السيرة النبوية
( دروس وعبر )
في
تربية الأمة وبناء الدولة
- الجزء الأول -
تأليف
الدكتور علي محمد الصّلابي
1421هـ - 2000م
السيرة النبوية
( دروس وعبر )
في
تربية الأمة وبناء الدولة
- الجزء الثاني -
تأليف
الدكتور علي محمد الصّلابي
1421هـ - 2000م
السيرة النبوية
( دروس وعبر )
في
تربية الأمة وبناء الدولة
- الجزء الثالث -
تأليف
الدكتور علي محمد الصّلابي
1421هـ - 2000م(1/1)
الإهداء
الى العلماء العاملين ، والدعاة المخلصين،
وطلاب العلم المجتهدين،وأبناء الأمة الغيورين
أهدي هذا الكتاب سائلاً المولى عز وجل بأسمائه
الحسنى وصفاته العُلا أن يكون خالصاً
لوجهه الكريم
قال تعالى: ................ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِهِ فَلْيَعمَل عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبِه أَحَدَاً.
(سورة الكهف، آية 110)
مقدمة
إن الحمدلله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (سورة آل عمران : آية 102).
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (سورة النساء، الآية: 1).
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا صدق الله العظيم يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا صدق الله العظيم } (سورة الأحزاب، الآيتان:70،71).
يارب لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى.
أما بعد؛(2/1)
إن دراسة الهدي النبوي له أهميته لكل مسلم فهو يحقق عدة أهداف من أهمها، الإقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلال معرفة شخصيته - صلى الله عليه وسلم - وأعماله وأقواله وتقريراته، وتكسب المسلم محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتنميه وتباركه، ويتعرف على حياة الصحابة الكرام الذين جاهدوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتدعوه تلك الدراسة لمحبتهم والسير على نهجهم واتباع سبيلهم، كما أن السيرة النبوية توضح للمسلم حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بدقائقها وتفاصيلها منذ ولادته وحتى موته مروراً بطفولته وشبابه، ودعوته وجهاده وصبره، وانتصاره على عدوه، وتظهر بوضوح أنه كان زوجاً وأباً وقائداً ومحارباً، وحاكماً وسياسياً ومربياً وداعية وزاهداً وقاضياً، وعلى هذا فكل مسلم يجد بغيته فيها(1)، فالداعية يجد له في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أساليب الدعوة، ومراحلها المتسلسلة ويتعرف على الوسائل المناسبة لكل مرحلة من مراحلها، فيستفيد منها في اتصاله بالناس ودعوتهم للإسلام، ويستشعر الجهد العظيم الذي بذله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجل إعلاء كلمة الله، وكيف التصرف أمام العوائق والعقبات، والصعوبات وماهو الموقف الصحيح أمام الشدائد والفتن؟ ويجد المربي في سيرته - صلى الله عليه وسلم - دروساً نبوية في التربية والتأثير على الناس بشكل عام وعلى أصحابه الذين رباهم على يده وكلأهم بعنايته، فأخرج منهم جيلاً قرآنياً فريداً وكوّن منهم أمة هي خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، واقام بهم دولة نشرت العدل في مشارق الأرض ومغاربها، ويجد القائد المحارب في سيرته - صلى الله عليه وسلم - نظاماً محكماً، ومنهجاً دقيقاً في فنون قيادة الجيوش والقبائل والشعوب والأمة، فيجد نماذج في التخطيط واضحة، ودقة في
__________
(1) انظر: السيرة النبوية دراسة وتحليل، د. محمد ابو فارس، ص50.(2/2)
التنفيذ بينة وحرصاً على تجسيد مبادئ العدل وإقامة قواعد الشورى بين الجند والأمراء والراعي والرعية، ويتعلم منها السياسي كيف كان - صلى الله عليه وسلم - يتعامل مع أشد خصومه السياسيين المنحرفين، كرئيس المنافقين عبدالله بن أبي سلول الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر والبغض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكيف كان يحوك المؤامرات وينشر الإشاعات التي تسيء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإضعافه وتنفير الناس منه وكيف عامله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصبر عليه وعلى حقده حتى ظهرت حقيقته للناس فنبذوه جميعاً حتى أقرب الناس له وكرهوه والتفوا حول قيادة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ويجد العلماء فيها مايعينهم على فهم كتاب الله تعالى لأنها هي المفسرة للقرآن الكريم في الجانب العملي، ففيها أسباب النزول، وتفسير لكثير من الآيات، فتعينهم على فهمها والاستنباط منها ومعايشة أحداثها، فيستخرجون أحكامها الشرعية، وأصول السياسة الشرعية، ويحصلون منها على المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة وبها يدركون الناسخ والمنسوخ وغيرها من العلوم، وبذلك يتذوقون روح الإسلام ومقاصده السامية، ويجد فيها الزهاد معاني الزهد وحقيقته ومقصده، ويستقي منها التجار مقاصد التجارة وأنظمتها وطرقها، ويتعلم منها المبتلون أسمى درجات الصبر والثبات، فتقوى عزائمهم على السير في طريق دعوة الإسلام وتعظم ثقتهم بالله عزوجل ويوقنوا أن العاقبة للمتقين(1).
__________
(1) انظر: مدخل لدراسة السيرة، د. يحيى اليحيى، ص14.(2/3)
وتتعلم منها الأمة الآداب الرفيعة، والأخلاق الحميدة، والعقائد السليمة، والعبادة الصحيحة، وسمو الروح، وطهارة القلب، وحب الجهاد في سبيل الله وطلب الشهادة في سبيله ولهذا قال علي بن الحسن:(كنا نعلم مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نعلم السورة من القرآن) سمعت محمد بن عبدالله يقول: سمعت عمي الزهري يقول: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا.
وقال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص :(كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعدها علينا ويقول هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوا ذكرها)(1).
إن دراسة الهدي النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، يساعد العلماء والقادة والفقهاء والحكام على معرفة الطريق إلى عز الإسلام والمسلمين من خلال معرفة عوامل النهوض، وأسباب السقوط ويتعرفون على فقه النبي - صلى الله عليه وسلم - في تربية الأفراد، وبناء الجماعة المسلمة، وإحياء المجتمع، وإقامة الدولة، فيرأى المسلم حركة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة والمراحل التي مر بها وقدرته على مواجهة أساليب المشركين في محاربة الدعوة، وتخطيطه الدقيق في الهجرة إلى الحبشة، ومحاولته إقناع أهل الطائف بالدعوة، وعرضه لها على القبائل في المواسم، وتدرجه في دعوة الأنصار ثم هجرته المباركة إلى المدينة.
إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى دقة التخطيط ودقة التنفيذ من ابتدائها إلى انتهائها ومن مقدماتها إلى ماجرى بعدها يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائماً وأن التخطيط جزء من السنة وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ماطولب به المسلم.
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (2/242).(2/4)
إن المسلم يتعلم من المنهاج النبوي كل فنون إدارة الصراع والبراعة في إدارة كل مرحلة وفي الانتقال من مستوى إلى آخر وكيف واجه القوى المضادة من اليهود والمنافقين والكفار والنصارى؟ وكيف تغلب عليها كلها بسبب توفيق الله تعالى والإلتزام بشروط النصر وأسبابه التي أرشد إليها المولى عزوجل في كتابه الكريم.
إن قناعتي الراسخة في التمكين لهذه الأمة وإعادة مجدها وعزتها وتحكيم شرع ربها منوط بمتابعة الهدى النبوي قال تعالى:{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} (سورة النور،الآية:54)، فقد بينت الآية الكريمة أن طريق التمكين في متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد جاءت الآيات التي بعدها تتحدث عن التمكين وتوضح شروطه قال تعالى:{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ صدق الله العظيم وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ صدق الله العظيم } (سورة النور، الآيتان:55-56).(2/5)
وقد قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بتحقيق شروط التمكين، فحققوا الإيمان بكل معانيه وكافة أركانه، ومارسوا العمل الصالح بكل أنواعه وحرصوا على كل أنواع الخير وصنوف البر، وعبدوا الله عبودية شاملة في كافة شؤون حياتهم، وحاربوا الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه، وأخذوا بأسباب التمكين المادية والمعنوية على مستوى الأفراد والجماعة حتى أقاموا دولتهم في المدينة ومن ثم نشروا دين الله بين الشعوب والأمم.
إن تأخر المسلمين اليوم عن القيادة العالمية لشعوب الأرض نتيجة منطقية لقوم نسوا رسالتهم، وحطوا مكانتها، وشابوا معدنها بركام هائل من الأوهام في مجال العلم والعمل على حد سواء، وأهملوا السنن الربانية وظنوا أن التمكين قد يكون بالأماني والأحلام.
إن هذا الضعف الإيماني والجفاف الروحي، والتخبط الفكري والقلق النفسي، والشتات الذهني، والانحطاط الخلقي الذي أصاب المسلمين بسبب الفجوة الكبيرة التي حدثت بين الأمة والقرآن الكريم والهدي النبوي الشريف، وعصر الخلفاء الراشدين والنقاط المشرقة المضيئة في تاريخنا المجيد.(2/6)
أما ترأى معي ظهور الكثير من المتحدثين بإسم الإسلام وهم بعيدون كل البعد عن القرآن الكريم والهدي النبوي، وسيرة الخلفاء الراشدين وادخلوا في خطابهم مصطلحات جديدة ومفاهيم مائعة نتيجة الهزيمة النفسية أمام الحضارة الغربية وأصبحوا يتلاعبون بالألفاظ ويلوونها، ويتحدثون الساعات الطوال، ويدبجون المقالات، ويكتبون الكتب في فلسفة الحياة والكون والإنسان ومناهج التغيير ولا نكاد نلمس في حديثهم أو نلاحظ في مقالاتهم عمقاً في فهم فقه التمكين، وسنن الله في تغيير الشعوب وبناء الدول من خلال القرآن الكريم والمنهاج النبوي الشريف أو دعوة الأنبياء والمرسلين لشعوبهم أو تقصي لتاريخنا المجيد، فيخرجوا لنا، عوامل النهوض عند نور الدين محمود، أو صلاح الدين، أو يوسف بن تاشفين، أو محمود الغزنوي أو محمد الفاتح ممن ساروا على الهدي النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة بل يستدلون ببعض الساسة أو المفكرين والمثقفين من الشرق أو الغرب ممن هم أبعد الناس عن الوحي السماوي والمنهج الرباني وأنا لست ممن يعارض الاستفادة من تجارب الشعوب والأمم فالحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنّى وجدها، ولكنني ضد الذين يجهلون أو يتجاهلون المنهاج الرباني، وينسون ذاكرة الأمة التاريخية المليئة بالدروس والعبر والعظات ثم بعد ذلك يحرصون على أن يتصدروا قيادة المسلمين بأهوائهم وآرائهم البعيدة عن نور القرآن الكريم والهدي النبوي الشريف.
وما أجمل ماقاله ابن القيم:
والله ماخوفي من الذنوب فإنها لعَلَى
... ... ... ... طريق العفو والغفران
لكنما أخشى انسلاخ القلب عن تحكيم
... ... ... ... هذا الوحي والقرآن
ورضاً بآراء الرجال وخرصها
... ... ... ... لاكان ذاك بمنة الرحمن(2/7)
إننا في أشد الحاجة لمعرفة المنهاج النبوي في تربية الأمة وإقامة الدولة، ومعرفة سنن الله في الشعوب والأمم والدول وكيف تعامل معها النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما انطلق بدعوة الله في دنيا الناس حتى نلتمس من هديه - صلى الله عليه وسلم - الطريق الصحيح في دعوتنا والتمكين لديننا ونقيم بنياننا على منهجية سليمة مستمدة أصولها وفروعها من كتاب ربنا وسنّة نبينا - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (سورة الأحزاب، الآية:21 ).
فقد كان فقه النبي - صلى الله عليه وسلم - في تربية الأمة وإقامة الدولة شامل ومتكامل ومتوازن وخاضع لسنن الله في المجتمعات وإحياء الشعوب وبناء الدول، فتعامل - صلى الله عليه وسلم - مع هذه السنن في غاية الحكمة وقمة الذكاء، كسنة التدرج، والتدافع، والإبتلاء، والأخذ بالأسباب، وتغيير النفوس، وغرس - صلى الله عليه وسلم - في نفوس أصحابه المنهج الرباني ومايحمله من مفاهيم وقيم وعقائد وتصورات صحيحة عن الله والإنسان، والكون والحياة والجنة والنار، والقضاء والقدر، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتأثرون بمنهجه في التربية غاية التأثر ويحرصون كل الحرص على الإلتزام بتوجيهاته، فكان الغائب إذا حضر من غيبته يسأل أصحابه عما رأوا من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن تعليمه وإرشاده وعما نزل من الوحي حال غيبته، وكانوا يتبعون خطى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل صغيرة وكبيرة ولم يكونوا يقصرون هذا الاستقصاء على أنفسهم، بل كانوا يلقنونه لأبنائهم ومن حولهم.(2/8)
ففي هذا الكتاب تقصي لأحداث السيرة فيتحدث عن أحوال العالم قبل البعثة، والحضارات السائدة والأحوال السياسية والاقتصادية والإجتماعية والخلقية في زمن البعثة، وعن الأحداث المهمة قبل المولد النبوي، وعن نزول الوحي، ومراحل الدعوة، والبناء التصوري والأخلاقي والتعبدي في العهد الملكي، وعن أساليب المشركين في محاربة الدعوة، وعن الهجرة إلى الحبشة، ومحنة الطائف، ومنحة الإسراء والمعراج، والطواف على القبائل،ومواكب الخير وطلائع النور من أهل يثرب والهجرة النبوية، ويقف الكتاب بالقارئ على الأحداث مستخرجاً منها الدروس والعبر والفوائد لكي يستفيد منها المسلمون في عالمنا المعاصر، وتحدث الباحث عن حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ دخوله المدينة إلى وفاته وبين فقه النبي - صلى الله عليه وسلم - في إرساء دعائم المجتمع وتربيته ووسائله في بناء الدولة، ومحاربة أعدائها في الداخل والخارج، فيقف الباحث على فقه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سياسة المجتمع ومعاهدته مع أهل الكتاب التي سجلت في الوثيقة، وحركته الجهادية، ومعالجته الإقتصادية، والإرتقاء بالمسلم نحو مفاهيم هذا الدين الذي جاء لإنقاذ البشرية من دياجير الظلام، وعبادة الأوثان، وانحرافها عن شريعة الحكيم المتعال، وقد حاول الباحث أن يعالج مشكلة اختزال السيرة النبوية في أذهان الكثير من أبناء الأمة، ففي العقود الماضية ظهرت دراسات رائعة في مجال السيرة النبوية وكتب الله لها قبولاً وانتشاراً، كالرحيق المختوم، لصفي الدين المباركفوري، وفقه السيرة للغزالي، وفقه السيرة النبوية للبوطي والسيرة النبوية لأبي الحسن الندوي وكانت هذه الدراسات مختصرة ولم تكن شاملة لأحداث السيرة، واعتمدت بعض الجامعات هذه الكتب وظن بعض طلابها أن من استوعب هذه الكتب فقد أحاط بالسيرة النبوية وهذا خطأ فادح وخطير في حق السيرة النبوية المشرفة، وقد تسرب هذا الأمر إلى بعض أئمة المساجد وبعض قيادات(2/9)
الحركات الإسلامية وانعكس ذلك على الأتباع فحدث تصوراً ناقصاً للسيرة عند كثير من الناس وقد حذر الشيخ محمد الغزالي من خطورة هذا التصور في نهاية كتابه فقه السيرة فقال: قد تظن أنك درست حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا تابعت تاريخه من المولد إلى الوفاة وهذا خطأ بالغ.
إنك لن تفقه السيرة حقاً إلا إذا درست القرآن الكريم والسنة المطهرة وبقدر ماتنال من ذلك، تكون صلتك بنبي الإسلام(1).
ففي هذه الدراسة يجد القارئ تسليط الأضواء على البعد القرآني الذي له علاقة بالسيرة النبوية، كغزوة بدر، وأحد، والأحزاب، وبني النضير، وصلح الحديبية، وغزوة تبوك، فبين الباحث الدروس والعبر،وسنن الله في النصر والهزيمة، وكيف عالج القرآن الكريم أمراض النفوس من خلال الأحداث والوقائع؟
إن السيرة النبوية تعطي كل جيل مايفيده في مسيرة الحياة وهي صالحة لكل زمان ومكان ومصلحة كذلك.
__________
(1) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص476.(2/10)
لقد عشت سنين من عمري في البحث في القرآن الكريم والسيرة النبوية فكانت من أفضل أيام حياتي، فنسيت أثناء البحث غربتي وهجرتي وتفاعلت مع الدرر والكنوز والنفائس الموجودة في بطون المراجع والمصادر، فعملت على جمعها وترتيبها وتنسيقها وتنظيمها حتى تكون في متناول أبناء أمتي العظيمة، وقد لاحظت التفاوت في ذكر الدروس والعبر والفوائد والأحداث بين كتّاب السيرة قديماً وحديثاً، فأحياناً يذكر ابن هشام مالم يذكره الذهبي، ويذكر ابن كثير مالم يذكره أصحاب السنن هذا قديماً، أما حديثاً، فقد ذكر السباعي مالم يذكره الغزالي، وذكر البوطي مالم يذكره الغضبان، وهكذا ووجدت في التفسير، وشروح الحديث، كفتح الباري، وشرح النووي، وكتب الفقهاء مالم يذكره كتاب السيرة قديماً ولا حديثاً فأكرمني الله تعالى بجمع تلك الدروس والعبر والفوائد ونظمتها في عقد جميل يسهل الإطلاع عليه ويساعد القارئ على تناول تلك الثمار اليانعة بكل سهولة إن في هذا الكتاب حصيلة علمية وأفكار عملية جمعت من مئات المراجع والمصادر، وقد ساهم في إخراج هذا الجهد أخوة كثيرون من ليبيا واليمن والعراق، ومصر ، والسودان، والسعودية، والإمارات، وقطر، وبلاد الشام بالحوار والنقاش والندوات، فأفاد بعضهم في الإشارة إلى بعض المراجع والمصادر النادرة وعمل على توفيرها، والبعض الآخر أرشد إلى ضرورة التركيز على السنن والقوانين التي تعامل معها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حركته المباركة، كقانون الفرصة في فتح خيبر، وفتح مكة، وأشار البعض إلى أهمية ربط السيرة التاريخية بالسيرة السلوكية والسيرة المعبر عنها بحديث شريف أو فعل نبوي والسيرة كما يقررها القرآن الكريم ببعضها ومزجها في منهجية متناسقة تمد أبناء الجيل بعلم غزير، وفقه عميق، وعاطفة جياشة، فهي غذاء للروح، وتثقيف للعقول وحياة للقلوب، وصفاء للنفوس.(2/11)
إن السيرة النبوية غنية في كل جانب من الجوانب التي تحتاجها مسيرة الدعوة الإسلامية، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلتحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن ترك سوابق كثيرة لمن يريد أن يقتدي به في الدعوة والتربية والثقافة والتعليم والجهاد، وكافة شؤون الحياة، كما أن التعمق في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، يساعد القارئ على التعرف على الرصيد الخلقي الكبير الذي تميز به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل البشر ويتعرف على صفاته الحميدة التي عاش بها في دنيا الناس فيرأى من خلال سيرته مصداق قول حسان بن ثابت رضي الله عنه عندما قال:
وأجمل منك لم تر قط عيني
... ... ... وأفضل منك لم تلد النساء
خلقت مبرءاً من كل عيب
... ... ... كأنك قد خلقت كما تشاء
هذا ولا أدّعي أني أتيت بما لم تستطعه الأوائل فشأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبير وتوضيح بعض معالم سيرته يحتاج إلى نفس أرق، وفقه أدق وذكاء أكبر وإيمان أعمق، كما أنني لا أدّعي لعملي هذا العصمة أو الكمال، فهذا شأن الرسل والأنبياء، ومن ظن أنه قد أحاط بالعلم فقد جهل نفسه وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} (سورة الإسراء، آية:85).
فالعلم بحر لاشاطئ له وما أصدق الشاعر إذ يقول:
وقل لمن يدّعي في العلم فلسفة
... ... ... حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء
يقول الثعالبي: لايكتب أحد كتاباً فيبيت عنده ليلة إلا أحب في غيرها أن يزيد فيه أو ينقص منه، هذا في ليلة، فكيف في سنين معدودة؟
وقال العماد الأصبهاني: إني رأيت انه لايكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده، لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر ...(2/12)
وأخيراً أرجو من الله تعالى أن يكون عملاً لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي وأن يثيب إخواني الذين أعانونني بكافة مايملكون من أجل إتمام هذا الكتاب قال الشاعر:
أسِيرُ خَلْفَ رِكَابِ القوم ذا عَرَجِ
... ... ... مؤمِّلا جَبْرَ مالاقَيْت مِنْ عِوَجِ
فإن لحِقْتُ بهم من بعد ما سبقوا
... ... ... فكم لربِّ السماء في الناس من فَرَجِ
وإن ظَلَلْتُ بقفر الأرض منقطعا
... ... ... فما على أعرج في ذاك من حرج
(سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك).
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورضوانه
علي محمد الصّلابي
18 رجب 1421هـ
16 أكتوبر 2000م(2/13)
الفصل الاول
أهم الاحداث التاريخية من قبل البعثة حتى نزول الوحي
المبحث الاول
الحضارات السائدة قبل البعثة ودياناتها
أولاً : الأمبراطورية الرومانية:
كانت الامبراطورية الرومانية الشرقية تعرف بالامبراطورية البيزنطية، فكانت تحكم دول اليونان والبلقان وآسيا وسوريا وفلسطين وحوض البحر المتوسط بأسره ومصر وكل أفريقيا الشمالية، وكانت عاصمتها القسطنطينية وكانت دولة ظالمة مارست الظلم والجور والتعسف على الشعوب التي حكمتها، وضاعفت عليها الضرائب، وكثرت الاضطرابات والثورات، وكانت حياتهم العامة قائمة على كل أنواع اللهو واللعب والطرب والترف.
أما مصر فكانت عرضة للاضطهاد الديني والاستبداد السياسي، واتخذها البيزنطيون شاة حلوباً يحسنون حلبها ويسيئون علفها.
وأما سوريا فقد كثرت فيهم المظالم والرقيق ولا يعتمدون في قيادة الشعب إلا القوة والقهر الشديد وأصبحت مطية المطامع الرومانية وكان الحكم حكم الغرباء الذي لايعتمد إلا على القوة، لا يشعر بأي عطف على الشعب المحكوم، وكثيراً ماكان السوريون يبيعون أبناءهم ليوفوا ماكانت عليهم من ديون(1).
كان المجتمع الروماني مليئاً بالتناقض والاضطراب وقد جاء تصويره في كتاب (الحضارة ماضيها وحاضرها) كالآتي:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص31.(3/1)
(كان هناك تناقض هائل في الحياة الاجتماعية للبيزنطيين، فقد رسخت النزعة الدينية في أذهانهم، وعمت الرهبانية، وشاعت في طول البلاد وعرضها، وأصبح الرجل العادي في البلاد يتدخل في الأبحاث الدينية العميقة، والجدل البيزنطي، ويتشاغل بها، كما طبعت الحياة العادية العامة بطابع المذهب الباطني، ولكن نرى هؤلاء -في جانب آخر- حريصين أشد الحرص على كل نوع من أنواع اللهو واللعب، والطرب والترف، فقد كانت هناك ميادين رياضية واسعة تتسع لجلوس ثمانيين ألف شخص، يتفرجون فيها على مصارعات بين الرجال والرجال أحياناً، وبين الرجال والسباع أحياناً اخرى، وكانوا يقسمون الجماهير في لونين: لون أزرق ولون أخضر، لقد كانوا يحبون الجمال، ويعشقون العنف والهمجية، وكانت ألعابهم دموية ضارية أكثر الأحيان، وكانت عقوبتهم فظيعة تقشعر منها الجلود، وكانت حياة سادتهم وكبرائهم عبارة عن المجون والترف، والمؤامرات والمجاملات الزائدة، والقبائح والعادات السيئة) (1).
ثانياً: الأمبراطورية الفارسية:
كانت الامبراطورية الفارسية تعرف بالدولة الفارسية أو الكسروية وهي أكبر وأعظم من الامبراطورية الرومانية الشرقية وقد كثرت فيها الديانات المنحرفة كالزرادشتية والمانية التي أسسها ماني في أوائل القرن الثالث الميلادي ثم ظهرت المزدكية في أوائل القرن الخامس الميلادي التي دعت الى الإباحية في كل شيء مما أدى الى انتشار ثورات الفلاحين وتزايد النهابين للقصور فكانوا يقبضون أو يأسرون النساء ويستولون على الأملاك والعقارات فأصبحت الأرض والمزارع والدور كأن لم تسكن من قبل.
__________
(1) نفس المصدر، ص31.(3/2)
وكان ملوكهم يحكمون بالوراثة، ويضعون أنفسهم فوق بني آدم؛ لأنهم يعتبرون أنفسهم من نسل الآلهة، وأصبحت موارد البلاد ملكاً لهؤلاء الملوك يتصرفون فيها ببذخ لا يتصور ويعيشون عيش البهائم حتى ترك كثير من المزارعين أعمالهم أو دخلوا الأديرة والمعابد فراراً من الضرائب والخدمة العسكرية وكانوا وقوداً حقيراً في حروب طاحنة مدمرة قامت في فترات من التاريخ دامت سنين طوال بين الفرس والروم لا مصلحة للشعوب فيها إلا تنفيذ نزوات ورغبات الملوك(1).
ثالثاً: أما الهند:
فقد اتفقت كلمة المؤرخين على أن أحط أدوارها ديانةً وخلقاً واجتماعاً وسياسة ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي فانتشرت الخلاعة حتى في المعابد، لأنها أصبحت مقدسة وكانت المرأة لاقيمة لها ولا عصمة، وانتشرت عادة إحراق المرأة المتوفى زوجها، وامتازت الهند عن أقطار العالم بالتفاوت الفاحش بين طبقات الشعب وكان ذلك تابعاً لقانون مدني سياسي ديني وضعه المشرعون الهنديون التي كانت لهم صفة دينية، وأصبح هو القانون العام في المجتمع ودستور حياتهم، وكانت الهند في حالة فوضى وتمزق انتشرت فيها الإمارات التي اندلعت بينها الحروب الطاحنة وكانت بعيدة عن أحداث عالمها في عزلة واضحة يسيطر عليها التزمت والتطرف في العادات والتقاليد والتفاوت الطبقي والتعصب الدموي والسلالي وقد تحدث مؤرخ هندوكي أستاذ التاريخ في إحدى جامعات الهند، عن عصر سابق لدخول الاسلام في الهند فقال: (كان أهل الهند منقطعين عن الدنيا، منطوين على أنفسهم، لا خبرة عندهم بالأوضاع العالمية، وهذا الجهل أضعف موقفهم، فنشأ فيهم الجمود، وعمّت فيهم أمارات الانحطاط والتدهور، كان الأدب في هذه الفترة بلا روح، وهكذا كان الشأن في الفن المعماري، والتصوير، والفنون الجميلة الأخرى)(2).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص32،33.
(2) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص38.(3/3)
(وكان المجتمع الهندي راكداً جامداً، كان هناك تفاوت عظيم بين الطبقات، وتمييز معيب بين أسرة وأسرة، وكانوا لا يسمحون بزواج الأيامى ويشدّدون على أنفسهم في أمور الطعام والشراب، أما المنبوذون فكانوا يعيشون -مضطرين- خارج بلدهم ومدينتهم)(1).
كان تقسيم سكان الهند الى أربع طبقات:
1- طبقة الكهنة ورجال الدين، وهم "البراهمة".
2- ورجال الحرب والجندية وهم "شترى".
3- ورجال الفلاحة والتجارة وهم "ويش".
4- ورجال الخدمة وهم "شودر"، وهم أحط الطبقات، فقد خلقهم خالق الكون من أرجله، وليس لهم إلا خدمة هذه الطبقات الثلاثة وإراحتها.
وقد منح هذا القانون البراهمة مركزاً ومكانة لا يشاركهم فيها أحد، والبرهمي رجل مغفور له ولو أباد العوالم الثلاثة بذنوبه وأعماله، ولا يجوز فرض جباية عليه، ولا يعاقب بالقتل في حال من الأحوال، أما (شودر) فليس لهم أن يقتنوا مالاً، أو يدخروا كنزاً، أو يجالسوا برهمياً، أو يمسوه بيدهم، أو يتعلموا الكتب المقدسة(2).
رابعاً: أحوال العالم الدينية قبل البعثة المحمدية:
كانت الإنسانية قبل بزوغ فجر الاسلام العظيم تعيش مرحلة من أحط مراحل التاريخ البشري في شؤونها الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتعاني من فوضى عامة في كافة شؤون حياتها؛ وهيمن المنهج الجاهلي على العقائد والأفكار والتصورات والنفوس، وأصبح الجهل والهوى والإنحلال والفجور، والتجبر والتعسف من أبرز ملامح المنهج الجاهلي المهمين على دنيا الناس(3).
__________
(1) نفس المصدر، ص39.
(2) راجع القانون المدنية الاجتماعي المسمى منو شاسنز، الابواب 1-2-8-9-10. نقلاً عن السيرة النبوية للندوي، ص38.
(3) انظر: الغرباء الأولون، سلمان العودة، ص57.(3/4)
وضاع تاثير الديانات السماوية على الحياة أو كاد بسبب ما أصابها من التبديل والتحريف والتغيير الذي جعلها تفقد أهميتها بأعتبارها رسالة الله الى خلقه، وانشغل أهلها بالصراعات العقدية النظرية التي كان سببها دخول الأفكار البشرية، والتصورات الفاسدة على هذه الأديان، حتى أدى الى الحروب الطاحنة بينهم ومن بقي منهم لم يحرف ولم يبدل قليل نادر وآثار الابتعاد عن دنيا الناس ودخل في حياة الخلوة والعزلة طمعاً في النجاة بنفسه يأساً من الإصلاح ووصل الفساد الى جميع الأصناف والأجناس البشرية ودخل في جميع المجالات بلا استثناء ففي الجانب الديني تجد الناس أما أن ارتدوا عن الدين أو خرجوا منه أو لم يدخلوا فيه أصلاً، أو وقعوا في تحريف الديانات السماوية وتبديلها وإما في الجانب التشريعي، فإن الناس نبذوا شريعة الله وراءهم ظهريا واخترعوا من عند أنفسهم قوانين، وشرائع لم يأذن بها الله تصطدم مع العقل وتختلف مع الفطرة.
وتزعم هذا الفساد زعماء الشعوب والأمم من القادة والرهبان والقساوسة والدهاقين والملوك وأصبح العالم في ظلام دامس وليل بهيم وانحراف عظيم عن منهج الله سبحانه وتعالى.
فاليهودية أصبحت مجموعة من الطقوس والتقاليد لا روح فيها ولا حياة وتأثرت بعقائد الأمم التي جاورتها واحتكت بها والتي وقعت تحت سيطرتها فأخذت كثيراً من عاداتها وتقاليدها الوثنية الجاهلية وقد اعترف بذلك مؤرخو اليهود(1) فقد جاء في دائرة المعارف اليهودية: (إن سخط الانبياء وغضبهم على عبادة الأوثان تدل على أن عبادة الأوثان والآلهة، كانت قد تسربت الى نفوس الإسرائيليين، ولم تستأصل شأفتها الى أيام رجوعهم من الجلاء والنفي في بابل، وقد اعتقدوا معتقدات خرافية وشركية، إن التلمود أيضاً يشهد بأن الوثنية كانت فيها جاذبية خاصة لليهود)(2).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية ، أبو الحسن الندوي، ص20.
(2) المصدر نفسه، ص20.(3/5)
إن المجتمع اليهودي قبل البعثة المحمدية قد وصل الى الانحطاط العقلي وفساد الذوق الديني فإذا طالعت تلمود بابل الذي يبالغ اليهود في تقديسه والذي كان متداولاً بين اليهود في القرن السادس المسيحي تجد فيه نماذج غريبة من خفة العقل وسخف العقول، والاجتراء على الله، والعبث بالحقائق، والتلاعب بالدين والعقل(1).
أما المسيحية فقد امتحنت بتحريف الغالين، وتأويل الجاهلين واختفى نور التوحيد وإخلاص العبادة لله وراء السحب الكثيفة(2)، واندلعت الحروب بين النصارى في الشام والعراق، وبين نصارى مصر حول حقيقة المسيح وطبيعته، وتحولت البيوت والمدارس والكنائس الى معسكرات متنافسة وظهرت الوثنية في المجتمع المسيحي في مظاهر مختلفة وألوان شتى فقد جاء في تاريخ المسيحية في ضوء العلم المعاصر:
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص21.
(2) انظر: السيرة النبوية، للندوي، ص21.(3/6)
(لقد انتهت الوثنية، ولكنها لم تلق إبادة كاملة، بل أنها تغلغلت في النفوس واستمر كل شيء فيها باسم المسيحية وفي ستارها، فالذين تجردوا عن آلهتهم وابطالهم وتخلوا عنهم أخذوا شهيداً من شهدائهم، ولقبوه بأوصاف الآلهة ثم صنعوا له تمثالاً وهكذا انتقل هذا الشرك وعبادة الاصنام الى هؤلاء الشهداء المحليين، ولم ينته هذا القرن حتى عمت فيه عبادة الشهداء والأولياء، وتكونت عقيدة جديدة، وهي أن الأولياء يحملون صفات الألوهية، وصار هؤلاء الأولياء والقديسون خلقاً وسيطاً بين الله والإنسان يحمل صفة الألوهية على اساس عقائد الأريسيين، وأصبحوا رمزاً لقداسة القرون الوسطى وورعها وطهرها، وغيرت أسماء الأعياد الوثنية بأسماء جديدة، حتى تحول في عام 400 ميلادي عيد الشمس القديم الى عيد ميلاد المسيح)(1). وجاء في دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة: (تغلغل الاعتقاد بأن الإله الواحد مركب من ثلاثة أقانيم في أحشاء حياة العالم المسيحي وفكره، منذ ربع القرن الرابع الأخير، ودامت كعقيدة رسمية مُسَلَّمَة، عليها الاعتماد في جميع أنحاء العالم المسيحي، ولم يرفع الستار عن تطور عقيدة التثليث وسرّها إلا في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر الميلادي)(2).
لقد اندلعت الحروب بين النصارى وكفّر بعضهم بعضا، وقتل بعضهم بعضا وانشغل النصارى ببعضهم عن محاربة الفساد وإصلاح الحال ودعوة الأمم الى مافيه صلاح البشرية(3).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي، ص23.
(2) دائرة المعارف الكاثوليكية الجديدة. مقال التثليث (14/395).
(3) انظر: فتح العرب لمصر، تعريب محمد ابو حديد ، ص37، 38،48.(3/7)
وأما المجوس، فقد عرفوا من قديم الزمان بعبادة العناصر الطبيعية أعظمها النار وانتشرت بيوت النار في طول البلاد وعرضها وعكفوا على عبادتها وبنوا لها معابد وهياكل وكانت لها آداب وشرائع دقيقة داخل المعابد، أما خارجها فكان أتباعها أحراراً يسيرون على هواهم لا فرق بينهم وبين من لا دين له.
ويصف المؤرخ الدنماركي طبقة رؤساء الدين ووظائفهم عند المجوس في كتابه "ايران في عهد الساسانيين" فيقول: (كان واجباً على هؤلاء الموظفين أن يعبدوا الشمس اربع مرات في اليوم، ويضاف الى ذلك عبادة القمر والنار والماء، وكانوا مكلفين بأدعية خاصة، عند النوم والانتباه والاغتسال ولبس الزنار والأكل والعطس وحلق الشعر وتقليم الأظفار، وقضاء الحاجة وإيقاد السرج، وكانوا مأمورين بألا يَدَعوا النار تنطفئ وألا تمس النار والماء بعضها بعضاً، وألا يَدَعوا المعدن يصدأ، لأن المعادن عندهم مقدسة)(1).
وكان أهل إيران يستقبلون في صلاتهم النار، وقد حلف "يزدجرد"
-أخر ملوك السّاسانيين- بالشمس مرة، وقال: (أحلف بالشمس التي هي الإله الأكبر). وقد دان المجوس بالثّنوية في كل عصر وأصبح ذلك شعاراً لهم، فآمنوا بإلهين أثنين، وأحدهما النور أو إله الخير والثاني الظلام أو إله الشر(2).
أما البوذية في الهند وآسيا الوسطى، فقد تحولت وثنية تحمل معها الأصنام حيث سارت، وتبني الهياكل، وتنصب تماثيل بوذا حيث حلت ونزلت(3).
__________
(1) ايران في عهد الساسانيين ، ص155. نقلاً عن السيرة النبوية للندوي، ص27.
(2) انظر: السيرة النبوية، ابوالحسن الندوي، ص27.
(3) انظر: السيرة النبوية، للندوي ، ص28.(3/8)
أما البراهمة دين الهند الأصلي، فقد أمتازت بكثرة المعبودات والآلهة وقد بلغت أوجها في القرن السادس الميلادي، ولاشك أن الديانة الهندوكية والبوذية وثنيتان سواء بسواء، لقد كانت الدنيا المعمورة من البحر الأطلسي الى المحيط الهادي غارقة في الوثنية وكأنما كانت المسيحية واليهودية والبوذية والبراهمية تتسابق في تعظيم الأوثان وتقديسها، وكانت كخيل رحان تجري في حلبة واحدة.
وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - الى عموم هذا الفساد لجميع الأجناس وجميع المجالات بلا استثناء فقد قال - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم في خطبته: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ماجهلتم مما علمني يومي هذا؛ كل مال نحلته(1) عبداً حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء(2) كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم(3)، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر الى أهل الأرض فمقتهم: عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب)(4).
والحديث يشير الى انحراف البشرية في جوانب متعددة كالشرك بالله، ونبذ شريعته وفساد المصلحين من حملة الأديان السماوية وممالأتهم للقوم على ضلالهم(5).
المبحث الثاني
أصول العرب وحضارتهم
أولاً: أصول العرب:
قسم المؤرخون أصول العرب الى ثلاثة أقسام بحسب السلالات التي أنحدروا(6) منها:
1- العرب البائدة:
__________
(1) نحلته: أعطيته (النهاية في غريب الحديث) (5/29).
(2) حنفاء: مائلين عن الشرك الى التوحيد (النهاية (1/451)).
(3) اجتالتهم: ذهبت بهم (النهاية: 1/316).
(4) مسلم، كتاب الجنة، باب الصفات (4/2197) رقم 2197.
(5) انظر: الغرباء الأولون، ص59.
(6) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص45.(3/9)
وهي قبائل عاد، وثمود، والعمالقة، وطسم، وجديس، وأمييم، وجرهم وحضرموت ومن يتصل بهم وهذه درست معالمها واضمحلت من الوجود قبل الاسلام وكان لهم ملوك امتد ملكهم الى الشام ومصر(1).
2- العرب العاربة:
وهم العرب المنحدرة من صلب يعرب بن يشجب بن قحطان وتسمى بالعرب القحطانية(2) ويعرفون بعرب الجنوب(3) ومنهم ملوك اليمن، ومملكة معين، وسبأ وحِمْيَر(4).
3- العرب العدنانية:
نسبة الى عدنان الذي ينتهى نسبه الى إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وهم المعروفون بالعرب المستعربة، أي الذين دخل عليهم دم ليس عربياً ثم تمّ اندماج بين هذا الدم وبين العرب، وأصبحت اللغة العربية لسان المزيج الجديد.
وهؤلاء هم عرب الشمال، موطنهم الأصلي مكة، وهم إسماعيل عليه السلام وأبناؤه، والجراهمة الذي تعلم منهم اسماعيل عليه السلام العربية، وصاهرهم، ونشأ أولاده عرباً مثلهم، ومن أهم ذرية إسماعيل (عدنان) جد النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعلى ومن عدنان كانت قبائل العرب وبطونها فقد جاء بعد عدنان ابنه معدّ، ثم نزار، ثم جاء بعده ولده مضر وربيعة.
أما ربيعة بن نزار فقد نزل من انحدر من صلبه شرقاً، فقامت عبدالقيس في البحرين، وحنيفة في اليمامة، وبنو بكر بن وائل مابين البحرين واليمامة، وعبرت تغلب الفرات فأقامت في أرض الجزيرة بين دجلة والفرات، وسكنت تميم في بادية البصرة(5).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/46).
(2) فقه السيرة للغضبان، ص45.
(3) مدخل لفهم السيرة، ص98.
(4) السيرة النبوية لأبي شهبة (1/47).
(5) مدخل لفهم السيرة، ص98،99.(3/10)
أما فرع مضر: فقد نزلت سليم بالقرب من المدينة، وأقامت ثقيف في الطائف، واستوطنت سائر هوازن شرقي مكة، وسكنت أسد شرقي تيماء الى غربي الكوفة، وسكنت ذبيان وعبس من تيماء الى حوران(1) وتقسيم العرب الى عدنانية وقحطانية هو ماعليه جمهرة علماء الأنساب وغيرهم من العلماء ومن العلماء من يرى أن العرب: عدنانية، وقحطانية ينتسبون الى إسماعيل(2) عليه الصلاة والسلام.
وقد ترجم البخاري في صحيحه لذلك فقال: باب نسبة اليمن الى اسماعيل عليه السلام، وذكر في ذلك حديثاً عن سلمة قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قوم يتناضلون بالسهام، فقال: (ارموا بني إسماعيل وأنا مع بني فلان) -لأحد الفريقين- فأمسكوا بأيديهم، فقال: (مالكم)؟ قالوا: كيف نرمي وأنت مع بني فلان؟ فقال: (ارموا وأنا معكم كلكم)(3) وفي بعض الروايات: (ارموا بني اسماعيل، فإن أباكم كان رامياً).
قال البخاري: وأسلم بن أفص بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة، يعني: أن خزاعة فرقة ممن كان تمزق من قبائل سبأ حين أرسل الله عليهم سيل العرم(4).
وولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مضر، وقد أخرج البخاري عن كليب بن وائل قال: حدثتني ربيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت ابي سلمة قال: (قلت لها: أرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أكان من مضر؟ فقالت: فممن كان إلا من مضر؟ من بني النضر بن كنانة)(5).
__________
(1) انظر: الطريق الى المدائن، عادل كمال، ص40.
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/48).
(3) البخاري، كتاب الجهاد والسير (3/298) رقم 2899.
(4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/48).
(5) البخاري، كتاب المناقب (4/185) رقم 3491.(3/11)
وكانت قريش قد انحدرت من كنانة وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وانقسمت قريش الى قبائل شتى من أشهرها جمح وسهم وعدي ومخزوم وتيم وزهرة وبطون قصي بن كلاب وهي عبدالدار بن قصي وأسد بن عبدالعزى بن قصي، وعبد مناف بن قصي وكان من عبد مناف أربع فصائل: عبد شمس ونوفل والمطلب وهاشم .. وبيت هاشم هو الذي اصطفى الله منه سيدنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم - صلى الله عليه وسلم -(1):
قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)(2).
ثانياً: حضارات الجزيرة العربية:
نشأت من قديم الزمان ببلاد العرب حضارات أصيلة، ومدنيات عريقة من أشهرها:
1- حضارة سبأ باليمن:
وقد أشار القرآن الكريم إليها، ففي اليمن استفادوا من مياه الأمطار والسيول التي كانت تضيع في الرمال، وتنحدر الى البحار، فأقاموا الخزانات والسدود بطرق هندسية متطورة، وأشهر هذه السدود (سد مأرب)، واستفادوا بمياهها في الزروع المتنوعة، والحدائق ذات الأشجار الزكية، والثمار الشهية، قال عزَّ شأنه:
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ صدق الله العظيم فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ صدق الله العظيم ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ}(سورة سبأ، الآيات: 15-17).
__________
(1) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص47.
(2) رواه مسلم، باب فضل نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - (4/1782) رقم 2276.(3/12)
ودل القرآن الكريم على وجود قرى متصلة في الزمن الماضي مابين اليمن، الى بلاد الحجاز، الى بلاد الشام، وأن قوافل التجارة والمسافرين كانوا يخرجون من اليمن الى بلاد الشام، فلا يعدمون ظلاً، ولا ماءً، ولا طعاماً. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا آمِنِينَ صدق الله العظيم فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (سورة سبأ، الآيتان: 18-19).
2- حضارة عاد بالأحقاف:
وكان في شمال حضرموت وهم الذين ارسل الله إليهم نبي الله هود عليه السلام، وكانوا أصحاب بيوت مشيدة ، ومصانع متعددة، وجنات، وزروع وعيون(1) قال تعالى:
{ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِين صدق الله العظيم إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ صدق الله العظيم إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ صدق الله العظيم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي صدق الله العظيم وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ صدق الله العظيم وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ صدق الله العظيم وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ صدق الله العظيم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي صدق الله العظيم وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ صدق الله العظيم أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ صدق الله العظيم وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ صدق الله العظيم } (سورة الشعراء، الآيات 123،134).
3- حضارة ثمود بالحجاز:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/50).(3/13)
دل القرآن الكريم على وجود حضارة في بلاد الحِجْر وأشار الى ماكانوا يتمتعون به من القدرة على نحت البيوت في الجبال، وعلى ماكان يوجد في بلادهم من عيون وبساتين وزروع(1) قال تعالى:
{ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ صدق الله العظيم إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ صدق الله العظيم إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ صدق الله العظيم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي صدق الله العظيم وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِين صدق الله العظيم أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ صدق الله العظيم فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ صدق الله العظيم وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ صدق الله العظيم وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِين صدق الله العظيم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِي صدق الله العظيم } (سورة الشعراء، الآيات: 141،150).
وقال فيهم أيضاً:
{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (سورة الأعراف، الآية 74).
لقد زال كل ذلك من زمن طويل، ولم يبق إلا آثار ورسوم وأطلال، فقد اضمحلت القرى والمدن، وتخربت الدور والقصور، ونضبت العيون، وجفت الأشجار وأصبحت البساتين والزروع أرضاً جروزا(2).
المبحث الثالث
الأحوال الدينية والسياسية والاقتصادية
والاجتماعية والاخلاقية عند العرب
أولاً: الحالة الدينية:
__________
(1) نفس المصدر (1/51).
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/51).(3/14)
ابتليت الأمة العربية بتخلف ديني شديد، ووثنية سخيفة لا مثيل لها، وانحرافات خلقية، واجتماعية وفوضى سياسية، وتشريعية ومن ثم قل شانهم وصاروا يعيشون على هامش التاريخ، ولا يتعدون في أحسن الأحوال أن يكونوا تابعين للدولة الفارسية أو الرومانية وقد امتلأت قلوبهم بتعظيم تراث الآباء والأجداد واتباع ماكانوا عليه مهما يكن فيه من الزيغ والانحراف والضلال ومن ثم عبدو الاصنام، فكان لكل قبيلة صنم، فكان لهذيل بن مدركة : سواع، ولكلب: ود، لمذحج يغوث ولخيوان: يعوق، ولحمير: نسر، وكانت خزاعة وقريش تعبد أساف ونائلة، وكانت مناة على ساحل البحر، تعظمها العرب كافة والأوس والخزرج خاصة، وكانت الللات في ثقيف وكانت العزى فوق ذات عرق، وكانت أعظم الأصنام عند قريش(1).
والى جانب هذه الأصنام الرئيسية يوجد عدد لا يحصى كثرة من الأصنام الصغيرة والتي يسهل نقلها في اسفارهم ووضعها في بيوتهم.
روى البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العطاردي قال: (كانا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً آخر هو أخير ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جَثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به!!!)(2).
وقد حالت هذه الوثنية السخيفة بين العرب ومعرفة الله وتعظيمه وتوقيره والإيمان به، وباليوم الآخر وإن زعموا أنها لاتعدو أن تكون وسائط بينهم وبين الله وقد هيمنت هذه الآلهة المزعومة على قلوبهم وأعمالهم وتصرفاتهم، وجميع جوانب حياتهم وضعف توقير الله في نفوسهم قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (سورة الانعام، الآية:136).
__________
(1) انظر: الغرباء الأولون، ص 60.
(2) البخاري، كتاب المغازي - وفد بني حنيفة (5/119).(3/15)
أما البقية الباقية من دين ابراهيم عليه السلام فقد أصابها التحريف، والتغيير والتبديل، فصار الحج موسماً للمفاخرة والمنافرة، والمباهاة وانحرفت بقايا المعتقدات الحنفية عن حقيقتها وألصق بها من الخرافات والأساطير الشيء الكثير.
وكان يوجد بعض الأفراد من الحنفاء الذين يرفضون عبادة الأصنام وما يتعلق بها من الأحكام والنحائر وغيرها، ومن هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل، وكان لايذبح للأنصاب، ولا يأكل الميتة والدم وكان يقول:
ارباً واحداً أم ألف رب؟؟
... ... ... أدين إذاً تقسمت الأمور؟
عزلت اللات والعزى جميعاً
... ... ... كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا عزى أدينُ ولا ابنتيها
... ... ... ولا صنمي بني عمرو أزور
ولا غنماً أدينُ وكان رباً
... ... ... لنا في الدهر، إذا حلمي يسيرُ
ولكن أعبد الرحمن ربي
... ... ... ليغفر ذنبي الرب الغفور(1)
وممن كان يدين بشريعة إبراهيم، وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، قس بن ساعدة الإيادي: فقد كان خطيباً، حكيماً، عاقلاً، له نباهة، وفضل، وكان يدعوا الى توحيد الله، وعبادته، وترك عبادة الأوثان، كما كان يؤمن بالبعث بعد الموت، وقد بشر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أبو نعيم في دلائل النبوة عن ابن عباس قال: (إن قسى بن ساعدة كان يخطب قومه في سوق (عكاظ) فقال في خطبته: سيعلم حق من هذا الوجه -وأشار بيده الى مكة- قالوا: وماهذا الحق؟ قال: رجل من ولد لؤيّ بن غالب يدعوكم الى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش الى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه) وقد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - ومات قبل البعثة(2).
ومما كان ينشده من شعره:
في الذاهبين الأولين
... ... ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً للموت
... ... ... ليس لها مصادر
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (1/163).
(2) السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة (1/80).(3/16)
ورأيت قومي نحوها
... ... ... يمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إليّ
... ... ... ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محالة
... ... ... حيث صار القوم صائر(1)
كان بعض العرب قد تنصر وبعضهم دخل في اليهودية أما الأغلبية فكانت تعبد الأوثان والأصنام.
ثانياً: الحالة السياسية:
كان سكان الجزيرة العربية ينقسمون الى بدو، وحضر وكان النظام السائد بينهم هو النظام القبلي، حتى في الممالك المتحضرة التي نشأت بالجزيرة، كمملكة اليمن في الجنوب ومملكة الحيرة في الشمال الشرقي، ومملكة الغساسنة في الشمال الغربي، فلم تنصهر الجماعة فيها في شعب واحد، وإنما ظلت القبائل وحدات متماسكة.
والقبيلة العربية مجموعة من الناس، تربط بينها وحدة الدم (النسب)، ووحدة الجماعة، وفي ظل هذه الرابطة نشأ قانون عرفي ينظم العلاقات بين الفرد والجماعة، على أساس من التضامن بينهما في الحقوق والواجبات، وهذا القانون العرفي كانت تتمسك به القبيلة في نظامها السياسي والاجتماعي(2).
وزعيم القبيلة ترشحه للقيادة منزلته القبلية وصفاته، وخصائصه من شجاعة ومرؤة، وكرم ونحوها، ولرئيس القبيلة حقوق أدبية ومادية، فالأدبية أهمها احترامه وتبجيله، والاستجابة لأمره، والنزول على حكمه وقضائه، وأما المادية فقد كان له في كل غنيمة تغنمها (المرباع) وهو ربع الغنيمة، و(الصفايا) وهو مايصطفيه لنفسه من الغنيمة قبل القسمة، و(النشيطة) وهي ماأصيب من مال العدو قبل اللقاء، و(الفضول) وهو ما لا يقبل القسمة من مال الغنيمة، وقد أجمل الشاعر العربي ذلك بقوله:
لك المرباع فينا، والصفايا
... ... ... ... وحكمك، والنشيطة، والفضول(3)
ومقابل هذه الحقوق واجبات ومسؤوليات، فهو في السلم جواد كريم، وفي الحرب يتقدم الصفوف، ويعقد الصلح، والمعاهدات.
__________
(1) السيرة النبوية لأبي شهبة (1/81).
(2) نفس المصدر (1/60).
(3) انظر: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول، ص31.(3/17)
والنظام القبلي تسود فيه الحرية، فقد نشأ العربي في جو طليق، وفي بيئة طليقة، ومن ثم كانت الحرية من أخص خصائص العرب، ويعشقونها ويأبون الضيم والذل وكل فرد في القبيلة ينتصر لها، ويشيد بمفاخرها، وأيامها، وينتصر لكل أفرادها محقاً أو مبطلاً، حتى صار من مبادئهم:
(أنصر أخاك ظالماً، أو مظلوماً)
وكان شعارهم :
لايسالون أخاهم حين يندبهم
... ... ... ... في النائبات على ماقل برهانا
والفرد في القبيلة تبع للجماعة، وقد بلغ من اعتزازهم برأي الجماعة أنه قد تذوب شخصيته في شخصيتها، قال دريد بن الصمة:
وهل أنا إلا من غزِيَّة إن غَوَتْ
... ... ... ... غويت، وإن ترشد غزية أرشد(1)
وكانت كل قبيلة من القبائل العربية لها شخصيتها السياسية وهي بهذه الشخصية كانت تعقد الأحلاف مع القبائل الأخرى، وبهذه الشخصية ايضاً كان تشن الحرب عليها، ولعل من أشهر الأحلاف التي عقدت بين القبائل العربية، حلف الفضول، (حلف المطيبين)(2).
وكانت الحروب بين القبائل على قدم وساق ومن أشهر هذه الحروب حرب الفجار(3)، وكان -عدا هذه الحروب الكبرى- تقع إغارات فردية بين القبائل تكون أسبابها شخصية أحياناً، أو طلب العيش أحياناً أخرى، إذ كان رزق بعض القبائل في كثير من الأحيان في حدِّ سيوفها، ولذلك ماكانت القبيلة تأمن أن تنقض عليها قبيلة أخرى في ساعة من ليلٍ أو نهار لتسلب أنعامها ومؤنها، وتدع ديارها خاوية كأن لم تسكن بالأمس(4).
ثالثاً: الحالة الاقتصادية:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/61).
(2) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول، د. محمد قلعجي، ص31.
(3) نفس المصدر، ص33،34،35.
(4) المصدر السابق، ص35.(3/18)
يغلب على الجزيرة العربية الصحاري الواسعة الممتدة، وهذا ماجعلها تخلو من الزراعة إلا في أطرافها وخاصة في اليمن والشام، وبعض الواحات المنتشرة في الجزيرة وكان يغلب على البادية رعي الإبل والغنم وكانت تنتقل القبائل بحثاً عن مواقع الكلأ وكانوا لايعرفون الاستقرار إلا في مضارب خيامهم.
وأما الصناعة فكانوا أبعد الأمم عنها، وكانوا يأنفون منها، ويتركون العمل فيها للأعاجم والموالي حتى عندما أرادوا بنيان الكعبة استعانوا برجل قبطي نجا من السفينة التي غرقت بجدة ثم أصبح مقيماً في مكة(1).
وإذا كانت الجزيرة العربية قد حُرمت من نعمتي الزراعة والصناعة، فإن موقعها الاستراتيجي بين افريقيا وشرق آسيا جعلها مؤهلة لأن تحتل مركزاً متقدماً في التجارة الدولية آنذاك.
وكان الذين يمارسون التجارة من سكان الجزيرة العربية هم أهل المدن، ولاسيما أهل مكة فقد كان لهم مركزاً ممتازاً في التجارة وكان لهم بحكم كونهم أهل الحرم منزلة في نفوس العرب، فلا يعرضون لهم، ولا لتجارتهم بسوء، وقد تمنن الله عليهم بذلك في القرآن الكريم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (سورة العنكبوت، الآية: 67). وكانت لقريش رحلتان عظيمتان شهيرتان: رحلة الشتاء الى اليمن، ورحلة الصيف الى الشام، يذهبون فيها آمنين بينما الناس يتخطفون من حولهم، هذا عدا الرحلات الاخرى التي يقومون بها طوال العام، قال تعالى: {لاِِيلاَفِ قُرَيْشٍ صدق الله العظيم إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ صدق الله العظيم فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ صدق الله العظيم الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ صدق الله العظيم }(سورة قريش، الآية: 1 الى 4).
__________
(1) انظر: فقه السيرة النبوية، منير الغضبان، ص60.(3/19)
وكانت القوافل تحمل الطيب والبخور، والصمغ، واللبان، والتوابل والتمور، والروائح العطرية، والأخشاب الزكية، والعاج، والآبنوس، والخرز، والجلود، والبرود اليمنية والأنسجة الحريرية، والأسلحة وغيرها مما يوجد في شبه الجزيرة، أو يكون مستورداً من خارجها، ثم تذهب به الى الشام وغيرها ثم تعود محملة بالقمح، والحبوب، والزبيب، والزيتون، والمنسوجات الشامية وغيرها.
واشتهر اليمنيون بالتجارة، وكان نشاطهم في البر وفي البحار، فسافروا الى سواحل أفريقيا والى الهند وأندونيسيا، وسومطرة وغيرها من بلاد آسيا، وجزر المحيط الهندي أو البحر العربي كما يُسمَّى، وقد كان لهم فضل كبير بعد اعتناقهم الاسلام، في نشره في هذه الاقطار.
وكان التعامل بالربا منتشراً في الجزيرة العربية ولعل هذا الداء الوبيل سرى الى العرب من اليهود(1)، وكان يتعامل به الأشراف وغيرهم وكانت نسبة الربا في بعض الأحيان الى أكثر من مئة في المئة(2).
وكان للعرب أسواق مشهورة: عكاظ، ومجنَّة، وذو المجاز، ويذكر بعض المؤلفين في أخبار مكة أن العرب كانوا يقيمون بعكاظ هلال ذي القعدة، ثم يذهبون منه الى مجنّة بعد مضي عشرين يوماً من ذي القعدة، فإذا رأوا هلال ذي الحجة ذهبوا الى ذي المجاز فلبثوا فيها ثمان ليال، ثم يذهبون الى عرفة، وكانوا لا يتابيعون في عرفة ولا أيام منى حتى جاء الاسلام فأباح لهم ذلك قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ} (سورة البقرة، الآية:198).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/98 الى 101).
(2) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد ، ص19.(3/20)
وقد استمرت هذه الأسواق في الاسلام الى حين من الدهر ثم دَرَست، ولم تكن هذه الأسواق للتجارة فحسب، بل كانت أسواقاً للأدب والشعر والخطابة يجتمع فيها فحول الشعراء ومصاقع الخطباء، ويتبارون فيها في ذكر أنسابهم، ومفاخرهم، ومآثرهم، وبذلك كانت ثروة كبرى للغة، والأدب، الى جانب ثروة تجارية(1).
رابعاً: الحالة الاجتماعية:
هيمنت التقاليد والأعراف على حياة العرب وأصبحت لهم قوانين عرفية فيما يتعلق بالأحساب والأنساب، وعلاقة القبائل ببعضها والأفراد كذلك ويمكن إجمال الحالة الاجتماعية فيما يأتي:
1- الاعتزاز الذي لا حدّ له بالأنساب، والأحساب، والتفاخر بهما:
فقد حرصوا على المحافظة على أنسابهم، فلم يصاهروا غيرهم من الاجناس الاخرى، ولما جاء الاسلام قضى على ذلك وبين لهم أن التفاضل إنما هو بالتقوى والعمل الصالح.
2- الاعتزاز بالكلمة، وسلطانها، لاسيما الشعر:
كانت تستهويهم الكلمة الفصيحة، والأسلوب البليغ، وكان شعرهم سجل مفاخرهم، وأحسابهم، وأنسابهم، وديوان معارفهم، وعواطفهم، فلا تعجب إذا كان نجم فيهم الخطباء المصاقع، والشعراء الفطاحل، وكان البيت من الشعر يرفع القبيلة، والبيت يخفضها، ولذلك ماكانوا يفرحون بشيء فرحهم بشاعر ينبغ في القبيلة.
3- المرأة في المجتمع العربي:
كانت المرأة عند كثير من القبائل كسقط المتاع، فقد كانت تورث، وكان الابن الأكبر للزوج من غيرها من حقه أن يتزوجها بعد وفاة أبيه أو يَعْضلها عن النكاح، حتى حرّم الاسلام ذلك وكان الابن يتزوج امرأة أبيه(2)، فنزل قول الله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً}(سورة النساء، الآية:22).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/102).
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/87).(3/21)
وكانت العرب تحرم نكاح الاصول كالأمهات، والفروع كالبنات، وفروع الأب كالأخوات، والطبقة الاولى من فروع الجد كالخالات والعمات(1).
وكانوا لا يورِّثون البنات ولا النساء ولا الصبيان، ولا يورثون إلا من حاز الغنيمة وقاتل على ظهور الخيل، وبقي حرمان النساء والصغار من الميراث عرفاً معمولاً به عندهم الى أن توفى أوس بن ثابت -في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- وترك بنتين كانت بهم دمامة، وابناً صغيراً، فجاء ابنا عمه -وهما عصبته- فأخذا ميراثه كله، فقالت امرأته لهما: تزوجا البنتين، فابيا ذلك لدمامتهما، فأتت رسول الله فقالت: يارسول الله توفي أوس وترك ابناً صغيراً وابنتين، فجاء ابنا عمه سويد وعرفطة فأخذا ميراثه، فقلت لهما: تزوجا ابنتيه، فابيا. فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تحركا من الميراث شيئاً)(2) ونزل قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (سورة النساء، الآية: 7).
__________
(1) دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد، ص22،23،24.
(2) تفسير القرطبي (5/45).(3/22)
وكان العرب يعيّرون بالبنات، لأن البنت لا تخرج في الغزو، ولا تحمي البيضة من المعتدين عليها، ولا تعمل فتأتي بالمال شأن الرجال، وإذا ما سُبيت اتخذت للوطء تتداولها الأيدي لذلك، بل ربما أكرهت على احتراف البغاء، ليضم سيدها مايصير إليها من المال بالبغاء الى ماله -وقد كانت العرب تبيح ذلك- وقد كان هذا يورث الهمَّ والحزن والخجل للأب عندما تولد له بنت وقد حدثنا القرآن الكريم عن حالة من تولد له بنت قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ صدق الله العظيم يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ صدق الله العظيم } (سورة النحل، الآية 58،59).
وكثيراً ماكانوا يختارون دسها في التراب، ووأدها حية، ولا ذنب لها إلا أنها أنثى(1)، ولذلك أنكر القرآن الكريم عليهم هذه الفعلة الشنيعة قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ صدق الله العظيم بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ صدق الله العظيم }(سورة سورة التكوير، الآية: 8،9).
وكان بعض العرب يقتل أولاده من الفقر أو خشية الفقر فجاء الاسلام وحرّم ذلك قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (سورة الأنعام، الآية:151).
__________
(1) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد، ص25،26.(3/23)
وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}(سورة الاسراء، الآية 31).
وكانت بعض القبائل لا تئد البنات، كما كان فيهم من يستقبحون هذه الفعلة الشنعاء كزيد بن عمرو بن نفيل(1).
وكانت بعض القبائل تحترم المرأة، وتأخذ رأيها في الزواج، وكانت المرأة العربية الحرة تأنف أن تفترش لغير زوجها وحليلها وكانت تتسم بالشجاعة وتتبع المحاربين وتشجعهم، وقد تشارك في القتال إذا دعت الضرورة وكانت المرأة البدوية العربية تشارك زوجها في رعي الماشية، وسقيها، وتغزل الوبر والصوف، وتنسج الثياب، والبرود، والأكسية، مع التصون والتعفف(2).
4- النكاح:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/92).
(2) نفس المصدر (1/88).(3/24)
تعارف العرب على أنواع من النكاح، لا يعيب بعضهم على بعض إتيانها، وقد ذكرت لنا السيدة عائشة رضي الله عنها فقالت: (إن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح اليوم: يخطب الرجل الى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها ونكاح آخر: كان للرجل أن يقول لامرأته اذا طهرت من طمثها(1): أرسلي الى فلان فاستبضعي(2) منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً، حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع ونكاح آخر: يجتمع الرهط(3) مادون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها(4)، فإذا حملت ووضعت ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو أبنك يافلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها(5)، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون عَلَماً، فمن أرادهنّ دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لهم القافة(6)، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطه(7) به، ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك. فلما بُعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم)(8).
__________
(1) الطمث: الحيض.
(2) استبضعي: طلب الجماع حتى تحمل منه.
(3) الرهط: الجماعة دون العشرة.
(4) يصيبها: يجامعها.
(5) جاءها: دخل عليها.
(6) القافة: جمع القائف وهو الذي يعرف شبه الولد بالوالد.
(7) التاطه: أستلحقه.
(8) البخاري، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي رقم 5127.(3/25)
وذكر بعض العلماء أنحاء اخرى لم تذكرها عائشة -رضي الله عنها- كنكاح الخِدْن وهو في قوله تعالى: {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} كانوا يقولون: مااستتر فلا بأس به، وما ظهر فهو لوم، وهو الى الزنا أقرب منه الى النكاح، وكنكاح المتعة وهو النكاح المعين بوقت، ونكاح البدل: كان الرجل في الجاهلية يقول للرجل: انزل لي على امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي،وأزيدك(1).
ومن الأنكحة الباطلة نكاح الشِّغار وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ليس بينهما صداق(2).
وكانوا يحلون الجمع بين الأختين في النكاح، وكانوا يبيحون للرجل أن يجمع في عصمته من الزوجات ماشاء دون التقيد بعدد، وكان الذين جمعوا بين أكثر من أربع زوجات أكثر من أن ينالهم العدّ(3)، وجاء الاسلام ومنهم من له العشرة من النساء والأكثر، والأقل، فقصر ذلك على أربع إن علم أنه يستطيع الإنفاق عليهن، والعدل بينهن، فإن خاف عدم العدل فليكتف بواحدة، وماكانوا في الجاهلية يلتزمون العدل بين الزوجات، وكانوا يسيئون عشرتهن، ويهضمون حقوقهن حتى جاء الاسلام فأنصفهن، وأوصى بالإحسان إليهنّ في العشرة، وقرر لهن حقوقاً ماكنّ يحلمن بها(4).
5- الطلاق:
__________
(1) فتح الباري (9/150).
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/90).
(3) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد، ص24،25.
(4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/88).(3/26)
كانوا يمارسون الطلاق، ولم يكن للطلاق عندهم عدد محدّد، فكان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها هكذا أبداً، وبقي هذا الأمر معمولاً به في صدر الاسلام(1) الى أن أنزل الله تبارك وتعالى قوله: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} (سورة البقرة، الآية:229).
فقيد الاسلام عدد الطلقات، وأعطى للزوج فرصة لتدراك أمره، ومراجعة زوجته مرتين، فإن طلقّ الثالثة فقد انقطعت عروة النكاح، ولا تحل له إلا بعد زوج آخر، ففي الكتاب الكريم: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (سورة البقرة، الآية:230).
__________
(1) دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد، ص25.(3/27)
ومما كان يلحق بالطلاق في التحريم الظّهار، وهو أن يقول الزوج لزوجته: أنت علي كظهر أمي، وكان تحريماً مؤبداً حتى جاء الاسلام، فوسمه بأنه منكر من القول وزور، وجعل للزوج مخرجاً منه، وذلك بالكفارة(1) قال تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ صدق الله العظيم وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ صدق الله العظيم فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ صدق الله العظيم } (سورة المجادلة، الآية: 2،4).
6- الحروب، والسطو، والإغارة:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/91).(3/28)
كانت الحروب تقوم بينهم لأتفه الأسباب، فهم لايبالون بشن الحروب وإزهاق الأرواح في سبيل الدفاع عن المثل الاجتماعية التي تعارفوا عليها وإن كانت لا تستحق التقدير، وقد روى لنا التاريخ سلسلة من أيام العرب في الجاهلية مما يدل على تمكن الروح الحربية من نفوس العرب وغلبتها على التعقل والتفكير، فمن تلك الأيام مثلاً يوم البسَوُس وقد قامت الحرب فيه بين بكر وتغلب بسبب ناقة للجَرْمي وهو جار للبسوس بنت منقذ خالة جساس بن مرة، وقد كان كليب سيد تغلب قد حمى لإبله مكاناً خاصاً به فرأى فيه هذه الناقة فرماها فجزع الجرمي وجزعت البسوس فلما رأى ذلك جساس تحين الفرصة لقتل كليب فقتله فقامت الحروب الطاحنة بين القبيلتين لمدة أربعين سنة(1).
وكذلك يوم داحس والغبراء وقد كان سببه سباقاً أقيم بين داحس وهو فرس لقيس بن زهير والغبراء وهي لحذيفة بن بدر فأوعز هذا الى رجل ليقف في الوادي فإن رأى داحساً قد سبق يرده وقد فعل ذلك فلطم الفرس حتى أوقعها في الماء فسبقت الغبراء وحصل بعد ذلك القتل والأخذ بالثأر وقامت الحرب بين قبيلتي عبس وذبيان(2).
وكذلك الحروب التي قامت بين الأوس والخزرج في الجاهلية وهم أبناء عم حيث أن الأوس والخزرج أبناء حارثة بن ثعلبة الأزدي واستمرت الحروب بينهم وكان آخر أيامهم (بعاث) وذلك أن حلفاء الأوس من اليهود جددوا عهودهم معهم على النصرة -وهكذا كان كثير من حروب الأوس والخزرج يذكيها اليهود حتى يضعفوا القبيلتين فتكون لهم السيادة الدائمة واستعان كل فريق منهم بحلفائه من القبائل المجاورة فاقتتلوا قتالاً شديداً كانت نهايته لصالح الأوس(3).
__________
(1) الكامل في التاريخ لابن الأثير (1/312).
(2) نفس المصدر (1/343).
(3) التاريخ الاسلامي، د.عبدالعزيز الحميدي (1/55).(3/29)
وكانت بعض القبائل تسطو وتغير بغية نهب الأموال وسبي الأحرار وبيعهم، كزيد بن حارثة فقد كان عربياً حراً، وكسلمان الفارسي فقد كان فارسياً حراً، وقد قضى الاسلام على ذلك حتى كانت تسير المرأة والرجل من صنعاء الى حضرموت لا تخافان إلا الله والذئب على أغنامهم(1).
7- العلم والقراءة والكتابة:
لم يكن العرب أهل كتاب وعلم كاليهود والنصارى، بل كان يغلب عليهم الجهل والأمية، والتقليد والجمود على القديم وإن كان باطلاً وكانت أمة العرب لاتكتب ولا تحسب وهذه هي الصفة التي كانت غالبة عليها وكان فيهم قليل ممن يكتب ويقرأ ومع أميتهم وعدم اتساع معارفهم فقد كانوا يشتهرون بالذكاء، والفطنة، والألمعية، ولطف المشاعر، وإرهاف الحس، وحسن الاستعداد، والتهيؤ لقبول العلم والمعرفة، والتوجيه الرشيد ولذلك لما جاء الاسلام صاروا علماء، حكماء، فقهاء، وزالت عنهم الأمية، وأصبح العلم والمعرفة من أخص خصائصهم وكان فيهم من مهر في علم قص الأثر، وهو القيافة وكان فيهم أطباء كالحارث بن كلدة، وكان طبهم مبنياً على التجارب التي اكتسبوها من الحياة والبيئة(2).
خامساً: الحالة الأخلاقية:
كانت أخلاق العرب قد ساءت وأولعوا بالخمر والقمار وشاعت فيهم الغارات وقطع الطريق على القوافل، والعصبية والظلم، وسفك الدماء، والأخذ بالثأر، واغتصاب الأموال، وأكل مال اليتامى، والتعامل بالربا، والسرقة والزنا، ومما ينبغي أن يعلم أن الزنا إنما كان في الإماء وأصحاب الرايات من البغايا، ويندر أن يكون في الحرائر، وليس أدل على هذا من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخذ البيعة على النساء بعد الفتح: (على أن لايشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن، ولا يزنين) قالت السيدة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان: أو تزني الحرة(3)؟!!
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/93).
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/93).
(3) نفس المصدر(1/94).(3/30)
وليس معنى هذا أنهم كانوا كلهم على هذا لا، لقد كان فيهم كثيرون لا يزنون، ولا يشربون الخمر، ولا يسفكون الدماء، ولايظلمون، ويتحرجون من أكل أموال اليتامى، ويتنزهون عن التعامل بالربا(1) وكانت فيهم سمات وخصال من الخير كثيرة أهلتهم لحمل راية الاسلام ومن تلك الخصال والسمات:
1- الذكاء والفطنة:
فقد كانت قلوبهم صافية لم تدخلها تلك الفلسفات والأساطير والخرفات التي يصعب إزالتها كما في الشعوب الهندية والرومانية واليونانية والفارسية، فكأن قلوبهم كانت تعد لحمل أعظم رسالة في الوجود وهي دعوة الاسلام الخالدة ولهذا كانوا أحفظ شعب عرف في ذلك الزمن وقد وجه الاسلام قريحة الحفظ والذكاء الى حفظ الدين وحمايته، فكانت قواهم الفكرية، ومواهبهم الفطرية مذخورة فيهم، لم تستهلك في فلسفات خيالية، وجدال بيزنطي عقيم، ومذاهب كلامية معقدة(2).
واتساع لغتهم دليل على قوة حفظهم وذاكرتهم فإذا كان للعسل ثمانون اسماً وللثعلب مائتان وللأسد خمسمائة، فإن للجمل ألفاً، وكذا السيف، وللداهية نحو أربعة آلاف اسم، ولا شك أن استيعاب هذه الأسماء يحتاج الى ذاكرة قوية حاضرة وقادة(3).
وقد بلغ بهم الذكاء والفطنة الى الفهم بالإشارة فضلاً عن العبارة، والأمثلة على ذلك كثيرة(4).
2- أهل كرم وسخاء:
كان هذا الخلق متأصل في العرب، وكان الواحد منهم لا يكون عنده إلا فرسه، أو ناقته، فيأتيه الضيف، فيسارع الى ذبحها، أو نحرها له وكان بعضهم لا يكتفي بإطعام الانسان بل كان يطعم الوحش، والطير، وكرم حاتم الطائي سارت به الركبان، وضربت به الأمثال(5).
3- أهل الشجاعة ومرؤة ونجدة:
__________
(1) المصدر السابق (1/94).
(2) انظر: السيرة للندوي، ص12.
(3) بلوغ الأرب (1/39-40).
(4) انظر: مدخل لفقة السيرة، ص79،80.
(5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/95).(3/31)
كانوا يتمادحون بالموت قتلاً ويتهاجون بالموت على الفراش قال أحدهم لما بلغه قتل أخيه: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه، إنا والله لا نموت حتفاً، ولكن قطعاً بأطراف الرماح، وموتاً تحت ظلال السيوف.
ومامات منا سيد حتف أنفه
... ... ... ولا طُلّ منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظُباة نفوسنا
... ... ... وليست على غير الظباة تسيل
وكان العرب لا يقدمون شيئاً على العز وصيانة العرض، وحماية الحريم، واسترخصوا في سبيل ذلك نفوسهم قال عنترة:
بكرت تخوفني الحتوف كأنني
... ... ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية منهل
... ... ... لابد أن أسقى بكأس المنهل
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي
... ... ... أني أمرؤ سأموت إن لم أقتل(1)
وقال عنترة:
لا تسقني ماء الحياة بذلة
... ... ... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنم
... ... ... وجهنم بالعز أطيب منزل(2)
وكان العرب بفطرتهم أصحاب شهامة ومروءة؛ فكانوا يأبون أن ينتهز القوي الضعيف، أو العاجز، أو المرأة أو الشيخ وكانوا إذا استنجد بهم أحد أنجدوه ويرون من النذالة التخلي عن من لجأ إليهم.
4- عشقهم للحرية، وإباءهم للضيم والذل:
كان العربي بفطرته يعشق الحرية يحيا لها، ويموت من أجلها، فقد نشأ طليقاً لا سلطان لأحد عليه، ويأبى أن يعيش ذليلاً، أو يمس في شرفه وعرضه ولو كلفه ذلك حياته(3)، فقد كانوا يأنفون من الذل ويأبون الضيم والاصتصغار والاحتقار وإليك مثالٌ على ذلك.
جلس عمرو بن هند ملك الحيرة لندمائه وسألهم: هل تعلمون أحداً من العرب يأنف أمه خدمة أمي؟ قالوا: نعم أم عمرو بن كلثوم الشاعر الصعلوك.
__________
(1) ديوان عنترة، ص252.
(2) ديوان عنترة، د. فاروق الطباع ، ص82.
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/95).(3/32)
فدعى الملك عمرو بن كلثوم لزيارته، ودعى أمه لتزور أمه، وقد اتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمر بن كلثوم بعد الطعام: ناوليني الطبق الذي بجانبك، فلما جاءت قالت لها ذلك فقالت: لتقم صاحبة الحاجة الى حاجتها، فأعادت عليها الكرة وألحت، فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم: وإذلاه بالتغلب... فسمعها ابنها فاشتد به الغضب فرأى سيفاً للملك معلقاً بالرواق فتناوله وضرب به رأس الملك عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب وانتهبوا مافي الرواق، ونظم قصيدة يخاطب بها الملك قائلاً:
بأي مشيئة عمرو بن هند
... ... ... نكون لِقِلكم(1) فيها قطينا(2)
بأي مشيئة عمرو بن هند
... ... ... تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وتوْعِدنا رويداً
... ... ... متى كنا لأمك مَقْتَوينا(3)
إذا ما الملك سام الناس خسفا
... ... ... أبينا أن نقر الذل فينا(4)
5- الوفاء بالعهد وحبهم للصراحة والوضوح والصدق:
كانوا يأنفون من الكذب ويعيبونه، وكانوا أهل وفاء، ولهذا كانت الشهادة باللسان كافية للدخول في الاسلام:
وقصة ابي سفيان مع هرقل لما سأله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت الحروب بينهم قائمة قال: (لولا أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت عليه)(5).
__________
(1) القيل هو الملك دون الملك الأعظم.
(2) القطين هم الخدم.
(3) مفتوينا: خدمة الملوك.
(4) انظر: شرح المعلقات للحسين الزوزاني، ص196،204.
(5) صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي رقم 7.(3/33)
أما وفاؤهم فقد قال النعمان بن المنذر لكسرى في وفاء العرب: (وإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماء فهي وَلث وعقدة لايحلها إلا خروج نفسه، وإن أحدهم يرفع عوداً من الأرض فيكون رهناً بدينه فلا يغلق رهنه ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به وعسى أن يكون نائياً عن داره، فيصاب فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته لما أخفر من جواره، وأنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله)(1).
__________
(1) بلوغ الأرب (1/150).(3/34)
والوفاء خلق متأصل بالعرب فجاء الاسلام ووجهه الوجهة السليمة فغلظ على من آوى محدثاً مهما كانت منزلته وقرابته. قال - صلى الله عليه وسلم -: (لعن الله من آوى محدثاً)(1) ومن القصص الدالة على وفائهم(2): (أن الحارث بن عباد قاد قبائل بكر لقتال تغلب وقائدهم المهلهل الذي قتل ولد الحارث وقال: (بؤ بشسع نعل كليب) في حرب البسوس، فأسر الحارث مهلهلاً وهو لايعرفه فقال دلني على مهلهل بن ربيعة وأخلي عنك فقال له: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال: نعم. قال: فأنا هو، فجز ناصيته وتركه) وهذا وفاء نادر ورجولة تستحق الإكبار(3) ومن وفائهم: (أن النعمان بن المنذر خاف على نفسه من كسرى لما منعه من تزويج ابنته فأودع أسلحته وحرمه الى هاني بن مسعود الشيباني، ورحل الى كسرى فبطش به، ثم ارسل الى هانئ يطلب منه ودائع النعمان، فأبى، فسير إليه كسرى جيشاً لقتاله فجمع هانئ قومه آل بكر وخطب فيهم فقال: (يامعشر بكر، هالك معذور، خير من ناج فرور، إن الحذر لاينجي من قدر، وإن الصبر من اسباب الظفر، المنية ولا الدنية، استقبال الموت خير من استدباره، الطعن في ثغر النحور، أكرم منه في الأعجاز والظهور، ياآل بكر قاتلوا فما المنايا من بد)(4)، واستطاع بنو بكر أن يهزموا الفرس في موقعة ذي قار، بسبب هذا الرجل الذي احتقر حياة الصغار والمهانة ولم يبالٍ بالموت في سبيل الوفاء بالعهود.
6- الصبر على المكاره وقوة الاحتمال، والرضا باليسير:
كانوا يقومون من الأكل ويقولون البطنة تذهب الفطنة، ويعيبون الرجل الأكول الجشع قال شاعرهم:
إذا مدت الأيدي الى الزاد لم أكن
... ... ... باعجلهم إذا أجشع القوم أعجل(5)
__________
(1) رواه مسلم، كتاب الاضاحي رقم 1978.
(2) انظر: مدخل لفهم السيرة، ص90.
(3) نفس المصدر، ص91.
(4) تاريخ الطبري عن يوم ذي قار (2/207).
(5) بلوغ الأرب (1/377).(3/35)
وكانت لهم قدرة عجيبة على تحمل المكاره والصبر في الشدائد وربما اكتسبوا ذلك من طبيعة بلادهم الصحراوية الجافة، قليلة الزرع والماء، فألفوا اقتحام الجبال الوعرة، والسير في حرّ الظهيرة، ولم يتأثروا بالحر ولا بالبرد، ولا وعورة الطريق، ولا بعدا لمسافة، ولا الجوع، ولا الظمأ ولما دخلوا الاسلام ضربوا أمثلة رائعة في الصبر، والتحمل وكانوا يرضون باليسير، فكان الواحد منهم يسير الأيام مكتفياً بتمرات يقيم بها صلبه، وقطرات من ماء يرطب بها كبده(1).
7- قوة البدن وعظمة النفس:
واشتهروا بقوة اجسادهم مع عظمة النفس وقوة الروح، وإذا اجتمعت البطولة النفسية الى البطولة الجسمانية صنعتا العجائب، وهذا ماحدث بعد دخولهم في الإسلام.
8- العفو عند المقدرة وحماية الجار:
وكانوا ينازلون اقرانهم وخصومهم، حتى اذا تمكنوا منهم عفوا عنهم وتركوهم ويأبون أن يجهزوا على الجرحى، وكانوا يرعون حقوق الجيرة، ولاسيما رعاية النساء والمحافظة على العرض قال شاعرهم:
وأغضُّ طرفي إن بدت لي جارتي
... ... ... ... حتى يواري جارتي مأواها
وكانوا إذا استجار أحد الناس بهم أجاروه، وربما ضحوا بالنفس والولد والمال في سبيل ذلك.
كانت هذه الفضائل، والأخلاق الحميدة رصيداً ضخماً في نفوس العرب، فجاء الاسلام فنماها وقواها، ووجهها وجهة الخير والحق، فلاعجب إذا كانوا انطلقوا من الصحارى كما تنطلق الملائكة الاطهار، فتحوا الأرض، وملأوها إيماناً بعد أن ملئت كفراً، وعدلاً بعد أن ملئت جوراً، وفضائل بعد أن عمتها الرذائل، وخيراً بعد أن طفحت شراً(2).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/96،97).
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/97).(3/36)
هذه بعض أخلاق المجتمع الذي نشأ فيه الانسان العربي فهو أفضل المجتمعات، لهذا اختير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واختير له هذا المجتمع العربي، وهذه البيئة النادرة، وهذا الوسط الرفيع مقارنة بالفرس والروم والهنود واليونان، فلم يختر من الفرس على سعة علومهم ومعارفهم ولا من الهنود على عمق فلسفاتهم، ولا من الرومان على تفننهم ، ولا من اليونان على عبقرية شاعريتهم وخيالهم، وإنما اختير من هذه البيئة البكر، لأن هؤلاء الأقوام وإن كانوا على ماهم عليه وماهم فيه من علوم ومعارف، إلا أنهم لم يصلوا الى ماوصل إليه العرب من سلامة الفطرة، وحرية الضمير، وسمو الروح(1).
المبحث الرابع
أهم الاحداث قبل مولد الحبيب المصطفى
أراد الله سبحانه وتعالى أن يرحم البشرية ويكرم الإنسانية فحان وقت الخلاص بمبعث الحبيب - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن نشرع في بيان ميلاده الكريم ونشأته العزيزة، ورعاية الله له قبل نزول الوحي عليه وسيرته العطرة قبل البعثة، نريد أن نتحدث عن الآيات العظيمة، والأحداث الجليلة التي سبقت ميلاده عليه الصلاة والسلام، فقد سبق مولده الكريم أموراً عظيمة دلت على اقتراب تباشير الصباح.
إن من سنن الله في الكون أن الأنفراج يكون بعد الشدة، والضياء يكون بعد الظلام، واليسر بعد العسر(2).
ومن أهم هذه الأحداث:
أولاً: قصة حفر عبدالمطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم - لزمزم:
ذكر الشيخ ابراهيم العلي في كتابه القيم صحيح السيرة النبوية رواية صحيحة في قصة حفر عبدالمطلب لزمزم من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: (قال عبدالمطلب: إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال لي: احفر طيبة(3) قلت: وما طيبة؟ قال: ثم ذهب عني.
__________
(1) انظر: نظرات في السيرة للإمام حسن البنا، ص14.
(2) انظر: هذا الحبيب يامحب، للجزائري، ص51.
(3) طيبة: مشتقة من الطيب، وبه سميت المدينة.(3/37)
قال: فلما كان الغد رجعت الى مضجعي، فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برّة(1)، قال: قلت وما برّة؟ قال: ثم ذهب عني.
فلما كان الغد رجعت الى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة(2). قال: قلت: وما المضنونة؟ قال: ثم ذهب.
فلما كان الغد رجعت الى مضجعي، فنمت فيه فجائني فقال: احفر زمزم. قال: قلت: وما زمزم؟ قال لاتنرف أبداً ولا تذم(3)، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم(4)، عند قرية النمل(5).
قال: فلما بين شأنها، ودلّ على موضعها، وعرف أنه قد صدقت، غدا بمعوله(6) ومعه ابنه الحارث بن عبدالمطلب، وليس معه يومئذ ولد غيره، فحفر فيها، فلما بدا لعبد المطلب الطيّ(7) كبَّر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: ياعبدالمطلب إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقاً، فأشركنا معك فيها. قال: ماأنا بفاعل، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم، وأعطيته من بينكم. قالوا له: فأنصفنا، فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها، قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه. قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم، قال: نعم، وكانت بأشراف الشام.
__________
(1) برة: مشتقة من البر، والبر: هو الخير والطهارة.
(2) المضنونة:الغالية النفيسة التي يضن بمثلها، أي يُبخل.
(3) لا تترف: أي لايفرغ ماؤها ولا يلحق قعرها.
(4) الغراب الأعصم في ساقيه بياض.
(5) قرية النمل: المكان الذي يجتمع فيه النمل.
(6) المعول: الفأس.
(7) الطي: حافة البئر.(3/38)
فركب عبدالمطب ومعه نفر من بني أمية، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، فخرجوا والأرض إذا ذاك مفاوز، حتى إذا كانوا ببعضها نفد ماء عبدالمطلب وأصحابه، فعطشوا حتى استيقنوا بالهلكة، فاستسقوا من كانوا معهم فابوا عليهم، وقالوا: إنا بمفازة(1) وإنا نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم. فقال عبدالمطلب: إني أرى أن يحفر كلّ رجل منكم حفرته لنفسه بمالكم الآن من القوة، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واره، حتى يكون آخرهم رجلاً واحداً، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعه. فقالوا: نِعمَ ماأمرت به.
فحفر كل رجل لنفسه حفرة، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً. ثم إن عبدالمطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا ضرب في الأرض، ولا نبتغي لأنفسنا لعجز، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد، ارتحلوا. فارتحلوا حتى إذا بعث(2) عبدالمطلب راحلته انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب، فكبّر عبدالمطلب، وكبر أصحابه، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه، واستسقوا حتى ملأوا أسقيتهم، ثم دعا قبائل قريش -وهم ينظرون إليهم في جميع هذه الأحوال- فقال: هَلُّموا الى الماء فقد سقانا الله، فجاءوا فشربوا، واستقوا كلهم، ثم قالوا: قد والله قضى لك علينا، والله مانخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فارجع الى سقايتك راشد. فرجع ورجعوا معه ولم يصلوا الى الكاهنة، وخلوَّ بينه وبين زمزم).
__________
(1) المفازة : جمعها مفاوز: القفار.
(2) بعث راحلته: اقامها من بروكها.(3/39)
قال ابن اسحاق: فهذا مابلغني عن علي بن أبي طالب في زمزم(1)) وقد ورد في فضل ماء زمزم أحاديث كثيرة فمنها. مارواه مسلم في صحيحه في قصة إسلام أبي ذر - رضي الله عنه -: (إنها طعامُ طُعْم)(2).
وروى الدارقطني والحاكم وصححه عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ماء زمزم لما شرب له: إن شربته لتستشفي شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله، وهي هزمة(3) جبريل، وسقيا الله إسماعيل) قال الشيخ محمد ابو شهبة رحمه الله(4): ومهما يكن من شيء فقد صحح الحافظ الدمياطي -وهو من الحفاظ المتأخرين المتقنين. حديث : (ماء زمزم لما شرب له) وأقره الحافظ العراقي)(5).
ثانياً: قصة أصحاب الفيل:
هذه الحادثة ثابتة بالقرآن الكريم والسنّة النبوية، وأتت تفاصيلها في كتب السير والتاريخ، وذكرها المفسرون في كتبهم.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ صدق الله العظيم أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ صدق الله العظيم وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ صدق الله العظيم تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ صدق الله العظيم فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ صدق الله العظيم }(سورة الفيل).
أما إشارات الرسول - صلى الله عليه وسلم - الى الحادث فمنها:
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام: (1/142-155)، السير والمغازي لابن اسحاق ص24،25 تحقيق سهيل زكار، البيهقي في الدلائل (1/93-95) وصرح ابن اسحاق بالسماع فسنده صيحيح، وله شاهد من مرسل الزهري فالحديث صحيح من طريق البيهقي وابن هشام.
(2) مشبع.
(3) هزمة أو همزة: أثر ضربته في الأرض بعقبه، أو جناحه.
(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/158).
(5) مقدمة ابن الصلاح وشرها للحافظ العراقي، ص13.(3/40)
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما خرج زمن الحديبية سار حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت بها راحلته فقال الناس! حَل حَل(1)، فألحت(2) فقالوا: خلأت القصواء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ماخلأت القصواء وماذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل)(3).
__________
(1) كلمة تقال للناقة إذا تركت السير (فتح الباري: 5/335).
(2) ألحت: أي تمادت على عدم القيام وهو من الالحاح، فتح الباري (5/335).
(3) البخاري، الشروط (5/388).(3/41)
وجاء في السيرة النبوية لأبي حاتم مايلي: (كان من شأن الفيل أن ملكاً كان باليمن غلب عليها، وكان أصله من الحبشة يقال له أبرهة، بنى كنيسة بصنعاء فسماها القليس وزعم أنه يَصرف إليها حَج العرب، وحَلف ان يسير الى الكعبة فيهدمها، فخرج ملك من ملوك حِمْيّر فيمن أطاعه من قومه يُقال له ذو نفر فقاتله؛ فهزمه أبرهة وأخذه، فلما أتى به قال له ذو نفر أيها الملك لا تقتلني فإن استبقائي خير لك من قتلي، فاستبقاه، وأوثقه، ثم خرج سائراً يريد الكعبة حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج إليه النفيل بن حبيب الخثعمي ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ النفيل، فقال النفيل: أيها الملك! إني عالم بأرض العرب فلا تقتلني، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة، فاستبقاه وخرج معه يَدله، حتى إذا بلغ الطائف خرج معه مَسعود بن معتب في رجال ثقيف فقال: أيها الملك نحن عبيد لك ليس لك عندنا خلاف وليس بيننا وبينك الذي تريد -يعنون- اللات إنما تريد البيت الذي بمكة، نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه مَولى لهم يُقال له أبو رغال فخرج معهم حتى إذا كان بالمغمس(1) مات أبو رغال وهو الذي رجم قبره وبعث أبرهة من المغمس رجلاً، يقال له الأسود بن مقصود على مقدمة خيله، فجمع إليه أهل الحرم وأصاب لعبدالمطلب مائتي بعير بالأرك، ثم بعث أبرهة حناطة الحميري الى أهل مكة فقال: سل عن شريفها ثم أبلغه أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت، فانطلق حناطة حتى دخل مكة فلقي عبدالمطلب بن هاشم فقال: إن الملك أرسلني إليك ليخبرك أنه لم يأتِ لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الإنصراف عنكم، فقال عبدالمطلب ماعندنا له قتال، فقال سنخلي بينه وبين البيت فإن خلى الله بينه وبينه فوالله مالنا به قوة، قال: فانطلق معي إليه، قال: فخرج معه حتى قدم المعسكر وكان "ذو نفر" صديقاً لعبد
__________
(1) المغمس: مكان قرب مكة في طريق الطائف مات فيه أبو رغال.(3/42)
المطلب فاتاه فقال: ياذا نفر هل عندكم من غناء فيما نزل بنا؟ فقال: ماغناء رجل أسير لا يأمن من أن يقتل بُكرة أو عشية، ولكن سأبعث لك الى أنيس سائس الفيل فامره أن يصنع لك عند الملك مااستطاع من خير ويُعظم خطرك ومنزلتك عنده، قال فأرسل الى انيس فأتاه فقال: إن هذا سيد قريش، صاحب عين مكة الذي يُطعم الناس في السهل والوحوش في الجبال وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه فانفعه، فإنه صديق لي. فدخل أنيس على أبرهة فقال: أيها الملك! هذا سيد قريش وصاحب عين مكة الذي يُطعم الناس في السهل والوحوش في الجبال يستأذن عليك وأنه أحب أن تأذن له، فقد جاءك غير ناصب لك ولا مخالف عليك، فأذن له وكان عبدالمطلب رجلاً عظيماً جسيماً وسيماً، فلما رآه أبرهة عظمه وأكرمه، وكره أن يجلس معه على سريره وأن يجلس تحته، فهبط الى البساط فجلس عليه معه فقال له عبدالمطلب: أيها الملك إنك قد أصبت لي مالاً عظيماً فاردده عليّ، فقال له: لقد أعجبتني حين رأيتك ولقد زهدت فيك، قال: ولمَ؟ قال: جئت الى بيت هو دينك ودين آبائك وعصمتكم ومنعتكم لأهدمه فلم تُكلمني فيه وتكلمني في مائتي بعير لك قال: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه قال: ماكان ليمنعه منى قال: فأنت وذاك قال: فأمر بإبله فرُدت عليه ثم خرج عبدالمطلب وأخبر قريش الخبر وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب، وأصبح ابرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول وعبأ جيشه وقرب فيله وحمل عليه ماأراد أن يحمل وهو قائم فلما حركه وقف وكاد أن يرزم الى الأرض فيبرك، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى، فأدخلوا محاجنه تحت أقرانه ومرافقه فأبى، فوجهوه الى اليمن فهرول، فصرفوه الى الحرم فوقف، ولحق الفيل بجبل من تلك الجبال، فأرسل الله الطير من البحر كالبلسان(1) مع كل طير ثلاثة أحجار: حَجران في رجليه وحَجر في منقاره، ويحملن أمثال الحمص والعدس من الحجارة فإذا غشين القوم أرسلنها عليهم، فلم
__________
(1) البلسان: الزرازير.(3/43)
تُصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك وليس كل القوم أصيب فذلك قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ صدق الله العظيم أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ صدق الله العظيم وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ صدق الله العظيم تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ صدق الله العظيم فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ صدق الله العظيم }(سورة الفيل) وبعث الله على أبرهة داء في جسده، ورجعوا سراعاً يتساقطون في كل بلد، وجعل أبرهة تتساقط أنامله، كلما سقط انملة اتبعها مدة من قيح ودم، فانتهى الى اليمن وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه، ثم مات(1).
وذكر ابن اسحاق رحمه الله في سيرته كما نقله ابن هشام عنه في السير أن عبدالمطلب أخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبدالمطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هم إن العبد يمنع
... ... رحلة فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم
... ... ومحالهم غدوا محالك
إن كنت تاركهم
... ... وقبلتنا فأمر مابدا لك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة، وانطلق هو ومن معه من قريش الى شغف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ماأبرهة فاعل بمكة إذا دخلها، وذكر بعد ذلك ماحدث من هلاك لأبرهة وجيشه(2).
دروس وعبر وفوائد من حادثة الفيل:
1- بيان شرف الكعبة أول بيت وضع للناس، وكيف أن مشركي العرب كانت تعظمه وتقدسه ولا يقدمون عليه شيء وتعود هذه المنزلة الى بقايا ديانة ابراهيم واسماعيل عليهما الصلاة والسلام.
__________
(1) السيرة النبوية لأبي حاتم السبتي، ص34-39. وانظر: السيرة النبوية لابن كثير
(1/ص30-37).
(2) السيرة النبوية لابن هشام مع شرح ابي ذر الخشني (1/84-91).(3/44)
2- حسد النصارى وحقدهم على مكة وعلى العرب الذين يعظمون هذا البيت، ولذلك أراد أبرهة أن يصرف العرب عن تعظيم بيت الله ببناء كنيسة القليس وعلى الرغم من استعماله أساليب الترغيب والترهيب إلا أن العرب أمتنعوا ووصل الأمر الى مداه بأن أحدث في كنيسة القليس أحد الأعراب قال الرازي -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ صدق الله العظيم }: أعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية (إن قيل) لما سماه كيداً وأمره كان ظاهراً، فإنه كان يصرح أن يهدم البيت؟ (قلنا) نعم لكن الذي كان في قلبه شراً مما أظهر، لأنه كان يضمر الحسد للعرب، وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة منهم ومن بلدهم الى نفسه والى بلدته(1).
3- التضحية في سبيل المقدسات:
قام ملك من ملوك حِميَرفي وجه جيش إبرهة ووقع الملك أسيراً، وقام النفيل بن حبيب الخثعمي ومن اجتمع معه من قبائل اليمن فقاتلوا إبرهة إلا أنهم انهزموا أمام الجيش العرمرم وبذلوا دماءهم دفاعاً عن مقدساتهم.
إن الدفاع عن المقدسات والتضحية في سبيلها شيء غريزي في فطرة الانسان.
4- خونة الأمة مخذولون:
فهؤلاء العملاء الذين تعاونوا مع إبرهة وصاروا عيوناً له وجواسيس وأرشدوه الى بيت الله العتيق ليهدمه، لعنوا في الدنيا والآخرة، لعنهم الناس ولعنهم الله سبحانه وتعالى وأصبح قبر أبي رغال رمزاً للخيانة والعمالة وصار ذاك الرجل مبغوضاً في قلوب الناس وكلما مر أحد على قبره رجمه.
5- حقيقة المعركة بين الله وأعدائه:
__________
(1) انظر: تفسير الرازي (32/94).(3/45)
في قول عبدالمطلب زعيم مكة: (سنخلي بينه وبين البيت فإن خلى الله بينه وبينه، فوالله مالنا به قوة) وهذا تقرير دقيق لحقيقة المعركة بين الله وأعدائه فمهما كانت قوة العدو وحشوده فإنها لاتستطيع الوقوف لحظة واحدة أمام قدرة الله وبطشه ونقمته فهو سبحانه واهب الحياة وسالبها في أي وقت شاء(1).
قال القاسمي -رحمه الله- قال القاشاني -رحمه الله-: قصة أصحاب الفيل مشهورة وواقعتهم قريبة من عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي إحدى آيات قدرة الله، وأثر من سخطه على من اجترأ عليه بهتك حرمه(2).
6- تعظيم الناس للبيت وأهله:
ازداد تعظيم العرب لبيت الله الحرام الذي تكفل بحفظه وحمايته من عبث المفسدين، وكيد الكائدين(3)، واعظمت العرب قريشاً، وقالوا: هم أهل الله، قاتل الله عنهم وكفاهم العدو، وكان ذلك آية من الله، ومقدمة لبعثة نبي يبعث من مكة ويطهر الكعبة من الأوثان، ويعيد لها ماكان لها من رفعة وشأن(4).
7- قصة الفيل من دلائل النبوة:
قال بعض العلماء أن حادثة الفيل من شواهد النبوة ودلالاتها ومن هؤلاء:
الماوردي -رحمه الله- : آيات الملك باهرة، وشواهد النبوة ظاهرة، تشهد مباديها بالعواقب فلا يلتبس فيها كذب يصدق، ولا منتحل بحق، وبحسب قوتها وانتشارها يكون بشائرها وإنذارها. ولما دنا مولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعاطرت آيات نبوته، وظهرت آيات بركته، فكان من أعظمها شأناً وأشهرها عياناً وبياناً أصحاب الفيل .. إلى أن قال: وآية الرسول في قصة الفيل أنه كان في زمانه حملاً في بطن أمه بمكة، لأنه ولد بعد خمسين يوماً من الفيل، وبعد موت أبيه في يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، فكانت آية في ذلك من وجهين:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص112.
(2) انظر: محاسن التفسير للقاسمي (17/262).
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص112.
(4) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص92.(3/46)
أحدهما: أنهم لو ظفروا لسبوا واسترقوا، فأهلكهم الله تعالى لصيانة رسوله أن يجري عليه السبي حملاً ووليداً.
والثاني: أنه لم يكن لقريش من التأله مايستحقون به رفع أصحاب الفيل عنهم، وماهم أهل كتاب لأنهم كانوا بين عابد صنم، أو متدين وثن أو قائل بالزندقة، أو مانع من الرجعة، ولكن لما أراد الله تعالى من ظهور الإسلام، تأسياً للنبوة، وتعظيماً للكعبة ... ولما انتشر في العرب ماصنع الله تعالى في جيش الفيل تهيبوا الحرم وأعظموه، وزادت حرمته في النفوس، ودانت لقريش بالطاعة، وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم كيد عدوهم، فزادوهم تشريفاً وتعظيماً، وقامت قريش لهم بالوفادة والسدانة والسقاية والوفادة مال تخرجه قريش في كل عام من أموالهم يصنعون به طعاماً للناس أيام منى، فصاروا أئمة ديانين، وقادة متبوعين، وصار أصحاب الفيل مثلاً في الغابرين(1).
وقال ابن تيمية - رحمه الله - : وكان ذلك عام مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان جيران البيت مشركين يعبدون الأوثان ودين النصارى خير منهم، فعلم بذلك أن هذه الآية لم تكن لأجل جيران البيت حينئذ، بل كان لأجل البيت، أو لأجل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي ولد في ذلك العام عند البيت أو لمجموعهما، وأي ذلك كان فهو من دلائل نبوته(2).
وقال ابن كثير - رحمه الله - عندما تحدث عن حادثة الفيل: .. كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدرة يقول لم ينصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيرتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق، الذي سنشرفه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء(3).
8- حفظ الله للبيت العتقيق:
__________
(1) انظر: أعلام النبوة للماوردي، ص185-189.
(2) انظر: الجواب الصحيح (4/122).
(3) انظر: تفسير ابن كثير (4/548،549).(3/47)
وهي أن الله لم يقدر لأهل الكتاب أبرهة وجنوده - أن يدمروا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة. حتى والشرك يُدنسه، والمشركون هم سدنته ليبقى هذا البيت عتيقاً من سلطان المتسلطين، مصوناً من كيد الكائدين وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حُرة طليقة، لايهيمن عليها سلطان، ولايطغى فيها طاغية ولايهيمن على هذا الدين الذي جاء ليهيمن على الأديان، وعلى العباد، ويقود البشرية ولايقاد، وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يُعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام(1).
ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن، إزاء مانعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من قبل الصليبية العالمية والصهيونية العالمية، ولا تنى أو تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة، فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته من المشركين، سيحفظه إن شاء الله ويحفظ مدينة رسوله من كيد الكائدين ومكر الماكرين(2).
9- جعل الحادثة تاريخٌ للعرب:
استعظم العرب ماحدث لأصحاب الفيل، فأرخوا به، وقالوا وقع هذا عام الفيل وولد فلان عام الفيل ووقع هذا بعد عام الفيل بكذا من السنين، وعام الفيل صادف عام 570م(3).
المبحث الخامس
من المولد النبوي الكريم إلى حلف الفضول
أولاً: نسب النبي صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ، ص113.
(2) في ظلال القرآن (6/3980).
(3) انظر: السيرة النبوية للندوي ، ص93.(3/48)
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف الناس نسباً وأكملهم خَلْقاً وخُلُقاً وقد ورد في شرف نسبه أحاديث صحاح منها مارواه مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:( إن الله عزوجل - اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)(1).
وقد ذكر الإمام البخاري رحمه الله نسب النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقال:( هو أبو القاسم، محمد بن عبدالله، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك بن النضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، ابن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان)(2).
وقال البغوي في شرح السنة بعد ذكر النسب إلى عدنان:( ولا يصح حفظ النسب فوق عدنان )(3).
وقال ابن القيم: بعد ذكر النسب إلى عدنان أيضاً:( إلى هنا معلوم الصحة، متفق عليه بين النسابين، ولاخلاف البته، ومافوق عدنان مختلف فيه، ولاخلاف بينهم أنّ عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام )(4).
وقد جاء عن ابن سعد في طبقاته:( الأمر عندنا الإمساك عما وراء عدنان إلى إسماعيل)(5).
وعن عروة بن الزبير أنه قال:( ماوجدنا من يعرف وراء عدنان ولاقحطان إلا تخرصاً)(6).
قال الذهبي رحمه الله في كتاب السيرة النبوية:( وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام بإجماع الناس لكن اختلفوا فيما بين عدنان وإسماعيل من الآباء)(7).
__________
(1) مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي (4/1782) رقم 2776.
(2) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب مبعث النبي قبل (4/288) رقم 3851.
(3) شرح السنّة 13/193.
(4) زاد المعاد (1/71).
(5) ابن سعد (1/ 58).
(6) نفس المصدر.
(7) السيرة النبوية للذهبي ، ص1.(3/49)
لقد كان - ومازال - شرف النسب له المكانة في النفوس، لأن ذا النسب الرفيع لاتنكر عليه الصدارة، نبوة كانت أو ملكاً، وينكر ذلك على وضيع النسب، فيأنف الكثير من الأنضواء تحت لوائه، ولما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يعد للنبوة هيأ الله تعالى له شرف النسب ليكون مساعداً له على التفاف الناس حوله(1).
إن معدن النبي - صلى الله عليه وسلم - طيب ونفيس، فهو من نسل إسماعيل الذبيح وإبراهيم خليل الله واستجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام وبشارة أخيه عيسى عليه السلام كما حدّث هو عن نفسه، فقال: أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى(2).
وطيب المعدن والنسب الرفيع يرفع صاحبه عن سفاسف الأمور ويجعله يهتم بعاليها وفضائلها والرسل والدعاة يحرصون على تزكية أنسابهم وطهر أصلابهم، ويعرفون عند الناس بذلك فيحمدونهم ويثقون بهم(3).
ومما تبين يتضح لنا من نسبه الشريف، دلالة واضحة على أن الله سبحانه وتعالى ميز العرب على سائر الناس، وفضل قريشاً على سائر القبائل الأخرى، ومقتضى محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، محبة القوم الذين ظهر فيهم والقبيلة التي ولد فيها، لامن حيث الأفراد والجنس بل من حيث الحقيقة المجردة ذلك لأن الحقيقة العربية القرشية، قد شرف كل منها - ولا ريب - بانتساب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها، ولاينافي ذلك مايلحق من سوء بكل من قد انحرف من العرب إو القرشيين، عن صراط الله عزوجل، وانحط عن مستوى الكرامة الإسلامية التي اختارها الله لعباده، لأن هذا الإنحراف أو الإنحطاط من شأنه أن يؤدي بما كان من نسبة بينه وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويلغيها من الاعتبار(4).
__________
(1) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد، ص96.
(2) انظر: الحاكم (2/600).
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس ، ص102.
(4) انظر: فقه السنة للبوطي، ص45.(3/50)
ثانياً: زواج عبدالله بن عبدالمطلب من آمنة بنت وهب ورؤيا آمنة أم النبي - صلى الله عليه وسلم -:
كان عبدالله بن عبدالمطلب من أحب ولد أبيه إليه، ولما نجا من الذبح وفداه عبدالمطلب بمائة من الإبل، زوجه من أشرف نساء مكة نسباً، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب(1).
ولم يلبث أبوه أن توفى بعد أن حملت به آمنة ودفن بالمدينة عند أخواله بني (عدي بن النجار) فإنه كان قد ذهب بتجارة إلى الشام فأدركته منيته بالمدينة وهو راجع، وترك هذه النسمة المباركة، وكأن القدر يقول له: قد انتهت مهمتك في الحياة وهذا الجنين الطاهر يتولى الله عزوجل بحكمته ورحمته تربيته وتأديبه وإعداده لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور.
ولم يكن زواج عبدالله من آمنة هو بداية أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما أول بدء أمرك(2): فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام)(3).
ودعوة إبراهيم عليه السلام هي قوله:{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سورة البقرة، الآية:129).
__________
(1) انظر: وقفات تربوية مع السيرة ، احمد فريد، ص46.
(2) انظر: وقفات تربوية مع السيرة ، ص46.
(3) رواه أحمد (5/262)؛ الحاكم (2/600)، مجمع الزوائد (8/222) وإسناد احمد حسن وله شواهد تقويه، وقال الحاكم صحيح الاسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.(3/51)
وبشرى عيسى: كما أشار إليه قوله عزوجل حاكياً عن المسيح عليه السلام:{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (سورة الصف، الآية:5).
وقوله:( ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام ) قال ابن رجب: (وخروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى مايجيئ به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وزال به ظلمة الشرك منها، كما قال تعالى:{ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ صدق الله العظيم يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صدق الله العظيم } (سورة المائدة، الآيتان:15،16).
وقال ابن كثير:( وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى بن مريم بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها ولهذا جاء في الصحيحن:( لاتزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لايضرهم من خذلهم ولامن خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ) وفي صحيح البخاري وهم بالشام(1).
ثالثاً: ميلاد الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم -:
ولد الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين بلا خلاف، والأكثرون على أنه ليلة الثاني عشر منه(2).
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/184)، رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (8/189) رقم 7311.
(2) انظر: صحيح السيرة النبوية، ابرهيم العلي، ص47.(3/52)
والمجمع عليه أنه عليه الصلاة والسلام ولد عام الفيل(1) وكانت والدته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم(2).
قال أحمد شوقي رحمه الله في مولد الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - :
ولد الهدى فالكائنات ضياءُ
... ... ... وفم الزمان تبسُّم وثناء
الروح، والملأ، الملائك حوله
... ... ... للدين والدنيا به بشراء
والعرش يزهو، والحظيرة تزدهي
... ... ... والمنتهى والسِّدرة العصماء
بك بشَّر الله السماء فزينت
... ... ... وتضوَّعت مِسْكاً بك الغبراء
يوم يتيه على الزمان صباحه
... ... ... ومساؤه بمحمد وضاء
ذعرت عروش الظالمين فزلزلت
... ... ... وعلت على تيجانهم أصداء
والنار خاوية الجوانب حولهم
... ... ... جمعت ذوائبها وغاض الماء
والآي تترى، والخوارق جمة
... ... ... جبريل روّاح بها غدّاء(3)
وقد قال الشاعر الأديب الليبي الأستاذ محمد بشير المغيربي في ذكرى مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عام 1947م في جريدة الوطن الصادرة في بنغازي:
بلغ الزمان من الحياة عتيا
لكنَّ يوماً لايزال فتيا
يمشي على الأحقاب مشية فاتح
في موكب جعل السنين مطيا
تخدت له الأعوام في أيامها
عرشا فأصبح تاجها الأبديا
ومضت به الأجيال خطوات من
بلغ الرشاد وكان قبل صبيا
أعظم بيوم جاء يحمل (رحمة
للعالمين) وعزة ورقيا
ولدت به للكائنات حقيقة
اضحى بها سر الحياة جليا
وأنار في الأولى الطريق إلى الورى
ليسير للأخرى الأنام تقيا
كادت به الدنيا تقول لشمسها
عني فقد رجع الضياء اليا(4)
وقال أيضاً في نادي طرابلس الغرب الثقافي في القاهرة في عام 1949:
مالي ومابي من شمول
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (1/203).
(2) انظر: وقفات تربوية مع السيرة النبوية، ص47.
(3) انظر: ديوان شوقي (1/34،35).
(4) جريدة (الوطن) بنغازي 1947.(3/53)
أشدو على رغم العذول
اني أطالع في السماء
كأنها سفر جليل
وأرى النجوم تمثلت
لي كالملائك في مثول
والبدر خلت شعاعه
وحي الرسالة في نزول
وإذا بصوت من ضمير
الكون مبتهجاً يقول
في مثل هذي الليلة
الغراء قد ولد الرسول
وأشع نور محمد
فوق الروابي والسهول
ملآ الزمان وكان قبل
يهيم في ليل طويل(1)
رابعاً: مرضعاته عليه الصلاة والسلام :
كانت حاضنته - صلى الله عليه وسلم - أم أيمن بركة الحبشية أمة أبيه، وأول من أرضعته ثويبة أمة عمه أبي لهب(2) فمن حديث زينب إبنة أبي سلمة أنّ أمّ حبيبة رضي الله عنها أخبرتها أنها قالت:( يارسول الله، أنكح أختي بنت أبي سفيان، فقال: أو تحبين ذلك؟ فقالت: نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي). فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنّ ذلك لايحل لي. قلت: فإنا نتحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: بنت أم سلمة؟ قلت: نعم. فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حَلَّت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضنَّ عليَّ بناتكن ولا أخواتكن)(3).
وكان من شأن أم أيمن، أم اسامة بن زيد، أنها كانت وصيفة لعبدالله بن عبدالمطلب، وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعد ماتوفي أبوه، فكانت أم أيمن تحضنه، حتى كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعتقها، ثم أنكحها زيد بن حارثة ثم توفيت بعدما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمسة أشهر(4).
1- حليمة السعديّة مرضعته في بني سعد:
__________
(1) سمعتها مشافهة من الشاعر.
(2) انظر: وقفات تربوية مع السيرة النبوية ، ص48.
(3) البخاري، كتاب النكاح، باب (وامهاتكم اللآئي أرضعنكم) رقم 5101.
(4) مسلم، كتاب الجهاد، باب رد المهاجرين الى الأنصار رقم 1771.(3/54)
وهذه حليمة السعدية تقص علينا خبراً فريداً، عن بركات الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - التي مستها في نفسها وولدها، ورعيها وبنتها.
عن عبدالله بن جعفر رضي الله عنهما: قال: (لما ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدمت حليمة بنت الحارث، في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسون الرضعاء بمكة قالت حليمة: فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي، قمراء(1)، ومعي زوجي الحارث بن عبدالعزى، أحد بني سعد بن بكر، ثم أحد بني ناضرة، قد أدمت(2) أتاننا، ومعي بالركب شارف(3) والله ماتبض(4) بقطرة لبن، في سنة شهباء(5) قد جاع الناس حتى خلص إليهم الجهد، ومعي ابن لي، والله ماينام ليلنا، وما أحد في يدي شيئاً أعلله به، إلا أنا نرجو الغيث وكانت لنا غنم، فنحن نرجوها.
فلما قدمنا مكة فما بقي منا أحد إلا عرض عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكرهته، فقلنا: إنه يتيم، وإنما يكرم الظئر، ويحسن إليها الوالد، فقلنا: ماعسى أن تضع بنا أمه أو عمه أو جده، فكلُّ صواحبي أخذ رضيعاً، فلما لم أجد غيره، رجعت إليه، وأخذته، والله مأخذته إلا إني لم أجد غيره، فقلت لصاحبي: والله لأخذنَّ هذا اليتيم من بني عبدالمطلب، فعسى الله أن ينفعنا به، ولا أرجع من بين صواحبي ولا آخذ شيئاً، فقال: قد أصبت.
__________
(1) قمراء: القمرة لون البياض الى الحمرة.
(2) وأدمت : حدثت في ركبها جروح دامية لاصطكاكها.
(3) الشارف: الناقة المسنة.
(4) تبض: لا ترشح قطرة لبن.
(5) شهباء: سنة مجدبة لا خضرة فيها ولا مطر.(3/55)
قالت: فأخذته، فأتيت به الرَّحْلَ، فوالله ماهو إلا أن أتيت به الرَّحْلَ، فأمسيت أقبل ثدياي باللبن، حتى أرويته، وأرويت أخاه، قام أبوه الى شارفنا تلك يلمسها، فإذا هي حافل(1)، فحلبها، فأرواني وروي، فقال: ياحليمة، تعلمين والله لقد أصبنا نسمة مباركة(2)، ولقد أعطى الله عليها مالم نتمنَّ، قالت: فبتنا بخير ليلة، شباعاً، وكنا لا ننام ليلنا مع صبينا.
ثم اغتدينا راجعين الى بلادنا أنا وصواحبي، فركبت أتاني القمراء فحملته معي، فوالذي نفسي حليمة بيده لقطعَتْ الركب(3) حتى إن النسوة ليقلن : أمسكي علينا، أهذه أتانك التي خرجت عليها؟ فقلت: نعم، فقالوا: إنها كانت أدمت حين أقبلنا فما شأنها؟ قالت، فقلت: والله حملت عليه غلاماً مباركاً.
قالت: فخرجنا، فما زال يزيدنا الله في كل يوم خيراً، حتى قدمنا والبلاد سِنةُ، ولقد كان رعاتنا يسرحون ثم يريحون، فتروح أغنام بني سعد جياعاً، وتروح غنمي بطاناً(4)، حفلاً(5)، فنحلب، ونشرب، فيقولون اما شأن غنم الحارث بن عبدالعزى، وغنم حليمة تروح شباعاً حفلاً، وتروح غنمكم جياعاً. ويلكم اسرحوا حيث تسرح غنم رعاؤهم، فيسرحون معهم، فما تروح إلا جياعاً كما كانت، وترجع غنمي كما كانت.
__________
(1) حافل: كثير اللبن.
(2) نسمة: نفس.
(3) قطعت الركب: سبقت الركب.
(4) بطانا: الممتلئة البطون.
(5) حفلاً: كثيرات اللبن.(3/56)
قالت: وكان يشب شباباً ما يشبه أحد من الغلمان، يشب في اليوم شباب السنة، فلما استكمل سنتين أقدمناه مكة، أنا وأبوه، فقلنا: والله لانفارقه أبداً ونحن نستطيع، فلما أتينا أمه، قلنا: أي ظئر! والله ما رأينا صبياً قط أعظم بركة منه، وإنا نتخوف عليه وباء(1) مكة وأسقامها، فدعيه نرجع به حتى تبرئي من دائك، فلم نزل بها حتى أذنت، فرجعنا به، فأقمنا أشهراً ثلاثة أو أربعة فبينما هو يلعب خلف البيوت هو وأخوه في بُهْم له(2)، إذ أتى أخوه يشتدُّ، وأنا وأبوه في البدن، فقال: إن أخي القرشي، أتاه رجلان عليهما ثياب بيض، فأخذاه واضطجعاه، فشقّا بطنه، فخرجت أنا وابوه يشتدُّ، فوجدناه قائماً، قد انتقع لونه(3)، فلما رآنا أجهش إلينا، وبكى، قالت: فالتزمته أنا وأبوه، فضممناه إلينا: مالك بأبي وأمي؟ فقال: أتاني رجلان وأضجعاني، فشقا بطني، ووضعا به شيئاً، ثم رداه كماهو، فقال أبوه: والله ماأرى ابني إلا وقد أصيب، إلحقي بأهله، فرديه إليهم قبل أن يظهر له مانتخوف منه. قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمه، فلما رأتنا أنكرت شأننا، وقالت: مارجعكما به قبل أن أسألكماه، وقد كنتما حريصين على حبسه؟ فقلنا: لا شيء إلا أن قضى الله الرضاعة وسرّنا مانرى، وقلنا: نؤويه كما تحبون أحبّ إلينا، قال: فقالت: إن لكما شأنا فأخبراني ماهو، فلم تدعنا حتى أخبرناها، فقال: كلا والله ، لايصنع الله ذلك به، إن لابني شأنا، أفلا أخبركما خبره، إني حملت به، فوالله ماحملت حملاً قط، كان أخف عليّ منه، ولا ايسر منه، ثم أُريت حين حملته خرج مني نور أضاء منه أعناق الأبل ببصرى -أو قالت: قصور بصرى- ثم وضعته حين وضعته، فوالله ماوقع كما يقع الصبيان، لقد وقع معتمداً بيديه على الأرض رافعاً رأسه الى السماء فدعاه عنكما فقبضه، وانطلقنا)(4)
__________
(1) الوباء: المرض.
(2) البهم: صغار الضأن والماعز.
(3) امتقع لونه: تغير.
(4) أبو يعلى في مجمع الزوائد (8/221)، السيرة النبوية بشرح الخشني: (1/214) من طريق ابن اسحاق وقد صرح ابن اسحاق بالسماع في رواية السيرة، قال الذهبي في السيرة النبوية، ص8: هذا حديث جيد الاسناد وله شواهد تقويها ولذلك فالحديث حسن لشواهده.(3/57)
.
1- دروس وعبر:
أ- بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - على السيدة حليمة! فقد ظهرت هذه البركة على حليمة السعدية في كل شيء، ظهرت في إدرار ثديها وغزارة حليبها، وقد كان لايكفي ولدها، وظهرت بركته في سكون الطفل ولدها، وقد كان كثير البكاء مزعجاً لامه يؤرقها ويمنعها من النوم، وإذا هو شبعان ساكن جعل أمه تنام وتستريح، وظهرت بركته في شياههم العجفاوات التي لاتدر شيئاً وإذا بها تفيض من اللبن الكثير الذي لم يعهد .
ب- كانت هذه البركات من أبرز مظاهر إكرام الله له، وليس أن أكرم بسببه بيت حليمة السعدية التي تشرفت بإرضاعه. وليس من ذلك غرابة ولا عجب(1)، فخلف ذلك حكمة أن يُحب أهل هذا البيت هذا الطفل ويحنوا عليه ويحسنوا في معاملته ورعايته وحضانته، وهكذا كان فقد كانوا أحرص عليه وأرحم به من أولادهم(2).
ج- خيار الله للعبد أبرك وأفضل:
اختارا لله لحليمة هذا الطفل اليتيم وأخذته على مضض لأنه لم تجد غيره، فكان الخير كل الخير فيما اختاره الله، وبانت نتائج هذا الاختيار مع بداية أخذه وهذا درس لكل مسلم بأن يطمئن قلبه الى قدر الله واختياره والرضا به ولا يندم على مامضى ومالم يقدره الله تعالى.
د- أثر البادية في صحة الأبدان وصفا النفوس، وذكاء العقول:
قال الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- : وتنشئة الأولاد في البادية، ليمرحوا في كنف الطبيعة، ويستمتعوا بجوها الطلق وشعاعها المرسل، أدنى الى تزكية الفطرة، وإنماء الأعضاء والمشاعر، وإطلاق الأفكار والعواطف.
إنها لتعاسة أن يعيش أولادنا في شقق ضيقة من بيوت متلاصقة كأنها علب أغلقت على من فيها، وحرمتهم لذة التنفس العميق والهواء المنعش.
__________
(1) فقة السيرة النبوية للبوطي، ص44.
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص105.(3/58)
ولاشك أن اضطراب الأعصاب الذي قارن الحضارة الحديثة يعود
-فيما يعود- الى البعد عن الطبيعة، والإغراق في التصنع. ونحن نقدر لأهل مكة اتجاههم الى البادية لتكون عرصاتها الفساح مدارج طفولتهم. وكثير من علماء التربية يود لو تكون الطبيعة هي المعهد الأول للطفل حتى تتسق مداركه مع حقائق الكون الذي وجد فيه ويبد أن هذا حلم عسر التحقيق(1).
وتعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بادية بني سعد اللسان العربي الفصيح وأصبح فيما بعد من أفصح الخلق، فعندما قال له ابوبكر - رضي الله عنه - يارسول الله مارأيت افصح منك. فقال - صلى الله عليه وسلم -: (وما يمنعني وأنا من قريش وأرضعت من بني سعد)(2).
2- مايستفاد من حادثة شق الصدر:
تعد حادثة شق الصدر التي حصلت له عليه الصلاة والسلام أثناء وجوده في مضارب بني سعد من إرهاصات النبوة ودلائل اختيار الله إياه لأمر جليل(3).
وقد روى الإمام مسلم في صحيحه حادثة شق الصدر في صغره، فعن أنس بن مالك: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه(4)، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون الى أمه -يعني ظئره- فقالوا: إ ن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون.
قال أنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره(5).
__________
(1) انظر: فقه السيرة ، ص60،61.
(2) الروض الأنف للسهيلي (1/188).
(3) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص47.
(4) جمعه وضم بعضه الى بعض (شرح النووي على مسلم 2/216).
(5) مسلم، كتاب الايمان، (1/45) رقم 259.(3/59)
ولا شك أن التطهير من حظ الشيطان هو إرهاص مبكر للنبوة، وإعداد للعصمة من الشر وعبادة غير الله، فلا يحل في قلبه إلا التوحيد الخالص، وقد دلت أحداث صباه على تحقق ذلك فلم يرتكب إثماً ولم يسجد لصنم(1) رغم انتشار ذلك في قريش(2).
وتحدث الدكتور البوطي عن الحكمة في ذلك فقال: يبدو أن الحكمة في ذلك إعلان أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتهييؤه للعصمة والوحي منذ صغره بوسائل مادية، ليكون ذلك أقرب الى إيمان الناس به وتصديقهم برسالته. إنها إذن عملية تطهير معنوي، ولكنها أتخذت هذا الشكل المادي الحسي، ليكون فيه ذلك الإعلان الإلهي بين اسماع الناس وأبصارهم(3) إن إخراج العلقة منه تطهير للرسول - صلى الله عليه وسلم - من حالات الصبا اللاهبة العابثة المستهترة واتصافه بصفات الجد والحزم والاتزان وغيرها من صفات الرجولة الصادقة، كما تدلنا على عناية الله به وحفظه له وأنه ليس للشيطان عليه سبيل(4).
خامساً: وفاة أمه وكفالة جده ثم عمه:
__________
(1) زعم المستشرق نيكلسون أن حديث شق الصدر أسطورة نشأت عن تفسير الآية {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} وانه لو كان لها أصل فعلينا أن نخمن أنها تشير الى نوع من الصرع وهذا الذي زعمه نيكسون سبقه إليه المشركون حين اتهموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنون فنفى الله عنه ذلك {وما صاحبكم بمجنون}.
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/104).
(3) انظر: فقه السيرة النبوية ، ص47.
(4) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص106،107.(3/60)
توفيت أم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة وكانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به الى مكة(1) ودفنت بالأبواء وبعد وفاة أمه كفله جده عبدالمطلب، فعاش في كفالته وكان يؤثره على أبنائه أي أعمام النبي - صلى الله عليه وسلم - - فقد كان جده مهيباً لا يجلس على فراشه أحد من أبنائه مهابة له، وكان أعمامه يتهيبون الجلوس على فراش أبيهم، وكان - صلى الله عليه وسلم - يجلس على الفراش ويحاول أعمامه أن يبعدوه عن فراش ابيهم فيقف الأب الجد بجانبه ويرضى أن يبقى جالساً على فراشه متوسماً فيه الخير وأنه سيكون له شأن عظيم(2)، وكان جده يحبه حباً عظيماً وكان إذا ارسله في حاجة جاء بها وذات يوم أرسله في طلب إبل فاحتبس عليه(3) فطاف بالبيت وهو يرتجل يقول:
رب رد راكبي محمداً
... ... رده لي واصنع عندي يداً
فلما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء بالإبل فقال له: يابني: لقد حزنت عليك كالمرأة حزناً لا يفارقني ابداً(4).
ثم توفي عبدالمطلب والنبي - صلى الله عليه وسلم - في الثامنة من عمره(5)، فأوصى جده به عمه أبا طالب فكفله عمه وحنّ عليه ورعاه(6).
__________
(1) ابن هشام في السيرة (1/168) وقد صرح ابن اسحاق بالتحديث.
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص101.
(3) صحيح السيرة النبوية للعلي، ص56.
(4) أخرجه الطبراني في الكبير: 5524 وصححه ابراهيم العلي في صحيح السيرة النبوية ، ص56.
(5) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص101.
(6) انظر: مدخل لفهم السيرة، اليحيى ، ص119.(3/61)
أرادت حكمة الله أن ينشأ رسوله يتيماً، تتولاه عناية الله وحدها بعيداً عن الذراع التي تمعن في تدليله والمال الذي يزيد في تنعيمه، حتى لا تميل به نفسه الى مجد المال والجاه، وحتى لا يتأثر بما حوله من معنى الصدارة والزعامة، فيلتبس على الناس قداسة النبوة بجاه الدنيا، وحتى لايحسبوه يصطنع الأول ابتغاء الوصول الى الثاني(1) وكانت المصائب التي أصابت النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ طفولته كموت أمه ثم جده بعد أن حرم عطف الأب وذاق كأس الحزن مرة بعد مرة كانت تلك المحن قد جعلته رقيق القلب مرهف الشعور، فالأحزان تصهر النفوس وتخلصها من أدران القسوة والكِبْر والغرور، وتجعلها أكثر رقة وتواضعاً.
وليست وفاة والديه في العشرينات من حياتهما ناشئة عن هزالهما وضعف بنيتهما. ولم يكن محمد - صلى الله عليه وسلم - سليل أبوين سقيمين. وإنما توفاهما الله بعد أن قاما بالمهمة التي وجدا من أجلها، ليتأسى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - كل من فقد والديه أو أحدهما وهو صغير، وليكون أدبه وخلقه مع يتمه دليلاً على أن الله تعالى تولى رعايته وتأديبه، وحتى ينشأ قوي الإرادة ماضي العزيمة غير معتمد على أحد في شؤونه، وحتى لايكون لأبويه أي أثر في دعوته(2) وحتى لا تتدخل يد البشرية في تربيته وتوجيهه، فيكون الله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى تربيته، ولا يتلقى أو يتلقن من مفاهيم الجاهلية وأعرافها شيئاً، إنما يتلقى من لدن الحكيم الخبير فالله سبحانه وتعالى آواه، وسخر له جده وعمه لتهيئة الجانب المادي، بينما كانت التربية النفسية والخلقية والفكرية تعهداً ربانياً، ورعاية إلهية(3).
سادساً: عمله صلى الله عليه وسلم في الرعي:
__________
(1) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص46.
(2) انظر: رسائل الأنبياء، عمر أحمد عمر (3/20).
(3) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص84،85.(3/62)
كان ابو طالب مقلاً في الرزق فعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - برعي الغنم مساعدة منه لعمه، فلقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه الكريمة وعن إخوانه من الأنبياء أنهم رعوا الغنم، أما هو فقد رعاها لأهل مكة وهو غلام وأخذ حقه عن رعيه، ففي الحديث الصحيح قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مابعث الله نبياً إلا رَعى الغنم فقال: أصحابه: وأنت يارسول الله؟ وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط)(1)، إن رعي الغنم كان يتيح للنبي - صلى الله عليه وسلم - الهدوء الذي تتطلبه نفسه الكريمة، ويتيح له المتعة بجمال الصحراء، ويتيح له التطلع الى مظاهر جلال الله في عظمة الخلق، ويتيح له مناجاة الوجود في هدأة الليل وظلال القمر ونسمات الأشجار يتيح له لوناً من التربية النفسية من الصبر والحلم والأناة والرأفة والرحمة والعناية بالضعيف حتى يقوى وزم قوى القوي حتى يستمسك للضعيف ويسير بسيره، وارتياد مشارع الخصب والري وتجنب الهلكة ومواقع الخوف من كل مالا تتيحه حياة أخرى بعيدة عن جو الصحراء وهدوئها وسياسة هذا الحيوان الأليف الضعيف(2).
وتذكرنا رعايته للغنم بأحاديثه - صلى الله عليه وسلم - التي توجه المسلمين للإحسان للحيوانات(3) فكان رعي الغنم للنبي - صلى الله عليه وسلم - دربة ومراناً له على سياسة الأمم.
ورعي الغنم يتيح لصاحبه عدة خصال تربوية منها:
1- الصبر: على الرعي من طلوع الشمس الى غروبها، نظراً لبطئ الغنم في الأكل، فيحتاج راعيها الى الصبر والتحمل، وكذا تربية البشر(4).
__________
(1) البخاري، كتاب الاطعمة (9/488) رقم 2262. والقيراط جزء من الدينار أو الدرهم.
(2) انظر: محمد رسول الله، محمد الصادق عرجون (1/177).
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/106).
(4) انظر: مدخل لفهم السيرة، اليحيى، ص124.(3/63)
إن الراعي لايعيش في قصر منيف ولا في ترف وسرف، وإنما يعيش في جو حار شديد الحرارة، وبخاصة في الجزيرة العربية، ويحتاج الى الماء الغزير ليذهب ظمأه، وهو لايجد إلا الخشونة في الطعام وشظف العيش، فينبغي أن يحمل نفسه على تحمل هذه الظروف القاسية، ويألفها ويصبر عليها(1).
2- التواضع: إذ طبيعة عمل الراعي خدمة الغنم والإشراف على ولادتها، والقيام بحراستها والنوم بالقرب منها، وربما أصابه ماأصابه من رذاذ بولها أو شيء من روثها فلم يتضجر من هذا، ومع المداومة والاستمرار يبعد عن نفسه الكبر والكبرياء ويرتكز في نفسه خلق التواضع(2) وقد ورد في صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر) فقال رجل : يارسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً؟ فقال: (إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمظ الناس)(3).
3- الشجاعة: فطبيعة عمل الراعي الاصطدام بالوحوش المفترسة، فلابد أن يكون على جانب كبير من الشجاعة تؤهله للقضاء ولمنع الوحوش من افتراس أغنامه(4).
4- الرحمة والعطف: إن الراعي يقوم بمقتضى عمله في مساعدة الغنم إن هي مرضت أم كُسرت أو أصيبت، وتدعوا حالة مرضها وألمها الى العطف عليها وعلاجها والتخفيف من آلامها، فمن يرحم الحيوان يكون أشد رحمة بالإنسان وبخاصة إذا كان رسولاً أرسله الله تبارك وتعالى لتعليم الإنسان وإرشاده وإنقاذه من النار وإسعاده في الدارين(5).
5- حب الكسب من عرق الجبين:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص114،115.
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص114.
(3) مسلم رقم 11.
(4) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص114.
(5) انظر: مدخل لفهم السيرة، ص127.(3/64)
إن الله قادر على أن يغني محمداً - صلى الله عليه وسلم - عن رعي الغنم، ولكن هذه تربية له ولأمته للأكل من كسب اليد وعرق الجبين ورعي الغنم نوع من أنواع الكسب باليد وصاحب الدعوة يجب أن يستغني عن ما في أيدي الناس ولا يعتمد بدعوته عليهم، فبذلك تبقى قيمته وترتفع منزلته، ويبتعد عن الشبه والتشكيك فيه، ويتجرد عمله لله تعالى، ويرد شبهة الكفرة الظلمة الذين يصورون للناس ان الأنبياء أرادوا الدنيا بدعوتهم(1) { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} (سورة يونس، الآية: 78).
هكذا يقول فرعون لموسى، ونظراً لسيطرة حب الدنيا وحطامها على عقولهم يظنون أن أي تفكير وأي حركة مراد بها الدنيا، ولهذا قالت الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم مبينة استغنائها عنهم: { وَيَاقَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} (سورة هود: الآية 29).
روى البخاري عن المقدام - رضي الله عنه - عن رسول الله قال: (ما أكل أحدٌ طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)(2).
ولاشك أن الاعتماد على الكسب الحلال تكسب الانسان الحرية التامة والقدرة على قول كلمة الحق والصدع بها(3) وكم من الناس يطأطئون رؤسهم للطغاة، ويسكتون على باطلهم، ويجاورونهم في أهوائهم خوفاً على وظائفهم عندهم(4).
__________
(1) انظر: مدخل لفهم السيرة، ص137.
(2) البخاري، كتاب البيوع رقم 2072.
(3) انظر: مدخل لفهم السيرة ، ص128.
(4) انظر: فقه السيرة للغضبان ، ص93.(3/65)
إن صاحب أي دعوة، لن تقوم لدعوته أي قيمة في الناس إذا ماكان كسبه ورزقه من وراء دعوته أو على أساس من عطايا الناس وصدقاتهم، ولذا كان صاحب الدعوة الاسلامية أحرى الناس كلهم بأن يعتمد في معيشته على جهده الشخصي أو مورد شريف لا استجداء فيه حتى لاتكون عليه لأحد من الناس منة أو فضل في دنياه فيعوقه ذلك من أن يصدع بكلمة الحق في وجهه غير مبالٍ بالموقع الذي قد تقع من نفسه.
