزاً عن قيادة المسلمين -وهو ممن حضر بدراً- ولكنه رأى من الظلم أن يتولى عملاً وفي المسلمين من هو أجدر به منه، حتى ولو لم يمض على اسلامه أكثر من ثلاثة أشهر؛ لأن الغاية هي السعي لتنفيذ أوامر الله على الوجه الأحسن والطريقة الأمثل(2).
إن كثيراً ممن يتزعمون قيادة الدعوة الاسلامية اليوم يضعون العراقيل أمام الطاقات الجديدة، والقدرات الفذة خوفاً على مكانتهم القيادية، وامتيازاتهم الشخصية، واطماعهم الدنيوية، فعلى اولئك القادة أن يتعظوا من هذا الدرس البليغ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
6- درس نبوي في احترام القيادة:
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (7/124).
(2) انظر: من معين السيرة للشامي، ص376.(8/196)
قال عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مَدَديّ من اليمن(1)........ومضينا فلقينا جموع الروم، فيهم رجل على فرس له اشقر عليه سرج مذهب وله سلاح مذهب، فجعل الرومي يضرب بالمسلمين، فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه بسيفه، وفر الرومي، فعلاه بسيفه فقتله وحاز فرسه وسلاحه فلما فتح الله للمسلمين، بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه بعض السلب قال عوف: فأتيت خالداً، وقلت له: أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل؟ قال بلى - ولكني أستكثرته، قلت لتردنها إليه أو لاعرفنكها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فابى أن يرد عليه.
قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله فقصصت عليه قصة المددي ومافعل خالد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ياخالد ماحملك على ماصنعت؟ قال: استكثرته، فقال: رد عليه الذي أخذت منه.
قال عوف: فقلت: دونكها ياخالد، ألم أوف لك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وماذلك؟ فأخبرته قال: فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: ياخالد لا ترد عليه، هل أنتم تاركون لي أمرائي، لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره(2).
__________
(1) مددي أي جاء مدداً. وفي رواية: رجل من حمير.
(2) مسلم، كتاب الجهاد، ص1373 رقم 1753.(8/197)
هذا موقف عظيم من النبي - صلى الله عليه وسلم - في حماية القادة والأمراء من أن يتعرضوا للإهانة بسبب الأخطاء التي قد تقع منهم، فهم بشر معرضون للخطأ، فينبغي السعي في إصلاح خطئهم من غير تنقُّص ولا إهانة، فخالد حين يمنع ذلك المجاهد سلبه لم يقصد الإساءة إليه وإنما اجتهد فغلَّب جانب المصلحة العامة، حيث استكثر ذلك السلب على فرد واحد، ورأى أنه إذا دخل في الغنيمة العامة نفع عدداً أكبر من المجاهدين، وعوف بن مالك ادى مهمته في الإنكار على خالد، ثم رفع الأمر الى الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما لم يقبل خالد قوله، وكان المفترض أن تكون مهمته قد انتهت بذلك، لأنه -والحال هذه- قد دخل في أمر من أوامر الإصلاح، وقد تم الإصلاح على يده، ولكنه تجاوز هذه المهمة حيث حوّل القضية من قضية إصلاحية الى قضية شخصية، فأظهر شيئاً من التشفي من خالد، ولم يقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، بل أنكر عليه إنكاراً شديداً وبين حق الولاة على جنودهم، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرا خالداً بعد رد السلب على صاحبه لا يعني أن حق ذلك المجاهد قد ضاع، لأنه لايمكن أن يأخذ رسول الل - صلى الله عليه وسلم - إنساناً بجريرة غيره، فلابد أن ذلك المجاهد قد حصل منه الرضى، إما بتعويض عن ذلك السلب أو بتنازل منه أو غير ذلك فيما لم يذكر تفصيله في الخبر(1).
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (7/130).(8/198)
إن الأمة التي لا تقدر رجالها ولا تحترمهم لايمكن أن يقوم فيها نظام، إن التربية النبوية استطاعت بناء هذه الأمة بناءً سليماً، وما أحرى المسلمين اليوم أن يكون كل إنسان في مكانه وأن يحترم ويقدر ، بمقدار مايقدم لهذا الدين، ويبقى الجميع بعد ذلك في الاطار العام الذي وصف الله به المؤمنين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(سورة المائدة الآية 54).
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (هل أنتم تاركون لي أمرائي) وسام آخر يضاف الى خالد - رضي الله عنه - حيث عُدَّ من أمراء الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا من المنهاج النبوي الكريم في تقدير الرجال(1).
7- مقاييس الإيمان وأثرها في المعارك:
توقف الجيش الاسلامي في معان يناقش كثرة جيش العدو وكانت المقاييس المادية لا تشجعهم على خوض المعركة ومع ذلك تابعوا طريقهم ودخلوا بمقاييس إيمانية، فهم خرجوا يطلبون الشهادة فلماذا إذن يفرون مما خرجوا لطلبه.
قال زيد بن أرقم: كنت يتيماً لعبدالله بن رواحة في حجره، فخرج بي في سفره ذلك مُردْفي على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير ليلة إذ سمعته ينشد أبياتاً منها:
وجاء المسلمون وغادروني
... ... ... بأرض الشام مُشتهى الثَّواء
فلما سمعتها منه بكيت. قال: فخفقني بالدرة وقال: وما عليك يالُكَعْ أن يرزقني الله الشهاد وترجع بين شعبتي الرَّحل(2).
__________
(1) انظر:معين السيرة، ص378.
