بعيرنا هرب منذ ثلاثة ايام فلم نجده إلابين يديك فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أنه يشكو فقالوا يا رسول الله ما يقول قال إنه ربي فيكم سنين وكنتم تحملون عليه في الصيف إلى موضع الكلأفإذا كان الشتاء حملتم عليه إلى موضع الدفيء فلما كبر استفحلتموه فرزقكم الله إبلا سليمة فلما أدركت هذه السنة الجذبة هممتم بنحره وأكل لحمه فقالوا والله يا رسول الله قد كا ن ذلك فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا جزاء المملوك الصالح من مواليه فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لا نتعبه ولاننحره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبتم قد استغاث بكم فلم تغيثوه وأناأولى بالرحمة منكم لأن الله قد نزع الرحمة من قولب المنافقين وأسكنها في قولوب المؤمنين فاشتراه الرسول صلى الله عليه وسلم منهم بمائة درهم منهم وقال ايها البعير انطلق حيث شئت فرغا البعير على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له آمين ثم رغا الثانية فقال له آمين ثم رغا الثالثة فقال له آمين ثم رغا الرابعة فبكى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله ما يقول هذا البعير قال قال جزاك الله خيرا أيها النبي عن الإسلام والقرآن قلت آمين قال سكن الله رعب أمتك كما سكنت قلبي قلت آمن قال حقنت الله دماء أمتك كما حنت دمي قلت آمين قال لا جعل الله بأسهم بينهم شديد فبكيت لأني سألت الله ربي فيها أي في هذه الرابعة فمنعني إعطاءها وقوله صلى الله عليه وسلم للجمل اذهب كيف شئت لا يناسب ما عليه ائمتنا من عدم جواز إرسال الدواب تقربا إلى الله تعالى لأنه في معنى سوائب الجاهلية إلا أن يقال المراد بقوله صلى الله عليه وسلم له إذهب كيف شئت أي أنت آمن في سائر أحوالك مما شكوت منه
ورايت في كلام ابن الجوزي رحمه الله ما يؤيد ذلك وهو أن رسول الله لى الله عليه وسلم وسمه سمة نعم الصدقة ثم بعث به وعليه لا اشكال وإلى قصة الجمل اشار الإمام السبكي رحمه الله في تائيته بقوله ** ورب بعير قد شكى لك حاله ** فأذهبت عنه كل كل وثقلة **
وفي هذه أعني السنة الرابعة تزوج صلى الله عليه وسلم أم سلمة هند رضي الله تعالى عنها بعد موت أبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله تعالى عنه وما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما انه قال تزوجها سنة اثنتين ليس بشيء قيل وفيها شرع التيمم
____________________
(2/578)
غزوة بدر الآخرة
ويقال لها بدر الموعد أي لموعد أبي سفيان رضي الله تعالى عنه حيث قال حين منصرفه من أحد موعد ما بيننا وبينكم بدر أي موسمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قل نعم أن شاء الله تعالى كما تقدم
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ذا الرقاع أقام بقية جمادى الأولى إلى آخر رجب ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان وعليه اقتصر الأصل وقيل خرج في شوال وقيل في مستهل ذي القعدة كل ذلك في سنة اربع ومن الوهم قول موسى بن عقبة رحمه الله أنها كانت في شعبان سنة ثلاث لما علمت أنها بعداحد وأحد كانت في شوال سنة ثلاث والحافظ الدمياطي قدم هذه الغزوة على غزوة ذات الرقاع وتبعه الشمس الشامي وصاحب الأمتاع
وكان وصوله صلى الله عليه وسلم إلى بدر هلال ذي القعدة وهذا لايناسب إلاالقول بأن خروجه صلى الله عليه وسلم كان في شوال وكان ذلك موسم لبدر في كل سنة يحضره الناس ويقيمون به ثمانية ايام كما تقدمت الحوالة عليه وحين خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة استخلف عليها عبد الله بن عبدالله بن أبي ابن سلول رضي الله تعالى عنه وقيل عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه وخرج في ألف وخمسمائة من اصحابه وكان الخيل عشرة افراس
وعند تهيؤ المسلمين للخروج قدم نعيم بن مسعود الاشجعي أي وكان ذلك قبل إسلامه رضي الله تعالى عنه وأخبر قريش أن المسلمين تهيأوا للخروج لقتالهم ببدر فكره أبو سفيان الخروج لذلك وجعل لنعيم أن رجع إلى المدينة وخذل المسلمين عن الخروج لبدر عشرين بعيرا وفي لفظ عشرة من الأبل وحمله على بعير أي وقال له أبو سفيان إنه بدا لي أن لا أخرج وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جراءة يكون الخلف منة لهم أحب إلي من ان يكون من قبلي فالحق بالمدينة واعلمهم أنا في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا ولك عندي من الأبل كذا وكذا أدفعها لك على يد سهيل بن عمر فجاء نعيم إلى سهيل بن عمرو فقال له يا ابا يزيد تضمن لي هذه الإبل وانطلق إلى محمد وأثبطه قال نعم فقدم نعيم المدينة وأرجف بكثرة المجموع
____________________
(2/579)
أبي سفيان أي وصار يقول فيهم حتى قذف الرعب في قولوب المسليمن ولم يبقى لهم نية في الخروج واستبشر المنافقون أي واليهود وقالو محمد لايفلت من هذا الجمع فجاء أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمعا ما ارجف به المسلمون وقالا له يا رسول الله إن الله مظهر نبيه ومعز دينه وقد وعدنا القوم موعط لا نحب ان نتخلف عنه فيرون ان هذا جبن فسر لموعدهم فوالله إن في ذلك لخيرة فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ثم قال والذي نفسي بيده لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد فأذهب الله عنهم ما كانوا يجدون وحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن ابي طالب كرم الله وجهه وخرج المسلمون معهم بتجارات إلى بدر فربحت الضعف
ثم أن أبا سفيان قال لقريش لقد بعثنا نعيما ليخذل أصحاب محمد عن الخروج ولكن نخرج نحن فنسيرليلة أو ليلتين ثم نرجع فإن كان محمد لم يخرج وبلغه انا خرجنا فرجعنا لأنه إن لم يخرج كان هذا لنا عليه وإن خرج أظهرنا أن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام عشب قالوا نعم ما رأيت فخرج أبو سفيان في قريش اي وهم الفان ومعهم خمسون فرسا حتى انتهوا إلى مجنة أي بفتح الميم والجيم وتشديد النون وهو سوق معروف من ناحية مر الظهران وقيل إلى عفان ثم قال يا معشر قريش لا يصلحكم إلا عام خصب ترعون فيه الشجر وتشربون فيه الماء وإن عامكم هذا عام جدب وإني راجع فارجعوا فرجع الناس فسماهم أهل مكة جيش السويق يقولون إنما خرجتم لتشربوا السويق
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده مدة الموسم التي هي ثمانية ايام أي فإنه صلى الله عليه وسلم انتهى إلى بدر هلال ذي القعدة كما تقدم وقام السوق صبيحة الهلال فاقاموا ثمانية أيام والسوق قائمة اي وصار المسلمون كلما سألوا عن قريش وقيل لهم قد جمعوا لكم يقولون حسبنا الله ونعم الوكيل حتى قيل لهم لما قربوا من بدر إنها قد امتلأت من الذين جمعهم أبو سفيان يرعبونهم ويرهبونهم فيقول المؤمنون حسبنا الله ونعم الوكيل فلما قدموا بدرا وجدوا أسواقا لا ينازعهم فيها أحد فأنزل الله تعالى { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } فالمراد بالناس الأول نعيم نزل منزلة الجماعة
____________________
(2/580)
وعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أن القائلين ذلك كانوا أربعة ولا مانع أن يكون هؤلاء الأربعة من المنافقين لعنهم الله وافقوا نعيما على ما قال حتى أن قائلهم قال للمسلمين إنما أنتم لهم أكلة رأس وإن ذهبتم إليهم لا يرجع منكم أحد
وقيل القائلون ركب من عبد القيس كانوا قاصدين المدينة للميرة فجعل لهم أبو سفيان حمل أبعرتهم زبيبا إن هم خذلوا المسلمون وأرجفوهم ولا مانع من وجود ذلك كله
هذا وقد نقل ابن عطية رحمه الله عن الجمهور أن هذه الآية الواقعة المذكورة إنما كانت بحراء الأسد عند انصرافه من أحد فليتأمل
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة اي وبلغ قريشا خروج المسلمين لبدر وكثرتهم وأنهم كانوا أصحاب الموسم أي والمخبر لهم بذلك معبد بن أبي معبد الخزاعي فإنه بعد انقضاء الموسم خرج سريعا إلى مكة واخبرهم بذلك فقال صفوان ابن أمية لابي سفيان قد والله نهيتك يومئذ أن تعد القوم وقد اجترأوا علينا ورأوا انا أخلفناهم وإنما خلفنا الضعف غزوة دومة الجندل
بضم الدال ويجوز فتحها واقتصر الحافظ الدمياطي على الأول أي وأما دومة بالفتح ا غير فموضع آخر ومن ثم قال الجوهري الصواب الضم وأخطا المحدثون في الفتح سميت بدومى بن اسماعيل عليه السلام بأنه كان نزلها وهي بلدة بينها وبين دمشق خمس ليال وهي اقرب بلاد الشام إلى المدينة وبينها وبين المدينة خمس أوست عشرة ليلة أي وهي بقرب تبوك بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بها جمعا كثيرا يظلمون من مر بهم وانهم يريدون أن يدنوا من المدينة فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس لذلك فخرج في الف من المسلمين أي وذلك في أواخر السنة الرابعة
وذكر بعضهم أنها كانت في ربيع الاول من السنة الخامسة ويوافقه قول الحافظ الدمياطي أنها كانت على رأس تسعة واربعين شهرا من مهاجرته صلى الله عليه وسلم أي واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري فكان يسير الليل ويكمن النهار ومعه
____________________
(2/581)
دليل له من بين عذرة أي يقال له مذكور رضي الله تعالى عنه فلما دنا منهم جاء إليهم الخبر فتفرقوا فهجم على ماشيتهم رعاتهم فأصاب من أصاب وهرب من هرب ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم فلم يلق بها أحدا وبعث السرايا فرجعت ولم تلق منهم أحدا أي ورجعت كل سرية بأبل واخذ محمد بن مسلمة رجلا منهم وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فقال هربوا حيث سمعوا أنك أخذت نعمهم فعرض عليه السلام فأسلم رسول الله عليه وسلم رجع المدينة
وفي رجوعه وادع أي صالح عيينة بن حصن واسمه حذيفة الفزاري أن يرعى بمحل بينه وبين المدينة ستة وثلاثون ميلا اي لأن أرضه كانت أجدبت ولما سمن حافره وخفه وانتقل إلى أرضه غزا على لحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة كما سيأتي وقيل له بئس ما جزيت به محمد صلى الله عليه وسلم احلك أرضه حتى سمن حافرك وخفك وتفعل معه ذلك فقال هو حافري وقيل له عيينة لأنه أصابته لقوة فجحظت عيناه وسمي عيينة وعيينة هذا أسلم بعد الفتح وشهد حنينا والطائف وكان من المؤلفة كما سياتي وكان يقال له الأحمق المطاع كان يتبعه عشرة آلاف فتى
ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم بغيرأذن واساء الادب فصبر النبي صلى الله عليه وسلم على جفوته وقال فيه صلى الله عليه وسلم إن شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه وقيل إن ذلك إنما قيل في مخرمة بن نوفل أي ولامانع من تعدد ذلك وقد ارتد عيينة بعد ذلك في زمن الصديق رضي الله تعالى عنه فإنه لحق بطليحة بن خويلد حين تنبأ وآمن به فلما هرب طليحة أسره خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه وأرسل به إلى الصديق في وثاق فلما دخل المدينة صار أولاد المدينة ينفسونه بالحديد ويضربونه ويقولون اي عدو الله كفرت بالله بعد ايمانك فيقول والله ما كنت ى من فمن عليه الصديق فأسلم ولم يزل مظهر للإسلام
وفي سنة أربع نزلت آية الحجاب لأزواجه صلى الله عليه وسلم وكان فيها قصر الصلاة وولادة الحسين رضي الله تعالى عنه ووقع أنه لما ولد سماه علي كرم الله وجهه حربا فلما جاء صلى الله عليه وسلم قال أروني أبني ما سميتموه قالوا حربا قال بل اسمه حسين أي كما فعل ذلك بالحسن كما مر فلما ولد الثالث جاء النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/582)
فقال أروني ابني ما سميتموه قال علي كرم الله وجهه سميته حربا فقال بل هو محسن ثم قال صلى الله عليه وسلم إن سميتهم بأسماء ولل هارون شبر وشبير ومشبر
ومن المستظرف ما حكاه بعضهم قال وقع بين الحسن والسحين كلام فتهاجرا فلما كان بعد ذلك أقبل الحسن على الحسين وأكب على رأسه يقبله فقال له الحسين إن الذي منعني ابتدائك بهذا أنك أحق بالفضل مني فكرهت أن أنازعك ما أنت أحق به ورجم اليهوديين الزانيين وفرض الحج وقيل فرض في الخامسة وقيل في السادسة وقيل في السابعة وقيل في الثامنة وقيل في التاسعة وقيل في العاشرة
قيل وفيها أي الرابعة شرع التيمم أي كما تقدم وقيل شرع في الغزوة التي تلي هذه وهي غزوة بني المصطلق وقيل كان في غزوة أخرى اي وفي غيبته صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة ماتت أم سعد بن عبادة وكان ابنها رضي الله تعالى عنه معه صلى الله عليه وسلم ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة صلى على قبرها وذلك بعد شهر وقال له سعد يا رسول الله أتصدق عنها قال نعم قال أي الصدقة افضل قال الماء فحفر بئرا وقال هذه لأم سعد رضي الله تعالى عنها غزوة بني المصطلق
ويقال لها غزوة الريسيع ويقال لها غزوة محارب وقيل محارب غيرها ويقال لها غزوة الأعاجيب لما وقع فيها من الأمور العجيبة أي كما قيل بذلك كذلك في غزوة ذات الرقاع كما تقدم
وبنو المصطلق بطن من خزاعة وهم بنو جذيمة وجذيمة هو الصطلق من الصلق وهو رفع الصوت والمريسع اسم ماء من مياههم أي من ماء خزاعة مأخوذة من قولهم رسعت عين الرجل إذا دمعت من فساد وذلك الماء في ناحية قديد
وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق رضي الله تعالى عنه فإنه اسلم بعد ذلك كما سيأتي جمع لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر عليه من قومه ومن العرب فأرسل صلى الله عليه وسلم بريدة بالتصغير ابن الحصيب بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين في آخره موحده كما تقدم أي ليعلم علم ذلك
قال واستأذن بريدة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما يتخلص به من به من
____________________
(2/583)
شرهم أي وإن كان خلاف الواقع فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج حتى ورد عليهم ورأى جمعهم فقالوا له من الرجل قال رجل منكم قدمت لما بلغني من جمعكم لهذا الرجل فأسير في قومي ومن أطاعني فنكون يدا واحدة حتى نستاصلهم فقال له الحارث فنحن على ذلك فعجل علينا قال بريدة اركب الآن فآتيكم بجمع كثير من قومي فسروا بذلك منه ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر القوم انتهى فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إليهم فأسرعوا لخروج وكان في شعبان لليلتين خلتا منه سنة خمس من الهجرة وقيل اربع كما في البخاري نقلا عن ابن عقبة وعليه جرى الإمام النووي في الروضة قال الحافظ ابن حجر وكأنه سبق قلم أراد أن يكتب سنة خمس من الهجرة فكتب سنة أربع لأن الذي في مغازي ابن عقبة من عدة طرق سنة خمس وقيل سنة ست وأن عليه أكثر المحدثين وقادوا الخيل هي ثلاثون فرسا عشرة للمهاجرين منها فرسان له صلى الله عليه وسلم اللزاز والظرب وعشرون للانصار رضي الله تعالى عنهم واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما وقيل ابا ذر الغفاري رضي الله عنه وقيل نميلة تصغير نملة بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه وخرج معه صلى الله عليه وسلم من نسائه عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما أي وخرج معه صلى الله عليه وسلم ناس كثير من المنافقين لم يخرجو في غزوة قط مثلها منهم عبد الله بن أبي سلول وزيد بن الصلط ليس لهم رغبة في لاجهاد وإنم اغربضهم أن يصيبوا من عرض الدنيا مع قرب المسافة وسار صلى الله عليه وسلم حتى بلغ محلا نزل به فأتى برجل بن عبد القيس فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أين اهلك قال بالرواحاء قال أين تريد قال إياك جئت لامن بك أشهد أن ما جئت به حق وأقاتل معك عدوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي هداك للإسلام وسال رسول الله صلى الله عليه وسلم اي الأعمال أحب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأول وقتها فكان بعد ذلك يصلي الصلاة لأول وقتها
واصاب صلى الله عليه وسلم عينا للمشركين كان وجهه الحارث ليأتيه بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلم يذكر من شانهم شيئا فعرض عليه الإسلام فأبى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب
____________________
(2/584)
رضي الله تعالى عنه ان يضرب عنقه فضرب عنقه فلما بلغ الحارث مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وانه قتل عينه سيء بذلك ومن معه وخافوا خوفا شديداوتفرق عنه جمع كثير ممن كان معه وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المريسيع فضربت له صلى الله عليه وسلم قبة من ادم وكان معه فيها عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما فتهيأ المسلمون للقتال ودفع صلى الله عليه وسلم راية المهاجرين إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه وقيل لعمار بن ياسر وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه أي وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن يقول لهم قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم ففعل عمر ذلك فأبو فترامسوا بالنبل ساعة ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فحملوا حملة رجل واحد فما أفلت منهم أنسان وقتل منهم عشرة وأسر سائرهم الرجال والنساء والذرية واستاق ابلهم وشياههم فكانت الابل ألفي بعير والشاة خمسة آلاف شاة واستعمل صلى الله عليه وسلم على ذلك مولاه شقران أي بضم الشين المعجمة واسمه صالح وكان رضي الله عنه حبشيا وكان السبي مائة اهل بيت وفي كلام بعضهم كانوا أكثر من سبعمائة وكانت برة بنت الحارث الذي هو سيد بني المصطلق في السبي
وقيل أغار عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم غافلون فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم أي وهذا القول هو الذي في صحيح البخاري ومسلم والأول هو الذي في السيرة الهشامية
وجمع بأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لما أغار عليهم ثبتوا وصفوا للقتال ثم انهزوموا ووقعت الغلبة عليهم أي وقتل منهم من قاتل ولم يستأسر وكان شعار المسلمين أي علامتهم التي يعرفون بها في ظلمة الليل أو عند الاختلاط يا منصور أمت تفاؤلا بأن يحصل لهم النصر بعد موت عدوهم
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأسارى فكتفوا واستعمل عليهم بريدة رضي الله تعالى عنه ثم فرق صلى الله عليه وسلم السبي فصار في ايدي الناس
أي وفي هذا دليل لقول إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجديد يجوز استرقاق العرب لان بني المصطلق عرب من خزاعة خلافا لقوله في القديم إنخ م لا يسترقون
____________________
(2/585)
لشرفهم وقد قال في الأم لولا أنا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون هكذا أي لا يجري الرق على عربي
وبعث صلى الله عليه وسلم أبا ثعلبة الطائي إلى المدينة بشيرا من المريسيع أي وجمع صلى الله عليه وسلم المتاع الذي وجده في رحالهم واللاح والنعم والشاء وعدلت الجزور بعشرة من الغنم ووقعت برة بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس وابن عم له فجعل ثابت لابن عمه نخلات له بالمدينة في حصته من برة وكاتبها أي على تسع أواق من ذهب فدخلت عليه صلى الله عليه وسلم فقالت له يا رسول الله إني ارم امرأة مسلمة أسلمت لأني أشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله وإني برة بنت الحارث سيد قومه أصابنا من الأمر ما قد علمت ووقعت في سهم ثابت بن قيس وابن عم له وخلصني ثابت من ابن عمه بنخلات في المدينة وكاتبني على مال مالا طاقة لي به وإني رجوتك فأعني في مكاتبتي فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو خير من ذلك قالت ما هو قال اؤدي عنك كتابتك وأتزوجك قالت نعم يا رسول الله قد فعلت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابت بن قيس فطلبها منه فقال ثابت رضي الله تعالى عنه هي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان كاتبها عليه وأعتقها وتزوجها أي وهي ابنة عشرين سنة وسماها جويرية أي وكان اسمها برة وكذلك ميمونة وزينب بنت جحش كان اسم كل منهما برة فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا كان اسم بنت أم سلمة برة فسماها زينب ويذكر أن علي كرم الله وجهه هو الذي أسرها
أقول ولا مانع أن يكون علي كرم الله وجهه أسرها ثم وقعت في سهم ثابت وابن عمه رضي الله تعالى عنهما عند القسمة لأنه لم يثبت في هذه الغزوة أنه صلى الله عليه وسلم جعل الاسرى لمن أسرهم كما وقع في بدر إلا مايأتي من قول أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ورغبنا في الفداء وقد يقال رغبوا في الغداء بعد القسمة والله اعلم
قال وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كانت جويرية امرأة حلوة لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه فبينما النبي صلى الله عليه وسلم عدي ونحن على الماء أي الذي هو المريسع إذ دخلت جويرية تسأله في كتابتها فوالله ما هو إلاأن رأيتها فكرهت دخولها على النبي صلى الله عليه وسلم وعرفت أنه سيرى منها مثل الذي رأيت فقالت
____________________
(2/586)
يا رسول الله إني امرأة مسلمة الحديث آه وإنما كرهت ذلك لما جبلت عليه النساء من الغيرة ومن ثم جاء انه صلى الله عليه وسلم خطب امرأة فأرسل عائشة رضي الله تعالى عنها لتنظر إليها فلما رجعت إليه قالت ما رأيت طائلا فقال بلى رايت خالا في خدها فاقشعرت منه كل شعرة في جسدك أي وفي لفظ آخر عن عائشة رضي الله تعالى عنها فما هو إلا أن وقفت جويرية بباب الخباء لتستعين رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتابتها فنظرت إليها فرايت على وجهها ملاحة وحسنا فأيقنت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآها أعجبته علما منها بموقع الجمال منه فما هو إلاأن كلمته صلى الله عليه وسلم فقال لها صلى الله عليه وسلم خير من ذلك أنا أؤدي كتابتك وأتزوجك فقضى عنها كتابتها وتزوجها والملاح أبلغ المليح والمليح مستعار من قولهم طعام مليح إذا كان فيه الملح بمقدار ما يصلحه
قال الأصمعي رحمه الله الحسن في العنين والجمال في الأنف والملاحة في الفم وهذا السياق يدل على انه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهم على الماء الذي هو المريسع ويؤيده ما يأتي عنها رضي الله تعالى عنها قال
الشمس الشامي رحمه الله ونظر رسول الله لجويرية حتى عرف من حسنها ما دعاه لتزوجها لأنها كانت أمة مملوكة أي لانها مكاتبة ولو كانت غيرمملوكة أي حرة ما ملأ صلى الله عليه وسلم عينه منها أو أنه صلى الله عليه وسلم نوى نكاحها أو أن ذلك كان قبل لآية الحجاب
أقول تبع في هذا السهيلي رحمه الله وقد قدمنا أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز نظر الأجنبية والخلوة بها لامنه صلى الله عليه وسلم من الفتنة فلا يحسن قوله ولو كانت حرة ما ملأ صلى الله عليه وسلم عينه منها
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم حرمة نكاح الامة وفلا يحسن قوله أو أنه نوى نكاحها وأن نزول آية الحجاب كان في سنة ثلاث على الراجح
ومذهب الشافعي رضي الله عنه حرمة نظر سائر الأمة لاأجنبية كالحرة على الراجح عند الشافعية ومنهم الشمس الشامي فلا يحسن قوله لأنها كانت امة مملوكة والله أعلم
روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/587)
غزوة بني المصطلق فسبينا كرائم العرب أي واقتسمناها وملكناها فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء وفأردنا نستمع ونعزل فقلنا نفعل ذلك وفي لفظ فأصبنا سبايا وفينا شهوة للنساء واشتدت علينا العزوبة وأجبنا الفداء وأردنا أن نستمتع ونعزل وقلنا نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فسألناه عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم لا عليكم ألا تفعلوا ما كتب الله خلق نسمة أي نفسا قدرها هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون وفي لفظ ما عليكم أن لا تفعلوا فإن الله قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة وفي رواية لا عليكم ان لا تفعلوا ذلك فإنما هو القدر وفي رواية ما من كل الماء يكون الولد وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه أي ما عليكم حرج في عدم فعل العزل وهو الإنزال في الفرج لأن العزل الإنزال خارج الفرج فيجامع حتى إذا قارب الإنزال نزع فأنزل خارج الفرج ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة أي عزلتم أم لا فلا فائدة في عزلكم لأن الماء قد يسبق العزل إلى الرحم فيجيء الولد وقد ينزل في الفرج ولا يجيء الولد
وكون ذلك كان في بني المطلق هو الصحيح خلافا لما نقل عن موسى بن عقبة رحمه الله تعالى ان ذلك كان في غزوة اوطاس وقول أبي سعيد رضي الله تعالى عنه طالت علينا العزبة واشتهينا النساء أي لعل أبا سعيد الخدري رضي الله عنه ومن تكلم على لسانه كان في المدينة أعرب وإلا فأيام تلك الغزوة لم تطل فإنها كانت ثمانية وعشرين يوما قال أبو سعيد رضي الله تعالى عنه فقدم علينا وحدهم أي بالمدينة ففي الإمتاع وكانوا قدموا المدينة ببعض السبي فقدم عليهم أهلوهم فافتدوا الذرية والنساء كل واحد بست فرائض ورجعوا إلى بلادهم
قال أبو سعيد رضي الله تعالى عنه وخرجت بجارية أبيعها في السوق أي قبل ان يقدم وفدهم في فدائهم فقال لي يهودي يا أبا سعيد تريد بيعها وفي بطنها منك سخلة هي في الأصل ولد الغنم فقلت كلا إني كنت أعزل عنها فقال تلك الوأدة الصغرى أي المرة من الوأد وهو أن يدفن الرجل بنته حيا فالموءدودة البنت تدفن في القبر وهي حية كانت الجاهلية خصوصا كندة تفعل ذلك فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال كذبت يهود كذبت يهود زاد في رواية لو أراد الله عز وجل أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه وبهذا مع ماتقدم من نفي الحرج استدل ائمتنا رحمهم
____________________
(2/588)
الله على جواز العزل مع الكراهة في كل امرأة سرية أو حرة في كل حال سواء رضيت أم لا وقال جمع بحرمته قالوا لأنه طريق إلى قطع النسل وفي مسلم ما يوافق ماقالته يهود ففي مسلم سألوه صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الوأد الخفي أي بمثابة دفن البنت حية الذي كان يفعله الجاهلية خوف الإملاق أو خوف حصول العار
إلاأن يقال هذا كان منه صلى الله عليه وسلم قبل ان يوحي إليه بحل ذلك ثم نسخ فلا مخالفة ويدل لذلك ما في مسلم أيضا عن جابر رضي الله عنه كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل فلم ينهنا وفي رواية أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية هي خادمنا وساقيتنا في النخل وانا اكره أن تحمل فقال صلى الله عليه وسلم اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها فلبث الرجل ثم أتاه صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الجارية قد حبلت فقال قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها افقد أرشده إلى العزل الذي لا يكون معه الولد غالبا وأخبر بأن ذلك لا يمنع وجود ما قدر لها من حصول الولد
وعن عبد الله بن زياد رضي الله تعالى عنه قال أفاء اي غثم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق جويرية بنت الحارث وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأقبل أبوها في فدائها فلما كان العقيق نظر إلى ابله التى يغدي بها ابنته فرغب في بعيرين منها كان من أفضلها فعقبها في شعب من شعاب العقيق ثم اقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد أصبتم ابنتي وفي رواية قال يا رسول الله كريمة لا تسبى وهذا فداؤها فقال له رسول الله فأين البعير إن اللذان عقبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا فقال الحارث أشهد أنك رسول الله ما اطلع على ذلك إلا الله وأسلم ولعله دخل بالأمان إلى المدينة وفي رواية أنه أسلم قبل ذلك وأسلم معه ابنان وناس من قومه وعليه فيكون قوله فأسلم أي أظهر اسلامه وعند ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بأن يخيرها فقالت أحسنت وأجملت فقال لها ابوها يا بنية لا تفضحي قومك قالت اخترت الله ورسوله وفيه كيف يأمره صلى الله عليه وسلم بتخييرها بعد أن تزوجها كما تقدم أن مقتضى السياق أنه تزوجها وهم على الماء
ثم رايت الأمام ابا العباس بن تيمية انكر مجيء ابيها وتخييرها فليتأمل
____________________
(2/589)
وفي الإستيعاب أن عبدالله بن الحارث أخا جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في فداء أسارى بني المصطلق وعيب في الطيرق ذودا وجارية سوداء فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء الأسارى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فما جئت به قال ما جئت بشيء قال فاين الذود والجارية السوداء الذي غيبت في موضع كذا قال أشهد أن لا إله إلاالله وإنك محمد رسول الله والله ما كان معي أحد ولاسبقني إليك أحد فأسلم وفيه ما تقدم في ابيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لك الهجرة حتى تبلغ برك الغماد والذود من الابل ما بين الثلاث إلى العشر
والمتبادر من هذا السياق انه جاء بذلك الذود وتلك الجارية للفداء فعن له أن يسأل في الفداء من غير شيء فغيب ذلك الذود وتلك الجارية طمعا في أنه صلى الله عليه وسلم يجيبه لذلك لمكان أخته عنده ويحتمل أن العبارة فيها اختصار وحينئذ يكون الاصل في قوله صلى الله عليه وسلم فما جئت به المال الزائد على هذا الذي جئت به فيكون الذود والجارية بعض ما جاء به للفداء فقال ما جئت بشيء اي زائد على هذا الذي جئت به لانه يبعد أن يطلب الفداء من غير شيء فليتامل
وفي لفظ أنه لما جاء أبوها في فدائها دفعت إليه ابنته جويرية وأسلمت وحسن اسلامها فخطبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبيها فزوجه إياها واصدقها أربعمائة درهم
وفي الإمتاع يقال أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل صداقها عتق كل اسير من بني المصطلق ويقال جعل صداقها عتق أربعين من قومها ولايخفى أن مجيئ أبيها في فدائها وتزويجها للنبي صلى الله عليه وسلم مخالف لسياق ما تقدم أنه تزوجها وهم على الماء ويحتاج للجمع بين ما ذكروبين ما روي أنه ما لما رأى المسلمون أنه صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية قال في حق بني امصطلق أصها ر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقوا ما بايديهم منهم ط
وعبارة الإمتاع ولما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج الخبر إلى الناس وقد اقتسموا رجال بني المصطلق وملكوهم ووطئوا نسائهم فقالوا اصهار النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقوا ما بأيديهم من ذلك السبي
وعن جويرية رضي الله تعالى عنها قالت لما أعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/590)
وتزوجني والله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذين ارسلوهم وما شعرت إلا بجارية من بنات عمي تخبرني الخبر فحمدت الله سبحانه وتعالى
أقول وذكر بعضهم أن ليلة دخوله صلى الله عليه وسلم بها طلبتهم منه فوهبهم لها ويحتاج للجمع ويقال في الجمع بين ما تقدم من فدائهم وأطلاقهم من غير فداء بأنه يجوز أن يكون الفداء وقع لبعضهم قبل عتق جويرية والتزويه بها فلما تزوجها صلى الله عليه وسلم أطلق بعضهم والإعتاق وقع لبعضهم الآخرالباقي فالفداء وقع لبعضهم الآخر فإن السبي كان لأهل مائتي بيت ويؤيد ذلك قول بعضهم كان السبي منهم من من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير فداء ومنهم من افتدى ويؤيد ذلك ما يأتي في كلام عائشة رضي الله تعالى عنها أن الاعتاق كان لأهل مائة بيت أي يكون الفداء لاهل مائة بيت والإطلاق في الففداء لاهل المائة الاخرى ويكون مراد جويرية رضي الله تعالى عنها بقولها ما كلمته في قومي أي فيمن بقي مهم
ثم لايخفى ان مجيء ابيها او أخيها ومجيء وفدهم لفدائهم مخالف لما تقدم من انه أسرسائرهم الرجال والنساء والذرية ولم يفلت منهم احد ويبعد غياب هؤلاء خصوصا أباها الذي كان يجمع القوم فعليك ان تتنبه للجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها والله أعلم ثم بعد ذلك اسلم بنو المصطلق وبعدها بعامين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط لاخذ الصدقة أي وكان بينهم وبينه شحناء في الجاهلية فخرجوا للقائه وهم متقلدون السيوف فرحا وسرورا بقدومه فتوهم أنهم خرجوا لقتاله ففر راجعا وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ارتدوا فهم عليه الصلاة والسلام بقتالهم أي واكثر المسلمون ذكر غزوهم فعند ذلك قدم وفدهم وأخبروا بأنهم خرجوا إليه ليكرموه ويؤدوا ما عليهم من الصدقة
أي وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم خالد بن الوليد فأخبروه الخبر وعند إرساله قال له صلى الله عليه وسلم أرمقهم عند الصلاة فإن كان القوم تركوا الصلاة فشأنك بهم فدنا منهم عند غروب الشمس فكمن حيث يسمع الصلاة فإذا هو بالمؤذن قد قام حين غربت الشمس فأذن ثم اقام الصلاة فصلوا المغرب ثم لما غاب الشفق أذن مؤذنهم ثم اقام الصلاة فصلو العشاء ثم لما كان جوف الليل فإذا هم يتهجدون ثم عند طلوع الفجر أذن مؤذنهم وأقام الصلاة فصلوا فلما انصرفو اوأضاء النهار فإذا
____________________
(2/591)
هم بنواصي الخيل في ديارهم فقالوا ما هذا قيل خالد بن الوليد فقالوا يا خالد ما شأنك قال أنتم والله شاني أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له إنكم تركتم الصلاة وكفرتم بالله فجثوا يبكون وقالوا ما عاذ الله وهذا الوليد بيننا وبينه شحناء في الجاهلية وإنما خرجنا بالسيوف خشية أن يكافئنا بالذي كان بيننا وبينه فرد الخيل عنهم ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة } الآيتين
قال ابن عبد البر رحمه الله لاخلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله { إن جاءكم فاسق بنبأ } نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق لأخذ صدقاتهم أي ونزل فيه وفي علي بن ابي طالب كرم الله وجهه { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } أي فكان يدعى الفاسق وبعثه لأخذ صدقات بني المصطلق يرد قول من قال أنه ممن أسلم يوم الفتح وكان قد ناهز الحلم
أي ويرد ما روى بعضهم أنه قال لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصيانهم فيمسح على رءوسهم ويدعو لهم بالبركة فأتى بي إليه وأنا مضخ بالخلوق فلم يمسح على رأسي ولم يمنعه من ذلك إلا وجو الخلوق ويرد ذلك ايضا ما سيأتي أنه خرج هو واخوه عمارة ليردا أختها أم كلثوم عن الهجرة وكانت هجرتها في الهدنة هدنة الحديبية والوليد هذا كان أخا عثمان بن عفان لأمه ووالاه الكوفة أي وعزل عنها سعد بن أبي وقاص فلما قدم الوليد الكوفة على سعد رضي الله عنه قال له والله ما أدري أصرت كيسا بعدنا أم حمقنا بعدك فقال له لا تجزعن أبا اسحاق وإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون فقال سعد أراكم يعني أبا أمية ستجعلونها والله يعني الخلافة ملكا ملكا وعند ذلك قال الناس بئسما فعل عثمان رضي الله عنه عزل سعدا الهين اللين الورع المستجاب الدعوة وولى أخاه الخائن الفاسق كما تقدم
ولق الوليد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فقال له ما جاء بك فقال جئت أمير فقال له ابن معسود ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس وكان الوليد شاعرا ظريفا حليما شجاعا كريما شرب الخمر ليلة من أول الليل إلى الفجر فلما أذن المؤذن لصلاة الفجر
____________________
(2/592)
خرج إلى المسجد وصلى باهل الكوفة الصبح اربع ركعات وصار يقول في ركوعه وسجوده اشرب واسقني ثم قال في المحراب ثم سلم وقال هل اسزيدكم فقال له ابن مسعود لرضي الله عنه لا زادك الله خيرا ولا من بعثك إلينا وأخذ فرده خفه وضرببه وجه الوليد وحصبه الناس فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو مترنح وإلى ذلك يشير الحطيئة بقوله ** شهد الخطيئة يوم لقى ربه ** أن الوليج أحق بالعذر ** ** نادى وقد تمت صلاتهم ** أأزيدكم سكرا وما يدرى ** ولما شهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه استقدمه وأمربه فجلد أي أمر عليا كرم الله وجهه أن يقيم عليه الحد فجلده وقيل فقال علي كرم الله وجهه لأبن أخيه عبد الله بن جعفر رضي الله عنه أقم عليه الحد أي بعد أن أمر ابنه الحسن رضي الله تعالى عنه بذلك فامتنع فأخذ عبد الله رضي الله تعالى عنه السوط وجلده وعلي كرم الله وجهه يعد عليه حتى بلغ أربعين فقال لعبد الله أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين أبو بكر رضي الله تعالى عنه أربعين وجلد وعمر رضي الله عنه ثمانين وكل سنة وهذا أي مافعلته من جلد أربعين أحب إلى من جلد عمر ثمانين
هذا وفي البحاري ان عبد الله جلده ثمانين واجيب عنه بأن السوت كان له رأسان وحينئذ يكون قوله وكل سنة أي طريقه فاربعون طريقته صلى الله عليه وسلم وطريقة الصديق رضي الله تعالى عنه ولثمانون طريقة عمر رضي الله تعالى عنه رآه اجتهادا مع استشارته لبعض الصحابة لما رآها من كثرة شرب الناس للخمر
وبعد أن جلده وعزله عن الكوفة أعاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ولما اراد سعد أن يصعد المنبر قال لا أصعد عليه حتى تغسلوه من آثار الوليد الفاسق فإنه نجس فغسلوه كما تقدم
وإرسال الوليد بن عقبة لبني المصطلق كان ينبغي ان يذكر في وكذا إرسال السرايا وخالد رضي الله تعالى عنه لهم
قالت عائشة رضي الله تعالى عنها لاأعلم امرأة أعظم بركة على قومها من جويرية أعتق بتزويجها لرسول صلى الله عليه وسلم أهل مائة بيت أي ومن المعلوم أن هذا
____________________
(2/593)
كان قبل سبايا اوطاس الذين أطلقوا بسبب اخته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة على ما سيأتي في بعض الروايات وقيل في حقها ما عرفت امرأة هي أيمن على قومها منها
وذكرت جويرية رضي الله تعالى عنها أنها قبل قدومه صلى الله عليه وسلم بثلاث ليال رأت كأن القمريسير من يثرب حتى وقع في حجرها أي وعنها رضي الله تعالى عنها قالت فكرهت أن اخبربها احد من الناس فلما سبينا رجوت الرؤيا