وهذا هو المعنى وإن لم يكن قد خطر في بال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الفترة، إذ أنه لم يكن يعلم بما سيوكل إليه من شأن في الدعوة والرسالة الإلهية، غير ان هذا المنهج الذي هيأه الله له ينطوي على هذه الحكمة ويوضح أن الله تعالى قد أراد أن لايكون في شيء من حياة الرسول قبل البعثة مايعرقل سبيل دعوته أو يؤثر عليها أي تأثير سلبي، فيما بعد البعثة(1).
إن إقبال النبي - صلى الله عليه وسلم - على رعي الأغنام لقصد كسب القوت والرزق يشير الى دلائل هامة في شخصيته المباركة منها؛ الذوق الرفيع والاحساس الدقيق اللذان جمّل الله تعالى بها نبيه - صلى الله عليه وسلم -. لقد كان عمّه يحوطه بالعناية التامة، وكان له في الحنّو والشفقة كالأب الشفوق، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - ماإن آنس في نفسه القدرة على الكسب حتى أقبل يكتسب، ويتعب نفسه لمساعدة عمه في مؤونة الإنفاق وهذا يدل على شهامة في الطبع، وبرّ في المعاملة، وبذل للوسع(2)، والدلالة الثانية تتعلق ببيان نوع الحياة التي يرتضيها الله تعالى لعباده الصالحين في دار الدنيا، لقد كان سهلاً على الله أن يهيئ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في صدر حياته، من أسباب الرفاهية ووسائل العيش مايغنيه عن الكدح ورعاية الأغنام سعياً وراء الرزق.
__________
(1) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص50.
(2) نفس المصدر، ص50.(3/66)
ولكن الحكمة الربانية تقتضي منا أن نعلم أن خير مال الانسان ما اكتسبه بكدّ يمينه ولقاء مايقدمه من الخدمة لمجتمعه وبني جنسه، وشر المال ما أصابه الانسان وهو مستلق على ظهره دون أن يرى أي تعب في سبيله، ودون أن يبذل أي فائدة للمجتمع في مقابله(1).
سابعاً: حفظ الله تعالى لنبيه قبل البعثة:
إن الله تعالى صان نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن شرك الجاهلية وعبادة الأصنام روى الإمام أحمد في مسنده عن هشام بن عروة عن أبيه قال: حدثني جار لخديجة أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول لخديجة : أي خديجة والله لا أعبد اللات والعزى. قال: كان صنمهم التي كانوا يعبدون ثم يضطجعون(2)، وكان لا يأكل ماذبح على النصب ، ووافقه في ذلك زيد بن عمرو بن نفيل(3).
__________
(1) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص50.
(2) انظر: وقفات تربوية، أحمد فريد، ص51.
(3) نفس المصدر، ص51.(3/67)
وقد حفظه الله تعالى في شبابه من نزعات الشباب ودواعيه التي تنزع إليها الشبوبية بطبعها ولكنها لا تلائم وقار الهداة وجلال المرشدين(1)، فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ماهممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهموّن به، إلا مرتين من الدهر، كلتيهما يعصمني الله منهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام أهله يرعاها: (أبصر إلي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة، كما يسهر الفتيان، قال: نعم، فخرجت، فجئت أدنى دار من دور مكة، سمعت غناء، وضرب دفوف، ومزامير، فقلت: ماهذا؟ فقالوا: فلان تزوج فلانة، لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا حر الشمس فرجعت فقال: مافعلت؟ فأخبرته. ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ففعل، فخرجت، فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ماقيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مسُّ الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي فقال: فما فعلت؟ قلت: مافعلت شيئاً. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فوالله ماهممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته(2).
وهذا الحديث يوضح لنا حقيقتين كل منهما على جانب كبير من الأهمية:
1- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متمتعاً بخصائص البشرية كلها، وكان يجد في نفسه مايجده كل شاب من مختلف الميولات الفطرية التي اقتضت حكمة الله أن يجبل الناس عليها، فكان يحس بمعنى السمر واللهو ويشعر بما في ذلك من متعة، وتحدثه نفسه لو تمتع بشيء من ذلك كما يتمتع الآخرون.
2- أن الله عزوجل قد عصمه مع ذلك عن جميع مظاهر الانحراف وعن كل مالايتفق مع مقتضيات الدعوة التي هيأه الله لها(3).
__________
(1) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (1/51).
(2) صحيح السيرة النبوية، ابراهيم العلي، ص57.
(3) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص50،51.(3/68)
ثامناً: لقاء الراهب بحيرا بالرسول وهو غلام:
خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا(1) على الراهب(2)، هبطوا فحلوا رحالهم(3)، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يسيرون، فلا يخرج إليهم، ولايلتفت.
فبينما هم يحلون رحالهم جعل الراهب يتخللهم(4) حتى جاء فأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ماعلمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خرّ(5) ساجداً، ولايسجدان إلا لنبيّ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف(6) كتفه مثل التفاحة.
ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به، وكان هو في رعية الإبل(7) قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة(8) تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فئ الشجرة، فلما جلس مال فئ الشجرة(9) عليه، فقال: انظروا إلى فئ الشجرة مال عليه.
قال: فبينما هو قائم عليهم، وهو يناشدهم(10) أن لايذهبوا به إلى الروم فإن الروم إذا عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفت فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم، فاستقبلهم، فقال: ماجاء بكم؟ قالوا: جاءنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبقى طريق إلا بعث إليه بأناس، وإنا قد أخبرنا خبره، بعثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلفكم أحد هو خير منكم؟
قالوا: إنما اخترنا خيره لك لطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. قال: فبايعوه وأقاموا معه.
__________
(1) أشرفوا: طلعوا.
(2) الرهب : زاهد النصارى.
(3) حلو رحالهم: أي انزولها وفتحوها.
(4) يتخللهم : يمشي بينهم.
(5) خر: سقط.
(6) الغضروف: رأس لوح الكتف.
(7) رعية الأبل: رعايتها.
(8) عمامة : السحابة.
(9) مال في الشجرة عليه: مال ظلها.
(10) يناشدهم: يقسم عليهم.(3/69)
قال: أنشدكم الله أيكم وليه(1) ؟ قالوا: أبو طالب فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب(2).
ومما يستفاد من قصة بحيرا عدة أمور منها:
1- إن الصادقين من رهبان أهل الكتاب يعلمون أن محمداً - - صلى الله عليه وسلم - - هو الرسول للبشرية، وعرفوا ذلك لما وجدوه من إمارات وأوصاف عنه في كتبهم.
2- إثبات سجود الشجر والحجر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتظليل الغمام له وميل فئ الشجرة عليه.
3- إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استفاد من سفره وتجواله مع عمه وبخاصة من أشياخ قريش، حيث اطلع على تجارب الآخرين وخبرتهم، والاستفادة من آرائهم، فهم أصحاب خبرة، ودراية، وتجربة لم يمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في سنه تلك.
4- حذر بحيرا من النصارى، وبين أنهم إذا علموا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سيقتلونه وناشد عمه وأشياخ مكة ألا يذهبوا به إلى الروم فإن الروم إذا عرفوه بالصفة يقتلونه، لقد كان الرومان على علم بأن مجئ هذا الرسول سيقضي على نفوذهم الاستعماري في المنطقة، ومن ثم فهو العدو الذي سيقضي على مصالح دولة روما، ويعيد هذه المصالح إلى أربابها، وهذا مايخشاه الرومان.
تاسعاً: حرب الفجار:
__________
(1) ايكم وليه: قريبه.
(2) انظر: صحيح السيرة النبوية ، ص58،59.(3/70)
اندلعت هذه الحرب بين قريش ومن معهم من كنانة وبين هوازن وسببها أن عروة الرحّال بن عتبة ابن هوازن أجار لطيمة(1) للنعمان ابن المنذر إلى سوق عكاظ. فقال البرَّاض بن قيس ابن كنانة اتجيرها على كنانة؟ قال نعم وعلى الخلق فخرج بها عروة، وخرج البراض يطلب غفلته حتى قتله، وعلمت بذلك كنانة فارتحلوا وهوازن لاتشعر بهم. ثم بلغهم الخبر، فاتبعوهم، فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل ودخلوا الحرم، فأمسكت عنهم هوازن. ثم التقوا بعد هذا اليوم أياماً وعاونت قريش كنانة(2) وشهد محمد - صلى الله عليه وسلم - بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم.
وسميت يوم الفجار بسبب ما استحل فيه من حرمات مكة التي كانت مقدسة عند العرب(3).
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - عن تلك الحرب (كنت أُنبِّل على أعمامي). أي أرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها(4).
وكان - صلى الله عليه وسلم - حينئذ ابن أربع عشرة أو خمس عشر سنة، وقيل ابن عشرين، ويرجح الأول أنه كان يجمع النبال، ويناولها لأعمامه، مما يدل على حداثة سنه.
وبذلك اكتسب الجرأة والشجاعة، والإقدام، وتمرن على القتال منذ ريعان شبابه، وهكذا انتهت هذه الحرب التي كثيراً ماتشبه حروب العرب تبدؤها، حتى ألف الله بين قلوبهم، وأزاح عنهم هذه الضلالات بانتشار نور الإسلام بينهم(5).
عاشراً: حلف الفضول:
__________
(1) اللطيمة: الجمال التي تحمل الطيب والبز والتجارة.
(2) قريش فرع من كنانة.
(3) وقفات تربوية مع السيرة النبوية، ص53.
(4) السيرة النبوية لابن هشام (1/221-224) السيرة الحلبية (1/127-129).
(5) انظر: وقفات تربوية ، ص53.(3/71)
كان حلف الفضول بعد رجوع قريش من حرب الفجار، وسببه أن رجلاً من زبيد(1) قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاص بن وائل، ومنعه حقه فاستعدى عليه الزبيدي أشراف قريش، فلم يعينوه لمكانة العاص فيهم، فوقف عند الكعبة واستغاث بآل فهر وأهل المروءة ونادى بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته
... ... ... ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته
... ... ... ياللرجال وبين الحِجر والحَجَر
إن الحرام لم تمت كرامته
... ... ... ولاحرام لثوب الغادر الفجِر(2)
فقام الزبير بن عبدالمطلب فقال: مالهذا مترك. فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وبنو تَيْم بن مرة في دار عبدالله بن جُدْعان فصنع لهم طعاماً، وتحالفوا في شهر حرام، وهو ذو القعدة، فتعاقدوا وتحالفوا بالله ليكونُنّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يُرد إليه حقه مابلّ بحرٌ صوفة، ومابقي جَبَلاً ثبير وحراء مكانهما(3).
ثم مشوا إلى العاص بن وائل، فانتزعوا منه سلعة الزبيدي، فدفعوها إليه.
وسمَّت قريش هذا الحلف حلف الفضول وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر.
وفي هذا الحلف قال الزبير بن عبدالمطلب:
إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا
... ... ... ألا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا
... ... ... فالجار والمعتر(4) فيهم سالم
وقد حضر هذا الحلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي هدموا به صرح الظلم، ورفعوا به منار الحق، وهو يعتبر من مفاخر العرب وعرفانهم لحقوق الإنسان(5) وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم، وأني أنكثه(6).
__________
(1) زبيد: بلد باليمن.
(2) انظر: الروض الأنف للسهيلي (1/155،156).
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/213).
(4) المعتر: الزائر من غير البلاد.
(5) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/214).
(6) صحيح السيرة النبوية ، ابراهيم العلي، ص59 وصححه الألباني.(3/72)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ( لقد شهدت في دار عبدالله بن جُدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النّعم, ولو دعيت به في الإسلام لأجبت )(1).
( دروس وعبر وفوائد:
1- إن العدل قيمة مطلقة وليست نسبية، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يظهر اعتزازه بالمشاركة في تعزيز مبدأ العدل قبل بعثته بعقدين، فالقيم الإيجابية تستحق الإشادة بها حتى لو صدرت من أهل الجاهلية(2).
2- كان حلف الفضول واحة في ظلام الجاهلية وفيه دلالة بينة على أن شيوع الفساد في نظام أو مجتمع لايعني خلوه من أي فضيلة، فمكة مجتمع جاهلي هيمنت عليه عبادة الأوثان والمظالم والأخلاق الذميمة كالظلم والزنا والربا ومع هذا كان فيه رجال أصحاب نخوة ومروءة يكرهون الظلم ولايقرونه وفي هذا درس عظيم للدعاة في مجتمعاتهم التي لاتحكم الإسلام، أو يحارب الإسلام(3).
3- إن الظلم مرفوض بأي صورة، ولايشترط الوقوف ضد الظالمين فقد عندما ينالون من الدعاة إلى الله، بل مواجهة الظالمين قائمة، ولو وقع الظلم على أقل الناس(4) إن الإسلام يحارب الظلم ويقف بجانب المظلوم دون النظر إلى لونه ودينه ووطنه وجنسه(5).
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/134) فقه السيرة للغضبان، ص102.
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/112).
(3) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص110.
(4) انظر: فقه السيرة للغضبان، ص110.
(5) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص121.(3/73)
4- جواز التحالف والتعاهد على فعل الخير وهو من قبيل التعاون المأمور به في القرآن الكريم قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (سورة المائدة، آية: 2). ويجوز للمسلمين أن يتعاقدوا في مثل هذا الحال، لأنه تأكيد لشيء مطلوب شرعاً، على ألا يكون ذلك شبيهاً بمسجد الضرار، بحيث يتحول التعاقد إلى نوع من الحزبية الموجهة ضد مسلمين آخرين ظلماً وبغياً، وأما تعاقد المسلمين مع غيرهم على دفع ظلم أو في مواجهة ظالم، فذلك جائز لهم، على أن تلحظ في ذلك مصلحة الإسلام والمسلمين في الحاضر والمستقبل، وفي هذا الحديث دليل(1)، والدليل فيه قوله - صلى الله عليه وسلم - : (ما أحب أن لي به حمر النعم )(2) لما يحقق من عدل، ويمنع من ظلم، أو النكث به مقابل حمر النعم. وقوله - صلى الله عليه وسلم - :( ولو دعيت به في الإسلام لأجبت)(3) طالما أنه يردع الظالم عن ظلم وقد بين - صلى الله عليه وسلم - استعداده للإجابة بعد الإسلام لمن ناداه بهذا الحلف(4).
__________
(1) انظر: الأساس في السنة وفقها السيرة النبوية (1/171،172).
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/134).
(3) نفس المصدر.
(4) انظر: الأساس في السنة (4/172).(3/74)
5- وعلى المسلم أن يكون في مجتمعه إيجابياً فاعلاً، لا أن يكون رقماً من الأرقام على هامش الأحداث في بيئته ومجتمعه، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - محط أنظار مجتمعه، وصار مضرب المثل فيهم، حتى ليلقبوه بالأمين وتهفوا إليه قلوب الرجال والنساء على السواء - بسبب الخلق الكريم الذي حبا الله تعالى به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ومازال يزكو وينمو حتى تعلقت قلوب قومه وهذا يعطينا صورة حية عن قيمة الأخلاق في المجتمع، وعن احترام صاحب الخلق ولو في المجتمع المنحرف(1).
المبحث السادس
تجارته لخديجة وزواجه منها وأهم الأحداث الى البعثة
أولاً: تجارته لخديجة وزواجه منها:
كانت خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أرملة(2) ذات شرف ومال، تستأجر الرجال ليتجروا بمالها، فلما بلغها عن محمد صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه عرضت عليه أن يخرج في مالها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ماتعطي غيره من التجار، فقبل وسافر معه غلامها ميسرة، وقدما الشام، وباع محمد سلعته التي خرج بها، واشترى ماأراد من السلع، فلما رجع إلى مكة وباعت خديجة ما أحضره لها تضاعف مالها.
__________
(1) انظر: فقه السيرة للغضبان، ص110،111.
(2) تزوجها عتيق بن عائذ ثم مات عنها فتزوجها ابوهالة ومات أيضاً.(3/75)
وقد حصل محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذه الرحلة على فوائد عظيمة بالإضافة إلى الأجر الذي ناله، إذ مر بالمدينة التي هاجر إليها من بعد وجعلها مركزاً لدعوته، وبالبلاد التي فتحها ونشر فيها دينه كما كانت رحلته سبباً لزواجه من خديجة بعد أن حدثها ميسرة عن سماحته وصدقه وكريم أخلاقه(1)، ورأت خديجة في مالها البركة مالم تر قبل هذا وأخبرت بشمائله الكريمة ووجدت ضالتها المنشودة فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منبه وهذه ذهبت إليه تفاتحه أن يتزوج خديجة(2) فرضى بذلك وعرض ذلك على أعمامه، فوافقوا كذلك، وخرج معه عمه حمزة بن عبدالمطلب فخطبها إليه وتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصدقها عشرين بَكرة، وكانت أول إمرأة تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت رضي الله عنها(3)، وقد ولدت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلامين وأربع بنات. وابناه هما:
القاسم، و به كان - صلى الله عليه وسلم - يكنى وعبدالله، ويلقب الطاهر والطيب.
وقد مات القاسم بعد أن بلغ سناً تمكنه من ركوب الدابة، ومات عبدالله وهو طفل، وذلك قبل البعثة أما بناته فهن: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة. وقد أسلمن وهاجرن إلى المدينة وتزوجن(4). هذا وقد كان عمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين تزوج خديجة رضي الله عنها خمساً وعشرين سنة وكان عمرها أربعين سنة(5).
( دروس وعبر وفوائد:
__________
(1) انظر: رسالة الأنبياء، عمر أحمد عمر (3/27).
(2) انظر: مواقف تربوية، ص56.
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص122.
(4) انظر: رسالة الأنبياء (3/28).
(5) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص122.(3/76)
1- إن الأمانة والصدق أهم مواصفات التاجر الناجح، وصفة الأمانة والصدق في التجارة في شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - هي التي رغبت السيدة خديجة في أن تعطيه مالها ليتاجر به ويسافر به إلى الشام، فبارك الله لها في تجارتها وفتح الله لها من أبواب الخير مايليق بكرم الكريم.
2- إن التجارة مورد من موارد الرزق التي سخرها الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وقد تدرب النبي - صلى الله عليه وسلم - على فنونها، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن التاجر الصدوق الأمين في هذا الدين يُحشر مع الصديقين والشهداء والنبيين، وهذه المهنة مهمة للمسلمين ولايقع صاحبها تحت إرادة الآخرين واستعبادهم وقهرهم، وإذلالهم فهو ليس بحاجتهم بل هم في حاجة إليه وبحاجة إلى خبرته وأمانته وعفته.
3- كان زواج الحبيب المصطفى للسيدة خديجة بتقدير الله تعالى ولقد اختار الله سبحانه وتعالى لنبيه زوجة تناسبه وتؤازره، وتُخفف عنه مايصيبه، وتعينه على حمل تكاليف الرسالة وتعيش همومه(1).
قال الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - : وخديجة مثل طيب للمرأة التي تكمل حياة الرجل العظيم، إن أصحاب الرسالات يحملون قلوباً شديدة الحساسية، ويلقون غُبناً بالغاً من الواقع الذي يريدون تغييره، ويقاسون جهاداً كبيراً في سبيل الخير الذي يريدون فرضه وهم أحوج مايكونون إلى من يتعهد حياتهم الخاصة بالإيناس والترفيه، وكانت خديجة سباقة إلى هذه الخصال، وكان لها في حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - أثر كريم(2).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/122،123).
(2) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص75.(3/77)
4- نرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذاق مرارة فقد الأبناء، كما ذاق من قبل مرارة فقد الأبوين وقد شاء الله - وله الحكمة البالغة - أن لايعيش له - صلى الله عليه وسلم - أحد من الذكور حتى لايكون مدعاة لافتتان بعض الناس بهم، وادّعائهم لهم النبوة، فأعطاه الذكور تكميلاً لفطرته البشرية وقضاء لحاجات النفس الإنسانية، ولئلا يتنقّص النبي في كمال رجولته شاني، أو يتقوّل عليه متقول، ثم أخذهم في الصغر، وأيضاً ليكون ذلك عزاء وسلوى للذين لايُرزقون البنين، أو يُرزقون ثم يموتون، كما أنه لون من ألوان الإبتلاء، وأشد الناس بلاء الأنبياء(1)، وكأن الله أراد للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل الرقة الحزينة جزءاً من كيانه: فإن الرجال الذين يسوسون الشعوب لايجنحون إلى الجبروت إلا إذا كانت نفوسهم قد طبعت على القسوة والأثرة وعاشت في أفراح لايخامرها كدر، أما الرجل الذي خبر الآلام فهو أسرع الناس إلى مواساة المحزونين ومداواة المجروحين(2).
5- يتضح للمسلم من خلال قصة زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة خديجة، عدم اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسباب المتعة الجسدية ومكملاتها، فلو كان مهتماً بذلك كبقية الشباب لطمع بمن هي أقل منه سناً أو بمن لا تفوقه في العمر، وإنما رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - لشرفها ومكانتها في قومها فقد كانت تلقب في الجاهلية بالعفيفة الطاهرة.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/223،224).
(2) انظر: فقه السيرة، للغزالي، ص78.(3/78)
6- وفي زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من السيدة خديجة مايلجم ألسنة الحاقدين، وأقلام الحاقدين على الإسلام وقوة سلطانه من المستشرقين وعبيدهم العلمانيين الذين ظنوا أنهم وجدوا في موضوع زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - مقتلاً يصاب منه الإسلام وصوّروا النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة الرجل الشهواني الغارق في ذاته وشهواته، فنجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاش إلى الخامسة والعشرين من عمره في بيئة جاهلية، عفيف النفس، دون أن ينساق في شيء من التيارات الفاسدة التي تموج حوله، كما أنه تزوج من امرأة لها مايقارب ضعف عمره، وعاش معها دون أن تمتد عينه إلى شيء مما حوله وإن من حوله الكثير وله إلى ذلك أكثر من سبيل، إلى أن يتجاوز مرحلة الشباب، ثم الكهولة، ويدخل في سن الشيوخ، وقد ظل هذا الزواج قائماً حتى توفيت خديجة عن خمسة وستين عاماً، وقد ناهز النبي عليه الصلاة والسلام الخمسين من العمر دون أن يفكر خلالها بالزواج بأي إمرأة أخرى، ومابين العشرين والخمسين من عمر الإنسان هو الزمن الذي تتحرك فيه رغبة الاستزادة من النساء والميل إلى تعدد الزوجات للدوافع الشهوانية.
ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفكر في هذه الفترة بأن يضم إلى خديجة مثلها من النساء: زوجة أو أمة، ولو أراد لكان الكثير من النساء والإماء طوع بنانه.
أما زواجه بعد ذلك من السيدة عائشة وغيرهن من أمهات المؤمنين، فإن لكل منهن قصة، ولكل زواج حكمة وسبب يزيدان في إيمان المسلم بعظمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ورفعة شأنه وكمال أخلاقه(1).
ثانياً: اشتراكه في بناء الكعبة الشريفة:
__________
(1) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي ، ص53،54.(3/79)
لما بلغ محمد - صلى الله عليه وسلم - خمساً وثلاثين سنة اجتمعت قريش لتجديد بناء الكعبة لما أصابها من حريق وسيل جارف صدّع جدرانها. وكانت لاتزال كما بناها إبراهيم عليه السلام رضما(1) فوق القامة، فأرادوا هدمها ليرفعوها ويسقفوها ولكنهم هابوا هدمها، وخافوا منه، فقال الوليد بن المغيرة أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول، ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم نزغ، ولانريد إلا الخير.
وهدم من ناحية الركني: فتربص الناس تلك الليلة وقالوا: ننظر، فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ماصنعنا، فأصبح الوليد غادياً يهدم، وهدم الناس معه حتى انتهوا إلى حجارة خضرة كالأسمنة(2) آخذ بعضها ببعض.
وكانوا قد جزؤوا العمل وخصوا كل قبيلة بناحية واشترك سادة قريش وشيوخها في نقل الحجارة ورفعها وقد شارك النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمه العباس في بناء الكعبة وكانا ينقلان الحجارة. فقال العباس للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة، فخر إلى الأرض(3)، وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق فقال: إزاري إزاري، فشد عليه إزاره(4) فلما بلغوا موضع الحجر الأسود اختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، وكادوا يقتتلون فيما بينهم، لولا أن أبا أمية بن المغيرة قال: يامعشر قريش! اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب المسجد. فلما توافقوا على ذلك دخل محمد - صلى الله عليه وسلم - فلما رأوه قالوا: هذا الأمين، قد رضينا فلما أخبروه الخبر قال: هلموا ثوباً. فأتوه به. فوضع الركن فيه بيديه ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوا جميعاً. فرفعوه، حتى إذا بلغوا موضعه وضعه بيده ثم بنى عليه.
__________
(1) الرضم: حجارة منضودة بعضها على بعض من غير طين.
(2) جمع سنام وهو أعلى ظهر البعير.
(3) ففعل ذلك فوقع.
(4) رواه البخاري، كتاب الحج، رقم 1583.(3/80)
وأصبح ارتفاع الكعبة ثمانية عشر ذراعاً ورفع بابها عن الأرض بحيث يصعد إليه بدرج، لئلا يدخل إليها كل أحد، فيدخلوا من شاؤوا، وليمنعوا الماء من الشرب إلى جوفها، وأسند سقفها إلى ستة أعمدة من الخشب إلا أن قريشاً قصرت بها النفقة الطيبة عن اتمام البناء على قواعد اسماعيل، فأخرجوا منها الحجر، وبنوا عليه جداراً قصيراً دلالة على أنه منها، لأنهم شرطوا على أنفسهم أن لايدخل في بنائها إلا نفقة طيبة، ولايدخلها مهر بغي، ولابيع ربا، ولا مظلمة لأحد(1).
( دروس وعبر وفوائد:
1- تظهر أهمية الكعبة وقداستها عند قريش ويكفي أن باشر تأسيسها ورفع قواعدها إبراهيم وإبنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام بأمر من الله تعالى لتكون أول بيت لعبادة الله وحده.
__________
(1) انظر: وقفات تربوية، ص57؛ انظر: رسالة الانبياء، عمر أحمد عمر (3/29،30).(3/81)
2- بنيت الكعبة خلال الدهر كله أربع مرات على يقين، فأما المرة الأولى منها، فهي التي قام بأمر البناء منها إبراهيم عليه الصلاة والسلام يعينه ابنه اسماعيل عليه الصلاة والسلام، والثانية: فهي تلك التي بنتها قريش قبل البعثة واشترك في بنائها النبي - صلى الله عليه وسلم -،و الثالثة، عندما احترق البيت في زمن يزيد بن معاوية بفعل الحصار الذي ضربه الحصين السكوني على ابن الزبير حتى يستسلم، فأعاد ابن الزبير بنائها وأما المرة الرابعة في زمن عبدالملك بن مروان بعدما قتل ابن الزبير حيث أعاده على ماكان عليه زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -(1) لأن ابن الزبير باشر في رفع بناء البيت وزاد فيه الأذرع الستة التي أخرجت منه، وزاد في طوله إلى السماء عشرة أذرع وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه، وإنّما جرّأه على إدخال هذه الزيادة حديث عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدّم فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له باباً شرقياً وباباً غربياً فبلغت به أساس إبراهيم)(2).
3- طريقة فض التنازع كانت موفقة وعادلة، ورضى بها الجميع وحقنت دماء كثيرة، وأوقفت حروباً طاحنة، وكان من عدل حكمه أن رضت به جميع القبائل ولم تنفرد بشرف وضع الحجر قبيلة دون الأخرى، وهذا من توفيق الله لرسوله وتسديده قبل بعثته. إن دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من باب الصفا كان قدراً من الله، لحل هذه الأزمة المستعصية، التي حلت نفسياً قبل أن تحل على الواقع، فقد أذعن الجميع لما يرتضيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو الأمين الذي لايظلم وهو الأمين الذي لايحابي، ولايفسد وهو الأمين على البيت والأرواح والدماء(3).
__________
(1) السيرة النبوية للبوطي ، ص57،58.
(2) البخاري، كتاب العلم، رقم 126.
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص125.(3/82)
4- إن حادثة تجديد بناء الكعبة قد كشفت عن مكانة النبي - صلى الله عليه وسلم - الأدبية في الوسط القرشي(1)، وحصل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحادثة شرفان، شرف فصل الخصومة ووقف القتال المتوقع بين قبائل قريش، وشرف تنافس عليه القوم وادّخره الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ألا وهو وضع الحجر الأسود بيديه الشريفتين، وأخذه من البساط بعد رفعه ووضعه في مكانه من البيت(2).
5- إن المسلم يجد في حادثة تجديد بناء الكعبة كمال الحفظ الإلهي وكمال التوفيق الرباني في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما يلاحظ كيف أن الله أكرم رسوله بهذه القدرة الهائلة على حل المشكلات بأقرب طريق وأسهله، وذلك ماتراه في حياته كلها - صلى الله عليه وسلم -، وذلك مَعلم من معالم رسالته، فرسالته إيصال للحقائق بأقرب طريق، وحل للمشكلات بأسهل أسلوب وأكمله(3).
ومن حفظ الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في شبيبته عن أقذار الجاهلية وأدرانها، ومعائبها ماوقع له عندما كان ينقل الحجر أثناء بناء الكعبة ورفع إزاره على رقبته، فخر إلى الأرض وطمحت عينه إلى السماء ثم أفاق: إزاري إزاري، فشد عليه إزاره، فما رؤي بعد ذلك عرياناً - صلى الله عليه وسلم -(4).
ثالثاً: تهيئة الناس لاستقبال نبوّة محمد - صلى الله عليه وسلم - :
شاءت حكمة الله تعالى أن يعد الناس لاستقبال نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأمور منها:
1- بشارات الأنبياء بمحمد - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/116).
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص125،126.
(3) انظر: الأساس في السنة وفقها السيرة النبوية (1/175).
(4) البخاري، كتاب الحج رقم 1583.(3/83)
دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يبعث في العرب رسولاً منهم، فأرسل محمداً إجابة لدعوته، قال تعالى:{ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سورة البقرة:29) وذكر القرآن الكريم أن الله تعالى أنزل البشارة بمبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء السابقين فقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} (سورة الأعراف، الآية: 157).
وبشر به عيسى عليه السلام وأخبرنا الله تعالى عن بشارة عيسى قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (سورة الصف، آية:6).(3/84)
وأعلم الله تعالى جميع الأنبياء ببعثته، وأمرهم بتبليغ أتباعهم بوجوب الإيمان به واتباعه إن هم أدركوه(1)، كما قال تعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ} (سورة آل عمران، آية:81).
وقد وقع التحريف في نسخ التوراة والإنجيل وحذف منهما التصريح باسم محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا توراة السامرة وإنجيل برنابا الذي كان موجوداً قبل الاسلام وحرّمت الكنيسة تداوله في آخر القرن الخامس الميلادي، وقد أيدته المخطوطات التي عثر عليها في منطقة البحر الميت حديثاً، فقد جاء في إنجيل برنابا العبارات المصرحة باسم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - مثل ماجاء في الإصحاح الحادي والأربعين منه ونص العبارة: (29 فاحتجب الله وطردهما الملاك ميخائيل من الفردوس 30 فلما التفت آدم رأى مكتوباً فوق الباب: لا إله إلا الله محمد رسول الله)(2).
قال ابن تيمية: (والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد - صلى الله عليه وسلم - عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم) ثم قال: (ثم العلم بأن الأنبياء قبله بشّروا به يعلم من وجوه: أحدهما : مافي الكتب الموجودة اليوم بأيدي أهل الكتاب.
__________
(1) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول محمد، ص101،102.
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/118).(3/85)
الثاني: إخبار من وقف على تلك الكتب ممن أسلم وممن لم يسلم بما وجدوه من ذكره بها. وهذا مثل ماتواتر عن الأنصار أن جيرانهم من أهل الكتاب كانوا يخبرون بمبعثه وأنه رسول الله وأنه موجود عندهم، وكانوا ينتظرونه، وكان هذا من أعظم مادعا الأنصار الى الإيمان به لما دعاهم الى الاسلام حتى آمن الانصار به وبايعوه(1).
فمن حديث سلمة بن سلامة بن وقش - رضي الله عنه -، وكان من أصحاب بدر قال:(كان لنا جار من يهود في بني عبدالأشهل قال: فخرج علينا يوماً من بيته قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بيسير، فوقف على مجلس عبدالأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سناً عليَّ بردة مضطجعاً فيها بفناء أهلي فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك القوم وكانوا أهل شرك وأصحاب أوثان، لايرون أن بعثاً كائن بعد الموت.
فقالوا له: ويحك يافلان، ترى هذا كائناً أن الناس يبعثون بعد موتهم الى دار فيها جنة ونار، ويجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يُحلف به وَلوَدَّ أن له بحظه من تلك لنار أعظم تنور(2) في الدنيا يحمونه، ثم يدخلونه إياه، فيطبق به عليه(3) وأن ينجو من تلك النار غداً.
قالوا له: ويحك، وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد واشار بيده نحو مكة واليمن.
قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إليّ -وأنا من أحدثهم سناً- فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه.
قال سلمة: (فوالله ماذهب الليل والنهار، حتى بعث الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو حيٌّ بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغياً وحسداً فقلنا: ويلك يافلان: ألست بالذي قلت لنا فيه ماقلت؟ قال: بلى: وليس به)(4).
__________
(1) انظر: الجواب الصحيح لابن تيمية (1/340).
(2) التنور: الفرن.
(3) يطبق عليه: يغلق عليه.
(4) صحيح السيرة النبوية، ابراهيم العلي، ص31.(3/86)
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله: (قد رأيت أنا من نسخ الزبور مافيه تصريح نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - باسمه، ورأيت نسخة أخرى بالزبور فلم أر ذلك فيها، وحينئذ فلا يمتنع أن يكون في بعض النسخ من صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - ماليس في أخرى)(1).
وقد ذكر عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة فقال: (...والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: (ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين(2)، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق(3)، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء(4) بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً)(5).
ومن حديث كعب الأحبار قال: (إني أجد في التوراة مكتوباً: محمد رسول الله، لا فظ ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون، يحمدون الله في كل منزلة، ويكبّرونه على كل نجد، يأتزرون الى أنصافهم، ويوضئون أطرافهم، صفهم في الصلاة، وصفُّهم في القتال سواء، مناديهم ينادي في جو السماء، لهم في جوف الليل دوي كدوي النحل، مولده بمكة، ومهجره بطابة، وملكه بالشام)(6).
2- بشارات علماء أهل الكتاب بنبوته:
__________
(1) الجواب الصحيح (1/340).
(2) حرزاً للأميين: حفاظاً لهم.
(3) السخاب: رفع الصوت بالخصام.
(4) العوجاء : ملة إبراهيم التي غيرتها العرب عن استقامتها.
(5) البخاري، كتاب التفسير، رقم 4838.
(6) صحيح السيرة النبوية ، ص30.(3/87)
أخبر سلمان الفارسي - رضي الله عنه - في قصة إسلامه المشهورة عن راهب عمورية حين حضرته المنية قال لسلمان: إنه قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب، مهاجره الى أرض بين حرتين بينهما نخل، به علامات لاتخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فأفعل)(1).
ثم قصّ سلمان خبر قدومه الى المدينة واسترقاقه، ولقائه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين الهجرة، واهدائه له طعاماً على أنه صدقة فلم يأكل منه الرسول، ثم أهدائه له طعاماً على أنه هدية وأكله منه، ثم رؤيته خاتم النبوة بين كتفيه، وإسلامه على أثر ذلك)(2).
ومن ذلك إخبار أحبار اليهود ورجالاتها بقرب مبعثه عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك قصة ابي التيهان الذي خرج من بلاد الشام ونزل في بني قريظة ثم توفي قبل البعثة النبوية بسنتين، فإنه لما حضرته الوفاة قال لبني قريظة: يامعشر يهود، ماترونه أخرجني من أرض الخَمْر والخَمير -الشام- الى أرض البؤس والجوع -يعني: الحجاز-؟ قالوا: أنت أعلم، قال: إني قدمت هذه البلدة أتوكَّفُ -انتظر- خروج نبي قد أظلَّ زمانه، وكنت أرجوا أن يبعث فأتبعه.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (1/300).
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/122).(3/88)
وقد شاع حديث ذلك وانتشر بين اليهود وغيرهم حتى بلغ درجة القطع عندهم، وبناء عليه كان اليهود يقولون لأهل المدينة المنورة: إنه قد تقارب زمان نبي يُبْعث الآن، نقتلكم معه قلت عادٍ وإرم(1)، وكان ذلك الحديث سبباً في إسلام رجال من الأنصار وقد قالوا: (إن مما دعانا الى الاسلام مع رحمة الله تعالى وهداه، لما كنا نسمع من رجال اليهود، كنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض مايكرهون قالوا لنا: إنه تقارب الزمان نبي يبعث الآن، نقتلكم معه قتل عادٍ وإرم)(2).
وقد قال هرقل ملك الروم عندما استلم رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم)(3).
3- الحالة العامة التي وصل إليها الناس:
لخص الاستاذ الندوي الحال التي كان عليها العرب وغيرهم وقتذاك بقوله: كانت الأوضاع الفاسدة، والدرجة التي وصل إليها الانسان في منتصف القرن السادس المسيحي اكبر من أن يقوم لإصلاحها مصلحون ومعلمون في افراد الناس، فلم تكن القضية قضية إصلاح عقيدة من العقائد، أو إزالة عادة من العادات، أو قبول عبادة من العبادات، أو إصلاح مجتمع من المجتمعات، فقد كان يكفي له المصلحون والمعلمون الذين لم يخل منهم عصر ولا مصر.
__________
(1) انظر: دراسة تحليلية، د. محمد قلعجي، ص107.
(2) ابن هشام باسناد حسن (1/231).
(3) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص146.(3/89)
ولكن القضية كانت قضية إزالة أنقاض الجاهلية، ووثنية تخريبية، تراكمت عبر القرون والأجيال، ودفنت تحتها تعاليم الأنبياء والمرسلين، وجهود المصلحين والمعلمين، وإقامة بناء شامخ مشيد البنيان، واسع الأرجاء، يسع العالم كله، ويؤدي الأمم كلها، قضية إنشاء إنسان جديد، يختلف عن الانسان القديم في كل شيء، كأنه ولد من جديد، أو عاش من جديد قال تعالى: { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة الأنعام، الآية 122).
قضية اقتلاع جرثومة الفساد واستئصال شأفة الوثنية، واجتثاثها من جذورها، بحيث لا يبقى لها عين ولا أثر، وترسيخ عقيدة التوحيد في أعماق النفس الإنسانية ترسيخاً لا يتصور فوقه، وغرس ميل الى إرضاء الله وعبادته، وخدمة الانسانية، والانتصار للحق، يتغلب على كل رغبة، ويقهر كل شهوة، ويجرف كل مقاومة، وبالجملة الأخذ بحجز الانسانية المنتحرة التي استجمعت قواها للوثوب في جحيم الدنيا والآخرة، والسلوك بها على طريق اولها سعادة يحظى بها العارفون المؤمنون وآخرها جنة الخلد التي وعد المتقون، ولا تصوير أبلغ وأصدق من قوله تعالى في معرض المن ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -(1): { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (سورة آل عمران، الآية: 103).
4- إرهاصات نبوته صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) انظر: الأساس في السنة وفقها السيرة النبوية، سعيد حوى (1/180،181).(3/90)
ومن إرهاصات نبوته - صلى الله عليه وسلم - تسليم الحجر عليه قبل النبوة، فعن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)(1)، ومنها الرؤيا الصادقة وهي أول مابدي له من الوحي فكان لايرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح(2)، وحبب إليه - صلى الله عليه وسلم - العزلة والتحنث (التعبد) فكان يخلو في غار حراء وهو جبل يقع في الجانب الشمالي الغربي من مكة، ويتعبد فيه الليالي ذوات العدد، فتارة عشرة وتارة أكثر من ذلك الى شهر، ثم يعود الى بيته فلا يكاد يمكث فيه قليلاً حتى يتزود من جديد لخلوة أخرى ويعود الكرة الى غار حراء وهكذا الى أن جاءه الوحي وهو في إحدى خلواته تلك(3).
الفصل الثاني
نزول الوحي والدعوة السرية
المبحث الأول
نزول الوحي على سيد الخلق أجمعين
صلى الله عليه وسلم
__________
(1) مسلم في الصحيح، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي وتسليم الحجر عليه قبل النبوة رقم 2277.
(2) البخاري، كتاب بدء الوحي، رقم 3.
(3) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص60.(3/91)
كان عُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ الأربعين وكان يخلو في غار حراء بنفسه ويتفكر في هذا الكون وخالقه وكان تعبده في الغار يستغرق ليالي عديدة حتى إذا نفذ الزاد عاد الى بيته فتزود لليالي أخرى، وفي نهار يوم الأثنين(1) من شهر رمضان جاءه جبريل بغته لأول مرة داخل غار الحراء(2)، وقد نقل البخاري في صحيحه حديث عائشة رضي الله عنها والبخاري (ابو الصحاح وكتب السنن والمسانيد وكتب التاريخ)، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أول مابدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لايرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع الى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع الى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال اقرأ، قال: قلت: ماأنا بقارئ. قال: فأخذني، فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني قال: اقرأ، فقلت: ماأنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم ارسلني فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ صدق الله العظيم خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ صدق الله العظيم اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ صدق الله العظيم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ صدق الله العظيم }، فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال : زملوني ! زملوني، زملوني حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا والله مايخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل(3)، وتكسب المعدوم(4)
__________
(1) انظر: صحيح السيرة للعلي، ص67.
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/125).
(3) تحمل الكل: تنفق على الضعيف، واليتيم والعيال، والكل أصله: الثقل والاعياء.
(4) وتكسب المعدوم: تعفي الناس مالايجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق.(3/92)
، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق(1)، فانطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن عم خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، فيكتب الإنجيل بالعربية ماشاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: ياابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: ياابن اخي ماترى؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر مارأى: فقال له ورقة: هذا الناموس(2) الذي نزّل الله على موسى، ياليتني فيها جذعاً(3)، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو مخرجيّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ماجئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً(4)، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي)(5)(6).
عندما نتأمل في حديث السيدة عائشة يمكن للباحث أن يستنتج قضايا مهمة تتعلق بسيرة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ومن أهمها:
أولاً: الرؤيا الصالحة:
__________
(1) نوائب الحق: لا يصيبك مكروه لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق وكرم الشمائل.
(2) الناموس: هو جبريل عليه السلام، صاحب سر الخير .
(3) جذعاً: الشاب القوي.
(4) مؤزراً، قوياً بالغاً.
(5) فتر الوحي: تأخر نزوله.
(6) البخاري، كتاب بدء الوحي، رقم 3.(3/93)
ففي حديث عائشة رضي الله عنها أن أول مابُدئ به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة، وتسمى أحياناً بالرؤيا الصادقة، والمراد بها هنا رؤى جميلة ينشرح لها الصدر وتزكو بها الروح(1) ولعل الحكمة من ابتداء الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالوحي بالمنام، أنه لو لم يبتدئه بالرؤيا وأتاه الملك فجأة ولم يسبق له أن رأى ملكاً من قبل فقد يصيبه شيء من الفزع، فلم يستطيع أن يتلقى منه شيئاً، لذلك اقتضت حكمة الله تعالى أن يأتيه الوحي أولاً في المنام ليتدرب عليه ويعتاده(2) والرؤيا الصادقة الصالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة كما ورد في الحديث الشريف(3)، وقد قال العلماء: وكانت مدة الرؤيا الصالحة ستة أشهر، ذكره البيهقي، ولم ينزل عليه شيء من القرآن في النوم بل نزل كله يقظة.
والرؤيا الصالحة من البشرى في الحياة الدنيا فقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: (من البشرى في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له)(4).
__________
(1) انظر: طريق النبوة والرسالة، حسين مؤنس ، ص21.
(2) انظر: منامات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، عبدالقادر الشيخ ابراهيم ، ص57.
(3) انظر: الرؤيا ضوابطها وتفسيرها، هشام الحمصي، ص7.
(4) ابن ماجة، كتاب تعبير الرؤيا رقم 3899 حسن الإسناد.(3/94)
فكان - صلى الله عليه وسلم - قبل نزول جبريل عليه السلام عليه بالوحي في غار حراء يرأى الرؤى الجميلة فيصحو منشرح الصدر، متفتح النفس لكل مافي الحياة من جمال(1)، لقد أجمعت الروايات من حديث بدء الوحي أن أول مابدء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة الصالحة، يراها في النوم فتجيء في اليقظة كاملة، واضحة كما رآها في النوم، لا يغيب عليه منهاشيء كأنما نقشت في قلبه وعقله، وقد شبَّهت السيدة عائشة رضي الله عنها -وهي من أفصح العرب- ظهور رؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استيقظ بها من كمال وضوحها بظهور ضوء الصبح ينفلق عنه غبش الظلام، وهو تصوير بياني لا تنفلق دنيا العرب في ذرى فصاحتهم عن أبلغ منه(2).
ثانياً: ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه:
وقبيل النبوة حٌبب الى نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - الخلوة، ليتفرغ قلبه وعقله وروحه الى ماسيلقى إليه من أعلام النبوة، فاتخذ من غار حراء متعبداً، ليقطع عن مشاغل الحياة ومخالطة الخلق، استجماعاً لقواه الفكرية، ومشاعره الروحية، وإحساساته النفسية، ومداركه العقلية، تفرغاً لمناجاة مبدع الكون وخالق الوجود(3)، والغار الذي كان يتردد عليه الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يبعث على التأمل والتفكر، تنظر الى منتهى الطرف فلا ترى إلا جبالاً كأنها ساجدة متطامنة لعظمة الله، وإلا سماء صافية الأديم، وقد يرى من يكون فيه مكة إذا كان حاد البصر(4).
__________
(1) انظر: طريق النبوة والرسالة، ص22.
(2) انظر: محمد رسول الله، محمد صادق عرجون (1/254).
(3) نفس المصدر (1/254).
(4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/256).(3/95)
كانت هذه الخلوة التي حُببت الى نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - لوناً من الإعداد الخاص، وتصفية النفس من علائق المادية البشرية الى جانب تعهده الخاص بالتربية الإلهية والتأديب الرباني في جميع أحواله، وكان تعبده - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة بالتفكر في بديع ملكوت السموات، والنظر في آياته الكونية الدالة على بديع صنعه وعظيم قدرته، ومحكم تدبيره، وعظيم إبداعه(1).
وقد أخذ بعض أهل السلوك الى الله من ذلك فكرة الخلوة مع الذكر والعبادة في مرحلة من مراحلة السلوك؛ لتنوير قلبه وإزالة ظلمته وإخراجه من غفلته وشهوته وهفوته، ومن سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة الاعتكاف في رمضان(2) وهي مهمة لكل مسلم سواءً كان حاكماً أو عالماً أو قائداً، أو تاجراً ... لتنقية الشوائب التي تعلق بالنفوس والقلوب، ونصحح واقعنا على ضوء الكتاب والسنّة، ونحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب(3).
ويمكن لأهل فقه الدعوة أن يعطوا لأنفسهم فترة من الوقت للمراجعة الشاملة والتوبة، والتأمل في واقع الدعوة وماهي عليه من قوة أو ضعف، واكتشاف عوامل الخلل، ومعرفة الواقع بتفاصيله، خيره وشره، ولامانع من العزلة في بعض الأحيان إذا فشى الفساد وأصبحت الدنيا مؤثرة ومتابعة الهوى مطلباً ولابد أن تكون إيجابية وليست سلبية وليتابع الطريق بعدها بما يحمله من الحق(4).
__________
(1) انظر: محمد رسول الله ، محمد صادق عرجون (1/469).
(2) انظر: الأساس في السنة وفقها السيرة النبوية، سعيد حوى (1/195).
(3) انظر: فقه السيرة للغضبان.
(4) انظر: الطريق الى المدينة، محمد العبده.(3/96)
وفي قول السيدة عائشة : (فيتحنث الليالي ذوات العدد) يقول الشيخ محمد عبدالله دراز: (هذا كناية عن كون هذه الليالي لم تصل الى نهاية القلة ولا إلى نهاية الكثرة، ومازال هذا الهدي الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة من التوسط والاقتصاد في الأعمال، شعاراً للملة الاسلامية ورمزاً للهدي النبوي الكريم بعد أن أرسله الله رحمة للعالمين)(1).
ثالثاً: حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاء الملك فقال اقرأ، قال: قلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ صدق الله العظيم خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ صدق الله العظيم اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ صدق الله العظيم الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ صدق الله العظيم }(سورة العلق، آية:1-4).
لقد كانت هذه الآيات الكريمات المباركات أول شيء نزل من القرآن الكريم، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وإن من كرم الله تعالى أن علّم الإنسان مالم يعلم فشرفه وكرّمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به آدم عليه السلام على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون بالكتابة بالبنان(2) وبهذه الآيات كانت بداية نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لقد كان هذا الحادث ضخم. لقد عبر عنه سيد - رحمه الله - في ظلاله فقال:( إنه حادث ضخم جداً. ضخم إلى غير حد، ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته، فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا!
إنه حادث ضخم بحقيقته. وضخم بدلالته وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعاً .. وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد - بغير مبالغة- هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل.
ماحقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة؟
__________
(1) المختار من كنوز السنة /19 ط2 1978 دار الانصار/ القاهرة.
(2) انظر: تفسير ابن كثير (4/528).(3/97)
حقيقة أن الله جل جلاله، العظيم الجبار القهار المتكبر، مالك الملك كله، قد تكرم - في عليائه - فأراد أن يرحم هذه الخليقة المسماة بالإنسان، القابعة في ركن من أركان الكون لايكاد يرى اسمه الأرض. وكرّم هذه الخليقة باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي، ومستودع حكمته، ومهبط كلماته، وممثل قدره الذي يريده - سبحانه - لهذه الخليقة .. )(1).
كانت بداية الوحي الإلهي فيها إشادة بالقلم وخطره، والعلم ومنزلته في بناء الشعوب والأمم وفيها إشارة واضحة بأن من أخص خصائص الإنسان العلم والمعرفة(2).
وفي هذا الحادث العظيم تظهر مكانة ومنزلة العلم في الإسلام، فأول كلمة في النبوة تصل إلى رسول الله هي الأمر بالقراءة{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (سورة العلق، آية:1).
ومازال الإسلام يحث على العلم ويأمر به ويرفع درجة أهله ويميزهم على غيرهم قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (سورة المجادلة، آية:11)، وقال سبحانه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (سورة الزمر، آية:9).
__________
(1) في ظلال القرآن (6/3936).
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/260).(3/98)
إن مصدر العلم النافع من الله عزوجل، فهو الذي علم بالقلم وعلم الإنسان مالم يعلم، ومتى حادت البشرية عن هذا المنهج، وانفصل علمها عن التقيد بمنهج الله تعالى رجع علمها وبالاً عليها وسبباً في إبادتها(1)؟
رابعاً: الشدة التي تعرض لها النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصف ظاهرة الوحي:
لقد قام جبريل عليه السلام بضغط النبي - صلى الله عليه وسلم - مراراً حتى أجهده وأتعبه، وبقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقى من الوحي شدة وتعب وثقل كما قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} ( سورة المزمل، آية:5 ). كان في ذلك حكمة عظيمة لعل منها: بيان أهمية هذا الدين وعظمته وشدة الإهتمام به، وبيان للأمة أن دينها الذي تتنعم به ماجاءها إلا بعد شدة وكرب(2)،
إن ظاهرة الوحي معجزة خارقة للسنن والقوانين الطبيعية حيث تلقَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - كلام الله (القرآن) بواسطة المَلَك جبريل (عليه السلام) وبالتالي فلا صلة لظاهرة الوحي بالإلهام أو التأمل الباطني أو الإستشعار الداخلي، بل إن الوحي يتم من خارج ذات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتنحصر وظيفته بحفظ الموحي وتبليغه وأما بيانه وتفسيره فيتم بأسلوب النبي كما يظهر في أحاديثه وأقواله - صلى الله عليه وسلم -(3).
__________
(1) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، د. يحيى اليحيى، ص34.
(2) نفس المصدر ، ص30، 31.
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/129).(3/99)
إن حقيقة الوحي هي الأساس الذي تترتب عليه جميع حقائق الدين بعقائده وتشريعاته وأخلاقه ولذلك اهتم المستشرقون والملاحدة من قبلهم بالطعن والتشكيك في حقيقة الوحي وحاولوا أن يأولوا ظاهرة الوحي ويحرفوها عن حقيقتها عما جاءنا في صحاح السنة الشريفة، وحدثنا به المؤرخون الثقات، فقائل يقول أن محمد - صلى الله عليه وسلم - تعلم القرآن ومبادئ الإسلام من بحيرا الراهب، وبعضهم قال بأن محمداً كان رجلاً عصبياً أو مصاباً بداء الصرع(1).
والحقيقة تقول أن محمد عليه الصلاة والسلام وهو في غار حراء فوجئ بجبريل أمامه يراه بعينه، وهو يقول له اقرأ، حتى يتبين أن ظاهرة الوحي ليست أمراً ذاتياً داخلياً مرده إلى حديث النفس المجرد، وإنما هو استقبال وتلقِّ لحقيقة خارجية لاعلاقة لها بالنفس وداخل الذات.وضم الملك إياه ثم إرساله ثلاث مرات قائلاً في كل مرة: اقرأ، يعتبر تأكيداً لهذا التلقي الخارجي ومبالغة في نفي ماقد يتصور، من أن الأمر لايعدو كونه خيالاً داخلياً فقط.
ولقد أصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرعب والخوف مما سمع ورأى وأسرع إلى بيته يرجف فؤاده وهذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن متشوقاً للرسالة التي سيكلف بثقلها وتبليغها للناس(2) وقد قال تعالى تأكيداً لهذا المعنى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صدق الله العظيم صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ صدق الله العظيم } (سورة الشورى، الآيتان:52،53).
__________
(1) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص64.
(2) نفس المصدر، ص64.(3/100)
قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ صدق الله العظيم قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ صدق الله العظيم } ( سورة يونس، الآيتان:15،16).
لقد تساقطت آراء المشكيين في حقيقة الوحي أمام الحديث الصحيح الذي حدثتنا به السيدة عائشة رضي الله عنها وقد استمر الوحي بعد ذلك يحمل الدلالة نفسها على حقيقة الوحي وأنه ليس كما أراد المشككون وقد أجمل الدكتور البوطي هذه الدلالة فيما يلي:
1- التمييز الواضح بين القرآن والحديث، إذ كان يأمر بتسجيل الأول فوراً، على حين يكتفي بأن يستودع الثاني ذاكرة أصحابه، لأن الحديث كلام من عنده لاعلاقة للنبوة به، بل لأن القرآن موحي به إليه بنفس اللفظ والحروف بواسطة جبريل عليه السلام، أما الحديث فمعناه وحي من الله عزوجل، ولكن لفظه وتركيبه من عنده عليه الصلاة والسلام، فكان يحاذر أن يختلط كلام الله عزوجل الذي يتلقاه من جبريل بكلامه هو.
2- كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن بعض الأمور، فلا يُجيب عليها وربما مرّ على سكوته زمن طويل، حتى إذا نزلت آية من القرآن في شأن سؤاله. وربما تصرف الرسول في بعض الأمور على وجه معين، فتنزلت آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه، وربما انطوت على عتب أو لوم له.(3/101)
3- كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أميّا ... وليس من الممكن أن يعلم إنسان بواسطة المكاشفة النفسية حقائق تاريخية، كقصة يوسف عليه السلام وأم موسى حينما ألقت وليدها في اليم .. وقصة فرعون ولقد كان هذا من جملة الحكم في كونه - صلى الله عليه وسلم - أميّاً : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (سورة العنكبوت، آية: 48).
4- إن صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة مع قومه واشتهاره فيهم بذلك، يستدعي أن يكون - صلى الله عليه وسلم -، من قبل ذلك صادقاً مع نفسه، ولذا فلابد أن يكون قد قضى في دراسته لظاهرة الوحي على أي شك يخايل لعينيه أو فكره وكأن هذه الآية جاءت ردّاً لدراسته الأولى لشأن نفسه مع الوحي: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ المُمْتَرِينَ} ( سورة يونس، آية: 94 ).
ولهذا روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعد نزول هذه الآية:( لا أشك ولا أسأل)(1).
خامساً: أنواع الوحي:
تحدث العلماء عن أنواع الوحي فذكروا منها:
1- الرؤيا الصادقة:
وكانت مبدأ وحيه - صلى الله عليه وسلم -، وكان لايرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد جاء في الحديث رؤيا الأنبياء وحيٌ، قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}.
2- الإلهام:
__________
(1) أخرجه الطبراني 17906،17908 بسنده عن قتادة، تفسير القرطبي (8/340).(3/102)
وهو أن ينفث الملك في روعه -أي قلبه من غير أن يراه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي)(1) أي : إن جبريل نفخ في قلبي (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)(2).
3- أن يأتيه مثل صلصلة الجرس، أي مثل صوته في القوة، وهو أشدُّه، كما في حديث عائشة: (أن الحارث - رضي الله عنه - سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف يأتيك الوحي؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت ماقال وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني، فأعي مايقول)(3).
4- ماأوحاه الله تعالى إليه، بلا وساطة ملك، كما كلم الله موسى بن عمران عليه السلام، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعاً بنص القرآن وثبوتها لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في حديث الاسراء(4).
5- أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ماشاء الله تعالى أن يوحيه.
6- أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه مايقول وله وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً(5).
هذا ماقاله ابن القيم عن مراتب الوحي.
لقد كان نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بداية عهد جديد في حياة الانسانية بعدما انقطع وتاهت البشرية في دياجير الظلام.
__________
(1) حديث صحيح بشواهده (زاد المعاد 1/79) مؤسسة الرسالة .
(2) نفس المصدر (زاد المعاد 1/79).
(3) البخاري، كتاب بدء الوحي رقم 2.
(4) انظر: الرؤى والاحلام في النصوص الشرعية، أسامة عبدالقادر، ص108.
(5) انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (1/33-34).(3/103)
وكان وقع نزول الوحي شديداً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما هو واضح من النص بالرغم من أنه كان أشجع الناس وأقواهم قلباً كما دلت على ذلك الأحداث خلال ثلاث وعشرين سنة، وذلك لأن الأمر ليس مخاطبة بشر لبشر ولكنه كان مخاطبة عظيم الملائكة وهو يحمل كلام الله تعالى ليستقبله من اصطفاه الله جل وعلا لحمل هذا الكلام وإبلاغه لعامة البشر.
ولقد كان موقفاً رهيباً ومسؤولية عظمى لايقوى عليها إلا من اختاره الله تبارك وتعالى لحمل هذ الرسالة وتبليغها(1).
ومما يتصور رهبة هذا الموقف ماجاء في هذه الرواية من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (لقد خشيت على نفسي) وقول عائشة رضي الله عنها في هذا الحديث: (فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها قال: زملوني زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع).
ومما يبين شدة نزول الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماأخرجه الإمام البخاري ومسلم رحمهمها الله من حديث عائشة رضي الله عنها: قالت: (ولقد رأيته -تعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً)(2) وحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: (كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي كُرب لذلك وترَّبد وجهه)(3).
سادساً: أثر المرأة الصالحة في خدمة الدعوة:
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي مواقف وعبر للحميدي (1/60).
(2) البخاري، كتاب بدء الوحي، رقم 3؛ مسلم، كتاب الفضائل، رقم 2333.
(3) مسلم، كتاب الفضائل، رقم 2334.(3/104)
(فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاه، فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني زملوني! فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله مايخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق).
كان موقف خديجة رضي الله عنها يدل على قوة قلبها حيث لم تفزع من سماع هذا الخبر واستقبلت الأمر بهدوء وسكينة، ولا أدل على ذلك من ذهابها فور سماعها الخبر الى ورقة بن نوفل وعرضت الأمر عليه(1).
كان موقف خديجة رضي الله عنها من خبر الوحي يدل على سعة إدراكها حيث قارنت بين ماسمعت وواقع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدركت أن من جبل على مكارم الأخلاق لا يخزيه الله أبداً، فقد وصفته بأنه يصل الرحم، وكون الانسان يصل أقاربه دليل على استعداده النفسي لبذل الخير والاحسان الى الناس، فإن أقارب الانسان هم المرآة الأولى لكشف أخلاقه، فإن نجح في احتواء اقاربه وكسبهم بماله عليهم من معروف كان طبيعياً بأن ينجح في كسب غيرهم من الناس)(2).
كانت أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها قد سارعت الى إيمانها الفطري، والى معرفتها بسنن الله تعالى في خلقه، والى يقينها بما يملك محمد - صلى الله عليه وسلم - من رصيد الاخلاق، وفضائل الشمائل، ليس لأحد من البشر رصيد مثله في حياته الطبيعية التي يعيش بها مع الناس، والى ماألهمت بسوابق العناية الربانية التي شهدت آياتها من حفاوة الله تعالى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - في مواقف لم تكن من مواقف النبوة والرسالة، ولا من إرهاصاتها المعجزة، وأعاجيبها الخارقة، ولكنها كانت من مواقف الفضائل الانسانية السارية في حياة ذوي المكارم من أصحاب المرؤات في خاصة البشر(3).
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (1/61).
(2) نفس المصدر (1/64).
(3) انظر: محمد رسول الله، محمد الصادق عرجون (1/307).(3/105)
كانت موقنة بأن زوجها فيه من خصال الجبلة الكمالية ومحاسن الأخلاق الرصينة، وفضائل الشيم المرضية، واشرف الشمائل العلية وأكمل النحائر الانسانية مايضمن له الفوز ويحقق له النجاح والفلاح فقد استدلت بكلماتها العميقة على الكمال المحمدي(1)، فقد استنبطت خديجة رضي الله عنها من اتصاف محمد - صلى الله عليه وسلم - بتلك الصفات على أنه لن يتعرض في حياته للخزي قط، لأن الله تعالى فطره على مكارم الأخلاق، وضربت المثل بما ذكرته من أصولها الجامعة لكمالاتها.
ولم تعرف الحياة في سنن الكون الاجتماعية أن الله تعالى جمّل أحداً من عباده بفطرة الاخلاق الكريمة، ثم أذاقه الخزي في حياته، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بلغ من المكارم ذروتها، فطرة فطره الله عليها، لاتطاول ولاتسامي(2).
ولم تكتفي خديجة رضي الله عنها بمكارم أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - على نبوته بل ذهبت الى ابن عمها العالم الجليل ورقة بن نوفل رحمه الله الذي كان ينتظر ظهور نبي آخر الزمان لما عرفه من علماء أهل الكتاب على دنو زمانه واقتراب مبعثه وكان لحديث ورقة اثر طيب في تثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقوية قلبه وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الذي خاطبه هو صاحب السر الأعظم الذي يكون سفيراً بين الله تعالى وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام ومن أشعار ورقة التي تدل على انتظاره لمبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله :
لججتُ وكنت في الذكرى لجوجاً
... ... ... لهمِّ طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف
... ... ... فقد طال انتظاري ياخديجا
ببطن المكَّتين(3) على رجائي
... ... ... حديثك أن أرى منه خروجاً
بما خبَّرتنا من قول قِسِّ
... ... ... من الرهبان أكره أن يعوجا
بان محمداً سيسود فينا
__________
(1) انظر: محمد رسول الله ، عرجون (1/307،308).
(2) نفس المصدر (1/232).
(3) المكتين: جانباً مكة، أو بطاحها وظواهرها.(3/106)
... ... ... ويخصم من يكون له حجيجا(1)
لقد صدق ورقة بن نوفل برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهد له النبي عليه الصلاة والسلام بالجنة فقد جاء في رواية أخرجها الحاكم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لاتسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين)(2).
وعن عائشة رضي الله عنها أن خديجة رضي الله عنها سألت رسول الله عن ورقة فقال: (قد رأيته فرأيت عليه ثياباً بيضاً، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض) قال : وروى أبو يعلى بسند حسن عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ورقة بن نوفل فقال: (ابصرته في بطنان الجنة وعليه السندس)(3).
لقد قامت خديجة رضي الله عنها بدور مهم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما لها من شخصية في مجتمع قومها، ولما جبلت عليه من الكفاءة في المجالات النفسية التي تقوم على الأخلاق العالية من الرحمة والحلم والحكمة والحزم وغير ذلك من مكارم الأخلاق والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد وفقه الله تعالى بهذه الزوجة المثالية، لأنه قدوة للعالمين وخاصة الدعاة الى الله، فقيام خديجة بذلك الدور الكبير إعلام من الله تعالى لجميع حملة الدعوة الاسلامية بما يشرع لهم أن يسلكوه في هذا المجال من التاسي برسول الله حتى يتحقق لهم بلوغ المقاصد العالية التي يسعون لتحقيقها(4).
__________
(1) سيرة ابن هشام (1/194).
(2) المستدرك (2/609) على شرط مسلم وأقره الذهبي.
(3) مجمع الزوائد (9/416).
(4) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (1/69).(3/107)
إن السيدة خديجة رضي الله عنها مثال حسن وقدوة رفيعة لزوجات الدعاة، فالداعية الى الله ليس كباقي الرجال الذين هم بعيدون عن أعباء الدعوة. ومن الصعب أن يكون مثلهم في كل شيء، إنه صاحب هم ورسالة، هم على ضياع أمته، وإنتشار الفساد، وزيادة شوكة أهله، وهم لما يصيب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من مؤامرات وظلم وجوع، وإذلال، ومايصيب الدعاة منهم من تشريد وتضيق وتنكيل، وبعد ذلك هو صاحب رسالة واجب عليه تبليغها للآخرين، وهذا الواجب يتطلب وقتاً طويلاً يأخذ عليه أوقات نومه وراحته، وأوقات زوجته وأبنائه، ويتطلب تضحية بالمال والوقت والدنيا بأسرها مادام ذلك في سبيل الله ومرضاته، وإن أوتيت من الأخلاق والتقوى والجمال والحسب ماأوتيت، إنه يحتاج الى زوجة تدرك واجب الدعوة وأهميته، وتدرك تماماً مايقوم به الزوج وما يتحمله من أعباء، ومايعانيه من مشاق، فتقف الى جانبه تيسر له مهمته وتعينه عليها، لا أن تقف عائقاً وشوكة في طريقه(1).
إن المرأة الصالحة لها أثر في نجاح الدعوة، وقد أتضح ذلك في موقف خديجة رضي الله عنها وماقامت به من الوقوف بجانب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يواجه الوحي لأول مرة، ولا شك أن الزوجة الصالحة المؤهلة لحمل مثل هذه الرسالة لها دور عظيم في نجاح زوجها في مهمته في هذه الحياة، وبخاصة الأمور التي يعامل بها الناس، وإن الدعوة الى الله تعالى هي أعظم أمر يتحمله البشر، فإذا وفق الداعية لزوجة صالحة ذات كفاءة فإن ذلك من أهم نجاحه مع الآخرين(2) وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: (الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)(3).
سابعاً: وفاء النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة خديجة رضي الله عنها:
__________
(1) انظر: وقفات تربوية من السيرة النبوية ، البلالي، ص40.
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (1/68).
(3) رواه مسلم، رقم 1467، ص1090، كتاب الرضاع.(3/108)
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثالاً عالياً للوفاء ورد الجميل لأهله، فقد كان في غاية الوفاء مع زوجته المخلصة في حياتها وبعد مماتها وقد بشرها - صلى الله عليه وسلم - ببيت في الجنة في حياتها، وابلغها سلام الله جل وعلا وسلام جبريل عليه السلام، فعن ابي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يارسول الله هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام -أو طعام أو شراب- فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها عز وجل ومني وبشرها ببيت في الجنة من قصب(1) لاصخب فيه ولا نصب(2).
وتذكر عائشة رضي الله عنها وفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لخديجة بعد وفاتها بقولها: (ماغرت على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ماغرت على خديجة وما رايتها، ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها الولد)(3).
وأظهر - صلى الله عليه وسلم - البشاشة والسرور لأخت خديجة لما استأذنت عليه لتذكُّره خديجة فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (استأذنت هالة بن خويلد أخت خديجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرف استئذان خديجة(4) فارتاح لذلك وقال: اللهم هالة بنت خويلد، فغِرْت فقلت: وما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين(5) هلكت في الدهر فأبدلك الله خيراً منها)(6)، وأظهر - صلى الله عليه وسلم - الحفاوة بامرأة كانت تأتيهم زمن خديجة وبين أن حفظ العهد من الإيمان)(7).
__________
(1) يعنى من لؤلؤ أو ذهب.
(2) مسلم، كتاب فضائل الصحابة ص1887 رقم 2432.
(3) البخاري ، كتاب مناقب الأنصار (7/132).
(4) يعني لتشابه صويتهما.
(5) يعني لا أسنان لها من الكبر.
(6) مسلم، كتاب فضائل الصحابة، ص1889 رقم 2437.
(7) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (1/71).(3/109)
ثامناً: سنة تكذيب المرسلين:
(ياليتني فيها جذعة، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مخرجّي هم؟ قال: نعم؛ لم يأت رجل قط بمثل ماجئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً(1))، فقد بين الحديث سنة من سنن الأمم مع من يدعوهم الى الله عز وجل وهي التكذيب والإخراج كما قال تعالى عن قوم لوط: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (سورة النمل، الآية: 56).
وكما قال قوم شعيب: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} (سورة الأعراف، الاية 88).
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (سورة ابراهيم، الآية 13).
تاسعاً: قوله: (وفتر الوحي):
تحدث علماء السيرة قديماً وحديثاً عن فترة الوحي، فقال الحافظ ابن حجر: وفتور الوحي عبارة عن تأخيره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ماكان - صلى الله عليه وسلم - وجده من الروع، وليحصل له التشوق الى العود(2).
__________
(1) البخاري، كتاب الوحي؛ مسلم (2/197-204) الإيمان.
(2) فتح الباري (1/36).(3/110)
فعن جابر بن عبدالله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي: (بينا أنا أمشي، إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني. فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ صدق الله العظيم قُمْ فَأَنذِرْ صدق الله العظيم وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ صدق الله العظيم وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ صدق الله العظيم وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ صدق الله العظيم } فحمي الوحي وتتابع)(1).
وقال صفي الرحمن المباركفوري: أما مدة فترة الوحي فروى ابن سعد عن ابن عباس مايفيد أنها كانت أياماً، وهذا الذي يترجح بل يتعين بعد إدارة النظر في جميع الجوانب، وأما مااشتهر من أنها دامت طيلة ثلاث سنين أو سنتين ونصف فلا يصح بحال، وليس هذا موضوع التفصيل في رده، وقد بقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أيام الفترة كئيباً محزوناً تعتريه الحيرة والدهشة(2) وأما ماقاله بعض رواة السيرة من أنه كان تردّى شواهق الجبال وأن جبريل عليه السلام كان يظهر له في كل مرة ويبشره بأنه رسول الله مرسل ضعيف كما أنه يتنافى مع عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم -(3).
المبحث الثاني
... الدعوة السرية
أولاً: الأمر الرباني بتبليغ الرسالة:
عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - معرفة اليقين أنه أصبح نبياً لله الرحيم الكريم وجاء جبريل عليه السلام للمرة الثانية وأنزل الله على نبيه قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ صدق الله العظيم قُمْ فَأَنذِرْ صدق الله العظيم وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ صدق الله العظيم وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ صدق الله العظيم } (سورة المدثر، الآيات: 1 الى 4).
__________
(1) البخاري، بدء الوحي رقم 4.
(2) انظر: الرحيق المختوم، ص79،80.
(3) انظر: الروض الأنف للسهيلي (2/433-434).(3/111)
كانت هذه الآيات المتتابعة إيذاناً للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن الماضي قد انتهى بمنامه وهدوئه، وأنه أمامه عمل عظيم يستدعي اليقظة والتشمير، والإنذار والإعذار، فليحمل الرسالة، وليوجه الناس، وليأنس بالوحي، وليقوَ على عنائه فانه مصدر رسالته ومدد دعوته(1).
وتعد هذه الآيات أول أمر بتبليغ الدعوة، والقيام بالتبعة. وقد أشارت هذه الآيات الى أمور هي خلاصة الدعوة المحمدية، والحقائق الاسلامية التي بني عليها الاسلام كله، وهي الوحدانية والإيمان باليوم الآخر، وتطهير النفوس، ودفع الفساد عن الجماعة، وجلب النفع(2).
__________
(1) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص90.
(2) انظر: دولة الرسول من التكوين الى التمكين، د. كامل سلامة، ص181.(3/112)
كانت هذه الآيات تهييجاً لعزيمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لينهض بعبء ماكُلِّفه من تبليغ رسالات ربه، فيمضي قُدُماً بدعوته، لايبالي العقبات والحواجز، كان هذا النداء متلطف { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}إيذاناً بشحذ العزائم، وتوديعاً لأوقات النوم والراحة وجاء عقب هذا النداء الأمر الجازم بالنهوض {قُمْ}في عزيمة ناهضة، وقوة حازمة، تتحرك في اتجاه تحقيق واجب التبليغ، وفي مجئ الأمر بالإنذار منفرداً على التبشير في أول خطاب وجَّه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد فترة الوحي إيذان بأن رسالته تعتمد على الكفاح الصبور، والجهاد المرير، ثم زادت الآيات في تقوية عزيمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشدِّ أزره، وحضَّه على المضي قُدماً إلى غاية ما أمر به، غير عابئ بما يعترض طريقه من عقبات، مهما يكن شأنها فقيل له، { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}أي لاتعظم شيئاً من أمور الخلق، ولايتعاظمك منهم شيء، فلا تتهيب فعلاً من أفعالهم، ولاتخشى أحداً منهم، ولاتعظِّم إلا ربك الذي تعهدك وأنت في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، فربّاك على موائد فضله، ورعاك بإحسانه وجوده حتى أخرجك للناس نبياً ورسولاً، بعد أن أعدّك خلْقاً وخُلُقاً لتحمل أمانة أعظم رسالاته { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، فكل تعظيم وتكبير وإجلال حق لله تعالى وحده، لايشاركه فيه أحد، أو شيء من مخلوقاته(1).
__________
(1) انظر: محمد رسول الله، صادق عرجون (1/589،590،591).(3/113)
وفي قوله { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، فكأنه قيل له - صلى الله عليه وسلم -، فأنت على طهرك وتطهُّرك بفطرتك في كمال إنسانيتك بما جبلك الله عليه من أكرم مكارم الأخلاق، وبما حباك به من نبوته ليعدَّك بها ليومك هذا أحوج إلى أن تزداد في تطهرك النفسي، فتزداد من المكارم في حياتك مع الناس والأشياء، فأنت اليوم رسول الله الى العالمين، وكمال الرسالة في كمال الخُلق الاجتماعي، صبراً، وحلماً، وعفواً، وإحساناً، ودؤوباً على الجد في تبليغ الدعوة الى الله تعالى، ولايثنيك إيذاء، ولا يقعدك عن المضي الى غايتك فادح البلاء(1).
وفي قوله: {والرجز فأهجر}؛ فكأنه قيل له - صلى الله عليه وسلم -: ليكن قصدك ونيتك في تركك ماتركت فطرة وطبعاً هجره تكليفاً وتعبُّداً، لتكون قدوة أمتك، وعنوان تطهرها بهداية رسالتك(2).
ثانياً: بدء الدعوة السرية:
بعد نزول آيات المدثر قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو الى الله والى الاسلام سراً، وكان طبيعياً أن يبدأ بأهل بيته، وأصدقائه، وأقرب الناس إليه.
1- إسلام السيدة خديجة رضي الله عنها:
كان أول من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من النساء، بل أول من آمن به على الإطلاق السيدة خديجة رضي الله عنها، فكانت أول من استمع الى الوحي الإلهي من فم الرسول الكريم، وكانت أول من تلا القرآن بعد أن سمعته من صوت الرسول العظيم وكانت كذلك أول من تعلّم الصلاة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبيتُها هو أول مكان تلي فيه أول وحي نزل به جبريل على قلب المصطفى الكريم بعد غار حراء(3).
__________
(1) نفس المصدر، ص592.
(2) انظر: محمد رسول الله ، محمد عرجون، ص593.
(3) انظر: المرأة في العهد النبوي، د. عصمة الدين كركر ، ص36.(3/114)
كان أول شيء فرضه الله من الشرائع بعد الإقرار بالتوحيد إقامة الصلاة. وقد جاء في الاخبار حديث تعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - زوجه خديجة الوضوء والصلاة حين افتُرضت على رسول الله: أتاه جبريل وهو بأعلى مكة فهَمز له بعَقبهِ في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل عليه السلام ورسوله ينظر ليُريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما رأى جبريل توضأ، ثم قام جبريل عليه السلام فصلى به وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلاته، ثم انصرف جبريل عليه السلام فجاء رسول الله خديجة فتوضأ لها يريها كيف الطهور للصلاة، كما أراه جبريل عليه السلام، فتوضأت كما توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم صلىّ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما صلىّ به جبريل عليه السلام(1).
2- إسلام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
وبعد إيمان السيدة خديجة دخل علي بن أبي طالب في الاسلام وكان أول من آمن من الصبيان، وكانت سنه إذ ذاك عشر سنين على أرجح الأقوال، وهو قول الطبري وابن اسحاق(2) وقد أنعم الله عليه بأن جعله يتربى في حجر رسوله - صلى الله عليه وسلم - قبل الاسلام حيث أخذه من عمه أبي طالب وضمه إليه(3) وكان علي - رضي الله عنه - ثالث من أقام الصلاة بعد رسول الله وبعد خديجة رضي الله عنها(4).
__________
(1) انظر: ابن هشام (1/244) ؛ من معين السيرة، صالح الشامي، ص41.
(2) السيرة النبوية لابي شهبة (1/284).
(3) ابن هشام (1/246).
(4) عيون الأثر، ابن سيد الناس (1/115).(3/115)
وقد ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حضرت الصلاة خرج الى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفياً من أبيه ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها فإذا أمسيا رجعا ليضمّهما ذلك البيت الطاهر التقي بالإيمان المفعم بصدق الوفاء وكرم المنَبْت(1).
3- إسلام زيد بن حارثة - رضي الله عنه -:
هو أول من آمن بالدعوة من الموالي(2)، حب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومولاه، ومتبنّاه: زيد بن حارثة الكلبي الذي آثر رسول الله على والده وأهله؛ عندما جاءوا الى مكة لشرائه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فترك رسول الله الأمر لحارثة فقال زيد لرسول الله: ماأنا بالذي أختار عليك أحداً، وأنت مني بمنزلة الأب والعمِّ، فقالا له والده وعمه: ويحك تختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم، وإني رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحد أبداً(3).
4- بنات النبي صلى الله عليه وسلم:
وكذلك سارع الى الاسلام بنات النبي - صلى الله عليه وسلم -، كل من زينب، وأم كلثوم، وفاطمة ورقية، فقد تأثرنّ قبل البعثة بوالدهن - صلى الله عليه وسلم - في الاستقامة وحسن السيرة، والتنزه عما كان يفعله أهل الجاهلية، من عبادة الأصنام والوقوع في الآثام، وقد تأثرن بوالدتهن؛ فأسرعن الى الإيمان(4) وبذلك أصبح بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أول أسرة مؤمنة بالله تعالى منقادة لشرعه في الاسلام، ولهذا البيت النبوي الأول مكانه عظمى في تاريخ الدعوة الاسلامية لما حباه الله به من مزايا وخصه بشرف الأسبقية في الإيمان وتلاوة القرآن وإقام الصلاة فهو:
__________
(1) انظر: المرأة في العهد النبوي، د. عصمة الدين ، ص42.
(2) يطلق المولى على السيد، وعلى المملوك الذي أعتق وهو المراد هنا.
(3) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول، د. محمد قلعجي، ص191.
(4) انظر: السيرة النبوية لابي شهبة (1/284).(3/116)
أول مكان تُلي فيه وحي السماء بعد غار حراء.
وهو أول بيت ضم المؤمنة الأولى سابقة السبق الى الاسلام.
وهو أول بيت أقيمت فيه الصلاة.
وهو أول بيت اجتمع فيه المؤمنون الثلاثة السابقون الى الاسلام، خديجة وعلي وزيد بن حارثة.
وهو أول بيت تعهد بالنصُّرة ولم يتقاعس فيه فرد من أفراده كباراً أو صغاراً عن مساندة الدعوة(1).
يحق لهذا البيت أن يكون قدوة ويحق لربته أن تكون مثالاً ونموذجاً حيّاً لبيوت المسلمين ولنسائهم ورجال المؤمنين كافة، فالزوجة فيه طاهرة مؤمنة مخلصة وزيرة الصدق والأمان. وابن العم المحضون والمكفول مستجيب ومعضّد ورفيق، والمتنبىَّ مؤمن صادق مساعد ومعين، والبنات مصدّقات مستجيبات مؤمنات ممتثلات(2).
لقد اكتسى هذا البيت بأبهى حُلل الإيمان وأضاء أركانه قبس نور التصديق، فكان بين الزوجين التجاوب والتكافل وتمّ بذلك تجسيد معنى قوله تعالى في محكم تنزيله: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ} (سورة الأعراف، الآية: 189).
__________
(1) انظر: المرأة في العهد النبوي، د. عصمة، ص43.
(2) نفس المصدر، ص45.(3/117)
وفيه أيضاً تجسيد ماروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مجال التربية قوله :(يولد الولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)(1)، ومن استقامة التربية كان بناته رضي الله عنهن من السابقات إلى التصديق والإيمان، وهكذا كان البيت النبوي مكانته الأولى والواجب يدعو إلى أن يكون قدوتنا والأنموذج الذي نسير على هديه في المعاشرة ومثالية السلوك بالصدق والتصديق، في الاستجابة والعمل لكل من آمن بالله رباً وبمحمد نبياً ورسولاً(2)، إن الحقيقة البارزة في المنهج الرباني تشير إلى أهمية بناء الفرد الصالح والأسرة الصالحة، كأول حلقة من حلقات الإصلاح، والبناء، ثم المجتمع الصالح، ولقد تجلت عناية الإسلام بالفرد المسلم وتكوينه ووجوب أن يسبق أي عمل آخر، فالفرد المسلم هو حجر الزاوية في أي بناء اجتماعي ولما كانت الأسرة التي تستقبل الفرد منذ ولادته، وتستمر معه مدة طويلة من حياته، بل هي التي تحيط به طوال حياته، فهي المحضن المتقدم الذي تتحدد به معالم الشخصية وخصائصها وصفاتها، كما أنها الوسيط بين الفرد والمجتمع، فإذا كان هذا الوسط سليماً قوياً أمد طرفيه - الفرد والمجتمع - بالسلامة والقوة(3).
ولهذا اهتم الإسلام بالأسرة واتجه إليها يضع لها الأسس التي تكفل قيامها ونموها نمواً سليماً، ويوجهها الوجهة الربانية لتكون حلقة قوية في بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية التي تسعى لصناعة الحضارة الربانية في دنيا الناس(4).
__________
(1) البخاري، كتاب الجنائز 80، 92؛ مسلم، كتاب القدر ، 22.
(2) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص46.
(3) انظر: دولة الرسول من التكوين حتى التمكين، كامل سلامة، ص208.
(4) نفس المصدر، ص208.(3/118)
ويظهر هذا الإهتمام بالأسرة من حركة الدعوة الإسلامية منذ ساعتها الأولى، إذ كان من قدر الله تعالى أن يكون أول السابقين إلى الإسلام امرأة (خديجة رضي الله عنها)، إشادة بمنزلة المرأة في الإسلام وأنه يرسي قواعده على الأسرة، وصبي (علي رضي الله عنه) إشارة لحاجة الدعوة إلى البراعم الجديدة واهتمامها بالجيل الناشيء لتسير في مراحلها الصحيحة لبناء المجتمع ثم الدولة ثم الحضارة(1) وإن التأمل في نقطة البدء بهذه الدعوة التي توجهت إلى إمرأة كخديجة، رضي الله عنها ومولى كزيد بن حارثة، وصبي كعلي بن أبي طالب، وبقية أسرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لتدل دلالة واضحة على أن الدعوة الإسلامية موجهة لكل الناس صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، وسيدهم ومولاهم، فلكل هذه الشرائح الإجتماعية من الرجال والنساء والأطفال والموالي، دوره المنتظر في البناء الإجتماعي، وإقامة الدولة، وانتشار الحضارة(2).
5- إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه :
كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أول من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الرجال الأحرار، والأشراف، فهو من أخص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(مادعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة، وتردد ونظر، إلا أبا بكر، ماعَكَم(3) حين دعوته، ولاتردد فيه)(4)، فأبو بكر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو حسنة من حسناته عليه الصلاة والسلام لم يكن إسلامه إسلام رجل، بل كان إسلامه إسلام أمة، فهو في قريش كما ذكر ابن اسحاق في موقع العين منها:
- كان رجلاً مألفاً لقومه محبباً سهلاً.
__________
(1) انظر: الأخوات المسلمات وبناء الأسرة المسلمة، محمود الجوهري، ص7.
(2) انظر: دولة الرسول من التكوين حتى التمكين، ص208.
(3) ماتلبث بل سارع.
(4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/284).(3/119)
- وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر.
- وكان رجلاً تاجراً.
- ذا خلق ومعروف.
- وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجارته، وحسن مجالسته(1).
لقد كان أبو بكر كنزاً من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من الموطئين أكنافاً، من الذين يألفون ويؤلفون، والخلق السمح وحده عنصر كاف لألفة القوم وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام:( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر )(2) وعلم الأنساب عند العرب، وعلم التاريخ هما أهم العلوم عندهم، ولدى أبي بكر الصديق رضي الله عنه النصيب الأوفر منهما، وقريش تعترف للصديق بأنه أعلمها بأنسابها وأعلمها بتاريخها ومافيه من خير وشر، فالطبقة المثقفة ترتاد مجلس أبي بكر لتنهل منه علماً لاتجده عند غيره غزارة ووفرة وسعة، ومن أجل هذا كان الشباب النابهون، والفتيان الأذكياء يرتادون مجلسه دائماً، إنهم الصفوة الفكرية المثقفة التي تود أن تلقى عنده هذه العلوم، وهذا جانب آخر من جوانب عظمته، وطبقة رجال الأعمال، ورجال المال في مكة، هي كذلك من رواد مجلس الصديق، فهو إن لم يكن التاجر الأول في مكة، فهو من أشهر تجارها، فأرباب المصالح هم كذلك قصاده، ولطيبته وحسن خلقه تلقى عوام الناس يرتادون بيته، فهو المضياف الدمث الخلق، الذي يفرح بضيوفه، ويأنس بهم، فكل طبقات المجتمع المكي تجد حظها عند الصديق رضوان الله عليه(3) كان رصيده الأدبي والعلمي والاجتماعي في المجتمع المكي عظيماً، ولذلك عندما تحرك في دعوته للإسلام استجاب له صفوة من خيرة الخلق وهم:
عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، في الرابعة والثلاثين من عمره.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/371).
(2) أورده الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/8) ج3.
(3) انظر: التربية القيادية للغضبان (1/115).(3/120)
عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - في الثلاثين من عمره.
سعد بن أبي وقاص وكان في السابعة عشرة من عمره.
والزبير بن العوام - رضي الله عنه - وكان في الثانية عشرة من عمره.
وطلحة بن عبيد الله وكان في الثالثة عشرة من عمره(1).
كان هؤلاء الأبطال الخمسة أول ثمرة من ثمار الصديق أبي بكر - رضي الله عنه -، دعاهم الى الاسلام فاستجابوا، وجاء بهم الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرادى، فأسلموا بين يديه، فكانوا الدعامات الأولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العدة الأولى في تقوية جانب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبهم أعزه الله وأيّده وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، رجالاً ونساءً، وكان كل من هؤلاء الطلائع داعية الى الاسلام، وأقبل معهم رعيل السابقين، الواحد، والأثنان، والجماعة القليلة، فكانوا على قلة عددهم كتيبة الدعوة وحصن الرسالة، لم يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق في تاريخ الاسلام(2).
إن تحرك أبي بكر - رضي الله عنه - في الدعوة الى الله تعالى يوضح صورة من صور الإيمان بهذا الدين والاستجابة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - صورة المؤمن الذي لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال، حتى يحقق في دينا الناس ماآمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعة عاطفية مؤقتة سرعان ماتخمد وتذبل وتزول، وقد بقي نشاط ابي بكر وحماسه الى أن توفاه الله جل وعلا لم يفتر أو يضعف أو يمّل أو يعجز.
ونلاحظ أن أصحاب الجاه لهم أثر كبير في كسب أنصار للدعوة؛ ولهذا كان أثر أبي بكر - رضي الله عنه - في الاسلام أكثر من غيره(3).
__________
(1) انظر: التربية القيادية (1/116).
(2) انظر: محمد رسول الله، عرجون (1/533).
(3) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، د. يحيى اليحيى، ص62.(3/121)
بعد أن كانت صحبة الصديق لرسول الله تعالى مبنية على مجرد الاستئناس النفسي والخلقي، صارت الأنسة بالإيمان بالله وحده، وبالمؤازرة في الشدائد، واتخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام من مكانة أبي بكر، وأنس الناس به ومكانته عندهم قوة لدعوة الحق، فوق ماكان له عليه الصلاة والسلام من قوة نفس، ومكانة عند الله وعند الناس(1).
ومضت الدعوة سرية وفردية على الاصطفاء والاختيار للعناصر التي تصلح أن تتكون منها الجماعة المؤمنة التي ستسعى لإقامة دولة الاسلام ودعوة الخلق الى دين رب العباد والتي ستقوم حضارة ربانية ليس لها مثيل.
6- الدفعة الثانية:
جاء دور الدفعة الثانية، بعد إسلام الدفعة الأولى، فأول من أسلم من هذه الدفعة: أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة عبدالله بن عبد الأسد بن مخزوم بن مرة ابن عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (برة بنت عبدالمطلب، وأخوه من الرضاع، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، وعثمان بن مظعون الجمحي، وعبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقدامة وعبدالله بن قصي، وفاطمة بنت الخطاب بن نفيل أخت عمر بن الخطاب، وزوجة سعيد بن زيد، وأسماء بن أبي بكر الصديق وخباب بن الأرت حليف بني زهرة(2).
7- الدفعة الثالثة:
أسلم عمير بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن مسعود، وابن الحارث، بن شمخ بن مخزوم ... بن هذيل ومسعود بن القارئ، وهو مسعود بن ربيعة، بن عمرو، بن سعد بن عبدالعزى، بن حمالة من القارة.
__________
(1) انظر: خاتم النبيين لأبي زهرة، ص398.
(2) انظر: دولة الرسول من التكوين الى التمكين، ص212.(3/122)
وسليط بن عمرو، وأخوه حاطب بن عمرو، وعياش بن أبي ربيعة، وأمرأته أسماء بنت سلامة، وخنيس بن حذافة السهمي، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب، وعبدالله بن جحش وأخوه أحمد، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بن عميس، وحاطب بن الحارث، وامرأته فاطمة بنت المجلل، وأخوه خطاب بن الحارث، وامرأته فكيهة بنت يسار، وأخوهما، معمر بن الحارث، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمطلب بن أزهر، وامرأته رملة بنت أبي عوف، والنحام بن عبدالله بن أسيد، وعامر بن فهيرة مولى ابي بكر، وفهيرة وأمه، وكان عبداً للطفيل بن الحارث بن سخبرة، فاشتراه الصديق وأعتقه، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية، بن عبد شمس، بن عبد مناف، بن قصي ، وامرأته أمينة بنت خلف. وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وواقد بن عبدالله بن عبد مناف، وخالد بن عامر وعاقل وإياس بنو البكير بن عبد ياليل، وعمار بن ياسر حليف مخزوم بن يقظة، وقال ابن هشام: عنسي من مذحج.
وصهيب بن سنان ، هو (سابق الروم).
ومن السابقين الى الاسلام: أبو ذر الغفاري، وأخوه أنيس، وأمه(1).
ومن أوائل السابقين بلال بن رباح الحبشي.
وهؤلاء السابقون من جميع بطون قريش، عدهم ابن هشام أكثر من أربعين نفراً(2).
وقال ابن اسحاق: ثم دخل الناس في الاسلام أرسالاً من الرجال والنساء حتى فشا ذكر الاسلام في مكة، وتُحِدَثَ به(3).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/287).
(2) انظر: سيرة ابن هشام (1/245 الى 262).
(3) انظر: سيرة ابن هشام (1/262).(3/123)
ويتضح من عرض الاسماء السابقة، أن السابقين الأولين الى الاسلام كانوا خيرة أقوامهم، ولم يكونوا كما يحب أعداء الاسلام أن يصوروا للناس -أنهم من حثالة الناس، أو من الأرقاء الذين أرادوا استعادة حريتهم أو ماشابه ذلك- وجانب الصواب بعض كتّاب السيرة لدى حديثهم عن السابقين الأولين الى الاسلام، فكان من كتابة بعضهم (وتُحَدِثنا السيرة أن الذين دخلوا في الاسلام في هذه المرحلة كان معظمهم خليطاً من الفقراء والضعفاء والأرقاء فما الحكمة في ذلك؟)(1).
(كان رصيد هذه الدعوة بعد سنوات ثلاث من بدايتها أربعين رجلاً وامرأة عامتهم من الفقراء والمستضعفين والموالي والأرقاء وفي مقدمتهم أخلاط من مختلف الأعاجم: صهيب الرومي وبلال الحبشي)(2) (فآمن به ناس من ضعفاء الرجال والنساء والموالي)(3).
إن البحث الدقيق يثبت أن مجموع من أشير إليهم بالفقراء والمستضعفين والموالي والأرقاء والأخلاط من مختلف الأعاجم هو ثلاثة عشر. ونسبة هذا العدد من العدد الكلي من الداخلين في الإسلام لا يقال "أكثرهم" ولا "معظمهم" ولا "عامتهم".
إن الذين أسلموا يومئذ لم يكن يدفعهم دافع دنيوي وإنما هو إيمانهم بالحق الذي شرح الله صدورهم له ونصرة نبيه - صلى الله عليه وسلم - يشترك في ذلك الشريف والرقيق والغني والفقير ويتساوى في هذا ابوبكر وبلال وعثمان وصهيب(4) رضي الله عنهم.
__________
(1) فقه السيرة للبوطي، ص77.
(2) نفس المصدر، ص79.
(3) حدائق الأنوار ومطالع الأسرار لابن الربيع (1/301).
(4) انظر: من معين السيرة، صالح الشامي، ص40.(3/124)
يقول الاستاذ صالح الشامي: نحن لانريد أن ننفي وجود الضعفاء والأرقاء ولكن نريد أن ننفي أن يكونوا هم الغالبية -لأن هذا مخالف للحقائق الثابتة- ولو كانوا كذلك لكانت دعوة طبقية يقوم فيها الضعفاء والأرقاء ضد الأقوياء وأصحاب السلطة والنفوذ، ككل الحركات التي تقاد من خلال البطون. إن هذا لم يدر بخلد أي من المسلمين وهو يعلن إسلامه، إنهم يدخلون في هذا الدين على اعتبارهم أخوة في ظل هذه العقيدة. عباداً لله، وإنه لمن القوة لهذه الدعوة أن يكون غالبية أتباعها في المرحلة الاولى بالذات من كرام أقومهم، وقد آثروا في سبيل العقيدة أن يتحملوا أصنافاً من الهوان ماسبق لهم أن عانوها أو فكروا بها(1).
لقد كان الاسلام ينساب الى النفوس الطيبة والعقول النيرة، والقلوب الطاهرة التي هيأها الله لهذا الأمر، ولقد كان في الأوائل خديجة وأبوبكر وعلي وعثمان والزبير، وعبدالرحمن وطلحة، وأبو عبيدة وأبو سلمة والأرقم وعثمان بن مظعون، وسعيد بن زيد، وعبدالله بن جحش، وجعفر وسعد بن أبي وقاص، وفاطمة بنت الخطاب وخالد بن سعيد، وأبو حذيفة بن عتبة وغيرهم رضي الله عنهم وهم من سادة القوم وأشرافهم(2).
هؤلاء هم السابقون الأولون الذين سارعوا الى الإيمان والتصديق بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثالثاً: استمرار النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة:
__________
(1) نفس المصدر، ص40.
(2) المصدر السابق، ص40.(3/125)
استمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته السرية يستقطب عدداً من الأتباع والأنصار من أقاربه وأصدقائه، وخاصة الذين يتمكن من ضمهم في سرية تامة بعد إقناعهم بالإسلام وهؤلاء كانوا نعم العون والسند للرسول - صلى الله عليه وسلم - لتوسيع دائرة الدعوة في نطاق السرية وهذه المرحلة العصيبة من حياة دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظهرت فيها الصعوبة والمشقة في تحرك الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن معه بالدعوة، فهم لايخاطبون إلا من يأمنوا من شره، ويثقون به، وهذا يعني أن الدعوة خطواتها بطيئة وحذرة، كما تقتضي صعوبة المواظبة على تلقي مطالب الدعوة من مصدرها، وصعوبة تنفيذها، إذا كان الداخل في هذا الدين ملزماً منذ البداية بالصلاة ودراسة ماتيسر من القرآن -مثلاً- ولم يكن يستطيع ان يصلي بين ظهراني قومه، ولا أن يقرأ القرآن، فكان المسلمون يختفون في الشعاب والأودية إذا أرادوا الصلاة(1).
1- الحس الأمني:
إن من معالم هذه المرحلة، الكتمان والسرية حتى عن أقرب الناس وكانت الأوامر النبوية على وجوب المحافظة على السرية واضحة وصارمة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يكوّن من بعض المسلمين أسراً (خلايا) وكانت هذه الأسر تختفي اختفاء استعداد وتدريب، لا اختفاء جبن وهروب حسب ماتقتضيه الخطة الربانية، فبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام ينظم اصحابه من أسر وخلايا صغيرة، فكان الرجل يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما، عند الرجل به قوة وسعة من المال، فيكونان معه ويصيبان منه فضل طعامه ويجعل منهم حلقات، فمن حفظ شيئاً من القرآن عَلّمَ من لم يحفظ، فيكون من هذه الجماعات أسر أخوة، وحلقات تعليم.
__________
(1) انظر: الغرباء الأولون، سلمان العودة.(3/126)
إن المنهج الذي سار عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تربية أتباعه هو القرآن الكريم وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربي أصحابه تربية شاملة في العقائد والعبادات والأخلاق، والحس الأمني وغيرها ولذلك نجد في القرآن الكريم آيات كريمة تحدتث عن الأخذ بالحس الأمني؛ لأن من أهم عوامل نهوض الأمة أن ينشأ الحس الأمني في جميع أفرادها وخصوصاً في الصف المنظم الذي يدافع عن الاسلام ويسعى لتمكينه في دنيا الناس ولذلك نجد النواة الأولى للتربية الأمنية كانت في مكة وتوسعت مع توسع الدعوة ووصولها الى الدولة ومن الآيات المكية التي أشارت الى هذا المعنى قوله تعالى: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} (سورة يوسف، الآية87).
ووجه الاستدلال: أن يعقوب عليه السلام قد طلب من أبنائه أن يتحسسوا ويبحثوا عن يوسف وأخيه، وفي هذا إقرار من أحد أنبياء الله في جمع المعلومات عن الآخرين، ويعتبر جمع المعلومات من العناصر الأساسية في علم الاستخبارات، ويؤكد على مبدأ جمع المعلومات {وَلاَ تَيْئَسُوا}(1).
ولاشك أن الصحابة كانوا يجمعون المعلومات على من يريدون دعوته للإسلام وكانت القيادة تشرف على ذلك ولذلك قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بترتيب جهاز أمني رفيع يشرف على الأتصال المنظم بين القيادة والقواعد ليضمن تحقيق مبدأ السرية.
__________
(1) انظر: الاستخبارات العسكرية في الاسلام، عبدالله علي، ص105.(3/127)
وفي القرآن المكي نجد قوله تعالى :{وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ صدق الله العظيم وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ صدق الله العظيم } (سورة القصص، الآيتان: 11-12).
ونلحظ في الآيات الآتي:
استخدام أم موسى مبدأ جمع المعلومات والحصول عليها في حفاظها على ابنها: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} (سورة القصص، الآية 11) والتقصي إنما هو تتبع الأثر وجمع المعلومات.
اختيار العنصر الأمين والحريص في جمع المعلومات لتكن صحيحة وموثقة وأمينة، وقبل ذلك حريصة على تلك المعلومات { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ}(القصص، آية 11) فأم موسى لم تختر غير أخته، لأن الأخت تعتبر من الحريصين والأمناء على تلك المصلحة، وهي تندفع من ذاتها في جمع المعلومات وتحصيل الأخبار، ومن المهم بمكان أن يكون العنصر المرسل في عملية الاستخبارات مندفعاً من ذاته حريصاً على المصلحة المرسل إليها.
التقصي والتتبع بدون إشارة أو جلب أنظار {قُصِّيهِ}(سورة القصص، آية:11) إذ نفهم من كلمة التقصي الانتباه وعدم إثارة الأنظار، ودليل ذلك إنها بصرت به دون أن يشعروا بها.
دقة الملاحظة وقوة الفراسة أثناء جمع المعلومات {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}(سورة القصص، الآية: 11).
استعملت أخت موسى شكلاً من أشكال الاستخبارات العصرية وهو التخريب الفكري، فبعد أن نظرت إليهن وهنّ غير قادرات على إرضاعه: {فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} (سورة القصص، الآية 12). وقد قصدت إبعاد موسى عن المراضع، ليخلص الى أمها دون إشعارهم أنها منه بسبيل.(3/128)
محاولة تحقيق الهدف أثناء جمع المعلومات، فأخت موسى لم تكتف بأن تعرف مكان موسى لتخبر أمها بمكانه وإنما هي تقصت الأخبار، وتوصلت الى مكانه وحاولت إعادته الى أمه وقد نجحت في هذا(1).
إن هذه الآيات الكريمة تربي في حس الصحابة الحس الأمني وأخذ الحيطة في مسيرتهم الدعوية.
إن السيرة النبوية غنية في ابعادها الأمنية منذ تربية الأفراد وحتى بعد قيام الدولة، وتظهر الحاجة للحركات الاسلامية والدول المسلمة لإيجاد أجهزة أمنية متطورة (في زمننا المعاصر)؛ تحمي الاسلام والمسلمين من أعدائها اليهود والنصارى والملاحدة، وتعمل على حماية الصف المسلم في الداخل من اختراقات الأعداء فيه، وتجتهد لرصد أعمال المعارضين والمحاربين للاسلام، حتى تستفيد القيادة من المعلومات التي تقدمها لها أجهزتها المؤمنة الأمنية، ولابد أن تؤسس هذه الأجهزة على قواعد منبعها القرآن الكريم والسنّة النبوية، وتكون أخلاق رجالها قمة رفيعة تمثل صفات رجال الأمن المسلمين.
إن اهتمام المسلمين بهذا الأمر يجنبهم المفاجآت العدوانية (إذا عرفت العدو وعرفت نفسك فليس هناك مايدعوك الى أن تخاف نتائج مئة معركة، وإذا عرفت نفسك ولم تعرف العدو فإنك ستواجه الهزيمة في كل معركة)(2).
إن بناء الأجهزة الأمنية، ومكاتب المعلومات التي تقدم للقيادة التقارير لوضع الخطط المناسبة على أثرها، ليس امراً جديداً، بل هو موغل في تاريخ الانسانية، وكذلك في تاريخ المسلمين منذ عصر النبوة والخلافة الراشدة حتى يومنا هذا.
__________
(1) انظر: الاستخبارات العسكرية في الاسلام، ص111، 112.
(2) نفس المصدر ، ص311.(3/129)
إن من أسباب التمكين المهمة إعطاء هذا الأمر حقه من الاهتمام، والارتقاء به وتطويره بما يناسب أحوال العصر الذي نحن فيه(1). كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشرف بنفسه على تربية أصحابه في كافة الجوانب، ووزعهم في أسر، فمثلاً كانت فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد وهو ابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، كانوا في أسرة واحدة مع نعيم بن عبدالله النحام بن عدي وكان معلمهم خباب بن الأرت، وكان اشتغالهم بالقرآن لا يقتصرون منه على تجويد تلاوته وضبط مخارج حروفه ولا على الاستكثار من سرده، والإسراع في قراءته بل كان همهم دراسته وفهمه ومعرفة أمره ونهيه والعمل به(2).
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يهتم بالتخطيط الدقيق المنظم، ويحسب لكل خطوة حسابها، وكان مدركاً تماماً أنه سيأتي اليوم الذي يؤمر فيه بالدعوة علناً وجهراً، وأن هذه المرحلة سيكون لها شدتها وقوتها، فحاجة الجماعة المؤمنة المنظمة تقتضي أن يلتقي الرسول المربي مع أصحابه، فكان لابد من مقر لهذا الاجتماع، فقد أصبح بيت خديجة رضي الله عنها لا يتسع لكثرة الأتباع، فوقع اختيار النبي وصحبه على دار الأرقم بن أبي الأرقم؛ إذ أدرك الرسول عليه الصلاة والسلام أن الأمر يحتاج الى الدقة المتناهية في السرية والتنظيم، ووجوب التقاء القائد المربي بأتباعه في مكان آمن بعيد عن الأنظار، ذلك أن استمرار اللقاءات الدورية المنظمة بين القائد وجنوده هو خير وسيلة للتربية العملية والنظرية، وبناء الشخصية القيادية الدعوية.
ومما يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعد أتباعه ليكونوا بناة الدولة وحملة الدعوة، وقادة الأمم هو حرصه الشديد على هذا التنظيم السري الدقيق، فلو كان مجرد داعية لما احتاج الأمر الى كل هذا.
__________
(1) انظر: فقه التمكين في القرآن، علي الصّلابي ، ص311.
(2) انظر: الدعوة الاسلامية، د. عبدالغفار محمد عبدالعزيز، ص96.(3/130)
ولو كان يريد مجرد إبلاغ الدعوة للناس لكان خير مكان في الكعبة حيث منتدى قريش كلها، ولكن الأمر -غير ذلك- فلابد من السرية التامة في التنظيم، وفي المكان الذي يلتقي فيه مع أصحابه، وفي الطريقة التي يحضرون إليها الى مكان اللقاء(1).
2- دار الأرقم بن أبي الأرقم (مقر القيادة):
تذكر كتب السيرة أن اتخاذ دار الأرقم مقرٌ لقيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان بعد المواجهة الأولى التي برز فيها سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال ابن اسحاق: وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلوا ذهبوا في الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم. فبينما سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في نفر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم، وعابوا عليهم مايصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلحي بعير فشجه، فكان أول دم أهريق في الاسلام)(2).
أصبحت دار الأرقم السرية مركزاً جديداً للدعوة يتجمع فيه المسلمون، ويتلقون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل جديد من الوحي، ويستمعون له -عليه الصلاة والسلام- وهو يذكرهم بالله، ويتلو عليهم القرآن، ويضعون بين يديه كل مافي نفوسهم وواقعهم فيربيهم -عليه الصلاة والسلام- على عينه كما تربى هو على عين الله عز وجل وأصبح هذا الجمع هو قرة عين النبي- صلى الله عليه وسلم -(3).
رابعاً: أهم خصائص الجماعة الاولى التي تربت على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) انظر: دولة الرسول من التكوين الى التمكين، ص218.
(2) انظر: ابن هشام (1/236).
(3) انظر: التربية القيادية (1/198).(3/131)
كانت الجماعة الاولى التي تربت على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد برزت فيها خصائص مهمة جعلتها تتقدم بخطوات رصينة نحو صياغة الشخصية المسلمة، التي تقيم الدولة المؤمنة، وتصنع الحضارة الرائعة، فمن أبرز هذه الخصائص:
1- الاستجابة الكاملة للوحي، وعدم التقديم بين يديه:
إن العلم والفقه الصحيح الكامل في العقائد والشرائع والآداب وغيرها لايكون إلا عن طريق الوحي المنزل -قرآناً وسنّة- وذلك بالعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأفعاله ومعرفة مايجب له وماينزه عنه سبحانه وتعالى- ، والعلم بالملائكة، والكتاب، والنبيين، والعلم بالآخرة، والجنة، والنار، والعلم بالشرائع المجملة والمفصّلة، والأحكام المتعلقة بالمكلفين، والعلم بالمسلك الصحيح الذي ينبغي سلوكه في سائر الاحوال: في الغضب والرضا، القصد والغنى، في الأمن والخوف، في الخير والشر، في الهدنة والفتنة، والتزام الدليل الشرعي هو منهج الذين أنعم الله عليهم بالإيمان الصحيح(1) قال تعالى: { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}(سورة الأعراف، آية:181).
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم -أعظم من غيرهم انتفاعاً بالدليل والوحي، وتسليماً له؛ لأسباب عديدة؛ منها:
أ- نزاهة قلوبهم، وخلوها من كل ميل أو هوى غير ماجاءت به النصوص، واستعدادها التام لقبول ماجاء عن الله ورسوله والإذعان والانقياد له انقياداً مطلقاً؛ دون حرج، ولا تردد، ولا إحجام.
ب- معاصرتهم لوقت التشريع ونزول الوحي، ومصاحبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولذلك كانوا أعلم الناس بملابسات الأحوال التي نزلت النصوص فيها، والعلم بملابسات الواقعة أو النص من أعظم أسباب فقهه وفهمه وإدراك مغزاه.
__________
(1) انظر: صفة الغرباء، سلمان العودة، ص83.(3/132)
3- وكانت النصوص -قرآنا وسنّة- تأتي في كثير من الأحيان لأسباب تتعلق بهم -بصورة فردية ، أو جماعية-، فتخاطبهم خطاباً مباشراً، وتؤثر فيهم أعظم التأثير، لأنها تعالج أحداثاً واقعية، وتعقب في حينها، حيث تكون النفوس مشحونة بأسباب التأثر، متهيئة لتلقي الأمر والاستجابة له.
4- قد أعفاهم قرب عهدهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الجهد الذي احتاج إليه من بعدهم في تمييز النصوص وتصحيحها، فلم يحتاجوا -في غالب أحوالهم- الى سلسلة الاسناد، ولا معرفة الرجال والعلل وغيرها، ولم يختلط عليهم الصحيح بغيره، ومن ثمّ لم يقع عندهم التردد في ثبوت النص الذي وقع عند كثير ممن جاء بعدهم -خاصة من أصحاب النفوس المريضة، أو من الجهلة الذين لم يدرسوا السنّة ويفقهوها رواية ودراية(1) -فكانوا إذا سمعوا أحداً يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم --؛ ابتدرته ابصارهم؛ كما يقول ابن عباس - رضي الله عنه -(2).
2- التأثر الوجداني العميق بالوحي والإيمان:
__________
(1) انظر: صفة الغرباء ، ص92،93.
(2) نفس المصدر، ص94.(3/133)
كان الصحابة يتعاملون مع العلم الصحيح ليس كحقائق علمية مجردة يتعامل معها العقل فحسب، دون أن يكون لها علاقة بالقلب والجوارح؛ فقد أورثهم العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله: محبته والتأله إليه، والشوق الى لقائه والتمتع بالنظر الى وجهه الكريم في جنة عدن، وأورثهم تعظيمه، والخوف، منه والحذر من بأسه وعقابه، وبطشه ونقمته وأورثهم رجاء ماعنده، والطمع في جنته ورضوانه، وحسن الظن به، فاكتملت لديهم -بذلك- آثار العلم بالله والإيمان به، وهي : الحب والخوف، والرجاء، وأورثهم العلم بالجنة والنار: الرغبة في النعيم الأبدي السرمدي والخوف من مقاساة العذاب الرهيب، فقلوبهم تتراوح بين نعيم ترجوه وتخشى فوته، وعذاب تحذره وتخشى وقوعه؛ فتعلقت قلوبهم بالآخرة -فكرة وخوفاً ورجاء-، حتى كأنهم يرون البعث والقيامة والميزان والصراط والجنة والنار رأي العين، وأورثهم علمهم بالقدر، وأنه أمر قد فرغ منه: التوكل على الله، وعدم التوكل على الأسباب، وعدم الفرح بما أوتو ولا الأسس على مامُنعوا، والإجمال في الطلب، إذ لن يفوت المرء ماقدر له، ولن يأتيه مالم يقدّر، كما غرس في نفوسهم الشجاعة والإقدام، وأورثهم علمهم بالموت وإيمانهم به: العزوف عن الدنيا، والإقبال على الآخرة، والدوام على العمل الصالح، إذ لايدري المرء متى يموت؟ والموت منه قريب وهذه المعاني الوجدانية هي المقصود الأعظم من تحصيل العلم، وإذا فقدت؛ فلا ينفع مع فقدها علم، بل هو ضررُ في العاجل والآجل(1).
ولقد كان للصحابة -رضي الله عنهم- من هذه المعاني الوجدانية أعظم نصيب؛ لأن إيمانهم كان أعمق وأكمل من إيمان غيرهم ولقد تلقوه غضاً طرياً من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَحْلَقْ بغبرة الأهواء والغفلان(2).
__________
(1) انظر: صفة الغرباء ، ص97.
(2) نفس المصدر، ص102.(3/134)
وكان الصحابة فرساناً بالنهار، ورهباناً بالليل، لا يمنعهم علمهم وإيمانهم الحق وخشوعهم لله من القيام بشؤونهم الدنيوية؛ من بيع، وشراء، وحرث، ونكاح، وقيام على الأهل والأولاد وغيرهم فيما يحتاجون، وكانوا بعيدين كل البعد عن الإعجاب بالنفس، الذي أصيب به بعض المتعبدين ممن جاء بعدهم، فترتب عليه ازدرائهم واحتقارهم لأعمال الآخرين، واستهانة بمجهوداتهم في سبيل الدين وحطّ من قدرهم، فأصبحوا في الحقيقة متعبدين في محراب (الذات) معظمين لأنفسهم، وهذا مصدر كل رذيلة خلقية، وسبب لمحق كل عمل صالح.
والذين يصابون بهذه البليّة المردية يشعرون بأنهم -وحدهم- الأوصياء على الدين ويغلقون عقولهم وأعينهم عن رؤية فضائل الآخرين، فلا يرون إلا العيوب والمساوئ، بل تصبح الفضائل عندهم عيوباً ومساوئ(1).
خامساً: شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثرها في صناعة القادة:
كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم أعظم مدرسة للتربية والتعليم عرفتها البشرية كيف لا، وأستاذها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أستاذ البشرية كلها، وتلاميذها هم الدعاة والهداة، والقادة الربانيون الذي حرروا البشرية من رق العبودية وأخرجوهم، من الظلمات الى النور، بعد أن رباهم الله تعالى على عينه تربية غير مسبوقة ولا ملحوقة(2).
في دار الأرقم وفق الله تعالى رسوله الى تكوين الجماعة الأولى من الصحابة الذين نقلهم من هباء الجاهلية الى نور الايمان، وأصبحوا جميعاً من عظماء الرجال ومشاهير العالم، وصناع التاريخ البشري، حيث قاموا باعظم دعوة عرفتها البشرية.
إن خريجي مدرسة الأرقم من عظماء الرجال في العالم، وهما الذين قامت عليهم الدعوة، والجهاد والدولة والحضارة فيما بعد؛ فلم يجد الزمان بواحد مثل أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص....الخ.
__________
(1) انظر: صفة الغرباء، ص103،104.
(2) انظر: دولة الرسول من التكوين الى التمكين، ص219.(3/135)
لقد استطاع الرسول المربي الأعظم - صلى الله عليه وسلم - أن يربي في تلك المرحلة السرية، وفي دار الأرقم أفذاذ الرجال الذين حملوا راية التوحيد، والجهاد والدعوة فدانت لهم الجزيرة، وقاموا بالفتوحات العظيمة في نصف قرن.
كانت قدرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فائقة في اختيار العناصر الأولى للدعوة في خلال السنوات الثلاثة الأولى من عمر الدعوة، وتربيتهم وإعدادهم إعداداً خاصاً ليؤهلهم لاستلام القيادة، وحمل الرسالة، فالرسالات الكبرى، والأهداف الإنسانية العظمى لا يحملها إلا أفذاذ الرجال، وكبار القادة، وعمالقة الدعاة كانت دار الأرقم مدرسة من أعظم مدارس الدنيا، وجامعات العالم، التقي فيها الرسول المربي بالصفوة المختارة من الرعيل الأول (السابقين الأولين)، فكان ذلك اللقاء الدائم تدريباً عملياً لجنود المدرسة على مفهوم الجندية والسمع والطاعة والقيادة وآدابها وأصولها، ويشحذ فيه القائد الأعلى جنده وأتباعه بالثقة بالله والعزيمة والإصرار، ويأخذهم بالتزكية والتهذيب، والتربية والتعليم، كان هذا اللقاء المنظم يشحذ العزائم، ويقوي الهمم، ويدفع الى البذل والتضحية والإيثار(1).
كانت نقطة البدء في حركة التربية الربانية الأولى لقاء المدعو بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فيحدث للمدعو تحول غريب واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فيخرج المدعو من دائرة الظلام الى دائرة النور، ويكتسب الإيمان ويطرح الكفر، ويقوى على تحمل الشدائد والمصائب في سبيل دينه الجديد وعقيدته السمحة.
__________
(1) انظر: دولة الرسول من التكوين الى التمكين، ص220.(3/136)
كانت شخصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحرك الأول للإسلام، وشخصيته - صلى الله عليه وسلم - تملك قوى الجذب والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض والعظمة دائماً تحب، وتحاط من الناس بالإعجاب، ويلتف حولها المعجبون يلتصقون بها إلتصاقاً بدافع الإعجاب والحب، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضيف الى عظمته تلك ، أنه رسول الله، متلقي الوحي من الله، ومبلغه الى الناس، وذلك بعد آخر له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه فهو لا يحبه لذاته فقط كما يُحب العظماء من الناس، ولكن أيضاً لتلك النفحة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي المكرم؛ ومن ثم يلتقي في شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - البشر العظيم والرسول العظيم، ثم يصبحان شيئاً واحد في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية.. حب عميق شامل للرسول البشر أو للبشر الرسول ويرتبط حب الله بحب رسوله ويمتزجان في نفسه، فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها كذلك.
كان هذا الحب الذي حرك الرعيل الأول من الصحابة هو مفتاح التربية الاسلامية ونقطة ارتكازها ومنطلقها الذي تنطلق منه(1).
سادساً: المادة الدراسية في دار الأرقم:
__________
(1) انظر: منهج التربية الاسلامية، محمد قطب، ص34،35.(3/137)
كانت المادة الدراسية التي قام بتدريسها النبي - صلى الله عليه وسلم - في دار الأرقم القرآن الكريم، فهو مصدر التلقي الوحيد، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقي وتفرده وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج والفكرة المركزية التي يتربى عليها الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، وكان روح القدس ينزل بالآيات غضة طرية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيسمعها الصحابة من فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، فتسكب في قلوبهم، وتتسرب في أرواحهم، وتجري في عروقهم مجرى الدم وكانت قلوبهم وأرواحهم تتفاعل مع القرآن وتنفعل به، فيتحول الواحد منهم الى إنسان جديد بقيمه ومشاعره، واهدافه، وسلوكه وتطالعاته. لقد حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - حرصاً شديداً على ان يكون القرآن الكريم وحده هو المادة الدراسية ، والمنهج الذي تتربى عليه نفوس أصحابه، وألا يختلط تعليمهم بشيء من غير القرآن(1).
في دار الأرقم تعلموا أن القرآن وحده وتوجيهات الحبيب المصطفى هما الدستور الأعلى للدعوة والحياة والدولة والحضارة كان القرآن الكريم المادة الدراسية الوحيدة التي تلقاه تلاميذ مدرسة الأرقم على يد المربي الأعظم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو المصدر الوحيد للتلقي ، وعليه تربى الجيل الفريد من هذه الأمة العظيمة، فهو كتاب هذه الأمة الحي، ورائدها الناصح، وهو مدرستها التي تتلقى فيها دروس حياتها.
لقد تلقى الرعيل الأول القرآن الكريم بجدية ووعي وحرص شديد على فهم توجيهاته، والعمل بها بدقة تامة، فكانوا يلتمسون من آياته مايوجههم في كل شأن من شؤون حياتهم الواقعية، والمستقبلية.
__________
(1) انظر: دولة الرسول من التكوين الى التمكين، ص225.(3/138)
فنشأ الرعيل الأول على توجيهات القرآن الكريم، وجاؤوا صورة عملية لهذه التوجيهات الربانية، فالقرآن كان هو المدرسة الإلهية، التي تخرج منها الدعاة والقادة الربانيون، ذلك الجيل الذي لم تعرف له البشرية مثيلاً من قبل ومن بعد لقد أنزل الله القرآن الكريم على قلب رسوله، لينشئ به أمة ويقيم به دولة، وينظم به مجتمعاً وليربي به ضمائر وأخلاقاً وعقولاً، ويبني به عقيدة وتصوراً وأخلاقاً، ومشاعر، فخرّج الجماعة المسلمة الاولى التي تفوقت على سائر المجتمعات في جميع المجالات؛ العقدية، والروحية والخلقية، والاجتماعية والسياسية والحربية(1).
سابعاً: الأسباب في أختيار دار الأرقم:
كان اختيار دار الأرقم لعدة أسباب منها؛
1- إن الأرقم لم يكن معروفاً بإسلامه، فما كان يخطر ببال احد أن يتم لقاء محمد واصحابه بداره.
2- إن الأرقم بن أبي الأرقم - رضي الله عنه - من بني مخزوم وقبيلة بني مخزوم هي التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم. فلو كان الأرقم معروفاً بإسلامه فلا يخطر في البال أن يكون اللقاء في داره لأن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو.
3- إن الأرقم بن أبي الأرقم كان فتى عند إسلامه؛ فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره، ويوم تفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الاسلامي فلن يخطر في بالها أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ بل يتجه نظرها وبحثها الى بيوت كبار أصحابه، أو بيته هو نفسه عليه الصلاة والسلام.
فقد يخطر على ذهنهم أن يكون مكان التجمع على الأغلب في أحد دور بني هاشم، أو في بيت أبي بكر - رضي الله عنه - أو غيره ومن أجل هذا نجد أن اختيار هذا البيت كان في غاية الحكمة من الناحية الأمنية، ولم نسمع أبداً أن قريشاً داهمت ذات يوم هذا المركز وكشف مكان اللقاء(2).
ثامناً: من صفات الرعيل الأول:
__________
(1) نفس المصدر، ص335.
(2) انظر: المنهاج الحركي للغضبان (1/49).(3/139)
كانت الفترة الاولى من عمر الدعوة تعتمد على السرية والفردية وكان التخطيط النبوي دقيقاً ومنظماً، وكان تخطيطاً سياسياً محكماً، فما كان اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لدار الأرقم لمجرد اجتماع المسلمين فيها لسماع نصائح ومواعظ وإرشادات، وإنماكانت مركزاً للقيادة ، ومدرسة للتعليم والتربية والإعداد والتأهيل للدعوة والقيادة، بالتربية الفردية العميقة الهادئة، وتعهد بعض العناصر والتركيز عليها تركيزاً خاصاً، لتأهيلها لأعباء الدعوة والقيادة، فكان الرسول المربي قد حدد لكل فرد من هؤلاء عمله بدقة وتنظيم حكيم، اشترك في ذلك، الكل يعرف دوره المنوط به، والكل يدرك طبيعة الدعوة والمرحلة التي تمر بها، والكل ملتزم جانب الحيطة والحذر والسرية والانضباط التام(1).
كان بناء الجماعة المؤمنة في الفترة المكية يتم بكل هدوء وتدرج وسرية وكان شعار هذه المرحلة هو توجيه المولى عز وجل المتمثل في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (سورة الكهف، الاية 28).
فالآية الكريمة تأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يصبر على تقصير وأخطاء المستجيبين لدعوته، وأن يصبر على كثرة تساؤلاتهم خاصة إن كانت خاطئة، وأن يصبر على ترددهم في قبول التوجيهات، وأن يجتهد في تصبيرهم على فتنة أعداء الدعوة، وأن يوضح لهم طبيعة طريق الدعوة، وأنها شاقة، وأن لايغرر به مغرر ليبعده عنهم، وأن لايسمع فيهم منتقصاً، ولا يطيع فيهم متكبراً أغفل الله قلبه عن حقيقة الأمور وجوهرها(2).
__________
(1) انظر: دولة الرسول من التكوين الى التمكين ، ص237.
(2) انظر: الطريق الى جماعة المسلمين، حسين بن محسن، ص170.(3/140)
إن الآيات الكريمة السابقة من سورة الكهف تصف لنا بعض صفات الجماعة المسلمة الأولى والتي من أهمها؛
أ- الصبر في قوله تعالى: {واصبر نفسك}:
إن كلمة الصبر تتردد في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوصي الناس بها بعضهم بعضاً، وتبلغ أهميتها أن تصير صفة من أربع للفئة الناجية من الخسران.
قال تعالى: {وَالْعَصْرِ صدق الله العظيم إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ صدق الله العظيم إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ صدق الله العظيم } (سورة العصر) فحكم المولى عز وجل على جميع الناس بالخسران إلا من أتى بهذه الأمور الأربعة:
1- الإيمان بالله.
2- العمل الصالح.
3- التواصي بالحق.
4- التواصي بالصبر.
لأن نجاة الانسان لا تكون إلا إذا أكمل الانسان نفسه بالإيمان والعمل الصالح، وكمل غيره بالنصح والإرشاد، فيكون قد جمع بين حق الله، وحق العباد، والتواصي بالصبر ضرورة لأن القيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحق والعدل من أعسر مايواجه الفرد والجماعة، ولابد من الصبر على جهاد النفس، وجهاد الغير، والصبر على الأذى والمشقة، والصبر على تبجح الباطل، والصبر على طول الطريق وبطء المراحل، وانطماس المعالم وبعد النهاية(1).
ب- كثرة الدعاء والإلحاح على الله:
وهذا يظهر في قوله تعالى: {يدعون ربهم بالغداة والعشي}؛ فالدعاء باب عظيم، فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات، وانهالت عليه البركات فلابد من تربية الأفراد الذين يعدون لحمل الرسالة وأداء الأمانة على حسن الصلة بالله وكثرة الدعاء، لأن ذلك من أعظم وأقوى عوامل النصر(2).
ج- الإخلاص:
__________
(1) انظر: الظلال (6/3968).
(2) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم، ص221.(3/141)
ويظهر في قوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ولابد عند إعداد الأفراد إعداداً ربانياً أن يتربى المسلم على أن تكون أقواله، وأعماله، وجهاده كله لوجه الله وإبتغاء مرضاته وحسن مثوبته من غير نظر الى مغنم، أو جاه، أو لقب، أو تقدم، أو تأخر، وحتى يصبح جندياً من أجل العقيدة والمنهج الرباني ولسان حاله قوله تعالى: {إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ صدق الله العظيم } (سورة الأنعام، الآيتان: 162،163).
إن الاخلاص ركن من أركان قبول العمل ومعلوم أن العمل عند الله لايقبل إلا بالإخلاص وتصحيح النية وبموافقة السنّة والشرع.
د- الثبات:
ويظهر في قوله تعالى : {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (سورة الكهف، آية: 28).
وهذا الثبات المذكور فرع عن ثبات أعم ينبغي أن يتسم به الداعية الرباني، قال تعالى: {من الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (سورة الأحزاب، الآية:23).
ففي الآيات الكريمة ثلاث صفات، ايمان ورجولة، وصدق. وهذه العناصر مهمة للثبات على المنهج الحق، لأن الإيمان يبعث على التمسك بالقيم الرفيعة والتثبت بها، وباعث على التضحية بالنفس ليبقى المبدأ الرفيع، والرجولة محركة للنفس نحو هذا الهدف غير مهتمة بالصغائر والصغار، وإنما دائماً دافعة نحو الهدف الأسمى، والمبدأ الرفيع، وصدق يحول دون التحول أو التغير أو التبديل، ومن ثم يورث هذا كله الثبات الذي لايتلون معه الإنسان وإن رأى شعاع السيف على رقبته أو رأى حبل المشنقة ينتظره، أو رأى الدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها.(3/142)
ولاشك أن اللبنات التي تعد لحمل الدعوة، وإقامة الدولة، وصناعة الحضارة تحتاج الى الثبات الذي يعين على تحقيق الأهداف السامية والغايات الجميلة والقيم الرفيعة(1).
هذه من أهم الصفات التي اتصفت بها الجماعة المؤمنة الأولى.
تاسعاً: انتشار الدعوة في بطون قريش وعالميتها:
كان انتشار الاسلام في المرحلة السرية في سائر فروع قريش بصورة متوازنة دون أن يكون ثقل كبير لأي قبيلة وهذه الظاهرة مخالفة لطبيعة الحياة القبلية آنذاك. وهي إذا أفقدت الاسلام الاستفادة الكاملة من التكوين القبلي والعصبية لحماية الدعوة الجديدة ونشرها، فإنها بنفس الوقت لم تؤلب عليه العشائر الاخرى بحجة أن الدعوة تحقق مصالح العشيرة التي انتمت إليها وتعلي من قدرها على حساب العشائر الأخرى ولعل هذا الانفتاح المتوازن على الجميع أعان في انتشار الاسلام في العشائر القرشية العديدة دون تحفظات متصلة بالعصبية؛ فابوبكر الصديق من "تميم" وعثمان بن عفان من "بني أمية" والزبير بن العوام من "بني أسد" ، ومصعب بن عمير من "بني عبدالدار" وعلي بن أبي طالب من "بني هاشم" وعبدالرحمن بن عوف من "بني زهرة" وسعيد بن زيد من "بني عدي"، وعثمان بن مظعون من "بني جمح" ؛ بل إن عدداً من المسلمين في هذه المرحلة لم يكونوا من قريش، فعبدالله بن مسعود من هذيل، وعتبة بن غزوان من مازن، وعبدالله بن قيس من الأشعريين، وعمار بن ياسر من عنس من مذحج، وزيد بن حارثة بن كلب، والطفيل بن عمرو من دوس، وعمرو بن عبسة من سليم، وصهيب النمري من "بني النمر بن قاسط" لقد كان واضحاً أن الاسلام لم يكن خاصاً بمكة(2).
__________
(1) انظر: دعوة الله بين التكوين والتمكين ، د. علي جريشة، ص91، 92.
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/133).(3/143)
لقد شق النبي - صلى الله عليه وسلم - طريقه بكل تخطيط ودقة وأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، فأهتم بالتربية العميقة، والتكوين الدقيق، والتعليم الواسع، والاحتياط الأمني، والأنسياب الطبيعي في المجتمع، والأعداد الشامل للمرحلة التي بعد السرية؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم إن الدعوة الى الله لم تنزل لتكون دعوة سرية يخاطب بها الفرد بعد الفرد، بل نزلت لإقامة الحجة على العالمين، وإنقاذ من شاء الله إنقاذه من الناس من ظلمات الشرك والجاهلية الى نور الاسلام والتوحيد، ولذلك كشف الله تعالى عن حقيقة هذه الدعوة وميدانها منذ خطواتها الأولى حيث أن القرآن المكي بين شمول الدعوة وعالمتيها:
قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (سورة ص، آية 87).
قال تعالى: {وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (سورة القلم، آية 52).
إن الدعوة جاءت لتخاطب البشر، كل البشر، ولتنقذ منهم من سبقت له من الله الحسنى.
وهذا يعني أن الدعوة جاءت ومن خصائصها؛ الإعلان والصدع، والبلاغ، والبيان، والإنذار، وتحمل مايترتب على هذا من التكذيب، والإيذاء والقتل إن استسرار النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته اول الأمر، إنما هو حال استثنائي لظروف وملابسات خاصة، هي ظروف بداية الدعوة وضعفها وغربتها، وينبغي أن يفهم ضمن هذا الإطار.(3/144)
وإن كان الكتمان والاستسرار سياسة مصحلية في كثير من أمور الاسلام في الحرب والسلام، فهو كذلك في موضوع الدعوة؛ فالاستسرار بها كان لضرورة فرضها الواقع وإلا فالأصل هو بيان دين الله وشرعه وحكمه لكل الناس، أما الاستسرار بما سوى ذلك من الوسائل والخطط والتفصيلات فهو أمر مصلحي خاضع للنظر والاجتهاد البشري؛ إذ لا يترتب عليه كتمان للدين، ولا سكوت عن حق، ولا يتعلق به بيان، ولا بلاغ، ومن ذلك -مثلاً- معرفة عدد الاتباع المؤمنين بالدعوة، فهذا أمر مصلحي لايخل بقضية البلاغ والنذارة التي نزلت الكتب وبعثت الرسل من أجلها، فيمكن أن يظل سراً متى كانت المصلحة في ذلك، مع القيام بأمر الدعوة والتبليغ، ولهذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بعد أن صدع بدعوته وأنذر الناس وأعلن النبوة ظل يخفي أشياء كثيرة لا تؤثر على مهمة البلاغ والبيان، كعدد أتباعه، وأين يجتمع بهم؟ وماهي الخطط التي يتخذونها إزاء الكيد الجاهلي(1).
المبحث الثالث
البناء العقدي في العهد المكي
أولاً: فقه النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعامل مع السنن:
إن بناء الدول وتربية الأمم والنهوض بها يخضع لقوانين وسنن ونواميس تتحكم في مسيرة الأفراد والشعوب والأمم والدول، وعند التأمل في سيرة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - نراه قد تعامل مع السنن والقوانين بحكمة وقدرة فائقة.
إن السنن الربانية أحكام الله تعالى الثابتة في الكون، وعلى الإنسان في كل زمان ومكان وهي كثيرة جداً والذي يهمنا منها في هذا الكتاب مايتعلق بحركة النهوض تعلقاً وثيقاً.
__________
(1) انظر: الغرباء الأولون، ص124،125،126.(3/145)
(ولقد شاء الله رب العالمين أن يجري أمر هذا الدين، بل أمر هذا الكون على السنن الجارية، لا على السنن الخارقة، وذلك حتى لايأتي جيل من أجيال المسلمين فيتقاعس، ويقول: لقد نصر الأولون بالخوارق، ولم تعد الخوارق تنزل بعد ختم الرسالة وانقطاع النبوات)(1).
إن المتدبر لآيات القرآن الكريم يجدها حافلة بالحديث عن سنن الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتغير ويجد عناية ملحوظة بإبراز تلك السنن وتوجيه النظر إليها واستخراج العبرة منها والعمل بمقتضياتها، لتكوين المجتمع المسلم المستقيم على أمر الله، والقرآن الكريم حينما يوجه أنظار المسلمين الى سنن الله تعالى في الأرض فهو بذلك يردهم الى الأصول التي تجري وفقها، فهم ليسوا بدعاً من الحياة؛ فالنواميس التي تحكم الكون والشعوب والأمم والدول والأفراد جارية لاتتخلف، والأمور لا تمضي جزافاً والحياة لاتجري في الأرض عبثاً؛ وإنما تتبع هذه النواميس؛ فإذا درس المسلمون هذه السنن، وادركوا مغازيها؛ تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا الى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، أو الى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام، واستشرفوا خط السير على ضوء ماكان في الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بالأسباب المؤدية إليه(2).
(والسنن التي تحكم الحياة واعدة؛ فما وقع منها مضى من زمان، وسيقع في كل زمان)(3).
__________
(1) انظر: واقعنا المعاصر، محمد قطب، ص414.
(2) انظر: في ظلال القرآن (1/478).
(3) نفس المصدر (1/478).(3/146)
وهذه السنن هي التي يجري الله - تعالى - عليها فلك الحياة ويسير عليها حركتها، فليس هناك شيء واحد في حياة البشر يحدث اعتباطاً، وإنما يجري كل شيء في هذه الحياة حسب سنن الله تعالى التي لاتتبدل، ولاتتخلف، ولاتحابي أحداً من الخلق، ولاتستجيب لأهواء البشر(1).
والمسلمون أولى أن يدركوا سنن ربهم المبرزة لهم في كتاب الله وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى يصلوا إلى مايرجون من عزة وتمكين (فإن التمكين لايأتي عفواً ولاينزل اعتباط، ولايخبط خبط عشواء، بل إن له قوانينه التي سجلها الله تعالى في كتابه الكريم ليعرفها عباده المؤمنون، ويتعاملوا معها على بصيرة)(2).
إن من شروط التعامل المنهجي السليم مع السنن الإلهية والقوانين الكونية في الأفراد والمجتمعات والأمم، هو أن نفهم، بل نفقه فقهاً شاملاً رشيداً هذه السنن، وكيف تعمل ضمن الناموس الإلهي أو مانعبر عنه بفقه السنن ونستنبط منها على ضوء فقهنا لها القوانين الإجتماعية والمعادلات الحضارية(3).