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/24،25).(8/199)
إن المتأمل بعمق في غزوة مؤتة يساعدنا في معالجة الهزيمة النفسية والروحية التي تمر بها الأمة وإقامة الحجة على القائلين بأن سبب هزيمتنا التفوق التكنولوجي لدى الأعداء لقد سجل ابن كثير رأيه في هذه المعركة وقال: (......هذا عظيم جداً أن يقاتل جيشان متعاديان في الدين؛ أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله -عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم مائة ألف ، ومن نصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون ثم مع هذا كله لايُقتل من المسلمين إلا اثنا عشر رجلاً، وقد قتل من المشركين خلق كثير، هذا خالد وحده يقول: لقد اندقَّت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية، فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها، دع غيره من الأبطال والشجعان من حملة القرآن، وقد تحكموا في عبدة الصلبان عليهم لعائن الرحمن في ذلك الزمان وفي كل أوان....)(1).
8- من شعر كعب بن مالك في بكاء قتلى مؤتة:
حيث قال:
في ليلة وردت عليَّ همومها
... ... ... ... طوراً أحِنُّ(2) وتارة أتملْمَل(3)
واعتادني حُزنُ فبت كأنني
... ... ... ... بينَاتِ نعشٍ والسِّماك موكَّل(4)
وكأنما بين الجوانح والحَشَى
... ... ... ... مما تأوبَني شهاب مُدْخل(5)
وجْدا على النَّفَر الذين تَتَابَعُوا
... ... ... ... يوماً بمؤتة أسندوا لم يُنقلوا
صلى الإله عليهم من فتية
... ... ... ... وسقى عظامهم الغمام المسبل(6)
صبروا بمؤتة للإله نفوسهم
... ... ... ... حذر الردى ومخافة أن يَنْكُلُوا(7)
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (4/259).
(2) أحن: من الحنين وفي رواية أخن: صوت يخرج من الأنف عند البكاء.
(3) أتململ: أتقلب متبرماً بمضجعي.
(4) يريد أنه بات يرعى النجوم طول ليله من طول السهاد.
(5) المدخل: النافذ الى الداخل.
(6) المسبل: الممطر.
(7) صبروا نفوسهم: حبسوها على مايريدون. ينكلوا: يرجعا هائبين.(8/200)
فمضوا أمام المسلمين كأنهم
... ... ... ... فُنُقٌ عليهن الحديد المُرْفَلُ(1)
إذ يهتدون بجعفر ولوائه
... ... ... ... قُدَّام أوَّلِهم فنعم الأوّل
حتى تفرّجت الصفوف وجعفر
... ... ... ... حيث التقى وعْثُ الصفوف مَجدّل(2)
فتغير القمر المنير لفقده
... ... ... ... والشمس قد كَسَفت وكادت تأفِل(3)
هذه بعض الابيات التي بكى بها مالك بن كعب شهداء مؤتة ولم يتغيب حسان بن ثابت - رضي الله عنه - عن نظم القصائد في بكاء قتلى مؤتة، وبكاء جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة وعبدالله بن رواحة فقد كانت المؤسسة الاعلامية تقوم بدورها بتفوق وجدارة وتتعبد المولى عز وجل بما أخصها به من ملكات ومواهب شعرية فذة.
المبحث الخامس
سرية ذات السلاسل
__________
(1) المُرفل: الذي تنجر أطرافه على الأرض. يريد أن دروعهم سابغة.
(2) فُنُقُ: الفحول من الابل.
(3) تأفل: تغيب، السيرة النبوية لأبن هشام (4/33،34).(8/201)
لم تمض سوى أيام على عودة الجيش من مؤتة الى المدينة حتى جهز النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشاً بقيادة عمرو بن العاص الى ذات السلاسل، وذلك لتأديب قضاعة التي غرها ماحدث في مؤتة التي اشتركت فيها الى جانب الروم فتجمعت تريد الدنو من المدينة، فتقدم عمرو بن العاص في ديارها ومعه ثلثمائة من المهاجرين والأنصار، ولما وصل الى مكان تجمع الأعداء بلغه أن لهم جموعاً كثيرة، فأرسل الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلب المدد فجاءه مدداً بقيادة أبي عبيدة بن الجراح(1)، وقاتل المسلمين الكفار وتوغل عمرو في ديار قضاعة التي هربت وتفرقت وانهزمت ونجح عمرو في إرجاع هيبة الاسلام لأطراف الشام، وإرجاع أحلاف المسليمن لصداقتهم الأولى، ودخول قبائل اخرى في حلف المسلمين، وإسلام الكثيرين من بني عبس، وبني مرة، وبني ذبيان، وكذلك فزارة وسيدها عيينة بن حصن في حلف مع المسلمين، وتبعها بنو سُلَيم، وعلى رأسهم العباس بن مرداس، وبنو أشجع وأصبح المسلمون هم الأقوى في شمال بلاد العرب، وإن لم يكن في بلاد العرب جميعها(2).
دروس وعبر وحكم:
وفي هذه السرية دروس وعبر وحكم منها:
1- اخلاص عمرو بن العاص - رضي الله عنه -:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/471).
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/433).(8/202)
قال عمرو بن العاص: بعث إليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: خذ عليك ثيابك، وسلاحك، ثم ائتني، فأتيته، وهو يتوضأ، فصعَّد فيَّ النظر، ثم طأطأ، فقال: إني أريد أن أبعثك على جيش(1)، فيسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك في المال رغبة صالحة، قال: قلت: يارسول الله ماأسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الاسلام، وأن أكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ياعمرو نعم المال الصالح للمرء الصالح(2).