قال وعنها رضي الله تعالى عنها قالت لما أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن على المريسع فأسمع ابي يقول أتانا مالا قبل لنا به فلبثت أرى من الناس والخيل والسلاح أصف من الكثرة فلما أن أسلمت وتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعنا حعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى فعلمت أنه رعب من الله تعالى يلقيه في قلوب المشركين أي وهذا مما يؤيد ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهم على الماء الذي هو المريسع وكان رجل مهم ممن أسلم وحسن أسلامه يقول لقد كنا نرى رجلا بيضا على خيل بلق ما كنا نراهم قبل ولابعد انتهى وهو يدل على أن الملائكة عليهم الصلاة والسلام كانت مددا لهم في هذه الغزوة
ولم يقتل في غزوة بني المصطلق من المسلمين إلا رجل واحد قتله رجل من الأنصار خطا يظنه من العدو والمقتول هشام بن صبابة رضي الله تعالى عنه
أقوال وهذا مجمل القول الحافظ الدمياطي رحمه الله في سيرته أنه لم يقتل من المسلمين إلا جل واحد فاعتراض صاحب الهدى عليه بأن هذا وهم لأنهم لم يكن بينهم قتال ليس في محله لأنه فهم أن الرجل قتله الكفار وقد علمت أنه إنما قتله شخص من الأنصار يظنه من العدو والله أعلم وقدم أخو هذا المقتول من مكة على رسول الله عليه وسلم مظهر الإسلام على رسول الله عليه وسلم مظهر الإسلام بدية أخيه فأخذها مائة من الأبل وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير كثير ثم عدا قاتل اخيه فقتله ثم خرج إلى مكة على رسول الله عليه وسلم مظهر الإسلام مردتد ويوم فتح مكة أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه فقتل في ذلك اليوم كما سيأتي
وما هنا هوالصحيح خلافا لما يأتي عن الاصل في فتح مكة أن قتل أخيه كان في غزوة ذي قرد ثم بعد انقضاءالحرب وهم على الماء اختصم أجير لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أي كان يقود له فرسه يقال له جهجاه رضي الله عنه مع رجل من حلفاء الخزرج قيل
____________________
(2/594)
حليف عمرو بن عمرو وقيل حليف عبد الله بن أبي سلول وهوسنان بن فروة رضي الله تعالى عنه أي فضرب أجير عمر رضي الله تعالى عنه حليف الخزرج فسال الدم وفي لفظ كسعة أي دفعة فنادى حليف الخزرج يا معشر الانصار أي وقيل قال يا للخزرج ونادى أجير عمر يا معشر المهاجرين وقيل قال يا لكنانة يا لقريش فأقبل جمع من الجيشين وشهروا السلاح حتى كاد أن تكون فتنة عظيمة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما بال دعوى الجاهلية فأخبر بالحال أي فقالوا رجل من المهاجرين ضرب رجل من الانصار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوها أي تلك الكلمة التي هي يا لفلان فإنها منتنة أي مذمومة لانها من دعوى الجاهلية وجاء من دعا دعوى الجاهلية كان من محشى جهنم أي مما يرمي بها فيها قيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن ام وإن صلى وزعم أنه مسلم قال وإن صام وان صلى وزعم أنه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم لينصرالرجل أخه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه ناصر أي له وإن كان مظلوما فلينصره أي يزيل ظلامته ثم كلمو اذلك المضروب فترك حقه فكسنت الفتنة وانطفت ثائرة الحرب
وجهجاه هذا روى عنه عطاء بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الكافر ياكل في سبعة امعاء والمؤمن يأكل في معى واحد وهو المراد في بهذا الحديث في كفره وإسلامه لأنه شرب حلاب سبع شياه قبل أن يسلم ثم اسلم فلم يستتم حلاب شاه واحدة اي وسيأتي نظير ذلك لثمامة الحنفي ونقل أبو عبيد ان الرجل الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المقالة هو أبو بصرة العقاري أي ولامانع أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك في حق الرجل المذكور ايضا فقد تكرر منه صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات لرجال ثلاث أكل كل واحد منهم في الكفر أكثر مما كل في الإسلام
قال ابن عبد البر رحمه الله وجهجاه هذا هو الذي تناول عصر الرسول صلى الله عليه وسلم من يد عثمان رضي الله تعالى عنه وهو يخطب فكسرها على ركبته فأخذته أكله في ركبته فمات منها هذا كلامه
وفي كلام السهيلي رحمه الله أنه انتزع تلك العصا من عثمان حين اخرج من المسجد ومنع من الصلاة فيه وكان هو أحد من المعينين عليه هذا الكلام
____________________
(2/595)
وقد يقال لا مخالفة بين كونه أخذ العصا منه وهو يخطب وبين كونه أخذها حين أخرج من المسجد لانه يجوز أن يكون أخرج من المسجد في أثناء الخطبة وأخذت العصا منه حينئذ
وعند تخاصم الرجلين غضب عبد الله بن ابي ابن سلول وكان عنده رهط من قومه من الخزرج من المنافقين وكان عندهم زيد بن ارقم رضي الله تعالى عنه وهو غلام حديث السن فقال عبد الله بن ابي لعنه الله والله ما رايت كاليوم مذلة اوقد فعلوها نافرونا أي غلبونا وكاثرونا في بلادنا أي وأنكرون ملتنا والله ما أعدنا أي ظننا يعني معاشر الأنصار وقريش وفي رواية وجلابيب قريش هؤلاء يعني معاشر المهاجرين إلا كما قال الأول اي الاقدمون في أمثالهم سمن كلبك يأكلك أي ويقولون أجع كلبك يتبعك والله لقد ظننت أني سأموت قبل أن اسمع هاتفا يهتف بما سمعت أما والله لأن رجعنا إلى لامجدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني الأعز نفسا وبالأذل النبي صلى الله عليه وسلم
وفي الاستيعاب ان عبد الله بن أبي قال ذلك في غزوة تبوك هذا كلامه وفيه نظرة ظاهر
والجلابيب جمع جلبيب وما يجلب من بلد إلى غيره يعني إغراب وقيل شبهوا بالجلابيب التي هي الأزر الغلاظ أو القليلة القيمة
ثم اقبل على من حضر من قومه فقال هذا ما فعلتم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو امسكتم عنهم ما بايديكم لتحول إلى غير داركم أي ثم لم ترضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا فقلتم دونه يعني النبي صلى الله عليه وسلم فأيتمتم أولادكم وقللتم وكثروا فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من عند محمد صلى الله عليه وسلم فسمع ذلك زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه على ما هو الصحيح وقيل سفيان بن تيم مفمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر وعنده عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه أي ونفر من المهاجرين والنصار
وفي البخاري عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه فذكرت ذلك لعمه أو لعمر فذكره النبي صلى الله عليه وسلم فجعاني فحدثته فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات وتغير وجهه وقال له يا غلام لعلك غضبت عليه قال
____________________
(2/596)
سمعته منه قال لعله أخطأ سمعك ولامه من حضر من الأنصار وقالوا عمدت إلى سيد قومك تقول عليه ما لم يقل
أي وفي البخاري فكذبني رسول الله وأصابنى هم لم يصبنى مثله قط وجلست في البيت أي الخباء فقال لي عمى ما أردت إلا أن كذبك رسول الله ومقتك فقال زيد والله لقد سمعت ما قال ولو سمعت هذه المقالة من أبي لنقلتها إلى رسول الله وإني لأرجو أن ينزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ما يصدق حديثي
أي وقيل إن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال لابن أبي لما قال أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل أنت والله الذليل المنقص في قومك ومحمد في عز من الرحمن وقوة من المسلمين فقال له ابن أبي لعنة الله اسكت فإنما كتب ألعب فعند تغير وجه رسول الله استأذنه عمر رضي الله عنه في أن يقتل ابن أبي والتمس منه أن يأمره غيره بقتله إذا لم يأذن له في ذلك
أي فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لما كان من أمر ابن أبي ما كان جئت رسول الله وهو في فيء شجرة أي ظلها عنده غليم أسود يغمز ظهره أي يكبسه فقلت يا رسول الله كأنك تشتكى ظهرك فقال تقحمت بي الناقة أي ألقتنى الليلة فقلت يا رسول الله ائذن لي أن أضرب عتق ابن أبي أو مر محمد بن مسلمة بقتله أي وفي رواية مر به عباد بن بشر فيلقتله فقال له رسول الله كيف يا عمر إذا اتحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه
وفي لفظ أن عمر رضي الله عنه قال له رسول الله إن كرهت أن يقتله مهاجري فأمر به أنصاريا فقال ترعد له أذن وأنف كثيرة بيثرب يعنى المدينة ولعل تسميته لها بذلك إن كان بعد النهى لبيان الجواز ويبعد أن يكون ذلك كان قبل النهى عن ذلك ولكن أذن بالرحيل وكان ذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها
أي وفي رواية لما شاع الخبر ولم يكن الناس حديث في ذلك اليوم أي الوقت إلا ذلك أذن بالرحيل وكانت ساعة لم يكن رسول الله يرحل فيها أي لشدة الحر فارتحل الناس وسار رسول الله فجاءه أسيد بن حضير
____________________
(2/597)
رضي الله عنه فحياه بتحية النبوة وسلم عليه أي قال السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وقال يا نبي الله لقد رحلت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها أي فإنه كان لا يرحل إلا إن برد الوقت فقال له رسول الله أما بلغك ما قال صاحبكم فقال أي صاحب يا رسول الله قال عبدالله بن أبي ابن سلول قال وما قال قال زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل قال فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت هو والله الذليل وأنت العزيز ثم قال يا رسول الله ارفق به فوالله لقد جاء الله بك وفي رواية لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه ما بقيت عليهم إلا خرزة واحدة عند يوشع اليهودي فإنه ليرى أنك استلبته ملكا وقد تقدم الاعتذار عنه بذلك في غير ما مرة
ثم سار رسول الله بالناس سيرا حثيثا أي صار يضرب راحلته بالسوط في مراقها أي مارق من جلد أسفل بطنها وسار يومهم ذلك وليلتهم وصدر ذلك اليوم الثاني حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياما وإنما فعل ذلك ليشتغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبدالله بن أبي ابن سلول
قال وذهب بعض الأنصار الذين سمعوا قول النبي ورده على الغلام إلى ابن أبي لعنه الله فقال له يا أبا الحباب إن كنت قلت ما نقل عنك فأخبر به النبي فليستغفر لك ولا تجحده فينزل فيك ما يكذبك وإن كنت لم تقله فائت رسول الله فاعتذر له واحلف له ما قتله فحلف بالله العظيم ما قال من ذلك شيئا ثم مشى إلى رسول الله فقال له رسول الله يا ابن أبي إن كانت سبقت منك مقالة فتب فجعل يحلف بالله ما قلت ما قال زيد وما تكلمت به انتهى
أي وفي لفظ أنه أرسل إلى ابن أبي فأتاه فقال له أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني عنك فقال والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك وإن زيدا لكاذب فقال من حضر رسول الله من الأنصار يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل أي وفي لفظ أنهم قالوا يا رسول الله شيخنا وكبرنا لا يصدق عليه كلام غلام
____________________
(2/598)
ثم أن عبد الله رضي الله تعالى عنه ولد عبد الله بن أبي بن سلول أي وكان اسمه الحباب فسماه صلى الله عليه وسلم يوم موت ابيه عبدالله لما بلغه مقالة عمر رضي الله تعالى عنه من قتل أبيه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه قد بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي يعني والده فيما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني أن أحمل لك راسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل بر بوالده مني إني أخشى أن تامر به غيري فيقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا
قال وفي رواية فمرني فوالله لأحملن إليك راسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا وأني لاخشى يا رسول الله أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل ابي يمشي في الناس فأقتله فأدخل النارر فعفوك أفضل ومنتك أعظم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اردت قتله ولا أمرت به ولنحسنن صحبته ما كان بين أظهرنا فقال عبد الله يا رسول الله إن أبي كانت أهل هذه البحيرة أي المدينة اتفقوا على ان يتوجوه عليهم فجاء الله عز وجل بك فوضعه ورفعا بك أي زاد في رواية ومعه قوم أي من المنافقين يطيفون به ويذكرونه أمورا قد غلب الله عليها وتقدم أنه وقع لعبد الله رضي الله تعالى عنه مثل ذلك مع أبيه
روى الدارقطني مسندا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على جماعة فيهم عبد الله بن أبي فسلم عليهم ثم ولى وفقال عبد الله لقد عثا ابن أبي كبشة في هذه البلاد فسمعها ابنه عبد الله فاستاذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ان يأتيه برأس أبيه فقال لا ولكن بر اباك ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بقرب المدينة هاجت ريح شديدة تخوفوها كادت تدفن الراكب أي خافوا أن تكون لأمر حدث في بالمدينة على أهلهم فإن مدة الموادعة التي كانت بينه صلى الله عليه وسلم وبين عيينة بن حصن كان ذلك حين انقضائها فخافوا على المدينة منه فقال صلى الله عليه وسلم ليس عليكم منه يعني من عيينه بن حصن بأس ما بالمدينة من نقب أي باب إلا وملك يحرسه وما كان ليدخلها اعدو حتى تاتوها ولكن تعصف هذه الريح لموت عظيم من الكفار وفي رواية لموت منافق وفي لفظ مات اليوم منافق عظيم النفاق في المدينة فكان كما قال عليه الصلاة والسلام مات في ذلك اليوم زيد بن رفاعة بن التابوت وكان كهفا للمنافقين
____________________
(2/599)
كان من عظماءيهود بني قينقاع وكان ممن أسلم ظاهرا وإلى ذلك أشار الإمام السبكى رحمه الله تعالى في تأئيته بقوله ** وقد عصفت ريح فأخبرت أنها ** لموت عظيم في اليهود بطيبه **
قال وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بموته فقد جاء أن عبادة بن الصامت قال لابن أبي يا ابا حباب مات خليلك قال اي خليل قال من موته فتح للإسلام وأهله قال من قال زيد بن رفاعة قال واويلاه من أخبرك يا أبا الوليد بموته قال قلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أنه مات هذه الساعة فحزن حزنا شديدا انتهى وذكر أهل المدينة ان هذه الريح وجدت في المدينة وأنه لما دفن عدو الله سكنت
أقول لكن في كلام ابن الجوزي رفاعة بن زيد بن التابوت وهو عم وقتادة بن النعمان قد ذكر عنه قتادة رضي الله تعالى عنه ما يدل على صحة إسلامه
أي وقد يقال جاز أن يكون أظهر ذلك لقتادة ليظن به ما ظنه من صحة إسلامه
قال ابن الجوزي ولهم رفاعة بن التابوت في الصحابة ذكره في الإصابة قال جاء ذكره في حديث مرسل كانوا في الجاهلية إذا أحرموا لم يأتوا بيتا من قبل بابه ولكن من قبل ظهره إلا الحمس فإنها كانت تأتي البيوت من أبوابها فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطا ثم خرج من بابه فاتبعه رجل يقال له رفاعة بن التابوت ولم يكن من الحمس فقالوا يا رسول الله نافق رفاعة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حملك على ما صنعت ولم تكن من الحمس قال فإن ديننا واحد فنزلت { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } وسيأتي نحو هذه القصة لقطبة بن عامر ولعلها وقعت لهما
وأما لحديث الذي أخرجه مسلم أن ريحا عظيما هبت فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنها هبت لموت منافق عظيم النفاق وهو رفاعة بن التابوت فهو آخر غير هذا فقد جاء من وجه آخر رافع بن التابو أي فذكر رفاعة بدل رافع من تصرف بعض الرواة
وذكر في الأصابة أن رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان رضي الله تعالى عنه لم يوصف بأنه ابن التابوت كما ذكره ابن الجوزى اي فوصفه بابن التابوت من تصرف بعض الرواة فليتأمل الله أعلم
____________________
(2/600)
وعن جابر رضى الله عنه قال كنا مع رسول الله عليه في سفر فهاجت ريح منتنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن ناسا من المنافقين اغتابوا ناسا من المؤمنين فلذلك هاجت هذه الريح ولم يعين جابر السفرة فيحتمل أن تكون هى هذه الغزوة وهو ظاهر سياقها فيها
ويحتمل أن تكون غيرها وفقدت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء من بين الإبل أى ليلا فجعل المسلمون يطلبونها من كل وجه فقال زيد بن الصلت وكان منافقا كما علمت من بني قينقاع وكان بمجمع من الأنصار نصار أين يذهب هؤلاء في كل وجه قالوا يطلبون ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضلت قال أ فلا يخبره الله بمكانها أ ي وفى لفظ كيف يدعى أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته ولا يخبره الذي يأ تيه بالوحى فأ نكر عليه القوم وقالوا قاتلك الله يا عدو الله نافقت وأرادوا قتله فعمدهاربا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متعوذا به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وذلك الرجل يسمع إ ن رجلا من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إلا يخبره الله بمكانها والله قد أخبرني بمكانها ولا يعلم الغيب إلا الله وإ نها في الشعب مقابلكم قد مسك زمامها بشجرة فاعمدوا نحوها فذهبوا فأ توا بها من حيث قال صلى الله عليه وسلم فقام ذلك الرجل سريعا إلى رفقائه فقالوا له حين دنا لاتدن منا فقال لهم أنشدكم الله هل أتى أحد منكم محمدا فأخبره خبرى قالوا لا والله ولا قمنا من مجلسنا فقال إني وجدت ما تكلمت به عنده فأشهد أن محمدا رسول الله كأنى لم أسلم إلا اليوم فقالوا له فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك فذهب إليه واعترف بذنبه واستغفر له قال ويقال إنه لم يزل فشلا أى جبانا حتى مات ووقع مثل هذا أى هبوب الريح وإضلال ناقته صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم فى غزوة تبوك
وأوقع صلى الله عليه وسلم الله السباق بين الإبل فسابق بلال رضى الله عنه على ناقته صلى الله عليه وسلم القصواء فسبقت غيرها من الإبل وسابق أبو سعيد الساعدى رضى الله عنه على فرسه صلى الله عليه وسلم الذى يقال له الظراب فسبق غيره من الخيل اه
أى وجاء أن ناقته صلى الله عليه وسلم العضباء كانت لا تسبق فجاء أعرابى على قعود فسبقها فشق ذلك على المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم الله حق على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه اه
____________________
(2/601)
أقول في الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة تسابق مع عائشة رضي الله عنها فتحزمت بقبائها وفعل كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استبقا فسبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها هذه بتلك التي كنت سبقتني يشير صلى الله عليه وسلم إلى أنه جاء إلى بيت ابي بكر رضي الله عنه فوجد مع عائشة شيئا فطلبه منها فأبت وسعت وسعى صلى الله عليه وسلم خلفها فسبقته
هذا وفي كلام ابن الجوزي عن عائشة رضي الله عنهاأنها قالت خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم فقال للناس تقدموا فتقدموا ثم قال تعالى حتى أسابقك فسابقته فسبقته فسكت عني حتى حملت اللحم وخرجت معه في سفره اخرى فقال للناس تقدموا فتقدموا ثم قال لي تعالى حتى أسابقك فسابقته فسبقني فجعل يضحك وهو يقول هذه بتلك فليتأمل
قال ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وادي العقيق تقدم عبد الله رضي الله عنه ابن عبد الله بن ابى سلول وجعل يتصفح الركاب حتى مر أبوه فأناخ به ثم وطئ عل يد راحلته فقال أبوه ما تريد يالكع فقال والله لا تدخل حتى تقر أنك الذليل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز حتى ياذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعلم ايضا الأعز من الأذل أنت او رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار يقول لأنا أزل من الصبيان لأنا ازل من النساء حتى جا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال خل عن أبيك فخلى عنه
أي وفي لفظ أنه لما جاء قال له ابنه وراءك قال مالك ويلك قال والله لا تدخلها يعني المدينة حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلم اليوم من الأعز من الأذل وفي لفظ حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وانت الأذل فقال له أنت من بين الناس فقال نعم أنا من بين الناس وانصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكا له ما صنع ابنه رضي الله عنه فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى ابنه أن خل عنه وفي لفظ قال له ابنه رضي الله عنه لئن لم تقر لله ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك فقال ويحك افاعل أنت قال نعم ولما رأى منه الجد قال أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبنه جزاك الله عن رسوله وعن المؤمنين خيرا وانزل الله تعالى سورة المنافقين قال زيد بن ارقم رضي الله عنه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/602)
تأخذه البرحاء ويعرق جبينه الشريف وتثقل يدا راحلته فقلت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورجوت أن ينزل الله تصديقي فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بأذني وأنا على راحلتي يرفعها إلى السماء حتى ارتفعت عن مقعدي وهو يقول وعت اذنك يا غلام وصدق الله حديثك وكذب المنافقين وفي رواية هذا الذي أوفى الله بأذنه ونزل { وتعيها أذن واعية } فكان يقال لزيد بن أرقم رضي الله عنه ذو الأذن الواعية
وذكر بعض الرافضة أن قوله تعالى وتعيها أذن واعية جاء في الحديث أنها نزلت في علي كرم الله وجهه قال الإمام ابن تيمية وهذا حديث موضوع باتفاق اهل العلم أي وعلى تقدير صحته لا مانع من التعدد
وصار قوم عبد الله بن أبي عند نزول سورة المنافقين يعاتبونه ويعنفونه ولما بلغه صلى الله عليه وسلم أي بغض قومه له ومعاتبتهم له قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه كيف ترى يا عمر إني والله لو قتلته يوم قلت لأرعدت له أنوف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته فقال عمر رضي الله عنه قد والله علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري آه
وجاء أنه لما نزلت سورة المنافقين وفيها تكذيب ابن أبي قال له أصحابه اذهب إلى رسول الله صى يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال أمرتموني أن أومن فآمنت وأمرتموني ان أعطي زكاة أموالي فأعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم } الآية
وفي تفسير القرطبي عند قول تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر } قال السدى نزلت في عبد الله ابن أبي جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له بالله يارسول الله أما أبقيت فضله من شرابك أسقها أبي لعل الله يطهر بها قلبه فأفضل له فأتاه بها فقال له عبد الله ما هذا فقال هي فضلة من شراب النبي صلى الله عليه وسلم جئتك بها تشربها لعل الله يطهر قلبك بها فقال له أبوه فهلا جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال
____________________
(2/603)
يا رسول الله بالله أما أذنت لي في قتل أبي فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل ترفق به وتحسن إليه
وقد جاء أن ابنه رضي الله عنه قال يا رسول الله ذرني أسقي والدي من وضوئك لعل قلبه أن يلين فتوضأ صلى الله عليه وسلم وأعطاه فذهب به إلى أبيه فسقاه وقال له هل تدري ما سقيتك قال نعم سقيتني بول أمك قال لا والله لكن سقيتك بول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة هلال رمضان فكانت غيبته ثمانية وعشرين ليلة
قال وفي هذه الغزوة جاءت امرأة بابن لها وقالت يا رسول الله هذا ابني غلبني عليه الشيطان ففتح صلى الله عليه وسلم فم الولد وبزق فيه وقال اخسأ عدو الله أنا رسول الله قال ذلك ثلاثا ثم قال للمرأة شأنك بابنك لن يعود إليه شيء مما كان يصيبه
وفي هذه العزوة جاء شخص بثلاث بيضات له صلى الله عليه وسلم من بيض النعام فقال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله عنه دونك يا جابر فاعمل هذه البيضات قال جابر فعملتهن ثم جئت بهن فجعلنا نطلب خبزا فلم نجد فجعل كل من رسول اله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأكل من ذلك بغير خبز حتى انتهى كل إلى حاجته والبيض كما هو
وفي الغزوة جاء جمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفل أي يختال في مشيه وصوت فقال صلى الله عليه وسلم تدرون ما يقول هذا الجمل هذا يستعيذني على سيده يقول إنه كان يحرث عليه وإنه أراد أن ينحره اذهب يا جابر إلى صاحبه فأت به فقلت لا أعرفه قال سيدلك فخرج بين يدي حتى وقف على صاحبه فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في شأن الجمل 1 هـ
أقول قد تقدمت هذه الأمور الثلاثة التي هي قصة ابن المراة وقصة البيض وقصة الجمل في ذات الرقاع والتعدد فيهما حتى لأجل هذه الأمور سميت كل منهما بغزة الأعاجيب بعيد والذي أراه أنه اشتباه من بعض الرواة فليتأمل
وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك أي الكذب على عائشة الصديقة المبراة المطهرة رضي الله عنها قالت لما دنونا من المدينة قافلين أي راجعين أذن ليلة بالرحيل فقمت
____________________
(2/604)
وذهبت لأقضي حاجتي حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع أظفار كذا بالألف عند البخاري وفي رواية ظفار بغير ألف قال القرطبي ومن قيده بالألف فقد أخطأ أي ولعل المراد خالف الرواية وفي لفظ ظفاري أي بياء النسبة وفي لفظ الجزع الظفري
وقد يقال لا مانع من وقوع هذه الألفاظ من الصديقة في أوقات مختلفة قال بعضهم الجزع بفتح الجيم وإسكان الزاي وآخره عين مهملة خرز وظفار بالظاء المعجمة كوبار مبنية على الكسر قرية من قرى اليمن كان ثمنه يسيرا وفي كلام بعضهم كان يساوي اثني عشر درهما قد انقطع فالتمست عقدي أي ذهبت إلى التماسة في المحل الذي قضيت فيه حاجتي وحبسني التماسه اقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي هو بتخفيف الحاء أي يجعلون هودجها على الرحل فاحتملوا ودجى فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون اني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لفلة اكلهن أي لأن السمن وكثرة اللحم غالبا تنشأ عن كثرة الأكل وساورا أي وعن عائشة رضي الله عنها أن الذي كان يرحل هودجها ويقود بعيرها أبو مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رجلا صالحا ولا يخالف هذا قولها وأقبل الرهط إلى آخره وقولها في بعض الروايات ولم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه لأنه يجوز أن جماعة كانوا يعاونون أبا مويهبة في ذلك فوجدت عقدي فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب وأقمت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان السلمى خلف الجيش أي لأنه كان على ساقة الجيش يتخلف عن الجيش ليلتقط ما يسقط من المتاع وقيل كان ثقيل النوم لا يستيقظ حتى يرتحل الناس
وقد جاء أن زوجته شكته إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له إنه لا يصلي الصبح فقال يا رسول الله إني امرؤ ثقيل النوم لا أستيقظ حتى تطلع الشمس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظت فصل أي وفي رواية شكته إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يضربها فقال إنها تصوم بغير إذني فقال لها لا تصومي إلا بإذنه قالت إنه ينام عن الصلاة أي صلاة الصبح قال إنه شيء ابتلاه الله به فإذا استيقظ فليصل وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم من حاله أنه ينام عن الصلاة
____________________
(2/605)
الصبح قالت إنه إذا سمعني أقرأ يضربني فقال إن معي سورة ليس معي غيرها هي تقرؤها قال لا تضربها فإن هذه السورة لو قسمت في الناس لو سعتهم أي وهذا الجواب منه صلى الله عليه وسلم يدل على أن صفوان ظن أن امرأته إذا قرأت تلك السورة شاركته في ثوابها فليتأمل
فأدلج أي سار ليلا فأصبح عند منزلي أي على خلاف عادته فرأى سوادا أي شخص إنسان نائم فأتاني فعرفني فاستيقظت باسترجاعه أي بقوله إنا لله وإنا إليه راجعون أي لأن تخلف أم المؤمنين عن الرفقة في مضيعة مصيبة أي مصيبة قالت فخمرت وجهي بجلبابي وهو ثوب أقصر من الخمار ويقال له المقنعة تغطي بها المرأة رأسها أي لأن ذلك كان بعد نزول لآية الحجاب أي { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي } الآية أي لأنه تقدم أن ذلك كان في سنة ثلاث على الراجح عند الأصل
وفي الإمتاع وذكر بعض علماء الأخبار ان تزوجه صلى الله عليه وسلم زينب التي نزلت آية الحجاب بسببها كان في ذي القعدة سنة خمس ولا يخفى أن هذا القول ينافيه ما يأتي عن عائشة رضي الله عنها من قولها إن زينب هي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو صريح في أنها كانت زوجة له صلى الله عليه وسلم قبل هذه العزوة بناء على أن هذه الغزوة كانت سنة ست
قالت والله ما كلمني وفي لفظ والله ما يكلمني كلمة وما سمعت منه كلمة أي فلاكلمها ولا كلم نفسه قيل استعمل الصمت أدبا لهول هذا الأمر الذي هو فيه فلم يقع منه غير الاسترجاع حين أناخ ناقته فوطئ على يدها فركبتها وفي رواية ثم قرب البعير فقال اركبي أي وفي لفظ قال أمه قومي فاركبي واخذ براس البعير وجاء أنه لما ركبت قالت حسبي الله ونعم الوكيل
وفي سيرة ابن هشام انه لما قال لها ما خلفك يرحمك الله قالت فما كلمته أي ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات الثلاث وما قبلها على تقدير صحتها
وقد يقال إنها لم تسمع منه غير استرجاعه ولا كلمها ولا تكلم قبل أن يقرب إليها البعير كما علمت فلما قرب البعير إليها قال لها يا أمه قومي فاركبي لأن إناخة البعير وتقريبه ليس صريحا في الإذن لها في الركوب فأتى بذلك اللفظ الدال على مزيدا من احترامها وإجلالها وتعظيمها وبعض الرواة اقتصر على قولها اركبي وبعد ان ركبت أي
____________________
(2/606)
وحصلت الطمأنينة واندفعت الريبة قال لها متعجبا لا مستفهما ما خلفك قالت فانطلق يقود بي الراحلة أتينا الجيش بعد ما نزلوا وذلك في نحر الظهيرة أي وسطها وهو بلوغ الشمس منتهاها من الإرتفاع
وبهذه الواقعة استدل فقهاؤنا على أنه يجوز الخلوة بالمرأة الأجنبية إذا وجدها منقطعة ببرية أو نحوها بل يجب استصحابها إذا خاف عليها لو تركها
هذا وفي الخصائص الصغرى وفي معاني الآثار للطحاوي رحمه الله قال أبو حنيفة كان الناس لعائشة رضي الله عنها محرما فمع أيهم سافرت فقد سافرت مع محرم وليس غيرها من النساء كذلك
أي وقوله وليس غيرها من النساء كذلك يشمل بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وحينئذ فليتأمل الفرق بينها وبين بقية أمهات المؤمنين فيما ذكر وفيما سيأتي عن بعضهم أن من قذف عائشة يقتل ويحد في غيرها من أزواجه صلى الله عليه وسلم حدين
قالت عائشة رضي الله عنها فلما نزلنا هلك من هلك بقول البهتان والإفتراء والذي تولى كبره أي معظمه عبد الله بن أبي ابن سلول أي فإنه كان أول من أشاعه في العسكر أي فإنه كان ينزل مع جماعة المنافقين مبتعدين من الناس فمرت عليهم فقال من هذه قالوا عائشة وصفوان فقال فجربها رب الكعبة وفي لفظ ما برئت منه وما برئ منها وفي لفظ والله ما نجت منه ولا نجا منها وصار يقول امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم أشاع ذلك في المدينة بعد دخولهم له لشدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي والذي في البخاري كان يتحدث به عنده فيقره ويستمعه ويستوشيه أي يستخرجه بالبحث عنه
وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون هو أول من أشاعه عند دخول المدينة ثم صار يستخرجه بالبحث عنه ليكثر إشاعته قالت فقدمنا المدينة فاشتكيت أي مرضت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك أي ووصل الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أبوي ولا أشعر بشيء من ذلك وكان يريبني أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي أي حين أمرض واللطف بضم اللام وسكون الطاء وقيل بفتح اللام والطاء وهو من
____________________
(2/607)
الإنسان الرفق ومن الله التوفيق إنما يدخل على فيسلم أي وعندي أمي تمرضني ثم يقول كيف تيكم أي لا يزيد على ذلك ثم ينصرف فذاك الذي يريبني حتى خرجت بعد ما نقهت بكسرالقاف وفتحها أي أول ما افقت من المرض فخرجت معي ام مسطح وهي بنت خالة أبي بكر أي وما في لفظ وكان مسطح ابن خالة أبي بكر هو عل ضرب من التجوز والمسامحة وكان مسطح يتيما في حجر أبي بكر وكان فقيرا ينفق عليه أبو بكر قالت وخروجنا كان إلى المحل الذي تخرج إليه النساء ليلا أي لقضاء حاجة الإنسان وذلك قبل أن تتخذ الكنف أي فإن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن نحو المنصع وهو محل متسع قالت فلما فرغنا من شأننا وأقبلت عثرت أم مسطح في مرطها أي إزارها فقالت تعس مسطح بفتح العين وكسرها هلك مسطح تعني ولدها ومسطح في الأصل عمود الخيمة قلت لها بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا قالت يا هنتاه بفتح الهاء الأولى وسكون النون وضم الهاء الثانية أي يا هذه أو لم تسمعي ما قال قلت وما قال فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي أي عاودني المرض وازددت عليه أي وفي لفظ مخرن مغشيا عليها
وفي رواية خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح قد حملت السطل وفيه ماء فعثرت ووقع السطل منها فقالت تعس مسطح فقلت أي أم تسبين ابنك فسكتت ثم عثرت الثانية فقالت تعس مسطح فقلت أي أم تسبين ابنك ثم عثرت الثالثة فقالت تعس مسطح فنهرتها فقالت والله م أشبه إلا فيك فقلت في أي شأني فبقرت أي كشفت لي الحديث فقلت وقد كان هذا قالت نعم فأخذتني حمى نافضة ورجعت إلى بيتي فلما رجعت إلى بيتي مكثت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ إلى دمع ولا اكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي ودخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعد أن سلم كيف تيكم فقلت أتأذن لي أن آتي بيت أبوي وأنا أريد أن اتثبت الخير من قبلهما أي لأن أمها فارقتها لما نفهت من المرض وذهبت إلى بيتها فلا ينافي ما سبق من قولها وعندي أمي تمرضني قالت فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبوي أي وأرسل معي الغلام فدخلت الدار فوجدت أم رومان في أسفل
____________________
(2/608)
وأبا بكر فوق يقرأ فقالت أمي ما جاء بك فأخبرتها فذهابها إلى أبويها كما علمت كان بعد أن صحت من المرض وبعد إخبار أم مسطح لها بالقصة
والذي في السيرة الهشامية يفيد أنه كان قبل ذلك وهو أنها رضي الله عنها قالت كان صلى الله عليه وسلم كلما يدخل يقول كيف تيكم لا يزيد على ذلك حتى وجدته في نفسي فقلت يا رسول الله حين رأيت ما رأيت من جفائه لو أذنت لي قال لا عليك قالت فانتقلت إلى امي تمرضني ولا علم لي بشيء مما كان حتى نفهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الأعاجم أي بيوت الأخلية نعافها ونكرهها إنما نذهب في فسح المدينة فخرجت ليلة ومعي أم مسطح بنت خالة أبي بكر إذ عثرت في مرطها فقالت تعس مسطح قلت بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين وقد شهد بدرا قالت أو ما بلغك الخبر يا ابنة ابى بكر قلت وما الخبر فأخبرتني بالذي كان من قول أهل الإفك قلت أو قد كان هذا قالت نعم والله لقد كان فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي ورجعت فوالله ما وزلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي فليتأمل الجمع بين ما في السيرة الهشامية وما في غيرها على تقدير صحتهما
قالت وقلت لأمي يغفر الله لك تحدث الناس بما تحدثوا به لا تذكرين لي من ذلك شيئا الحديث وفي رواية فقلت لأمي يا أماه ما يتحدث الناس وفي لفظ قلت لأمي يغفر الله لك تحث الناس بما تحدثوا الآ تذكرين لي من ذلك شيئا قالت يا بنية هوني عليك وفي لفظ خفضي عليك الشأن فوالله لقلما ما كانت امراة قط وضيئة أي جميلة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها أي القول في تنقيصها
وفيه أن ضرائرها أمهات المؤمنين لم يكن السبب في إشاعة ذلك ولم ينقصها به إلا أن يقال ظنت أمها ذلك على ما هو العادة في ذلك وعند ذلك قالت فقلت سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا أي وقلت قد علم به أبي قالت نعم قلت ورسول الله قالت نعم فاستعبرت وبكيت فسمع أبو بكر صوتي فنزل فقال لأمي ما شأنها فقالت بلغها الذي ذكر من شأنها فقاضت عيناه فبكيت تلك الليلة حت اصبحت لا يرفأ لي دمع أي يرتفع ولا اكتحلت بنوم في الليلة الثانية كذلك ولما أصبحت أصبح أبواي عندي يظنان أن البكاء فالق كبدي فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي أي وهما
____________________
(2/609)
يبكيان وأهل الدار يبكون فاستأذنت على امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي وسمعت من بعض الشيوخ أن هرة كانت بالبيت جالسة تبكي أيضا فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل وقد لبث صلى الله عليه وسلم شهرا لا يوحى إليه في شأني فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تعالى تاب الله عليه
قال بعضهم دعاها إلى الإعتراف ولم يأمرها بالستر أي مع أنه المطلوب ممن أتى ذنبا لم يطلع عليه
وفي لفظ قال يا عائشة إنه قد كان ما بلغك من قول الناس فاتق الله فإن كنت قارفت أي اكتسبت سوءا مما يقول الناس فتوبي إلى الله تعالى فإن الله تعالى يقبل التوبة عن عبادة قالت فلما قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي أي ارتفع حتى ما أحسن منه بقطرة فقلت لأبي أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال قال فوالله لا أدري ما قول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لأمي أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي لفظ قلت لأبوي ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا والله لا ندري بماذا نجيبه فقلت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم فلئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم إني بريئة لا تصدقوني بذلك ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني فوالله لا أجد لي ولكم وفي لفظ لا أجد لي مثلا إلا أقول أبى يوسف عليهما السلام أي والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه إذ يقول { فصبر جميل والله المستعان }
أي وفي رواية كما في البخاري مثل ومثلكم كيعقوب وبنيه { والله المستعان على ما تصفون } وفي لفظ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وبذلك أستدل على جواز ضرب المثل من القرآن أيضا ثم تحولت فاضحجعت على فراشي ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى وفي لفظ قرآنا يقرأ به في المسجد ويصلي به ولشأني في نفسي