يقول الأستاذ البنا في منهجية التعامل مع السنن:
(لاتصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحولّوا تيارها، واستعينوا ببعضها على البعض، وترقبوا ساعة النصر ومامنكم ببعيد)(4).
ونلاحظ عدة أمور مهمة:
1- عدم المصادمة.
2- المغالبة.
3- الاستخدام.
4- التحويل.
5- الاستعانة ببعضها على بعض.
6- ترقب ساعة النصر(5).
إن ماوصل إليه الأستاذ البنا يدل على دراسته العميقة للسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، وتجارب الشعوب، والأمم ومعرفة صحيحة للواقع الذي يعيشه وتوصيف سليم للداء والدواء.
__________
(1) انظر: التمكين للأمة الاسلامية، محمد السيد، ص208.
(2) انظر: جيل النصر المنشود للقرضاوي، ص15.
(3) انظر: المشروع الاسلامي لنهضة الأمة قرأءة في فكر البنا، ص58.
(4) انظر: رسالة المؤتمر الخامس، ص127.
(5) انظر: المشروع الاسلامي لنهضة الأمة، ص58.(3/147)
إن حركة الإسلام الأولى التي قادها النبي - صلى الله عليه وسلم - في تنظيم جهود الدعوة، وإقامة الدولة ، وصناعة الإنسان النموذجي الرباني الحضاري خضعت لسنن وقوانين قد ذكرت بعضها بنوع من الإيجاز، كأهمية القيادة في صناعة الحضارات، وأهمية الجماعة المؤمنة المنظمة في مقاومة الباطل، وأهمية المنهج الذي تستمد منه العقائد والأخلاق والعبادات، والقيم والتصورات ومن سنن الله الواضحة فيما ذكر سنة التدرج وهي من سنن الله تعالى في خلقه وكونه، وهي من السنن الهامة التي يجب على الأمة أن تراعيها وهي تعمل للنهوض والتمكين لدين الله.
ومنطلق هذه السنة أن الطريق طويل - لاسيما في هذا العصر الذي سيطرت فيه الجاهلية وأخذت أهبتها واستعدادها، كما أن الشر والفساد قد تجذّر في الشعوب واستئصاله يحتاج إلى تدرج.
فقد بدأت الدعوة الإسلامية الأولى متدرجة، تسير بالناس سيراً دقيقاً، حيث بدأت بمرحلة الاصطفاء والتأسيس، ثم مرحلة المواجهة والمقاومة، ثم مرحلة النصر والتمكين، وماكان يمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقت واحد، وإلا كانت المشقة والعجز وماكان يمكن كذلك أن يقدم واحد منها على الأخرى، وإلا كان الخلل والإرباك(1).
__________
(1) انظر: التمكين للأمة الاسلامية ، ص227.(3/148)
وإعتبار هذه السنة في غاية الأهمية (ذلك أن بعض العاملين في حقل الدعوة الإسلامية يحسون أن التمكين يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها، ويريدون أن يغيروا الواقع الذي تحياه الأمة الإسلامية في طرفة عين، دون النظر في العواقب، ودون فهم للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع ودون إعداد جيد للمقدمات، أو للأساليب والوسائل)(1) وقد وجه الله تعالى أنظارنا إلى هذه السنة في أكثر من موقع، فالله- تعالى- خلق السموات والأرض في ستة أيام، يعلمها سبحانه ويعلم مقدارها، وكان - جل شأنه - قادراً على خلقها في أقل من لمح البصر وكذلك بالنسبة لأطوار خلق الإنسان والحيوان والنبات كلها تتدرج في مراحل حتى تبلغ نماءها وكمالها ونضجها وفق سنة الله - تعالى - الحكيمة.
وسنة التدرج مقررة في التشريع الإسلامي بصورة واضحة ملموسة، وهذا من تيسير الإسلام على البشر، أنه راعى معهم سنة التدرج فيما شرعه لهم إيجاباً وتحريماً، فنجده حين فرض الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة فرضها على مراحل، ودرجات، حتى انتهت إلى الصورة الأخيرة التي استقرت عليها(2).
(ولعل رعاية الإسلام للتدرج هي التي جعلته لايُقدم على إلغاء نظام الرق الذي كان نظاماً سائداً في العالم كله عند ظهور الإسلام، وكان محاولة إلغائه تؤدي إلى زلزلة في الحياة الإجتماعية والإقتصادية، فكانت الحكمة في تضييق روافده بل ردمها كلها، ماوجد إلى ذلك سبيلاً، وتوسيع مصارفه إلى أقصى حد، فيكون ذلك بمثابة إلغاء الرق بطريق التدرج)(3).
__________
(1) انظر: آفات على الطريق (1/57) ومابعدها.
(2) انظر: التمكين للأمة الاسلامية ، ص227.
(3) انظر: الخصائص العامة للإسلام للقرضاوي، ص166 ومابعدها.(3/149)
(إننا إذا درسنا القرآن الكريم والسنة المطهرة دراسة عميقة علمنا كيف، وبأي تدرج وانسجام تم التغيير الإسلامي في بلاد العرب، ومنها إلى العالم كله على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - ... فلقد كانت الأمور تسير رويداً رويداً حسب مجراها الطبيعي حتى تستقر في مستقرها الذي أراده الله رب العالمين..)(1).
(وهذه السنة الربانية في رعاية التدرج ينبغي أن تتبع في سياسة الناس، وعندما يراد تطبيق الإسلام في الحياة، واستئناف حياة إسلامية متكاملة يكون التمكين ثمرتها، فإذا أردنا أن نقيم مجتمعاً إسلامياً حقيقياً، فلا نتوهم أن ذلك يمكن أن يتحقق بقرار يصدر من رئيس أو ملك أو من مجلس قيادي أو برلماني .. إنما يتحقق ذلك بطريق التدرج، أي بالإعداد، والتهيئة الفكرية، والنفسية، والإجتماعية.
وهو نفس المنهج الذي سلكه النبي - صلى الله عليه وسلم - لتغيير الحياة الجاهلية إلى الحياة الإسلامية، فقد ظل ثلاثة عشر عاماً في مكة، كانت مهمته الأساسية فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن الذي يستطيع أن يحمل عبء الدعوة، وتكاليف الجهاد لحمايتها ونشرها في الآفاق .. ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع بقدر ماكانت مرحلة تربية وتكوين)(2).
ثانياً: سنة التغيير وعلاقتها بالبناء العقدي:
__________
(1) انظر: التمكين للأمة الاسلامية نقلاً عن المودودي، ص229.
(2) انظر: الخصائص العامة للإسلام، ص168 بتصرف يسير.(3/150)
من السنن الهامة على طريق النهوض: السنة التي يقررها قول الله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} (سورة الرعد، آية:11) وارتباط هذه السنة الربانية بالتمكين للأمة الإسلامية واضح غاية الوضوح، ذلك أن التمكين لايمكن أن يتأتى في ظل الوضع الحالي للأمة الإسلامية، فلابد من التغيير، كما أن التمكين لن يتحقق لأمة ارتضت لنفسها حياة المذلة والتخلف، ولم تحاول أن تغير ماحل بها من واقع، وأن تتحرر من أسره(1).
(والإسلام يوم جاء أول مرة، وقف في وجهه واقع ضخم، واقع الجزيرة العربية، وواقع الكرة الأرضية، ووقفت في وجهه عقائد وتصورات، ووقفت في وجهه قيم وموازين، ووقفت في وجهه أنظمة وأوضاع ووقف في وجهه مصالح وعصبيات.
كانت المسافة بين الإسلام يوم جاء وبين واقع الناس في الجزيرة العربية، وفي الأرض كافة، مسافة هائلة، وكانت النقلة التي يريدهم عليها بعيدة بعيدة، وكانت تسند الواقع أحقاب من التاريخ وأشتات من المصالح، وألوان من القوى، وقفت كلها سداً في وجه هذا الدين الجديد، الذي لايكتفي بتغيير العقائد، والتصورات، والقيم والموازين، والعادات، والتقاليد، والأخلاق، والمشاعر، إنما يريد كذلك أن يغير الأنظمة والأوضاع، والشرائع والقوانين، كما يريد انتزاع قيادة البشرية من يد الطاغوت والجاهلية ليردها إلى الله، وإلى الإسلام)(2).
__________
(1) انظر: التمكين للأمة الاسلامية ، ص210.
(2) انظر: هذا الدين، سيد قطب، ص51،52.(3/151)
(ولاشك أن ماحدث مرة يمكن أن يحدث مرة أخرى، فقد حدث ماحدث وفق سنة جارية، لاوفق معجزات خارقة. وقد قام ذلك البناء على رصيد الفطرة المدخرة لكل من يستنفذ هذا الرصيد، ويجمعه، ويطلقه في اتجاهه الصحيح)(1).
إن التغيير الذي قاده النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنهج الله تعالى بدأ بالنفس البشرية وصنع منها الرجال العظماء، ثم انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع، حيث نقل الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم، وأنشأ بهم أروع حضارة عرفتها الحياة(2).
لقد قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنهجه القرآني بتغيير في العقائد والأفكار والتصور، وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس أصحابه فتغير ماحوله في دنيا الناس، فتغيرت المدينة ثم مكة ثم الجزيرة ثم بلاد فارس والروم في حركة عالمية تسبح وتذكر خالقها بالغدو والآصال.
كان اهتمام المنهج القرآني في العهد المكي بجانب العقيدة، فكان يعرض بشتى الأساليب فغمرت قلوبهم معاني الإيمان وحدث لهم تحول عظيم قال تعالى موضحاً ذلك الإرتقاء العظيم:{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة الانعام،آية:122).
__________
(1) نفس المصدر، ص65.
(2) انظر: نفوس ودروس في إطار التصوير القرآني، ص367 لتوفيق محمد سبع.(3/152)
حقاً إنه تصوير رائع عجيب ..! تقف الأقلام حائرة في وصفه، وكذلك الأسلوب القرآني في كل حين، تنهل منه الألباب، وتصدر عنه الأساليب وتعجز عن إيفائه حقه من التعبير. من الموت إلى الحياة، ومن الظلمات إلى النور هل يستويان مثلا! مسافة هائلة! ونقلة عظيمة، لايعرف عظمتها، ويدرك مقدارها إلا من تفرَّس في حالهم في ضوء هذا البيان القرآني المعجز(1).
ثالثاً: تصحيح الجانب العقدي لدى الصحابة:
كان الصحابة رضي الله عنهم قبل البعثة في تصورهم لله فيه قصور ونقص، فهم ينحرفون عن الحق في أسمائه وصفاته { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة الأعراف،آية:180)، فينكرون بعض صفاته ويسمونه بأسماء لاتوفيق فيها أو بما يوهم معنى فاسداً، وينسبون إليه النقائص كالولد والحاجة، فزعموا أن الملائكة بنات الله، وجعلوا الجن شركاء له سبحانه{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} (سورة الأنعام، آية:100) {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} (سورة النحل، آية:57) فجاء القرآن الكريم لترسيخ العقيدة الصحيحة وتثبيتها في قلوب المؤمنين وإيضاحها للناس أجمعين وذلك ببيان توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، والإيمان بكل ماأخبر الله به من الملائكة والكتاب والنبيين والقدر خيره وشره واليوم الآخر واثبات الرسالة للرسل عليهم السلام والإيمان بكل ما أخبروا به(2).
__________
(1) انظر: الانحرافات العقدية والعلمية للزهراني (1/25،26).
(2) انظر: أهمية الجهاد في نشر الدعوة، علي العلياني، ص47.(3/153)
فقد عَرَّفَ القرآن المكي للناس من هو الإله الذي يجب أن يعبدوه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربيهم على تلك الآيات العظيمة، فقد حرص - صلى الله عليه وسلم - منذ اليوم الأول أن يعطي الناس التصور الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم، مدركاً أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عند من صفت نفوسهم واستقامة فطرتهم. ولقد كان تركيز النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا التصور المستمد من القرآن الكريم على عدة جوانب منها:
1- أن الله منزه عن النقائص، موصوف بالكمالات التي لاتتناهى فهو سبحانه (واحد لاشريك له، ولم يتخذ صاحبة ولاولد).
2- وأنه سبحانه خالق كل شيء، ومالكه، ومدبر أمره { إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (سورة الأعراف،آية:54).
3- وانه تعالى مصدر كل نعمة في هذا الوجود، دقت أو عظمت ظهرت أو خفيت {فما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (سورة النحل،آية:53).
4- وأن علمه محيط بكل شيء، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولا مايخفي الإنسان ومايعلن {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (سورة الطلاق:12).(3/154)
5- وأنه سبحانه يقيد على الإنسان أعماله بواسطة ملائكته، في كتاب لايترك صغيرة ولاكبيرة إلا أحصاها، وسينشر ذلك في اللحظة المناسبة والوقت المناسب: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (سورة ق، آية:18).
6- وإنه سبحانه يبتلي عباده بأمور تخالف مايحبون، وما يهوون، ليعرف الناس معادنهم، ومن منهم يرضى بقضاء الله وقدره، ويسلم له ظاهراً وباطناً، فيكون جديراً بالخلافة والإمامة والسيادة، ومن منهم يغضب ويسخط، فلا يساوي شيئاً، ولايسند إليه شيء: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (سورة الملك،آية:2).
7- وانه سبحانه يوفق ويؤيد وينصر من لجأ إليه، ولاذ بحماه ونزل على حكمه في كل مايأتي ومايذر:{ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (سورة الأعراف،آية:196).
8- وأنه سبحانه وتعالى حقه على العباد أن يعبدوه، ويوحدوه فلايشركوا به شيئاً:{ بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ}(سورة الزمر،آية:66).
9- وأنه سبحانه - حدد مضمون هذه العبودية، وهذا التوحيد في القرآن العظيم(1).
__________
(1) انظر: منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غرس الروح الجهادية، ص10 الى 16.(3/155)
وتربى الرعيل الأول رضوان الله عليهم على فهم صفات الله وأسمائه الحسنى وعبدوه بمقتضاها فعظم الله في نفوسهم وأصبح رضاه سبحانه غاية مقصدهم وسعيهم واستشعروا مراقبته لهم في كل الأوقات، فكبحوا جماح نفوسهم من أن تزل والله مطلع عليها وتطهر صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشرك بجميع أنواعه سواء من اعتقاد متصرف مع الله عزوجل في أي شيء من تدبير الكون من إيجاد أو اعدام أو إحياء أو إماتة أو طلب خير أو دفع شر بغير اذن من الله سبحانه أو اعتقاد منازع له في شيء من متقضيات أسمائه وصفاته كعلم الغيب، وكالعظمة والكبرياء وكالحاكمية المطلقة، وكالطاعة المطلقة ونحو ذلك(1).
__________
(1) انظر: أهمية الجهاد في نشر الدعوة، ص53.(3/156)
إن التربية النبوية الرشيدة للأفراد على التوحيد هي الأساس التي قام عليه البناء الإسلامي، وهي المنهجية الصحيحة التي سار عليها الأنبياء والمرسلين من قبل، فكل رسول دعا قومه إلى إفراد الله بالعبادة قال تعالى عن نوح عليه السلام:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ صدق الله العظيم أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ صدق الله العظيم } (سورة هود، آية:25-26) وقال عن هود عليه السلام { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} (سورة هود، آية50). وقال عن صالح عليه السلام:{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (سورة هود، آية:61) وقال عن شعيب عليه السلام:{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} (سورة هود،آية:84). وقال عن عيسى عليه السلام { إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (سورة آل عمران، آية:51).(3/157)
وبالجملة فالرسل عليهم الصلاة والسلام كلهم دعوا لتوحيد الإلوهية وهو إفراد الله بالعبادة واجتناب الطاغوت والأصنام قال تعالى:{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (سورة النحل،آية:36).
وقد ربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته على تجريد التوحيد بأنواعه كلها وكان هو - صلى الله عليه وسلم - مثالاً حياً للمؤمن الموحد غاية التوحيد:{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِين صدق الله العظيم قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ صدق الله العظيم قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ صدق الله العظيم }(سورة الانعام، آية:161-164).(3/158)
وقد آتت تربية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ثمارها المباركة فتطهر الصحابة في الجملة مما يضاد توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فلم يحتكموا إلا إلى الله وحده ولم يطيعوا غير الله ولم يتبعوا أحداً على غير مرضاة الله ولم يحبوا غير الله كحب الله ولم يخشوا إلا الله ولم يتوكلوا إلا على الله ولم يلتجئوا إلا إلى الله ولم يدعوا دعاء المسألة والمغفرة إلا لله وحده ولم يذبحوا إلا لله ولم ينذروا إلا لله ولم يستغيثوا إلا بالله ولم يستعينوا فيما لايقدر عليه إلا الله إلا بالله وحده ولم يركعوا أو يسجدوا أو يحجوا أو يطوفوا أو يتعبدوا إلا لله وحده ولم يشبهوا الله لا بالمخلوقات ولا بالمعدومات بل نزهوه غاية التنزيه وأثبتوا له ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف أو تعطيل أو تأويل ولم يخافوا خوف السر إلا من الله وحده ولم يصرفوا الطاعة المطلقة إلا لله وحده ولم يشركوا أحداً من خلقه في خاصية من خصائص ربوبيته كالاحياء والاماتة والرزق والعلم المحيط والقدرة الباهرة والقيومية والبقاء المطلق والتحليل والتحريم للخلق ونحو ذلك جعلنا الله ممن يحقق التوحيد قولاً وعملاً واعتقاداً أنه ولي ذلك والقادر عليه(1).
__________
(1) انظر: أهمية الجهاد في نشر الدعوة، ص54،55.(3/159)
كما جاء القرآن المكي موضحاً عقيدة التوحيد جاء مثبتاً لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الإنس والجن كافة قال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(سورة سبأ،آية:28) وقال تعالى:{قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(سورة الأعراف،آية:158). وقال تعالى:{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ صدق الله العظيم قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ صدق الله العظيم يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ صدق الله العظيم }(سورة الأحقاف،آية:29-31) وغير هذه الآيات في القرآن الكريم كثير تثبت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - للإنس والجن كافة(1).
__________
(1) نفس المصدر، ص56.(3/160)
وكما رسخ القرآن المكي في قلوب الصحابة رضي الله عنهم العقيدة الصحيحة حول التوحيد بأنواعه وحول الرسول - صلى الله عليه وسلم - والرسالة، صحح عقيدتهم حول الملائكة وأنهم خلق من خلقه يسجدون له ولايستكبرون عن عبادته وليس لهم شرك في السماء ولا في الأرض وأنهم لايضرون ولاينفعون أحداً إلا بأمره سبحانه: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}(سورة الرعد، آية:13). {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلاَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}(سورة النحل،آية:49) {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(سورة فاطر،آية:1). { قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}(سورة سبأ:22).(3/161)
وكذلك سائر أركان الإيمان الأخرى غرسها القرآن المكي في قلوب المؤمنين بأسلوب القرآن المعجز ووضحها لكافة الناس فبين كيفية إنزال القرآن على الرسول - صلى الله عليه وسلم - {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً}(سورة الإسراء، آية:106). {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}(سورة الزمر، آية:23). {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلْ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}(سورة الانعام، آية:91).(3/162)
وبين سبحانه أنه له كتباً غير القرآن الكريم {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا}(سورة الإسراء، آية:55). {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}(سورة آل عمران، آية:3). وبين سبحانه أنه بعث كثيراً من الأنبياء : {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ}(سورة الزخرف، آية:6). فبعضهم ذكرهم القرآن وبعضهم لم يذكرهم {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}(سورة غافر، آية:78).
رابعاً: وصف الجنة في القرآن الكريم وأثره على الصحابة:(3/163)
ركز القرآن المكي على اليوم الآخر غاية التركيز فقل أن توجد سورة مكية لم يذكر فيها بعض أحوال يوم القيامة وأحوال المنعمين وأحوال المعذبين وكيفية حشر الناس ومحاسبتهم حتى لكأن الإنسان ينظر إلى يوم القيامة رأي العين: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ صدق الله العظيم وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ صدق الله العظيم وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون صدق الله العظيم وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ صدق الله العظيم وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ صدق الله العظيم قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ صدق الله العظيم وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ صدق الله العظيم وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ(3/164)
أَجْرُ الْعَامِلِينَ صدق الله العظيم وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم }(سورة الزمر، آية:67-75).
وقد جاءت الآيات الكريمة مبينة وواصفة للجنة، فأثر ذلك في نفوس الصحابة أيما تأثير فمما جاء في وصف الجنة بأنه لا مثل لها، وأن لها أبواباً، وفيها درجات، وتجري من تحتها الأنهار، وفيها عيون، وقصور وخيام وفيها أشجار متنوعة، كسدرة المنتهى، وشجرة طوبى، وتحدث القرآن الكريم عن نعيم أهلها، وطعمامهم وشرابهم، وخمرهم وآنيتهم ولباسهم وحليهم وفرشهم وخدمهم، وأحاديثهم ونسائهم وعن افضل مايعطاه أهلها وعن آخر دعواهم بحيث اصبح الوصف القرآني للجنة مهيمناً على جوارح وأحاسيس وأذهان وقلوب المسلمين ونذكر بعض ماجاء من وصفها من خلال القرآن الكريم:
1- الجنة لامثل لها:
إن نعيم الجنة شيء أعده الله لعباده المتقين نابع من كرم الله وجوده وفضله، ووصف لنا المولى عزوجل شيئاً من نعيمها إلا أنه ما أخفاه الله عنا من نعيم شئ عظيم لاتدركه العقول، ولاتصل إلى كنهه الأفكار قال تعالى:{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ صدق الله العظيم فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ صدق الله العظيم }(سورة السجدة، الآيتان: 16،17).(3/165)
وقد بين سبحانه وتعالى سبب هذا الجزاء بما وفقهم إليه من أعمال عظيمة من قيام ليل، وإنفاق في سبيله قال تعالى:{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ صدق الله العظيم فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون صدق الله العظيم َ}(سورة السجدة، الآيتان:16،17).
2- درجات الجنة:
إن أهل الجنة متفاوتون فيما بينهم على حساب أعمالهم وتوفيق الله لهم وكذلك درجاتهم في الآخرة، بعضها فوق بعض قال تعالى:{ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلاَ}(سورة طه، آية:75).
وأولياء الله المؤمنون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا صدق الله العظيم وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا صدق الله العظيم كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا صدق الله العظيم انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً صدق الله العظيم } (سورة الإسراء، آية:18-21).
3- أنهار الجنة:(3/166)
ذكر القرآن الكريم في آيات عديدة أنهار الجنة قال تعالى:{ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (سورة محمد، آية:15).
4- عيون الجنة:
في الجنة عيون كثيرة مختلفة الطعوم والمشارب قال تعالى:{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}(سورة الحجر، آية:45) قال تعالى:{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ}(سورة المرسلات، آية:41) وقال في وصف الجنتين اللتين أعدهما لمن خاف ربه:{ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ}(سورة الرحمن، آية:66).
وفي الجنة عينان يشرب المقربون ماءهما صرفاً غير مخلوط، ويشرب منهما الأبرار الشراب مخلوطاً ممزوجاً بغيره، العين الأولى: عين الكافور قال تعالى:{ إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا صدق الله العظيم عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا صدق الله العظيم } (سورة الإنسان، الآية 5-6). فقد أخبر أن الأبرار يشربون -شرابهم ممزوجاً من عين الكافور- بينما عباد الله يشربونها خالصاً.(3/167)
العين الثانية: عين التسنيم، قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ صدق الله العظيم عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ صدق الله العظيم تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ صدق الله العظيم يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ صدق الله العظيم خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ صدق الله العظيم وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ صدق الله العظيم عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صدق الله العظيم } (سورة المطففين، الآيات 22-28).
ومن عيون الجنة عين تسمى السلسبيل، قال تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً صدق الله العظيم عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً صدق الله العظيم }(سورة الإنسان، الآيات 17-18).
5- وصف بعض شجر الجنة:
أ- سدرة المنتهى:
وهذه الشجرة ذكرها المولى عز وجل في كتابه العزيز وأخبر سبحانه أن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل على صورته التي خلقها الله عليها عندها، وأن هذه الشجرة عند جنة المأوى التي غشيها مما لايعلمه إلا الله عندما رآها الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى صدق الله العظيم عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى صدق الله العظيم إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى صدق الله العظيم مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى صدق الله العظيم } (سورة النجم، الآيات 14-17).
ب-شجرة طوبى:
وهذه الشجرة عظيمة كبيرة تصنع منها ثياب أهل الجنة عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها)(1).
__________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (4/639) رقم 1985.(3/168)
الشجرة التي يسير الراكب في ظلها مائة عام: هذه الشجرة هائلة لا يقدر قدرها إلا الذي خلقها، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - عظم هذه الشجرة بأن أخبر أن الراكب لفرس من الخيل التي تعد للسباق يحتاج الى مائة عام حتى يقطعها إذا سار بأقصى مايمكنه، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة، واقرؤوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} (سورة الواقعة، الآية 30)(1).
وهذا يدل عن خلق بديع وقدرة الصانع سبحانه وتعالى.
6- طعام أهل الجنة وشرابهم:
ذكر الله سبحانه وتعالى أن في الجنة ماتشتهيه الأنفس من المآكل والمشارب: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ}(سورة الواقعة، الآية:20) {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (سورة الزخرف، الآية:71).
وقد أباح الله لهم أن يتناولوا من خيراتها وألوان طعامها وشرابها مايشتهون: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}(سورة الحاقة، الآية: 24).
7- خمر أهل الجنة:
__________
(1) البخاري مع الفتح، كتاب بدء الخلق ماجاء في وصف الجنة (6/368).(3/169)
من الشراب الذي يتفضل الله به على أهل الجنة الخمر، وخمر الجنة خالي من العيوب والآفات التي تتصف بها خمر الدنيا، فخمر الدنيا تذهب العقول، وتصدع الرؤوس، وتوجع البطون، وتمرض الأبدان، وتجلب الأسقام، وقد تكون معيبة في صنعها أو لونها أو غير ذلك، أما خمر الجنة فإنها خالية من ذلك كله، وجميلة صافية رائعة(1). قال تعالى: { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ صدق الله العظيم بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِين صدق الله العظيم لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ صدق الله العظيم } (سورة الصافات، الآيات
45-47). فقد وصف الله جمال لونها (بيضاء) ثم بين أنها تلذ شاربها لا يمل من شربها { لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ}(الصافات، الآية: 47). وقال في موضع آخر يصف خمر الجنة: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ صدق الله العظيم بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ صدق الله العظيم لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ صدق الله العظيم }(سورة الواقعة، الآيات
17-19).
وقال تعالى في موضع آخر: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ صدق الله العظيم خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ صدق الله العظيم } (سورة المطففين، الآيات:25-26). والرحيق الخمر، ووصف هذا الخمر بوصفين: الأول أنه مختوم أي موضوع عليه خاتم الأمر الثاني: أنهم إذا شربوه وجدوه في ختام شرابهم له رائحة المسك(2).
8- طعام أهل الجنة وشرابهم لا دنس معه:
__________
(1) انظر: اليوم الآخر الجنة والنار، عمر الأشقر، ص23.
(2) انظر: تفسير ابن كثير (6/514).(3/170)
الجنة دار خالصة من الأذى، وأهلها مطهرون من أوساخ أهل الدنيا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء أضاءة ثم هم بعد ذلك منازل، لا يتغوطون، ولا يتبولون، ولا يتمخطون، ولا يبزقون)(1).
فالذين يتفاوت فيه أهل الجنة مما نص عليه في الحديث قوة نور كل منهم، أما خلوصهم من الأذى فإنهم يشتركون فيه جميعاً، فهم لايتغوطون ولا يتبولون، ولا يتفلون، ولا يبزقون، ولايتمخطون. وفضلات الطعام والشراب تتحول الى رشح كرشح المسك، يفيض من أجسادهم، كما يتحول بعض منه الى جشاء ولكنه جشاء تنبعث منه روائح طيبة عبقة عطرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولايتفلون، ولا يتبولون ولا يتغوطون، ولا يتمخطون. قالوا: فما بال الطعام؟ قال جشاء كجشاء المسك)(2).
9- لباس أهل الجنة وحليهم ومباخرهم:
__________
(1) مسلم، كتاب الجنة، باب أول زمة تدخل الجنة، رقم 2834.
(2) مسلم، كتاب الجنة، باب أول زمرة تدخل الجنة، رقم 2835.(3/171)
أهل الجنة يلبسون فيها الفاخر من اللباس، ويتزينون فيها بأنواع الحلي من الذهب والفضة واللؤلؤ، فمن لباسهم الحرير، ومن حُلِلَهِم أساور الذهب والفضة واللؤلؤ قال تعالى: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}(سورة فاطر، الآية 33). {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}(سورة الانسان، الآية 21). وملابسهم ذات ألوان، ومن ألوان الثياب التي يلبسون الخضر من السندس والاستبرق: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا}(سورة الكهف، الآية 31). وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن لأهل الجنة أمشاطاً من الذهب والفضة وأنهم يتبخرون بعود الطيب، مع أن روح المسك تفوح من أبدانهم الزكية، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الألوة -عود الطيب- ورشحهم المسك)(1).
وثياب أهل الجنة وحليهم لاتبلى ولا تفنى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه)(2).
10- اجتماع أهل الجنة وأحاديثهم:
__________
(1) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة الجنة رقم 3246.
(2) مسلم، كتاب الجنة، باب دوام نعيم الجنة (4/2181) رقم 2836.(3/172)
أهل الجنة يزور بعضهم بعضاً، ويجتمعون في مجالس طيبة يتحدثون ويذكرون ماكان منهم في الدنيا، ومامنّ الله به عليهم من دخول الجنان، قال تعالى في وصف اجتماع أهل الجنة:{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}(سورة الحجر، آية:47).
وحدثنا القرآن عن أصناف الأحاديث التي يتكلمون بها في مجتمعاتهم: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ}(سورة الطور، آية:25). ومن ذلك تذكرهم أهل الشر الذين كانوا يشككون أهل الإيمان ويدعونهم إلى الكفران:{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ صدق الله العظيم قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ صدق الله العظيم يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ صدق الله العظيم أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ صدق الله العظيم قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ صدق الله العظيم فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ صدق الله العظيم قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِي صدق الله العظيم وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ صدق الله العظيم أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ صدق الله العظيم إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ صدق الله العظيم إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ صدق الله العظيم لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ صدق الله العظيم }(سورة الصافات، آية:50-61).
11- نساء أهل الجنة:(3/173)
زوجة المؤمن في الدنيا زوجته في الآخرة إذا كانت مؤمنة قال تعالى:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ}(سورة الرعد، آية:23). وهم في الجنات منعمون مع الأزواج، يتكئون في ظلال الجنة مسرورين فرحين: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ}(سورة يس، آية:56). {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}(سورة الزخرف، آية:70).
12- الحور العين:
قال تعالى: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}(سورة الدخان، آية:54)(3/174)
والحور: جمع حوراء وهي التي يكون بياض عينها شديد البياض، وسواده شديد السواد، والعين: جمع عيناء، والعيناء هي واسعة العين. وقد وصف الله في القرآن الحور العين بأنهن كواعب أتراب قال تعالى: {لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا صدق الله العظيم حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا صدق الله العظيم وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا صدق الله العظيم }(سورة النبأ، آية:31-33). والكاعب: المرأة الجميلة التي برز ثديها، والأتراب: المتقاربات في السن، والحور العين من خلق الله في الجنة، أنشأهن الله إنشاء فجعلهن أبكاراً، عرباً أتراباً:{ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً صدق الله العظيم فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا صدق الله العظيم عُرُبًا أَتْرَابًا صدق الله العظيم }(سورة الواقعة، آية:35-37). وكونهن أبكاراً يقضي أنه لم ينكحهن قبلهم أحد، كما قال تعالى:{ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ}(سورة الرحمن، آية:56) وقد تحدث القرآن الكريم عن جمال نساء الجنة فقال:{ وَحُورٌ عِينٌ}(سورة الواقعة، آية:22) والمراد بالمكنون: الخفي المصان، الذي لم يغير صفاء لونه ضوء الشمس، ولاعبث الأيدي، ونسبههن في موضع آخر بالياقوت والمرجان:{ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ صدق الله العظيم فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ صدق الله العظيم كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ صدق الله العظيم }(سورة الرحمن، آية:56-58). والياقوت والمرجان حجران كريمان فيهما جمال، ولهما منظر حسن بديع، وقد وصف الحور بأنهن قاصرات الطرف، وهن اللواتي قصرن بصرهن على أزواجهن، فلم تطمح أنظارهن لغير أزواجهن وقد شهد الله لحور الجنة بالحسن والجمال، وحسبك أن شهد الله بهذا ليكون قد بلغ غاية الحسن والجمال:{ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ صدق الله العظيم فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ صدق الله العظيم(3/175)
}(سورة الرحمن، آية:70-71). ونساء الجنة لسن كنساء الدنيا، فإنهن مطهرات من الحيض والنفاس، والبصاق والمخاط والبول والغائط(1).
وقد تحدث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن جمال رجال ونساء أهل الجنة فقال:(أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لايبصقون ولايمتخطون، ولايتغوطون، وآنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم من وراء اللحم من الحسن)(2).
وانظر إلى هذا الجمال الذي حدث به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه هل تجد له نظيراً مما تعرف؟ (ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت مابينهما ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا ومافيها)(3).
13- أفضل مايعطاه أهل الجنة:
__________
(1) انظر: الوسطية في القرآن الكريم، ص433.
(2) البخاري، كتاب الخلق، صفة الجنة، فتح الباري (6/367).
(3) مشكاة المصابيح للبغوي (3/88).(3/176)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى)، وجاء في رواية أخرى:(ثم تلا هذه الآية:{ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (سورة يونس، آية:26) وأما عن رضوان الله الذي يعطى لأهل الجنة، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى يقول ياأهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون:ومالنا لانرضى يارب وقد أعطيتنا مالم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يارب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعد أبداً)(1).
14- آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين:
يمر المؤمنون في الموقف العظيم بأهوال عظام، ثم يمرون على الصراط فيشاهدون هولاً ورعباً، ثم يدخلهم الله جنات النعيم بعد أن أذهب عنهم الحزن، فيرون ما أعد الله لهم فيها من خيرات عظام، فترتفع ألسنتهم تسبح ربهم وتقدسه، فقد أذهب عنهم الحزن، وصدقهم وعده وأورثهم الجنة: { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ صدق الله العظيم وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ صدق الله العظيم } (سورة فاطر، آية:33-34).
__________
(1) مشكاة المصابيح للبغوي (3/88).(3/177)
وآخر دعواهم في جنات النعيم الحمد لله رب العالمين: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (سورة يونس، آية:10).
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يربي أصحابه على السعي لمرضات الله تعالى حتى يدخلهم جناته العظيمة، فكان يصف لهم الجنات من خلال المنهج القرآني، حتى لكأن الصحابي يرأى الجنة معروضة أمامه في تلك اللحظة، وينفعل بها كأنه يراها في عالم العيان بالفعل، وليست أمراً يتصور حدوثه في المستقبل وهذا من الإعجاز البياني في التعبير القرآني إلى حد تصبح الآخرة - التي لم تأت بعد - كأنها الحاضر الذي يعيشه الإنسان، ويصبح الحاضر الذي يعيشه بالفعل كأنه ماضي سحيق تفصله عن الإنسان آماد، وأبعاد(1).
إن التصور البديع للجنان والاعتقاد الجازم بها مهم في نهضة أمتنا، فعندما تحى صورة الجنان في نفوس أفراد الأمة يندفعون لمرضات الله تعالى ويقدمون الغالي والنفيس ويتخلصون من الوهن وكراهة الموت وتتفجر في نفوسهم طاقات هائلة تمدهم بعزيمة وإصرار ومثابرة على إعزاز دين الله، وقد لاحظت في المعارك الفاصلة، والانتصارات العظيمة التي حققتها الأمة في تاريخها المجيد من أسبابها الواضحة حب القادة، والجنود المقاتلين للشهادة في سبيل الله والشوق لجنانه وتعبدهم لله بفريضة الجهاد والأمثلة على ذلك كثيرة، كمعركة الزلاقة التي انتصر فيها المرابطون بقيادة يوسف بن تاشفين على النصارى في الأندلس، وكمعركة حطين بقيادة صلاح الدين، وعين جالوت بقيادة قطز، وكفتح القسطنطينية بقيادة محمد الفاتح.
خامساً: وصف النار في القرآن الكريم وأثره في نفوس الصحابة:
__________
(1) انظر: دراسات قرآنية لمحمد قطب، ص81.(3/178)
كان الصحابة يخافون الله تعالى ويخشونه ويرجونه وكانت لتربية الرسول - صلى الله عليه وسلم - أثر في نفوسهم عظيم وكان المنهج القرآني الذي سار عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل الأفاعيل في نفوس الصحابة، لأن القرآن الكريم وصف أهوال يوم القيامة ومعالمها من قبض الأرض وطي السماء، ودك الأرض، ونسف الجبال وتفجير البحار وتسجيرها، وموران السماء وانفطارها، وتكوير الشمس وخسوف القمر وتناثر النجوم، وصور القرآن الكريم حال الكفار وذلتهم وهوانهم وحسرتهم ويأسهم وإحباط أعمالهم، وتخاصم العابدين والمعبودين وتخاصم الأتباع وقادة الضلالة، وتخاصم الضعفاء والسادة، وتخاصم الكافر وقرينه الشيطان، ومخاصمة الكافر أعضاءه، وتخاصم الروح والجسد وتحدث القرآن الكريم عن الشفاعة وبين شروطها والمقبول منها، والمرفوض، والمراد بالحساب والجزاء، وعن مشهد الحساب، وهل يسأل الكفار؟ ولماذا يسألون ؟ وتحدث القرآن الكريم عن اقتصاص المظالم بين الخلق، وكيف يكون الاقتصاص في يوم القيامة، وبين المولى عزوجل في القرآن الكريم عظم شأن الدماء وبين أن هناك يوم القيامة توضع الموازين التي توزن بها الأعمال، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحوض من الذين يردون عن الحوض والذين يذادون عنه وتحدث القرآن الكريم عن حشر الكفار إلى النار، ومرور المؤمنين على الصراط، وخلاص المؤمنين من المنافقين(1) وكان لهذا الحديث أثره العظيم في نفوس الصحابة وصور القرآن الكريم ألوان العذاب في النار، فأصبح الرعيل الأول يرأها رأي العين فمن حديث القرآن عن النار بيانه لكل من:
1- طعام أهل النار وشرابهم ولباسهم:
__________
(1) انظر: الوسطية في القرآن الكريم، ص402.(3/179)
أ- فبين القرآن الكريم أن من طعام أهل النار الضريع والزقوم، وأن شرابهم الحميم والغسلين، والغساق قال تعالى:{ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ صدق الله العظيم لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِنْ جُوعٍ صدق الله العظيم } (سورة الغاشية، آية:6-7).
وهذا الطعام أكلهم له نوع من أنواع العذاب، لايتلذذون به ولاتنتفع به أجسادهم.
أما الزقوم فقال تعالى فيه:{ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ صدق الله العظيم طَعَامُ الأَثِيمِ صدق الله العظيم كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ صدق الله العظيم كَغَلْيِ الْحَمِيمِ صدق الله العظيم } (سورة الدخان، الآيات: 43-46) وقد وصف الله شجرة الزقوم في آية أخرى فقال:{ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ}(سورة الصافات، آية:62).(3/180)
وقال في موضع آخر:{ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ صدق الله العظيم لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ صدق الله العظيم فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ صدق الله العظيم فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ صدق الله العظيم فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ صدق الله العظيم }(سورة الواقعة، آية:51-55). ويؤخذ من هذه الآيات أن هذه الشجرة شجرة خبيثة، جذورها تضرب في قعر النار، وفروعها تمتد في أرجائها، وثمر هذه الشجرة قبيح المنظر لذلك شبهت برؤوس الشياطين، وقد استقر في النفوس قبح رؤوسهم وإن كانوا لايرونهم، ومع خبث هذه الشجرة وخبث طلعها، إلا أن أهل النار يلقى عليهم الجوع بحيث لايجدون مفراً من الأكل منها إلى درجة ملء البطون فإذا امتلأت بطونهم أخذت تغلي في أجوافهم كما يغلي دردي الزيت، فيجدون لذلك آلاماً مبرحة، فإذا بلغت الحال بهم هذا المبلغ اندفعوا إلى الحميم وهو الماء الحار الذي تناهى حره، فشربوا منه كشرب الإبل التي تشرب وتشرب ولاتروى لمرض أصابها، وعند ذلك يقطع الحميم أمعاءهم {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}(سورة محمد، آية:15) هذه هي ضيافتهم في ذلك اليوم العظيم(1).
وإذا أكل أهل النار هذا الطعام الخبيث من الضريع والزقوم غصوا به لقبحه وخبثه وفساده:{ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا صدق الله العظيم وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا صدق الله العظيم }(سورة المزمل، آية:12).
__________
(1) انظر: اليوم الآخر الجنة والنار، لعمر الأشقر، ص88.(3/181)
ومن طعام أهل النار الغسلين، قال تعالى:{ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ صدق الله العظيم وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ صدق الله العظيم لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ صدق الله العظيم }(سورة الحاقة، آية:35-37) وقال تعالى:{ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}(سورة ص، آية:58).
والغسلين والغساق بمعنى واحد، وهو ماسال من جلود أهل النار من القيح والصديد، وقيل مايسيل من فروج النساء الزواني ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم، وقال القرطبي: (هو عصارة أهل النار)(1).
__________
(1) يقظة أولي الاعتبار مما ورد في ذكر الجنة والنار، صديق حسين، ص86.(3/182)
ب- أما شرابهم فهو الحميم قال تعالى:{ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}(سورة محمد، آية:15) وقال:{ وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}(سورة الكهف، آية:29) وقال:{ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ صدق الله العظيم يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ صدق الله العظيم }(سورة إبراهيم، آية:16-17) وقال:{ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}(سورة ص، آية:57) وقد ذكرت هذه الآيات أربعة أنواع من شراب أهل النار: الحميم، وهو الماء الحار الذي تناهى حره.
الغساق، وقد مضى الحديث عنه، فإنه يذكر في مأكول أهل النار ومشروبهم.
الصديد، وهو مايسيل من لحم الكافر وجلده.
المهل، وهو كعكر الزيت، فإذا قرب وجهه سقطت فروة وجهه فيه(1).
ج-لباس أهل النار:
قال تعالى:{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ صدق الله العظيم سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ صدق الله العظيم } (سورة ابراهيم،آية:49-50) والقطران هو النحاس المذاب.
__________
(1) اليوم الآخر في الجنة والنار، ص90.(3/183)
2- صور من عذاب أهل النار :
أ- تفاوت عذاب أهل النار:
قال تعالى:{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(سورة غافر، آية:46).
وقال تعالى:{ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}(سورة النحل، آية:88) وقد حدث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أخف الناس عذاباً فقال:( إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة تغلي منها دماغه)(1).
ب- اللفح:
ومن إهانة الله لأهل النار أنهم يحشرون في يوم القيامة على و جوههم عمياً وصماً وبكماً قال تعالى:{ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}(سورة الإسراء، آية:97) ويلقون في النار على وجوههم: { وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(سورة النمل، آية:90).
ثم إن النار تلفح وجوههم وتغشاها أبداً لايجدون حائلاً يحول بينهم وبينها : { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}(سورة المؤمنون، آية:104).
ج- السحب:
__________
(1) البخاري، مع الفتح، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار (11/424).(3/184)
ومن أنواع العذاب الأليم سحب الكفار في النار على وجوههم قال: {إن الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ صدق الله العظيم يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ صدق الله العظيم } (سورة القمر، آية:47-48) ويزيد في آلامهم حال سحبهم في النار أنهم مقيدون بالقيود والأغلال والسلاسل: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم إِذْ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ صدق الله العظيم فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ صدق الله العظيم } (سورة غافر، آية:70-72).
د- تسويد الوجوه:
يسود الله في الدار الآخرة وجوه أهل النار وهو سواد شديد، كأنما حلت ظلمة الليل في وجوههم: قال تعالى:{ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(سورة يونس، آية:27).
هـ- إحاطة النار بالكفار:(3/185)
لما كانت الخطايا والذنوب تحيط بالكافر إحاطة السوار بالمعصم، وكان الجزاء من جنس العمل، فإن النار تحيط بالكفار في كل وجهة، كما قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}(سورة الأعراف، آية:41). والمهاد مايكون من تحتهم، والغواش جمع غاشية وهي التي تغشاهم من فوقهم، والمراد أن النيران تحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم، قال تعالى:{ يَوْمَ يَغْشَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(سورة العنكبوت، آية:55) وقال في موضع آخر:{ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِي}(سورة الزمر، آية:16).
وقد صرح بالإحاطة في موضع آخر، وذلك أن للنار سُوراً يحيط بالكفار فلا يستطيع الكفار مغادرتها أو الخروج منها، قال تعالى:{ وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}(سورة الكهف، آية:29) وسرادق النار سورها وحائطها الذي يحيط بها(1).
و- اطلاع النار على الأفئدة:
قال تعالى {كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ صدق الله العظيم وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ صدق الله العظيم نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ صدق الله العظيم الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ صدق الله العظيم }. (سورة الهمزة، الآيات:4-7).
ز- قيود أهل النار وأغلالهم وسلاسلهم:
__________
(1) انظر: اليوم الآخر الجنة والنار، ص102.(3/186)
أعد الله لأهل النار سلاسلاً وقيوداً ومطارقاً:{ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاً وَأَغْلاَلاً وَسَعِيرًا}. (سورة الإنسان، الآية:4).
{إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا صدق الله العظيم وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا صدق الله العظيم } (المزمل:12-13) والأغلال توضع في الأعناق: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(سورة سبأ، الآية:33).
{إِذْ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ}(سورة غافر، الآية:71). والأنكال : القيود سميت أنكالاً لانه يعذبهم ويُنكل بهم بها {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيمًا}(سورة المزمل، الآية:12). والسلاسل نوع آخر من ألوان العذاب التي يقيد بها المجرمون كما يقيد المجرمون في الدنيا ، وانظر إلى هذه الصورة التي أخبر بها الكتاب الكريم: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ صدق الله العظيم ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ صدق الله العظيم ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ صدق الله العظيم }(سورة الحاقة، الآيات:30-32).
ح- قرن معبوداتهم وشياطينهم في النار:
قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ صدق الله العظيم لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ صدق الله العظيم }(سورة الأنبياء، الآيات:98-99).(3/187)
وقال تعالى:{ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ صدق الله العظيم وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ صدق الله العظيم حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ صدق الله العظيم وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ صدق الله العظيم } (سورة الزخرف، الآيات:36-39).
خ-حسرتهم وندمهم ودعاؤهم:
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}(يونس:54).
وعندما يطلع الكافر على صحيفة أعماله ، فيرى كفره وشركه الذي يؤهله للخلود في النار ، فإنه يدعو بالثبور والهلاك، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ صدق الله العظيم فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا صدق الله العظيم وَيَصْلَى سَعِيرًا صدق الله العظيم }(سورة الإنشقاق، الآيات:10-12). ويتكرر دعاؤهم بالويل والهلاك عندما يلقون في النار ، ويصلون حرها {وإذا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا صدق الله العظيم لاَ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا صدق الله العظيم }(سورة الفرقان، الآيات:13-14).(3/188)
وهناك يعلو صراخهم ويشتد عويلهم ، ويدعون ربهم آملين أن يخرجهم من النار {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}(سورة فاطر، الآية:37). وهم يعترفون في ذلك الوقت بضلالهم وكفرهم وقلة عقولهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(سورة الملك، الآية:10). ولكن طلبهم يرفض بشدة ، ويجابون بما يستحق أن تجاب به الأنعام: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ صدق الله العظيم رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ صدق الله العظيم قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِي صدق الله العظيم } (سورة المؤمنون، الآيات:
106-108).
لقد حق عليهم القول ، وصاروا إلى المصير الذي لا ينفع معه دعاء ولا يقبل فيه رجاء:{ وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ صدق الله العظيم وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ صدق الله العظيم فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ صدق الله العظيم }(سورة السجدة، الآيات:12-14).(3/189)
ويتوجه أهل النار بعد ذلك النداء إلى خزنة النار ، يطلبون منهم أن يشفعوا لهم كي يخفف الله عنهم شيئا مما يعانونه: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنْ الْعَذَابِ صدق الله العظيم قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ صدق الله العظيم }(سورة غافر، الآيات:49-50).
وعند ذلك يسألون الشفاعة كي يهلكهم ربهم: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}(سورة الزخرف، الآية:7).
لقد خسر هؤلاء الظالمون أنفسهم وأهليهم عندما استحبوا الكفر على الإيمان قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}(سورة هود، الآية:106).
كان القرآن المكي يربي المسلم على الخوف من عقاب الله ويبين للصحابة أن العذاب في الآخرة حسي ومعنوي وفي خطاب القرآن وتوضيح النبي- صلى الله عليه وسلم - للصحابة حقيقة النار وما يجعل الصحابي من أن يستجيب لأوامر الله ويجتنب نواهيه ، فكان الصحابي يستحضر في مخيلته صورة الجنان ، والنيران ويستعد للموت الذي هو آتي لا محالة ، وأنه سوف يسأل في وحدته لا محالة ، وأن القبر إما روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النيران ، فالصحابي حين يستحضر في نفسه كل هذا ، فإن قلبه يستشعر خوف الله عز وجل، ومراقبته في السر والعلن ، بل يندفع بكليته إلى العمل الصالح من دعوة وجهاد ، والسعي لإقامة دولة تحكم شرع الله ، وصناعة حضارة تنقذ البشرية من ضياعها وانحرافها عن شرع الله تعالى ويدعوا الله في خلواته وفي سره وجهره أن يكرمه الله برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.(3/190)
إن هذا التصور والفهم العميق لحقيقة الآخرة ، وحقيقة الجنة والنار له أثره على العاملين لنهضة الأمة ، واستعادة مجدها وعزتها وكرامتها وهو أصل عظيم في بناء التصور العقدي لأفراد الأمة سار على نهجه الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولذلك لابد لنا من السير على نفس الطريق.
سادساً: مفهوم القضاء والقدر وأثره في تربية الصحابة رضي الله عنهم:
اهتم القرآن الكريم في الفترة المكية بقضية القضاء والقدر قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(سورة القمر، الآية:49) وقال تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}(سورة الفرقان، الآية:2) وكان - صلى الله عليه وسلم - يغرس في نفوس الصحابة مفهوم القضاء والقدر وبين لهم مراتبه من خلال القرآن الكريم ؛
المرتبة الأولى: علم الله المحيط بكل شيء {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(سورة يونس، الآية:61).
المرتبة الثانية: كتابة كل شيء كائن {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}(سورة يس، الآية:12).(3/191)
المرتبة الثالثة: مشيئة الله النافذة وقدرته التامة: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}(سورة فاطر ، الآية:44).
المرتبة الرابعة ؛ خلق الله لكل شيء {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}(سورة الأنعام، الآية:102).
كان الفهم الصحيح والاعتقاد الراسخ في قلوب الصحابة لحقيقة القضاء والقدر ترتبت عليه ثمار نافعة ومفيدة عادت عليهم بخيرات الدنيا والآخرة فمن تلك الثمرات.
1- أداء عبادة الله عز وجل: فالقدر مما تعبد الله سبحانه وتعالى الأمة بالإيمان به.
2- الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك ، لأن المؤمن يعتقد ان النافع والضار ، والمعز والمذل ، والرافع والخافض هو لله وحده سبحانه وتعالى .
3- الشجاعة والإقدام: فإيمانهم بالقضاء والقدر جعلهم يوقنون أن الآجال بيد الله تعالى وأن لكل نفس كتاب.
4- الصبر والاحتساب ومواجهة الصعاب.
5- سكون القلب وطمأنينة النفس وراحة البال : فهذه الأمور من ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر ، وهي هدف منشود ، فكل من على وجه البسيطة يبتغيها ويبحث عنها ، فقد كان عند الصحابة من سكون القلب ، وطمأنينة النفس ما لا يخطر على بال ، ولا يدور حول ما يشبهه خيال ، فلهم في ذلك الشأن القدح المعلى والنصيب الأوفى.(3/192)
6- ومن ثمراته عزة النفس والقناعة والتحرر من رق المخلوقين: فالمؤمن بالقدر يعلم أن رزقه بيد الله، ويدرك أن الله كافيه وحسبه ورازقه ، وأنه لن يموت حتى يستوفي رزقه ، وأن العباد مهما حاولوا إيصال الرزق له ، أو منعه عنه فلن يستطيعوا إلا بشيء قد كتبه الله ، فينبعث بذلك إلى القناعة وعزة النفس ، والإجمال في الطلب وترك التكالب على الدنيا والتحرر من رق المخلوقين ، وقطع الطمع مما في أيديهم ، والتوجه بالقلب إلى رب العالمين .
إن ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر كثيرة وهذه من باب الإشارة.
ولم تقتصر تربية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه على تعليمهم أركان الإيمان الستة المتقدمة ، بل صحح عندهم كثيرا من المفاهيم والتصورات والاعتقادات عن الإنسان والحياة والكون والعلاقة بينهما ليسير المسلم على نور من الله يدرك هدف وجوده في الحياة ويحقق ما أراد الله منه غاية التحقيق ويتحرر من الوهم والخرافات(1).
سابعاً: معرفة الصحابة لحقيقة الإنسان:
إن القرآن الكريم عرّف الإنسان بنفسه بعد أن عرفه بربه وباليوم الآخر، ويجيب على تساؤلات الفطرة ، من أين ؟ وإلى أين ؟ وهي تساؤلات تفرض نفسها على كل إنسان سوي وتلح في طلب الجواب(2).
وبين القرآن الكريم للصحابه الكرام حقيقة نشأة الإنسانية وأصولهم التي يرجعون إليها وما هو المطلوب منهم في هذه الحياة؟
وما هو مصيرهم بعد الموت؟
__________
(1) انظر: أهمية الجهاد في نشر الدعوة الاسلامية، ص59.
(2) انظر: منهج التربية الاسلامية، محمد قطب (2/54).(3/193)
تعرّف الصحابة بواسطة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهجه القرآني على الأصل الإنساني الذي هو الماء والتراب أي الطين، وبسلالته التي هي الماء المهين أو النطفة، كما عرفه بمكانته وكرامته عند ربه، حيث أسجد له الملائكة، وأعلى كرامته وتفضيله على كثير من الخلق، ليقف الإنسان وسطا بين هذين الحدين: الأدنى والأعلى، فمكانته وكرامته يرى نفسه عزيزاً، وبأصله وسلالته يتواضع معظماً شأن من أنشأه من ذلك الأصل، وأوصله إلى تلك المكانة العالية، فينجو بذلك من العجب والكبر والغرور، كما يمنعه عزه وكرامته من التذلل لغير الله تعالى، والإنسان لو تركه الإله دون هدى لعانى الكثير من سوء الفهم للنفس، بل إن عدداً من الناس قد يعانون من ذلك لسبب ما، كالإفراط في الثقة بنظرتهم الخاصة إلى أنفسهم التي قد تؤدي إلى الغرور والتعالي، وإما إلى الهوان والتدني(1) .
__________
(1) اساليب التشويق في القرآن، د. الحسين جلو، ص134.(3/194)
وذلك "أن نظرة الإنسان إلى نفسه من أقوى المؤثرات في تربيته وما زال الإنسان منذ وجد على وجه على الأرض مأخوذاً بسوء الفهم لنفسه: يميل إلى جانب الإفراط حيناً ، فيرى أنه أكبر وأعظم كائن في العالم ، فينادي بذلك وقد امتلأ أنانية وغطرسة وكبرياء ، كما نادى قوم عاد: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ}(سورة فصلت، الآية:15) وكما نادى فرعون {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى}(سورة، النازعات، الآية:24) . ويربأ بنفسه -أي الإنسان- أن يعتقد أنه مسؤول أمام أحد ، ويتحول إلى متأله.. ويميل حينا آخر إلى جانب معاكس هو التفريط ، فيظن أنه أدنى أو أرذل كائن في العالم ، فيطأطئ رأسه أمام الشجر أو حجر ، أو نهر أو جبل ، أو أمام حيوان، بحيث لايرى السلامة إلا أن يسجد للشمس أو للقمر(1).
وقد بين القرآن الكريم بوضوح أن (حقيقة الإنسان ترجع إلى أصلين: الأصل البعيد وهو الخلقة الأولى من طين، حين سواه ونفخ فيه الروح والأصل القريب المستمر وهو خلقه من نطفة)(2) وقال تعالى في ذلك عن نفسه:{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ صدق الله العظيم ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ صدق الله العظيم ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ صدق الله العظيم }(سورة السجدة، آية:7-9) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) أنظر: أوصول التربية للنحلاوي، ص31.
(2) انظر: أساليب التشويق والتعزير، ص134.(3/195)
وتحدث القرآن الكريم عن تكريم الله تعالى للإنسان وكان لذلك الحديث أثره في نفوس وعقول وقلوب الرعيل الأول فقد بين لهم القرآن الكريم صور عديدة لتكريم الإنسان منها:
1- اختص الله الإنسان بأن خلقه بيديه:
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ صدق الله العظيم فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ صدق الله العظيم فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ صدق الله العظيم إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ صدق الله العظيم }(سورة ص، آية:71-74) فبين لهم علو مكانة الروح التي حلت في الإنسان وأن لها منزلة سامية، وكرمه بذلك الإستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان بقوله عز من قائل:{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ} (سورة الأعراف، آية:11).
2- الصورة الحسنة والقامة المعتدلة:
قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}(سورة التغابن، آية:3). والقامة المعتدلة قال عزوجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}(سورة التين، آية:4).
3- ومنحه العقل والنطق والتمييز:
قال تعالى:{ الرَّحْمَانُ صدق الله العظيم عَلَّمَ الْقُرْآنَ صدق الله العظيم خَلَقَ الإِنسَانَ صدق الله العظيم عَلَّمَهُ الْبَيَانَ صدق الله العظيم }(سورة الرحمن، آية:1-4).
4- وسخر الله للإنسان مافي السماء والأرض:(3/196)
بعد أن خلق الله الإنسان أكرمه بالنعم العظيمة التي لا تعد ولاتحصى لقوله تعالى:{ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}(سورة إبراهيم، آية:34).
لقد سخر الله عزوجل للإنسان - تكريماً له - ملكوت السموات بما تشتمل عليه من نجوم وشموس وأقمار وجعل في نظامها البديع ماينفع الإنسان من تعاقب الليل والنهار واختلاف في الفصول ودرجات الحرارة ونحو ذلك قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}(سورة النحل، آية:12).
وقال تعالى:{ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(سورة الجاثية، آية:13).
5- وكرم الله الإنسان بتفضيله على كثير من خلقه:
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(سورة الإسراء، آية:70).
6- وكرم الله الإنسان بإرسال الرسل إليه:(3/197)
ومن أجل مظاهر التكريم من المولى سبحانه للإنسان أن أرسل الرسل لهداية الخلق ودعاهم لما يحيهم وضمن لهم الفوز في الدنيا والآخرة، فكان من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الإنسان تكريماً له نعمة الإسلام ونعمة الإيمان ونعمة الإحسان وأن هدانا الله إليها فقال عز من قائل: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى}(سورة طه، آية:123)، {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(سورة الأعراف، آية:158).
ومن مظاهر هذا التكريم الذي شعر به الصحابة رضي الله عنهم حصر مظاهر شرف الإنسان في العبودية لله وحده، وتحريره من عباده الأصنام والأوثان والبشر:{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}(سورة النحل، آية:36).
7- حب الله للإنسان وذكره في الملأ الأعلى:(3/198)
من أروع مظاهر تكريم المولى سبحانه للإنسان، أن جعله أهلاً لحبه ورضاه وأرشده في القرآن الكريم إلى مايجعله خليقاً بهذا الحب وأول ذلك اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما دعا الناس إليه كي يحيوا حياة طيبة في الدنيا ويظفروا بالنعيم المقيم في الآخرة وقد أشار المولى عزوجل إلى ثمرة هذا الاتباع وما أحلاها من ثمرة ألا وهي التمتع بخيري الدنيا والآخرة قال تعالى:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(سورة النحل، آية:97).
8- حفظ الإنسان ورعايته:
ومن مظاهر تكريم الإنسان أن يحظى برعاية الله عزوجل وحفظه من السوء قال تعالى:{ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ}(سورة الإنفطار، آية:1) وسخر له الملائكة لحفظه:{ إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}(سورة الطارق، الآية:4) وصور التكريم للإنسان كثيرة في القرآن الكريم(1).
ثامناً: تصور الصحابة لقصة الشيطان مع آدم عليه السلام:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلال المنهج القرآني، يحدثهم عن قصة الشيطان مع آدم ويشرح لهم حقيقة الصراع بين الإنسان مع عدوه اللدود الذي حاول إغواء أبيهم آدم عليه السلام من خلال الآيات الكريمة، قال تعالى:{ يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}(سورة الأعراف، آية:27).
__________
(1) انظر: موسوعة نظرة النعيم في مكارم اخلاق الرسول الكريم (4/1136،1142).(3/199)
قال تعالى:{ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ صدق الله العظيم قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ صدق الله العظيم قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ صدق الله العظيم ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ صدق الله العظيم } (سورة الأعراف، الآيات:
14-17).
كان الشيطان يتجسم في حس الرعيل الأول مرئياً مشهوداً يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، يوسوس لهم بالمعصية ويستثير كوامن الشهوات، فكانوا يحاولون أن يكونوا دائماً منتبهين من عدوهم، كانوا يسارعون في الخيرات ليضيقوا مسالك الشيطان ويسدوها، فلا يجد له مسلكاً إليهم حتى فيما هو أخفى من دبيب النمل(1) وقد تعلموا ذلك من قوله تعالى:{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ صدق الله العظيم إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ صدق الله العظيم إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ صدق الله العظيم } (سورة النحل، الآيات: 98-100).
جاءت قصة آدم مع الشيطان في القرآن الكريم في أكثر من موضع أحياناً تجيء بكل تفصيلاتها كما في سورة الأعراف، وأحياناً تجئ ببعض التفصيلات كما في سورة الحجر والإسراء وطه وص، وأحياناً تجئ في سورة إشارة عابرة، وهذا كثير جداً في القرآن، وتنفرد سورة إبراهيم بذكر موقف الشيطان يوم القيامة من بني آدم الذين استجابوا له في الدنيا، وتنصله الكامل من تبعتهم(2).
__________
(1) انظر: واقعنا المعاصر، ص46.
(2) انظر:دراسات قرآنية ، ص112.(3/200)
قال تعالى في سورة الأعراف: {وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِين صدق الله العظيم فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ صدق الله العظيم وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ صدق الله العظيم فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ صدق الله العظيم قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ صدق الله العظيم قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ صدق الله العظيم قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ صدق الله العظيم يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ صدق الله العظيم يَابَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ صدق الله العظيم } (سورة الأعراف،(3/201)
الآيات:19-27) إن مما يهم الإنسان أن يعرف تاريخه ليعتبر به لا ليتسلى وقصة آدم مع الشيطان قصة لها دلالاتها الخاصة بين القصص القرآني كله، فهي تحدد للبشر مبدأهم ومنتهاهم ودورهم في الأرض وخطة سيرهم فيها والعقبات التي تقابلهم في أثناء رحلتهم، وطريقة تجنب هذه العقبات وتخطيها(1).
كانت الآيات الكريمة التي تحدثت عن قصة آدم وصراعه مع الشيطان قد علمت الرعيل الأول قضايا مهمة في مجال التصور والاعتقاد والأخلاق فمنها:
1- أن آدم هو أصل البشر:
إن آدم عليه السلام هو أصل البشر، فقد خلقه الله تعالى من طين على صورته البشرية الكاملة التي لم تأت عن طريق التدرج عن نوع من أنواع المخلوقات، أو عن صورة أو هيئة أخرى، فالله تعالى خلق آدم من طين ثم نفخ فيه الروح، فصار بشراً سوياً من لحم ودم بكامل هيئته وصورته الإنسانية.
2- جوهر الإسلام الطاعة المطلقة لله:
أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم، فسجدوا له سجود تحية وتكريم وتعظيم واعتراف بفضله، وطاعة لله رب العالمين دون تردد ولا اعتراض، مع أنهم في الملأ الأعلى وهم في حال تسبيح وتقديس وعبادة مستمرة لله رب العالمين، وقبل أن يصدر من آدم أيُّ نوع من العبادة تُرجّح على عبادتهم، وإنما كانت مبادرة الملائكة إلى السجود لآدم، والحال كما وصفنا، لأن الأمر لهم بالسجود لآدم صادر من الله رب العالمين، وما يأمر به الله تجب المبادرة إلى تنفيذه حالاً بدون تردد ولا اعتراض ولاتوقف في تنفيذه على معرفة حكمة هذا الأمر، وهذا هو جوهر الإسلام، وهذا هو الشأن بالمسلم: يسارع إلى طاعة ربه، والامتثال لأمره بدون تردد ولا اعتراض، ولاتعليق لهذه الطاعة على شيء آخر من معرفة سبب الأمر أو معرفة حكمته، أو موافقته لعقله وهواه.
3- قابلية الإنسان للوقوع في الخطيئة:
__________
(1) نفس المصدر، ص114.(3/202)
تعلم الصحابة من قصة وقوع آدم في الخطيئة بأن الانسان له قابلية للوقوع في المعصية، وأن هذه القابلية متأتية من طبيعة الإنسان، فقد خلقه الله تعالى على طبيعة تجعل وقوعه في الخطيئة أمراً ممكناً، لما في طبيعته وماجبله الله عليه من ميول ورغبات وغرائز هي جوانب الضعف في الإنسان، والتي من خلالها ينفذ الشيطان بوساوسه إليه، ويزين له الوقوع في الخطيئة، فمن غرائز الإنسان الكامنة فيه أنه يحب أن يكون خالداً لايموت، أو معمراً أجلاً طويلاً كالخلود ويحب أن يكون له ملك غير محدد بالعمر القصير(1)، فجاء إبليس إلى آدم عليه السلام من هذه الغريزة فقال له ولزوجته:{ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ}(سورة الأعراف، آية:20) وأكدّ لهما ادعاءه بالحلف بالله بأنه لهما لمن الناصحين وماقلناه لايعني الاستسلام لهذه الغرائز والميول والرغبات، بل لابد للمسلم من أن يضبطها ويكبح جماحها ويجعلها تابعة لأحكام الشرع الشريف، وهذه الميول والغرائز والرغبات هي ماتهواه النفس وغالباً ماتكون منفلته ومتجاوزة حدودها، ولايمكن ضبطها إلا بالالتزام بأحكام الشرع، ولذلك يأتي ذم (الهوى) ويراد به ماتهواه النفس من أمر مذموم، قال تعالى:{ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى صدق الله العظيم فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى صدق الله العظيم }(سورة النازعات، الآيات:40-41). فقد أطلق الهوى، ومدح ماينهى نفسه عن الهوى، لأنه ينصرف عند الإطلاق إلى ماهو مذموم(2).
4- خطيئة آدم تعلم المسلم ضرورة التوكل على ربه:
__________
(1) انظر: في ظلال القرآن (3/1269).
(2) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة، د. عبدالكريم زيدان (1/28).(3/203)
إن خطيئة آدم عليه السلام تظهر عظيم استعداد الإنسان للوقوع في الخطيئة، وتثير الخوف والفزع في النفوس، وبالتالي تزيد من توكل المسلم على ربه، واعتماده عليه، ليكفيه شر الشيطان الرجيم، وبيان ذلك أن الله تعالى أسجد الملائكة لآدم إظهاراً لفضله وعلو منزلته عند ربه وطرد إبليس من الجنة، لامتناعه من السجود له، وأسكنه وزوجه في الجنة، وأمره بالأمر الصريح بعدم الاقتراب من شجرة معينة وأباح له ماعداها من نعيم الجنة وثمارها قال تعالى:{ وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ}(سورة الأعراف، الآية:19). وحذرهما من الشيطان، ومن خداعه وكيده، ليخرجهما من الجنة، قال تعالى:{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى صدق الله العظيم فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى صدق الله العظيم }(سورة طه، آية:116-117) ومع هذا كله فإن الشيطان استزلهما وغرهما، فأكلا من الشجرة، ووقعا في المعصية، فأخرجهما مما كانا فيه.
إن خطيئة آدم عليه السلام أثارت في نفوس الصحابة الكرام الخوف والفزع من هذا العدو الخبيث، وهذا الخوف من الشيطان وإغوائه دفعهم إلى الالتجاء الدائم إلى الله تعالى، والتوكل عليه والاستعانة به على هذا الشيطان الرجيم الذي لاهمّ له إلا إغواء الإنسان، وجرّه إلى الخطيئة، وهذا الذي فهموه من قول الله تعالى:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً}(سورة الإسراء، آية:65).(3/204)
وقوله تعالى:{ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}(سورة النحل، الآية:99). فلا تأثير ولاقدرة للشيطان على إغواء الذين آمنوا بالله إيماناً عميقاً وجّه قلوبهم إلى الله تعالى، وحرّك جوارحهم في طاعته، وجعل اعتمادهم وثقتهم به، فليس للشيطان على هؤلاء من سلطان، فهم يحاربون أمانيه الباطلة، ويهدمون مايلقيه في نفوسهم، لأن إيمانهم بالله يمنحهم النور الكاشف عن مكره، والتوكل عليه يفيدهم التقوية بالله فيضعف الشيطان، وينخذل أمام قوة الإيمان بالله والتوكل عليه(1).
5- ضرورة التوبة والإستغفار:
تعلم الصحابة رضي الله عنهم من هذه القصة ضرورة التوبة والاستغفار عند الوقوع في الذنب أو المعصية، فقد سارع آدم وزوجه إلى المغفرة وطلب الرحمة من ربهم الكريم عندما وقعوا في المعصية:{ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ صدق الله العظيم قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ صدق الله العظيم }(سورة الأعراف، الآية:22-23) فهذا اعتراف بالذنب سريع، مقرون بندم شديد، فمنهم من قوله تعالى:{ ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}، وتوبة خالصة مقرونة برجاء قبولها، لئلا يكونا من الخاسرين الهالكين، وهذا يفهم من قولهما {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}، فإذا كان آدم وزوجه لم يستغنيا عن التوبة، وطلب المغفرة من الله تعالى مع علو منزلتهما فغيرهما أولى بذلك(2).
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (1/71).
(2) نفس المصدر (1/30).(3/205)
6- الاحتراز من الحسد والكبر:
إن إبليس وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر، فكان بدء الذنوب: الكبر، استكبر إبليس أن يمتثل لأمر ربه بالسجود لآدم، ولهذا جاء التحذير من الكبر، والوعيد للمتكبرين. قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)(1) وفي كتاب الله العزيز آيات كثيرة تذم الكبر والمتكبرين، وتبين سوء عاقبتهم يوم الدين.
وحقيقة الكبر: بطر الحق، وغمط الناس، وبطر الحق: رده ودفعه، وعدم الخضوع له وعدم الانقياد له استخفافاً به، وترفعاً عليه، وعناداً له، وغمط الناس، احتقارهم والازدراء بهم(2)، ومن أعظم مظاهر بطر الحق رفض أوامر الله، والتمرد عليها، لأن مايأمر به الله هو الحق، فالتمرد على هذا الحق ودفعه يمثل حقيقة الكبر، فكان الصحابة رضي الله عنهم أبعد خلق الله تعالى عن جراثيم الحسد والكبر، والأبتعاد عن الحديث عن النفس وتزكيتها وشعروا بخطورة ذلك من قوله تعالى{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}، لأن فيها معنى التكبر والله قال لهم {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى}(سورة النجم، الآية:32) وتعلموا أنه لافخر بالأصل والنسب وإنما بالتقوى والطاعات والخيرات ابتغاء رب الأرض والسموات، لأن إبليس افتخر بسبب أصله {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}.
7- إبليس هو العدو لآدم وزوجه وذريتهما:
__________
(1) مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر (1/93) رقم 91.
(2) المستفاد من قصص القرآن (1/33).(3/206)
تعلم الصحابة من القرآن المكي أن إبليس عدوهم الأول، لأنه بسبب امتناعه عن السجود لأبيهم آدم طرده الله من رحمته، ولعنه، فأصبح عدواً لآدم وزوجته وذريته قال تعالى:{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}(سورة الحجر، الآية:43) وقال تعالى:{ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً}(سورة الإسراء، الآية:62) وقد أعلن إبليس عزمه وتصميمه على إضلال بني آدم وإغوائهم، وطلب من الله تعالى إمهاله وإبقاءه إلى يوم القيامة، لتنفيذ ماعزم وصمم عليه، مما يدل على شدة عداوته لآدم وبنيه قال تعالى حكاية عن قول إبليس {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ صدق الله العظيم قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ صدق الله العظيم إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ صدق الله العظيم قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ صدق الله العظيم إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ صدق الله العظيم }(سورة الحجر، الآيات:36-40). لقد أيقن الصحابة رضي الله عنهم من خلال المنهج القرآني أن طبيعة علاقة الشيطان بالبشر هي العداوة ولايمكن تبديلها ولاتغييرها، ولايمكن إجراء المصالحة بينهما لإزالة هذه العداوة، لأن الشيطان لاهمّ له ولاعمل ولاغرض في حياته سوى إضلال الإنسان، ودفعه إلى معصية الله، بواسطة تزيين الذنوب كما قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(سورة الانعام، آية:43)، وقال تعالى حكاية عما قاله الهدد لسليمان عليه السلام بشأن ملكة سبأ:{ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ(3/207)
فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ}(سورة النمل، الآية:24) أي وزين لهم الشيطان أعمالهم، أي حسَّن لهم ماهم فيه من الكفر، {فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ}، أي عن طريق التوحيد(1) ومن هذا الباب وبهذا الأسلوب، أسلوب التزيين، يزين الشيطان البدع في الدين في أعين المبتدعين(2) ولذلك جعل الصحابة إبليس عدوهم الأكبر وامتثلوا قول الله تعالى:{ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(سورة فاطر، الآية:6) فعادوه ولم يطيعوه وحذروه وحذّروا منه الناس.
8- التخاطب بأحسن الكلام بين الصحابة الكرام:
__________
(1) تفسير القرطبي (12/185).
(2) انظر: المستفاد من قصص القرآن (1/51).(3/208)
من الوسائل التي استخدمها الصحابة الكرام لمحاربة الشيطان امتثالهم قول الله تعالى:{ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} (سورة الإسراء، الآية:53). لقد أمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - الكريم أن يأمر المؤمنين بأن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن، والكلمة الطيبة، لأنهم إن لم يفعلوا ذلك نزغ الشيطان بينهم، أي أفسد فيما بينهم وهيّج الشر والمِراء، لتقع بينهم العداوة والبغضاء {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} أي: شديد العداوة للإنسان ولذلك فهو لايريد إلا الشر لهم، والعداوة فيما بينهم، وقد تربى الصحابة الكرام على خلق رفيع وأسلوب جميل في معاملة الناس من قوله تعالى: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ صدق الله العظيم وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ صدق الله العظيم وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِي صدق الله العظيم } (سورة المؤمنون، الآيات:96-98) وقوله تعالى:{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي بالخلة التي هي أحسن الخلال، أي بالصفح ومكارم الأخلاق، ادفع إساءة من يسيء إليك، فبهذا تعود عداوته صداقة وبغضه محبة(1) وقوله تعالى:{ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} أي أعوذ بك من وساوسهم المغرية على الباطل والشرور والفساد والصد عن الحق، لأن الشياطين لاينفع معهم شيء ولاينقادون بالمعروف(2) {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِي} أي أعوذ بك ربِّ أن يحضروني في شأن من شؤوني أو في شيء من أمري، ولهذا أمر الشرع بذكر الله في ابتداء الأمور وذلك لطرد الشيطان.
__________
(1) تفسير القاسمي (12/100).
(2) انظر: المستفاد من قصص القرآن (1/85).(3/209)
وقال تعالى:{ وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ صدق الله العظيم وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ صدق الله العظيم وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صدق الله العظيم } (سورة فصلت، الآيات:34-36) وقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه، وقوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} كأنه ولي أي صديق أو قريب (حميم) أي شديد الولاء، ومعنى ذلك أنك إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك حتى يصير كأنه ولي لك حميم، أي قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك، ثم قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، أي ومايقبل هذه الوصية وهي مقابلة الإساءة بالإحسان ويعمل بها إلا من صبر على ذلك، فإنه يشق على النفوس، ومايقبل هذه الوصية { إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}أي ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة(1).
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (4/100، 101).(3/210)
ثم قال تعالى:{ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}أي وإما يلقينَّ الشيطان في نفسك وسوسة، ليحملك على مجازاة المسيء بالإساءة والانتقام منه، فاستجر بالله من وساوس هذا الشيطان ونزغه وشره، فإنه يسمع استعاذتك ويعلم بحالك، فالشيطان لاتنفع معه مداراة ولا مقابلة إساءته بإحسان، لأنَّ الإحسان الذي يرضيه هو فقط أن تطيعه في معصية الله، ولايقبل منك غير هذا أبداً، أما عدوُّ الإنس فقد ينفع معه إحسانك إليه، وعدم مقابلة إساءته بإساءة مثلها، ولذلك حثنا الشرع على مقابلة إساءة المسيء من الإنس بالإحسان إليه، أما بالنسبة لنزغ الشيطان وتحرشه بالإنسان فلا ينفع معه إلا الاستعاذة بالله ليخلصك من شره(1)، إن المنهج القرآني الكريم وضح حقيقة العلاقة بين الإنسان والشيطان، وبين سبل علاجها، ووسائل الشيطان لإغواء بني آدم ومضى القرآن يتحدث عن الشيطان وهو في جهنم يتبرأ ممن أغواهم وأضلهم من بني الإنسان قال تعالى:{ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ صدق الله العظيم وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ صدق
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (1/86).(3/211)
الله العظيم }(سورة إبراهيم، الآيات:21-22).
هذه صورة موجزة عن حقيقة إبليس وتصور الصحابة رضي الله عنهم لهذا العدو اللعين.
تاسعاً: نظرة الصحابة إلى الكون والحياة وبعض المخلوقات:
ظل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم الصحابة كتاب الله تعالى ويربيهم على التصور الصحيح في قضايا العقائد والنظر السليم للكون والحياة من خلال الآيات القرآنية الكريمة، فبين بدء الكون ومصيره قال تعالى:{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ صدق الله العظيم ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ صدق الله العظيم فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ صدق الله العظيم }(سورة فصلت، الآيات:9-12).
فقد أشارت الآيات الكريمة إلى ثلاث حقائق كونية:
1- خلق الأرض وتقدير الأقوات فيها في أربعة أيام قبل السماء.
2- أصل الكون المادي من الدخان.
3- الدورات التكوينية للأرض والسماء مجموعها ستة أيام(1).
__________
(1) انظر: مباحث في إعجاز القرآن، مصطفى مسلم، ص177.(3/212)
وبين القرآن الكريم حقيقة مهمة استحالة تحديد الحالة الأولية لهذه المواد التي كانت عليها قبل تجمعها في مجموعات من النجوم والكواكب والمجرّات ولن يستطيع الناس معرفة ذلك إلا ظناً وتخميناً قال تعالى:{ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} (سورة الكهف، الآية:51).
وأشار القرآن الكريم إلى هذا الأصل الموحد وساق حقائق كونية في غاية الوضوح، قال تعالى:{ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}(سورة فصلت، الآية:10).
لقد فهم الصحابة من الآيات التي في سورة فصلت أن الله خلق الأرض ووضع البركة فيها وقدر أقواتها في أربعة أيام، كل ذلك قبل تشكيل السماء وجعلها سبع سماوات، وهذه الحقيقة وصل إليها الصحابة من طريق الوحي من خالق السماوات والأرض(1).
قال ابن عباس: .. وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحى الأرض ودحيها أنْ أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله تعالى{دَحَاهَا}، وقوله:{ خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ}. فخلق الأرض ومافيها من شيء في أربعة أيام وخلق السماوات في يومين. {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} سمى نفسه بذلك وذلك قوله: أي لم يزل كذلك فإن الله تعالى لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد(2).
__________
(1) نفس المصدر، ص177 الى 179.
(2) البخاري، كتاب التفسير (6/35).(3/213)
وبين لهم القرآن الكريم في آيات عظيمة بأن الله هو الذي خلق السماوات وألقى في الأرض رواسي وتحدث عن حقائق في الكون، وعن الشمس والقمر والنجوم وفصل في الجبال وبين فوائدها وضرب بها الأمثال ودعا إلى التأمل فيها وأخبر بأنه سوف ينسفها نسفاً، وتحدث القرآن الكريم عن البحار ومافيها من السفن، والأرزاق، وتكلم القرآن الكريم عن الظواهر الجوية، كالرياح، والسحب، والمطر، والرعد والبرق قال تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}(سورة الروم، آية:48)، وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}(سورة الحجر، الآية:22) وقرر القرآن الكريم حقائق عن الحيوان لاتقل في الأهمية والدقة عن الحقائق التي قررها في كل جوانب الكون والحياة، فهو يلفت النظر تارة إلى المنافع التي يحصل عليها الإنسان من تسخير هذه الدواب ركوباً وحملاً ولباساً وطعاماً وشراباً وزينة، فهي مسخرة للإنسان مذللة له منقادة، كان الرعيل الأول قبل البعثة نظرته إلى الكون والحياة، والمخلوقات من شمس وقمر ونجوم مضطربة غير واضحة في معالمها التصورية والعقدية ولايستشعرون بالمنظومة التي خلقها الله بأنها تسبح لله ولها حكمة من خلقها، فأرشدهم القرآن الكريم إلى التأمل والتدبر في هذا الكون ومافيه من مخلوقات وبين لهم حقيقة بأن مخلوقاته العظيمة تسبح له سبحانه وتعالى ولكن لاتفقهون تسبيحهم قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ(3/214)
حَلِيمًا غَفُورًا}(سورة الإسراء، الآية:44).
فحدثهم القرآن الكريم عن ظاهرة التذليل وانقياد الحيوان للإنسان بأنها ظاهرة تستدعي شكر المنعم الذي جعل فيها هذه الطبائع، ولولا وجود هذا الطبع فيها لما استطاع الإنسان إلى التغلب عليها سبيلاً(1).
قال تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ صدق الله العظيم وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ صدق الله العظيم وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ صدق الله العظيم }(سورة يس، الآيات:71،72،73).
ولفت القرآن الكريم الأنظار إلى مسألة رزق الحيوان، وإن الإنسان يعقل ويفكر ويخطط ويسعى في سبيل تحصيل معيشته وكسبه وإذا حصل على الكسب بطريقة ما، فكر في ادخاره وخزنه للمستقبل، أما الحيوان فليست عنده القدرة على التفكير والتخطيط، وليس من طبعه ذلك، ولكن قدرة الحكيم الخبير المحيطة بكل شيء قد تكفلت بأرزاقها، وتوفر سبل البقاء أمامها. قال تعالى:{ وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(سورة العنكبوت، الآية:60 ).
هكذا شأن الألوهية في المخلوقات: العلم والإحاطة بالمكان وتكفل الرزق في جميع الظروف، فالحيوان مرزوق في كل مكان، في أعماق البحار والمحيطات، وفي الصحراء المحرقة، والأصقاع المتجمدة، تحت الصخور الصماء وفي أجواء الفضاء كل ذلك في كتاب لايضل ربي ولا ينسى، قال تعالى:{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(سورة هود، الآية:6).
__________
(1) انظر: مباحث في إعجاز القرآن، ص214.(3/215)
وقد لفت القرآن الكريم النظر إلى أن هذه المخلوقات من الدواب والحشرات المتباينة في الأشكال والحجوم وطريقة الحركة والسير أمم وفصائل أمثال الناس(1) قال تعالى:{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}(سورة الأنعام، الآية:38).
وهكذا نظم القرآن الكريم أفكار وتصورات الرعيل الأول عن الكون ومافيه من مخلوقات وعجائب، وعن حقيقة هذه الحياة الفانية واستمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في غرس حقيقة المصير وسبيل النجاة في نفوس أصحابه موقناً أن من عرف منهم عاقبته وسبيل النجاة والفوز سيسعى بكل ماأوتي من قوة ووسيلة لسلوك السبيل، حتى يظفر غداً بهذه النجاة وذلك الفوز، وركز - صلى الله عليه وسلم - في هذا البيان على الجوانب التالية:
1- إن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم، فإنه قليل حقير ووضح لهم قول الله تعالى:{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(سورة يونس، الآية:24).
__________
(1) انظر: مباحث في إعجاز القرآن، ص216.(3/216)
إن الآية الكريمة السابقة فيها عشر جمل وقع التركيب من مجموعها بحيث لو سقط منها شيء اختل التشبيه، إذ المقصود تشبيه حال الدنيا في سرعة تقضيها، وانقراض نعيمها، واغترار الناس بها، بحال ماء نزل من السماء، وأنبت أنواع العشب وزين بزخرفها وجه الأرض كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة، حتى إذا طمع أهلها فيها وظنوا أنها مسلمة من الجوائح أتاها بأس الله فجأة، فكأنها لم تكن بالأمس(1).
وبين لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - قول الله تعالى:{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}(سورة الكهف، الآية:45)، أي و اضرب يامحمد للناس {مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}في زوالها وفنائها وانقضائها {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ}أي مافيها من الحب، فشبَّ ونما وحسن وعلاه الزهر والنضرة، ثم بعد هذا كله {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا}يابساً {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}أي تفرقه، وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال {وكان الله على كل شيء مقتدراً}أي هو قادر على الإنشاء والإفناء(2).
__________
(1) انظر: الإتقان للسيوطي (2/70).
(2) انظر: تفسير القاسمي (11/49).(3/217)
وقال تعالى:{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}(سورة الحديد، الآية:20) يقول الله موهناً أمر الحياة الدنيا ومحقراً لها {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ}أي تفريح نفس، {وَلَهْوٌ}أي باطل، {وَزِينَةٌ}أي منظر جميل، {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ}أي بالحسب والنسب {وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ}أي مطر {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ}أي يعجب الزرّاع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث، وكما يعجب الزرّاع ذلك، كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا}أي ثم يجف بعد خضرته ونضرته، فتراه مصفراً أي من اليبس، {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا}ثم يكون بعد ذلك كله حطاماً أي هشيماً منكسراً، وكذلك الدنيا لاتبقى كما لايبقى النبات الذي وصفناه، ولما كان هذا المثل دالاً على زوال الدنيا وانقضائها لامحالة وأنّ الآخرة كائنة وآتية لامحالة حذرنا الله تعالى من أمرها، ورغبنا فيما فيها من الخير، فقال تعالى:{ وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ}أي وليس في الآخرة الآتية إلا: إما هذا وإما هذا: أي إما عذاب شديد وإما مغفرة من الله ورضوان. وقوله تعالى: { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}أي هي متاع زائل يغرُّ ويخدع من يركن إليها وإلى متاعها، فيغترُّ بها وتعجبه من يعتقد أنه لادار سواها، ولا معاد وراءها، مع أنها حقيرة قليلة المتاع بالنسبة إلى الدار الآخرة(1)
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (4/312-313).(3/218)
.
إن هذه الحقيقة التي أشارت إليها الآيات الكريمة هي حقيقة الدنيا بكل متاعها وزينتها وما تشتهيه النفس منها، وإن كل ذلك بالنسبة لنعيم الآخرة شيء تافه وقليل وزائل هكذا فهم الرعيل الأول حقيقة الدنيا، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبصرهم ويذكرهم بدورهم ورسالتهم في الأرض، ومكانتهم عند الله وظل - صلى الله عليه وسلم - معهم على هذه الحال من التبصير والتذكير حتى انقدح في ذهنهم مالهم عند الله ومادورهم ورسالتهم في الأرض، وتأثراً بتربيته الحميدة تولد الحماس والعزيمة في نفوس أصحابه، فانطلقوا عاملين بالليل والنهار بكل مافي وسعهم، ومافي طاقتهم دون فتور أو توان، ودون كسل أو ملل، ودون خوف من أحد إلا من الله، ودون طمع في مغنم أو جاه إلا اداء هذا الدور وهذه الرسالة، لتحقيق السعادة في الدنيا والفوز والنجاة في الآخرة(1).
إن كثيراً من العاملين في مجال الدعوة بهتت في نفوسهم هذه الحقيقة، لأنهم انغمسوا في هذه الحياة الدنيا ومتاعها وشغفتهم حباً، فهم يلهثون وراءها، وكلما حصل على شيء من متاعها طلب المزيد، فهو لايشبع ولايقنع، بسبب التصاقه بالدنيا وإنها لكارثة عظيمة على الدعوة والنهوض بالأمة، أما التمتع بهذه الحياة في حدود مارسمه الشرع واتخاذها مطية للآخرة، فذلك فعل محمود.
المبحث الرابع
البناء التعبدي والأخلاقي في العهد المكي
أولاً: تزكية أرواح الرعيل الأول بأنواع العبادات:
__________
(1) انظر: منهج الرسول في غرس الروح الجهادية ، ص19 الى 34.(3/219)
قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}(سورة الاسراء، الآية: 85) وقال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}(سورة ص، آية: 72)، وقال تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}(سورة السجدة، أية:9). وقد ربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على تزكية أرواحهم وأرشدهم الى الطريق التي تساعدهم على تحقيق ذلك المطلب من خلال القرآن الكريم ومن أهمها؛
1- التدبر في كون الله ومخلوقاته، وفي كتاب الله تعالى، حتى يشعروا بعظمة الخالق وحكمته سبحانه وتعالى: قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(سورة الاعراف، الآية: 54).(3/220)
2- التأمل في علم الله الشامل وإحاطته الكاملة بكل مافي الكون بل مافي عالم الغيب والشهادة، لأن ذلك يملأ الروح والقلب بعظمة الله، ويطهر النفس من الشكوك والأمراض قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ صدق الله العظيم وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ صدق الله العظيم }(سورة الانعام، الآيات: 59-60).
3- عبادة الله عز وجل، من أعظم الوسائل لتربية الروح وأجلها قدراً، إذ العبادة غاية التذلل لله سبحانه ولا يستحقها إلا الله وحده ولذلك قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}(سورة الاسراء، آية:23). والعبادات التي تسمو بالروح وتطهر النفس نوعان:
أ- النوع الأول: العبادات المفروضة كالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج وغيرها.(3/221)
ب- النوع الثاني: العبادات بمعناها الواسع، الذي يشمل كل عمل يعمله الانسان أو يتركه، بل كل شعور يقبل عليه الانسان تقرباً به الى الله تعالى، بل يدخل فيها كل شعور، يطرده الانسان من نفسه تقرباً به الى الله تعال، مادامت نية المتعبد بهذا العمل، هي إرضاء الله سبحانه وتعالى، فكل الأمور، مع نية التقرب الى الله سبحانه وتعالى عبادة يثاب صاحبها، وتربى روحه تربية حسنة(1).
إن تزكية الروح بالصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى والتسبيح له سبحانه أمر مهم في الاسلام، فإن النفس البشرية إذا لم تتطهر من ادرانها وتتصل بخالقها لا تقوم بالتكاليف الشرعية الملقاة عليها، والعبادة والمداومة عليها تعطي الروح وقوداً وزاداً ودفعاً قوياً الى القيام بما تؤمر به يدل على هذا أمر الله والرسول - صلى الله عليه وسلم - في ثالث سورة نزلت عليه بالصلاة والذكر وترتيل القرآن قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ صدق الله العظيم قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً صدق الله العظيم نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً صدق الله العظيم أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً صدق الله العظيم إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً صدق الله العظيم إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً صدق الله العظيم إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً صدق الله العظيم وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً صدق الله العظيم }(سورة المزمل، الآيات: 1-8).
فالاستعداد للأمر الثقيل والتكاليف الشاقة هو بقيام الليل والمداومة على الذكر والتلاوة وقد حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتوجيه من ربه عز وجل على تربية الصحابة من أول إسلامهم على تطهير أرواحهم وتزكيتها بالعبادة(2).
__________
(1) فقه الدعوة، عبدالحليم محمود (1/471، 472).
(2) انظر: أهمية الجهاد في نشر الدعوة ، ص69.(3/222)
وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم(1) ولما خاف - صلى الله عليه وسلم - في بداية الاسلام على أصحابه وعرف أن الكفار لا يقرونهم يمارسون الصلاة وقراءة القرآن علناً دخل بهم دار الأرقم وصار يصلي بهم ويعلمهم كتاب الله عز وجل ولولا أهمية تزكية الروح بالعبادة والصلاة والتلاوة لأمرهم بتركها عند الخوف حتى بعد أن اكتشفت قريش المكان الذي يصلي فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه لم يترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصلاة والتلاوة لأجل الخوف(2).
__________
(1) انظر: سبل الهدى والرشاد للصالحي (2/404).
(2) انظر: أهمية الجهاد في نشر الدعوة، ص70.(3/223)
وقد حض الله تعالى في القرآن المكي على إقامة الصلاة وأثنى على الذين يخشعون في صلاتهم والذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجل احياء ليلهم بذكر الله وعلى الذين يدعون الله ويسبحونه ويذكرونه. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ صدق الله العظيم الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ صدق الله العظيم وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ صدق الله العظيم وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ صدق الله العظيم }(سورة المؤمنون، الآية 1-4) وقال تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ صدق الله العظيم تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ صدق الله العظيم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ صدق الله العظيم أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ صدق الله العظيم أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ صدق الله العظيم وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ صدق الله العظيم وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ صدق الله العظيم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ صدق الله العظيم وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى(3/224)
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ صدق الله العظيم وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ صدق الله العظيم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ صدق الله العظيم أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ صدق الله العظيم }(سورة السجدة، الآيات: 15-26). وقال تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}(سورة هود، الآية:114) وقال تعالى: {أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا صدق الله العظيم وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا صدق الله العظيم }(سورة الاسراء، الآيات: 78-79) وقال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى صدق الله العظيم وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى صدق الله العظيم وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى صدق الله العظيم }(سورة طه، الآيات: 130-132). وقال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ صدق(3/225)
الله العظيم وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ صدق الله العظيم }(سورة ق، الآيات: 39-40) وهذه الآيات الأخيرة تدل على أ ن العدة في حال الضيق والشدة هي الإكثار من الصلاة والذكر وتلاوة القرآن والالتجاء الى الله سبحانه وحده والاكثار من الدعاء(1).
إن الصلاة تأتي في مقدمة العبادات التي لها أثر عظيم في تزكية روح المسلم ولعل من أبرز آثارها التي اصابت الرعيل الأول؛
1- الاستجابة لأمر الله تعالى وإظهار العبودية له سبحانه:
وقد أثنى الله تعالى على عباده المؤمنين الذين استجابوا لأمره، فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}(سورة الشورى، آية 38).
ولا تتحق معاني العبودية الصادقة لله سبحانه إلا إذا اقترنت بصدق التوجه إليه سبحانه والإخلاص له سبحانه، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ صدق الله العظيم }(سورة الانعام، الآيات: 162-163).
وكان الرعيل الأول يرى أن لكل عمل من أعمال الصلاة عبودية خاصة، وتأثير في النفس وتزكية للروح، فقراءة سورة الفاتحة مع التدبر تشعرهم بعبوديتهم لله تعالى، فعندما يتلو العبد قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}يثبت كل كمال لله سبحانه وتعالى ويحمده على ما وفقه إليه من الطاعة وما أنعم عليه من النعم وأثنى عليه بصفاته وأسمائه الحسنى(2).
__________
(1) انظر: أهمية الجهاد في نشر الدعوة الى الله، ص72.
(2) انظر: منهج الاسلام في تزكية النفس، د. أنس احمد (1/221).(3/226)
وكذلك عندما يتلو قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}يقر بالتوحيد والاستعانة بالله وحده، فالله هو المعبود وهو المستعان، وكل استعانة لا تكون بالله فهي خذلان وذل.
وعندما يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}فهو إقرار من العبد بأنه مفتقر الى الهداية والثبات على طريق الحق، وأنه محتاج الى ثمار الهداية والاستزادة منها، والبعد عن سبيل المغضوب عليهم والضالين(1).
وعندما ينحني للركوع يكبّر ربه معظماً له ناطقاً بتسبيحه، فيجتمع في هذا الركن خضوع الجوارح وخضوع القلب، ثم يأتي السجود فيجعل العبد أشرف أعضائه وأعزها متذللاً لله سبحانه، ويتبع هذا إنكسار القلب وتواضعه فيسجد القلب لربه كما سجد الجسد(2)، وحري به في هذه الحال أن يكون أقرب مايكون من ربه، وكلما ازداد تواضعاً وخشوعاً لربه في سجوده ازداد منه قرباً منه، كما في قوله تعالى: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}(سورة العلق، آية: 19).
وفي الحديث: (أقرب مايكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء)(3).
وعندما يعتدل جالساً يتمثل جاثياً بين يدي ربه ملقياً نفسه بين يديه معتذراً إليه مما جناه راغباً إليه أن يغفر له ويرحمه وهكذا تتجلى في كل أفعال الصلاة العبودية لله سبحانه، وإقبال العبد على ربه، وتوحيده وتقوية الإيمان به الذي هو أساس التزكية، وهذه أعظم ثمرة من ثمرات الصلاة، وهي التي تنير للعبد طريق حياته وتمنحه طهارة القلب وطمأنينة النفس(4).
2- مناجاة العبد لربه:
__________
(1) الموازنة بين ذوق السماع والصلاة لابن الجوزي، ص35-40.
(2) نفس المصدر، ص43، 46 وانظر: الخشوع في الصلاة لابن رجب، ص20-22.
(3) مسلم، كتاب الصلاة، باب مايقال في الركوع والسجود رقم 482.
(4) انظر: منهج الاسلام في تزكية النفس (1/222).(3/227)
وقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشهداً من مشاهد هذه المناجاة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ماسأل، فإذا قال العبد: الحمدلله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي.
وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: اثنى علي عبدي.
وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجّدني عبدي.
فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال: هذا لعبدي ولعبدي ماسأل)(1).
تعلم الصحابة رضي الله عنهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه المناجاة من أعظم أسباب تزكية النفس وتقوية الإيمان، إذا هيأ العبد نفسه لها، وأقبل عليها إقبال العبد المتشوق للوقوف بين يدي ربه الوافد عليه، المنتظر لرحمته وفضله يستمد العون منه سبحانه في كل أموره وأعماله.
3- طمأنينة النفس وراحتها:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر صلى(2)، وقد جعلت قرة عينه في الصلاة(3) وقد علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصحابة كثيراً من السنن والنوافل ليزدادوا صلة بربهم، وتأمن بها نفوسهم وتصبح الصلاة سلاحاً مهماً لحلِّ همومهم ومشاكلهم.
4- الصلاة حاجز عن المعاصي:
قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}(سورة العنكبوت، الآية 45).
__________
(1) مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة رقم 395.
(2) ابوداود في الصلاة رقم 1319.
(3) الحاكم (2/160) وأقره الذهبي.(3/228)
كان الصحابة رضي الله عنهم عندما يؤدون صلاتهم ترتاح بها نفوسهم وتمدهم بقوة دافعة لفعل الخيرات والابتعاد عن المنكرات، وتغرس في نفوسهم مراقبة الله عز وجل ورعاية حدوده والتغلب على نوازع الهوى، ومجاهدة النفس، فكانت لهم سياج منيع حماهم من الوقوع في المعاصي(1)، كما أيقن الصحابة رضي الله عنهم أن الصلاة تكفر السيئات وترفع الدرجات قال تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}(سورة هود، آية:114). وغير ذلك من الآثار التربوية والنفسية الطيبة التي تتظافر فيغنمها العبد المصلي، فتؤدي الصلاة دورها في تزكية النفس، وطهارتها، ويتحقق قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (والصلاة نور)(2)؛ فهي نور تضيء لصاحبها طريق الهداية وتحجزه عن المعاصي وتهديه الى العمل الصالح، وهي نور في قلبه بما يجد من حلاوة الايمان ولذة المناجاة لربه، وهي نور بما تمنح النفس من تزكية وطمأنينة وراحة وبما تمدُّ من أمن وسكينة، وهي نور ظاهر على وجه المقيم لها في الدنيا، تتجلى بها وضاءة الوجه وبهاؤه بخلاف تارك الصلاة(3)، وهي نور له يوم القيامة(4)، قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(سورة الحديد، آية: 12).
__________
(1) انظر: منهج الاسلام في تزكية النفس (1/227).
(2) مسلم، رقم 223.
(3) انظر: منهج الاسلام في تزكية النفس (1/233).
(4) اشار الى هذا المعنى النووي في شرحه على مسلم (3/100) والإمام ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم، ص190.(3/229)
كان الصحابة يكثرون من الذكر والدعاء وتلاوة القرآن الكريم والاستمتاع إليه، واغتنام الساعات الفاضلة في قيام الليل، ومجاهدة النفس على الخشوع والتدبر وحضور القلب، فكان ذلك من أعظم القربات الى الله تعالى وله آثار عظيمة في تزكية النفس وسمو الروح وترقيتها في مقامات الكمال؛ فمن أعظم ماظفر به الصحابة من آثار الذكر والدعاء والتلاوة، مناجاة الله وتحقيقهم في مقامات العبودية التي تعلي مكانتهم عند الله تعالى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني. إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب اليّ ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن آتاني يمشي آتيته هرولة)(1).
ومن أعظم أنواع الذكر التي مارسها الصحابة الكرام رضي الله عنهم تلاوة القرآن الكريم، فقد عظمت محبة الله في قلوبهم وازدادت خشيتهم له سبحانه وتعالى، فقد شفاء القرآن نفوسهم من أمراضها، وتحقق فيهم قول الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا}(سورة الاسراء، آية:82) وقوله سبحانه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}(سورة فصلت، الآية: 44) وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(سورة الرعد، الآية: 28).
__________
(1) مسلم في الذكر والدعاء رقم 2675.(3/230)
وكان للصحابة مع الدعاء شأناً عظيماً، فقد علمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه من أجلى مظاهر العبودية والمناجاة لله سبحانه وتعالى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -ك (الدعاء هو العبادة)(1) ولقد أمر سبحانه وتعالى عباده بالدعاء وتوعد من يستكبر فيترك الدعاء وكأنه مستغن عن ربه قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(سورة غافر، آية: 60).
وقال ابن كثير -رحمه الله- (يستكبرون عن عبادتي، أي: عن دعائي وتوحيدي)(2).
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبين لهم حاجة القلب الى غذاء دائم من ذكر ودعاء وتلاوة قرآن، ليكون ذلك تحصيناً لهم من الأمراض والآفات، وبين لهم مايستحب للمسلم من الأدعية والأذكار في الصباح والمساء، وعند دخول المنزل أو الخروج منه، وعند دخول السوق أو الأكل أو اللبس وغير ذلك من الأعمال اليومية حتى يبقى في وقاية دائمة من كل مرض، فإذا أصيب بمرض عارض كقلق والكآبة والاضطراب العصبي أو غيرها كانت تلك الأذكار والدعوات البلسم الشافي الذي تطمئن به القلوب وتحيا به النفوس، ومن بين تلك الأذكار والدعوات المأثورة التي علمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في الشدة وعند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم)(3).
__________
(1) ابوداود ، رقم 1479.
(2) تفسير ابن كثير (4/86).
(3) البخاري في الدعوات، باب الدعاء عند الكرب (7/154).(3/231)
فقد علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، كيف يلجؤن الى الله سبحانه وقت الضيق؟ ليجدوا المأمن والسكينة، فلا يفزعوا ولا يقلقوا وهم موقنون بأن الله معهم، وأنه ناصرهم ومتولي أمرهم ومؤيدهم وأنه يجيب دعاء المضطرين(1).
قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}(سورة النمل، الآية: 62).
إن الذكر والدعاء وتلاوة القرآن وقيام الليل والنوافل بأنواعها لها أثر عظيم في تزكية النفس وسمو الروح ومهما كتبنا في هذا الموضوع؛ فلايمكن أن تحيط به صفحات ولا كتب، وإنما هذا جزء من كل وفيض من غيض.
ثانياً: التربية العقلية:
كانت تربية النبي لأصحابه شاملة لأنها مستمدة من القرآن الكريم، الذي خاطب الإنسان، ككل يتكون من الروح، والجسد، والعقل. فقد أهتمت التربية النبوية بتربية الصحابي على تنمية قدرته في النظر والتأمل والتفكر والتدبر، لان ذلك هو الذي يؤهله لحمل أعباء الدعوة الى الله، وهذا مطلب قرآني ارشد إليه ربنا سبحانه وتعالى، في محكم تنزيله قال تعالى: {قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ}(سورة يونس، آية: 101). وقوله سبحانه: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}(سورة العنكبوت، آية:20). وقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}(سورة ص، آية: 29).
__________
(1) منهج الاسلام في تزكية النفس (1/331).(3/232)
وقوله جل شأنه: {فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ صدق الله العظيم أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا صدق الله العظيم ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا صدق الله العظيم فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا صدق الله العظيم وَعِنَبًا وَقَضْبًا صدق الله العظيم وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً صدق الله العظيم وَحَدَائِقَ غُلْبًا صدق الله العظيم وَفَاكِهَةً وَأَبًّا صدق الله العظيم مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ صدق الله العظيم }(سورة عبس، الآيات: 24-32).
والعقل يعتبر احد طاقات الانسان المهمة، وقد جعله المولى عز وجل مناط بالتكليف، فمن حرم العقل لجنونه أو غيره، فهو غير مكلف، أو سقط عنه التكليف قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}(كما يعتبر العقل نعمة من الله على الانسان يتمكن بها من قبول العلم واستيعابه ولذلك وضع القرآن الكريم منهجاً لتربية العقل سار عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتربية أصحابه ومن أهم نقاط هذا المنهج:
1- تجريد العقل من المسلّمات المبنية على الظن والتخمين، أو التبعية والتقليد، فقد حذر القرآن الكريم من ذلك في الآيات الكريمة التالية، قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} (سورة النجم، الآية: 28).
2- إلزام العقل بالتحري والتثبت، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}(سورة الحجرات، آية: 6).(3/233)
3- دعوة العقل الى التدبر والتأمل في نواميس الكون قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}(سورة الحجر، آية:85).
4- دعوة العقل الى التأمل في حكمة ماشرع الله لعباده من عبادات، ومعاملات، وأخلاق، وآداب، وأسلوب حياة كامل، في السلم والحرب، في الإقامة والسفر، لأن ذلك ينضج العقل وينميه، وبتعرفه على تلك الحكم، يعطيه أحسن الفرص ليطبق الشرع الرباني في حياته، ولا يبغي عنه حولا، لما فيه من السكينة والطمأنينة والسعادة والبشرية، ولأن الله سبحانه وتعالى إنما شرع ماشرع لذلك، قال سبحانه: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}(سورة الانعام، الآية: 119).
5- دعوة العقل الى النظر الى سنة الله في الناس عبر التاريخ البشري، ليتعظ الناظر في تاريخ الآباء والأجداد والأسلاف، ويتأمل في سنن الله في الأمم والشعوب والدول؛ قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}(سورة الانعام، الآية: 6).(3/234)
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ صدق الله العظيم ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ صدق الله العظيم }(سورة يونس، الآيتان: 13-14).
وقال سبحانه: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}(سورة الروم، الآية: 9). فكانت هذه الآيات الكريمة ترشد الصحابة في استخدام عقولهم وفق المنظور الرباني لكي لاتضل عقولهم في التيه، الذي ضل فيه كثير من الفلاسفة الذين قدسوا العقل وأعطوه أكثر مما يستحق(1)، وكانت لهذه التربية القرآنية آثاراً عملية من أهمها؛
ثالثاً: التربية الجسدية:
حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تربية أصحابه جسدياً واستمد أصول تلك التربية من القرآن الكريم، بحيث يؤدي الجسم وظيفته التي خلق لها من دون إسراف أو تقتير، ودون محاباة لطاقة من طاقاته على حساب طاقة أخرى.
__________
(1) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم، ص354 للصلابي.(3/235)
إن القرآن الكريم ارشد عباده الى ما أحله الله من الطيبات، واجتناب ماحرم الله من الخبائث، وأنكر على أولئك الذين يُحرمون أبدانهم من تلبية حاجاتها على الوجه المشروع، فقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(سورة الاعراف، الآية: 32).
ولاشك أن الإنسان عندما يلبي حاجاته البدنية بأمكانه بعد ذلك من أداء وظائفه التي كلفه الله بها في الدنيا من عبادة الله واستخلاف في الأرض، وإعمارها وتعارف وتعاون على البر والتقوى مع إخوانه في الدين ولذلك ضبط القرآن الكريم حاجات الجسم البشري على النحو التالي:
1- ضبط حاجته الى الطعام والشراب بقوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(سورة الاعراف، الآية: 31).
2- وضبط حاجته الى الملبس والمأوى، بأن أوجب من اللباس مايستر العورة، ويحفظ الجسم من عاديات الحر والبرد، وأوجب مايكون زينة عند الذهاب الى المسجد، قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(سورة الاعراف، الآية:31).
3- وضبط الحاجة الى المأوى بقوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}(سورة النحل، الآية: 80).(3/236)
4- وضبط حاجته الى الزواج والاسرة بإباحة النكاح، بل إيجابه في بعض الأحيان وتحريم الزنا والمخادنة، واللواط، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ صدق الله العظيم إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ صدق الله العظيم فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ صدق الله العظيم }(سورة المؤمنون، الآيات: 5-7).
5- وضبط حاجته الى التملك والسيادة، وأباح التملك للمال والعقار وفق ضوابط شرعية، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً}(سورة الكهف، الآية: 46).
6- وضبط الاسلام السيادة بتحريم الظلم والعدوان والبغي قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}(سورة الانعام، الآية: 21). وقال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}(سورة الفرقان، الآية: 37).(3/237)
7- وضبط حاجته الى العمل والنجاح؛ بأن جعل من اللازم أن يكون العمل مشروعاً، وغير ضار بأحد من الناس، ونادى على المسلمين أن يعملوا في هذه الدنيا مايكفل لهم القيام بعبء الدعوة والدين، ومايدخرون عند الله سبحانه، قال تعالى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(سورة الأعراف، الآية: 129). وربط العلم بالإيمان في كثير من آيات القرآن الكريم، وشرط في العمل أن يكون صالحاً قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}(سورة الكهف، آية: 30)، وطالب بالإحسان في العمل فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(سورة النحل، الآية: 90).
9- وحذر سبحانه من الدعة والبطر، والاغترار بالنعمة، فقال سبحانه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}(سورة القصص، الآية:58).
هذه بعض الأسس التي قامت عليها التربية النبوية للأجسام، حتى تستطيع أن تتحمل أثقال الجهاد، وهموم الدعوة، وصعوبة الحياة.
لقد ربى النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابته على المنهج الكريم منهج تزكية الأرواح وتنوير العقول، والمحافظة على الاجساد وتقويتها لأعدد الشخصية الاسلامية الربانية المتوازنة ولقد نجحت تربيته - صلى الله عليه وسلم - في تحقيق أهدافها المرسومة.
رابعاً: تربية الصحابة على مكارم الأخلاق، وتنقيتهم من الرذائل:(3/238)
إن الاخلاق الرفيعة جزء مهم من العقيدة، فالعقيدة الصحيحة لا تكون بغير خلق وقد ربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابته على مكارم الأخلاق بأساليب متنوعة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتلو عليهم ماينزل من قرآن فإذا سمعوه وتدبروه عملوا بتوجيهاته.
والمتدبر للقرآن المكي يجده مليئاً بالحث على مكارم الأخلاق وعلى تنقية الروح وتصفيتها من كل مايعيق سيرها الى الله تعالى ورسول الهدى عليه الصلاة والسلام القدوة الكاملة والمربي الناصح للأمة كان في غاية الخلق(1) قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(سورة القلم، الآية: 4). معنى الآية واضح أي: ماكان يأمر به من أمر الله، وينهى عنه من نهي الله، والمعنى أنك لعلى الخلق الذي آثرك الله به في القرآن(2).
وعن عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن خُلُق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: (كان خُلُقه القرآن)(3). وقد جمع الله تعالى لنبينا مكارم الأخلاق في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}(سورة الاعراف، الآية: 199).
قال مجاهد في معنى الآية: يعنى خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخسيس، مثل قبول الأعذار، والعفو والمساهلة، وترك الاستقصاء في البحث، التفتيش عن حقائق بواطنهم(4).
__________
(1) انظر: أهمية الجهاد في نشر الدعوة، ص64،65.
(2) انظر: تهذيب مدارج السالكين (2/653).
(3) انظر: تفسير الطبري (14/18).
(4) تهذيب مدارج السالكين (2/655).(3/239)
قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}وهو كل معروف وأعرفه التوحيد، ثم حقوق العبودية وحقوق العبيد(1). ثم قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ}. ويعنى إذا سفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه، كقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا}(سورة الفرقان، الآية: 63).
وهكذا كان خلقه - صلى الله عليه وسلم -: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خُلُقاً)(2).
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يربي أصحابه على حسن الخلق ويحثهم عليه، فعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مامن شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذئ)(3).
(وسئل رسول الله عن أكثر مايدخل الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله، وحسن الخلق، وسئل عن أكثر مايدخل النار؟ فقال: الفم والفرج)(4)، وقد بين - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: (إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم اليّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون، المتشدقون، والمتفيهقون، قالوا: يارسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيقهون؟ قال: المتكبرون)(5).
الثرثار: هو كثير الكلام بغير فائدة دينية، والمتشدق: المتكلم بملء فيه تفاصحاً وتعاظماً وتطاولاً، وإظهاراً لفضله على غيره، وأصله: من الفهق، وهو الامتلاء(6).
__________
(1) نفس المصدر (2/655).
(2) البخاري، كتاب الآداب، باب الكنية للصبي (7/154) رقم 6203.
(3) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ماجاء في حسن الخلق، رقم 2002.
(4) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ماجاء في حسن الخلق، رقم 2004.
(5) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ماجاء في معالي الأخلاق رقم 2018.
(6) تهذيب مدارج السالكين (2/657).(3/240)
لقد سار النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنهج القرآني في تربية أصحابه على الأخلاق الكريمة وكانت الأخلاق تعرض مع العبادة والعقائد في وقت واحد، لأن العلاقة بين الأخلاق والعقيدة واضحة في كتاب الله تعالى، وقد بين سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين الأخلاقيات الإيمانية التي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون بلا إله إلا الله، والأخلاقيات الجاهلية التي ينبغي أن ينبذها المؤمنون، والحقيقة أن التنديد بأخلاقيات الجاهلية قد بدأ منذ اللحظة الأولى، مع التنديد بفساد تصوراتهم الاعتقادية، واستمر معه حتى النهاية.
إن الأخلاق ليست شيئاً ثانوياً في هذا الدين، وليست محصورة في نطاق معين من نطاقات السلوك البشري، إنما هي ركيزة من ركائزه، كما أنها شاملة للسلوك البشري كله كما أن المظاهر السلوكية كلها، ذات الصبغة الخلقية الواضحة، هي الترجمة العملية للاعتقاد والإيمان الصحيح، لأن الإيمان ليس مشاعر مكنونة في داخل الضمير فحسب؛ إنما هو عمل سلوكي ظاهر كذلك، بحيث يحق لنا حين لا نرى ذلك السلوك العملي أو حين نرى عكسه، أن نتساءل أين الإيمان إذن؟ وما قيمته إذا لم يتحول الى سلوك(1)؟
ولذلك نجد القرآن الكريم يربط الآخلاق بالعقيدة ربطاً قوياً والأمثلة على ذلك كثير منها:
__________
(1) انظر: دراسات قرآنية ، لمحمد قطب، ص130.(3/241)
قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ صدق الله العظيم الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ صدق الله العظيم وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ صدق الله العظيم وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ صدق الله العظيم وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ صدق الله العظيم إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ صدق الله العظيم فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ صدق الله العظيم وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ صدق الله العظيم وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ صدق الله العظيم أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ صدق الله العظيم الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ صدق الله العظيم }(سورة المؤمنون، الآيات: 1-11). فالسورة تبدأ بتقرير الفلاح للمؤمنين بهذا التوكيد: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}ثم تصف هؤلاء المؤمنين ذلك الوصف المطول المفصل الذي يعني بإبراز الجانب الخلقي لأولئك المؤمنين، موحياً إيحاءً واضحاً أن هذه الاخلاقيات من جهة هي ثمرة الايمان، وأن الايمان -من جهة اخرى- هو سلوك ملموس يترجم عن العقيدة المكنونة.(3/242)
إنهم بادئ ذي بدء خاشعون في صلاتهم، فذلك أول مظهر للمؤمن الصادق: أن تكون صلاته -وهي اللحظة التي يقف فيها متعبداً لربه ، ذاكراً له في قلبه، متصلاً به بروحه- تكون صلاته خاشعة بما ينبئ عن صدق الصلة بالله، التي يرتفع نبضها وحرارتها في أثناء الصلاة ثم تثني الصورة بصفة سلوكية أخرى ذات دلالة، هي أنهم عن اللغو معرضون؛ فاللغو لا ينبئ عن نفس جادة. والإيمان الصحيح يورث النفس الجد بما يشعرها من ثقل التكاليف وجديته والجد ليس تقطيباً دائماً ولا عبوساً، ولكن اللغو من جانب آخر لا يستقيم مع جدية الشعور بعظم الأمانة التي يحملها الإنسان أمام خالقه ثم إن هؤلاء المؤمنين لابد أن تكون في قلوبهم الحساسية لحق الله في أموالهم، وهو الزكاة.
ولابد أن يكونوا ملتزمين بأوامر الله في علاقات الجنس فلا يتعدون حدود الله وملتزمين بأوامره في علاقتهم (الاجتماعية) فيحفظوا الامانة ويرعون العهد، وبهذا نفهم أن فهم الصحابة للأخلاق بأنها ثمرة طبيعية للعقيدة الصحيحة، وكذلك العبادة الحية الخاشعة لله، هكذا تعلموا من القرآن الكريم ومن هدي حبيبهم الصادق الأمين.
لقد رسم القرآن الكريم لهم صورة تفصيلية للشخصية المؤمنة، فكانت العبادة أول مَعْلَمْ واضح فيها؛ فنظروا كيف جعل الله في أوصاف المؤمنين، أول وصف لهم الخشوع في الصلاة وآخر أوصافهم المحافظة عليها، ووصفهم بفعل الزكاة وهي عبادة، مع الفضائل الخلقية الأخرى.(3/243)
إن القرآن الكريم يبرز جانب العبادة أحياناً، وجانب الأخلاق أحياناً أخرى لمناسبات واعتبارات توجب هذا الإبراز، ففي سورة الذاريات كانت العناية بالعبادة في وصف المتقين: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ صدق الله العظيم كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ صدق الله العظيم وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ صدق الله العظيم وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ صدق الله العظيم }(سورة الذاريات، الآيات: 16-19).
وفي سورة الرعد كانت العناية بالجانب الأخلاقي في وصف أصحاب العقول قال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ صدق الله العظيم الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ صدق الله العظيم وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ صدق الله العظيم وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ صدق الله العظيم }(سورة الرعد، الآيات: 19-22).(3/244)
ومع أن معظم الأوصاف هنا أخلاقية -لمناسبة أولى الألباب- مثل الوفاء والصلة والصبر والإنفاق .. لكن الملحوظ فيها أنها ليست مجرد أخلاق (مدنية) وإنما هي أخلاق ربانية أخلاق فيها معنى العبادة والتقوى، فهم إنما يوفون (بعهد الله) وإنما يصلون ما أمر الله به أن يوصل، وهم إنما يفعلون ويتركون لأنهم {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}وهم إنما يصبرون {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}فهم في كل أخلاقهم وسلوكهم يرجون الله، ويرجون اليوم الآخر(1).
لقد تربى الصحابة رضي الله عنهم على أن العبادة نوع من الأخلاق؛ لأنها من باب الوفاء لله، والشكر للنعمة، والاعتراف بالجميل، والتوقير لمن هو أهل التوقير والتعظيم وكلها من مكارم الأخلاق(2) كانت أخلاق الصحابة ربانية، باعثها الإيمان بالله، وحاديها الرجاء في الآخرة وغرضها رضوان الله ومثوبته، فكانوا يصدقون في الحديث، ويؤدون الأمانة، ويوفون بالعهود، ويصبرون في البأساء والضراء وحين البأس ويغيثون الملهوف ويرحمون الصغير، ويوقرون الكبير، ويرعون الفضيلة في سلوكهم كل ذلك ابتغاء وجه الله، وطلباً لما عنده تعالى؛ فقد كانت بواعثهم وطوايا نفوسهم، كما قال تعالى: {فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا صدق الله العظيم وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا صدق الله العظيم }(سورة الدهر، الآيتان: 11-12).
إن أخلاق المؤمن عبادة، لأن مقياسه في الفضيلة والرذيلة، ومرجعه فيما يأخذ ومايدع هو أمر الله ونهيه فالضمير وحده ليس بمعصوم، وكم من أفراد وجماعات رضيت ضمائرهم بقبائح الأعمال(3).
__________
(1) انظر: العبادة في الاسلام للقرضاوي، ص123.
(2) انظر: الوسطية في القرآن الكريم، ص591.
(3) انظر: الإيمان والحياة للقرضاوي، ص256.(3/245)
والعقل وحده ليس بمأمون، لأنه محدود بالبيئة والظروف، ومتأثر بالأهواء والنزاعات، وفي الاختلاف الشاسع للفلاسفة الأخلاقيين في مقياس الحكم الخلقي دليل واضح على ذلك، والعرف لاثبات له ولا عموم، لأنه يتغير من جيل الى جيل، وفي الجيل الواحد من بلد الى بلد، وفي البلد الواحد من أقليم الى إقليم ولذلك التجأ المؤمن الى المصدر المعصوم المأمون الذي لا يضل ولا ينسى، ولا يتأثر ولايجور(1).
إن الأخلاق في التربية النبوية شيء شامل يعم كل تصرفات الانسان وكل أحاسيسه ومشاعره وتفكيره، فالصلاة لها أخلاق هي الخشوع، والكلام له أخلاق هي الإعراض عن اللغو، والجنس له أخلاق هي الالتزام بحدود الله وحرماته، والتعامل مع الآخرين له أخلاق هي التوسط بين التقتير والإسراف، والحياة الجماعية لها أخلاق هي أن يكون الأمر شورى بين الناس، والغضب له أخلاق هي العفو والصفح، ووقوع العدوان من الأعداء يستعتبه أخلاق هي الانتصار أي رد العدوان، وهكذا لايوجد شيء واحد في حياة المسلم ليست له أخلاق تكيفه ولا شيء واحد ليست له دلالة أخلاقية مصاحبة.
هذا أمر .. والأمر الآخر -وهو الأهم- أن الأخلاق في المفهوم القرآني هي لله وليست للبشر، ولا لأحد غير الله: فالصدق لله، والوفاء بالعهد لله، واتقاء المحرمات في علاقات الجنس لله، والعفو والصفح لله، والانتصار من الظلم لله، وإتقان العمل لله كلها عبادة لله، تقدم لله وحده خشية لله وتقوى، وتطلعاً الى رضاه. إنها ليست صفقة بشرية للكسب والخسارة، إنما هي صفقة تعقد مع الله(2).
__________
(1) انظر: الوسطية في القرآن، ص592.
(2) انظر: دراسات قرآنية ، ص139.(3/246)
قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ صدق الله العظيم وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ صدق الله العظيم وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ صدق الله العظيم }(سورة الانعام، الآيات: 151-153). ذلك هو الميثاق الأخلاقي الشامل الذي التزم به الصحابة ومن سار على هديهم اتباعاً لصراط الله المستقيم، فهو إذن من العقيدة، مرتبط بها ارتباطاً أساسياً لا ينفصل عنها بحال.(3/247)
إن الاعمال الخلقية تدخل في جميع الجوانب، ويرتقي بها الوحي الإلهي الى ذروة متفردة حين يجعلها ديناً، وعبادة ومحلاً لثواب الله تعالى؛ أو عقابه الأليم عند المخالفة(1) وإذا تأملنا في الآيات السابقة من سورة الأنعام نجدها قد اشتملت على العناية بالضروريات الخمس وهي: (مالابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا حيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الآخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين)(2) إن دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهدافها إرجاع الناس الى مقاصد الشريعة والتي من ضمنها المحافظة على الضروريات الخمس، فقد اشتملت الآيات الكريمة السابقة على:
أ- العناية بالضروريات، فقد ورد في حفظ الدين وذلك في قوله تعالى: {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}وفي قوله تعالى: { صدق الله العظيم وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}لأنه لايستقيم دين مع الشرك بالله تعال، فأمر سبحانه عباده أن يوحدوه بالعبادة، وأن يتبعوا صراطه المستقيم الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلقه، ونهاهم عن اتباع سبل الشيطان فإنها غي وضلال وفي سلوكها إعراض عن دين الحق واتباع لأهواء النفوس ووسواس الشيطان(3)، وقد قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمحافظة على الدين من خلال العمل به، والجهاد من أجله، والدعوة إليه، والحكم به، ورد كل مايخالفه(4).
__________
(1) انظر: الوسطية في القرآن الكريم، ص594.
(2) الموافقات للشاطبي (2/8).
(3) مقاصد الشريعة، د.محمد اليوبي، ص188.
(4) نفس المصدر، ص194.(3/248)
ب- وحفظ النفس: في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ}وقوله: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق...}وقد وضعت الشريعة الوسائل الكفيلة بإذن الله -بحفظ النفس من التعدي عليها- ومن هذه الوسائل(1)؛ تحريم الاعتداء عليها، وسد الذرائع المؤدية الى القتل، القصاص، ضرورة إقامة البينة في قتل النفس، ضمان النفس، تأخير تنفيذ القتل وجب عليه إذا خشي من قتله على غيره، العفو عن القصاص، إباحة المحظورات حال الضوررة(2).
ج- وحفظ النسل: في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}ومن أعظم الفواحش الزنا الذي وصفه الله تعالى في آية اخرى بأنه فاحشة كما قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً}(سورة الاسراء، الآية:32). إن حفظ النسل من الركائز الأساسية في الحياة ومن أسباب عمارة الأرض، وفيه تكمن قوة الأمة وبه تكون مرهوبة الجانب، عزيزة القدر تحمي دينها، وتحفظ نفسها، وتصون عرضها ومالها ولذلك عنيت الشريعة بحماية النسل ومنع كل مامن شأنه أن يقف في طريق سلامته ووضعت ضوابط وأصولاً شرعية مهمة في هذا الباب(3).
ح- حفظ المال: في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}وقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}. ومن وسائل حفظ المال في الشريعة؛ تحريم الاعتداء عليه، تحريم إضاعة المال، ماشرع من الحدود في العهد المدني (حد السرقة، وحد الحرابة، ضمان المتلفات، مشروعية الدفاع عن المال، توثيق الديون والإشهاد عليها، تعريف اللقطة ومايتبعه)(4).
__________
(1) الموافقات (4/27).
(2) مقاصد الشريعة، ص212.
(3) نفس المصدر، ص257.
(4) المصدر السابق، ص287.(3/249)
د- حفظ العقل: وأما حفظ العقل، فمطلوب أيضاً لأن التكليف بهذه الأمور لا يكون إلا لمن سلم عقله، ولا يقوم بها فاسد العقل، وفي قوله تعالى: {لعلكم تعقلون}إشارة الى ذلك والله أعلم(1)، وقد حرم الاسلام كل مامن شأنه إفساد العقل وإدخاله الخلل عليه(2).
وهكذا القرآن الكريم يعلم ويربي الصحابة على العقائد، والعبادة، والأخلاق، ومقاصد الشريعة في وقت واحد إن الأخلاق الربانية تصدر من القرآن الكريم بتقرير التوحيد والعبودية لله تعالى، وهذا بدوره تأكيد أساسي على حقائق وأصول هذا المنهج القرآني، التي تتبع جميعها هذا المدخل التأسيسي وبذلك يتقرر:
1- أن الله تعالى هو وحده مصدر الشرائع جميعاً، وهو شارع القيم والمعايير الأخلاقية، والتي تنسجم مع الفطرة، وتوافق العقل النير.
2- أن الاخلاق دين ملتزم به، بل هي أصل من أصول المنهاج الرباني، وليست مجرد فضائل فردية، أو آداب اجتماعية، أو أذواق حضارية..
3- أن الأخلاق قيم أساسية في حياة البشر ينبغي أن تحظى بالثبات والاستقرارن وبالتالي يمنع الطواغيت من التلاعب بها، أو تشكيلها حسب المصالح والأهواء(3).
__________
(1) مقاصد الشريعة، ص189.
(2) انظر: مقاصد الشريعة، ص236.
(3) انظر: المنهج القرآني في التشريع، عبدالستار فتح سعيد، ص425 الى 433.(3/250)
وقد احتوى القرآن الكريم على العديد من الآداب الفذة التي تعطي أسمى التوجيهات في باب الفضائل، والآداب الفردية والاجتماعية، ففي سورة الإسراء جاءت آيات كريمة هي من أجمع الآيات لنوعي الخلق المحمود والمذموم قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا صدق الله العظيم وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا صدق الله العظيم رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا صدق الله العظيم وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا صدق الله العظيم إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا صدق الله العظيم وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورًا صدق الله العظيم وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا صدق الله العظيم إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا صدق الله العظيم وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا صدق الله العظيم وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً صدق الله العظيم وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ(3/251)
مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا صدق الله العظيم وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً صدق الله العظيم وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً صدق الله العظيم وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً صدق الله العظيم وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً صدق الله العظيم كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا صدق الله العظيم }(سورة الإسراء، الآيات: 23-38).
إن الله سبحانه وتعالى، قد جعل التوحيد، أي: إفراد الله بالعبادة على رأس هذا المنهج الخُلقي الذي رسمته الآيات مدحاً وذماً، لأن التوحيد له في الحقيقة جانب اخلاقي أصيل، إذ الاستجابة الى ذلك ترجع الى خلق العدل والإنصاف، والصدق مع النفس، كما أن الاعراض عن ذلك يرجع في الحقيقة الى بؤرة سوء الأخلاق في المقام الأول، مثل الكبر عن قبول الحق، والاستكبار عن اتباع الرسل غروراً وآنفة، أو الولوع بالمراء والجدل بالباطل مغالبة وتطالعاً للظهور، أو تقليداً وجموداً على الإلف والعرف مع ضلاله وبهتانه، وكلها -وأمثالها- أخلاق سوء تهلك أصحابها، وتصدهم عن الحق بعد ماتبين، وعن سعادة الدارين مع استيقان أنفسهم بأن طريق الرسل هو السبيل إليها.(3/252)
والايات بعد ذلك تذكر أنماطاً خُلُقية متعددة الجوانب في شؤون الأسرة مثل بر الوالدين، وماجاء فيه من وصايا غاية في السمو والإحسان والوفاء بالجميل، ومثل بر الأقارب والضعفاء، وفي شؤون المال والإنفاق بالنهي عن التبذير، والأمر بالاعتدال بين الشح المطبق والبسط المستغرق، وقد نفّر الله تعالى عن التبذير بإضافته الى شر الخلق: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}(سورة الإسراء، الآية 27). ونفّر من الحرص والإمساك عن الإنفاق بتصويره على أبشع مثال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ}.
وتأمر الآيات الكريمة بخلق جميل غاية في السمو وهو الحرص على الكلمة الطيبة، والعدة الجميلة إذا لم يجد الإنسان من المال مايسع به الناس: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورًا}وهي وصية ذات أثر بالغ في إحسان العلائق بين الناس، بل ربما فضلوها على العطاء المادي خاصة إذا اقترن بالمن والأذى ثم تتحدث الآيات عن سوء الخلق بالبغي والاستطالة، وقساوة القلب، وجفاف الرحمة، وجمود العاطفة الكريمة، ويتمثل ذلك في مظهره الجنائي وهو القتل، وخاصة قتل الابنة الصغيرة.(3/253)
نعم القتل جريمة جنائية تسلك في قانون العقوبات القصاصية، ولكنها هنا تعالج من زاويتها الأخلاقية التي تستهدف الوقاية، وتعمل على تغيير الارادة، وتوجيهيها وجهة صالحة لتحريم الفعل، وتجريمه، وإصلاح عقيدة صاحبه {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}وبهدم القيم الاجتماعية الجائرة التي صنعت هذا المنكر، وسوغته بلا نكير وتنهى الآيات عن الزنى وهو بنفس المقياس جريمة خلقية أساسها البغي والاستطالة على الأعراض والحرمات، وإهدار العفاف والشرف، والاستهتار بكل كريم من القيم الإنسانية العليا، وتأمر الآيات وتنهى عن أمور مردها الى خلق الأمانة أو الخيانة، والجد أو العبث، والتواضع العزيز أو الكبر الغرور: فمن الأمانة حفظ مال اليتيم حتى يبلغ أشده، والوفاء بالعهد وتوفية الكيل والميزان والخيانة أضدادها، ومن الجد اشتغال الانسان بما يعينه، وعدم تتبعه ماليس به شأن ولا علم: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}(سورة الاسراء، الآية:36). والعبث كل العبث اشتغال الانسان بما نهى عنه. ومن التواضع العزيز شعور الانسان بحدوده، ومعرفته قدر نفسه فيضعها في مواضعها الصحيحة، ومن الكبر والغرور ذلك التطاول المبني على الجهل والطيش والحماقة: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} (سورة الاسراء، الآية: 38).
ولأن هذه الوصايا جامعة لك مايصلح شأن الانسان ختمها الله تعالى بقوله الحكيم: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (سورة الإسراء، الآية: 39).(3/254)
فسماها حكمة وختمها بالدعوة الى التوحيد والنهي عن الشرك كما بدأها؛ لأن الإيمان بالله تعالى مفتاح كل خير وحافظه وحارسه، والكفر به مفتاح كل شر وباعثه(1).
هكذا كانت تربية القرآن الكريم للصف المؤمن على التخلق بمحاسن الأخلاق ونبذ سيئها.
خامساً: تربية الصحابة على مكارم الأخلاق من خلال القصص القرآني:
إن القصص القرآني غني بالمواعظ والحكم والأصول العقدية، والتوجيهات الأخلاقية، والأساليب التربوية، والاعتبار بالأمم والشعوب، والقصص القرآني ليس اموراً تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين، وإنما هي أعلى وأشرف وأفضل من ذلك فالقصص القرآني مليء بالتوحيد، والعلم، ومكارم الأخلاق، والحجج العقلية، والتبصرة والتذكرة، والمحاروات العجيبة.
وأضرب لك مثلاً من قصة يوسف عليه السلام متأملاً في جانب الأخلاق التي عرضت في مشاهدها الرائعة قال علماء الأخلاق والحكماء: ( لاينتظم أمر الأمة إلا بمصلحين، ورجال أعمال قائمين، وفضلاء مرشدين هادين، لهم شروط معلومة، وأخلاق معهودة؛ فإن كان القائم بالأعمال نبياً فله أربعون خصلة ذكروها، كلها آداب وفضائل لها يسوس أمته، وإن كان رئيساً فاضلاً، اكتفوا من الشروط الأربعين ببعضها، وسيدنا يوسف عليه السلام حاز من كمال المرسلين وجمال النبيين، ولقد جاء في سيرته هذه مايتخذه عقلاء الأمم هدى لأختيار الأكفاء في مهام الأعمال إذ قد حاز الملك والنبوة! ونحن لا قبل لنا بالنبوة لانقطاعها، وإنما نذكر مايليق بمقام رئاسة المدينة الفاضلة، ولنذكر منها ثلاثة عشرة خصلة هي أهم خصال رئيس المدينة الفاضلة لتكون ذكرى لمن يتفكر في القرآن، وتنبيهاً للمتعلمين الساعين للفضائل)(2).
أهم ماشرطه الحكماء في رئيس المدينة الفاضلة:
__________
(1) انظر: المنهاج القرآني للتشريع، ص433.
(2) انظر: تفسير القاسمي (9/310).(3/255)
العفة عن الشهوات، ليضبط نفسه وتتوافر قوته النفسية: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}(سورة يوسف، الآية: 24).
الحلم عند الغضب، ليضبط نفسه: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ}(سورة يوسف، الآية: 77).
وضع اللين في موضعه، والشدة في موضعها: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ صدق الله العظيم فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِي صدق الله العظيم }(سورة يوسف، الآيتان: 59-60) فبداية الآية لين ، ونهايتها للشدة.
ثقته بنفسه بالاعتماد على ربه: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}(سورة يوسف، الآية:55).
قوة الذاكرة ليمكنه تذكر ماغاب ومضى له سنون، ليضبط السياسات، ويعرف للناس أعمالهم: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}(سورة يوسف، الآية: 58).