فهذا الموقف يدل على قوة إيمان وصدق وإخلاص عمرو بن العاص للإسلام وحرصه على ملازمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد بين له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المال الحلال نعمة إذا وقع بيد الرجل الصالح، لانه يبتغي به وجه الله ويصرفه في وجوه الخير ويُعفُّ به نفسه وأسرته(3).
2- الاتحاد قوة والتنازع ضعف:
عندما وصل المدد الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقيادة أبي عبيدة بن الجراح لجيش عمرو في ذات السلاسل، أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس ويتقدم عمرو، فقال له عمرو: إنما قدمت علي مدداً لي، وليس لك ان تؤمني، وأنا الأمير، وإنما أرسلك النبي - صلى الله عليه وسلم - إليَّ مدداً، فقال المهاجرون كلا، بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه، فقال عمرو: لا، بل أنتم مدد لنا، فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف وكان حسن الخلق، لين الطبع قال: لتطمئن ياعمرو وتعلمن أن آخر ماعهد إليَّ رسول الله أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا وأنك والله ان عصيتني، لأطيعنك فأطاع أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس(4).
__________
(1) جيش سرية ذات السلاسل.
(2) رواه ابن حبان كما في الموارد 2277؛ صحيح السيرة، ص508. صححه الألبانيز صحيح الادب المفرد.
(3) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (7/133).
(4) انظر: مغازي رسول الله لعروة، ص207 واسانيدها ضعيفة.(8/203)
لقد أدرك أبو عبيدة - رضي الله عنه - أن أي اختلاف بين المسلمين في سرية ذات السلاسل يؤدي الى الفشل ومن ثم تغلب العدو عليهم، ولهذا سارع الى قطع النزاع وانضم جنديا تحت إمرة عمرو بن العاص امتثالاً لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لاتختلفا(1).
3- حرص عمرو بن العاص على سلامة قواته:
ظهرت عبقرية عمرو العسكرية في ذات السلاسل في حرصه على وحدة الصف، وفي حرصه على سلامة قوته ويتجلى ذلك في عدة صورة منها:
أ- أنه كان يسير ليلاً ويختفي نهاراً:
كان عمرو يدرك بثاقب بصره وبعد نظره أن العدو يمكن أن يسعى الى معرفة أخباره قبل اللقاء بينهما، فيستعد للقاء جيش المسلمين ولهذا رأى عمرو - رضي الله عنه - أن السير ليلاً والاختفاء نهاراً هو أفضل أسلوب للمحافظة على قواته وحقق بذلك أمرين مهمين:
( إخفاء تحركاته عن عدوه وبذلك يضمن سلامة قواته.
( حماية الجند من شدة الحر وحتى يبقى لهم نشاطهم فيصلون الى مكان المواجهة، وهم أقوياء على مجابهة أعدائهم.
ب- عدم السماح للجند بإيقاد النار:
عندما طلب الجنود من عمرو أن يسمح لهم بإيقاد النار لحاجتهم الماسة الى التدفئة منعهم من ذلك معتمداً في ذلك على خبرته الحربية وعمق فكره العسكري وخوفاً من وقوع مفسدة أعظم من تلك المصلحة وهي أن يمتد الضوء فيكشف المسلمين -وهم قلة- لأعدائهم فيهجموا عليهم ويتجلى هذا الفقه في حزمه الشديد، مع أصحابه عندما كلمه أبو بكر في ذلك، فقال: لايوقد أحد منهم ناراً إلا قذفته فيها، فلما رجعوا الى المدينة ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فساله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا ناراً فيرى عدوهم قلتهم(2)، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله.
ج- منع الجند من مطاردة أعدائهم:
__________
(1) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص209.
(2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص509.(8/204)
عندما هزم المسلمون أعدائهم طمعوا فيهم، فأرادوا مطاردتهم وتتبع فلولهم ولكن قائد السرية منع جنده من ذلك لئلا يترتب على هذه المطاردة مفسدة أعظم منها وهي أن يقع المسلمون في كمين ويتجلى هذا الفقه في قول عمرو بن ا لعاص - رضي الله عنه - للرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد(1)، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا التصرف الحكيم الذي حقق للجيش الأمن والحماية(2).
4- من فقه عمرو بن العاص - رضي الله عنه -:
قال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ياعمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (سورة النساء، آية 29) فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئاً(3)، وقد استُنبط بعض الاحكام من هذه القصة:
أ- التيمم يقوم مقام الغسل بالنسبة للجنب مع وجود الماء اذا خشي أن يؤدي استخدام الماء الى الضرر، فلقد تيمم عمرو بن العاص لما أصبح جنباً مع وجود الماء عنده وصلى وأقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليه.
ب- يجوز الاجتهاد في عهده - صلى الله عليه وسلم -: فقد اجتهد عمرو بن العاص فتوضأ واغتسل وصلى وقد احتلم في تلك الليلة الباردة اعتماداً على قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (سورة النساء، الآية 29) فلم ينكر عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - اجتهاده بل أقره على أمرين: الأول: جواز الاجتهاد، والثاني تصحيح اجتهاده.
__________
(1) نفس المصدر ، ص509.
(2) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول ، ص540.
(3) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص509 قال ابراهيم العلي: الحديث اسناده صحيح.(8/205)
ج- من الأسباب المبيحة للتيمم تعذر استخدام الماء وإن وجد كالبرد الشديد.