____________________
(2/610)
كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى وكنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في النوم يبرئني الله بها أي وعند ذلك قال ابو بكر رضي الله عنه ما أعلم أهل بيت من العرب دخل عليهم ما دخل علي والله ما قيل لنا هذا في الجاهلية حيث لا يعبد الله فيقال لنا في الإسلام وأقبل على عائشة مغضبا فأحذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يأخذه عند نزول الوحي أي من شدة الكرب فسجى أي غطى بثوبه ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه وفي لفظ قالت عائشة رضي الله عنها فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فوالله ما فزعت لأني قد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي وأما ابواي فوالذي نفس عائشة بيده ما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وأخبر بما أخبر حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا أي خوفا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس فلما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سرى عنه وهو يضحك وإنه لينحدر منه العرق كالجمان وهي حبوب مد حرجة تجعل من الفضة أمثال اللؤلؤ فجعل يمسح العرق عن وجهه الكريم فكان أول كلمة تكلم بها يا عائشة أما إن الله قد براك فقالت أمي قومي إليه صلى الله عليه وسلم فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله وفي لفظ قال أبشري يا عائشة فقد أنزل الله تعالى براءتك قلت نحمد الله لا نحمد أحدا قالت عائشة رضي الله عنها نزلت تلك الآيات في يوم شات قالت وتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم درعي فقلت بيده هكذا أي أدفع يده عن درعي فأخذ أبو بكر النعل ليعلوني بها فمنعته فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له أقسمت عليك لا تفعل وفي رواية لما أنزل الله براءتها قام إليها أبو بكر رضي الله عنه فقبل رأسها فقالت له هلا كنت عذرتني فقال أي بينة أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت بما لا أعلم ولا مخالفة بين هذه الرواية وما قبلها لجواز أن يكون ما قبلها بعدها وأنزل الله تعالى إن الذين جاءوا بالإفك الآيات العشر أي وفي تفسير البيضاوي الثمانية عشر
قال السهيلي وكان نزل براءة عائشة رضي الله عنها بعد قدومهم المدينة أي من الغزوة المذكورة لسبع وثلاثين ليلة في قول بعض المفسرين فمن نشبها رضي الله عنها إلى الزنا كغلاة الرافضة كان كافرا لأن في ذلك تكذيبا للنصوص القرآنية ومكذبها كافر
وفي حياة الحيوان عن عائشة رضي الله عنها لما تكلم الناس في الإفك رأيت في منامي
____________________
(2/611)
فتى فقال لي مالك قلت حزينة مما ذكر الناس فقال ادعي بهذه يفرج الله عنك قلت وما هي قال قول يا سابغ النعم ويا دافع النقم ويا فارج الغمم ويا كاشف الظلم ويا أعدل من حكم ويا حسيب من ظلم ويا أول بلا بداية ويا آخر بلا نهاية اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا قالت فقلت ذلك فانتبهت وقد أنزل الله فرجى
قال بعضهم برأ الله تعالى أربعة بأربعة برأ يوسف عليه السلام بشاهد من أهل زليخة وبرأ موسى عليه السلام من قول اليهود فيه إن له ادرة بالحجر الذي فر بثوبه وبرأ مريم بإنطاق ولدها وبرأ عائشة بهذه الآيات
وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق على مسطح لقرابته منه أي كما تقدم ولفقره فحلف لا ينفق عليه أي فإنه قال والله لاأنفق على مسطح أبدا ولا انفعه بنفع أبدا بعد ما قال لعائشة وأدخل علينا
وفي لفظ أخرجه من منزله وقال له لا وصلتك بدرهم أبدا ولا عطفت عليك بخير أبدا فأنزل الله تعالى { ولا يأتل أولوا الفضل } أي الفضيلة والإفضال منكم والسعة أي في الرزق أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم وعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه أما تحب أن يغفر الله لك قال أبو بكر رضي الله عنه والله إني لأحب أن يغفر لي فرجع إلى مسطح بالنفقة التي كان ينفق عليه وقال والله إني لا انزعها عنه أبدا
وفي معجم الطبراني الكبير والنسائي أنه أضعف له في النفقة التي كان يعطيه إياها قبل القذف أي أعطاه ضعف ما كان يعطيه قبل ذلك أي وكفر عن يمينه
وبهذا وبما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم من حلف علي يمين ورأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه
استدل فقهاؤنا على أن الأفضل في حق من حلف على ترك مندوب أو فعل مكروه أن يحنث ويكفر عن يمينه
وهنا لطيفة وهي أن ابن المقرى رحمه الله منع عن ولده النفقة تاديبا له على أمر وقع منه فكتب إلى والده رحمه الله تعالى هذه الأبيات
____________________
(2/612)
** لا تقطعن عادة بر ولا تجعل عقاب المرء في رزقه ** ** فان أمر الإفك من مسطح يحط قدر النجم من أفقه ** ** وقد جرى منه الذي قد جرى وعوتب الصديق في حقه ** فكتب إليه والده رحمه الله تعالى هذه الأبيات ** قد يمنع المضطر من ميتة إذا عصى بالسير في طرقه ** ** لأنه يقوى على توبة تكون أيصالا إلى رزقه ** ** لولم يتب مسطح من ذنبه ما عوتب الصديق في حقه ** ووصف الله تعالى الصديق بأولى الفضل موافق لوصفه صلى الله عليه وسلم له بذلك فقد جاء أن عليا كرم الله وجهه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه جالس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنحى أبو بكر عن مكانه وأجلس عليا كرم الله وجهه بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فتهلل وجه الرسول صلى الله عليه وسلم فرحا وسرورا وقال لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أولو الفضل
وعنها رضي الله عنها أنها قالت لما استلبث الوحي عنه صلى الله عليه وسلم أي أبطأ عليه ولم ينزل استشار الصحابة فقال له عمر رضي الله عنه من زوجها لك يا رسول الله قال الله تعالى قال أفتظن أن الله دلس عليك فيها سبحانك هذا بهتان عظيم فنزلت ودعا على بن أبي طالب كرم الله وجهه وأسامة بن زيد رضي الله عنهما ليستأمرهما في فراق أهله أي تعنى نفسها فأما أسامة بن زيد فقال أهلك أي الزم أهلك يا رسول الله ولا نعلم إلا خيرا وأما علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وإنك لتقدر أن تستخلف وفي لفظ قد أحل الله لك فطلقها وانكح غيرها وإن تسأل الجارية تصدقك يعني بريرة رضي الله عنها أي لأنها كانت تخدم عائشة إما قبل شرائها لها أو بعده وقبل عتقهالها كان بعد الفتح فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك قالت بريرة والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمرا أغمصه بالغين المعجمة والصاد المهملة بينهما ميم مكسورة أي أعيبه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن وهي الدابة التي تألف البيوت ولا تخرج للمرعى وهي هنا الشاة فتأكله
____________________
(2/613)
وفي لفظ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فسألها فقام إليها علي كرم الله وجهه فضربها ضربا شديدا وجعل يقول لها أصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول والله ما أعلم إلا خيرا وما كنت أعيب على عائشة شيئا إلا أني كنت أعجن عجيني فآمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتي الشاة فتأكله أي وضربها كما قال السهيلي ولم تستوجب ضربا ولا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربها لأنه اتهمها في أنها خانت الله ورسوله فكتمت من الحديث ما لا يسعها كتمه هذا كلامه
والذي في البخاري وانتهرها بعض الصحابة فقال أصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت سبحان الله والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصانع عل تبر الذهب الأحمر
وفي الإمتاع جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لبريرة وسألها فقالت هي اطيب من طيب الذهب والله أعلم عليها إلا خيرا والله يا رسول الله لئن كانت على غير ذلك ليخبرك الله بذلك
أي برير هذه روى عنها عبد الملك بن مروان فقد ذكر أنه قال كنت أجالس بريرة رضي الله عنها بالمدينة قبل أن آني إلى هذا الأمر يعني الخلافة فكانت تقول لي يا عبد الملك إني أرى فيك خصالا وإنك لخليق أن تلي هذا الأمر يعني الخلافة فإن وليته فاحذر الدماء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الرجل ليدفع عن باب الجنة بعد أن ينظر إليها على محجمة من دم يريقه من مسلم بغير حق
قالت عائشة رضي الله عنها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش أم المؤمنين عن أمري يقول ماذا علمت أو رأيت فتقول يا رسول الله أحمى سمعي وبصري أي أصون سمعى من أقول سمعت ولم أسمع وأصون بصري من أن أقول أبصرت ولم أبصر ما علمت إلاخيرا أي وفي رواية حاشا سمعي وبصري ما علمت إلا خيرا والله ما أكملها وإني لمهاجرتها وما كنت أقول إلا الحق قالت عائشة وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي لفظ تناصيني أي تعادلني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في المنزلة والمحبة عنده صلى الله عليه وسلم فعصمها الله تعالى أي ولهذا جعلها في النور أفضل نسائه صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/614)
بعد عائشة وخديجة حيث قال والذي يظهر أن أفضلهن أي زوجاته صلى الله عليه وسلم بعد خديجة وعائشة زينب بنت جحش
وقالت عائشة رضي الله عنها في وصفها لم أر أمرأة قط خيرا من زينب في الدين وأتقى لله وأصدق حديثا وأوصل للرحم واعظم صدقة وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي يتقرب به إلى الله ما عدا سورة أي حدة تسرع فيها ألفيئة أي ترجع عنها سريعا قالت عائشة رضي الله عنها وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عند استلباث الوحي وتأخره في الناس وخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس ما بال رجال يؤذوني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق وفي رواية فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول فقال وهو على المنبر من يعذرني أن ينصفني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا يعني صفوان ما علمت عليه إلاخيرا أي وزاد في رواية ولا يدخل بيتي وفي لفظ بيتا من بيوتي إلا وأنا حاضر ولا غبت في سفر إلا غاب معي يقولون عليه غير الحق فقام سعد بن معاذ أي سيد الأوس فقال يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخرزج أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وقد احتملته الحمية وفي لفظ أجهلته الحمية وكان قبل ذلك رجلا صالحا أي لما ذكر سعد بن معاذ الحزرج الذين هم قوم سعد بن عبادة غضب سعد بن عبادة لأجلهم وحملته الحمية لهم على أن يجهل أي قال قول الجهل فقال لسعد بن معاذ كذبت لعمر الله لاتقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ كما تقدم فقال لسعد ابن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه وأنفك راغم فانك منافق تجادل عن المنافقين أي والمراد بكونه منافقا انه يفعل فعل المنافقين ومن ثم لم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك إن كان سمعه فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا لأنه كان بين الحيين قبل الإسلام مشاحنة ومحاربة كما تقدم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا قالت وأنا لا أعلم بشي من ذلك
أقول فيه أن سعد بن معاذ لم يقل إنه كان من الخزرج نقتله بل قال نفعل فيه ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحسن رد سعد بن عبادة عليه بما ذكر
____________________
(2/615)
ثم رأيت بعضهم ذكر أن الأظهر عندي أن ابن عبادة لم يقل ذلك حمية لقومه وإنما أراد الانكار على ابن معاذ في كونه يقتل شخصا من قومه الذين هم الأوس مع أنه يظهر الإسلام لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل من يظهر الإسلام فكأنه قال لا تقل ما لا تفعل ولا تقدر على فعله حيث لم يأمرك بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وإنما انتصر أسيد بن حضير لسعد بن معاذ نصرة للنبي صلى الله عليه وسلم في مثل الحالة العظيمة التي طلب النبي صلى الله عليه وسلم فيها من يعذره من ذلك القائل وإنكاره على سعد ابن عبادة إنما هو إنكار ظاهر لفظه وإن كان لباطنه مخلص حسن وكم من لفظ ينكر إطلاقه على قائله وإن كان في الباطن له مخلص هذا كلامه
ثم رأيت في السيرة الهشامية أن المتكلم أسيد بن حضير وأنه قال يا رسول الله إن يكونوا من الأوس نكفيكهم وإن يكونوا من إخواننا الخرزج فمرنا أمرك فوالله إنهم لأهل لأن نضرب أعناقهم فقام سعد بن عبادة فقال كذبت لعمر الله والله ما تضرب أعناقهم أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخرزج ولو كانوا من قومك يعني الأوس ما قلت هذا أي لأن عبد الله بن أبي ابن سلول من الخزرج وكذا حسان بن ثابت رضي الله عنه بناء على أنه كان من أصحاب الإفك
وفي البخاري أن سعد بن معاذ قال ائذن لي يا رسول الله أن اضرب أعناقهم فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان من رهط ذلك الرجل أي من الخزرج فقال كذبت أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم وعلى هذه الرواية فلا إشكال
وقول البخاري وكانت أم حسان إلى آخره يشعر بأن حسان لم يكن من الخزرج وهو يخالف ما تقدم وما سيأتي أنه من الخزرج إلى أن يقال وصفه بذلك على المسامحة لكون أمه منهم فليتأمل ولا يخفى أن ذكر المنبر يخالف ما في الأصل من أن اتخاذ المنبر كان في السنة الثامنة وقصة الإفك كانت في السنة الخامسة أو السادسة وفي النور المراد بالمنبر شيء مرتفع قال وإلا فالمنبر إنما اتخذ في السنة الثامنة أي فيكون المراد المنبر الذي أتخذ في السنة الثانية كان من الطين والذي كان من الخشب إنما اتخذ في السنة الثامنة وقد بينا ذلك مبسوطا والله أعلم
ثم بعد نزول آيات الإفك أي وهي { إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة } إلى قوله { أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم } خرج صلى الله عليه وسلم إلى الناس
____________________
(2/616)
وخطبهم وتلا عليهم تلك الآيات وأمر بجلد أصحاب الإفك أي وهم عبد الله بن أبي ومسطح وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين وأخوها عبيدالله بالتصغير ابن جحش ويقال له أبو أحمد كان ضريرا أي وكان يدور مكة أعلاها وأدناها في أي محل من غير قائد وكان شاعرا وهو ابن عمة أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم وأما أخوها عبد الله مكبرا فقد قتل يوم أحد كما تقدم وزاد بعضهم خامسا وهو زيد بن رفاعة وفيه أن تقدم أنهم لما قدموا المدينة وجدوه قد مات إلا أن يقال إن لهم زيد بن رفاعة غيره فيجوز أن يكون هو ذلك ويقال وحسان بن ثابت فجلدوا الحد وهو ثمانون
وقال بعضهم وذكر سعد بن معاذ في هذه الرواية أي أنه القائل أنا أعذرك وهم من بعض الرواة وإنما المتكلم بذلك أسيد بن حضير أي كما تقدم عن السيرة الهشامية لأن سعد بن معاذ مات بعد بني قريظة
قال في الأصل لو اتفق اهل المغاز على أن غزوة الخندق وبني قريظة متقدمة على عزوة بني المصطلق لكان الوهم لازما ولكنهم مختلفون
أقول أي فالوهم لا يلزم إلا من جعل هذه الغزوة التي هي غزوة بني المصطلق متأخرة عن بني قريظة ويذكر فيها سعد بن معاذ كالأصل ومن ثم قال ابن اسحاق بانها بعد بني قريظة روى عن عائشة بدل سعد بن معاذ اسيد بن حضير قال في الإمتاع وهذا هو الصحيح والوهم لم يسلم منه أحد من بني ادم
وفيه أن مما يدل على تقدمها وأ ذكر سعد بن معاذ ليس من الوهم في شيء ما ذكره في الكتاب المذكور الذي هو في الإمتاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث أياما ثم أخذ بيد سعد بن معاذ في نفر حتى دخل على سعد بن عبادة فتحدثوا ساعة وقرب لهم سعد بن عبادة طعاما فأصابوا منه ثم انصرفوا فمكث أياما ثم أخذ بيد سعد بن عبادة في نفر فانطلقوا حتى دخلوا منزل سعد بن معاذ فتحدثوا ساعة وقرب لهم سعد بن معاذ طعاما فأصابوا منه ثم خرجوا فذهب من أنفسهم ما كان وأن ذكر سعد بن معاذ وقع في الصحيحين وغيرهما والله أعلم
وذكر أن صفوان بن المعطل رضي الله عنه كان الإفك بسببه ظهر أنه كان حصورا لا يأتي النساء أي انما معه مثل الهدبة أي عنين
____________________
(2/617)
وقد قال الشيخ محيي الدين الحصور عندنا العنين أي ويدل له ما في البخاري أنه رضي الله عنه ما كشف كنيف امرأه قط أي سترها لأن الكنيف الساتر
وقد جاء في تفسير وصف يحيى بن زكريا بحصورا أنه صلى الله عليه وسلم أهوى إلى الأرض وأخذ قذاة وقال كان ذكره يعني يحيى عليه السلام مثل هذه القذاة ولعل المراد التشبيه في الارتخاء وعدم الشدة فلا يخالف ما قبله لكن في النهر الحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك أي وربما يؤيد ذلك ما جاء أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وأمنت الملائكة رجل جعله الله ذكرا فأنث نفسه وتشبه بالنساء وامرأه جعلها الله أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال والذي يضل الأعمى ورجل حصور ولم يجعل الله حصورا إلا يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام فالحصور وصف مذموم إلا في يحيى عليه السلام خصوصية له دون غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإلا فقد امتن سبحانه على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوله { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية } قيل وهذا الوصف جاء ليحيى من أثر همة والده زكريا عليهما السلام فإنه لما شهد مريم منقطعة عن الأزواج أحب أن يرزقه الله ولدا مثلها أي منقطعا عن الزوجات فجاء يحيى عليه السلام حصورا ويؤيد ذلك ما في أنس الجليل وكان يحيى عليه السلام لا يأتي النساء لأنه لم يكن له ما للرجال كذا قيل وهو غير مرضى
وقد تكلم القاضي عياض رحمه الله في الشفاء على معنى كون يحيى حصورا بما حاصله أن هذا الذي قيل نقيصة وعيب لا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة و السلام وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب لا يأتيها فكأنه حصر عنها وأنه حصر نفسه عن الشهوات قمعا لها هذا كلامه فليتأمل
أي وعلى الأول لا ينافي ذلك كون صفوان كان متزوجا لما تقدم أن زوجته شكته للنبي صلى الله عليه وسلم أي على أن ابن الجوزي نقل عن شيخه ابن ناصر الدين رحمه الله تعالى أن صفوان رضي الله عنه إنما تزوج بعد حديث الإفك
ومما يدل على أن حسان رضي الله لم يكن من أصحاب الإفك تبرؤه مما نسب إليه في ابيات مدح بها عائشة رضي الله عنها منها ** مهذبة قد طيب الله خيمها ** وطهرها من كل سوء وباطل ** ** فإن كنت قلت الذي قد زعمتم ** فلا رفعت سوطي إلي أناملي **
____________________
(2/618)
** وكيف وودي ما حييت ونصرتي ** لآل رسول الله زين المحافل **
ومن ثم قال ابن عبد البر وقد أنكر قوم كون حسان رضي الله عنه خاض في الإفك وأنه جلد
وجاء أن عائشة رضي الله عنها براته من ذلك أي فقد ذكر الزبير بن بكار أنه قيل لعائشة رضي الله عنها وقد قالت في حق حسان رضي الله عنه إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بذبه بلسانه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس هو ممن لعنه الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك قالت لم يقل شيئا ولكنه القائل ** فإن كان ما قد قيل عني قلته ** فلا رفعت سوطي إلي أناملي **
وقد قال مثل هذا البيت أنس بن زنيم وقد بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دمه لما بلغه صلى الله عليه وسلم أنه هجاه فجاء إليه صلى الله عليه وسلم معتذرا وأنشده ابياتا منها ** ونبي رسول الله إني هجوته ** فلا رفعت سوطي إلي إذن يدي **
ولكن في رواية أنها كانت تأذن لحسان بن ثابت وتلقي له الوسادة وتقول لا تقولوا لحسان إلا خيرا فإنه كان يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه وقد قال تعالى { والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم } وقد عمي والعمى عذاب عظيم والله قادر على أن يحيل ذلك ويغفر لحسان ويدخله الجنة
وفيه أنه سيأتي عن عائشة وغيرها ان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول كما تقدم إلا أن يقال كبره مقول بالتشكيك والذي بلغ فيه الغاية عبد الله بن أبي ابن سلول فليتأمل
وعن الزهري قال كنت عند الوليد بن عبد الملك ليلة من الليالي وهو يقرأ سورة النور مستلقيا على سريره فلما بلغ { والذي تولى كبره } جلس ثم قال يا أبا بكر من تولى كبره أليس علي بن ابي طالب قال الزهري فقلت في نفسي ماذا اقول إن قلت لا لا آمن أن ألقي منه شرا وإن قلت نعم جئت بأمر عظيم ثم قلت لنفسي لقد عودني الله على الصدق خيرا فقلت لا فضرب بقضيبة السرير قال فمن يكرر ذلك مرارا قلت لكن عبد الله بن أبي ابن سلول
ووقع سليمان بن يسار مع هشام بن عبد الملك نحو ذلك فان سليمان بن يسار رحمه الله
____________________
(2/619)
دخل على هشام بن عبد الملك فقال له يا ابا سليمان الذي تولى كبره من هو قال عبد الله بن أبي قال كذبت هو علي قال أنا أكذب لا أبالك لو نادى مناد من السماء إن الله أحل الكذب ما كذبت حدثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة رحمهم الله عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت الذي تولى كبره عبد الله بن أبي
وعن عائشة رضي الله عنها أنه ذكر عندها حسان بسوء فنهتهم وقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يحبه إلى مؤمن ولا يبغضه إلا منافق وفي البخاري كانت عائشة رضي الله عنها تنكر أن يسب عندها حسان وتقول إنه الذي قال ** فإن أبي ووالدتي وعرضي ** لعرض محمد منكم وقاء **
فبهذا البيت يغر الله تعالى له
وذكر بعضهم أن الذين كانوا يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش عبد الله بن الزبعري وأبو سفيان ابن عمه صلى الله عليه وسلم وعمرو بن العاص وضرار بن الحارث
ولما أراد حسان رضي الله عنه أني يهجوهم قال له رسول الله كيف تهجوهم وأنا منهم وكيف تهجوا أبا سفيان ابن عمي فقال له والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين فقال له صلى الله عليه وسلم ائت أبا بكر فإنه أعلم بأنساب القوم منك فكان يجيئ إلى أبي بكر ليوقفه على أنسابهم فجعل حسان يهجوهم فلما سمعوا هجوه قالوا إن هذا الشعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة وعاش حسان رضي الله عنه مائة وعشرين سنة نصفها في الجاهلية ونصفها في الإسلام وعاش والده مائة وعشرين سنة وكذا جده ووالده جده
قال بعضهم ولا يعرف اربعة تناسلوا وتساوت أعمارهم غيرهم ولم يشهد حسان مع النبي صلى الله عليه وسلم مشهدا لأنه كان يخشى الموت فكان ينسب للجبن ومن ثم جعل يوم الخندق مع النساء والذرارى في الآطام وما وقع له مع صفية عمته صلى الله عليه وسلم في أمر اليهودي الذي قتلته في ذلك المكان وما قاله لها يدل على أنه كان جبانا شديد الجبن ويرد إنكار بعض العلماء كونه جبانا قال إذ لو صح ذلك لهجى به فإنه كان
____________________
(2/620)
يهاجي الشعراء وكانوا يردون عليه فما عيره أحد منهم به ولا وسمه به ولعله كان به علة اقتضت جعله مع الذرارى في الآطام منعته من شهود القتال هذا كلامه
وقد يقال على تسليم أنه لم يهج بالجبن يجوز أن يكون لكونه كان لا يتأثر بوصفه بذلك
وذكر بعضهم أن حسان رضي الله عنه شلت يداه بضربة ضربها له صفوان بسيف لما هجاه فذكر ذلك حسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا حسان وصفوان أي وأظهر التغيظ على صفوان بسبب إظهاره السلاح على حسان وضربه به فقال صفوان يا رسول الله آذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان يا حسان أحسن فيما اصابك قال هي لك وفي رواية قال كل حق لي قبل صفوان فهو لك فقال له صلى الله عليه وسلم قد أحسنت وقبلت ذلك منك وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوضا منها حديقة له يقال لها بئرحا بفتح الراء في الأحوال الثلاثة مع قصر حا قيل لها ذلك لأن الإبل يقال لها إذا وردت وزجرت عن الماء حا حا
وفيه أنه كان القياس أن يقال بئر حا بضم الراء في حالة ارفع وحدها إلا أن يقال المجموع اسم مركب وكانت هذه البئر لأبي طلحة رضي الله عنه فتصدق بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضعها حيث شاء ثم باعها حسان من معاوية بمال عظيم
أقول الذي في البخاري كان أبو طلحة رضي الله عنه أكثر أنصاري بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه بئر حا وهي حديقة كانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويستظل بها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } قام أبو طلحة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الله يقول في كتابه { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وإن أحب أموالي إلي بئر حا وإنه صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث شئت فقال صلى الله عليه وسلم بخ بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح قد سمعت ما قلت فيها قد قبلناها منك ورددناها عليك وأرى أن تجعلها في الأقربين قال أفعل يا رسول الله فقسمها ابو طلحة في أقاربه وبنى عمه وفي لفظ آخر في البخاري قال صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة اجلعه لفقراء أقاربك فجعلها لحسان وأبي بن كعب
____________________
(2/621)
وفيه أن أبي بن كعب كان غنيا وبين في البخاري وجه قرابتهما من أبي طلحة فذكر أن حسان يجتمع مع ابي طلحة في الأب السادس وأبي يجتمع معه في الأب السادس وذكر بعضهم أن أبي بن كعب كان ابن عمة ابي طلحة
وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم أعطى حسان تلك الحديقة وأعطاه سيرين جاريته أخت مارية أم ولده صلى الله عليه وسلم إبراهيم فجاءت منه بابنه عبد الرحمن وكان يفتخر بأنه ابن خالة ابراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وقد روت سيرين هذه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا قالت رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم خللا في قبر أبنه ابراهيم فأصلحه وقال إن الله يحب من العبد إذا عمل عملا أن يتقنه واعطاه سعد بن عبادة رضي الله عنه بستانا كان يتحصل منه مال كثير
وحاصل ما في الامتاع فيما وقع بين حسان وصفوان أن حسان رضي الله عنه لما قال ** أمسي الجلابيب قد عزوا وقد كبروا ** وابن القريعة امسى بيضة البلد **
قال صفوان ما أراه إلا عناني أي بالجلابيب وتقدم أن ابن أبي ابن سلول قد قالها في حق المهاجرين والقريعة بالقاف جدة حسان رضي الله عنه وقيل أمه وقريعة الشيء خياره وقريعة القبيلة لسيدها واستعمل بيضة البلد في الذم بقرينة المقام وإلا فكما تستعمل في الذم تستعمل في المدح ويقال فلان بيضة البلد أي واحد في قومه عظيم فيهم فعند ذلك خرج صفوان مصلتا السيف وجاء إلى حسان وهو في نادي قومه الخزرج وضربه فلقى بيده فوقع السيف فيها فقام قومه وأوثقوا صفوان رباطاثم إنه حل وجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حسان رضي الله عنه يا رسول الله شهر علي السيف في نادي قومي ثم ضربني ولا أراني إلا ميتا من جراحتي فقال صلى الله عليه وسلم لصفوان ولم ضربته وحملت السلاح عليه وتغيظ لحسان فقال صفوان ما تقدم ثم قال لقوم حسان احبسوا صفوان فان مات حسان فاقتلوه به فحبسوه فبلغ ذلك سيد الخزرج سعد بن عبادة فأقبل على قومه ولامهم على حبسه فقالوا أمرنا رسول الله بحبسبه وقال لغا إن مات صاحبكم فاقتلوه فقال سعد والله إن أحب الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العفو عنه ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالحق والله لا أبرح حتى يطلق فاستحيا القوم
____________________
(2/622)
وأطلقوه وأخذه سعد وانطلق به إلى منزله وكساه حلة وجاء به إلى المسجد فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال صفوان قالوا نعم يا رسول الله قال من كساه قالوا سعد بن عبادة قال كساه الله من ثياب الجنة ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم حسان رضي الله عنه في العفو عن صفوان فقال يا رسول الله كل حق لي قبل صفوان فهو لك فقال صلى الله عليه وسلم قد أحسنت وقبلت ذلك ثم أعطاه صلى الله عليه وسلم أرضا له وسيرين جاريته أخت مارية أم ولده ابراهيم وأعطاه أيضا سعد ابن عبادة رضي الله عنه حائطا كان يتحصل منه مال كبير بما عفا عن حقه
وقيل إنما أعطاه سيرين لذبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره فقد قال ابن عبد البر رحمه الله إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرين أخت مارية لحسان ابن ثابت يروى من وجوه أكثرها أن ذلك ليس بسبب ضرب صفوان له بل لذبه بلسانه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قيل وكان لسان حسان يصل لجبهته وإلى نحره وكذلك كان أبوه وجده وكان حسان رضي الله عنه يقول على لسانه والله لو وضعته على صخر لفلقه أو شعر لحلقه وقد عمي مسطح أيضا
أي وقد روى أصحاب السنن الاربعة عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم قال الترمذي حسن غريب أي والمرأة حمنة بنت جحش والرجلان أخوها عبيد الله أبو أحمد بن جحش ومسطح
ولم يحد الخبيث عبد الله بن أبي بن سلول لأن الحد كفارة وليس من أهلها وقيل لانه لم تقم عليه البينة بذلك بخلاف أولئك وقيل لانه كان لا يأتى بذلك على أنه من عنده بل على لسان غيره
وفي الطبراي ومعجم النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن عبد الله بن أبي ابن سلول جلد مائة وستين أي حدين قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهكذا يفعل بكل من قذف زوجة نبي أي ولعل المراد أنه يجوز أن يفعل به ذلك فلا ينافي ما تقدم من أن الحد كان ثمانين جلدة
وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما زنت وفي لفظ لما تبغ امرأة نبي قط وأما
____________________
(2/623)
قوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط { فخانتاهما } فالمراد آذاتاهما قالت امرأة نوح عليه السلام في حقه إنه المجنون وامرأة لوط عليه السلام دلت على أضيافه
قيل إنما جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط عليهما السلام ولم يجزأن تكون فاجرة أي زانية لأن النبي مبعوث إلى الكفار ليدعوهم فيجب أن لا يكون معه منقص ينفرهم عنه والكفر غير منقص عندهم وأما الفجور فمن أعظم النقصان
وفي الخصائص الصغرى ومن قذف أزواجه صلى الله عليه وسلم فلا توبة له البتة كما قال ابن عباس وغيره ويقتل كما نقله القاضي عياض وغيره وقيل يختص القتل بمن قذف عائشة ويحد في غيرها حدين
وقد وقع أن الحسن بن يزيد الراعي من أهل طبرستان وكان من العظماء كان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف وكان يرسل في كل سنة إلى بغداد عشرين الف دينار تفرق على أولاد الصحابة فخضر عنده رجل من اشياع العلويين فذكر عائشة رضي الله عنها بالقبيح فقال الحسن لغلامه يا غلام اضرب عنق هذا فنهض إليه العلويون وقالوا هذا رجل من شيعتنا فقال معاذ الله هذا طعن على رسول الله قال الله تعالى { الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } فإن كانت عائشة رضي الله عنها خبيثة فإن زوجها يكون خبيثا وحاشاه صلى الله عليه وسلم من ذلك بل هو الطيب الطاهر وهي الطيبة الطاهرة المبرأة من السماء يا غلام اضرب عنق هذا الكافر فضرب عنقه
وفي كتاب الإشارات للفخر الرازي أنه صلى الله عليه وسلم في تلك الايام التي كلم فيها بالإفك كان أكثر أوقاته في البيت فدخل عليه عمر رضي الله عنه فاستشاره صلى الله عليه وسلم في تلك الواقعة فقال يا رسول الله أنا أقطع بكذب المنافقين وأخذت براءة عائشة رضي الله عنها من الذباب لا يقرب بدنك فإذا كان الله تعالى صان بدنك أن يخالطه الذباب لمخالطته للقاذورات فكيف أهلك
ودخل عليه صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه فاستشاره فقال له عثمان يا رسول الله أخذت براءة عائشة رضي الله عنها من ظلك إني رأيت الله تعالى صان ظلك أن يقع على الأرض أي لأن شخصه الشريف كان لا يظهر في شمس ولا قمر لئلا يوطأ
____________________
(2/624)
بالأقدام فإذا صان الله ظلك فكيف بأهلك أي وقد اشار إلى ذلك الإمام السبكي رحمه الله في تائيه بقوله ** لقد نزه الرحمن ظلك أن يرى ** على الأرض ملقى فانطوى لمزية **
وهنا لطيفة لا بأس بها وهي ان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان مسافرا وكان يسايره يهودي فلما اراد المفارقة قال عبد الله رضي الله عنه لليهودي بلغني أنكم تدينون بإيذاء المسلمين فهلا قدرت على شيء من ذلك معي وأقسم عليه فقال إن أمنتني أخبرتك فأمنه فقال لم أقدر عليك في شيء أكثر من أني كنت إذا رأيت ظل له وطئته بقدمي وفاء بأمر ديننا
ودخل عليه صلى الله عليه وسلم علي كرم الله وجهه فاستشاره فقال له علي كرم الله وجهه أخذت براءة عائشة من شيء هو أنا صلينا خلفك وأنت تصلي بنعليك ثم إنك خلعت إحدى نعليك فقلنا ليكون ذلك سنة لنا قلت لا إن جبريل عليه السلام أخبرني أن في تلك النعل نجاسة فإذا كان لا تكون النجاسة بنعليك فكيف تكون بأهلك فسر صلى الله عليه وسلم بذلك أي ويحتاج أئمتنا إلى الجواب عن خلع احدى نعليه في أثناء الصلاة لنجاسة بها واستمر في الصلاة
وعن ابي أيوب الأنصاري رضي الله عنه انه قال لزوجته أم أيوب ألا ترين ما يقال أي من الإفك فقالت له لو كنت بدل صفوان أكنت تهم بسوء لمحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا قالت ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعائشة خير مني وصفوان خير منك
وفي السيرة الشامية أن أبا أيوب رضي الله عنه قالت له زوجته أم أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة قال بلى وذلك الكذب أكنت يا أم ايوب فاعلة قالت لا والله ما كنت لأفعله قال فعائشة والله خير منك
وجاء أن ابن عباس رضي الله عنه عنهما دخل على عائشة رضي الله عنها في مرض موتها فوجدها وجلة من القدوم على الله فقال لها لا تخاف فانك لا تقدمين إلى على مغفرة ورزق كريم فغشي عليها من الفرح بذلك لأنها كانت تقول متحدثة بنعمة الله عليها لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله ان يتزوجني ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري ولقد توفي وإن رأسه
____________________
(2/625)
في حجري ولقد قبر في بيتي وإن الوحي ينزل عليه في اهله فيفرقون منه وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحاف واحد وأبي رضي الله عنه خليفته وصديقه ولقد نزلت براءتي من السماء ولقد خلقت طيبة عن طيب ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما
قيل وفي هذه الغزوة فقدت عائشة رضي الله عنها عقدها أيضا فاحتبسوا على طلبه أي فارسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه رجلين من المسلمين أي أحدهما أسيد ابن حضير فحضرت الصلاة أي صلاة الصبح وكانوا على غير ماء زاد في رواية وليس معهم ماء فنزلت آية التيمم وهذا القيل نقله إمامنا الشافعي رضي الله عنه عن عدة من أهل المغازي أي وعليه يكون سقط عقدها في تلك الغزوة مرتين لاختلاف القضيتين باختلاف سياقهما
والصحيح أن ذلك كان في غزوة أخرى أي متأخرة عن هذه الغزوة فعن عائشة رضي الله عنها قالت لما كان من أمر عقدي ما كان وقال أهل الإفك ما قالوا فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى فسقط أيضا عقدي حتى حبس التماسه الناس أي فإنه صلى الله عليه وسلم بعث رجالا في طلبه وهو لا يخالف ما سبق انه صلى الله عليه وسلم ارسل في طلبه رجلين وطلع الفجر فلقيت من أبي بكر رضي الله عنه ما شاء الله أي لأن الناس جاءوا لأبي بكر رضي الله عنه وشكوا اليه ما نزل بهم فجاء اليها ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه الشريف على فخذها قد نام فقال لها حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ليسوا على ماء وليس معهم ماء فجعل يطعن بيد في خاصرتها ويقول يا بنية في كل سفرة تكونين عناء وبلاء وليس مع الناس ماء قالت فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نام لا يوقظه أحد حتى يكون هو يستيقظ لأنهم لا يدرون ما يحدث له في نومه فقال حين أصبح وفي لفظ فاستيقظ وحضرت الصلاة فالتمس الماء فلم يجد فأنزل الله تعالى الرخصة بالتيمم وفي لفظ فأنزل الله تعالى آية التيمم أي التي في المائدة ففي بعض الروايات فنزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } الآية
وقيل المراد بالآية آية النساء لأن آية المائدة تسمى آية الوضوء وآية النساء لا ذكر للوضوء فيها فيتجه تسميتها بآية التيمم وكلام الواحدي رحمه الله في اسباب النزول يدل
____________________
(2/626)
عليه فقال ابو بكر عند ذلك والله يا بنية إنك كما علمت مباركة أي وقال لها صلى الله عليه وسلم ما أعظم بركة قلادتك وقال أسيد بن حضير ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر أي وفي رواية إنه قا لها جزاك الله خيرا فما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله منه مخرجا وللمسلمين فيه خير أي وهذا ربما يفيد تكرر وقوع ما تكرهه وأن في ذلك خيرا للمسلمين فليتأمل
وفي لفظ أسيد بن حضير لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله وإنما قال أسيد بن حضير ما قال دون غيره لأنه كان رأس من بعث في طلب العقد أي بل تقدم في بعض الروايات الاقتصار على بعثه لطلب ذلك قالت فبعثنا البعير الذي كنت عليه أي أقمناه من مبركة فوجدنا العقد تحته
أقول في النور اعلم أن العقد سقط مرتين مرة كان لها ومرة كان لأختها أسماء استعارته وبهذا يجمع بين الأحاديث التي في المسألة هذا كلامه فليتأمل وينظر تلك الأحاديث وما هي أي وكون هذا العقد لأسماء اختها لا يخالف ذلك قولها عقدي لأن الإضافة تأتي لأدنى ملابسة أي فعقد أسماء كان في المرة الثانية وفي البخاري أيضا أن آية التيمم نزلت بعد أن صلوا بلا وضوء
فعن عاشة رضي الله عنها أنها استعارت من أسماء رضي الله عنها قلادة فهلكت أي ضاعت فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فوجدها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى آية التيمم وقد ترجم البخاري عن تلك بقوله باب إذا لم يجد ماء ولا ترابا وقوله فبعث رجلا فوجدها يجوز أن يكون هذا الرجل هو الذي أقام البعير أو من جملة من أقامه فلا يخالف ما اسبق مما يدل أن الذين بعثهم في طلبه لم يجدوه