جودة المصورة والقوة المخيلة حتى تأتي بالأشياء تامة الوضوح: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}(سورة يوسف، الآية:4).(3/256)
استعداده للعلم، وحبه له، وتمكنه منه: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}(سورة يوسف، الآية: 38). {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}(سورة يوسف، الآية:101).
شفقته على الضعفاء وتواضعه مع جلال قدره وعلو منصبه، فخاطب الفتيين المسجونين بالتواضع فقال: {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}(سورة يوسف، الآية 39). وحادثهما في أمور دينهما ودنياهما بقوله: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ}(سورة يوسف: الآية 37) والثاني بقوله: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}(سورة يوسف، الآية: 37). وشهدا له بقولهما: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ}(سورة يوسف، الآية: 36).
العفو مع المقدرة: {قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(سورة يوسف، الآية: 92).
إكرام العشيرة: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}(سورة يوسف، الآية: 93).(3/257)
قوة البيان والفصاحة بتعبير رؤيا الملك، واقتداره على الأخذ بأفئدة الراعي والرعية والسوقة، ماكان هذا إلا بالفصاحة المبنية على الحكمة والعلم: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} (سورة يوسف، الآية: 54).
حسن التدبير: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ}(سورة يوسف، الآية: 47) تالله، ماأجمل القرآن ، وماأبهج العلم.
لاشك أن العلاقة بين القصص القرآني والأخلاق متينة، لأن من أهداف القصص القرآني التذكير بالأخلاق الرفيعة التي تفيد الفرد، والأسرة، والجماعة، والدولة، والأمة، والحضارة، كما أن من أهداف القصص القرآني التنفير من الاخلاق الذميمة التي تكون سبباً في هلاك الأمم والشعوب، ولقد استفاد الصحابة الكرام من تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم ومن المنهج الذي سار عليه، فهذا جزء من الاخلاق القرآنية النبوية أردت به التمثيل وليس الاستقصاء، وفي سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه مزيد من التفصيل والبيان، وإن المنهج النبوي القرآني الرباني في الأخلاق نمط فريد وعجيب، ليس له مقارب ولانظير، لأنه من رب العالمين، وقد تفرد بأمور وخصائص زاد من قوتها واكتمالها وجودها مجتمعة على هذا الوجه المحكم ومنها:
1- وجود المرجع الوافي للأخلاق في المنهج الرباني متمثلاً في الكتاب والسنّة، وقد حددا مايحمد أو يذم.
2- وجود مايضبط السلوك ويبعث على العلم، وهو رجاء الله والدار الآخرة.
3- وجود القدوة العملية وهي من أسس التربية الخلقية، وقد تمثل ذلك بأوفى معانيه في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1) كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(سورة القلم، الآية: 4).
__________
(1) انظر: الوسطية في القرآن الكريم، ص603.(3/258)
لقد أولى المنهاج النبوي الكريم المستمد من كتاب رب العالمين الأخلاق أهمية كبيرة، وحث على التمسك بفضائلها بمختلف الأساليب، وحذر من ارتكاب مرذولها بشتى الطرق، ونظرة القرآن الى الأخلاق منبثقة من نظرته الى الكون والحياة والإنسان، فإذا كانت العقائد تشكل أركان الصرح الاسلامي، فإن التشريعات تكون تقسيمات حجراته وممراته ومداخله، والأخلاق تضفي البهاء والرونق والجمال على الصرح المكتمل، وتصبغه الصبغة الربانية المتميزة، وإذا كانت العقيدة الاسلامية تشكل جذور الدوحة الاسلامية وجذعها، فإن الشريعة تمثل أغصانها وتشعباتها، والأخلاق تكون ثمارها اليانعة وظلالها الوارفة، ومنظرها البهيج النضر(1).
لقد استخدم المنهاج النبوي أساليب التأثير والاستجابة والالتزام في تربيته للصحابة لكي يحول الخلق من دائرة النظريات الى صميم الواقع التنفيذي والعمل التطبيقي سواء كانت اعتقادية، كمراقبة الله تعالى ورجاء الآخرة، أو عبادية كالشعائر التي تعمل على تربية الضمائر، وصقل الإرادات، وتزكية النفس ومع تطور الدعوة الاسلامية ووصولها الى الدولة أصبحت هناك حوافز إلزامية تأتي من خارج النفس متمثلة في:
أ- التشريع:
الذي وضع لحماية القيم الخلقية كشرائع الحدود والقصاص التي تحمي الفرد والمجتمع من رذائل البغي على الغير: (بالقتل أو السرقة) وانتهاك الأعراض: (بالزنى، والقذف) أو البغي على النفس وإهدار العقل: (بالخمر، والمسكرات المختلفة).
ب- سلطة المجتمع:
__________
(1) انظر: المنهاج القرآني في التشريع، ص425.(3/259)
التي تقوم على أساس ماأوجبه الله تعالى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتناصح بين المؤمنين، ومسؤولية بعضهم على بعض، وقد جعل الله تعالى هذه المسؤولية قرينة الزكاة، والصلاة، وطاعة الله ورسوله، {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(سورة التوبة، الآية: 71).
بل جعلها المقوم الأصلي لخيرية هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ}(سورة آل عمران، الآية: 110).
وقد ظهرت هذه السلطة وأثرها في الفترة المدنية.
ج- سلطة الدولة:
التي وجب قيامها، وأقيمت على أسس أخلاقية وطيدة، ولزمها أن تقوم على رعاية هذه الأخلاق وبثها في سائر أفرادها ومؤسساتها، وتجعلها من مهام وجودها ومبرراته(1).
__________
(1) المنهاج القرآني في التشريع، ص433.(3/260)
وبذلك اجتمع للخلق الاسلامي أطراف الكمال كلها وأصبح للمجتمع النبوي نظام واقعي مثالي بسبب الإلتزام بالمنهج الرباني هذه بعض الخطوط في البناء العقائدي والروحي والاخلاقي في الفترة المكية، ولقد أتت هذه التربية أكلها، فقد كان ماينوف عن العشرين من الصحابة الكرام مارسوا مسؤوليات قيادية بعد توسع الدعوة وانطلاقها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته، وأصبحوا القادة الكبار للأمة، وعشرون آخرون معظمهم استشهدوا أو ماتوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فكان في الرعيل الأول أعظم شخصيات الأمة على الأطلاق، كان فيه تسعة من المبشرين بالجنة، وهم أفضل الأمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم نماذج ساهمت في صناعة الحضارة العظيمة بتضحياتهم الجسيمة، كعمار بن ياسر، وعبدالله بن مسعود، وأبي ذر، وجعفر بن أبي طالب وغيرهم وكان من هذا الرعيل أعظم نساء الأمة خديجة رضي الله عنها، ونماذج عالية أخرى؛ مثل أم الفضل بن الحارث، وأسماء ذات النطاقين، وأسماء بنت عميس، وغيرهن.
لقد أتيح للرعيل الأول بأكبر قدر من التربية العقدية، والروحية والعقلية، والأخلاقية.. على يد مربي البشرية الأعظم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا هم حداة الركب، وهداة الأمة(1)، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزكيهم ويربيهم، وينقيهم من أوضار الجاهلية، فإذا كان السعيد الذي فاز بفضل الصحبة من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو مرة واحدة في حياته وآمن به، فكيف بمن كان الرفيق اليومي له، ويتلقى منه، ويعبق من نوره، ويتغذى من كلامه، ويتربى على عينه(2).
()
__________
(1) انظر: التربية القيادية (1/201) للغضبان.
(2) نفس المصدر، (1/202،203).(3/261)
الفصل الثالث
الجهر بالدعوة وآساليب المشركين في محاربتها
المبحث الأول
الجهر بالدعوة
بعد الإعداد العظيم الذي قام به النبي - صلى الله عليه وسلم - لتربية أصحابه وبناء الجماعة المسلمة المنظمة الأولى على أسس عقدية وتعبدية وخلقية رفيعة المستوى حان موعد إعلان الدعوة بنزول قول الله تعالى: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ صدق الله العظيم وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ صدق الله العظيم وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ صدق الله العظيم } (سورة الشعراء، آية:213-216).
فجمع قبيلته - صلى الله عليه وسلم - وعشيرته ودعاهم علانية إلى الإيمان بإله واحد، وخوفهم من العذاب الشديد إن عصوه، وأمرهم بإنقاذ أنفسهم من النار، وبين لهم مسؤولية كل إنسان عن نفسه(1):
__________
(1) رسالة الأنبياء، عمر احمد عمر (3/46).(4/1)
عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا فجعل ينادي: يابني فهر، يابني عدي
-لبطون قريش- حتى أجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ماهو، فجاء أبو لهب، وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ماجربنا عليك إلا صدقاً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم الهذا جمعتنا؟ فنزلت:{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ صدق الله العظيم مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ صدق الله العظيم }(1) وفي رواية - ناداهم بطناً بطناً، ويقول لكل بطن: (أنقذوا أنفسكم من النار ... )، ثم قال: (يافاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها)(2) كان القرشيون واقعيين عمليين، فلما رأوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق الأمين، قد وقف على جبل يرى ما أمامه، وينظر إلى ماوراءه، وهم مايرون إلا ماهو أمامهم، فهداهم انصافهم وذكاؤهم إلى تصديقه، فقالوا نعم:
__________
(1) مسلم، كتاب الايمان، (1/194) الآيتان من سورة المسد (1-2).
(2) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة الشعراء (8/501).(4/2)
ولما تمت هذه المرحلية الطبيعية البدائية، وتحققت شهادة المستمعين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) وكان ذلك تعريفاً بمقام النبوة، وماينفرد به من علم بالحقائق الغيبية والعلوم الوهبية، وموعظة وانذاراً، في حكمة وبلاغة، لانظير لهما في تاريخ الديانات والنبوات، فلم تكن طريق أقصر من هذا الطريق، ولا أسلوب أوضح من هذا الأسلوب، فسكت القوم(1)، ولكن أبا لهب قال:( تباً لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟. وبهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد وضع للأمة أسس الأعلام فقد اختار مكاناً عالياً وهو الجبل ليقف عليه وينادي على جميع الناس فيصل صوته إلى الجميع، وهذا ماتفعله محطات الإرسال في عصرنا الحديث لتزيد من عملية الانتشار الإذاعي، ثم اختار لدعوته الأساس المتين ليبني عليه كلامه وهو الصدق، وبهذا يكون - صلى الله عليه وسلم - قد علم رجال الإعلام والدعوة أن الإتصال بالناس بهدف إعلامهم أو دعوتهم، يجب أن يعتمد وبصفة أساسية على الثقة التامة بين المرسل والمستقبل: أو بين مصدر الرسالة والجمهور الذي يتلقى الرسالة، كما أن المضمون أو المحتوى يجب أن يكون صادقاً لاكذب فيه(2).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي، ص138.
(2) انظر: الحرب النفسية ضد الاسلام، د. عبدالوهاب كحيل، ص121.(4/3)
(ومن الطبيعي أن يبدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعوته العلنية بإنذار عشيرته الأقربين، إذ أن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية، فبدء الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده، وحمايته، كما أن القيام بالدعوة في مكة لابد أن يكون له أثر خاص لما لهذا البلد من مركز ديني خطير، فجلبها إلى حظيرة الإسلام لابد وأن يكون له واقع كبير على بقية القبائل. على أن هذا لايعني أن رسالة الإسلام كانت في أدوارها الأولى محدودة بقريش، لأن الإسلام، كما يتجلى من القرآن الكريم اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق رسالته العالمية)(1)، فقد جاءت الآيات المكية تبين عالمية الدعوة، قال تعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (سورة الفرقان، آية:1).
وقال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (سورة الأنبياء، الآية:107) وقال تعالى:{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سورة سبأ، الآية:28).
ثم جاءت مرحلة أخرى بعدها، فأصبح يدعو فيها كل من يلتقي به من الناس على اختلاف قبائلهم وبلدانهم ويتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، ويدعو من لقيه من حر وعبد، وقوي وضعيف، وغني وفقير(2) حين نزول قوله تعالى:{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ صدق الله العظيم إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ صدق الله العظيم الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ صدق الله العظيم } (سورة الحجر، الآيتان:94-97).
__________
(1) انظر: دراسة في السيرة، عماد الدين خليل ، ص66.
(2) انظر: رسالة الأنبياء (3/48،49).(4/4)
كانت النتيجة لهذا الصدع هي الصد والإعراض والسخرية والإيذاء والتكذيب، والكيد المدبر المدروس، وقد اشتد الصراع بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه، وبين شيوخ الوثنية وزعمائها وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان، وكان هذا في حد ذاته مكسب عظيم للدعوة، ساهم فيه أشد وألد أعدائها ممن كان يشيعون في القبائل قالة السوء عنها، فليس كل الناس يسلمون بدعاوى زعماء الكفر والشرك.
كانت الوسيلة الإعلامية في ذلك العصر تناقل الناس للأخبار مشافهة وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصار هذا الحدث العظيم حديث الناس في المجالس ونوادي القبائل، وفي بيوت الناس(1).
كانت أهم اعتراضات زعماء الشرك موجهة نحو وحدانية الله تعالى، والإيمان باليوم الآخر، ورسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقرآن الكريم الذي أنزل عليه من رب العالمين.
وفيما يلي تفصيل لهذه الاعتراضات والرد عليها:
أولاً: الإشراك بالله:
لم يكن كفار مكة ينكرون بأن الله خلقهم وخلق كل شيء:
__________
(1) انظر: الغرباء الأولون ، ص167.(4/5)
قال تعالى:{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (سورة لقمان، الآية:25). لكنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويزعمون أنها تقربهم إلى الله: قال تعالى:{ أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى(1) إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (سورة الزمر، آية:3). وقد انتقلت عبادة الأصنام إليهم من الأمم المجاورة لهم، ولهذا قابلوا الدعوة إلى التوحيد بأعظم إنكار وأشد استغراب(2): قال تعالى:{ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ صدق الله العظيم أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ صدق الله العظيم وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ صدق الله العظيم مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ(3) إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ صدق الله العظيم } (سورة ص، الآيات:4-7) ولم يكن تصورهم لله تعالى ولعلاقته بخلقه صحيحاً، إذ كانوا يزعمون أن لله تعالى صاحبة من الجن، وأنها ولدت الملائكة، وأن الملائكة بنات الله!
__________
(1) زلفى : قربى.
(2) انظر: رسالة الانبياء (3/52).
(3) احتجوا بما عليه النصارى من الشرك والتثليث.(4/6)
فكانت الآيات تنزل مبينة أن لله عزوجل خلق الجن والملائكة كما خلق الإنس، وأنه لم يتخذ ولداً، ولم تكن له صاحبة: قال تعالى:{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا(1) لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ صدق الله العظيم بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ صدق الله العظيم } (سورة الأنعام، الآيتان:100-101). ومبينة أن الجن يقرون لله بالعبودية، وينكرون أن يكون بينهم وبينه علاقة نسب:
{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} (سورة الصافات، الآية:158).
ومطالبة المشركين باتباع الحق، وعدم القول بالظنون والأوهام:{ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى صدق الله العظيم وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا صدق الله العظيم } (سورة النجم، الآيتان:27-28). وموضحة أنه لايعقل أن يمنح الله المشركين البنين، ويكون له بنات، وهن أدنى قيمة في رأيهم من البنين:{ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} (سورة الإسراء، الآية:40).
ومحملة المشركين مسؤولية أقوالهم التي لاتقوم على دليل:{ وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (سورة الزخرف، الآية:19).
ثانياً: كفرهم بالآخرة:
__________
(1) اختلقوا.(4/7)
أما دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان باليوم الآخر فقد قابلها المشركون بالسخرية والتكذيب:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ صدق الله العظيم أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ صدق الله العظيم } (سورة سبأ، الآيتان:7-8) فقد كانوا ينكرون بعث الموتى:{ وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (سورة الأنعام، الآية:29).
ويقسمون على ذلك الإيمان المغلظة:(4/8)
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ صدق الله العظيم } (سورة النحل، الايتان:38-39) وكانوا يظنون أنه لاتوجد حياة في غير الدنيا ويطلبون إحياء آبائهم ليصدقوا بالآخرة: قال تعالى: { وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ صدق الله العظيم وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ صدق الله العظيم قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ صدق الله العظيم } (سورة الجاثية، الآيات:24-27).(4/9)
وفاتهم أن الذي خلقهم أول مرة قادر على أن يحييهم يوم القيامة قال مجاهد وغيره: جاء أبي بن خلف(1) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يده عظم رميم، وهو يفتته ويذروه في الهواء، وهو يقول: يامحمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال - صلى الله عليه وسلم - :(نعم يميتك الله تعالى، ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار) ونزلت هذه الآيات(2) {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ صدق الله العظيم وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ صدق الله العظيم قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ صدق الله العظيم } (سورة يس، الآيتان:77-79) كانت أساليب القرآن الكريم في إقناع الناس بالبعث اعتمدت على خطاب العقل، والإنسجام مع الفطرة، والتجاوب مع القلوب، فقد ذكرّ الله عباده أن حكمته تقتضي بعث العباد للجزاء والحساب، فإن الله خلق الخلق لعبادته، وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيان الطريق الذي يعبدونه ويطيعونه ويتبعون أمره ويجتنبون نهيه، فمن العباد من رفض الاستقامة على طاعة الله، وطغى وبغى، أفليس بعد ذلك أن يموت الطالح والصالح ولابد أن يجزي الله المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، قال تعالى:{ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ صدق الله العظيم مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ صدق الله العظيم أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ صدق الله العظيم إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ صدق الله العظيم } (سورة ن، الآيات:35-38). إن الملاحدة الذين ظلموا أنفسهم هم الذين يظنون الكون خلق عبثاً وباطلاً لا لحكمة، وأنه لافرق بين مصير المؤمن المصلح والكافر المفسد، ولابين التقي والفاجر(3)
__________
(1) وفي رواية عن ابن عباس أنه العاص بن وائل.
(2) تفسير ابن كثير (3/581).
(3) انظر: الوسطية في القرآن الكريم، ص402.(4/10)
، قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ صدق الله العظيم أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ صدق الله العظيم } (سورة ص، الآيتان:27-28).
وضرب القرآن الكريم للناس الأمثلة في إحياء الأرض بالنبات وإن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على إعادة الحياة إلى الجثث الهامدة والعظام البالية: {فَانْظُرْ إِلَى ءَاثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة الروم، الآية:50).
وذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه من إحياء بعض الأموات في هذه الحياة الدنيا، فأخبر الناس في كتابه عن أصحاب الكهف بأنه ضرب على آذانهم في الكهف ثلاثمائة وتسع سنين ثم قاموا من رقدتهم بعد تلك الأزمان المتطاولة: قال تعالى:{ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} (سورة الكهف، الآية:12). {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} (سورة الكهف، الآية:19). {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} (سورة الكهف، الآية:25) وغير ذلك من الأدلة والبراهين التي استخدمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مناظراته مع زعماء الكفر والشرك.(4/11)
ثالثاً: اعتراضهم على الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
اعترضوا على شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد كانوا يتصورون أن الرسول لايكون بشراً مثلهم، وأنه ينبغي أن يكون ملكاً، أو مصحوباً بالملائكة: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} (سورة الأنعام، الآية:98) أي لو بعثنا إلى البشر رسولاً من الملائكة لكان على هيئة الرجل يمكنهم مخاطبته والأخذ عنه، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشر(1) وكانوا يريدون رسولاً لايحتاج إلى طعام وسعي في الأسواق: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا صدق الله العظيم أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا صدق الله العظيم } (سورة الفرقان، الآيتان:7-8). وكأنهم لم يسمعوا بأن الرسل جميعاً كانوا يأكلون ويسعون ويعملون:{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً(2) أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (سورة الفرقان، الآية:20).
ويريدون أن يكون الرسول كثير المال كبيراً في أعينهم:
{وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (سورة الزخرف، الآية:31).
ويريدون الوليد بن المغيرة بمكة وعروة بن مسعود الثقفي بالطائف(3) ونسبوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الجنون:
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/124).
(2) اختبرنا بعظكم ببعض.
(3) تفسير ابن كثير (4/126-127).(4/12)
{وَقَالُوا يَاأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ صدق الله العظيم لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلاَئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ صدق الله العظيم } (سورة الحجر، الآية:6-7).
{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ صدق الله العظيم ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ صدق الله العظيم } (سورة الدخان، الآيتان:13-14).
ورد الله عليهم بقوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (سورة القلم، الآية:2).
كما نسبوه إلى الكهانة والشعر:
{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ صدق الله العظيم أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ صدق الله العظيم } (سورة الطور، الآيتان:29-30).
كما أنهم كانوا يعلمون أنه لاينظم الشعر، وأنه راجح العقل، وأن مايقوله بعيد عن سجع الكهان وقول السحرة(1)
ونسبوه - صلى الله عليه وسلم - إلى السحر والكذب: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (سورة ص، الآية:4).
__________
(1) انظر: رسالة الأنبياء (3/57).(4/13)
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا صدق الله العظيم انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً صدق الله العظيم } (سورة الإسراء،الآيتان:47-48) وكانت الآيات تتنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفند مزاعم المشركين، وتبين له أن الرسل السابقين استهزئ بهم، وأن العذاب عاقبة المستهزئين: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (سورة الأنعام،الآية:10) وتعلمه أن المشركين لايكذبون شخصه، ولكنهم يكذبون رسالته، ويدفعون آيات الله بتلك الأقاويل(1): {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (سورة الأنعام، الآية:33).
رابعاً: موقفهم من القرآن الكريم:
كذلك لم يصدقوا أن القرآن الكريم منزل من الله، واعتبروه ضرباً من الشعر الذي كان ينظمه الشعراء، مع أن كل من قارن بين القرآن وبين أشعار العرب يعلم أنه مختلف عنها:{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُبِين صدق الله العظيم لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ صدق الله العظيم } (سورة يس، الآيتان:69-70) وكيف يكون القرآن شعراً وقد نزل فيه ذم للشعراء الذين يضلون الناس ويقولون خلاف الحقيقة(2).
__________
(1) انظر: رسالة الأنبياء (3/58).
(2) نفس المصدر (3/59).(4/14)
{وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ(1) صدق الله العظيم أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ(2) صدق الله العظيم وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ صدق الله العظيم } (سورة الشعراء، الآيتان:224-226) فهو كلام الله المنزل على رسوله، وليس شبيهاً بقول الشعراء، ولابقول الكهان: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ صدق الله العظيم وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ صدق الله العظيم وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ صدق الله العظيم تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم } (سورة الحاقة، الآيات:40-43).
وقد أدرك الشعراء قبل غيرهم أن القرآن الكريم ليس شعراً(3) ومن فرط تكذيبهم وعنادهم قالوا: إن محمداً يتعلم القرآن من رجل أعجمي(4)، كان غلاماً لبعض بطون قريش، وكان بياعاً يبيع عند الصفا، وربما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء. وذاك كان أعجمي اللسان لايعرف من العربية إلا اليسير، بقدر مايرد جواب الخطاب فيما لابد منه، ولهذا قال تعالى:{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (سورة النحل، الآية:103).
أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن من فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة من رجل أعجمي؟ لايقول هذا من له أدنى مسكة من العقل(5).
__________
(1) يعني : الضالون.
(2) انظر: رسالة الانبياء (3/59).
(3) انظر: رسالة الانبياء (3/59).
(4) انظر: تهذيب السيرة (1/74،90).
(5) انظر: تفسير ابن كثير (2/586).(4/15)
واعترضوا على طريقة نزول القرآن، فطلبوا أن ينزل جملة واحدة، مع أن نزوله مفرِّقاً أدعى لتثبيت قلوب المؤمنين به وتيسير فهمه وحفظه وامتثاله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} (سورة الفرقان، الآية:32).
فلما اعترض المشركون على القرآن وعلى من أنزل عليه بهذه الاعتراضات تحداهم الله بأن يأتوا بمثله، وأعلن عن عجز الإنسان والجن مجتمعين عن ذلك: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (سورة الإسراء،الآية:88).
بل هم عاجزون عن أن يأتوا بعشر سور مثله:
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ صدق الله العظيم فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ صدق الله العظيم } (سورة هود، الآيتان:13-14).
وحتى السورة الواحدة هم عاجزون عنها: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ صدق الله العظيم } (سورة يونس، الآيتان:37-38).(4/16)
فعجزهم مع أن الفصاحة كانت من سجاياهم، وكانت أشعارهم ومعلقاتهم في قمة البيان دليل على أن القرآن كلام الله الذي لايشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله وأقواله، وكلامه لايشبه كلام المخلوقين(1).
خامساً: دوافع إنكار دعوة الإسلام في العهد المكي :
تحدث بعض الباحثين(2) عن دوافع إنكار دعوة الإسلام في العهد المكي، فذكروا منها:
1-ضعف تأثير النبوات في جزيرة العرب:
كان العرب الذين بعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيدين عن الديانات السماوية، فلم يكونوا يدينون بدين، ولم ينشغلوا بدراسة كتاب سماوي كما كانت تفعل اليهود والنصارى، ولهذا احتج الله عليهم ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ صدق الله العظيم أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ صدق الله العظيم أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءَايَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ صدق الله العظيم } (سورة الأنعام، الآيات:155-157).
__________
(1) انظر: رسالة الأنبياء (3/66).
(2) مثل، سلمان العودة، ومحمد العبدة، وعبدالرحمن الملاحي.(4/17)
وكان لتغلغل المعتقدات الوثنية في حياتهم وعقولهم، وسيطرتها على تفكيرهم أثر عظيم في تصلبهم أمام الحق، وإبائهم الإنقياد والإذعان لدعوته، هذا- فضلاً عن أن طبيعة النفس البشرية حين لاتدين بدين سماوي فإنها تبتعد عن التجرد والصفاء العقدي، وتميل إلى التجسيم المادي الحسي، ولذلك أقدم عبّاد الأصنام على بذل نفوسهم وأموالهم وأبنائهم دونها وهم يشاهدون مصارع إخوانهم وماحلّ بهم، ولا يزيدهم ذلك إلا حبّا لها وتعظيماً، ويوصي بعضهم بعضاً بالصبر عليها، وتحمل أنواع المكاره في نصرتها وعبادتها، وهم يسمعون أخبار الأمم التي فتنت بعبادتها وماحل بهم من عاجل العقوبات(1).
2- العصبية لتراث الآباء والأجداد:
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان عن مصايد الشيطان لابن القيم (2/225).(4/18)
كان أكبر طاغوت تحارب به دعوات الرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- هو طاغوت التقليد والعادة المتبعة، وهي من أكبر العوامل في الصد عن دين الله، ومن الصعب على الانسان الخروج عن مألوفاته وإن ذهاب روحه أهون عليه من تغييرها إلا أن يدخل في قلبه مايقتلعها وقد أشار القرآن الكريم الى مرض تقليد الآباء في الباطل في الأمم السابقة(1)؛ فهذا ابراهيم عليه السلام يخاطب قومه قائلاً: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ صدق الله العظيم قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ صدق الله العظيم قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ صدق الله العظيم أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ صدق الله العظيم قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ صدق الله العظيم } (سورة الشعراء، الايات: 70-74). وهذا المنهج هو دأب المشركين والمعارضين لدين الله على مر الأجيال، وإذا استنكر عليهم الدعاة الأطهار المصلحون ولوغهم في الشهوات وانهماكهم في الفواحش وسائلوهم عن ذلك، قالوا: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة الأعراف، الآية 28). ماذلك إلا لفقدان الدليل، وانقطاع الحجة؛ إذ أنهم لا يعتمدون على عقل يرشدهم، ولا كتاب يؤيدهم ولذلك قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ صدق الله العظيم وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا
__________
(1) انظر: الطريق الى المدينة لمحمد العبده، ص43.(4/19)
وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ صدق الله العظيم } (سورة لقمان، الآيتان: 20،21) وإنما أوقع الكفار في هذا التقليد المنحرف، استدراج الشيطان لهم من خلال فطرة مركوزة في الانسان أصلاً، تدعوه الى الوفاء للآباء والأجداد، وتربطه بتاريخه وتراثه، وهذا من أعظم وسائل الشيطان في الكيد: أن يأتي الانسان من قبل غريزة مطبوعة فيه من حب الشهوة والوطن والمال وغيرها؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الاسلام فقال: تسلم وتذر دينك، ودين آبائك، وآباء أبيك، فعصاه، فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتدع أرضك، وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطَوَل(1)!، فعصاه فهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد! فهو جهد النفس والمال، فتقاتل، فتقتل، فتنكح المرأة! ويقسم المال! فعصاه فجاهد.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فمن فعل ذلك كان حقاً على الله -عز وجل- أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقاً على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة أو وقصته(2) دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة)(3).
فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان من التهم التي وجهت إليه بأنه كان يدعوا الىخلاف ماعهدوا عليه الآباء والأجداد، وبذلك نفرّوا منه العامة والدهماء، وفرضوا على الدعوة نوعاً من الحصار المؤقت(4).
3- موقف أهل الكتاب المساند للوثنية:
__________
(1) الطول : هو الحبل.
(2) أي سقط عنها فاندقت عنقه فمات.
(3) النسائي، كتاب الجهاد، 19 (6/21-22).
(4) انظر: الغرباء الأولون، ص83.(4/20)
كانت بيئة العرب الوثنية مستعدة لمواجهة دعوة التوحيد، ومحاربتها ووجدت في موقف أهل الكتاب الرافض للدعوة مستنداً قوياً لهذه المعارضة، فهاهم أهل التوراة والأنجيل، وورثة الكتب السماوية ينكرون دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويردونها ويكذبونها، وهم أدرى منا بالدين، وهذا كان مصدر دعم وتقوية وتثبيت لموقف المشركين: {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ صدق الله العظيم مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ صدق الله العظيم } (سورة ص، الآيتان: 6،7).
فمن عوامل الصبر على الآلهة في مواجهة الدعوة الجديدة أنهم لم يسمعوا بما جاء به - صلى الله عليه وسلم - في الملة الآخرة، وهي النصرانية، قال ابن عباس، والسدي، ومحمد بن كعب القرظي، وقتادة ومجاهد(1)، وهذا مبني على شهادة أهل الكتاب للمشركين ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإلا فما كان للعرب من علم بالكتب السماوية ومافيها من الحقائق والأخبار(2).
4- سيطرة الأعراف، والعوائد القبليّة:
__________
(1) تفسير الطبري (23/126)، والدر المنثور (7/146).
(2) انظر: الغرباء الأولون ، ص86.(4/21)
كان الصراع القبلي، والتنافس على الرياسة والشرف، والسؤدد متجذراً في الأعراف والعوائد القبلية، ولذلك تجد المعارضين للدعوة المنتسبين للبطن الذي ينتسب إليه الرسول - عليه الصلاة والسلام- يحتجون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه ليس شيخاً ذا رياسة، وتقدم فيهم، والمعارضين من البطون الأخرى يرفضون الاسلام خوفاً على مناصبهم ومكانتهم، والمعارضين من القبائل الاخرى يرفضونها حفاظاً على مراكز قبائلهم، وتكبراً على اتباع فرد من قبيلة اخرى، فعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: (إن أول يوم عرفت فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنت أنا وأبوجهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي جهل: ياأبا الحكم هلّم الى الله والى رسوله، إني ادعوك الى الله، فقال أبو جهل: يامحمد، هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد ان قد بلغت؟ فوالله لو أني أعلم أن ماتقول حقاً ماتبعتك! فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبل عليّ فقال: والله إني لأعلم مايقول حق، ولكن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، قالوا: فينا الندوة، قلنا: نعم ، قالوا: فينا اللواء، قلنا: نعم قالوا: فينا السقاية، قلنا: نعم. ثم أطعموا، وأطعمنا حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي! فلا والله لا أفعل(1).
5- حرصهم على مصالحهم ومكانتهم وتأثيرهم على العرب:
__________
(1) البيهقي، دلائل النبوة، باب اعتراف مشركي قريش بما في كتاب الله تعالى من الإعجاز (2/207).(4/22)
فقد كانوا يريدون أن تبقى لهم منزلتهم المرموقة، وأمجادهم العريقة، ويريدون أن تبقى لمكة قداستها عند القبائل العربية؛ إذ كانوا يظنون أن الاسلام يسلبها هذه الميزة، ويجعل العرب يغزونها، ويمتنعون عن جلب الرزق الى أسواقها، وينسون أن الله هو المنعم عليهم بالأمن والرزق(1): {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا ءَامِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} سورة القصص، الآية: 57). ويضاف الى تخوف قريش على مكانتها عند العرب، كان منطق العرب يقول إن القبيلة أعلم وأدرى بصاحبها وأخبر بشأنه، فلم تكن لنفتات عليهم فيه، وقد قامت قريش بالإعراض عن الدعوة ورفضت قبولها، ونظمت حرباً إعلامية على الدعوة وقائدها - صلى الله عليه وسلم -، ولم تكتف قريش ببث الشائعات، وإطلاقها من مكة، بل كانت تلاحق الداعي المختار - صلى الله عليه وسلم -، حيثما ذهب، وتجند من سفهائها من ذوي الأحلام الطائشة، والنفوس المريضة ليسيئوا الى النبي - صلى الله عليه وسلم - يشوهوا سمعته بين القبائل، كيلا يجرؤ أحد على إيوائه، أو اتباعه، وقد ظن طغات مكة وخيل لهم أن بإمكانهم أن يطفئوا نور الله بأفواهم، وأن يحجبوا الشمس بأيديهم الصغيرة وأن يقضوا على هذه الدعوة في بدايتها(2)، ولكن خاب سعيهم وتحقق قول الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ صدق الله العظيم إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ صدق الله العظيم } (سورة الصافات، الايات: 171-173).
المبحث الثاني
سنة الابتلاء
__________
(1) انظر: الغرباء الأولون ، ص96-106.
(2) نفس المصدر، ص96 الى 106.(4/23)
الابتلاء -بصفة- عامة -سنّة الله- في خلقه وهذا واضح في تقريرات القرآن الكريم، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنعام، الآية:165). وقال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (سورة الكهف، الآية: 7). وقال جل شأنه: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (سورة الانسان، الاية: 2).
الابتلاء مرتبط بالتمكين ارتباطاً وثيقاً؛ فلقد جرت سنّة الله تعالى ألا يُمَكن لأمة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختبار المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث من الطيب وهي سنّة جارية على الامة الاسلامية لا تتخلف، فقد شاء الله -تعالى- أن يبتلي المؤمنين، ويختبرهم، ليمحص إيمانهم، ثم يكون لهم التمكين في الأرض بعد ذلك، ولذلك جاء هذا المعنى على لسان الإمام الشافعي - رضي الله عنه - حين سأله رجل: أيهما أفضل للمرء، أن يُمكن أو يبتلى؟ فقال الإمام الشافعي: لايُمَكن حتى يبتلى، فإن الله -تعالى- ابتلى نوحاً وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمداً -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- فلما صبروا مكنهم فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة(1).
وابتلاء المؤمنين قبل التمكين أمر حتمي من أجل التمحيص؛ ليقوم بنيانهم بعد ذلك على تمكن ورسوخ، وهذا الابتلاء للمؤمنين ابتلاء الرحمة لا ابتلاء الغضب، وابتلاء الاختيار لا مجرد الاختبار(2).
__________
(1) الفوائد لابن القيم ، ص283.
(2) انظر: التمكين للأمة الاسلامية، محمد السيد محمد يوسف، ص235.(4/24)
إن طريق الابتلاء سنة الله في الدعوات كما أنه الطريق الى الجنة وقد (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)(1)، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنه الطريق الذي لا طريق غيره لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة، وتنهض بتكاليفها، طريق التربية للأمة الاسلامية وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال، وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف، والمعرفة لحقيقة الناس، وحقيقة الحياة، وذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عوداً وأقواهم شكيمة، فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها، والصبر عليها، فهم عليها مؤتمنون(2).
حكمة الابتلاء وفوائده:
للإبتلاء حكم كثيرة من أهمها:
1- تصفية الصفوف:
جعل الله الابتلاء وسيلة لتصفية نفوس الناس، ومعرفة المحق منهم والمبطل، وذلك لأن المرء قد لايكشف في الرخاء، لكنه تكشفه الشدة، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} (سورة العنكبوت، الآية 2).
2- تربية الجماعة المسلمة:
وفي هذا يقول سيد قطب رحمه الله: (ثم إنه الطريق الذي لاطريق غيره لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة وتنهض بتكاليفها، طريق التربية لهذه الجماعة، وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والإحتمال، وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة، ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عوداً، فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن بالصبر عليها، فهم عليها مؤتمنون)(3).
3- الكشف عن خبايا النفوس:
__________
(1) مسلم (4/2174).
(2) في ظلال القرآن (1/593).
(3) في ظلال القرآن (2/180).(4/25)
وفي هذا المعنى: (والله يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء، ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ماهو مكشوف لعلم الله، مغيبُ مايعلمه سبحانه من أمرهم، وهو فضل من الله من جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب، فلا يأخذوا أحداً إلا بما استعلن من أمره وبما حققه فعله، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه)(1).
4- الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة:
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: (وما بالله -حاشا لله- أن يعذب المؤمنين بالابتلاء، وأن يؤذيهم بالفتنة، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمان، فهي في حاجة الى إعداد خاص لايتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق، وإلاّ بالثقة الحقيقية في نصر الله وثوابه على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء، والنفس تصهرها الشدائد فتنفي عنها الخبث وتستجيش كامن قواها المذخورة فتستيقظ وتتجمع، وتطرقها بعنف وشدة فيشتد عودها ويصلب ويُصقل، وكذلك تفعل الشدائد بالجماعات، فلا يبقى صامداً إلا أصلبها عوداً، وأقواها طبيعة، وأشدها اتصالاً بالله، وثقة فيما عنده من الحسنيين النصر أو الأجر، وهؤلاء هم الذين يسلمون الراية في النهاية مؤتمنين عليها بعد الاستعداد والاختبار)(2).
5- معرفة حقيقة النفس:
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: (وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم، وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية، ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها، حقيقة الجماعات والمجتمعات، وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم مع الشهوات في أنفسهم، وفي أنفس الناس، ويعرفون مداخل الشيطان الى هذه النفوس، ومزالق الطريق، ومسارب الظلال)(3).
6- معرفة قدر الدعوة:
__________
(1) نفس المصدر (6/387).
(2) في ظلال القرآن (6/389).
(3) نفس المصدر (2/181).(4/26)
وفي هذا المعنى يقول صاحب الظلال: (وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم، وتغلو بقدر مايصيبهم في سبيلها من غث وبلاء، وبقدر مايضحون في سبيلها من عزيز وغال، فلا يفرطوا فيها بعد ذلك مهما كانت الأحوال)(1).
7- الدعاية لها:
فصبر المؤمنين على الابتلاء دعوة صامتة لهذا الدين وهي التي تدخل الناس في دين الله، ولو وهنوا أو استكانوا لما استجاب لهم أحد، لقد كان الفرد الواحد يأتي الى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يأتيه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يمضي الىقومه، يدعوهم، ويصبر على تكذيبهم وأذاهم، ويتابع طريقه حتىيعود بقومه الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2) وسنرى ذلك في الصفحات القادمة إن شاءا لله.
8- جذب بعض العناصر القوية إليها:
وأمام صمود المسلمين وتضحياتهم، تتوق النفوس القوية الى هذه العقيدة، ومن خلال الصلابة الإيمانية، تكبر عند هذه الشخصيات الدعوة وحامليها، فيسارعون الى الاسلام دون تردد، وأعظم الشخصيات التي يعتز بها الاسلام دخلت الى هذا الدين من خلال هذا الطريق(3).
9- رفع المنزلة والدرجة عند الله، وتكفير السيئات:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مايصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعها الله بها درجة، وحط عنه خطيئة)(4)، فقد يكون للعبد درجة عند الله تعالى لايبلغها بعلمه فيبتليه الله تعالى حتى يرفعها إليها، كما أن الابتلاء طريق لتكفير سيئات المسلم(5).
__________
(1) المصدر السابق (2/180).
(2) انظر: فقه السيرة النبوية، ص192،193.
(3) انظر: فقه السيرة النبوية، ص193،194.
(4) مسلم شرح النووي (6/127-128)، كتاب البر والصلة، باب ثوب المؤمن.
(5) انظر: التمكين للأمة الإسلامية ، ص244، وانظر: فقه الابتلاء ، محمد ابو صعيليك، ص8 الى 11.(4/27)
كما أن للابتلاء فوائد عظيمة منها؛ معرفة عز الربوبية وقهرها، معرفة ذل العبودية وكسرها، الإخلاص، الإنابة الى الله والإقبال عليه، التضرع والدعاء، الحلم عمن صدرت عنه المصيبة، العفو عن صاحبها، الصبر عليها، الفرح بها لأجل فوائدها، الشكر عليها، رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم، معرفة قدر نعمة العافية والشكر عليها؛ ماأعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على ا ختلاف مراتبها، وغير ذلك من الفوائد ومن أراد التوسع فليراجع كتاب فقه الابتلاء(1).
وقد تعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لأشكال وأنواع وأصناف متعددة من الابتلاء، كمحاولة قريش لإبعاد أبي طالب عن مناصرة رسول الله، وتشويه الدعوة، وايذائه - صلى الله عليه وسلم -، وايذاء أصحابه، وعرض المغريات والمساومات لترك الدعوة، ومطالبته بجعل الصفا ذهباً، والاستعانة باليهود في مجادلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والدعاية الإعلامية في المواسم ضد الدعوة وشخص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والحصار الاقتصادي الذي تعرض له رسول الله وبني هاشم وبني المطلب من قبل كفار مكة، والايذاء الجسدي وغير ذلك من أنواع الابتلاء، وسنبين في الصحفات القادمة أساليب المشركين في محاربة الاسلام، وكيف تصدى لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكيف دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدر سنّة الابتلاء، بسنّة الأسباب، وكيف تعامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع سنّة الأخذ بالأسباب، حتى أقام دولة الاسلام في المدينة.
المبحث الثالث
أساليب المشركين في محاربة الدعوة
__________
(1) انظر: فقه الابتلاء، محمد أبو صعيليك، ص15 الى 28.(4/28)
اجمع المشركون على محاربة الدعوة التي عرت واقعهم الجاهلي وعابت آلهتهم وسفهت أحلامهم -أي آراءهم وأفكارهم- وتصوراتهم عن الله والحياة والإنسان والكون، فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولات لإيقاف الدعوة وإسكات صوتها، أو تحجيمها،وتحديد مجال انتشارها.
أولاً: محاولة قريش لإبعاد أبي طالب عن مناصرة وحماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
فقد جاءت قريش الى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا، فقال أبوطالب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم، فحلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببصره الى السماء فقال: (ترون هذه الشمس). قالوا: نعم، قال: (فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها بشعلة) وفي رواية: (والله ماأنا بأقدر أن أدع مابعثت به من أن يشعل أحد من هذه الشمس شعلة من نار) فقال أبو طالب: (والله ماكذب ابن أخي قط، فأرجعوا راشدين)(1) وحاولت قريش مرات عديدة الضغط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواسطة عائلته ولكنها فشلت.
ذاع أمر حماية أبي طالب لأبن أخيه وتصميمه على مناصرته وعدم خذلانه، فاشتد ذلك على قريش غماً وحسداً ومكراً فمشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: (ياأبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فلك عقله(2) ونصره، واتخذه ولداً فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك، ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك وسفه أحلامنا، فنقتله فأنما هو رجل برجل) قال: (والله لبئس ماتسومونني أتعطونني أبنكم أغذوه لكم؟ واعطيكم ابني فتقتلونه، هذا والله مالايكون أبداً)(3).
__________
(1) صحيح السيرة النبوية ، ابراهيم العلي، ص78.
(2) فلك عقله: أي ديته اذا قتل.
(3) البداية والنهاية (3/48).(4/29)
وإن المرء ليسمع عجباً، ويقف مذهولاً أمام مروءة أبي طالب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد ربط أبوطالب مصيره بمصير ابن أخيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل واستفاد من كونه زعيم بني هاشم أن ضم بني هاشم وبني المطلب إليه في حلف واحد على الحياة والموت تأييداً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمهم ومشركهم على السواء(1)، وأجار ابن أخيه محمد إجارة مفتوحة لاتقبل التردد أو الإحجام، كانت هذه الأعراف الجاهلية والتقاليد العربية تسخر من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - لخدمت الإسلام، وقد قام ابو طالب حين رأى قريشاً تصنع ماتصنع في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم الىماهو عليه، من منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقيام دونه؛ فاجتمعوا إليه وقاموا معه، وأجابوه الى مادعاهم إليه، إلا ماكان من أبي لهب عدو الله اللعين.
فلما رأى أبو طالب من قومه ماسرّه من جهدهم معه، وحدبهم عليه، جعل يمدحهم، ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم، وليحدبوا معه على أمره فقال:
إذا اجتمعت يوماً قريش لمفخر
... ... ... فعبد مناف سرها وصميمها
وإن حصلت أشراف عبد منافها
... ... ... ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوماً فإن محمداً
... ... ... هو المصطفى من سرِّ وكريمها
تداعت قريش غثها وثمينها
... ... ... علينا فمل تظفر وطاشت حلومها
وكنا قديماً لانقر ظلامة
... ... ... إذا ماثنوا صعر الخدود نقيمها(2)
وحين حاول ابو جهل أن يخفر جوار أبي طالب تصدى له حمزة، فشجه بقوسه وقال له: تشتم محمدا ًوأنا على دينه، فرد ذلك إن استطعت.
__________
(1) انظر: فقه السيرة النبوية، ص184.
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/269).(4/30)
إنها ظاهرة فذة أن تقوم الجاهلية بحماية من يسب آلهتها، ويعيب دينها، ويسفه أحلامها، وباسم هذه القيم يقدمون المهج والأرواح، ويخوضون المعارك والحروب، ولا يمس محمد بسوء.
ولما خشي أبو طالب دَهماءَ العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوَّذ فيها بحرمة مكة، وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم في ذلك من شعره، أنه غير مسلّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تاركه لشيء أبداً حتى يهلك دونه فقال:
ولما رأيت القوم لا ود فيهم
... ... ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى
... ... ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوماً علينا أظنة
... ... ... يعضون غيظاً خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء(1) سمحة
... ... ... وأبيض(2) عضب من ترات المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي
... ... ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل(3)
وتعوذ بالبيت وبكل المقدسات التي فيه، وأقسم بالبيت بأنه لم يسلم محمداً ولو سالت الدماء أنهاراً واشتدت المعارك مع بطون قريش:
كذبتم وبيت الله نبزي محمداً
... ... ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه(4) حتى نصرّع حوله
... ... ... وتذهل عن أبنائنا والحلائل(5)
وينهض قوم في الحديد إليكم
... ... ... نهوض الروايا(6) تحت ذات الصلاصل
وقرّع زعماء بني عبد مناف بأسمائهم لخذلانهم إياه، فلعتبة بن ربيعة يقول:
فعتبة لاتسمع بنا قول كاشح
... ... ... حسودٍ كذوب مبغضٍ ذي دغاول(7)
ولأبي سفيان بن حرب يقول:
ومر ابو سفيان عَنىَّ معرضاً
__________
(1) سمراء : كناية عن الرمح.
(2) ابيض عضب: كناية عن السيف.
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/273).
(4) ونسلمه حتى نصرع حوله، أي كذبتم أن نسلمه قبل أن نصرع حوله.
(5) الحلائل: الزوجات.
(6) الروايا: الإبل التي تحمل الماء للساقية.
(7) الدغاول: الدواهي.(4/31)
... ... ... كما قيْل(1) من عظام المقاول
يضر الى نجد وبرد مياهه
... ... ... ويزعم أني لست عنكم بغافل(2)
وللمطعم بن عدي سيد بني نوفل يقول:
أمطعم لم أخذلك في يوم نجدة
... ... ... ولا معظم عند الأمور الجلائل
أمطعم إن القوم ساموك خطة
... ... ... فإني متى أوكل فلست بوائل(3)
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً
... ... ... عقوبة شرٍ عاجلاً غير آجل(4)
لقد كان كسب النبي - صلى الله عليه وسلم - عمه في صفة الدفاع عنه، فكان ذلك نصراً عظيماً وقد استفاد - صلى الله عليه وسلم - من العرف القبلي فتمتع بحماية العشيرة، ومُنع من أي اعتداء يقع عليه وأعطى حرية التحرك والتفكير وهذا يدل على فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - للواقع الذي يتحرك فيه وفي ذلك درس بالغ للدعاة الى الله تعالى للتعامل مع بيئتهم ومجتماعتهم والاستفادة من القوانين والأعراف والتقاليد لخدمة دين الله.
ثانياً: محاولة تشويه لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم:
قام مشركوا مكة بتشويه دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك نظمت قريش حرب أعلامية ضده لتشويهه قادها الوليد بن المغيرة حيث اجتمع مع نفر من قومه، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر موسم الحج فقال لهم: يامعشر قريش! إنه قد حضر الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفون فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قول بعضكم بعضاً.
-فقالوا: فأنت ياأبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به.
- قال: بل أنتم قولوا أسمع.
- فقالوا: نقول كاهن.
- فقال: ماهو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة(5) الكاهن وسجعه.
- فقالوا: نقول مجنون.
__________
(1) قَيْل: الرئيس الكبير في اليمن.
(2) انظر: فقه السيرة النبوية، ص212.
(3) بوائل: ناج.
(4) انظر: فقه السيرة النبوية، ص212.
(5) الزمزمة: كلام خفي لايسمع.(4/32)
- فقال: ماهو بمجنون، لقد راينا الجنون وعرفناه، فماهو تخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
- فقالوا: نقول شاعر.
- فقال: ماهو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وقريضة ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.
- قالوا: فنقول ساحر.
- قال: ماهو بساحر، لقد رأينا السحّار وسحرهم، فماهو بنفثه ولاعقده.
- قالوا: فما نقول ياأبا عبد شمس؟
قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق(1)، وإن فرعه لجناة(2) وماأنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل. وإن أقرب القول لأن تقولوا: ساحر، فقولوا: ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته(3).
__________
(1) العذق: النخلة.
(2) الجناة: مايجني من الثمر.
(3) السير والمغازي لابن إسحاق، ص150-151، تهذيب السيرة (1/64-65).(4/33)
فأنزل الله تعالى في الوليد: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا صدق الله العظيم وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا(1) صدق الله العظيم وَبَنِينَ شُهُودًا صدق الله العظيم وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا صدق الله العظيم ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ صدق الله العظيم كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا صدق الله العظيم سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا(2) صدق الله العظيم إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ صدق الله العظيم فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(3) صدق الله العظيم ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ صدق الله العظيم ثُمَّ نَظَرَ صدق الله العظيم ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(4) صدق الله العظيم ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ صدق الله العظيم فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ(5) صدق الله العظيم إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ صدق الله العظيم سَأُصْلِيهِ سَقَرَ صدق الله العظيم } (سورة المدثر، الآيات:
11-26).
__________
(1) واسعاً.
(2) أي عذاباً شديداً.
(3) أي توى ماذا يقول في القرآن.
(4) أي قبض بين عينيه وكلح وقطب.
(5) أي هذا سحر بنقله محمد عن غيره ممن عقبله ويحكيه عنهم.(4/34)
ويتضح من هذه القصة أن الحرب النفسية المضادة للرسول - صلى الله عليه وسلم - لم تكن توجه اعتباطاً وإنما كانت تعد بإحكام ودقة بين زعماء الكفار، وحسب قواعد معينة هي أساس القواعد المعمول بها في تخطيط الحرب النفسية في العصر الحديث، كاختيار الوقت المناسب، فهم يختارون وقت تجمع الناس في موسم الحج، والاتفاق وعدم التناقض وغير ذلك من هذه الأسس حتى تكون حملتهم منظمة، وبالتالي لها تأثير على وفود الحجيج، فتؤتي ثمارها المرجوة منها، ومع اختيارهم للزمان المناسب فقد اختاروا أيضاً مكاناً مناسباً حتى تصل جميع الوفود القادمة الى مكة(1)، ويتضح من هذا الخبر عظمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوته في التأثير بالقرآن على سامعيه، فالوليد بن المغيرة كبير قريش ومن أكبر ساداتهم، ومع مايحصل عادة للكبراء من التكبر والتعاظم فإنه قد تأثر بالقرآن ورق له واعترف بعظمته ووصف بذلك الوصف البليغ(2) وهو في حالة استجابة لنداء العقل ولم تستطع تلك الحرب الاعلامية المنظمة أن تحاصر دعوة رسول - صلى الله عليه وسلم - بل استطاع محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يخترق حصار الأعداء الذين لم يكتفوا بتنفير ساكني مكة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتشويه سمعته عندهم بل صاروا يتلقون الوافدين إليهم ليسمّموا أفكارهم وليحولوا بيهم وبين سماع كلامهم، والتأثير بدعوته، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عظيم النجاح في دعوته، بليغاً في التأثير على من خاطبه، حيث يؤثر على من جالسه بهيئته وسمته ووقاره قبل أن يتكلم، ثم إذا تحدث أسر سامعيه بمنطقه البليغ المتمثل في العقل السليم والعاطفة الجياشة بالحب والصفاء والنية الخالصة في هداية الأمة بوحي الله تعالى(3)، ومن أبرز الأمثلة على قوته في
__________
(1) انظر: الحرب النفسية ضد الاسلام، د. عبدالوهاب كحيل، ص103.
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (1/123).
(3) المصدر السابق نفسه (1/127،137).(4/35)
التأثير بالكلمة المعبرة والأخلاق الكريمة وقدرته على اختراق الجدار الحديدي الذي حاول زعماء مكة ضربه عليه ماكان من موقفه مع ضماد الأزدي، وعمرو بن الطفيل الدوسي، وأبي ذر، وعمرو بن عبسة رضي الله عنهم.
1- إسلام ضماد الأزدي - رضي الله عنه -:
وفد ضماد الأزدي الى مكة وتأثر بدعاوي المشركين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استقر في نفسه أنه مصاب بالجنون كما يتهمه بذلك زعماء مكة؛ وكان ضماد من أزد شنوءه وكان يعالج من الجنون، فلما سمع سفهاء مكة يقولون إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - مجنون فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي.
قال: فلقيه. فقال: يامحمد إني أرقي من هذاه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الحمدلله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد).
فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعدهن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، قال فقال: لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغنِ قاموس البحر(1)، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هات يدك أبايعك على الاسلام قال: فبايعه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وعلى قومك، قال: وعلى قومي.
وعندما قامت دولة الاسلام في المدينة، وكانت سرايا رسول الله تبعث، فمروا على قوم ضماد فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئاً؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة، فقال: ردوها فإن هؤلاء قوم ضماد(2).
( دروس وفوائد:
__________
(1) قاموس البحر: معناه وسطه، أو لجته أو قعره الأقصى.
(2) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة رقم 868.(4/36)
أ- دعاية قريش وتشويه شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتهامه بالجنون حمل ضماد على السير للرسول - صلى الله عليه وسلم - من أجل رقيته، فكانت الحرب الاعلامية المكية ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم - سبباً في إسلامه وإسلام قومه.
ب- تتضح صفتي الصبر والحلم في شخص النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد عرض ضماد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معالجته من مرض الجنون وهذا موقف يثير الغضب، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقبل الأمر بحلم وهدوء مما أثار إعجاب ضماد واحترامه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ج- أهمية هذه المقدمة التي يستفتح بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض خطبه فقد اشتملت على تعظيم الله وتمجيده وصرف العبادة له سبحانه؛ ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً مايجعلها بين يدي خطبه ومواعظه.
ح- تأثر ضماد بفصاحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقوة بيانه، لئن حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - انبعث من قلب مُليء إيماناً ويقيناً وحكمة، فأصبح حديثه يصل الى القلوب ويجذبها الى الإيمان.
خ- في سرعة إسلام ضماد دليل على أن الاسلام دين الفطرة، وأن النفوس إذا تجردت من الضغوط الداخلية والخارجية، فإنها غالباً تستأثر وتستجيب، إما بسماع قول مؤثر، أو الإعجاب بسلوك قويم.
د- حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على انتشار دعوته حيث رأى في ضماد صدق إيمانه، وحماسته للإسلام، وقوة قناعته به، فدفعه ذلك الى أخذ البيعة منه لقومه.
ص- وفي هذا بيان واضح لأهمية الدعوة الى الله تعالى، حيث جعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - قرينة الالتزام الشخصي، فقد بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الالتزام بالدين، فلم يكتف رسول الله بذلك بل أخذ منه البيعة على دعوة قومه الى الاسلام.(4/37)
ش- حفظ المعروف والود لأهل السابقة والفضل (ردوها فإن هؤلاء من قوم ضماد)(1).
و- في الحديث بعض الوسائل التربوية التي استعملها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع ضماد، كالتأني في الحديث، واسلوب الحوار، التوجيه المباشر، وتظهر بعض الصفات في شخصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كمربي، كالحلم والصبر، والتشجيع على الإكثار من الخيرات.
2- إسلام عمرو بن عبسة - رضي الله عنه -:
قال: عمرو بن عبسة السلمي: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ظلالة، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفياً، جرءاء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: ماأنت؟ قال: (أنا نبي) فقلت: ومانبي؟ قال: (أرسلني الله) فقلت: وبأي شيء ارسلك؟ قال: (أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لايشرك به شيء) قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: (حر وعبد) قال: ومعه يومئذ أبوبكر وبلال ممن آمن به فقلت: إني متبعك. قال: (إنك لاتستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع الى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني).
قال فذهبت الى أهلي، وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخير الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة، حتى قدم عليَّ نفر من أهل يثرب من أهل المدينة، فقلت: مافعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سِراع. وقد أرادوا قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك. فقدمت المدينة فدخلت عليه، فقلت: يارسول الله أتعرفني؟ قال: (نعم. أنت الذي لقيتني بمكة؟).
وذكر بقية الحديث وفيه أنه سأله عن الصلاة والوضوء(2).
( دروس وعبر:
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (1/132،133) وانظر: الوحي وتبليغ الرسالة، ص111، 113، د. يحيى اليحيى.
(2) انظر: صحيح مسلم، رقم 832، كتاب صلاة المسافرين.(4/38)
أ- عمر بن عبسة كان من الحنفاء المنكرين لعبادة غير الله تعالى في الجاهلية.
ب- كانت الحروب الاعلامية الضروس التي شنتها قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبباً في تتبع عمرو بن عبسة لأخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ج- جرأة وشدة قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد وجده عمر بن عبسة مستخفياً وقومه جرءاء عليه.
ح- الأدب في الدخول على أهل الفضل والمنزلة قال عمرو بن عبسة: (فتلطفت حتى دخلت عليه).
د- الرسالة المحمدية تقوم على ركيزتين : حق الله، وحق الخلق قال - صلى الله عليه وسلم -: (أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان) وفي هذا دليل على أهمية صلة الأرحام حيث كان هذا الخلق العظيم من أوليات دعوة الاسلام، مع اقترانه بالدعوة الى التوحيد، وقد ظهر في هذا البيان الهجوم على الأوثان بقوة مع أنها كانت أقدس شيء عند العرب، وفي هذا دلالة على أهمية إزالة معالم الجاهلية، وأن دعوة التوحيد لاتستقر ولا تنتشر إلا بزوال هذه المعالم.
س- وفي اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - المبكر بإزالة الأوثان مع عدم قدرته على تنفيذ ذلك في ذلك الوقت دلالة على أن أمور الدين لايجوز تأخير بيانها للناس بحجة عدم القدرة على تطبيقها، فالذين يبينون للناس من أمور الدين مايستطيعون تطبيقه بسهولة وأمن، ويحجمون عن بيان أمور الدين التي يحتاج تطبيقها الى شيء من المواجهة والجهاد هؤلاء دعوتهم ناقصة ولم يقتدوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي واجه الجاهلية وطغاتها وهو في قلة من أنصاره، والسيادة في بلده لأعدائه(1).
ش- حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أمان صحابته وتوفير الجو الآمن، والسير بهم الى بر الأمان وإبعادهم عن التعرض للمضايقات، قال لعمرو بن عبسة: (إنك لاتستطيع يومك هذا.....).
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي (1/109) للحميدي.(4/39)
هـ- تذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحوال أصحابه وعدم نسيان مواقفهم، قال: (أنت الذي لقيتني بمكة).
و- لم يكن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليعطي كل من أسلم قائمة بأسماء أتباعه، فهذا ليس للسائل منه مصلحة ولا يتعلق به بلاغ، ولذلك لما سأل عمرو بن عبسة عن من تبعه قال: (حر وعبد) وهذه تورية كما قال ابن كثير بأن هذا اسم جنس فهم منه عمرو أنه اسم عين(1).
وممن أسلم بسبب الحرب الاعلامية ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الطفيل بن عمرو الدوسي وجاءت قصته مفصلة في كتب السيرة ويرى الدكتور اكرم ضياء العمري، أنه لم يثبت منها إلا أنه دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للالتجاء الى حصن دوس المنيع فأبى رسول الله ذلك(2)، وأشارت رواية صحيحة الى أن الطفيل دعا قومه الى الاسلام ولقي منهم صدوداً حتى طلب الطفيل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو عليهم لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا لهم بالهداية(3). وكان الرسول آنئذ بالمدينة المنورة(4).
ي- في قوله - صلى الله عليه وسلم - ارجع الى أهلك فإذا سمعت بي ظهرت فأتني). نأخذ منه درساً في الدعوة: أن تكديس المريدين والاعضاء حيث المحنة والإيذاء ليس هو الأصل، فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوجه نحو الرجوع الى الأقوام، وأمر كما نرى بالهجريتين الى الحبشة، فذلك تخفيف عن المسلمين وإبعاد عن مواطن الخطر وستر لقوة المسلمين، وإعطاء فرصة للقائد حتى لاينشغل، وضمان للسرية، وإفادة للمكان المرسل إليه، وإعداد للمستقبل، وملاحظة لضمان الاستمرار وتجنب الاستئصال(5).
__________
(1) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، ص106 الى 109.
(2) صحيح مسلم (1/109).
(3) صحيح البخاري فتح البخاري (6/107).
(4) السيرة النبوية ابن كثير (2/76)، انظر: السيرة النبوية الصحيحة، للدكتور العمري (1/146).
(5) انظر: الاساس في السنّة (1/126)، سعيد حوى.(4/40)
3- إسلام الحصين والد عمران رضي الله عنهما:
جاءت قريش الى الحصين -وكانت تعظمه- فقالوا له: كلم لنا هذا الرجل ، فإنه يذكر آلهتنا، ويسبهم فجاءوا معه حتى جلسوا قريباً من باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أوسعوا للشيخ). وعمران وأصحابه متوافرون فقال حصين: ماهذا الذي بلغنا عنك أنك تشتم آلهتنا، وتذكرهم، وقد كان أبوك حصينة(1) وخيراً؟ فقال: (ياحصين، أن أبي وأباك في النار ياحصين، كم تعبد من إله؟) قال سبعاً في الأرض، وواحد في السماء. فقال: (فإذا أصابك الضر من تدعو)؟ قال : الذي في السماء. قال: (فإذا هلك المال من تدعو؟) قال: الذي في السماء. قال: (فيستجيب لك وحده، وتشركهم معه، أرضيته في الشكر أم تخاف أن يغلب عليك؟) قال: ولا واحدة من هاتين. قال: وعلمت أني لم أكلم مثله. قال: (ياحصين، أسلم تسلم). قال: إن لي قوماً وعشيرة، فماذا أقول؟ قال: (قل: اللهم استهديك لأرشد أمري، وزدني علماً ينفعني). فقالها حصين فلم يقم حتى أسلم. فقام إليه عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رأى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بكى، وقال: (بكيت من صنيع عمران دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته، فلما أسلم قضى حقه فدخلني من ذلك الرقة). فلما أراد حصين أن يخرج قال لأصحابه: (قوموا فشيعوه الى منزله) فلما خرج من سدة الباب رأته قريش، فقالوا صبأ وتفرقوا عنه)(2).
ولعل الذي حدا بالحصين والد عمران أن يسلم بهذه السرعة، سلامة فطرته، وحسن استعداده من ناحية، وقوة حجة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسلامة منطقه من ناحية أخرى(3).
__________
(1) حصينة: يعني عاقلاً متحصناً بدين آبائه وأجداده، ومعتقداتهم. انظر: النهاية (1/234).
(2) الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (1/337) وعنه نقل الشيخ محمد يوسف في : حياة الصحابة (1/75،76).
(3) انظر: فقه الدعوة الفردية، د. السيد محمد نوح ، ص104.(4/41)
ونلاحظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخدم أسلوب الحوار مع الحصين - رضي الله عنه - لغرس معاني التوحيد في نفسه ونسف العقائد الباطلة التي كان يعتقدها.
4- إسلام أبي ذر - رضي الله عنه -:
كان أبو ذر - رضي الله عنه - منكراً لحال الجاهلية، ويأبى عبادة الاصنام وينكر على من يشرك بالله، وكان يصلي لله قبل إسلامه، بثلاث سنوات، دون أن يخص قبلة بعينها بالتوجه، ويظهر أنه كان على نهج الأحناف، ولما سمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قدم الى مكة وكره أن يسأل عنه حتى أدركه الليل، فاضطجع فرآه علي - رضي الله عنه -، فعرف أنه غريب فاستضافه ولم يسأله عن شيء، ثم غادره صباحاً الى المسجد الحرام فمكث حتى أمسى، فرآه عليّ فاستضافه لليلة ثانية، وحدث مثل ذلك في الليلة الثالثة ثم سأله عن سبب قدومه، فلما استوثق منه أبو ذر أخبره بأنه يريد مقابلة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال له علي: فإنه حق وهو رسول الله فإذا أصبحت فاتّبعني فإني إن رأيت شيئاً أخف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني، فتبعه وقابل الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستمع الى قوله فأسلم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - أرجع الى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري. فقال : والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وثار القوم حتى أضجعوه)، فأتى العباس بن عبدالمطلب فحذرهم من انتقام غفار والتعرض لتجارتهم التي تمر بديارهم الى الشام، فأنقذه منهم(1)، وكان أبو ذر قبل مجيئه قد أرسل أخيه، ليعلم له علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسمع من قوله ثم يأتيه، فانطلق الاخ حتى قدمه وسمع من قوله، ثم رجع الى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ماهو بالشعر. فقال: ماشفيتني(2)
__________
(1) صحيح البخاري (فتح الباري) (7/173).
(2) ماشفيتني مما أردت: مابلغتني غرضي وأزلت عني هم .(4/42)
مما أردت(1) وعزم على الذهاب بنفسه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أخوه له: (وكن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شَنفِوا له وتجهموا)(2).
( دروس وعبر وفوائد:
شيوع ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين القبائل وأكثر من ساهم في ذلك مشركوا قريش بما اتخذوه من منهج التحذير والتشويه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما جاء به، حتى وصل ذكره قبيلة غفار.
تميز أبي ذر بأنه رجل مستقل في رأيه لا تؤثر عليه الإشاعات، ولا تستفزه الدعايات فيقبل كل ماتنشره قريش، ولذلك أرسل أخاه يستوثق له من خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيداً عن التأثيرات الإعلامية.
شدة اهتمام أبي ذر بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكتف بالمعلومات العامة التي جاء بها أخوه أنيس، بل اراد أن يقف على الحقيقة بعينيها؛ حيث أن مجال البحث ليس عن رجل يأمر بالخير فحسب وإنما عن رجل يذكر أنه نبي ولذلك تحمل المشاق والمتاعب وشظف العيش، والغربة عن الأهل والوطن في سبيل الحق، فأبو ذر ترك أهله واكتفى من الزاد بجراب وارتحل الى مكة لمعرفة أمر النبوة(3).
التأني والتريث في الحصول على المعلومة، حيث تأنى أبو ذر - رضي الله عنه -، لما يعرفه من كراهية قريش لكل من يخاطب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا التأني تصرف أمني تقتضيه حساسية الموقف، فلو سأل عنه، لعلمت به قريش، وبالتالي قد يتعرض للأذى والطرد، ويخسر الوصول الى هدفه الذي من أجله ترك مضارب قومه وتحمل في سبيله مصاعب ومشاق السفر.
__________
(1) صحيح السيرة النبوية، ابراهيم العلي، ص83.
(2) صحيح مسلم (4/1923) وشنفوا له أي أبغضوه وانظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/145).
(3) انظر: الوحي وتبيلغ الرسالة، د. يحيى اليحيى، ص91 الى 93.(4/43)
الاحتياط والحذر قبل النطق بالمعلومة: حين سال علي - رضي الله عنه - ابا ذر - رضي الله عنه - عن أمره وسبب مجيئه الى مكة، لم يخبره بالرغم من أنه استضافه ثلاثة أيام، إمعاناً في الحذر، فاشترط عليه قبل أن يخبره أن يكتم عنه، وفي ذات الوقت أن يرشده، فهذا غاية في الاحتياط، وتم ماأراده.
التغطية الأمنية للتحرك: تم الاتفاق بين علي وأبي ذر رضي الله عنهما على إشارة، أو حركة معينة، كأنه يصلح نعله، أو كأنه يريق الماء وذلك عندما يرى علي - رضي الله عنه - من يترصدهم، أو يراقبهم، فهذه تغطية أمنية لتحركهم اتجاه المقر (دار الأرقم)، هذا الى جانب أن ابا ذر كان يسير على مسافة من علي، فيُعد هذا الموقف احتياطاً، وتحسباً لكل طارئ، قد يحدث أثناء التحرك.
هذه الاشارات الأمنية العابرة تدل على تفوق الصحابة رضي الله عنهم في الجوانب الأمنية، وعلى مدى توفر الحس الأمني لديهم وتغلغله في نفوسهم، حتى أصبح سمة مميزة لكل تصرف من تصرفاتهم الخاصة والعامة، فأتت تحركاتهم منظمة ومدروسة فما أحوجنا لمثل هذا الحس الذي كان عند الصحابة بعد أن أصبح للأمن في عصرنا أهمية بالغة في زوال واستمرار الحضارات(1) وأصبحت له مدارسه الخاصة وتقنياته المتقدمة، وأساليبه ووسائله المتطورة، وأجهزته المستقلة، وميزانياته ذات الأرقام الكبيرة، وأضحت المعلومات عامة والمعلومات الأمنية خاصة، تباع بأغلى الأثمان، ويضحى في سبيل الحصول عليها بالنفس إذا لزم الأمر.
وما دام الأمر كذلك، فعلى المسلمين الاهتمام بالناحية الأمنية، حتى لاتصبح قضايانا مستباحة للأعداء، وأسرارنا في متناول أيديهم(2).
صدق أبي ذر في البحث عن الحق ورجاحة عقله وقوة فهمه، فقد أسلم بعد عرض الاسلام عليه.
__________
(1) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، د. ابراهيم علي، ص58،59.
(2) انظر: دروس في الكتمان، محمود خطاب، ص9.(4/44)
حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واهتمامه بأمن أصحابه وسلامتهم، حيث أمر أبا ذر بالرجوع الى أهله وكتمان أمره حتى يظهره الله.
شجاعة أبي ذر وقوته في الحق فقد جهر بإسلامه في نوادي قريش ومجتماعتهم تحدياً لهم وإظهاراً للحق(1)، وكأنه فهم أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكتمان ليس على الايجاب بل على سبيل الشفقة عليه فاعلمه بأنه أن به قوة على ذلك ولهذا اقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ويؤخذ منه جواز قول الحق عند من يخشى منه الأذية لمن قاله وإن كان السكوت جائزاً والتحقيق أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال، والمقاصد وبحسب ذلك يترتب وجود الاجر وعدمه(2).
كان موقف أبي ذر مفيداً للدعوة وساهم في مقاومة الحرب النفسية التي شنتها قريش ضد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكانت ضربة معنوية أصابت كفار مكة في الصميم بسبب شجاعة ورجولة ابي ذر وقدرته على التحمل، فقد سالت الدماء من جسده ثم عاد مرة اخرى للصدع بالشهادة.
مدافعة العباس عن المسلمين وسعيه لتخليص أبي ذر من أذى قريش دليل على تعاطفه مع المسلمين وكان أسلوبه في رد الاعتداء يدل على خبرته بنفوس كفار مكة حيث حذرهم من الأخطار التي ستواجهها تجارتهم عندما تمر بديار غفار(3).
امتثل أبو ذر للترتيبات الأمنية التي اتخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة، فمع تعلق أبي ذر بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وحبه له وحرصه على لقائه، إلا أنه امتثل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مغادرة مكة الى قومه واهتم بصلاح وهداية الأهل ودعوته للإسلام، فبدأ بأخيه، وأمه وقومه.
__________
(1) انظر: الوحي وتبيلغ الرسالة، ص95.
(2) انظر: فتح الباري (7/134).
(3) انظر: الوحي وتبيلغ الرسالة، ص94،95.(4/45)
أثر أبي ذر الدعوي على قومه وقدرته في هدايتهم وإقناعهم بالإسلام، ومع ذلك فلا يصلح للإمارة، روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر قال: قلت:يارسول الله ألا تستعملني قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: (يااباذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)(1)، فكل شخص مجاله الذي سخره الله فيه وميدانه الذي يقوم بواجبه فيه، فلا يعني أنه نجح في الدعوة، وإقناع الناس أنه يصلح لكل شيء.
تفويض أبي ذر الإمامة الى سيد غفار (إيماء بن رحضة)، ومع تقدم أبي ذر عليه في الاسلام وعلو منزلته يدل على مهارة إدارية وهي عدم جمع كل الأعمال في يده، وتقدير الناس وإنزالهم منازلهم(2).
نجاح أبي ذر الباهر في الدعوة حيث أسلمت نصف غفار وأسلم نصفها الثاني بعد الهجرة(3).
__________
(1) مسلم، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة (3/1457) رقم 1825.
(2) انظر: الوحي وتبليغ الرسالة، ص100.
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/45).(4/46)
لقد فشلت محاولات التشويه والحرب الإعلامية، والحجر الفكري الذي كان الكفار يمارسونه على الدعوة الاسلامية في بداية عهدها، لأن صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أقوى من أصواتهم، ووسائله في التبليغ كانت أبلغ من وسائلهم، وثباته على مبدئه السامي كان أعلى بكثير مما كان يتوقعه أعداؤه، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يجلس في بيته، ولم ينزو في زاوية من زوايا المسجد الحرام، ليستخفي بدعوته، وليقي نفسه من سهام أعدائه المسمومة، بل إنه غامر بنفسه، فكان يخرج في مضارب العرب قبل أن يفدوا الى مكة، وكان يجهر بتلاوة القرآن في المسجد الحرام ليسمع من كان في قلبه بقية من حياة، وأثارة من حرية وإباء، فيتسرب نور الهدى الى مجامع لبه، وسويداء قلبه(1)، وكان من هؤلاء ضماد الأزدي، وعمرو بن عبسة، وأبي ذر الغفاري، والطفيل بن عمرو الدوسي وحصين والدعمران بن الحصين رضي الله عنهم وهذا دليل قاطع، وبرهان ساطع على فشل حملات التشويه التي شنتها قريش ضد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلينا أن نعتبر ونستفيد من الدروس والعبر.
ثالثاً: ماتعرض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأذى والتعذيب:
لم يفتر المشركون عن أذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أن صدع بدعوته الى أن خرج من بين أظهرهم وأظهره الله عليهم، ويدل على ذلك مبلغ هذا الأذى تلك الآيات الكثيرة التي كانت تتنزل عليه في هذه الفترة تأمره بالصبر، وتدله على وسائله، وتنهاه عن الحزن، وتضرب له أمثلة من واقع إخوانه المرسلين مثل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} (سورة المزمل، الآية: 10).
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِمًا أَوْ كَفُورًا} (سورة الإنسان، الآية: 24).
__________
(1) التاريخ الإسلامي للحميدي (1/144).(4/47)
{وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (سورة النمل، الاية 70).
{مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} (سورة فصلت، الآية: 43).
وهذه أمثلة تدل على ماتعرض له - صلى الله عليه وسلم - من الإيذاء:
1- قال ابو جهل: هل يعفر محمد وجهه(1) بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم فقال: واللات والعزى! لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته أو لأعفرنَّ وجهه في التراب. قال فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم(2) منه إلا وهو ينكص على عقبيه(3) ويتقي بيديه. قال: فقيل له: مالك: فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولا وأجنحة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضوً)(4).
وفي حديث ابن عباس قال: كان النبي يصلي فجاء ابو جهل: فقال: (ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فزبره(5)، فقال: أبو جهل: إنك لتعلم مابها ناد أكثر مني، فأنزل الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ صدق الله العظيم سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ صدق الله العظيم } (سورة العلق، الآيتان:17،18) قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله)(6).
__________
(1) يعفر وجهه: أي يسجد ويلصق وجهه بالعفو وهو التراب.
(2) فجأهم: بغتم.
(3) عقبيه: رجع يمشي الى الوراء.
(4) مسلم، كاب صفات المنافقين، باب قوله إن الانسان ليطغى رقم 2797.
(5) زبره: نهره.
(6) الترمذي رقم 3349، حسن صحيح غريب.(4/48)
2- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: (بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي عند الكعبة، وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون الى هذا المرائي؟ أيكم يقوم الى جزور آل فلان، فيعمد الى فرثها ودمها وسلاها، فيجيء به ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث اشقاهم، فلما سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه، وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجداً، فضحكوا حتى مال بعضهم الى بعض من الضحك، فانطلق منطلق الى فاطمة عليها السلام -وهي جويرية- فأقبلت تسعى، وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة قال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش. ثم تسمّى: اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط وعمارة بن الوليد، قال ابن مسعود: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا الى القليب(1) -قليب بدر- ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأتبع أصحاب القليب لعنة)(2).
وقد بينت الروايات الصحيحة الأخرى أن الذي رمى الرفث عليه هو عقبة بن أبي معيط، وأن الذي حرضه هو أبو جهل(3)، وأن المشركين تأثروا لدعوة الرسول، وشق عليهم الأمر، لأنهم يرون أن الدعوة بمكة مستجابة(4).
3- اجتماع الملاء من قريش وضربهم الرسول:
__________
(1) القليب: البئر المفتوح.
(2) البخاري (فتح الباري 1/594)، مسلم (3/1418-1420).
(3) صحيح مسلم (3/1420).
(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/149).(4/49)
اجتمع اشراف قريش يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: مارأينا مثل ماصبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط سفه أحلامنا وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم! فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوثبوا وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون، أنت الذي تقول كذا وكذا -لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم- فيقول: نعم، أنا الذي أقول ذلك ثم أخذ رجل منهم بمجمع ردائه؛ فقام ابوبكر - رضي الله عنه - دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله(1).
__________
(1) صحيح السيرة النبوية، ابراهيم العزي من طرق أخرى، ص96.(4/50)
4- كان أبو لهب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - من أشد الناس عداوة له وكذلك كانت أمرأته أم جميل من أشد الناس عداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وكانت تسعى بالإفساد بينه وبين الناس بالنميمة، وتضع الشوك في طريقه، والقذر على بابه فلا عجب أن نزل فيهم قول الله تعالى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ صدق الله العظيم مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ صدق الله العظيم سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ صدق الله العظيم وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ صدق الله العظيم فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ صدق الله العظيم } (سورة المسد)، فحين سمعت مانزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس عند الكعبة، ومعه أبوبكر الصديق، وفي يدها فهر من حجارة؛ فلما وقفت عليهما قالت: ياابابكر! أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه! ثم انصرفت؛ فقال أبوبكر: يارسول الله أما تراها رأتك؟ فقال: لقد أخذ الله ببصرها عني وكانت تنشد مذمم أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفرح لأن المشركين يسبون مذمماً يقول : (ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمد)(1).
وقد بلغ من أمر أبي لهب أنه كان يتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأسواق والمجامع، ومواسم الحج ويكذبه(2).
__________
(1) صحيح البخاري (فتح الباري 6/554-555).
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/293).(4/51)
هذا بعض مالاقاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أذية المشركين وقد ختم المشركون أذاهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمحاولة قتله في أواخر المرحلة المكية(1)، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر مالاقاه من أذى قريش قبل أن ينال الأذى أحداً من أتباعه -يقول- (لقد أُخفت في الله عز وجل ومايُخاف أحد، ولقد أوذيت في الله ومايؤذى أحد، ولقد أتت عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة ومالي ولا لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال)(2).
ومع ماله - صلى الله عليه وسلم - من عظيم القدر ومنتهى الشرف، إلا أنه قد حظي من البلاء بالحمل الثقيل والعناء الطويل منذ أول يوم صدع فيه بالدعوة، ولقد لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من سفهاء قريش أذى كثيراً، فكان إذا مر على مجالسهم بمكة استهزؤا به، وقالوا ساخرين: هذا ابن أبي كبشة(3)، يُكلم من السماء، وكان أحدهم يمر على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيقول له ساخراً: أما كُلمت اليوم من السماء؟ (4)
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/153).
(2) سنن الترمذي (4/645)، صححه الألباني صحيح الجامع (5001).
(3) والد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الرضاعة.
(4) الروض الأنف (2/33) ومابعدها.(4/52)
ولم يقتصر الأمر على مجرد السخرية والاستهزاء والإيذاء النفسي، بل تعداه الى الإيذاء البدني، بل قد وصل الأمر الى أن يبصق عدو الله أمية بن خلف في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم -(1)، وحتى بعد هجرته عليه السلام الى المدينة لم تتوقف حدة الابتلاء والأذى، بل أخذت خطاً جديداً، بظهور أعداء جدد، فبعد أن كانت العداوة تكاد تكون مقصورة على قريش بمكة؛ صار له - صلى الله عليه وسلم - أعداء من المنافقين المجاورين بالمدينة، ومن اليهود والفرس والروم، وأحلافهم، وبعد أن كان الأذى بمكة شتماً وسخرية، وحصاراً، وضرباً، صار مواجهة عسكرية مسلحة، حامية الوطيس، فيها كر وفر وضرب وطعن؛ فكان ذلك بلاء في الأموال والأنفس على السواء(2)، وهكذا كانت فترة رسالته - صلى الله عليه وسلم - وحياته سلسلة متصلة من المحن والابتلاء، فما وهن لما أصابه في سبيل الله، بل صبر، واحتسب حتى لقي ربه(3).
__________
(1) المصدر السابق نفسه (2/48).
(2) زاد اليقين لأبي شنب، ص137.
(3) التمكين للأمة الاسلامية ، ص243.(4/53)
لقد واجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الفتن والأذى والمحن مالايخطر على بال، في مواقف متعددة، وكان ذلك على قدر الرسالة التي حُمِّلها، ولذلك استحق المقام المحمود والمنزلة الرفيعة عند ربه، وقد صبر على ماأصابه، إشفاقاً على قومه أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم الماضية من العذاب، وليكون قدوة للدعاة والمصلحين(1)، فإذا كان الاعتداء الأثيم، قد نال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعد هناك أحد لكرامته هو أكبر من الابتلاء والمحنة، وتلك سنّة الله في الدعوات فعن ابي سعيد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قلت: يارسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وماعليه خطيئة)(2).
رابعاً: ماتعرض له أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأذى والتعذيب:
1- مالاقاه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -:
__________
(1) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، د.سليمان السويكت، ص197.
(2) ابن ماجة باب الصبر على البلاء رقم الحديث 4023.(4/54)
تحمل الصحابة رضوان الله عليهم من البلاء العظيم ماتنوء به الرواسي الشامخات، وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ماشاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء، فلقد أوذي أبوبكر - رضي الله عنه -، وحُثي على رأسه التراب، وضرب في المسجد الحرام بالنعال، حتى مايعرف وجهه من أنفه، وحمل الى بيته في ثوبه، وهو مابين الحياة والموت(1)، فقد روت عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لمّا اجتمع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ألحّ أبو بكر - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهور، فقال : (يا أبابكر أنا قليل). فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفرق المسلمين في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فكان أوّل خطيب دعا الى الله تعالى والى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوه في نواحي المسجد ضرباً شديداً، ووطئ أبوبكر وضرب ضرباً شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويُحرِّفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر - رضي الله عنه -، حتى مايعرف وجهه من أنفه، وجاءت بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحَمَلَتْ بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبوبكر لنقتلن عتبة بن ربيعة فرجعوا الى أبي بكر فجعل أبو قحافة (والده) وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار، فقال: مافعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فمسَّوا منه بألسنتهم وعذلوه، وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه. فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: مافعل رسول الله - صلى الله عليه
__________
(1) التمكين للأمة الاسلامية، ص243.(4/55)
وسلم -؟ فقالت: والله مالي علم بصاحبك. فقال: اذهبي الى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه؛ فخرجت حتى جاءت أم جميل؛ فقالت: إن أبا بكر سألك عن محمد بن عبدالله. فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبدالله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك الى ابنك. قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبابكر صريعاً دَنِفاً، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر إنني لأرجوا أن ينتقم الله لك منهم؛ قال: فما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح. قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم. قال: فإن لله عليّ أن لا أذوق طعاماً ولا أشرب شراباً أو آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: فأكب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورقّ له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقة شديدة، فقال ابو بكر: بأبي وأمي يارسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها الى الله، وأدع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار. قال: فدعا لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعاها الى الله فأسلمت(1).
( دروس وعبر وفوائد:
حرص أبي بكر - رضي الله عنه - على إعلان الإسلام، وإظهاره أمام الكفار وهذا يدل على قوة إيمانه وشجاعته وقد تحمل الأذى العظيم حتى أن قومه كانوا لايشكون في موته.
__________
(1) السيرة النبوية لابن كثير (1/439-441)؛ البداية والنهاية (3/30).(4/56)
مدى الحب الذي كان يكنه أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث أنه وهو في تلك الحال الحرجة يسأل عنه ويُلحُّ إلحاحاً عجيباً في السؤال، ثم يحلف أن لا يأكل ولا يشرب حتى يراه، كيف يتم ذلك وهو لا يستطيع النهوض بل المشي؟ ولكنه الحب الذي في الله، والعزائم التي تقهر الصعاب، وكل مصاب في سبيل الله ومن أجل رسوله - صلى الله عليه وسلم - هين ويسير.
إن العصبية القبلية كان لها في ذلك الحين دور في توجيه الأحداث والتعامل مع الأفراد حتى مع اختلاف العقيدة، فهذه قبيلة ابي بكر تهدد بقتل عتبة إن مات أبوبكر(1).
الحس الأمني لأم جميل رضي الله عنها، فقد برز في عدة تصرفات لعل من أهمها؛
إخفاء الشخصية والمعلومة عن طريق الانكار:
عندما سألت أم الخير أم جميل، عن مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنكرت أنها تعرف أبا بكر ومحمد بن عبدالله، فهذا تصرف حذر سليم، إذ لم تكن أم الخير ساعتئذ مسلمة، وأم جميل كانت تخفي إسلامها ولا تود أن تعلم به أم الخير، وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخافة أن تكون عيناً لقريش(2).
استغلال الموقف لإيصال المعلومة:
فأم جميل ارادت أن تقوم بإيصال المعلومة بنفسها لأبي بكر - رضي الله عنه -، وفي ذات الوقت ولم تظهر ذلك لأم الخير إمعاناً في السرية والكتمان، فاستغلت الموقف لصالحها قائلة: (إن كنت تحبين أن أذهب معك الى ابنك فعلت). وقد عرضت عليها هذا الطلب بطريقة تنم عن الذكاء وحسن التصرف، فقولها: (إن كنت تحبين -وهي أمه- وقولها : (الى ابنك)، ولم تقل لها الى أبي بكر، كل ذلك يحرك في أم الخير عاطفة الأمومة، فغالباً ماترضخ لهذا الطلب، وهذا ماتم بالفعل، حيث أجابتها بقولها: (نعم) وبالتالي نجحت أم جميل في إيصال المعلومة بنفسها.
__________
(1) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص79.
(2) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص50.(4/57)
استغلال الموقف في كسب عطف أم أبي بكر:
يبدو أن أم جميل حاولت أن تكسب عطف أم الخير، فاستغلت وضع ابي بكر - رضي الله عنه -، الذي يظهر فيه صريعاً دنفاً، فأعلنت بالصياح، وسبت من قام بهذا الفعل بقولها: (إن قوماً نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر). فلا شك أن هذا الموقف من أم جميل يشفي بعض غليل أم الخير، من الذين فعلوا ذلك بابنها، فقد تُكِنّ شيئاً من الحب لأم جميل وبهذا تكون أم جميل كسبت عطف أم الخير، وثقتها، الأمر الذي يسهل مهمة أم جميل في إيصال المعلومة الى ابي بكر - رضي الله عنه -(1).
الاحتياط والتأني قبل النطق بالمعلومة:
لقد كانت أم جميل في غاية الحيطة والحذر من أن تتسرب هذه المعلومة الخطيرة، عن مكان قائد الدعوة، فهي لم تطمئن بعد الى أم الخير، لأنها مازالت مشركة آنذاك، وبالتالي لم تأمن جانبها، لذا ترددت عندما سألها أبوبكر - رضي الله عنه - عن حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت له: هذه أمك تسمع؟ فقال لها: لاشيء عليك منها، فأخبرته ساعتها بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سالم صالح(2)، وزيادة في الحيطة والحذر، والتكتم، لم تخبره بمكانه إلا بعد أن سألها عنه قائلاً: أين هو؟ فأجابته في دار الأرقم.
تخيّر الوقت المناسب لتنفيذ المهمة:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية قراءة في جوانب الحذر والحماية، ص50.
(2) نفس المصدر، ص51.(4/58)
حين طلب أبو بكر - رضي الله عنه - الذهاب الىدار الأرقم، لم تستجب له أم جميل على الفور، بل تأخرت عن الاستجابة، حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس، خرجت به ومعها أمه يتكئ عليهما، فهذا هو أنسب وقت للتحرك وتنفيذ هذه المهمة، حيث تنعدم الرقابة من قبل أعداء الدعوة، مما يقلل من فرص كشفها، وقد نفذت المهمة بالفعل دون أن يشعر بها الأعداء حتى دخلت أم جميل وأم الخير بصحبة أبي بكر الى دار الأرقم، وهذا يؤكد أن الوقت المختار كان أنسب الأوقات(1).
ج- قانون المنحة بعد المحنة حيث أسلمت أم الخير أم أبي بكر بسبب رغبة الصديق في إدخال أمه الى حظيرة الاسلام وطلبه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدعاء لها، لما رأى من برّها به، وقد كان - رضي الله عنه - حريصاً على هداية الناس الآخرين فكيف بأقرب الناس إليه(2).
ح- إن من أكثر الصحابة الذين تعرضوا لمحنة الأذى والفتنة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -، نظراً لصحبته الخاصة له، والتصاقه به في المواطن التي كان يتعرض فيها للأذى من قومه، فينبري الصديق مدافعاً عنه وفادياً إياه بنفسه، فيصبه من أذى القوم وسفههم، هذا مع أن الصديق يعتبر من كبار رجال قريش المعروفين بالعقل والإحسان(3).
2- بلال رضي الله عنه:
تضاعف أذى المشركين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه حتى وصل الى ذروة العنف وخاصة في معاملة المستعضفين من المسلمين، فنكلت بهم لتفتنهم عن عقيدتهم وإسلامهم، ولتجعلهم عبرة لغيرهم، ولتنفس عن حقدها وغضبها بما تصبه عليهم من العذاب.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص50،51،52. وقد استفدت من هذا الكتاب في هذه الدروس الأمنية.
(2) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص79.
(3) نفس المصدر، ص75.(4/59)
قال عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -: (أول من أظهر الاسلام سبعة، رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابوبكر ، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمنعه الله بعمه ابي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم إنسان إلا وقد واتاهم على ماارادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه، فأعطوه الولدان وأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول: أحدٌ أحد)(1) لم يكن لبلال - رضي الله عنه - ظهر يسنده، ولا عشيرة تحميه، ولا سيوف تذود عنه، ومثل هذا الانسان في المجتمع الجاهلي المكي يعادل رقماً من الأرقام، فليس له دور في الحياة إلا أن يخدم ويطيع، ويباع ويشترى كالسائمة، أما أن يكون له رأي أو يكون صاحب فكر، أو صاحب دعوة أو صاحب قضية، فهذه جريمة شنعاء في المجتمع الجاهلي المكي تهز أركانه وتزلزل أقدامه، ولكن الدعوة الجديدة التي سارع لها الفتيان وهم يتحدون تقاليد وأعراف آبائهم الكبار لامست قلب هذا العبد المرمي المنسي، فأخرجته إنساناً جديداً على الوجود(2)، فقد تفجرت معاني الإيمان في إعماقه بعد أن آمن بهذا الدين وانضم الى محمد - صلى الله عليه وسلم - وإخوانه في موكب الايمان العظيم وهاهو الآن يتعرض للتعذيب من أجل عقيدته ودينه فقصد وزير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصديق موقع التعذيب وفاوض أمية بن خلف وقال له: (ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى! قال: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى؛ فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به؛ قال: قد قبلت؛ فقال: هو لك فأعطاه ابوبكر الصديق - رضي الله عنه - غلامه ذلك وأخذه فأعتقه)(3)، وفي رواية اشتراه
__________
(1) مسند احمد (1/404) بإسناد حسن.
(2) انظر: التربية القيادية (1/136).
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/394).(4/60)
بسبع أواق أو بأربعين أوقية ذهباً(1)، ما أصبر بلالاً وما أصلبه - رضي الله عنه -! فقد كان صادق الاسلام، طاهر القلب، ولذلك صَلُبَ ولم تلين قناته أمام التحديات وأمام صنوف العذاب، وكان صبره، وثباته مما يغيظهم ويزيد حنقهم، خاصة أنه كان الرجل الوحيد من ضعفاء المسلمين الذي ثبت على الإسلام فلم يوات الكفار فيما يريدون مردداً كلمة التوحيد بتحد صارخ، وهانت عليه نفسه في الله وهان على قومه(2).
وبعد كل محنة منحة فقد تخلص بلال من العذاب والنكال، وتخلص من أسر العبودية، وعاش مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقية حياته ملازماً له، ومات راضياً عنه مشيراً إياه بالجنة، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لبلال: (.... فإني سمعت خشف نعليك بين يدي في الجنة)(3).
وأما مقامه عند الصحابة، فقد كان عمر - رضي الله عنه - يقول: (أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا) يعني بلالاً(4).
وأصبح منهج الصديق في فك رقاب المستضعفين ضمن الخطة التي تبنتها القيادة الاسلامية لمقاومة التعذيب الذي نزل بالمستضعفين، فمضى يضع ماله في تحرير رقاب المؤمنين المنضمين الى هذا الدين الجديد من الرق: (...ثم اعتق معه على الاسلام قبل أن يهاجر الى المدينة ست رقاب بلال سابعهم:
__________
(1) التربية القيادية (1/140).
(2) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص92.
(3) صحيح مسلم (2/1910) رقم الحديث 2458.
(4) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/232) ورجاله ثقات.(4/61)
عامر بن فهيرة شهد بدراً وأحداً، وقتل يوم بئر معونة شهيداً، وأم عبيس ، وزنِّيرة وأصيب بصرها حين أعتقها فقالت قريش: ماأذهب بصرها إلا اللات والعزى. فقالت: كذبوا وبيت الله ماتضر اللات والعزى وماتنفعان، فرد الله بصرها)(1) وأعتق النهدية وبنتها وكانتا لامرأة من بني عبدالدار مرّ بهما، وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول: والله لا أعتقكما أبداً: فقال ابو بكر - رضي الله عنه - حِلُّ(2) ياأم فلان. فقالت: حل أنت، أفسدتهما فأعتقهما؛ قال: فبكم هما؟ قالت : بكذا وكذا. قال: قد أخذتهما وهما حرتان أليها طيحنها. قالتا: أو نفرغ منه ياأبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: وذلك إن شئتما(3).
وهنا وقفة تأمل ترينا كيف سوى الاسلام بين الصديق والجاريتين حتى خطابتاه، خطاب الند للند، لا خطاب المسود للسيد، وتقبل الصديق على شرفه وجلالته في الجاهلية والاسلام -منهما ذلك، مع أن له يداً عليهما بالعتق، وكيف صقل الاسلام الجاريتين حتى تخلقتا بهذا الخلق الكريم، وكان يمكنهما وقد أعتقتا وتحررتا من الظلم أن تدعا لها طحينها يذهب أدراج الرياح، أو يأكله الحيوان والطير، ولكنهما أبتا -تفضلاً، إلا أن تفرغا منه، وترداه إليها(4).
ومر الصديق بجارية بني مؤمل حي من بني عدي بن كعب وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الاسلام، وهو يؤمئذ مشرك يضربها، حتى إذا ملَّ قال: إنى أعتذر إليك إني لم أتركك إلا عن ملالة فتقول: كذلك فعل الله بك فابتاعها أبوبكر فأعتقها)(5).
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/393).
(2) حل: تحللي من يمينيك.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/393).
(4) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/346).
(5) السيرة النبوية لابن هشام (1/393).(4/62)
هكذا كان واهب الحريات، ومحرر العبيد، شيخ الاسلام الوقور، الذي عرف بين قومه بأنه يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعيين على نوائب الحق، لم ينغمس في إثم في جاهليته، أليف مألوف، يسيل قلبه رقة ورحمة على الضعفاء، والأرقاء، أنفق جزء كبير من ماله في شراء العبيد، وعتقهم لله، وفي الله، قبل أن تنزل التشريعات الاسلامية المحببة في العتق، والواعدة عليه أجزل الثواب(1).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/345).(4/63)
كان المجتمع المكي يتندر بأبي بكر - رضي الله عنه - الذي يبذل هذا المال كله لهؤلاء المستضعفين، أما في نظر الصديق، فهؤلاء إخوانه في الدين الجديد، فكل واحد من هؤلاء لايساوي عنده مشركي الأرض وطغاتها، وبهذه العناصر وغيرها تبن دولة التوحيد، وتصنع حضارة الاسلام الرائدة والرائعة(1) ولم يكن الصديق يقصد بعمله هذا محمدة، ولا جاهاً، ولا دنيا، وإنما كان يريد وجه الله ذا الجلال والإكرام، لقد قال له أبوه ذات يوم: (يابني إنى اراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالاً جلد يمنعونك، ويقومون دونك؟ فقال أبوبكر - رضي الله عنه - : يا أبتِ إني إنما أريد ماأريد لله عز وجل، فلا عجب إذا كان الله سبحانه أنزل في شأن الصديق قرآناً يتلى الى يوم الدين، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى صدق الله العظيم وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى صدق الله العظيم فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى صدق الله العظيم وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى صدق الله العظيم وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى صدق الله العظيم فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى صدق الله العظيم وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى صدق الله العظيم إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى صدق الله العظيم وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى صدق الله العظيم فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى صدق الله العظيم لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى صدق الله العظيم الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى صدق الله العظيم وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى صدق الله العظيم الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى صدق الله العظيم وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى صدق الله العظيم إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى صدق الله العظيم وَلَسَوْفَ يَرْضَى صدق الله العظيم }(2) (سورة الليل، الآيات: 5-21).
__________
(1) انظر: التربية القيادية (1/342).
(2) سيرة ابن هشام (1/319)؛ تفسير الآلوسي (30/152).(4/64)
كان هذا التكافل بين أفراد الجماعة الاسلامية الأولى قمة من قمم الخير والعطاء، وأصبح هؤلاء العبيد بالاسلام أصحاب عقيدة وفكرة يناقشون بها وينافحون عنها، ويجاهدون في سبيلها، وكان إقدام ابي بكر - رضي الله عنه - على شرائهم ثم إعتقاقهم دليلاً على عظمة هذا الدين ومدى تغلغله في نفسية الصديق - رضي الله عنه -، وما أحوج المسلمين اليوم أن يحيوا هذا المثل الرفيع، والمشاعر السامية ليتم التلاحم والتعايش والتعاضد بين أبناء الأمة التي يتعرض ابناءها للابادة الشاملة من قبل أعداء العقيدة والدين.
3- عمار بن ياسر وأبوه وأمه رضي الله عنهم:(4/65)
كان والد عمار ياسر من بني عنس من قبائل اليمن، قدم مكة وأخواه الحارث ومالك يطلبون أخاً لهم، فرجع الحارث ومالك الى اليمن، وأقام ياسر بمكة، وحالف أبا حذيفة بن المغيرة المخزومي(1)، فزوجه أبو حذيفة أمة له يقال لها سُميِّة بنت خياط، فولدت له عمار، فأعتقه أبو حذيفة الذي لم يلبث أن مات، وجاء الاسلام فأسلم ياسر وسمية وعمار وأخوه عبدالله بن ياسر، فغضب عليهم مواليهم بنو مخزوم غضباً شديداً صبّوا عليهم العذاب صباً، كانوا يخرجونهم إذا حميت الظهيرة فيعذبونهم برمضاء مكة(2)، ويقلبونهم ظهر لبطن(3)، فيمر عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم يعذبون، فيقول: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)(4)، وجاء أبوجهل الى سمية فقال لها: ماآمنت بمحمد إلا لأنك عشقته لجماله، فأغلظت له القول، فطعنها بالحربة في ملمس العفة فقتلها، فهي أول شهيدة في الاسلام رضي الله عنها(5)، وبذلك سطرت بهذا الموقف الشجاع أعلى وأغلى ماتقدمه امرأة في سبيل الله؛ لتبقى كل امرأة مسلمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها ترنوا إليها، ويهفو قلبها في الاقتداء بها، فلا تبخل بشيء في سبيل الله بعد أن جادت سمية بنت خُياط بدمها في سبيل الله(6).
وقد جاء في حديث عثمان - رضي الله عنه - قال: (أقبلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخذاً بيدي نتمشى بالبطحاء، حتى أتى على آل عمار بن ياسر، فقال أبوعمار: يارسول الله الدهر هكذا؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: اصبر، ثم قال: اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت)(7)، ثم لم يلبث ياسر أن مات تحت العذاب.
__________
(1) انظر: أنساب الأشراف لبلاذري (1/100،157).
(2) ابن هشام السيرة النبوية (2/68).
(3) بهجة المحافل للعامري (1/92).
(4) صحيح السيرة النبوية، ابراهيم العلي، ص97،98.
(5) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص99.
(6) التربية القيادية (1/217).
(7) صحيح السيرة النبوية، ص98.(4/66)
لم يكن في وسع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقدم شيئاً لآل ياسر رموز الفداء والتضحية فليسوا بأرقاء حتى يشتريهم ويعتقهم، وليست لديه القوة ليستخلصهم من الأذى والعذاب، فكل مايستطيعه - صلى الله عليه وسلم - أن يزف لهم البشرى بالمغفرة والجنة ويحثهم على الصبر لتصبح هذه الأسرة المباركة قدوة للأجيال المتلاحقة ويشهد الموكب المستمر على مدار التاريخ هذه الظاهرة (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)(1).
أما عمار - رضي الله عنه - فقد عاش بعد أهله زمناً يكابد من صنفوف العذاب ألواناً، فهو يُصنَّف في طائفة المستضعفين الذين لا عشائر لهم بمكة تحميهم، وليست لهم منعة ولا قوة، فكانت قريش تعذبهم في الرمضاء بمكة أنصاف النهار ليرجعوا عن دينهم، وكان عمار يعذب حتى لايدري مايقول(2) ولما أخذه المشركون ليعذبوه لم يتركوه حتى سبَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر آلهتهم بخير، فلما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ماوراءك؟ قال: شر، والله ماتركني المشركون حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئناً بالايمان، قال: فإن عادوا فعد(3)، ونزل الوحي بشهادة الله تعالى على صدق إيمان عمار، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (سورة النحل، الآية:106) وقد حضر المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(4).
وفي حداثة بلال وعمار فقه عظيم يترواح بين العزيمة والرخصة يحتاج من الدعاة أن يستوعبوه ويضعوه في إطاره الصحيح وفي معاييره الدقيقة دون إفراط وتفريط.
__________
(1) التربية القيادية (1/217،218).
(2) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي ، ص100.
(3) انظر: فقه السيرة الغزالي ، ص103.
(4) المصدر السابق نفسه، ص103.(4/67)
4- سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -:
تعرض للفتنة من قبل والدته الكافرة، فامتنعت على الطعام والشراب حتى يعود الى دينها. روى الطبراني أن سعداً قال: أنزلت فيّ هذه الآية: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} (سورة العنكبوت، الآية: 8).
قال: كنت رجلاً براً بأمي فلما أسلمت قالت: ياسعد ما هذا الدين الذي أراك قد أحدثت، لتدعنَّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعيّر بي فيقال ياقاتل أمه، فقلت لا تفعلي ياأمه فإني لا أدع ديني لشيء فمكثت يوماً وليلة لم تأكل فاصبحت قد جهدت، فمكثت آخر وليلة لم تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت ياأمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ماتركت ديني هذا لشيء، فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي، فأكلت(1).
وروى مسلم: أن أم سعد حلفت أن لاتكلمه أبداً حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمت أن الله وصّاك بوالديك، وأنا أمك وأنا آمرك بهذا، قال مكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له عماره فسقاها فجعلت تدعوا على سعد، فأنزل الله عز وجل في القرآن الكريم هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} وفيها {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} .
قال فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصاً ثم أوجروها(2)، فمحنة سعد محنة عظيمة، وموقفه موقف فذ يدل على مدى تغلغل الايمان في قلبه، وأنه لايقبل فيه مساومة مهما كانت النتيجة(3).
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/446).
(2) صحيح مسلم (2/1877،1878).
(3) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص106.(4/68)
ومن خلال تتبع القرآن المكي نجد أنه رغم قطع الولاء سواء في الحب أو النصرة بين المسلم وأقاربه الكفار، فإن القرآن أمر بعدم قطع صلتهم وبرهم والإحسان إليهم ومع ذلك فلا ولاء بينهم، لأن الولاء لله ورسوله ودينه والمؤمنين(1).
5- مصعب بن عمير - رضي الله عنه -:
كان مصعب بن عمير - رضي الله عنه - أنعم غلام بمكة، وأجوده حلة، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه مليئة كثيرة المال تكسوه أحسن مايكون من الثيات أرقه، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي، من النعال(2)، وبلغ من شدة كلف أمه به أنه يبيت وقعْبُ الحيس(3) عند رأسه فإذا استيقظ من نومه أكل(4)، ولما علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو الى الاسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم دخل عليه فأسلم وصدّق به، وخرج فكتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه، فكان يختلف الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سراً، فبصر به عثمان بن طلحة(5) يصلي فأخبر أمه وقومه، فأخذوه وحبسوه، فلم يزل محبوساً حتى خرج الى أرض الحبشة في الهجرة الأولى(6).
__________
(1) انظر: الولاء والبراء، محمد القحطاني، ص174،175).
(2) الطبقات الكبرى (3/116).
(3) القعب : القدح الغليظ، والحيس: تمر وأقط وسمن تخلط وتعجن.
(4) الروض الأنف (2/195).
(5) سير أعلام النبلاء للذهبي (3/10-12).
(6) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي ، ص107.(4/69)
قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: لقد رأيته جهد في الاسلام جهداً شديداً حتى لقد رأيت جلده يتحشِّف، أي يتطاير، تحشِّف جلد الحية عنها، حتى إن كنا لنعرضه على قسبنا فنحمله مما به من الجهد(1)، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما ذكره، قال: (مارأيت بمكة أحداً أحسن لمة ولا أرق حلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير(2)، ومع كل ماأصابه - رضي الله عنه - من بلاء ومحنة، ووهن في الجسم والقوة، وجفاء من أقرب الناس إليه لم يقصر عن شيء مما بلغه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخير والفضل والجهاد في سبيل الله تعالى حتى أكرمه الله تعالى بالشهادة يوم أحد(3).
يعتبر مصعب - رضي الله عنه - نموذجاً عن تربية الاسلام للمترفين الشباب، للمنعمين من أبناء الطبقات الغنية المرفهة، لأبناء القصور والمال والجاه، للمعجبين بأشخاصهم، المبالغين في تأنقهم، الساعين وراء مظاهر الحياة كيف تغيرت؟ ووقف بعد إسلامه قوياً لا يضعف ولا يتكاسل ولا يتخاذل، ولا تقهره نفسه وشهواته فيسقط في جحيم النعيم الخادع(4).
__________
(1) السير والمغازي لابن إسحاق، ص193.
(2) الطبقات الكبرى (3/116).
(3) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص108.
(4) انظر: مصعب بن عمير الداعية المجاهد، محمد بريغش، ص105.(4/70)
لقد ودع ماضيه بكل مافيه من راحة ولذة وهناءة، يوم دخل هذا الدين وبايع تلك البيعة، وكان لابد له من المرور في درب المحنة، لكي يصقل إيمانه، ويتعمق يقينه، وكان مصعب مطمئناً راضياً، رغم ماحوله من جبروت ومخاوف، ورغم مانزل به من البؤس والفقر والعذاب، ورغم مافقده من مظاهر النعم والراحة(1)، فقد تعرض لمحنة الفقر، ومحنة فقد الوجاهة والمكانة عند أهله، ومحنة الأهل والأقارب والعشيرة، ومحنة الجوع والتعذيب، ومحنة الغربة والابتعاد عن الوطن، فخرج من كل تلك المحن منتصراً بدينه وإيمانه، مطمئناً أعمق الاطمئنان، ثابتاً أقوى الثبات(2) ولنا معه وقفات في المدينة بإذن الله تعالى.
6- خبّاب بن الأرت - رضي الله عنه -:
كان خباب - رضي الله عنه - قيناً(3) بمكة، وأراد الله له الهداية مبكراً، فدخل في الاسلام قبل دخول دار الأرقم بن أبي الأرقم(4)، فكان من المستضعفين الذين عذبوا بمكة لكي يرتد عن دينه، وصل به العذاب بأن ألصق المشركون ظهره بالأرض على الحجارة المحماة حتى ذهب ماء مَتْنه(5).
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص105، 107.
(2) انظر: مصعب بن عمير الداعية المجاهد، ص126.
(3) قيناً: حداداً.
(4) سير أعلام النبلاء (2/479).
(5) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص95.(4/71)
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يألف خباباً ويتردد عليه بعد أن أسلم، فلما علمت مولاته بذلك، وهي أم أنمار الخزاعية، أخذت حديدة قد أحمتها، فوضعتها على رأسه، فشكا خباباً ذلك الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: اللهم انصر خباباً، فاشتكت مولاته رأسها، فكانت تعوي مع الكلاب، فقيل لها اكتوي، فجاءت الى خباب ليكويها، فكان يأخذ الحديدة قد أحماها فيكوي بها رأسها، وإن في ذلك لعبرة لمن أراد أن يعتبر ماأقرب فرج الله ونصره من عباده المؤمنين الصابرين، فانظر كيف جاءت إليه بنفسها تطلب منه أن يكويها مع رأسها(1) ولما زاد ضغط المشركين على ضعفاء المسلمين ولقوا منهم شدة، جاء خباب الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقال له: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا، فقعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو محمرٌ وجهه، قال: (كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيُشق باثنتين ومايصده ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد مادون لحمه من عظم أو عصب ومايصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت، لايخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)(2).
وللشيخ سلمان العودة حفظه الله تعليق لطيف على هذا الحديث: ياسبحان الله ماذا جرى حتى أحمر وجه المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وقعد من ضجعته؟ وخاطب أصحابه بهذا الأسلوب القوي المؤثر، ثم عاتبهم على الاستعجال؟
لأنهم طلبوا الدعاء منه - صلى الله عليه وسلم -؟
كلا: حاشاه من ذلك، وهو الرؤوف الرحيم بأمته.
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص96.
(2) البخاري، مناقب الأنصار، باب مالقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه (4/238).(4/72)
إن أسلوب الطلب: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ يوحي بما وراءه، وأنه صادر من قلوب أمضها العذاب، وأنهكها الجهد، وهدتها البلوى فهي تلتمس الفرج العاجل، وتستبطئ النصر، فتستدعيه.
وهو - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن الأمور مرهونة بأوقاتها، وأسبابها، وأن قبل النصر البلاء، فالرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة.
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (سورة يوسف، الآية:110).
ويلمس عليه السلام من واقع أصحابه، وملابسات أحوالهم، بَرمَهم بالعذاب الذي يلاقون، حتى يفتنون عن دينهم، ويستعلي عليهم الكفرة، ويموت منهم من يموت تحت التعذيب.
وقد لايكون من الميسور أن يدرك المرء - بمجرد قراءة النص - حقيقة الحال التي كانوا عليها حين طلبوا منه - عليه الصلاة والسلام - الدعاء والاستنصار، ولا أن يعرف المشاعر والإحساسات التي كانت تثور في نفوسهم إلا أن يعيش حالاً قريباً من حالهم ويعاني - في سبيل الله - بعض ماعانوا.
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - يربيهم على :
أ- التأسي بالسابقين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم في تحمل الأذى في سبيل الله ويضرب لهم الأمثلة في ذلك.
ب- التعلق بما أعده الله في الجنة للمؤمنين الصابرين من النعيم، وعدم الاغترار بما في أيدي الكافرين من زهرة الحياة الدنيا.
ج- التطلع للمستقبل الذي ينصر الله فيه الإسلام في هذه الحياة الدنيا، ويذل فيه أهل الذل والعصيان.(4/73)
وثمت أمر آخر كبير ألا وهو: أنه - صلى الله عليه وسلم - مع هذه الأشياء كلها كان يخطط ويستفيد من الأسباب المادية المتعددة لرفع الأذى والظلم عن أتباعه، وكف المشركين عن فتنتهم، وإقامة الدولة التي تجاهد في سبيل الدين، وتتيح الفرصة لكل مسلم أن يعبد ربه حيث شاء، وتزيل الحواجز والعقبات التي تعترض طريق الدعوة إلى الله(1).
وقد تحدث خباب رضي الله عنه عن بعض ماكان يلقون من المشركين من عنت وسوء معاملة ومساومة على الحقوق حتى يعودوا إلى الكفر، قال: كنت قينا وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته اقتضيه، فقال لي: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لن أكفر حتى تموت وتبعث، قال: وإني لمبعوث بعد الموت؟ فإن كان ذلك فلسوف أقضيك إذا رجعت الى مالي وولدي، فنزلت فيه: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا...} الى قوله {فرداً} (2).
وذكر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في خلافته سأل خباباً عما لقي في ذات الله تعالى، فكشف خباب عن ظهره، فإذا هو قد برص، فقال عمر مارأيت كاليوم، فقال خباب: ياأمير المؤمنين لقد أوقدوا لي ناراً ثم سلقوني فيها، ثم وضع رَجُلٌ رِجْلَه على صدري فما اتقيت الأرض أو قال برد الأرض إلا بظهري وما أطفأ تلك النار إلا شحمي(3).
7- عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه -:
__________
(1) انظر: الغرباء الأولون، ص145،146.
(2) مسند أحمد (5/111).
(3) الروض الأنف (2/98).(4/74)
كان منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معاملته للناس حكيماً، وكان يعامل الأكابر وزعماء القبائل بلطف وترفق وكذلك الصبيان الصغار فهذا ابن مسعود - رضي الله عنه - يحدثنا عن لقائه اللطيف برسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لعقبة بن أبي مُعيط فمرّ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر فقال: ياغلام هل من لبن؟ قلت: نعم ولكني مؤتمن، قال: فهل من شاة لم ينز عليها فحل؟ فأتيته بشاة فمسح ضرعها فنزل لبن فحلبه في إناء فشرب وسقي أبابكر ، ثم قال للضرع : أقلص، فقلص قال: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يارسول الله علمني من هذا القول، قال: فمسح رأسي وقال: (يرحمك الله فإنك غُلَيمِّ معلم)(1).
وهكذا كان مفتاح إسلامه كلمتين عظيمتين: الأولى قالها عن نفسه: (إني مؤتمن)، والثانية كانت من الصادق المصدوق حيث قال له: (إنك غلام معلِّم). ولقد كان لهاتين الكلمتين دور عظيم في حياته، وأصبح فيما بعد من أعيان علماء الصحابة رضوان الله عليهم ودخل عبدالله في ركب الايمان، وهو يمخر بحار الشرك في قلعة الأصنام، فكان واحد من أولئك السابقين الذين مدحهم الله في قرآنه العظيم(2)، قال عنه ابن حجر: (أحد السابقين الأولين، أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً والمشاهد بعدها، ولازم النبي- صلى الله عليه وسلم -، وكان صاحب نعليه)(3).
( أول من جهر بالقرآن الكريم:
__________
(1) البداية والنهاية (3/32)، سير أعلام النبلاء (1/465).
(2) انظر: عبدالله بن مسعود، عبدالستار الشيخ، ص43.
(3) الإصابة (6/214).(4/75)
بالرغم من أنّ ابن مسعود كان حليفاً وليس له عشيرة تحميه، ومع أنه كان ضئيل الجسم دقيق السَّاقين، فإن ذلك لم يَحُلْ دون ظهور شجاعته وقوة نفسه رضي الله عنه، وله مواقف رائعة في ذلك منها ذلك المشهد المثير في مكة، وإبان الدعوة وشدة وطأة قريش عليها، فلقد وقف على مَلَئِهم وجهر بالقرآن، فقرع به أسماعهم المقفلة وقلوبهم المغلَّفة(1)، فكان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة: اجتمع يوماً أصحاب رسول الله فقالوا: والله ماسمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبدالله بن مسعود: أنا! قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه! قال: دعوني فإن الله سيمنعني! قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قرأ{بسم الله الرحمن الرحيم} - رافعاً بها صوته - {الرَّحْمَنُ صدق الله العظيم عَلَّمَ الْقُرْءَانَ صدق الله العظيم } ، قال: ثم استقبلها يقرؤها، قال: فتأملوه فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أمِّ عبد؟ قال: ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ماجاء به محمد! فقاموا إليه فجعلوا يضربونه في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ماشاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثَّروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك! فقال: ماكان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً! قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتهم مايكرهون(2).
__________
(1) انظر: عبدالله بن مسعود، ص45.
(2) انظر: ابن هشام (1/314-315)، أسد الغابة (3/385-386).(4/76)
وبهذا كان عبدالله بن مسعود أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولاغرو أن هذا العمل الذي قام به عبدالله يعتبر تحدياً عملياً لقريش التي ماكانت لتتحمل مثل هذا الموقف، ويلاحظ جرأة عبدالله عليهم بعد هذه التجربة على الرغم مما أصابه من أذى(1).
8-خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه :
كان إسلام خالد قديماً، لرؤيا رآها عند أول ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ رأى كأنه وقف على شفير النار، وهناك من يدفعه فيها والرسول يلتزمه لئلا يقع، ففزع من نومه، معتقداً أن هذه الرؤيا حق، فقصها على أبي بكر الصديق، فقال له: أريد بك خيراً، هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتبعه، فذهب إليه فأسلم، وأخفى إسلامه خوفاً من أبيه، لكن أباه علم لمّا رأى كثرة تغيبه عنه، فبعث إخوته الذين لم يكونوا قد أسلموا بعد في طلبه، فجيئ به، فأنّبه وضربه بمقرعة أو عصاً كانت في يده حتى كسرها على رأسه، ثم حبسه بمكة، ومنع أخوته من الكلام معه، وحذرهم من عمله، ثم ضيق عليه الخناق فأجاعه وقطع عنه الماء ثلاثة أيام، وهو صابر محتسب، ثم قال له أبوه: والله لأمنعنك القوت، فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يكرمه، ويكون معه، ثم رأى أن يهاجر إلى الحبشة مع من هاجر إليها من المسلمين في المرة الثانية(2).
9-عثمان بن مظعون رضي الله عنه:
لما أسلم عدى عليه قومه بنو جمح فآذوه، وكان أشدهم عليه، وأكثرهم إيذاءً له أمية بن خلف، ولذلك قال بعد أن خرج إلى الحبشة يعاتبه(3).
أأخرجتني من بطن مكة آثماً
... ... وأسكنتني في صرح بيضاء نقدع
تريش نبالاً لايواتيك ريشها
... ... وتبرى نبالا ريشها لك أجمع
وحاربت أقواماً كراماً أعزة
__________
(1) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص88.
(2) انظر: سير أعلام النبلاء (1/260).
(3) السيرة النبوية للذهبي، ص112.(4/77)
... ... وأهلكت أقواماً بهم كنت تفزع
ستعلم إن نابتك يوماً مُلِمَّة
... ... وأسلمك الأوباش ماكانت تصنع
وبقي عثمان بن مظعون فترة في الحبشة، لكنه لم يلبث أن عاد منها ضمن من عاد من المسلمين في المرة الأولى، ولم يستطيع أن يدخل مكة إلا بجوار من الوليد بن المغيرة حيث ظل يغدو في جواره آمناً مطمئناً، فلما رأى مايصيب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من البلاء وماهو فيه من العاقبة أنكر ذلك على نفسه وقال: والله إن غدوي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله مالا يصيبني لنقص كبير في نفسي(1) فذهب إلى الوليد بن المغيرة وقال له: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك، فقال: لم يا ابن أخي؟ فلعلك أوذيت، أو انتهكت، قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله تعالى ولاأريد أن استجير بغيره، قال: فانطلق إلى المسجد فاردد علي جواري علانية، كما أجرتك علانية، فانطلقا إلى المسجد فرد عليه جواره أمام الناس ثم انصرف عثمان إلى مجلس من مجالس قريش فجلس معهم، وفيهم لبيد بن ربيعة(2)، الشاعر ينشدهم، فقال لبيد:( ألا كل شيء ماخلا الله باطل )، فقال عثمان: صدقت، واستمر لبيد في إنشاده فقال:( وكل نعيم لامحالة زائل )، فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لايزول، قال لبيد: يامعشر قريش، والله ماكان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا، فلاتجدن في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فاخضرت، والوليد بن المغيرة قريب يرى مابلغ من عثمان، فقال: أما والله ياابن أخي إن عينك لغنية عما أصابها، ولقد كنت في ذمة منيعة، فقال عثمان: والله إن عيني الصحيحة لفقيرة الى مثل ماأصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعز منك
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (2/120).
(2) انظر: طبقات الشعراء لابن سلاّم ، ص48-49.(4/78)
وأقدر ياأبا عبد شمس، ثم عرض عليه الوليد الجوار مرة أخرى فرفض(1).
وهذا يدل على مدى قوة إيمانه - رضي الله عنه -، ورغبته في الأجر، والمثوبة عند الله ولذلك لما مات رأت امرأة في المنام أن له عيناً تجري فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: ذلك عمله(2).
وغير ذلك من الصحابة الكرام تعرض للتعذيب، وهكذا نرى أولئك الرهط من الشباب القرشي قد أقبلوا على دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستجابوا لها والتفوا حول صاحبها، على الرغم من مواقف آبائهم وذويهم وأقربائهم المتشددة تجاهم، فضحوا بكل ماكانوا يتمتعون به من إمتيازات قبل دخولهم في الاسلام، وتعرضوا للفتنة رغبة فيما عند الله تعالى من الأجر والثواب، وتحملوا أذىً كثيراً، وهذا فعل الإيمان في النفوس عندما يخالطها فتستهين بكل مايصيبها من عنت وحرمان إذا كان ذلك يؤدي الى الفوز برضا الله تعالى وجنته.
هذا ولم يكن التعذيب والأذى مقصوراً على رجال المسلمين دون نسائهم، وإنما طال النساء أيضاً قسط كبير من الأذى والعنت بسبب إسلامهنّ، كسمية بن خياط، وفاطمة بنت الخطاب، ولبيبة جارية بني المؤمل، وزنيرة الرومية، والنهدية وابنتها، وأم عُبيس، وحمامة أم بلال وغيرهنّ(3).
خامساً: حكمة الكف عن القتال في مكة واهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبناء الداخلي:
__________
(1) السير والمغازي لابن اسحاق، ص178-180.
(2) صحيح البخاري (4/265).
(3) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص116، 117.(4/79)
كان المسلمون يرغبون في الدفاع عن أنفسهم ويبدو أن الموقف السلمي أغاظ بعضهم وخاصة الشباب منهم، وقد أتى عبدالرحمن بن عوف وأصحابه الى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فقالوا: يانبي الله كنا في عزة ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة قال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم(1) وتعّرض بعض الباحثين للحكمة الربانية في عدم فرضية القتال في مكة ومن هؤلاء الاستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى فقد قال: لا نجزم بما نتوصل إليه، لأننا حينئذ نتألى على الله مالم يبين لنا من حكمة، ونفرض اسباباً وعللاً قد لا تكون هي الأسباب والعلل الحقيقة، أو وقد تكون.
ذلك أن شأن المؤمن أمام أي تكليف، أو أي حكم من أحكام الشريعة هو التسليم المطلق لأن الله سبحانه هو العليم الخبير، وإنما نقول هذه الحكمة والأسباب من باب الاجتهاد وعلى أنه مجرد احتمال لأنه لا يعلم الحقيقة إلا الله، ولم يحددها هو لنا ويطلعنا عليها بنص صريح(2) ومن هذه الأسباب والحكم والعلل بإيجاز:
1- إن الكف عن القتال في مكة ربما لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد، في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة، ومن أهداف التربية في مثل هذه البيئة: تربية الفرد العربي على الصبر على مالا يصبر عليه عادة من الظيم حين يقع عليه أو على من يلوذون به: ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، فلا يندفع لأول مؤثر، ولا يهتاج لأول مهيج ومن ثم يتم الاعتدال في طبيعته وحركته. ثم تربيته على أن يتبع نظام المجتمع الجديد بأوامر القيادة الجديدة، حيث لايتصرف إلا وفق ماتأمره -مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته- وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي المسلم لإنشاء (المجتمع المسلم).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/158).
(2) الظلال (2/714).(4/80)
2- وربما كان ذلك أيضاً لأن الدعوة السلمية أشد أثراً وأنفذ في مثل بيئة قريش ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه الفترة- الى زيادة العناد ونشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة أمثال داحس والغبرا وحرب البسوس، وحينئذ يتحول الاسلام من دعوة الى ثارات تنسى معها فكرته الأساسية.
3- وربما كان ذلك أيضاً اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة داخل كل بيت، فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة هي التي تعذب المؤمنين، وإنما كان ذلك موكولاً الى أولياء كل فرد ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة- أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت ثم يقال: هذا هو الاسلام!! ولقد قيلت حتى والاسلام يأمر بالكف عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في المواسم، إن محمداً يفرق بين الوالد وولده فوق تفريقه لقومه وعشيرته؛ فكيف لو كان. كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي؟
4- وربما كان ذلك أيضاً لما يعلمه الله من أن كثيراً من المعاندين الذين يفتنون المسلمين عن دينهم ويعذبونهم هم بأنفسهم سيكونون من جند الاسلام المخلص، بل من قادته، ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟
5- وربما كان ذلك أيضاً؛ لأن النخوة العربية في بيئة قبلية من عادتها أن تثور للمظلوم الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع، وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم؛ وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة في هذه البيئة؛ فابن الدغنة(1) لم يرض أن يترك أبا بكر -وهو رجل كريم- يهاجر ويخرج من مكة، ورأى في ذلك عاراً على العرب! وعرض عليه جواره وحمايته، وآخر هذه الظواهر نقض صحيفة الحصار لبني هاشم في شعب أبي طالب.
__________
(1) ابن الدغنة : رجل جاهلي أجار أبي بكر عندما أخرجه قومه وأراد الهجرة الى الحبشة. انظر: الإصابة (2/344).(4/81)
6- وربما كان ذلك أيضاً لقلة عدد المسلمين حينئذ وانحصارهم في مكة حيث لم تبلغ الدعوة الى بقية الجزيرة، او بلغت ولكن بصورة متناثرة، حيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، لترى ماذا يكون مصير الموقف؛ ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة الى قتل المجموعة المسلمة القليلة -حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم، ويبقى الشرك، ولايقوم للإسلام في الأرض نظام، ولا يوجد له كيان واقعي، وهو دين جاء ليكون منهج حياة ونظام دنيا وآخرة.
7- إنه لم تكن هناك ضرورة قاهرة ملحة، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال، ودفع الأذى، لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائماً ومحققاً وهو (وجود الدعوة) ووجودها في شخص الداعية محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتد إليه يد إلا وهي مهددة بالقطع؛ ولذلك لايجرؤ أحد على منعه من إبلاغ الدعوة وإعلانها في ندوات قريش حول الكعبة، ومن فوق جبل الصفا، وفي الاجتماعات العامة، ولا يجرؤ أحد على سجنه أو قتله، أو أن يفرض عليه كلاماً بعينه يقوله.
إن هذه الاعتبارات كلها -فيما نحسب- كانت بعض مااقتضت حكمة الله -معه- أن يأمر المسلمين بكف أيديهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، لتتم تربيتهم، وإعدادهم، وليقف المسلمون في إنتظار أمر القيادة، في الوقت المناسب، وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظ؛ لتكون خالصة وفي سبيل الله(1).
__________
(1) الولاء والبراء، محمد القحطاني، لخص نقاط من الظلال، ص169، 170،171. وفي ظلال القرآن (2/714-715). وفي معالم في الطريق ، ص69-71).(4/82)
وقد تعلّم الصحابة من القرآن الكريم فقه المصالح والمفاسد وكيفية التعامل مع هذا الفقه من خلال الواقع قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة الانعام، الآية: 108).
وهكذا تعلم الصحابة رضي الله عنهم أن المصلحة إن أدت الى مفسدة أعظم تترك(1)، وفي هذا تهذيب أخلاقي، وسمو إيماني، وترفع عن مجاراة السفهاء الذين يجهلون الحقائق، وتخلو أفئدتهم من معرفة الله وتقديسه، وقد ذكر العلماء بأن الحكم باقٍ في الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وغير خاضع لسلطان الاسلام والمسلمين، وخيف أن يسب الاسلام أو النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض الى مايؤدي الى ذلك؛ لأنه فعل بمنزلة التحريض على المعصية، وهذا نوع من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع(2).
والناظر في الفترة المكية والتي كانت ثلاثة عشر عاماً كلها في تربية وإعداد وغرس لمفاهيم لا إله إلا الله يدرك مالأهمية هذه العقيدة من شأن في عدم الاستعجال واستباق الزمن، فالعقيدة بحاجة الى غرس يتعهد بالرعاية والعناية والمداومة بحيث لايكون للعجلة والفوضى فيها نصيب وماأجدر الدعاة الى الله أن يقفوا أمام تربية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه على هذه العقيدة وقفة طويلة، فيأخذوا منها العبرة والأسوة، لأنه لا يقف في وجه الجاهلية أيا كانت قديمة أو حديثة أم مستقبلة إلا رجال اختلطت قلوبهم ببشاشة العقيدة الربانية، وتعمقت جذور شجرة التوحيد في نفوسهم(3).
__________
(1) انظر: تفسير المنير للزحيلي (7/325).
(2) المصدر السابق نفسه (7/326).
(3) انظر: الولاء والبراء ، ص171.(4/83)
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أصحابه بضبط النفس والتحلي بالصبر، وكان يربي أصحابه على عينه ويوجههم نحو توثيق الصلة بالله، والتقرب إليه بالعبادة، وقد نزلت الآيات في المرحلة المكية: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ صدق الله العظيم قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً صدق الله العظيم نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً صدق الله العظيم أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً صدق الله العظيم } (سورة المزمل، الآيات:
1-4)، فقد أرشدت سورة المزمل الصحابة إلى حاجة الدعاة إلى قيام الليل، والدوام على الذكر، والتوكل على الله في جميع الأمور، وضرورة الصبر، ومع الصبر الهجر الجميل، والاستغفار بعد الأعمال الصالحة.(4/84)
كانت الآيات الأولى من سورة المزمل تأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخصص شطراً من الليل للصلاة، وقد خير الله تعالى أن يقوم للصلاة نصف الليل أو يزيد عليه أو ينقص منه، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه معه قريباً من عام حتى ورمت أقدامهم فنزل التخفيف عنهم بعد أن علم الله منهم اجتهادهم في طلب رضاه، وتشميرهم لتنفيذ أمره ومبتغاه، فرحمهم ربهم فخفف عنهم فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًاوَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة المزمل، الآية20).(4/85)
كان امتحانهم في الفرش ومقاومة النوم ومألوفات النفس لتربيتهم على المجاهدة، وتحريرهم من الخضوع لأهواء النفس، تمهيداً لحمل زمام القيادة والتوجيه في عالمهم، إذ لابد من إعداد روحي عالٍ لهم، وقد اختارهم الله لحمل رسالته، وائتمنهم على دعوته، واتخذ منهم شهداء على الناس، فالعشرات من المؤمنين في هذه المرحلة التاريخية كانت أمامهم المهمات العظيمة في دعوة الناس إلى التوحيد، وتخليصهم من الشرك، وهي مهمة عظيمة يقدر على تنفيذها أولئك الذين {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} وقد وصف الله قيام الليل والصلاة فيه وقراءة القرآن ترتيلاً أي مع البيان والتؤده - بأنه {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} فهو أثبت أثراً في النفس مع سكون الليل وهدأة الخلق، حيث تخلو من شواغلها وتفرغ للذكر والمناجاة بعيداً عن علائق الدنيا وشواغل النهار وبذلك يتحقق الاستعداد اللازم لتلقي الوحي الإلهي {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} والقول الثقيل هو القرآن الكريم، وقد ظهر أثر هذا الإعداد الدقيق للمسلمين الأوائل في قدرتهم على تحمل أعباء الجهاد وإنشاء الدولة بالمدينة وفي إخلاصهم العميق للإسلام وتضحيتهم من أجل إقامته في دنيا الناس ونشره بين العالمين(1).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/160).(4/86)
لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مهتماً بجبهته الداخلية وحريصاً على تعبئة أصحابه بالعقيدة القوية التي لاتتزعزع ولاتلين، وكان هذا مبعثاً لروح معنوية مرتفعة وقوية للدفاع وتحمل العذاب والأذى في سبيل الدعوة، وأصبحت الجماعة الأولى وحدة متماسكة لاتؤثر فيها حملات العدو النفسية، ولاتجد لها مكاناً في هذه الجماعة عن طريق المآخاة بين المسلمين فقد أصبحت رابطة الأخوة في الله تزيد على رابطة الدم والنسب وتفضلها في الدين الإسلامي، وتعايش الرعيل الأول بمعاني الأخوة الرفيعة القائمة على الحب والمودة والإيثار، وكانت أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفعل فعلها في نفوس الصحابة، فكان - صلى الله عليه وسلم - يحث المسلمين على الأخوة والترابط والتعاون وتفريج الكرب لا لشيء إلا لرضى الله سبحانه لانظير خدمة مقابلة أو نحو ذلك، وإنما يفعل المسلم ذلك ابتغاء وجه الله وحده، وهذه المبادئ هي سر استمرار الأخوة الإسلامية وتماسك المجتمع الإسلامي(1) وبين لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه سبحانه وتعالى:( المتحابون في جلالي، لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء)(2).
وهكذا أصبحت الأخوة الصادقة من مقاييس الأعمال، وأصبحت المحبة في الله من أفضل الأعمال، ولها أفضل الدرجات عند الله وحذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين من أن تهون عليهم هذه الرابطة، ووضع لهم أساس الحفاظ عليها فقال لهم:( لاتحاسدوا ولاتدابروا، ولاتقاطوا، وكونوا عباد الله إخوانا)(3).
__________
(1) انظر: الحرب النفسية ضد الاسلام، د. عبدالوهاب كحيل، ص128.
(2) أخرجه الترمذي وصححه، كتاب الزهد (4/515) رقم 2390.
(3) البخاري، كتاب الأدب رقم 6076 (7/119).(4/87)
واستعان النبي - صلى الله عليه وسلم - في ربط المجتمع الداخلي وتوحيد جبهته لتكون قوية في مواجهة الحرب النفسية الموجهة ضدها - بالمساواة بين أفراد هذه الجبهة واعطائهم الحرية، فهم لايدخلون إلى هذا المجتمع إلا بالحرية، ثم كانت لهم في داخله حرية الرأي وحرية التعبير والمشورة، أتى محمد - صلى الله عليه وسلم - بمبدأ المساواة بين جميع الناس، الحاكم والمحكوم والغني والفقير، وبين جميع الطبقات، وقد كان لهذا المبدأ العظيم، أكبر الأثر في نفوس أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعلهم يتحابون ويتماسكون ويفتدون بأرواحهم، ويدافعون عنه بكل ماأوتوا من قوة وعزيمة فهو - صلى الله عليه وسلم - لم يقر تفاوتا بين البشر بسبب مولد أو أصل أو حسب أو نسب أو وراثة، أو لون، والاختلاف في الأنساب والأجناس والألوان، لايؤدي إلى اختلاف في الحقوق والواجبات أو العبادات، فالكل أمام الله سواسية، وعندما طلب أشراف مكة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس العبيد والضعفاء حتى لايضمهم وإياهم مجلس واحد، بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن جميع الناس متساوون في تلقي الوحي والهداية، ورفض كفار مكة وساداتها في ذلك الوقت أن يجلسوا مع العبيد ومن يعتبرونهم ضعفاء اذلاء من اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - فنزل القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا صدق الله العظيم وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ(4/88)
كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا صدق الله العظيم } (سورة الكهف، الآيتان:28-29) بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أعرض عن ابن أم مكتوم الأعمى، منشغلاً بمحاورة بعض الأشراف، عاتبه الله أشد العتاب.