د- تجوز إمامة المتيمم بالمتوضيء: فقد صلى عمرو بن العاص وهو متيمم إماماً بخمسمائة صحابي قد توظأوا، وأقره الرسول على ذلك ولم ينكر عليه.
هـ- اجتهاد عمرو بن العاص يدل على فقهه ووفور عقله، ودقة استنباطه الحكم من دليله(1)؛ ولئن وقف الفقهاء عند هذه الحادثة يفرعون عليها الأحكام فإن الذي يستوقفنا(2) في السيرة منها تلك السرعة في أخذ عمرو للقرآن وصلته به حتى بات قادراً على فقه الأمور من خلال الآيات وهو لم يمض على إسلامه أربعة أشهر، إنه الحرص على الفقه في دين الله، وقد يكون عمرو -وهذا احتمال وارد- على صلة بالقرآن قبل إسلامه يتتبع مايستطيع الوصول إليه، وحينئذ نكون أمام مثال آخر من عظمة هذا القرآن الذي لوى أعناق الكافرين وجعلهم وهم في أشد حالات العداوة لهذا الدين يحاولون استماع هذا القرآن، كما رأينا ذلك في العهد المكي، ويؤيد هذا مارأيناه من معرفته بالقرآن حينما طلب من النجاشي أن يسأل مهاجري الحبشة عن رأيهم في عيسى عليه السلام(3).
5- من نتائج سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشمال:
اتجهت حملات المسلمين العسكرية بعد صلح الحديبية نحو الشمال وأصبح غرب الجزيرة وجنوبها الغربي حيث تقبع مكة آمنة في ظلال الصلح(4)، وحققت سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهدافهاً ومقاصدها في شمال الجزيرة، فوصلت الى حدود الروم، فأمنت حدود الدولة الاسلامية ، وبسطة هيبتها وأفشلت محاولات الإغارة على المدينة وبذلك حققت سياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - في حركة السرايا هدفين عظيمين هما:
1- تأمين حماية الدين الاسلامي في الداخل.
__________
(1) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص210.
(2) القائل هو صالح احمد الشامي صاحب معين السيرة، ص381.
(3) انظر: معين السيرة، ص381.
(4) انظر: المجتمع المدني للعمري، ص170.(8/206)
2- حمايته في الخارج(1).
ومامن شك أن المتتبع لأحداث السيرة النبوية الشريفة والمطَّلع على تفاصيلها ودقائقها بإمعان يجد بحق أن صلح الحديبية هو من أهم المكاسب السياسية، والعسكرية، والإعلامية، بل هو حصيلة كسب لأعظم معركة دارت بين الاسلام والوثنية في العهد النبوي، من حيث النتائج الإيجابية التي رسخت دعائم الاسلام، من جهة وصدعت بفعلها قواعد الشرك والوثنية من جهة أخرى وماحدث في خيبر من فتوح، وفي مؤتة من نصر، وفي ذات السلاسل من توسيع هيبة الدولة الاسلامية إلا نتائج تابعة لصلح الحديبية(2)، وبسبب القدرة الفائقة في تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع سنن الله في المجتمعات والشعوب، وبناء الدول.
الفصل الخامس عشر
غزوة فتح مكة (8هـ)
المبحث الأول
اسبابها، والاستعداد للخروج والشروع فيه
أولاً: أسبابها:
__________
(1) الاعلام في صدر الاسلام، د.عبداللطيف حمزة، ص173.
(2) انظر: منهج الاعلام الاسلامي، ص337.(8/207)
1- ارتكبت قريش خطأ فادحاً عندما أعانت حلفاءها بني بكر على خزاعة حليفة المسلمين بالخيل والسلاح والرجال، وهاجم بنو بكر، وحلفاؤهم على قبيلة خزاعة عند ماء يقال له الوتير، وقتلوا أكثر من عشرين من رجالها(1)، ولما لجأت خزاعة الى الحرم الآمن، ولم تكن متجهزة للقتال، لتمنع بني بكر منه، قالت لقائدهم: يانوفل! إنا قد دخلنا الحرم إلهك! فقال نوفل: لا إله اليوم، يابني بكر أصيبوا ثأركم(2)، عندئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي، في أربعين من خزاعة، حتى قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وأخبروه بما كان من بني بكر، وبمن أصيب منهم، وبمناصرة قريش بني بكر عليهم، ووقف عمرو بن سالم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
يارب إني ناشد محمداً
... ... ... حِلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم وُلدا، وكنا والداً
... ... ... تُمت أسلمنا فلم ننزع يدا(3)
فانصر هداك الله نصراً أعتدا
... ... ... وادع عباد الله يأتوا مدداً
فيهم رسول الله قد تجردا
... ... ... إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مُزبدا
... ... ... إن قريشاً وأخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
... ... ... وجعلوا لي في (كَدَاءِ) رُصَّدا
وزعموا أن لست أدعوا أحد
... ... ... وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجّدا
... ... ... وقتلونا ركَّعا وسجدا
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نُصرتَ ياعمرو بن سالم(4)! لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب. ولما عرض السحاب من السماء قال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب(5).
__________
(1) انظر: الواقدي (2/781-784).
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/39).
(3) يريد أن أم عبد مناف وأم قصير خزاعيتان.
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/44).