ثم رأيت الحافظ أبن حجر رحمه الله قال وطريق الجمع بين هذه الروايات أن أسيدا كان رأس من بعث ذلك فلذلك سمي في بعض الروايات دون غيره ولذا أسند الفعل إلى واحد منهم وكأنهم لم يجدوا العقد أولا فلما رجعوا ونزلت آية التيمم وأرادوا الرحيل وأثاروا البعير وجده أسيد رضي الله عنه هذا كلامه
____________________
(2/627)
قيل وفي هذه الغزوة خرجوا عن الطريق وأدركهم الليل بقرب واد وعر فهبط جبريل عليه السلام واخبره صلى الله عليه وسلم أن طائفة من كفار الجن بهذا الوادي يريدون كيده صلى الله عليه وسلم وإيقاع الشر بأصحابه فدعا صلى الله عليه وسلم بعلي كرم الله وجهه وعوذه وأمره بنزول الوادي فقتلهم
قال الإمام ابن تيمية وهذا من الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى علي كرم الله وجهه قال ابن تيمية ومن هذا ما روى في عام الحديبية قاتل الجن في بئر ذات العلم وهي بئر في الجحفة وهو حديث موضوع عند أهل المغازي
أي وجاء في سبب مشروعية التيمم غير ما ذكر ففي الطبراني عن أسلع قال كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرحل له ناقته فقال لي ذات يوم يا أسلع قوم فارحل فقلت يا رسول الله أصابتني جنابة أي ولا ماء فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل بآية الصعيد أي التراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قم يا أسلع فيتمم فأراني التيمم ضربة للوجه وضربه لليدين إلى المرفقين فقمت فتيمم ثم رحلت له حتى مر بماء فقال يا أسلع أمس هذا جلدك
وفي الإمتاع نزلت آية التيمم طلوع الفجر فمسح المسلمون أيديهم بالأرض ثم مسحوا بأيديهم إلى المناكب أي ويحتاج أئمتنا إلى الجواب عن هذه الرواية
وفي هذه السنة الخامسة خسف القمر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخسوف حتى انجلى القمر وصارت اليهود تضرب بالطساس ويقولون سحر القمر غزوة الخندق
ويقال لها غزوة الأحزاب أي وهي الغزوة التي ابتلى الله تعالى فيها عباده المؤمنين وثبت الإيمان في قلوب أوليائه المتقين أي وأظهر ما كان يبطنه أهل النفاق والشقاق والمعاندين
وسببها أنه لما وقع اجلاء بني النضير من أماكنهم كما تقدم سار منهم جمع من كبرائهم منهم سيدهم حيي بن أخطب أبو صفية أم المؤمنين رضي الله عنها وعظيمهم سلام ابن مشكم ورئيسهم كنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس وابو عامر الفاسق إلى
____________________
(2/628)
أن قدموا مكة على قريش يدعونهم ويحرصونهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله أي ونكون معكم على عداوته فقال أبو سفيان مرحبا وأهلا وأحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد
زاد في رواية فقال لهم لكن لا نأمنكم إلا إن سجدتم لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ففعلوا فقالت قريش لأولئك اليهود يا معشر يهود انكم أهل الكتاب الأول والعلم أخبرونا عما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أفديننا خير أم دين محمد قالوا بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه وفي رواية نحن أهدى سبيلا أم محمد فقالوا أنتم أهدى سبيلا أي لأنكم تعظمون هذا البيت وتقومون على السقاية وتنحرون البدن وتعبدون ما كان يعبد آباؤكم أي فأنتم أولى بالحق منه فأنزل الله تعالى فيهم { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } الآيات فلما قالوا ذلك لقريش سرهم ونشطهم لما دعوهم اليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعند ذلك خرج من بطون قريش خمسون رجلا وتحالفوا وقد الصقوا أكبادهم بالكعبة متعلقين بأستارها أن لا يخذل بعضهم بعضا ويكونون كلهم يدا واحدة على محمد صلى الله عليه وسلم ما بقي منهم رجل وقد اشار إلى ذلك صاحب الهمزية رحمه الله بأبيات ذم فيها اليهود لعنهم الله بأمور بقوله ** لا تكذب أن اليهود وقد زا ** غوا عن الحق معشر لؤماء ** ** جحدوا المطصفى وآمن بالطا ** غوت قوم هم عنده شرفاء ** ** قتلوا الانبياء واتخذوا العج ** ل ألا إنهم هم السفهاء ** ** وسفيه من ساءه المن والسل ** وى وأرضاه الفوم القثاء ** ** ملئت بالخبيث منهم بطون ** فهي نار طباقها الأمعاء ** ** لو أريدوا في حال سبت بخير ** كان سبتا لديهم الأربعاء ** ** هو يوم مبارك قيل للتصر ** يف فيه من اليهود اعتداء ** ** فبظلم منهم وكفر عدتهم ** طيبات في تركهن ابتلاء **
أي لا تكذب أن اليهود والحال أنهم قد مالوا عن الحق قوم لؤماء واللئيم الدني الأصل الشحيح النفس ومن عظيم لؤمهم أنهم جحدوا نبوته صلى الله عليه وسلم ورسالته
____________________
(2/629)
والحال أنه قد آمن بالطاغوت وهو كل ما عبد من دون الله مأخوذ من الطغيان قوم هم عندهم شرفاء وهم كفار قريش
ورد ان اليهود قتلوا في يوم واحد سبعين نبيا ومن جملة من قتلوا زكريا ويحي واتخذوا العجل إلها يعبدونه ومن يفعل ذلك لاسفيه غيره ومن ارضاء القوم والقثاء بدل المن وهو نوع من الحلواء والسلوى نوع من الطير سفيه بلا شك ملئت بالحرام كالربا بطون منهم فبطونهم نار لاشتمالها على مايؤدي الى تلك النار طباق تلك النار المصارين ولو اراد الله لليهود في حال سبتهم الذي اختاروا تعظيمه على ما تقدم خيرا لكان يوم الاربعاء يوم سبتهم لانه يوم خلق فيه النور فاختيار يوم السبت دون يوم الاربعاء لسبتهم أي سكوتهم عما عدا العبادة دليل على انه تعالى لم يرد بهم الخير ويوم السبت ابتدا الله فيه خلق العالم خلافا لهم حيث قالوا ان ذلك أي ابتداء الخلق كان يوم الاحد وفرغ من الخلق يوم الجمعة واستراح يوم السبت قالوا فنحن نستريح فيه كما استراح الرب تعالى فيه قالوا فان الله لا يقضي يوم السبت شيئا من خلق ولا رزق ولارحمة ولاعذاب ولا احياء ولااماتة ومن مات يوم السبت يكون محى اسمه من اللوح المحفوظ قبل ذلك وقد كذبهم الله تعالى بقوله { كل يوم هو في شأن } فكان فيه منهم ظلم وعدوان لاجل التصريف فيه بغبر العبادة فبسبب ظلم وكفر حاصل منهم فيه فاتتهم طيبات كانت حلالا لهم فحرمها الله تعالى عليهم فكان في ذلك ابتلاء لهم
ونقل عن ابن حجر الهيتمي رحمه الله انه بحث استحباب صوم يوم الاربعاء لما ذكر من انه خلق فيه النور فليتامل
ثم جاء اولئك الى غطفان ودعوهم وحرضوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وقالوا لهم انا سنكون معكم وان قريشا قد بايعوهم على ذلك وجعلوا لهم تمر خيبر سنة إن هم نصروهم عليه فتجهزت قريش أي واتباعها من القبائل وغطفان أي وأتباعها وقائد قريش ابو سفيان بن حرب وكانوا أربعة آلاف ومعهم ثلثمائة فرس أي وألف أو خمسمائة بعر وعقد اللواء في دار الندوة وحمله عثمان بن طلحة بن أبي طلحة المقتول ولده الذي هو طلحة يوم أحد وكذا عماه أي عما عثمان بن طلحة وهما عثمان ابن أبي طلحة وأبو سعيد بن ابي طلحة وعمثان بن أبي طلحة هو أبو شيبة كما تقدم فشيبة ابن عم عثمان بن طلحة وقتل يوم أحد أخوه عثمان بن طلحة الأربعة وهم مسافع
____________________
(2/630)
ابن طلحة والحارث بن طلحة وكلاب بن طلحة والجلاس بن طلحة وعثمان ابن طلحة وهذا أي الحامل لواء قريش أسلم بعد ذلك ويقال له الحجبي لأنه كان من بني عبدالدار وهم سدنة الكعبة وبنو عبد الدار كان لهم ولأبيهم حمل لواء قريش عند الحرب دون غيرهم كما تقدم
وقائد غطفان عيينة بن حصن الفزازي في بني فزارة أي وهم ألف وتقدم أن عيينة اسلم بعد ذلك ثم ارتد بعد إسلامه وأخذ اسيرا في زمن خلافة الصديق رضي الله عنه ثم اسلم وكان قبل إسلامه يتبعه عشرة آلاف قناة وكان عنده جفوة وغلظة ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم في حقه إنه الأحمق المطاع وقال فيه إن شر الناس من ودعه الناس اتقاه شره
وقائد بني مرة أي وهم أربعمائة الحارث بن عوف المري وأسلم بعد ذلك أي وقيل لم تحضر بنو مرة
وقائد بني أشجع أبو مسعود بن رخيلة بضم الراء وفتح الخاء المعجمة وأسلم بعد ذلك
أي وقائد بني سليم وهم سبعمائة سفيان بن عبد شمس لا يعلم إسلامه
اي وقائد بني أسد طليحة بن خويلد الأسدي وأسلم بعد ذلك أي بعد أن كان ارتد بعد إسلامه ثم حسن إسلامه وكان اشجع وبنو اسد تتمة العشر آلاف فقد مال بعضهم كانت الأحزاب عشرة آلاف وهم ثلاثا عساكر وملاك أمرها لأبي سفيان أي المدبر لأمرها والقائم بشأنها
ولما تهيأت قريش للخروج أتى ركب من خزاعة في أربع ليال حتى أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمع رسول الله بما أجمعوا عليه ندب الناس أي دعاهم واخبرهم خبر عدوهم وشاورهم في أمرهم أي قال لهم هل نبرز من المدينة أو نكون فيها فاشير عليه بالخندق أي اشار عليه بذلك سلمان الفارسي رضي الله عنه فقال يا رسول الله إنا كنا بأرض فارس إذا تخوفنا الخيل خندقنا علينا أي فإن ذلك كان من مكايد الفرس وأول من فعله من ملوك الفرس ملك كان في زمن موسى ابن عمران صلوات الله وسلامه عليه فأعجبهم ذلك فضرب على المدينة الخندق
أي وعند ذلك ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا له ومعه عدة من المهاجرين
____________________
(2/631)
والأنصار فارتاد موضعا ينزل له وجعل سلعا خلف ظهره وأمرهم بالجد ووعدهم بالنصر إن هم صبروا فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين أي وحمل التراب على ظهره الشريف ودأب المسلمون يبادرون قدوم العدو قال واستعاروا من بني قريظة آلة كثيرة من مساحي وكرارين ومكاتل وكان من جملة من يعمل في الخندق جعال أو جعيل بن سراقة وكان رجلا دميما قبيح الوجه صالحا من أصحاب الصفة وهو الذي تمثل به الشيطان يوم احد وقال إن محمدا قد قتل كما تقدم فغير صلى الله عليه وسلم أسمه وسماه عمرا فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون ** سماه من بعد جعبل عمرا ** وكان للبائس يوما ظهرا **
وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قالوا عمرا قال عمرا وإذا قالوا ظهرا قال ظهرا انتهى أي وسياق أسد الغابة يدل على أن هذا الذي غير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه وسماه عمرا غير جعيل المذكور وحصل للصحابة رضي الله عنهم تعب وجوع لأنه كان في زمن عسرة وعام مجاعة
ولما رأى رسول الله ما بأصحابه من النصب والجوع قال متمثلا بقول ابن رواحة رضي الله عنه ** اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ** فارحم الأنصار والمهاجره **
قيل وإنما قال ابن رواحة لاهم إن العيش من غير الف ولام فقد غيره صلى الله عليه وسلم على ما هو عادته كما تقدم وفي لفظ ** اللهم لا خير إلى خير الآخرة ** فبارك في الأنصار والمهاجره **
وفي لفظ فأكرم الأنصار والمهاجرة وتقدم في بناء المسجد ** اللهم إن الأجر أجر الآخره ** فارحم الأنصار والمهاجره **
زاد في الإمتاع ** اللهم العن عضلا والقاره ** هم كلفوني أنقل الحجارة **
وفي لفظ هم كلفونا ننقل الحجارة قال الحافظ ابن حجر ولعله كان والعن إلهي عضلا والقارة أي والتغيير منه صلى الله عليه وسلم وفي لفظ **
اللهم العن عضلا والقاره ** هم كلفوني أنقل الحجاره **
وفي لفظ هم كلفونا ننقل الحجارة قال الحافظ ابن حجر ولعله كان والعن إلهى عضلا والقارة أي والتغيير منه صلى الله عليه وسلم وفي لفظ ** اللهم لا خير إلى خير الآخره ** فارحم المهاجرين والأناصره **
وفي لفظ فانصر الأنصار والمهاجرة واجابوه رضي الله عنه تعالى عنهم بقولهم
____________________
(2/632)
** نحن الذين بايعوا محمدا ** على الجهاد ما بقينا أبدا **
وقال صلى الله عليه وسلم متمثلا بقول ابن رواحة وهو ينقل التراب وقد وارى الغبار جلد بطنه الشريف ** اللهم لولا أنت ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا ** ** فأنزلن سكينة علينا ** وثبت الأقدام إذ لاقينا ** ** والمشركون قد بغوا علينا ** وإن أرادوا فتنة أبينا **
يمد بها صوته مكررا لها أبينا أبينا ولما بدأ صلى الله عليه وسلم بالحفر في الخندق قال بسم الإله وبه يدينا بكسر الدال ** ولو عبدنا غيره شقينا ** يا حبذا ربا وحب دينا **
وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم قال ما تقدم عنه في بناء المسجد وهو ** هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبر ربنا وأطهر **
وتقدم الكلام عليه وعلى إنشاده الشعر في الكلام على بناء المسجد
أي ورأيت أن عمار بن ياسر رضي الله عنه حين كان يحفر في الخندق جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح رأسه ويقول ابن سمية تقتلك الفئة الباغية أي كما تقدم له في بناء المسجد وصار الشخص منهم إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد له منها يذكر كذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويستأذنه في اللحوق بها فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان عليه من عمله رغبة في الخير وتباطأ رجال من المنافقين وجعلوا يورون بالضعف وصار الواحد منهم يتسلل إلى أهله من غير استئذان له صلى الله عليه وسلم أي وكان زيد بن ثابت ممن ينقل التراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه أما إنه نعم الغلام وغلبته عينه فنام في الخندق فأخذ عمارة بن حزم سلاحه وهو نائم فلما قام فزع على سلاحه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بار قد نمت حتى ذهب سلاحك ثم قال من له علم بسلاح هذا الغلام فقال عمارة أنا يا رسول الله وهو عندي فقال رده عليه ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعبا وإليه استند أئمتنا في تحريم أخذ متاع الغير مع عدم علمه بذلك
واشتد على الصحابة رضي الله عنهم في حفر الخندق كدية أي محل صلب فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ المعول وضرب فصارت كثيبا أهيل أو أهيم
____________________
(2/633)
أي رملا سائلا وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم دعا بماء ثم تفل عليه ثم دعا بما شاء الله ان يدعو به ثم نضح ذلك الماء أي رشه على تلك الكدية قال بعض الحاضرين فوالذي بعثه بالحق لانهالت حتى عادت كالكثيب أي الرمل ماترد فأسا ولا مسحاة وهي المجرفة من الحديد
أي وكان ابو بكر وعمر رضي الله عنهما ينقلان التراب في ثيابهما إذا لم يجدا مكاتل من العجلة
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال ضربت في ناحية من الخندق فغلظت علي ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريب مني فلما رآني اضرب ورأى شدة المكان علي نزل فأخذ المعول من يدي فضرب به ضربه لمعت تحت المعول برقة ثم ضرب به أخرى فلمعت تحته برقة أخرى ثم ضرب به الثالثة فلمعت برقة أخرى فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما هذا الذي رأيت يلمع تحت المعول وأنت تضرب قال أوقد رأيت ذلك يا سليمان قال قلت نعم قال أما الأولى فإن الله تعالى فتح علي بها اليمن وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق
قال وقد ذكر أن سلمان الفارسي رضي الله عنه تنافس فيه المهاجرون والأنصار فقال المهاجرون سلمان منا وقالت الأنصار سلمان منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت ولذلك يشير بعضهم بقوله ** لقد رقى سلمان بعد رقه ** منزلة شامخة البنيان ** ** وكيف لا المصطفى قد عده ** من أهل بيته العظيم الشان **
وإنما وقع التنافس في سلمان رضي الله عنه لأنه كان رجلا قويا يعمل عمل عشرة رجال في الخندق أي فكان يحفر في كل يوم خمسة أذرع في عمق خمسة أذرع حتى اصيب بالعين أصابه بالعين قيس بن صعصة فلبط به أي بلام مضمومة فموحدة مكسورة فطاء مهملة صرع فجأة وتعطل عن العمل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال صلى الله عليه وسلم مروه فليتوضأ وليغتسل ويكفئ الإناء خلفه ففعل فكأنما نشط أي حل من عقال وفي لفظ فأمر أن يتوضأ قيس لسلمان ويجمع وضوءه في ظرف ويغتسل سلمان بتلك الغسالة ويكفئ الإناء خلف ظهره
وذكر أنه لما اشتدت تلك الكدية على سلمان أخذ صلى الله عليه وسلم المعول من
____________________
(2/634)
سلمان وقال بسم الله وضرب ضربة فكسر ثلثها وبرقت برقة فخرج نور من قبل اليمن كالمصباح في جوف ليل مظلم فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أعطيت مفاتيح اليمن إني لابصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة كأنها أنياب الكلاب ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر فخرج نور من قبل الروم فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها أي زاد في رواية الحمر ثم ضرب الثالثة فقطع بقية الحجر وبرق برقة فكبر وقال أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها انياب الكلاب في مكاني هذا أي وفي رواية إني لأبصر قصر المدائن الابيض الآن وجعل صلى الله عليه وسلم يصف لسلمان أماكن فارس ويقول سلمان صدقت يا رسول الله هذه صفتها أشهد أنك رسول الله ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه فتوح يفتحها الله بعدي يا سلمان ا هـ
أي وعند ذلك قال جمع من المنافقين منهم معتب بن قشير ألا تعجبون من محمد يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم انه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق أي الخوف لا تستطيعون ان تبرزوا فأنزل الله تعالى { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء } الآية
وقيل في سبب نزولها أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقال المنافقون واليهود هيهات هيهات من اين لمحمد ملك فارس والروم وهم أعز وأمنع من ذلك
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفر الخندق أقبلت قريش ومن معها وكانوا عشرة آلاف كما تقدم فنزلت قريش بمجمع الأسيال وغطفان ومن معهم إلى جانب أحد وكان المسلمون ثلاثة آلاف
اي وقد قال ابن اسحاق سبعمائة ووهم في ذلك وقال ابن حزم إنه الصحيح الذي لا شك في فيه ولا وهم وعسكر بهم صلى الله عليه وسلم إلى سفح سلع وهو جبل فوق المدينة أي فجعل ظهر عسكره إلى سلع كما تقدم والخندق بينه وبين القوم أي وضربت له صلى الله عليه وسلم قبة من أدم
قال وكان صلى الله عليه وسلم يعقب فيها بين ثلاثة من نسائه عائشة وأم سلمة وزينب
____________________
(2/635)
بنت جحش فتكون عائشة عنده أياما أي فانه مكث في عمل الخندق بضع عشرة ليلة وقيل اربعة وعشرين ليلة أي وقيل عشرين ليلة وقيل تقريبا من شهر وقيل شهرا
قال بعضهم وكونه قريبا من شهر هو اثبت الاقاويل وقيل اثبت الأقاويل أنها كانت خمسة عشر يوما وبه جزم النووي رحمه الله في الروضة وسائر نسائه صلى الله عليه وسلم في بني حارثة وجعل النساء والذراري في الآطام وعرض الغلمان وهو يحفر الخندق وكانوا بأجمعهم من بلغ ومن لم يبلغ يعملون فيه فلما التحم الأمر أمر من لم يبلغ خمس عشرة سنة أن يرجع إلى أهله وأجاز من بلغ خمسة عشرة سنة
فمن أجازه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري والبراء بن عازب رضي الله تعالى عنهم آه وشبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فصارت كالحصن
وفي كلام بعضهم كان أحد جوانب المدينة عورة وسائر جوانبها مشتبكة بالبنيان والنخيل لا يتمكن العدو منه فاختار ذلك الجانب للخندق
واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه وارسل سليطا وسفيان بن عوف طليعة للأحزاب فقتلوهما فأتى بهما رسول الله لى فدفنهما في قبر واحد فهما الشهيدان القرينان وأعطى لواء المهاجرين لزيد بن حارثة ولواء الانصار لسعد بن عبادة وبعث مسلمة بن أسلم في مائتي رجل وزيد بن حارثة في ثلثمائة رجل يحرسون المدينة ويظهرون التكبير تخوفا على الذراري من بني قريظة أي لما بلغه صلى الله عليه وسلم أنهم نقضوا ما بينه وبينهم من العهد كما سيأتي أي وأنهم يريدون الإغارة على المدينة فإن حي بن أخطب أرسل إلى قريش أن يأتيه منهم ألف رجل وإلى غطفان ان يأتيه منهم ألف رجل أخرى ليغيروا على المدينة وجاء الخير بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم البلاء وصار الخوف على الذراري أشد من الخوف على أهل الخندق
ولما نظر المشركون إلى الخندق قالوا والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها وصار المشركون يتناوبون فيغدوا ابو سفيان في أصحابه يوما ويغدو خالد أبن الوليد يوما ويغدو عمرو بن العاص يوما ويغدو جبيرة بن وهب وما ويغدو عكرمة بن ابي جهل يوما ويغدو باضرار بن الخطاب يوما فلا يزالون يجيلون خيلهم
____________________
(2/636)
ويتفرقون مرة ويجتمعون أخرى ويناوشون اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يقربون منهم ويقدمون رجالهم فيرمون ومكثوا على ذلك المدة المتقدمة ولم يكن بينهم حرب إلى الرمي بالنبل والحصى
وفي تلك المدة أقبل نوفل بن عبد الله بن المغيرة على فرس له ليوثبه الخندق فوقع في الخندق فقتله الله أي اندقت عنقه أي وفي لفظ وأما نوفل بن عبد الله فضرب فرسه ليدخل الخندق فوقع فيه مع فرسه فتحطما جميعا وقيل رمى بالحجارة فجعل يقول قتله أحسن من هذه يا معشر العرب فنزل إليه علي كرم الله وجهه فقتله أي ضربه بالسيف فقطعه نصفين وكبر ذلك على المشركين فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نعطيك الدية على أن تدفعه إلينا فندفنه فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه خبيث الدية فلعنه الله ولعن ديته ولا نمنعكم أن تدفنوه ولا أرب أي غرض لنا في ديته
وقيل أعطوا في جثته عشرة آلاف أي وفي رواية أنهم أرسلوا اليه صلى الله عليه وسلم أن أرسل إلينا بجسده ونعطيك اثني عشرة الفا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خير في جثته ولا في ثمنه ادفعوه اليهم فانه خبيث الجسد خبيث الدية وفي لفظ إنما هي جيفة حمار
ثم إن عدو الله حي بن أخطب سيد بني النضير كان يقول لقريش في مسيره معهم إن قومي بني قريظة معكم وهم أهل حلقة وافرة وهم سبعمائة مقاتل وخمسون مقاتلا فقال له ابو سفيان ائت قومك حتى ينقضوا العهد الذي بينهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم فعند ذلك خرج حي لعنه الله حتى أتى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة وولى عهدهم الذي عاهدهم الذي عاهدهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المتقدم ذكره فدق عليه باب حصنه فأبى أن يفتح له وألح عليه في ذلك فقال له ويحك يا حي إنك امرؤ مشئوم وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه ولم ار منه إلى وفاء وصدقا فقال له ويحك افتح لي أكلمك فقال ما أنا بفاعل فغاظه فقال له والله ما أغلقت دوني إلا تخوفا على جشيشتك أي بالجيم المفتوحة والشين المعجمة وهي البر يطحن غليظا ويقال له الدشيش أن آكل معك منها ففتح له فقال له ويحك يا كعب جئت بعز الدهر جئتك بقريش حتى أنزلتهم بمجمع الأسيال وبغطفان حتى
____________________
(2/637)
أنزلتهم بجانب أحد قد عاهدوني وعاقدوني أن لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمدا ومن معه فقال له كعب حئتني والله بذل الدهر وكل ما يخشى فإني لم أر في محمد إلى صدقا ووفاء وفي لفظ جئتني بجهام أي سحاب قد هراق ماء أي لا ماء فيه يرعد ويبرق وليس فيه شيء ويحك يا حيى دعنى وما أنا عليه فلم يزل حي بكعب حتى أعطاه عهدا من الله وميثاقا لئن رجعت قريش وغطفان ولم يقتلوا محمدا أن يكون معه في حصنه ويصيبه ما أصابه فعند ذلك نقض كعب العهد وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد وجمع رؤساء قومه وهم الزبير بن مطا وشاس بن قيس وعزال بن ميمون وعقبة بن زيد واعلمهم بما صنع من نقض العهد وشق الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم فلجم الأمر لما أراد من هلاكهم وكان حي بن أخطب في اليهود يشبه بأبي جهل في قريش
فلما أنتهى الخبر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أخبره بذلك عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فقال يا رسول الله بلغني ان بني قريظة قد نقضت العهد وحاربت فاشتد الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه ذلك وأرسل سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج وأرسل معهما ابن رواحة وخوات بن جبير وأسقطهما في الإمتاع وذكر بدلهما اسيد بن خضير وقال لهم انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم فإن كان حقا فالحنوا إلي لحنا أعرفه دون القوم أي وروا وكنوا في كلامكم بما لم يفهمه القوم أي لئلا يحصل لهم الوهن والضعف والا فاجهروا بذلك بين الناس فان اللحن العدول بالكلام عن الوجه المعروف عند الناس إلى وجه لا يعرفه إلا صاحبه كما أن اللحن الذي هو الخطأ عدول عن الصواب المعروف ومنه قول القائل وخير الحديث ما كان لحنا فخرجوا حتى أتوا بني قريظة فوجدوهم قد نقضوا العهد ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أي قالوا من رسول الله وتبرءوا من عقده وعهده وقالوا لا عهد بيننا وبين محمد فشتمهم سعد بن معاذ وهم حلفاؤء أي وقيل سعد بن عبادة أي وكان في حدة وشاتموه أي ولا مانع من وجود الأمرين وقال سعد معاذ لسعد بن عبادة أو بالعكس دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم اربى أي اقوى من المشاتمة ثم اقبل السعدان ومن
____________________
(2/638)
معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنوا له عن نقضهم العهد أي قالوا عضل والقارة غدروا كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع وسيأتي خبر ذلك في السرايا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر أي وقال ابشروا يا معاشر المسلمين نصرة الله تعالى وعونه وتقنع صلى الله عليه وسلم بثوبه واضطجع ومكث طويلا فاشتد على الناس البلاء والخوف حين رأوه صلى الله عليه وسلم اضطجع ثم رفع رأسه فقال أبشروا بفتح الله ونصره أي ولعل هذا أي إرسال السعدين ومن معهما كان بعد إرساله صلى الله عليه وسلم الزبير إليهم ليأتي بخبرهم هل نقضوا العهد استثباتا للأمر
فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال كنت يوم الأحزاب أنا عمرو بن ابي سلمة مع النساء في أطم حسان بن ثابت أي وكان حسان مع النساء ومن جملتهم صفية بنت عبد المطلب واتفق أن يهوديا جعل يطوف بذلك الحصن فقالت صفية لحسان يا حسان لا آمن هذا اليهودي أن يدلهم على عورة الحصن فيأتوا إلينا فانزل فاقتله قال حسان رضي الله عنه يا بنت عبد المطلب قد عرفت ما أنا بصاحب هذا قالت فلما أيست منه أخذت عمودا ونزلت ففتحت باب الحصن وأتيته من خلفه فضربته بالعمود حتى قتلته وصعدت الحصن فقلت يا حسان انزل اليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل فقال يا ابنة عبد المطلب مالي بسلبه حاجة أي وهذا يدل على ما قيل إن حسان بن ثابت كان من أجبن الناس كما تقدم قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثا فلما رجعت قلت يا ابت رأيتك تختلف إلى بني قريظة قال رأيتني يا بني قلت نعم قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من يأتي بني قريظة فياتيني بخبرهم فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال فداك أبي وأمي أخرجه الشيخان
أي وفي كلام ابن عبد البر رحمه الله ثبت عن الزبير رضي الله عنه أنه قال جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه مرتين يوم أحد ويوم بني قريظة فقال ارم فذاك أبي وأمي وقال ولعل ذلك كان في أحد إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير وقال الزبير ابن عمتي وحواري من أمتي ويذكر ان الزبير رضي الله عنه كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج وكان يتصدق بذلك كله ولا يدخل بيته من ذلك درهما واحدا
____________________
(2/639)
وذلك من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم فقد جاء أنه لما نزل قوله تعالى { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قال له الزبير يا رسول الله أي نعيم نسأل عنه وإنما هما الأسودان التمر والماء قال اما إنه سيكون وقد جعله سبعة من الصحابة وصيا على اولادهم فكان يحفظ على أولادهم مالهم وينفق عليهم من ماله وهؤلاء السعة منهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والمقداد وابن مسعود
وعظم عند ذلك البلاء على المسلمين لما وصل إليهم الخبر أي خبر نقض بني قريظة العهد ولا منافاة بين بلوغهم الخبر ما تقدم من عدم الإفصاح به لأنهم جاءهم عدوهم من فوقهم ومن اسفل منهم حتى ظن المسلمون كل الظن وأنزل الله تعالى { إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر } وظهر النفاق من المنافقين حتى قال بعضهم كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا فأنزل الله تعالى { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا }
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الأمر بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف المري في أن يقطعهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه فجاآ مستخفيين من أبي سفيان فوافقاه على ذلك أي بعد أن طلبا النصف فأبى عليهما إلا الثلث فرضيا وكتبا بذلك صحيفة
أي وفي رواية أحضرت الصحيفة والدواة ليكتب عثمان بن عفان رضي الله عنه الصلح فلما اراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوقع صلح على ذلك بعث إلى سعد ابن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله عنهما فذكر لهما ذلك واستشارهما فيه فقالا يا رسول الله أمرا تحبه فتصنعه أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به أم شيئا تصنعه لنا أي وفي لفظ إن كان أمرا من السماء فامض له وإن كان أمرا لم تؤمر به ولك فيه هوى فسمع وطاعة وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أمرني الله ما شاورتكما والله ما اصنع ذلك إلا لأني رايت العرب قدرمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر شوكتهم إلى أمر ما فقال له سعد بن معاذ يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم أي غطفان على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا ثمرة
____________________
(2/640)
إلا قرى أو بيعا وإن كانوا ليأكلون العلهز في الجاهلية من الجهد أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نقطعهم أموالنا أي وفي لفظ نعطي الدنية مالنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنت وذاك فأخذ سعد الصحيفة فمحى ما فيها من الكتابة أي وهذا إنما يناسب الرواية الأولى وكذا ما جاء في لفظ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شق الكتاب فشقه سعد وقال لعيينة والحارث ارجعابيننا وبينكم السيف رافعا صوته ثم قال سعد ليجهدوا علينا
ثم إن طائفة من المشركين أقبلوا أي وأكرهوا خيولهم على اقتحام الخندق من مضيق به وفيهم عكرمة بن ابي جهل رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك وفيهم هبيرة بن أبي وهب أي وهو زوج ام هانئ أخت علي كرم الله وجهه رضي الله عنها وأبو أولادها مات على كفره وضرار بن الخطاب وعمرو بن عبد ود أي قيل ونوفل بن عبد الله وكان عمرو بن عبدود عمره إذ ذاك تسعين سنة فقال من يبارز فقام علي كرم الله وجهه وقال أنا له يا نبي الله فقال صلى الله عليه وسلم له اجلس إنه عمرو بن عبدود ثم كرر عمرو النداء وجعل يوبخ المسلمين ويقول أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها افلا تبرزون لي رجلا وأنشد أبياتا منها ** ولقد بححت من الندا ** ء يجمعكم هل من مبارز ** ** إن الشجاعة في الفتى ** والجود من خير الغرائز **
فقام علي كرم الله وجهه فقال أنا له يا رسول الله فقال اجلس إنه عمرو بن عبدود ثم نادى الثالثة فقام علي كرم الله وجهه فقال أنا له يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه عمرو فقال وإن كان عمرا فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشد سيدنا علي ابياتا منها ** لا تعجلن فقد أتا ** ك مجيب قولك غير عاجز ** ** ذونية وبصيرة ** والصدق منجي كل فائز **
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أعطاه سيفه ذا الفقار وألبسه درعه الحديد وعممه بعمامته وقال اللهم أعنه عليه أي وفي لفظ اللهم هذا أخي وابن عمي فلا تذرني فردا وأنت خير الوارثين
زاد في رواية أنه صلى الله عليه وسلم رفع عمامته إلى السماء وقال إلهي أخذت عبيدة
____________________
(2/641)
مني يوم بدر وحمزة يوم أحد وهذا علي أخي وأبن عمي الحديث فمشى إليه علي كرم الله وجهه فقال له يا عمرو إنك كنت قد عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين أي خصلتين إلا أخذتها منه قال له أجل أي نعم فقال له علي كرم الله وجهه فأنا أدعوك إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى الإسلام فقال لا حاجة لي بذلك قال له علي فإني أدعوك إلى البراز
قال وفي رواية إنك كنت تقول لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلى قبلتها قال أجل فقال علي فإني أدعوك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتسلم لرب العالمين فقال يا أبن أخي أخر عني هذه قال وأخرى ترجع إلى بلادك فان يك محمد صلى الله عليه وسلم صادقا كنت أسعد الناس به وإن يك كاذبا كان الذي تريد قال هذا مالا تتحدث به نساء قريش أبدا كيف وقد قدرت على استيفاء ما نذرت أي فإنه نذر لما أفلت هاربا يوم بدر وقد جرح أن لا يمس رأسه دهنا حتى يقتل محمدا صلى الله عليه وسلم قال فالثالثة ما هي قال البراز فضحك عمرو وقال إن هذه لخصلة ما كنت أظن أن أحدا من العرب يرو عني بها ا هـثم قال له عند طلب المبارزة لم يا ابن أخي فوالله ما أحب أن أقتلك فقال علي كرم الله وجهه ولكني والله أحب أن أقتلك فحمي عمرو عند ذلك أي أخذته الحمية
وفي رواية أن عمرا قال له من أنت أي لأن عليا كرم الله وجهه كان مقنعا بالحديد قال علي قال ابن عبد مناف قال أنا علي بن أبي طالب فقال غيرك يا أبن أخي من أعماك من هو أشد منك فإني أكره أن أهريق أي اسيل دمك أي وزاد في رواية فإن أباك كان لي صديقا أي وفي لفظ كنت له نديما فقال علي وأنا والله ما أكره أن أهريق دمك فغضب فقال له علي كرم الله وجهه كيف أقاتلك وأنت على فرسك ولكن انزل معي فاقتحم عن فرسه وسل سيفه كأنه شعلة نار فعقر فرسه وضرب وجهه وأقبل على علي كرم الله وجهه فاستقبله على بدرقته فضرب عمرو فيها فقدها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه فضربه علي كرم الله وجهه على حبل عاتثه أي وهو موضع الرداء من العنق فسقط وكبر المسلمون فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير عرف أن عليا كرم الله وجهه قتل عمرا لعنه الله
أي وذكر بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك قال قتل علي لعمرو بن عبدود
____________________
(2/642)
أفضل من عبادة الثقلين قال الإمام أبو العباس بن تيمية وهذا من الأحاديث الموضوعة التي لم ترد في شيء من الكتب التي يعتمد عليها ولا بسند ضعيف وكيف يكون قتل كافر أفضل من عبادة الثقلين الإنس والجن ومنهم الأنبياء قال بل إن عمرو بن عبدود هذا لم يعرف له ذكر إلى في هذه الغزوة
أقول ويرد قوله إن عمرو بن عبدود هذا لم يعرف له ذكر إلا في هذه الغزوة قول الأصل وكان مرو بن عبدود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق خرج معلما أي جعل له علامة يعرف بها ليرى مكانه أي ويرده أيضا ما تقدم من أنه نذر ان لا يمس رأسه دهنا حتى يقتل محمدا صلى الله عليه وسلم واستدلاله بقوله وكيف يكون إلي آخره فيه نظر لأن قتل هذا كان فيه نصرة للدين وخذلان للكافرين
وفي تفسير الفخر أنه صلى الله عليه وسلم قال لعي كرم الله وجهه بعد قتله لعمرو بن عبدود كيف وجدت نفسك معه يا علي قال وجدته لو كن أهل المدينة كلهم في جانب وانا في جانب لقدرت عليهم
وفي كلام السهيلي رحمه اله ولما أقبل علي كرم الله وجهه بعد قتله لعمر بن عبدود علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متهلل قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه هلا سلبته درعه فإنه ليس في العرب درع خير منها قال إني حين ضربته استقبلني بسوءته فاستحيت يا ابن عمي أن أسلبه هذا كلامه
وعندي أن هذا اشتباه من بعض الرواة لأن هذه الواقعة لعلي كرم الله وجهه إنما كانت في يوم أحد مع طلحة بن أبي طلحة كما تقدم وعمرو بن عبدود ولم يشهد أحدا كما تقدم عن الأصل فليتأمل
قال وذكر ابن اسحق ان المشركين بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفة عمرو بعشرة آلاف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو لكم ولا نأكل ثمن الموتى وحين قتل عمرو رجع من وصل الخندق من المشركين بخيلهم هاربين فتبعهم الزبير رضي الله عنه وضرب نوفل بن عبد الله بالسيف فشقه نصفين ووصلت الضربة إلى كاهل فرسه فقيل له يا ابا عبد الله ما رأينا مثل سيفك فقال والله ما هو السيف ولكنها الساعد أي وفيه أنه تقدم أن نوفل بن عبدالله وقع في الخندق فاندقت عنقه إلى آخر
____________________
(2/643)
ما تقدم لكني رأيت بعضهم قال إن وقوع نوفل في الخندق ورميه بالحجارة وقتل علي كرم الله وجهه له في الخندق غريب من وجهين فليتأمل
وحمل الزبير رضي الله عنه على هبيرة بن ابي وهب وهو زوج أم هانئ أخت علي بن أبي طالب كما تقدم فضرب ثغر فرسه فقطعه وسقطت درع كان محقبها الفرس أي جعلها على مؤخر ظهرها فأخذها الزبير وألقى عكرمة بن ابي جهل رمحه وهو منهزم أنتهى
أي وفي رواية ثم حمل ضرار بن الخطاب أخو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهبيرة ابن أبي وهب على علي كرم الله وجهه فأقبل علي عليهما فأما ضرار فولى هاربا ولم يثبت وأما هبير فثبت ثم ألقى درعه وهرب وكان فارس قريش وشاعرها
وذكر أن ضرار بن الخطاب لما هرب تبعه أخوه عمر بن الخطاب وصار يشتد في أثره فكر ضرار راجعا وحمل على عمر رضي الله عنه بالرمح ليطعنه ثم أمسك قال يا عمر هذه نعمة مشكورة أثبتها عليك ويدلي عندك غير مجزي بها فاحفظها
أي ووقع له مع عمر رضي الله عنه مثل ذلك في أحد فانه التقى معه فضرب عمر رضي الله عنه بالقناة ثم رفعها عنه وقال له ما كنت لأقتلك يا ابن الخطاب ثم من الله على ضرار فأسلم وحسن إسلامه وكان شعار المسلمين حم لا ينصرون أي ولعل المراد بالمسلمين الأنصار فلا يخالف ما في الامتاع وكان شعار المهاجرين يا خيل الله
وفيه خرجت طائفتان للمسلمين ليلا لا يشعر بعضهم ببعض ولا يظنون إلا أنهم العدو فكانت بينهم جراحة وقتل ثم نادوا بشعار الإسلام حم لا ينصرون فكف بعضهم عن بعض