وكان من أكبر أساليب النبي - صلى الله عليه وسلم - في ربطه المجتمع الإسلامي وتوحيده، وتقويته للجبهة الداخلية وجعلها قوية البنيان متماسكة، مادعا إليه - صلى الله عليه وسلم - من التكافل المادي والمعنوي بين المسلمين، ليعين منهم القوي الضعيف، وليعطف الغني على الفقير، ولم يترك - صلى الله عليه وسلم - ثغرة واحدة تنفذ منها الحرب النفسية إلى هذا الصف الإسلامي الأول وأصبحت الجماعة الأولى صخرة عظيمة تحطمت عليها كل الجهود والخطط التي بذلها زعماء مكة للقضاء على الدعوة(1).
سادساً: أثر القرآن الكريم في رفع معنويات الصحابة:
كان للقرآن الكريم أثر عظيم في شد أزر المؤمنين من جانب وتوعده الكفار بالعذاب من جانب آخر، مما كان له وقع القنابل على نفوسهم، وقد كان دفاع القرآن الكريم عن الصحابة يتمثل في نقطتين: الأولى حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على رعايتهم وحسن مجالستهم واستقبالهم ومعاتبته على بعض المواقف التي ترك فيها بعض الصحابة، لانشغاله بأمر الدعوة أيضاً.
الثانية: التخفيف عن الصحابة بضرب الأمثلة والقصص لهم من الأمم السابقة، وأنبيائها، وكيف لاقوا من قومهم الأذى، والعذاب ليصبروا ويستخفوا بما يلاقون، وأيضاً بمدح بعض تصرفاتهم، ثم بوعدهم بالثواب والنعيم المقيم في الجنة، وكذلك بالتنديد بأعدائهم الذين كانوا يذيقونهم الألم والأذى(2).
__________
(1) انظر: الحرب النفسية ضد الاسلام، ص125 الى 140.
(2) انظر: الحرب النفسية ضد الاسلام، ص269.(4/89)
أما النقطة الأولى: حينما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس في المسجد مع المستضعفين من أصحابه: خباب وعمار، وابن فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية وصهيب وأشباههم، فكانت قريش تهزأ بهم، وقال الكفار بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، ثم يقولون أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق، لو كان ماجاء به محمداً خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وماخصهم الله به دوننا(1).
ورد الله سبحانه وتعالى على استهزاء هؤلاء الكفار مبيناً لهم أن رضي الله لبعض عباده، لايتوقف على منزلته ولامكانته بين الناس في الدينا، كما يؤكد لرسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا المفهوم، حتى لايتأثر بما يقوله الكفار، من محاولات الانتقاص من شأن هؤلاء الصحابة، ومبيناً له أيضاً مكانتهم فيقول: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ صدق الله العظيم وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ صدق الله العظيم وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ صدق الله العظيم } (سورة الأنعام، الآيات:52-54).
__________
(1) نفس المصدر، ص270،271.(4/90)
وهكذا بين الله لرسوله شأن هؤلاء الصحابة، وقيمتهم ومنزلتهم التي يجهلها أو يتجاهلها الكفار، ويحاولون أن ينالوا منها، بل ويزيد الله على ذلك أن ينهى الرسول عن طردهم، كما يأمره بحسن تحيتهم، ويأمره أيضاً أن يبشرهم بأن الله سبحانه، قد توعد بمغفرة ذنوبهم بعد توبتهم.
كيف تكون الروح المعنوية لهؤلاء، كيف يجدون الأذى من الكفار بعد ذلك، إنهم يفرحون بهذا الأذى الذي وصلوا بسببه إلى هذه المنازل العظيمة(1).
ثم نرى عتاب الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في آيات تتلى إلى يوم القيامة، وكان هذا العتاب في شأن رجل فقير أعمى من الصحابة، أعرض عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة، ولم يجبه على سؤاله لانشغاله بدعوة بعض أشراف مكة(2).
فنزل قول الله تعالى:{ عَبَسَ وَتَوَلَّى صدق الله العظيم أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى صدق الله العظيم وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى صدق الله العظيم أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى صدق الله العظيم أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى صدق الله العظيم فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى صدق الله العظيم وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى صدق الله العظيم وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى صدق الله العظيم وَهُوَ يَخْشَى صدق الله العظيم فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى صدق الله العظيم } (سورة عبس، الآيات:1-10).
__________
(1) انظر: الحرب النفسية ضد الاسلام، ص270،271.
(2) نفس المصدر، ص271.(4/91)
إنه لامجال للامتيازات في دعوة الحق بسبب الحسب والنسب أو المال والجاه، فهي إنما جاءت لتأصيل النظرة إلى الإنسان وبيان وحدة الأصل وماتقتضيه من المساواة والتكافؤ، من هنا يمكن تعليل شدة أسلوب العتاب الذي وجهه الله تعالى لرسوله للاهتمام الكبير الذي أظهره لأبي بن خلف على حساب استقباله لابن أم مكتوم الضعيف رضي الله عنه، فابن مكتوم يرجح في ميزان الحق على البلايين من أمثال أبي بن خلف(1) لعنه الله.
وكانت لهذه القصة دروس وعبر استفاد منها الرعيل الأول، ومن جاء بعدهم من المسلمين ومن أهم هذه الدروس، الاقبال على المؤمنين: على الدعاة البلاغ وليس عليهم الهداية، في قصة الأعمى دليل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلو لم يكن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - رسول الله لكتم هذه الحادثة، ولم يخبر الناس بها لما فيها من عتاب له - صلى الله عليه وسلم - ولو كان كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآيات، وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش(2)، على الدعاة تقديم أهل الخير والإيمان(3).
أما النقطة الثانية في دفاع القرآن الكريم عن الصحابة، فقد كانت بالتخفيف عنهم، وكانت أهم وسائل التخفيف بإظهار أن هذا الأذى الذي يلقونه لم يكن فريداً من نوعه، وإنما حدث قبل ذلك مثله وأشد منه كانت القصص التي تتحدث عن حياة الرسل في القرآن الكريم من لدن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، تثبيتاً للمسلمين ولروح التضحية والصبر فيهم من أجل الدين، وبينت لهم القدوة الحسنة التي كانت في العصور القديمة من أنجح الوسائل في ميادين الإعلام والتربية والتعليم والعلاقات العامة، فالقصص القرآني يحوي الكثير من العبر والحكم والأمثال.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/167) مع تصرف في العدد بدل مئة بلايين.
(2) تفسير ابن عطية (15/316)؛ القاسمي (17/54).
(3) انظر: المستفاد من قصص القرآن، عبدالكريم زيدان (2/89).(4/92)
كان أيضاً من أساليب القرآن في تخفيفه عن الصحابة والدفاع عنهم أسلوبه في مدحهم ومدح أعمالهم في القرآن الكريم يقرأها الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما حدث مع الصديق لما أعتق سبع رقاب من الصحابة لينقذهم من الأذى والتعذيب، في نفس الوقت الذي يندد فيه بأمية بن خلف الذي كان يعذب بلال بن أبي رباح، فالقرآن بدستوره الأخلاقي قد قدم قواعد الثواب والعقاب وشجع المؤمنين وحذر المخالفين، وحمل هذا التحديد مغزى عميقاً، فقد أنار الطريق للصحابة، وكان غمّة وكرباً على نفوس الكفار المترددين، إذ جاء قول الله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى صدق الله العظيم لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى صدق الله العظيم الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى صدق الله العظيم وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى صدق الله العظيم الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى صدق الله العظيم وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى صدق الله العظيم إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى صدق الله العظيم وَلَسَوْفَ يَرْضَى صدق الله العظيم } (سورة الليل، الآيات:14-21).
وكذلك خلّد القرآن ثبات وفد نصارى نجران على الإسلام رغم استهزاء الكفار ومحاولاتهم لصدهم عن الإسلام، لذا نزلت فيهم بعض الآيات كما يذكر بعض المؤرخين(1)، قال تعالى: {الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ صدق الله العظيم وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ صدق الله العظيم أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ صدق الله العظيم } (سورة القصص، الآيات:52-55).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/4).(4/93)
وكانت الآيات بعد ذلك تبشر الصحابة بالثواب العظيم وبالنعيم المقيم في الجنة، جزاءً بما صبروا وماتحملوا من الأذى، وتشجيعاً لهم على الاستمرار في طريق الدعوة غير مبالين بما يسمعونه ومايلاقونه، فالنصر والغلبة لهم في النهاية كما بين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديثه، وكما بين لهم القرآن، كما بين القرآن الكريم في نفس الوقت مصير أعدائهم كفار مكة قال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ صدق الله العظيم يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ صدق الله العظيم } (سورة غافر، الآيتان:51-52).
وبين فضل تمسكهم بالقرآن وإيمانهم به قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ صدق الله العظيم لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ صدق الله العظيم } (سورة فاطر، الآيتان:29-30).
وبين سبحانه فضل التمسك بعبادته رغم الأذى والتعذيب، وبين جزاء الصبر على ذلك قال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ صدق الله العظيم قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ صدق الله العظيم } (سورة الزمر، الآيتان:9-10).(4/94)
وهكذا كان القرآن الكريم يخفف عن الصحابة ويدافع عنهم، ويحضهم ضد الحرب النفسية، وبذلك لم تؤثر تلك الحملات ووسائل التعذيب على قلوب الصحابة بفضل المنهج القرآني، والأساليب النبوية الحكيمة، لقد تحطمت كل أساليب المشركين في محاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أمام العقيدة الصحيحة والمنهج السليم الذي تشربه الرعيل الأول.
سابعاً: أسلوب المفاوضات:
اجتمع المشركون يوماً، فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهان والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه، ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا: مانعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يامحمد أنت خير أم عبدالمطلب؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم، فتكلم، حتى نسمع قولك. إنا والله مارأينا سخلة قد أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم: أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ماننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى.(4/95)
أيها الرجل: إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك - الباه - فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(فرغت؟) قال: نعم! فقال رسول الله {حم صدق الله العظيم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صدق الله العظيم كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءَايَاتُهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم } إلى أن بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} فقال عتبة: حسبك! ماعندك غير هذا؟ قال: (لا) فرجع إلى قريش فقالوا: ماوراءك؟ قال: ماتركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم)(1) وفي رواية ابن إسحاق: فلما جلس إليهم قالوا: ماوراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ماسمعت مثله قط، والله ماهو بالشعر ولابالسحر ولابالكهانة .. يامعشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ماهو فيه فاعتزلوا، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا سحرك والله يا ابا الوليد بلسانه. قال: هذا رأيي فاصنعوا مابدا لكم(2).
( دروس وعبر وفوائد:
أ- لم يدخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في معركة جانبية حول أفضليته على أبيه وجده أو أفضليتهما عليه، ولو فعل ذلك لقضي الأمر دون أن يسمع عتبة شيئاً.
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير (3/68، 69).
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/294).(4/96)
ب- لم يخض - صلى الله عليه وسلم - معركة جانبية حول العروض المغرية، وغضبه الشخصي لهذا الاتهام، إنما ترك ذلك كله لهدف أبعد، وترك عقبة يعرض كل ماعنده، وبلغ من أدبه - صلى الله عليه وسلم - أن قال: أفرغت يا أبا الوليد؟ فقال:نعم(1).
ج- كان جواب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاسماً، إن اختياره لهذه الآيات لدليل على حكمته، وقد تناولت الآيات الكريمة قضايا رئيسية كان منها: إن هذا القرآن تنزيل من الله، بيان موقف الكافرين وإعراضهم، بيان مهمة الرسول وأنه بشر، بيان أن الخالق واحد هو الله وأنه خالق السماوات والأرض، بيان تكذيب الأمم السابقة وما أصابها، وإنذار قريش صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود(2).
__________
(1) انظر: التحالف السياسي في الاسلام، منير الغضبان، ص33.
(2) انظر: معين السيرة للشامي ، ص75.(4/97)
ح- خطورة المال، والجاه، والنساء على الدعاة، فكم سقط من الدعاة على الطريق تحت بريق المال، وكم عرضت الآلاف من الأموال على الدعاة ليكفوا عن دعوتهم، والذين ثبتوا أمام إغراء المال هم المقتدون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وخطورة الجاه واضحة لأن الشيطان في هذا المجال يزين ويغوي بطرق أكبر وأمكر وأفجر والداعية الرباني هو الذي يتأسى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حركته وأقواله وأفعاله ولاينسى الهدف الذي عاش له ويموت من أجله {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ صدق الله العظيم } (سورة الأنعام، الآيتان:162-163) وأما النساء فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ( ماتركت فتنة على أمتي أضر على الرجال من النساء)(1) سواء كانت زوجة تثبط الهمة عن الدعوة والجهاد أو تسليط بعض الفاجرات عليه ليسقطنه في شباكهن، أو في تهيئة أجواء البغي والإثم والمجون ليرتادها بعد خطوة، أياً كانت فإنها فتنة عظيمة في الدين، فهاهي قريش تعرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسائها، يختار عشراً منها، أجملهن وأحسنهن يكن زوجات له إن كان عاجزاً عن الزواج من أكثر من واحدة، إن خطر المرأة حين لاتستقيم على منهج الله أشد من خطر السيف المصلت على الرقاب(2)، فعلى الدعاة أن يقتدوا بسيد الخلق ويتذكروا دائماً قول يوسف عليه السلام: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ صدق الله العظيم فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صدق الله العظيم } (سورة يوسف،
__________
(1) صحيح الجامع الصغير (5/138).
(2) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص169.(4/98)
الآيتان:33-34).
خ- تأثر عتبة من موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان هذا التأثير واضحاً لدرجة أن أصحابه أقسموا على ذلك التأثير قبل أن يخبرهم، فبعد أن كان العدو ينوي القضاء على الدعوة، إذا به يدعو لعكس ذلك، فيطلب من قريش أن تخلي بين محمد - صلى الله عليه وسلم - ومايريد(1).
س- استمع الصحابة لما حدث بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين عتبة، وكيف رفض حبيبهم - صلى الله عليه وسلم - كل عروضه المغرية، فكان ذلك درساً تربوياً خالط أحشائهم، تعلموا منه الثبات على المبدأ، والتمسك بالعقيدة، ووضع المغريات تحت أقدام الدعاة.
ش- تعلم الصحابة من الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - الحلم ورحابة الصدر فقد استمع - صلى الله عليه وسلم - إلى ترهات عتبة بن ربيعة ونيله منه وقوله عنه: (إن في قريش ساحراً) و (إن في قريش كاهناً)، (مارأينا سخلة أشأم على قومك منك) و (إن كان بك ريئا من الجن)، فقد أعرض عنه - صلى الله عليه وسلم - وأغض عن هذا السباب بحيث لايصرفه ذلك عن دعوته وتبليغه إياها لسيد بني عبد شمس فقد كانت كل كلمة تصدر من سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - مبدأ يحتذى، وكل تصرف دينا يتبع، وكل إغضاء خلقاً يتأسى به(2).
__________
(1) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر، ص87.
(2) انظر: التربية القيادية (1/304).(4/99)
وذكرت بعض كتب السيرة بأن قيادات مكة دخلوا في مفاوضات بعد ذلك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرضوا عليه إغراءات تلين أمامها القلوب البشرية ممن أراد الدنيا وطمع في مغانمها إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذ موقفاً حاسماً في وجه الباطل دون مراوغة أو مداهنة أو دخول في دهاء سياسي أو محاولة وجود رابطة استعطاف أو استلطاف مع زعماء قريش(1)، لأن قضية العقيدة تقوم على الوضوح والصراحة والبيان بعيدة عن المداهنة والتنازل ولذلك رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(مابي ماتقولون ماجئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ماجئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوا عليّ اصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)(2).
بهذا الموقف الإيماني الثابت رجع كيدهم في نحورهم، وثبتت قضية من أخطر قضايا العقيدة الإسلامية وهي خلوص العقيدة من أي شائبة غريبة عنها سواء في جوهرها أو في الوسيلة الموصلة إليها(3).
{لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}
__________
(1) انظر: الوفود في العهدالمكي، لعلي الأسطل، ص37.
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/197)؛ التربية القيادية (1/305).
(3) تاريخ صدر الاسلام، عبدالرحمن الشجاع، ص39.(4/100)
ولما رأى المشركون صلابة المسلمين واستعلائهم بدينهم ورفعة نفوسهم فوق كل باطل ولما بدأت خطوط اليأس في نفوسهم من أن المسلمين يستحيل رجوعهم عن دينهم سلكوا مهزلة أخرى من مهازلهم الدالة على طيش أحلامهم ورعونتهم الحمقاء، فأرسلوا الى النبي - صلى الله عليه وسلم - الأسود بن عبدالمطلب والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، فقالوا يامحمد، هلم فلنعبد ماتعبد، وتعبد مانعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد، كنا قد أخذنا بحظنا منه، وان كان مانعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه)(1)، فأنزل الله فيهم: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ صدق الله العظيم لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ صدق الله العظيم وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ صدق الله العظيم وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ صدق الله العظيم وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ صدق الله العظيم لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ صدق الله العظيم } (سورة الكافرون، الآيات: 1-6).
ومثل هذه السورة آيات أخرى تشابهها في إعلان البراء من الكفر وأهله مثل قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} (سورة يونس، الآية: 41).
وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ صدق الله العظيم قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ صدق الله العظيم } (سورة الانعام، الآيتان:56-57).
__________
(1) ابن هشام (1/362).(4/101)
ولقد بينت سورة الكافرون بأن طريق الحق واحد لاعوج فيه، ولا فجاج له، انه العبادة الخالصة لله وحده رب العالمين، فنزلت هذه السورة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة، ومنهج ومنهج، وتصور وتصور، وطريق وطريق، نعم نزلت نفياً بعد نفي وجزماً بعد جزم، وتوكيداً بعد توكيد، بأنه لا لقاء بين الحق والباطل، ولا اجتماع بين النور والظلام، فالاختلاف جوهري كامل يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق، والأمر لا يحتاج الى مداهنة أو مرواغة. نعم فالامر هنا ليس مصلحة ذاتية، ولا رغبة عابرة، ولا سم في عسل، وليس الدين لله والوطن للجميع كما تزعم الجاهلية المعاصرة، ويدّعي المنافقون، والمستغربون الذين يتبعون الضالين والمغضوب عليهم، والملحدين أعداء الله سبحانه في كل مكان، كان الرد حاسماً على زعماء قريش المشركين، ولا مساومة، ولا مشابهة، ولا حلول وسط، ولا ترضيات شخصية؛ فإن الجاهلية جاهلية والاسلام اسلام، في كل زمان ومكان، والفارق بينهم بعيد كالفرق بين التبر والتراب، والسبيل الوحيد هو الخروج عن الجاهلية بجملتها الى الاسلام بجملته عبادة وحكماً، وإلا فهي البراءة التامة والمفاصلة الكاملة والحسم الصريح بين الحق والباطل في كل زمان {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (1).
__________
(1) انظر: في ظلال القرآن (6/ ).(4/102)
وجاء وفد آخر بعد فشل الوفد السابق، يتكون من عبدالله بن أبي أمية، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبدالله بن أبي قيس، والعاص بن عامر(1)، جاء ليقدم عرضاً آخر للتنازل عن بعض مافي القرآن، فطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزع من القرآن مايغيظهم من ذم آلهتهم، فأنزل الله لهم جواباً حاسماً، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (سورة يونس، الآية:15). وهذه الوفود والمفاوضات تبين مدى الفشل الذي أصاب زعماء قريش في عدم حصولها على التنازل الكلي عن الاسلام، الأمر الذي جعلها تلجأ الى طلب الحصول على شيء من التنازل، ويلاحظ أن التنازل الذي طلبوه في المرة الأولى، أكبر مما طلبوه في المرة الثانية، وهذا يدل على تدرجهم في التنازل من الأكبر الى الأصغر، عله يجد آذاناً صاغية لدى قائد الدعوة، كما أنهم كانوا يغيرون الأشخاص المتفاوضين، فالذين تفاوضوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المرة الأولى غير الذين، تفاوضوا معه في المرة الثانية، ماخلا الوليد بن المغيرة وذلك حتى لاتتكرر الوجوه، وفي ذات الوقت تنويع الكفاءات والعقول المفاوضة، فربما أثر ذلك في نظرهم بعض الشيء، وفي هذا درس للدعاة الى يوم القيامة بأن لا تنازل عن الاسلام ولو كان هذا التنازل شيئاً يسيراً، فالإسلام دعوة ربانية، ولا مجال فيها للمساومة إطلاقاً، مهما كانت الأسباب، والدوافع، والمبررات، "وعلى الدعاة اليوم الحذر من مثل هذه العروض، والإغراءات المادية، التي قد لا تعرض بطريق مباشر، فقد تأخذ
__________
(1) اسباب النزول للواحدي، ص200؛ ونور اليقين للخضري، ص61.(4/103)
شكلاً غير مباشر، في شكل وظائف عليا، أو عقود عمل مجزية، أو صفقات تجارية مربحة، وهذا ما تخطط له المؤسسات العالمية المشبوهة، لصرف الدعاة عن دعوتهم، وبخاصة القياديين منهم، وهناك تعاون تام في تبادل المعلومات بين هذه المؤسسات، التي تعمل من مواقع متعددة لتدمير العالم الاسلامي"(1) ولقد جاء في التقرير الذي قدمه (ريتشارد ب. ميشيل)، أحد كبار العاملين في مجال الشرق الأوسط، لرصد الصحوة الاسلامية، وتقديم النصح بكيفية ضربها جاء في هذا التقرير وضع تصور لخطة جديدة يمكن من خلالها تصفية الحركات الاسلامية، فكان من بين فقرات هذا التقرير فقرة خاصة بإغراء قيادات الدعوة، فاقترح لتحقيق ذلك الإغراء، مايلي:
أ- تعيين من يمكن إغراؤهم بالوظائف العليا، حيث يتم شغلهم بالمشروعات الاسلامية فارغة المضمون، وغيرها من الاعمال التي تستنفذ جهدهم، وذلك مع الإغداق عليهم أدبياً ومادياً، وتقديم تسهيلات كبيرة لذويهم، وبذلك يتم استهلاكهم محلياً، وفصلهم عن قواعدهم الجماهيرية.
ب- العمل على جذب ذوي الميول التجارية والاقتصادية الى المساهمة في المشروعات ذات الأهداف المشبوهة، التي تقام في المنطقة العربية لصالح أعدائها.
ج- العمل على إيجاد فرص عمل وعقود مجزية في البلاد العربية الغنية، الأمر الذي يؤدي الى بُعدهم عن النشاط الاسلامي(2).
فالمتدبر في النقاط الثلاثة السابقة، يلاحظ أنها إغراءات مادية غير مباشرة، وبنظرة فاحصة للعالم الاسلامي اليوم، نلاحظ أن هذه النقاط تنفذ بكل هدوء فقد أشغلت المناصب العليا بعض الدعاة، واستهلكت بعض الدول العربية الغنية جماً غفيراً من الدعاة، وألهت التجارة بعضهم(3).
__________
(1) في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص89.
(2) مجلة المجتمع الكويتية، عدد رقم 428، 17 صفر 1399هـ. نقلاً عن السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية.
(3) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية ، ص91.(4/104)
ثامناً: أسلوب المجادلة ومحاولة التعجيز:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقام الحجج والبراهين والأدلة على صحة دعوته، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتقن اختيار الأوقات، وانتهاز الفرص والمناسبات، ويقوي على الرد على الشبهات مهما كان نوعها، وقد استخدم في مجادلته مع الكفار اساليب كثيرة استنبطها من كتاب الله تعالى في إقامة الحجة العقلية واستخدام الأقيسة المنطقية واستحضار التفكير والتأمل، ومن الأساليب التي استخدمها - صلى الله عليه وسلم - مع كفار مكة:
1- أسلوب المقارنة:
وذلك بعرض أمرين أحدهما هو الخير المطلوب الترغيب فيه، والآخر هو الشر المطلوب الترهيب منه، وذلك باستثارة العقل للتفكر في كل الأمرين وعاقبتهما الوصول -بعد المقارنة- الى تفضيل الخير واتباعه:
قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة الانعام، الآية: 122).
قال ابن كثير في تفسيره: (هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً أي في الضلالة هالكاً حائراً، فأحياه الله أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه له ووفقه لاتباع رسله)(1).
2- أسلوب التقرير:
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/172).(4/105)
وهو أسلوب يؤول بالمرء بعد المحاكمة العقلية الى الإقرار بالمطلوب الذي هو مضمون الدعوة، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ صدق الله العظيم أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَ يُوقِنُونَ صدق الله العظيم أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ صدق الله العظيم أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ صدق الله العظيم أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ صدق الله العظيم أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ صدق الله العظيم أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ صدق الله العظيم أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ صدق الله العظيم أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ صدق الله العظيم وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ صدق الله العظيم فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ صدق الله العظيم } (سورة الطور، الآيات: 35-43).
قال ابن كثير في تفسيره: (هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أي أوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي لاهذا ولا هذا بل الله هو الذي خلقهم، وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً)(1).
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/244).(4/106)
وهذه الآية في غاية القوة من حيث الحجة العقلية لأن (وجودهم هكذا من غير شيء أمر ينكره منطق الفطرة ابتداءً ولا يحتاج الى جدل كثير أو قليل، أما أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم فأمر لم يدَّعوه، ولا يدّعيه مخلوق، وإذا كان هذان الفرضان لايقومان بحكم منطق الفطرة فإنه لايبقى سوى الحقيقة التي يقولها القرآن وهي أنهم من خلق الله جميعاً)(1)، والتعبير بالفطرة مضمون الأمر المقرر بداهة في العقل.
وتأمل هذا الإلزام بالإقرار بربوبية الله وألوهيته فيما ذكره السعدي في تفسيره حيث قال: (وهذا استدلال عليهم بأمر لا يمكنهم فيه إلا التسليم للحق أو الخروج عن موجب العقل والدين، وبيان ذلك أنهم منكرون لتوحيد الله مكذبون لرسوله وذلك مُستَلزم لإنكارهم أن الله خلقهم وقد تقرر في العقل مع الشرع أن ذلك لايخلو من ثلاثة أمور: إما أنهم خلقوا في من غير شيء أي لا خالق خلقهم، بل وجدوا من غير إيجاد ولا موجود وهذا عين المحال، أم هم الخالقون لأنفسهم وهذا أيضاً محال، فإنه لايتصور أن يوجد أحد نفسه، فإذا بطل هذان الأمران وبان استحالتهم تعين القسم الثالث، وهو أن الله هو الذي خلقهم، وإذا تعين ذلك، عُلم أن الله هو المعبود وحده الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح إلا له تعالى)(2).
3- إسلوب الإمرار والإبطال:
__________
(1) في ظلال القرآن (6/3399).
(2) تفسير السعدي (7/195،196).(4/107)
وهو أسلوب قوي في إفحام المعاندين أصحاب الغرور والصلف بإمرار أقوالهم وعدم الاعتراض على بعض حججهم الباطلة منعاً للجدل والنزاع خلوصاً الى الحجة قاطعة تدمغهم وتبطل بها حجتهم تلك فتبطل الأولى بالتبع، وفي قصة موسى عليه السلام مع فرعون، نموذج مطول لهذا الاسلوب حيث أعرض موسى عن كل اعتراض وشبهة أوردها فرعون ومضى الى إبطال دعوى الألهية لفرعون من خلال إقامة الحجة العقلية الظاهرة على ربوبية الله وألوهية الله(1)، وذلك في الآيات من سورة الشعراء قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ صدق الله العظيم قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِين صدق الله العظيم قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ صدق الله العظيم قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَائِكُمُ الأَوَّلِينَ صدق الله العظيم قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ صدق الله العظيم قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ صدق الله العظيم قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ صدق الله العظيم } (سورة الشعراء، الآيات:23-29).
وهكذا كانت الأساليب القرآنية الكريمة هي الركيزة في مجادلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمشركين، ولما احتار المشركون في أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا على استعداد في تصديقه أنه رسول من عند الله ليس لأنهم يكذبونه وإنما عناداً وكفراً، كما قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (سورة الانعام، الآية:33).
__________
(1) انظر: مقومات الداعية الناجح، د. علي بادحدح، ص59 الى 68. الأساليب السابقة من هذا الكتاب.(4/108)
لذلك هداهم تفكيرهم المعوج أن يطلبوا من الرسول عليه السلام مطالب ليس الغرض منها التأكد من صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن غرضهم منها التعنت والتعجيز وهذا ماطلبوه من الرسول عليه الصلاة والسلام:
أ- أن يفجر لهم من الأرض ينبوعاً: أي يجري لهم الماء عيوناً جارية.
ب- أو تكون له جنة من نخيل وأعناب يتفجر الأنهار خلالها تفجيراً، أي تكون له حديقة فيها النخل والعنب والأنهار تتفجر بداخلها.
ج- أو يسقط السماء كسفاً: أي يسقط السماء قطعاً كما سيكون يوم القيامة.
ح- أو يأتي بالله والملائكة قبيلاً.
س- أو يكون له، بيت من زخرف: أي ذهب.
ش- أو يرقى في السماء: أي يتخذ سلماً يرتقي عليه ويصعد الى السماء.
د- إنزال كتاب من السماء يقرؤه. يقول مجاهد: أي مكتوب فيه الى كل واحد صحيفة هذا كتاب من الله لفلان ابن فلان تصبح موضوعة عند رأسه(1).
و- طلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوا لهم فيسير لهم الجبال، ويقطع الأرض، ويبعث من مضى من آبائهم من الموتى(2).
إن عملية طلب الخوارق والمعجزات هي خطة متبعة على مدى تاريخ البشرية الطويل، ورغم حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إيمان قومه، وتفانيه في ذلك، لكن التربية الربانية التي تلقاها من ربه، والأدب النبوي الذي تأدب عليه، جعله يرفض طلب المعجزة(3)، وإنما كانت اجابته - صلى الله عليه وسلم -:
(مابهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ماأرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ، أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بيني وبينكم)(4).
__________
(1) انظر: المعوقون للدعوة الاسلامية، د. سميرة محمد، ص171،172.
(2) انظر: التربية القيادية (1/311).
(3) نفس المصدر (1/311).
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/459).(4/109)
وانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى أهله حزيناً أسفاً لما فاته مما طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه(1)، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه التعنتات والرد عليها في قوله سبحانه: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا صدق الله العظيم أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيرًا صدق الله العظيم أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً صدق الله العظيم أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً صدق الله العظيم وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولاً صدق الله العظيم قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً صدق الله العظيم قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا صدق الله العظيم } (سورة الاسراء، الآيات:90-96).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/317).(4/110)
ونزل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَانًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ ءَامَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}(1) (سورة الرعد، آية:31).
إن الحكمة في أنهم لم يجابوا لما طالبوا، لئنهم لم يسألوا مسترشدين وجادين، وإنما سألوا متعنتين ومستهزئين وقد علم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ماطلبوا لما آمنوا، وللجُّوا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يترددون، قال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ صدق الله العظيم وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ صدق الله العظيم وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ صدق الله العظيم } (سورة الانعام، الآيات: 109-111).
__________
(1) يعني لو أن هناك قرآناً بهذه المثابة لكان هذا القرآن الكريم، فهو ليس له مثيل لا من قبل ولا من بعد، جواب (لو) محذوف دل عليه المقام.(4/111)
ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية والرحمة الربانية ألا يجابوا على ماسألوا، لأن سنته سبحانه أنه إذا طلب قوم آيات فأجيبوا، ثم لم يؤمنوا عذّبهم عذاب الاستئصال، كما فعل بعاد وثمود وقوم فرعون.
وليس أدل على أن القوم كانوا متعنتين وساخرين، ومعوِّقين لا جادين من أن عندهم القرآن وهو آية من الآيات، وبينة البينات؛ ولذلك لماسألوا ما اقترحوا من هذه الآيات وغيرها ردّ عليهم سبحانه(1) بقوله: {وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ ءَايَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ صدق الله العظيم أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ صدق الله العظيم قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ صدق الله العظيم } (سورة العنكبوت، الآيات: 50-52).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/320،321).(4/112)
وقد ذكر عبدالله بن عباس - رضي الله عنه - رواية مفادها: أن قريش قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم. قال فدعا: فأتاه جبريل فقال: إن ربك -عز وجل- يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة. فقال: بل باب التوبة والرحمة؛ فأنزل الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} (سورة الاسراء، الآية:59)(1).
لقد كان هدف زعماء قريش من تلك المطالب هو شن حرب إعلامية ضد الدعوة والداعية وتأمر على الحق كي تبتعد القبائل العربية عنه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم يطالبون بأمور يدركون أنها ليست طبيعة هذه الدعوة ولهذا أصروا عليها، بل لقد صرحوا بأن لو تحقق شيء من ذلك فلن يؤمنون أيضاً بهذه الدعوة، وهذا كله محاولة منهم لإظهار عجز الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتخاذ ذلك ذريعة لمنع الناس عن أتباعه(2).
تاسعاً: دور اليهود في العهد المكي واستعانة مشركي مكة بهم:
__________
(1) صحيح السيرة النبوية، ص90.
(2) انظر: الوفود في العهد المكي ، ص40-51.(4/113)
تحدث القرآن الكريم عن بني اسرائيل طويلاً في سور كثيرة بلغت خمسين سورة في المرحلة المكية وفي المرحلة المدنية كان دور اليهود كبير في محاولة إطفاء نور الله والقضاء على دعوة الاسلام وعلى حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم تحظ ملة من الملل ولا قوم من الأقوام بالحديث عنهم بمثل هذا الشمول وهذه التفصيلات ماحظي به اليهود، وحديث القرآن عنهم يتسم بمنهج دقيق يتناسب مع المراحل الدعوية التي مرت بها دعوة الاسلام، فقد جاءت الآيات الكريمة تشير الى أن غفلة المشركين عن الحق الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعدم اكتراثهم به وبدعوته له نماذج بشرية تقدمتهم ، مثل عاد وثمود وفرعون وبني اسرائيل وقوم تبع، وأصحاب الرس(1)، اقرأ معي تلك الإشارات في قوله تعالى في سورة المزمل -وهي السورة الثالثة في ترتيب النزول(2): {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً صدق الله العظيم فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً صدق الله العظيم فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا صدق الله العظيم السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً صدق الله العظيم إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً صدق الله العظيم } (سورة المزمل، الآيات: 15-19).
__________
(1) معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، ص30،31، مصطفى مسلم.
(2) انظر: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، ص30،31.(4/114)
وكذلك ماورد في سورة الاعلى وهي السورة الثامنة في ترتيب النزول، فبعد إن ذكرت بعض الصفات الجليلة لله جل جلاله وما أسبغ به من النعم الدنيوية والأخروية على عباده وذكر طريق الفلاح في الدنيا وأن الآخرة خير وأبقى ختمت السورة بقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صدق الله العظيم صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى صدق الله العظيم } (سورة الآعلى، الآيتان: 18،19).
وفي سورة الفجر: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ صدق الله العظيم إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ صدق الله العظيم الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ صدق الله العظيم وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ صدق الله العظيم وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ صدق الله العظيم الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ صدق الله العظيم فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ صدق الله العظيم فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ صدق الله العظيم إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ صدق الله العظيم فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ صدق الله العظيم وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ صدق الله العظيم } (سورة الفجر، الآيات: 6-14).
وجاء في سورة النجم ذكر بني اسرائيل كنماذج بشرية تعرضت للفتنة والاضطهاد فمنهم من انحراف وسقط في هذا الابتلاء ومنهم من صمد ونجح في الابتلاء(1).
__________
(1) نفس المصدر، ص36.(4/115)
قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا صدق الله العظيم ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى صدق الله العظيم وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى صدق الله العظيم الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى صدق الله العظيم أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى صدق الله العظيم وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى صدق الله العظيم أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى صدق الله العظيم أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى صدق الله العظيم وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى صدق الله العظيم أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى صدق الله العظيم وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى صدق الله العظيم وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى صدق الله العظيم ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى صدق الله العظيم وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى صدق الله العظيم } (سورة النجم، الايات: 29-42).
إن تلك المبادئ مقررة في صحف موسى عليه السلام المرسل الى بني اسرائيل فليرجعوا إليها إن كانوا في شك من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك في صحف ابراهيم وهم (أي قريش) يزعمون أنهم ينتمون إليه ويعظمون شرائعه التي توارثوها كما هو حالهم في القيام على سدانة الكعبة وخدمة الحجيج(1).
__________
(1) انظر: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، ص316.(4/116)
وفي سورة (ص، ويس، ومريم، وطه) عرض نماذج من قصص الأنبياء مع أقوامهم وماأصابهم من الفتنة والابتلاء، وكيف أوذوا فصبروا، وبيان سنة الله تعالى في أولئك المتحزبين المناهضين لدعوة الحق: {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ صدق الله العظيم كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ صدق الله العظيم وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُولَئِكَ الأَحْزَابُ صدق الله العظيم إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ صدق الله العظيم وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاَءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ صدق الله العظيم وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ صدق الله العظيم اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ صدق الله العظيم } (سورة ص، الآيات: 11-17).
إنها إشارة ذات دلالة تربوية لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مأخوذة من سيرة هؤلاء الأقوام الذين تحزبوا ضد دعوة الحق لقد كذبوا أنبيائهم فحق عليهم كلمة العذاب وانتصر أهل الحق عليهم.(4/117)
لم يسلم أحد من الأنبياء من إيذاء الأقوام مهما كانت مكانتهم وعزتهم في مجتمعاتهم، فلئن كان نوح وهود وموسى وصالح ولوط وشعيب من عامة الناس، فما قولك في داود صاحب القوة والسلطة والملك، الذي كانت معجزاته بارزة للعيان من تسبيح الجبال معه وحشر الطيور لسماع مزميره وتلاوته... ماذا تقول عنه بنو اسرائيل وماذا دونوا في كتبهم عن سيرته، إنهم لم يتركوا نقيصة إلا ألصقوها فيه وهو النبي العابد الأوّاب، ومثل ذلك ماقالوه عن مريم البتول عليها وعلى أبنها السلام، وقد أورد القرآن الكريم حملها وولادتها والخوارق التي حصلت لهما حيث جعلها وابنها آية للعالمين: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} (سورة مريم، الآية: 21)؛ فإذا كان هذا شأن بني إسرائيل مع أنبيائهم وهم أهل الكتاب وبين أيديهم التوراة (فيه هدىً ونور)، فلا غرابة أن تقول قريش عن دعوة الحق مايدل على ظلالها وجهلها إنها تهيئة للنفوس وتثبيت لها على الحق لملاقاة أعدءا الله المفترين المكذبين من المشركين ومن أهل الكتاب، ولم يكن هذا موقفهم من الانبياء الذين كذبوهم ولم يؤمنوا لهم؛ بل كانت لهم مواقف غريبة مشينة مع أعظم أنبيائهم الذين يفتخرون بنسبتهم إليه وهم يزعمون أنهم أهل كتابه الذي أنزل عليه وحملة شرائعه وهداياته إنه نبيهم موسى عليه السلام أعظم أنبياء بني اسرائيل قاطبة، وتذكر لنا سورة طه كيف كان الحال معه وماعاناه من سفههم وتمردهم على أوامر الله وعصيانهم المتعمد، فما كاد موسى عليه السلام يغادرهم لمناجاة ربه وقد ترك في ظهرانيهم أخاه هارون ليصلح من شأن القوم ولا يتبع سبيل المفسدين، إلا وتآمروا عليه وجمعوا زينة القوم ليخرج لهم السامري عجلاً جسداً له خوار فيقوم الناس بالطواف به لعبادته وليقولوا كلمتهم الكبيرة {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ(4/118)
فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} (سورة طه، الآية:88). ولما عرف الحقيقة استدعى السامري ليسأل عن الدافع له على هذا التصرف السفيه، قال: {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} (سورة طه، الآية: 96).
إن قوماً يصل بهم السفه الى هذا الحد من الزيغ والضلال، والإفساد، فهل يؤمن جانبهم ويتوقع منهم الخير، أو مناصرة الحق؛ لقد كان لقصص بني اسرائيل في هذه المرحلة المكية المتقدمة آثار بعيدة الدلالة في تكوين الشخصية الاسلامية المتميزة عن هذه الطوائف والنحل(1) ومن لطائف الاسرار القرآنية ومن جميل وجوه المناسبات ان يأتي الحديث عن عالمية الدعوة الاسلامية من خلال ذكر العهد والميثاق المأخوذ على بني اسرائيل أنفسهم لكي يؤمنوا بالنبي الأمي عندما يأتيهم بدعوته العالمية، وكان ذلك في سورة الاعراف، وكان إيراد التفصيلات في انحرافات بني اسرائيل لتهيئة نفوس المؤمنين بأن لا يتأثروا بموقف اليهود إن هم تنكروا لهم فإنهم قوم بهت وتلك سيرتهم مع أنبيائهم، فإن أعرضوا عن دعوة الاسلام وكذبوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - وقد وجدوا أوصافه في كتبهم فلا يستغرب ذلك من القوم المفسدين(2).
__________
(1) انظر: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، ص39،40.
(2) نفس المصدر، ص54.(4/119)
قال تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ صدق الله العظيم الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ صدق الله العظيم قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ صدق الله العظيم } (سورة الاعراف، الآيات: 156-158).(4/120)
نعم إنها نقلة من صعيد مكة وشعابها وجبالها الى أقطار العالم جميعاً، إنها نقلة روحية نفسية كبيرة حيث نلاحظ سياق الآيات يرسم معالم الدعوة العالمية عندما تخرج من مكة الى الصعيد العالمي كما أن الآيات في سورة الأعراف مليئة بالدروس التربوية العظيمة لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من خلال السرد التاريخي لحياة بني اسرائيل وما اعتورها من أحداث عظام وهذه المداخلات التي تلفت النظر الى أمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودورها ومهمتها في قيادة العالم، وفي نفس الوقت تحذير لها لكي تتجنب ماوقعت فيه بنو إسرائيل ويمضي السياق في الحديث عن الأمم التي تكونت من الأسباط، وكيف فكت ضائقتهم في المطعم والمشرب بتفجير الينابيع وإنزال المن والسلوى عليهم، وتوفير الظلال الوارفة لهم بتظليل الغمام عليهم، ولكن هل أدوا شكر هذه النعم؟ وماذا كان موقفهم من التكاليف الشرعية؟ لقد كان العناد والتحريف، والتحايل والتمرد دائماً.
إن إنسانية الانسان تتحقق باتباعه الوحي الرباني المنزل من خالق السماوات والأرض، والعبودية لله تعالى تحقق الكمال الانساني، حيث تتحقق الغاية التي خلق الانسان من أجلها، وأي إهمال لهذه المهمة وأي ابتعاد عن نور الوحي يبعد الانسان عن الكمال البشري ويلحقه بالدواب والأنعام، وقد يكون أضل منها لأنه يسخر عقله لمزيد من الاسفاف والانحطاط بينما البهائم لا تتحايل في الاسفاف والإنحطاط وإنما هي مفطورة على غرائز معينة تدفعها لتصرف محدد.
كانت سورة الاعراف المكية تعرض لمحات تربوية، وتبين توجيهات ربانية وتوضح سنن إلهية من خلال الاعتبار بقصص بني اسرائيل(1).
__________
(1) انظر: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، ص55 الى 60.(4/121)
عندما وجدت قريش نفسها عاجزة أمام دعوة الحق وكان المعبر عن هذا العجز النضر بن الحارث الذي صرح قائلاً: (يامعشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ماأوتيتم له بحيلة بعد ... فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمرٌ عظيم) فقرروا بعد ذلك إرسال النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط الى أحبار اليهود بالمدينة لمعرفة حقيقة هذه الدعوة لا لكي يتبعوها ولكن لإدراكهم أن اليهود قد يمدونهم بأشياء تظهر عجز الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولمعرفة زعماء مكة بحقد اليهود المنصب على الأنبياء جميعاً وأصحاب الحق إينما كانوا؛ كانت بعثة المصطفى صدمة قوية لليهود؛ وذلك لأنهم عاشوا في جزيرة العرب على حلم توارثوه طوال السنين الماضية، وهو أنه سيبعث نبي مُخلِّص في ذلك الزمان والمكان، فرجوا أن يكون منهم؛ آملين أن يخلصهم من الفرقة والشتات الذي كانوا فيه(1).
كان التقارب بين معسكر الكفر والشرك مع اليهود ينسجم مع أهدافهم المشتركة للقضاء على دعوة الاسلام ولذلك زودوا الوفد المكي ببعض الأسئلة محاولة لتعجيز النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) انظر: اليهود في السنّة المطهرة، د. عبدالله الشقاري (1/188).(4/122)
عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط الى أحبار اليهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ماليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصفا لهم أمره وبعض قوله وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فقرروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ماكان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ماكان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ماهو؟ فإن أخبركم بذلك فإنه نبي فاتبعوه، وإن هو لم يخبركم فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره مابدا لكم، فأقبل النضر وعقبة حتى قدما مكة على قريش فقالا: يامعشر قريش، قد جئناكم بفصل مابينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها، فجاؤوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يامحمد، أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخبركم غداً بما سألتهم عنه، ولم يستثن(1)، فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحياً، ولا يأتيه جبرئيل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة، قد أصبحنا فيها لايخبرنا بشيء مما سالناه عنه، وحتى أحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُكْثُ الوحي عنه، وشق عليه مايتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فهيا معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ماسألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطوّاف، وقول الله عز وجل:
__________
(1) أي لم يقل (إن شاء الله).(4/123)
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (سورة الاسراء، الآية: 85).
ولما سمع اليهود قول الله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (سورة الكهف، الآية 109).
كانت سورة الكهف قد احتوت على الإجابة لأسئلتهم وإشارة الى أن كهفاً من عناية الله سوف يأوي هؤلاء المستضعفين من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما آوى الكهف الجبلي الفتية المؤمنين الفارين بدينهم من الفتنة.
وأن نفوساً ستبش في وجوه هذه العصبة من أنصار دين الله في يثرب بالقرب من الذين عاضدوا قريشاً في شكهم وحاولوا معهم طمس نور الحق بتلقينهم المنهج التعجيزي في التثبت في أمر النبوة وهو منهج غير سليم فمتى كانت الأسئلة التعجيزية وسيلة التحقق من صدق الرسالة وصاحبها، فهذا نبي الله موسى عليه السلام وهو من أعظم أنبياء بني إسرائيل لم يعلم تأويل الأحداث الثلاثة التي جرت أمامه وأنكر على الخضر تصرفاته على الرغم من تعهده أن لايسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً، على الرغم من كل ذلك لم تؤثر الأحداث ومادار حولها في نبوة موسى عليه السلام شيئاً، ولم يشكك بنو اسرائيل في نبوته فلم يجعلون مثل هذه الأسئلة اسلوباً للتحقق من صدق الرسالة(1).
جعل الله هذه المناسبة وسيلة للإشارة الى قرب الفرج للعصبة المؤمنة ليجدوا مأوى كما وجد الفتية المأوى، وليبش في وجوههم أهل المدينة كما بش أهل المدينة في وجه أحد الفتية ثم ذهبوا إليهم ليكرموهم وليخلدوا ذكراهم(2).
__________
(1) انظر: مباحث في التفسير الموضوعي، مصطفى مسلم، ص189.
(2) انظر: تأملات في سورة الكهف للشيخ أبي الحسن الندوي، ص46؛ وانظر: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، ص61.(4/124)
إن القرآن الكريم نزل ليكوّن خير أمة أخرجت للناس، لها مقوماتها الذاتية ومصادرها المعرفية، ولقد نزل من أوائل مانزل في المرحلة المكية سورة الفاتحة وفيها التضرع الى الله تعالى بهداية المؤمن الى الصراط المستقيم، وتجنبه صراط المغضوب عليهم -وهم اليهود- وصراط الضالين -وهم النصارى- كما جاء في حديث عدي بن حاتم- رضي الله عنه -(1).
فتحديد هذا النهج وبيان الصراط المستقيم يستدعي بيان المناهج الضالة حتى تتجنب السبل الاخرى المتفرقة التي تؤدي بصاحبها الى المزالق والمهالك، فكان التعرض لعقائد اليهود وانحرافاتهم ومواقفهم مع أنبيائهم أمراً تقتضيه دواعي التكوين للشخصية الاسلامية المتميزة إن معركتنا مع اليهود معركة مستمرة، لأنها معركة بين المنهج الرباني والصراط المستقيم ضد المناهج البشرية الجاهلية المحرفة لكلمات الله الساعية للإفساد في الأرض(2).
عاشراً: الحصار الاقتصادي والاجتماعي في آخر العام السابع من البعثة:
ازداد إيذاء المشركين من قريش أمام صبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين على الأذى، وإصرارهم في الدعوة الى الله، وإزاء فشو الإسلام في القبائل، وبلغ الأذى قمته في الحصار المادي والمعنوي الذي ضربته قريش ظلماً وعدواناً على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن عطف عليهم من قرابتهم(3).
__________
(1) مسند الإمام أحمد (4/378).
(2) معركة الوجود بين القرآن والتلمود، ص78،79 نقلاً عن معالم قرآنية، لمصطفى مسلم، ص29.
(3) انظر: ظاهرة الإرجاء، د. سفر الحوالي (1/50).(4/125)
قال الزهري: (ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ماكانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانية؛ فلما رأى أبوطالب عمل القوم جمع بني عبدالمطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقتل ، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق؛ لا يتقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل(1).
وفي رواية: (.... على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، لا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، ولا يدعوا سبباً من أسباب الرزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صلحاً، ولاتأخذهم بهم رأفة، ولا يخالطوهم، ولا يجالسوهم، ولا يكلموهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله للقتل، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم(2).
فلبثت بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، وأشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاماً يقدم من مكة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3).
__________
(1) تفاصيل قصة الشعب وماتخللها من أحداث، دلائل النبوة للبيهقي (2/80-85). السرة النبوية لابن كثير (2/43-72). الروض الأنف (2/101-129).
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/350)؛ زاد المعاد (2/46)؛ الكامل في التاريخ (2/87).
(3) انظر: ظاهرة الإرجاء (1/51).(4/126)
وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى فراشه حتى يراه من أرد به مكراً أو غائلة، فإذا نام الناس أخذ أحد بنيه أو أخواته أو بني عمه فاضطجع على فرش رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمر رسوله أن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليها(1).
واشتد الحصار على الصحابة وبني هاشم وبني المطلب حتى اضطروا الى أكل ورق الشجر، وحتى أصيبوا بظلف العيش وشدته، الى حد أن أحدهم يخرج ليبول فيسمع بقعقعة شيء تحته، فإذا هي قطعة من جلد بعير فيأخذها فيغسلها، ثم يحرقها ثم يسحقها، ثم يستفها، ويشرب عليها الماء فيتقوى بها ثلاثة أيام(2)، وحتى لتسمع قريش صوت الصبية يتضاغون من وراء الشعب من الجوع(3)!
فلما كان رأس ثلاث سنين، قيض الله سبحانه وتعالى لنقض الصحيفة أناساً من أشراف قريش وكان الذي تولى الإنقلاب الداخلي لنقض الصحيفة هشام بن عمرو الهاشمي، فقصد زهير بن أمية المخزومي، وكانت أمه عاتكة بنت عبدالمطلب، فقال له: يازهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثيات وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؟ لا يبتاعون، ولايبتاع منهم، ولاينكحون ولا ينكح إليهم، أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثم دعوته الى مثل مادعاك إليه منهم ماأجابك إليه أبداً، قال: ويحك ياهشام، فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها؛ فقال له: قد وجدت رجلاً، قال: من هو؟ قال: أنا، فقال له زهير: أبغنا ثالثاً.
__________
(1) انظر: فقه السيرة النبوية للغضبان، ص180.
(2) انظر: الغرباء الأولون، ص148 نقلاً عن حلية الأولياء ترجم رقم 7.
(3) المصدر السابق نفسه، ص148.(4/127)
فذهب الى المُطْعِم بن عدي فقال له: أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيهم؟ أما والله لو أمكنتموهم من هذه لتجدنَّهم إليها منكم سراعاً قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال : قد وجدت لك ثانياً، قال من ؟ قال: أنا، قال: أبغنا ثالثاً، قال : قد فعلت، قال: من؟ قال زهير بن أبي أمية، فقال أبغنا رابعاً، فذهب الى أبي البختري بن هشام، فقال له نحو ماقال للمطعم بن عدي، فقال له: ويحك وهل نجد أحد يعين على ذلك؛ قال: نعم: زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا، فقال: أبغنا خامساً، فذهب الى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابته وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد، قال: نعم ، ثم سمّى له القوم؛ فاتَّعدوا خطم الحَجون ليلاً بأعلى مكة، فاجتمعوا هناك، وأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أما أبدؤكم فأكون أول من يتكلم، فلما أصبحوا غدا الى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة، فطاف بالبيت سبعاً، ثم أقبل على الناس فقال: أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لايبتاعون، ولايبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، فقال أبو جهل، وكان في ناحية المسجد: كذبت والله لا تشق، فقال زمعة بن الاسود: أنت والله أكذب مارضينا كتابتها حين كتبت فقال ابو البختري: صدق زمعة لا نرضى ماكتب فيها، ولا نُقِرّ به، فقال المطعم بن عدي: صدقتما وكذلك من قال غير ذلك، نبرأ من الله منها ومما كتب فيها، وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك؟ فقال أبوجهل: هذا أمر قضي بليل، ثشوور فيه في غير هذا المكان، وأبوطالب جالس في ناحية المسجد لايتكلم.(4/128)
وقام المطعم بن عدي الى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا (باسمك اللهم)(1) وروى ابن اسحاق إن الله -عز وجل- أرسل على الصحيفة الأرضة فلم تدع فيها اسماً لله عز وجل إلا أكلته، وبقي فيها الظلم والقطعية والبهتان وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك عمه فذهب أبوطالب الى قومه وأخبرهم بذلك وقال لهم: فإن كان كاذباً فلكم علي أن أدفعه إليكم تقتلونه وإن كان صادقاً فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟ فأخذ عليهم المواثيق وأخذوا عليه، فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال المطعم بن عدي وهشام بن عمرو: نحن براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة، ولن نمالئ أحداً في فساد أنفسنا وأشرافنا. وتتابع على ذلك ناس من أشراف قريش فخرجوا من الشعب(2).
( دروس وعبر وفوائد:
1- إن المتأمل لبنود هذه الاتفاقية يجد أن قريشاً قد أحكمت البنود ولم تدع فيها ثغرة يمكن النفاذ من خلالها، مما يؤكد أنها وضعت بعد مداولات ومشاورات على نطاق واسع، وشاركت في وضعها عقول مفكرة امتزجت معها خبرات عديدة، وحبكها ذكاء مفرط.
2- في عدم الزواج بين الطرفين جانب اجتماعي مهم، فالزواج غالباً مايؤدي الى التآلف، والتآخي، والتراحم، والتواصل، والتزاور بين أهل الزوجين، فإذا تم شيء من ذلك، فسيؤدي الى فشل الحصار وحتى لايحدث ذلك نصت الوثيقة على عدم الزواج بين الطرفين.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/43-50، 67-69).
(2) السير والمغازي لابن إسحاق، ص156-162.(4/129)
3- وفي النهي عن البيع، والشراء منهم يظهر جانب اقتصادي بالغ الأهمية، فالبيع والشراء عصب الحياة الاقتصادية، ويقوم عليه تبادل المنافع بين بني البشر، فإذا انعدم ذلك التعامل، انهار البناء الاقتصادي، وباتت الحياة الاقتصادية مهددة بالخطر، فيصبح الانسان مفتقداً لضروريات الحياة مما يعرضه الى الرضوخ والانصياع لأوامر من يملك تلك الضروريات، ومعلوم أثر ذلك على الجماعة والأفراد، فأرادت قريش من ذلك البند تجويع المسلمين، وهذا ماوقع فعلاً فقد جاء: أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون ورق الشجر والجلود(1).
4- وزيادة في الحصار الاقتصادي، وضعوا بنداً يسد الطريق أمام المسلمين في التعامل مع التجار الوافدين من خارج مكة، فكانوا يغلون على المسلمين في السعر حتى لا يدرك الصحابة شيئاً يشترونه، فيرجعون الى أطفالهم، الذين يتضاغون جوعاً، وليس في أيديهم شيء يشغلونهم به، فكان يُسمع بُكاء الأطفال من بعيد(2)، كل هذا التضييق بسبب البند الذي يقول: (ولا يدعوا شيئاً من أسباب الرزق يصل إليهم)، كما أن هذا البند يفوت الحجة على من أراد أن يهدي .... شيئاً لآهل الشِّعب، بحجة أنه لا يبيع وإنما يهدي، وحتى لاتبقى ذريعة، لإيصال الطعام إليهم تحت أي مسمى، وضعت قريش هذا البند(3).
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/377)؛ الرحيق المختوم، ص129.
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/377)؛ السيرة النبوية للندوي، ص120.
(3) انظر: السيرة النبوية جوانب الحذر والحيطة، ص96.(4/130)
5- والبند التالي: (ولا تقبلوا منهم صلحاً)، يسد الطريق أمام أي خيار آخر سوى تسليم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلا مجال لأنصاف الحلول عندهم، أما البند الذي يقضي (بألا تأخذهم بهم رأفة)، فهو بند يضع قيوداً حتى على العواطف، كي لايكون للرأفة والرحمة وجود بين أهل الصحيفة تجاه المؤمنين لأن الرحمة والرأفة قد تقودان الى فك الحصار، الذي يؤدي بدوره الى فشل جهود قريش، وهو مالا تهواه، لذا عملت على إبطال مفعول الرأفة بوضعها لهذا البند في الصحيفة.
6- وفي (عدم مجالستهم ومخالطتهم وكلامهم)، سد ثغرة هامة، ربما جاء من قبلها خطر على المقاطعة، والحصار، لأن المجالسة، والمخالطة، والكلام مع المسلمين يؤدي الى النقاش، وتبادل الآراء ووجهات النظر، فقد يقنع المسلمون بعض أهل الصحيفة بخطأ ماهم عليه، لأن المسلمين يملكون من الحق والأدلة مايمكن أن يقنعوا بها سواهم... وحتى لايتم ذلك، نصت الصحيفة على عدم المجالسة، والمخالطة، والكلام.
7- قولهم: (لا يدخلوا بيوتهم)، بند لا يختلف عما سبقه، لأن دخولهم البيوت يحرك الجوانب الإنسانية في النفس، فالإنسان عندما يرى بيتاً يخلو من أبسط مقومات الحياة، واصاب أهله الجوع والعري والمرض، ليس لذنب سوى أنهم اختاروا دينا غير دين قريش، لا شك أن العاطفة تتحرك عنده، ويحاول رفع هذا الظلم، وتلك المعاناة .. وحتى لاتقع قيادة قريش في مثل هذا الموقف، نصت على عدم دخول البيوت.
8- وتعليق الصحيفة في الكعبة، يعطيها قدسية، ويجعل بنودها تأخذ طابع القداسة، التي يجب التقيد والالتزام بها، فالعرب قاطبة تقدس الكعبة، وتضع لها مكاناً سامياً من الحرمة والقدسية، لذا عمدت قريش الى تعليق الصحيفة داخل الكعبة(1).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية جوانب الحذر والحيطة، ص96،97.(4/131)
9- إن مشركي بني هاشم وبني المطلب تضامنوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحموه كأثر من أعراف الجاهلية، ومن هنا ومن غيره نأخذ أنه يسع المسلم أن يستفيد من قوانين الكفر فيما يخدم الدعوة على أن يكون ذلك مبنياً على فتوى صحيحة من أهلها(1).
10- إن حقوق الإنسان في عصرنا ضمان للمسلم، والحرية الدينية في كثير من البلدان يستفاد منها، وقوانين كثيرة من أقطار العالم تعطي للمسلمين فرصاً، وعلى المسلمين أن يستفيدوا من ذلك وغيره من خلال موازنات دقيقة(2).
11- من المهم أن تعلم بأن حماية اقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، لم تكن حماية للرسالة التي بعث بها، وإنما كانت لشخصه من الغريب، وإذا أمكن أن تستغل هذه الحماية من قبل المسلمين كوسيلة من وسائل الجهاد والتغلب على الكافرين والرد لمكائدهم وعدوانهم فأنعم بذلك من جهد مشكور وسبيل ينتبهون إليها(3).
12- لم يستطع أبوطالب أن يقاوم هذا التحالف الباغي إلا بالحرب السياسية من جهة ومحاولة تفتيت هذا التحالف، فعمل قصيدته اللامية المشهورة وفي بدايتها قال:
ولما رأيت القوم لا ودّ عندهم
... ... ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد حالفوا قوماً علينا أظنة
... ... ... يعضون غيظاً خلفنا بالأنامل(4)
وكان لهذه القصيدة أثر خطير زلزل أوضاع مكة، واستطاعت أن تحرك كامن العصبية عند أقارب بني هاشم، حيث ائتمروا سراً ودعوا الى نقض الصحيفة(5).
__________
(1) انظر: الأساس في السنّة وفقها السيرة النبوية، سعيد حوى (1/264).
(2) انظر: الأساس في السنّة وفقها السيرة النبوية، ص264.
(3) انظر: فقه السيرة النبوية، للبوطي، ص88.
(4) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/245).
(5) انظر: التحالف السياسي، للغضبان، ص35 الى 37.(4/132)
13- أنتصر أبو طالب في غزو المجتمع القرشي بقصائده الضخمة التي هزت كيانه هزاً وتحرك لنقض الصحيفة من ذكرنا من قبل، أولئك الخمسة الذين يمتون بصلة قرابة أو رحم لبني هاشم وبني المطلب واستطاعوا أن يرفعوا هذا الظلامة وهذا الحيف عن المسلمين وأنصارهم وحلفائهم وخططوا له ونجحوا به وفي هذا الموقف إشارة الى أن كثير من النفوس والتي تبدوا في ظاهر الأمر من أعمدة الحكم الجاهلي، قد تملك في أعماقها رفضاً لهذا الظلم والبغي، وتستغل الفرصة المناسبة لإزاحته، وعلى أبناء المسلمين أن يهتموا بهذه الشرائح، وتنفذ الى أعماقها، وتوضح لهم حقيقة القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة، وتبين لها طبيعة العداء بين الاسلام واليهود والنصارى والعلمانية، فقد يستفاد منهم في خدمة الاسلام(1).
14- وظاهرة أبي لهب تستحق الدراسة والعناية، لأنها تتكر في التاريخ الاسلامي، فقد يجد الدعاة من أقرب حلفائهم من يقلب لهم ظهر المجن، ويبالغ في إيذاء الدعاة، وحربهم أكثر بكثير ممن تلقاه من خصومها الألداء الأشداء(2).
15- كانت تعليمات الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأفراد المسلمين إلا يواجهوا العدو، وأن يضبطوا أعصابهم، فلا يشعلوا فتيل المعركة أو يكونوا وقودها؛ وإن أعظم تربية في هذه المرحلة هي صبر أبطال الأرض على هذا الأذى دون مقاومة، حمزة وعمر، وأبي بكر وعثمان، وغيرهم رضي الله عنهم، سمعوا وأطاعوا، فلقوا كل هذا الأذى وهذا الحقد، وهذا الظلم، فكفوا ايديهم، وصبروا ليس على حادثة واحدة فقط، أو يوماً واحداً فقط بل ثلاث سنين عجاف، تحترق أعصابهم ولايسمح لهم برمية سهم أو شجة رأس(3).
__________
(1) انظر: فقه السيرة النبوية، للغضبان، ص185.
(2) نفس المصدر، ص186.
(3) انظر: التربية القيادية (1/371).(4/133)
16- أثبتت الأحداث عظمة الصف المؤمن في التزامه بأوامر قائده، وبعده عن التصرفات الطائشة؛ فلم يكن شيء أسهل من أغتيال أبي جهل، وإشعال معركة غير مدروسة لا يعلم إلا الله مداها، وغير متكافئة.
17- كانت الدعوة الاسلامية تحقق انتصارات رائعة في الحبشة، وفي نجران، وفي أزد شنؤة، وفي دوس، وفي غفار، وكانت تتم في خط واضح سيكون سنداً للإسلام والمسلمين ومراكز قوى يمكن أن تتحرك في اللحظة الحاسمة، وامتدادات للدعوة، تتجاوز حدود مكة الصلدة المستعصية.
18- كانت هذه السنوات الثلاثة للجيل الرائد زاداً عظيماً في البناء والتربية، حيث ساهم بعضه في تحمل آلام الجوع والخوف، والصبر على الابتلاء، وضبط الاعصاب، والضغط على النفوس والقلوب، ولجم العواطف عن الانفجار.
19- كانت بعض الشخصيات في الصف المشرك تبنى في داخلها بالتربية النبوية، وتتأثر بعظمة شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتتفاعل في أعماقها مع المبادئ التي يقدمها الدين الجديد، لكن سيطرة الملأ وسطوة الكبراء كانت تحول دون إبراز هذا التفاعل وهذا الحب وهذه التربية، وختام قصة الصحيفة تقدم لنا أجلى بيان عن ذلك(1).
20- قيام الحجج الدامغة والبراهين الساطعة والمعجزات الخارقة لا يؤثر في أصحاب الهوى وعبدة المصالح والمنافع، لأنهم يلغون عقولهم ويغلقون قلوبهم وعقولهم عن التدبر، ويصمون آذانهم عن سماع الحق، ويغمضون أعينهم عن النظر والتأمل والاهتداء الى الحق بعد قيام الأدلة عليه، فلقد أخبرهم أبوطالب بما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما حدث للصحيفة من أكل الأرضة لها وبقاء اسم الله فقط (باسمك اللهم) ورأوا ذلك بأم أعينهم فما آمن منهم أحد، إنه الهوى الذي يغشي عن الحق، ويصم الآذان عن سماعه(2).
__________
(1) نفس المصدر (1/384،385).
(2) السيرة النبوية لابي فارس، ص167.(4/134)
21- كانت حادثة المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية سبباً في خدمة الدعوة والدعاية لها بين قبائل العرب، فقد ذاع الخبر في كل القبائل العربية من خلال موسم الحج ولفت أنظار جميع الجزيرة العربية الى هذه الدعوة التي يتحمل صاحبها وأصحابه الجوع والعطش والعزلة لكل هذا الوقت، أثار ذلك في نفوسهم أن هذه الدعوة حق، ولولا ذلك لما تحمل صاحب الرسالة وأصحابه كل هذا الأذى والعذاب.
22- أثار هذا الحصار سخط العرب على كفار مكة لقسوتهم على بني هاشم وبني المطلب، كما اثار عطفهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فما أن إنفك الحصار حتى أقبل الناس على الإسلام، وحتى ذاع أمر هذه الدعوة وتردد صداها في كل بلاد العرب، وهكذا ارتد بسلاح الحصار الاقتصادي على أصحابه، وكان عاملاً قوياً من عوامل انتشار الدعوة الاسلامية عكس ماأراد زعماء الشرك تماماً(1).
23- كان لوقوف بني هاشم وبني المطلب مع رسول الله وتحملهم معه الحصار الاقتصادي والاجتماعي أثر في الفقه الاسلامي حيث أن سهم ذوي القربى من الخمس يعطي لبني هاشم وبني المطلب ويوضح ابن كثير هذا الحكم لدى تفسيره قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ ءَامَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة الانفال، الآية:41).
__________
(1) انظر: الحرب النفسية ضد الاسلام، د. عبدالوهاب كحيل، ص101.(4/135)
فيقول : (وأما سهم ذوي القربى فإنه يصرف الى بني هاشم وبني المطلب، لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية وفي أول الاسلام، ودخلوا معهم في الشعب غضباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحماية لهم، مسلمهم طاعة لله ورسوله وكافرهم حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لابي طالب؛ وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل وإن كانوا بني عمهم فلم يوافقوهم على ذلك بل حاربوهم ونابذوهم ومالؤوا بطون قريش على حرب الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا كان ذم أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشدّ من غيرهم لشدة قربهم... وفي بعض الروايات هذا الحديث: (إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، وهذا قول جمهور العلماء أنهم بنو هاشم وبنو المطلب)(1).
24- لما أذن الله بنصر دينه، وإعزاز رسوله، وفتح مكة، ثم حجة الوداع، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤثر أن ينزل في خيف بني كنانة ليتذكر ماكانوا فيه من الضيق والاضطهاد، فيشكر الله على ماأنعم عليه من الفتح العظيم، ودخولهم مكة -التي اخرجوا منها-، وليؤكد قضية انتصار الحق واستعلائه، وتمكين الله لأهله الصابرين(2)، فعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: قلت يارسول الله! أين تنزل غداً؟ في حجته -، قال: وهل ترك لنا عقيلاً منزلاً؟ ، ثم قال: نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة، المحصب، حيث قاسمت قريش على الكفر، وذلك أن بني كنانة حالفت قريش على بني هاشم أن لايبايعوهم ولا يؤوهم. قال الزهري: والخيف الوادي(3).
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/312).
(2) انظر: الغرباء الأولون، ص149.
(3) البخاري، كتاب الجهاد 180، باب إذا أسلم قوم في دار الحرب (4/33).(4/136)
25- على كل شعب في أي وقت، يسعى لتطبيق شرع الله عليه، أن يضع في حسبانه احتمالات الحصار والمقاطعة من أهل الباطل، فالكفر ملة واحدة، فعلى قادة الأمة الاسلامية تهيئة أنفسهم وأتباعهم لمثل هذه الظروف، وعليهم وضع الحلول المناسبة لها إذا حصلت، وأن تفكر بمقاومة الحصار بالبدائل المناسبة كي تتمكن الأمة من الصمود في وجه أي نوع من أنواع الحصار(1).
الفصل الرابع
هجرة الحبشة، ومحنة الطائف ومنحة الاسراء
المبحث الأول
تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع سنّة الأخذ بالأسباب
من السنن الربانية التي تعامل معها النبي - صلى الله عليه وسلم - سنّة الأخذ بالأسباب، والأسباب جمع سبب وهو كل شيء يتوصل به الى غيره، وسنّة الأخذ بالأسباب مقررة في كون الله تعالى، بصورة واضحة، فلقد خلق الله هذا الكون بقدرته، وأودعه من القوانين والسنن مايضمن استقراره واستمراره، وجعل المسببات مرتبطة بالأسباب بعد إرادته تعالى؛ فجعل عرشه سبحانه محمولاً بالملائكة، وأرسى الأرض بالجبال، وأنبت الزرع بالماء .....وغير ذلك.
__________
(1) انظر: في السيرة النبوية قراءة في جوانب الحذر والحماية، ص98.(4/137)
ولو شاء الله رب العالمين لجعل كل هذه الأشياء وغيرها -بقدرته المطلقة- غير محتاجة الى سبب، ولكن هكذا اقتضت مشيئة الله تعالى وحكمته، الذي يريد أن يوجه خلقه الى ضرورة مراعاة هذه السنّة ليستقيم سير الحياة على النحو الذي يريده سبحانه، وإذا كانت سنة الأخذ بالأسباب مبرزة في كون الله تعالى بصورة واضحة، فإنها كذلك مقررة في كتاب الله تعالى، ولقد وجه الله عباده المؤمنين الى وجوب مراعاة هذه السنّة في كل شؤونهم، الدنيوية، والأخروية سواء، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (سورة التوبة، الآية:105).
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (سورة الملك، الآية:15).
ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى طلب من السيدة مريم أن تباشر الأسباب وهي في أشد حالات ضعفها قال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} (سورة مريم، الآية: 25).
وهكذا يؤكد الله تعالى على ضرورة مباشرة الأسباب في كل الأمور والأحوال.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أوعى الناس لهذه السنّة الربانية، فكان وهو يؤسس لبناء الدولة الاسلامية يأخذ بكل مافي وسعه من أسباب، ولا يترك شيئاً يسيراً جزافاً، وقد لمسنا ذلك في مامضى وسنلمس ذلك فيما بقى بإذن الله تعالى.(4/138)
وكان -عليه الصلاة والسلام- يوجه أصحابه دائماً الى مراعاة هذه السنّة الربانية في أمورهم الدنيوية والأخروية على السواء(1) وقد كان في حس الأمة الاسلامية في صدرها الزاهر أن إيمانها بقدرة الله تعالى المطلقة وقضاءه وقدره لا يتعارض مع اتخاذ الأسباب، لقد كانوا يدركون أن لله تعالى سنناً في هذا الكون وفي حياة البشر غير قابلة للتغيير. ومع أن لله تعالى سنناً خارقة تملك أن تصنع كل شيء، ولا يعجزها شيء إلا أن الله تعالى جلت قدرته قد قضى بأن تكون سنته الجارية ثابتة في الحياة الدنيا، وأن تكون سنته الخارقة استثناء لها، وكلتاهما معلقة بمشيئة الله، لذلك كان في حسهم أنه لابد لهم من مجاراة السنن الجارية إذا رغبوا في الوصول الى نتيجة معينة في واقع حياتهم، أي أنه لابد من اتخاذ الأسباب المؤدية الى النتائج بحسب تلك السنن الجارية(2).
وإن تخلف المسلمين اليوم عن ركب الزعامة العالمية لم يكن ظلماً نزل بهم، بل كان العدل الإلهي مع قوم نسوا رسالتهم، وحطوا مكانتها، وشابوا معدنها بركام هائل من الأهواء والأوهام في مجال العلم والعمل على سواء، وأهملوا السنن الربانية وظنوا أن التمكين قد يكون بالأماني والأحلام ولكن هيهات: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} (سورة آل عمران، الآية: 182) وربما سائل يقول: ولكن إذا كان هذا عقاب الله للمؤمنين الذين عصوه، فما بال الكافرين الذين جحدوه سبحانه بالمرة، ومع ذلك فإنهم ممكنين في الأرض -من الناحية المادية- غاية التمكن؟
__________
(1) انظر: التمكين للأمة الاسلامية ، ص248 الى 249، 250.
(2) انظر: مفاهيم ينبغي أن تصحح، ص262 ومابعدها بتصرف لمحمد قطب.(4/139)
إن هؤلاء الكفار لم يبلغوا مابلغوه لأنهم أقرب من الله أو أرضى له، ولم يبلغوا مابلغوا بسحر أو بمعجزة أو لأنهم خلق آخر متميز، ولم يقيموا الصناعات أو يجوبوا البحار، أو يخترقوا أجواء الفضاء لأن عقيدتهم حق، أو لأن فكرهم سليم... إنهم بلغوا ذلك لأن السبيل الى هذا التقدم درب مفتوح لجميع خلق الله مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} (سورة هود، الآية:15).
إن الله سبحانه وتعالى -جعل التمكين في الحياة يمضي بالجهد البشري، وبالطاقة البشرية على سنن ربانية ثابتة، وقوانين لا تتبدل ولا تتحول؛ فمن يقدم الجهد الصادق ويخضع لسنن الحياة يصل على قدر جهده وبذله وعلى قدر سعيه وعطائه.
إنها السنة التي أردها الله في هذه الحياة، إنها مشيئته وسنته، وإرادته؛ صحيح أن هذا التقدم كله لايفتح للكافرين أبواب الجنة ولا يغني عنهم شيئاً، ولكن التقصير من جانب المسلم إثم يحاسب عليه(1).
( التوكل على الله والأخذ بالأسباب:
التوكل على الله -تعالى- لا يمنع من الأخذ بالأسباب، فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها، ولكنه لايجعل الأسباب هي التي تنشىء النتائج فيتوكل عليها.
إن الذي ينشئ النتائج -كما ينشئ الأسباب- هو قدر الله ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن... اتخاذ السبب عبادة بالطاعة وتحقق النتيجة قدر من الله مستقل عن السبب لا يقدر عليه إلا الله وبذلك يتحرر شعور المؤمن من التعبد للأسباب والتعلق بهذا، وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته لينال ثواب طاعة الله في استيفائها(2).
__________
(1) انظر: لقاء المؤمنين، عدنان النحوي (2/124) ومابعدها بتصرف.
(2) في ظلال القرآن (3/1476).(4/140)
ولقد قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة ضرورة الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، كما نبه -عليه السلام- على عدم تعارضهما.
يروي أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلاً وقف بناقته على باب المسجد وهمّ بالدخول، فقال يارسول الله، أرسل راحلتي وأتوكل؟ .. وكأنه كان يفهم أن الأخذ بالأسباب ينافي التوكل على الله تعالى، فوجهه النبي - صلى الله عليه وسلم - الى أن مباشرة الأسباب أمر مطلوب ولا ينافي -بحال من الأحوال- التوكل على الله تعالى ماصدقت النية في الأخذ بالأسباب، فقال له - صلى الله عليه وسلم - بل قيدها وتوكل(1).
وهذا الحديث من الأحاديث التي تبين أنه لاتعارض بين التوكل والأخذ بالأسباب، بشرط عدم الاعتقاد في الأسباب والاعتماد عليها ونسيان التوكل على الله، وروى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطانا)(2).
وفي هذا الحديث الشريف حث على التوكل مع الإشارة الى أهمية الأخذ بالأسباب حيث أثبت الغدو والرواح للطير مع ضمان الله تعالى الرزق لها.
ويمكن تلخيص نظرة الاسلام في هذه القضية في النقاط التالية:
يقرر الاسلام مبدأ الأخذ بالأسباب .... ذلك؛ لأن تعطيل الأخذ بالأسباب تعطيل للشرع، ولمصالح الدنيا.
الاعتماد على الأخذ بالأسباب وحدها مع ترك التوكل على الله شرك.
يربط الاسلام اتخاذ الأسباب بالتوحيد، مع الاعتقاد بأن أمر الأسباب كلها بيد الله.
المطلوب من المسلم إذا هو اتخاذ الأسباب مع التوكل على الله تعالى(3).
__________
(1) رواه الترمذي (4/576) كتاب صفة القيامة باب ماجاء في التوكل.
(2) رواه أحمد في مسنده (1/52)، وكتاب الزهد، ص25 وقال الشيخ احمد شاكر إسناده صحيح.
(3) انظر: التمكين للأمة الاسلامية ، ص254.(4/141)
ولابد للأمة الاسلامية أن تدرك أن الأخذ بالأسباب للوصول الى التمكين أمر لا محيص عنه، وذلك بتقرير الله تعالى حسب سنته التي لاتتخلف، ومن رحمة الله -تعالى- أنه لم يطلب من المسلمين فوق مايستطيعونه من الاسباب، ولم يطلب منهم أن يُعدوا العدة التي تكافئ تجهيز الخصم ولكنه سبحانه قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءَاخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (سورة الأنفال، الآية:60).
فكأنه تعالى يقول لهم: افعلوا أقصى ماتستطيعون احشدوا أقصى إمكانتكم ولو كانت دون إمكانات الخصوم، فالاستطاعة هي الحد الأقصى المطلوب، ومايزيد على ذلك يتكفل الله تعالى به بإمكاناته التي لاحدود لها وذلك لأن فعل أقصى المستطاع هو برهان الإخلاص، وهو الشرط المطلوب لينزل عون الله ونصره(1).
إن النداء اليوم موجه لجماهير الأمة الاسلامية بأن يتجاوزوا مرحلة الوهن والغثاء الى مرحلة القوة والبناء وأن يودّعوا الأحلام والأمنيات وينهضوا للأخذ بكل الأسباب التي تعينهم على إقامة دولة الاسلام، وصناعة حضارة الانسان الموصول برب العالمين.
وعلى الأمة أن تراعي سنن الله المبثوثة في كونه، والظاهرة في قرآنه الكريم وذلك لتسير على طريق النهوض بنور من الله تعالى.
__________
(1) انظر: الاسلام في خندق، مصطفى محمود ، ص64.(4/142)
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بسنن الله تعالى منذ البعثة حتى وفاته ولم يفرط في أي منها، فتعامل مع سنّة الله في تغيير النفوس، وسنّة التدافع مع الباطل، وسنّة التدرج في بناء الجماعة ثم الدولة، وسنّة الابتلاء، واستفرغ - صلى الله عليه وسلم - جهده في الأخذ بالأسباب التي توصل للتمكين، فكانت هجرتي الحبشة، وذهابه للطائف، وعرضه للدعوة على القبائل، ثم هجرته الى المدينة، فأقام الدولة وحافظ عليها وسار أصحابه من بعده على نهجه وتعاملوا مع السنن بوعي وبصيرة وصنعوا حضارة لم يعرف التاريخ البشري مثلها حتى يومنا هذا.
إن حركة النبي - صلى الله عليه وسلم - في تربية الأمة وإقامة الدولة، نور يهتدي به، وسنّة يقتدى بها في هذه البحور المتلاطمة والمناهج المتغايرة، والظلام البهيم وإنها ليسيرة على من يسرها الله له.
المبحث الثاني
الهجرة الى الحبشة
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (سورة النحل، الآية: 41).
فقد نقل القرطبي -رحمه الله- قول قتادة -رحمه الله- : (المراد أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة وجعل لهم انصاراً من المؤمنين)(1).
وقال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (سورة الزمر، الآية10).
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (10/107).(4/143)
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه الى الحبشة(1).
قال تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (سورة العنكبوت، الاية:56).
قال ابن كثير -رحمه الله-: هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين الى أرض الله الواسعة حتى يمكن إقامة الدين ... الى أن قال: ولهذا ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها، خرجوا مهاجرين الى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزل هناك أصحمة النجاشي ملك الحبشة، -رحمه الله تعالى-(2).
أولاً : الهجرة الأولى الى أرض الحبشة:
1- أسباب الهجرة الى الحبشة:
__________
(1) نفس المصدر (15/240).
(2) سيرة ابن هشام (1/343)، السيرة لابن كثير (2/3)، الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون، ص290.(4/144)
اشتد البلاء على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل الكفار يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ورمضاء مكة والنار ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء وقلبه مطمئن بالايمان ، ومنهم من تصلب في دينه ويعصمه الله منهم؛ فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مايصيب أصحابه من البلاء، وماهو فيه من العافية، لمكانه من الله، ومن عمه أبي طالب، وأنه لايقدر على أن يمنعهم مماهم فيه من البلاء، قال لهم: (لو خرجتم الى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق حتى يجعل لكم فرجاً مما أنتم فيه (فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً الى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الاسلام)(1)، وقد ذكر الباحثون أسباباً عديدة في سبب هجرة المسلمين الى الحبشة منها ماذكرت، ومنها ظهور الإيمان، حيث كثر الداخلون في الاسلام، وظهر الإيمان، وتحدث الناس به، قال الزهري في حديثه عن عروة في هجرة الحبشة: فلما كثر المسلمون، وظهر الايمان، فتُحدث به، ثار المشركون من كفار قريش بمن آمن من قبائلهم يعذبونهم ويسجنونهم وارادوا فتنتهم عن دينهم فلما بلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للذين آمنوا به: تفرقوا في الأرض، قالوا؛ فأين نذهب يارسول الله؟ قال: هاهنا، وأشار الى أرض الحبشة(2).
( ومنها ؛ الفرار بالدين:
كان الفرار بالدين خشية الافتتان فيه سبباً مهماً من أسباب هجرتهم للحبشة؛ قال ابن اسحاق: (فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى ارض الحبشة مخافة الفتنة وفراراً الى الله بدينهم)(3).
( ومنها؛ نشر الدعوة خارج مكة:
__________
(1) الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون، ص290.
(2) المغازي النبوية، للزهري، تحقيق : سهيل زكار، ص96.
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/398).(4/145)
قال الاستاذ سيد قطب: (ومن ثم كان يبحث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن قاعدة اخرى غير مكة، قاعدة تحمي هذه العقيدة وتكفل لها الحرية، ويتاح فيها أن تتخلص من هذا التجميد الذي انتهت إليه في مكة، حيث تظفر بحرية الدعوة وحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة، وهذا في تقديري كان هو السبب الأول والأهم للهجرة، ولقد سبق الاتجاه الى الحبشة، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل، والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند الى قرائن قوية، فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس وجاهة وقوة ومنعة من المسلمين، غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا، إنما هاجر رجال ذوا عصبيات، لهم من عصبيتهم -في بيئة قبلية- مايعصمهم من الأذى ويحميهم من الفتنة، وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين...)(1).
ووافق الغضبان سيد في ماذهب إليه: (وهذه اللفتة العظيمة من "سيد" رحمه الله، لها في السيرة مايعضدها ويساندها، وأهم مايؤكدها في رأي هو الوضع العام الذي انتهى إليه أمر مهاجرة الحبشة، فلم نعلم أن رسول الله قد بعث في طلب مهاجرة الحبشة حتى مضت هجرة يثرب وبدر وأحد والخندق والحديبية، لقد بقيت يثرب معرضة لاجتياح كاسح من قريش خمس سنوات وكان آخر هذا الهجوم والاجتياح في الخندق، وحين اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن المدينة قد أصبحت قاعدة أمينة للمسلمين وانتهى خطر اجتياحها من المشركين عندئذ بعث في طلب المهاجرين من الحبشة، ولم يعد ثمة ضرورة لهذه القاعدة الاحتياطية التي كان من الممكن أن يلجأ إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو سقطت يثرب في يد العدو(2).
__________
(1) في ظلال القرآن (1/29).
(2) المنهاج الحركي للسيرة (1/67،68).(4/146)
ويميل الأستاذ دروزة إلى أن فتح مجال للدعوة في الحبشة سبباً من أسباب هجرة الحبشة حيث يقول:(بل إنه ليخطر بالبال أن يكون من أسباب اختيار الحبشة النصرانية أمل وجود مجال للدعوة فيها، وأن يكون هدف انتداب جعفر متصلاً بهذا الأمل)(1) وذهب إلى هذا القول الدكتور سليمان بن حمد العودة: ومما يدعم الرأي القائل بكون الدعوة للدين الجديد في أرض الحبشة سبباً وهدفاً من أسباب الهجرة إسلام النجاشي، وإسلام آخرين من أهل الحبشة، وأمر آخر، فإذا كان ذهاب المهاجرين للحبشة بمشورة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتوجيهه فبقاؤهم في الحبشة إلى فتح خيبر بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتوجيهه، وفي صحيح البخاري: فقال جعفر: للأشعريين - حين وافقوه بالحبشة:(إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثا هنا، وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا)(2).
وهذا يعني أنهم ذهبوا لمهمة معينة - ولا أشرف من مهمة الدعوة لدين الله، وأن هذه المهمة قد انتهت حين طلب المهاجرون(3)
ومنها، البحث عن مكان آمن للمسلمين:
كانت الخطة الأمنية للرسول - صلى الله عليه وسلم - تستهدف الحفاظ على الصفوة المؤمنة ولذلك رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الحبشة تعتبر مكاناً آمناً للمسلمين ريثما يشتد عود الإسلام وتهدأ العاصفة، وقد وجد المهاجرون في أرض الحبشة ما أمنهم وطمأنهم، وفي ذلك تقول أم سلمة رضي الله عنها:(لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى لانؤذى.. )(4).
2- لماذا اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - الحبشة؟
__________
(1) سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - (1/265) عن الشامي، ص111.
(2) الصحيح مع الفتح (6/237).
(3) انظر: الهجرة الاولى في الاسلام، د. سليمان العودة، ص34.
(4) السيرة النبوية لابن هشام تحقيق همام ابو صعليك (1/413).(4/147)
هناك عدة أسباب تساعد الباحث للإجابة على لماذا اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - الحبشة؟ منها:
أ- النجاشي العادل:
أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى عدل النجاشي بقوله لأصحابه:( لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لايظلم عنده أحد)(1).
ب- النجاشي الصالح:
فقد ورد على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثناءه على ملك الحبشة بقوله:(وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي، لايظلم أحد بأرضه، وكان يثني عليه مع ذلك صلاح- أي يشيع عنه ذلك)(2) ويظهر هذا الصلاح في حمايته للمسلمين، وتأثره بالقرآن الكريم عندما سمعه من جعفر رضي الله عنه، وكان معتقده في عيسى عليه السلام صحيحاً.
ج- الحبشة متجر قريش:
إن التجارة كانت عماد الاقتصاد القرشي، والحبشة تعتبر من مراكز التجارة في الجزيرة، فربما عرفها بعض المسلمين عندما ذهبوا إليها في التجارة، أو ذكرها لهم من ذهب إليها قبلهم وقد ذكر الطبري في معرض ذكره لأسباب الهجرة للحبشة:(وكانت أرض الحبشة متجراً لقريش، يتجرون فيها، يجدون فيها رفاغاً من الرزق وأمناً، ومتجراً حسناً)(3).
كما ذكر ابن عبدالبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل الشعب، أمر من كان بمكة من المؤمنين أن يخرجوا الى أرض الحبشة، وكان متجراً لقريش..)(4).
وذكر ابن حبان - ضمن اختيار الحبشة مكاناً للهجرة - أنها كانت أرض دفئة ترحل إليها قريش رحلة الشتاء(5).
د- الحبشة البلد الآمن:
__________
(1) نفس المصدر (1/397).
(2) انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري (2/328).
(3) مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعروة بن الزبير ، ص104.
(4) انظر: الدرر في اختصار المغازي والسير، ص27.
(5) انظر: السيرة النبوية وأخبار الخلفاء، ص72.(4/148)
كانت قبائل العرب في تلك الفترة تدين بالولاء والطاعة لقريش وتسمع وتطيع لأمرها في الغالب، إذ لها نفوذ عليها، وكانت القبائل في حاجة لقريش في حجها وتجارتها، ومواسمها، وفوق ذلك كانوا يشاركون قريش في حرب الدعوة وعدم الاستجابة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أشار ابن إسحاق إلى نماذج من هؤلاء العرب الذين رفضوا عرضه ودعوته(1)، فإذا كان هذا في داخل الحزيرة، فلم يكن في حينها في خارج الجزيرة بلد أكثر أمناً من بلاد الحبشة، ومن المعلوم بعد الحبشة عن سطوة قريش من جانب، وهي لاتدين لقريش بالاتباع كغيرها من القبائل(2)، وفي حديث ابن اسحاق عن أسباب الحبشة مكاناً للهجرة أنها: أرض صدق، وأن بها ملكاً لايظلم عنده أحد(3)، فهي أرض صدق، وملكها عادل، وتلك من أهم سمات البلد الآمن(4).
و- محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للحبشة ومعرفته بها:
ففي حديث الزهري أن الحبشة كانت أحب الأرض إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهاجر إليها(5)، ولعل تلك المحبة لها أسباب منها،
( حكم النجاشي العادل.
( التزام الأحباش بالنصرانية، وهي أقرب إلى الإسلام من الوثنية، ولذلك فرح المؤمنون بانتصار النصارى على فارس المجوس المشركين في الفترة المكية سنة ثمان في البعثة كما في القرآن(6).
__________
(1) السير والمغازي، تحقيق سهيل زكار، ص232.
(2) انظر: هجرة الرسول وأصحابه في القرآن والسنّة، ص97، أحمد الجمل.
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/397).
(4) الهجرة الأولى في الاسلام، ص46.
(5) مغازي الزهيري، ص96.
(6) صحيح السيرة النبوية للطرهوني (2/152).(4/149)
( معرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأخبار الحبشة من خلال حاضنته أم أيمن رضي الله عنها، وأم أيمن هذه ثبت في صحيح مسلم وغيره أنها كانت حبشية(1)، ونقل ذلك عن ابن شهاب، وفي سننن ابن ماجة أنها كانت تصنع للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً فقال: ماهذا؟ فقالت: طعام نصنعه بأرضنا، فأحببت أن أصنع لك منه رغيفاً ..(2).
ولم تستطع أن تغير لكنتها الحبشية، ورخص لها النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما لاتستطيع نطقه، فلا يستبعد حديثها للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن طبيعة أرضها ومجتمعها وحكامها(3)؟ ، كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان خبيراً بطبائع وأحوال الدول التي في زمانه.
3- وقت خروج المهاجرين، وسرية الخروج والوصول إلى الحبشة:
غادر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة في رجب من السنة الخامسة للبعثة، وكانوا عشرة رجال، وأربع نسوة، وقيل خمس نسوة، وحاولت قريش أن تدركهم لتردهم إلى مكة وخرجوا في أثرهم حتى وصلوا البحر، ولكن المسلمين كانوا قد أبحروا متوجهين إلى الحبشة(4).
__________
(1) صحيح مسلم (3/1392)، تهذيب الأسماء واللغات للنووي (3/357).
(2) سنن ابن ماجة ، كتاب الأطعمة رقم 3336.
(3) انظر: الهجرة الأولى في الاسلام، ص48. يعتبر مبحث الحبشة جله أخذ من هذا الكتاب والذي بعده.
(4) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، أحزمي سامعون ، ص290، 291.(4/150)
وعند التأمل في فقه المرويات يتبين لنا سرية المهاجرين ففي رواية الواقدي:(فخرجوا متسللين سراً)(1) وعنه الطبري(2) وممن ذكر السرية في الهجرة، ابن سيد الناس(3)، وابن القيم(4)، والزرقاني(5)، ولما وصل المسلمون إلى أرض الحبشة أكرم النجاشي مثواهم، وأحسن لقاءهم ووجدوا عنده من الطمأنينة بالأمن مالم يجدوه في وطنهم وأهليهم، فعن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت:( لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار - النجاشي - أمنا على ديننا وعبدنا الله لانؤذى ولانسمع شيئاً نكرهه)(6).
د- أسماء أصحاب الهجرة الأولى إلى الحبشة:
من الرجال:
- عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس.
- عبدالله بن عوف بن عوف ابن عبد بن الحرث بن زهرة.
- الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد.
- أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبدشمس.
- مصعب بن عمير بن هشام بن عبدمناف بن عبدالدار.
- أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم.
- عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح.
- عامر بن ربيعة، حليف آل الخطاب، من عنز بن وائل.
- سهيل بن بيضاء وهو: سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث.
- أبو سبرة بن أبي رهم بن عبدالعزى بن أبي قيس عبد وُدّ بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر.
فكان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة ومن النساء:
- رقية بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -.
- سهلة بنت سهيل بن عمرو، أحد بني عامر بن لؤي، ولدت له بأرض الحبشة محمد بن أبي حذيفة.
- أم سلمة بنت أبي أمية ابن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، إمرأة أبي سلمة.
__________
(1) الطبقات (1/204).
(2) تاريخ الطبري (2/329).
(3) عيون الأثر (1/116).
(4) زاد المعاد (3/23).
(5) شرح المواهب (1/271).
(6) انظر: مسند الامام أحمد (1/201-202).(4/151)
- ليلى بنت أبي حثمة بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبدالله بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب، إمرأة عامر بن ربيعة.
- أم كلثوم بنت سهل بن عمرو ابن عبدشمس، إمرأة أبي سبرة بن أبي رهم(1).
وكان أول من هاجر منهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، روى يعقوب بن سفيان رحمه الله (إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط)(2).
إن المتأمل في الأسماء السالفة الذكر لايجد فيهم أحداً من الموالي الذين نالهم من أذى قريش وتعذيبها أشد من غيرهم، كبلال، وخباب، وعمار رضي الله عنهم، بل نجد غالبيتهم من ذوي النسب والمكانة في قريش، ويمثلون عدداً من القبائل، صحيح أن الأذى شمل ذوي النسب والمكانة كما طال غيرهم، ولكنه كان على الموالي أشد في بيئة تقيم وزناً للقبيلة وترعى النسب، وبالتالي فلو كان الفرار من الأذى وحده هو السبب في الهجرة، لكان هؤلاء الموالي المعذبون أحق بالهجرة من غيرهم، ويؤيد هذا أن ابن إسحاق وغيره ذكر عدوان المشركين على المستضعفين، ولم يذكر هجرتهم للحبشة(3).
__________
(1) البداية والنهاية (3/96-97)، سيرة ابن هشام (1/344-352). الهجرة في القرآن الكريم ص292 الى 294.
(2) السنّة لابن عاصم ، ص592، البداية والنهاية (3/67). نقلاً من الهجرة في القرآن الكريم، ص294.
(3) البلاذري، الأنساب (1/156-198)، ابن هشام (1/392-396).(4/152)
ويصل الباحث إلى حقيقة مهمة ألا وهي أن ثمة أسباباً أخرى تدفع للهجرة غير الأذى اختار لها النبي - صلى الله عليه وسلم - نوعية من أصحابه، تمثل عدداً من القبائل، وقد يكون لذلك أثر في حمايتهم لو وصلت قريش إلى إقناع أهل الحبشة بإرجاعهم من جانب، وتهز هجرتهم قبائل قريش كلها أو معظمهم حدث هجرتهم من جانب آخر، فمكة ضاقت بأبنائها ولم يجدوا بداً من الخروج عنها بحثاً عن الأمن في بلد آخر، ومن جانب ثالث يرحل هؤلاء المهاجرون بدين الله لينشروه إلى الآفاق، وقد تكون محلاً أصيب وأبرك للدعوة إلى الله فتفتح عقول وقلوب حين يستغلق سواها(1).
ثانياً: أسباب عودة المسلمين إلى مكة بعد هجرتهم الأولى:
1- شبهة عودة المهاجرين بسبب قصة الغرانيق:
يعزو بعض المؤرخين والمفسرين عودة المسلمين من الحبشة بعد الهجرة إلى مكة لأسطورة راجت كثيراً، واحتلت مساحات واسعة من كتب المستشرقين يقصدون بذلك ترويجها وجعلها حقيقة واقعة في تاريخ الدعوة الإسلامية.
إن الذين تعرضوا لذكر تلك الأسطورة ينهجون حيالها مناهج شتى، فمنهم من يذكرها ويسكت عليها لاينفيها ولايثبتها، ومنهم من يحاول إثباتها، ومنهم من يورد الأدلة على بطلانها(2).
وتلك الأسطورة تتلخص في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس يوماً عند الكعبة، وقرأ سورة النجم حتى بلغ قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى صدق الله العظيم وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى صدق الله العظيم } (سورة النجم، الآيتان: 19-20).
__________
(1) انظر: الهجرة الأولى في الاسلام، ص37.
(2) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص295.(4/153)
قرأ بعدها :(تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترجى) فقال المشركون: ماذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، وقد علمنا أن الله يرزق ويحيى ويميت ولكن آلهتنا تشفع عنده، فلما بلغ السجدة سجد، وسجد معه المسلمون والمشركون كلهم. إلا شيخاً من قريش، رفع إلى جبهته كفاً من حصى فسجد عليه(1).
وصافى المشركون رسول الله، وكفوا عن أذى المسلمين، وشاع في ذلك حتى بلغ من في الحبشة، فاطمئنوا إلى حسن إقامتهم في مكة، وممارستهم عباداتهم آمنين، فعادوا إلى مكة.
تلك خلاصة الأسطورة، والذين ذكروا القصة على خلال مواقفهم منها يقولون: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قالت قريش:(أما جعلت لآلهتنا نصيباً فنحن معك) كبر عليه ذلك وجلس في بيته حتى أمسى، ثم أتاه جبريل فقرأ عليه سورة النجم فقال جبريل: أوجئتك بهاتين الكلمتين؟ - يقصد (تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترجى) فحزن الرسول حزناً شديداً وخاف من ربه، فأنزل الله عليه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(2) (سورة الحج، الآية:52) وحينئذ عاد الرسول إلى عيب آلهتهم وتسفيه عقولهم، وعادوا هم كذلك إلى إيذاء المسلمين.
2- تفنيد القصة الباطلة:
أنكر هذه القصة الكثير من علماء الإسلام السابقين والمحدثين، نقلاً وعقلاً، وذلك لأنها تتنافى مع عصمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل وتطعن في نبوته عليه الصلاة والسلام كما أنها تتهاوى أمام البحث العلمي، ومن الأدلة النقلية على بطلانها،
__________
(1) انظر: مختصر سير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لمحمد عبدالوهاب، ص84.
(2) فتح القدير (3/416)، فتح الباري (8/355)، اسباب النزول للسيوطي على هامش الجلاليين (2/16)؛ الهجرة في القرآن الكريم، ص296.(4/154)
أ- أن القرآن الكريم بين بوضوح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لايستطيع أن يتقول على الله تعالى:{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ صدق الله العظيم لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ صدق الله العظيم ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ صدق الله العظيم } (سورة الحاقة، الآيات: 44-46).
ب- والله عزوجل قد أخبر بأنه يحفظ القرآن من أن يدخل عليه ما ليس منه أو ينقص منه شيء أو يحرف عن مواضعه، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (سورة الحجر، آية:9).
ولو صح أن الرسول نطق أثناء قراءته بالكلمتين المذكورتين لدخل في القرآن ماليس منه فلايكون هناك حفظ وهو مخالف للنص.
ج- قال تعالى:{ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (سورة النحل، الآية: 99). وهل هناك بشر أصدق إيماناً وأشد توكلاً على الله من الأنبياء ولاسيما خاتمهم - صلى الله عليه وسلم -، وقد أقر رئيس الشياطين بأنه لاسلطان له على عباد الله المخلصين، فقال تعالى:{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ صدق الله العظيم إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ صدق الله العظيم } (سورة ص، الآيتان: 82-83).
ومن أحق من الأنبياء بالاصطفاء؟ أو من أشد إخلاصاً منهم لله؟ ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على رأس المصطفين الأخيار، وفي الذروة منهم إخلاصاً لله(1).
وقد ذكر القاضي عياض: إن من ذكرها من المفسرين وغيرهم لم يسندها أحد منهم ولارفعها إلى صاحب إلا رواية البزار، وقد بين البزار: أنه لايعرف من طريق يجوز ذكره، سوى ماذكره، وفيه مافيه(2).
__________
(1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص298.
(2) انظر: الشفا (2/117).(4/155)
ورأى ابن حجر: وماقيل من ذلك أن السجود من المشركين بسبب إلقاء الشيطان في أثناء قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لاصحة له عقلاً ونقلاً(1).
ورأى ابن كثير: قد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها مسندة من وجه صحيح والله أعلم(2).
( وأما بطلان القصة من جهة العقل فقد قام الدليل العقلي وأجمعت الأمة على عصمته - صلى الله عليه وسلم - من مثل هذا، إذ لو جاز هذا من الرسول لجاز عليه الكذب، والكذب على الرسول محال، إذ صدور مثل هذه القصة عن الرسول محال، ولو قاله عمداً أو سهواً لم يكن هناك عصمة وهو مردود، كما أن القصة تخالف عقيدة التوحيد التي من أجلها بعث الله نبيه.
( وأما بطلان القصة لغوياً فلأنه لم يرد قط عن العرب أنهم وصفوا آلهتهم (بالغرانيق) في الشعر ولا في النثر، والذي تعرفه اللغة أن الغرنوق، والغرنيق اسم لطائر مائي أسود أو أبيض، ومن معانيه الشاب الأبيض الجميل(3)، ولاشيء من معانيه اللغوية يلائم معنى الآلهة والأصنام حتى يطلق عليهما في فصيح الكلام الذي يعرض على أمراء الفصاحة والبيان، فكيف يفرح به المشركون ويعتبرونه ذكراً لآلهتهم بالخير(4).
إن قصة الغرانيق لاتثبت من جهة النقل، وهي مخالفة للقرآن الكريم، ولما قام عليه الدليل العقلي، كما أنكرتها اللغة، وهذا مما يدلنا على أن حديث الغرانيق مكذوب اختلقته الزنادقة الذين يسعون لإفساد العقيدة والدين، والطعن في سيد الأنبياء وإمام المرسلين(5).
__________
(1) فتح الباري (8/614).
(2) تفسير ابن كثير والبغوي (6/600 ومابعدها). نقلاً عن الهجرة في القرآن ، ص298.
(3) القاموس المحيط (3/281) مادة (الغرنوق).
(4) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص298، 299.
(5) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنّة لأبي شهبة (1/372).(4/156)
3- الأسباب الحقيقية لعودة المسلمين:
عاش المسلمون ثلاثة أشهر من بدء الهجرة وحدث تغير كبير على حياة المسلمين في مكة، وظروفاً نشأت لم تكن موجودة من قبل، بعثت في المسلمين الأمل في إمكان نشر الدعوة في مكة، حيث أسلم في تلك الفترة حمزة بن عبدالمطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عصبية لابن أخيه ثم شرح الله صدره للإسلام فثبت عليه وكان حمزة أعز فتيان قريش وأشدهم شكيمة، فلما دخل في الإسلام عرفت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عز وامتنع وأن عمه سيمنعه ويحميه، فكفوا عن بعض ماكانوا ينالون منه(1).
وبعد إسلام حمزة - رضي الله عنه - أسلم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه وكان عمر ذا شكيمة لايرام، فلما أسلم امتنع به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبحمزة حتى عازوا قريشاً(2).
كان إسلام الرجلين العظيمين بعد خروج المسلمين إلى الحبشة، فكان إسلامهما عزة للمسلمين وقهراً للمشركين وتشجيعاً لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المجاهرة بعقيدتهم.
قال ابن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا مانصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه(3).
__________
(1) مختصر سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، محمد عبدالوهاب، ص90.
(2) السيرة النبوية (1/294)، وهازوا قريشاً: أي غلبوهم.
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/365).(4/157)
وعن ابن عمر قال: لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجمحي، قال: فغدا عليه، قال عبدالله: وغدوت معه أتبع أثره وأنظر ماذا يفعل حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد؟ قال: فوالله ماراجعه حتى قام يجر رداءه وتبعه عمر، واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يامعشر قريش وهم في أنديتهم حول الكعبة - ألا إن ابن الخطاب قد صبأ(1) قال: يقول عمر من خلفه: كذب ولكني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم وطلع فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا مابدا لكم فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لقد تركناها أو تركوها لنا(2) (لقد أصبح المسلمون إذاً في وضع غير الذي كانوا فيه قبل الهجرة إلى الحبشة، فقد امتنعوا بحمزة وعمر - رضي الله عنهما - واستطاعوا أن يصلوا عند الكعبة بعد أن كانوا لايقدرون على ذلك، وخرجوا من بيت الأرقم بن أبي الأرقم مجاهرين حتى دخلوا المسجد، وكفت قريش عن إيذائهم بالصورة الوحشية التي كانت تعذبهم بها قبل ذلك، فالوضع قد تغير بالنسبة للمسلمين، والظروف التي كانوا يعيشون فيها قبل الهجرة قد تحولت إلى أحسن، فهل ترى هذا يخفى على أحد؟ وهل تظن أن هذه التغييرات التي جرت على حياة المسلمين في مكة لم تصل إلى أرض الحبشة، ولو عن طريق البحارة الذين كانوا يمرون بجدة؟
__________
(1) صبأ: خرج من دين الى دين آخر: القاموس المحيط، باب الهمزة (1/20).
(2) سبل الهدى والرشاد للصالحي (2/498-499).(4/158)
لابد أن كل ذلك قد وصلهم، ولاشك أن هؤلاء الغرباء قد فرحوا بذلك كثيراً، ولايستغرب أحد بعد ذلك أن يكون الحنين إلى الوطن - وهو فطرة فطر الله عليها جميع المخلوقات - قد عاودهم ورغبت نفوسهم في العودة إلى حيث الوطن العزيز مكة أم القرى، وإلى حيث يوجد الأهل والعشيرة فعادوا إلى مكة في ظل الظروف الجديدة والمشجعة، وتحت إلحاح النفس وحنينها إلى حرم الله وبيته العتيق)(1).
لقد رجع المهاجرون إلى مكة بسبب ماعلموا من إسلام حمزة وعمر واعتقادهم أن إسلام هذين الصحابيين الجليلين سيعتز به المسلمون وتقوى شوكتهم.
ولكن قريش واجهت إسلام حمزة وعمر - رضي الله عنهما - بتدبيرات جديدة يتجلى فيها المكر والدهاء من ناحية، والقسوة والعنف من ناحية أخرى، فزادت في أسلحة الإرهاب التي تستعملها ضد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - سلاحاً قاطعاً وهو سلاح المقاطعة الاقتصادية - وقد تحدثت عنه - وكان من جراء ذلك الموقف العنيف أن رجع المسلمون إلى الحبشة مرة ثانية، وانضم إليهم عدد كبير ممن لم يهاجروا قبل ذلك(2).
ثالثاً: هجرة المسلمين الثانية إلى الحبشة:
__________
(1) تأملات في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، لمحمد سيد الوكيل، ص59؛ الهجرة في القرآن الكريم، ص302.
(2) انظر: القول المبين في سيرة سيد المرسلين، د. محمد النجار، ص111؛ الهجرة في القرآن الكريم، ص302.(4/159)
قال ابن سعد: قالوا: لما قدم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة من الهجرة الأولى اشتد عليهم قومهم وسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديداً، فأذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فكانت خرجتهم الثانية أعظمها مشقة، ولقوا من قريش تعنيفاً شديداً ونالوهم بالأذى واشتد عليهم مابلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم، فقال عثمان بن عفان: يارسول الله فهجرتنا الأولى وهذه الآخرة ولست معنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(أنتم مهاجرون إلى الله تعالى وإلي، لكم هاتان الهجرتان جميعاً) قال عثمان: فحسبنا يارسول الله(1).
وهاجر معهم كثيرون غيرهم أكثر منهم، وعدتهم - كما قال ابن اسحاق وغيره - ثلاثة وثمانون رجلاً إن كان عمار بن ياسر فيهم واثنان وثمانون رجلاً إن لم يكن فيهم، قال السهيلي وهو الأصح عند أهل السير كالواقدي، وابن عقبة وغيرهما(2)، وثماني عشرة امرأة: إحدى عشر قرشيات، وسبع غير قرشيات، وذلك عدا ابنائهم الذين خرجوا معهم صغاراً، ثم الذين ولدوا لهم فيها(3).
1- سعي قريش لدى النجاشي في رد المهاجرين:
__________
(1) طبقات ابن سعد (1/207) (ط. بيروت)؛ الهجرة في القرآن الكريم، ص303.
(2) انظر: الروض الأنف للسهيلي (3/228).
(3) انظر: الهجرة في القرآن الكريم ، ص303.(4/160)
فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد آمنوا، واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها داراً واستقراراً، وحسن جوار من النجاشي، وعبدوا الله لايؤذيهم أحد، ائتمروا فيما بينهم أن يبعثوا وفداً للنجاشي لإحضار من عنده من المسلمين إلى مكة بعد أن يوقعوا بينهم وبين ملك الحبشة، إلا أن هذا الوفد خدم الإسلام والمسلمين من حيث لايدري، فقد أسفرت مكيدته عند النجاشي عن حوار هادف دار بين أحد المهاجرين وهو جعفر بن أبي طالب، وبين ملك الحبشة أسفر هذا الحوار عن إسلام النجاشي، وتأمين المهاجرين المسلمين عنده(1)، فعن أم سلمة بنت أبي أمية المغيرة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار (النجاشي) أمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى لانؤذي ولانسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين(2)، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب مايأتيه منها إليه الأدم(3)، فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته(4) بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبدالله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم قال: فخرجا فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار وخير جار. فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لانعرفه نحن ولاأنتم،
__________
(1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص304.
(2) الجلد، القوة والشدة.
(3) الأدم: جمع أديم وهو الجلد المدبوغ.
(4) جمع بطريق: وهو الحاذق بالحرب وأمورها بلغة الروم.(4/161)
وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشرف قومهم، لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولايكلمهم فإن قومهم أعلى(1) بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهم: نعم ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا: أيها الملك إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لانعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آباءهم وأعمامهم لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.
قالت: ولم يكن شيء أبغض الى عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم، فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليردانهم الى بلادهم وقومهم.
قالت: فغضب النجاشي ثم قال: لا هايم(2) الله إذا لا أسلمهم إليهما ولا أكاد(3)، قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم مايقول هذان في أمرهم؟ فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم الى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم، ماجاوروني(4).
2- حوار بين جعفر والنجاشي:
__________
(1) أعلى بهم عيناً: قال السهيلي: أي أبصر بهم، أي عينهم وأبصارهم فوق عين غيرهم في أمرهم: الروض الأنف (1/92).
(2) كما لو قيل: هاوالله.
(3) لا أكاد: قال في اللسان: يقولون إذا حمل أحدهم مايكره لا والله ولاكيد.
(4) أخرجه أحمد (5/290) إسناده صحيح.(4/162)
ثم أرسل النجاشي الى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض ماتقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول، والله ماعلمنا وماأمرنا به نبينا - صلى الله عليه وسلم - كائناً في ذلك ماهو كائن؛ فلما جاءه وقد دعا النجاشي أساقفته(1)، فنشروا مصاحفهم(2) حوله، سألهم فقال: ماهذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟
قالت فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا الى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ماكنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقدف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لانشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
قالت: فعدد عليه أمور الاسلام -فصدقناه- وآمنا به، واتبعناه على ماجاء به فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ماحرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا الى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ماكنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا الى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك(3).
__________
(1) اساقفته: جمع الأسقف، وهو العالم والرئيس من علماء النصارى.
(2) أي أناجيلهم وكانوا يمسونها مصاحف.
(3) مسند الامام احمد (1/202،203).(4/163)
قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ قال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ؟
فقرأ عليه صدراً من {كهيعص} ، قالت: فبكى والله النجاشي، حتى أخضل(1) لحيته، وبكت أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ماتلا عليهم.
ثم قال النجاشي: إن هذا والله والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً ولا أكاد(2).
3- محاولة أخرى للدس بين المهاجرين والنجاشي:
فلما خرج كل من عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة من عند النجاشي قال عمرو بن العاص: والذي لآنبئهم غداً عيبهم عندهم، ثم أستأصل به خضراءهم(3)، قالت: فقال له عبدالله بن أبي ربيعة -وكان أتقى الرجلين فينا- لا تفعل، فإن لهم أرحاماً، وإن كانوا قد خالفونا.
قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد، قالت: ثم غدا عليه الغد فقال له: إيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه، قالت: فارسل إليهم يسألهم عنه - قالت: ولم ينزل بنا مثله، فاجتمع القوم فقال بعضهم لبعض ماذا تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول، والله فيه، ماقال الله، وماجاء به نبينا كائناً في ذلك ماهو كائن، فلما دخلوا عليه، قال لهم: ماتقولون في عيسى بن مريم؟
فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبدالله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها الى مريم العذراء(4)، البتول(5).
__________
(1) ابتلت بالدموع: يقال خضل وأخضل إذا ندي. النهاية (3/43).
(2) مسند الإمام أحمد (1/202، 203).
(3) استأصل به خضراءهم: أي أقضي به على دهمائهم وسوادهم؛ الهجرة في القرآن الكريم، ص307.
(4) العذراء: الجارية التي لم يمسها رجل وهي البكر.
(5) يقال امرأة بتول: متقطعة عن الرجال لا شهوة لها فيهم.(4/164)
قالت: فضرب النجاشي يده الى الأرض فأخذ منها عوداً، ثم قال: ماعدا عيسى بن مريم ماقلت هذا العود، فتناخرت(1) بطارقته حوله حين قال ماقال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي (والشيوم الآمنون) من يسبكم غَرِمَ، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دبراً ذهباً، وإني آذيت رجلاً منكم، والدبر بلسان الحبشة الجعل، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله ماأخذ الله مني الرشوة حين رد عليّ ملكي؛ فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في أطيعهم فيه، قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ماجاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار(2).
4- إسلام النجاشي:
وقد أسلم النجاشي، وصدق بنبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قد أخفى إيمانه عن قومه، لما علمه فيهم من الثبات على الباطل وحرصهم على الضلال، وجمودهم على العقائد المنحرفة وإن صادمت العقل والنقل(3)، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم الى المصلى، فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات)(4)، وعن جابر - رضي الله عنه - قال: (قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين مات النجاشي: مات اليوم رجل صالح فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة)(5).
رضي الله عنه وأرضاه وكانت وفاته -رحمه الله- سنة تسع عند الأكثر وقيل سنة ثمان قبل فتح مكة(6).
( دروس وعبر وفوائد:
__________
(1) فتناخرت: أي تكملت وكأنه كلام مع غضب ونفور.
(2) مسند الإمام أحمد (1/203) ورجاله رجال الصحيح.
(3) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص309.
(4) البخاري، كتاب الجنائز ، باب التكبير على الجنازة (5/64) رقم 1333.
(5) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب موت النجاشي، حديث رقم 3877.
(6) أسد الغابة (1/99)، الإصابة (1/109).(4/165)
إن ثبات المؤمنين على عقيدتهم بعد أن ينزل بهم الأشرار والضالون أنواع العذاب والاضطهاد، دليل على صدق إيمانهم وإخلاصهم في معتقداتهم، وسمو نفوسهم وأرواحهم، بحيث يرون ماهم عليه من راحة الضمير واطمئنان النفس والعقل، وما يأملونه من رضا الله جل شأنه أعظم بكثير مما ينال أجسادهم من تعذيب وحرمان واضطهاد، لأن السيطرة في المؤمنين الصادقين والدعاة المخلصين، تكون دائماً وأبداً لأرواحهم لا لأجسادهم، وهم يسرعون الى تلبية مطالب أرواحهم من حيث لايبالون بما تتطلبه أجسامهم من راحة وشبع ولذة، وبهذا تنتصر الدعوات وبهذا تتحرّر الجماهير من الظلمات والجهالات(1).
مما يتبادر الى الذهن من هذه الهجرة العظيمة، هو شفقة هذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، ورحمته بهم، وحرصه الشديد للبحث عما فيه أمنهم وراحتهم، ولذلك أشار عليهم بالذهاب الى الملك العادل الذي لايظلم أحد عنده، فكان الأمر كما قال صلوات الله وسلامه عليه، فأمنوا في دينهم ونزلوا عنده في خير منزل(2)، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي وجَّه الأنظار الى الحبشة، وهو الذي اختار المكان الآمن لجماعته ودعوته؛ كي يحميها من الإبادة، وهذه تربية نبوية لقيادات المسلمين في كل عصر أن تخطط بحكمة وبعد نظر لحماية الدعوة والدعاة، وتبحث عن الأرض الآمنة التي تكون عاصمة احتياطية للدعوة، ومركزاً من مراكز انطلاقها فيما لو تعرض المركز الرئيسي للخطر، أو وقع احتمال اجتياحه، فجنود الدعوة هم الثروة الحقيقية، وهم الذين تنصب الجهود كلها لحفظهم وحمايتهم، دون أن يتم أي تفريط بأرواحهم وأمنهم، ومسلم واحد يعادل ماعلى الأرض من بشر خارجين عن دين الله وتوحيده(3).
__________
(1) السيرة النبوية للدكتور مصطفى السباعي، ص57.
(2) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص312.
(3) انظر: التربية القيادية للغضبان (1/333).(4/166)
كانت الأهداف من هجرة الحبشة متعددة، ولذلك حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على اختيار نوعيات معينة لتحقيق هذه الأهداف، كشرح قضية الاسلام وموقف قريش منه، وإقناع الرأي العام بعدالة قضية المسلمين، على نحو ماتفعله الدول الحديثة من تحرك سياسي يشرح قضاياها وكسب الرأي العام الى جوارها(1)، وفتح أرض جديدة للدعوة، فلذلك هاجر سادات الصحابة في بداية الأمر ثم لحق بهم أكثر الصحب وأوكل الأمر الى جعفر - رضي الله عنه -(2).
إن وجود أبن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعفر، وصهره عثمان، وأبنته رقية رضي الله عنهم جميعاً في مقدمة المهاجرين له دلالة عميقة تشير الى أن الأخطار لابد أن يتجشمها المقربون الى القائد وأهله ورحمه، أما أن يكون خواص القائد في منأى عن الخطر، ويدفع إليه الأبعدون غير ذو المكانة، فهو منهج بعيد عن نهج النبي - صلى الله عليه وسلم -(3).
__________
(1) أضواء على الهجرة ، توفيق محمد سبع، ص427.
(2) انظر: التربية القيادية (1/333).
(3) نفس المصدر (1/333).(4/167)
مشروعية الخروج عن الوطن وإن كان الوطن مكة على فضلها إذ كان الخروج فراراً بالدين وإن لم يكن الى إسلام، فإن الحبشة كانوا نصارى يعبدون المسيح ولا يقولون: هو عبدالله، وقد تبين ذلك في هذا الحديث
-يعني حديث أم سلمة المتقدم- وسمو بهذه مهاجرين وهم أصحاب الهجرتين الذين أثنى عليهم بالسبق فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ} ، وجاء في التفسير: إنهم هم الذين شهدوا بيعة الرضوان(1)، فانظر كيف أثنى الله عليهم بهذه الهجرة وهم قد خرجوا من بيت الله الحرام الى دار الكفر، لما كان فعلهم ذلك احتياطاً على دينهم ورجاء أن يخلي بينهم وبين عبادة ربهم يذكرونه آمنين مطمئنين، وهذا حكم مستمر متى غلب المنكر في بلد وأوذى على الحق مؤمن ورأى الباطل قاهراً للحق ورجا أن يكون في بلد آخر -أي بلد كان- خلي بينه وبين دينه ويظهر فيه عبادة ربه فإن الخروج على هذا الوجه حتى على المؤمن، هذه الهجرة التي لا تنقطع الى يوم القيامة {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (سورة البقرة، الآية : 115)(2).
يجوز للمسلمين أن يدخلوا في حماية غير المسلمين إذا دعت الحاجة الى ذلك، سواء كان المجير من أهل الكتاب كالنجاشي إذا كان نصرانياً عندئذ، ولكنه أسلم بعد ذلك، أو كان مشركاً كأولئك الذين عاد المسلمون الى مكة في حمايتهم عندما رجعوا من الحبشة، وكأبي طالب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكالمطعم بن عدي الذي دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مكة في حمايته عندما رجع من الطائف(3).
__________
(1) تفسير الطبري (11/6)، تفسير ابن كثير (2/331).
(2) الروض الأنف للسهيلي (2/92)؛ الهجرة في القرآن الكريم، ص312.
(3) الهجرة في القرآن الكريم، ص316.(4/168)
وهذا مشروط -بحكم البداهة- بأن لاتستلزم مثل هذه الحماية إضراراً بالدعوة الاسلامية، أو تغييراً لبعض أحكام الدين، أو سكوتاً على اقتراف بعض المحرمات، وإلا لم يجز على المسلم الدخول فيها؛ ودليل ذلك ماكان من قفه - صلى الله عليه وسلم - حينما طلب منه أبو طالب أن يبقى على نفسه ولا يحمله مالا يطيق فلا يتحدث عن آلهة المشركين بسوء، فقد وطن نفسه إذ ذاك للخروج من حماية عمه وأبى أن يسكت عن شيء مما يجب عليه بيانه وإيضاحه(1).
7- إن اختيار الرسول - صلى الله عليه وسلم - الى اختيار الحبشة يشير الى نقطة استراتيجية هامة، تمثلت في معرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما حوله من الدول والممالك، فكان يعلم طيبها من خبيثها، وعادلها من ظالمها، الأمر الذي ساعد على اختيار دار آمنة لهجرة أصحابه، وهذا ماينبغي أن يكون عليه حال قائد الدعوة، الذي لابد أن يكون ملماً بما يجري حوله، مطلعاً على أحوال وأوضاع الأمم والحكومات(2).
__________
(1) فقه السيرة للبوطي، ص126؛ الهجرة في القرآن الكريم، ص317.
(2) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحيطة، ص101.(4/169)
8- يظهر الحس الأمني عند الرعيل الأول في هجرتهم الأولى وكيفية الخروج، فيتمثل في كونه تم تسللاً وخفية، حتى لا تفطن له قريش فتحبطه، كما أنه تم على نطاق ضيق لم يزد على ستة عشر فرداً، فهذا العدد لا يلفت النظر في حالة تسللهم فرداً أو فردين، وفي ذات الوقت يساعد على السير بسرعة، وهذا مايتطلبه الموقف فالركب يتوقع المطاردة والملاحقة في أي لحظة، ولعل السرية المضروبة على هذه الهجرة، فوتت على قريش العلم بها في حينها، فلم تعلم بها إلا مؤخراً، فقامت في إثرهم لتلحق بهم، لكنها اخفقت في ذلك، فعندما وصلت البحر لم تجد أحداً، وهذا مما يؤكد على أن الحذر هو مما يجب أن يلتزمه المؤمن في تحركاته الدعوية، فلا تكون التحركات كلها مكشوفة ومعلومة للعدو بحيث يترتب عليها الإضرار به وبالدعوة(1).
9- لم ترض قريش بخروج المسلمين الى الحبشة وشعرت بالخطر الذي يهدد مصالحها في المستقبل، فربما تكبر الجالية هناك وتصبح قوة خطرة، ولذلك جد المشركون وشرعوا في الأخذ بالأسباب لإعادة المهاجرين، وبدأت قريش تلاحق المهاجرين لكي تنزع هذا الموقع الجديد منهم في تخطيط محكم ذكي؛ فالهدايا الى النجاشي والهدايا الى بطارقته ووضعت الخطة داخل مكة، وكيف توزع الهدايا، ومانوعية الكلام الذي يرافق الهدايا، وصفات السفراء، فعمرو من أصدقاء النجاشي ومعروف بالدهاء؟ وما أحوجنا الى ألا نستصغر عدونا، وألا ننام عن مخططاته، وأن نعطيه حجمه الحقيقي، وندرس تحركاته، لنستعد لمواجهة مخططاته الماكرة(2).
نفذت خطة قريش بحذافيرها كاملة، ولكنها فشلت، لأن شخصية النجاشي التي تم جوارها -رفضت ان تسلم المسلمين قبل السماع منهم؛ وبذلك أتاحت الفرصة للمسلمين الى أن يعرضوا قضيتهم العادلة ودينهم القويم.
__________
(1) نفس المصدر، ص101.
(2) انظر: التربية القيادية (1/317).(4/170)
اجتمع الصحابة حين جاءهم رسول النجاشي وطلب منهم الحضور، وتدارسوا الموقف، وهكذا كان أمر المسلمين شورى بينهم، وكل أمر يتم عن طريق الشورى هو أدعى الى نجاحه، لأنه يضم خلاصة عقول كثيرة، وتبدوا مظاهر السمو التربوي في كون الصحابة لم يختلفوا، بل أجمعوا على رأي واحد، ألا وهو أن يعرض الاسلام كما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كائناً في ذلك ماهو كائن، وعزموا على عرض الاسلام بعزة وإن كان في ذلك هلاكهم(1).
كان وعي القيادة النبوية على مستوى الأحداث ولذلك وضع جعفر بن أبي طالب على إمارة المسلمين في الهجرة، وتم اختياره من قبل المسلمين المهاجرين ليتحدث بأسمهم بين يدي الملك، وليتمكن من مواجهة داهية العرب عمرو بن العاص، وقد امتازت شخصية جعفر بعدة أمور جعلتها تتقدم لسد هذه الثغرة العظيمة منها؛
( فجعفر بن أبي طالب ألصق الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد عاش معه في بيت واحد، فهو أخبر الناس بقائد الدعوة وسيد الأمة من بين كل المهاجرين الى الحبشة.
( وهذا الموقف بين يدي النجاشي يحتاج الى بلاغة وفصاحة، وبنو هاشم قمة قريش نسباً وفضلاً، وجعفر في الذؤبة من بني هاشم، والله تعالى قد اختار هاشماً من كنانة، واختار نبيه من بني هاشم؛ فهم أفصح الناس لساناً وأوسطهم نسباً.
( وهو ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يجعل النجاشي أكثر اطمئناناً وثقة بما يعرض عن ابن عمه(2).
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (2/92).
(2) انظر: التربية القيادية (1/335).(4/171)
( خلق جعفر المقتبس من مشكاة النبوة، وجمال خلقه المنحدر من أصلاب بني هاشم، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجعفر: (أشبهت خَلقي وخُلُقي)(1)، فالسفير بين يدي النجاشي كان قدوة لسفراء المسلمين على مر الزمان وكر العصور، فقد اتصف بسمات السفراء المسلمين، كالاسلام والإنتماء إليه، الفصاحة، العلم، حسن الخلق، الصبر، الشجاعة، الحكمة، سعة الحيلة، المظهر الجذاب(2).
كان عمرو بن العاص - رضي الله عنه - وهو يمثل في تلك المرحلة عداوة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على مستوى كبير من الذكاء والدهاء والمكر، وكان قبل دخول جعفر وحديثه قد شحن كل مالديه من حُجة ، وألقى بها بين يدي النجاشي من خلال النقاط الآتية:
تحدث عن بلبله جو مكة وفساد ذات بينها من خلال دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو سفير مكة وممثلها بين يدي النجاشي، فكلامه مصدق لا يعتريه الشك، وهو عند النجاشي موضع ثقة.
تحدث عن خطورة إتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - وربما سيزلزلون الأرض تحت قدمي النجاشي، كما أفسدوا جو مكة ولولا حب قريش للنجاشي وصداقتها معه ماتعنوا هذا العناء لنصحه (وأنت لنا عيبة صدق، تأتي الى عشيرتنا بالمعروف، ويأمن تاجرنا عندك) فلا أقل من رد المعروف بمثله، ولا أقل من وفاء حسن الجوار والعلاقة بين مكة والحبشة من تحذيره من هذه الفتنة المخيفة.
وأخطر مافي أمرهم هو خروجهم على عقيدة النجاشي وكفرهم بها (فهم لايشهدون أن عيسى ابن مريم إلهاً، فليسوا على دين قومهم وليس على دينك) فهم مبتدعة دعاة فتنة.
__________
(1) نفس المصدر (1/336).
(2) انظر: سفراء النبي صلى الله عليه وسلم، لمحمود شيت خطاب (2/252 الى 317).(4/172)
ودليل استصغارهم لشأن الملك، واستخفافهم به، أن كل الناس يسجدون للمك لكنهم لا يفعلون ذلك، فكيف يتم إيواؤهم عندك، وهو عودة الى إثارة الرعب في نفسه من عدم احترام الدعاة له حين يستخفون بملكه، ولايسجدون له، فكان على جعفر أن يفند كل الإتهامات الباطلة التي ألصقها سفير قريش بالمهاجرين(1).
كان رد جعفر على اسئلة النجاشي في غاية الذكاء وقمة المهارة السياسية، والاعلامية، والدعوية، والعقدية؛ فقام بالتالي:
عدد عيوب الجاهلية وعرضها بصورة تنفر السامع وقصد بذلك تشويه صورة قريش في عين الملك، وركز على الصفات الذميمة التي لا تنتزع إلا بنبوة.
عرض شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا المجتمع الآسن المليء بالرذائل، وكيف كان بعيداً عن النقائص كلها، ومعروفاً بنسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فهو المؤهل للرسالة.
ابرز جعفر محاسن الاسلام وأخلاقه التي تتفق مع أخلاقيات دعوات الأنبياء، كنبذ عبادة الأوثان وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ وكون النجاشي وبطارقته موغولون في النصرانية فهم يدركون أن هذه رسالات الأنبياء التي بعثوا بها من لدن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام.
فضح مافعلته قريش لهم؛ لأنهم رفضوا عبادة الأوثان، وآمنوا بما نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وتخلقوا بخلقه.
أحسن الثنا على النجاشي بما هو أهله، بأنه لايظلم عنده أحد وأنه يقيم العدل في قومه.
وأوضح أنهم اختاروه كهدفاً من دون الناس، فراراً من ظلم هؤلاء الذين يريدون تعذيبهم، وبهذه الخطوات البينة الواضحة دحر بها بلاغة عمرو وفصاحته، واستأثر بلب النجاشي وعقله، وكذلك استأثر بلب وعقل البطارقة والقسيسين الحاضرين .
__________
(1) انظر: التربية القيادية (1/319،340).(4/173)
وعندما طلب الملك النجاشي شيئاً مما نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، جاء صدر سورة مريم في غاية الإحكام والروعة والتأثير، حتى بكى النجاشي واساقفته، وبللوا لحاهم ومصاحفهم من الدموع، واختيار جعفر لسورة مريم، يظهر بوضوح حكمة وذكاء مندوب المهاجرين، فسورة مريم تتحدث عن مريم وعيسى عليهما السلام(1).
إن عبقرية جعفر - رضي الله عنه - في حسن اختيار الموضوع، والزمن المناسب، والقلب المتفتح، والشحنة العاطفية، أدت الى أن يربح الملك الى جانبه(2).
كان رده في قضية عيسى عليه السلام دليل على الحكمة والذكاء النادر، فرد بأنهم لايألهون عيسى ابن مريم، ولكنهم كذلك لايخوضون في عرض مريم -عليها السلام- كما يخوض الكاذبون -بل عيس ابن مريم كلمته وروحه ألقاها الى مريم البتول العذراء الطاهرة، وليس عند النجاشي زيادة عما قال جعفر، ولا مقدار هذا العود(3).
هم لا يسجدون للنجاشي، فهم معاذ الله أن يعدلونه بالله، ولاينبغي السجود إلا لله، لكنهم لايستخفون بالملك، بل يوقرونه ويسلمون عليه كما يسلمون على نبيهم، ويحيونه بما يحي أهل الجنة أنفسهم به في الجنة(4).
انتهى الأمر بأن أعلن النجاشي صدق القوم، وأيقن بأن هؤلاء صديقون وعزم على أن يكون في خدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يأتيه الناموس كناموس موسى، وأن يتقرب الى الله بحماية أصحابه وأكد لعمرو أنه لا يضيره تجارة قريش، ولا مال قريش، ولا جاهها، ولو قطعت علاقتها معه(5).
وبذلك انهزمت قريش في هذه الجبهة سياسياً ومعنوياً، وإعلامياً أمام مقاومة المسلمين الموفقة وخطواتهم، واساليبهم الرصينة.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية جوانب الحذر والحيطة، ص106.
(2) انظر : التربية القيادية (1/337).
(3) نفس المصدر (1/342).
(4) المصدر السابق (1/342).
(5) انظر: التربية القيادية (1/342).(4/174)
كان موقف جعفر وإخوانه مثالاً تطبيقياً لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مُؤنة الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله وكله الله الى الناس)(1) فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم قد ألتمسوا رضي الله عز وجل، مع أن الظاهر في الأمر أنه يترتب عليه في هذه القضية سخط أولئك النصارى وهم الذين لهم الهيمنة عليهم، فكانت النتيجة أن الله عز وجل سخر لهم ملك الحبشة حتى نطق بالحق الموافق لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع مخالفته الصريحة لمعتقدهم المنحرف الذي قام عليه ملكهم وما يغلب على الظن من ثورة النصارى المتعصبين(2).
كان عند بعض النصارى إيمان صحيح بدينهم، ولكنهم يكتمون ذلك لكون الغلبة والسيادة في الأرض لأصحاب الدين المحرّف، ومن الذين كانوا على الاعتقاد الصحيح ملك الحبشة، وكان يخفي إيمانه هذا مداراة لقومه إبقاء على نفسه وملكه، فلما وقع في هذا الابتلاء أظهر إيمانه، إرضاء لربه وإراحة لضميره وانتصاراً لحزب الله المؤمنين مهما ترتب على ذلك من نتائج؛ فكان بهذا الموقف من عظماء التاريخ(3).
ومن دروس هجرة الحبشة أن الجهل ببعض أحكام الإسلام لمصلحة راجحة لا يضر، قال ابن تيمية رحمه الله وهو يقرر العذر بالجهل: (ولما زيد في صلاة الحضر حين هاجر الى المدينة كان من بعيداً عنه مثل من كان بمكة، وبأرض الحبشة يصلون ركعتين، ولم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإعادة الصلاة(4).
__________
(1) سنن الترمذي، كتاب الزهد تحفة الاحوذي (7/97) صحيح الجامع الصغير رقم 5973.
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (2/105).
(3) نفس المصدر (2/106).
(4) الفتاوى (22/43).(4/175)
وقال الذهبي: (فلا يأثم أحد إلا بعد العلم وبعد قيام الحجة.. وقد كان سادة الصحابة بالحبشة ينزل الواجب والتحريم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يبلغهم إلا بعد أشهر فهم في تلك الأمور معذورون بالجهل حتى يبلغهم النص...)(1).
ومن دروس هجرة الحبشة؛ تفاضل الجهاد حسب الحاجة، فإذا كانت الهجرة للمدينة جهاداً ميزّ الله أصحابها وخصهم بالذكر والفضيلة، فقد نال هذا الفضل أصحاب هجرة الحبشة وأن تأخر لحوقهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فتح خيبر، وذلك للحاجة لبقائهم في الحبشة، وهذا ماأكده النبي لأصحاب السفينتين(2)، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ودخلت أسماء بنت عميس - وهي ممن قدم معنا - على حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - زائرة، فدخل عمر على حفصة، وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت أسماء بنت عميس، قال عمر: آلحبشية هذه، آلبحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكم، فغضبت وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم وكنا في دار أو في أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: يانبي الله إن عمر قال كذا وكذا، قال: فما قلت له؟ قالت: قلت له: كذا وكذا، قال: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان، قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث، مامن الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -(3)
__________
(1) الكبائر، ص12.