(5) نفس المصدر (4/44)؛ البداية والنهاية (4/278).(8/208)
وجاء في رواية : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن سمع وتأكد من الخبر أرسل الى قريش فقال لهم: أما بعد فإنكم إن تبرؤوا من حلف بني بكر، أتُدوا خزاعة(1)، وإلا أوذنكم بحرب فقال قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف صهر معاوية: إن بني بكر قوم مشائيم، فلا ندى ماقتلوا لنا سَّبَد، ولا لَبَد(2)، ولا نبرأ من حلفهم فلم يبق على ديننا أحد غيرهم، ولكن نؤذنه بحرب(3)، وفي هذا دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفاجئ قريشاً بالحرب وإنما خيرهم بين هذه الخصال الثلاث فاختاروا الحرب(4).
2- ابو سفيان يحاول تلافي حماقة قريش:
بعثت قريش أبا سفيان الى المدينة لتمكين الصلح وإطالة أمده وعندما وصل الى المدينة ودخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض حاجته، أعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجبه، فاستعان بكبار الصحابة أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي حتى يتوسطوا بينه وبين رسول الله، فابوا جميعاً، فعاد أبو سفيان الى مكة من غير أن يحظي بأي اتفاق أو عهد(5)، ومما يذكر عند نزوله في المدينة دخل على ابنته أم حبيبة -أم المؤمنين- وأراد أن يجلس على فراش رسول الله طوته عنه؛ فقال: يابنية! ماأدري، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هذا فراش رسول الله، وأنت مشرك نجس، قال: والله لقد أصابك بعدي شر(6).
__________
(1) أي تدافعوا دية قتلاهم.
(2) السَّبد الشعر واللَّبد الصوف، يعني إن فعلنا ذلك لم يبق لنا شيء.
(3) انظر: المطالب العالية (4/243) رقم 4361. قال ابن حجر مرسل صحيح الاسناد.
(4) انظر: التاريخ الاسلامي (7/164).
(5) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، د.علي معطي، ص365.
(6) انظر: البداية والنهاية (4/479).(8/209)
وهذا الموقف لا يستغرب من أم حبيبة، فهي ممن هاجر الهجرتين وقد قطعت صِلاتها بالجاهلية منذ أمد بعيد، إنها لم تر أباها منذ ستة عشر سنة، فلما رأته لم تر فيه الوالد الذي ينبغي أن يُقدر ويُحترم، وإنما رأت فيه رأس الكفر الذي وقف في وجه الاسلام وحارب رسوله تلك السنوات الطويلة(1)، وهذا ماكان يتصف به الصحابة رضي الله عنهم من تطبيق أحكام الاسلام في الولاء والبراء وإعزاز الاسلام والمسلمين، وفي مخاطبة أم حبيبة لأبيها بهذا الاسلوب مع كونه أباها ومع مكانته العالية في قومه وعند العرب دليل على قوة إيمانها ورسوخ يقينها، لقد كان في سلوك أم حبيبة مظهر من اجتهاد الصحابة البالغ في إظهار أمر له أهميته البالغة في المحافظة على شخصية المسلم ودفع معنويته الى النماء والحيوية(2).
وأمام نقض قريش للعهود والمواثيق مع المسلمين فقد عزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فتح مكة وتأديب كفارها، وقد ساعده على ذلك العزم بعد توفيق الله عدة أسباب منها:
أ- قوة جبهة المسلمين الداخلية في المدينة وتماسكها، فقد تخلصت الدولة الاسلامية من غدر اليهود وتم القضاء على يهود بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة ويهود خيبر.
ب- ضعف جبهة الاعداء في الداخل: وفي مقدمة هؤلاء المنافقون الذين فقدوا الركن الركين لهم وهو يهود المدينة فهم أساتذتهم الذي يوجهونهم ويشيرون عليهم.
ج- أهتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتطوير القوة العسكرية، وأرسال السرايا في فترة الصلح وبذلك أصبحت متفوقة على قوة مشركي قريش حيث العدد والعدة والروح المعنوية.
د- كانت الغزوة بعد أن ضعفت قريش اقتصادياً وبعد أن قويت الدولة الاسلامية اقتصادياً فقد فتح المسلمون خيبر وغنموا منها أموالاً كثيرة.
__________
(1) انظر: معين السيرة، ص395.
(2) انظر: التاريخ الاسلامي (7/170،171).(8/210)
هـ- إنتشار الاسلام في القبائل المجاورة للمدينة وهذا يطمئن القيادة حين تتخذ قرارها العسكري بنقل قواتها ومهاجمة أعدائها.
و- قيام السبب الجوهري والقانوني لغزو مكة وهو نقض قريش للعهد والعقد(1)، ونلحظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضيع قانون الفرصة وتعامل معه بحكمة بالغة، فكان فتح خيبر وذلك بعد صلح الحديبية والآن تتاح فرصة أخرى بعد أن نقضت قريش عهدها، وتغيرت موازين القوى في المنطقة، فكان لابد من الاستفادة من المعطيات الجديدة، فأعد - صلى الله عليه وسلم - جيشاً لم تشهد له الحجاز مثيلاً من قبل، فقد وصل عدته الى عشرة آلاف رجل(2).
ثانياً: الاستعداد للخروج:
إن حركة النبي - صلى الله عليه وسلم - في بناء الدولة وتربية المجتمع وارسال السرايا، وخروجه في الغزوات تعلمنا كيفية التعامل مع سنّة الأخذ بالأسباب سواءً كانت تلك الأسباب مادية أو معنوية، ففي غزوة الفتح نلاحظ هذه السنّة واضحة في هديه - صلى الله عليه وسلم -، فعندما قرر - صلى الله عليه وسلم - السير لفتح مكة، حرص على كتمان هذا الأمر حتى لايصل الخبر الى قريش فتعد العدة لمجابهته وتصده قبل أن يبدأ في تنفيذ هدفة وشرع في الأخذ بالأسباب الآتية لتحقيق مبدأ المباغتة.