وقد يقال يجوز ان تكون الطائفتان كانت من الأنصار وجاءوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم جراحكم في سبيل الله ومن قتل فهو شهيد وبهذا استدل أئمتنا على أن من قتله مسلم خطأ في الحرب يكون شهيدا
ورمى سعد بن معاذ بسهم قطع أكحله وهو عرق في الذراع تتشعب منه عروق البدن ولعله محل الفصد الذي يقال له المشترك أي ويقال لهذا العرق عرق الحياة أي رماه ابن العرقة أسم جدته سميت بذلك لطيب عرقها وقال خذها وأنا ابن العرقة فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال عرق الله وجهه في النار وقيل قائل ذلك سعد
____________________
(2/644)
رضي الله عنه وعند ذلك قال سعد اللهم إن كانت وضعت الحرب بيننا وبينهم يعني قريشا فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني وفي لفظ حتى تشفيني من بني قريظة وفي لفظ اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وأخرجوه وكذبوه
وفي يوم استمرت المقالتة قيل من سائر جوانب الخندق إلى الليل ولم يصل صلى الله عليه وسلم ولا أحد من المسلمين صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء أي وصار المسلمون يقولون ما صلينا فيقول صلى الله عليه وسلم ولا أنا فلما انكشف القتال جاء صلى الله عليه وسلم إلى قبته وأمر بلالا فأذن وأقام الظهر فصلى ثم أقام بعد كل صلاة إقامة وصلى هو وأصحابه ما فاتهم من الصلوات
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى الظهر ثم أمره فأذن وأقام فصلى العصر ثم أمره فأذن وأقام فصلى المغرب ثم أمره فأذن وأقام فصلى العشاء
أقول في الرواية الأولى ما يشهد لقول إمامنا الشافعي يندب أن يؤذن للأولى من الفوائت ويقيم لما عداها إذا قضاها متوالية وكونه يؤذن للأولى من الفوائت هو ما ذهب إليه في القديم وهو المتفي به
وفي الرواية الثانية دليل على أنه يؤذن لكل من الفوائت إذا قضاها متوالية ولم يقل به إمامنا فإنه جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه مرسلا لأنه رواه عنه ابنه أبو عبيدة ولم يسمع منه لصغر سنه
وروى إمامنا الشافعي رضي الله عنه باسناد صحيح عن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه قال حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوى أي طائفة من الليل حتى كفينا القتال وذلك قوله تعالى { وكفى الله المؤمنين القتال } فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأمره فأقام الظهر فصلاها كما كان يصلى ثم أقام العصر فصلاها كذلك ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ثم أقام العشاء فصلاها كذلك أي وفي لفظ فصلى كل صلاة كأحسن ما كان يصليها في وقتها وهو دليل لعدم ندب الأذان للفائتة وهو ما ذهب إليه إمامنا الشافعي رضي الله عنه في الجديد وهم مرجوح
وجمع الإمام النووي في شرح المهذب بين ورواية إلى الليل حتى ذهب هوى
____________________
(2/645)
من الليل بأنهما قضيتان جرتا في ايام الخندق قال فإنا كانت خمسة عشر يوما أي على ما تقدم
وفيه أن كونهما قضيتين أمر واضح لا خفاء فه لأن في الأولى وفي يوم استمرت المقاتلة إلى الليل وفي الثانية حتى كفينا القتال فمع ذلك كيف يظن انهما قضية واحدة حتى يحتاج إلى الجمع وظاهر سياق هذه الروايات أنه صلى الأربع صلوات بوضوء واحد وبه صرح البغوي في تفسير سورة المائدة وحينئذ يحتاج للجمع بينه وبين ما يأتي في فتح مكة
وروى الطحاوي استدل به مكحول والأوزاعي على جواز تأخير الصلاة لعذر القتال أن الشمس ردت له صلى الله عليه وسلم بعد ما غربت حين شغل عن صلاة العصر حتى صلى الله عليه وسلم العصر وذكر الإمام النووي في شرح مسلم أن رواته ثقات
وفي البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جاء يوم الخندق بعد ما كادت الشمس تغرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما صليتها يعني العصر فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى الله عليه وسلم بعدها المغرب وهذه الرواية تقتضي أنه لم يفته إلى العصر وأنه صلاها بعد الغروب
قال الإمام النووي رحمه الله وطريق الجمع أنه هذا كان في بعض أيام الخندق وكون صلاة العصر هي الوسطى قد جاء في بعض الروايات شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غابت الشمس ملأ الله أجوافهم وفي لفظ بطونهم وقبورهم نارا والذي في البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس وكون الوسطى هي صلاة العصر هو قول من تسعة عشر قولا ذكرها الحافظ الدمياطي في مؤلف له سماه كشف الغطا عن الصلاة الوسطى وفي الينبوع ان كون الصلاة الوسطى هي العصر هو الذي أعتقده والله اعلم
قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب فلما فرغ قال أحد منكم علم أني صليت العصر قالوا يا رسول الله ما صلينا أي لا نحن ولا انت فأمر المؤذن فأقام
____________________
(2/646)
الصلاة فصلى العصر ثم أعاد المغرب قيل وكان ذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا }
أقول يحتاج إلى الجواب عن إعادة المغرب وقد يقال أعادها مع الجماعة وأن قوله { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } يرشد إلى أن المراد بصلاة الخوف صلاة شدته لا صلاة ذات الرقاع التي نزل فيها قوله تعالى { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الآية كما تقدم فلا ينافي ما تقدم من صلاته في الرقاع بناء على تقدمها على هذه الغزوة التي هي غزوة الخندق
وحينئذ يندفع الاستدلال على أن ذات الرقاع متأخرة عن الخندق بقولهم ولم تكن شرعت صلاة الخوف أي صلاة ذات الرقاع وإلا لصلاها في الخندق ولم يخرج الصلاة عن وقتها لما علمت أن المراد بصلاة الخوف التي لم تشرع زمن الخندق صلاة شدته لا صلاة ذات الرقاع وسقط القول بان الآية التي نزلت في صلاة ذات الرقاع منسوخة فتركه صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة في الخندق لأن الخندق وإن لم يلتحم فيه القتال إلا أنهم لا يأمنون هجوم العدو عليهم فلو صلوها لكانت تلك الصلاة صلاة شدة الخوف لا صلاة ذات الرقاع لأنه شرطها أمن هجوم العدو وصلاة شدة الخوف إما أن يلتحم فيها القتال أو يخافوا هجوم العدو
وقول بعضم أن ابن اسحاق وهو إمام أهل المغاز ذكر أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بعسفان وذكر انها قبل الخندق فتكون صلاة عسفان منسوخة أيضا فيه نظر ظاهر لأن صلاة عسفان إنما كانت في الحديبية كما سيأتي وعلى تسليم أن صلاة عسفان كانت قبل الخندق فتلك يشترط فيها الأمن من هجوم العدو والله أعلم
قال ثم إن طائفة من الأنصار خرجوا ليدفنوا ميتا منهم بالمدينة فصادفوا عشرين بعيرا لقريش محملة شعيرا وتمرا وتبنا حملها ذلك حي بن أخطب شدادا وتقوية لقرش فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوسع بها أهل الخندق
ولما بلغ أبا سفيان ذلك قال إن حييا لمشئوم فلع بنا ما نجد ما نحمل عليه إذا رجعنا
ثم إن خالد بن الوليد كر بطائفة من المشركين يطلب غرة للمسلمين أي غفلتهم فصادف أسيد بن حضير على الخندق ي مائتين من المسلمين فناوشوهم أي تقاربوا منهم
____________________
(2/647)
ساعة وكان في أولئك المشركين وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه فزرق الطفيل بن النعمان فقتله ثم بعد ذلك صاروا يرسلون الطلائع بالليل يطمعون في الغارة أي الإغارة فأقام المسلمون في شدة من الخوف
أي وفي الصحيحين ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم وزلزلهم أي وقام في الناس فقال يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافيه فإن لقيتم العدو فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف أي السبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيف في سبيل الله تعالى ودعا صلى الله عليه وسلم بقوله يا صريخ المكروبين يا مجيب المضطرين اكشف همي وغمي وكربي فإنك ترى ما نزل بي وباصحابي وقال له المسلمون رضي الله عنهم هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر قال نعم قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا فاتاه جبريل عليه السلام فبشره أن الله يرسل علهم ريحا وجنودا وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك وصار يرفع يديه قائلا شكرا شكرا
وجاء أن دعاءه صلى الله عليه وسلم كان يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء واستجيب له ذلك اليوم الذي هو يوم الأربعاء بين الظهر والعصر فعرف السرور في وجهه صلى الله عليه وسلم أي ومن ثم كان جابر رضي الله عنه يدعو في مهماته في ذلك اليوم في ذلك الوقت ويتحرى ذلك
والاحاديث والآثار التي جاءت بذم يوم الأربعاء محمولة على آخر اربعاء في الشهر فإن ذلك ذلك اليوم ولد فرعون وادعى الربوبية وأهلكه الله فيه وهو اليوم الذي أصيب فيه أيوب عليه الصلاة و السلام بالبلاء
قال وكان صلى الله عليه وسلم يختلف إلى ثلمة في الخندق والثلمة الخلل في الحائط فعن عائشة رضي الله عنها قالت وكان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى تلك الثلمة فإذا أخذه البرد جاء فأدفأته في حضني فإذا دفئ خرج إلى تلك الثلمة ويقول ما أخشى أن تؤتى المسلمون إلا منها فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضني صار يقول ليت رجلا صالحا يحرس هذه الثلمة الليلة فسمع صوت السلاح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هذا فقال سعد بن أبي وقاص سعد يا رسول الله أتيتك أحرسك
____________________
(2/648)
فقال عليك هذه الثلمة فاحرسها ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى غط وقام صلى الله عليه وسلم في قبته يصلي لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ومن ثم لما نعي لابن عباس أخوه قثم وهو في سفر اسرجع وتنحى عن الطريق وصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس وتلا { واستعينوا بالصبر والصلاة }
ثم خرج صلى الله عليه وسلم من قبته فقال هذه خيل المشركين تطيف بالخندق ثم نادى يا عباد بن بشر قال لبيك قال هل معك أحد قال نعم انا في نفر حوق قبتك يا رسول الله وكان ألزم الناس لقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرسها فبعثه صلى الله عليه وسلم يطيف بالخندق وأعلمه بأن خيل المشركين تطيف بهم ثم قال اللهم ادفع عنا شرهم وانصرنا عليهم واغلبهم لا يغلبهم غيرك وإذا أبو سفيان في خيل يطوفون بمضيق من الخندق فرماهم المسلمون حتى رجعوا
ثم إن نعيم بن مسعود الأشجعي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ليلا فقال يا رسول الله إني أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت قال وفي رواية أن نعيما لما سارت الاحزاب سار مع قومه أي غطفان وهو على دينهم فقذف الله في قلبه الإسلام فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء فوجده يصلي فلما رآه جلس ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء بك يا نعيم قال جئت أصدقك وأشهد أن ما جئت به حق فأسلم انتهى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنت رجل واحد فخذل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة بتفح الخاء وسكون الدال المهملة أي ينقضي أمرها بالمخادعة فقال له نعيم يا رسول الله إني أقول أي ما يقتضيه الحال وإن كان خلاف الواقع قال قل ما بدا لك فأنت في حل
فخرج نعيم رضي الله عنه حتى أتى بني قريظة وكان لهم نديما قال فلما رأوني رحبوا بي وعرضوا علي الطعام والشراب فقلت إني لم آت لشئ من هذا إنما جئتكم تخوفا عليكم لأشير عليكم برأي يا بني قريظة قد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم قالوا صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم اكتموا عني قالوا نفعل قال لقد رأيتم ما وقع لبني قينقاع ولبني النضير من إجلائهم وأخذ أموالهم وإن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم البلد بلدكم وبها أموالكم ونساؤكم وأبناؤكم لا تقدرون على أن ترحلوا منه إلى غيره وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتمهوهم أي عاونتموهم عليه
____________________
(2/649)
وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة أي فرصة أصابوها وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين بلدكم والرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا منهم رهنا من اشرافهم أي سبعين رجلا يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمدا حتى يناجزوه أي يقاتلوه قالوا له لقد أشرت بالرأي والنصح ودعوا له وشكروا وقالوا نحن فاعلون قال ولكن اكتموا عني قالوا نفعل
ثم خرج رضي الله عنه حتى أتى قريشا فقال لابي سفيان ومن معه سن أشراف قريش قد عرفتم ودي لكم وفراقي لمحمد وإنه قد بلغني أمر قد رأيت أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا قالوا نفعل قال تعلمون أن معشر يهود يعني بني قريظة قد ندموا على ما صنعا فيما بينهم وبين محمد أي من نقض عهده وقد أرسلوا اليه أي وأنا عندهم أنا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين قريش وغطفان رجالا من أشرافهم أي سبعين رجلا فنعطيكهم فتضرب أعناقهم أي وترد جناحنا الذي كسرت إلى ديارهم يعنون بني النضير ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم فأرسل إليهم نعم فإن بعث إليكم يهود يطلبون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا اليهم رجلا واحدا واحذروهم على أسراركم ولكن اكتموا عني ولا تذكروا من هذا حرفا قالوا لا نذكر
ثم خرج رضي الله عنه حتى اتى غطفان فقال يا معشر غفطان إنكم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهمونني قالوا صدقت ما أنت عندنا بمتهم قال فاكتموا علي قالوا نعم فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم
فلما كان ليلة السبت أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش غطفان فقالوا لهم إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتى ننجاز أي نقاتل محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه فأرسلوا إليهم إن اليوم أي الذي يلي هذه الليلية يوم السبت وقد علمتم ما نال منا من تعدي في السبت ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا أي سبعين رجلا فقالوا صدق والله نعيم
وفي رواية أن بني قريظة ارسلت لقريش مجيء رسل قريش إليهم رسولا يقول لهم ما هذا التواني والرأي أن تتواعدوا على يوم يكونون معكم فيه لكنهم لا يخرجون
____________________
(2/650)
حتى ترسلوا اليهم رهنا سبعين رجلا من أشرافكم فإنهم يخافون إن أصابكم ما تكرهون رجعتم وتركتموهم فلم ترد لهم قريش جوابا وجاءهم نعيم وقال له كنت عند أبي سفيان وقد جاءه رسولكم فقال لو طلبوا مني عناقا ما دفعتها لهم فاختلفت كلمتهم أي وجاء حي بن أخطب لبني قريظة فلم يجد منهم موافقة له وقالوا لا نقاتل معهم حتى يدفعوا الينا سبعين رجلا من قريش وغطفان رهنا عندنا وبعث الله تعالى ريحا عاصفا أي وهي ريح الصبا في ليال شديدة البرد فنقلت بيوتهم وقطعت أطنابها وكفأت قدورهم على أفواهها وصارت الريح تلقي الرجال على امتعتهم
وفي رواية دنفت الرجال وأطفأت نيرانهم أي وأرسل الله اليهم الملائكة زلزلتهم قال تعالى { فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها } ولم تقاتل الملائكة بكل نفثت في روعهم الرعب وقال صلى الله عليه وسلم نصرت بالصبات وأهلكت عاد بالدبور وفي لفظ نصر الله المسلمين بالريح وكانت ريحا صفراء ملأت عيونهم ودامت عليهم
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه اختلاف كلمتهم وكانت تلك الليللة شديدة البرد والريح في أصوات ريحها أمثال الصواعق وسيأتي أنها لم تجاوز عسكر المشركين وشديدة الظلمة بحيث لا يرى الشخص أصبعة إذا مدها
فجعل المنافقون يستأذنون ويقولون إن بيوتنا عورة أي من العدو لأنها خارج المدينة وحيطانها قصيرة يخشى عليها السرقة فائذن لنا أن نرجع إلى نسائنا وابنائنا وذرارينا فيأذن صلى الله عليه وسلم لهم
قيل ولم يبق معه صلى الله عليه وسلم تلك الليلة إلا ثلثمائة وقال من يأتينا بخبر القوم فقال الزبير رضي الله عنه أنا قال صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاثا والزبير يجبيه بما ذكر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكل نبي حواري أي ناصر وإن حواري الزبير اي وهذا قاله صلى الله عليه وسلم له ايضا عند إرساله لكشف خبر بني قريظة هل نقضوا العهد أو لا كما تقدم وسيأتي قول ذلك له أيضا في خيبر وفي الحديث حواري الزبير من الرجال وحواري من النساء عائشة وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال ألا رجل يقم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة وفي لفظ يكون معي يقوم القيامة وفي لفظ يكون رفيق ابراهيم يوم القيامة قال ذلك ثلاثا فما قام أحد من شدة الخوف والجوع والبرد فدعا صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان قال فلم أجد بدا من القيام حيث فوه باسمي
____________________
(2/651)
فجئته صلى الله عليه وسلم فقال تسمع كلامي منذ الليلة ولا نقوم فقلت لا والذي بعثك بالحق إن قدرت أي ما قدرت على ما بي من الجوع والبرد والخوف فقال اذهب حفظك الله من أمامك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك حتى ترجع إلينا قال حذيفة فلم يكن لي بد من ا القيام حين دعاني وقال يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فقمت مستبشرا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني احتملت احتمالا وذهب عني ما كنت أجد من الخوف والبرد وعهد صلى الله عليه وسلم إلي أن لا أحدث حدثا وفي رواية أما سمعت صوتي قلت نعم قال فما منعك ان تجيبني قلت البرد قال لا برد عليك حت ترجع كما يدل على ذلك الرواية الآتية فقال له إن في القوم خبرا فائتني بخبر القوم قال وفي رواية إنه صلى الله عليه وسلم لما كرر قوله ألا رجل يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة ولم يجبه أحد قال ابو بكر رضي الله عنه يا رسول الله حذيفة قال حذيفة فمر علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما علي جنة من العدو والبرد إلا مرطا لامرأتي ما يجاوز ركبتي وأنا جاث على ركبتي فقال من هذا قلت حذيفة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة قال حذيفة رضي الله عنه فتقاصرت بالأرض قلت بلى يا رسول الله قال قم فقمت فقال إنه كائن في القوم خبر فائتني بخبر القوم فقلت والذي بعثك بالحق ما قمت إلا حياء منك من البرد قال لا بأس عليك من حر ولا برد حتى ترجع إلي فقلت والله ما بي أن اقتل ولكن أخشى أن أوسر فقال إنك لن تؤسر اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته فمضيت كأني أمشي في حمام مأخوذ من الحميم وهو الماء الحار وهو عربي قال حذيفة فلما وليت دعاني فقال لي لا تحدثن شيئا وفي رواية لا ترم بسهم ولا حجر ولا تضربن بسيف حتى تأتيني فجئت إليهم ودخلت في غمارهم فسمعت ابا سفيان يقول يا معشر قريش ليتعرف كل امرئ منكم جليسه واحذروا الجواسيس والعيون فأخذت بيد جليسي على يميني وقلت من أنت فقال معاوية بن ابي سفيان وقبضت يد من علي يساري وقلت من أنت قال عمرو بن العاص فعلت ذلك خشية أين يفطن بي فقال أبو سفيان يا معشر قريش والله إنكم لستم بدار مقام ولقد هلك الكراع والخف واخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل ووثب علي جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم أي فإنه لما ركبه كان معقولا
____________________
(2/652)
فلما ضربه وثب على ثلاثة قوائم ثم حل عقاله فقال له عكرمة بن أبي جهل إنك رأس القوم وقائدهم تذهب وتترك الناس فاستحيا أبو سفيان وأناخ جمله وأخذ بزمامه وهو يقوده وقال ارحلوا فجعل الناس يرحلون وهو قائم ثم قال لعمرو بن العاص يا أبا عبدالله نقيم في جريدة من الخيل بإزاء محمد وأصحابه فإنا لا نأمن أن نطلب فقال عمرو أنا أقيم وقال لخالد بن الوليد ما ترى أبا سليمان فقال أنا أيضا أقيم فأقام عمرو وخالد في مائتي فارس وسار جميع العسكر قال حذيفة رضي الله عنه ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي حين بعثني أن لا أحدث شيئا لقتله يعني أبا سفيان بسهم وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاشتدوا راجعين إلى بلادهم
وفي رواية فدخلت العسكر فإذا الناس في عسكرهم يقولون الرحيل الرحيل لا مقام لكم والريح تقلبهم على بعض امتعتهم وتضربهم بالحجارة والريح لا تجاوز عسكرهم فلما انتصفت الطريق إذا أنا بنحو عشرين فارسا معتمين فخرج إلي منهم فارسان وقالا أخبر صاحبك ان الله كفاه القوم قال حذيفة ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته قائما يصلي فخبرته فحمد الله تعالى وأثنى عليه أي وفي رواية فأخبرته الخبر فضحك حتى بدت ثناياه في سواد الليل وعاودني البرد فجعلت أقرقف فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فدنوت منه فسدل علي من فضل شلمته فنمت ولم أزل نائما حتى الصبح أي طلوع الفجر فلما أن أصبحت أي دخل وقت صلاة الصبح وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قم يا نومان أي يا كثير النوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قاله له لا بأس عليك من برد حتى ترجع إلي
أي ومن هذا أي إرسال حذيفة رضي الله عنه وما تقدم أي من إرسال الزبير رضي الله عنه تعلم أن ذلك كان في الخندق ولا مانع منه لأن يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم عدل عن ارسال الزبير واختار حذيفة لأمر قام عنده صلى الله عليه وسلم من جملة ذلك كون الزبير رضي الله عنه حدة وشدة لا يملك نفسه أن يحدث بالقوم ما نهى عنه حذيفة رضي الله عنه وحينئذ يرد قول بعضهم إن الزبير انما أرسل لكشف أمر بني قريظة هل نقضوا العهد أم لا لا لكشف أمر قريش وحذيفة رضي الله عنه ذهب لكشف أمر قريش هل ارتحلوا أولا وقد اشتبه الأمر على بعض الناس فظنهما قضية واحدة فليتأمل ذلك
____________________
(2/653)
وكان يقال لحذيفة رضي الله عنه صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه غيره فقد قال حذيفة رضي الله عنه لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان وبما يكون حتى تقوم الساعة أي وتقدم أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقال له ايضا صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد ذكر ابن ظفر في ينبوع الحياة في تفسير قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها } وهبت ريح الصبا ليلا فقلعت الأوتاد وألقت عليهم الابنية وكفأت القدور وسفت عليهم التراب ورمتهم بالحصا وسمعوا في ارجاء أي نواحي معسكرهم التكبير وقعقعة السلاح أي من الملائكة فصار سيد كل حي يقول لقومه يا بني فلان هلموا إلي فإذا اجتمعوا قال النجاء النجاء فارتحلوا هرابا في ليلتهم وتركوا ما استتقلوه من متاعهم أي والصبا هي الريح الشرقية
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال الصبا للشمال اذهبي بنا ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن الحرائر لا تهب بالليل فغضب الله عليها فجعلها عقيما ويقال لها الدبور فكان نصره صلى الله عليه وسلم بالصبا وكان إهلاك عاد بالدبور وهي الريح العربية وحين انجلاء الأحزاب قال صلى الله عليه وسلم الآن نغزوهم ولا يغزونا وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبع ليال من ذي القعدة أي بناء على أنها كانت في القعدة وهو قول ابن سعد وقيل كانت في شوال وكان ذلك سنة خمس أي كا قاله الجمهور قال الذهبي وهو المقطوع به وقال ابن القيم إنه الاصح وقال الحافظ ابن حجر هو المعتمد وقيل سنة أربع وصححه الإمام النوي في الروضة قال بعضهم وهو عجيب فإنه صحح أن غزوة بني قريظة كانت في الخامسة ومعلوم أنها كانت عقب الخندق
أي وفيه أنه يجوز أن تكون بنو قريظ أوائل الخامسة والخندق أواخر الرابعة فتكون في ذي الحجة واستدل من قال إن الخندق كانت سنة أربع بما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه عرض رسول الله يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه ثم عرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه فيكون بينهما سنة واحدة أي وكانت سن ثلاث فيكون الخندق سنة أربع
قال الحافظ ابن حجر ولا حجة فيه لاحتمال أن يكون ابن عمر رضي الله عنهما
____________________
(2/654)
في أحد كان أول ما طعن في الرابعة عشرة وكا في الأحزاب قد استكمل الخمسة عشرة وسبقه إلى ذلك البيهقي وحينئذ يكون بين أحد والخندق سنتان كما هو الواقع لاسنة واحدة
ومما وقع من الآيات في هذه الغزوة في مدة حفر الخندق غير ما تقدم ان بنت بشير بن سعد جاءت لأبيها وخالها أي عبد الله بن رواحة بجفنة من التمر ليتغذيا بها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتيه فصبته في كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ملأهما ثم أمر بثوب فبسطت له ثم قال لإنسان عنده اصرخ في أهل الخندق أن هلموا إلى الغداء فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه وإنه ليسقط من أطراف الثوب أي فإن أهل الخندق أصابهم مجاعة قال بعض الصحابة لبثنا ثلاثة أيام لا نذوق زادا وربط صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه من الجوع
أقول أورد ابن حبان في صحيحه لما أورد الحديث الذي فيه نهيه صلى الله عليه وسلم عن الوصال وقالوا ما مالك تواصل يا رسول الله قال إني لست مثلكم إني ابيت يطعمني ربي ويسقيني
قال يستدل بهذا الحديث على بطلان ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يضع الحجر على بطنه من الجوع لأنه كان يطعم ويسقي من ربه إذا واصل فكيف يترك جائعا مع عدم الوصال حتى يحتاج إلى شد الحجر على بطنه وإنما لفظ الحديث الحجز بالزاي وهو طرف الإزار فصفحوا وزادوا لفظ من الجوع
وأجيب أنه لا منافاة كان صلى الله عليه وسلم يطعم ويسقي إذا واصل في الصوم أي يصير كالطاعم والساقي تكرمة له ولا يحصل له ذلك دائما بل يحصل له الجوع في بعض الأحايين على وجه الابتلاء الذي يحصل للأنبياء عليهم الصلاة والسلام تعظيما لثوابهم والله اعلم
وإن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لما علم ما به صلى الله عليه وسلم من شدة الجوع صنع شويهة وصاعا من شعير قال جابر وإنما أريد ان ينصرف معي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فلما قلت له أمر صارخا فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت جابر بن عبدالله قال جابر فقلت { إنا لله وإنا إليه راجعون } فأقبل الناس معه أي بعضهم فجلس صلى الله عليه وسلم فأخرجناها إليه فبرك ثم سمى الله تعالى ثم أكل وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا أي وذهبوا إلى الخندق وجاء
____________________
(2/655)
آخرون حتى صدر أهل الخندق عنها وهم ألف فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانصرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي وإن عجيننا ليخبز كما هو
قال وفي رواية أن جابرا رضي الله تعالى عنه لما رأى ما به صلى الله عليه وسلم من الجوع استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانصراف إلى بيته فأذن له قال جابر فجئت لامرأتي وقلت لها إني رأيت رسول الله خمصا شديدا افعندك شيء قالت عندي صاع من شعير وعناق فذبحت العناق وطحنت الشعير وجعلت اللحم في برمة فلما أمسينا جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساورته وقلت له طعيم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان فشبك صلى الله عليه وسلم أصابعه في اصابعي وقال كم هو فذكرت له قال كثيرا طيب لا تنزلن برمتكم لا تخبزن عجينكم حتى أجئ وصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم سؤارا أي ضيافة فحيهلا بكم أي سيروا مسرعين وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس قال جابر رضي الله عنه فلقيت من الحياء مالا يعلمه إلا الله والله إنها لفضيحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادخلوا عشرة عشرة أي بعد أن اخرجت له عجيننا فبصق فيه وبارك ثم عمد صلى الله عليه وسلم إلى برمتنا وبصق فيها وبارك الحديث أي ومجئ القوم كان على الوجه المتقدم وإن أم عامر الأشهلية أرسلت بقصعة فيها حيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في القبة عنده أم سلمة رضي الله تعالى عنها فأكلت أم سلمة حاجتها ثم خرج بالقصعة ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم هلموا إلى عشائه فأكل أهل الخندق حتى نهلوا منها وهي كما هي
وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله ونفعنا ببركاته أنه قدم لأربعة عشرة رجلا من الفلاحين رغيفا واحدا فأكلوا منه كلهم وشبعوا قال وقدمت مرة الطاجن الذي نعمله في الفرن إلى سبعة عشر نفسا فأكلوا منه وشبعوا وذكر أنه شاهد شيخه الشيخ محمدا الشناوي رحمه الله ونفعنا ببركاته وقد جاء من الريف ومعه نحو خمسين رجلا ونزل بزاوية شيخه الشيخ محمد السروي فتسامع مجاورو الجامع الأزهر بمجيئه فأتوا لزيارته فامتلأت الزاوية وفرشوا الحصر في الزقاق ثم قال لنقيب شيخه هل عندك طبيخ قال نعم الطبيخ الذي أفعله لي ولزوجتي فقال له لا تغرف شيئا حتى
____________________
(2/656)
أحضر ثم غطى الشيخ الدست بردائه وأخذ المغرفة وصار يغرف إلى ان كفى من في الزاوية ومن في الزقاق وهذا شيء رأيته يعيني هذا كلامه
ولا يدع فقد ذكر غير واحد من العلماء كالحافظ ابن كثير ان كرامات الأولياء معجزات للأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن الولي إنما نال ذلك ببركة متابعته لنبيه وثواب إيمانه به وهذا كلامه
قال وأرسل أبو سفيان كتابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه باسمك اللهم فإني أحلف باللات والعزى أي وأساف ونائلة وهبل كما في لفظ لقد سرت إليك في جمع وأنا أريد أن لا أعود اليك أبدا حتى أستأصلكم فرأيتك قد كرهت لقاءنا واعتصمت بالخندق أي وفي لفظ قد اعتصمت بمكيدة ما كانت العرب تعرفها وإنما تعرف ظل رماحها وشباب سيوفها وما فعلت هذا إلا فرارا من سيوفنا ولقائنا ولك مني يوم كيوم أحد فأرسل له صلى الله عليه وسلم جوابه فيه أما بعد أي بعد بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى صخر بن حرب كذا في كلام سبط بن الجوزي فقد أتاني كتابك وقديما غرك بالله الغرور أما ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا فذلك أمر يحول الله بينك وبينه ويجعل لنا العاقبة وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وأسافا ونائلة وهبل حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني غالب انتهى غزوة بني قريظة
وهم قوم من اليهود بالمدينة من حلفاء الأوس وسيد الأوس حينئذ سعد بن معاذ رضي الله عنه كما تقدم
لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وكان وقت الظهيرة أي وقد صلى الظهر ودخل بيت عائشة رضي الله عنها وقيل زينب بنت جحش رضي الله عنها ودعا بماء فبينما هو صلى الله عليه وسلم يغتسل أي غسل شق رأسه الشريف وفي رواية بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغسل برجل رأسه قد رجل أحد شقيه أي وفي رواية غسل رأسه واغتسل ودعا بالمحمرة ليتبخر أتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم معتجرا بعمامة أي سوداء من استبرق وهو نوع من الديباج مرخيا منها بين كتفيه وفي رواية عليه لامته
____________________
(2/657)
ولا معارضة لأنه يجوز أن يكون الاعتجار بالعمامة على تلك اللامة وهو على بغلة أي شهباء عليها قطيفة وهي كساء له وبر من ديباج أي احمر
وفي رواية جاءه على فرس أبلق فقال أو قد وضعت السلاح يا رسول الله قال نعم قال جبريل عليه السلام ما وضعت السلاح وفي روايه ما وضعت ملائكة الله السلاح بعد قال وفي رواية أنه قال يا رسول الله ما أسرع ما حللتم عذيرك من محارب عفا الله عنك أي من يعذرك وفي لفظ غفر الله لك أو قد وضعم السلاح قبل أن تضعه الملائكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم قال فوالله ما وضعناه وفي لفظ ما وضعت الملائكة السلاح منذ نزل بك العدو وما رجعنا الآن إلا من طلب القوم يعني الأحزاب حتى بلغنا الأسد انتهى أي جراء الأسد إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد اليهم زاد في رواية بمن معي من الملائكة فمزلزل بهم الحصون زاد في رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في أصحاب جهدا فلو نظرتهم أياما فقال جبريل عليه السلام إنهض إليهم فو الله لأذقنهم كدق البيض على الصفا ولأدخلن فرسي هذا عليهم في حصونهم ثم لأضعضعنها فأدبر جبريل عليه السلام ومن معه من الملائكة حتى سطع الغبار في زقاق بني غنم وهم طائفة من الأنصار
وفي البخاري عن أنس قال كأني انظر على الغابر ساطعا في زقاق بني غنم موكب جبريل عليه السلام حين سار لبني قريظة والموكب بكسر الكاف اسم لنوع من السير
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بينا هو عندي إذ دق الباب أي وفي رواية نادى مناد أي في موضع الجنائز عذيرك من محارب أي من يعذرك فارتاع لذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي فزع ووثب وثبة منكرة وخرج فخرجت في أثره فإذا رجل على دابة والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ على معرفة الدابة يكلمه فرجعت فلما دخل قلت من ذلك الرجل الذي كنت تكلمه قال ورأيته قلت نعم قال بمن تشبهينه قلت بدحية الكلبي قال ذاك بكسر الكاف جبريل عليه السلام أمرني أن أمضي إلى بني قريظة أي وهذا يؤيد أنه صلى الله عليه وسلم كان عند منصرفه من الخندق
____________________
(2/658)
في بيت عائشة وأبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا أي وهو بلال كما في سيرة الحافظ الدمياطي فأذن في الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر أي وفي رواية الظهر إلا ببني قريظة
قال في النور والجمع بينهما أن الأمر بعد دخول وقت الظهر بالمدينة وقد صلى بعضهم دون بعض فقيل للذين لم يصلوا الظهر لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة وقيل للذين صلوها لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة
وفي رواية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مناديا يا خيل الله أي يا فرسان خيل الله اركبي ثم سار اليهم قال وقد لبس صلى الله عليه وسلم السلاح والدرع والمغفر والبيضة وأخذ قناة بيده الشريفة وتقلد السيف وركب فرسه اللجيف بالضم وقيل ركب حمارا وهو اليعفور عريانا والناس حوله قد لبسوا السلاح وركبوا الخيل وهم ثلاثة آلاف والخيل ستة وثلاثون فرسا له صلى الله عليه وسلم منها ثلاثة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه برايته إلى بني قريظة
أي وفي رواية دفع إليه لواءه وكان اللواء على حاله لم يحل من مرجعه من الخندق ومر صلى الله عليه وسلم بنفر من بني النجار قد لبسوا السلاح فقال هل مر بكم أحد قالوا نعم دحية الكلبي مر على بغلة بيضاء
أي وفي رواية على فرس أبيض عليه اللامة وأمرنا بحمل السلاح وقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلع عليكم الآن فلبسنا سلاحنا وصففنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك جبريل عليه السلام بعث إلى بني قريظة ليزلزل حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم
فلما دنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من الحصن أي ومعه نفر من المهاجرين والانصار وغرز اللواء عند أصل الحصن سمع من بني قريظة مقالة قبيحة في حقه صلى الله عليه وسلم أي وحق ازواجه أي فسكت المسلمون وقالوا السيف بيننا وبينكم فلما رأى علي كرم الله وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا أمر أبا قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن يلزم اللواء ورجع إليه صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله لا عليك أن لا تدنوا من هؤلاء الأخابث قال لعلك سمعت منهم لي أذى قال نعم يا رسول الله قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا
____________________
(2/659)
فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال يا أخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته قال وفي رواية نادى بأعلى صوته نفرا من أشرافهم حتى أسمعهم وقال اجيبوا يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطاغوت أي وهو ما عبد من دون الله كما تقدم هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته أتشتموني فجعلوا يحلفون ويقولون ما قلنا ويقولون يا أبا القاسم ما كنت جهولا أي وفي لفظ ما كنت فاحشا وفي رواية تقدمه صلى الله عليه وسلم إلى يهود أسيد بن حضير رضي الله عنه فقال لهم يا أعداء الله لا تبرحوا من حصنكم حتى تموتوا جوعا إنما أنتم بمنزلة ثعلب في جحر فقالوا يا ابن الحضير نحن مواليكم وخاروا أي خافوا قال لا عهد بين وبينكم وتقدم أسيد إلى بني قريظة يجوز أن يكون قبل مقدم علي عليهم ويجوز أن يكون بعده
وإنما قال لهم يا اخوان القردة والخنازير لان اليهود مسخ شبانهم قردة وشيوخهم خنازير عند اعتدائهم يوم السبت بصيد السمك وقد حرم عليهم ذلك كسائر الأعمال وقد أمرهم أن يتفرغوا لعبادة ربهم في ذلك اليوم وكان ذلك في زمن داود عليه السلام فلما مسخوا خرجوا من تلك القرية هائمين على وجوههم متحيرين فمشوا ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يشربون ثم ماتوا وهذا دليل لمن يقول إن المسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثا أيام ولم يحصل منه توالد ولا تناسل
وفي الكشاف قيل إن أهل أيلة أي وهي قربة بين مصر ومدين لما اعتدوا في السبت قال داود عليه الصلاة والسلام اللهم العنهم واجعلهم للناس آية فمسخوا قردة
ولما كفر اصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام بعد المائدة قال عيسى اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل مافيهم امرأة ولا صبي هذا كلامه فليتأمل فمكثو ثلاثة ايام لا يأكلون ولا يشربون فماتوا