(2) انظر: الهجرة الأولى في الاسلام، ص205.
(3) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (5/8).(4/176)
20- كانت بداية إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه بأرض الحبشة، وهذا بلاشك أثر من آثار الهجرة للحبشة، وبرهان على ماحققه المهاجرون من مكاسب للدعوة من خلال مكوثهم بأرض الحبشة، وإن كانت كثير من المرويات تتجه إلى أن بداية إسلام عمرو بن العاص كانت على يد النجاشي وهو المشهور كما يقول ابن حجر(1)، وهي لطيفة لامثل لها إذ أسلم صحابي على يد تابعي، كما يقول الزرقاني(2)، وهناك مايفيد إسلام عمرو على يد جعفر رضي الله عنهم.
21- يرتبط زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأم حبيبة بهجرة الحبشة ارتباطاً وثيقاً، ويحمل هذا الزواج منه - صلى الله عليه وسلم - لأحد المهاجرات الثابتات معنى كبيراً وكان عقد الزواج على أم حبيبة رضي الله عنها وهي في أرض الحبشة وجاء تأكيده في كتب السنة، فقد روى أبو داود في سننه بسند صحيح عن أم حبيبة رضي الله عنها أنها كانت تحت عبيد الله ابن جحش، فمات بأرض الحبشة، فزوجها النجاشي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمهرها عنه أربعة آلاف، وبعث بها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع شرحبيل بن حسنة(3).
__________
(1) انظر: الهجرة الاولى في الاسلام، ص167.
(2) انظر: شرح المواهب (1/271).
(3) صحيح سنن ابي داود للألباني (2/396).(4/177)
ويستنتج الباحث من دلالات هذا الحدث المهم متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأحوال المهاجرين، ومشاركتهم في مصابهم، وتطييب أنفس الصابرين، وتقدير ثبات الثابتين وبالتتبع لأحوال المهاجرات لانجد (أم حبيبة) رضي الله عنها هي الوحيدة التي يُعنى الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بأمرها، ويواسيها في مصابها، بل سبق ذلك صنيعه مع (سودة) رضي الله عنها(1)، فلما رجعت مع زوجها إلى مكة من الحبشة توفي زوجها السكران بن عمرو، فلما حلَّت أرسل إليها - صلى الله عليه وسلم - وخطبها، فقالت: أمري إليك يارسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُري رجلاً من قومك يزوجك، فأمرت حاطب بن عمرو بن عبدشمس بن عبد ودّ فزوجها، فكانت أول إمرأة تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد خديجة(2).
وهذان الحدثان مؤشران من مؤشرات حكم تعدده - صلى الله عليه وسلم - في الزواج بشكل عام، ولهما دلالتهما وحكمتهما بالاهتمام بالنساء المجاهدات بشكل خاص هذا فضلاً عن مايمكن أن يقال أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يهدف أيضاً من وراء الزواج بأم حبيبة تخفيف عداوة (بني أمية) بشكل عام، وتخفيف عداوة زعيمهم أبي سفيان (والدها) بشكل أخص للإسلام ونبيه والمسلمين(3).
فالتأليف للإسلام وارد في السيرة والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان حريصاً على قومه بكل وسيلة لاتتنافى مع قيم الإسلام(4).
22- يرى بعض الباحثين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يحب أن يهاجر إلى الحبشة، لأسباب كثيرة:
- منها أنه ثبت - كما سيجئ - رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الهجرة أرضاً ذات نخل بين حرتين وأنه ظنها هجر(5).
__________
(1) انظر: الهجرة الأولى في الاسلام، ص188.
(2) الطبقات (8/3).
(3) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله، ص706،707.
(4) انظر: الهجرة الاولى ، ص188.
(5) هجر: هي الاحساء.(4/178)
- ومنها طبيعة الوضع الجغرافي للحبشة الذي يعوق انتشار الدعوة وبسط سلطانها على العالم.
- ومنها أن اختيار الجزيرة العربية - ومكة بالذات، ثم المدينة، لنزول الوحي وانطلاق الدين لم يكن اتفاقياً، بل كان لمميزات كثيرة(1).
- ومنها أن هذه البيئة الحبشية لم تكن لتسمح لهذا الدين اللاجئ أن ينمو إلى جوار المسيحية، ولم تكن الرومان وهي المهيمنة على المسيحية في العالم لتسمح للحبشة بذلك(2).
23- كانت الهجرة إلى الحبشة لها أثر في الحط من مكانة القرشيين عند سائر العرب، وإدانة موقفهم من الدعوة وحملتها، إذ كانت البيئة العربية تفتخر بإيواء الغريب وإكرام الجار وتتنافس في ذلك، وتحاذر السبة والعار في خلافه، فهاهم الأحباش يسبقون قريش ويؤوون من طرّدتهم وأساءت إليهم من أشراف الناس، ومن ضعفائهم، ومن غربائهم(3).
المبحث الثالث
عام الحزن ومحنة الطائف
أولاً: عام الحزن:
1- وفاة أبي طالب:
__________
(1) انظر: الغرباء الأولون، ص169،170.
(2) انظر: اضوء على الهجرة، ص156 الى 161، الهجرة في القرآن الكريم، ص320.
(3) انظر: الغرباء الأولون، ص170،171.(4/179)
كانت وفاة أبي طالب بعد مغادرة بني هاشم شعبه وذلك في آخر السنة العاشرة من المبعث(1)، وقد كان أبو طالب (يحوط النبي ويغضب له)(2) و (ينصره)(3)، وكانت قريش تحترمه، وعندما حضرته الوفاة جاء زعماء الشرك وحرضوه على الاستمساك بدينه وعدم الدخول في الإسلام قائلين: أترغب عن ملة عبدالمطلب؟ وعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام قائلاً: قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة، فقال أبو طالب: لولا تعيرني بها قريش يقولون إنما حمله عليها الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (سورة القصص، الآية:56) كانت أفكار الجاهلية راسخة في عقل أبي طالب، ولم يتمكن من تغييرها، فهو شيخ كبير يصعب عليه تغيير فكره وماألفه عن آبائه، وكان أقرانه حاضرين وقت احتضاره فأثَّروا عليه خوفا من شيوع خبر إسلامه وتأثير ذلك على قومه(4).
2- وفاة خديجة رضي الله عنها:
أما السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها فقد توفيت قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين(5) في نفس عام وفاة أبي طالب(6).
__________
(1) فتح الباري (7/194).
(2) صحيح البخاري (فتح الباري 7/193).
(3) صحيح مسلم (1/195).
(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/184).
(5) نفس المصدر (1/185).
(6) المصدر السابق (1/185).(4/180)
وبموت أبي طالب الذي أعقبه موت خديجة رضي الله تعالى عنها، تضاعف الأسى والحزن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفقد هذين الحبيبين اللذين كانا دعامتين من دعائم سير الدعوة في أزماتها، كان أبو طالب السند الخارجي الذي يدفع عنه القوم، وكانت خديجة السند الداخلي الذي يخفف عنه الأزمات والمحن، فتجرأ كفار قريش على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونالوا منه مالم يكونوا يطمعون به في حياة أبي طالب(1) وابتدأت مرحلة عصيبة في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجه فيها كثيراً من المشكلات والمصاعب والمحن والفتن حينما أصبح في الساحة وحيداً لاناصر له إلا الله سبحانه وتعالى، ومع هذا فقد مضى في تبليغ رسالة ربه إلى الناس كافة على مايلقى من الخلاف والأذى الشديد الذي أفاضت كتب الحديث وكتب السير بأسانيدها الصحيحة الثابتة في الحديث عنه، وتحمّل - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ماتنوء الجبال بحمله ولما تكالبت الفتن والمحن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بلده الذي نبت فيه وبين قومه الذين يعرفون عنه كل صغيرة وكبيرة عزم - صلى الله عليه وسلم - على أن ينتقل إلى بلد غير بلده وقوم غير قومه يعرض عليهم دعوته ويلتمس منهم نصرتهم رجاء أن يقبلوا منه ماجاءهم به من الله عزوجل، فخرج إلى الطائف وهي من أقرب البلاد إلى مكة(2).
ثانياً: رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف:
__________
(1) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص34.
(2) انظر: محنة المسلمين في العهد المكي، ص36 الى 45.(4/181)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتدي بالأنبياء والمرسلين الذين سبقوه في الدعوة إلى الله، فهذا نوح لبث في قومه داعياً {أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا.....} (سورة العنكبوت، الآية:14)، فكانت هذه الأعوام الطويلة عملاً دائباً، وتنويعاً متكرراً {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ صدق الله العظيم قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ صدق الله العظيم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ صدق الله العظيم يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ صدق الله العظيم قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا صدق الله العظيم فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا صدق الله العظيم وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا صدق الله العظيم ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا صدق الله العظيم ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا صدق الله العظيم } (سورة نوح، الآيات:1-10) رغم امتداد الزمن الطويل، ماتوقف عن الدعوة ولاضعفت همته في تبليغها، ولا ضعفت بصيرته وحيلته في تنويع أوقاتها وأساليبها، قال الآلوسي في تفسيره:{رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي} أي إلى الإيمان والطاعة {لَيْلاً وَنَهَارًا} أي دائماً من غير فتور ولاتوان، ثم وصف إعراضهم الشديد، وإصرارهم العنيد، ثم علق على قوله تعالى:{ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} فقال: أي دعوتهم مرة بعد مرة، وكرة غبَّ كرة، على وجوه مختلفة وأساليب متفاوتة، وهو تعميم لوجوه الدعوة،(4/182)
بعد تعميم الأوقات، وقوله:{ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} يشعر بمسبوقية الجهر بالسر، وهو الأليق بمن همه الإجابة لأنه أقرب إليها لما فيه من اللطف المدعو(1).
فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينوّع ويبتكر في أساليب الدعوة ودعا سراً وجهراً، وسلماً وحرباً، وجمعاً وفرداً، وسفراً وحضر، كما أنه عليه الصلاة والسلام قصَّ القصص، وضرب الأمثال، واستخدم وسائل الإيضاح بالخط على الأرض، وغيره، كما رغَّب وبشَّر، ورهَّب وأنذر، ودعا في كل آن، وعلى كل حال وبكل أسلوب مؤثر فعال(2)، فهاهو عليه الصلاة والسلام ينتقل إلى الطائف ثم يتردد على القبائل ثم يهاجر ويستمر في دعوة الخلق إلى الله تعالى.
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى لإيجاد مركز جديد للدعوة، وطلب النصرة من ثقيف، لكنها لم تستجب له وأغرت به صبيانها فرشقوه بالحجارة، وفي طريق عودته من الطائف التقى بعداس الذي كان نصرانياً فأسلم، وأرَّخ الواقدي الرحلة في شوال سنة عشر من المبعث بعد موت أبي طالب وخديجة، وذكر أن مدة إقامته بالطائف كانت عشرة أيام(3).
1- لماذا اختار الرسول - صلى الله عليه وسلم - الطائف؟
__________
(1) انظر: تفسير الآلوسي (10/89).
(2) انظر: مقومات الدعوة والداعية ، بادحدح، ص123.
(3) طبقات ابن سعد (1/221) نقلاً عن السيرة النبوية الصححية (1/185).(4/183)
كانت الطائف تمثل العمق الإستراتيجي لملأ قريش، بل كانت لقريش أطماع في الطائف، ولقد حاولت في الماضي أن تضم الطائف إليها ووثبت على وادي وج وذلك لما فيه من الشجر والزرع، حتى خافتهم ثقيف وحالفتهم وأدخلت معهم بني دوس(1)، وقد كان كثير من أغنياء مكة يملكون الأملاك في الطائف ويقضون فيها فصل الصيف، وكانت قبيلة بني هاشم وعبدشمس على اتصال مستمر مع الطائف، كما كانت تربط مخزوم مصالح مالية مشتركة بثقيف(2)، فإذا اتجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف فذلك توجه مدروس وإذا استطاع أن يجد له فيها موضع قدم وعصبة تناصره، فإن ذلك سيفزع قريشاً ويهدد أمنها ومصالحها الاقتصادية تهديداً مباشراً، بل قد يؤدي لتطويقها وعزلها عن الخارج. وهذا التحرك الدعوي السياسي الاستراتيجي الذي يقوم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدل على حرصه في الأخذ بالأسباب لإيجاد دولة مسلمة أو قوة جديدة تطرح نفسها داخل حلبة الصراع، لأن الدولة أو إيجاد القوة التي لها وجودها من الوسائل المهمة في تبليغ دعوة الله إلى الناس.
عندما وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف اتجه مباشرة إلى مركز السلطة وموضع القرار السياسي في الطائف(3).
2- أين كان موضع السلطة في الطائف؟
__________
(1) انظر: شرح العسقلاني لصحيح البخاري، كتاب الكفالة (4/373).
(2) انظر: أصول الفكر السياسي، ص173.
(3) المصدر السابق نفسه، ص174.(4/184)
كان بنو مالك والأحلاف - بحكم أسبقيتهم الزمنية للاستيطان هما المسيطرين عليها وتنتهي إليهما قيادتها، فكانت لهما الرئاسة الدينية المتمثلة في رعاية المسجد، بالإضافة إلى الزعامة السياسية العامة والعلاقة الخارجية والنفوذ الاقتصادي، إلا أنهما مع ذلك لم يكونا في وضع يمكنهما من الدفاع عن منطقة الطائف التي كانت من أخصب بلاد العرب وأكثرها جذباً للأنظار والأطماع فكانا يخافان قبيلة هوازن، ويخافان قريش ويخافان بني عامر، وكلها قبائل قوية وقادرة على الانقضاض والاستلاب، ولذلك فقد اعتمد زعماء الطائف على سياسة المهادنة وحفظ الاستقرار السياسي عن طريق المعاهدات والموازنات وهي عين الطريقة التي كانت تسير عليها قريش، فصار بنو مالك يوثقون علاقاتهم مع هوازن ليأمنوا شرها، وصار الأحلاف يرتبطون بقريش لتأمين جانبها(1).
__________
(1) انظر: أصول الفكر السياسي في القرآن، ص174.(4/185)
هذا ولم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - غافلاً عن هذه الشبكة من العلاقات والمعاهدات وهو يتجه إلى الطائف، بل كان يعرف أن الطائف لم تكن توجد بها سلطة مركزية واحدة، وإنما يقتسم السلطة فيها بطنان من بطون العرب بموجب اتفاقية داخلية، وأن أيا منهما كان يدور في فلك قبيلة خارجية أقوى، فإذا استطاع أن يستميل إليه أياً منهما فسوف يكون لذلك أثر كبير في ميزان القوى السياسية، هذا على وجه العموم، أما إذا استطاع على وجه الخصوص أن يستميل إليه الأحلاف، وهو المعسكر المتحالف مع قريش، فإن خطته تكون قد بلغت تمامها وهو أمر غير مستحيل، فهو يعلم أن موادة هذا المعسكر لقريش لاتقوم على القناعة المذهبية أو الولاء الديني بقدر ماتقوم على أساس التخوف من قريش، وعلى هذا التقدير للوضع السياسي اتجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة - حينما دخل الطائف - إلى بني عمرو بن عمير الذين يترأسون الأحلاف ويرتبطون بقريش، ولم يذهب إلى بني مالك الذين يتحالفون مع هوازن(1)، قال ابن هشام في السيرة: (لما انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة، عبد ياليل بن عمرو، ومسعود بن عمرو، حبيب بن عمرو وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح(2) غير أن بني عمرو كانوا شديدي الحذر وكثيري التخوف، فلم يستجيبوا لدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل بالغوا في السفه وسوء الأدب معه، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف وقال لهم: إذا فعلتم مافعلتم فاكتموا عني(3) وكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ قومه عنه فيؤزرهم ذلك عليه، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يود أن تتم اتصالاته تلك في جو من السرية وألا تنكشف تحركاته
__________
(1) انظر: أصول الفكر السياسي في القرآن، ص175.
(2) سيرة ابن هشام (2/78).
(3) سيرة ابن هشام (2/78).(4/186)
لقريش(1)، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يهتم كثيراً بجوانب الحيطة والحذر، فقد؛
أ- كان خروجه من مكة على الأقدام حتى لا تظن قريش أنه ينوي الخروج من مكة، لأنه لو خرج راكباً فذلك مما يثير الشبهة والشكوك، وأنه ينوي الخروج والسفر الى جهة ما، مما قد يعرضه للمنع من الخروج من مكة دون اعتراض من أحد.
ب- واختيار الرسول - صلى الله عليه وسلم - زيداً كي يرافقه في رحلته، فيه جوانب أمنية، فزيد هو ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتبني، فإذا رآه معه أحد، لا يثير ذلك أي نوع من الشك، لقوة الصلة بينهما، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - عرف زيداً عن قرب، فعلم فيه الإخلاص والأمانة والصدق، فهو إذن مأمون الجانب، فلا يفشي سراً، ويعتمد عليه في الصحبة، وهذا ماظهر عندما كان يقي النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجارة بنفسه، حتى أصيب بشجاج في رأسه.
ج- وعندما كان رد زعماء الطائف رداً قبيحاً مشوباً بالاستهزاء والسخرية، تحمله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يغضب أو يثور، بل طلب منهم أن يكتموا عنه، فهذا تصرف غاية في الحيطة، فإذا علمت قريش بهذا الاتصال، فإنها لا تسخر منه فحسب، بل ربما شددت عليه في العذاب والاضطهاد، وحاولت رصد تحركاته داخل وخارج مكة(2).
3- تضرع ودعاء:
__________
(1) انظر: أصول الفكر السياسي في القرآن المكي.
(2) السيرة النبوية جوانب الحيطة والحذر، ص109،110.(4/187)
كان بنوعمرو لئاماً فلم يكتموا خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل أغرو به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويرمون عراقيبه بالحجارة، حتى دمت، عقباه وتلطخت نعلاه، وسال دمه الزكي على أرض الطائف ومازالوا به وبزيد بن حارثة حتى ألجأوهما الى حائط -بستان- لعتبة وشيبة ابني ربيعة وهما فيه، فكره مكانهما لعداوتهما الله ورسوله، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد الىظل شجرة من عنب، فجلس فيه هو وصاحبه زيد، ريثما يستريحا من عنائهما، وما أصابهما، وابنا ربيعا ينظران إليه، ويريان مالقي من سفهاء أهل الطائف، ولم يحركا ساكناً، وفي هذه الغمرة من الأسى والحزن، والآلام النفسية والجسمانية توجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الى ربه بهذا الدعاء الذي يفيض إيماناً ويقيناً، ورضىً بما ناله في الله، واسترضاء الله: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، ياأرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، الى من تكلني؟ الى بعيد يتجهمني؟ أم الى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي.
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك لك العُتبى(1) حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله)(2).
__________
(1) العتبى: الاسترضاء.
(2) ذهب الدكتور العمري الى تضعيف الحديث في كتابه السيرة النبوية الصحيحة (1/186) وذهب إبراهيم العلي الى صحته وبين أن للحديث شاهد يقويه ولذلك اعتبره صحيح وذكره في كتابه صحيح السيرة النبوية، ص136، وذهب الدكتور عبدالرحمن عبدالحميد البر مدرس الحديث وعلومه في جامعة الازهر أن الحديث بطريقيه قوي مقبول وخرّج طرقه في كتابه الهجرة النبوية المباركة، ص38.(4/188)
وإنا لنلمح في هذا الدعاء عمق توحيد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومبلغ تجرده لله جل وعلا، فهو لم يشعر لهذا الحزن المفضي والهم المتواصل ليدرأ عن نفسه الأذى أو ليجلب لنفسه شيئاً من حياة الهدوء والنعيم، بل هو يستعذب كل هذا الأذى من أجل الله تعالى، غير أنه مشفق من غضب ربه سبحانه أن يكون قصّر في أمر من أمور الدعوة من غير أن يشعر فيتعرض لشيء من غضب مولاه جل وعلا، فرضوان الله تعالى إذاً هو الهدف الأعلى عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو المطلب الأعظم الذي تُسَخَّر له كل المطالب، وإذا كان البلاء من الله تعالى من أجل أن يحل رضاه وينجلي سخطه فحيهلا بالبلاء، وهو ساعتئذ نعمة ورخاء.
ثم يختم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاءه بالكلمة العظيمة التي يقولها وعلمَّ أصحابه أن يقولوها عند حلول المكاره (ولا حول ولا قوة إلا بك) فلا تحوُّل للمؤمن من حال الشدة الى حال الرخاء، ولا من الخوف الى الأمن إلا بالله تعالى، ولا قوة على مواجهة الشدائد وتحمُّل المكاره إلا بالله جل وعلا(1).
إن الدعاء من أعظم العبادات، وهو سلاح فعّال في مجال الحماية للإنسان وتحقيق أمنه، فمهما بلغ العقل البشري من الذكاء والدهاء فهو عرضة للزلل والإخفاق وقد تمر على المسلم مواقف يعجز فيها عن التفكير والتدبير تماماً، فليس له مخرج منها سوى أن يجأر الى الله بالدعاء، ليجد فرجاً ومخرجاًً، فعندما لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل الطائف الأذى والطرد والسخرية والاستهزاء وأصبح هائماً على وجهه، لجأ الى الله بالدعاء فما أن انتهى من الدعاء حتى جاءت الإجابة من رب العالمين مع جبريل وملك الجبال(2).
4- الرحمة والشفقة النبوية:
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (3/20).
(2) انظر: السيرة النبوية جوانب الحيطة والحذر، ص112، 113.(4/189)
كانت رحمته وشفقته العظيمة هي التي تغلب في المواقف العصيبة التي تبلغ فيها المعاناة أشد مراحلها وتضغط بعنف على النفس لتشتد وتقسو، وعلى الصدر ليضيق ويتبرم، ومع ذلك تبقى نفسه الكبيرة ورحمته العظيمة هي الغالبة(1).
فعن عائشة رض الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل أتى عليك يوم كان أشد من أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك مالقيت وكان أشدَّ مالقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني الى ماأردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب(2)، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وماردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال، فسلَّم عليَّ ثم قال: يامحمد فقال: ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لايشرك به شيئاً(3).
كان أصابته - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد أبلغ من الناحية الجسمية، أما من الناحية النفسية فإن إصابته يوم الطائف أبلغ وأشد لأن فيها إرهاقاً كبيراً لنفسه ومعاناة فكرية شديدة جعلته يستغرق في التفكير من الطائف الى قرن الثعالب(4).
5- من مناهج التغيير:
__________
(1) انظر: مقومات الداعية الناجح، ص76.
(2) هو قرن المنازل ميقات أهل نجد ويسمى الآن السيل الكبير.
(3) صحيح البخاري رقم 3231.
(4) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (3/26،27).(4/190)
كان مقترح ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، وهو يدخل تحت أسلوب الاستئصال وقد نفذ في قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط قال تعالى: {فَكُلأًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (سورة العنكبوت، الآية: 40).
وكان هناك اقتراح آخر وهو أن يستمر في هجرته والابتعاد عن مكة والطائف الكافرتين؛ فالأولى أخرجته والثانية خذلته وعرض ذلك الأمر زيد بن حارثة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن القيم: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن لم يجد ناصراً في الطائف، انصرف الى مكة ومعه مولاه زيد بن حارثة محزوناً وهو يدعو بدعاء الطائف المشهور، فأرسل ربه تبارك وتعالى ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة، وهما جبلاها اللذان كانت بينهما، فقال لا بل أستأني بهم لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً، وأقام بنخلة أياماً، فقال له زيد بن حارثة: (كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك. يعني قريشاً، وخرجت تستنصر فلم تنصر، يعني الطائف) فقال: (يازيد : إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه..)(1).
__________
(1) انظر: زاد المعاد (2/46).(4/191)
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفض منهج الاستئصال وامتنع عن فكرة الاعتزال أو الهجرة المستمرة، ونظر الى المستقبل بنور الإيمان وقرر الدخول الى مكة الكافرة ليواصل جهاده الميمون ويستثمر كل مايستطيعه من أجل دعوة التوحيد لم يحتار النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المنهجين السابقين بل تقدم نحو المنهج البديل الذي عزم عليه وهو منهج يقوم على فكرة دخول مكة الكافرة وليس الانسحاب منها ويقوم على ضرورة الوجود على ذات الأرض التي يقف عليها الكافرون، واعتصار مؤسساتها واستثمار علاقاتها، وتحوير غاياتها ليتغذى بكل ذلك مجتمع المؤمنين الذي سيولد من أحشائها؛ أي أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يتخذ من أصلاب الكافرين مصانع بشرية تخرج أجيالاً من المسلمين المقاتلين في سبيل الله، فالنظر النبوي هنا مصوب نحو المستقبل بصورة جلية، ولم يكن ذلك يعني الانسحاب من الحاضر(1)، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عزم على دخول مكة مرة ثانية؛ غير أن ظاهر الأحوال تدل على أن دخول مكة لم يكن أمراً هيناً ولا آمناً، وهنالك احتمال كبير للغدر به ولاغتياله من قبل قريش، التي لا يمكن أن تصبر أكثر؛ وهو قد أعلن الخروج عليها وذهب يستنصر بالقبائل الاخرى ويوقع بينها وبين حلفائها؛ ثم إنه حتى لو لم تكن هناك خطورة على شخصه، فإن دخوله الى مكة بصورة (عادية) وقد طردته الطائف، سيجعل أهل مكة يصورون الأمر كهزيمة كبيرة أصابت المسلمين ويجترئون عليهم ويزدادون سفهاً؛ ولذلك فقد اتجه نظر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه المرة الى تفجير مكة من الداخل بدلاً من تطويقها من الخارج؛ أي أراد أن يتغلغل في داخل بطون قريش ذاتها، ويوجد له حلفاء من بينهم ويكوّن له وجوداً في قلبها(2).
__________
(1) انظر: أصول الفكر السياسي في القرآن المكي، ص176.
(2) نفس المصدر، ص177،178.(4/192)
يذكر ابن القيم في كتابه زاد المعاد: (ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - لما انصرف من الطائف ولم يجيبوه الى مادعاهم إليه من تصديقه ونصرته، صار الى حراء ثم بعث الى الأخنس بن شريق ليجيره فقال: أناحليف والحليف لايجير؛ فبعث الى سهيل بن عمرو، فقال له: إن بني عامر لاتجير على بني كعب؛ فبعث الى المطعم بن عدي سيد قبيلة بني نوفل بن عبد مناف، بعث إليه رجلاً من خزاعة، أأدخل في جوارك؟ فقال: نعم: ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمداً، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى الى المسجد الحرام؛ فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى (يامعشر قريش إني قد أجرت محمداً فلا يهجه أحد منكم)، فانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى الركن فأستلمه وصلى ركعتين وانصرف الى بيته والمطعم بن عدي وولده محدقون بالسلاح حتى دخل بيته)(1).
وفي جواب الأخنس وسهيل نظر، لأنهما لو لم يكونا ممن يجير لما سألهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ لمعرفته - صلى الله عليه وسلم - لأعراف قومه وعاداتهم كيف وعامر الذي هو جد سهيل، وكعب أخوان، أبوهما لؤي، فهما سواء في مكانهما، يجير أحدهما على الآخر هكذا قال الزرقاني(2).
__________
(1) زاد المعاد (2/47).
(2) محمد رسول الله، لصادق عرجون (2/324).(4/193)
لقد تغير الوضع كثيراً بسبب منهجية الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجديدة، فبدلاً من أن يدخل مكة منهزماً مختفياً، دخلها ويحرسه بالسلاح سيد من سادات قريش على مسمع منهما ومرأى، هذا ونلاحظ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أختار رجلاً من خزاعة فبعثه رسولاً، وفي هذين الاختيارين حنكة سياسية مدهشة، ووعي تاريخي ودبلوماسي عميق، لأن نوفل، وهو الأب الأكبر لقبيلة بني نوفل التي يتزعمها المطعم بن عدي آنئذ، كان خصيماً لعبد المطلب جد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية، فقد وثب على أفنية وساحات كانت لعبدالمطلب واغتصبها؛ فاضطرب عبدالمطلب لذلك واستنهض قومه فلم ينهض كبير أحد منهم؛ فكتب الى أخواله من بني النجار من الخزرج قصيدة يستنصرهم؛ قالوا فقدم عليه منهم جمع كثيف فأناخوا بفناء الكعبة وتنكبوا القسي وعلقوا التراس؛ فلما رآهم نوفل، قال: لشر ما قدم هؤلاء؟ فكلموه فخافهم ورد أركاح عبدالمطلب إليه؛ فلمانصر بنو الخزرج عبدالمطلب قالت خزاعة وهم قد قووا وعزوا: والله مارأينا بهذا الوادي أحد أحسن وجهاً ولا أتم خلقاً ولا أعظم حلماً من هذا الانسان، يعنون عبدالمطلب، وقد نصره أخواله من الخزرج، ولقد ولدناه كما ولدوه وإن جده عبد مناف لابن حبي بنت حليل بن حبشية سيد خزاعة، ولو بذلنا له نصرنا وحالفنا، انتفعنا به وبقومه وانتفع بنا، فأتاه وجوههم، فقالوا ياأبا الحارث إنا قد ولدناك كما ولدك قوم من بني النجار، ونحن بعد متجاورون في الدار، وقد أماتت الأيام مايكون في قلوب بعضنا على قريش من الأحقاد، فهلم فنحالفك فأعجب ذلك عبدالمطلب وقبله وسارع إليه، ولم يحضر أحد من بني نوفل ولا عبد شمس(1).
__________
(1) انظر: أنساب الأشراف للبلاذري (1/71) تحقيق محمد حميد الله، دار المعارف بمصر بدون تاريخ.(4/194)
هذا النص يشير الى جذور الصراع التاريخي القديم بين خزاعة وقريش، حينما جمع قصي بن كلاب قريشاً من متفرقات المواقع، وقاتل بهم خزاعة التي كانت لديها رئاسة البيت وسيادة العرب، فأخرج خزاعة من البيت وقسم مكة أرباعاً على قريش، فما زالت خزاعة مبغضة لقريش كارهين لها؛ ولما اضطرب الأمر بين قريش وعبدالمطلب تحالفت خزاعة مع عبدالمطلب نكاية بقريش وإضعافاً لها؛ وليس صحيحاً أن الأيام قد أماتت ماكان في قلوب بعضهم على قريش من الأحقاد، كما ذكر وفدهم، بل الصحيح أن الأحقاد لم تزل حية والصارع لم يزل مستمراً، ومما يدل على ذلك أن بني نوفل وبني عبد شمس لم يدخلا ولم يحضرا هذا الحلف؛ إذ أنه حلف مضاد لهما.
فإذا بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من خزاعة الى سيد قبيلة بني نوفل فإن هذا الفعل إشارة ظاهرة الى تلك الوقائع التاريخية التي ذكرناها، كما فيها تذكير بالحلف القديم بين عبدالمطلب وخزاعة، ضد بني نوفل وعبد شمسن ليفهم من ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لايقف معزولاً في مكة، وأنه قد يفعل ما فعله جده عبدالمطلب، فيتحالف مع خزاعة، أو يستنصر بالخزرج؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في الواقع (يستعطف) المطعم بن عدي سيد بني نوفل ليدخل في جواره، بقدر ماكان يهدده ويثير مخاوفه، وحماية المطعم بن عدي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن مجرد (أريحية) ونبل، بقدر ماكانت رعاية لمصلحته وحماية لوضعه، وصمت قريش وهي ترى محمداً - صلى الله عليه وسلم - يدخل في جوار بني نوفل ويحرسونه بالسلاح لم يكن خوفاً من سلاح نوفل، وإنما خوفاً من سلاح خزاعة وقسي الخزرج(1).
كما لاننسى أن المطعم ممن قام بنقض الصحيفة الظالمة مع من ذكرنا فيما مضى، وممن تحسن موقفه بعد تقريع ابي طالب له، عندما قال:
أمطعم لم أخذلك في يوم نجدة
... ... ... ولا معظم عند الأمور الجلائل
__________
(1) انظر: أصول الفكر السياسي في القرآن المكي، ص180.(4/195)
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً
... ... ... عقوبة شر عاجلاً غير آجل(1)
وقد حفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنيع مطعم بن عدي، وعرف مدى الخطورة التي عرض نفسه وولده وقومه لها من أجله، فقال عن اسارى بدر السبعين يوم أسرهم: (لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم)(2).
فرغم العداء العقدي فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفرق بين من يعادي هذه العقيدة ويحاربها، ومن يناصرها ويسالمها، إنهم وإن كانوا كفاراً فليس من سمة النبوة أن تتنكر للجميل(3).
وقد أثنى شاعر الرسول - صلى الله عليه وسلم - حسان بن ثابت على موقف مطعم فقال في مدحه:
فلو كان مجدٌ مخلد اليوم واحداً
... ... ... من الناس نجَّى مجده اليوم مطعماً
أجرت رسول الله منهم فأصبحوا
... ... ... عبادك مالَّيس مُحلُّ وأحَرَما
فلو سُئلت عنه معد بأسرها
... ... ... وقحطان أو باقي بقية جرهما
لقالوا هو المُوفي بخُفرة جاره
... ... ... وذمته يوماً إذا ما تجشّما
وما تطلع الشمس المنيرة فوقهم
... ... ... على مثله فيهم أعزَّ وأكرما
إباء إذا يأبى وألين شيمة
... ... ... وأنوم عن جار إذا الليل أظلما(4)
وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرّ حسان بن ثابت - رضي الله عنه - في ثنائه البالغ على المطعم بن عدي، وكونه - صلى الله عليه وسلم - أنثى عليه أيضاً الى حدٍّ أنه أبدى استعداده لأن يتنازل عن الأسرى لو كان المطعم حياً وكلمه فيهم؛ دليل واضح على أن من شريعة الإسلام الاعتراف بفضل أهل الفضل والثناء عليهم بمآلهم من معروف وإن كانوا غير مسلمين(5).
__________
(1) انظر: التحالف السياسي في الإسلام، ص36.
(2) البخاري، كتاب 64 باب شهود الملائكة (3/110).
(3) انظر: التحالف السياسي ، ص44.
(4) البداية والنهاية (3/136).
(5) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (3/32).(4/196)
وهكذا - صلى الله عليه وسلم - كان يوظف الأعراف والتقاليد التي في مجتمعه لمصلحة الاسلام، فكان ينظر للبناء الاجتماعي القائم، باعتباره حقيقة موضوعية تاريخية، وينظر للإنسان الكافر ليس باعتباره رقماً حسابياً فردياً منقطعاً، وإنما ينظر إليه كفرد في شبكة اجتماعية متداخلة العلاقات ومتنوعة الدوافع وإن الانسان يملك الفرصة والإمكانية لأن يتحول هو نفسه وطوع إرادته الى قوة اجتماعية مؤثرة، وله وزن في اتخاذ القرار ونقضه، وفقاً للقيم التي يختارها، والمطعم بن عدي لم يكن فرداً وإنما كان مؤسسة، وهي مؤسة لم تولد بميلاده وإنما يرجع وجودها الى تاريخ قديم، تصارعت فيها قيم التوحيد والإشراك، فإن صارت مؤسسة خالصة للكافرين الآن، فلا يعني ذلك استحالة الانتفاع بها وتسخيرها للعودة للإيمان والتوحيد(1).
6- قصة عدّاس النصراني واسلام الجن:
لقد حققت رحلة النبي - صلى الله عليه وسلم - انتصارات دعوية رفيعة المستوى فقد تأثر بالدعوة الغلام النصراني عدّاس، الذي أسلم(2)، كما وصلت الدعوة الى الجنَّ السبعة الذين أسلموا ثم انطلقوا الى قومهم منذرين.
أ- قصة عدّاس:
لما تعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأذى من أهل الطائف وخرج من عندهم وألجؤوه الى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وهما فيه، فلما رآه عتبة وشيبة رقَا له، ودَعَوا غلاماً لهما نصرانيا يقال له عداس، فقالاً له : خذ قطفاً من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم أذهب به الى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال له: كل.
__________
(1) انظر: أصول الفكر السياسي ، ص181.
(2) انظر: الرسول المبلغ للخالدي، ص39،40.(4/197)
فلما وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه يده، قال: باسم الله، ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ومن أهل أي البلاد أنت ياعداس؟ ومادينك؟ قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرية الرجل الصالح يونس بن متى، فقال له عداس: ومايدريك مايونس بن متى؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل رأسه ويديه وقدميه. قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك؛ فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك ياعداس! مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: ياسيدي مافي الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر مايعلمه إلا نبي، قالا له: ويحك ياعداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه)(1).
( إن تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الأكل تطبيق لسنّة من سنّة الإسلام الظاهرة، وقد كان من بركة ذلك انجذاب الرجل النصراني الى الاسلام، فما أن ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اسم الله تعالى قبل الأكل حتى اهتز كيان ذلك المولى النصراني وجاشت مشاعره، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعجبه من ذلك حيث لايعرف أهل تلك البلاد ذكر اسم الله تعالى.
( إن التسمية قبل الاكل كسائر السنن الظاهرة من أسباب تميز المسلمين على من حولهم من الوثنيين، وهذا التمييز يلفت أنظار الكفار ويدفعهم الى السؤال عن سبب ذلك، ثم يقودهم ذلك الى فهم الدين الاسلامي والإنجذاب إليه(2).
__________
(1) صحيح السيرة النبوية، ص136، 137.
(2) انظر: التاريخ الاسلامي (3/22).(4/198)
( كان يقين عداس بنبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوياً حيث كان يدل على ذلك موقفه من سيِّديه عتبة وشيبة بن ربيعة لما أرادا الخروج الى بدر وأمراه بالخروج معهما حيث قال لهما: قتال ذلك الرجل الذي رأيت في حائطكما تريدان؟ فوالله لا تقوم له الجبال، فقال: ويحك ياعداس قد سحرك بلسانه(1).
( في قول عداس والله ما على الأرض خير من هذا مواساة عظيمة، فلئن آذاه قومه، فهذا وافد من العراق من نينوى يكب على يديه ورجليه، ويقبلهما، ويشهد له بالرسالة وإن هذا لقدر رباني يسوق من نينوى من يؤمن بالله ورسوله حيث كان الصد من أقرب الناس إليه(2).
ب- إسلام الجن:
لما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطائف راجعاً الى مكة حين يئس من خبر ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تعالى، وكانوا سبعة نفر من جن أهل نصيبين، فاستمعوا لتلاوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فلما فرغ من صلاته، ولّوا الى قومهم منذرين؛ قد آمنوا وأجابوا الى ماسمعوا فقص الله تعالى خبرهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْءَانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ صدق الله العظيم قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ صدق الله العظيم } (سورة الأحقاف، الآيتان:29،30).
هبط هؤلاء الجن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: {أَنْصِتُوا} .
__________
(1) انظر: سبل الهدى والرشاد (2/578).
(2) انظر: التربية القيادية (1/437).(4/199)
هذه الدعوة التي رفضها المشركون بالطائف تنتقل الى عالم آخر هو عالم الجن، فتلقوا دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومضوا بها الى قومهم، كما مضى بها أبو ذر الغفاري الى قومه، والطفيل بن عمرو الى قومه، وضماد الأزدي الى قومه، فأصبح في عالم الجن دعاة يبلغون دعوة الله تعالى: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَءَامِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (سورة الأحقاف، الآية:31).(4/200)
وأصبح أسم محمد - صلى الله عليه وسلم - تهفو به قلوب الجن، وليس قلوب المؤمنين من الإنس فقط، وأصبح من الجن حواريون حملوا راية التوحيد ووطنوا أنفسهم دعاة الى الله ونزل في حقهم قرآناً يتلى الى أن يرث الله الأرض ومن عليها قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا صدق الله العظيم يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا صدق الله العظيم وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا صدق الله العظيم وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا صدق الله العظيم وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا صدق الله العظيم وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا صدق الله العظيم وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا صدق الله العظيم وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا صدق الله العظيم وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا صدق الله العظيم وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا صدق الله العظيم وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا صدق الله العظيم وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا صدق الله العظيم وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ءَامَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقًا صدق الله العظيم } (سورة الجن، الآيات:1-13).(4/201)
كان هذا الفتح الرباني في مجال الدعوة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببطن نخلة عاجز عن دخول مكة، فهل يستطيع عتاة مكة وثقيف أن يأسروا هؤلاء المؤمنين من الجن، وينزلوا بهم ألوان التعذيب(1)؟ وعندما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة في جوار المطعم بن عدي كان يتلو على صحابته سورة الجن فتتجاوب أفئدتهم خشوعاً وتأثراً من روعة الفتح العظيم في عالم الدعوة وأرتفاع راياتها، فليسوا هم وحدهم في المعركة، هناك إخوانهم من الجن يخوضون معركة التوحيد مع الشرك.
وبعد عدة أشهر من لقاء الوفد الأول من الجن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء الوفد الثاني متشوقاً لرؤية الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والإستماع الى كلام رب العالمين(2)، فعن علقمة قال سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ قال: لا ولكننا كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو أغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات فيها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا: يارسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا شر ليلة بات بها قوم، فقال: (أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن)، قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيراهم. وسألوه الزاد فقال: (لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في ايديكم أوفر مايكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم) فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فلا تستنجدوا بهما فإنهما طعام إخوانكم")(3).
كان هذا الفتح العظيم والنصر المبين في عالم الجن إرهاصاً وتمهيداً لفتوحات وانتصارات عظيمة في عالم الانس، فقد كان اللقاء مع وفد الأنصار بعد عدة أشهر(4).
__________
(1) انظر: التربية القيادية (1/443).
(2) نفس المصدر (1/445).
(3) مسلم، كتاب الصلاة (1/332) رقم 150.
(4) انظر: التربية القيادية (1/445).(4/202)
وقد علق الدكتور البوطي على سماع الجن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عودته من الطائف فقال: (والذي يهمنا أن نعلمه بعد هذا كله هو أن على المسلم أن يؤمن بوجود الجن وبأنهم كائنات حية كلفها الله عز وجل بعبادته كما كلفنا بذلك، ولئن كانت حواسنا ومداركنا لا تشعر بهم فذلك لأن الله عز وجل جعل وجودهم غير خاضع للطاقة البصرية التي بثها في أعيننا ومعلوم أن أعيننا إنما تبصر أنواعاً معينة من الموجودات بقدر معين وبشروط معينة.
ولما كان وجود هذه الخليقة مسنداً الى أخبار يقينية متواترة وردت إلينا من الكتاب والسنّة، وكان أمرها معلوماً من الدين بالضرورة، عدا أنه يتضمن تكذيب الخبر الصادق المتواتر إلينا عن الله عز وجل وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ولا ينبغي أن يقع العاقل في أشد مظاهر الغفلة والجهل من حيث يزعم انه لا يؤمن إلا بما يتفق مع العلم، فيمضى يتبجح بأنه لا يعتقد بوجود الجان، من أجل أنه لم ير الجان ولم يحس بهم.
إن من البداهة بمكان أن مثل هذا الجهل المتعالم، يستدعي إنكار كثير من الموجودات اليقينية لسبب واحد هو عدم إمكان رؤيتها، والقاعدة العلمية المشهورة تقول: عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود؛ أي عدم رؤيتك لشيء تفتش عنه لا يستلزم أن يكون بحد ذاته مفقوداً أو غير مفقود(1).
وبعد هذا التكرم الرباني الذي خص به النبي - صلى الله عليه وسلم - في عالم الثقلين الإنس والجن، حان وقت الحديث عن رحلته - صلى الله عليه وسلم - الى عالم السموات العلى، الى عالم الملائكة، الى حضرة الجليل سبحانه، الى أن يرفعه إليه من بين هذه الخلائق جميعاً، ثم يعيده إليهم فيحدثهم بما رأى في هذه الرحلة الميمونة الخالدة، التي لم تعرف البشرية لها مثيلاً، ولن تعرف حتى يرث الله الأرض ومن عليها(2).
__________
(1) انظر: فقه السيرة النبوية، ص105،106.
(2) انظر: التربية القيادية (1/446).(4/203)
المبحث الرابع
الإسراء والمعراج... ذروة التكريم
كان وجود أبي طالب بجانب رسول الله سياجاً واقياً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمنع عنه أذى قريش، لأن قريشاً ماكانت تريد أن تخسر أبا طالب، ولما توفي أبو طالب انهار هذا الحاجز، ونال رسول الله من الضر الجسدي الشيء الكثير.
وكانت خديجة زوجة رسول الله البلسم الشافي لما يصيب رسول الله من الجراح النفسية التي يلحقها به المشركون، ولما توفيت فقد رسول الله هذا البلسم.
وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى الطائف -بعد ما اشتد عليه آذى قريش وأمعنوا في التضييق عليه- بطلب من زعمائها نصرة الحق الذي يدعو إليه وحمايته حتى يبلغ دين الله، فما كان جوابهم إلا أن ردوه أقبح رد، ولم يكتفوا بذلك، بل أرسلوا الى قريش رسولاً يخبرهم بما جاء به محمد، فتجهمت له قريش وضمرت له الشر، فلم يستطع رسول الله دخول مكة إلا بجوار رجل كافر لقد تجهمت له قريش وأحدقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فزادت حزنه وهمه حتى سمى ذلك العام بالنسبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بـ(عام الحزن)(1).
أما هدف هذه المعجزة؛ يتمثل في أمور من أهمها؛
إن الله عز وجل أراد أن يتيح لرسوله فرصة الاطلاع على المظاهر الكبرى لقدرته حتى يملأ قلبه ثقة فيه وإستناداً إليه حتى يزداد قوة في مهاجمة سلطان الكفار القائم في الأرض، كما حدث لموسى عليه السلام فقد شاء الله أن يريه عجائب قدرته.
__________
(1) انظر: دراسة تحليلية لشخصية الرسول، د. قلعجي، ص128.(4/204)
فلما ملأ قلبه بمشاهدة هذه الآيات الكبرى قال له بعد ذلك: {قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى صدق الله العظيم فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى صدق الله العظيم قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى صدق الله العظيم وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ءَايَةً أُخْرَى صدق الله العظيم لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَاتِنَا الْكُبْرَى صدق الله العظيم } (سورة طه، الآيات: 19-23).
فثمرت الاسراء والمعراج أطلع الله نبيه على هذه الآيات الكبرى، توطئة للهجرة ولأعظم مواجهة على مدى التاريخ للكفر والضلال والفسوق، والآيات التي رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرة: الذهاب الى بيت المقدس، العروج الى السماء، رؤية الغيب الذي دعا إليه: الأنبياء والمرسلين، الملائكة، السماوت، الجنة والنار، نماذج من النعيم والعذاب...(4/205)
كان حديث القرآن الكريم عن الإسراء في سورة الإسراء وعن المعراج في سورة النجم وذكر حكمة الإسراء في سورة الإسراء بقوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا} (سورة الاسراء، الآية: 1). وفي سورة النجم بقوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (سورة النجم، الآية:18). وفي الإسراء والمعراج علوم وأسرار ودقائق ودروس وعبر(1)، يقول الأستاذ ابو الحسن الندوي: (لم يكن الإسراء مجرد حادث فردي بسيط رأى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآيات الكبرى، وتجلى له ملكوت السموات والأرض مشاهدة وعياناً -بل زيادة الى ذلك- اشتملت هذه الرحلة النبوية الغيبية على معان دقيقة كثيرة، وشارات حكيمة بعيدة المدى: فقد ضمت قصة الإسراء، وأعلنت السورتان الكريمتان اللتان نزلتا في شأنه تسميان (الإسراء) وسورة (النجم) أن محمد - صلى الله عليه وسلم - هو نبي القبليتين، وإمام المشرقين والمغربين، ووارث الأنبياء قبله، وإمام الأجيال بعده، فقد التقت في شخصه وفي إسرائه مكة بالقدس، والبيت الحرام بالمسجد الأقصى، وصلى بالأنبياء خلفه، فكان هذا إيذاناً بعموم رسالته وخلود إمامته وإنسانية تعاليمه، وصلاحيتها لاختلاف المكان والزمان، وأفادت هذه السورة الكريمة تعيين شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصف إمامته وقيادته وتحديد مكانة الأمة التي بعث فيها وآمنت به، وبيان رسالتها ودورها الذي ستمثله في العالم، ومن بين الشعوب والأمم)(2).
أولاً: قصة الإسراء والمعراج كماجاءت في بعض الأحاديث:
__________
(1) انظر: الأساس في السنّة، سعيد حوى (1/291،292).
(2) انظر: الأساس في السنّة (1/292).(4/206)
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتيت بالبراق (وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه) قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال: فربطته بالحلقة(1) التي يربط بها الأنبياء.قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فجاءني جبرئيل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال: جبريل أخترت الفطرة(2) فذكر الحديث(3).
وفي حديث مالك بن صعصعة: إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - حدثهم عن ليلة أسري به، قال: (بينما أنا في الحطيم(4) -وربما قال في الحجر- مضطجعاً إذ أتاني آت(5)، فقدَّ قال: وسمعته يقول: فشق مابين هذه الى هذه، فقلت الجارود- وهو الى جانبي : (مايعني به؟) قال: (من ثغرة نحره(6) الى شعرته(7)) وسمعته يقول: (من قصه(8) الى شعرته، فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملؤ إيماناً، فغسل قلبي، ثم حشى، ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض) فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم، يضع خطوه عند أقصى طرفه(9)، فحملت عليه (فانطلق بي جبريل حتى أتيت السماء الدنيا فاستفتح(10). قيل: من هذا ؟
قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد ، قيل: وقد أرسل إليه؟
__________
(1) الحلقة: المراد باب مسجد بيت المقدس.
(2) الفطرة: الإسلام، والاستقامة.
(3) مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول رقم 162.
(4) الحطيم: هو مابين الركن والمقام.
(5) آت: هو جبريل عليه السلام.
(6) ثغره النحر: الموضع المنخفض في أدنى الرقبة من الأمام.
(7) شعرته: شعر عانته وهو ماينبت حول العانة.
(8) القص: رأس عظام الصدر.
(9) يصنع خطوة عند أقصى طرفه: يضع رجله عند منتهى بصره.
(10) استفتح: طلب فتح باب السماء الدنيا.(4/207)
قال: نعم. قيل: مرحباً به(1)، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا فيها آدم، فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحباً بالابن الصالح، والنبي الصالح ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح: قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا يحيى وعيسى، وهما ابنا خالة، قال: هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما فسلمت، فردا، ثم قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صُعد بي الى السماء الثالثة، فاستفتح: قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به فنعم المجيئ جاء، ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صُعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح: قيل: من هذا ؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أو قد أرسل إليه قال: نعم، قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا إدريس، قال : هذا إدريس فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صُعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح: قيل: من هذا؟ قال جبريل: قيل: ومن معك؟ قال: محمد - صلى الله عليه وسلم -! قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون، فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صُعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح: قيل: من هذا ؟
__________
(1) مرحباً به: أصاب رحباً وسعة.(4/208)
قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد ارسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحباً به ، فنعم المجيء جاء. فلما خلصت، فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلم عليه، فرد ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح، والنبي الصالح؛ فلما تجاوزت بكى، قيل له: مايبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً(1) بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي.
ثم صعد بي الى السماء السابعة، فاستفتح جبريل: قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحباً به ونعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلم عليه، قال فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح ثم رفعت لي(2) سدرة فإذا نبقها مثل(3) قلال هجر(4)، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت: ماهذان ياجبريل؟ قال: أما البطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات ثم رفع لي البيت المعمور.
ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة(5) التي أنت عليها وأمتك.
__________
(1) أبكى لأن غلاماً: ... ليس هذا على سبيل النقص بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظم كرمه.
(2) رفعت لي: قربت لي.
(3) النبق: هو ثمر السدر.
(4) قلال هجر: يضرب بها المثل لكبرها، وهجر قرية في البحرين والقلة : الجرة الكبيرة.
(5) الفطرة: دين الاسلام.(4/209)
ثم فرضت عليّ الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فرجعت فممرت على موسى فقال: بما أمرت؟ قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لاتستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني اسرائيل أشد المعالجة(1)، فارجع الى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت، فوضع عني عشراً، فرجعت الى موسى فقال: مثله، فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت الى موسى فقال: مثله، فرجعت ، فوضع عني عشراً، فرجعت الىموسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال: بما أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم قال: إن أمتك لاتستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال: سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم، قال: فلما جاوزت نادى مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي(2).
كانت حادثة الإسراء والمعراج قبل هجرته عليه السلام بسنة، هكذا قال القاضي عياض في الشفا(3).
__________
(1) عالجتهم أشد المعالجة: مارست بني اسرائيل أشد الممارسة.
(2) البخاري في مناقب الأنصار، باب في المعراج، رقم 3887.
(3) انظر: الشفا بحقوق المصطفى (1/108).(4/210)
فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رحلته الميمونة أخبر قومه بذلك فقال لهم في مجلس حضره المطعم بن عدي، وعمرو بن هشام والوليد بن المغيرة، فقال:(إني صليت الليلة العشاء في هذا المسجد، وصليت به الغداة، وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس، فَنُشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم، وموسى وعيسى، وصليت لهم وكلمتهم، فقال عمرو بن هشام كالمستهزئ به: صفهم لي، فقال: أما عيسى، ففوق الربعة، ودون الطول، عريض الصدر، ظاهر الدم، جعد، أشعر تعلوه صهبة(1)، كأنه عروة بن مسعود الثقفي. وأما موسى فضخم آدم، طوال، كأنه من رجال شنوءة متراكب الأسنان، مقلص الشفة، خارج اللثة، عابس، وأما إبراهيم فوالله إنه لأشبه الناس بي، خَلْقاً وخُلقاً(2).
فقالوا: يامحمد! فصف لنا بيت المقدس، قال:(دخلت ليلاً وخرجت منه ليلاً) فأتاه جبريل بصورته في جناحه، فجعل يقول:(باب منه كذا، في موضع كذا، وباب منه كذا، في موضع كذا).
__________
(1) صهبة : بياض بحمرة.
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (3/37).(4/211)
ثم سألوه عن عيرهم، فقال لهم:(أتيت على عير بني فلان بالرّوحاء، قد أضلوا ناقة لهم، فانطلقوا في طلبها، فانتهيت إلى رحالهم، ليس بها منهم أحد، وإذا قدح ماء فشربت منه، فاسألوهم عن ذلك) - قالوا: هذه والإله آية:(ثم انتهيت إلى عير بني فلان، فنفرت مني الإبل، وبرك منها جمل أحمر، عليه جُوالق(1) مخطط ببياض، لاأدري أكسر البعير، أم لا فاسألوهم عن ذلك) - قالوا:هذه والإله آية - (ثم انتهيت إلى عير بني فلان في التنعيم، يقدمها جمل أورق(2)، وهاهي تطلع عليكم من الثنية(3) فقال الوليد بن المغيرة ساحر فانطلقوا فنظروا، فوجدوا الأمر كما قال، فرموه بالسحر، وقالوا: صدق الوليد بن المغيرة فيما قال(4).
كانت هذه الحادثة فتنة لبعض الناس ممن كانوا آمنوا وصدقوا بالدعوة، فارتدوا، وذهب بعض الناس إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس.
قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟
قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سُميَّ أبو بكر الصديق(5).
ثانياً: فوائد ودروس وعبر:
__________
(1) الجُوالق: هو العذل الذي يوضع فيه المتاع.
(2) أورق: أي لونه أبيض وفيه سواء.
(3) الثنية: أي الطريق الجبلي.
(4) المطالب العالية للحافظ ابن حجر (4/201-204) وعيون الأثر (1/140-142)، وابن هشام بلاغاً عن أم هانئ رضي الله عنها (2/11).
(5) المستدرك (3/62) قال الحاكم: هذا الحديث صحيح الاسناد وأقره الذهبي.(4/212)
1- بعد كل محنة منحة، وقد تعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمحن عظيمة، فهذه قريش قد سدت الطريق في وجه الدعوة في مكة، وفي ثقيف، وفي قبائل العرب، وأحكمت الحصار ضد الدعوة ورجالاتها من كل جانب، وأصبح النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطر بعد وفاة عمه أبي طالب أكبر حماته، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماض في طريقه، صابر لأمر ربه لاتأخذه في الله لومة لائم ولاحرب محارب، ولاكيد مستهزئ، فقد آن الأوان للمنحة العظيمة، فجاءت حادثة الإسراء والمعراج على قدر من رب العالمين، فيعرج به من دون الخلائق جميعاً، ويكرمه على صبره وجهاده، ويلتقي به مباشرة دون رسول ولاحجاب، ويطلعه على عوالم الغيب دون الخلق كافة، ويجمعه مع إخوانه من الرسل في صعيد واحد فيكون الإمام والقدوة لهم وهو خاتمهم وآخرهم(1).
2- إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان مُقدماً على مرحلة جديدة، مرحلة الهجرة، والإنطلاق لبناء الدولة، يريد الله تعالى للَّبنات الأولى في البناء أن تكون سليمة قوية متراصة متماسكة، فجعل الله هذا الاختبار والتمحيص، ليخلص الصف من الضعاف المترددين، والذين في قلوبهم مرض، ويثبت المؤمنين الأقوياء والخلص الذين لمسوا عياناً صدق نبيهم بعد أن لمسوه تصديقاً، وشهدوا مدى كرامته على ربه، فأي حظ يحوطهم وأي سعد يغمرهم وهم حول هذا النبي المصطفى وقد آمنوا به وقدموا حياتهم فداء له ولدينهم، كم يترسخ الإيمان في قلوبهم أمام هذا الحدث الذي تم بعد وعثاء الطائف، وبعد دخول مكة بجوار وبعد أذى الصبيان والسفهاء(2).
__________
(1) انظر: التربية القيادية (1/447).
(2) نفس المصدر (1/451).(4/213)
3- إن شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - العالية تتجسد في مواجهته للمشركين بأمر تنكره عقولهم ولا تدركه في أول الأمر تصوراتهم ولم يمنعه من الجهر به الخوف من مواجهتهم وتلقي نكيرهم واستهزائهم، فضرب بذلك - صلى الله عليه وسلم - لأمته أروع الأمثلة في الجهر بالحق أمام أهل الباطل وإن تحزبوا ضد الحق وجندوا لحربه كل مافي وسعهم وكانت من حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الحجة على المشركين بأن حدثهم عن إسرائه إلى بيت المقدس وأظهر الله له علامات تلزم الكفار بالتصديق وهذه العلامات هي:
( وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بيت المقدس، وبعضهم قد سافر إلى الشام ورأى المسجد الأقصى، فقد كشف الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - المسجد الأقصى حتى وصفه للمشركين، وقد أقروا بصدق الوصف ومطابقته للواقع الذي يعرفونه.
( إخباره عن العير التي بالروحاء، والبعير الذي أضلوه، وما قام به من شرب الماء الذي في القدح.
( إخباره عن العير الثانية التي نفرت فيها الإبل ووصفه الدقيق لأحد جمالهم.(4/214)
( إخباره عن العير الثالثة التي بالأبواء ووصفه الجمل الذي يقدمها، وإخباره بأنها تطلع ذلك الوقت من ثنية التنعيم، وقد تأكد المشركون فوجدوا أن ما أخبرهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان صحيحاً، فهذه الأدلة الظاهرة كانت مفحمة لهم ولا يستطيعون معها أن يتهموه بالكذب، كانت هذه الرحلة العظيمة تربية ربانية رفيعة المستوى وأصبح - صلى الله عليه وسلم - يرأى الأرض كلها بما فيها من مخلوقات نقطة صغيرة في ذلك الكون الفسيح، ثم ما مقام كفار مكة في هذه النقطة؟ إنهم لايمثِّلون إلا جزءاً يسيراً جداً من هذا الكون، فما الذي سيفعلونه تجاه من اصطفاه الله تعالى من خلقه وخصه بتلك الرحلة العلوية الميمونة وجمعه بالملائكة والأنبياء عليهم السلام، وأراه السموات السبع وسدرة المنتهى والبيت المعمور وكلمه جلا وعلا(1)؟
4- يظهر إيمان الصديق رضي الله عنه القوي في هذا الحدث الجلل، فعندما أخبره الكفار قال بلسان الواثق، لئن كان قال ذلك لقد صدق، ثم قال: إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، وبهذا استحق لقب الصديق، وهذا منتهى الفقه واليقين حيث وازن بين هذا الخبر ونزول الوحي من السماء، فبين لهم أنه إذا كان غريباً على الإنسان العادي فإنه في غاية الإمكان بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم -(2).
5- إن الحكمة في شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - وملء قلبه إيماناً وحكمة استعداداً للإسراء تظهر في عدم تأثر جسمه بالشق وإخراج القلب مما يؤمنه من جميع المخاوف العادية الأخرى ومثل هذه الأمور الخارقة للعادة يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته، لمقدرة الله تعالى التي لا يستحيل عليها شيء(3).
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (3/41،42).
(2) نفس المصدر (3/43).
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/189).(4/215)
6- إن شرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللبن حين خيّر بينه وبين الخمر، وبشارة جبريل - عليه الصلاة والسلام: هديت للفطرة، تؤكد أن هذا الإسلام دين الفطرة البشرية التي ينسجم معها، فالذي خلق الفطرة البشرية خلق لها هذا الدين الذي يلبي نوازعها واحتياجاتها ويحقق طموحاتها ويكبح جماحها {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سورة الروم، الآية:30).
7- كان إسراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالروح والجسد يقظة إلى بيت المقدس وعلى هذا جماهير السلف والخلف، ولا يُعوَّل على من قال بأن الإسراء كان بروحه، وأنه رؤيا منام، إذ لو كان الإسراء مناماً لما كانت فيه آية ولا معجزة ولما استبعده الكفار ولاكذبوه، إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر(1)، ثم إن في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} والمقصود بعبده سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكلمة (بعبده) تشمل روحه وجسده(2).
8- إن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأنبياء دليل على أنهم سلموا له بالقيادة والريادة، وأن شريعة الإسلام نسخت الشرائع السابقة، وأنه وسع أتباع هؤلاء الأنبياء ماوسع أنبياءهم، أن يسلموا بالقيادة لهذا الرسول ولرسالته التي لايأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
إن على الذين يعقدون مؤتمرات التقارب بين الأديان أن يُدركوا هذه الحقيقة، ويدعوا إليها، وهي ضرورة الإنخلاع من الديانات المنحرفة والإيمان بهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورسالته، وعليهم أن يدركوا حقيقة هذه الدعوات المشبوهة التي تخدم وضعاً من الأوضاع أو نظاماً من الأنظمة الجاهلية.
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة، زيدان (2/91).
(2) تفسير ابن كثير (3/23)، تفسير القاسمي (10/189).(4/216)
وأي تقريب بين عقيدة منحرفة تعتقد أن الله هو المسيح، وأن المسيح ابن الله وأن الله ثالث ثلاثة أو بين من يعتقد أن عزير ابن الله، ويحرف كلام الله وبين من يعتقد أن الله واحد لاشريك له، ولا والد ولا ولد ولازوجة له(1).
9- إن الربط بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام وراءه حكم ودلالات وفوائد منها،
( أهمية المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين، إذ أصبح مسرى رسولهم - صلى الله عليه وسلم -، ومعراجه إلى السموات العلى، وكان لايزال قبلتهم الأولى طيلة الفترة المكية، وهذا توجيه وإرشاد للمسلمين بأن يحبوا المسجد الأقصى وفلسطين لأنها مباركة ومقدسة.
( الربط يشعر المسلمين بمسؤوليتهم نحو المسجد الأقصى بمسؤولية تحرير المسجد الأقصى من أوضار الشرك وعقيدة التثليث، كما هي أيضاً مسؤوليتهم تحرير المسجد الحرام من أوضار الشرك وعبادة الأصنام، لأن المسجدين يقعان تحت الاحتلال، احتلال الطاغوت العربي واحتلال الطاغوت الصليبي، فهما بحاجة إلى التحرير والمسلمون مخاطبون بذلك.
( الربط يشعر بأن التهديد للمسجد الأقصى هو تهديد للمسجد الحرام وأهله، وأن النيل من المسجد الأقصى توطئه للنيل من المسجد الحرام، فالمسجد الأقصى بوابة الطريق إلى المسجد الحرام، وزوال المسجد الأقصى من أيدي المسلمين ووقوعه في أيدي اليهود يعني أن المسجد الحرام والحجاز قد تهدد الأمن فيهما، واتجهت أنظار الأعداء إليهما لاحتلالهما.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابي فارس، ص213.(4/217)
والتاريخ قديماً وحديثاً يؤكد هذا، فإن تاريخ الحروب الصليبية يخبرنا أن أرناط الصليبي صاحب مملكة الكرك أرسل بعثة للحجاز للإعتداء على قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى جُثمانه في المسجد النبوي، وحاول البرتغاليون (النصارى الكاثوليك) في بداية العصور الحديثة الوصول الى الحرمين الشريفين لتنفيذ ماعجز عنه أسلافهم الصليبيون ولكن المقاومة الشديدة التي أبداها المماليك ومن ثم العثمانيون حالت دون إتمام مشروعهم الجهنمي، وبعد حرب (1967م) التي احتل اليهود فيها بيت المقدس صرخ زعماؤهم بأن الهدف بعد ذلك احتلال الحجاز وفي مقدمة ذلك مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخيبر.
لقد وقف دافيد بن غوريون زعيم اليهود بعد دخول الجيش اليهودي القدس يستعرض جنوداً وشباناً من اليهود بالقرب من المسجد الأقصى ويُلقي فيهم خطاباً نارياً يختتمه بقوله: (لقد استولينا على القدس ونحن في طريقنا إلى يثرب)(1).
ووقفت غولدا مائير رئيسة وزراء اليهود بعد احتلال بيت المقدس وعلى خليج إيلات العقبة، تقول:(إنني أشم رائحة أجدادي في المدينة والحجاز، وهي بلادنا التي سوف نسترجعها)(2).
وبعد ذلك نشر اليهود خريطة لدولتهم المنتظرة التي شملت المنطقة من الفرات إلى النيل، بما في ذلك الجزيرة العربية والأردن وسوريا والعراق ومصر واليمن والكويت والخليج العربي كله. ووزعوا خريطة دولتهم هذه بعيد انتصارهم في حرب (1967م) في أوربا(3).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص314.
(2) جريدة الدستور الاردنية العدد (4613) بقلم أميل الغوري. نقلاً عن السيرة النبوية لأبي فارس، ص314.
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص215.(4/218)
10- يرى القارئ في سورة الإسراء أن الله ذكر قصة الإسراء في آية واحدة فقط قال تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (سورة الإسراء، الآية:1) ثم أخذ في ذكر فضائح اليهود وجرائمهم، ثم نبههم بأن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، والارتباط بين الآيات في سورة الإسراء يشير إلى أن اليهود سيعزلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية لما ارتكبوا من الجرائم التي لم يبق معها مجال لبقائهم على هذا المنصب وأنه سيصير إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويجمع له مركزي الدعوة الإبراهيمية كليهما(1). إن سورة الإسراء تعرضت للاستبداد الإسرائيلي وكيف تهاوى بين مخالب القوى الدولية الكبرى في ذلك الزمان (الفرس والروم) ولذلك من الفوائد العظيمة في رحلة الإسراء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمته رؤية بعض آيات الله، فإن من أوضح آيات الله المتعلقة بالمسجد الأقصى هي آياته التاريخية التي كان يعكسها الصراع الروماني - الفارسي الإسرائيلي قبل الإسراء(2) قال تعالى: {وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً صدق الله العظيم ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا صدق الله العظيم وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا صدق الله العظيم فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً صدق الله
__________
(1) انظر: الرحيق المختوم، المباركفوري، ص120.
(2) انظر: أصول الفكر السياسي في القرآن المكي، ص149.(4/219)
العظيم ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا صدق الله العظيم إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا صدق الله العظيم } (سورة الإسراء، الآيات:2-7).
ذكر ابن كثير في البداية والنهاية: أن (بختنصر) بأمر من ملك الفرس(1) قد قام بتخريب مملكة اليهود وجاس خلال الديار، وتفرقت بسبب ذلك بنو إسرائيل فنزلت طائفة الحجاز وطائفة يثرب وطائفة بواد القرى وذهبت شرذمة لمصر(2)، وقد وقع هذا الدمار الفارسي لدولة اليهود في القرن السادس قبل الميلاد
(597 ق.م) (3).
أما الدمار الثاني وهو الدمار الروماني للدولة اليهودية (بعد أن أعيد بناؤها)، فقد وقع في القرن الميلادي الأول (70م) وذلك حين هدم القائد الروماني (تيتوس) هيكل أورشليم وفر اليهود من وجه الاضطهاد الروماني السياسي الديني، وتتابعت هجرتهم وانتهى بعضهم إلى جنوب الجزيرة العربية حيث سبقهم أجدادهم الأوائل(4).
__________
(1) يرى الدكتور فرست مرعي أستاذ التاريخ في جامعة صنعاء أن يختنصر كلداني وليس فارسي والأمر من الملك الكلداني.
(2) انظر: أصول الفكر السياسي، ص151.
(3) نفس المصدر، ص152.
(4) ابن خلدون (2/206).(4/220)
فالشتات اليهودي في أطراف الجزيرة العربية مازال يحمل جرثومة الفساد في الأرض، فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد استوعب الظاهرة القرشية واستعد لها، فعليه أن يحلل الظاهرة اليهودية ويستعد لها(1)، فاليهود ليسوا مجرد أمة تاريخية كعاد وثمود تورد أخبارها للإرشاد والاعتبار، وإنما هم أمة لها حضور كثيف في الواقع العربي الذي يعيش فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويتحرك فيه لإقامة دولة الإسلام، فقد كانوا يشكلون فوق مكانتهم الإقتصادية مركز سلطة فكرية لما لهم من أحبار وأخبار وكتب تراث نبوي، تؤهلهم لتحديد مواصفات النبوة، وطلب المعجزات ووضع الشروط لصدق الرسل وصحة الرسالات، فإذا كانت قريش تستخدم الكعبة لمحاربة الإسلام، فإن اليهود قد كانوا يستخدمون التوراة لمحاربة القرآن، وإذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يتوقع معركة مع قريش فعليه أن يتوقع معارك مع اليهود(2)، لقد صورت سورة الإسراء جانباً من الصراع الدولي بين الفرس والروم واليهود، ونزلت بعدها سورة الروم وهي كذلك تحدثت عن الصراع الدولي قال تعالى:{ الم صدق الله العظيم غُلِبَتِ الرُّومُ صدق الله العظيم فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ صدق الله العظيم فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ صدق الله العظيم بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ صدق الله العظيم وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ صدق الله العظيم } (سورة الروم، الآيات:1-7).
__________
(1) انظر: أصول الفكر السياسي، ص152.
(2) نفس المصدر، ص153.(4/221)
كان مشركو قريش يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان. بينما كان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، كما أورد المفسرون تفاصيل كثيرة عن الرهان الذي جرى بين أبي بكر الصديق وبعض مشركي مكة حول المعركة القادمة بين الفرس والروم التي جزم فيها القرآن بانتصار الروم وهزيمة الفرس(1).
وذهب ابن عطية إلى رأي آخر يستحق التدبر حيث قال: (الأقرب أن يعلل ذلك - أي فرح المؤمنين - بما يقتضيه النظر من محبة أن يغلب العدو الأصغر - الروم - لأنه أيسر مؤنة - ومتى غلب الأكبر - الفرس - كثر الخوف منه، فتأمل هذا المعنى مع ماكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم، وإرادة كفار مكة أن يرميه بملك يستأصله ويريحهم منه(2).
فابن عطية يرى أن فرح المؤمنين الأكبر ليس سببه أن الروم أهل كتاب، أو أن انتصارهم على الفرس سيكون دليلاً مادياً على صدق الخبر القرآني، وإنما سببه هو أن الله وظف القوة الجهازية الرومانية لصالح المسلمين (الذين لم يقم لهم سلطان جهازي بعد)، إذ إنه بعد أن يسلط الروم على الدولة الفارسية فيحطموها ويخضدوا شوكتها سيخرجون من المعارك منتصرين ولكنهم منهكو القوة، مما سيمهد طريقاً لنصر المسلمين عليهم، وينفتح للإسلام بذلك طريق للبروز كقوة عالمية جديدة على أنقاض القوتين المندحرتين(3).
__________
(1) انظر: تفسير الطبري (21/12).
(2) تفسير ابن عطية (11/425).
(3) انظر: أصول الفكر السياسي ، ص158.(4/222)
11- أهمية الصلاة وعظيم منزلتها: وقد ثبت في السنة النبوية أن الصلاة فرضت على الأمة الإسلامية في ليلة عروجه - صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات، وفي هذا كما قال ابن كثير:(اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها)(1)، فعلى الدعاة أن يؤكدوا على أهمية الصلاة والمحافظة عليها وأن يذكروا فيما يذكرون من أهميتها ومنزلتها كونها فرضت في ليلة المعراج وأنها من آخر ماأوصى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته(2).
12- سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كان قد رأى ربه فقال: نور أنى أراه(3).
13- تحدث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن مخاطر الأمراض الاجتماعية وبين عقوبتها، كما شاهد ذلك في ليلة الإسراء والمعراج ومن هذه الأمراض وعقوبتها:
( عقوبة جريمة الغيبة والمغتابين، فقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أناساً يأكلون الجيف فأخبره جبريل: (هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس)(4).
( عقوبة أكلة أموال اليتامى، فقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجالاً لهم مشافر شفاه كبيرة كشفاه البعير في أيديهم قطع من نار كالأفهار رأى الحجارة يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم فأخبره جبريل: هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلماً(5).
( أكلة الرِّبا، فقد أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - - عن قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فأخبر جبريل هؤلاء أكلة الربا(6).
( وذكرت الروايات عقوبة الزناة ومانعي الزكاة وخطباء الفتنة والتهاون في الأمانة(7).
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/23).
(2) انظر: المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة (2/93).
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/190)، صحيح مسلم (1/161).
(4) الفتح الرباني للساعاتي (20/255) إسناده صحيح.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (8/200).
(6) تفسير ابن كثير (4/274).
(7) تفسير الطبري (15/7)، والفتح الرباني (20/257).(4/223)
( ثواب المجاهدين، ففي ليلة الإسراء والمعراج مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عادوا كما كان، فأخبر جبريل:( هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنات بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فهو يُخّلف)(1).
14- إدراك الصحابة لأهمية المسجد الأقصى: أدرك الصحابة رضي الله عنهم مسئوليتهم نحو المسجد الأقصى وهو يقع أسيراً تحت حكم الرومان، فحرروه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وظل ينعم بالأمن والأمان حتى عاث الصليبيون فساداً فيه بعد خمسة قرون من هجرة المصطفى ومكثوا مايعادل قرناً يعيثون فساداً فحرره المسلمون بقيادة صلاح الدين الأيوبي، وهاهو ذا يقع تحت الاحتلال اليهودي فما الطريق إلى تخليصه(2)؟
الطريق إلى تخليصه الجهاد في سبيل الله على المنهج الذي سار عليه الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
الفصل الخامس
الطواف على القبائل وهجرة الصحابة الى المدينة
المبحث الأول
الطواف على القبائل طلباً للنصرة
__________
(1) انظر: الخصائص الكبرى (1/171) والسيرة النبوية لأبي فارس ، ص220.
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص220.(4/224)
بعد رجوعه - صلى الله عليه وسلم - من الطائف، بدأ يعرض نفسه على القبائل في المواسم يشرح لهم الإسلام، ويطلب منهم الإيواء والنصرة، حتى يبلغ كلام الله عزوجل وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرك في المواسم التجارية ومواسم الحج التي تجتمع فيها القبائل وفق خطة سياسية دعوية واضحة المعالم ومحددة الأهداف، وكان يصاحبه أبو بكر الصديق الرجل الذي تخصص في معرفة أنساب العرب وتاريخها، وكانا يقصدان (غرر الناس ووجوه القبائل، وكان أبو بكر رضي الله عنه، يسأل وجوه القبائل ويقول لهم كيف العدد فيكم؟ وكيف المنعة فيكم؟ وكيف الحرب فيكم؟ وذلك قبل أن يتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعرض دعوته(1).
يقول المقريزي:( ثم عرض - صلى الله عليه وسلم - نفسه على القبائل أيام الموسم، ودعاهم إلى الإسلام، وهم بنو عامر، وغسان، وبنو فزارة، وبنو مرة، وبنو حنيفة، وبنو سليم، وبنو عبس، وبنو نصر، وثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبنو الحارث بن كعب، وبنو عذرة وقيس بن الخطيم، وأبو اليسر أنس بن أبي رافع) وقد أقتص الواقدي أخبار هذه القبائل قبيلة، قبيلة ويقال أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بكندة فدعاهم إلى الإسلام ثم أتى كلباً ثم بني حنيفة ثم بني عامر، وجعل يقول: من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي؟ هذا وأبو لهب وراءه يقول للناس: لاتسمعوا منه فإنه كذاب(2).
__________
(1) انظر: الأنساب للسمعاني (1/36).
(2) المقريزي في إمتاع الأسماع (1/30،31).(4/225)
وقد تعرض - صلى الله عليه وسلم - للأذى العظيم، فقد روى الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه بالموقف فقال:(ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي) وظل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تردده على القبائل يدعوهم، فيردون عليه أقبح الرد ويؤذونه ويقولون: قومه أعلم به، وكيف يصلحنا من أفسد قومه فلفظوه(1) وكانت الشائعات التي تنشرها قريش في أوساط الحجاج تجد رواجاً وقبولاً مثل الصابئ وغلام بني هاشم الذي يزعم أنه رسول، وغير ذلك، ولاشك أن هذا كان مما يحز في نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويضاعف ألم التكذيب وعدم الاستجابة(2).
ولم يقتصر الأذى على ذلك بل واجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ماهو أشد وأقسى، فقد روى البخاري في تاريخه والطبراني في الكبير عن مدرك بن منيب أيضاً عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية وهو يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، فمنهم من تفل في وجهه، ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبّه، حتى انتصف النهار، فأقبلت جارية بعسّ من ماء فغسل وجهه ويديه، وقال: يابنية لاتخشي على أبيك غلبة ولاذلة، فقلت: من هذه؟ قالوا: زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي جارية وضيئة(3).
وقد كان أبو جهل وأبو لهب لعنهما الله يتناوبان على أذية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما يدعو في الأسواق والمواسم وكان يجد منهما عنتاً كبيراً، إضافة إلى مايلحقه من المدعوين أنفسهم(4).
أولاً: من أساليب النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرد على مكائد أبي جهل والمشركين أثناء الطواف على القبائل:
__________
(1) انظر: الدرر لابن عبدالبر ، ص35، ابن كثير السيرة النبوية (2/185).
(2) انظر: المحنة في العهد المكي، ص53.
(3) انظر: المحنة في العهد المكي، ص53.
(4) نفس المصدر، ص53.(4/226)
1- مقابلة القبائل في الليل:
فكان - صلى الله عليه وسلم - من حكمته العالية يخرج لمقابلة القبائل في ظلام الليل، حتى لايحول بينه وبينهم أحد من المشركين(1) وقد نجح هذا العمل في إبطال مفعول الدعاية المضادة، التي كانت تتبعها قريش، كلما اتصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقبيلة من القبائل، والدليل على نجاح هذا الأسلوب المضاد، اتصال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأوس والخزرج ليلاً، ومن ثم كانت العقبة الأولى والثانية ليلاً(2).
2- ذهاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى القبائل في منازلهم:
فقد أتى كلباً وبني حنيفة، وبني عامر في منازلهم(3) ... وبذلك يحاول أن يبتعد عن مطاردة قريش، فيستطيع أن يتفاوض مع القبائل بالطريقة المناسبة دونما تشويش أو تشويه من قريش.
3- أصطحاب الأعوان:
كان أبو بكر وعلي رضي الله عنهما يرافقان الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بعض مفاوضاته مع بعض القبائل، وربما كانت هذه الرفقة لأجل ألا يظن المدعوون أنه وحيد، ولا أعوان له من أشراف قومه وأقاربه، هذا إلى جانب معرفة أبي بكر رضي الله عنه بأنساب العرب(4)، الأمر الذي يساعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التعرف على معادن القبائل، فيقع الاختيار على أفضلها، لتحمل تبعات الدعوة.
4- التأكد من حماية القبيلة:
__________
(1) تاريخ إسلام النجيب إبادي (1/129) نقلاً عن الرحيق المختوم.
(2) السيرة النبوية لابن هشام (2/44،52)؛ السيرة النبوية جوانب الحذر والحماية، ص116.
(3) البداية والنهاية لابن كثير (3/140).
(4) السيرة النبوية لجوانب الحذر والحماية، ص116.(4/227)
ومن الجوانب الأمنية المهمة، سؤاله - صلى الله عليه وسلم - عن المنعة والقوة لدى القبائل قبل أن يوجه إليهم الدعوة، ويطلب منهم الحماية، فقوة ومنعة القبيلة التي تحمي الدعوة، شيء ضروري ومهم لابد منه، لأن هذه القبيلة ستواجه كل قوى الشر والباطل، فلابد أن تكون أهلاً لهذا الدور من حيث الاستعداد المعنوي والمادي، الذي يرهب الأعداء، ويحمي حمى الدعوة، ويتحمل تبعات نشرها، مزيلاً لكل العقبات التي تقف في طريقها(1).
ثانياً: المفاوضات مع بني عامر:
__________
(1) نفس المصدر، ص116، 117.(4/228)
اختار الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يجري مفاوضات مع بني عامر قامت تلك المفاوضات على دراسة وتخطيط، فالرسول وصاحبه أبو بكر كانا يعلمان أن بني عامر قبيلة مقاتلة كبيرة العدد وعزيزة الجناب، بل هي من القبائل الخمس التي لم يمسها سباء ولم تتبع لملك ولم تؤد أتاوة(1)، مثلها مثل قريش وخزاعة(2) كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أن هنالك تضاداً قديماً بين بني عامر وثقيف، فإذا كانت ثقيف امتنعت عليه من الداخل فلماذا لايحاول أيضاً تطويقها من الخارج، والاستفادة في ذلك من بني عامر بن صعصعة، فإذا استطاع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبرم حلفاً مع بني عامر فإن موقف ثقيف سيكون على حافة الخطر(3). يذكر أصحاب السيرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما أتى بني عامر بن صعصعة، فدعا إلى الله وعرض عليهم نفسه، قال له رجل منهم يقال له بحيرة بن فراس:(والله لو أني أخذت هذا الفتى لأكلت به العرب، ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال الأمر لله يضعه حيث يشاء، فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لاحاجة لنا بأمرك(4).
ثالثاً: المفاوضات مع بني شيبان:
__________
(1) انظر: أصول الفكر السياسي، ص182. سباء: لم تسبى نسائها في الحروب.
(2) نفس المصدر، ص182.
(3) انظر: أصول الفكر السياسي، ص182.
(4) انظر: سيرة ابن هشام (2/38).(4/229)
ففي رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما أمر الله عزوجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه ...إلى أن قال ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليه السكينة والوقار فتقدم أبو بكر فسلم فقال من القوم؟ قالوا شيبان ابن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال بأبي وأمي هؤلاء غرر الناس وفيهم مفروق قد غلبهم لساناً وجمالاً وكانت له غديرتان تسقطان على تريبته وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر فقال أبو بكر كيف العدد فيكم فقال مفروق إنا لانزيد على الألف ولن تغلب ألف من قلة فقال أبو بكر وكيف المنعة فيكم فقال مفروق إنا لأشد مانكون غضباً حين نلقى وأشد مانكون لقاء حين نغضب وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى لعلك أخا قريش؛ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فها هو ذا. فقال: مفروق إلام تدعونا ياأخا قريش. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأني عبدالله ورسوله وإلى أن تؤووني وتنصروني فإن قريشاً قد تظاهرت على الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد، فقال مفروق وإلام تدعو أيضاً يا أخا قريش فوالله ماسمعت كلاماً أحسن من هذا فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (سورة الأنعام، الآية:151).(4/230)
فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا وصاحب ديننا فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وإنى أرى تركنا ديننا واتباعنا دينك لمجلس جلست إلينا لا أول له ولا آخر لذل في الرأي وقلة نظر في العاقبة أن الزلة مع العجلة وأنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقداً ولكن نرجع وترجع وننظر ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة فقال وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا فقال المثنى - وأسلم بعد ذلك - قد سمعت مقالتك يا أخا قريش والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك وإنا إنما نزلنا بين صريين أحدهما اليمامة والآخر السمامة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماهذان الصريان قال انهار كسرى ومياه العرب، فأما ماكان من انهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى إن لانحدث حدثاً ولانؤوي محدثاً وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكره الملوك فإن احببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماأسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق وإن دين الله عزوجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه فقال النعمان اللهم فلك ذاك(1).
رابعاً: فوائد ودروس وعبر:
كانت النصرة التي طلبها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات صفة مخصوصة، وذلك على النحو التالي:
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (3/142،143،145) وفيها زيادات ليست عند الصالحي في سبيل الرشاد (2/596-597).(4/231)
1- كان طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للنصرة من خارج مكة إنما بدأ ينشط بشكل ملحوظ بعد أن اشتد الأذى عليه عَقِبَ وفاة عمه أبي طالب الذي كان يحميه من قريش، وذلك لأن من يحمل الدعوة لن يستطيع أن يتحرك التحرك الفعَّال في النشاط في حمل الدعوة، وتوفير الاستجابة لها، في جوّ من العنف، والضغط والإرهاب.
2- كان عرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه على القبائل يطلب منهم النصرة، إنما هو بأمر من الله عزوجل له في ذلك، وليس مجرد اجتهاد من قبل نفسه اقتضته الظروف التي وصلت إليها الدعوة.
3- حصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلب النصرة بزعماء القبائل، وذوي الشرف والمكانة ممن لهم أتباع يسمعون لهم، ويطيعون، لأن هؤلاء القادرون على توفير الحماية للدعوة وصاحبها.
4- يلاحظ في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بخصوص طلب النصرة إنه كان يطلبها لأمرين اثنين:
أ- كان يطلب النصرة من أجل حماية تبليغ الدعوة، حتى تسير بين الناس محمية الجانب، بعيدة عن الإساءة إليها وإلى أتباعها.
ب- كان يطلب النصرة من أجل أن يتسلم النبي - صلى الله عليه وسلم - مقاليد الحكم والسلطان على أساس تلك الدعوة، وهذا ترتيب طبيعي للأمور.(4/232)
5- رفض النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعطي القوى المستعدة لتقديم أية ضمانات بأن يكون لأشخاصهم شيء من الحكم والسلطان على سبيل الثمن، أو المكافأة لما يقدمونه من نصرة وتأييد للدعوة الإسلامية، وذلك لأن الدعوة الإسلامية بما هي دعوة إلى الله، فالشرط الأساسي فيمن يؤمن بها ويستعد لنصرتها أن يكون الإخلاص لله، ونشدان رضاه، هما الغاية التي يسعى إليها من النصرة والتضحية، وليس طمعاً في نفوذ أو رغبة في سلطان، وذلك لأن الغاية التي يضعها الإنسان للشيء، هي التي تكيف نشاط الإنسان في السعي إليه، فلابد إذن، من أن تتجرد الغاية المستهدفة من وراء نصرة الدعوة - عن أي مصلحة مادية لضمان دوام التأييد لها، وضمان المحافظة عليها من أي انحراف، وضمان أقصى مايمكن من بذل الدعم لها، وتقديم التضحيات في سبيلها(1)، فيجب على كل من يريد أن يلتزم بالجماعة التي تدعو إلى الله، ألا يشترط عليها منصباً أو عرضاً من أعراض الدنيا، لأن هذه الدعوة لله، والأمر لله يضعه حيث يشاء، والداخل في أمر الدعوة إنما يريد ابتداءً وجه الله، والعمل من أجل رفع رايته، أما إذا كان المنصب هو همه الشاغل، فهذه علامة خطيرة تنبئ عن دخن في نية صاحبه(2)، لذا قال يحيى بن معاذ الرازي:(لايفلح من شممت منه رائحة الرياسة)(3).
__________
(1) انظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، لمحمد خير (1/411).
(2) انظر: وقفات تربوية من السيرة النبوية، عبدالحميد البلالي، ص72.
(3) انظر: صفة الصفوة (4/94).(4/233)
6- ومن صفة النصرة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلبها لدعوته من زعماء القبائل أن يكون أهل النصرة غير مرتبطين بمعاهدات دولية تتناقض مع الدعوة، ولايستطيعون التحرر منها، وذلك لأن احتضانهم للدعوة والحالة هذه يُعرِّضها لخطر القضاء عليها من قبل الدول التي بينهم وبينها تلك المعاهدات، والتي تجد في الدعوة الإسلامية خطراً عليها وتهديداً لمصالحها(1).
إن الحماية المشروطة أو الجزئية لاتحقق الهدف المقصود فلن يخوض بنو شيبان حرباً ضد كسرى لو أراد القبض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتسليمه، ولن يخوضوا حرباً ضد كسرى لو أراد مهاجمة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه، وبذلك فشلت المباحثات(2).
7-( إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه)، كان هذا الرد من النبي - صلى الله عليه وسلم - على المثنى بن حارثة حين عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - حمايته على مياه العرب دون مياه الفرس، فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة يرى بعد النظر الإسلامي النبوي الذي لايسامى(3).
__________
(1) انظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (1/412).
(2) انظر: التحالف السياسي في الاسلام، منير الغضبان، ص53.
(3) نفس المصدر، ص64.(4/234)
8- كان موقف بني شيبان يتسم بالإريحية والخلق والرجولة وينم عن تعظيم هذا النبي، وعن وضوح في العرض، وتحديد مدى قدرة الحماية التي يملكونها وقد بينوا أن أمر الدعوة مما تكرهه الملوك، وقدّر الله لشيبان بعد عشر سنين أو تزيد أن تحمل هي ابتداءً عبء مواجهة الملوك بعد أن أشرق قلبها بنور الإسلام، وكان المثنى بن حارثة الشيباني صاحب حربهم وبطلهم المغوار الذي قاد الفتوح في أرض العراق، في خلافة الصديق رضي الله عنه(1)، فكان وقومه من أجرأ المسلمين بعد إسلامهم على قتال الفرس، بينما كانوا في جاهليتهم يرهبون الفرس ولايفكرون في قتالهم، بل إنهم ردوا دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد قناعتهم بها لاحتمال أن تلجئهم إلى قتال الفرس، الأمر الذي لم يكونوا يفكرون به أبداً، وبهذا نعلم عظمة هذا الدين الذي رفع الله به المسلمين في الدنيا حيث جعلهم سادة الأرض، مع ماينتظرون في أخراهم من النعيم الدائم في جنات النعيم(2).
المبحث الثاني
مواكب الخير وطلائع النور
قال جابر بن عبدالله الأنصاري:
(مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعُكاظ ومجنّة وفي المواسم بمنى يقول: من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلّغ رسالة ربي وله الجنة؟ حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو مضر، فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لايفتننك، ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبقى دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام(3).
أولاً: الإتصالات الأولى بالأنصار في مواسم الحج والعمرة:
__________
(1) انظر: التربية القيادية (2/20).
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (3/69).
(3) مسند أحمد (3/322،322،323،339-340) بإسناد حسن.(4/235)
1- إسلام سويد بن الصامت:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لايسمع بقادم يقدم مكة من العرب، له اسم وشرف إلا تصدّى له ودعاه إلى الله وعرض عليه ماجاء به من الهدى والحق، فقدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجاً أو معتمراً، وكان سويد يسميه قومه فيهم الكامل، لجَلَده، وشِعْره، وشرفه، ونسبه، فتصدى له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سمع به، فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي؟ فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (وما الذي معك)؟ قال: مجلة(1) لقمان، فقال له رسول الله:(اعرضها علي) فعرضها عليه فقال: (إن هذا الكلام حسن، والذي معي أفضل من هذا: قرآن أنزله الله علي، هو هدى ونور)، فتلا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يُبعد منه، وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج، وقد كان رجال من قومه يقولون: إنا لنراه قتل وهو مسلم، وكان قتله يوم بُعاث(2) وعلى أية حال لاتوجد دلائل على قيام سويد بن الصامت بالدعوة إلى الإسلام وسط قومه(3).
2- إسلام إياس بن معاذ:
__________
(1) المجلة: الصحيفة، وتطلق على الحكمة أي حكمة لقمان.
(2) سيرة ابن هشام (2/40) إسناد حسن.
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/195).(4/236)
لما قدم أبو الحيسر بن رافع مكة ومعه فتيان من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتاهم فجلس إليهم، فقال:(هل لكم في خير مما جئتم له)؟ قالوا: وماذاك؟ قال:(أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله، ولايشركوا به شيئاً، وأنزل علي الكتاب)، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ - وكان غلاماً حدثاً - :هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر كفاً من تراب، وضرب به وجهه، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا فصمت إياس، وقام رسول الله عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، وقد روي من حضره من قومه أنه مازال يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات، فما كانوا يشكّون أنه مات مسلماً، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماسمع(1).
ثانياً: بدء إسلام الأنصار:
كانت البداية المثمرة مع وفد من الخزرج في موسم الحج عند عقبة منى، قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أنتم؟
قالوا: نفر من الخزرج
قال: أمن موالي يهود؟
قالوا: نعم
قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟
قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عزوجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن(2).
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام (2/41) بإسناد حسن.
(2) نفس المصدر(2/41،42).(4/237)
فلما كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولئك النفر، ودعاهم إلى الله، قال بعضهم لبعض: ياقوم: تعلموا والله أنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ماعرض عليهم من الإسلام، وقالوا إنا قد تركنا قومنا، ولاقوم بينهم من العداوة والشر مابينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعين إلى بلادهم، وقد آمنوا وصدقوا(1)، وكانوا ستة نفر: وهم، أبو أمامة أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث من بني النجار، ورافع بن مالك،وقطبة بن عامر، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبدالله بن رباب(2) فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا بينهم، فلم تبقى دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3).
__________
(1) البداية والنهاية (3/148، 149).
(2) انظر: شرح الواهب للزرقاني (1/361).
(3) انظر: البداية والنهاية (3/147).(4/238)
فهذا أول موكب من مواكب الخير، لم يكتف بالإيمان وإنما أخذ العهد على نفسه أن يدعو إليه قومه، وقد وفي كل منهم لدينه ورسوله، فإنهم حين رجعوا نشطوا في الدعوة إلى الله وعرضوا كلمة الهدى على أهلهم وذويهم فلم تبقى دار من دور المدينة إلا وفيها ذكر لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا عندما يأذن الله تأتي ساعة الحسم الفاصلة فقد كان لقاء هؤلاء مع الرسول على غير موعد، لكنه لقاء هيأه الله ليكون نبع الخير المتجدد الموصول، ونقطة التحول الحاسم في التاريخ ... وساعة الخلاص المحقق من عبادة الأحجار، بل إنها على التحقيق ساعة الحسم في مصير العالم كله ونقل الحياة من الظلمات إلى النور. أكان معقولاً في لحظة يسيرة أن يتحول هؤلاء من وثنيين متعصبين إلى أنصار للدعوة متفتحين، وجنود للحق مخلصين ودعاة إلى الله متجردين يذهبون إلى أقوامهم، وبين جوانحهم نور، وعلى وجوههم نور، وإنهم لعلى نور؟ تلك مشيئة القدر العالي هيأت للدعوة مجالها الخصب، وحماها الأمين ... والسنوات العجاف التي قضاها الرسول نضالاً مستمراً، وكفاحاً دائماً، وتطوافاً على القبائل، والتماساً للحليف ... قد ولت إلى غير رجعة ... سيكون بعد اليوم للإسلام قوته الرادعة، وجيشه الباسل وسيلتقي الحق بالباطل ليصفي معه حساب الأيام الخوالي، والعاقبة للمتقين، وستتوالى على مكة منذ اليوم مواكب الخير وطلائع النور التي هيأها الله للخير لتتصل بالهداية وتسبح في النور، وتغترف من الخير، وترجع إلى يثرب بما وعت من خير، وبما حملت من نور(1).
__________
(1) انظر: أضواء على الهجرة لتوفيق محمد سبع، ص273،274.(4/239)
ومن الجدير بالتنبيه أن هذه المقابلة التي حدثت عند العقبة وتلاقى فيها فريق من الخزرج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلموا على يديه لم تكن فيها بيعة(1)، لأنها كانت من نفر صغير لم يروا لأنفسهم الحق في أن يلتزموا بمعاهدة دون الرجوع إلى قبائلهم في المدينة ولكنهم أخلصوا في تبليغ رسالة الإسلام(2).
ثالثاً: بيعة العقبة الأولى :
بعد عام من المقابلة الأولى التي تمت بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأهل يثرب عند العقبة وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً فلقوه - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة وبايعوه العقبة الأولى، عشرة من الخزرج واثنان من الأوس، مما يشير إلى أن نشاط وفد الخزرج الذين أسلموا في العام الماضي تركز على وسطهم القبلي بالدرجة الأولى لكنهم تمكنوا بنفس الوقت من اجتذاب رجال الأوس وكان ذلك بداية ائتلاف القبيلتين تحت راية الإسلام(3).
وقد تحدث عبادة بن الصامت الخزرجي عن البيعة في العقبة الأولى، فقال:(كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثنى عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيعة النساء - وذلك قبل أن يفترض علينا الحرب: على أن لانشرك بالله، ولانسرق، ولانزني، ولانقتل أولادنا ولانأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولانعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عزوجل إن شاء غفر وإن شاء عذب)(4).
__________
(1) انظر: هجرة الرسول وصحابته للجمل ، ص143.
(2) نفس المصدر، ص143.
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/197).
(4) صحيح مسلم (3/1333) رقم 1709.(4/240)
وبنود هذه البيعة هي التي بايع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليها النساء فيما بعد ولذلك عرفت باسم بيعة النساء(1)، وقد بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع المبايعين مصعب بن عمير يعلمهم الدين ويقرؤهم القرآن، فكان يسمى بالمدينة (المقرئ) وكان يؤمهم في الصلاة وقد اختاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - عن علم بشخصيته من جهة، وعلم بالوضع القائم في المدينة من جهة أخرى، حيث كان - رضي الله عنه - بجانب حفظه لما نزل من القرآن، يملك من اللباقة والهدوء، وحسن الخلق والحكمة، قدراً كبيراً، فضلاً عن قوة إيمانه وشدة حماسه للدين، ولذلك تمكن خلال أشهر أن ينشر الإسلام في سائر بيوتات المدينة وأن يكسب للإسلام أنصاراً من كبار زعمائها، كسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، وقد أسلم بإسلامهما خلق كثير من قومهم(2).
لقد نجحت سفارة مصعب بن عمير رضي الله عنه في شرح تعاليم الدين الجديد، وتعليم القرآن الكريم وتفسيره وتقوية الروابط الأخوية بين أفراد القبائل المؤمنة من ناحية، وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه بمكة المكرمة، لإيجاد القاعدة الأمينة لانطلاق الدعوة.
__________
(1) انظر: الغرباء الأولون، ص185.
(2) نفس المصدر، ص186، 187.(4/241)
وقد نزل مصعب بن عمير - رضي الله عنه - في يثرب على أسعد بن زرارة - رضي الله عنه -(1)، ونشط المسلمون في الدعوة إلى الله يقود تلك الحركة الدعوية الرائدة مصعب رضي الله عنه وقد انتهج منهج القرآن الكريم في دعوته وهذا الذي تعلمه من أستاذه - صلى الله عليه وسلم - وقد شرح لنا بعض الآيات القرآنية المكية بصورة عملية حية قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (سورة النحل، الآية:125).
رابعاً: قصة إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما:
كان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيِّديْ قومهما من بني عبد الأشهل، وكانا مشركين على دين قومهما، فلما سمعا بمصعب بن عمير ونشاطه في الدعوة إلى الإسلام قال سعد لأسيد: لاأبالك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدماً، فأخذ أسيد حربته ثم أقبل عليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال: هذا سيد قومه وقد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: أن يجلس أكلمه، فوقف عليهما متشتماً فقال: ماجاء بكما تسفِّهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب بلسان المؤمن الهادئ الواثق من سماحة دعوته: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ماتكره؟
__________
(1) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنّة (1/441).(4/242)
قال أسيد: أنصفت، ثم ركز حربته، وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهُّله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهَّر وتطهِّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق؟ ثم تصلِّي، فقام فاغتسل وطهّر ثوبيه وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكم الآن: سعد بن معاذ.
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم !!
فما وقف على النادي قال له سعد: مافعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله مارأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حُدِّثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك(1).
فقام سعد مغضباً مبادراً مخوفاً للذي ذكر له من أمر بني حارثة، وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ماأراك أغنيت شيئاً، ثم خرج إليهما سعد فوجدهما مطمئنين، فعرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتماً، ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة لولا مابيني وبينك من القرابة مارُمْتَ هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره وكان أسعد قد قال لمصعب: لقد جاء والله - سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف منهم اثنان، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ماتكره، فقال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام، وقرأ القرآن، وذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول سورة الزخرف، قالا: فعرفنا - والله - في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/442).(4/243)
ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم، ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل، فتطهَّر وتطهِّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، ثم تشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يابني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة.
ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبقى دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات، إلا ماكان من الأصيرم، وهو عمرو بن ثابت بن وقش، فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم، واستشهد بأحد، ولم يصلِّ لله بسجدة قط، وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه من أهل الجنة.
وقد روى ابن اسحاق بإسناد حسن عن أبي هريرة أنه كان يقول: (حدِّثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلِّ صلاة قط، فإذا لم يعرفه الناس قال هو أصيرم بني عبد الأشهل)(1).
خامساً: فوائد ودروس وعبر:
1- اتجه التخطيط النبوي للتركيز على يثرب بالذات وكان للنفر الستة الذين أسلموا دور كبير في بث الدعوة إلى الإسلام خلال ذلك العام.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/444)؛ صحيح السيرة النبوية، ص291.(4/244)
2- كانت هناك عدة عوامل ساعدت على انتشار الإسلام في المدينة منها، ماطبع الله عليه قبائل الخزرج والأوس من الرقة واللين وعدم المغالاة في الكبرياء وجحود الحق، وذلك يرجع إلى الخصائص الدموية والسلالية التي أشار إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين وفد وفد من اليمن، بقوله: (أتاكم أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوباً)(1) وهما ترجعان في أصليهما إلى اليمن، نزح أجدادهم منها في الزمن القديم(2) فيقول القرآن الكريم مادحاً لهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة الحشر، الآية:9).
- منها التشاحن والتطاحن الموجود بين قبيلتي المدينة، الأوس والخزرج، وقد قامت بينهما الحروب الطاحنة كيوم بعاث وغيره وقد أفنت هذه الحرب كبار زعمائهم ممن كان نظراؤهم في مكة والطائف وغيرها حجر عثرة في سبيل الدعوة، ولم يبقى إلا القيادات الشابة الجديدة المستعدة لقبول الحق، إضافة إلى عدم وجود قيادة بارزة معروفة يتواضع الجميع على التسليم لها، وكانوا بحاجة إلى من يأتلفون عليه، ويلتئم شملهم تحت ظله فكان يوم بعاث أمراً قدمه الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم وجُرحوا،فقدمه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في دخولهم الإسلام(3).
__________
(1) البخاري، كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين رقم 4388.
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي، ص154.
(3) البخاري، كتاب المناقب، باب مناقب الأنصار (4/267) رقم 3777.(4/245)
- منها مجاورتهم لليهود مما جعلهم على علم - ولو يسير - بأمر الرسالات السماوية، وخبر المرسلين السابقين، وهم - في مجتمعهم - يعايشون هذه القضية في حياتهم اليومية وليسوا مثل قريش التي لايساكنها أهل كتاب، وإنما غاية أمرها أن تسمع أخباراً متفرقة عن الرسالات والوحي الإلهي، دون أن تلح عليها هذه المسألة، أو تشغل تفكيرها باستمرار، وكان اليهود يهددون الأوس والخزرج بنبي قد أظل زمانه، ويزعمون أنهم سيتبعونه، ويقتلونهم به قتل عاد وإرم!، مع أن الأوس والخزرج كانوا أكثر من اليهود(1)، وقد حكى الله عنهم ذلك في كتابه العزيز قال تعالى:{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (سورة البقرة، الآية:89).
وكان الأوس والخزرج قد علوا اليهود دهراً في الجاهلية، وهم أهل شرك وهؤلاء أهل الكتاب، فكانوا يقولون: إن نبياً قد أظل زمانه، يقاتلكم قتل عاد وإرم(2).
فلما أراد الله إتمام أمره بنصر دينه، قيض ستة نفر من أهل المدينة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فالتقى بهم عند العقبة - عقبة منى - فعرض عليهم الإسلام، فاستبشروا وأسلموا، وعرفوا أنه النبي الذي توعدهم به اليهود، ورجعوا إلى المدينة، فأفشوا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيوتها(3) وكان هذا هو (بدء إسلام الأنصار) كما يسميه أهل السير(4).
__________
(1) انظر: الغرباء الأولون، ص183.
(2) الدر المنثور للسيوطي (1/216).
(3) انظر: ابن هشام (1/44).
(4) نفس المصدر (1/39،44).(4/246)
3- حضر بيعة العقبة الأولى اثنان من الأوس، وهذا تطور مهم لمصلحة الإسلام، فبعد الحرب العنيفة في بعاث استطاع النفر الستة من الخزرج أن يتجاوزوا قصة الصراعات الداخلية، ويحضروا معهم سبعة جدداً، فيهم اثنان من الأوس، وهذا يعني أنهم وفوا بالتزاماتهم التي قطعوها على أنفسهم في محاولة رأب الصدع، وتوجيه التيار لدخول الإسلام في المدينة أوسها وخزرجها وتجاوز الصراعات القبلية القائمة.
4- كان التطور الجديد الذي أثمرته بيعة العقبة بعث مصعب بن عمير ممثلاً شخصياً للرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة يعلم الناس القرآن الكريم، ومبادئ الإسلام واستطاع مصعب بحكمته وحصافته وذكائه السياسي أن يحقق انتصارات كبيرة للإسلام(1).
5- استطاع سفير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن يفعل في عام مالم يفعله رسل كرام في عشرات الأعوام - وماذلك إلا بتوفيق الله تعالى ثم صدق ذلك الداعية وإخلاصه، فأين سفراء دول المسلمين اليوم من سفير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعلى ولاة الأمر أن يختاروا السفير المؤمن الملتزم الموهوب الذي يستطيع أن يمثل بلاده ودينه قولاً وعملاً، وخلقاً وسلوكاً، فيرى الناس ويسمعون من خلاله.
6- استطاع السفير مصعب رضي الله عنه أن يهيئ البيئة الصالحة، لانتقال الدعوة والدولة إلى مقرها الجديد، حيث استطاع ترجمة روح بيعة العقبة الأولى عملياً وسلوكياً والتي تعني الالتزام التام بنظام الإسلام(2).
7- بذل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل مايملك من جهد لتعبئة الطاقات الإسلامية في المدينة، ولم يكن هناك أدنى تقصير للجهد البشري الممكن في بناء القاعدة الصلبة التي تقوم على أكتافها الدولة الجديدة واحتمل هذا الجهد سنتين كاملتين من الدعوة والتنظيم(3).
__________
(1) انظر: التحالف السياسي، ص71.
(2) انظر: دولة الرسول من التكوين الى التمكين، ص356.
(3) انظر: التحالف السياسي، ص71.(4/247)
8- نجحت التعبئة الإيمانية في نفوس من أسلم من الأنصار وشعرت الأنصار بأنه قد آن الأوان لقيام الدولة الجديدة، وكما يقول جابر رضي الله عنه وهو يمثل هذه الصورة الرفيعة الرائعة:(حتى متى نترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف)(1).
9- وصل مصعب رضي الله عنه إلى مكة قبيل الموسم الثالث عشر للبعثة، ونقل الصورة الكاملة التي انتهت إليها أوضاع المسلمين هناك، والقدرات والإمكانات المتاحة، وكيف تغلغل الإسلام في جميع قطاعات الأوس والخزرج، وأن القوم جاهزون لبيعة جديدة قادرة على حماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنعته(2).
10- كان اللقاء الذي غيَّر مجرى التاريخ في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من البعثة، حيث حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفساً من المسلمين من أهل يثرب، فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - اتصالات سرية أدت إلى اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم هذا الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل(3).
المبحث الثالث
بيعة العقبة الثانية
قال جابر بن عبدالله: (... فقلنا: حتى متى نترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطرد في جبال مكة ويُخاف، فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة فاجتمعنا عليه من رجل ورجلين حتى توافينا فقلنا: يارسول الله نبايعك:
__________
(1) انظر: التحالف السياسي، ص71.
(2) نفس المصدر، ص72.
(3) المصدر السابق، ص73.(4/248)
قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لاتخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة.
قال: فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو من أصغرهم - فقال: رويداً يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وأما أنتم تخافون من أنفسكم جبينة، فبينوا ذلك فهو عذر لكم عند الله قالوا: أمط عنا يا أسعد، فوالله لاندع هذه البيعة أبداً ولانسلبها قال:(فقمنا إليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويعطينا على ذلك الجنة)(1).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/199).(4/249)
وهكذا بايع الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الطاعة والنصرة والحرب، لذلك سماها عبادة بن الصامت بيعة الحرب(1) أما رواية الصحابي كعب بن مالك الأنصاري - وهو أحد المبايعين في العقبة الثانية، ففيها تفاصيل مهمة. قال:( خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا ... ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقبة من أوسط أيام التشريق... وكنا نكتم من معنا من المشركين أمرنا، فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب ..، وأسماء بنت عمرو، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءنا ومعه العباس بن عبدالمطلب، وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبدالمطلب:(فبين أن الرسول في منعة من قومه بني هاشم ولكنه يريد الهجرة إلى المدينة، ولذلك فإن العباس يريد التأكد من حماية الأنصار له وإلا فليدعوه فطلب الأنصار أن يتكلم رسول الله، فيأخذ لنفسه ولربه مايحب من الشروط.
__________
(1) مسند الامام أحمد (5/316) بإسناد صحيح لغيره.(4/250)
قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبنائكم، فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أُزرنا فبايعنا يارسول الله، فنحن والله أهل الحرب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر، فقاطعه أبو الهيثم بن التيهان متسائلاً:( يارسول الله إن بيننا وبين القوم حبالاً وإنا قاطعوها (يعني اليهود)، فهل عسيتم إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: بل الدم بالدم، والهدم بالهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم)
ثم قال: أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
وقد طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - منهم الإنصراف إلى رحالهم، وقد سمعوا الشيطان يصرخ منذراً قريشاً، فقال العباس بن عبادة بن نضلة والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلنَّ على أهل منى غداً بأسيافنا.(4/251)
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم)، فرجعوا إلى رحالهم، وفي الصباح جاءهم جمع من كبار قريش، يسألونهم عما بلغهم من بيعتهم للنبي ودعوتهم له للهجرة، فحلف المشركون من الخزرج والأوس بأنهم لم يفعلوا والمسلمون ينظرون إلى بعضهم(1) قال: ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان جديدان قال: فقلت له كلمة - كأني أريد أن أشرك القوم فيما قالوا: يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ قال: فسمعهما الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بها إليَّ وقال: والله لتنعلهما، قال: يقول أبو جابر: مه أحفظت والله الفتى فاردد إليه نعليه. قال: قلت: لاوالله لا أردهما فأل والله صالح، لئن صدق الفأل لأسلبنه(2).
( دروس وعبر وفوائد:
__________
(1) انظر: ابن هشام (2/61)، بإسناد حسن وانظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/201).
(2) انظر: مجمع الزوائد (6/42-46) وقال الألباني في تحقيق فقه السيرة وهذا سند صحيح وصححه ابن حبان كما في الفتح (7/475).(4/252)
1- كانت هذه البيعة العظمى بملابساتها، وبواعثها، وآثارها، وواقعها التاريخي (فتح الفتوح)، لأنها كانت الحلقة الأولى في سلسلة الفتوحات الإسلامية التي تتابعت حلقاتها في صور متدرجة، مشدودة بهذه البيعة، منذ اكتمل عقدها بما أخذ فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عهود ومواثيق على أقوى طليعة من طلائع أنصار الله الذين كانوا أعرف الناس بقدر مواثيقهم وعهودهم، وكانوا أسمح الناس بالوفاء بما عاهدوا الله ورسوله عليه من التضحية مهما بلغت متطلباتها من الأرواح والدماء والأموال، فهذه البيعة في بواعثها هي بيعة الإيمان بالحق ونصرته، وهي في ملابساتها قوة تناضل قوى هائلة تقف متألبة عليها، ولم يغب عن أنصار الله قدرها ووزنها في ميادين الحروب والقتال، وهي في آثارها تشمير ناهض بكل مايملك أصحابها من وسائل الجهاد القتالي في سبيل إعلاء كلمة الله على كل عالٍ مستكبر في الأرض حتى يكون الدين كله لله، وهي في واقعها التاريخي صدق وعدل ونصر واستشهاد وتبليغ لرسالة الإسلام(1).
2- إن حقيقة الإيمان وأثره في تربية النفوس تظهر آثارها في استعداد هذه القيادات الكبرى، لأن تبذل أرواحها ودمائها في سبيل الله ورسوله، ولايكون لها الجزاء في هذه الأرض كسباً ولامنصباً ولاقيادة ولازعامة، وهم الذين أفنوا عشرات السنين من أعمارهم يتصارعون على الزعامة والقيادة، إنه أثر الإيمان بالله وبحقيقة هذا الدين عندما يتغلغل في النفوس(2).
3- يظهر التخطيط العظيم في بيعة العقبة حيث تمت في ظروف غاية في الصعوبة، وكانت تمثل تحدياً خطيراً وجريئاً لقوى الشرك في ذلك الوقت، ولذلك كان التخطيط النبوي لنجاحها في غاية الإحكام والدقة، على النحو التالي(3).
__________
(1) انظر: محمد رسول الله ، محمد الصادق عرجون (2/400).
(2) انظر: التربية القيادية (2/103).
(3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، د. عبدالرحمن البر، ص61.(4/253)
أ- سرية الحركة والانتقال لجماعة المبايعين، حتى لاينكشف الأمر فقد كان وفد المبايعة المسلم سبعين رجلاً وامرأتين، من بين وفد يثربي قوامه نحو خمسمائة، مما يجعل حركة هؤلاء السبعين صعبة، وانتقالهم أمراً غير ميسور، وقد تحدد موعد اللقاء في ثاني أيام التشريق بعد ثلث الليل، حيث النوم قد ضرب أعين القوم، وحيث قد هدأت الرِّجْل، كما تم تحديد المكان في الشعب الأيمن، بعيداً عن عين من قد يستيقظ من النوم لحاجة(1).
ب- الخروج المنظم لجماعة المبايعين إلى موعد ومكان الإجتماع، فخرجوا يتسللون مستخفين، رجلاً رجلاً، أو رجلين رجلين.
ج- ضرب السرية التامة على موعد ومكان الاجتماع، بحيث لم يعلم به سوى العباس بن عبدالمطلب الذي جاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتوثق له(2)، وعلي بن أبي طالب الذي كان عيناً للمسلمين على فم الشعب، وأبو بكر الذي كان على فم الطريق وهو الآخر عيناً للمسلمين(3)، أما من عداهم من المسلمين وغيرهم فلم يكن يعلم عن الأمر شيئاً، وقد أمر جماعة المبايعين أن لايرفعوا الصوت وأن لايطيلوا في الكلام، حذراً من وجود عين يسمع صوتهم، أو يجس حركتهم(4).
د- متابعة الإخفاء والسرية، حين كشف الشيطان أمر البيعة، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجعوا إلى رحالهم ولايحدثوا شيئاً، رافضاً الاستعجال في المواجهة المسلحة التي لم تتهيأ لها الظروف بعد، وعندما جاءت قريش تستبرئ الخبر موّه المسلمون عليهم بالسكوت، أو المشاركة بالكلام الذي يشغل عن الموضوع(5).
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص61.
(2) نفس المصدر، ص62.
(3) انظر: التربية النبوية (2/109).
(4) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص62.
(5) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص65.(4/254)
هـ- اختيار الليلة الأخيرة من ليالي الحج، وهي ليلة الثالثة عشر من ذي الحجة، حيث سينفر الحجاج إلى بلادهم ظهر اليوم التالي وهو يوم الثالث عشر، ومن ثم تضيق الفرصة أمام قريش في اعتراضهم أو تعويقهم إذا انكشف أمر البيعة، وهو أمر متوقع وهذا ماحدث(1).
4- كانت البنود الخمسة للبيعة من الوضوح والقوة بحيث لاتقبل التمييع والتراخي، إنه السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في اليسر والعسر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام في الله لاتأخذهم فيه لومة لائم ... ونصر لرسول الله وحمايته إذا قدم المدينة(2).
5- سرعان ما استجاب قائد الأنصار دون تردد، البراء بن معرور قائلاً: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يارسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابر فهذا زعيم الوفد يعرض إمكانيات قومه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقومه أبناء الحرب والسلاح(3)ومما يجدر الإشارة إليه في أمر البراء أنه عندما جاء مع قومه من يثرب قال لهم: إني قد رأيت رأياً فوالله ماأرى أتوافقوني عليه أم لا؟
__________
(1) نفس المصدر، ص67.
(2) انظر: التحالف السياسي ، ص82.
(3) نفس المصدر، ص82.(4/255)
فقالوا: وماذاك؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البنَّية - يعني الكعبة - مني بظهر، وأن أصلي إليها، فقالوا له: والله مابلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليِّ إلا إلى الشام - ببيت المقدس - ومانريد أن نخالفه، فكانوا إذا حضرت الصلاة صلوا إلى بيت المقدس، وصلَّى هو إلى الكعبة، واستمروا كذلك حتى قدموا مكة، وتعرفوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس مع عمه العباس بالمسجد الحرام، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - العباس: (هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل )؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :(الشاعر؟) قال: نعم، فقصَّ عليه البراء ماصنع في سفره من صلاته إلى الكعبة. قال: فماذا ترى يارسول الله؟ قال:(قد كنت على قبلة لو صبرت عليها)(1) قال كعب: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلَّى معنا إلى الشام فلما حضرته الوفاة أمر أهله أن يوجهوه قبل الكعبة، ومات في صفر قبل قدومه - صلى الله عليه وسلم - بشهر، وأوصى بثلث ماله إلى النبي، فقبله وردّه على ولده، وهو أول من أوصى بثلث ماله(2) ويستوقفنا في هذا الخبر:
أ- الانضباط والالتزام من المسلمين بسلوك رسولهم وأوامره، وإن أي اقتراح مهما كان مصدره يتعارض مع ذلك يعتبر مرفوضاً، وهذه من أولويات الفقه في دين الله، تأخذ حيزها من حياتهم وهم بعد مازالوا في بداية الطريق.
ب- إن السيادة لم تعد لأحد غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن توقير أي إنسان واحترامه إنما هو انعكاس لسلوكه والتزامه بأوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا بدأت تنزاح تقاليد جاهلية لتحل محلها قيم إيمانية فهي المقاييس الحقة التي بها يمكن الحكم على الناس تصنيفاً وترتيباً(3).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/444).
(2) نفس المصدر (1/445).
(3) انظر: معين السيرة النبوية للشامي، ص135.(4/256)
6- كان أبو الهيثم بن التيهان صريحاً عندما قال للرسول - صلى الله عليه وسلم - إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيتم إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم وهذا الاعتراض يدلنا على الحرية العالية التي رفع الله تعالى المسلمين إليها بالإسلام، حيث عبر عما في نفسه بكامل حريته(1)، وكان جواب سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - عظيماً، فقد جعل نفسه جزءاً من الأنصار والأنصار جزءاً منه(2).
7- يؤخذ من اختيار النقباء دروس مهمة منها:
أ- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعين النقباء إنما ترك طريق اختيارهم إلى الذين بايعوا، فإنهم سيكونون عليهم مسئولين وكفلاء، والأولى أن يختار الإنسان من يكفله ويقوم بأمره، وهذا أمر شوري وأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يمارسوا الشورى عملياً من خلال اختيار نقبائهم.
ب- التمثيل النسبي في الاختيار، من المعلوم أن الذين حضروا البيعة من الخزرج أكثر من الذين حضروا البيعة من الأوس، ثلاثة أضعاف من الأوس بل يزيدون، ولذلك كان النقباء ثلاثة من الأوس وتسعة من الخزرج(3).
ج- جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النقباء مشرفين على سير الدعوة في يثرب، حيث استقام عود الإسلام هناك، وكثر مثقفوه، وأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يشعرهم أنهم لم يعودوا غرباء لكي يبعث إليهم أحداً من غيرهم، وأنهم غدوا أهل الإسلام وحماته وأنصاره(4).
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (3/97).
(2) انظر: التربية القيادية (2/67).
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص209.
(4) انظر: دراسات في السيرة النبوية، د. عماد الدين خليل، ص132.(4/257)
8- تأكد زعماء مكة من حقيقة الصفقة التي تمت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأنصار، فخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بأذخر، والمنذر بن عمرو وكلاهما كان نقيباً، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فأخذوه، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته وكان ذا شعر كثير(1)، واستطاع أن يتخلص من قريش بواسطة الحارث بن حرب بن أمية وجبير بن مطعم، لأنه كان يجير تجارتهم ببلده؛ فقد انقذته أعراف الجاهلية، ولم تنقذه سيوف المسلمين، ولم يجد في نفسه غضاضة من ذلك، فهو يعرف أن المسلمين مطاردون في مكة، وعاجزون عن حماية أنفسهم(2)، وقد قيل في هذه الحادثة أول شعر في الهجرة بيتين قالهما ضرار بن الخطاب بن مرداس حيث قال:
تداركت سعداً عنوة فأخذته
... ... ... وكان شفاءً لو تداركت منذراً
ولو نلته طُلَّتْ(3) هناك جراحه
... ... ... وكان حرّيا أن يهان ويهدرا
وكان حسان بن ثابت رضي الله عنه بالمرصاد ورد عليه بأبيات من الشعر تناقلتها الركبان:
ولست إلى سعد ولا المرء منذر
... ... ... إذا مامطايا القوم أصبحن ضُمّرا(4)
فلا تك كالوسنان يحلم أنه
... ... ... بقرية كسرى أو بقرية قيصرا
فإنا ومن يهدي القصائد نحونا
... ... ... كَمُستبضع تمرا إلى أرض خيبرا(5)
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (3/107).
(2) انظر: التربية القيادية (2/116).
(3) أي اهدرت .
(4) جمع ضامر: الضامر من الخيل والإبل الخفيف اللحم من التدريب.
(5) سيرة ابن هشام (2/65).(4/258)
9- في قول العباس بن عبادة بن نضلة: والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلنَّ على أهل منى غداً بأسيافنا، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم، درس تربوي بليغ وهو أن الدفاع عن الإسلام، والتعامل مع أعداء هذا الدين ليس متروكاً لاجتهاد اتباعه وإنما هو خضوع لأوامر الله تعالى وتشريعاته الحكيمة فإذا شرع الجهاد فإن أمر الإقدام أو الاحجام متروك لنظر المجتهدين بعد التشاور ودراسة الأمر من جميع جوانبه(1)، وكلما كانت عبقرية التخطيط السياسي أقوى أدّت إلى نجاح المهمات أكثر، وإخفاء المخططات وتنفيذها عن العدو هو الكفيل بإذن الله بنجاحها (ولكن ارجعوا إلى رحالكم)(2).
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (3/104).
(2) انظر: التحالف السياسي في الاسلام، ص96.(4/259)
10- كانت البيعة بالنسبة للرجال ببسط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده وقالوا: له ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولاً، ماصافح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأة أجنبية قط، فلم يتخلف أحد في بيعته - صلى الله عليه وسلم - حتى المرأتين بايعتا بيعة الحرب، وصدقتا عهدهما، فأما نسيبة بنت كعب (أم عمارة) فقد سقطت في أحد وقد أصابها اثنا عشر جرحاً وقد خرجت يوم أحد مع زوجها زيد بن عاصم بن كعب ومعها سقاء تسقي به المسلمين، فلما انهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانت تباشر القتال وتذب عنه بالسيف وقد أصيبت بجراح عميقة وشهدت بيعة الرضوان(1)، وقطع مسيلمة الكذاب ابنها إرباً إرباً فما وهنت وما استكانت(2) وشهدت معركة اليمامة في حروب الردة مع خالد بن الوليد فقاتلت حتى قطعت يدها وجرحت إثنا عشر جُرحاً(3)، وأما أسماء ابنة عمرو من بني سلمة قيل هي والدة معاذ بن جبل وقيل ابنة عمة معاذ بن جبل رضي الله عنهم جميعاً(4).
11- عندما نراجع تراجم أصحاب العقبة الثانية من الأنصار في كتب السير والتراجم نجد أن هؤلاء الثلاثة والسبعين قد استشهد قرابة ثلثهم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده، ونلاحظ أنه قد حضر المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرابة النصف، فثلاثة وثلاثون منهم كانوا بجوار الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع غزواته، وأما الذين حضروا غزوة بدر فكانوا قرابة السبعين.
__________
(1) انظر: المرأة في العهد النبوي، دكتواره عضمة الدين، ص108.
(2) انظر: التحالف السياسي، ص87.
(3) ابن هشام (2/80)، أسد الغابة (5/395)، البداية والنهاية (3/158-166)، الإصابة (8/8) رقم 48،49 نقلاً عن المرأة في العهد النبوي، ص108.
(4) انظر: المرأة في العهد النبوي ، ص108.(4/260)
لقد صدق هؤلاء الأنصار عهدهم مع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فمنهم من قضى نحبه ولقى ربه شهيد، ومنهم من بقي حتى ساهم في قيادة الدولة المسلمة وشارك في أحداثها الجسام بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبمثل هذه النماذج قامت دولة الإسلام، النماذج التي تعطي ولا تأخذ، والتي تقدم كل شيء، ولاتطلب شيئاً إلا الجنة، ويتصاغر التاريخ في جميع عصوره ودهوره أن يحوي في صفحاته أمثال هؤلاء الرجال(1).
المبحث الرابع
الهجرة إلى المدينة
أولاً: التمهيد والإعداد لها:
إن الهجرة إلى المدينة سبقها تمهيد وإعداد وتخطيط من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك بتقدير الله تعالى وترتيبه، وكان هذا الإعداد في اتجاهين، إعداد في شخصية المهاجرين، وإعداد في المكان المهاجر إليه.
1- إعداد المهاجرين:
لم تكن الهجرة نزهة أو رحلة يروح فيها الإنسان عن نفسه، ولكنها مغادرة الأرض والأهل، ووشائج القربى، وصلات الصداقة والمودة، وأسباب الرزق، والتخلي عن كل ذلك من أجل العقيدة، ولهذا احتاجت إلى جهد كبير حتى وصل المهاجرون إلى قناعة كاملة بهذه الهجرة ومن تلك الوسائل:
- التربية الإيمانية العميقة التي تحدثنا عنها في الصفحات الماضية.
- الاضطهاد الذي أصاب المؤمنين حتى وصلوا إلى قناعة كاملة بعدم إمكانية المعايشة مع الكفر.
- تناول القرآن المكي التنويه بالهجرة، ولفت النظر إلى أن أرض الله واسعة، قال تعالى:{ قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (سورة الزمر، الآية:10).
__________
(1) انظر: التربية القيادية (2/140).(4/261)
ثم تلا ذلك نزول سورة الكهف، وتحدثت عن الفتية الذين آمنوا بربهم وعن هجرتهم من بلدهم إلى الكهف، وهكذا استقرت صورة من صور الإيمان في نفوس الصحابة وهي تترك أهلها ووطنها من أجل عقيدتها.
ثم تلا ذلك آيات صريحة تتحدث عن الهجرة في سورة النحل، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ صدق الله العظيم } (سورة النحل، الآيتان:41-42).
وفي أواخر السورة يؤكد المعنى مرة أخرى بقوله تعالى:{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة النحل، الآية:110).
وكانت الهجرة إلى الحبشة تدريباً عملياً على ترك الأهل والوطن(1).
2- الإعداد في يثرب:
نلاحظ: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسارع بالانتقال إلى الأنصار من الأيام الأولى وإنما أخر ذلك لأكثر من عامين، حتى تأكد من وجود القاعدة الواسعة نسبياً، كما كان في الوقت نفسه يتم إعدادها في أجواء القرآن الكريم وخاصة بعد انتقال مصعب إلى المدينة.
وقد تأكد أن الاستعداد لدى الأنصار قد بلغ كماله وذلك بطلبهم هجرة الرسول الكريم إليهم، كما كانت المناقشات التي جرت في بيعة العقبة الثانية تؤكد الحرص الشديد من الأنصار على تأكيد البيعة والاستيثاق للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأقوى المواثيق على أنفسهم، وكان في رغبتهم أن يميلوا على أهل منى ممن آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأسيافهم لو أذن الرسول الكريم بذلك ولكنه قال لهم: لم أؤمر بذلك.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، صالح الشامي، ص118.(4/262)
وهكذا تم الإعداد لأهل يثرب ليكونوا قادرين على استقبال المهاجرين ومايترتب على ذلك من تبعات(1).
ثانياً: تأملات في بعض آيات سورة العنكبوت:
تعتبر سورة العنكبوت من أواخر مانزل في المرحلة المكية، وتحدثت السورة عن سنة الله في الدعوات وهي سنة الابتلاء قال تعالى: {الم صدق الله العظيم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ صدق الله العظيم وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ صدق الله العظيم أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ صدق الله العظيم } (سورة العنكبوت، الآيات: 1-4) وفي سورة العنكبوت ثلاثة أمور تلفت النظر وهي:
1- ذكر كلمة المنافقين، ومن المعلوم أن النفاق لايكون إلا عندما تكون الغلبة للمسلمين، حيث يغشى بعض الناس على مصالحهم فيظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، ومن المعلوم أن المجتمع كان جاهلياً في مكة وكانت القوة والغلبة لأهل الشرك، فما مناسبة مجئ المنافقين في هذه السورة في قوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} (سورة العنكبوت، الآية:11).
وهي سورة مكية كما قلنا، فهل كانت الآمال قد قويت عند الفئة المؤمنة بحيث تراءى لهم الفرج والنصر قاب قوسين أو أدنى، أم أن هذه الآية مدنية وضعت في سورة مكية، لأن النفاق لم يحن وقته بعد كما ذهب بعض المفسرين(2).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة، ص120،121.
(2) انظر: في ذلك صنيع محمد فؤاد عبدالباقي في المعجم المفهرس حيث رمز الآية بـ (م) وهو رمز الآيات المدنية وماذكره القرطبي من خلاف العلماء في الاية (13/323).(4/263)
2- ورد الأمر بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وكأنه تهيئة للنفوس للمرحلة القادمة التي سيكون بين المسلمين وبين أهل الكتاب احتكاك، فلا يكونوا البادئين بالشدة، فيأتي التنبيه على هذا الأمر في قوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا ءَامَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ صدق الله العظيم وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ صدق الله العظيم } (سورة العنكبوت، الآيتان:46-47).
3- تهيئة النفوس للهجرة في أرض الله الواسعة، وربما كانت المدينة قد بدأت تستقبل المهاجرين من المؤمنين بعد بيعة العقبة الأولى، ومهما كان الأمر وأنى كان وقت نزول سورة العنكبوت فإن الإشارة واضحة والحث على الهجرة أيضاً واضح ببيان تكفل الله الرزق للعباد في أي أرض وفي أي زمان(1).
قال تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (سورة العنكبوت، الآية:56).
__________
(1) انظر: معالم قرآنية في الصراع مع اليهود، د. مصطفى مسلم، ص62،63.(4/264)
فهذه الآية الكريمة نزلت في تحريض المؤمنين الذين كانوا بمكة على الهجرة، لأن البقاء في بقعة على أذى الكفار ليس بصواب، بل الصواب أن يلتمس عبادة الله في أرضه مع صالحي عباده، أي إن كنتم في ضيق من إظهار الإيمان بها فهاجروا إلى المدينة فإنها واسعة لإظهار التوحيد(1)، ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لايختص ببقعة معينة، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا، وأين كانوا، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب، فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار(2)، ولهذا قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (سورة العنكبوت، الآية:60).
كما ذكرهم تعالى أن كل نفس واجدة مرارة الموت، فقال جل شأنه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (سورة العنكبوت، الآية:57).
أي واجدة مرارته وكربه كما يجد الذائق طعم المذوق ومعناه: إنكم ميتون فواصلون إلى الجزاء، ومن كانت هذه عاقبته لم يكن له بد من التزود لها والاستعداد بجهده(3)، وهذا تشجيع للنفس على الهجرة، لأن النفس إذا تيقنت بالموت سهل عليها مفارقة وطنها(4).
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي (6/5073).
(2) تفسير ابن كثير (3/360).
(3) انظر: الكشاف للزمخشري(3/310)، تفسير ابي السعود ( 7/45) وتفسير فتح القدير (4/210).
(4) انظر: الأساس في التفسير لسعيد حوى (8/4223).(4/265)
قال ابن كثير في الآية: أي أينما كنتم يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله، وحيث أمركم الله فهو خير لكم، فإن الموت لابد منه، ولا محيد عنه، ثم إلى الله المرجع والمآب، فمن كان مطيعاً له جازاه أفضل الجزاء، ووافاه أتم الثواب(1) ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ صدق الله العظيم الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ صدق الله العظيم } (سورة العنكبوت، الآيتان:58-59). أي صبروا على دينهم وهاجروا إلى الله، ونابذوا الأعداء، وفارقوا الأهل والأقرباء ابتغاء وجه الله ورجاء ماعنده وتصديق موعوده، ولم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على الله(2).
ثالثاً: طلائع المهاجرين:
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (3/359).
(2) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص325.(4/266)
لما بايعت طلائع الخير ومواكب النور من أهل يثرب النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام والدفاع عنه ثارت ثائرة المشركين، فازدادوا ايذاءً للمسلمين، فأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين بالهجرة إلى المدينة وكان المقصود من الهجرة إلى المدينة إقامة الدولة الإسلامية التي تحمل الدعوة، وتجاهد في سبيلها، حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله(1) وكان التوجيه إلى المدينة من الله تعالى، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما صدر السبعون من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طابت نفسه، وقد جعل الله له منعة وقوماً أهل حرب وعدة، ونجدة، وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمون من الخروج، فضيقوا على أصحابه وتعبثوا(2) بهم ونالوا منهم مالم يكونوا ينالون من الشتم والأذى فشكا ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستأذنوه في الهجرة فقال:( قد أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان، ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هي هي) ثم مكث أياماً ثم خرج إلى أصحابه مسروراً فقال:(قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فيخرج إليها) فجعل القوم يتجهون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك، فكان أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو سلمة بن عبدالأسد ثم قدم بعده عامر بن ربيعة معه امرأته ليلى بنت أبي خيثمة، فهي أول ظعينة قدمت المدينة، ثم قدم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسالاً، فنزلوا على الأنصار في دورهم فآووهم ونصروهم وآسوهم، وكان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين بقباء قبل أن يقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما خرج المسلمون في هجرتهم إلى المدينة، كلبت(3) قريش
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص33،34.
(2) انظر: عبث: عبثاً: لعب فهو عابث لاعب لما لا يعينه. أنظر : لسان العرب (2/166).
(3) كلبت قريش عليهم: أي غضبت عليهم.(4/267)
عليهم وحربوا واغتاظوا على من خرج من فتيانهم، وكان نفر من الأنصار بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البيعة الآخرة، ثم رجعوا إلى المدينة، فلما قدم أول من هاجر إلى قباء خرجوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة حتى قدموا مع أصحابه في الهجرة فهم مهاجرون أنصاريون، وهم ذكوان بن عبد قيس، وعقبة بن وهب بن كلدة والعباس بن عبادة بن نضلة وزياد بن لبيد، وخرج المسلمون جميعاً إلى المدينة فلم يبقى بمكة فيهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، وعلي، أو مفتون أو مريض أو ضعيف عن الخروج(1).
رابعاً: من أساليب قريش في محاربة المهاجرين ومن مشاهد العظمة في الهجرة:
عملت قيادة قريش مافي وسعها للحيلولة دون خروج من بقي من المسلمين إلى المدينة واتبعت في ذلك عدة أساليب منها:
1- أسلوب التفريق بين الرجل وزوجه وولده:
ونترك أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية تحدثنا عن روائع الإيمان وقوة اليقين في هجرتها وهجرة زوجها أبي سلمة. قالت رضي الله عنها:(لما أجمع أبي سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره، ثم حملني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج بي يقود بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها إلى البلاد؟
قالت: فتركوا خطام البعير من يده فأخذوني منه
قالت: وغضب عند ذلك بنو عبدالأسد رهط أبي سلمة.