1- أنه كتم أمره حتى على أقرب الناس إليه:
__________
(1) انظر: السيرة لأبي فارس، ص401.
(2) انظر: الكامل في التاريخ (2/244)؛ التاريخ السياسي والعسكري، ص366.(8/211)
فقد أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمبدأ السرية المطلقة والكتمان الشديد حتى عن أقرب الناس إليه وهو أبوبكر - رضي الله عنه - أقرب أصحابه الى نفسه، وزوجته عائشة رضي الله عنها أحب نسائه إليه، فلم يعرف أحد شيئاً عن أهدافه الحقيقية ولا باتجاه حركته ولا بالعدو الذي ينوي قتاله بدليل أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - عندما سأل ابنته عائشة رضي الله عنها عن مقصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - قالت له: ماسمَّى لنا شيئاً وكانت أحياناً تصمت. وكلا الأمرين يدل على أنها لم تعلم شيئاً عن مقاصده - صلى الله عليه وسلم -(1).
ويستنبط من هذا المنهج النبوي الحكيم أنه ينبغي للقادة العسكريين أن يخفوا خططهم عن زوجاتهم لأنهن ربما يذعن شيئاً من هذه الأسرار عن حسن نية فتتنقلها الألسن حتى تصير سبباً في حدوث كارثة عظيمة(2).
2- أنه بعث سرية بقيادة أبي قتادة الى بطن إضم:
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (4/282)؛ الرسول القائد، شيت خطاب، ص333، 334.
(2) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص395،396.(8/212)
بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مسيرة مكة سَرَية مكونة من ثمانية رجال وذلك لإسدال الستار على نياته الحقيقية، وفي ذلك يقول ابن سعد: لما همّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغزو أهل مكة بعث أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر سَرَية الى بطن إضَم(1)، ليظن ظان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توجه الى تلك الناحية ولأن تذهب بتلك الأخبار......فمضوا ولم يلقوا جمعاً، فانصرفوا حتى انتهوا الى ذي خُشُب(2)، فبلغهم ان رسول الله قد توجه الى مكة، فأخذوا على (بيبن) حتى لقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسُّقيا(3))(4).
وهذا منهج نبوي حكيم في توجيه القادة من بعده الى وجوب أخذ الحذر وسلوك مايمكن من أساليب التضليل على الأعداء والإيهام التي من شأنها صرف أنظار النساء عن معرفة مقاصد الجيوش الاسلامية التي تخرج من أجل الجهاد في سبيل الله حتى تحقق أهدافها وتسلم من كيد أعدائها(5).
3- أنه بعث العيون لمنع وصول المعلومات الى الأعداء:
بث - صلى الله عليه وسلم - رجال استخبارات الدولة الاسلامية داخل المدينة وخارجها حتى لا تنتقل أخباره الى قريش: (وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأنقاب(6)، فكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يطوف على الأنقاب قيماً بهم فيقول: لا تدعوا أحداً يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه...إلا من سلك الى مكة فإنه يتحفظ به ويسأل عنه أو ناحية مكة(7).
__________
(1) بطن إضَم: وادي المدينة التي تجتمع فيه الوديان الثلاثة، بطحان وقناة، والعقيق.
(2) ذو خشب: هو موضع على مرحلة من المدينة الى الشام يبعد عن المدينة 35 ميلاً.
(3) السُّقيا: موضع يقع في وادي القرى. معجم البلدان (3/288).
(4) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (2/132).
(5) انظر: القيادة العسكرية، ص498.
(6) الأنقاب: جمع نقب، وهو كالعريف على القوم.
(7) التحفظ: هو الاحتراز والتيقظ، مغازي الواقدي (2/796).(8/213)
إن جمع المعلومات سلاح ذو حدين وقد استفاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حدِّه النافع لصالح المسلمين وأبطل مفعول الحد الآخر باتباعه السرية واتخاذها أساساً لتحركاته واستعدادته ليحرم عدوه من الحصول على المعلومات التي تفيده في الاستعداد لمجابهة هذا الجيش بالقوة المناسبة(1).
4- دعاءه - صلى الله عليه وسلم - بأخذ العيون والأخيار عن قريش:
وبعد أن أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأسباب البشرية التي في استطاعته توجه الى الله -عز وجل- بالدعاء والتضرع قائلاً: (اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يَرَونا إلا بغتة ولا يسمعون بنا إلا فجأة)(2).
وهذا شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أموره يأخذ بكافة الأسباب البشرية، ولا ينسى التضرع والدعاء لرب البرية ليستمد منه التوفيق والسداد.
5- أحباط محاولة تجسس حاطب لصالح قريش:
__________
(1) انظر:القيادة العسكرية، ص365.