ثم إن جماعة من الصحابة شغلهم ما لم يكن لهم منه بد عن المسير لبني قريظة ليصلوا بها العصر فأخروا صلاة العصر إلى أن جاءوا بعد عشاء الآخرة امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم لا يصلين العصر إلا في بني قريظة فصلوا العصر بها بعد عشاء الآخرة أي وبعضهم قال نصلي ما يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم منا أن ندع الصلاة ونخرجها عن وقتها وإنما أراد الحث على الإسراع فصلوها في أماكنهم ثم ساروا فما عابهم الله في كتابه ولا عنفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أي لأن كلا من الفريقين تأول
____________________
(2/660)
قال في الهدى كل من الفريقين مأجور بقصده إلا أن من صلى حاز الفضيلتين ولم يعنف الذين أخروها لقيام عذرهم في التمسك بظاهر الأمر وهو دليل على أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب
وادعى ابن التين رحمه الله أن الذين صلوا العصر صلوها على ظهور دوابهم قال لأنهم لو صلوا نزولا لكان مضادة لما أمروا به من الإسراع ولا يظن ذلك مع تقرب أفهامهم قال الحافظ ابن حجر رحمة الله وفيه نظر لأنه لم يأمرهم بترك النزول ولم أر أنهم صلوا ركبانا في شيء من طرق القصة والتعليل بالإسراع يقتضي أنهم صلوا على ظهور دوابهم سائرة ولا واقفة
وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة خمسا وعشرين ليلة وقيل خمسة عشرة يوما أي وقيل شهرا وكان طعام الصحابة التمر يرسل به إليهم سعد بن عبادة رضي الله عنه أي يجاء به من عنده وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ نعم الطعام التمر حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب وكان حي بن أخطب دخل مع بني قريظة حصنهم حين رجعت الاحزاب وفاء لكعب بما كان عاهده عليه أي كما تقدم فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم أي يقاتلهم قال كبيرهم كعب بن أسيد يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا أيها شئتم قالوا وما هي قال نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم ونسائكم وأبنائكم قال وزاد في لفظ آخر وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب حيث لم يكن من بني اسرائيل ولقد كنت كارها لنقض العهد ولم يكن البلاء والشؤم إلا من هذا الجالس يعني حي بن أخطب أتذكرون ما قال لكم ابن خراش حين قدم عليكم إنه يخرج بهذه القرية نبي فاتبعوه وكونوا له انصارا وتكونوا آمنتم بالكتابين الأول والآخر ا هـأي التوراة والقرآن
أي وكانت يهود بني قريظة يدرسون ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم ويعلمون الولدان صفته وأن مهاجره المدينة
وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت يهود بني قريظة وبني النضير وفدك
____________________
(2/661)
وخيبر يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وأن دار هجرته المدينة ولما قال لهم كعب ذلك قالوا لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره قال كعب فإذا أبيتم على هذه فهلم فانقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد واصحابه رجالا مصلتين السيوف ولم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بييننا وبين محمد فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا وراءنا نسلا أي ولدا يخشى عليه وإن نظفر فلعمري لنجدن النساء والأبناء قالوا نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم قال فإن أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت وأن عسى أن يكون محمد واصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة أي غفلة فقالوا نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا إلا من قد علمت وأصابه مالم يخف عليك من المسخ قال وقال لهم عمرو بن سعد قد خالفتم محمدا فيما حالفتموه أي عاهدتموه عليه ولم أشكركم في غدركم فإن أبيتم أن تدخلوا معه فاثبتوا على اليهودية وأعطوا الجزية فوالله ما أدري يقبلها أم لا قالوا نحن لا نقر للعرب بخراج في رقابنا يأخذونه القتل خير من ذلك قال فإني بريء منكم وخرج في تلك الليلة فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة فقال محمد بن مسلمة من هذا قال عمرو بن سعدي قال مر اللهم لا تحرمني إقالة عثرات الكرام وخلى سبيله وبعد ذلك لم يدر أين هو وقل وجدت رمته وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره فقال ذلك رجل نجاه الله بوفاته
وفي لفظ أنه قال لهم قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم لحصارهم يا بني قريظة لقد رأيت عبرا رأيت دار إخواننا يعني بني النضير خالية بعد ذلك العز والخلد والشرف والرأي الفاضل والعقل تركوا أموالهم قد تملكها غيرهم وخرجوا خروج ذل لا والتوراة ما سلط هذا على قوم قط ولله بهم حاجة وقد أوقع ببني قينقاع وكانوا أهل عدة وسلاح ونخوة فلم يخرج أحد منهم رأسه حتى سباهم فكلم فيهم فتركهم على إجلائهم من يثرب يا قوم قد رأيتم ما رأيتم فأطيعوني وتعالوا نتبع محمدا فوالله إنكم لتعلمون أنه نبي وقد بشرنا به علماؤنا ثم لا زال يخوفهم بالحرب والسبي والجلاء ثم أقبل على كعب بن أسيد وقال والتوراة التي انزلت على موسى عليه السلام يوم طور سيناء إنه للعز والشرف في الدنيا
فبينما هم على ذلك لم يرعهم إلا مقدمة النبي صلى الله عليه وسلم قد حلت بساحتهم
____________________
(2/662)
فقال هذا الذي قلت لكم أي وبعد الحصار قيل أرساوا بنباش بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلوا على ما نزلت عليه بنو النضير من أن لهم ما حملت الإبل إلا الحلقة فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم ويسلم لهم نساءهم والذرية فارسلوه ثانيا بأنه لا حاجة لهم بشيء من الأموال لا من الحلقة ولا من غيرها فابى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد نباش إليهم بذلك ا هـثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة أي وهو رفاعة بن المنذر لنستشيره في أمرنا أي لأنه كان من حلفاء الأوس وبني قريظة منهم
وفي لفظ وكان ابو لبابة مناصحا لهم لأن ماله وولده وعياله كانت في بني قريظة فارسله صلى الله عليه وسلم إليهم فلما رأوه قام اليه الرجال وجهش أي أسرع اليه النساء والصبيان يبكون في وجهه من شدة المحاصرة وتشتيت ما لهم فرق لهم وقال يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد قال نعم وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح
أي وفي لفظ ما ترى إن محمدا قد أبى أن لا ينزل إلا على حكمه قال فانزلوا وأومأ إلى حلقه
ويروى انهم قالوا له ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ فأومأ أبو لبابة بيده إلى حلقه أنه الذبح فلا تفعلوا قال ابو لبابة رضي الله عنه فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله ورسوله أي لأن في ذلك تنفيرا لهم عن الانقياد له صلى الله عليه وسلم ومن ثم أنزل الله فيه { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول } الآية أي وقيل نزل { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم } الآية وهذ أثبت من الأول وقد يقال كلاهما نزل فيه تلك الآية في توجه اللوم عليه وهذه في توبته
لا يقال هي ليست نصا في توبة الله عليه لأنا نقول الترجي في حقه تعالى أمر محقق
وعن ابي لبابة رضي الله عنه لما ارسلت بنو قريظة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يرسلني إليهم دعاني قال اذهب إلى حلفائك فانهم ارسلوا اليكم من بين
____________________
(2/663)
الأوس فذهبت إليهم فقام كعب بن اسيد فقال يا ابا بشير قد عرفت ما بيننا وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا ومحمد لا يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه فلوا زال عنا لحقنا بأرض الشام أو خيبر ولم نطأ له أرضا ولم نكثر عليه جمعا أبدا أما ترى قد اخترناك على غيرك أننزل على حكم محمد قال ابو لبابة نعم فانزلوا وأومأ إلى حلقه بالذبح قال فندمت واسترجعت فقال لي كعب مالك يا ابا لبابة فقلت خنت الله ورسوله فنزلت وإن عيني لتسيل من الدموع ثم انطلق ابو لبابة على وجهه فلم يات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتبط بالمسجد إلى عمود من عمده أي وهي السارية ويقال لها الاسطوانة وهي التي كانت عند باب ام سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في حر شديد وقيل الأسطوانة المخلقة التى يقال لها أسطوانة التوبة والأول أثبت وكانت تلك الأسطوانة أكثر تنقله صلى الله عليه وسلم عندها وكان ينصرف إليها من صلاة الصبح فكان يستبق إليها الفقراء والمساكين ومن لا بيت له إلا المسجد فيجئ اليهم صلى الله عليه وسلم ويتلوا عليهم ما أنزل من ليلته ويحدثهم ويحدثونه وكان ارتباطه بسلسلة ريوض أي ثقيلة وقال والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب اله علي مما صنعت وعاهد الله أن لا يطأ بني قريظة أبدا ولا يرى في بلد خان الله ورسوله فيه أبدا فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره كان استبطأه قال اما لو جاءني لاستغفرت له وأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه حتى يتوب الله عليه
هذا وفي كلام البيهقي وأورده في الدر أن ارتباطه إنما كان لتخلفه عن تبوك فقد ذكر أنه لما أشار بيده إلى حلقه وأخبر عنه صلى الله عليه وسلم بذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسبت أن الله غفل عن يدك حيث تشير إليهم بها إلى حلقك فلبث حينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عاتب عليه ثم لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك كان ابو لبابة فيمن تخلف فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي رجع جاءه أبو لبابة يسلم عليه فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففزع أبو لبابة وارتبط بالسارية
واستغرب ذلك بعضهم فقال وأغرب من ادعى أن أبا لبابة إنما فعل ذلك لتخلفه عن غزوة تبوك
ثم إن بني قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فامر بهم فكتفوا
____________________
(2/664)
وجعلوا ناحية وكانوا ستمائة وقيل سبعمائة وخمسين مقاتلا وهو الذي تقدم عن حيي ابن خطب
ولا يخالف هذا ما قيل إنهم كانوا بين الثمانمائة والسبعمائة وقيل كانوا أربعمائة مقاتل
ولا يخالف ما قبله لأنه يجوز أن يكون ما زاد على ذلك كانوا أتباعا لا يعدون واخرج النساء والذراري من الحصون وجعلوا ناحية أي وكانوا ألفا واستعمل عليهم عبد الله بن سلان فتواثب الأوس وقالوا يا رسول الله موالينا وحلفاؤنا وقد فعلت في موالي إخواننا بالامس ما قد فعلت يعنون بني قينقاع لأنهم كانوا حلفاء الخزرج ومن الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول وقد نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم وقد كلمه فيهم عبد الله بن أبي بن سلول فوهبهم له على أن يجلوا كما تقدم أي فظنت الأوس من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب لهم بني قريظة كما وهب بني قينقاع للخزرج فلما كلمته الأوس أبى أن يفعل ببني قريظة ما فعل ببني قينقاع ثم قال لهم أما ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم قالوا بلى فقال فذلك إلى سعد بن معاذ أي وقيل إنه صلى الله عليه وسلم قال لهم اختاروا من شئتم من اصحابي فاختاروا سعد بن معاذ أي وهو رضي الله عنه سيد الأوس حينئذ كما تقدم وقيل إنهم قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فرضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه يومئذ في المسجد في خيمة رفيدة رضي الله عنها وقد كان صلى الله عليه وسلم قال لقوم سعد بن معاذ حين أصابه السهم بالخندق اجلعوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قرب أي لأن رفيدة رضي الله عنها كان لها خيمة في المسجد تداوي فيها الجرحى من الصحابة ممن لم يكن له من يقوم عليه فأتاه قومه فحملوه على حمار ثم أقبلوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون له يا أبا عمرو أحسن في مواليك فان رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم بأحسن فيهم فقد رأيت ابن أبي وما صنع في حلفائه وهو ساكت فلما اكثروا عليه قال رضي الله عنه لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم فقال بعضهم واقوماه
فلما انتهى سعد رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين وهم حوله جلوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا إلى سيدكم أي زاد في رواية
____________________
(2/665)
فانزلوه فقال عمرو رضي الله عنه السيد هو الله وفي رواية إلى خيركم أي معاشر المسلمين من المهاجرين والأنصار أو معاشر الانصار فقاموا اليه فقالوا يا ابا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم وفي رواية فقمنا صفين يحييه كل رجل منا حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكم فيهمي يا سعد فقال الله ورسوله أحق بالحكم قال قد أمرك الله أن تحكم فيهم فقال سعد أي لمن في الناحية التي ليس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم كما حكمت قالوا نعم قال وعلى من ههنا مثل ذلك وأشار إلى الناحية التى فيها رسول الله وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم أي وفي لفظ فقال سعد لبني قريظة أترضون بحكمي قالوا نعم فأخذ عليهم عهد الله وميثاقه أن الحكم ما حكم به قال سعد فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وفي لفظ أن يقتل كل من جرت عليه الموسى وتغنم الاموال وتسبى الذراري والنساء زاد بعضهم وتكون الديار للمهاجرين دون الانصار فقالت الأنصار إخواننا يعنون المهاجرين لنا معهم فقال إني أحببت ان يستغنوا عنكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة ارقعة أي السموات السبع قيل سميت بذلك لانها رقعت بالنجوم
وجاء في الصحيح من فوق سبع سموات والمراد أن شأن هذا الحكم العلو والرفعة قد طرقني بذلك الملك سحرا
ثم أمر صلى الله عليه وسلم أن يجمع ما وجد في حصونهم من الحلقة والسلاح وغير ذلك فجمع فوجد فيها ألف وخمسائمة سيف وثلثمائة درع وألفى رمح وخمسمائة ترس وحجفة ووجد أثاثا كثيرا وآنية كثيرة وأجمالا نواضح أي يسقى عليها الماء وماشية وشياها كثيرة وخمس ذلك أي مع النخل والسبي حتى الرثة وهو السقط من امتعة البيت خمسة أجزاء ففض أربعة أسهم على الناس فجعل الفارس ثلاثة أسهم أي سهم له وسهمان لفرسه والراجل سهما قال بعضهم وهو أول فيء وقعت فيه السهام ورضخ للنساء اللاتي حضرن القتال وهن صفية عمته صلى الله عليه وسلم وأم عمارة وأم سليط وأم العلاء والسميراء بنت قيس وأم سعد بن معاذ وكبشة بنت رافع
____________________
(2/666)
ولم يسهم لهن وأخذ هو صلى الله عليه وسلم جزءا وهو الخمس وعبارة بعضهم وهو اول فيء وقعت فيه السهمان وخمس أي جزئ خمسة أجزاء وكتب في سهم لله ثم أخذ ذلك السهم الذي خرج عليه وعلى سنته مضت قسمة الغنائم
وفي كون هذا أول في جرت فيه السهمان نظر إنما كان ذلك في بني قينقاع فان الفيء الحاصل منهم خمس خمسة أخماس أخذ صلى الله عليه وسلم واحدا والأربعة لأصحابه أي ووجد جرار خمر فأهريق ولم يخمس وهذ يدل على أن الخمر كانت محرمة قبل ذلك
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالأسارى أن يكونوا في دار أسامة بن زيد رضي الله عنهما والنساء والذرية في دار ابنة الحارث النجارية أي لأن تلك الدار كانت معدودوة لنزول الوفود من العرب
وقيل في دار كبشة بنت الحرث بن كريز كانت تحت مسيلمة الكذاب ثم خلف عليها عبد الله بن عامر بن كريز وهذه إنما نزل في دارها وفد بني حنيفة كما سيأتي وبالمتاع أن يحمل وترك المواشي هناك ترعى الشجر
ثم غدا صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم خرج إلى سوق المدينة فخندق فيها خنادق أي حفر فيها حفائر ثم أمر بقتل كل من أنبت فبعث اليهم فجاءوا إليه أرسالا تضرب أعناقهم ويلقون في تلك الخنادق وقد قال بعضهم لسيدهم كعب بن أسيد يا كعب ما تراه يصنع بنا قال في كل موطن لا تعقلون أما ترون أن من ذهب منكم لا يرجع هو والله القتل قد دعوتكم إلى غير هذا فأبيتم علي قالوا ليس حين عتاب فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله لى أي وذلك ليلا على شعل السعف
ثم رد عليهم التراب في تلك الخنادق وعند قتلهم صاحت نساؤهم وشقت جيوبها ونشرت شعورها وضربت خدودها وملأت المدينة نواحا
وكن من جملة من أتى معهم عدو الله حيي بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألم يمكن الله منك يا عدو الله قال بلى أبي الله إلا تمكينك مني أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل
____________________
(2/667)
وفي كلام السهيلي رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم لما قال له ألم يكن الله منك فقال بلى ولقد قلقنا كل مقلقل ولكنه من يخذلك يخذل فقوله يخذلك كقول الآخر في البيت ولكنه من يخذل الله يخذل لأنه إنما نظم في البيت كلام حي
ثم أقبل على الناس فقال أيها الناس إنه لا با س بأمر الله كتاب وقدر وملحمة أي قتال كتب الله على بني اسرائيل ثم جلس فضربت عنقه قال ولما أت بكعب ابن اسيد سيد بني قريظة قال له النبي صلى الله عليه وسلم يا كعب قال نعم يا ابا القاسم قال ما انتفعتم بنصح بن خراش لكم وكان مصدقا بي أما امركم باتباعي وأن رأيتموني تقرءوني منه السلام قال بلى والتوراة يا أبا القاسم ولولا ان تعيرني يهود بالجزع من السيف لاتبعتك ولكنه على دين يهود فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقدم فيضرب عنقه ففعل به ذلك أي وكان المتولي لقتلهم علي بن ابي طالب كرم الله وجهه والزبير بن العوام رضي الله عنه
أقول في الإمتاع وجاء سعد بن عبادة والحباب بن المنذر فقالا يا رسول الله إن الأوس قد كرهت قتل بني قريظة لمكان حلفهم فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه ما كرهه أحد من الأوس فيه خير فمن كرهه فلا أرضاه الله فقام أسيد بن حضير فقال يا رسول الله لا تبق دارا من دور الاوس إلا فرقتهم فيها ففرقهم في دور الانصار فقتلوهم هذا كلامه والضمير في قتلوهم ظاهر في رجوعه للأوس وأنهم المراد بالانصار
وقد يقال لا مخالة لانه يجوز أن يكون المراد بالأوس الذين كرهوا ذلك طائفة منهم وأن تلك الطائفة قتلوا من بعث به إلى دورهم وما عدا ذلك تعاطى قتله علي والزبير والله اعلم
ولم يقتل من نسائهم إلا امراة واحد أخرجت من بين النساء يقال لها نباتة وقيل مزنة كانت طرحت رحى على خلاد بن سويد رضي الله عنه فقتلته بارشاد زوجها لأنه أحب أن لا تبقى بعده فيتزوجها غيره
وقد أسهم صلى الله عليه وسلم لخلاد بن سويد هذا وقال إن له أجر شهيدين وأسهم لسنان بن محصن وقد مات في زمن الحصار
وعن عائشة رضي الله عنها قالت لم يقتل من نسائهم يعني بني قريظة إلا امرأة
____________________
(2/668)
واحدة قالت والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا أي وكانت جارية حلوة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجلها في السوق أي لأنها دخلت على عائشة وبنو قريظة يقتلون إذ هتف هاتف باسمها أين نباته قالت انا والله قالت عائشة فقلت لها ويلك مالك قالت أقتل قلت ولم قالت لحدث أحدثته أي وفي لفظ قتلني زوجي فقالت لها عائشة كيف قتك زوجك قالت أمرني أن ألقي رحى على أصحاب محمد كانوا تحت الحصن مستظلين في فيئة فأدركت خلاد بن سويد فشدخت رأسه فمات وأنا قتل به
وفي لفظ آخر إني كنت زوجة رجل من بني قريظة وكان بيني وبينه كاشد ما يتحاب الزوجان فلما اشتد امر المحاصرة قلت لزوجي يا حسرتي على أيام الوصال كادت أن تنقضي وتتبدل بليالي الفراق وما أصنع بالحياة بعدك فقال زوجي إنك صادقة في دعوة المحبة تعالي فإن جماعة من المسلمين جالسون في ظل حصن قال الزبير بن بطا وهو بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة فألقى عليهم حجر الرحا لعله يصيب واحدا منهم فيقتله فإن ظفروا بنا فإنهم يقتلونك بذلك ففعلت قالت فانطلق بها فضرب عنقها فكانت عائشة رضي الله عنها تقول والله ما ألقى عجبا منها طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تقتل
وكان في بني قريظة الزبير بن بطا وهو جد الزبير بن ابنه عبد الرحمن وهو بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة كإسم جده وقيل بضم الزاي وفتح المثناة وهو قول البخاري في التاريخ وكان شيخا كبيرا وكان قد من على ثابت بن قيس في الجاهلية يم بغاث وهي حرب التي كانت بين الأوس والخزرج قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة وكان الظفر فيها للأوس على الخزرج آخرا كما تقدم أخذه فجز ناصيته ثم خلى سبيله فجاء ثابت رضي الله عنه للزبير فقال له يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني قال فهل يجهل مثلي مثلك قال إني أردت أن اجزيك بيدك عندي إن الكريم يجزي الكريم وأحوج ما كنت إليك اليوم وعبد الرحمن هذا هو الذي تزوج امرأة رفاعة وشكته للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الذي معه كهدية الثوب وأحبت طلاقه لها
ثم أتى ثابت رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه كان للزبير علي منة وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه فقال رسول الله صلى الله عليه
____________________
(2/669)
وسلم هو لك فأتاه فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك فهولك فقال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة قال ثابت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله بابي أنت وأمي امرأته وولده فقال هم لك قال فأتيته فقلت قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك وولدك فهم لك فقال أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك قال فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ماله قال هو لك فاتيته فقلت له قد اعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك فهو لك فقال أي ثابت أما أنت فقد كافأتني وقد قضيت الذي عليك ما فعل بالذي كان وجهه مرآة مضيئة تتراءى منها عذارى الحي كعب بن اسد أي سيد بني قريظة قلت قتل قال فما فعل بسيد الحاضر والبادي أي من يحملهم في الجدب ويطعمهم في المحل حي بن أخطب قلت قتل قال فما فعل بمقدمتنا بكسر الدال مشددة إذا شددنا وحامينا إذا فررنا عزال بالعين المهملة وتشديد الزاي ابن سمؤال بالسين المهملة مفتوحة ومكسورة قلت قتل قال فما فعل المجلسان بكسر اللام محل الجلوس وبفتحها المصدر يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة قلت قتلا وفي لفظ قتلوا قال فإني أسألك يا ثابت بيدك عندي إلا ألحقني بالقوم فوالله ما بالعيش بعد هؤلاء من خير أأرجع إلي دار قد كانوا حلولا فيها فأخلد فيها بعدهم لا حاجة لي فما أنا صابر لله إفراغة لدو ناضح أي مقدار الزمن الذي يفرغ فيه ماء الدلو وفي رواية فتلة دلو ناضح بالفاء والتاء مثناة فوق وقيل بالقاف والباء الموحدة أي مقدار ما يتناول المستسقى للدلو حتى ألقى الأحبة قال ثابت فقدمته فضربت عنقه
أي وقيل إن ثابتا رضي الله عنه قال له ما كنت لاقتلك فقال لا أبالي من قتلني فقتله الزبير بن العوام رضي الله عنه
ولما بلغ أبي بكر رضي الله عنه مقالته ألقى الأحبة قال يلقاهم والله في نار جهنم خالد فيها مخلدا
قال في الأصل وذكر أبو عبيدة هذ الخبر وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لك أهله وماله إن أسلم أي ولم يسلم فكان أهله وماله من جملة الفيء وكان القتل لكل من أنبت ولم ينبت يكون في السبي
قال عطية القرظي رضي الله عنه كنت غلاما فوجدني لم أنبت فخلا سبيلي أي عن
____________________
(2/670)
القتل وكان رفاعة قد أنبت فأرادوا قتله فلاد بسلمى بنت قيس أم المنذر وكانت إحدى خالاته صلى الله عليه وسلم أي خالات جده عبد المطلب لأنها من بني النجار فقالت بأبي وأمي يا رسول الله هب لي رفاعة فوهبه لها أي فأسلم
وقرت عين سعد بن معاذ رضي الله عنه بقتل بني قريظة حيث استجاب الله دعوته فإنه سأل الله تعالى لما اصيب بالسهم في الخندق وقال لا تمتنى حتى تقر عيني من بني قريظة كما تقدم
أي وفي بعض الروايات أن دعاءه رضي الله عنه بذلك كان في الليلة التي في صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تقدم عن بعض الروايات
أي ويجوز أن يكون رضي الله عنه دعا بذلك مرتين وفي لفظ فدعا الله أن لا يميته حتى يشفى صدره من بني قريظة
ويمكن أن يكون صاحب الهمزية رحمه الله أشار إليه سب بني قريظة له صلى الله عليه وسلم ونهى بعض اشرافهم لهم عن نقضهم العهد الذي كان بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم الذي سببه حي بن خطب لعنه الله واغترارهم بالأحزاب بقوله ** وتعدوا إلى النبي حدودا ** كان فيها عليم العدواء ** ** واطمأنوا بقول الأحزاب إخوا ** نهم إننا لكم أولياء ** ** وبيوم الأحزاب إذ زاغت ال ** أبصار فيه وضلت الأراء ** ** وتعاطوا في أحمد منكر القو ** ل ونطق الأراذل العوراء ** ** كل رجس يزيده الخلق السو ** ء سفاها والملة العوجاء ** ** فانظروا كيف كان عاقبة القو ** م وما ساق للبذي البذاء ** ** وجد السب فيه سما ولم يد ** ر إذ الميم في مواضع باء ** ** كان من فيه قتله بيديه ** فهو من سوء فعله الزباء ** ** أو هو النحل قرصها يجلب الح ** تف إليها وماله إنكاء **
أي ولما انقضى شأن بني قريظة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم فكان كذل وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك بعد انقضاء الأحزاب وانفجر جرح سعد بن معاذ أي الذي في يده وسال الدم واحتضنه صلى الله عليه وسلم فجعلت الدماء تسيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/671)
فمات منه وحمل إلى منزله ولم يعلم صلى الله عليه وسلم بموته فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم من الليل معتجرا بعمامة من استبرق فقال يا محمد من هذا العبد الصالح وفي لفظ من هذا الميت التي فتحت له ابوب السماء واهتز له العرش وفي رواية عرش الرحمن أي فتحت أبواب السماء لصعود روجه واهتز العرش أي تحرك فرحا بذلك وقال النووي اهتزاز العرش هو فرح الملائكة بقدوم روحه
وفيه أنه هذا لا يحتاج اليه إلا لو كان تحرك العرش مستحيلا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا يجر ثوبه إلى سعد بن معاذ فوجده قد مات
وعن سلمة بن أسلم بن حريش رضي الله عنه قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في البيت أحد إلا سعدا مسجي فرأيته يتخطى وأومأ صلى الله عليه وسلم إلى قف فوقفت ورددت من ورائي وجلس صلى الله عليه وسلم ساعة ثم خرج فقلت يا رسول الله ما رأيت أحدا ورأيتك تتخطى فقال ما قدرت على مجلس حتى قبض لي ملك من الملائكة أحد جناحيه
أقول قد وقع له صلى الله عليه وسلم نظير ذلك عند تشييعه لجنازة ثعلبة بن عبد الرحمن الأنصاري رضي الله عنه فإنه صار يمشي على أطراف أنامله فلم ادفن قيل يا رسول الله رأيناك تمشي على أطراف أناملك قال والذي بعثني بالحق ما قدرت أن أضع قدمي من كثرة ما نزل من الملائكة لتشييعه وقصته مذكوة في السيرة الشامية
ولما حملوا نعش سعد رضي الله عنه وكان جسيما وجدوا له خفة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن له حملة غيركم أي من الملائكة لقد نزل سبعون ألف ملك شهدوا سعدا أي جنازته ومنهم جملة ماوطئوا الأرض إلا يومهم هذا وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال كنت ممن حفر لسعد رضي الله عنه قبره فكان يفوح علينا المسك كلما حفرنا قبره من تراب
وجاء لو كان أحد ناجيا من ضمة القبر لنجا منا سعد ضم ضمة ثم فرج الله عنه وعن جابر بن عبد اله رضي الله عنهما قال لما دفن سعد رضي الله عنه ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح الناس معه ثم كبر فكبر الناس معه فقالوا يا رسول لم سبحت أي وكبرت قال لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرجه الله عنه
____________________
(2/672)
وجاء إن بعض أهل سعد رضي الله عنه سئل ما بلغكم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أي في سبب تضايق القبر على سعد كما يرشد إليه جوابهم بقولهم فقالوا ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال كان يقصر في بعض الطهور من البول بعض التقصير وهذا قد يخالف ما في الخصائص الصغرى وخص رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يضغط في قبره وكذلك الانبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يسلم من الضغطة صالح ولا غيره سواهم وكذا ما في التذكرة للقرطبي إلا فاطمة بنت أسد ببركته صلى الله عليه وسلم أي حيث اضطجع صلى الله عليه وسلم في قبرها ويحتاج للجمع بينه وبين ما في الخصائص
وجاء عن عائشة رضي الله عنها رضي الله عنه أنها قالت يا رسول الله ما انتفعت بشيء منذ سمعتك تذكر ضغطة القبر وضمته فقال يا عائشة إن ضغطة القبر على المؤمن كضمة الأم الشفيقة يديها على رأس ابنها يشكو إليها الصداع وضرب منكر ونكير عليه كالكحل في العين ولكن يا عائشة ويل للشاكين الكافرين أولئك الذين يضغطون في قبورهم ضغطا يقبض على الصخر أي وحينئذ يكون المراد بالمؤمن الذي هذا شأنه الذي لم يحصل منه تقصير فلا ينافي ما تقدم عن سعد فليتأمل وقد روى البيهقي رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ رضي الله عنه بين العمودين وبه استدل أئمتنا على أن ذلك أفضل من حمل الجنازة بالتربيع الذي اعتاده الناس الآن
ومشى صلى الله عليه وسلم أمام جنازته ثم صلى عليه وجاءت أمه رضي الله عنها ونظرت إليه في اللحد وقالت أحتسبك عند الله وعزاها رسول الله وهو واقف على قدميه على القبر فلما سوى التراب على قبره رش عليه الماء ثم وقف صلى الله عليه وسلم ودعا ثم انصرف وناحت عليه امه فقال صلى الله عليه وسلم كل ناحئة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ رضي الله عنه أي فإنه رضي الله عنه موصوف بكل ما يقال فيه من الأوصاف الحسنة بخلاف غيره
وبعث صاحب دومة الجندل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبة من سندس كما سيأتي فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم يعجبون من تكل الجبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن يعني من هذا ومن المعلوم أن المنديل أدنى الثياب لأنه معد للامتهان فثيابه رضي الله عنه في الجنة أعلى وأغلى وقد
____________________
(2/673)
وهب صلى الله عليه وسلم تلك الجبة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ونزلت توبة أبي لبابة رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة رضي الله عنها قالت أم سلمة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر يضحك قالت فقلت مم تضحك يا رسول الله أضحك الله سنك قال تيب علي أبي لبابة قالت قلت أفل أبشره يا رسول الله قال بلى إن شئت فقامت على باب حجرتها قيل وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب وهو لا يناسب ما تقدم في قصة الإفك فقالت يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك قال فثار الناس إليه ليطلقوه فقال لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده الشريفة
وقيل المبشر له عائشة رضي الله تعالى عنها فلما مر صلى الله عليه وسلم على ابي لبابة خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه
وجاء ان فاطمة رضي الله عنها أرادت إطلاقه فأبى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاطمة بضعة مني أي وظاهر هذا أنه رضي الله عنه كان يبر بإطلاق سيدتنا فاطمة رضي الله عنها له فليتأمل
وقد أقام مربوطا ست ليالي أي أو سبع ليال وقيل سبع عشرة ليلة وقيل خمس عشرة ليلة وعليه اقتصر في الامتاع وكان تأتيه امرأته أو بنته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة وكذا إذا أراد حاجة الإنسان ثم يعود فيربط بالعمود حتى كاد يذهب سمعه وبصره ولا مانع أن امرأته وبنته كانتا تتناوبان في ذلك
أي وجاء أنه رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم من تمام توبتي أن أهجر دار قوم أصبت فيها الذنب وفيه أنه تقدم أنه عاهد الله على ذلك قال وأن أنخلع من مالي فقال له عليه الصلاة والسلام يجزيك الثلث أي تتصدق به أي ولم يأمره صلى الله عليه وسلم أن يهجر تلك الدار والجمع بينه وبين ما تقدم من أنه عاهد الله أن لا يطأ تلك الدار ممكن
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري بسبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بهم خيلا وسلاحا قال وفي لفظ بعث سعد بن عبادة إلى الشام بسبايا يبيعهم ويشتري بهم سلاحا وخيلا أي فاشترى بذلك خيلا كثيرا قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين واشترى عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما
____________________
(2/674)
جملة من السبايا فجعلت تلك الجملة من السبايا قسمين جعلت الشواب على حدة وجعلت العجائز على حدة ثم خير عبد الرحمن بن عوف عثمان بن عفان فأخذ العجائز وأخذ عبد الرحمن الشواب وجعل عثمان رضي الله عنه على كل واحدة منهن شيئا إن أتت به عتقت فكان المال يوجد عند العجائز ولا يوجد عند الشواب فربح عثمان مالا كثيرا أقول ويحتاج إلى الجمع
وقد يقال إن كان المراد بالسبايا في قصة سعد بن عبادة وعثمان وعبد الرحمن سبايا بني قريظة فيكون قسموا ثلاثة أقسام قسم أعطى لسعد بن زيد وقسم أعطى لسعد بن عبادة وقسم اشتراه عثمان وعبد الرحمن ووقع الفداء في سبايا بني قريظة وحينئذ يكون المراد بقول القائل وبعث سعد بن زيد بسبايا بني قريظة أي بجملة منهم وبعث سعد بن عبادة بسبايا أي بسبايا بني قريظة أي بجملة منهم وإن كان المراد بالسبايا في قصة سعد بن عبادة غير سبايا بني قريظة فالأمر ظاهر ويدل لهذا الثاني إسقاط بني قريظة منه
ثم رأيته في الإمتاع أسقط قصة سعد بن زيد الأنصاري واقتصر على سعد بن عبادة حيث قال ولما سبيت السبايا والذرية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة إلى الشام مع سعد بن عبادة رضي الله عنه يبيعهم ويشتري سلاحا هذا كلامه والله أعلم
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين الأم وولدها أي في السبايا الأعم من قريظة وقال لا يفرق بين أم وولدها حتى يبلغ قيل يا رسول الله وما بلوغه قال تحيض الجارية ويحتلم الغلام وكان إذا وجد الولد الصغسير ليس له أم لم يبع من المشركين أي مشركي العرب ولا من يهود وإنما يباع من المسلمين أي وكانت أم الولد الصغير تباع المشركين هي وولدها من العرب ومن يهود المدينة
قال في الإمتاع وكان يفرق بين الأختين إذا بلغتا ومقتضاه انهما إذا لم يبلغا لا يفرق بينهما وأئمتنا معاشر الشافعية لم يحرموا الا التفرقة بين الأصول والفروع إذا لم يميزوا وهو محمل قوله صلى الله عليه وسلم من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ولعله لم تصح تلك الرواية عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه
واصطفى صلى الله عليه وسلم لنفسه منهم ريحانة بنت عمرو وهو شمعون مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني النضير وكانت متزوجة في بني قريظة ولعله مراد من
____________________
(2/675)
قال إنها كانت من بني قريظة أي وكانت جميلة وأسلمت بعد أن أبت الإسلام ووجد صلى الله عليه وسلم في نفسه أي غضب بسبب ذلك أي بسبب عدم إسلامها ولم يظهر ذلك ثم لما أسلمت سر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك
فقد جاء لما أبت ريحانة الإسلام عزا لها صلى الله عليه وسلم ووجد في نفسه لذلك وأرسل إلى ثعلبة بن شعبة وكان ممن نزل من حصون بني قريظة في الليلة التي صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم سعد بن معاذ أي علي ما في بعض الروايات وأسلم هو وإخوته أسيد وأسيد وأسد وابن عمه واحرزوا دماءهم وأموالهم وليسوا من بني قريظة وإنما هم من بني هذيل فذكر له صلى الله عليه وسلم ذلك فقال سعد فداك ابي وأمي هي مسلمة أي ظنا منها أنها تسلم فخرج حتى جاءها ولا زال يقول لها أسلمى يصطفيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه فاجابت إلى ذلك وأسلمت فبينما هو صلى الله عليه وسلم في مجلس من أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال إن هاتين لنعلا مبشري بإسلام ريحانه فكان كذلك واخبره أنها أسلمت فسر صلى الله عليه وسلم بذلك واستمرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في ملكه اختارت بقاءها في ملكه على العتق والنكاح أي فقد خيرها صلى الله عليه وسلم يين أن يعنقها ويتزوجها أو تكون في ملكه يطؤها بالملك فاختارت أن تكون في ملكه
قال بعضهم والأثبت عند أه لالعلم أنه أعتقها وتزوجها وأصدقها عشرة أوقية ونشا وأعرس بها في المحرم سنة ست بعد أن حاضت حيضة وضرب عليها الحجاب فغارت عليه فطلقها تطليقة فأكثرت من البكاء فراجعها ولم تزل عنده صلى الله عليه وسلم حتى ماتت مرجعه من حجة الوداع سنة عشر فدفنها بالبقيع ووجوب استبرائها بحيضة يدل لما قاله فقهاؤنا ان من ملك أمه وطئها غيرها وطئا غير محرم لا يحل تزوجها قبل استبرائها وإن أعتقها
وتقدم أن قريظة والنضير أخوان من أولاد هرون على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام
____________________
(2/676)
غزوة بني الحيان
بناحية عسفان ولحيان بكسر اللام وفتحها قبيلة من هذيل
لا يخفى أن بعد مضى ستة أشهر من غزوة بني قريظة غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني لحيان يطلبهم بأصحاب الرجيع أي وهم خبيب واصحابه رضي الله عنهم الذين قتلوا ببئر معونة كما سيأتي ذكر ذكر في السرايا أي لأنه صلى الله عليه وسلم وجد أي حزن وجدا شديدا على اصحابه المقتولين بالرجيع وأراد أن ينتقم من هذيل فأمر اصحابه بالتهيؤ وأظهر أنه يريد الشام أي ليدرك من القوم غرة أي غفلة واستعمل على المدينة أبن ام مكتوم رضي الله عنه وخرج في مائتي رجل ومعهم عشرون فرسا ولما وصل صلى الله عليه وسلم إلى المحل الذي قتل فيه أهل الرجيع ترحم عليهم ودعا لهم بالمغفرة فسمعت به بنو لحيان فهربوا إلى رءوس الجبال أي وأرسل السرايا في كل ناحية فلم يجدوا أحدا أي وأقام على ذلك يومين فلما رأى صلى الله عليه وسلم أنه فاته ما أراده من غرتهم قال لو أنا هبطنا عسفان لرأي أهل مكة أنا قد جئنا مكة فخرج في مائتي راكب من اصحابه حتى نزل عسفان وهذا يدل على أن اصحابه كانوا أكثر من مائتين وهو يخالف ما تقدم أنه خرج في مائتي رجل إلا أن يقال زادوا على المائتين بعد خروجه
ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ثم كرا راجعين وفي لفظ آخر فبعث أبا بكر رضي الله عنه في عشرة فوارس القصة أي وقد يقال لا منافاة بين اللفظين