قالوا: لا والله لانترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.
قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة.
قالت: ففُرق بيني وبين زوجي وبين ابني.
__________
(1) انظر: طبقات ابن سعد (1/325).(4/268)
قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح، فما أزال أبكي حتى أمسي، سنة أو قريباً منها، حتى مرّ بي رجل من بني عمي - أحد بني المغيرة - فرأى مابي، فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة فرَّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها؟
قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت.
قالت: وردّ بنو عبد الأسد إليّ عند ذلك ابني.
قالت: فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة ومامعي أحد من خلق الله.
قالت: فقلت: أتبلغ بمن لقيت حتى أقدم على زوجي، حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخا بني عبدالدار.
فقال لي: إلى أين يابنت أبي أمية؟
قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة.
قال: أو مامعك أحد؟
قالت: فقلت: لاوالله إلا الله وبنيَّ هذا.
قال: والله مالك من مترك.
فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ماصحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم أستأخر عني، حتى إذا نزلت عنه أستأخر ببعيري فحط عنه، ثم قيَّده في الشجرة، ثم تنحى إلى الشجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني فقال: اركبي، فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاد بي حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة بها نازلاً، فادخليها على بركة الله. ثم انصرف راجعاً إلى مكة.
قال فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة)(1).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/202،203).(4/269)
فهذا مثل على الطرق القاسية التي سلكتها قريش لتحول بين أبي سلمة والهجرة، فرجل يفرق بينه وبين زوجه عنوة، وبينه وبين فلذة كبده، على مرأى منه، كل ذلك من أجل أن يثنوه عن الهجرة ولكن متى ماتمكن الإيمان من القلب، استحال أن يقدم صاحبه على الإسلام والإيمان شيئاً، حتى لو كان ذلك الشيء فلذة كبده، أو شريكة حياته لذا انطلق أبو سلمة رضي الله عنه إلى المدينة لايلوي على أحد، وفشل معه هذا الأسلوب وللدعاة إلى الله فيه أسوة(1).
وهكذا أثر الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب، فهذه أسرة فرق شملها، وامرأة تبكي شدة مصابها، وطفل خلعت يده وحُرِم من أبويه، وزوج وأب يسجل أروع صور التضحية والتجرد، ليكون أول مهاجر يصل أرض الهجرة، محتسبين في سبيل الله مايلقون، مصممين على المضي في طريق الإيمان والانحياز إلى كتيبة الهدى فماذا عسى أن ينال الكفر وصناديده من أمثال هؤلاء؟
وأما صنيع عثمان بن طلحة رضي الله عنه، فقد كان يومئذ كافراً (وأسلم قبل الفتح)، ومع ذلك تشهد له أم سلمة رضي الله عنها بكرم الصحبة، وذلك شاهد صدق على نفاسة هذا المعدن، وكمال مروءته، وحمايته للضعيف(2)، (فقد أبت عليه مروءته وخلقه العربي الأصيل أن يَدَع امرأة شريفة تسير وحدها في هذه الصحراء الموحشة، وإن كانت على غير دينه، وهو يعلم أنها بهجرتها تراغمه وأمثاله من كفار قريش!
فأين من هذه الأخلاق - ياقومي المسلمين - أخلاق الحضارة في القرن العشرين، من سطو على الحريات، واغتصاب للأعراض، بل وعلى قارعة الطريق، وما تطالعنا به الصحافة كل يوم من أحداث يندي لها جبين الإنسانية، ومن تفنن في وسائل الاغتصاب، وانتهاك الأعراض، والسطو على الأموال.
__________
(1) انظر: في السيرة النبوية، د. ابراهيم علي محمد ، ص130،131. تقسيم الأساليب أخذت من هذا الكتاب ومشاهد العظمة من الهجرة النبوية المباركة.
(2) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص124.(4/270)
إن هذه القصة - ولها مُثُلُ ونظائر - لتشهد أن ماكان للعرب من رصيد من الفضائل كان أكثر من مثالبهم ورذائلهم، فمن ثم اختار الله منهم خاتم انبيائه ورسله، وكانوا أهلاً لحمل الرسالة، وتبليغها للناس كافة(1).
وتظهر عناية الله تعالى بأوليائه وتسخيره لهم، فهو جل وعلا الذي سخر قلب عثمان بن طلحة للعناية بأم سلمة ولذلك بذل الجهد والوقت من أجلها(2)، كما تظهر سلامة فطرة عثمان بن طلحة التي قادته أخيراً إلى الإسلام بعد صلح الحديبية، ولعل إضاءة قلبه بدأت منذ تلك الرحلة في مصاحبته لأم سلمة رضي الله عنهم(3).
2- أسلوب الاختطاف:
لم تكتف قيادة قريش بالمسلمين داخل مكة، لمنعهم من الهجرة، بل تعدت ذلك إلى محاولة إرجاع من دخل المدينة مهاجراً، فقامت بتنفيذ عملية اختطاف أحد المهاجرين، ولقد نجحت هذه المحاولة وتم اختطاف المهاجرين من المدينة وأعيد إلى(4) مكة، وهذه الصورة التاريخية للاختطاف يحدثنا بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث قال: (اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا وعيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل السهمي، التناضب(5)، من أضَاة(6) بني غفار، فوق سَرِف(7)، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حُبس، فليمض صاحباه.
قال: فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التَّناضب، وحُبس عنا هشام، وفُتن فافتتن(8).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنّة، د. محمد أبو شهبة (1/461).
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (3/128).
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/204).
(4) انظر: في السيرة النبوية، ص132.
(5) التناضب: جمع تنضيب وهو شجر.
(6) الأضاة: على عشرة أميال من مكة.
(7) سرف: وادي متوسط الطول من أودية مكة.
(8) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص129.(4/271)
فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عيَّاش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، حتى قدما علينا المدينة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فكلَّماه وقالا: إن أمك قد نذرت أن لايمسَّ رأسها مُشطٌ حتى تراك، ولاتستظلَّ من شمس حتى تراك، فرقَّ لها، فقلت له: عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت.
قال: أبرُّ قسم أمي، ولي هناك مال فآخذه.
قال: فقلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولاتذهب معهما. قال: فأبى عليَّ إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك، قال: قلت له: أما إذ قد فعلت مافعلت، فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول(1)، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها فخرج عليهما معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي،والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تُعقبني(2) على ناقتك هذه؟ قال: بلى. قال: فأناخ، وأناخ، ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه، ثم دخلا به مكة، وفتناه فافتتن(3).
__________
(1) الذلول: أذلها العمل، فصارت سهلة الركوب والانقياد.
(2) تُعقبني: تجعلني أعقبك عليها لركوبها.
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/205).(4/272)
قال: فكنا نقول: ما الله بقابل ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولاتوبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ صدق الله العظيم وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ صدق الله العظيم وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ صدق الله العظيم } (سورة الزمر، الآيات:53-55).
قال عمر بن الخطاب: فكتبتها بيدي في صحيفة، وبعثت بها إلى هشام بن العاص قال: فقال هشام: فلّما أتتني جعلت أقرؤها بذي طوى(1) أصَعَّد بها فيه، وأصَوَّبُ، ولا أفهمها، حتى قلت: اللهمَّ فهِّمنيها، قال: فألقى الله تعالى في قلبي أنها إنما أنزلت فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا. قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه، فلحقت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو بالمدينة(2).
__________
(1) ذو طوى: وادٍ من أودية مكة.
(2) المجمع للهيثمي (6/61)، الهجرة النبوية المباركة، ص131.(4/273)
هذه الحادثة تظهر لنا كيف أعد عمر رضي الله عنه خطة الهجرة له، ولصاحبيه عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي، وكان ثلاثتهم كل واحد من قبيلة، وكان مكان اللقاء الذي اتعدوا فيه بعيداً عن مكة وخارج الحرم على طريق المدينة، ولقد تحدد الزمان والمكان بالضبط بحيث أنه إذا تخلف أحدهم فليمض صاحباه ولا ينتظرانه، لأنه قد حبس، وكما توقعوا، فقد حبس هشام بن العاص رضي الله عنه بينما مضى عمر وعيّاش بهجرتهما ونجحت الخطة كاملة ووصلا المدينة سالمين(1).
إلا أن قريشاً صممت على متابعة المهاجرين ولذلك أعدت خطة محكمة قام بتنفيذها أبو جهل، والحارث وهما أخوة عياش من أمه، الأمر الذي جعل عياشاً يطمئن لهما، وبخاصة إذا كان الأمر يتعلق بأمه، فاختلق أبو جهل هذه الحيلة لعلمه بمدى شفقة ورحمة عياش بأمه، والذي ظهر جلياً عندما أظهر موافقته على العودة معهم، كما تظهر الحادثة الحس الأمني الرفيع الذي كان يتمتع به عمر رضي الله عنه، حيث صدقت فراسته في أمر الاختطاف(2).
كما يظهر المستوى العظيم من الأخوة التي بناها الإسلام في هذه النفوس، فعمر يضحي بنصف ماله حرصاً على سلامة أخيه، وخوفاً عليه من أن يفتتنه المشركون بعد عودته، ولكن غلبت عياش عاطفته نحو أمه، وبره بها ولذلك قرر أن يمضي لمكة فيبر قسم أمه ويأتي بماله هناك، وتأبى عليه عفته أن يأخذ نصف مال أخيه عمر رضي الله عنه وماله قائم في مكة لم يمس، غير أن أفق عمر رضي الله عنه كان أبعد، فكأنه يرى رأي العين المصير المشؤوم الذي سينزل بعياش لو عاد إلى مكة، وحين عجز عن إقناعه أعطاه ناقته الذلول النجيبة، وحدث لعياش ماتوقعه عمر من غدر المشركين به(3).
__________
(1) انظر: التربية القيادية (2/159).
(2) انظر: في السيرة النبوية، ص134.
(3) انظر: التربية القيادية (2/160).(4/274)
وساد في الصف المسلم أن الله تعالى لايقبل صرفاً ولاعدل من هؤلاء الذين فتنوا فافتتنوا وتعايشوا مع المجتمع الجاهلي، فنزل قول الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.....} وما إن نزلت هذه الآيات حتى سارع الفاروق رضي الله عنه فبعث بهذه الآية إلى أخيه الحميم عياش وهشام ليجددوا محاولاتهما في مغادرة معسكر الكفر، أي سمو عظيم عند ابن الخطاب رضي الله عنه. لقد حاول مع أخيه عياش، أعطاه نصف ماله على ألا يغادر المدينة، وأعطاه ناقته ليفر عليه، ومع هذا كله، فلم يشمت بأخيه، ولم يشتف منه لأنه خالفه، ورفض نصيحته، وألقى برأيه خلف ظهره، إنما كان شعور الحب والوفاء لأخيه هو الذي يسيطر عليه، فما أن نزلت الآية حتى سارع ببعثها إلى أخويه من مكة لكل المستضعفين هناك ليقوموا بمحاولات جديدة للانضمام إلى المعسكر الإسلامي(1). ... ... ... ... ... ... ...
3- أسلوب الحبس:
لجأت قريش إلى الحبس، كأسلوب لمنع الهجرة، فكل من تقبض عليه وهو يحاول الهجرة، كانت تقوم بحبسه داخل أحد البيوت، مع وضع يديه ورجليه في القيد، وتفرض عليه رقابة وحراسة مشددة، حتى لايتمكن من الهرب، وأحياناً يكون الحبس داخل حائط بدون سقف، كما فعل مع عياش وهشام بن العاص، رضي الله عنهما، حيث كانا محبوسين في بيت لاسقف له(2). وذلك زيادة في التعذيب، إذ يضاف إلى وحشة الحبس حرارة الشمس وسط بيئة جبلية شديدة الحرارة مثل مكة.
__________
(1) انظر: التربية القيادية (2/160).
(2) انظر: في السيرة النبوية، ص132.(4/275)
فقيادة قريش تريد بذلك تحقيق هدفين: أولهما منع المحبوسين من الهجرة، والآخر أن يكون هذا الحبس درساً وعظة لكل من يحاول الهجرة من أولئك الذين يفكرون بها ممن بقي من المسلمين بمكة، ولكن لم يمنع هذا الأسلوب المسلمين من الخروج إلى المدينة المنورة، فقد كان بعض المسلمين محبوسين في مكة مثل عياش، وهشام رضي الله عنهما، ولكنهم تمكنوا من الخروج واستقروا بالمدينة(1).
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته يقنت ويدعو للمستضعفين في مكة عامة ولبعضهم بأسمائهم خاصة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول: (اللهم أنج عيّاش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف)(2).
ولم يترك المسلمون أمر اختطاف عياش، فقد ندب الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحد أصحابه وفعلاً استعد للمهمة ورتب لها مايحقق نجاحها وجاء الى مكة واستطاع بكل اقتدار وذكاء أن يصل الى البيت الذي حُبسا فيه وأطلق سراحهما ورجع بهما الى المدينة المنورة(3).
4- أسلوب التجريد من المال:
كان صهيب بن سنان النَّمري من النِّمر بن قاسط أغارت عليهم الروم، فسُبي وهو صغير، وأخذ لسان أولئك الذي سَبَوهْ، ثم تقلَّب في الرِّق، حتى ابتاعه عبدالله بن جدعان ثم اعتقه، ودخل الإسلام هو وعمار بن ياسر رضي الله عنهما في يوم واحد(4).
__________
(1) نفس المصدر، ص132
(2) البخاري، باب الاستسقاء (2/33) رقم 1006.
(3) انظر: في السيرة النبوية ، ص135.
(4) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص119.(4/276)
وكانت هجرة صهيب رضي الله عنه عملاً تتجلى فيه روعة الإيمان، وعظمة التجرد لله، حيث ضحّى بكل مايملك في سبيل الله ورسوله واللحوق بكتيبة التوحيد والإيمان(1)، فعن أبي عثمان النهدي رحمه الله قال: (بلغني أن صهيباً حين أراد الهجرة إلى المدينة قال له أهل مكة: أتيتنا هاهنا صُعْلُوكاً(2)، حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت مابلغتَ، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لايكون ذلك. فقال: أرأيتم إن تركت مالي تخلون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم فجعل لهم ماله أجمع فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ربح صهيب، ربح صهيب)(3)، وعن عكرمة رحمه الله قال: (لما خرج صهيب مهاجراً تبعه أهل مكة، فنشل(4) كنانته، فأخرج منها أربعين سهماً، فقال: لا تصلون إليَّ حتى أضع في كل رجل منكم سهماً، ثم أصيرُ بعد إلى السيف فتعلمون أني رجل، وقد خلَّفت بمكة قينتين، فهما لكم)(5)، وقال عكرمة: ونزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (سورة البقرة، الآية:207). فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(أبا يحيى، ربح البيع) قال: وتلا عليه(6) الآية.
لكأني(7) بصهيب رضي الله عنه يقدم الدليل القاطع على فساد عقل أولئك الماديين، الذين يوزنون حركات التاريخ وأحداثه كلها بميزان المادة، فأين هي المادة التي سوف يكسبها صهيب في هجرته والتي ضحى من أجلها بكل مايملك؟
__________
(1) نفس المصدر، ص120.
(2) الصعلوك: الفقير.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/477).
(4) نشل: استخرج مافيها من النبل والسهام.
(5) مرسل أخرجه الحاكم (3/398).
(6) أخرجه الحاكم (3/398) صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وسكت عليه الذهبي.
(7) انظر: الهجرة النبوية المباركة، د. عبدالرحمن البر، ص121.(4/277)
هل تراه ينتظر أن يعطيه محمد - صلى الله عليه وسلم - منصباً يعوّضه عما فقده؟ أم هل ترى محمداً - صلى الله عليه وسلم - يُمنيَّه بالعيش الفاخر في جوار أهل يثرب؟
إن صهيب مافعل ذلك، وما انحاز إلى الفئة المؤمنة إلا ابتغاء مرضاة الله بالغاً مابلغ الثمن، ليضرب لشباب الإسلام مثلاً في التضحية عزيزة المنال، عساهم يسيرون على الدرب، ويقتفون الأثر(1).
إن هذه المواقف الرائعة لم تكن هي كلَّ مواقف العظمة والشموخ في الهجرة المباركة، بل امتلأ هذا الحدث العظيم بكثير من مشاهد العظمة والتجرد والتضحية التي تعطي الأمة دروساً بليغة في بناء المجد وتحصيل العزة(2).
خامساً: البيوتات الحاضنة وأثرها في النفوس:
لقد كان من نتائج إيمان الأنصار ومبايعتهم وتعهدهم بالنصرة أن دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين إلى الهجرة إلى المدينة، كما كان من نتائج ذلك أن ظهرت ظاهرة عظيمة من التكافل بين المسلمين، ففتحت بيوت الأنصار أبوابها وقلوب أصحابها لوفود المهاجرين، واستعدت لاحتضانهم - رجالاً ونساءً، إذ أصبح المسكن الواحد يضمّ المهاجر والأنصاري والمهاجرة والأنصارية، يتقاسمون المال والمكان والطعام والمسؤولية الإسلامية فمن هذه البيوتات الحاضنة:
1- دار مبشّر بن عبدالمنذر بن زنبر بقباء: ونزل بها مجموعة من المهاجرين نساء ورجالاً، وقد ضمت هذه الدور عمر بن الخطاب ومن لحق به من أهله وقومه وابنته حفصة وزوجها وعيّاش بن ربيعة.
2- دار خُبيب بن أساف أخي بني الحارث بن الخزرج بالسنج(3) نزل بها طلحة بن عبيد الله بن عثمان وأمه وصهيب بن سنان.
3- دار أسعد بن زرارة من بني النّجار قيل نزل بها حمزة بن عبدالمطلب.
4- دار سعد بن خيثمة أخي بني النجار وكان يسمّى بيت العزاب ونزل بها الأعزب من المهاجرين.
__________
(1) نفس المصدر، ص121.
(2) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص119.
(3) المرأة في العهد النبوي، ص116.(4/278)
5- دار عبدالله بن سلمة أخي بن عجلان بقباء:
نزل بها عبيدة بن الحارث وأمّه سخيلة، ومصبح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب، والطفيل بن الحارث، وطليل بن عمير، والحصين بن الحارثي نزلوا جميعاً على عبدالله بن سلمة بقباء.
6- دار بني جحجبي والمحتضن هو منذر بن محمد بن عقبة، نزل عنده الزبير بن العوام، وزوجه أسماء بنت أبي بكر، وأبو سبرة بنت أبي وهب وزوجته أم كلثوم بنت صهيب(1).
7- دار بني عبد الأشهل والمحتضن هو سعد بن معاذ بن النعمان من بني عبد الأشهل، نزل بها مصعب بن عمير وزوجته حمنة بنت جحش.
8- دار بني النجار والمحتضن هو أوس بن ثابت بن المنذر نزل بها عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2).
فهذه المقاسمة وهذا التكافل الإجتماعي كان من أهم العناصر التي مهدت لإقامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته المهاجرين معه وبعده إقامة طيبة تنبض بالأثرة على النفس وودّ الأخوة الصادقة المؤمنة(3).
بهذه الروح العالية والإيمان الوثيق والصدق في المعاملة تمت المؤاخاة وتم الوفاق بين المهاجرين والأنصار. وقد يحدث تساؤلاً فيقال: لماذا لم نسمع ولم تسجل المصادر ولم تكتب المراجع أن خلافات وقعت في هذه البيوت؟
__________
(1) انظر: المرأة في العهد النبوي ، ص117.
(2) انظر: السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنّة لأبي شهبة (1/468،469).
(3) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص118.(4/279)
وأين النساء وما أشتهرن به من مشاكسات؟ إنه الدين الحق الذي جعل تقوى الله أساساً لتصرف كل نفس والأخلاق السامية التي فرضت الأخوة بين المسلمين ونصرة الدعوة، إنها المبايعة وأثرها في النفوس، إنه الصدق، والعمل من أجل المجموعة، خوفاً من العقاب ورهبة من اليوم الآخر، ورغبة في الثواب، وطمعاً في الجنة، أنه دفء حضانة الإيمان واستقامة النفس والسلوك وصدق الطوية، .. فكل من أسلم وكل من بايع وكل من أسلمت وبايعت يعملون جميعهم بما يؤمرون به ويخلصون فيما يقولون، يخافون الله في السر والعلن، آمنت نفوسهم فاحتضنت المهاجرة المناصرة فالكل يعمل من أجل مصلحة الكل، فهذا هو التكافل الاجتماعي في أجلى صورة، وأقدس واقعة رغّب الكل في الثواب حتى أن الواحد منهم يخاف ذهاب المناصر بالأجر كله(1).
__________
(1) انظر: المرأة في العهد النبوي، ص132.(4/280)
إن جانب البذل والعطاء ظاهرة نحن بحاجة إلى الإشارة إليها في كل وقت إننا في عالمنا المعاصر، وفي الصف الإسلامي وفي رحلة لبضعة أيام تتكشف النفوس والعيوب والحزازات والظنون، وهذا مجتمع يبنى ولمّا يصل رسول الله بعد، ومع ذلك تفتح البيوت للوافدين الجدد ليس على مستوى فرد فقط، بل على مستوى جماعي كذلك، ويقيم المهاجرون في بيوت الأنصار أشهراً عدة، والمعايشة اليومية مستمرة والأنصار يبذلون المال والحب والخدمات لإخوانهم القادمين إليهم، نحن أمام مجتمع إسلامي بلغ الذروة في لحمته وانصهاره ولم يكن المهاجرون إلا القدوة للأنصار بالبذل والعطاء، فلم يكونوا أصلاً فقراء، بل كانوا يملكون المال، ويملكون الدار وتركوا ذلك كله ابتغاء مرضات الله، وبذلوه كله لطاعته جل وعلا، فكانوا كما وصفهم القرآن الكريم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سورة الحشر، الآية:8).
كان هذا المجتمع المدني الجديد يتربى على معاني الإيمان والتقوى ولم يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد، ولكن تحت إشراف النقباء الإثنى عشر الذين كانوا في كفالتهم لقومهم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وبإشراف قيادات المهاجرين الكبرى التي وصلت المدينة والذين استقوا جميعاً من النبع النبوي الثر، واقتبسوا من هديه(1).
__________
(1) انظر: التربية القيادية (2/171،172).(4/281)
ومن معالم هذا المجتمع الجديد ذوبان العصبية، فقد كان إمام المسلمين سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه، لأنه كان أكثرهم قرآناً، فهذا المجتمع الذي يوجد فيه علية أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار وسادة العرب من قريش والأوس والخزرج يقوده ويؤمه حامل القرآن، فالكرامة العليا فيه لقارئ كتاب الله وحامله، وحامل القرآن في المجتمع الإسلامي هو نفسه حامل اللواء في الحرب، فليس بينهما ذلك الانفصام الذي نشهده اليوم من حملة القرآن من الحفاظ، وبين المجاهدين في سبيل الله، فقد كان حامل لواء المهاجرين في معركة اليمامة سالم مولى أبي حذيفة وكان شعاره بئس حامل القرآن - يعني إن فررت - فقطعت يمينه، فأخذ اللواء بيساره، فقطعت، فاعتنقه إلى أن صرع واستشهد في سبيل الله(1).
ومن معالم المجتمع الإسلامي الجديد: حرية الدعوة إلى الله علانية، فقد أصبح واضحاً عند الجميع أن معظم قيادات يثرب دخلت في هذا الدين، ونشط الشباب والنساء والرجال في الدعوة إلى الله، والتبشير بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قدم وساق.
ولابد من المقارنة بين المجتمع الذي قام بالحبشة من المسلمين، وبين المجتمع الإسلامي في يثرب، لقد كانت الحبشة تحمل طابع اللجوء السياسي، والجالية الأجنبية، أكثر مما كانت تحمل طابع المجتمع الإسلامي الكامل، صحيح أن المسلمين ملكوا حرية العبادة هناك، لكنهم معزولون عن المجتمع النصراني، لم يستطيعوا أن يؤثروا فيه التأثير المنشود وإن كانت هجرة الحبشة خطوة متقدمة على جو مكة، حيث لاتتوفر حرية الدعوة وحرية العبادة، ولكنه دون المجتمع الإسلامي في المدينة بكثير ولذلك شرع مهاجري الحبشة بمجرد سماع خبر هجرة المدينة بالتوجه نحوها مباشرة أو عن طريق مكة إلا من طلبت منه القيادة العليا البقاء هناك، لقد أصبحت المدينة مسلمة بعد أن عاشت قروناً وثنية مشركة.
__________
(1) نفس المصدر (1/174،175).(4/282)
لقد أصبح المجتمع المدني مسلماً وبدأ نموه وتكوينه الفعلي بعد عودة الإثنى عشر صحابياً في البيعة الأولى، والتي كان على رأسها الصحابي الجليل أسعد بن زرارة والتي حملت المسؤولية الدعوية فقط، دون الوجود السياسي، وبلغ أوج توسعه وبنائه بعد عودة السبعين الذين ملكوا الشارع السياسي والاجتماعي وقرروا أن تكون بلدهم عاصمة المسلمين الأولى في الأرض، وهم على استعداد أن يواجهوا كل عدو خارجي يمكن أن ينال من هذه السيادة حتى قبل قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم في المدينة.
إن القاعدة الصلبة التي بذل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقتاً وجهداً في تربيتها بدأت تعطي ثمارها أكثر بعد أن التحمت بالمجتمع المدني الجديد وانصهر كلاهما في معاني العقيدة وإخوة الدين.
لقد أعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأفراد وصقلهم في بوتقة الجماعة وكوّن بهم القاعدة الصلبة ولم يقم المجتمع الإسلامي الذي تقوم عليه الدولة إلا بعد بيعة الحرب وبذلك نقول بأن المجتمع الإسلامي قام بعدما تهيأت القوة المناسبة لحمايته في الأرض(1).
وهكذا انتقلت الجماعة المسلمة المنظمة القوية إلى المدينة والتحمت مع إخوانها الأنصار وتشكل المجتمع المسلم الذي أصبح ينتظر قائده الأعلى عليه الصلاة والسلام ليعلن ولادة دولة الإسلام التي صنعت فيما بعد حضارة لم يعرف التاريخ مثلها حتى يومنا هذا.
سادساً: لماذا اختيرت المدينة كعاصمة للدولة الإسلامية؟
__________
(1) انظر: التربية القيادية (1/146،147).(4/283)
كان من حكمة الله تعالى في اختيار المدينة، داراً للهجرة، ومركزاً للدعوة هذا عدا ما أراده الله من إكرام أهلها، أسرار لايعلمها إلا الله، إنها امتازت بتحصن طبيعي حربي، لاتزاحمها في ذلك مدينة قريبة في الجزيرة، فكانت حرة الوبرة، مطبقة على المدينة من الناحية الغربية وحرة واقم، مطبقة على المدينة من الناحية الشرقية، وكانت المنطقة الشمالية من المدينة، هي الناحية الوحيدة المكشوفة (وهي التي حصنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق سنة خمس في غزوة الأحزاب) وكانت الجهة الأخرى من أطراف المدينة محاطة بأشجار النخيل والزروع الكثيفة، لايمر منها الجيش إلا في طرق ضيقة لا يتفق فيها النظام العسكري، وترتيب الصفوف.
وكانت خفارات عسكرية صغيرة، كافية بإفساد النظام العسكري ومنعه من التقدم، يقول ابن اسحاق:( كان أحد جانبي المدينة عورة، وسائر جوانبها مشككة بالبنيان والنخيل، لايتمكن العدو منها)(1).
ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أشار إلى هذه الحكمة الإلهية في اختيار المدينة بقوله لأصحابه قبل الهجرة:(إني رأيت دار هجرتكم، ذات نخيل بين لابتين وهما الحرتان)(2)، فهاجر من هاجر قبل المدينة.
وكان أهل المدينة من الأوس والخزرج أصحاب نخوة وإباء وفروسية وقوة وشكيمة ألفوا الحرية، ولم يخضعوا لأحد، ولم يدفعوا إلى قبيلة أو حكومة إتاوة أو جباية، يقول ابن خلدون: ولم يزل هذان الحيان قد غلبوا على يثرب، وكان الاعتزاز والمنعة تعرف لهم في ذلك، ويدخل في ملتهم من جاورهم من قبائل مضر.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية للندوي، ص157.
(2) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص52.(4/284)
وكان بنو عدي بن النجار أخواله - صلى الله عليه وسلم -، فأم عبدالمطلب بن هاشم بن عدي بن النجار إحدى نسائهم، فقد تزوج هاشم بسلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار، وولدت لهاشم عبدالمطلب، وتركه هاشم عندها، حتى صار غلاماً دون المراهقة، وتركه عمه المطلب، فجاء به إلى مكة، وكانت الأرحام يحسب لها حساب كبير في حياة العرب الإجتماعية، ومنهم أبو أيوب الأنصاري الذي نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في داره في المدينة.
وكان الأوس والخزرج من قحطان، والمهاجرون ومن سبق إلى الإسلام في مكة وماحولها من عدنان ولما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وقام الأنصار بنصره اجتمعت بذلك عدنان وقحطان تحت لواء الإسلام، وكانوا كجسد واحد، وكانت بينهما مفاضلة ومسابقة في الجاهلية، وبذلك لم يجد الشيطان سبيلاً إلى قلوبهم لإثارة الفتنة والتعزي بعزاء الجاهلية باسم الحمية القحطانية أو العدنانية، فكانت لكل ذلك مدينة يثرب أصلح مكان لهجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه واتخاذهم لها داراً وقراراً، حتى يقوى الإسلام ويشق طريقه إلى الأمام، ويفتح الجزيرة ثم يفتح العالم المتمدن(1).
سابعاً: من فضائل المدينة:
لقد عظم شرف المدينة المنورة المباركة بهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها، حتى فضلت على سائر بقاع الأرض حاشا مكة المكرمة، وفضائلها كثيرة منها:
1- كثرة أسمائها:
__________
(1) انظر: الأساس في السنّة (1/333).(4/285)
إن كثرة الأسماء تدل على شرف المُسمّى ولاتوجد بلدة في الدنيا لها من الأسماء مثل ما للمدينة المنورة، او نصفه، أو حتى ربعه، و قد بلغ العلماء بأسمائها حوالي مائة اسم(1)، وقد ذكر هذه الأسماء الزركشي في (إعلام الساجد بأحكام المساجد)(2) والمجد الفيروز آبادي صاحب القاموس المحيط(3)، ونور الدين السمهودي في (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى)، ومحمد بن يوسف الصالحي في (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد)(4).
وأشهر هذه الأسماء:
- يثرب: قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا} (سورة الأحزاب، الآية:13).
وقد ورد النهي عن تسميتها بهذا الإسم، وأما تسميتها في القرآن (يثرب) فذلك حكاية عن قول المنافقين.
- طابة: فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من سمّى المدينة يثرب فليستغفر الله فإنما هي طابة) وفي رواية :(هي طابة هي طابة هي طابة)(5).
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص155. هذا الكتاب هو المرجع الاساسي في فضائل المدينة.
(2) نفس المصدر، ص155.
(3) ذكر السخاوي له في الضوء اللامع (1/86:79) مؤلفات منها المغانم.
(4) الطابة في معالم طابة.
(5) أخرجه أحمد (4/285) وضعفه الشوكاني في فتح القدير (4/268).(4/286)
- المدينة: وهذا أشهر اسمائها، وهذا الإسم إذا أطلق أريدت به المدينة المنورة دون غيرها من مدن الدنيا، وقد جاءت الآيات الكثيرة بهذا الإسم، كقوله تعالى: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} (سورة التوبة، الآية:101).
وقوله تعالى:{ مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (سورة التوبة، الآية:120).
وقد وصفت المدينة بالمباركة والمنورة، والمشرِّفة، وغير ذلك من الأوصاف الفاضلة(1).
2- محبته - صلى الله عليه وسلم - لها ودعاؤه برفع الوباء عنها:
دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه قائلاً: (اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبَّنا مكة أو أشد)(2)، وعن أنس رضي الله عنه :(أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر، فنظر إلى جُدُران المدينة(3)، أوضع راحلته(4)، وإن كان على دابة حرَّكها من حُبِّها)(5).
3- دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بضعفي مافي مكة من البركة:
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص156.
(2) نفس المصدر، ص157.
(3) جُدران: جمع جدار وهو الحائط.
(4) أوضع راحلته: حثها على السرعة.
(5) البخاري، كتاب العمرة، باب من اسرع ناقته (3/620) رقم 1802.(4/287)
فعن أنس رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(اللهم اجعل بالمدينة ضِعْفي ماجعلت بمكة من البركة)(1)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:(كان الناس إذا رأوا أوّل الثمر جاءوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا،- اللهم إن إبراهيم عبدُك وخليلُك ونبيُّك وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل مادعاك لمكة ومثله معه) قال: ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر(2).
4- عصمته من الدّجال والطاعون ببركته - صلى الله عليه وسلم -:
إن الله تعالى قيَّض لها ملائكة يحرسونها، فلا يستطيع الدجال إليها سبيلا، بل يلقى إليه بإخوانه من الكفار والمنافقين، كما أن من لوازم دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصحة ورفع الوباء أن لاينزل بها الطاعون، كما أخبر بذلك المعصوم(3) - صلى الله عليه وسلم -.
5- فضيلة الصبر على شدَّتها:
فقد وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من صبر على شدة المدينة وضيق عيشها بالشفاعة يوم القيامة(4)، فعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لايدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولايثبت أحد على لأوائها(5) وجَهْدِها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة)(6).
6- فضيلة الموت فيها:
__________
(1) البخاري، كتاب فضائل المدينة (4/97) رقم 1885.
(2) مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/1000).
(3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص158.
(4) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص160.
(5) اللأواء: الشدة وضيق العيش.
(6) مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/992) رقم 1363.(4/288)
فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(من استطاع أن يموت بالمدينة فليَمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها)(1)، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعو بهذا الدعاء: (اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك - صلى الله عليه وسلم -)(2).
وقد استجاب الله للفاروق رضي الله عنه فاستشهد في محراب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يؤم المسلمين في صلاة الفجر.
7- هي كهف الإيمان وتنفي الخبث عنها:
فالإيمان يلجأ إليها مهما ضاقت به البلاد، والأخباث والأشرار لامقام لهم فيها ولا استقرار، ولايخرج منها أحد رغبة عنها إلا أبدلها الله خيراً منه من المؤمنين الصادقين(3)، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الإيمان ليأرِز(4) إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحرها)(5)، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (...والذي نفسي بيده لايخرج منها أحد رغبة عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه، ألا إن المدينة كالكير، تخرج الخبث لاتقوم الساعة حتى تنفي المدينة شرارها كما ينفي الكيرُ خَبَثَ الحديد)(6).
8- تنفي الذنوب والأوزار:
عن زيد بن ثابت رضي الله عنها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(إنها - أي المدينة - طيبة تنفي الذنوب(7)، كما تنفي النار خبث الفضة)(8).
9- حفظ الله إياها ممن يريدها بسوء:
__________
(1) أخرجه أحمد (2/74،104) بإسناد صحيح، وصححه ابن حبان رقم 3741.
(2) البخاري، كتاب فضائل المدينة، (4/100) رقم 1890.
(3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص161.
(4) يأرز: ينضم ويجتمع . انظر: فتح الباري (4/93).
(5) البخاري، كتاب فضائل المدينة (4/93) رقم 1876.
(6) مسلم، كتاب الحج، باب المدينة تنفي شرارها (2/1005) رقم 1381.
(7) في رواية (تنفي الخبث) وفي رواية (تنفي الرجال).
(8) البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أحد (7/356) رقم 4050.(4/289)
فقد تكفل الله بحفظها من كل قاصد إياها بسوء، وتوعد النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحدث فيها حدثاً، أو آوى فيها مُحدِثاً، أو أخاف أهلها، بلعنة الله وعذابه، وبالهلاك العاجل(1)، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:(لايكيد أهل المدينة أحد إلا انماع(2)، كما ينماع الملح في الماء)(3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -:(المدينة حرم، فمن أحدث فيها حدثاً(4) أو آوى محدثاً(5)، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لايُقْبَلُ منه يوم القيامة عَدْلُ، ولاصَرْفَ)(6).
10- تحريمها:
فقد حرّمها النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي من الله، فلا يُراق فيها دم، ولايُحْمل فيها سلاح، ولا يروع فيها أحد، ولايقطع فيها شجر، ولاتحل لقطتها إلا لمنشد وغير ذلك مايدخل في(7) تحريمها قال - صلى الله عليه وسلم -:(إن إبراهيم حرّم مكة ودعا لأهلها، وإني حرَّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة، وإني دعوت لها في صاعها ومُدِّها بمثلي مادعا به إبراهيم لأهل مكة)(8).
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص162.
(2) انماع: ذاب وسال.
(3) البخاري، كتاب فضائل المدينة، باب إثم من كاد أهل المدينة (4/94) رقم 1877.
(4) الحدث: الأمر المنكر الذي ليس بمعروف في السنّة.
(5) مسلم، كتاب الحج، باب فضل المدينة (2/999) رقم 1371.
(6) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص164.
(7) البخاري، كتاب البيوع، باب بركة صالح النبي ومده (4/346) رقم 2129.
(8) البخاري، كتاب المغازي، باب أحد جبل يحبنا ونحبه (7/377) رقم 484 .(4/290)
وقال - صلى الله عليه وسلم -:(هذا جبل يحبنا ونحبه. اللهم إن إبراهيم حرّم مكة، وإني أُحرّم مابين لابتيها)(1) يعني المدينة، وقال - صلى الله عليه وسلم -:(لايُخْتلى خلالها، ولاينفَّر صيدها)(2)، ولاتحل لقطتها إلا لمن أشادها(3)، ولايصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجر إلا أن يعلف رجل بعيره)(4).
إن هذه الفضائل العظيمة جعلت الصحابة يتعلقون بها، ويحرصون على الهجرة إليها، والمقام فيها، وبذلك تجمعت طاقات الأمة فيها ثم توجهت نحو القضاء على الشرك بأنواعه، والكفر بأشكاله وفتحوا مشارق الأرض ومغاربها.
الفصل السادس
هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه الصديق رضي الله عنه
المبحث الأول
فشل خطة المشركين والترتيب النبوي الرفيع للهجرة
أولاً: فشل خطة المشركين لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) لا يَخْتَلى خَلاَها: لا يُجز ولا يقطع الحشيش الرطب فيها.
(2) لا ينحر صيدُها: لا يُزجر ويمنع من الرعي.
(3) أشادها : أشاعها، والإشادة: رفع الصوت، والمراد تعريف اللقطة.
(4) أخرجه أحمد (1/119).(4/291)
بعد أن منيت قريش بالفشل في منع الصحابة رضي الله عنهم من الهجرة إلى المدينة على الرغم من أساليبهم الشنيعة والقبيحة فقد أدركت قريش خطورة الموقف، وخافوا على مصالحهم الاقتصادية، وكيانهم الإجتماعي القائم بين قبائل العرب لذلك اجتمعت قيادة قريش في دار الندوة للتشاور في أمر القضاء على قائد الدعوة، وقد تحدث ابن عباس في تفسيره لقول الله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (سورة الأنفال، الآية:30) فقال: فتشاورت قريش بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثائق يريدون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: أن اخرجوه، فأطلع الله نبيه على ذلك فبات علي على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة(1)، وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا علياً رد الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم الأمر، فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن ينسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثاً(2).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحماية، ص135.
(2) انظر: البداية والنهاية (3/181)، وابن حجر في الفتح وحسن اسناده، فتح الباري (7/236).(4/292)
قال سيد في تفسيره للآيات التي تتحدث عن مكر المشركين بالنبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنه التذكير بما كان في مكة، قبل تغير الحال، وتبدل الموقف. وإنه ليوحي بالثقة واليقين في المستقبل، كما ينبه إلى تدبير قدر الله وحكمته فيما يقضي به ويأمر.. ولقد كان المسلمون الذين يخاطبون بهذا القرآن أول مرة، يعرفون الحالين معرفة الذي عاش ورأى وذاق وكان يكفي أن يذكروا بهذا الماضي القريب، وماكان فيه من خوف وقلق، في مواجهة الحاضر الواقع ومافيه من أمن وطمأنينة، وماكان من تدبير المشركين ومكرهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة ماصار إليه من غلبة عليهم، لا مجرد النجاة منهم.
لقد كانوا يمكرون ليوثقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحبسوه حتى يموت، أو ليقتلوه ويتخلصوا منه، أو ليخرجوه من مكة منفياً مطروداً.. ولقد ائتمروا بهذا كله ثم اختاروا قتله، على أن يتولى ذلك المنكر فتية من القبائل جميعاً، ليتفرق دمه في القبائل، ويعجز بنو هاشم عن قتل العرب كلها، فيرضوا بالدية وينتهي الأمر.
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} .
إنها صورة ساخرة، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة .. فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل، من تلك القدرة القادرة .. قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط(1).
ثانياً: الترتيب النبوي للهجرة:
عن عائشة أم المؤمنين قالت: كان لايخطئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهاجرة(2).
__________
(1) انظر: في ظلال القرآن (3/1501).
(2) الهاجرة: نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر أو الى العصر.(4/293)
في ساعة كان لايأتي فيها: قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ماجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الساعة إلا لأمر حدث.
قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرج عني من عندك: فقال: يارسول الله، إنما هما ابنتاي، وماذاك، فداك أبي وأمي! فقال: إنه قد أذن لي في الخروج والهجرة. قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يارسول الله؟ قال: الصحبة. قالت: فوالله ماشعرت قط قبل ذلك اليوم أحداً يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يانبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا فاستأجرا عبدالله بن أرقط رجلاً من بني الديل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركاً- يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاها لميعادهما(1).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/233-234).(4/294)
وروى البخاري عن عائشة في حديث طويل وفيه:( ... قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقنعاً(1)، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ماجاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنّما هم أهلك قل: فإني قد أُذِنَ لي في الخروج فقال أبوبكر: الصحبة بأبي أنت يارسول الله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يارسول الله إحد راحلتي هاتين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، وصنعنا لهم سفرة في جراب، فقطمت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق، ثم لحق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا(2) فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر وهو غلام، شاب، ثقف(3)، لقن(4)، فيدلج(5) من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يكتادان(6) به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما حين تذهب ساعة من العشاء فيبتان في رسل -وهو لبن منحتهما ورضيفهما(7)- ينعق(8) بها عامر
__________
(1) متقنعاً: مغطياً رأسه.
(2) كمنا فيه: أي استترا واستخفيا ومنه الكمين في الحربة، النهاية (4/201).
(3) نثف: ذو فطن وذكاء والمراد ثابت المعرفة بما يحتاج إليه، النهاية (1/216).
(4) لقن: فهم حسن التلقي لما يسمعه، النهاية (4/266).
(5) يدلج: أدلج إذا سار أول الليل وادّلج بالتشديد إذا سار آخره.
(6) يكتادان: أي يطلب لهما فيه المكروه وهو من الكيد.
(7) الرضيف: اللبن المرضوف، وهو الذي طرح فيه الحجارة المحماة ليذهب وفمه.
(8) ينعق: نعق بغنمه، أي صاح بها وزجرها، القاموس المحيط (3/295).(4/295)
بن فهيرة بغلس(1) يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلاً من بني الديل وهو من بني عبد ابن عدي -هادياً خريتاً- والخريت الماهر قد غمس حلفا(2) في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل(3).
ثالثاً: خروج الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصوله إلى الغار:
لم يعلم بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر.
أما علي فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يتخلف حتى يؤدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الودائع التي كانت عنده للناس، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته(4) وكان الميعاد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر رضي الله عنه، فخرجا من خوخة(5)، لأبي بكر في ظهر بيته، وذلك للإمعان في الاستخفاء حتى لاتتبعهما قريش، وتمنعهما من تلك الرحلة المباركة، وقد اتعدا مع الليل على أن يلقاهما عبدالله بن أريقط في غار ثور بعد ثلاث ليال(6).
رابعاً: دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه من مكة:
وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه من مكة إلى المدينة قائلاً:
__________
(1) الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح، النهاية (3/377).
(2) غمس حلفاً: أي أخذ بنصيب من عقدهم وحلفهم يأمن به.
(3) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي رقم 3905.
(4) السيرة النبوية لابن كثير (2/234).
(5) الهجرة في القرآن الكريم، ص334.
(6) خاتم النبيين لأبي زهرة (1/659)، السيرة النبوية لابن كثير (2/234).(4/296)
(الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئاً، اللهم أعني على هول الدنيا وبوائق الدهر، ومصائب الليالي والأيام.
اللهم أصحبني في سفري، وأخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذللني، وعلى خلقي فقومني وإليك رب فحببني، وإلى الناس فلا تكلني.
رب المستضعفين وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السماوات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين، أن تحل علي غضبك، أو تنزل بي سخطك أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك وجميع سخطك لك العتبى(1) عندي خير ما استطعت لاحول ولاقوة إلا بك)(2).
ووقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند خروجه بالحزورة في سوق مكة وقال:(والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ماخرجت)(3).
ثم انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه من بطش المشركين، وصرفهم عنهما.
__________
(1) الأصل: العقبى.
(2) انظر: السيرة النبوية لابن كثير (2/230-234).
(3) الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل مكة (5/722).(4/297)
روى الإمام أحمد: (أن المشركين اقتفوا الأثر حتى إذا بلغوا الجبل
-جبل ثور- اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسيج العنكبوت. فقالوا: لو دخل هاهنا أحد، لم يكن نسج العنكبوت على بابه)(1) وهذه من جنود الله - عزوجل - التي يخذل بها الباطل وينصر به الحق لأن جنود الله - جلّت قدرته - أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإن خطرها لايتمثل في ضخامتها فقد تفتك جرثومة لاتراها العين بجيش ذي لجب، قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيمَانًا وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} (سورة المدثر، الآية:31). أي ومايعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فجنود الله غير متناهية، لأن مقدوراته غير متناهية(2)، كما أنه لاسبيل لأحد إلى حصر الممكنات والوقوف على حقائقها وصفاتها ولو إجمالاً فضلاً عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها من كم وكيف ونسبة(3).
خامساً: عناية الله سبحانه وتعالى ورعايته لرسوله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) مسند الامام احمد (1/348).
(2) انظر: تفسير الرازي (30/208).
(3) تفسير ابي السعود (9/60).(4/298)
بالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يرتكن إليها مطلقاً، وإنما كان كامل الثقة في الله، عظيم الرجاء في نصره وتأييده، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها(1)، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} (سورة الإسراء، الآية:80).
وفي هذه الآية الكريمة دعاء يعلمه الله لنبيه ليدعوه به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وكيف تتجه إليه؟ دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج، كناية عن صدق الرحلة كلها، بدئها وختامها، أولها وآخرها ومابين الأول والآخر، وللصدق هنا قيمته بمناسبة ماحاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه ليفتري على الله غيره. وللصدق كذلك ظلاله:ظلال الثبات والاطمئنان والنظافة والإخلاص، {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} قوة وهيبة استعلى بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين، وكلمة {مِنْ لَدُنْكَ} تصور القرب والاتصال بالله والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء إلى حماه.
وصاحب الدعوة لايمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولايمكن أن يهاب إلا بسلطان الله، لايمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه مالم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله. والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه، فيصبحون لها جنداً وخدماً فيفلحون، ولكنها هي لاتفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه(2).
وعندما أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأي العين طمأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصديق بمعية الله لهما: فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا. فقال:(ماظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟)
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص72.
(2) في ظلال القرآن (4/2247).(4/299)
وفي رواية :(اسكت يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما)(1).
وسجل الحق عزوجل ذلك في قوله تعالى: {إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة، الآية:40).
__________
(1) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين رقم 3653.(4/300)
وقد تحدث الطبري في تفسيره عن هذه الآية الكريمة فقال: هذا إعلام من الله أصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه المتكفل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، وتذكير منه لهم فعل ذلك به، وهو من العدد في قلة والعدو في كثرة، فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدو في قلة يقول لهم جل ثناؤه:إلا تنفروا أيها المؤمنون مع رسولي إذا استنصركم فتنصروه فالله ناصره إذا أخرجه الذين كفروا بالله من قريش من وطنه وداره {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} يقول: أخرجوه وهو أحد الاثنين، وإنما عني جل ثناؤه بقوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} رسول الله وأبا بكر رضي الله عنه، لأنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش إذ هموا بقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختفيا في الغار، وقوله:{ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} يقول: إذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رحمة الله عليه في الغار(1) {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} يقول: إذ يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لصاحبه أبي بكر لاتحزن، وذلك أنه خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهما فجزع من ذلك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:لاتحزن لأن الله معنا والله ناصرنا، فلن يعلم المشركون بنا، ولن يصلوا إلينا، يقول جل ثناؤه: فقد نصره على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد، فكيف يخذله ويحوجه إليكم وقد كثر الله من أنصاره وعدد جنوده(2).
__________
(1) الغار: الثقب العظيم يكون في الجبل وقيل شبه البيت في الجبل.
(2) تفسير الطبري (10/135).(4/301)
وقد تحدث الدكتور عبدالكريم زيدان عن المعية في هذه الآية الكريمة فقال: و هذه المعية الربانية المستفادة من قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} أعلى من معيته للمتقين والمحسنين في قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ، لأن المعية هنا هي لذات الرسول وذات صاحبه، غير مقيدة بوصف هو عمل لهما، كوصف التقوى والإحسان بل هي خاصة برسوله وصاحبه مكفولة هذه المعية بالتأييد بالآيات وخوارق العادات(1).
وتحدث صاحب الظلال عن هذه الآيات فقال: ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق، لاتملك لها دفعاً، ولاتطيق عليها صبراً، فائتمرت به وقررت أن تتخلص منه، فأطلعه الله على ما أئتمرت به، وأوحى إليه بالخروج وحيداً إلا من صاحبه الصديق، لاجيش ولا عدة، وأعداؤه كثر، وقوتهم إلى قوته ظاهرة.
ثم ماذا كانت العاقبة، والقوة المادية كلها من جانب، والرسول - صلى الله عليه وسلم - مع صاحبه منها مجرد؟ كان النصر المؤزر من عند الله بجنود لم يرها الناس، وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} .وظلت كلمة الله في مكانها العالي منتصرة قوة نافذة.
ذلك مثل على نصرة الله لرسوله ولكلمته، والله قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون. وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول الله إلى دليل(2)!
سادساً: خيمة أم معبد في طريق الهجرة:
__________
(1) المستفاد من قصص القرآن (2/100).
(2) انظر: في ظلال القرآن (3/1656).(4/302)
وبعد ثلاث ليال من دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه من الغار، وقد هدأ الطلب، ويئس المشركون من الوصول الى رسول الله، وقد قلنا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر قد استأجرا رجلاً من بني الديل يسمى عبدالله بن أريقط وكان مشركاً وقد أمِناهُ فدَفعا إ ليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، وقد جاءهما فعلاً في الموعد المحدد وسلك بهما طريقاً غير معهودة ليخفي أمرهما عمن يلحق بهم من كفار قريش(1)، وفي الطريق الى المدينة مرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأم معبد(2)، في قديد(3)، حيث مساكن خزاعة، وهي أخت حبيش بن خالد الخزاعي الذي روى قصتها، وهي قصة تناقلها الرواة وأصحاب السير، وقال عنها ابن كثير: (وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضاً)(4)، فعن خالد بن حبيش الخزاعي - رضي الله عنه -، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج من مكة، وخرج منها مهاجراً الى المدينة، هو وأبوبكر - رضي الله عنه -، ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة - رضي الله عنه -، ودليلهما الليثي عبدالله بن الأريقط، مرُّوا على خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت برزة(5) جلدة(6)، تحتبي(7) بفناء القبة، ثم تسقي وتطعم، فسألوهما لحماً وتمراً؛ ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وكان القوم مُرْملين(8) مُسنْتينِ(9)
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/101).
(2) هي عاتكة بنت كعب الخزاعية.
(3) وادي قديد يبعد عن الطريق المعبدة حوالي ثمانية كليومترات.
(4) البداية والنهاية (3/188).
(5) برزة: كلهة كبيرة السن، لا تحتجب احتجاب الشواب.
(6) جلدة: قوية صلبة وقيل عاقلة.
(7) تحتبي: أي تجلس وتضم يديها إحداهما الى الاخرى، على ركبتيها، وتلك جلسة الأعراب.
(8) مرملين: نفذ زادهم.
(9) مسنتين: أي داخلين في اسنة وهي الجدب والمجاعة والقحط.(4/303)
، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الى شاة في كسر الخيمة(1)، فقال: (ماهذه الشاة ياأم معبد؟). قالت: خلفها الجْهد عن الغنم، قال: (فهل بها من لبن؟) قالت: هي أجهد من ذلك. قال: (أتاذنين أن أحلبها؟). قالت: بلى بأبي أنت وأمي، نعم إن رأيت بها حَلْباً فاحلبها.
فدعا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمسح بيده ضرعها، وسمىّ الله عز وجل، ودعا لها في شاتها، فتفاجَّت(2) عليه، ودّرت(3)، واجترت(4) ودعا بإناء يُرْبض(5) الرهط، فحلب فيها ثجَّا(6)، حتى علاه البهاء(7)، ثم سقاها حتى رَويت، وسقى أصحابه حتى رَووا، وشرب آخرهم - صلى الله عليه وسلم -، ثم أراضوا(8)، ثم حلب فيها ثانياً بعد بدء حتى ملاء الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها، وارتحلوا عنها.
__________
(1) مسر الخيمة: بفتح الكاف وكسرها، وسكون المهملة: أي جانبها.
(2) تفاجَّت: فتحت مابين رجليها للحلب.
(3) دَرَّت: أرسلت اللبن.
(4) واجترت: من الجرّة وهي ماتخرجها البهيمة من كرشها تمضغها.
(5) يربض: يُريهم حتى يثقلوا فيربضوا، أي يقعوا على الأرض للنوم والراحة.
(6) ثجّا: السيلان ومعنى ثجّا: لبناً كثيراً سائلاً.
(7) علاه البهاء: أي علا الإناء بهاء اللبن.
(8) أراضوا: أي رَوَوا، فنقعوا بالري، يريد شربوا مرة بعد مرة.(4/304)
فقلّما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافا(1)، يتساوكن هُزلا(2) ضحى، مخَّهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من اين لك هذا اللبن ياأم معبد، والشاة عازب حيال(3)، ولا حلوبة في البيت؟ قال: لا والله، إلا أنه مرّ بنا رجلٌ مبارك، من حاله كذا وكذا. قال: صفيه لي ياأم معبد قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة(4)، أبلج الوجه(5)، حسن الخلق، لم تَعبْه نُحْلَه(6)، ولم تُزْر به صَعْلة(7)، وسيم(8)، في عينيه دعج(9) وفي أشفاره وَطفٌ(10)، وفي صورته صَهلٌ(11)، وفي عنقه سطع(12)، وفي لحيته كثاثة، أزجُّ(13)، أقرن(14)، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما(15) وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق، فصل لا هذر ولا نزر(16)، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن رَبْع(17) لابأس من طول(18)، ولا تقتحمه العين من قصر(19)
__________
(1) عجاما: ضد السِّمن، وهو جمع عجفاء وهي المهزولة.
(2) يتساوكن هُزلا: يتمايلنّ من الضعف.
(3) عازب: بعيدة المرعى لا تأوي الى البيت إلا في الليل، حيال: لم تحمل.
(4) ظاهر الوضاءة: ظاهر الجمال والحسن.
(5) أبلغ الوجه: مشرق الوجه مضيئه.
(6) نُحلة : من النحول والدقة والضمور، أي أنه ليس نحيلاً.
(7) صَعْلة: صغر الراس وهي تعني الدقة والتحول في البدن.
(8) وسيم : الوسيم المشهور بالحسن كأنه صار الحسن له سمة.
(9) دعج: شدة سواد العين في شدة بياضها.
(10) في أشفاره ظف: الشعر النابت على الجفن.
(11) صَهَل: كالبُحَّة وهو ألا يكون حاد الصوت.
(12) سطع: طول العنق.
(13) أزج: دقيق شعر الحاجبين مع طولهما.
(14) أقرن: متصل مابين حاجبين من الشعر، أو مقرون الحاجبين.
(15) سما: علا برأسه، أو بيده وارتفع.
(16) لاهذر ولا نذر: الهذر من الكلام مالافائدة فيه والنزر: القليل.
(17) رَبْع: ليس بالقصير ولا بالطويل.
(18) لابأس من طول: لايجاوز الناس طولاً.
(19) لاتقتحمه العين من قصر: لاتزدريه ولا تحتقره.(4/305)
، غصن بين غصنين، فهو أنظر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، وله تبادروا الى أمره، محفود(1)، محشود(2)، لا عابس ولا مفند(3).
قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ماذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت الى ذلك سبيلا.
فأصبح صوت بمكة عالياً يسمعون الصوت، ولا يدرون من صاحبه، وهو يقول:
جزى الله ربُّ الناس خير جزائه
... ... ... رفيقين قالا(4) خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهُدى واهتدت به
... ... ... فقد فاز من أمس رفيق محمد
فيا لَقُصَيِّ مازوى الله عنكم
... ... ... به من فعال لا تجاري وسُؤدد(5)
لَيهنِ بني كعب مكانُ فتاتهم
... ... ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
... ... ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دهاها بشاة حائل(6) فتحلّبت
... ... ... عليه صريحاً ضرة الشاة مُزبد(7)
فغادرها رهناً لديها لحالب
... ... ... يرددها في مصدر ثم مورد(8)
سابعاً : سراقة بن مالك يلاحق رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أعلنت قريش في نوادي مكة بأنه من يأتي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حياً أو ميتاً، فله مائة ناقة وانتشر هذا الخبر عند قبائل الأعراب الذين في ضواحي مكة وطمع سراقة بن مالك بن جعشم في نيل الكسب الذي أعدته قريش لمن يأتي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجهد نفسه لينال ذلك، ولكن الله بقدرته التي لا يغلبها غالب، جعله يرجع مدافعاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما كان جاهداً عليه.
__________
(1) محفود: مخدوم.
(2) محشود: يجتمع الناس حواليه.
(3) لاعابس ولا مفند: ليس عابس الوجه ولا منفد: : ليس منسوباً الى الجهل وقلة العقل.
(4) قالا: نزل في وقت القيلولة على الخيمتين.
(5) وسؤدد: من السيادة.
(6) حائل: غير حامل.
(7) مزبد: لصريح ومعناها الخالص، والضرة: لحم الضرع.
(8) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص107.(4/306)
قال ابن شهاب: وأخبرني عبدالرحمن بن مالك المدلجي، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم، أن أباه أخبره، أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءنا رسول كفار قريش يجعلون في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر دية كل منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجالس من مجالس قومي بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: ياسراقة إنى رأيت آنفاً أسودة(1) بالساحل أراها محمد وأصحابه، قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناًوفلاناً انطلقوا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهو من وراء أكمة(2) فتحبسهما علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه(3) الأرض خضضت عالية حتى أتيت فرسي فركبتها فعرفتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها، فقمت فأهويت الى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام(4)، فاستقسمت بها، أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي عصيت الأزلام فقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لايلتفت وأبوبكر يكثر الإلتفات ساخت(5) يدا فرسي في الأرض، حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها عثات(6) ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت مالقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) أسودة: جمع قلة لسواد وهو الشخص يرى من بعيد أسود، الهجرة في القرآن، ص344.
(2) الأكمة: جمعها إكام، وهي الرابية.
(3) الزج: الحديدة في أسفل الرمح.
(4) الأزلام: الأقداح التي كانت في الجاهلية مكتوب عليها الأمر والنهي افعل ولا تفعل.
(5) ساخت يدا فرسي: أي غاصت في الأرض.
(6) عثات: أي دخان، وجمعه عواثن على غير قياس، النهاية (3/183).(4/307)
فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار مايريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني(1) ولم يسألاني إلا أن قال: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي في كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم(2) ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3).
وكان مما أشتهر عند الناس من أمر سراقة ماذكره ابن عبدالبر وابن حجر وغيرهما، قال ابن عبدالبر: روى سفيان بن عيينة عن ابي موسى عن الحسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لسراقة بن مالك: (كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟) قال: فلما أتى عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه دعا سراقة بن مالك فألبسه إياها، وكان سراقة رجلاً أزب(4) كثير شعر الساعدين، وقال له: ارفع يديك فقال: الله أكبر، الحمدلله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول: أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابي من بني مدلج، ورفع بها عمر صوته(5)، ثم أركب سراقة، وطيف به المدينة، والناس حوله، وهو يرفع عقيرته مردداً قول الفاروق: الله أكبر، الحمدلله الذي سلبهما كسرى بن هرمز، وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابياً من بني مدلج(6).
ثامناً: سبحان مقلب القلوب:
__________
(1) فلم يرزاني: أي لم يأخذا مني شيئاً.
(2) أديم: قطعة من جلد.
(3) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3906.
(4) التزبب في الانسان: كثبر الشعر وطوله.
(5) انظر: الروض الأنف (4/218)؛ الهجرة في القرآن، ص346.
(6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/495).(4/308)
كان سراقة في بداية أمره يريد القبض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويسلمه لزعماء مكة لينال مائة ناقة وإذا بالأمور تنقلب رأساً على عقب ويصبح يرد الطلب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل لايلقي أحداً من الطلب إلا رده قائلاً: كفيتم هذا الوجه، فلما اطمأنَّ الى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصل الى المدينة المنورة جعل سراقة يقص ماكان من قصته وقصة فرسه، واشتهر هذا عنه، وتناقلته الألسنة حتى امتلأت به نوادي مكة، فخاف رؤساء قريش أن يكون ذلك سبباً لإٍسلام بعض أهل مكة، وكان سراقة أمير بني مدلج، ورئيسهم فكتب أبوجهل إليهم:
بني مدلج إني أخاف سفيهكم
... ... ... سراقة مستغوٍ لنصر محمد
عليكم به ألاّ يفرِّق جمعكم
... ... ... فيصبح شتى بعد عز وسؤدد
فقال سراقة يرد على أبي جهل:
ابا حكم -والله- لو كنت شاهداً
... ... ... لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تَشْكُكْ بأن محمداً
... ... ... رسول وبرهان فمن ذا يقاومه
عليك فكُفَّ القوم عنه فإنني
... ... ... أرى أمره يوماً ستبدو معالمه
بأمر تود الناس فيه بأسرهم
... ... ... بأن جميع الناس طُرّاً مسالمه(1) ...
تاسعاً: استقبال الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/494).(4/309)
لما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مكة، كانوا يفدون كل غداة الى الحرة، فينتظرون حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم فلما أووا الى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم(1) من آطامهم لأمر ينظر إليه فبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مبيضين(2) يزول بهم السراب(3)، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يامعشر العرب هذا جدكم(4) الذي تنتظرون، فثار المسلمون الى السلاح فتلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهر الحرة فعدل بهم ذات اليمن حتى نزل بهم في بني عوف، وذلك يوم الخميس الأثنين(5) من شعر ربيع الأول(6)، فقام ابو بكر للناس وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار، ممن لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحيي أبابكر، حتى أصابت الشمس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل أبوبكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك (فلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة(7)، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم ركب راحلته(8)..
__________
(1) أطم: كالحصن.
(2) مبيضين: علهيم ثياب بيض.
(3) السراب: أي يزول بهم السراب عن النظر بسبب عروضهم له.
(4) جدكم: حظكم وصاحب دولتكم الذي تتوقعونه.
(5) قال الحافظ بن حجر: هذا هو المعتمد وشذ من قال يوم الجمعة، الفتح (7/544).
(6) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص351.
(7) نفس المصدر، ص352.
(8) صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي (5/77، 78).(4/310)
وبعد أن أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدة التي مكثها بقباء وأراد أن يدخل المدينة أرسل الى الأنصار، فجاءوا الى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - (وهم متقلدون سلاحهم، فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين، فركب نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأبوبكر وحفو دونهما بالسلاح(1).
وعند وصوله - صلى الله عليه وسلم - الى المدينة أخذ أهل المدينة يقولون: (جاء نبي الله، جاء نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فأشرفوا ينظرون ويقولون جاء نبي الله)(2).
فكان يوم فرح وابتهاج لم تر المدينة يوماً مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد، ولقد كان حقاً يوم عيد، لأنه اليوم الذي انتقل فيه الاسلام من ذلك الحيز الضيق في مكة الى رحابة الانطلاق والانتشار بهذه البقعة المباركة المدينة، ومنها الى سائر بقائع الأرض لقد أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به، وبالشرف الذي اختصهم به أيضاً، فقد صارت بلدتهم موطناً لإيواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته المهاجرين، ثم لنصرة الاسلام كما أصبحت موطناً للنظام الإسلامي العام التفصيلي بكل مقوماته، ولذلك خرج أهل المدينة يهللون في فرح وابتهاج ويقولون يارسول الله يامحمد يارسول الله(3).
روى الإمام مسلم بسنده قال: (عندما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، صعد الرجال والنساء فوق البيوت وتفرق العلماء والخدم في الطرق ينادون يامحمد، يارسول الله، يامحمد، يارسول الله!!)(4).
__________
(1) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم 3911.
(2) نفس المصدر، رقم 3911.
(3) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص353.
(4) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث الهجرة، رقم 2009.(4/311)
وبعد هذا الاستقبال الجماهيري العظيم الذي لم يرد مثله في تاريخ الإنسانية، سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل في دار أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -، فعن أنس - رضي الله عنه - في حديث الهجرة الطويل وفيه: (فأقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب فإنه ليحدث أهله(1) إذ سمع به عبدالله بن سلام وهو في نخل لأهله يخترف(2) لهم فجعل أن يضع الذي يخترف لهم فيها، فجاء فسمع من نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع الى أهله فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أي بيوت أهلنا(3) أقرب، فقال أبو أيوب أنا يانبي الله هذه داري وهذا بابي، قال فانطلق فهيء لنا مقيلاً(4)...)(5)، ثم نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه.
وبهذا قد تمت هجرته - صلى الله عليه وسلم - وهجرة أصحابه رضي الله عنهم؛ ولم تنته، الهجرة بأهدافها وغاياتها بل بدأت بعد وصول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سالماً الى المدينة، وبدأت معها رحلة المتاعب والمصاعب والتحديات، فتغلب عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للوصول للمستقبل الباهر للأمة والدولة الاسلامية التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة على أسس من الإيمان والتقوى والإحسان والعدل بعد أن تغلبت على اقوى دولتين كنتا تحكمان في العالم، وهما: دولة الفرس ودولة الروم(6).
عاشراً: فوائد ودروس وعبر:
__________
(1) الضمير هنا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فتح الباري (7/251).
(2) يخترف: أي يجتبي من ثمارها. انظر: النهاية (2/24).
(3) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص354.
(4) مقيلاً: أي مكاناً تقع فيه القيلولة.
(5) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي الى المدينة (5/79).
(6) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص355.(4/312)
1- الصراع بين الحق والباطل صراع قديم وممتد، وهو سنّة إلهية نافذة، قال عز وجل: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (سورة الحج، الآية:40).
ولكن هذا الصراع معلوم العاقبة: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (سورة المجادلة، الآية:21).
2- مكر خصوم الدعوة بالداعية أمر مستمر متكرر، سواء عن طريق الحبس أو القتل أو النفي والإخراج من الأرض، وعلى الداعية أن يلجأ الى ربه وأن يثق به ويتوكل عليه ويعلم أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله(1)، كما قال عز وجل: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (سورة الانفال، الآية:30).
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص199.(4/313)
ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدعوة استخدام سلاح المال لإغراء النفوس الضعيفة للقضاء على الدعوة والدعاة ولذلك رصدوا مائة ناقة لمن يأتي بأحد المهاجرين حياً أو ميتاً، فتحرك الطامعون ومنهم سراقة، الذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة مادياً بأوفر ربح وأطيب رزق، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمِّي الطريق على الطامعين الآخرين الذين اجتهدوا في الطلب، وهكذا يرد الله عن أوليائه والدعاة(1)، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (سورة الأنفال، الاية:36).
3- إن من تأمل حادثة الهجرة ورأى دقة التخطيط فيها ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها الى انتهائها ومن مقدماتها الى ماجرى بعدها يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قائماً وأن التخطيط جزء من السنّة النبوية وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ماطولب به المسلم وأن الذين يميلون الى العفوية بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنّة أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين(2).
فعندما حان وقت الهجرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - في التنفيذ نلاحظ الآتي:
( وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت رغم ماكان يكتنفها من صعاب وعقبات؛ وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروساً دراسة وافية؛ فمثلاً؛
جاء - صلى الله عليه وسلم - الى بيت أبي بكر في وقت شدة الحر -الوقت الذي لايخرج فيه أحد، بل من عادته لم يكن يأتي له لماذا؟ حتى لايراه أحد.
__________
(1) نفس المصدر، ص200.
(2) انظر: الأساس في السنّة، سعيد حوى (1/357).(4/314)
إخفاء شخصيته - صلى الله عليه وسلم - أثناء مجيئه للصديق وجاء الى بيت الصديق متلثماً، لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم(1).
أمر - صلى الله عليه وسلم - ابابكر أن يخرج من عنده، ولما تكلم لم يبين إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه.
وكان الخروج ليلاً ومن باب خلفي في بيت أبي بكر(2).
بلغ الاحتياط مداه، باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة بذلك بخبير يعرف مسالك البادية ومسارب الصحراء، ولو كان ذلك الخبير مشركاً مادام على خلق ورزانة وفيه دليل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان لايحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها(3).
انتقاء شخصيات عاقلة لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة ويلاحظ أن هذه الشخصيات كلها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، مما يجعل من هؤلاء الأفراد وحدة متعاونة على تحقيق الهدف الكبير.
وضع كل فرد من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب الذي يجيد القيام به على أحسن وجه ليكون أقدر على أدائه والنهوض بتبعاته.
فكرة نوم علي بن أبي طالب مكان الرسول، فكرة ناجحة، قد ضللت القوم وخدعتهم، وصرفتهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى خرج في جنح الليل تحرسة عناية الله وهم نائمون، ولقد ظلت أبصارهم معلقة بعد اليقظة بمضجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فما كانوا يشكون في أنه مايزال نائماً، مسجى في بردته في حين النائم هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
ونرى احتياجات الرحلة قد دبرت تدبيراً محكماً:
علي - رضي الله عنه - ينام في فراش الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليخدع القوم ويَسَلِمَ الودائع ويلحق بالرسول.
وعبدالله بن أبي بكر: صاحب المخابرات الصادق وكاشف تحركات العدو.
__________
(1) انظر: في السيرة النبوية قراءة لجوانب الحذر والحيطة، ص141.
(2) انظر: معين السيرة ، ص147.
(3) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص361.(4/315)
وأسماء ذات النطاقين: حاملة التموين من مكة الى الغار وسط جنون المشركين بحثاً عن محمد - صلى الله عليه وسلم - ليقتلوه.
وعامر بن فهيرة: الراعي البسيط الذي قدم اللحم واللبن الى صاحبي الغار وبدد آثار أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه كيلا يتفرسها القوم!! لقد كان هذا الراعي يقوم بدور الإمداد والتموين.
وعبدالله بن أريقط: دليل الهجرة الأمين، وخبير الصحراء البصير، ينتظر في يقظة إشارة البدء من الرسول ليأخذ الركب طريقه من الغار الى يثرب.
فهذا تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسد لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل مطالب الرحلة، واقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف.
لقد أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأسباب المعقولة أخذاً قوياً حسب استطاعته وقدرته... ومن ثم باتت عناية الله متوقعة(1).
4- الأخذ بالأسباب أمر ضروري:
إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لايعني ذلك دائماً حصول النتيجة، ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله، ومشيئته ومن هنا كان التوكل أمراً ضرورياً وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب.
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعد كل الأسباب واتخذ كل الوسائل ولكنه في الوقت نفسه مع الله يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح وهنا يستجاب الدعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار، وتسيخ فرس سراقة في الأرض ويكلل العمل بالنجاح(2).
5- الإيمان بالمعجزات الحسية:
__________
(1) انظر: أضواء على الهجرة ، لتوفيق محمد، ص393-397.
(2) انظر: من معين السيرة، ص148.(4/316)
وفي هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقعت معجزات حسية، وهي دلائل ملموسة على حفظ الله ورعايته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك -على ماروي- نسيج العنكبوت على فم الغار، ومنها ماجرى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أم معبد، وماجرى له مع سراقة، ووعده إياه بأن يلبس سواري كسرى، فعلى الدعاة أن لايتنصلوا من هذه الخوارق، بل يذكروها مادامت ثابتة بالسنّة النبوية، على أن ينبهوا الناس على أن هذه الخوارق هي من جملة دلائل نبوته ورسالته عليه السلام(1).
6- جواز الاستعانة بالكافر المأمون:
ويجوز للدعاة أن يستعينوا بمن لا يؤمن بدعوتهم ماداموا يثقون بهم ويأتمنونهم على مايستعينون به معهم، فقد رأينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر استأجرا مشركاً ليدلهم على طريق الهجرة ودفعا إليه راحلتيهما وواعده عند غار ثور، وهذه أمور خطيرة اطلعاه عليها، ولاشك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وثقا به وأمناه، مما يدل على أن الكافر أو العاصي أو غير المنتسب الى الدعاة قد يوجد عند هؤلاء مايستدعي وثوق الدعاة بهم، كأن تربطهم رابطة القرابة أو المعرفة القديمة أو الجوار أو عمل معروف كأن قد قدمه الداعية لهم. أو لأن هؤلاء عندهم نوع جيد من الأخلاق الأساسية مثل الأمانة وحب عمل الخير الى غير ذلك من الاسباب، والمسألة تقديرية يترك تقديرها الى فطنة الداعي ومعرفته بالشخص(2).
7- دور المرأة في الهجرة:
__________
(1) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/108).
(2) انظر: المستفاد من قصص القرآن (2/108).(4/317)
وقد لمعت في سماء الهجرة أسماء كثيرة كان لها فضل كبير ونصيب وافر من الجهاد: منها عائشة بنت أبي بكر الصديق التي حفظت لنا القصة ووعتها وبلَّغتها للأمة، وأم سلمة المهاجرة الصبور، واسماء ذات النطاقين(1) التي ساهمت في تموين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله؟ فقد حدثتنا عن ذلك فقالت: لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر - رضي الله عنه - أتانا نفر من قريش، فيهم أبوجهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يابنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبوجهل يده -وكان فاحشاً خبيثاً- فلطم خدِّي لطمة طرح منها قرطي قالت: ثم أنصرفوا...)(2).
فهذا درس من أسماء رضي الله عنها تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم؟ وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت: كلا ياأبتِ، ضع يدك على هذا المال. قالت: فوضع يده عليه، فقال: لابأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم. ولا والله ماترك لنا شيئاً، ولكني أردت أن أسكّن الشيخ بذلك)(3).
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص206.
(2) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص126.
(3) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/102) إسناده صحيح.(4/318)
وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكنّت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقاً هذه الأحجار التي كوّمتها لتطمئن لها نفس الشيخ! إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لاتزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً وثقة به لاحد لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولا تلتفت الى سفاسفها، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عزّ ان يتكرر، وقلّ أن يوجد نظيره.
لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلاً هُنّ من أمس الحاجة الى الاقتداء به، والنسج على منواله.
وظلت أسماء مع إخواتها في مكة، لا تشكو ضيقاً، ولا تظهر حاجة، حتى بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة وابا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم الى مكة فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسوده بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأمة بركة المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبدالله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، فيهم عائشة وأسماء، فقدموا المدينة، فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان(1).
8- أمانات المشركين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص128.(4/319)
في إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع محاربتهم له وتصميمهم على قتله دليل باهر على تناقضهم العجيب الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه ويزعمون أنه ساحر أو مجنون أو كذاب لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقاً، فكانوا لايضعون حوائجهم ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده! وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق الذي جاء به، وخوفاً على زعامتهم وطغيانهم(1)، وصدق الله العظيم: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (سورة الانعام، الآية:33).
وفي أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه - بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة، رغم هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب، بحيث لا يتجه التفكير إلا الى إنجاح خطة هجرته فقط، رغم ذلك فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ماكان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات الى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلاً عن غيره(2).
9- الراحلة بالثمن:
لم يقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يركب الراحلة حتى أخذها بثمنها من أبي بكر - رضي الله عنه - وأستقر الثمن ديناً بذمته، وهذا درس واضح بأن حملة الدعوة ماينبغي أن يكونوا عالة على احد في وقت من الأوقات، فهم مصدر العطاء في كل شيء.
__________
(1) انظر : فقه السيرة للدكتور محمد سعيد رمضان، ص193.
(2) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص364.(4/320)
إن يدهم إن لم تكن العليا فلن تكن السفلى، وهكذا يصر عليه السلام أن يأخذها بالثمن وسلوكه ذلك هو الترجمة الحقة لقوله تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (سورة الشعراء، الآية:109).
إن الذين يحملون العقيدة والإيمان ويبشرون بهما ماينبغي أن تمتد أيديهم الى أحد -إلا الله- لأن هذا يناقض مع مايدعون إليه وقد تعود الناس أن يعوا لغة الحال لأنها أبلغ من لغة المقال، وماتأخر المسلمون وأصابهم ماأصابهم من الهوان إلا يوم أصبحت وسائل الدعوة والعاملين بها خاضعة للغة المادة، ينتظر الواحد منهم مرتبه، ويومها تحول العمل الى عمل مادي فقد الروح والحيوية والوضاءة، وأصبح للأمر بالمعروف موظفون، وأصبح الخطباء موظفين، وأصبح الأئمة موظفين.
إن الصوت الذي ينبعث من حنجرة وراءها الخوف من الله والأمل في رضاه غير الصوت الذي ينبعث ليتلقى دراهم معدودة، فإذا توقفت توقف الصوت، وقديماً قالوا:ليست النائحة كالثكلى ولهذا قل التأثير وبعد الناس عن جادة الصواب(1).
10- الداعية يَعِّفْ عن أموال الناس:
لما عفا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سراقة عرض عليه سراقة المساعدة فقال: (وهذه كنانتي فخذ منها سهماً فإنك ستمر بابلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا حاجة لي فيها)(2).
فحين يزهد الدعاة فيما عند الناس يحبهم الناس، وحين يطمعون في أموال الناس ينفر الناس عنهم، وهذا درس بليغ للدعاة الى الله تعالى(3).
11- الجندية الرفيعة والبكاء من الفرح:
__________
(1) انظر: معين السيرة ، ص148،149.
(2) المسند (1/3) تحقيق احمد محمد شاكر.
(3) انظر: في ظلال الهجرة النبوية، ص58.(4/321)
تظهر أثر التربية النبوية في جندية ابي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فأبوبكر - رضي الله عنه - عندما أراد أن يهاجر الى المدينة وقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً) فقد بدأ في الإعداد والتخطيط للهجرة (فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك) وفي رواية البخاري، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر -وهو الخبط- أربعة أشهر). لقد كان يدرك بثاقب بصره - رضي الله عنه - وهو الذي تربى ليكون قائداً، أن لحظة الهجرة صعبة قد تأتي فجأة ولذلك هيأ وسيلة الهجرة، ورتب تموينها، وسخر أسرته لخدمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعندما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره إن الله قد أذن له في الخروج والهجرة، بكا من شدة الفرح وتقول عائشة رضي الله عنها في هذا الشأن: فوالله ماشعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت ابابكر يبكي يومئذ، إنها قمة الفرح البشري؛ أن يتحول الفرح الى بكاء، كما قال الشاعر عن هذا:
ورد الكتاب من الحبيب بأنه
... ... ... سيزورني فاستعبرت أجفاني
غلب السرور عليّ حتى إنني
... ... ... من فرط ماقد سرني أبكاني
ياعين صار الدمع عندك عادة
... ... ... تبكين من فرح ومن أحزاني(4/322)
فالصديق - رضي الله عنه - يعلم أن معنى هذه الصحبة، أنه سيكون وحده برفقة رسول رب العالمين بضعة عشرة يوماً على الأقل وهو الذي سيقدم حياته لسيده وقائده وحبيبه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فأي فوز في هذا الوجود يفوق هذا الفوز: إن يتفرد الصديق وحده من دون أهل الأرض ومن دون الصحب جميعاً برفقه سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة(1)، وتظهر معاني الحب في الله في خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون ليكون الصديق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق مع قائده الأمين حين يحدق به الخطر من خوف وإشفاق على حياته؛ فما كان أبوبكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الهجرة الخطيرة وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قبضة المشركين(2)، ويظهر الحس الأمني الرفيع للصديق في هجرته مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواقف كثير منها؛ حين أجاب السائل: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل، فظن السائل بأن الصديق يقصد الطريق، وإنما كان يقصد سبيل الخير وهذا يدل على حسن استخدام أبي بكر للمعاريض فراراً من الحرج أو الكذب(3) وفي إجابته للسائل تورية وتنفيذاً للتربية الأمنية التي تلقاها من رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، لأن الهجرة كانت سراً وقد أقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك(4)، وفي موقف علي بن أبي طالب مثال للجندي الصادق المخلص لدعوة الإسلام، حيث فدى قائده بحياته، ففي
__________
(1) انظر: التربية القيادية (2/191،192).
(2) السيرة النبوية دروس وعبر للسباعي، ص71.
(3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص204.
(4) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص254.(4/323)
سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي - رضي الله عنه - ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي - رضي الله عنه - ولكن علياً - رضي الله عنه - لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبي الأمة وقائد الدعوة(1).
12- فن قيادة الأرواح وفن التعامل مع النفوس:
يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب أبي بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة، كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهذا الحب الرباني كان نابعاً من القلب، وبإخلاص، لم يكن حب نفاق أو نابعاً من مصلحة دنيوية، أو رغبة في منفعة أو رهبة لمكروه قد يقع ومن أسباب هذا الحب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفاته القيادية الرشيدة، فهو يسهر ليناموا، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، فمن سلك سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع صحابته، في حياته الخاصة والعامة، وشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم وكان عمله لوجه الله أصابه شيء من هذا الحب إن كان من الزعماء أو القادة أو المسؤولين في أمة الاسلام(2).
وصدق الشاعر الليبي عندما قال:
فإذا أحب الله باطن عبده
... ... ... ظهرت عليه مواهب الفتاح
وإذا صفت لله نية مصلح
... ... ... مال العباد عليه بالأرواح(3)
__________
(1) انظر : السيرة النبوية للسباعي، ص68.
(2) انظر: الهجرة النبوية لأبي فارس، ص54.
(3) انظر :الحركة السنوسية في ليبيا للصّلابي (2/7) والشاعر هو أحمد رفيق المهدوي.(4/324)
إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كل شيء وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - رحيماً وشفوقاً بجنوده وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبقى إلا المستضعفين والمفتونين ومن كانت له مهمات خاصة بالهجرة(1).
13- وفي الطريق أسلم بريدة الأسلمي - رضي الله عنه - في ركب من قومه:
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص205.(4/325)
إن المسلم الذي تغلغلت الدعوة في شغاف قلبه لايفتر لحظة واحدة عن دعوة الناس الى دين الله تعالى، مهما كانت الظروف قاسية والأحوال مضطربة، والأمن مفقود، بل ينتهز كل فرصة مناسبة لتبليغ دعوة الله تعالى، هذا نبي الله تعالى يوسف عليه السلام حينما زج به في السجن ظلماً، واجتمع بالسجناء في السجن، فلم يندب حظه، ولم تشغله هذه الحياة المظلمة عن دعوة التوحيد وتبليغها للناس ومحاربة الشرك وعبادة غير الله والخضوع لأي مخلوق قال تعالى: { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ صدق الله العظيم وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ صدق الله العظيم يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ صدق الله العظيم مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم } (سورة يوسف، الآيات: 37-40).(4/326)
وسورة يوسف عليه السلام مكية، وقد أمر الله تعالى رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي بالأنبياء والمرسلين في دعوته الى الله ولذلك نجده - صلى الله عليه وسلم - في هجرته من مكة الى المدينة وقد كان مطارداً من المشركين قد أهدروا دمه وأغروا المجرمين منهم بالأموال الوفيرة ليأتوا برأسه حياً أو ميتاً، ومع هذا فلم ينسى مهمته ورسالته، فقد لقي - صلى الله عليه وسلم - في طريقه رجلاً يقال له بريدة بن الحصيب الأسلمي - رضي الله عنه - في ركب من قومه، فدعاهم الى الاسلام فآمنوا وأسلموا(1).
وذكر ابن حجر العسقلاني -رحمه الله-: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريق هجرته الى المدينة لقي بريدة بن الحصيب بن عبدالله بن الحارث الأسلمي، فدعاه الى الاسلام، وقد غزا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ست عشرة(2) غزوة وأصبح بريدة بعد ذلك من الدعاة الى الاسلام وفتح الله لقومه أسلم على يديه أبواب الهداية، واندفعوا الى الاسلام وفازوا بالوسام النبوي الذي نتعلم منه منهجاً فريداً في فقه النفوس(3) قال - صلى الله عليه وسلم - : (أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما والله ماأنا قلته ولكن الله قاله)(4).
14- وفي طريق الهجرة أسلم لصّان على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية لأبي فارس، ص59. شرح المواهب (1/405).
(2) انظر: الإصابة (1/146).
(3) انظر: المستدرك على الصحيحين (4/92) رقم 6981 صحيح الاسناد.
(4) صحيح الجامع الصغير (1/328) رقم 986.(4/327)
كان في طريقه - صلى الله عليه وسلم - بالقرب من المدينة لصَّان من أسلم يقال لهما المهانان، فقصدهم - صلى الله عليه وسلم - وعرض عليهما الاسلام فاسلما ثم سألهما عن أسمائهما فقالا نحن المهانان، فقال: بل المكرمان، وأمرهما أن يقدما عليه المدينة(1)، وفي هذا الخبر يظهر اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة الى الله حيث اغتنم فرصة في طريقه ودعا اللصين الى الاسلام، فأسلما، وفي إسلام هذين اللصين مع ماألفاه من حياة البطش والسلب والنهب دليل على سرعة إقبال النفوس على اتباع الحق إذا وجد من يمثله بصدق وإخلاص، وتجردت نفس السامع من الهوى المنحرف، وفي اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتغيير اسمّي هذين اللصين من المهانَين الى المكْرَمَين دليل على اهتمامه - صلى الله عليه وسلم - بسمعة المسلمين ومراعاته مشاعرهم إكراماً لهم ورفعاً لمعنوياتهم.
وإن في رفع معنوية الإنسان تقوية لشخصيته ودفعاً له الى الامام ليبذل كل طاقته في سبيل الخير والفلاح(2).
15- الزبير وطلحة رضي الله عنهما ولقائهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق الهجرة:
ومما وقع في الطريق الى المدينة أنه - صلى الله عليه وسلم - لقي الزبير بن العوام في ركب من المسلمين كانوا تجاراً قافلين من الشام، فكسى الزبير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ثياباً بيضاء، رواه البخاري(3)، وكذا روى أصحاب السِيَر أن طلحة بن عبيد الله لقيهما أيضاً وهو عائد من الشام وكساهما بعض الثياب(4).
16- أهمية العقيدة والدين في إزالة العداوة والضغائن:
__________
(1) الفتح الرباني للساعاتي (20/289).
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (3/178).
(3) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/495).
(4) المصدر السابق نفسه (1/495)؛ صحيح السيرة النبوية ، ص181.(4/328)
إن العقيدة الصحيحة السليمة والدين الاسلامي العظيم لهم أهمية كبرى في إزالة العداوات والضغائن، وفي التأليف بين القلوب والأرواح، وهو دور لايمكن لغير العقيدة الصحيحة أن تقوم به، وهاقد رأينا كيف جمعت العقيدة الاسلامية بين الأوس والخزرج، وأزالت آثار معارك استمرت عقوداً من الزمن، وأغلقت ملف ثارات كثيرة في مدة قصيرة، بمجرد التمسك بها والمبايعة عليها وقد رأينا مافعلته العقيدة في نفوس الأنصار، فاستقبلوا المهاجرين بصدور مفتوحة، وتآخوا معهم في مثالية نادرة، لا تزال مثار الدهشة ومضرب المثل، ولا توجد في الدنيا فكرة أو شعار آخر فعل مثلما فعلت عقيدة الاسلام الصافية في النفوس.
ومن هنا ندرك السر في سعي الأعداء الدائب الى إضعاف هذه العقيدة وتقليل تأثيرها في نفوس المسلمين، واندفاعهم المستمر نحو تزكية النعرات العصبية والوطينة والقومية وغيرها، وتقديمها كبديل للعقيدة الصحيحة(1).
17- فرحة المهاجرين والأنصار بوصول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص205.(4/329)
كانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب من أنصار ومهاجرين بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصوله إليهم سالماً فرحة أخرجت النساء من بيوتهن والولائد، وحملت الرجال على ترك أعمالهم، وكان موقف يهود المدينة موقف المشارك لسكانها في الفرحة ظاهراً، والمتألم من منافسة الزعامة الجديدة باطناً، أما فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم، فلا عجب فيها، وهو الذي أنقذهم من الظلمات الى النور، بإذن ربهم الى صراط العزيز الحميد، وأما موقف اليهود فلا غرابة فيه، وهم الذين عرفوا بالملق والنفاق للمجتمع الذي فقدوا السيطرة عليه، وبالغيظ والحقد الأسود ممن يسلبهم زعامتهم على الشعوب، ويحول بينهم وبين سلب آمالهم باسم القروض، وسفك دمائها باسم النصح والمشورة، ومازال اليهود يحقدون على كل من يخلص الشعوب من سيطرتهم، وينتهون من الحقد الى الدس والمؤامرات، ثم الى الاغتيال إن استطاعوا، ذلك دينهم، وتلك جبلتهم(1).
ويستفاد من استقبال المهاجرين والأنصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشروعية استقبال الأمراء والعلماء، عند مقدمهم بالحفاوة والإكرام، فقد حدث ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان هذا الإكرام وهذه الحفاوة نابعين من حب للرسول بخلاف مانراه من استقبال الزعماء والحكام في عالمنا المعاصر، ويستفاد كذلك التنفاس في الخير وإكرام ذوي العلم والشرف، فقد كانت كل قبيلة تحرص أن تستضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعرض أن يكون رجاله حُراساً له، ويؤخذ من هذا إكرام العلماء والصالحين، واحترامهم وخدمتهم(2).
18- مقارنة بين الهجرة والإسراء والمعراج:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية للسباعي، ص43؛ الهجرة في القرآن الكريم، ص367.
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي فارس، ص358،359.(4/330)
كانت الهجرة النبوية الشريفة على النحو الذي كانت عليه، وسارت على الوضع الذي يسلكه كل مهاجر، حتى توجد القدوة، وتتحقق الأسوة، ويسير المسلمون على نهج مألوف، وسبيل معروف، ولذلك، فلم يرسل الله عزوجل- له - صلى الله عليه وسلم - البراق ليهاجر عليه كما حدث في ليلة الإسراء، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في يوم هجرته أحوج إلى البراق منه في أي وقت آخر لأن القوم يتربصون به هنا و لم يكن هناك تربص في ليلة الإسراء، ولوظفروا به في هجرته لشفوا نفوسهم منه بقتله، والحكمة في ذلك - والله أعلم - أن الهجرة كانت مرحلة طبيعية من مراحل تطور الدعوة ووسيلة من أهم وسائل نشرها وتبليغها، ولم تكن خاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل كان غيره من المؤمنين مكلفين بها، حين قطع الإسلام الولاية(1)، بين المهاجرين وغير المهاجرين القادرين على الهجرة، قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (سورة الأنفال، الآية72).
أما رحلة الإسراء والمعراج كانت رحلة تشريف وتقدير، كما كانت إكراماً من الله - عزوجل - لنبيه ليطلعه على عالم الغيب ويريه من آياته الكبرى، فالرحلة من أولها إلى آخرها خوارق ومعجزات ومشاهد للغيبيات، فناسب أن تكون وسيلتها مشابهة لغايتها.
__________
(1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص365.(4/331)
زد على ذلك أن رحلة الإسراء خصوصية للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وليس لأحد من الناس أن يتطلع لمثلها، ولسنا مطالبين بالاقتداء به فيها، ولذا فإن حصولها على النحو الذي كانت عليه هو أنسب الأوضاع لحدوثها(1).
19- وضوح سنة التدرج:
حيث نلاحظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما تقابل مع طلائع الأنصار الأولى لم يفعل سوى ترغيبهم في الإسلام وتلاوة القرآن عليهم، فلما جاءوا في العام التالي بايعهم بيعة النساء على العبادات والأخلاق والفضائل، فلما جاءوا في العام التالي كانت بيعة العقبة الثانية على الجهاد والنصر والإيواء(2).
وجدير بالملاحظة أن بيعة الحرب لم تتم إلا بعد عامين كاملين اي، بعد تأهيل وإعداد استمر عامين كاملين، وهكذا تم الأمر على تدرج ينسجم مع المنهج التربوي الذي نهجت عليه الدعوة من أول يوم(3).
إنه المنهج الذي هدى الله نبيه إلى التزامه، ففي البيعة الأولى بايعه هؤلاء الأنصار الجدد على الإسلام عقيدة ومنهاجاً وتربية، وفي البيعة الثانية بايعه الأنصار على حماية الدعوة، واحتضان المجتمع الإسلامي الذي نضجت ثماره، واشتدت قواعده قوة وصلابة.
إن هاتين البيعتين أمران متكاملان ضمن المنهج التربوي للدعوة الإسلامية وإن الأمر الأول هو المضمون، والأمر الثاني وهو بيعة الحرب هو السياج الذي يحمي ذلك المضمون نعم كانت بيعة الحرب بعد عامين من إعلان القوم الإسلام وليس فور إعلانهم.
__________
(1) انظر: تأملات في سيرة الرسول، محمد سيد الوكيل ، ص103،104 بتصرف.
(2) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص202.
(3) انظر: بناء المجتمع الاسلامي في عصر النبوة، محمد توفيق، ص119.(4/332)
بعد عامين إذ تم إعدادهم حتى غدوا موضع ثقة وأهلاً لهذه البيعة، ويلاحظ أن بيعة الحرب لم يسبق أن تمت قبل اليوم مع أي مسلم، إنما حصلت عندما وجدت الدعوة في هؤلاء الأنصار وفي الأرض التي يقيمون فيها المعقل الملائم الذي ينطلق منه المحاربون، لأن مكة لوضعها عندئذ لم تكن تصلح للحرب(1).
وقد اقتضت رحمة الله بعباده (أن لايحملهم واجب القتال، إلى أن توجد لهم دار إسلام، تكون لهم بمثابة معقل يأوون إليه، ويلوذون به، وقد كانت المدينة المنورة أول دار إسلام(2).
لقد كانت البيعة الأولى قائمة على الإيمان بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والبيعة الثانية على الهجرة والجهاد، وبهذه العناصر الثلاثة: الإيمان بالله، والهجرة، والجهاد، يتحقق وجود الإسلام في واقع جماعي ممكن والهجرة لم تكن لتتم لولا وجود الفئة المستعدة للإيواء ولهذا قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (سورة الأنفال، الآية:72) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (سورة الأنفال، الآية:75).
__________
(1) نفس المصدر، ص122، 123.
(2) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص172.(4/333)
وقد كانت بيعة الحرب هي التمهيد الأخير لهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وبذلك وجد الإسلام موطنه الذي ينطلق منه دعاة الحق بالحكمة والموعظة وتنطلق منه جحافل الحق المجاهدة أول مرة، وقامت الدولة الإسلامية المحكمة لشرع الله(1).
20- الهجرة تضحية عظيمة في سبيل الله:
كانت هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن البلد الأمين تضحية عظيمة عبّر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله:(والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ماخرجت)(2).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، وكان واديها يجري نجلاً - يعني ماءً آجناً - فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم وصرف الله ذلك عن نبيه. قالت: فكان أبو بكر، وعامر بن فهيرة، وبلال في بيت واحد، فأصابتهم الحمى، فاستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب وبهم مالايعلمه إلا الله من شدة الوعك(3)، فدنوت من أبي بكر فقلت: ياأبت كيف تجدك؟ فقال:
كل امرئ مصبح في أهله
... ... ... والموت أدنى من شراك نعله
قالت: فقلت والله مايدري أبي مايقول. ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك ياعامر؟ فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه
... ... ... إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه(4)
... ... ... كالثور يحمي جلده بروقه(5)
__________
(1) انظر: الغرباء الأولون، ص198،199.
(2) الترمذي، كتاب المناقب، باب فضل مكة (5/722) رقم 3925.
(3) الوغك: الحمى.
(4) بطوقه: بطاقته.
(5) بروقه: بقرنه.(4/334)
قالت: فقلت: والله مايدري عامر مايقول. قالت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت ثم يرفع عقيرته(1) ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
... ... ... بواد وحولي إذخر(2) وجليل
وهل أُرِدَن يوماً مياه مَجِنَة
... ... ... وهل يبدون لي شامة وطفيل(3)
قالت: فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال:(اللهمَّ حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة، أو أشد، اللهمّ وصحِّحها وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل حمّاها واجعلها بالجحفة)(4).
وقد استجاب الله دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمى، وغدت المدينة موطناً ممتازاً لكل الوافدين والمهاجرين إليها من المسلمين على تنوع بيئاتهم ومواطنهم(5).
21- مكافأة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم معبد:
وقد روي أنها كثرت غنمها ونمت حتى جلبت منها جَلَباً إلى المدينة، فمر أبو بكر، فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك، فقامت إليه فقالت: ياعبدالله من الرجل الذي كان معك؟ قال: أو ماتدرين من هو؟ قالت: لا، قال: هو نبي الله، فأدخلها عليه، فأطعمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعطاها - وفي رواية: فانطلقت معي وأهدت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من أقط ومتاع الأعراب، فكساها وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت، وذكر صاحب (الوفاء) أنها هاجرت هي وزوجها، وأسلم أخوها حبيش، واستشهد يوم الفتح(6).
__________
(1) عقيرته: صوته، قال الأصمعي: إن رجلاً عُقرت رجله فرفعها على الأخرى وجعل يصيح، فصار كل من رفع صوته يقال له: رفع عقيرتهن وإن لم يرفع رجله.
(2) الأذخر: نبات طيب الرائحة.
(3) شامة وطفيل: جبلان مشرفان على مجنة على بريد مكة.
(4) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء يرفع الوباء والوجع، رقم 6372.
(5) انظر: التربية القيادية (2/310).
(6) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/489،490).(4/335)
22- أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه ومواقف خالدة:
قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه:(ولما نزل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي نزل في السُّفل وأنا وأم أيوب في العلوّ، فقلت له: يانبي الله - بأبي أنت وأمي- إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فأظهر أنت فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل. فقال: يا أبا أيوب: إنّ أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سُفل البيت قال: فلقد انكسر جِبٌّ لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه شيء يؤذيه(1).
23- هجرة علي - رضي الله عنه - وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر في المجتمع الجديد:
بعد أن أدى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمانات التي كانت عنده للناس، لحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدركه بقباء بعد وصوله بليلتين أو ثلاث، فكانت إقامته بقباء ليلتين، ثم خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة يوم الجمعة(2)، وقد لاحظ سيدنا علي مدة إقامته بقباء امرأة مسلمة لازوج لها، ورأى إنساناً يأتيها من جوف الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليه، فيعطيها شيئاً معه، فتأخذه، قال: فاستربت بشأنه، فقلت: يا أمة الله، من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه، فيعطيك شيئاً لاأدري ماهو؟ وأنت امرأة مسلمة لازوج لك؟ قالت: هذا سهل بن حنيف، وقد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها، فقال: احتطبي بهذا، فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك من شأن سهل بن حنيف حين هلك عنده بالعراق(3).
24- الهجرة النبوية نقطة تحول في تاريخ الحياة:
__________
(1) انظرك السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/220).
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (1/497).
(3) انظر: محمد رسول الله ، محمد الصادق عرجون (2/421).(4/336)
كانت الهجرة النبوية من مكة المشرفة إلى المدينة المنورة أعظم حدث حوّل مجرى التاريخ، وغير مسيرة الحياة ومناهجها التي كانت تحياها، وتعيش محكومة بها في صورة قوانين ونظم وأعراف وعادات وأخلاق وسلوك للأفراد والجماعات وعقائد وتعبدات وعلم ومعرفة، وجهالة وسفه، وضلال وهدى، وعدل وظلم(1).
25- الهجرة من سنن الرسل الكرام:
إن الهجرة في سبيل الله سنة قديمة، ولم تكن هجرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بدعاً في حياة الرسل لنصرة عقائدهم، فلئن كان قد هاجر من وطنه ومسقط رأسه من أجل الدعوة حفاظاً عليها وإيجاد بيئة خصبة تتقبلها وتستجيب لها وتذود عنها، فقد هاجر عدد من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم لنفس الأسباب التي دعت نبينا للهجرة.
وذلك أن بقاء الدعوة في أرض قاحلة لايخدمها بل يعوق مسارها ويشل حركتها، وقد يعرضها للإنكماش داخل أضيق الدوائر، وقد قص علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرسل وأتباعهم من الأمم الماضية لتبدو لنا في وضوح سنة من سنن الله في شأن الدعوات يأخذ بها كل مؤمن من بعدهم إذا حيل بينه وبين إيمانه وعزته، واستخف بكيانه ووجوده واعتدى على مروءته وكرامته(2).
هذه بعض الفوائد والعبر والدروس واترك للقارئ الكريم أن يستخرج غيرها، ويستنبط سواها من الدروس والعبر والفوائد الكثيرة النافعة من هذا الحدث العظيم.
المبحث الثاني
الثناء على المهاجرين بأوصاف حميدة والوعد
لمن هاجر منهم الوعيد لمن تخلف
تعتبر الهجرة النبوية المباركة من مكة إلى المدينة أهم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية، إذ كانت نقطة تحول في تاريخ المسلمين، كان المسلمون قبل الهجرة أمة دعوة، يبلغون دعوة الله للناس، دون أن يكون لهم كيان سياسي، يحمي الدعاة أو يدفع عنهم الأذى من أعدائهم.
__________
(1) نفس المصدر (2/423).
(2) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص175.(4/337)
وبعد الهجرة تكونت دولة الدعوة، هذه الدولة التي أخذت على عاتقها نشر الإسلام في داخل الجزيرة العربية وخارجها، ترسل الدعاة إلى الأمصار وتتكفل بالدفاع عنهم وحمايتهم من أي اعتداء قد يقع عليهم ولو أدى ذلك إلى قيام حرب أو حروب(1).
وبجانب هذا، فإن الهجرة النبوية لها مكانتها في فهم القرآن وعلومه حيث فرق العلماء بين المكي والمدني، فالمكي: مانزل قبل الهجرة وإن كان بغير مكة، والمدني: مانزل بعد الهجرة وإن كان بغير المدينة وترتب على ذلك فوائد من أهمها:
1- تذوق أساليب القرآن الكريم والاستفادة منها في أسلوب الدعوة إلى الله.
2- الوقوف على السيرة النبوية من خلال الآيات القرآنية(2) ولأهمية الهجرة النبوية نرى أن القرآن الكريم حث المؤمنين على الهجرة في سبيل الله بأساليب متنوعة، مرة بالثناء على المهاجرين بأوصاف حميدة، وأخرى بالوعد للمهاجرين، وتارة بالوعيد للمتخلفين عن الهجرة(3).
أولاً: الثناء على المهاجرين بأوصاف حميدة:
اثنى الله سبحانه وتعالى على المهاجرين في القرآن الكريم، ووصفهم بأوصاف حميدة متميزة، وذلك لأنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم. أكرههم على الخروج الأذى والاضطهاد والتنكر لهم من قرابتهم وعشيرتهم في مكة وما أخرجوا إلا أن يقولوا ربنا الله، فمن أهم الصفات المميزة للمهاجرين(4).
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية ، الدكتور محمد ابو فارس، ص13.
(2) انظر: مباحث في علوم القرآن للقطان، ص59.
(3) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص84.
(4) نفس المصدر، ص85. هذا المبحث اخذته من هذا الكتاب مع التصرف اليسير.(4/338)
1- الإخلاص: قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سورة الحشر، الآية:8) قوله تعالى:{ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} يدل على أنهم لم يخرجوا من ديارهم وأموالهم إلا أن يكونوا مخلصين لله، مبتغين مرضاته ورضوانه(1).
2- الصبر:
ومن صفات المهاجرين وأخلاقهم المتميزة التي أثنى الله عليها بها: الصبر قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ صدق الله العظيم } (سورة النحل، الآيتان:41-42) وقال عزوجل: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة النحل، الآية:110).
3- الصدق:
ومن الصفات الحميدة التي أثنى الله سبحانه وتعالى بها على المهاجرين الصدق قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سورة الحشر، الآية:8).
__________
(1) المصدر السابق، ص86.(4/339)
قال البغوي في تفسيره: قوله:{ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} في إيمانهم. قال قتادة: هؤلاء المهاجرون الذين تركوا الديار والأموال والعشائر وخرجوا حباً لله ولرسوله واختاروا الإسلام على ماكانوا فيه من شدة، حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحضيرة في الشتاء ماله من دثار(1) غيرها.
4- الجهاد والتضحية:
قال تعالى: {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (سورة التوبة، الآية:20).
تركزت دعوة الرسل على التضحية والفداء إذ أنها تواجه عناداً وتكذيباً وعداء مستحكماً، وهذا لابد من مواجهته بصلابة عود وقوة إيمان ورسوخ عقيدة وعظيم بدل، والحياة في ظل العقيدة حياة جهاد وكفاح ومنذ مطلع الدعوة كان نزول جبريل بالوحي إيذاناً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإيذاء قومه حيث قال له ورقة بن نوفل:(هذا الناموس الذي أنزل على موسى ياليتني فيها جذعاً(2) ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أومخرجي هم؟) فقال ورقة:(نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي. وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً)(3).
وقد اشتمل حدث الهجرة على أنواع من التضحية والفداء، وبذل النفس والمال في سبيل الله(4).
ولعل الملاحظة الجديرة بالتأمل في هذا المجال، أن التضحية ملازمة للجهاد في سبيل الله، إذ لاجهاد دون تضحية(5).
5- نصرهم لله ورسوله:
__________
(1) انظر: تفسير البغوي (4/318).
(2) جذعاً: شاباً قوياً. انظر: هامش صحيح مسلم (1/142).
(3) مسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي حديث رقم 252 (1/142).
(4) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص104.
(5) نفس المصدر، ص106.(4/340)
قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سورة الحشر، الآية:8).
امتدح الله - سبحانه وتعالى - في هذه الآية الكريمة المهاجرين بأنهم ينصرون الله ورسوله، ذلك لأنهم ماخرجوا من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة إلا لنصرة الله تعالى ورسوله.
ونصر الله شرط لتحقيق النصر والتثبت، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (سورة محمد، الآية:7).
قال سيد: وكيف ينصر المؤمنون الله، حتى يقوموا بالشرط وينالوا ماشرط لهم من النصر والتثبيت؟
إن لله في نفوسهم أن تتجرد له، وألا تشرك به شيئاً، شركاً ظاهراً أو خفياً، وألا تستبقي فيها معه أحداً ولاشيئاً وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ماتحب وتهوى، وأن تحكمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها، وسرها وعلانيتها، ونشاطها كله وخلجاتها، فهذا نصر الله في ذوات النفوس.
وإن لله شريعة ومنهاجاً للحياة، تقوم على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة، ونصر الله يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه، ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء، فهنا نصر الله في واقع الحياة(1).
6- التوكل على الله عزوجل:
__________
(1) في ظلال القرآن (6/3288).(4/341)
قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ صدق الله العظيم } (سورة النحل، الآيتان:41-42) يمتدح الله سبحانه وتعالى المهاجرين بأنهم يتوكلون على الله لاغيره، والتوكل على الله خاصية الإيمان وعلامته، وأنه منطق الإيمان ومقتضاه، قال تعالى: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (سورة المائدة، الآية:23).
وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ ءَامَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (سورة يونس، الآية:84).
وقال تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (سورة إبراهيم، الآية:11).
وقد ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام مثالاً يقتدى به على مر الدهور في ترجمة التوكل في واقع الحياة في حادثة الهجرة ولحسن توكلهم على الله - سبحانه وتعالى أثنى عليهم وجزاهم أحسن الجزاء(1).
7- الرجاء:
ومن صفات المهاجرين الحميدة التي مدحهم الله بها الرجاء قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة البقرة، الآية:218).
__________
(1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص114 الى 117.(4/342)
وإنما قال: {يَرْجُونَ} وقد مدحهم، لأنه لايعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ لأمرين أحدهما: لايدري بما يختم له والثاني: لئلا يتكل على عمله، فهؤلاء قد غفر الله لهم ومع ذلك يرجون رحمة الله وذلك زيادة إيمان منهم(1).
8- اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
ومما يدل على أن الهجرة لها مكانة عظيمة في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى وصف المهاجرين وأنصارهم بأنهم يتبعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة التوبة، الآية:117) فالمهاجرون والأنصار هم الذين يتبعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأعماله بل في ساعة العسرة مما يدل على أنهم يستحقون بذلك الدرجة العظمى، والتوبة من الله عزوجل.
وقد نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر في سنة مجدبة، وحر شديد وعسر في الزاد والماء.
قال قتادة: خرجوا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر على مايعلم الله من الجهد أصابهم فيها جهد شديد حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم وأقفلهم(2) من غزوتهم(3).
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (3/50)، تفسير أبي العود (1/218).
(2) أقفلهم: بمعنى أرجعهم سالمين.
(3) تفسير ابن كثير (2/397).(4/343)
إن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدل على حقيقة الإيمان، وحقيقة الدين، ويفرق تفريقاً حاسماً بين الإيمان والكفر في جلاء كما أنه دليل على حب الله، وحب الله ليس دعوى باللسان، ولاهياماً بالوجدان إلا أن يصاحبه الإتباع لرسول الله، والسير على هداه، وتحقيق منهجه في الحياة، إن الإيمان ليس كلمات تقال، ولامشاعر تجيش، ولاشعائر تقام. ولكنه طاعة الله والرسول، وعمل بمنهج الله الذي يحمله الرسول، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ صدق الله العظيم قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، الآيتان:31-32).
قال ابن كثير في تفسيره للآية المذكورة:(هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي، في جميع أقواله وأعماله(1)، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)(2).
9- حق السبق في الإيمان والعمل:
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (سورة التوبة، الآية:100).
__________
(1) نفس المصدر (3/466).
(2) مسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة (3/1344)، رقم 1718.(4/344)
قال الرازي: والسبق موجب للفضيلة، فإقدامهم على هذه الأفعال يوجب اقتداء غيرهم بهم قال - صلى الله عليه وسلم - :(من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)(1). فدواعي الناس تقوى بما يرون من أمثالهم في أحوال الدين والدنيا. وثبت بهذا أن المهاجرين هم رؤساء المسلمين وسادتهم(2).
وهكذا اختار الله سبحانه وتعالى - السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة التي تحتمل الضغوط والفتنة والأذى والجوع والغربة والعذاب والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان، ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة، ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة، مع السابقين من الأنصار الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون، إلا أن بيعتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بيعة العقبة) قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين.
__________
(1) مسلم، كتاب العلم، باب من سنة سنّة حسنة أو سيئة، رقم 15.
(2) انظر: تفسير الرازي (15/208).(4/345)
وبالمهاجرين والأنصار تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي، فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى، وكان هذا النوع قليلاً، فقد كان الأمر كله معروفاً مكشوفاً من قبل، فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب، إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين(1) وبذلك أيضاً تتضح لنا منزلة المهاجرين وعلو طبقتهم في الفضل حيث أنفقوا وقاتلوا، والعقيدة مطاردة، والأنصار قلة، وليس في الأفق ظل منفعة ولاسلطان ولا رخاء مما يدل على أنهم لا يستوون مع غيرهم من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد تلك الظروف الصعبة(2)، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (سورة الحديد، الآية:10).
__________
(1) في ظلال القرآن (3/1703).
(2) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص124.(4/346)
وقد تحدث ابن كثير عن آية سورة التوبة التي بينت فضل السابقين من المهاجرين والأنصار فقال: فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي الله عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فياويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم، ولاسيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة - رضي الله عنه - فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم، عياذاً بالله من ذلك، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنهم ويسبون من سبه الله ورسوله، يوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولايبتدون، ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون(1).
10- الفوز:
قال تعالى: {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (سورة التوبة، الآية:20).
قال أبو السعود في تفسيره: قوله تعالى:{ هُمُ الْفَائِزُونَ} أي المختصون بالفوز العظيم أو بالفوز المطلق، كأن فوز من عداهم ليس بفوز بالنسبة إلى فوزهم(2).
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/332).
(2) تفسير ابي السعود (4/53).(4/347)
فهذا ثناء من الله العلي العظيم على المهاجرين بأنهم يستحقون الفوز العظيم، والفوز يكون عظيماً لأنه يأتي من مصدر العظمة وأي فوز أعظم من هذا الفوز، يخبرهم ربهم بأنهم من الفائزين في الآخرة، وذلك بدخولهم الجنة وبعدهم عن النار قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (سورة آل عمران، الآية:185).
11- الإيمان الحقيقي:
ومن هذه الصفات الحميدة التي أثنى الله على المهاجرين بها في كتابه الكريم صفة الإيمان الحق قال تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (سورة الأنفال، الآية:74).(4/348)
فهذه شهادة من الله العليم الخبير للمهاجرين بأنهم المؤمنون حقاً، فالمهاجرون -رضوان الله عليهم- هم النموذج الحقيقي الذي يتمثل فيه الإيمان - بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أنهم قدوة حسنة لمن جاء بعدهم، وصورة حقيقية في ترجمة الصفات الحميدة في واقع الحياة، فلذلك استحقوا هذا الثناء الرباني بأنهم المؤمنون حقاً، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ صدق الله العظيم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ صدق الله العظيم أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ صدق الله العظيم } (سورة الأنفال، الآيات:2،3،4). وهذه الصفات الحميدة تتمثل في حياة المهاجرين - كما أن المتصفين بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان(1).
ثانياً: الوعد للمهاجرين:
ذكر الله تعالى بعض النعم التي وعدها الله عزوجل - للمهاجرين في الدنيا والآخرة ومن هذه النعم:
1- سعة رزق الله لهم في الدنيا:
قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (سورة النساء، الآية:100).
__________
(1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص129.(4/349)
ومن سعة رزق الله لهم في الدنيا تخصيصهم بمال الفيء والغنائم قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سورة الحشر، الآية:8) فالمال لهؤلاء لأنهم أخرجوا من ديارهم فهم أحق الناس به(1).
ومن سعة الله لهم في الرزق أن خلص الله - عزوجل - الأنصار من شح النفس ووسع صدورهم للمهاجرين قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة الحشر، الآية:9).
إن الله عزوجل وعد المهاجرين سعة الرزق في الدنيا، وتحقق ذلك الوعد الكريم، وذلك لأن الله - عزوجل - في منهجه الرباني القرآني يعالج هذه النفس في وضوح وفصاحة، فلا يكتم عنها شيئاً من المخاوف، ولايداري، عنها شيئاً من الأخطار، بما في ذلك خطر الموت - ولكنه يكسب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى وبضمانة الله سبحانه وتعالى فهو يحدد الهجرة بأنها (في سبيل الله ) .. وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام، فليست هجرة للثراء، أو هجرة للنجاة من المتاعب، أو هجرة للذائذ والشهوات، أو هجرة لأي عرض من أعراض الحياة، ومن يهاجر هذه الهجرة في سبيل الله يجد في الأرض فسحة ومنطلقاً فلا تضيق به الأرض، ولايعدم الحيلة والوسيلة للنجاة وللرزق والحياة(2)، لئن الله سيكون في عونه ويسدد خطاه.
2- تكفير سيئاتهم ومغفرة ذنوبهم:
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (4/295)، وتفسير ابي السعود (8/228)، وتفسير فتح القدير (5/200)؛ الهجرة في القرآن الكريم، ص132.
(2) في ظلال القرآن (2/745).(4/350)
ومن النعم التي وعدها الله - سبحانه وتعالى للمهاجرين تكفير سيئاتهم ومغفرة ذنوبهم، قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (سورة آل عمران، الآية:195).(4/351)
وقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة في بيان أن الهجرة من أعظم الوسائل المكفرة للسيئات، وأنها سبب لمغفرة ذنوب أهلها ومن هذه الأحاديث، عن أبي شماسة المهري قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة(1) الموت فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا؟ أما بشرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل مانعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أني كنت على أطباق(2) ثلاث فقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أبسط يمينك فلأبايعنك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: (مالك ياعمرو؟) قال قلت: أردت أن أشترط، قال: (تشترط بماذا؟) قلت أن يغفر لي قال:(أما علمت أن الإسلام يهدم ماكان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ماكان قبلها، وأن الحج يهدم ماكان قبله؟ وما كان أحد أحب إلي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجل في عيني منه، وماكنت أطيق أن أملأ عيني منه، إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ماأدري ماحالي فيها، فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولانار، فإذا دفنتموني فشنوا(3) علي التراب شناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ماتنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وانظر ماذا أراجع به رسل ربي(4)
__________
(1) سياقة الموت: أي النزع، كأن روحه تساق لتخرج من بدنه.
(2) أطباق ثلاث: أحوال ثلاث، واحدها طبق.
(3) فشنوا علي التراب: الصب المنقطع بالشين والعن الصب المتواصل؛ الهجرة في القرآن الكريم، ص136.
(4) مسلم، كتاب الايمان، باب كون الاسلام يهدم ماقبله رقم 192.(4/352)
.
قال النووي فيه: عظم موقع الإسلام والهجرة والحج، وإن كل واحد منهما يهدم ماكان قبله من المعاصي، وفيه استحباب تنبيه المحتضر على إحسان ظنه بالله سبحانه وتعالى، وذكر آيات الرجاء وأحاديث العفو عنده، وتبشيره بما أعده الله تعالى للمسلمين، وذكر حسن أعماله عنده ليحسن الظن بالله تعالى ويموت عليه، وهذا الأدب، مستحب بالإتفاق(1).
3- ارتفاع منزلتهم وعظمة درجتهم عند ربهم:
وعد الله - سبحانه وتعالى - للذين نالوا أفضل الإيمان والهجرة، والجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم الدرجات عند الله، قال تعالى: {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (سورة التوبة، الآية:20).
يقول الفخر الرازي: إن الموصوفين بهذه الصفات الأربعة في غاية الجلالة والرفعة، لأن الإنسان ليس له إلا مجموع أمور ثلاثة: الروح، والبدن، والمال، أما الروح فلما زال عنه الكفر وحصل فيه الإيمان، فقد وصل إلى مراتب العادات اللائقة بها، وأما البدن والمال فبسبب الهجرة وقعا في النقصان وبسبب الاشتغال بالجهاد صارا معرضين للهلاك والبطلان، ولاشك أن كلا من النفس والمال محبوب للإنسان، والإنسان لايعرض عن مجموعه إلا للفوز بمحبوب أكمل من الأول، فلولا أن طلب الرضوان أتم عندهم من النفس والمال، وإلا لما رجحوا جانب الآخرة على جانب النفس والمال ولما رضوا بإهدار النفس والمال لطلب مرضات الله تعالى.
__________
(1) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم (2/125) بتصرف؛ الهجرة في القرآن الكريم، ص138.(4/353)
فثبت أن عند حصول الصفات الأربعة صار الإنسان واصلاً إلى آخر درجات البشرية وأول مراتب درجات الملائكة، وهم بذلك يكونون أفضل من كل من سواهم من البشر على الإطلاق، لأنه لايعقل حصول سعادة و فضيلة للإنسان أعلى وأكمل من هذه الصفات(1).
فالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم وأعلى مقاماً في مراتب الفضل والكمال في حكم الله وأكبر مثوبة من أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام الذين رأى بعض المسلمين أن عملهم إياهما من أفضل القربات بعد الإسلام.
فالذين نالوا فضل الهجرة والجهاد بنوعيه النفسي والمالي أعلى مرتبة وأعظم كرامة ممن لم يتصف بهما كائناً من كان، ويدخل في ذلك أهل السقاية والعمارة(2).
وأنه تعالى لم يقل: أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة لأنه لو عين ذكرهم لأوهم أن فضيلتهم إنما حصلت بالنسبة إليهم، ولما ترك ذكر المرجوح، دل ذلك على أنهم أفضل من كل من سواهم على الإطلاق، لأنه لايعقل حصول سعادة وفضيلة للإنسان أعلى وأكمل من هذه الصفات(3). والتفضيل هنا في قوله:{ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} ليس على وجهه، فهو لايعني أن للآخرين درجة أقل، إنما هو التفضيل المطلق، فالآخرون {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} فلا مفضلة بينهم وبين المؤمنين المهاجرين المجاهدين في درجة ولا في نعيم(4).
4- استحقاقهم الجنة والخلود فيها:
__________
(1) انظر: تفسير الرازي (16/13) ومابعدها بتصرف.
(2) تفسير المراغي (10/78).
(3) تفسير الرازي (16/14).
(4) في ظلال القرآن (3/1614)؛ الهجرة في القرآن الكريم، ص141.(4/354)
ومن النعم التي أعدها الله - سبحانه وتعالى - للمهاجرين الجنة والخلود فيها قال تعالى: {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ صدق الله العظيم يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ صدق الله العظيم خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ صدق الله العظيم } (سورة التوبة، الآيات:20،21،22).
قال الشوكاني في تفسيره: والتنكير في الرحمة والرضوان والجنان للتعظيم، والمعنى أنها فوق وصف الواصفين وتصور المتصورين. والنعيم المقيم: الدائم المستمر الذي لايفارق صاحبه، وذكر الأبد بعد الخلود تأكيد له(1). هذه بشرى مابعدها بشرى كما وعدها الله -سبحانه وتعالى- للمؤمنين والمؤمنات قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (سورة التوبة، الآية:72).
5- الفوز العظيم ورضوان الله عليهم:
ومن النعم التي وعد الله سبحانه وتعالى - للمهاجرين أنهم سينالون الفوز العظيم، قال تعالى: {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (سورة التوبة، الآية:20).
__________
(1) تفسير فتح القدير (2/345)؛ الهجرة في القرآن الكريم، ص142.(4/355)
ورضوان الله تعالى عليهم أكبر وأجل وأعظم مما هم فيه من النعيم، وهو نهاية الإحسان، وهو أعلى النعم وأكمل الجزاء(1)، كما يدل على ذلك قوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (سورة التوبة، الآية:72).
ورضى الله عنهم هو الرضى الذي تتبعه المتوبة، وهو في ذاته أعلى وأكرم مثوبة، ورضاهم عن الله هو الاطمئنان إليه على نعمائه، والصبر على ابتلائه. ولكن التعبير بالرضى هنا وهناك يشيع جو الرضى الشامل الغامر، المتبادل الوافر، الوارد الصادر، بين الله سبحانه وتعالى وهذه الصفوة المختارة من عباده، ويرفع من شأن هذه الصفوة - من البشر حتى ليبادلون ربهم الرضى، وهو ربهم الأعلى، وهم عبيده المخلقون .. وهو حال وشأن وجو لاتملك الألفاظ البشرية أن تعبر عنه، ولكن يتسم ويتشرف ويستجلي من خلال النص القرآني بالروح المتطلع والقلب المتفتح والحس الموصول(2).
هذا بعض ماواعد الله به المهاجرين من الجزاء والثواب بسبب جهادهم المرير.
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/320)، تفسير المراغي (10/79)؛ الهجرة في القرآن الكريم، ص144.
(2) في ظلال القرآن (3/1705).(4/356)
إن المهاجرين بإيمانهم الراسخ، ويقينهم الخالص لم يمكنوا الجاهلية في مكة من وأد الدعوة، وهي في مستهل حياتها، لقد استمسكوا بما أوحى إلى نبيهم ولم تزدهم حماقة قريش إلاّ اعتصاماً بما اهتدوا إليه وآمنوا به، فلما أسرفت الجاهلية في عسفها واضطهادها وأذن الله لهؤلاء المؤمنين الصابرين بالهجرة من مكة خرجوا من ديارهم وأموالهم، ويمموا صوب المدينة ليس رهبة من الكفر ولا رغبة في الدنيا، ولكنهم كانوا بذلك يرجون رحمة الله ويبتغون فضلاً منه ورضواناً لذلك صاروا أهلاً لما أسبغه الله عليهم من فضل في الدنيا، وما أعده لهم يوم القيامة من ثواب عظيم(1).
ثالثاً: الوعيد للمتخلفين عن الهجرة:
إن الأسلوب القرآني في الوعد والوعيد يهدف إلى الخشية والرجاء في النفوس، رجاء يدفعها إلى الطاعة والاستقامة، وخشية تمنعها من المعصية وتسرع بها إلى الاستغفار والتوبة، والمؤمن بينهما في معادلة جد دقيقة لئلا يقع فريسة لليأس والقنوط، ولايندفع إلى الجراءة على محارم الله، أو التهاون فيما أمر الله، ولقد استطاع القرآن الكريم بسلاحيه هذين أن يحفظ للفرد شخصيته، وللمجتمع مقوماته في الحياة والمال والعقل والعرض والدين(2)، وهي كليات تقوم عليها الحياة الرشيدة الفاضلة، ولقد رأت الحياة النور في أجيال عديدة أنارها القرآن بالوعد والرجاء، وبالوعيد والخشية، ولما خفت ذلك النور ببعد الناس عن القرآن اصطدم الفرد بفطرته والمجتمع بواقعه، فاضطربت القيم، وانهارت الأخلاق، وفسدت المعاملات والمناهج والتصورات، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وأن تخشى الله لاتخشى سواه، وأن ترجوه لاترجو إلا إياه(3).
__________
(1) انظر: هجرة الرسول وصحابته في القرآن والسنّة للجمل، ص332،333.
(2) ولاشك أن سلطان الدولة المسلمة يحافظ على مقاصد الشريعة.
(3) انظر: تفسير سورة فصلت، د. محمد صالح علي، دار النفائس ، ص98 نقلاً عن الهجرة في القرآن الكريم، ص151.(4/357)
ومن العقوبات التي توعد الله عزوجل - للمتخلفين عن الهجرة سوء المصير، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (سورة النساء: الآية:97).
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سوادهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب عنقه فيقتل فأنزل الله:{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}(1).
عن ابن عباس رضي الله عنه قال:(كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون:{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} الآية، قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، لاعذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة فنزلت فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} (سورة العنكبوت، الآية:10).
__________
(1) البخاري، كتاب التفسير، باب {ان الذين توفاهم الملائكة}.(4/358)
فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة النحل، الآية:110) (1).
لقد وصف الله - سبحانه - المتخلفين عن الهجرة بأنهم ظالموا أنفسهم، وفي المراد بالظلم في هذه الآية، أن الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك، ولم يهاجروا إلى المدينة، ظلموا أنفسهم بتركهم الهجرة(2). وبما أنهم حرموها في دار الإسلام، تلك الحياة الرفيعة النظيفة الكريمة الحرة الطليقة، وألزموها الحياة في دار الكفر تلك الذليلة الخاسئة الضعيفة المضطهدة، وتوعدهم {جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} مما يدل على أنها تعني الذين فتنوا عن دينهم بالفعل هناك(3).
__________
(1) زاد المسير لابن الجوزي (2/97) ، تفسير القاسمي (3/399).
(2) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص161.
(3) في ظلال القرآن (2/473).(4/359)
وفي هذه الآية الكريمة وعيد للمتخلفين عن الهجرة بهذا المصير السيء، وبالتالي التزم الصحابة بأمر الله وانضموا إلى المجتمع الإسلامي في المدينة تنفيذاً لأمر الله وخوفاً من عقابه وكان لهذا الوعيد أثره في نفوس الصحابة رضي الله عنهم، فهذا ضمرة بن جندب لما بلغه قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} وهو بمكة قال لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي الطريق، وإني لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير، متوجهاً إلى المدينة وكان شيخاً كبيراً، فمات بالتنعيم، ولما أدركه الموت أخذ يصفق بيمينه على شماله، ويقول: اللهم هذه لك وهذه لرسولك - صلى الله عليه وسلم -، أبايعك على مابايع عليه رسولك، ولما بلغ خبر موته الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا: ليته مات بالمدينة، فنزل(1) قوله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً صدق الله العظيم فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا صدق الله العظيم } (سورة النساء، الآيتان:98-99).
وهذا الموقف يرينا ماكان عليه جيل الصحابة من سرعة في امتثال الأمر، وتنفيذه في النشاط والشدة، كائنة ماكانت ظروفهم، فلا يلتمسون لأنفسهم المعاذير، ولايطلبون الرخص(2).
فهذا الصحابي تفيد بعض الروايات أنه كان مريضاً(3) إلا أنه رأى أنه مادام له مال يستعين به ويحمل به إلى المدينة، فقد انتفى عذره، وهذا فقه أملاه الإيمان، وزكاه الإخلاص واليقين(4).
__________
(1) روح المعاني (5/128،129) للألوسي، أسباب النزول للواحدي، ص181.
(2) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص124.
(3) نفس المصدر، ص125.
(4) المصدر السابق، ص126.(4/360)
وبعد أن ذكر الله - عزوجل - وعيده للمتخلفين عن الهجرة بسوء مصيرهم، استثنى في ذلك من لاحيلة لهم في البقاء في دار الكفر، والتعرض للفتنة في الدين، والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ والضعاف، والنساء والأطفال، فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته ورحمته بسبب عذرهم البين وعجزهم عن الفرار(1)، قال تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً صدق الله العظيم فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا صدق الله العظيم } (سورة النساء، الآيتان:98-99).
__________
(1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص167.(4/361)
الفصل السابع
دعائم دولة الاسلام في المدينة
شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ دخوله المدينة يسعى لتثبيت دعائم الدولة الجديدة على قواعد متينة وأسس راسخة فكانت أولى خطواته المباركة الاهتمام ببناء دعائم الأمة كبناء المسجد الأعظم بالمدينة ، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار على الحب في الله ، واصدار الوثيقة أو الدستور الإسلامي في المدينة الذي ينظم العلاقات بين المسلمين واليهود ومشركي الأنصار ، وإعداد جيش لحماية الدولة والسعي لتحقيق أهدافها والعمل على حل مشاكل المجتمع الجديد وتربيته على المنهج الرباني في كافة شؤون الحياة، فقد استمر البناء التربوي والتعليمي واستمر القرآن الكريم يتحدث في المدينة عن عظمة الله، وحقيقة الكون والترغيب بالجنة والترهيب من النار ويشرّع الأحكام لتربية الأمة، ودعم مقومات الدولة التي ستحمل نشر دعوة الله بين الناس قاطبة، وتجاهد في سبيل الله وكانت مسيرة الأمة العلمية والتربوية تتطور مع تطور مراحل الدعوة وبناء المجتمع وتأسيس الدولة وعالج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأزمة الاقتصادية بالمدينة من خلال المنهج الرباني واستمر البناء التربوي، ففرض الصيام، والزكاة وأخذ المجتمع يزدهر والدولة تتقوى على أسس ثابتة وقوية.
المبحث الأول
الدعامة الأولى
بناء المسجد الأعظم بالمدينة(5/1)
كان أول ماقام به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بناء المسجد ، وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام التي طالما حوربت ، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المرء برب العالمين وتنقي القلب من أدران الأرض ، وأدناس الحياة الدنيا(1). روى البخاري بسنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المدينة راكباً راحلته ، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وهو يصلي فيه يومئد رجال من المسلمين ، وكان مربدا(2) للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بركت به راحلته: "هذا إن شاء الله المنزل" ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً فقال: لا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما(3)، وفي رواية أنس بن مالك: فكان فيه قبور المشركين ، وفيه خِرَب ، وفيه نخل ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين فنبشت ، ثم بالخرب فسويت وبالنخل فقطعت ، فصفوا النخل قبلة المسجد، وجعلوا عضادتيه الحجارة ، وجعلوا ينقلون الصخر ، وهم يرتجزون ، والنبي معهم - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة
... ... ... ... فاغفر للانصار والمهاجرة(4)
__________
(1) انظر: فقه السيرة للغزالي، ص191؛ وفقه السيرة للبوطي ، ص151.
(2) مربد: الموضع الذي نجفف فيه التمر. قاموس المحيط (1/304).
(3) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب هجرة النبي وأصحابه (5/78).
(4) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب مسجد النبي رقم 1524 (1/737،374).(5/2)
شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العمل مع أصحابه ، وضرب أول معول في حفر الأساس الذي كان عمقه ثلاثة أذرع ، ثم اندفع المسلمون في بناء هذا الأساس بالحجارة ، والجدران ، التي لم تزد عن قامة الرجل إلا قليلاً ، باللبن الذي يعجن بالتراب ويسوّى على شكل أحجار صالحة للبناء(1). وفي الناحية الشمالية منه أقيمت ظلة من الجريد على قوائم من جذوع النخل ، كانت تسمّى "الصُّفه". أما باقي أجزاء المسجد فقد تركت مكشوفة بلا غطاء(2).
أما أبواب المسجد فكانت ثلاثة: باب في مؤخرته من الجهة الجنوبية ، وباب في الجهة الشرقية كان يدخل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإزاء باب بيت عائشة ، وباب من الجهة الغربية يقال له باب الرحمة أو باب عاتكة(3).
أولاً: بيوتات النبي - صلى الله عليه وسلم - التابعة للمسجد:
__________
(1) انظر: البداية والنهاية (3/33)؛ انظر: التاريخ الاسلامي والعسكري، علي معطي ، ص156.
(2) انظر: البداية والنهاية (3/303) ، محمد رسول الله لمحمد رضا، ص143.
(3) انظر: التاريخ السياسي والعسكري لدولة المدينة، علي معفي، ص157.(5/3)
وبني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجر حول مسجده الشريف ، لتكون مساكن له ولأهله، ولم تكن الحجر كبيوت الملوك والأكاسرة والقياصرة ، بل كانت بيوت من ترفع عن الدنيا وزخارفها ، وابتغى الدار الآخرة ، فقد كانت كمسجده مبنية من اللبن والطين وبعض الحجارة ، وكانت سقوفها من جذوع النخل والجريد ، وكانت صغيرة الفناء قصيرة البناء ، ينالها الغلام الفارع بيده. قال الحسن البصري
-وكان غلاماً مع أمه خّيْرة مولاة أم سلمة- : (قد كنت أنال أول سقف في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي(1)). وهكذا كانت بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - في غاية البساطة بينما كانت المدينة تشتهر بالحصون العالية التي كان يتخذها علية القوم تباهيا بها في السلم واتقاءاً بها في الحرب ، وكانوا من تفاخرهم بها يضعون لها أسماء ، كما كان حصن عبدالله بن أبي ابن سلول اسمه مزاحم ، وكما كان حصن حسان بن ثابت رضي الله عنه اسمه فارع.
ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنى بيوته بذلك الشكل المتواضع ، وكان باستطاعته أن يبني لنفسه قصوراً شاهقة ، ولو أنه أشار إلى رغبته بذلك مجرد إشارة لسارع الأنصار في بنائها له ، كما كان بإمكانه أن يشيدها من أموال الدولة العامة كالفيء ونحوه ، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك ليضرب لأمته مثلاً رفيعاً وقدوة عالية في التواضع والزهد في الدنيا وجمع الهمة والعزيمة للعمل لما بعد الموت(2).
ثانياً: الأذان في المدينة :
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/36).