(2) انظر: البداية والنهاية (4/282).(8/214)
عندما أكمل النبي - صلى الله عليه وسلم - استعداده للسير الى فتح مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً الى أهل مكة يخبرهم فيه نبأ تحرك النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، ولكن الله سبحانه وتعالى أطلع نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن طريق الوحي على هذه الرسالة، فقضى - صلى الله عليه وسلم - على هذه المحاولة وهي في مهدها، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً والمقداد فأمسكوا بالمرأة في روضة خاخ على بعد اثنى عشر ميلاً من المدينة، وهددوها أن يفتشوها إن لم تخرج الكتاب فسلمته لهم ثم استدعي حاطب - رضي الله عنه - للتحقيق فقال: يارسول الله ، لا تعجل عليّ، إني كنت امرأ ملصقاً في قريش -يقول: كنت حليفاً- ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الاسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إما إنه قد صدقكم).(8/215)
فقال عمر: يارسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إنه قد شهد بدراً، ومايدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ماشئتم فقد غفرت لكم(1)، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (سورة الممتحنة، الآية 1).
إن الآية السابقة رسمت منهجاً للمسلمين في تعاملهم مع الكافرين، فمعنى قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}.
قال القرطبي: السورة أصل في النهي عن موالاة الكفار(2) والمراد بهم: المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء(3).
وقوله: {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} أي تخبرونهم بسرائر المسلمين وتنصحون لهم وهم كافرون بنبيكم وبقرآنكم الذي أنزله الله عليكم بالحق الواضح.
__________
(1) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الفتح (5/105) رقم 4274.
(2) انظر: تفسير القرطبي (18/52).
(3) انظر: تفسير ابن كثير (4/346).(8/216)
وقوله: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} قال ابن كثير: هذا مع قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهركم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده. ولهذا قال تعالى: {أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين(1).
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} أي إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين لمرضاتي عنكم فلا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقاً عليكم وسخطاً لدينكم(2).
وقوله تعالى: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ} أي تسرون إليهم بالنصيحة.
قال ابن كثير: أي تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر(3).
ثم ختم -سبحانه- الآية الكريمة بقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي من يسر لهم ويكاتبهم منكم فقد أخطأ قصد الطريق(4).
يقول استاذي وشيخي الدكتور محمد بن بكر آل عابد: هذه الآية الكريمة نجدها تمهيداً بين يدي فتح مكة حيث حث الله المسلمين على عدم موالاة الكفار، حتى لايتأثر المهاجرون بروابط الرحم والقربى والمصلحة المادية التي كانت تربط كثيراً منهم بأهل مكة(5).
__________
(1) نفس المصدر (4/347).
(2) انظر: تفسير ابن كثير (4/347).
(3) نفس المصدر (4/347).
(4) انظر: تفسير القرطبي (18/54).
(5) انظر: حديث القرآن الكريم (2/568،569).(8/217)
ويقول الاستاذ سيد قطب: على الرغم من كل ماذاق المهاجرون من العنت والأذى من قريش فقد ظلت بعض النفوس تود لو وقعت بينهم وبين أهل مكة المحاسنة والمودة، وأن لو انتهت هذه الخصومة القاسية التي تكلفهم قتال أهليهم وذوي قرابتهم، وتقطع مابينهم وبينهم من صلات، وكأن الله يريد استقصاء هذه النفوس واستخلاصها من كل هذه الوشائج، وتجريدها لدينه وعقيدته ومنهجه.... فكان يأخذهم يوماً بعد يوم بعلاجه الناجع البالغ، بالأحداث وبالتعقيب على الأحداث، ليكون العلاج على مسرح الأحداث وليكون الطرق والحديد ساخن(1).
إن ماقام به حاطب أمر عظيم ولذلك نزل القرآن الكريم، يوجه المجتمع المسلم نحو مايجب عليهم فعله نحو أعداء دينهم، كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عامل حاطب معاملة رحيمة تدل على حرصه الشديد على الوفاء لأصحابه وإقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة منهم، لقد جعل - صلى الله عليه وسلم - من ماضي حاطب المجيد سبباً في العفو عنه، وهذا منهج نبوي حكيم، فلم ينظر النبي - صلى الله عليه وسلم - الى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب وإن كانت كبيرة ، وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله تعالى وإعزاز دينه، فوجد أنه قد شهد بدراً، وفي هذا توجيه للمسلمين الى أن ينظروا الى أصحاب الأخطاء نظرة متكاملة، وذلك بأن ينظروا فيما قدموه لأمتهم من أعمال صالحة في مجال الدعوة، والجهاد، والعلم، والتربية، ...فإن الذي يساهم في إسقاط فروض الكفاية عن الأمة يستحق التقدير والاحترام، وإن بدرت منه بعض الأخطاء، هذا فيما إذا كان ماصدر من هؤلاء خطأ محض وزلة قدم، فكيف إذا كان ماصدر منهم رأي علمي ناتج عن الاجتهاد وهم أهل ذلك؟
__________
(1) في ظلال القرآن (6/358).(8/218)
إن بعض طلاب العلم في عصرنا هذا يتسرعون في نقد العلماء والدعاة بسبب آراء اجتهادية يرى بعض العلماء أنهم اخطئوا فيها، وقد يصل النقد الى حد السخرية والاستهزاء بهم، وترى هؤلاء الطلاب يُجسِّمون أخطاء هؤلاء الكبار ويبرزونها بشكل يوحي للسامعين والقراء أن أولئك الذين تعرض إنتاجهم للنقد ليس لهم أي رصيد في خدمة الاسلام والمسلمين، والمفترض في هذا المجال أن تُذكر حسنات هؤلاء أولاً ويعرَّف المسلمون بجهادهم وبلائهم في الاسلام وجهودهم في مجال العلم والدعوة، ثم تذكر الأمور التي يراها المنتقدون أخطاء ومايرونه من الصواب في ذلك من لزوم الأدب في النقد العلمي، والبعد عن أسلوب السخرية والتنقيص، هذا شيء مما يرشدنا له أسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة هذا الخطأ الكبير الذي ارتكبه حاطب بن أبي بلتعة - رضي الله عنه - إن تاريخ حاطب الكبير في الجهاد في سبيل الله شفع له عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك لم يتعرض للأدانة أو للعقوبة، بل كان مانعاً له مما هو أقل من ذلك حيث لم يُسمع من مسلم كلمة واحدة في نقده والإساءة إليه بعد قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولا تقول له إلا خيراً)(1).