ثم توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال جابر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين وجه أي توجه إلى المدينة آيبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون أي وفي رواية لربنا عابدون أعوذ بالله من وعثاء السفر أي مشقة السفر وكآبة أي حزن المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال قال وزاد بعضهم اللهم بلغنا بلاغا صالحا يبلغ إلى خير مغفرتك ورضوانك قيل ولم يسمع هذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك وكانت غيبته عن المدينة أربع عشرة ليلة ا هـ
وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من بني لحيان وقف على الأبواء فنظر
____________________
(2/677)
يمينا وشمالا فرأى قبر أمه آمنة فتوضأ ثم صلى ركعتين فبكى وبك الناس لبكائه ثم قام فصلى ركعتين ثم انصرف إل الناس وقال لهم صلى الله عليه وسلم ما الذي أبكاكم قالوا بكيت فبكينا يا رسول الله قال ما ظننتم قالوا ظننا أن العذاب نازل علينا قال لم يكن من ذلك شئ قالوا ظننا أن أمتك كلفت من الأعمل مالا تطيق قال لم يكن من ذلك شيء ولكني مررت بقبر أمي فصليت ركعتين ثم استأذنت ربي عز وجل أن أستغفر لها فزجرت زجرا أي منعت عن ذلك منعا شديدا فأبكاني وفي لفظ فعلى بكائي هذا أي فعلى هذا بكائي
والذي في الوفاء أنه صلى الله عليه وسلم وقف على عسفان فنظر يمينا وشمالا فأبصر قبر أمه فورد الماء فتوضأ ثم صلى ركعتين قال بريدة فلم يفجأنا إلا ببكائه فبكينا لبكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف فقال ما الذي أبكاكم الحديث
ثم دعا براحلته فركبها فسار يسيرا فأنزل الله تعالى { ما كان للنبي } صلى الله عليه وسلم { والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } إلى آخر الأيتين فلما سرى عنه الوحي قال أشهدكم أني برى من آمنة كما تبرأ إبراهيم من أبيه
أي وهذا السياق يدل على أن هاتين الآيتين غير ما زجر به عن الاستغفار لها المتقدم في قوله فزجرت زجرا فليتأمل
وفي مسلم عن أبي ايوب رضي الله عنه قال زار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزورها أي بعد ذلك فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت
وسيأتي عن عائشة رضي الله عنها أن في حجة الوداع مر صلى الله عليه وسلم على عقبة الحجون فنزل وقال لها وقفت على قبر أمي وسيأتي أن ذلك يدل على أن قبر أمه بمكة لا بالأبواء وتقدم الجمع بين كونه بالأبواء وكونه بمكة وسيأتي بالحديبية أنه صلى الله عليه وسلم زار قبرها وفي فتح مكة أيضا وسيأتي الكلام على ذلك وأن ذلك كان قبل إحيائها له وإيمانها به صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/678)
غزوة ذي قرد
بفتح القاف والراء وقيل بضمهما أي وقيل بضم الأول وفتح الثاني اسم ماء والقرد في الأصل الصوف الردئ ويقال لها غزوة الغابة والغابة الشجر الملتف
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من غزوة بني لحيان لم يقم بها إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة بن حصن في خيل من غطفان على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة أي وكانت اللقاح عشرين لقحة وهي ذات اللبن القريبة من الولادة أي لها ثلاثة أشهر ثم هي لبون وفيها رجل من بني غفار هو ولد أبي ذر الغفاري وزوجة لأبي ذر فقوله وامرأة له أي لأبي ذر رضي الله عنه لا لولده كما يعلم مما يأتي وكان راعيها يئوب أي يرجع بلبنها كل ليلة عند المغرب إلى المدينة أي فإن المسافة بينها وبين المدينة يوم أو نحو يوم فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة مع اللقاح
وعند ابن سعد كان فيها أبو ذر وولده أي وزوجة أي ذر فقتلوا ولده أي واحتملوا المرأة قال جاء أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون في اللقاح فقال له صلى الله عليه وسلم لا تأمن عيينة بن حصين وذويه أن يغيروا عليك فألح عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لكأني بك قد قتل ابنك وأخذت امرأتك وجئت تتوكأ على عصاك فكان أبو ذر رضي الله عنه يقول عجبا لي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لكأني بك وأنا الح عليه فكان والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني والله لف منزلنا ولقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم قد روحت وحلبت عتمتها ونمنا فلما كان الليل أحدق بنا عيينة بن حصن في اربعين فارسا فصاحوا بنا وهم قيام على رءوسنا فاشرف لهم ابني فقتلوه وكان معه ثلاثة نفر فنجوا وتنحيت عنهم وشغلهم عني إطلاق عقل اللقاح ثم صاحوا في أدبارها فكان آخر العهد بها ولما قدمت المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته تبسم آه أي وروى بدل عيينة بن حصن ابنه عبد الرحمن بن عيينة بن حصن قال بعضهم ولا منافاة لأن كلا من عيينة بن حصن وعبد الرحمن بن عيينة كانا في القوم وكان أول من علم بهم سلمة بن الأكوع رضي الله عنه فإنه غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ومعه غلام
____________________
(2/679)
لطلحة بن عبيد الله معه فرس له أي لطلحة يقوده فلقي غلاما لعبد الرحمن بن عوف فأخبره أن عيينة بن حصن قد أغار على لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربعين فارسا من غطفان قال سلمة فقلت يا رباح اقعد على هذا الفرس فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قد أغير على سرحه
أي وهذا السياق يدل على ان رباحا غلامه صلى الله عليه وسلم كان مع سلمة أسقط الراوي ذكره ولم يقل ومعه رباح غلامه صلى الله عليه وسلم
ويحتمل أن رباحا هذا هو غلام عبد الرحمن الذي أخبر سلمة خبر اللقاح ولا منافاة بين كون رباح غلامه صلى الله عليه وسلم وغلام عبد الرحمن لجواز أن يكون كان لعبد الرحمن ثم وهبه للنبي صلى الله عليه وسلم فهو غلام عبد الرحمن بحسب ما كان ثم رأيت ما يؤيد الأول وهو ما في بعض الروايات عن سلمة قال خرجت أنا ورباح عبد النبي صلى الله عليه وسلم قبل أين يؤذن بالأولى يعني لصلاة الصبح نحو الغابة وأنا راكب على فرس أبي طلحة الأنصاري فلقيني عبد الرحمن بن عوف قال أخذت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت من أخذها قال غطفان وفزارة وقد طوى في هذه الرواية ذكر غلام طلحة
ثم رأيت الحافظ ابن حجر ذكر أنه لم يقف على اسم غلام عبد الرحمن بن عوف هذا أي الذي أخبر سلمة بأمر اللقاح
قال ويحتمل أن يكون هو رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ملك أحدهما وكان يخدم الآخر فنسب تارة إلى هذا وتارة إلى هذا هذا كلامه ولا يخفى بعده للتصريح بأن رباحا غير غلام عبد الرحمن وأن رباحا كان مع سلمة وأن غلام عبد الرحمن هو الذي أخبر سلمة خبر اللقاح ولا منافاة بين كون الفرس لطلحة ولا بين كونها لأبي طلحة ولا بين كون عبد طلحة كان قائدا لها وبين كون سلمة راكبا لها لأنه يجوز أن يكون ركبها أثناء الطريق فليتأمل
وفي تسمية غلامه صلى الله عليه وسلم رباحا مع نهيه صلى الله عليه وسلم أن الشخص يسمى رقيقه بأحد أربعة أسماء أفلح ورباح ويسار ونافع وزاد في رواية خامسا وهو نجيح فهلا غير صلى الله عليه وسلم اسمه إن كانت وقعت التسمية من غيره صلى الله عليه وسلم ويقال لم يغير صلى الله عليه وسلم ذلك الاسم إشارة إلى أن النهي للتنزيه
____________________
(2/680)
ثم إن سلمة رجع إلى المدينة وعلا ئنية الوداع فنظر إلى بعض خيولهم فصرخ بأعلى صوته واصباحاه أي قال ذلك ثلاث مرات أي وقيل نادى الفزع الفزع ثلاثا ولا مانع أن يكون جمع بين ذلك وفي لفظ وقمت على تل بناحية سلع أي وفي لفظ على أكمة وفي لفظ آخر فصعدت في سلع ولا مخالفة كما لا يخفى فجعلت وجهي من قبل المدينة ثم ناديت ثلاث مرات يا صباحاه أسمع ما بين لابتيها أي لسعة صوته أو أن ذلك وقع خرقا للعادة ويا صباحاه كلمة تقال عند استنفار من كان غافلا عن عدوه لأنهم يسمون يو م الغارة يوم الصباح
ثم خرج يشتد في أثر القوم كالسبع وقد كان يسبق الفرس جريا حتى لحق بهم فجعل يردهم بالنبل ويقول إذا رمى خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع أي يوم هلاك اللئام فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا وهكذا يفعل قال كنت ألحق الرجل منهم فأرميه بسهم في رجله فيعقره فإذا رجع إلي فارس منم أتيت شجرة فجلست في أصلها ثم أرميه فأعقره فيولى عني فإذا دخلت الخيل في بعض مضايق الجبل علوت الجبل ورميتهم بالحجارة قال ولم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحا وأكثر من ثلاثين بردة يستخفون بها ولا يلقون شيئا من ذلك إلا جعلت عليه حجارة وجمعته على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله تعالى من بعير من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري وخلوا بينهم وبينه
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم صياح ابن الأكوع صرخ بالمدينة الفزع يا خيل اله اركبي قيل وكان اول ما نودي بها وفيه كماء في الأصل أنه نودي بها في بني قريظة كما تقدم
وأول من أنتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرسان المقداد بن عمرو ويقال له ابن الأسود وتقدم أنه قيل له ذلك لأنه كان في حجر الأسود بن عبد يغوث وتبناه فنسب اليه ثم عباد بن بشر وسعيد بن زيد ثم تلاحقت به الفرسان وأمر عليهم سعيد ابن زيد وقيل المقداد وجزم به الدمياطي رحمه الله أي ويدل له قول حسان رضي الله عنه في وصف هذا الغزوة غداة فوارس المقداد
لكن في السيرة الشامية أن سعيد بن زيد رضي الله عنه غضب على حسان وحلف
____________________
(2/681)
لا يكلمه أبدا وقال انطلق إلى خيلي فجعلها للمقداد وإن حسان رضي الله عنه اعتذر إلى سعد بأن الروي وافق في اسم المقداد وذكر ابياتا يرضى بها سعيد بن زيد فلم يقبل منه سعيد ذلك وهذا يدل للأول
وعقد صلى الله عليه وسلم لذلك الأمير لواء في رمحه ثم قال له اخرج في طلب القوم حتى ألحقك بالناس فخرج لفرسان في طلب القوم حتى تلاحقوا بهم وكان شعارهم يومئذ أمت أمت وأول فارس لحق بهم محرز بن نضلة ويقال له الأخرم الأسدي ووقف لهم بين أيديهم وقال لهم يا معشر بني اللكيعة أي اللئيمة قفوا حتى يلحق بكم من وراءكم من المهاجرين والأنصار فحمل عليه شخص من المشركين فقتله
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال ثم إن القوم جلسوا يتغدون وجلست على رأس قرن جبل فقال لهم رجل أتاهم من هذا قالوا لقينا من هذا البرح حتى انتزع كل شيء في أيدينا قال فليقم إلى منكم أربعة فتوجهوا إلي فهددتهم أي فقد جاء عنه رضي الله عنه أنه ال لهم هل تعرفونني قالوا لا ومن أنت قلت أنا سلمة بن الأكوع والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لا أطلب رجلا منكم إلا أدركته ولا يطلبني فيدركني قال بعضهم إنا نظن ذلك فرجعوا
قال فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمهم الأخرم الأسدي فلما رأيت الأخرم الأسدي وأول الفرسان نزلت من الجبل وأخذت بعنان فرسه وقلت له احذر القوم لا يقتطفوك حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق وأن النار حق فلا تحل بيني وبين الشهادة فخليت عنه فالتقى هو عبد الرحمن بن عيينة فعقر فرس عبد الرحمن وطعنه عبد الرحمن فقتله وتحول على فرسه فلحق عبد الرحمن ابو قتادة رضي الله عنه فعقر عبد الرحمن فرس أبي قتادة فقتله أبو قتادة وتحول أبو قتادة رضي الله عنه إلى فرس
أقول ولعل عبد الرحمن هذا هو حبيب بفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة ابن عيينة فإني لم أقف على ذكر عبدالرحمن هذا فيمن قتل من المشركين في هذه الغزوة وإن أبا قتادة رضي الله عنه قتل حبيبا وغشاه ببرده كما سيأتي إلا أن يقال جاز أن يكون له اسمان عبد الرحمن وحبيب ثم رأيت الحافظ ابن حجر اشار إلى ذلك وقيل قاتل محرز مسعدة
____________________
(2/682)
الفزاري وبه جزم الحافظ الدمياطي وذكر أن قاتل حبيب المقداد بن عمرو فقال وقتل أبو قتادة مسعدة فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه وسلاحه وقتل المقداد بن عمرو حبيب بن عيينة بن حصن والله اعلم ولم يقتل من المسلمين إلا محرز بن نضلة الذي هو الأخرم الأسدي وكان رأى قبل ذلك بيوم أن سماء الدنيا فرجت وما بعدها حتى انتهى إلى السماء السابعة ثم انتهى إلى سدرة المنتهى فقيل له هذا منزلك فعرضها على أبي بكر رضي الله عنه وكان من أعلم الناس بالتعبير كما تقدم فقال له ابشر بالشهاة وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين وقد استعمل على المدينة ابن ام مكتوم رضى الله عنه اى واستعمل على حرس المدينه سعد بن عباده رضى الله عنه فى ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينه فاذا حبيب بفتح الحاء المهمله وكسر الموحده مسجى أي مغطى ببرد ابى قتاده فاسترجع المسلمون اى قالوا انا لله وانا اليه راجعون وقالوا قتل ابو قتاده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بابى قتاده ولكنه قتيل لابى قتاده وضع عليه برده ليعرف انه صاحبه اى القاتل له
قال وفى روايه انه صلى الله عليه وسلم قال والذى اكرمنى بما اكرمنى به ان ابا قتاده على اثارالقوم يرتجز فخرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه حتى كشف البرد عن وجهه المسجى فاذا وجه حبيب فقال الله اكبر صدق الله ورسوله يا رسول الله غير ابى قتاده
وفي لفظ فخرج ابى بكر وعمر رضى الله عنهما حتى كشفا البرد الحديث وقيل الذى قتله أبو قتادة وغشاه ببرده هو مسعدة قاتل محرز رضى الله عنه لا حبيب على ما تقدم
ففي روايه ان ابا قتاده رضى عنه اشترى فرسا فلقيه مسعده الفزاري فتفاوض معه فقال ابو قتاده اما انى اسال الله ان القاك وانا عليها قال امين فلما اخذت اللقاح ركب تلك الفرس وسار فلقى النبى صلى الله عليه وسلم فقال له النبى صلى الله عليه وسلم امض يا ابا قتاده صحبك الله قال فسرت حتى هجمت على القوم فرميت بسهم فى جبهتي فنزعت قدحه وانا اظن اني نزعت الحيديده فطلع على فارس وقال لقد القانيك الله يا ابا قتاده وكشف عن وجهه فاذا هو مسعده الفزارى فقال ايما احب اليك مجالدة او مطاعنة او مصارعه فقلت ذاك اليك فقال صراع فنزل وعلق بسيفه فى شجره ونزلت وعلقت سيفى فى شجره وتواثبنا فرزقنى الله الظفر
____________________
(2/683)
عليه فإذا أنا على صدره واذا شيء مس رأسي فاذا سيف مسعده قد وصلت اليه فى المعالجه فضربت بيدى الى سيفه وجردت السيف فلما رأى أن السيف وقع بيدي قال قتاده استحيني قلت لا والله قال فمن للصبيه قلت النار ثم فتلته وادرجته فى بردى ثم اخذت ثيابه فلبستها ثم استويت على فرسه فان فرسي نفرت حيث تعالجنا وذهبت للقوم فعرقبوها ثم ذهبت خلف القوم فحملت على ابن اخيه فدققت صلبه فانكشف من معه عن اللقاح فحبست اللقاح برمحي وجئت أحرسها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم افلح وجهك يا ابا قتاده اى فقلت ووجهك يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابو قتاده سيد الفرسان بارك الله فيك يا ابا قتاده وفى ولدك وولد ولدك وفى لفظ وفى ولد ولدك اه اى وقال له صلى الله عليه وسلم ما هذا الذى بوجهك قلت سهم اصابني فقال ادن مني فنزع السهم نزعا رفيقا ثم بزق فيه ووضع راحته عليه فوالذى اكرمه بالنبوه ما ضرب على ساعه قط ولا قرح على وفى روايه ولاقاح وفى لفظ قال لي قتلت مسعده قلت نعم ثم قال صلى الله عليه وسلم يدعو لابي قتاده اللهم بارك له فى شعره وبشره فمات ابو قتاده رضى الله عنه وهو ابن سبعين سنه وكانه ابن خمس عشرة سنه اى وأعطاه صلى الله عليه وسلم فرس مسعده وسلاحه اى كما تقدم وقال بارك الله لك فيه وهذا السياق يدل على أن ابا قتاده رضى الله عنه انفرد عن الصحابه وتقدمهم وتخلف مسعده عن قومه مده مصارعه ابى قتاده له وقتله ولا مانع من ذلك وقيل استنفذوا نصف اللقح اى عشرة وما فيها جمل ابي جهل الذى غنمه صلى الله عليه وسلم يوم بدر وافلت القوم بالعشره الاخرى أي ولا ينافيه ما تقدم من قول ابي قتادة فانكشفوا عن اللقاح وجئت احرسها لان المراد جمله من اللقاح لكنه مخالف لما تقدم عن سلمه رضى الله عنه من قوله ما زلت ارشقهم يعني القوم حتى ما خلق الله من بعير من ظهررسول الله صلى الله عليه وسلم الا خلفته وراء ظهري وخلوا بينهم وبينه فليتامل وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالجبل من ذي قرد بناحيه خيبر وتلاحق به الناس اى وقال له سلمه بن الاكوع يا رسول الله ان القوم عطاش فلو بعثني فى مائة رجل استنفذت ما بقى فى ايديهم من السرح واخذت باعناق القوم
اى وقد يقال لا يخالف هذا ما تقدم من قوله حتى ما خلق الله من بعير من ظهر
____________________
(2/684)
رسول الله صلى الله عليه وسلم الا خلفته وراء ظهري وخلوا بينهم وبينه لجواز ان يكون صدر عنه ما تقدم لظنه ان ذلك هو جميع اللقاح التى اخذت ثم تحقق ان الذى استنفذه هو وابو قتاده جمله منها وما فى البخاري من قوله استنفذوا القاح كلها يجوز ان يكون قائل ذلك ظن ان الذى استنفذ من ايدي القوم هو جميع ما اخذوه من اللقاح كما ان سلمة رضى الله عنه اعتقد ان جميع اللقاح التى اخذت هي التى جعلها خلف ظهره كما تقدم فكل من سلمه وابي قتاده خلف نصف اللقاح التى هي العشره التى خلصت من ايدي القوم
وفى روايه عن سلمه قال قلت يا رسول الله ابعث معى فوارس لندرك القوم فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ان ضحك صلى الله عليه وسلم ملكت فاسجح أي فارفق والمعنى قدرت فاعف وانما كانوا عطاشا لان سلمه رضى الله عنه ذكر انه تبعهم الى قبيل غروب الشمس الى ان عدلوا الى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد فنحاهم اى طردهم عنه ومنعهم الشرب منه وتركوا فرسين وجاء بهما سلمه رضى الله عنه يسوقهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعل هذا كان من سلمه رضى الله عنه بعد ان رجعت الصحابه عنهم و استمر يتبعهم وقال له صلى الله عليه وسلم شخص يا رسول الله القوم الان يغبقون بارض غطفان اى يشربون اللبن بالعشي الذى هو الغبوق فجاء رجل من غطفان وفقال مروا على فلان الغطفانى فنحر لهم جرورا فلما اخذوا يكشطون جلدها رأوا غبره فتركوها وخرجوا هرابا ولما نزل صلى الله عليه وسلم بالمحل المذكور لم تزل الخيل تاتي والرجال على اقدامهم وعلى الابل حتى انتهوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكث يوما وليله اى وعن سلمه رضى الله عنه واتاني عمى عامر بن الاكوع بسطيحه فيها لبن فتوضات وشربت ثم اتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماء الذى اجليتهم عنه فاذا هو صلى الله عليه وسلم قد اخذ كل شيء استنقذته منهم ونحر لهم بلال رضى الله عنه ناقته
ولا مخالفه لانه يجوز ان يكون صلى الله عليه وسلم ذهب الى الماء بعد ان كان مكثه بالجبل المذكور وصلى صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف ان العدو يجيء اليهم ولعل هذه هى صلاة بطن نخل وهى على ما رواه الشيخان انه جعل القوم فرقتين و صلاها مرتين كل مره بفرقه والاخرى تحرس اى تكون فى وجه العدواي
____________________
(2/685)
فى المحل الذى يظن مجيئهم منه وذلك كان لغير جهه القبله والا فالعدو لم يكن يمر اى منهم وهذه الصلاة لم ينزل بها القران
اقول لكن رأيت في الامتاع وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ صلاة الخوف فقام الى القبله وصف طائفه مواجهة العدو وصلى بالطائفه التى خلفه ركعة وسجد سجدتين ثم انصرفوا فقاموا مقام اصحابهم واقبل الاخرون فصلى بهم ركعة وسجد سجديتن وسلم فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعه ولا يخفي ان هذه الكيفيه هى صلاة عسفان والله اعلم
ولما اصبح صلى الله عليه وسلم قال
خير فرساننا ابو قتاده وخير رجالاتنا سلمه رضى الله عنه
وعند خروجه صلى الله عليه وسلم وتلاحق بعض الفرسان به قال لأبي عياش لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك للحق بالناس قال أبو عياش فقلت يا رسول الله إني أفرس الناس قال أبو عياش فو الله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني فعجبت لذلك وقسم صلى الله عليه وسلم في كل مائة من أصحابه جزورا ينحرونها وكانوا خمسمائة وقيل سبعمائة وبعث سعد بن عبادة رضي الله عنه بأحمال تمر وبعشر جزائر فوافت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد أي وقال صلى الله عليه وسلم اللهم ارحم سعدا وآل سعد نعم المرء سعد بن عبادة فقالت الأنصار هو سيدنا وابن سيدنا من بيت يطعمون في المحل ويحملون الكل ويحملون عن العشيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا في الدين وأقبلت امرأة أبي ذر رضي الله عنهما على ناقة من إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي من جملة اللقاح وهي القصوى أفلتت من القوم فطلبوها فأعجزتهم وفي لفظ وانفلتت المرأة من الوثاق ليلا فأتت الإبل فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى انتهت إلى العضباء فلم ترغ فقعدت على عجزها ثم زجرتها وعلموا بها فطلبوها فاعجزتهم ونذرت إن نجاها الله عز وجل لتنحرنها فلما اخبرت النبي صلى الله عليه وسلم الخبر قالت يا رسول الله قد نذرت أن انحرها إن نجاني الله عليها أي وآكل من كبدها وسنامها فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بئسما جزينها
____________________
(2/686)
أن حملك أي لأجل أن حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها لانذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين وفي لفظ لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم إنما هي ناقة من إبلي ارجعي إلى أهلك على بركة الله تعالى ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أي وهذا السياق يدل على أن المراة قدمت عليه صلى الله عليه وسلم بتلك الناقة قبل قدومه المدينة
وفي السيرة الهشامية أنها قدمت عليه صلى الله عليه وسلم المدينة فأخبرته الخبر ثم قالت يا رسول الله إني نذرت الله الحديث وهو يخالف ما يأتي من قوله ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته العضباء
أي ولعل ما في الأوسط للطبراني بسند ضعيف عن النواس بن سمعان رضي الله عنه أن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم سرقت فقال لئن ردها الله علي لأشكرن ربي وقد وقعت في حي من أحياء العرب فيهم امرأة مسلمة فرأت من ا لقوم غفلة فقعدت عليها فصبحت المدينة إلى آخره لا ينافي ما هنا لجواز تعدد الواقعة
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته العضباء مردفا سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وقد غاب عنها خمس ليال وأعطى صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع سهم الراجل والفارس جميعا أي مع كونه كان راجلا
وهذا استدل به من يقول إن للإمام أن يفاضل في الغنيمة وهو مذهب ابي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد وعند مالك وإمامنا الشافعي رضي الله عنهما لا يجوز ولعله لعله لعدم صحة ذلك عندهما وتبعت في تقديم هذه الغزوة على غزوة الحديبية الأصل وهو الموافق لقول بعضهم أجمع أهل السير على أن غزوة الغابة قبل الحديبية ولقول ابي العباس شيخ القرطبي صاحب التذكرة والتفسير لا يختلف أهل السير أن غزوة ذي قرد كانت قبل الحديبية والشمس الشامي ذكرها بعد الحديبية تبعا لما في صحيح البخاري أنها بعد الحديبية وقبل خيبر بثلاثة أيام وفي مسلم نحوه ففيه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه فرجعنا أي من غزوة ذي قرد إلى المدينة فلم نلبث إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر ويؤيده قول الحافظ شمس الدين بن إمام الجوزية قد وهم جماعة من أصحاب المغازي
____________________
(2/687)
والسير فذكروا غزوة الغابة قبل الحديبية قال الحافظ ابن حجر ما في البخاري أصح مما ذكره أهل السير
قال ويحتمل في طريق الجمع أن تكون إغارة عيينة بن حصن على اللقاح أي في الغابة وقعت مرتين مرة قبل الحديبية ومرة بعد الحديبيبة قبل الخروج إلى خيبر أي ويلزم أن يكون في كل كان خروجه صلى الله عليه وسلم وأن أول من علم بأخذ اللقاح سلمة بن الأكوع ووقع له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه ما تقدم هذا حقيقة التكرار وإلا فهل الذي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقع فيها لسلمة ولغيره من الصحابة ما وقع كانت أولا أو ثانيا فليتأمل ثم رأيت عن الحاكم رحمه الله تعالى أنه ذكر في الإكليل أن الخروج إلى ذي قرد تكرر أي ثلاث مرات ففي الأولى خرج إليها زيد بن حارثة قبل أحد وفي الثانية خرج إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة خمس والثالثة هي المختلف فيها أي ومعلوم أن هذه المختلف فيها خرج إليها صلى الله عليه وسلم فليتأمل والله تعالى أعلم غزوة الحديبية
بالتخفيف تصغير حدباء وعلى التشديد عامة الفقهاء والمحدثين واشار بعضهم إلى أنه لم يسمع من فصيح ومن ثم قال النحاس سألت كل من لقيت ممن أثق بعلمه عن الحديبية فلم يختلفوا في أنها بالتخفيف
وفي كلام بعضهم أهل الحديث يشددون وأهل العربية يخففون وفي كلام بعض آخر أهل العراق يشددون وأهل الحجاز يخففون وهي بئر وقيل شجرة سمى المكان باسمها وقيل قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم
قال وسببها أنه صلى الله عليه وسلم رأي في النوم أنه دخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين أي بعضهم محلق وبعضهم مقصر وأنه دخل البيت وأخذ مفتاحه وعرف مع المعرفين انتهى أي وطاف هو واصحابه واعتمر وأخبر بذلك أصحابه ففرحوا ثم اخبر اصحابه أنه يريد الخروج للعمرة فتجهزوا للسفر فخرج صلى الله عليه وسلم معتمرا ليأمن الناس أي أهل مكة ومن حولهم من حربه وليعلموا أنه صلى الله عليه وسلم إنما خرج زائرا للبيت ومعظما له
____________________
(2/688)
وكان إحرامه صلى الله عليه وسلم بالعمرة من ذي الحليفة أي بعد أن صلى بالمسجد الذي بها ركعتين وركب من باب المسجد وانبعثت به راحلته مستقبل القبلة أحرم وأحرم معه غالب أصحابه ومنهم من لم يحرم إلا بالجحفة أي وكان خروجه في ذي القعدة وقيل كان خروجه في رمضان وهو غريب ولفظ تلبيته صلى الله عليه وسلم لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك
واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة الشريفة نميلة بن عبد الله الليثي أي وقيل ابن ام مكتوم وقيل أبا رهم كلثوم بن الحصين أي وقيل استخلف أبا رهم مع ابن ام مكتوم جميعا فكان ابن ام مكتوم على الصلاة وكان أبو رهم حافظا للمدينة وكان خروجه صلى الله عليه وسلم بعد أن استنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ممن أسلم غفار ومزينة وجهينة وأسلم القبيلة المعروفة خشية من قريش أن يحاربوه وأن يصدوه عن البيت كما صنعوا فتثاقل كثير منهم وقالوا أنذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم واعتلوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم وأنه ليس لهم من يقوم بذلك فأنزل الله تعالى تكذيبهم في اعتذارهم بقوله { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم }
وخرج صلى الله عليه وسلم بعد أن اغتسل ببيته ولبس ثوبين وركب راحلته القصوى من عند بابه وخرج معه ام سلمة وأم عمارة وام منيع وام عامر الأشهلية رضي الله عنهن ومعه المهاجرون والأنصار ومن لحق بهم من العرب وأبطأ عليه كثير منهم كما تقدم وساق معه الهدى سبعين بدنة أي وقد جللها أي في ذي الحليفة بعد أن صلى بها الظهر ثم أشعر منها عدة وهي موجهات للقبلة في الشق الأيمن أي من سنامها ثم أمر صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب وكان اسمه ذكوان فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه وسماه ناجية لما أنه نجا من قريش فأشعر ما بقي وقلدهن نعلا نعلا وأشعر المسلمون بدنهم وقلدوها والإشعار جرح بصفحة سنامها والتقليد أن تقلد في عنقها قطعة جلد أو نعل بالية ليعلم أنه هدى فيكف الناس عنه وكان الناس سبعمائة رجل فكانت كل بدنة من عشرة وقيل كانوا اربع عشرة مائة وقيل خمسة عشرة وقيل ست عشرة وقيل كانوا ألفا وثلاثمائة وقيل اربعمائة وقيل خمسمائة وخمسة وعشرين أي وقيل ألف وسبعمائة أي وليس معهم سلاح إلا السيوف في القرب وقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتخشى يا رسول الله من
____________________
(2/689)
ولم تأخذ للحرب عدتها فقال لست أحب أن أحمل السلاح معتمرا وكان معهم مائتا فرس فأقبلوا نحوه صلى الله عليه وسلم أي في بعض المحال وكان بين يديه صلى الله عليه وسلم ركوة يتوضأ منها فقال مالكم قالوا يا رسول الله ليس عندنا ماء نشربه ولا ماء نتوضأ منه إلا ما في ركوتك فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه الشريفة أمثال العيون أي وفي لفظ فجعل الماء ينبع من بين أصابعه الشريفة وفي لفظ آخر فرأيت الماء يخرج من بين اصابعه وفي لفظ آخر فرأيت الماء ينبع من بين اصابعه واستدل به بعضهم على أن الماء خرج من نفس بشرته الشريفة صلى الله عليه وسلم قال ابو نعيم في الحلية وهو أعجب من نبع الماء لموسى عليه الصلاة والسلام من الحجر فإن نبعه من الحجر متعارف معهود وأما من بين اللحم والدم فلم يعهد قال بعضهم وإنما لم يخرجه صلى الله عليه وسلم بغير ملابسة ماء في إناء تأدبا مع الله تعالى لأنه المنفرد بابتداع المعدومات من غير اصل قال جابر رضي الله عنه فشربنا وتوضأنا ولو كنا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة
فلما كانوا بعسفان جاء اليه صلى الله عليه وسلم بشر بن سفيان العتكي أي وقد كان صلى الله عليه وسلم أرسله إلى مكة عينا له فقال يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بخروجك واستنفروا من اطاعهم من الاحابيش وأجلبت ثقيف معهم ومعهم النساء والصبيان وفي لفظ يخرجون ومعهم العوذ المطافيل أي النياق ذوات اللبن التي معها أولادها ليتزودوا بذلك ولا يرجعون خوف الجوع
قال السهيلي أو العوذ جمع عائذ وهي الناقة التي معها ولدها وإنما قيل للناقة عائذ وإن كان الولد هو الذي يعوذ بها لأنها عاطف عليه كما قالوا تجارة رابحة وإن كانت مربوحا فيها لانها في معنى نامية وزاكية هذا كلامه أو العوذ المطافيل النساء معهن أطفالهن أي انهم خرجوا النساء معهن اطفالهن أي انهم خرجوا بنسائهم معهن أولادهن ليكون أدعى لعدم الفرارا
أي ويجوز أن يكونوا خرجوا بذلك جميعه وقد لبسوا جلود النمر أي أظهر العداوة والحقد وقد نزلوا بذي طوى يعاهدون الله أن لا يدخلها عليهم عنوة أبدا وهذا خالد ابن الوليد أي رضي الله عنه لأنه أسلم بعد ذلك في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم أي وكانت مائتي فرس أي وقد صفت إلى جهة القبلة فأمر صلى الله عليه وسلم عباد ابن بشر رضي الله عنه فتقدم في خيله فقام بازاء خالد وصف أصحابه رضي الله عنهم أي وحانت صلاة الظهر فأذن بلال رضي الله عنه وأقام فاستقبل رسول الله صلى الله
____________________
(2/690)
عليه وسلم القبلة وصف الناس خلفه فركع بهم وسجد ثم سلم فقال المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم
وفي لفظ قال خالد بن الوليد رضي الله عنه قد كانوا على غرة لو حملنا عليهم أصبنا منهم ولكن تأتي الساعة صلاة أخرى هي أحب اليهم من أنفسهم وأبنائهم أي التي هي صلاة العصر وبهذا استدل على أنها الصلاة الوسطى واستدل له أيضا بأنه كان في أول ما أنزل / < حافظوا على الصوات وصلاه العصر > / ثم نسخ ذلك أي تلاوته بقوله تعالى والصلاة الوسطى فنزل جبريل عليه السلام بين الظهر والعصر لقوله تعالى { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك } الآيات وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم بهم جميعا حتى عباد بن بشر واصحابه جميعا الذين قاموا بازاء خالد رضي الله عنهم وحانت صلاة العصر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف أي على ما ذكره الله تعالى فلما جعل المسلمون يسجد بعضهم وبعضهم قائم ينظر اليهم قال المشركون لقد أخبروا بما أردناه بهم ولعل الصلاة هي صلاة عسفان لأن كراع الغميم بالقرب منه كما تقدم وهي على ما رواه مسلم أنه صلى الله عليه وسلم صفهم صفين وأنه أحرم بهم وركع واعتدل بهم جميعا ثم لما سجد سجد معه الصف الأول سجدتيه وتخلف الصف الثاني في اعتداله للحراسة فلما قام وقام معه من سجد سجد الصف الثاني ولحقه في القيام وتقدم الصف الثاني وتأخر الصف الأول ثم ركع واعتدل بهم جميعا ثم سجد وسجد معه الصف الثاني الذي تقدم واستمر الصف الأول الذي تأخر على الحراسة في اعتداله فلما جلس للتشهد اتموا بقية صلاتهم وجلسوا معه للتشهد فتشهد وسلم بهم جميعا وعلى هذه الصلاة حمل أئمتنا ما جاء فرضت الصلاة في الخوف ركعة أي أنها ركعة مع الإمام ويضم إليها أخرى
ثم رأيت في الدر المنثور الصريح بأن هذه الصلاة هي صلاة عسفان عن ابن عياش الزرقي قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد ابن الوليد رضي الله عنه وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر فقالوا قد كانوا على حال غرة الحديث المتقدم
واشترط أئمتنا في هذه الصلاة وهي إذا كان العدو في جهة القبلة ولا ساتر أن يكون كل صف مقاوما للعدو وأن كل واحد لاثنين وإلا لم تصح الصلاة لما فيه من التغرير بالمسلمين ولعل صلاته صلى الله عليه وسلم بالصفين كانت كذلك وهذه الصلاة لم ينزل بها القرآن
____________________
(2/691)
كصلاة بطن نخل فعلم أن القرآن لم ينزل إلا بصلاة ذات الرقاع وبصلاة شدة الخوف ولم أقف على انه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة شدة الخوف وهي ان يلتحم القتال أو لم يأمنوا هجوم العدو
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن قريشا تريد منعه عن البيت قال اشيروا على أيها الناس أتريدون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه فقال أبو بكر يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حربا فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه أي وفي الإمتاع فقال المقداد رضي الله عنه يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون والله يا رسول لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما بقي منا رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فامضوا على اسم الله فساروا ثم قال يا ويح قريش نهكتهم الحرب أي أضعفتهم وفي لفظ أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين أي كاملين وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة فما تظن قريش فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفر هذه السالفة أي وهي صفحة العنق فهو كناية عن القتل ثم قال صلى الله عليه وسلم هل من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها فقال رجل من أسلم أنا يا رسول الله أي ويقال إنه ناجية بن جندب رضي الله عنه فسلك بهم طريقا وعرا فلما خرجوا منه وقد شق عليهم ذلك وأفضوا إلى أرض سهلة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس قولوا نستغفر الله ونتوب اليه فقالوا ذلك فقال والله إنها أي قول استغفر الله للحطة التي عرضت على بني اسرائيل فلم يقولوها
ثم إن خالدا رضي الله عنه لم يشعر بهم الا وقد نزلوا بذلك المحل فانطلق نذيرا لقرش وقد جاء في تفسر الحطة أنها المغفرة أي طلب المغفرة أي اللهم حط عنا ذنوبنا وهذا هو المناسب لقوله صلى الله عليه وسلم قولوا نستغفر الله إلى آخره
وجاء في تفسيرها ايضا أنها لا إله إلا الله فلم يقولوا حطة بل قالوا حنطة حبة حمراء فيها شعيرة سوداء استهزاء وجراءة على الله تعالى
وفي البخاري فقيل لبني اسرائيل { وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم } فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم أي أطيازهم وقولوا حبة في شعيرة وقد
____________________
(2/692)
جاء أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني اسرائيل من دخله غفر له الذنوب أي المذكورة في قوله تعالى { وادخلوا الباب } أي باب أريحا بلد الجبارين سجد { سجدا } أي خاضعين متواضعين { وقولوا حطة } أي حط عنها خطايانا
قال بعضهم فكما جعل الله لبني اسرائيل دخولهم الباب على الوجه المذكور سببا للغفران فكذا حب أهل البيت سبب للغفران
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يسلكوا طريقا تخرجهم على مهبط الحديبية من أسفل مكة فسلكوا ذلك الطريق فلما كانوا به أي بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت ناقته صلى الله عليه وسلم أي القصوى فقال الناس حل حل فألحت أي تمادت واستمرت على عدم القيام فقالوا خلأت القصوى أي حرنت يقال خلأت الناقة وألخ الجمل بالخاء المعجمة فيهما وحرن الفرس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما خلأت وما هو لها بخلق وفي لفظ ما ذاك لها بعادة ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة أي منعها اله عن دخول مكة أي علم صلى الله عليه وسلم أن ذلك صد له من الله عن مكة أن يدخلها قهرا والذي نفسي محمد بيده لا تدعني قريش اليوم إلى خطة أي خصلة يسألون فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها أي وفي رواية فياه تعظيم حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم أياها أي من ترك القتال في الحرم والكف عن إراقة الدم ثم زجرها صلى الله عليه وسلم فقامت فولى راجعا عوده على بدئه ثم قال للناس انزلوا فقالوا يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه فأخرج صلى الله عليه وسلم سهما من كنانته فأعطاه ناجية بن جندب رضي الله عنه سائق بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو البراء بن عازب رضي الله عنه أو خالد بن عبادة الغفاري فنزل في قليب فغزره في جوفه فجاش أي علا وارتفع بالرواء أي الماء العذب حتى ضرب الناس عليه بعطن وفي لفظ حتى صدروا عنها بعطن أي حتى رووا ورويت إبلهم حتى بركت حول الماء لأن عطن الإبل مباركها
قال ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأقصى الحديبية على ثمد وهو حفرة فيها ماء من ثمادها قليل الماء يتربضه الناس تربضا أي يأخذونه قليلا قليلا ثم لم يلبث الناس حتى نزحوه فاشتكى الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة الماء وفي لفظ العطش أي وكان الحر شديدا فنزع صلى الله عليه وسلم سهما من كنانته ودفعه للبراء فقال اغرز هذا السهم في بعض قليب الحديبية ففعل والقليب جاف فجاش الماء وقيل دفعه لناجية بن الاعجمي