(2) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/13).(5/4)
تشاور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه لإيجاد عمل ينبه النائم ويذرك الساهي ويعلم الناس بدخول الوقت لأداء الصلاة ، فقال بعضهم ترفع راية إذا حان وقت الصلاة ليراها الناس ، فاعترضوا على هذا الرأي لأنها لا تفيد النائم ولا الغافل وقال آخرون تشعل ناراً على مرتفع من الهضاب فلم يقبل هذا الرأي أيضاً وأشار آخرون ببوق وهو ما كانت اليهود تستعمله لصلواتهم فكرهه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه يحب مخالفة أهل الكتاب في أعمالهم. ,اشار بعض الصحابة باستعمال الناقوس وهو ما يستعمله النصارى فكرهه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً وأشار فريق بالنداء فيقوم بعض الناس إذا حانت الصلاة وينادي بها فقيل هذا الرأي وكان أحد المنادين عبدالله بن زيد الأنصاري فبينما هو بين النائم واليقظان ، إذ عرض له شخص وقال: ألا أعلمك كلمات تقولها عند النداء بالصلاة؟ قال بلى ، فقال له : قل الله أكبر ، مرتين ثم قل لا إله إلا الله فلما استيقظ توجه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخبره خبر رؤياه فقال إنها لرؤيا حق ، ثم قال له لقن بلالا فإنه أندى صوتا منك؟ وبينما بلال يؤذن للصلاة بهذا الأذان جاء عمر بن الخطاب يجر رداءه فقال والله لقد رأيت مثله يا رسوله الله، وكان بلال بن رباح أحد مؤذنيه بالمدينة والآخر عبدالله بن أم مكتوم ، وكان بلال يقول في أذان الصبح بعد حيّ على الفلاح الصلاة خير من النوم مرتين وأقرّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك وكان يؤذن في البداءة من مكان مرتفع ثم استحدث المنارة (المئذنة)(1).
ثالثاً: أول خطبة خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة:
__________
(1) انظر: نور اليقين للخضري، ص87-88، تاريخ خليفة بن خياط، ص56 نقلاً عن تاريخ دولة الاسلام الاولى، د.فايد حماد عاشور، سليمان ابو عزب، ص108.(5/5)
كانت أول خطبة خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أنه قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:
" أما بعد : أيها الناس فقدموا لأنفسكم . تعلمُنَّ والله ليُصعقنّ أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ، ثم ليقولن له ربه وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلّغك وآتيتك مالاً ، وأفضلت عليك ، فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يمينا وشمالاً فلا يرى شيئاً ، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم ، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة ، فإنها بها تجزى الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. والسلام عليكم وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته".
ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال:
" إن الحمد الله أحمده وأستعينه ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى ، قد أفلح من زينه الله في قلبه ، وأدخله في الإسلام بعد الكفر ، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس ، إنه أحسن الحديث وأبلغه ، أحبوا من أحبّه الله ، أحِبوا الله من كل قلوبكم ، ولا تملّوا كلام الله وذكره ، ولا تقس عنه قلوبكم ، فإن كل ما يخلق الله يختار ويصطفى من الحديث ، ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، واتقوه حق تقاته ، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم ، وتحابوا بروح الله ، إن الله يغضب إن نكث عهده ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"(1).
رابعاً: الصُّفَّة التابعة للمسجد النبوي:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/166، 167)؛ سنن البيهقي (2/524،525).(5/6)
لما تمّ تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة بأمر الله تعالى وذلك بعد ستة عشر شهراً من هجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة(1)، بقي حائط القبلة الأولى في مؤخر المسجد النبوي ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - به فظلل أو سقف وأطلق عليه اسم الصفة أو الظلة(2)، ولم يكن له ما يستر جوانبها(3).
قال القاضي عياش: الصفة ظلة في مؤخر مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأوي إليها المساكين، وإليها تنسب أهل الصفة(4).
وقال ابن تيمية: الصفة كانت في مؤخرة مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في شمالي المسجد بالمدينة المنورة(5).
وقال ابن حجر : الصفة مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل(6).
أهل الصُّفَّة:
قال أبو هريرة: (وأهل الصفة أضياف الإسلام ، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد)(7).
إن المهاجرين الأوائل الذين هاجروا قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو معه أو بعده حتى نهاية الفترة الأولى قبل غزوة بدر ، استطاع الأنصار أن يستضيفوهم في بيوتهم وأن يشاركوهم النفقة ، ولكن فيما بعد كبر حجم المهاجرين مما لم يعد هناك قدرة للأنصار على استيعابهم(8) .
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/257).
(2) انظر: السمهودي وفاء الوفاء (1/321).
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/258).
(4) انظر: نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية لعبد الحي الكتاني (1/474).
(5) الفتاوى (11/38).
(6) انظر: فتح الباري (6/595)، (1/535).
(7) البخاري رقم 6452.
(8) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة للشامي، ص175.(5/7)
فقد صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئاً بعد شيء ، فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه ، ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء ، والآهلين والعزاب ، فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه يأوي إلى تلك الصفة في المسجد(1).
والذي يظهر للباحث أن المهاجر الذي يقدم إلى المدينة كان يلتقي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يوجهه بعد ذلك إلى من يكفله فإن لم يجد فإنه يستقر في الصفة مؤقتا ريثما يجد السبيل(2)، فقد جاء في المسند عن عبادة بن الصامت قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُشغل ، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن ، فدفع إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً ، وكان معي في البيت أعشيه عشاء أهل البيت ، فكنت أقرئه القرآن"(3) وقد كان أول من نزل الصفة المهاجرين(4)، لذلك نسبت إليهم فقيل صفة المهاجرين(5)، وكذلك كان ينزل بها الغرباء من الوفود التي كانت تقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - معلنة إسلامها وطاعتها(6)، وكان الرجل إذا قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان له عريف نزل عليه وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة(7)، وكان أبوهريرة رضي الله عنه عريف من سكن الصفة من القاطنين ومن نزلها من الطارقين ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد دعوتهم عهد إلى أبي هريرة فدعاهم لمعرفته بهم وبمنازلهم ومراتبهم في العبادة والمجاهدة(8) ونزل بعض الأنصار في الصفة حباً لحياة الزهد والمجاهدة والفقر رغم استغنائهم عن ذلك ووجود دار
__________
(1) الفتاوى (11/40-41).
(2) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة ، ص175.
(3) المسند (5/324).
(4) انظر: السمهودي: وفاء الوفاء (1/323).
(5) سنن ابي داود (2/361).
(6) انظرك السيرة النبوية الصحيحة (1/258).
(7) نفس المصدر (1/259).
(8) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/259).(5/8)
لهم في المدينة ، كاكعب بن مالك الأنصاري ، وحنظلة بن أبي عامر الأنصاري "غسيل الملائكة" وحارثة بن النعمان الأنصاري وغيرهم(1).
نفقة أهل الصُّفَّة ورعاية النبي والصحابة لهم:
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعهد أهل الصفة بنفسه ، فيزورهم ويتفقد أحوالهم ويعود مرضاهم ، كما كان يكثر مجالستهم ويرشدهم ويواسيهم ويذكرهم ويعلمهم ويوجههم إلى قراءة القرآن الكريم ومدارسته وذكر الله والتطلع إلى الآخرة(2)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يؤمن نفقتهم بوسائل متعددة ومتنوعة فمنها ؛
إذ أتته - صلى الله عليه وسلم - صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً ، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها ، وأشركهم فيها(3).
كثيرا ما كان يدعوهم إلى تناول الطعام في إحدى حجرات أمهات المؤمنين رضي الله عنهم ولم يكن يغفل عنهم مطلقاً ، بل كانت حالتهم ماثلة أمامه، فعن عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال إن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء ، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرّة قال: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس – أو كما قال – وإن أبابكر جاء بثلاثة ، وانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشرة . . ."(4) وعن يعيش بن طخفة بن قيس الغفاري قال: (كان أبي من أصحاب الصفة ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم ، فجعل الرجل ينقلب بالرجل ، والرجل بالرجلين ، حتى بقيت خامس خمسة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "انطلقوا" فانطلقنا معه إلى بيت عائشة..."(5).
__________
(1) نفس المصدر (1/259).
(2) المصدر السابق (1/266).
(3) البخاري رقم 3581، ومسلم برقم 2057.
(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/267).
(5) انظر: المسند (3/429).(5/9)
وكان - صلى الله عليه وسلم - يطلب من الناس أن يوجهوا صدقاتهم إليهم. فقد جاء في المسند أن فاطمة لما ولدت حسناً ، طلب منها - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق رأسه وتتصدق بوزن شعره من فضة على أهل الصفة(1).
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقدم حاجتهم على غيرها مما يطلب منه ، فقد أتى بسبي مرة فأتته فاطمة رضي الله عنها تسأله خادماً ، فكان جوابه –كما في المسند عند الإمام أحمد- :"والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم ، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم"(2).
وقد أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة بالتصدق على أهل الصفة(3)، فجعلوا يصلونهم بما استطاعوا من خير(4)، فكان أغنياء الصحابة يبعثون بالطعام إليهم(5).
3- انقطاعهم للعلم والعبادة والجهاد:
كان أهل الصفة يعتكفون في المسجد للعبادة ويألفون الفقر والزهد، فكانوا في خلواتهم يصلون ويقرأون القرآن ويتدارسون آياته ويذكرون الله تعالى، ويتعلم بعضهم الكتابة حتى أهدى أحدهم قوسه لعبادة بن الصامت رضي الله عنه لأنه كان يعلمهم القرآن والكتابة(6)، واشتهر بعضهم بالعلم وحفظ الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل أبي هريرة رضي الله عنه عرف بكثرة تحديثه وحذيفة بن اليمان الذي اهتم بأحاديث الفتن.
__________
(1) انظر: المسند (6/390-391).
(2) أصل الحديث في البخاري برقم 3113.
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/267).
(4) انظر: الحلية (1/340).
(5) نفس المصدر (1/378).
(6) سنن ابي داود (2/237)؛ وابن ماجة (2/730).(5/10)
وكان أهل الصفة يشاركون في الجهاد، بل كان منهم الشهداء ببدر مثل صفوان بن بيضاء، وخريم بن فاتك الأسدي وخبيب بن يساف وسالم بن عمير وحارثة بن النعمان الأنصاري(1)، ومنهم من استشهد بأحد مثل حنظلة الغسيل(2)، ومنهم من شهد الحديبية مثل جرهد بن خويلد وأبو سريحة الغفاري(3)، ومنهم من استشهد بخيبر مثل تقف بن عمرو(4) ومنهم من استشهد بتبوك مثل عبدالله ذو البجادين(5).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/264).
(2) انظر: حلية الاولياء (1/375).
(3) نفس المصدر (1/353،355).
(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/264).
(5) نفس المصدر (1/264).(5/11)
ومنهم من استشهد باليمامة مثل سالم مولى أبي حذيفة وزيد بن الخطاب، فكانوا رهباناً بالليل فرساناً في النهار(1) وكان بعض الصحابة قد اختاروا المكوث في الصفة رغبة منهم لااضطراراً، كأبي هريرة رضي الله عنه، فقد أحب أن يلازم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعوض مافاته من العلم والخير – فقد جاء إلى المدينة بعد فتح خيبر في العام السابع- وحرص على سماع أكبر قدر ممكن من حديثه - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة أحواله وتبركاً بخدمته - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لايتوفر له إلا إذا كان قريباً من بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت الصفة هي المكان الوحيد الذي يؤمن له ذلك ولنستمع إليه يوضح لنا ذلك، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: (إنكم تقولون إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقولون: مابال المهاجرون والأنصار لايحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بمثل حديث أبي هريرة، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم صفق الأسواق، وكنت ألزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءاً مسكيناً من مساكين الصفة، أعي حين ينسون)(2) وهكذا يوضح رضي الله عنه أنه فعل ذلك رغبة منه في ملازمة النبي ثم إن أبا هريرة كان له سكن في المدينة، وهو المكان الذي تسكنه أمه، والتي طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لها بالهداية(3) ثم إن أبا هريرة لم يكن فقيراً معدماً، ففي أول يوم قدم فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - في خيبر أسهم له - صلى الله عليه وسلم - من الغنيمة، كما أنه لما قدم كان معه عبد يخدمه كما ورد في الصحيح(4) وإذن فالذي أفقره هو إيثاره ملازمة
__________
(1) المصدر السابق (1/264).
(2) البخاري رقم 2047، مسلم رقم 2492.
(3) مسلم برقم 2491.
(4) انظر: السيرة النبوية تربية أمة و بناء دولة، ص184.(5/12)
النبي - صلى الله عليه وسلم - واستماع أحاديثه، وكان يستطيع الاستغناء عن الصُّفَّة لو أراد(1).
كان أهل الصُّفَّة يكثرون ويقلّون بحسب تبدّل الأحوال التي تحيط بأهل الصُّفَّة من عودة الأهل، أو زوج، أو يسر بعد عُسْر، أو شهادة في سبيل الله.
ولم يكن فقرهم لقعودهم عن العمل وكسب الرزق، فقد ذكر الزمخشري أنهم كانوا يرضخون النوى بالنهار، ويظهر أنهم كانوا يرضخون النوى –يكسرونه- لعلف الماشية، وهم ليسوا أهل ماشية، فهم إذن يعملون لكسب الرزق(2).
4-عددهم وأسماؤهم:
كان عددهم يختلف باختلاف الأوقات، فهم يزيدون إذا قدمت الوفود إلى المدينة ويقولون إذا قل الطارقون من الغرباء، على أن عدد المقيمين منهم في الظروف العادية كان في حدود السبعين رجلاً(3)، وقد يزيد عددهم كثيراً حتى أن سعد بن عبادة كان يستضيف وحده ثمانين منهم فضلاً عن الآخرين الذين يتوزعهم الصحابة(4).
ومن أهل الصُّفَّة كل من،
1-أبو هريرة رضي الله عنه حيث نسب نفسه إليهم.
2-أبو ذر الغفاري رضي الله عنه حيث نسب نفسه إليهم.
3-واثلة بن الأسقع.
4-قيس بن طهفة الغفاري، حيث نسب نفسه إليهم.
5-كعب بن مالك الأنصاري.
6-سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي.
7- سلمان الفارسي.
8-أٍسماء بن حارثة بن سعيد الأسلمي.
9-حنظلة بن أبي عامر الأنصاري (غسيل الملائكة).
10-حازم بن حرملة.
11-حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري.
12-حذيفة بن أسيد أبو سريحة الأنصاري.
13-حذيفة بن اليمان.
14-جارية بن جميل بن شبة بن قرط.
15-جعيل بن سراقة الضمري.
16-جرهد بن خويلد الأسدي.
17-رفاعة أبو لبابة الأنصاري.
18-عبدالله ذو البجادين.
19-دكين بن سعيد المزني وقيل الخثعمي.
20-خبيب بن يساف بن عنية.
__________
(1) نفس المصدر، ص184.
(2) انظر: المدينة النبوية فجر الاسلام والعصر الراشدي لشُرَّاب (1/222).
(3) انظر: أبو نعيم الحلية (1/339،341).
(4) نفس المصدر (1/341).(5/13)
21-خريم بن أوس الطائي.
22-خريم بن فاتك الأسدي.
23-خنيس بن حذافة السهمي.
24-خباب بن الأرت.
25-الحكم بن عمير الثمالي.
26-حرملة بن أياس، وقيل حرملة بن عبدالله العنبري(1).
27-زيد بن الخطاب.
28-عبدالله بن مسعود.
29-الطفاوي الدوسي.
30-طلحة بن عمرو النضري.
31-صفوان بن بيضاء الفهري.
32-صهيب بن سنان الرومي.
33-شداد بن أسيد.
34-شقران مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
35-السائب بن خلاد.
36-سالم بن عمير من الأوس من بني ثعلبة بن عمرو بن عوف.
37-سالم بن عبيد الأشجعي.
38-سالم مولى أبي حذيفة.
39-سالم بن عمير من الأوس من بني ثعلبة بن عمرو بن عوف.
40-سفينة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
41-أبو رزين.
42-الأغر المزني.
43-بلال بن رباح.
44-البراء بن مالك الأنصاري.
45-ثوبان مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
46-ثابت بن وديعة الأنصاري.
47-ثقيف بن عمرو بن شميط الأسدي.
48-سعد بن مالك أبو سعيد الخدري.
49-العرباض بن سارية.
50-غرفة الأزدي.
51-عبدالرحمن بن قرط.
52-عبادة بن خالد الغفاري(2) رضي الله عنه أجمعين وغيرهم من الصحابة الكرام.
وقد وقع بعض الباحثين في خطأ فادح حين استدل بعضهم على مشروعية مسلك بعض المنحرفين من المتصوفة، من حيث ترك العمل والإخلاد إلى الراحة والكسل، والمكوث في الزوايا والتكايا، بحجة التوكل بحال أهل الصُّفَّة(3) إن أبا هريرة، وهو أكثر ارتباطاً بالصُّفَّة من غيره لم يستمر فيها وخرج إلى الحياة، بل أصبح أميراً في بعض أيامه على البحرين في عهد عمر بن الخطاب ولم يكن مخشوشناً في حياته(4)، بل إن أهل الصفة كانوا من المجاهدين في سبيل الله في ساحات القتال وقد استشهد بعضهم كما ذكرت.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/262).
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/263).
(3) انظر: السيرة النبوية تربية أمة وبناء دولة ، ص186.
(4) نفس المصدر، ص188.(5/14)
خامساً: فوائد ودروس وعبر:
1-المسجد من أهم الركائز في بناء المجتمع:
إن إقامة المساجد من أهم الركائز في بناء المجتمع الإسلامي، ذلك أن المجتمع المسلم إنما يكتسب صفة الرسوخ والتماسك بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه، وإنما ينبع ذلك من روح المسجد ووحيه(1).
قال تعالى:{ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (سورة التوبة، الآية:108).
قال تعالى:{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ صدق الله العظيم رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ صدق الله العظيم لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ صدق الله العظيم }(سورة النور، الآيات: 36-38).
2-المسجد رمز لشمولية الإسلام:
أ-فهو قد أنشئ ليكون متعبداً لصلاة المؤمنين وذكرهم الله تعالى وتسبيحهم له، وتقديسهم إياه بحمده وشكره على نعمه عليهم يدخله كل مسلم ويقيم فيه صلاته وعباداته، ولايضّاره أحد، مادام حافظاً لقداسته ومؤدياً حق حرمته.
ب-وهو قد أنشئ ليكون ملتقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه والوافدين عليه، طلباً للهداية ورغبة في الإيمان بدعوته وتصديق رسالته.
__________
(1) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص203.(5/15)
ج-وهو قد أنشئ ليكون جامعة للعلوم والمعارف الكونية والعقلية والتنزلية، التي حث القرآن الكريم على النظر فيها، وليكون مدرسة يتدارس فيها المؤمنون أفكارهم وثمرات عقولهم، ومعهداً يؤمه طلاب العلم من كل صوب ليتفقهوا في الدين وليرجعوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين، داعين إلى الله هادين، يتوارثونها جيلاً بعد جيل.
د-وهو قد أنشئ ليجد فيه الغريب مأوى، وابن السبيل مستقراً لاتكدره منّة أحد عليه، فينهل من رفده ويعب من هدايته ما أطاق استعداده النفسي والعقلي، لايصده أحد عن علم أو معرفة أو لون من ألوان الهداية، فكم من قائد تخرج فيه، وبرزت بطولته بين جدرانه، وكم من عالم استبحر علمه في رحابه، ثم خرج به على الناس يروي ظمأهم للمعرفة؟ وكم من داع إلى الله تلقّى في ساحاته دروس الدعوة إلى الله فكان أسوة الدعاة، وقدوة الهداة، وريحانة جذب القلوب شذاها فانجفلت تأخذ عنها الهداية لتستضئ بأنوارها؟
وكم من أعرابي جلف لايفرق بين الأحمر والأصفر، وفد عليه فدخله ورأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حوله هالة تحف به، يسمعون منه وكأن على رؤوسهم الطير، فسمع معهم وكانت عنده نعمة العقل مخبأة تحت ستار الجهالة، فانكشف له غطاء عقله، فعقل وفقه، واهتدى واستضاء، ثم عاد إلى قومه إماماً يدعوهم إلى الله ويربيهم بعلمه الذي علم، وسلوكه الذي سلك فآمنوا بدعوته، واهتدوا بهديه، فكانوا سطر منيراً في كتاب التاريخ الإسلامي(1).
س-وهو قد أنشئ ليكون قلعة لاجتماع المجاهدين إذا استنفروا، تعقد فيه ألوية الجهاد والدعوة إلى الله، وتخفق فيه فوق رؤوس القادة الرايات للتوجه إلى مواقع الأحداث، وفي ظلها يقف جند الله في نشوة ترقب النصر أو الشهادة.
__________
(1) انظر: محمد رسول الله، محمد الصادق عرجون (3/34،35).(5/16)
ش-وهو قد أنشئ ليجد فيه المجتمع المسلم الجديد ركناً في زواياه ليكون مشفى يستشفى فيه جرحى كتائب الجهاد، ليتمكن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من عبادتهم والنظر في أحوالهم والاستطباب لهم ومداواتهم في غير مشقة ولانصب، تقديراً لفضلهم.
ص-وهو قد أنشئ ليكون مركزاً لبريد الإسلام، منه تصدر الأخبار، ويبرد البريد، وتصدر الرسائل، وفيه تتلقى الأنباء السياسية سلماً أو حرباً وفيه تتلقى وتقرأ رسائل البشائر بالنصر، ورسائل طلب المدد، وفيه ينعي المستشهدون في معارك الجهاد ليتأسى بهم المتأسون، وليتنافس في الاقتداء بهم المتنافسون.
ض-وهو قد أنشئ ليكون مرقباً للمجتمع المسلم، يتعرف منه على حركات العدو المريبة ويرقبها، ولاسيما الأعداء الذين معه يساكنونه ويخالطونه في بلده من شراذم اليهود وزمر المنافقين ونفايات الوثنية، الذين انغمسوا في الشرك فلم يتركوه، ليعذر المجتمع المسلم عاقبة كيدهم وسوء مكرهم وتدبيرهم، ويأمن مغبة غدرهم وخياناتهم(1).
فالمسجد النبوي بدأ بتأسيسه وبنائه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول مابدأ من عمل في مستقره ودار هجرته في مطلع مقدمه ليكون نموذجاً يحتذى به في بساطة المظهر، وعمق المخبر، ليحقق به أعظم الأهداف وأعمها بأقل النفقات وأيسر المشقات(2).
3-التربية بالقدوة العملية:
__________
(1) انظر: محمد رسول الله ، محمد عرجون (3/36).
(2) نفس المصدر (3/33).(5/17)
من الحقائق الثابتة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شارك أصحابه العمل والبناء، فكان يحمل الحجارة وينقل اللبن على صدره وكتفيه، ويحفر الأرض بيديه كأي واحد منهم، فكان مثال الحاكم العادل الذي لايفرّق بين رئيس ومرؤوس أو بين قائد ومقود، أو بين سيد ومسود، أو بين غني وفقير، فالكل سواسية أمام الله، لافرق بين مسلم وآخر إلا بالتقوى، ذلك هو الإسلام عدالة ومساواة في كل شيء، والفضل فيه يكون لصاحب العطاء في العمل الجماعي للمصلحة العامة، وبهذا الفضل ثواب من الله، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كغيره من المسلمين، لايطلب إلا ثواب الله(1)، فقد كانت مشاركة النبي - صلى الله عليه وسلم - في عملية البناء ككل العمال الذين شاركوا فيه، وليس بقطع الشريط الحريري فقط، وليس بالضربة الأولى بالفأس فقط، بل غاص بعملية البناء كاملة، فقد دهش المسلمون من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد علته غَبرة، فتقدم أسيد بن حضير رضي الله عنه ليحمل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يارسول الله أعطينه؟ فقال: (اذهب فاحتمل غيره فإنك لست بأفقر من الله مني)(2)، فقد سمع المسلمون مايقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لصاحبه، فازدادوا نشاطاً واندفاعاً في العمل(3).
إنه مشهد فريد من نوعه ولامثيل له في دنيا الناس، وإذا كان الزعماء والحكام قد يقدمون على المشاركة أحياناً بالعمل لتكون شاشات التلفزيون جاهزة لنقل أعمالهم، وتملأ الدنيا في الصحف ووسائل الإعلام كلها بالحديث عن أخلاقهم وتواضعهم فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ينازع الحجر أحد أفراد المسلمين، ويبين له أنه أفقر إلى الله تعالى، وأحرص على ثوابه منه.
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي والعسكري، د. علي معطي ، ص158.
(2) انظر: صور من حياة الرسول، أمين دويدار، ص261.
(3) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، د.علي معطي، ص158.(5/18)
وقد تفاعل الصحابة الكرام تفاعلاً عظيماً في البناء وأنشدوا هذا البيت:
لئن قعدنا والنبي يعمل
... ... ... ذاك منا العمل المضلّلُ(1)
إن هذه التربية العملية لاتتم من خلال الموعظة، ولامن خلال الكلام المنمق، إنما تتم من خلال العمل الحي الدؤوب، والقدوة المصطفاة من رب العالمين، والتي ماكان يمكن أن تتم في أجواء مكة، والملاحقاة والاضطهاد والمطاردة فيها، إنما تتم في هذا المجتمع الجديد والدولة التي تبنى، وكأنما غدا هذا الجمع من الصحابة الكرام كله صوتاً واحداً، وقلباً واحداً، فمضى يهتف:
اللهم إن العيش عيش الآخرة
... ... ... فانصر الأنصار والمهاجرة
ويهتف بلحن واحد:
لئن قعدنا والنبي يعمل
... ... ... فذاك منا العمل المضلل
وكان الهتاف الثالث:
هذي الحمال لاحمال خيبر
... ... ... هذا أبر لربنا وأطهر(2)
فحمل التمر والزبيب من خيبر إلى المدينة كانت لها مكانتها في المجتمع اليثربي، أصبحت لاتذكر أمام حمل الطوب لبناء المسجد النبوي العظيم، فقد ايقنوا {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (سورة النحل، آية96).
وأما الهتاف الرابع:
لايستوي من يعمر المساجدا
... ... ... ومن يُرى عن الغبار حائدا(3)
4-الإهتمام بالخبرة والاختصاص:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/496).
(2) انظر: التربية القيادية (2/249).
(3) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (3/15).(5/19)
أخرج الإمام أحمد عن طَلْق بن علي اليمامي الحنفي، قال بنيت المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يقول:(قربوا اليمامي من الطين فإنه أحسنكم له مسيساً) وأخرج الإمام أحمد عن طلق أيضاً، قال: جئت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يبنون المسجد، وكأنه لم يعجبه عملهم، فأخذت المسحاة، فخلطت الطين، فكأنه أعجبه فقال:(دعوا الحنفي والطين فإنه أضبطكم للطين) وأخرج ابن حبان عن طلق، فقال: فقلت: يارسول الله أأنقل كما ينقلون؟ قال:(لا، ولكن اخلط لهم الطين، فأنت أعلم به)(1).
فقد اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الوافد الجديد على المدينة، والذي لم يكن من المسلمين الأوائل، ووظف خبرته في خلط الطين، وفي قوة العمل، وهو درس للمسلمين في الثناء على الكفاءات والاستفادة منها، وإرشاد نبوي كريم في كيفية التعامل معها وما أحوجنا إلى هذا الفهم العميق(2).
5-شعار الدولة المسلمة:
__________
(1) نفس المصدر (3/15).
(2) انظر: التربية القيادية ، (2/252).(5/20)
إن أذان الصلاة شعار لأول دولة إسلامية عالمية (الله أكبر، الله أكبر) إنها تعني أن الله أكبر من أولئك الطغاة، وأكبر من صانعي العقبات، وهو الغالب على أمره. (أشهد أن لا إله إلا الله) اي لاحاكمية ولاسيادة ولاسلطة إلا لله رب العالمين (إن الحكم إلا لله)، فمعنى لا إله إلا الله: لاحاكم ولا آمر ولامشرع إلا الله (أشهد أن محمداً رسول الله) أسلمه الله تعالى القيادة، فليس لأحد أن ينزعها منه، فهو ماضي بها إلى أن يُكمل الله دينه بما ينزله على رسوله من قرآن، وبما يلهمه إياه من سنّة(1)، ويعني الاعتراف لرسول الله بالرسالة، والزعامة الدينية والدنيوية، والسمع والطاعة له(2)، (حي على الصلاة حي على الفلاح) أقبل يا أيها الإنسان للإنضواء تحت لواء هذه الدولة التي أخلصت لله، وجعلت من أهدافها تمتين العلاقة بين المسلم وخالقه، وتمتين العلاقة بين المؤمنين على أساس من القيم السامية. (قد قامت الصلاة)، وقد اختيرت الصلاة من بين سائر العبادات، لأنها عماد الدين كله، ولأنها بما فيها من الشعائر كالركوع والسجود والقيام أعظم مظهر لمظاهر (العبادة) بمعناها الواسع التي تعني: الخضوع والتذلل والاستكانة، فهي خضوع ليس بعده خضوع، فكل طاعة لله على وجه الخضوع والتذلل فهي عبادة، فهي طاعة العبد لسيده، فيقف بين يديه قد أسلم نفسه طاعة وتذلل قال تعالى:{ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(سورة غافر، آية:66).
__________
(1) انظر: قراءة سياسية للسيرة النبوية، محمد قلعجي، ص114.
(2) انظر: دولة الرسول صلى الله عليه وسلم من التكوين الى التمكين، كامل سلامة الدقس، ص438.(5/21)
وهذا الارتباط بين شعار الدولة الرسمي بحاكمية الله وسيادة الشرع، وسقوط الطواغيت، وقوانينهم وأنظمتهم وشرائعهم بـ (حي على الفلاح – قد قامت الصلاة) يشير إلى لاقيام للصلاة ولا إقامة لها كما ينبغي إلا في ظل دولة تقوم عليها وتقوم بها ولها، فقد كان المسلمون يصلون خفية في شعاب مكة قبل قيام دولتهم، أما وقد قامت تحت حماية سيوف الأنصار، فليجهروا بالأذان والإقامة، وليركعوا ويسجدوا مع الراكعين.
إن الواقع التاريخي خير شاهد على أن الله لايعبد في الأرض حق عبادته إلا في ظل دولة قوية تحمي رعاياها من أعداء الدين.
ثم تتكرر كلمات الأذان (الله أكبر الله أكبر ..) للتأكيد على المعاني السابقة(1).
إننا بحاجة ماسة لفهم الأذان، وإدراك معانيه والعمل على ترجمته ترجمة عملية، لنجاهد في الله حق جهاده حتى تدمر شعارات الكفر ونرفع شعارات الإيمان، ونقيم دولة التوحيد التي تحكم بشرع الله ومنهجه القويم.
6-حكم تشييد المساجد ونقشها وزخرفتها:
والتشييد أن تقام عمارة المسجد بالحجارة مما يزيد في قوة بنائه ومتانة سقفه وأركانه، والنقش والزخرفة ماجاوز أصل البناء من شتى أنواع الزينة.
فأما التشييد فقد أجازه واستحسنه العلماء عامة، بدليل مافعله عمر وعثمان رضي الله عنهما من إعادة بناء مسجده عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك عناية واهتمام بشعائر الله تعالى، واستدل العلماء على ذلك بقوله تعالى:{ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}(سورة التوبة، آية:18).
__________
(1) انظر: دولة الرسول صلى الله وعليه وسلم من التكوين الى التمكين، ص439.(5/22)
وأما النقش والزخرفة، فقد أجمع العلماء على كراهتهما، ثم هم في ذلك بين محرّم ومكرّه كراهة تنزيه، غير أن الذين قالوا بالحرمة والذين قالوا بالكراهة اتفقوا على أنه يحرم صرف المال الموقوف لعمارة المساجد على شيء من الزخرفة والنقش(1)، وكان أول من زخرف المساجد الوليد بن عبدالملك بن مروان، ومن يومها والناس شرعوا يغالون في بناء المساجد وزخرفتها حتى أصبح بعضها من قبيل المتاحف، نقصد لما فيها من زخرفة للصلاة فيها، وكل ذلك خارج عن هَدي النبوة(2)، فعندما زخرفت المساجد وخرجت عن نمط البساطة الذي أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - انهارت من الداخل نفوس المترفين، وبخع الأسف نفوس المستضعفين، وتنافس في شهوات التزخرف الفارغون من عواصم الإيمان(3).
إن الذين يهتمون بتعمير المساجد وتشييدها وينصرفون بكل جهودهم إلى التفنن في تزيينها ونقشها وإضفاء مختلف مظاهر الأبهة عليها قد وقعوا في خطأ عظيم، حتى أن الداخل إليها لايكاد يستشعر أي معنى من ذل العبودية لله عزوجل، وإنما يستشعر ماينطق به لسان حالها من الافتخار بما ارتقى إليه فن الهندسة المعمارية، وفنون الزخرفة العربية.
إن الفقراء لم يعودوا يستطيعون أن يتهربوا من مظاهر الإغراء الدنيوي إلى أي جهة، لقد كان في المساجد مايعزي الفقير بفقره، ويخرجه من جو الدنيا وزخرفها إلى الآخرة وفضلها، فأصبحوا يجدون حتى في مظهر هذه المساجد مايذكّرهم بزخارف الدنيا التي حُرموها ويشعرهم بنكد الفقر وأوضاره، فما أسوأ ماوقع فيه المسلمون من هجرات لحقائق إسلامهم وانشغال بمظاهر كاذبة ظاهرها الدين وباطنها الدنيا بكل مافيها من شهوات وأهواء(4).
7-فضائل المسجد النبوي:
__________
(1) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص145.
(2) انظر: السيرة النبوية لابي شهبة (2/33).
(3) انظر: محمد رسول الله، محمد عرجون (3/39).
(4) انظر: فقه السيرة النبوية للبوطي، ص146.(5/23)
تحدث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن فضائل المسجد النبوي ولذلك تعلق الصحابة به ويمكننا تلخيص هذه الفضائل في الآتي:
أ-تأسيس المسجد النبوي على التقوى:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت بعض نسائه، فقلت يارسول الله، أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: (هو مسجدكم هذا)(1) لمسجد المدينة.
وقد تكلم بعض العلماء في الأحاديث التي أشارت إلى أن المسجد النبوي هو الذي أسس على التقوى بحجة أنها معارضة لقوله تعالى:{ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (سورة التوبة، آية:108).
وقد اختلف العلماء في المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى في الآية السابقة، فقال بعضهم:هو مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال آخرون:هو مسجد قباء، وقد ذكر أقوالهم محمد بن جرير الطبري في تفسيره، ثم قال: (وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: هو مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لصحة الخبر بذلك عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -)(2).
__________
(1) صحيح مسلم رقم 1398.
(2) انظر: تفسير الطبري (14/476-479).(5/24)
ولامعارضة بين الحديث والآية السابقة –على القول- بأن المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى فيها هو مسجد قباء – لأن كلا من المسجدين أسس على التقوى(1)، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الآية السابقة نزلت بسبب مسجد قباء، ثم قال:(لكن الحكم يتناوله ويتناول ماهو أحق منه بذلك، وهو مسجد المدينة، وهذا يوجه ماثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقال: (هو مسجدي هذا)(2).
وقال في موضع آخر:(... فتبين أن كلا المسجدين أسس على التقوى، لكن مسجد المدينة أكمل في هذا النعت، فهو أحق بهذا الاسم، ومسجد قباء كان سبب نزول الآية..)(3).
وذكر الحافظ ابن حجر: أن السّر في جوابه - صلى الله عليه وسلم - بأن المسجد الذي أسس على التقوى مسجده رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء(4).
ب-فضل الصلاة في المسجد النبوي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)(5).
جـ-أحد المساجد الثلاثة التي لاتشد الرحال إلا إليها:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا)(6).
د-الروضة في المسجد النبوي:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(مابين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)(7).
س-فضل التعلم والتعليم في المسجد النبوي:
__________
(1) انظر: الاحاديث الواردة في فضائل المدينة، د. صالح الرفاعي، ص372.
(2) انظر: منهاج السنّة النبوية (7/74).
(3) انظر: مجموع الفتاوى (27/406).
(4) فتح الباري (7/245).
(5) صحيح البخاري (3/63) رقم 1190.
(6) صحيح البخاري (3/63) رقم 1188.
(7) صحيح البخاري (3/70) رقم 1196.(5/25)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(من دخل مسجدنا هذا يتعلم خيراً أو يعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخله لغير ذلك كان كالناظر إلى ماليس له)(1).
7-آية نزلت في أهل الصُّفة وفقراء المهاجرين:
قال تعالى:{ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}(سورة البقرة،آية:273).
فقد ذكر ابن سعد بسنده إلى ابن كعب القرظي قال: هم أصحاب الصُّفَّة(2)، وذكر الطبري بأسانيده عن مجاهد والسدي أنها في فقراء المهاجرين(3).
إن الأحداث التي تتعلق بالدعامة الأولى في المجتمع كثيرة وكذلك مايتعلق بها من أحكام، كضمان حقوق الأيتام، وجواز نبش القبور الدارسة، واتخاذ موضعها مسجداً إذا نظفت وطابت أرضها ألا أنني اكتفي بهذه الدروس والعبر والفوائد فيما يتعلق بالمسجد خوفاً من الإطالة.
المبحث الثاني
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
__________
(1) انظر: المصنف لأبي شيبة (2/371)، (12/209) رقم 12567 وفي رواية الحاكم قال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد احتجا بجميع رواته، ثم لم يخرجاه، ولا أعلم له علة) وأقره الذهبي. انظر: تلخيص المستدرك (1/91).
(2) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/255).
(3) انظر: تفسير الطبري (5/591) ط محمود شاكر؛ السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/269).(5/26)
كان من أولى الدعائم التي اعتمدها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في برنامجه الإصلاحي والتنظيمي للأمة وللدولة والحكم الاستمرار في الدعوة إلى التوحيد والمنهج القرآني وبناء المسجد، وتقرير المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وهي خطوة لاتقل أهمية عن الخطوة الأولى في بناء المسجد لكي يتلاحم المجتمع المسلم ويتآلف وتتضح معالم تكوينه(1) الجديد.
كان مبدأ التآخي العام بين المسلمين قائماً منذ بداية الدعوة في عهدها المكي ونهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن كل مايؤدي إلى التباغض بين المسلمين فقال - صلى الله عليه وسلم -: (لاتباغضوا ولاتحاسدوا ولاتدابروا وكونوا عباد الله إخواناً ولايحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام)(2).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم أخو المسلم لايظلمه ولايُسلمه(3) ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته(4) ومن فرَّج عن مسلم كربة(5)، فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)(6).
وقد أكد القرآن الكريم الأخوة العامة بين أبناء الأمة في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(سورة آل عمران، آية:103).
__________
(1) انظر: الادارة الاسلامية في عصر عمر بن الخطاب، د. مجدلاوي ، ص52،53.
(2) البخاري، رقم 6065؛ مسلم رقم 24.
(3) أي لايتركه مع من يؤذيه ولافيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه .
(4) مسند أحمد رقم 7929.
(5) كربة: أي غمة.
(6) البخاري، رقم 2442.(5/27)
وقوله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة الأنفال،آية:63).
أما موضوع هذا البحث فهو المؤاخاة الخاصة التي شرعت وترتبت عليها حقوق وواجبات أخص من الحقوق والواجبات العامة بين المؤمنين كافة(1).
وقد تحدث بعض العلماء عن وجود مؤاخاة كانت في مكة بين المهاجرين فقد أثار البلاذري إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين المسلمين في مكة قبل الهجرة على الحق والمواساة، فآخى بين حمزة وزيد بن حارثة، وبين أبي بكر وعمر، وبين عثمان بن عفان، وعبدالرحمن بن عوف، وبين الزبير بن العوام وعبدالله بن مسعود، وبين عبيدة بن الحارث وبلال الحبشي، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وطلحة بن عبيدالله، وبينه وبين علي بن أبي طالب(2)، ويعتبر البلاذري (ت276) أقدم من أشار إلى المؤاخاة المكية، وقد تابعه في ذلك ابن عبدالبر (ت463هـ) دون أن يصرح بالنقل عنه، كما تابعهما ابن سيد الناس دون التصريح بالنقل عن أحدهما(3)، وقد أخرج الحاكم في المستدرك من طريق جميع بن عمير عن ابن عمر:(آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أبي بكر وعمر، وبين طلحة والزبير، وبين عبدالرحمن بن عوف وعثمان)(4)، وعن ابن عباس: (آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الزبير وابن مسعود)(5).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/240).
(2) البلاذري، أنساب الأشراف (1/270).
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/240).
(4) نفس المصدر (1/240).
(5) فتح الباري (7/471).(5/28)
وذهب كل من ابن القيم وابن كثير إلى عدم وقوع المؤاخاة بمكة، فقال ابن القيم: (وقد قيل إنه –أي النبي - صلى الله عليه وسلم - -آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض مؤاخاة ثانية، واتخذ فيها علياً أخاً لنفسه، والثبت الأول(1)، والمهاجرون كانوا مستغنين بأخوة الإسلام وأخوة الدار وقرابة النسب عن عقد مؤاخاة بخلاف المهاجرين مع الأنصار)(2)، أما ابن كثير فقد ذكر أن من العلماء من ينكر هذه المؤاخاة لنفس العلة التي ذكرها ابن القيم(3).
لم تشر كتب السيرة الأولى المختصة إلى وقوع المؤاخاة بمكة والبلاذري ساق الخبر بلفظ (قالوا) دون إسناد مما يضعف الرواية، كما أن البلاذري نفسه ضعف النقاد، وعلى فرض صحة هذه المؤاخاة بمكة فإنها تقتصر على المؤازرة والنصيحة بين المتآخين دون أن تترتب عليها حقوق التوارث(4).
أولاً: المؤاخاة في المدينة:
ساهم نظام المؤاخاة في ربط الأمة بعضها ببعض، فقد أقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه الصلة على أساس الإخاء الكامل بينهم، هذا الإخاء الذي تذوب فيه عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه.
وقد جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه الأخوة عقداً نافذاً لالفظاً فارغاً، وعملاً يرتبط بالدماء والأموال لاتحية تثرثر بها الألسنة ولايقوم لها أثر.
وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال(5).
__________
(1) يعني المؤاخاة في المدينة.
(2) زاد المعاد (2/79).
(3) انظر: السيرة النبوية لابن كثير.
(4) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/241).
(5) انظر: فقه السيرة للغزالي ، ص193،194.(5/29)
والسبب الذي أدى إلى تقوية هذه الأخوة بين المهاجرين والأنصار هو أن أهل هذا المجتمع ممن التقوا على دين الله وحده نشّأهم دينهم الذي اعتنقوه على أن يقولوا ويفعلوا، وعلمهم الإيمان العمل جميعاً فهم أبعد مايكونون عن الشعارات التي لاتتجاوز أطراف الألسنة. وكانوا على النحو الذي حكاه الله عنهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة النور، آية:51).
وبذلك الذي درج عليه المسلمون كفل البقاء والاستمرار لهذه الأخوة التي شد الله بها أزر دينه ورسوله حتى آتت ثمارها في كل أطوار الدعوة طوال حياته - صلى الله عليه وسلم -، وامتد أثرها فجمع كلمة المهاجرين والأنصار عند استخلاف الصديق رضي الله عنه، دون أن تطوع للأنصار أنفسهم أن يحدثوا صدعاً في شمل الأمة مستجيبين في ذلك لشهوات السلطة وغريزة السيطرة، لذلك فإن سياسة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار نوع من السبق السياسي الذي اتبعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تأصيل المودة وتمكينها في مشاعر المهاجرين والأنصار، الذين سهروا جميعاً على رعاية هذه المودة وذلك الإخاء، بل كانوا يتسابقون في تنفيذ بنوده(1).
__________
(1) انظر: فصول في السيرة النبوية، د. عبدالمنعم السيد، ص200.(5/30)
ولاسيما الأنصار الذين لايجد الكتاب والباحثون مهما تساموا إلى ذروة البيان خيراً من حديث الله عنهم(1) قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة الحشر، آية:9).
ونلحظ في الآية السابقة أن الله تعالى شهد لهم بخمس شهادات:
1-تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم.
2-يحبون من هاجر إليهم.
3-لايجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا.
4-ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
5-ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون(2).
وفي الآية السابقة فوائد عظيمة وحكم جليلة منها، ففي التعبير عن المدينة بلفظ (الدار) إشعار بأنها دار خاصة لكل متوطن بها متبوئ لها، فهي بالنسبة لأهلها كدار خاصة للفرد يهنأ بالأمن والاستقرار وهو في داخلها، وفي هذا الإشعار نوع من الأنس السَّرِيّ في النفس، يزيدها رَوْحاً وطمأنينة، فالأنصار في دارهم وإيمانهم متمكنون من الأمن والاستقرار المادي، تتنزل عليهم السكينة فتحفهم بنورها، كأنها سياج من الرحمة مضروب عليهم، لايلحقهم فزع ولايدخل عليهم قلق.
__________
(1) انظر: هجرة الرسول وصحابته في القرآن السنّة للجمل، ص245.
(2) انظر: القيادة الربانية (2/284).(5/31)
-أما قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِهِمْ} فالضمير فيه للمهاجرين، ومعناه أن الأنصار هم الذين تبووؤا المدينة المنورة داراً لهم، وتبوؤا معها الإيمان من قبل هجرة المهاجرين إليهم، لأن المهاجرين وإن تبوؤا الإيمان قبل الأنصار، لأنهم سبقوهم إليه، وتمكنوا منه أعظم تمكن، وتمكن هو منهم أبلغ تمكن، لكنهم لم يتبوؤا مع الإيمان داراً يتمكنون فيها من الاستقرار الحسي المادي، والأمن على أنفسهم وإيمانهم من فزعات الأعداء وسطواتهم، فكان للمهاجرين في تبؤ الإيمان دون تبؤ الدار، وكان للأنصار تبوؤهما معاً في قرن واحد، فالقبيلة بالنظر إلى جمع تبوء الدار مع تبوء الإيمان، حتى كأنهما أمر واحد في التمكن والاستقرار.
-ومن لطائف القرآن الحكيم أنه ساق مدحة المهاجرين قبل مدحة الأنصار مفتتحاً لها بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سورة الحشر، آية:8).
- فجعل فَقْد بعض ماكان مدحة للأنصار من تبؤ الدار والإيمان مدحة للمهاجرين، لأنهم فقدوه ابتغاء فضل الله ورضوانه ونصرهم الله بنصر دينه، ونصر رسوله بنصر رسالته ودعوته، ووصفهم بأنهم هم الصادقون، وأن الناس تبع لهم في ذلك، فقال يشَّرفهم بهذا الاختصاص: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وقال لعامة المؤمنين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (سورة التوبة، آية:119).(5/32)
- فالقبلية بهذا المعنى مدحة للأنصار، جاءت لتشعرهم بموجباتهم نحو إخوانهم الذين هاجروا إليهم تاركين ديارهم وأموالهم ابتغاء فضل الله ورضوانه، والتفرغ لنصرة دينه، ونصرة رسوله، فالدار التي فقدها المهاجرون بما فيها من أموال وفلذّات أكباد إنما فقدوها تقرباً بفقدها إلى الله، فأووا إلى الأنصار يتبوؤن معهم دارهم، دار الأمن والاستقرار مع سبق تبوئهم الإيمان قبل الأنصار، فكمل لهم بهذه الهجرة تبؤ الدار والإيمان، وانفردوا بسبق تبؤهم الإيمان فضيلة لايشاركهم فيها غيرهم من سائر المؤمنين وفي طليعتهم الأنصار، الذين جعلوا من الإيواء، والنصرة دعامتين للمؤاخاة القائمة على الحب الصادق، فقيل في وصفهم: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}، وهذا حب الله، والله جعله فضيلة لهم ميّزهم بها في مقابلة وصف المهاجرين بأنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله، وتعرضاً لفضله، المنهمر عليهم غيثة ديمة لاينقطع ولايفتر، وهم يحملون بين جوانحهم قلوباً عامرة بالحب لإخوانهم الأنصار، الذين وصفوا بالإخلاص الصفي، الذي كان ثمرة الحب في الله، ولله فقيل عنهم: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} أي أنهم لاتستشرف نفوسهم إلى فضل ناله إخوانهم المهاجرون من سبقهم بالإيمان، وتضحيتهم بمفارقة ديارهم وأموالهم، وانتهاضهم لنصرة دين الله ورسالاته ولايتطلعون إلى شيء منه تطلباً له أو مشاركة فيه(1).
- وفي قوله:{ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } والحب الذي يسجله رب العزة تبارك وتعالى في محكم كتابه آيات بينات، تتلى ويتعبد بها في روعة إعجازها، وبراعة أسلوبها، وسمو منهجها في الهداية –لايمكن أن يبقى معه في حنايا النفس المؤمنة آثار حزازة تَنْفَس على المهاجرين ما آتاهم الله من مكارم الإيمان والتضحية في سبيله والتضحية في سبيله بالديار والأموال، بله متعة مادية زائلة تافهة.
__________
(1) انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/94).(5/33)
وصفات المدحة السلبية لاتذكر في مقامها إلا إذا كانت ممكنة الوقوع، فيكون نفيها عنصراً من عناصر المدح المقتضية إحلال مايقابلها من صفات إيجابية في بناء المدحة المشرفة(1).
فإذا قيل في وصف الأنصار بعد وصفهم بحبهم المهاجرين {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} معنى ذلك أن هؤلاء الأنصار سَمُوا في حبهم لإخوانهم المهاجرين إلى ذروة الصفاء والإخلاص ووحدة الشعور، وامتلأت صدورهم بهذا الحب القدسي، فلم تعد تتسع لشيء معه، إلا أن يكون ذلك الشيء أثراً من آثار الحب، وليس ذلك إلا ذروة الفضائل، وهو إيثارهم على أنفسهم بكل مكرمة، ولو كانوا هم في أشد الحاجة إليها(2).
- ومجئ قوله تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} عقب قوله عزشأنه: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} بيان لثمرة هذا الحب، وهي ثمرة سَمَا بها الأنصار إلى آفاق لم تصل إليها البشرية في تاريخها البعيد السحيق، ولا في تاريخها الداني القريب، تلك هي ثمرة الإيثار على النفس التي أثمرها الحب الإيماني(3).
- ثم وصفوا بالفلاح على جهة الاختصاص به في مقابلة اختصاص المهاجرين بالصدق في عزائمهم والإخلاص في إيمانهم، فقيل فيهم بعد تقرير أنهم بهذا الإيثار صفت نفوسهم من كُدورات التطلعات والحزازات، وأخلصوا الحب لإخوانهم المهاجرين، وطهّروا من رشح الشح فتوقّوه بفضلية الكرم والسخاء المؤثر:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
__________
(1) انظر: محمد رسول الله (3/95).
(2) نفس المصدر (3/95).
(3) المصدر سابق (3/96).(5/34)
كان هذا الحب الأخوي بين المهاجرين والأنصار هو الأساس الذي قامت على دعائمه المؤاخاة الاجتماعية التي عقدها النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه بعد مقدمه المدينة، فقد كانت هذه المؤاخاة من أسبق الأعمال التي قام بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول مااستقر في مقامه، وأخذ في بناء مسجده الأعظم(1).
والظاهر أن ابتداءها كان في المسجد وهو يُبْنى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مشغول في بنائه مع أصحابه من المهاجرين والأنصار وكان ذلك المكان الطاهر، والعمل الشريف الخالص لوجه الله تبارك وتعالى أنسب الأمكنة لبدء المؤاخاة لما فيهما من اقتضاء الترافق والتعاون والتعاضد، والتواسي والتناصر والتوادد وتقوية آصرة الأخوة الإيمانية، فآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين العاملين معه في بناء المسجد أولاً، ثم آخى بين قوم آخرين في دار أنس، وتكرر ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - حتى استوعبت المؤاخاة عدد طلائع المهاجرين والأنصار، وكانوا نحو المائة نصفهم من المهاجرين، ونصفهم من الأنصار(2).
( بعض أسماء المهاجرين والأنصار ممن تآخوا في الله :
__________
(1) انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/98).
(2) نفس المصدر (3/100).(5/35)
أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وخارجه بن زهير، وعمر بن الخطاب، وعتبان بن مالك، أبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع، والزبير بن العوام، وسلامة بن سلامة بن وقش، وطلحة بن عبيدالله وكعب بن مالك، وسعيد بن زيد وأبي بن كعب، ومصعب بن عمير وأبو أيوب خالد بن زيد، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وعباد بن بشر بن وقش، وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، وأبو ذر الغفاري والمنذر ابن عمرو، وحاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة، وسلمان الفارسي وأبو الدرداء، وبلال مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو رويحة عبدالله بن عبدالرحمن الخثعمي(1).
ثانياً: الدروس والعبر والفوائد
1-آصرة العقيدة هي أساس الارتباط:
إن المجتمع المدني الذي أقامه الإسلام كان مجتمعاً عقدياً يرتبط بالإسلام، ولايعرف الموالاة إلا لله ولرسوله وللمؤمنين، وهو أعلى أنواع الارتباط وأرقاه، إذ يتصل بوحدة العقيدة والفكر والروح(2).
__________
(1) انظر: ابن هشام (2/109-111)؛ السيرة النبوية لابن كثير (2/324).
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/252).(5/36)
إن الولاء لله ورسوله وللمؤمنين من أهم الآثار والنتائج المترتبة على الهجرة، وكان القرآن الكريم يربي المسلمين على هذه المعاني الرفيعة، فقد بين الحق سبحانه وتعالى أن ابن نوح وإن كان من أهله باعتبار القرابة لكنه لم يعد من أهله لما فارق الحق وكفر بالله ولم يتبع نبي الله قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ صدق الله العظيم قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ صدق الله العظيم } (سورة هود، آية:45-46). وقد حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (سورة الحجرات، آية:10).
وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من المشركين واليهود والنصارى حتى لو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم ووصف من يفعل ذلك من المؤمنين بالظلم مما يدل على أن موالاة المؤمنين للكافرين من أعظم الذنوب قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا ءَابَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (سورة التوبة، آية:23).(5/37)
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ صدق الله العظيم إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ صدق الله العظيم لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ صدق الله العظيم } (سورة الممتحنة، آية:1-3).
فإذا كان الله سبحانه يحذر المؤمنين في الآيات السابقة من موالاة الكفار عامة، فهناك آيات كثيرة وردت في تحذير المؤمنين ونهيهم عن طاعة أهل الكتاب خاصة، أو اتخاذهم أولياء، أو الركون إليهم(1).
قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (سورة البقرة، آية:120).
__________
(1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم ، أحزمي جزولي ، ص417.(5/38)
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ صدق الله العظيم وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، آية:100-101).
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (سورة المائدة، آية:51)
قال صاحب الظلال: (هذا النداء موجه إلى الجماعة المسلمة في المدينة – ولكنه في الوقت ذاته موجه لكل جماعة مسلمة تقوم في اي ركن من أركان الأرض إلى يوم القيامة ولقد كانت المناسبة الحاضرة إذ ذاك لتوجيه هذا النداء للذين آمنوا أن المفاصلة لم تكن كاملة ولاحاسمة بين بعض المسلمين في المدينة وبعض أهل الكتاب –وبخاصة اليهود– فقد كانت هناك علاقات ولاء وحلف، وعلاقات اقتصاد وتعامل، وعلاقات جيرة وصحبة .. وكان هذا كله طبيعياً مع الوضع التاريخي والاقتصادي والاجتماعي في المدينة قبل الإسلام، بين أهل المدينة من العرب وبين اليهود بصفة خاصة .. وكان هذا الوضع يتيح لليهود أن يقوموا بدورهم في الكيد لهذا الدين وأهله، بكل صنوف الكيد التي عددتها وكشفتها النصوص القرآنية الكثيرة.(5/39)
ونزل القرآن ليبث الوعي اللازم للمسلم في المعركة التي يخوضها بعقيدته، لتحقيق منهجه الجديد في واقع الحياة، ولينشئ في ضمير المسلم تلك المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من لاينتمي إلى الجماعة المسلمة ولايقف تحت رايتها الخاصة. المفاصلة التي لاتنهي السماحة الخلقية. فهذه صفة المسلم دائماً. ولكنها تنهي الولاء الذي لايكون في قلب المسلم إلا لله ورسوله والذين آمنوا الوعي والمفاصلة اللذان لايسد منهما في كل أرض وفي كل جيل ... بعضهم أولياء بعض.. إنها حقيقة لاعلاقة لها بالزمن، لأنها حقيقة نابعة من طبيعة الأشياء.. إنهم لن يكونوا أولياء للجماعة المسلمة في أي أرض ولافي أي تاريخ.. وقد مضت القرون تلو القرون ترسم مصدق هذه القولة الصادقة ... ولم تختل هذه القاعدة مرة واحدة، ولم يقع في هذه الأرض إلا ماقرره القرآن الكريم في صيغة الوصف الدائم، لا الحادث المفرد .. واختيار الجملة الاسمية على هذا النحو .. بعضهم أولياء بعض... ليست مجرد تعبير! إنما هي اختيار مقصود للدلالة على الوصف الدائم الأصيل(1).
وقد نهى الله –سبحانه- المؤمنين عن اتخاذ المنافقين أولياء، وذلك لأن من أبرز صفاتهم موالاة الكفار، وكراهية دين الله قال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا صدق الله العظيم الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا صدق الله العظيم } (سورة النساء، آية:138-139).
وقد جاءت آيات توضح صور هذه المفاصلة في القرآن المدني فمنها، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (سورة التوبة، آية:73).
__________
(1) في ظلال القرآن (2/911).(5/40)
ونهى المولى عزوجل عن الصلاة عليهم أو القيام على قبورهم، قال تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (سورة التوبة، آية:84).
وحدد المولى عزوجل للذين آمنوا جهة الولاء الوحيدة التي تتفق مع صفة الإيمان وبين لهم من يتولون قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ صدق الله العظيم وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ صدق الله العظيم } (سورة المائدة، آية:55-56).
فقد فهم الصحابة أن ولاءهم لايكون إلا لقيادتهم، وإخلاصهم لايكون إلا لعقيدتهم، وجهادهم لايكون إلا لإعلاء كلمة الله، فحققوا ذلك كله في أنفسهم وطبقوه على حياتهم فمحضوا ولاءهم وجعلوه لله ورسوله والمؤمنين وأصبح تاريخهم حافل بالمواقف الرائعة التي تدل على فهمهم العميق لمعنى الولاء الذي منحوه لدينهم وعقيدتهم وإخوانهم وخالقهم.(5/41)
إن التآخي الذي تم بين المهاجرين والأنصار كان مسبوقاً بعقيدة تم اللقاء عليها والإيمان بها، فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما بفكرة أو عقيدة مخالفة للأخرى، خرافة ووهم، خصوصاً إذا كانت تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين في الحياة العملية، ولذلك كانت العقيدة الإسلامية التي جاء بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عند الله تعالى هي العمود الفقري للمؤاخاة التي حدثت، لئن تلك العقيدة تضع الناس كلهم في مصاف العبودية الخالصة لله دون الاعتبار لأي فارق إلاّ فارق التقوى والعمل الصالح، إذ ليس من المتوقع أن يسود الإخاء، والتعاون والإيثار بين أناس شتتهم العقائد والأفكار المختلفة، فأصبح كل منهم ملكاً لأنانيته وأثرته وأهوائه(1).
2-الحب في الله أساس بنية المجتمع المدني:
إن المؤاخاة على الحب في الله من أقوى الدعائم في بناء الأمة المسلمة، فإذا وهت يتآكل كل بنيانها(2) ولذلك حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تعميق معاني الحب في الله في المجتمع المسلم الجديد، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - :(إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم بظلي يوم لاظل إلا ظلي..)(3).
وقال: (قال الله تبارك وتعالى: حقت محبتي للمتحابين في وحقت محبتي للمتواصلين في، وحقت محبتي للمتباذلين في، المتحابون في على منابر من نور يغبطهم النبيون والصديقون والشهداء)(4).
__________
(1) انظر: فقه السيرة للبوطي ، ص156.
(2) انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/129).
(3) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب رقم الحديث 2566.
(4) مسند أحمد من حديث معاذ بن جبل (5/229).(5/42)
فكان توجيهات النبي - صلى الله عليه وسلم - تحث الصحابة على معاني الحب والتكافل، واحترام المسلمين بعضهم بعضاً فلايستعلي غني على فقير ولاحاكم على محكوم ولاقوي على ضعيف، وكان للحب في الله أثره في المجتمع المدني الجديد، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:(كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. فلما نزلت {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (سورة آل عمران، آية:92) قام أبو طلحة فقال: يارسول الله، إن الله يقول:{ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي أليَّ (بيرحاء)، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يارسول الله حيث أراك الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ماقلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يارسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه(1)، وهذا عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه يحدثنا عن هذه المعاني الرفيعة حيث قال لما قدمنا المدينة آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيني وبين سعد بن الربيع فقال سعد بن الربيع إني أكثر الأنصار مالا فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها فإذا حلت(2) تزوجتها، قال فقال عبدالرحمن: لاحاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال: سوق قينقاع(3)، فغدا عليه عبدالرحمن فأتى بأقط وسمن قال ثم تابع الغدو(4)، فما لبث أن جاء عبدالرحمن
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/254).
(2) نزلت لك عنها: أي طلقتها لأجلك، فإذا حلت: أي انقضت عدتها.
(3) قينقاع قبيلة من اليهود نسب السوق إليهم.
(4) تابع الغدو: أي دوام الذهاب الى السوق للتجارة.(5/43)
عليه أثر صفرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجت؟ قال: نعم، قال: ومن؟ قال: امرأة من الأنصار: قال: كم سقت؟ قال زنة نواة من ذهب -أو نواة من ذهب- فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : (أولم لو بشاة)(1) ونلاحظ أن كرم سعد بن الربيع قابله عفة وكرم نفس من عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهم ولم يكن مسلك عبدالرحمن بن عوف خاصاً به، بل إن الكثير من المهاجرين كان مكوثهم يسيراً في بيوت إخوانهم من الأنصار ثم باشروا العمل والكسب واشتروا بيوتاً لأنفسهم وتكفلوا بنفقة أنفسهم، ومن هؤلاء أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم.
3-النصيحة بين المتآخين في الله:
فقد كان للمؤاخاة أثر في المناصحة بين المسلمين، فقد آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ماشأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً فقال له: كل، فإني صائم قال: ما أنا بآكل حتى تأكل قال: فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم، فنام. ثم ذهب يقوم، فقال نم. فلما كان آخر الليل قال سلمان قم الآن فصلَّيا. فقال سلمان: إن لربك عليك حق، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - صدق سلمان)(2).
4-لاما أثنيتم عليهم ودعوتهم الله لهم:
__________
(1) البخاري، كتاب البيوع رقم 2048.
(2) صحيح البخاري، كتاب الصوم رقم 1968 (4/209).(5/44)
كان الأنصار قد واسوا إخوانهم المهاجرين بأنفسهم وزادوا على ذلك بأن آثروهم على أنفسهم بخير الدنيا، وهذا شاهد على صدق محبتهم وقوة إيمانهم، فقد رويت نماذج عالية من مواقف الأنصار التي كان لها أثر عميق في نفوس المهاجرين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قالت الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال:لا، فقالوا:تكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا)(1).
فهذا الحديث يفيد أن الأنصار عرضوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتولى قسمة أموالهم بينهم وبين إخوانهم المهاجرين، وقد كانت أموالهم هي النخيل، فأبى عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأراد أمراً تكون فيه المواساة من غير إجحاف بالأنصار بزوال ملكية أموالهم منهم، فقال الأنصار للمهاجرين: تكفوننا المؤونة –أي العمل في النخيل من سقيها وإصلاحها- ونشرككم في الثمرة، فلما قالوا ذلك رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الرأي ضمن سد حاجة المهاجرين مع الإرفاق بالأنصار فأقرهم على ذلك فقالوا جميعاً: سمعنا وأطعنا(2).
وقد قام الأنصار بالمؤونة وأشركوا المهاجرين في الثمرة، ولعل المهاجرين كانوا يساعدونهم في العمل ولكن أكثر العمل عند الأنصار، وقد شكر المهاجرون للأنصار فعلهم ومواقفهم الرفيعة في الإيثار والكرم وقالوا يارسول الله مارأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير، ولقد كفونا المؤونة وأشركونا في المَهْنأ(3)، حتى لقد حسبنا أن يذهبوا بالأجر كله، قال: لا، ما آثنيتم عليهم ودعوتم الله عزوجل لهم(4).
__________
(1) صحيح البخاري، المزارعة رقم 2325.
(2) انظر: التاريخ الاسلامي (4/30).
(3) يعني كفونا العمل واشركونا في الثمرة.
(4) مسند احمد (3/200-201)؛ ابن أبي شيبة (9/68) رقم 6561.(5/45)
وفي إشارة المهاجرين إلى الأجر الأخروي بيان لعمق تصورهم للحياة الآخرة وهيمنة هذا التصور على تفكيرهم(1).
وقد أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكافئ الأنصار على تلك المكارم العظيمة التي قدموها لإخوانهم المهاجرين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، قالوا: لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، قال: إمَّا لا فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم بعدي أثرة)(2).
لقد حققت هذه المؤاخاة أهدافها، فمنها اذهاب وحشة الغربة للمهاجرين ومؤانستهم عن مفارقة الأهل والعشيرة، وشد أزر بعضهم بعضا، ومنها نهوض الدولة الجديدة، لئن اي دولة لايمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها، ولايمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير عامل التآخي والمحبة المتبادلة، فكل جماعة، لاتؤلف بينها آصرة المودة والتآخي الحقيقية، لايمكن أن تتحد حول مبدأ ما، ومالم يكن الاتحاد حقيقة قائمة في الأمة أو الجماعة فلايمكن أن تتألف منها دولة(3).
5-الإرث بالمؤاخاة:
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/406).
(2) صحيح البخاري، مناقب الأنصار رقم 3794.
(3) في ظلال القرآن (6/3526).(5/46)
لم يعرف تاريخ البشر كله حادثاً جماعياً كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين بهذا الحب الكريم وبهذا البذل السخي، وبهذه المشاركة الفعالة وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء(1) فقد طبقت الأخوة في الواقع العملي لحياة الصحابة رضي الله عنهم، إن ما أقامه الرسول بين أصحابه من مبدأ تاريخي لم يكن مجرد شعار في كلمة أجراها على ألسنتهم، وإنما كان حقيقة عملية تتصل بواقع الحياة وبكل أوجه العلاقات القائمة بين الأنصار والمهاجرين، فقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأخوة مسؤولية حقيقية تشيع بين هؤلاء الإخوة، وكانت هذه المسؤولية تؤدي فيما بينهم على خير وجه، ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى حق الميراث منوطاً بهذا التآخي، دون حقوق القرابة والرحم فقد كان من حكمة التشريع أن تتجلى الأخوة الإسلامية حقيقة محسوسة في أذهان المسلمين وأن يعلموا أن مابين المسلمين من التآخي والتحابب ليس شعاراً وكلاماً مجردين، وإنما هي حقيقة قائمة ذات نتائج اجتماعية محسوسة تكون أهم أسس نظام العدالة الاجتماعية، أما حكمة نسخ التوارث على أساس هذه الأخوة، فيما بعد، فهي أن نظام الميراث الذي استقرأ أخيراً، إنما هو نفسه قائم على أخوة الإسلام بين المتوارثين، إذ لاتوارث بين ذوي دينين مختلفين إلا أن الفترة الأولى من الهجرة وضعت كلا من الأنصار والمهاجرين أمام مسؤلية خاصة من التعاون والتناصر والمؤانسة، بسبب مفارقة المهاجرين لأهلهم وتركهم ديارهم وأموالهم في مكة ونزولهم ضيوفاً على إخوانهم الأنصار في المدينة، فكان من إقامة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من التآخي بين أفراد المهاجرين والأنصار ضمانة لتحقيق هذه المسؤولية، ولقد كان من مقتضى هذه المسؤولية أن يكون هذا التآخي أقوى في حقيقته وأثره من أخوة الرحم المجردة، فلما استقر أمر المهاجرين في المدينة وتمكن الإسلام فيها، غدت الروح الإسلامية هي وحدها العصب الطبيعي للمجتمع الجديد(5/47)
في المدينة(1).
فلما ألف المهاجرون جو المدينة وعرفوا مسالك الرزق فيها، وأصابوا من غنائم بدر الكبرى ماكفاهم، رجع التوارث إلى وضعه الطبيعي المنسجم مع الفطرة البشرية على اساس صلة الرحم، وأبطل التوارث بين المتآخين، وذلك بنص القرآن الكريم فقال تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (سورة الأنفال،آية:75).
فهذه الآية نسخت التوارث بموجب نظام المؤاخاة(2)، وبقيت النصرة والرفادة والنصيحة بين المتآخين(3)، فقد بين حبر الأمة ابن عباس ذلك عند قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} (سورة النساء، آية:33). أنه قال: (ولكل جعلنا موالي) قال: ورثة (والذين عقدت أيمانكم) كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم فلما نزلت (لكل جعلنا موالي) نسخت، ثم قال:(والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم)(4) من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصى له(5).
6-قيم إنسانية ومبادئ مثالية:
__________
(1) انظر: فقه السيرة للبوطي، ص211-212.
(2) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/246).
(3) انظر: التاريخ الاسلامي (4/25).
(4) هذه الجملة من رواية الطبري بنفس اسناد البخاري (فتح الباري 8/249).
(5) صحيح البخاري، كتاب التفسير رقم 4580.(5/48)
من خلال الروابط الوثيقة التي ألفت بين المهاجرين والأنصار أرست قيم إنسانية واجتماعية ومبادئ مثالية لاعهد للمجتمع القبلي بها، وإنما هي من شأن المجتمعات المتحضرة الفاضلة، وفي مقدمة تلك القيم قيمة العمل الشريف كوسيلة لكسب الرزق فلقد قبل المهاجرون في أول الأمر ما أظهره إخوانهم الأنصار من كرم الضيافة، ولكنهم أبوا بعد ذلك إلا أن يبحثوا عن موارد رزق لهم، ولايعلوا على رابطة المؤاخاة التي سعد بها الأنصار، فكان منهم من اشتغل بالتجارة، ومنهم من عمل بالزراعة، مستعذبين متاعب العمل على أن يكون عالة على إخوانهم، ذلك لأن عزة الإيمان لاترضى لصاحبها أن يكون عالة على أحد، بل تطلب منه أن يعطي أكثر مما يأخذ، اليد العليا خير وأحب إلى الله من اليد السفلى، وقد فهم الصحابة الكرام من تعاليم الإسلام أن العمل عبادة وهي منزلة لم تصل إليها النظم المعاصرة التي قصرت فائدته على سد حاجات الإنسان المادية والمعنوية وفي ضوء هذا المفهوم الإسلامي نستطيع أن نقول: إن الإخاء والعمل كانا حجر الزاوية في بناء مجتمع دار المهجر، وبالتالي في تأسيس الحضارة الإسلامية التي بنيت أصولها في المدينة بعد إقامة أول دولة في الإسلام برياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ترعرعت حتى أصبحت شجرة يتفيأ ظلالها العالم كله(1).
7-تذويب الفوارق الإقليمية والقبلية:
إن القضاء على الفوارق الإقليمية والقبلية ليست بالأمر الهين في المجتمعات الجاهلية، حيث العصبية هي الدين عندهم، وعملية المؤاخاة تهدف إلى إذابة هذه الفوارق بصورة واقعية منطلقة من قلب البيئة الجاهلية.
__________
(1) انظر: الهجرة في القرآن الكريم، ص411.(5/49)
إن من الأمراض في الصف الإسلامي المعاصر سيطرة الروح الإقليمية والعصبية في نفوس بعض الدعاة وهذه الأمراض تحيل بينهم وبين التمكين وتضعف الصفوف بل تشتتها وينشغل الصف بنفسه عن أهدافه الكبار وقد أصيبت بعض الحركات الإسلامية بداء العصبية الإقليمية، والعصبية الشخصية، والعصبية القطرية والعصبية حتى على مستوى المدينة والقرية الصغيرة(1) وهذا تولد عن أمراض في نفوس بعض الأفراد بسبب بعدهم عن القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين، فلم يتربوا عليها ولذلك كثر التناحر والتباغض.
إن المسلمين اليوم بأشد الحاجة إلى مثل هذه المؤاخاة التي حدثت بين المهاجرين والأنصار، لأنه يستحال أن تستئنف حياة إسلامية عزيزة قوية إذا لم تتخلق المجتمعات الإسلامية بهذه الأخلاق الكريمة، وترتقي إلى هذا المستوى الإيماني الرفيع، وإلى هذه التضحيات الكبيرة، وأما المظاهر الزائفة من الأخوة (باللسان) فلاتجدي فتيلا.
إن الفرد المسلم حين يشعر أن له إخوة يحبهم ويحبونه، وينصرهم وينصرونه، خاصة إذا تفاقمت الأزمات، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فإن هذا مما يرفع من روحه المعنوية، بل ويرفع قدراته الذاتية، ويجعله أقوى مضاء وعزيمة، وإن فقدان مثل هذه المؤاخاة مما يضعف الصف الإسلامي ويجعل الفرد المسلم يشعر أحياناً أنه وحيد أمام أعداء يكنّون له كل حقد، ويحيطون به من كل جانب، فكيف يستطيع حمل كل هذه الضغوط النفسية والمادية(2)؟
__________
(1) انظر: التربية القيادية (2/286).
(2) انظر: الطريق الى المدينة، لمحمد العبده، ص10،101.(5/50)
وقد حفظ لنا التاريخ جهاد المجتمع المسلم مع أعدائه بعد تحقيق وحدته الإجتماعية وهو مايزال في دور نشأته وتكوينه كثيراً من المحاولات الإفسادية التي كان الأعداء يدبرون مكايدها ليشعلوا بها نيران الفتن بين صفوف المجتمع المسلم، ليفرِّقوا جمعه ويفككوا وحدته، ولكن هذه المحاولات الإفسادية كانت تبؤ بالخسران، لأنها كانت تصطدم بقوة تماسك المجتمع المسلم في تركيبه الإيماني والاجتماعي، فيذيبها في تلك القوة التي جعلت من تركيبه الاجتماعي وحدة مدمجة العناصر دمجاً لايقبل التفريق، ولاتنفصم عراه، ولاتحل روابطه(1).
8-المؤاخاة بين المسلمين من أسباب التمكين المعنوية:
إن من أسباب التمكين المعنوية، العمل على تربية الأفراد تربية ربانية، وإعداد القيادة الربانية، ومحاربة أسباب الفرقة، والأخذ بأصول الوحدة والاتحاد(2).
وأهم أصول الوحدة والاتحاد، وحدة العقيدة، صدق الإنتماء إلى الإسلام، طلب الحق والتحري في ذلك، وتحقيق الأخوة بين أفراد المسلمين.
إن من الأصول العظيمة التي تحقق وحدة الصف وقوة التلاحم، ومتانة التماسك بين أفراد المسلمين تحقيق الأخوة في أوساطهم.
إن الأخوة منحة من الله عزوجل يعطيها الله للمخلصين من عباده والأصفياء والأتقياء من أوليائه وجنده قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ صدق الله العظيم } (سورة الأنفال، آية:62-63).
__________
(1) انظر: محمد رسول الله، عرجون (3/152).
(2) انظر: فقه التمكين في القرآن الكريم للصّلابي، ص253.(5/51)
وهي قوة إيمانية تورث شعوراً عميقاً بعاطفة صادقة، ومحبة وود، واحترام، وثقة متبادلة مع كل من تربطنا بهم عقيدة التوحيد ومنهج الإسلام الخالد، يتبعها ويستلزمها، تعاون، وإيثار، ورحمة، وعفو وتسامح، وتكافل وتآزر، وهي ملازمة للإيمان، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (سورة الحجرات، آية:10).
ولايذوق حلاوة الإيمان إلا من أشرب هذه الأخوة، قال - صلى الله عليه وسلم -:(ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لايحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر، كما يكره أن يقذف في النار)(1).
إن القرآن الكريم يرسم لنا صورة جميلة لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (سورة الفتح، آية:29).
__________
(1) انظر: البخاري، كتاب الايمان، باب حلاوة الايمان (1/11).(5/52)
إن القرآن الكريم حين وضع بين دفتيه هذه الصورة، إنما يخبرنا بتكريم الله عزوجل فهم:(أشداء على الكفار رحماء بينهم) أشداء على الكفار ولو كان فيهم الآباء والقرابة والأبناء رحماء بينهم، وهذه الأخوة في الحق، أخوة في الدين، إن الأخوة في الله من أهم الأسباب التي تعمل على الصمود في وجه أعتى المحن التي تنزل بالمسلمين، كما أن الفهم المتبادل والكامل للأخوة في الله من أسباب تماسك صفوف المسلمين وقوتهم، ومن أسباب شموخهم والتمكين لهم(1).
9-من فضائل الأنصار:
أ-تسميتهم بالأنصار: سماهم الله ورسوله بهذا الاسم حين بايعوا على الإسلام، وقاموا بإيواء المؤمنين ونصرة دين الله ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكونوا معروفين بذلك من قبل(2) ، فعن غيلان بن جرير رحمه الله قال:(قلت لأنس - رضي الله عنه -): أرأيت اسم (الأنصار) كنتم تُسَمَّوْن به، أم سماكم الله؟ قال: سمّانا الله...(3).
أما مناقبهم وفضائلهم فكثيرة لاتحصى، منها مناقب عامة لجميع الأنصار، ومناقب خاصة بأفراد من الأنصار، أما المناقب العامة الواردة في القرآن الكريم مايلي:
ب-فقد وصفهم المولى عزوجل بأنهم من المؤمنين حقاً، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (سورة الأنفال، آية:74).
__________
(1) انظر: شرح رسالة التعاليم، د. محمد عبدالله الخطيب، ص296.
(2) انظر: الهجرة النبوية المباركة، عبدالرحمن البر، ص131،135.
(3) البخاري، كتاب مناقب الانصار، باب مناقب الأنصار رقم 3776.(5/53)
ت-وبشرهم ربُّهم برضاه عنهم، وامتدح رضاءهم عنه، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (سورة التوبة، آية:100).
ث-ووصفهم المولى عزوجل بالفلاح قال تعالى:{ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة الحشر، آية:9).
وأما الأحاديث التي تحدثت عن مآثر الأنصار فمنها:
ج-حب النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار:
عن أنس رضي الله قال:(رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء والصبيان مقبلين –حسبت أنه قال: من عُرس -فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - مُمْتَنا(1)، فقال:(اللهم أنتم من أحب الناس إليَّ) قالها ثلاث(2).
ح-حب الأنصار علامة الإيمان وبغضهم علامة النفاق:
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:(الأنصار لايحبهم إلا مؤمن، ولايبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)(3).
خ-من أحبهم فاز بحب الله إياه، ومن أبغضهم شقى ببغض الله إياه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أحب الأنصار أحبه الله، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله)(4).
__________
(1) مُمْتَنا: يعني متفضلاً عليهم بذلك.
(2) البخاري، كتاب مناقب الأنصار رقم 3785.
(3) البخاري، كتاب مناقب الأنصار رقم 3783.
(4) رواه أحمد (2/501)؛ الهيثمي: مجمع الزوائد (10/39) اسناده جيد.(5/54)
د-الشهادة لهم بالعفاف والصبر:
العفة والصبر شيمتان كريمتان تدلان على أصالة معدن المتخلق بهما، وتمام مروءته، وكمال رجولته وفتوته، وقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار بهما، وما أعظمها شهادة، وماأعظمه من شاهد(1)، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مايضر امرأة نزلت بين بيتين من الأنصار، أو نزلت بين أبويها)(2).
ذ-رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الانتساب إليهم لولا الهجرة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(لو أن الأنصار سلكوا وادياً أو شِعباً لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار)(3).
ر-دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمغفرة لهم ولأبنائهم وأزواجهم ولذراريهم:
لاشك أن دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - مستجاب، فقد فاز الأنصار بهذا الفضل، فعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار، ولنساء الأنصار)(4).
ز-وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحسان إليهم، وعدم إفزاعهم:
كان جهاد الأنصار في سبيل الدين عظيماً، وكان فضلهم في نشره والدفاع عنه بليغاً، إذ لم يمنعهم من الخفة إلى الخروج في سبيل الله عسر ولايسر، وحفظ الله لهم ذلك في قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة التوبة، آية:117).
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص142.
(2) رواه احمد (6/257)؛ مجمع الزوائد (10/40)؛ الحاكم (4/83).
(3) البخاري، مناقب الأنصار (6/112) رقم 3779.
(4) البخاري، كتاب التفسير، سورة المنافقين رقم 4906.(5/55)
ومن ثم كانت وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأنصار والإحسان إلى محسنهم، والتجاوز عن مسيئهم، وكان ترهيبه - صلى الله عليه وسلم - من ترويعهم وتفزيعهم وكانت توصيته بالأنصار خيراً(1).
فعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:إن الأنصار كَرِشي وعَيْبتي(2)، وإن الناس سيكثرون، ويَقِلُّون(3)، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزا عن مسيئهم(4).
__________
(1) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص150.
(2) الكرش، كالكتف، والعيْبة -بفتح المهملة وسكون المثناة بعدها موحدة، معناها مايحرز الرجل فيها ويحفظ نفيس ماعنده من المتاع، والعيبة من الرجل: موضع سره وأمانته. انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص150.
(3) قال ابن حجر: (أي أن الانصار يقلُّون، وفيه إشارة الى دخول قبائل العرب والعجم في الاسلام، وهم أضعاف أضعاف قبيلة الانصار، فمهما فرض من الانصار من الكثرة كالتناسل فرض في كل طائفة من أولئك، فهم أبداً بالنسبة الى غيرهم قليل.
... ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم اطلع على أنهم يقلون مطلقاً فأخبر بذلك، فكان كم أخبر، لأن الموجودين الآن من ذرية علي بن أبي طالب ممن يتحقق نسبه إليه أضعاف من يوجد من قبيلتي الأوس والخزرج ممن يتحقق نسبه وقس على ذلك ولا التفات الى كثرة من يدّعي أنه منهم بغير برهان) (فتح الباري 7/122).
(4) البخاري، كتاب مناقب الأنصار رقم 3801.(5/56)
وعنه أيضاً قال:(خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فتلقته الأنصار بينهم، فقال:(والذي نفس محمد بيده إني لأحبكم، وإن الأنصار قد قضوا ماعليهم، وبقي الذي عليكم(1)، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)(2). وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر للأنصار:(... فمن ولي الأنصار فليحسن إلى محسنهم، وليتجاوز عن مسيئهم، ومن أفزعهم فقد أفزع هذا الذي بين هاتين- وأشار إلى نفسه(3)).
المبحث الثالث
الوثيقة أو الصحيفة
نظم النبي - صلى الله عليه وسلم - العلاقات بين سكان المدينة ، وكتب في ذلك كتاباً أوردته المصادر التاريخية ، واستهدف هذا الكتاب أو الصحيفة توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة ، وتحديد الحقوق والواجبات ، وقد سميت في المصادر القديمة بالكتاب والصحيفة ، وأطلقت الأبحاث الحديثة عليها لفظة الدستور.
__________
(1) قضوا الذي عليهم، يشير الى ماوقع لهم ليلة العقبة من المبايعة، فإنهم بايعوا على ان يؤوا النبي صلى الله عليه وسلم وينصروه على أن لهم الجنة، فوفو بذلك. (فتح الباري 7/122).
(2) مسند الامام احمد (3/187).
(3) انظر: الهجرة النبوية المباركة، ص151.(5/57)
ولقد تعرض الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه السيرة النبوية الصحيحة لدراسة طرق ورود الوثيقة وقال: (ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة(1) وبين أن أسلوب الوثيقة ينم عن أصالتها "فنصوصها مكونة من كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم قل استعمالها فيما بعد حتى أصبحت معلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة. وليس في هذه الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فرداً أو جماعة ، أو تخص أحداً بالإطراء أو الذم لذلك يمكن القول بأنها وثيقة أصلية وغير مزورة"(2). ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة وأساليب كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطيها توثيقاً آخر.
أولاً- كتابه - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار واليهود:
نص الوثيقة(3) :
هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل يثرب) ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.
إنهم أمة واحدة من دون الناس.
المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الحارث (بن الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف.
وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/275) للعمري.
(2) تنظيمات الرسول الادارية في المدينة، لصالح العلي ، ص4،5.
(3) مجموعة الوثائق السياسية لمحمد حميد الله، ص41-47.(5/58)
وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
10-بنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
11-وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
12-وإن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف من فداء أو عقل وأن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
13- وإن المؤمنين المتقين (أيديهم) على (كل) من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين ، وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان ولد أحدهم.
14-ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر ، ولا ينصر كافراً على مؤمن.
15-وإن ذمة الله واحده يجير عليهم أدناهم ، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
16-وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
17-وإن سلم المؤمنين واحدة ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
18-وإن كل غازية غزت يعقب على بعضها بعضاً.
19-وإن المؤمنين يبيء(1) بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.
20-وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه . وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً ولا يحول دونه على مؤمن.
21-وإنه من اعتبط(2) مؤمنا قتلاً عن بينة فإنه قود به إلا أن يرضى ولي المقتول (بالعقل) وإن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
22-وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً أو يؤويه ، وإن من نصره أو آواه ، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.
23-وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد.
24-وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
__________
(1) أي يمنع ويكف.
(2) أي قتله دون جناية أو سبب يوجب قتله.(5/59)
25-وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
26-إن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
27-وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
28-وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
29-وإن ليهود بن جشم مثل ما ليهود بني عوف .
30-وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
31-وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم ، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
32-وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
33-وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف وإن البر دون الإثم.
34-وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
35-وإن بطانة يهود كأنفسهم.
36-وإنه لايخرج منهم أحداً إلا بإذن محمد.
37-وإن على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وإن بينهم النصر علىمن حارب أهل هذه الصحيفة وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
38- وإنه لا يأثم أمروء بحليفة وإن النصر للمظلوم.
39-وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.
40-وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
41-وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
41-وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
42-وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث ، أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.
43-وإن بينهم النصر من دهم يثرب.
45- أ – وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه أو يلبسونه ، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك ، فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين.
45-ب- على كل أناس حقهم من جانبهم الذي قبلهم.
46-وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة ، وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلا على نفسه وإن الله على ما أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.(5/60)
47-وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم ، إنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1).
ثانياً- دروس وعبر وفوائد من الوثيقة:
تحديد مفهوم الأمة:
تضمنت الصحيفة مبادئ عامة ، درجت دساتير الدول الحديثة على وضعها فيها . وفي طليعة هذه المبادئ تحديد مفهوم الأمة ، فالأمة في الصحيفة تضم المسلمين جميعهاً مهاجريهم وأنصارهم ومن تبعهم ممن لحق بهم وجاهد معهم أمّة واحدة من دون الناس(2)، وهذا شيء جديد كل الجدّه في تاريخ الحياة السياسية في جزيرة العرب ، إذ نقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - قومه من شعار القبلية ، والتبعية لها ، إلى شعار الأمة ، التي تضم كل من اعتنق الدين الجديد ، فلقد قالت الصحيفة عنهم إنهم "أمة واحدة" (الفقرة 21) ، فقد جاء به القرآن الكريم ، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (سورة الأنبياء:92) وبين سبحانه وتعالى وسطية هذه الأمة في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة البقرة ، آية:143) ، ووضح سبحانه وتعالى بكونها أمة إيجابية فهي لا تقف موقف المتفرج من قضايا عصرها ، بل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وتدعوا إلى الفضائل وتحذر من الرذائل(3)
__________
(1) انظر: مجموعة الوثائق السياسية، ص41-47.
(2) انظر: التاريخ السياسي والعسكري، د. علي معطي، ص169.
(3) انظر: دستور للأمة، د. عبدالناصر العطار، ص9.(5/61)
، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (سورة آل عمران: الآية:110). وبهذا الإسم الذي أطلق على جماعة من المسلمين والمؤمنين ومن تبعهم من أهل يثرب اندمج المسلمون على اختلاف قبائلهم في هذه الجماعة التي ترتبط بينها برابطة الإسلام فهم يتكافلون فيما بينهم ، وهم ينصرون المظلوم على الظالم، وهم يرعون حقوق القرابة ، والمحبة ، والجوار(1)، لقد انصهرت طائفتا الأوس والخزرج في جماعة الأنصار ثم انصهر الأنصار والمهاجرون في جماعة المسلمين وأصبحوا أمة واحدة(2) تربط أفرادها رابطة العقيدة وليس الدم ، فيتحد شعورهم وتتحد أفكارهم وتتحد قبلتهم ووجهتهم ، وولاؤهم لله وليس للقبيلة ، واحتكامهم للشرع وليس للعرف ، وهم يتمايزون بذلك كله على بقية الناس "من دون الناس" فهذه الروابط تقتصر على المسلمين ولا تشمل غيرهم من اليهود والحلفاء ، ولا شك أن تمييز الجماعة الدينية كان أمراً مقصوداً يستهدف زيادة تماسكها واعتزازها بذاتها(3)، يتضح ذلك في تمييزها بالقبلة واتجاهها إلى الكعبة بعد أن اتجهة ستة عشر أو سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس(4) وقد مضى النبي - صلى الله عليه وسلم - يميز أتباعه عمن سواهم في أمور كثيرة ويوضح لهم أنه يقصد بذلك مخالفة اليهود، من ذلك: أن اليهود لايصلون بالخفاف فأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه أن يصلوا بالخف، واليهود لاتصبغ الشيب فصبغ المسلمون شيب رأسهم
__________
(1) انظر: التاريخ السياسي والحضاري، د. السيد عبدالعزيز سالم، ص100.
(2) انظر: قيادة الرسول السياسية والعسكرية، احمد راتب، ص93.
(3) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/293).
(4) تاريخ خليفة بن خياط، ص23،24؛ وسيرة ابن هشام (1/550).(5/62)
بالحناء والكتم واليهود تصوم عاشوراء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصومه أيضاً ثم اعتزم أواخر حياته أن يصوم تاسوعاء معه مخالفة لهم(1). ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع للمسلمين مبدأ مخالفة غيرهم والتميز عليهم فقال: (من تشبه بقوم فهو منهم)(2)، وقال: (لاتشبهوا باليهود)(3)، والأحاديث في ذلك كثيرة وهي تفيد معنى تميز المسلمين واستعلائهم على غيرهم، ولاشك أن التشبه والمحاكاة للآخرين يتنافى مع الاعتزاز بالذات والاستعلاء على الكفار، ولكن هذا التميز والاستعلاء لايشكل حاجزاً بين المسلمين وغيرهم، فكيان الجماعة الإسلامية مفتوح وقابل للتوسع ويستطيع الإنضمام إليه من يؤمن بعقيدته(4).
واعتبرت الصحيفة اليهود جزءاً من مواطني الدولة الإسلامية وعنصر من عناصرها ولذلك قيل في الصحيفة:(وأن من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولامتناصر عليهم) (الفقرة 16)، ثم زاد هذا الحكم إيضاحاً، في الفقرة(25) ومايليها، حيث نصّ فيها صراحة بقوله:(وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين..).
وبهذا ترى أن الإسلام قد اعتبر أهل الكتاب الذين يعيشون في أرجائه مواطنين، وأنهم أمة مع المؤمنين، ماداموا قائمين بالواجبات المترتبة عليهم، فاختلاف الدين ليس بمقتضى أحكام الصحيفة سبباً للحرمات من مبدأ (المواطنة)(5).
2-المرجعية العليا لله ورسوله:
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/293).
(2) نفس المصدر (1/293).
(3) المصدر السابق (1/293).
(4) نفس المصدر.
(5) انظر: نظام الحكم، ظافر القاسمي (1/37).(5/63)
جعلت الصحيفة الفصل في كل الأمور بالمدينة، يعود إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقد نصت على مرجع فض الخلاف في الفقرة(23)، وقد جاء فيها:(وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مردّه إلى الله وإلى محمد) والمغزى من ذلك واضح وهو تأكيد سلطة عليا دينية تهيمن على المدينة وتفصل في الخلافات منعاً لقيام اضطرابات في الداخل من جراء تعدد السلطان، وفي نفس الوقت تأكيد ضمني برئاسة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الدولة(1)، فقد حددت الصحيفة مصدر السلطات الثلاثة، التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على تنفيذ أوامر الله من خلال دولته الجديدة، لئن تحقيق الحاكمية لله على الأمة هو محض العبودية لله تعالى، لأنه بذلك يتحقق التوحيد ويقوم الدين، قال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (سورة يوسف، آية:40).
يعني:(ماالحكم الحق في الربوبية والعقائد والعبادات، والمعاملات إلا لله وحده يوحيه لمن اصطفاه من رسله، لايمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه، ولايعقله واستدلاله ولاباجتهاده واستحسانه، فهذه القاعدة هي أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله لاتختلف باختلاف الأزمنة، والأمكنة)(2).
__________
(1) انظر :التاريخ السياسي والحضاري، السيد عبدالعزيز، ص102.
(2) انظر: تفسير المنار (12/309).(5/64)
لقد نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبودية والحاكمية لله تعالى، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ صدق الله العظيم أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ صدق الله العظيم } (سورة الزمر، آية:2،3) وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (سورة النساء، آية:105) فكما أن تحقيق العبودية غاية من إنزال الكتاب فكذلك تطبيق الحاكمية غاية من إنزاله، وكما أن العبادة لاتكون إلا عن وحي منزل فكذلك لاينبغي أن يحكم إلا بشرع منزل، أو بماله أصل في شرع منزل(1).
إن تحقيق الحاكمية، تمكين للعبودية، وقيام بالغاية التي من أجلها خلق الإنسان والجان، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (سورة الذاريات، آية:56).
__________
(1) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (1/433).(5/65)
وقد اعترف اليهود في هذه الصحيفة بوجود سلطة قضائية عليا يرجع إليها سكان المدينة بما فيهم اليهود بموجب بند رقم (42) لكن اليهود لم يُلزموا بالرجوع إلى القضاء الإسلامي دائماً بل فقط عندما يكون الحدث أو الاشتجار بينهم وبين المسلمين، أما في قضاياهم الخاصة وأحوالهم الشخصية فهم يحتكمون إلى التوراة ويقضي بينهم أحبارها، ولكن إذا شاءوا فبوسعهم الاحتكام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد خيّر القرآن الكريم النبي - صلى الله عليه وسلم - بين قبول الحكم فيهم أو ردهم إلى أحبارهم قال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (سورة المائدة، آية:42).
ومن القضايا التي أراد اليهود تحكيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها اختلاف بني النضير وبني قريظة في دية القتلى بينهما، فقد كانت بنو النضير أعزّ من بني قريظة، فكانت تفرض عليهم دية مضاعفة لقتلاها، فلما ظهر الإسلام في المدينة امتنعت بنو قريظة عن دفع الضعف، وطالبت بالمساواة في الدية(1)، فنزلت الآية: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (سورة المائدة، آية:45).
__________
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (1/291).(5/66)
وبهذه الصحيفة التي أقرت المادة (42) (على أنه ماكان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسوله) أصبح للرسول - صلى الله عليه وسلم - سلطة قضائية مركزية عليا يرجع إليها الجميع، وجعلها ترجع إلى الله وإلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولها قوة تنفيذية، لأن أوامر الله واجبة الطاعة وملزمة التنفيذ، كما أن أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي من الله، وطاعتها واجبة(1).
وبذلك أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رئيس الدولة، وفي نفس الوقت رئيس السلطة القضائية والتنفيذية والتشريعية فقد تولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السلطات الثلاثة بصفته رسول الله المكلف بتبليغ شرع الله، والمفسر لكلام الله، والسلطة التنفيذية بصفته الرسول الحاكم، ورئيس الدولة، فقد تولى رئاسة الدولة وفق نصوص الصحيفة، وباتفاق الطوائف المختلفة الموجودة في المدينة، ممن شملتهم نصوص الصحيفة في المادة (36) التي تقرر أنه (لايخرج منهم أحد إلا بإذن محمد) ولهذا تأثير كبير في عدم السماح لهم بمخالفة قريش أو غيرها من القبائل المعادية، وهناك المادة (43) التي ذهبت إلى ماهو أبعد وأصرح من ذلك إذ قررت أنه (لاتجار قريش ولامن نصرها) ولم يرد في الصحيفة اسم لأي شخص ماعدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2).
3-اقليم الدولة:
وجاء في الصحيفة (أن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة) مادة (40). وأصل التحريم أن لايقطع شجرها، ولايقتل طيرها، فإذا كان هذا هو الحكم في الشجر والطير فما بالك في الأموال والأنفس(3)؟ ، فهذه الصحيفة حددت معالم الدولة: أمة واحدة، وإقليم هو المدينة، وسلطة حاكمة يرجع إليها وتحكم بما أنزل الله.
__________
(1) انظر: دولة الرسول صلى الله عليه وسلم من التكوين الى التمكين، ص418.
(2) انظر: دولة الرسول من التكوين الى التمكين، ص420.
(3) انظر: نظام الحكم، ظافر القاسمي (1/38).(5/67)
إن المدينة كانت بداية إقليم الدولة الإسلامية ونقطة الانطلاق، ومركز الدائرة التي كان الإقليم يتسع منها حتى يضع حداً للقلاقل والاضطرابات، ويسوده السلم والأمن العام.
وقد أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ليثبتوا أعلاماً على حدود حرم المدينة من جميع الجهات، وحدود المدينة بين لابتيها شرقاً وغرباً، وبين جبل ثور في الشمال، وجبل نمير في الجنوب.
ثم اتسع (الإقليم) باتساع الفتح، ودخول شعوب البلاد المفتوحة في الإسلام حتى عمّ مساحة واسعة في الأرض والبحر ومايعلوهما من فضاء، فمن المحيط الأطلسي غرباً ومناطق واسعة من غرب أوروبا وجنوبها، ومناطق فسيحة من غرب آسيا وجنوبها إلى أكثر أهل الصين وروسيا شرقاً، وكل شمال افريقيا وأواسطها(1)، إن إقليم الدولة مفتوح وغير محدود بحدود جغرافية أو سياسية، فهو يبدأ من عاصمة الدولة (المدينة)، ويتسع حتى يشمل الكرة الأرضية بأسرها قال تعالى: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (سورة الأعراف، آية:128) كما أن مفهوم الأمة مفتوح وغير منغلقة على فئة دون فئة، بل هي ممتدة لتشمل الإنسانية كلها إذا ما استجابت لدين الله تعالى الذي ارتضاه لخلقه ولبني آدم أينما كانوا.
فالدولة الإسلامية دولة الرسالة العالمية، لكل فرد من أبناء المعمورة نصيب فيها، وهي تتوسع بوسيلة الجهاد(2).
4-الحريات وحقوق الإنسان:
__________
(1) انظر: دولة الرسول من التكوين الى التمكين، ص411.
(2) انظر: دولة الرسول من التكوين الى التمكين، ص421.(5/68)
إن الصحيفة تدل بوضوح وجلاء على عبقرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صياغة موادها وتحديد علاقات الاطراف بعضها ببعض فقد كانت موادها مترابطة وشاملة وتصلح لعلاج الأوضاع في المدينة آنذاك وفيها من القواعد والمبادئ مايحقق العدالة المطلقة والمساواة التامة بين البشر، وأن يتمتع بنو الإنسان على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأديانهم بالحقوق والحريات بأنواعها(1)، يقول الاستاذ محمد سليم العوّا: (ولاتزال المبادئ التي تضمنها الدستور- في جملتها معمولاً بها- والأغلب أنها ستظل كذلك في مختلف نظم الحكم المعروفة إلى اليوم ... وصل إليها الناس بعد قرون من تقريرها في أول وثيقة سياسية دَوَّنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - )(2).
فقد أعلنت الصحيفة أن الحريات مصونة، كحرية العقيدة والعبادة وحق الأمن...الخ، فحرية الدين مكفولة:للمسلمين دينهم ولليهود دينهم قال تعالى:{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (سورة البقرة، آية:256) وقد أنذرت الصحيفة بإنزال الوعيد، وإهلاك من يخالف هذا المبدأ، أو يكسر هذه القاعدة، وقد نصت الوثيقة على تحقيق العدالة بين الناس، وعلى تحقيق مبدأ المساواة.
إن الدولة الإسلامية واجب عليها أن تقيم العدل بين الناس وتفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إلى حقه بأيسر السبل وأسرعها، دون أن يكلفه ذلك جهد أو مال(3)، وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إلى حقه.
__________
(1) نفس المصدر، ص420.
(2) انظر: النظام السياسي للدولة الاسلامية ، ص65.
(3) انظر: النظام السياسي في الاسلام لأبي فارس، ص58.(5/69)
لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أحوالهم الاجتماعية، فهو يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق، ولايهمه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء أو أعداء أغنياء أو فقراء، عمالاً أو أصحاب عمل، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (سورة المائدة، آية:8). والمعنى لايحملنكم بغض قوم على ظلمهم، ومقتضى هذا أنه لايحملنكم حب قوم على محاباتهم والميل معهم(1).
يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي –رحمه الله- معقباً على قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ ءَامَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (سورة الشورى، آية:15) مانصه (يعني أنني مأمور بالإنصاف دون عداوة، فليس من شأني أن أتعصب لأحد أو ضد أحد، وعلاقتي بالناس كلهم سواء وهي علاقة العدل والإنصاف، فأنا نصير من كان الحق في جانبه، وخصيم من كان الحق ضده، وليس في ديني أي امتيازات لأي فرد كائناً من كان، وليس لأقاربي حقوق، وللغرباء حقوق أخرى، ولاللأكابر عندي مميزات لايحصل عليها الأصاغر، والشرفاء والوضعاء عندي سواء، فالحق حق للجميع، والذنب والجرم ذنب للجميع، والحرام حرام على الكل، والحلال حلال للكل، والفرض فرض على الكل حتى أنا نفسي لست مستثنى من سلطة القانون الإلهي(2).
__________
(1) نفس المصدر، ص52.
(2) انظر: الحكومة الاسلامية، ص202.(5/70)
إن تربية المجتمع المسلم وإعداده لقيادة الإنسانية بخصائصه التي احتواها منهجه التربوي حفيّة أشد الحفاوة بشرعة العدل، وإقامته بين الأفراد والجماعات والأمم والشعوب، لأن العدل في شمول مواطنه هو دعامة القيادة الموفقة قال تعالى:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (سورة النساء، آية:135) وهذا نص قرآني صريح في تكليف المجتمع القيادي المسلم تحقيق العدل على أتم صورة وأكمل أحواله، فالعدل على النفس، وعلى أقرب ذوي القربى كالعدل مع غير النفس وأبعد البعداء، وفي قوله تعالى{كونوا} أمر للمجتمع المسلم في جميع أفراده وجماعاته أينما حلُّوا من أرض الله، وحيثما كانوا في أوطانهم المتقاربة أو المتباعدة، وهو أمر كينونة يشعر بمادته بالإلزام والالتزام، والتهيؤ والانبعاث للقيام بإقامة منهج العدل في الحياة، وفي قوله :{قوّامين} بصيغة المبالغة إيماء إلى مايجب أن يكون عليه المجتمع المسلم من النهوض بإقامة معالم العدل، بكل ما أوتي من قوة مادّية وروحية، مشمِّراً على ساق العزم في بذل الجهد والتحفز للعمل في سبيل توطيد دعائم العدل الاجتماعي.
إن القرآن الكريم –وهو دستور المجتمع المسلم- لايقف في أسلوبه الذي يحض به على الاستمساك بالعدل عند سفح الحياة، ولكنه يتولج إلى مداخل الضمير الإنساني، ويأبى عليه أن يخضع في إقامة العدل لعاطفة تتملّق الغني لغناه وسعة ثروته من المال، أو يتملق عاطفة الرحمة، فيرحم الفقير لفقره، فيلوي عنه عنق العدل حتى لايرى مايقع منه من ظلم وتحيف على الحق.(5/71)
والقرآن بذلك لايرضى للمجتمع المسلم أن يحمله تعزز الغني بثرائه وغناه على أن لايقام معه العدل، ويظلم له الفقير، ولايرضى لهذا المجتمع المسلم أن تحمله الرحمة للفقير، فيُحابي بظلم الغني لأجله.
ولايرضى القرآن الحكيم لمجتمعه المسلم أن يميل مع الهوى ويخضع للعواطف فيحيد عن العدل ليّا بالحق، وإعراضاً عنه.
وقد جاءت أخت هذه الآية في نسب أسلوبها وألفاظها لتكمل صورة إقامة العدل على أتم وجوهه لتقرر أن موازين العدل يجب أن تساوي فيها المحب والمبغض، والقريب والبعيد، والصديق والعدو فقالت :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (سورة المائدة، آية:8).
فصورة الخطاب الكينوني هنا {كونوا} الذي يجعل من العدل طبيعة خلائق المجتمع المسلم الذي نيط به قيادة الإنسانية، هي صورته هناك لأن العدل أمانة هذا المجتمع المسلم العظمى التي حملوها ليؤدِّها إلى الناس في حياتهم(1) بيد أن الأمر اختلف في الآيتين اختلافا جمع متفرق مواطن العدل باعتباره أصلا من أصول الرسالة الخالدة الخاتمة الذي يعم الحياة من جميع جوانبها، ففي الآية الأولى وجّه الأمر للمجتمع المسلم بأشرف أوصافة {يا أيها الذين آمنوا} إلى أن يكون قوّاماً بالعدل ولو كان في ذلك مراغمة منازع الحب والود والقربي، وفي هذه الآية الثانية وجّه الأمر للمجتمع بعنوانه المشرف إلى أن يكون قوّاماً بالعدل ولو كان في ذلك مراغمة جميع عواطف البغض والعداوة(2).
__________
(1) انظر: محمد رسول الله (3/142،143،144).
(2) نفس المصدر (3/144، 145).(5/72)
وملتقى الآيتين الكريمتين في توجيه المجتمع المسلم توجيهاً صارماً لاهوادة فيه إلى أن يكون نهّاضاً بالعدل قائماً به بين الناس له قيادته للإنسانية، وليخلص له التوجه إلى الله في إخلاص العبودية له وحده، لاتحمله محبة مهما عظمت أو بغض مهما اشتد على الإعراض عن إقامة العدل إحقاقاً للحق، وإنصافاً للمظلوم، ونصراً للضعيف(1).
أما مبدأ المساواة، فقد جاءت نصوص صريحة في الصحيفة حولها، منها: (أن ذمَّة الله واحدة) وأن المسلمين (يجير عليهم أدناهم) وأن (بعضهم موالي بعض دون الناس)، ومعنى الفقرة الأخيرة أنهم يتناصرون في السّراء والضّراء (الفقرة 15)، وتضمنت الفقرة (19) أن (المؤمنين يبئ بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله). قال السهيلي شارح السيرة في كتابه الروض الأنف: (ومعنى قوله يبئ، هو من البواء، أي:المساواة)(2).
يعد مبدأ المساواة أحد المبادئ العامة، التي أقرها الإسلام، وهي من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم، ولقد أقر هذا المبدأ وسبق به تشريعات وقوانين العصر الحديث، ومما ورد في القرآن الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات، الآية:13).
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(ياأيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لافضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى)(3).
__________
(1) المصدر السابق (3/145).
(2) انظر: الروض الأنف (2/17) نقلاً عن نظام الحكم للقاسمي (1/38).
(3) انظر: مسند الامام احمد (5/411).(5/73)
إن هذا المبدأ كان من أهم المبادئ التي جذبت الكثير من الشعوب قديماً نحو الإسلام، فكان هذا المبدأ مصدراً من مصادر القوة للمسلمين الأولين(1).
وليس المقصود بالمساواة هنا (المساواة العامة) بين الناس جميعاً في كافة أمور الحياة، كما ينادي بعض المخدوعين ويرون ذلك عدلاً(2)، فالاختلاف في المواهب والقدرات، والتفاوت في الدرجات غاية من غايات الخلق(3)، ولكن المقصود المساواة التي دعت إليها الشريعة الإسلامية، مساواة مقيدة بأحوال فيها التساوي وليست مطلقة في جميع الأحوال(4)، فالمساواة تأتي في معاملة الناس أمام الشرع والقضاء وكافة الأحكام الإسلامية، والحقوق العامة دون تفريق بسبب الأصل، أو الجنس، أو اللون، أو الثروة أو الجاه، أو غيرها(5).
إن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة والحكام والمحكومين كلهم في نظر الشرع سواء ولذلك كانت الدولة الإسلامية الأولى تعمل على تطبيق هذا المبدأ بين الناس وكانت تراعي الآتي:
-إن مبدأ المساواة أمر تعبدي، تؤجر عليه من خالق الخلق سبحانه وتعالى.
-إسقاط الاعتبارات الطبقية، والعرفية، والقبلية والعنصرية، والقومية والوطنية والإقليمية وغير ذلك من الشعارات الماحقة لمبدأ المساواة الإنسانية وإحلال المعيار الإلهيى بدلا عنها للتفاضل، ألا وهو التقوى.
__________
(1) انظر: مبادئ نظام الحكم في الاسلام، عبدالحميد متولي، ص385.
(2) انظر: الأخلاق الاسلامية وأسسها للميداني (1/624).
(3) انظر: فلسفة التربية الاسلامية، ماجد الكيلاني، ص179.
(4) انظر: مبادئ علم الادارة، محمد نور الدين، ص116.
(5) انظر: فقه التمكين، د. علي الصّلابي، ص463.(5/74)
-ضرورة مراعاة مبدأ تكافؤ الفرص للجميع، ولايراعى أحد لجاهه أو سلطانه، أو حسبه أو نسبه، وإنما الفرص للجميع وكل على حسب قدرته وكفاءاته ومواهبه، وطاقته، وإنتاجه.
-إن تطبيق مبدأ المساواة بين رعايا الدولة الإسلامية يقوي صفها، ويوحد كلمتها، وينتج عنه مجتمع متماسك متراحم يعيش لعقيدة، ومنهج، ومبدأ(1).
كانت الوثيقة قد اشتملت على أتمّ ماقد تحتاجه الدولة من مقومات الدستورية والإدارية وعلاقة الأفراد بالدولة، وكان القرآن يتنزل في المدينة عشر سنين، يرسم للمسلمين، خلالها مناهج الحياة، ويرسي مبادئ الحكم، وأصول السياسة، وشؤون المجتمع، وأحكام الحرام والحلال وأسس التقاضي، وقواعد العدل، وقوانين الدولة المسلمة في الداخل والخارج، والسنة الشريفة تدعم هذا وتشيده، وتفصّله في تنوير وتبصرة، فالوثيقة حظت خطت خطوطاً عريضة في الترتيبات الدستورية وتعتبر في القمة من المعاهدات التي تحدد صلة المسلمين بالأجانب الكفار المقيمين معهم، في شيء كثير من التسامح والعدل والمساواة وعلى التخصيص إذا لوحظ أنها أول وثيقة إسلامية، تسجل وتنفذ في أقوام كانوا – منذ قريب وقبل الإسلام أسرى العصبية القبلية، ولايشعرون بوجودهم إلا من وراء الغلبة، والتسلط وبالتخوّض في حقوق الآخرين وأشيائهم(2) كانت هذه الوثيقة فيها من المعاني الحضارية الشيء الكثير، وماتوافق الناس على تسميته اليوم بحقوق الإنسان، وان لابد على الجانبين المتعاقدين أن يلتزموا ببنودها فهل حدث هذا الالتزام(3).
ثالثاً- موقف اليهود في المدينة:
__________
(1) انظر: فقه التمكين، ص466.
(2) انظر: صور وعبر من الجهاد النبوي في المدينة، د.محمد فيض الله، ص29 الى 30.
(3) انظر: هجرة الرسول وصحابته للجمل، ص261.(5/75)
لقد قامت الحجج القاطعة والبراهين الساطعة لليهود على صدق رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن ذلك لم يزدهم إلا عناداً وعداوة واستكباراً، وحقداً وحسداً على الرسول والذين آمنوا معه، فعن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبا ياسر، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلاّ أخذاني دونه، قالت: فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ونزل قباء، في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي، حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر بن أخطب، مُغَلِّسين. قالت: فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس، قالت: فأتيا كالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما، مع مابهما من الغم، قالت: وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال:فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله مابقيت(1). وقد شن اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه حملات اعلامية لتشويه صورة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتنفير الناس منه، ونزع الثقة بينه وبين الناس، لقد شعر اليهود بخطورة هذا الدين على مصالحهم، وعلى عقيدتهم المنحرفة المزيفة، القائمة على الاستعلاء واحتقار الناس عدا الجنس اليهودي، لقد جاء ينادي بعقيدة التوحيد وهم يقولون عزير ابن الله، وجاء ينادي بالمساواة بين أفراد الجنس البشري وأنه لايعلو شعب على شعب ولاجماعة على جماعة، وهم يرون أنهم شعب الله المختار، يترفعون عن بقية الأجناس، وينظرون إليهم على أنهم دونهم، وأقل منهم(2) ولذلك لم يلتزموا ببنود الوثيقة وشرعوا في التشكيك في نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورسالته، وأكثروا من الأسئلة لإحراج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخدعوا
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/518-519).
(2) انظر: الصراع مع اليهود، محمد ابو فارس (1/31).(5/76)
المؤمنين ودلسوا عليهم(1)، وغير ذلك من الأعمال الخبيثة.
1-محاولة اليهود لتصديع الجبهة الداخلية:
ومن وسائلهم الخبيثة في حرب الإسلام محاولاتهم المستمرة لتمزيق الصف المسلم وتخريبه، بتقطيع أواصر المحبة بين المسلمين وذلك بإثارة الفتن الداخلية، والشعارات الجاهلية، والنعرات الاقليمية، والدعوات القومية والقبلية، والسعي بالدسيسة والوقيعة بين الأخوة المتآلفين المتوادين المتحابين، فهم في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر(2).
فقد تفتق ذهن أحد شيوخهم الكبار في السن عن حيلة هدف بها إلى تفريق وحدة الأنصار، وذلك بإثارة العصبية القبلية بينهم ليعودوا إلى جاهليتهم، فتعود الحروب بينهم كما كانت، ويخسر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك أقوى أنصاره(3)، وفي بيان هذا الخبر يقول محمد بن اسحاق –رحمه الله تعالى: ومَرّ شأس بن قيس وكان شيخاً قد عسا(4)، عظيم الكفر شديد الضِّغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفرمن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه مارأى من ألفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة(5)، بهذه البلاد، لا والله مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شابا من يهود كان معهم، فقال: أعمد إليهم، فاجلس معهم ثم اذكر يوم من بُعاث وماكان قبله، وأنشدهم بعض ماكانوا تقاولوا فيه من الأشعار.
__________
(1) نفس المصدر (1/31-46).
(2) انظر: الصراع مع اليهود (1/44).
(3) انظر: التاريخ الاسلامي للحميدي (4/37).
(4) عسا: كبرت سنه.
(5) قيلة: أم الأوس والخزرج.(5/77)
وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان على الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهلي، و أبو أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي، فقتلا جميعاً.
قال ابن اسحاق: ففعل، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى توائب رجلان من الحيين على الرُّكب: أوس بن قيظي، أحد بني حارثة ابن الحارث، من الأوس، وجبار بن صخر، أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة(1)، فغضب الفريقان جميعاً وقالوا قد فعلنا، موعدكم الظاهرة -والظاهرة: الحرّة- السلاح السلاح، فخرجوا إليها.
فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إليهم، فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم، فقال: يامعشر المسلمين، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف به بين قلوبكم؟
__________
(1) جذعة: أي رددنا الحرب فتية قوية.(5/78)
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شأس ابن قيس، فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وماصنع: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ صدق الله العظيم قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، آية:98-99) وأنزل الله في أوس بن قيظي وجبار بن صخر وكان معهما من قومهما الذين صنعوا عمّا أدخل عليهم شأس من أمر الجاهلية(1) :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ صدق الله العظيم وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صدق الله العظيم يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون صدق الله العظيم وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ صدق الله العظيم وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
__________
(1) انظر: سيرة ابن هشام (2/211-214).(5/79)
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ صدق الله العظيم وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، الآيات: 100-105) ونرى من خلال القصة قدرة القيادة النبوية على إفشال مخطط اليهود الهادف لتفتيت وحدة الصف ويظهر اهتمام النبي بأمور المسلمين وإشفاقه عليهم، وفزعه مما يصيبهم من الفتن والمصائب، فقد أسرع إلى الأنصار وذكرهم بالله، وبين لهم أن ما أقدموا عليه من أمر الجاهلية، وذكرهم بالإسلام وما أكرمهم الله به من القضاء على الحروب، والفتن وتطهير النفوس من الضغائن، وتأليف القلوب بالإيمان وكانت لكلمات النبي - صلى الله عليه وسلم - أثر في نفوسهم وسرت في كيانهم روح جديدة مسحت كل أثر لأمر الجاهلية بفضل الله تعالى ثم بكلمات نبيه - صلى الله عليه وسلم - المعبرة وروحه القوية المؤثرة، وهيئته الوثابة المنذرة، وأدركوا أن ماوقعوا فيه كان من وساوس الشيطان وكيد عدوهم من اليهود، فبكوا ندما على ماوقعوا فيه من الذنوب، وتعانق رجال الإسلام، تعبيراً على محبتهم الإيمانية لبعضهم(1).
2-التهجم على الذات الإلهية:
__________
(1) انظر: التاريخ الاسلامي (4/41،42).(5/80)
ذكر غير واحد من كتاب السير والمفسرين أن أبا بكر - رضي الله عنه - قد دخل بيت المدارس(1) على يهود، فوجد منهم ناساً كثيراً قد اجتمعوا إلى رجل منهم، يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر من أحبارهم، يقال له أشيع(2)، فقال أبو بكر لفنحاص: ويحك! اتق الله وأسلم، فوالله إنك تعلم أن محمداً لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل، فقال فنحاص لأبي بكر: والله يا أبا بكر، مابنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وماهو عنا بغني، ولو كان عنا غنياً ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان عنا غنياً ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر، فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً، وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك، أي عدو الله، فذهب فنحاص إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يامحمد انظر ماصنع بي صاحبك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر:(ماحملك على ماصنعت؟) فقال أبو بكر: يارسول الله، إن عدو الله قال قولاً عظيماً، إنه يزعم أن الله فقير وأنهم أغنياء، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال، وضربت وجهه، فجحد ذلك فنحاص وقال: ماقلت ذلك، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص رداً عليه، وتصديقاً لأبي بكر: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (سورة آل عمران، آية:181).
__________
(1) مكان يتلى فيه التوراة.
(2) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/558-559)؛ وسبل الهدى والرشاد (3/583-585)؛ وتفسير مجاهد، ص140.(5/81)
ونزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومابلغه في ذلك من الغضب(1): {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (سورة آل عمران، آية:186) وذكر القرآن الكريم في أكثر من موضع سوء أدبهم مع الله سبحانه وتعالى، وعدم تنزيهه عن النقائص، ووصفه بمالا يليق به سبحانه، وهذا عين الوقاحة وانعدام الأدب ومن هذه الآيات قول الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (سورة المائدة، آية:64).
ويبدو من مضمون الآية أن هذا الموقف الذي وقفوه كان منبعثاً مما كان يملأ صدورهم من الغيظ والسخط من رسوخ في قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتشار دعوته، ولعل مهما يصح أن يضاف إلى هذا الاحتمال كون المسلمين قد انصرفوا عنهم أو قاطعوهم بسبب موقف الكيد والجحود التي مافتئوا يقفونها، واستجابة لأمر القرآن ونهيه وتحذيره، فأثر ذلك في حالتهم الاقتصادية تأثيراً سيئاً زاد سخطهم وغيظهم وتبرمهم، ودفعهم إلى ماكان منهم من سوء الأدب في حق الله، ومن رد غير جميل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2).
__________
(1) انظر: تفسير القرطبي (4/295).
(2) انظر: الصراع مع اليهود (1/51).(5/82)
وقد جاءت بعد هذه الآية مايدل على صحة ماذهبت إليه قال تعالى:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيم صدق الله العظيم وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ صدق الله العظيم } (سورة المائدة، آية:65-66).
3-سوء أدبهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنيل من الرسل الكرام والقرآن الكريم:(5/83)
وكان اليهود يسيئون الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حضرته وأثناء خطابه، إذ يلمزونه، ويحيونه بتحية فيها من الأذى والتهجم مايدل على سوء أخلاقهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء ناس من اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: السام(1) عليك ياأبا القاسم، فقلت: السام عليكم، وفعل الله بكم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش)، فقلت: يارسول الله، ترى مايقولون؟ فقال:(ألست تريني أرد عليهم مايقولون؟ وأقول: وعليكم)، قالت: فنزلت هذه الآية في ذلك(2) وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (سورة المجادلة، آية:8).
__________
(1) السام: الموت. انظر: زاد المسير (8/189).
(2) زاد المسير في علم التفسير (8/189) رواه ابن ابي حاتم من حديث الاعمش عن مسروق عن عائشة وإسناده صحيح. وفي صحيح مسلم (4/1707).(5/84)
وهذه الآية تظهر الحقد الذي هيمن على نفوس اليهود ودفعهم إلى استخدام كل الوسائل والطرق لهدم الإسلام والتخلص من صاحب الرسالة، والسيطرة على المسلمين، ولكن يظهر من دعاء بعض اليهود على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالموت مع التظاهر بالسلام عليه هو الضعف الذي كانوا عليه عند التجائهم إلى هذا النوع من السلام، فالممارس لمثل ماقام به اليهودي الذي سلم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله السام عليك يعيش أزمة نفسية متولدة عن فقدان عز كن يظن انه ينعم فيه، لقد تغلبت قوى جديدة على ماضيه وحاضره ولم يستطع أن يتفاعل مع من تغلب عليه، ومنعهم الحسد والغيرة من الانقياد للدين الجديد ومما زاد في تأزم اليهود أنهم جربوا محاربة الإسلام بوسائلهم التي كانوا يظنون أنها لاتقهر، فكان الفشل حليفهم، لذلك لجأوا إلى الطرق السلبية والوسائل الملتوية فالدعاء على الخصم مع التظاهر بالسلام هو سلاح العاجزين، ووسيلة الخائبين، وترياق الحاقدين(1).
ولما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماصدر عن عائشة رضي الله عنها دعاها إلى الرفق واللين، وبين لها أن المسلم لايجوز له أن يترك الغضب يتحكم فيه، فالرفق في الإسلام ثمرة لايثمرها إلا حسن الخلق، فالله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه مالايعطي على العنف(2).
__________
(1) انظر: حوار الرسول مع اليهود، د. محسن عبدالناظر، ص101.
(2) نفس المصدر ، ص87.(5/85)
وأما نيلهم من المرسلين، فقد أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر بن أبي عازر وغيرهم وسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمن يؤمن به من الرسل فقال: أؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم، لانفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، فلما ذكر عيسى عليه السلام، وقالوا: لانؤمن بعيسى ولانؤمن بمن آمن به(1)، فأنزل الله فيهم:{ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} (سورة المائدة، آية:59).
وأما في محاولاتهم للنيل من القرآن الكريم في أسئلتهم ونقاشهم الذي لاينتهي، فعن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة قالت أحبار اليهود: يامحمد، أرأيت قولك: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} (سورة الإسراء، آية:85) إيّانا تريد أم قومك؟ قال: كُلاّ، قالوا: فإنك تتلوا فيما جاءك: أنا قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنها في علم الله قليل، وعندكم في ذلك مايكفيكم لو أقمتموه(2) قال: فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة لقمان، آية:27).
__________
(1) انظر: ابن هشام في السيرة (1/567)؛ تفسير ابن جرير (1/442)؛ وانظر: اليهود في السنّة المطهرة، عبدالله الشقاري (1/242، 243).
(2) انظر :اليهود في السنّة المطهرة (1/241).(5/86)
4-دعم حزب المنافقين وتآمرهم معهم:
حدثنا القرآن الكريم عن قيادة اليهود الفكرية لحزب المنافقين، فهم شياطين المنافقين يخططون لهم، ويوجهونهم، ويدّرسونهم أساليب الكيد والمكر والخداع والدهاء وإثارة الفتن قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (سورة البقرة، آية:14).
قال النسفي في تفسيره:(وشياطينهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم، وهم اليهود)(1).
وكان اليهود في المدينة يتآمرون مع المنافقين ضد المسلمين وفي هذا التآمر قال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا صدق الله العظيم الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا صدق الله العظيم } (سورة النساء، آية:138-139) قال الاستاذ محمد دروزة: (وجمهور المفسرين على أن الكافرين هنا هم اليهود، وفي الآية قرينة على صحة ذلك، كما أن فيما بعدها قرينة ثانية أيضاً، وواضح أن اتخاذ المنافقين اليهود أولياء، وتواثقهم معهم، إنما هما أثران من آثار التآمر الموطد بين اليهود والمنافقين تجاه الدعوة والقوة الإسلامية)(2).
وقال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ صدق الله العظيم ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ صدق الله العظيم } (سورة محمد، آية:25-26).
__________
(1) انظر: تفسير النسفي (1/21).
(2) انظر: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لدروزة (2/179-180).(5/87)
والجمهور على أن الآية الأولى عنت المنافقين، وأن الذين كرهوا مانزل الله هم اليهود، وهكذا تبدو في الآية الثانية صورة من صور التآمر بين الفريقين ضد الإسلام والمسلمين، ونلفت النظر إلى ماحكته الآية الثانية من وعد المنافقين لليهود بطاعتهم والسير على الخطة التي يضعونها، ففي هذا كما هو ظاهر صورة لبعض ماكان لليهود من التوجيه والتأثير والنفوذ في المنافقين، وحركتهم وأعمالهم(1).
وقال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ صدق الله العظيم أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ صدق الله العظيم اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ صدق الله العظيم } (سورة المجادلة، آية:14-16).
قال الماوردي في تفسيره لهذه الآية:(يعني المنافقين تولوا قوماً غضب الله عليهم هم اليهود)(2) وفسر الماوردي الصد عن سبيل الله بأنه الصد عن الجهاد ممايلة لليهود(3).
__________
(1) نفس المصدر (2/180).
(2) انظر: النكت والعيون للماوردي (4/203).
(3) نفس المصدر (4/203).(5/88)
ودفعوا المنافقين لإشعال حرب ضد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركب حمار على قطيفة فَدَكِيَّة وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، قال: حتى مر بمجلس فيه عبدالله بن أبي ابن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبدالله بن أبي، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المجلس عبدالله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمّر عبدالله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لاتُغبِّروا علينا، فسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم وقف، فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبدالله بن أبي سلول: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذينا به في مجلسنا، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، فقال عبدالله بن رواحة: بلى يارسول الله فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، فاستتب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتشاورون(1)، فلم يزل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب النبي - صلى الله عليه وسلم - دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ياسعد ، ألم تسمع ماقال أبو حبان –يريد عبدالله بن أبي- قال كذا وكذا، قال سعد بن عبادة: يارسول الله أعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة(2) على أن يتوّجوه فيعصبونه بالعصابة، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك، فذلك فعل به مارأيت، فعفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3)
__________
(1) يتشاورون: أي يتواثبون والمعنى: كادوا أن يثب بعضهم على بعض فيقتتلوا، ويقال ثار، اذا قام بسرعة وانزعاج.
(2) البحيرة: لفظ يطلق على القرية والبلد والمراد به هنا المدينة.
(3) صحيح البخاري، كتاب التفسير (8/230،231) رقم 4566.(5/89)
.
5-طعن اليهود في من آمن من الأحبار (عبدالله بن سلام) - رضي الله عنه -:
عندما بلغ عبدالله بن سلام مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لايعلمهن إلا نبي: قال: ماأول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه؟ ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أخبرني بهن آنفاً جبريل، قال: فقال عبدالله: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبقت ماؤها كان الشبه لها، قال: أشهد أنك رسول الله، ثم قال: يارسول الله، إن اليهود قوم بهت وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فجاءت اليهود، ودخل عبدالله البيت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي رجل فيكم عبدالله بن سلام؟ فقالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفرأيتم إن أسلم عبدالله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبدالله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: شَرُّنا وابن شَرِّنا، ووقعوا فيه(1)، فكانوا يؤذون من آمن من أحبارهم، ويثيرون حولهم الشكوك، ويقذفونهم بتهم باطلة قبيحة، وقد حدثنا القرآن الكريم عن هذه الوسيلة، ودافع عن هؤلاء المؤمنين الذين وجه اليهود ضدهم تلك الحملات الظالمة(2)، قال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللَّهِ ءَانَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ صدق الله العظيم يُؤْمِنُونَ
__________
(1) البخاري، كتاب الانبياء، باب خلق آدم (6/362، 363) رقم 3329.
(2) انظر: الصراع مع اليهود (1/59).(5/90)
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ صدق الله العظيم وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ صدق الله العظيم } (سورة آل عمران، آية:
113-115).
قال الواحدي في أسباب النزول:(قال ابن عباس ومقاتل: لما أسلم عبدالله بن سلام، وثعلبة بن سعيد، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومن أسلم من اليهود، قال أحبار اليهود: ما آمن لمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من أخيارنا لما تركوا دين آبائهم، وقالوا لهم: لقد خسرتم حين استبدلتم بدينكم ديناً غيره، فأنزل الله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً}(1).
6-بث الإشاعات والشماتة بالنبي والمسلمين:
__________
(1) انظر: اسباب النزول للواحدي، ص114.(5/91)
كان اليهود يتحينون الفرص للنيل من المسلمين والبحث عما يفرق كلمتهم، ومن ذلك استغلالهم – في الأشهر الأولى من الشهر – لوفاة أحد النقباء الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة، وهو أبو أمامة أسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي - رضي الله عنه -، فعندما أخذت الشوكة(1)، فجاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده، فقال: بئس الميت ليهود –مرتين- سيقولون: لولا دفع عن صاحبه، ولا أملك له ضراً ولانفعا، ولأتَمَحَّلنَّ(2) له، فأمر به فكُوِىَ بخطين فوق رأسه(3) فمات وفي رواية: فكواه حَوْران(4) ، على عنقه فمات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بئس الميت لليهود، يقولون: قد داواه صاحبه أفلا نفعه(5) ولم تكن حادثة أبي أمامة هي الحدث الوحيد الذي أبان الحقد اليهودي على المسلمين، فقد أشاعوا في أول الهجرة أنهم سحروا المسلمين فلا يولد لهم ولد، أشاعوا ذلك ليضيقوا على المسلمين الخناق، ويفسدوا عليهم حياتهم الجديدة التي عاشوها في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وليعكروا ذلك الجو الصافي الذي يملؤه الحب والتآلف بين المسلمين ومما يدل على مقدار مافعلته تلك الإشاعة بين المسلمين، شدة الفرحة التي اعترتهم حيث ولد بينهم أول مولود ذكر من المهاجرين وهو عبدالله بن الزبير رضي الله عنه(6)، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها –كانت حملت بعبدالله بن الزبير في مكة- قالت: فخرجت وأنا مُتِمُّ،
__________
(1) الشوكة: حمرة تعلو الوجه والجسد.
(2) أتحملن: أي لأحاولن له في حيلة يشفى بوسطتها. انظر: النهاية (4/303).
(3) انظر: مستدرك الحاكم، كتاب الطب (4/214) صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي على تصحيحه.
(4) حوران: هي كية مُدَوْرة من حار يحور إذا رجع، وحوّره إذا كواه هذه الكية وتسمى حوراء أيضاً. انظر: النهاية 1/459.
(5) انظر: مصنف عبدالرزاق (10/407) رقم 19515.
(6) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (1/265).(5/92)
فأتيت المدينة، فنزلت قباء، فولدت بقباء، ثم أتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعه في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم حَنَّكَه بالتمرة، ثم دعا له فبّرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام، ففرحوا به فرحاً شديداً، لأنهم قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم(1)، وفي رواية وسماه عبدالله، ثم جاء بعد وهو ابن سبع أو ابن ثمان سنين ليبايع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره الزبير رضي الله عنه بذلك، فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رآه مقبلاً وبايعه، وكان أول من ولد في الإسلام بالمدينة مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانت اليهود تقول: قد أخذناهم فلا يولد لهم بالمدينة ولد ذكر، فكَبَّر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ولد عبدالله(2).
7-موقفهم من تحويل القبلة:
__________
(1) البخاري، كتاب العقيقة، باب تسمية المولود (9/587)؛ ومسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود (3/1691).
(2) انظر: الحاكم في مستدركه، كتاب معرفة الصحابة (3/548) صحيح على شرط الشيخين.(5/93)
تكاد تكون حادثة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة هي الفاصل بين الحرب الكلامية وحرب المناوشات والتدخل الفعلي من جانب اليهود، لزعزعة الدولة الإسلامية الناشئة(1)، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول ماقدم المدينة نزل على أجداده -أو قال أخواله- من الأنصار وأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى قِبَلَ بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب، فلما ولى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك(2)، وقد نزلت في هذه الحادثة آيات عظيمة فيها عبر وحكم ودروس للصف المسلم، قال تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ صدق الله العظيم وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ صدق الله العظيم كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ صدق الله العظيم فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ
__________
(1) انظر: اليهود في السنّة المطهرة (1/258).
(2) البخاري، كتاب الايمان، باب الصلاة رقم 40.(5/94)
وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ صدق الله العظيم } (سورة البقرة، آية:149-152) .
أ-أخبر الله تبارك وتعالى بما سيقولوه اليهود عند تحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من إثارة الشكوك والتساؤلات قبل وقوع الأمر ولهذا دلالته فهو يدل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ هو أمر غيبي، فأخبر عنه قبل وقوعه ثم وقع، فدل ذلك على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - رسول ونبي يخبره الوحي بما سيقع، إذ من الأدلة على صدق رسالة الرسول أن يخبر بأمور غيبية ثم تقع بعد ذلك.
وهو يدل أيضاً على علاج للمشاكل قبل حدوثها حتى يستعد المسلمون ويهيئوا أنفسهم لهذه المشاكل للتغلب عليها، والرد عليها ودفعها، لأن الأمر حين يكون مفاجئاً لهم يكون وقعه على النفس أشد، ويربك المفاجئ لهم، أما حين يحدُّثون عنه قبل وقوعه فالحديث يطمئنهم ويوطن نفوسهم ويعدها لمواجهة الشدائد(1)، قال أبو السعود في تفسيره (وأخبر بالأمر قبل وقوعه لتوطين النفوس وإعدادها ما يبكتهم، فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد، والجواب العتيد لشغب الخصم الألد أرد)(2)، وقد وصف الله تعالى اليهود بالسفه لاعتراضهم على تحويل القبلة وللكيد ضد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو السعود (والسفهاء الذين خفت أحلامهم، واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر في قولهم:ثوب سفيه إذا كان خفيف النسيج، وقيل السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف مايعلم، وقيل الظلوم الجهول، والسفهاء هم اليهود)(3).
__________
(1) انظر: الصراع مع اليهود (1/102).
(2) انظر: تفسير أبي السعود (1/171).
(3) نفس المصدر (1/170).(5/95)
ب-{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا..}(1)، يقول ابن كثير:(يقول تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم –عليه السلام- واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شهداء الأمم، لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسط هاهنا: الخيار والأجود، كما يقال قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي خيرها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسطاً في قومه ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات...)(2).
فهي أمة وسطاً في التصور والاعتقاد، في التفكير والشعور، في التنظيم والتنسيق، في الارتباطات والعلاقات، في المكان في سرة الأرض وأوسط بقاعها(3).
ت- {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة البقرة، آية:143)
__________
(1) كانت رسالة ماجستير للمؤلف حول هذه الآية الوسطية في القرآن الكريم وتحدث عنهه حوالي 700 صفحة.
(2) انظر: التربية القيادية (2/429).
(3) نفس المصدر (2/430).(5/96)
فالآية تذكر أن الصلاة نحو بيت المقدس كانت فتنة أي اختبار، والتحول من بيت المقدس إلى الكعبة كان أيضاً اختباراً وامتحاناً، قال البيضاوي في تفسيره: (وما جعلنا قبلتك بيت المقدس إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه إلا لنمتحن به الناس، ونعلم من يتبعك في الصلاة إليها ممن يرتد عن دينك إلفاً لقبلة آبائه، أو لنعلم من يتبع الرسول ممن لايتبعه، وما كان لعارض، يزول بزواله، وعلى الأول معناه مارددناك إلى التي كنت عليها إلاّ لنعلم الثابت على الإسلام ممن ينكص على عقبيه لقلقلة وضعف إيمانه(1).
فالصلاة إلى الكعبة في بداية الأمر، ثم الصلاة إلى بيت المقدس، ثم العودة إلى الكعبة واستمرار ذلك لاشيء فيه، مادام الباري سبحانه أمر بذلك، ومن ثم فالتوجه في كل حالة هو عبادة، وما على الناس إلا أن ينقادوا لأمر الله تبارك وتعالى، ويلتزموا بأمره فالذي يتبع الرسول وينقاد لأوامره في القبلة يعد فائزاً في الاختبار والامتحان والذي يجد في نفسه على حكم من الأحكام الشرعية كان ساقطاً وهالكاً، والإيمان الحق هو الذي يلزم صاحبه بالاتباع ومخالفة الهوى(2) ولهذا ثبت الصحابة الكرام واستجابوا لأوامر الله تعالى، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء، إذ جاء رجل فقال: قد أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، فتوجهوا إلى الكعبة(3).
__________
(1) انظر: تفسير البيضاوي نقلاً عن الصراع مع اليهود (1/101).
(2) انظر: الصراع مع اليهود (1/101).
(3) انظر: تفسير ابن كثير (1/337).(5/97)