ومن الحوار الذي تم بين الرسول وعُمر بن الخطاب في شأن حاطب يمكن أن نستخرج بعض الدورس والعبر:
1- حكم الجاسوس القتل، فقد أخبر عمر بذلك ولم ينكر عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكن منع من إيقاع العقوبة بسبب كونه بدرياً.
2- شدة عمر في الدين: لقد ظهرت هذه الشدة في الدين حينما طالب بضرب عنق حاطب.
3- الكبيرة لا تسلب الإيمان: إن ماارتكبه حاطب كبيرة وهي التجسس ومع هذا ظل مؤمناً.
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميد (7/176).(8/219)
4- لقد أطلق عمر على حاطب صفة النفاق بالمعنى اللغوي لا بالمعنى الاصطلاحي في عهده - صلى الله عليه وسلم -. إذ النفاق إبطان الكفر والتظاهر بالإسلام، وإنما الذي أراده عمر، إنه أبطن خلاف ماأظهر إذ أرسل كتابه الذي يتنافى مع الإيمان الذي خرج يُجاهد من أجله ويبذل دمه في سبيله(1).
5- تأثر عمر من رد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتحول في لحظات من رجل غاضب ينادي بإجراء العقوبة الكبيرة على حاطب الى رجل يبكى من الخشية والتأثير ويقول: الله ورسوله أعلم، ذلك لأن غضبه كان لله ولرسوله فلما تبين له أن الذي يرضي الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - هو غضُّ النظر عن ذلك الخطأ ومعاملة صاحبه بالحسنى تقديراً لرصيده في الجهاد استجاب لذلك(2).
6- لا سابقة يُقتدى بها في عمل حاطب؛ ذهب لهذا الرأي الدكتور عبدالكريم زيدان حيث قال: لا يجوز الاقتداء بعمل حاطب في العفو عمن يعمل عمله، لأن العفو عنه كان لعلة لم يعد يمكن تحقيقها في غيره بعد عصر الصحابة وهو كونه شهد بدراً، فعلى الجماعة أن تفقه ذلك، وهذا مافقهه الامام مالك إذ قال: يقتل الجاسوس المسلم؛ مما يدل على أن إسلام الجاسوس لا يعصمه ولا يقيه من عقوبة القتل لخطورة جرمه؛ فإذا فعل أحد أعضاء الجماعة مافعله حاطب أو بمستواه من الخطورة عوقب بما يستحقه(3)، وناقش هذه المسألة العلامة ابن القيم وذكر أقوال الأئمة الأربعة ثم قال: والصحيح أن قتله راجح الى رأي الإمام، فإن رأى في قتله مصلحة للمسلمين، قتله، وإن كان استبقاؤه أصلح، استبقاه(4).
ثالثاً: الشروع في الخروج وأحداث في الطريق:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص404.
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (7/176، 177).
(3) المستفاد من قصص القرآن (2/402).
(4) انظر: زاد المعاد (3/443).(8/220)
1- خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاصداً مكة في العاشر من رمضان من العام الثامن للهجرة(1)، واستخلف على المدينة أبا رهم، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري(2)، وكان عدد الجيش عشرة آلاف، فيهم المهاجرون والأنصار الذين لم يتخلف منهم أحد، فلما وصل الجيش الكديد الماء الذي بين قديد وعُسفان أفطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفطر الناس معه(3)، وفي الجحفة لقيه العباس بن عبدالمطلب عمه وقد خرج مهاجراً بعياله، فسُرَّ - صلى الله عليه وسلم -(4)، وفي خروج العباس بأهله وأولاده من مكة وكان بها بمثابة المراسل العسكري أو مدير الاستخبارات هناك يشير الى أن مهمته فيها قد انتهت، وخاصة، إذا لاحظنا أن بقاءه في مكة كان بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -(5).
2- إسلام أبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب وعبدالله بن أمية:
خرج أبو سفيان بن الحارث وعبدالله بن أمية بن المغيرة من مكة فلقيا رسول الله بثينة العقاب فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فقالت: يارسول الله ابن عمك، وابن عمتك، وصهرك، فقال: لاحاجة لي فيهما أما ابن عمي، فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ماقال؛ فلما خرج الخبر إليهما بذلك ومع أبي سفيان بن الحارث ابن له فقال: والله ليأذنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لآخذن بيد ابني هذا ، ثم لنذهب في الأرض حتى نموت عطشاً أو جوعاً، فلما بلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رق لهما، فدخلا عليه، فأنشده ابو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره مما كان مضى فيه فقال:
لعمرك إني يوم أحمل راية
__________
(1) انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص560،561.
(2) نفس المصدر، ص561.
(3) البخاري، كتاب المغازي (5/106) رقم 4276.
(4) انظر: البداية والنهاية (4/286)؛ السيرة النبوية لأبي فارس، ص406.
(5) انظر: تأملات في السيرة النبوية، محمد السيد الوكيل، ص254.(8/221)