____________________
(2/693)
فعنه رضي الله عنه قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شكى إليه قلة الماء فأخرج سهما من كنانته ودفعه إلي ودعا بدلو من ماء البئر فجئت به فتوضأ فمضمض ثم مج الماء في الدلو ثم قال انزل بالدلو في البئر وأثر ماءها بالسهم ففعلت فوالذي بعثه بالحق ما كدت أخرج حتى يغمرني الماء وفارت كما يفور القدر حتى طمت واستوت بشفيرها يغترفون من جوانبها حتى نهلوا عن آخرهم وعلى البئر نفر من المنافقين منهم عبد الله بن أبي ابن سلول فقال له أوس بن خولي رضي الله عنه ويحك يا أبا الحباب ما آن لك تبصر ما أنت عليه أبعد هذا شيء فقال إني رأيت مثل هذا فقال له أوس رضي الله عنه قبحك الله وقبح رايك ثم أقبل أي عبد الله المذكور الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا الحباب إني رايت أي كيف رأيت مثل ما رأيت اليوم قال ما رأيت مثله قط قال فلم قلت ما قلت فقال يا رسول الله استغفر لي وقال ابنه عبد الله يا رسول الله استغفر له فاستغفر له وفي لفظ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية أربع عشرة مائة والحديبية بئر نتبرضها من البرض وهو الماء الذي يقطر قليلا قليلا فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شيتنا وركابنا وفي لفظ فرفعت اليه الدلو فغمس يده فيها فقال ما شاء الله ان يقول ثم صب الدلو فيها فلقد لقيت آخرنا أخرج بثوب خشية الغرق ثم ساحت نهرا فليتأمل الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها
وقد يقال لا مانع من وقوع جميع ذلك لكن يبعد أن يكون ذلك في قليب واحد قال بعضهم فلما ارتحلوا أخذ البراء رضي الله عنه السهم فجف الماء كأن لم يكن هناك شيء
وفي كلام هذا البعض أنا أبا سفيان قال لسهيل بن عمرو رضي الله عنهما قد بلغنا أنه ظهر بالحديبية قليب فيه ماء فقم بنا ننظر إلى ما فعل محمد فأشرفنا على القليب والعين تنبع تحت السهم فقال ما رأينا كاليوم قط وهذا من سحر محمد قليل
وفيه أن أبا سفيان رضي الله عنه لم يكن حاضرا في الحديبية وحمل ذلك على أن ذلك كان من أبي سفيان بعد ارتحاله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ينافيه ما قدمه هذا البعض أن عند ارتحالهم من الحديبية رفع السهم وجف القليب فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/694)
أتاه بديل بن ورقاء وكان سيد قومه رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح فكان من كبار مسلمة الفتح في رجال من خزاعة وكانت خزاعة مسلمها ومشركها لا يخفون عليه صلى الله عليه وسلم شيئا كان بمكة بل يخبرونه به وهو بالمدينة وكانت قريش ربما تفطن لذلك فسألوه ما الذي جاء به فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت ومعظما لحرمته
وفي المواهب أنه صلى الله عليه وسلم قال لبديل ما تقدم من قوله وإن قريشا قد نهكتهم الحرب إلى آخره وإن بديلا رضي الله عنه قال له سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشا فقال إنا جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال إنا جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء وقال ذو الرأي منهم هات ما سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال هذا كلامه
والرواية المشهورة أن بديلا ومن معه خزاعة لما رجعوا إلى قريش فقالوا يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد وإن محمد لم يأت لقتال وإنما جاء زائرا لهذا البيت فاتهموهم وجبهوهم أي قابلوهم بما يكرهون وقالوا إن كان جاء ولا يريد قتالا فوالله لا يدخلها علينا عنوة أي قهرا أبدا ولاتتحدث بذلك عنا العرب
أي وفي لفظ أنهم قالوا أيريد محمد أن يدخلها علينا في جنوده معتمرا تسمع العرب أنه قد دخل علينا عنوة وبيننا وبينه من الحرب ما بيننا والله لا كان هذا أبدا ومنا عين تطرف ثم بعثوا إليه صلى الله عليه وسلم مكرز بن حفص أخا بني عامر فلما رآه رسول الله مقبلا قال هذا الرجل غادر أي وفي رواية فاجر فلما انتهى إلى رسول الله وكلمه قال له رسول الله نحوا مما قال لبديل فرجع إلى قريش وأخبرهم بما قال له رسول الله
ثم بعثوا إليه صلى الله عليه وسلم الحليس بن علقمة وكان سيد الأحابيش يومئذ وتقدم عن الأصل أن الأحابيش هم بنو الهون بن خزيمة وبنو الحارث بن عبدمناف بن كنانة وبنو المصطلق بن خزيمة أي وأنه قيل لهم ذلك لأنهم تحالفوا تحت جبل بأسفل مكة يقال له حبشي هم وقريش على أنهم يد واحدة على من عاداهم ما سجا ليل ووضح نهار وما سار حبشي فسموا أحابيش قريش فلما رآه رسول الله قال إن هذا من قوم يتألهون أي يتعبدون
____________________
(2/695)
ويعظمون امر الإله وفي لفظ يعظمون البدن وفي لفظ يعظمون الهدى ابعثوا الهدى في وجهه حتى يراه فلما رأى الهدى يسيل عليه بقلائده من عرض الوادي بضم المهملة أي ناحيته وأما ضد الطول فبفتح المهملة قد اكل أو باره من طول الحبس عن محله بكسر الحاء المهملة موضعه الذي ينحر فيه من الحرم أي يرجع الحنين واستقبله الناس يلبون قد شعثوا صاح وقال سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت أبي الله أن يحج لخم وجذام ونهد وحمير ويمنع ابن عبد المطلب هلكت قريش ورب الكعبة إنما القوم أتوا عمارا أي معتمرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل يا اخا بني كنانة
وقيل إنه بمجرد أن رأى هذا الأمر رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى فقال لهم في ذلك أي قال إني رأيت ما لا يحل منعه رايت الهدى في قلائده قد أكل أوباره أي معكوفا عن محله والرجال قد شعثوا وقملوا فقالوا له اجلس إنما أنت أعرابي ولا علم لك أي فما رأيت من محمد مكيدة فعند ذلك غضب الحليس وقال يا معشر قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم أيصد عن بيت الله من جاءه معظما والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وما جاء له أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد فقالوا له مه أي كف يا حليس حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به
ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثثقفي رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك وهذا هو الذي شبهه صلى الله عليه وسلم بعيسى أبن مريم عليه السلام ولم قتله قومه قال صلى الله عليه وسلم مثله في قومه كصاحب يس كما سيأتي ذلك فقال يا معشر قريش إني رايت ما يلقى منكم من بعثموه الى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد فقالوا صدقت وهذا يدل على أن ذهاب عروة بن مسعود رضي الله تعالى عنه إنما كان بعد تكرار الرسل من قريش اليه صلى الله عليه وسلم
وبه يعلم ما في المواهب أن عروة لما سمع قريشا توبخ بديلا ومن معه من خزاعة قال أي قوم الستم بالوالد إلى آخره وفي لفظ ألستم كالوالد أي كل واحد منكم كالوالد لي وانا كالولد له وقيل أنتم حي قد ولدني لأن أمه سبيعة بنت عبد شمس قالوا بلى
____________________
(2/696)
قال أو لست بالولد قالوا بلى قال فهل تتهموني قالوا ما أنت عندنا بمتهم فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه ثم قال يا محمد جمعت اوباش أي أخلاط الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك أي أصلك وعشيرتك لتفضها بهم إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمر يعاهدون الله أن لا تدخلها عليه عنوة أبدا وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك أي انهزموا غدا وفي لفظ والله لا أرى وجوها أي عظماء وإني أرى أسرابا من الناس خليقا أي حقيقا أن يفرو ويدعوك وأبو بكر رضي الله تعالى عنه جالس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له اعضض بظر اللات والبظر قطعة تبقى في فرج المرأة بعد الختان وقيل التي تقطعها الخاتنة أنحن نكشف عنه قال من هذا يا يا محمد قالى صلى الله عليه وسلم هذا ابن ابي قحافة فقال أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها أي على هذه الكلمة التي خاطبتني بها ولكن هذه بها وفي رواية والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك بها وتلك اليد التي كانت لأبي بكر رضي الله عنه عنه عند عروة هي أن عروة استعان في حمل دية فأعانه الرجل بالواحد من الإبل والرجل بالاثنين واعانه أبو بكر رضي الله عنه بعشرة إبل شواب ثم جعل عروة يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يكلمه أي وهذه عادة العربأن الرجل يتناول لحية من يكلمه خصوصا عند الملاطفة وفي الغالب إنما يصنع ذلك النظير بالنظير لكن كأنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يمنعه من ذلك استمالة وتأليفا له والمغيرة بضم الميم وكسرها ابن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ف الحديد وعليه المغفر فجعل يقرع يد عرة إذا تناول لحية رسول صلى الله عليه وسلم أي بنعل السيف وهو ما يكون اسفل القراب من فضة أو غيرها ويقول اكفف يدك عن وجه وفي رواية عن مس لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا تصل اليك فإنه لا ينبغي لمشرك ذلك وإنما فعل ذلك المغيرة رضي الله عنه إجلالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينظر لما هو عادة العرب فيقول للمغيرة ويحك ما أفظك وما أغظك أي وما اشد قولك وفي رواية فلما أكثر عليه غضب عروة وقال ويحك ما افضلك وما أغلظك ليت شعري من هذ الذي آذاني من بين اصحابك والله إني لا أحسب فيكم ألأم منه ولا شر منزلة فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة
____________________
(2/697)
أي لان عروة كان عم والد المغيرة فالمعيرة يقول لهم يا عم لأن كل قريب من جهة الأب يقال له عم وليس في الصحيح لفظ ابن اخيك فقال أي غدر أي يا غادر وهل غسلت غدرتك وفي لفظ سوأتك وفي لفظ ألست أسعى ي غدرتك إلا بالأمس وفي لفظ يا غدر والله ما غسلت عنك غدرتك بعكاظ الا بالأمس وقد أورثتنا العداو من ثقيف إلى آخر الدهر
قيل أراد عروة بذلك أنه الذي ستر غدر المغيرة بالأمس لأن المغيرة رضي الله عنه قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف وفد هو وإياهم مصر على المقوقس بهدايا قال وكنا سدنة اللات أي خدامها واشتشرت عمى عروة في مرافقتهم فأشار علي بعدم ذلك قال فلم أطع رأيه فأنزلنا المقوقس في كنيسة للضيافة ثم أدخلنا عليه فقدموا الهدية له فاستخبر كبير القوم عني فقال ليس منا بل من الأحلاف فكنت أهون القم عليه فأكرمهم وقصر في حقي فلما خرجوا لم يعرض علي أحد منهم مواساة فكرهت أن يخبرا أهلنا بإكرامهم وازدراء الملك بي فأجمعت قتلهم ونزلنا محلا فعصبت رأسي فعرضوا علي الخمر فقلت رأسي تصدع ولكن أسقيكم فسقيتهم وأكثر لهم بغير مزج حتى همدوا فوثبت عليهم فقتلتهم جميعا وأخذت كل ما معهم وقدمت على نبي الله صلى الله عليه وسلم في مسجده فسلمت عليه وقلت أشهد أن لا أله ألا الله وأن محمدا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي هداك للإسلام يا مغيرة فقال أبو بكر رضي الله عنه من مصر قدمت قلت نعم قال فما فعل المالكيون الذين كانوا معك لأنهم من بني مالك فقلت كان بيني وبينهم ما يكون بين العرب وقتلتهم وجئت بأسلابهم ليخسمها النبي صلى الله عليه وسلم أو يرى فيه رأيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إسلامك فقبلته ولا آخذ من أموالهم شيئا ولا أخمسه فإن غدر والغدر لا خير فيه فقلت يا رسول الله إنما قتلتهم وأنا على دين قومي ثم أسلمت فقال صلى الله عليه وسلم الإسلام يجب ما قبله
قال وبلغ ذلك ثقيفا فتداعوا للقتال واصطلحوا على أن يحمل عمى عروة ثلاث عشرة دية
وفي رواية لما وردوا على المقوقس أعطى كل واحد منهم جائزة ولم يعط المغيرة شيئا فحقد عليهم فلما رجعوا نزلوا منزلا وشربوا خمرا ولما سكروا وناموا وثب عليهم
____________________
(2/698)
المغيرة فقتلهم وأخذ أموالهم وجاء وأسلم فاختصم بنو مالك مع رهط المغرة وشرعوا في المحاربة فسعى عروة في إطفاء نار الحرب وصالح بني مالك على ثلاث عشرة دية ودفعها عروة
ولما أسلم المغيرة قال له النبي صلى الله عليه وسلم أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شيء وفيه أن هذا مال حربي قصد أخذه والتغلب عليهم إلا أن يقال هؤلاء مؤمنون منه لأنهم اطمأنوا إليه
أي ويذكر أن المغيرة بن شعبة هذا رضي الله عنه كان من دهاة العرب واحصن في الإسلام ثمانين امرأة ويقال ثلثمائة امرأة وقيل الف امرأة
قيل لإحدى نساء المغيرة إنه لدميم أعور فقالت هو والله عسيلة يمانية في ظرف سوء
ولما ولى رضي الله عنه الكوفة ارسل يخطب بنت النعمان بن المنذر فقالت لرسوله قل له ما قصدت إلا أن يقال تزوج المغيرة الثقفي بنت النعمان بن المنذر وإلا فأي حظ لشيخ أعور في عجوز عمياء وهذه هي القائلة لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما وفدت عليه وهو والي الكوفة وأكرمها في دعائها له ** ملكتك يد افتقرت بعد غنى ** ولا ملكتك يد استغنت بعد فقر ** ولا جعل الله لك إلى لئيم حاجة ** ولا أزال عن كريم نعمة إلا جعلك السبب في عودها اليه ** إنما يكرم الكريم الكريم والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه أول من حيا سيدنا عمر رضي الله عنه بأمير المؤمنين
وعند مجئ عروة اخبر صلى الله عليه وسلم عروة بما أخبر به من تقدم من أنه لم يأت لحرب فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ أي يغسل يديه إلا ابتدروا وضوءه أي كادوا يقتتلون عليه ولا يبصق بصاقا الا ابتدروه أي يدلك به من وقع في يده وجهه وجلده ولا يسقط من شعره شيء الا اخذوه أي وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ولا يحدون النظر اليه تعظيما له صلى الله عليه وسلم فقال يا معشر قريش إني جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه والله ما رأيت ملكا في قومه قط مثل محمد في أصحابه ولقد رايت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا فروا رأيكم فإنه عرض عليكم رشدا فاقبلوا ما عرض عليكم فإني لكم ناصح مع إني أخاف أن لا تنصروا عليه فقالت له قريش لا تتكلم بهذا
____________________
(2/699)
يا ابا يعفور ولكن نرده عامنا هذا ويرجع إلى قابل فقال ما أراكم إلا ستصيبكم قارعة ثم انصرف هو ومن معه إلى الطائف
وعروة هذا هو ابن مسعود الثقفي وهو عظيم القريتين الذي عنته قريش بقولها { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } وقيل المعنى بذلك الوليد بن المغيرة ويقال إن عروة هذا كان جدا للحجاج لأمه ويدل ذلك كما يدل للأول ما حكى عن الشعبي أنه سأل الحجاج وهو والي العراق حاجة فاعتل عليه فيها فكتب اليه والله لا أعذرك وأنت والي العراقين وابن عظيم القريتين
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خراش ين أمية الخزاعي رضي الله عنه فبعثه إلى قريش وحمله صلى الله عليه وسلم على بعير له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عقره عكرمة بن أبي جهل وأسلم بعد ذلك رضي الله عنه وأرادوا قتله فمنعه الاحابيش فخلوا سبيله حتى اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما لقي ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال يا رسول الله إنما أخاف قريشا على نفسي وما بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكن أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان رضي الله عنه أي فإن بني عمه يمنعونه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه فبعثه إلى ابي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه لم يأت إلا زائر لهذا البيت ومعظما لحرمته أي ولعل ذكر ابي سفيان من غلط بعض الرواة لما تقدم أنه لم يكن حاضرا بالحديبية أي صلحها وأمر صلى الله عليه وسلم عثمان أن يأتي رجالا مسلمين بمكة ونساء مسلمات يدخل عليهم ويبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله وشيك أي قريب أن يظهر دينه بمكة حتى لا يستخفى فيها بالإيمان
وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم بعث عثمان رضي الله عنه بكتاب لقريش أي قيل فيه إنه ما جاء لحرب أحد وإنما جاء معتمرا بدليل ما يأتي في ردهم عليه وقيل فيه ما وقع بين النبي صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمر وليقع الصلح بينهم على أن يرجع في هذه السنة الحديث وأنهم لما احتبسوه أمسك صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو عنده كذا في شرح الهمزية لان حجر وقدمه على الأول فليتأمل
____________________
(2/700)
فخرج عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى مكة ودخل مكة من الصحابة عشرة أيضا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ليزوروا أهاليهم لم أقف على اسمائهم ولم أقف على أنهم هل دخلوا مع عثمان أم لا فلقيه قبل أن يدخل مكة أبان بن سعيد بن العاص رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك قبل خيبر فأجاره حتى يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعله بين يديه فجاء إلى أبي سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ارسله به أي وهم يردون عليه إن محمدا لا يدخلها علينا أبدا فلما فرغ عثمان من تبليغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له إن شئت أن تطوف بالبيت فطف وفي رواية قال له أبان إن شئت أن تطوف بالبيت فطف قال ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال وقال المسلمون قد خلص عثمان إلى البيت فطاف به دوننا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون وقال وما يمنعه يا رسول الله وقل خلص إليه قال ذلك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف به حتى أطوف فلما رجع عثمان وقالوا له في ذلك أي قالوا طفت بالبيت قال بئسما ظننتم بي دعتني قريش إلى أن أطوف بالبيت فأبيت والذي نفسي بيده لو مكث بها معتمرا سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما بالحديبية ما طفت حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم اه
وكانت قريش قد احتبست عثمان عندها ثلاثة أيام فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان رضي الله عنه قد قتل أي وكذا قتل معه العشرة رجال الذين دخلوا مكة أيضا فقال صلى الله عليه وسلم عند بلوغه ذلك لا نبرح حتى نناجز القوم أي نقاتلهم ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة أي بعد أن قال لهم إن الله أمرني بالبيعة فعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه بينما نحن جلوس قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وهو عمر بن الخطاب أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس فاخرجوا على اسم اله فسرنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة فبايعناه أي وبايعه الناس على عدم الفرار وأنه إما الفتح وإما الشهادة وهذا هو المراد بما جاء في بعض الروايات فبايعناه على الموت ولم يتخلف منا أحد إلا الجد بن قيس قال لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته يستتر بها من الناس وقد قيل
____________________
(2/701)
إنه كان يرمى بالنفاق وقد نزل في حقه في غزوة أي غزوة تبوك من الآيات ما يدل على ذلك كما سيأتي وهو ابن عمة البراء بن معرور رضي الله عنه وكان سيد بني سلمة بسكر اللام في الجاهلية وقد قال صلى الله عليه وسلم لبني سلمة من سيدكم قالوا الجد بن قيس أي على بخل فيه قال وأي أدوأ من البخل ثم قال صلى الله عليه وسلم بل سيدكم عمرو بن الجموح وقيل قالوا يا رسول الله من سيدنا قال سيدكم بشر بن البراء بن معرور وهذا قال ابن عبد البر إن النفس اليه أميل ومما يدل للأول ما أنشده شاعر الأنصار رضي الله عنهم من قوله ** وقال رسول الله والحق قوله ** لمن قال منا من تسموه سيدا ** ** فقالوا له جد بن قيس على التي ** نبخله فيها وإن كان أسودا ** ** فتى ما يخطى خطوه لدنيئه ** ولا مد يوما ما الى سوأة يدا ** ** فسود عمرو بن الجموح لجوده ** وحق لعمرو بالندى لأن يسودا ** ** إذ جاءه السؤال أنهب ماله ** وقال خذوه إنه عائد غدا ** ** ولو كنت يا جد بن قيس على التي ** على مثلها عمر ولكنت المسودا **
أي وبايع صلى الله عليه وسلم عن عثمان فوضع يده على يده أي وضع يده اليمنى على يده اليسرى وقال اللهم إن هذه عن عثمان فانه في حاجتك وحاجة رسولك أي وفي لفظ قال اللهم إن عثمان ذهب في حاجة الله وحاجة رسوله فأنا أبايع عنه فضرب بيمينه شماله وما ذاك إلا أنه صلى الله عليه وسلم علم بعدم صحة القول بأن عثمان قد قتل أو أن ذلك كان بعد مجئ الخبر له صلى الله عليه وسلم بأن القول بقتل عثمان رضي الله عنه باطل
وفيه أنه حيث علم صلى الله عليه وسلم أن عثمان لم يقتل لا معنى للبيعة لأن سببها كما علمت بلوغه الخبر أن عثمان قد قتل
إلا أن يقال سببها ما ذكر وقتل العشرة من الصحابة ويدل لذلك ما يأتي قريبا أن عثمان رضي الله عنه بايع بعد مجيئه من مكة فليتأمل أي وبهذا يرد ما تمسك به بعض الشيعة في تفضيل علي كرم الله وجهه على عثمان رضي الله عنه لأن عليا كان من جملة من بايع تحت الشجرة وقد خوطبوا بقوله صلى الله عليه وسلم أنتم خير أهل الأرض فإنه صريح في تفضيل أهل الشجرة على غيرهم
____________________
(2/702)
وأيضا على حضر بدرا دون عثمان وقد جاء مرفوعا لا يدخل النار من شهد بدرا والحديبية
وحاصل الرد أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع عن عثمان مع الاعتذار عنه بأنه في حاجة الله وحاجة رسوله صلى الله عليه وسلم وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه عن بدر لتمريض بنته صلى الله عليه وسلم واسهم له كما تقدم فهو في حكم من حضرها على أنه سيأتي أنه رضي الله عنه بايع تحت تلك الشجرة بعد مجيئه من مكة واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم أنتم خير أهل الأرض على عدم حياة الخضر عليه الصلاة والسلام حينئذ لأنه يلزم أن يكون غير النبي أفضل منه وقد قامت الأدلة الواضحة على ثبوت نبوته كما قاله الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى وقد أشار إلى امتناع عثمان رضي الله تعالى عنه من الطواف وإلى عدم صحة القول بأن عثمان قتل وإلى مبايعته صلى الله عليه وسلم عنه صاحب الهمزية بقوله رحمه الله ** وأبى أن يطوف البيت إذ لم ** يدن منه إلى النبي فناء ** ** فجزته عنها ببيعة رضوا ** ن يد من نبيه بيضاء ** ** أدب عنده تضاعفت الأء ** مال بالترك حبذا الأدباء **
أي وامتنع رضي الله عنه أن يطوف بالبيت لأجل أنه لم يقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من البيت جانب فجزته عن تلك الفعلة وهي ذهابه اليهم وامتناعه من الطواف يد من نبيه عليه الصلاة والسلام تلك اليد البالغة في الكرم وذلك في بيعة الرضوان وذلك أدب عظيم عند عثمان رضي الله تعالى عنه حصل منه أمر عظيم مستغرب هو تضاعف ثواب الأعمال التي تركها بسبب تركها وهي الطواف
وذكر أن قريشا بعثت إلى عبد الله بن أبي ابن سلول إن أحببت أن تدخل فتطوف بالبيت فافعل فقال له ابنه عبد الله رضي الله عنه يا أبت أذكرك الله أن لا تفضحنا في كل موطن تطوف ولم يطف رسول الله صلى الله عليه وسلم فابى حينئذ وقال لا أطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي لفظ قال إن لي في رسول الله أسوة حسنة فلما بلغ رسول صلى الله عليه وسلم امتناعه رضي الله عنه أثنى عليه بذلك
وكانت البيعة تحت الشجرة هناك أي من أشجار السمر أي ولما جاء عثمان رضي الله
____________________
(2/703)
تعالى عنه بايع تحت تلك الشجرة وقيل لها بيعة الرضوان أي لانه صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل النار احد بايع تحت الشجرة رواه مسلم وكانوا ألفا وأربعمائة على الصحيح
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال يا أيها الناس إن الله قد غفر لأهل بدر والحديبية وتقدم أن الواو بمعنى أو في حديث لا يدخل النار من شهد بدرا والحديبية بدليل رواية مسلم هذه
ومن ثم قال ابن عبد البر رحمه الله ليس في غزواته صلى الله عليه وسلم ما يعدل بدرا أو يقرب منها إلا غزوة الحديبية والراجح تقديم غزوة أحد على غزوة الحديبية وأنها التي تلى بدرا في الفضيلة وأول من بايعه صلى الله عليه وسلم سنان بن أبي سنان الأسدي كذا في الأصل أنه الصواب بعد أن حكى أن أول من بايع أبو سنان أي وهو ما ذهب اليه في الاستيعاب حيث قال الأكثر الأشهر أن أبا سنان أول من بايع بيعة الرضوان أي لا ابنه سنان وأبو سنان هذا هو أخو عكاشة بن محصن رضي الله عنه وكان أكبر من أخيه عكاشة بعشرين سنة وضعفه في الأصل بأن أبا سنان رضي الله عنه مات في حصار بني قريظة ودفن بمقبرتهم أي كما تقدم
ولما بايعه سنان قال للنبي صلى الله عليه وسلم أبايعك على ما في نفسك قال وما في نفسي قال أضرب بسيفي بين يديك حتى يظهرك الله أو أقتل وصار الناس يقولون له صلى الله عليه وسلم نبايعك على ما بايعك عليه سنان
وقيل أول من بايع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقيل سلمة بن الأكوع
قال وذكر أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه بايع ثلاث مرات أول الناس ووسط الناس وآخر الناس بأمره له صلى الله عليه وسلم في الثانية والثالثة بعد قول سلمة له قد بايعت فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا وذلك ليكون له في ذلك فضيلة أي لأنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يؤكد بيعته لعلمه بشجاعته وعنايته بالإسلام وشهرته في الثبات أي بدليل ما وقع له رضي الله عنه في غزوة ذي قرد بناء على تقدمها على ما هنا أو تفرس فيه صلى الله عليه وسلم ذلك بناء على تأخرها وبايع عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما مرتين
أي وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى { لا تحلوا شعائر الله } الآية أن المسلمين لما
____________________
(2/704)
صدوا عن البيت بالحديبية مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة فقال المسلمون نصد هؤلاء كما صدنا أصحابه فأنزل الله تعالى الآية أي لا تصدوا هؤلاء العمار أن صدكم اصحابهم
قال وكان محمد بن مسلمة رضي الله عنه على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثت قريش أربعين وقيل خمسين رجلا عليهم مكرز بن حفص أي وهو الذي بعثته قريش له صلى الله عليه وسلم ليسأله فيما جاء وقال صلى الله عليه وسلم في حقه هذا رجل غادر وفي لفظ رجل فاجر ليطوفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا رجاء أن يصيبوا منهم أحدا أو يجدوا منهم غرة أي غفلة فأخذهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلا مكرزا فإنه أفلت وصدق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم إنه رجل فاجر أو غادر كما تقدم وأتى بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسوا وبلغ قريشا حبس اصحابهم فجاء جمع منهم حتى رموا المسلمين بالنبل والحجارة وقتل من المسلمين ابن زنيم رضي الله عنه رمى بسهم فأسر المسلمون منهم اثني عشر رجلا
وعند ذلك بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعا منهم سهيل بن عمرو فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه سهل أمركم فقال سهيل يا محمد إن الذي كان من حبس أصحابك أي عثمان والعشرة رجال وما كان من قتال من قاتلك لم يكن من رأى ذوي رأينا بل كنا كارهين له حين بلغنا ولم نعلم به وكان من سفهائنا فابعث الينا بأصحابنا الذين أسرت أولا وثانيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني غير مرسلهم حتى ترسلوا أصحابي فقالوا نفعل فبعث سهيل ومن معه إلى قريش بذلك فبعثوا بمن كان عندهم وهو عثمان والعشرة رجال فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابهم انتهى
ولما علمت قريش بهذه البيعة خافوا وأشار أهل الرأي بالصلح على أن يرجع ويعود من قابل فيقيم ثلاثا معه سلاح الراكب السيوف في القرب والقوس فبعثوا سهيل ابن عمرو أي ثانيا ومعه مكرز بن حفص وحويطب بن عبد العزى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصالحوه على أن يرجع في عامه هذا لئلا تتحدث العرب بأنه دخل عنوة أي وانه يعود من قابل فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال اراد القوم الصلح حيث بعثوا هذا الرجل أي ثانيا فلما انتهى سهيل إلى
____________________
(2/705)
رسول الله صلى الله عليه وسلم جثا على ركبتيه بين يديه صلى الله عليه وسلم والمسلمون حوله جلوس وتكلم فأطال ثم تراجعا أي ومن جملة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال له سهيل والله لا تتحدث العرب بنا أنا أخذنا ضغطة بالضم أي بالشدة والإكراه ولكن ذلك من العام القابل ثم التأم الأمر بينهما على الصلح على ترك القتال إلى آخر ما يأتي ولم يبق إلا الكتاب بذلك
وعند ذلك وثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتى ابا بكر رضي الله عنه فقال له يا ابا بكر اليس هو برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بلى قال أو لسنا بالمسلمين قال بلى قال او ليسوا بالمشركين قال بلى قال فعلام نعطي الدنية بفتح الدال وكسر النون وتشديد الياء النقيصة والخصلة المذمومة في ديننا فقال له أبو بكر رضي الله عنه يا عمر الزم غرزه أي ركابه وفي رواية أنه قال له أيها الرجل إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصى ربه وهو ناصره استمسك بغرزه حتى تموت فإني أشهد أنه رسول الله قال عمر رضي الله عنه وأنا أشهد أنه رسول الله ثم أتى عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مثل ما قال لأبي بكر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولم يضيعني
ولقي عمر رضي الله عنه من ذلك الشروط الآتي ذكرها أمرا عظيما وجعل يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام حتى قال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما يقول نعوذ بالله من الشيطان الرجيم فجعل يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمر إني رضيت وتأبى فكان عمر رضي الله عنه يقول ما زلت أصوم واتصدق واصلى واعتق مخافة كلامي الذي تكلمت به حين رجوت أن يكون هذا خيرا
هذا والذي في الإمتاع عكس ما هنا أي أنه قال ما ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أولا ثم لأبي بكر ثانيا ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أي بعد أن كان أمر أوس بن خولة أن يكتب فقال له سهيل لا يكتب إلا ابن عمك على أو عثمان بن عفان فأمر عليا كرم الله وجهه فقال اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو لا أعرف هذا أي الرحمن الرحيم ولكن أكتب باسمك اللهم فكتبها لأن قريشا كانت تقولها وأول من كتبها أمية بن أبي الصلت ومنه
____________________
(2/706)
تعلموها وتعلمها هو من رجل من الجن في خبر ذكره المسعودي أي وإنما كتبها بعد أن قال المسلمون والله لا يكتب إلا بسم الله الرحمن الرحيم فضج المسلمون
وعن الشعبي رحمه الله كان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم فكتب النبي أول ما كتب باسمك اللهم وتقدم أنه كتب ذلك في أربع كتب حتى نزلت { بسم الله مجراها ومرساها } فكتب باسم الله ثم نزلت { ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } فكتب بسم الله الرحمن ثم نزلت { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } أي فكتبها وهذا السياق يدل على تأخر نزول الفاتحة عن هذه الآيات لأن البسملة نزلت أولها وتقدم الخلاف في وقت نزولها فليتأمل ثم قال صلى الله عليه وسلم اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو فقال سهيل بن عمرو لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولم اصدك عن البيت ولكن اكتب باسمك واسم ابيك أي وفي لفظ لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك واتبعتك أفترغب عن اسمك واسم ابيك محمد بن عبد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه امحه وفي لفظ امح رسول الله فقال علي كرم الله وجهه ما أنا بالذي أمحاه وفي لفظ لا أمحوك وفي لفظ والله لا أمحوك أبدا فقال أرنيه فأراه إياه فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة وقال اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو وقال أنا والله رسول الله وإن كذبتموني وأنا محمد بن عبد الله وفي لفظ فجعل علي يتلكأ ويأبى أن يكتب إلا محمد رسول الله فقال له صلى الله عليه وسلم اكتب فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد أي مقهور
وهو إشارة منه صلى الله عليه وسلم لما سيقع بين علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما فإنهما في حرب صفين وقعت بينهما المصالحة على ترك القتال إلى رأس الحول وكان القتال في صفر دام مائة يوم وعشرة أيام قتل فيه سبعون ألفا خمسة وعشرون ألفا من جيش علي كرم الله وجهه من جملة تسعين ألفا وخمسة وأربعون ألفا من جيش معاوية من جملة مائة وعشرين ألفا
فلما كتب الكاتب في الصلح هذا ما صالح عليه امير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي هو أحد الحكمين اكتب اسمه واسم ابيه وأرسل معاوية يقول لعمرو
____________________
(2/707)
لا تكتب أن عليا أمير المؤمنين لو كنت أعلم أنه أمير المؤمنين ما قاتلته فبئس الرجل أنا إن أقررت أنه أمير المؤمنين ثم أقاتله ولكن اكتب علي بن أبي طالب وامح أمير المؤمنين فقيل له يا أمير المؤمنين لا تمح إمارة اسم امير المؤمنين فإنك إن محوتها لا تعود إليك فلما سمع علي كرم الله وجهه ذلك وأمره بمحوها وقال امحها تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية ما تقدم ومن ثم قال الله أكبر مثلا بمثل والله إني لكاتب رسول الله يوم الحديبية إذ قالوا لست برسول الله ولا نشهد لك بذلك اكتب اسمك واسم ابيك محمد بن عبد الله فقال عمرو بن العاص رضي الله عنه سبحان الله أنتشبه بالكفار فقال له علي كرم الله وجهه يا ابن النابغة أي العاهرة ومتى كنت عدوا للمسلمين هل تشبه إلا أمك التي وقعت بك فقال عمرو لايجمع بيني وبينك مجلس أبدا فقال علي كرم الله وجهه إني لأرجو الله أن يطهر مجلسي منك ومن أشباهك
وذكر أن أسيد بن حضير وسعد بن عبادة رضي الله عنهما أخذا بيد علي كرم الله وجهه ومنعاه أن يكتب إلا محمد رسول الله وإلا فالسيف بيننا وبينهم وضجت المسلمون وارتفعت الأصوات وجعلوا يقولون لم نعط هذه الدنية في ديننا فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويومئ بيده إليهم أن اسكتوا ثم قال أرنيه الحديث وكان الصلح على وضع الحرب عن الناس عشر سنين وقيل سنتين وقيل اربع سنين أي وصححه الحاكم تأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض أي ويقال لهذا العقد هدنة ومهادنة وموادعة ومسالمة وقال زيادة على اشتراط الكف عن الحرب على أنه من أتى محمدا صلى الله عليه وسلم من قريش ممن هو على دين محمد بغير إذن وليه رده إليه ذكرا كان أو انثى
قال السهيلي رحمه الله وفي رد المسلم إلى مكة عمارة البيت وزيادة خير له في الصلاة بالمسجد الحرام والطواف بالبيت فكان هذا من تعظيم حرمات الله هذا كلامه ومن أتى قريشا ممن كان مع محمد أي مرتدا ذكرا كان أو أنثى لم نرده اليه
وهذا الثاني يوافق قول أئمتنا معاشر الشافعية يجوز شرط أن لا يردوا من جائهم مرتدا والأول يخالف قولهم لا يجوز شرط رد مسلمة تأتينا منهم فإن شرط فسد الشرط والعقد إلا أن يقال هذا ما وقع عليه الأمر أولا ثم نسخ كما سيأتي وشرطوا أنه من احب أن يدخل
____________________
(2/708)
في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه وأن بيننا وبينكم عيبة مكفوفة أي صدورا منطوية على ما فيها لا تبدي عداوة وقيل صدورا نقية من الغل والخداع منطوية على الوفاء بالصلح وأنه لا إسلال ولا إغلال أي لا سرقة ولا خيانة قال سهيل وأنك ترجع عامك هذا فلا تدخل مكة وأنه إذا كان عام قابل خرج منها قريش فتدخلها بأصحابك فاقمت بها ثلاثة أي ثلاثة أيام معك سلاح الراكب السيوف في القرب والقوس لا تدخلها بغيرها
ويقال إنه صلى الله عليه وسلم هو الذي كتب الكتاب بيده الشريفة وهو ما وقع في البخاري أي اطلق الله يده صلى الله عليه وسلم بالكتابة في تلك الساعة خاصة وعد معجزة له
قال بعضهم لم يعتبره أي القول بذلك أهل العلم ومعنى كتب أمر الكتابة وفي النور وفي كون هذا أي أنه كتب بيده في البخاري فيه نظر والذي في البخاري واخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب ليكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد الحديث أي فلفظة بيده ليست في البخاري ومع اسقاطها التأويل ممكن وتمسك بظاهر قوله فكتب أبو الوليد الباجي المالكي رحمه الله على أنه صلى الله عليه وسلم كتب بيده فشنع عليه علماء الاندلس في زمانه بأن هذا مخالف للقرآن فناظرهم واستظهر عليهم بأن هذا لا ينافي القرآن وهو قوله تعالى { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } لأن هذا النفي مقيد بما قبل ورود القرآن وبعد أن تحققت أميته صلى الله عليه وسلم وتقررت بذلك معجزته لا مانع من أن يعرف الكتابة من غير معلم فتكون معجزة أخرى ولا يخرجه ذلك عن كونه أميا
أي ويقال إن الذي كتب هذا الكتاب محمد بن مسلمة رضي الله عنه وعده الحافظ ابن حجر رحمه الله من الاوهام
وجمع بأن أصل هذا الكتاب كتبه علي كرم الله وجهه ونسخ مثله محمد بن مسلمة رضي الله عنه لسهيل بن عمرو أي فإن سهيلا قال يكون هذا الكتاب عندي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل عندي فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كتب لسهيل نسخة أخذها عنده وعند كتابته اشترط ان يرد اليهم من جاء مسلما قال المسلمون سبحان الله كيف نرد للمشركين من جاء مسلما وعسر عليم شرط
____________________
(2/709)
ذلك وقالوا يا رسول الله أتكتب هذا قال نعم إنه من ذهب منا اليهم فأبعده الله ومن جاءنا منهم فرددناه اليهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا وفي لفظ قال عمر يا رسول الله أترضى بهذا فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال من جاءنا منهم فرددناه اليهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا ومن أعرض عنها وذهب اليهم فلسنا منه في شيء وليس منا بل اولى بهم
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وسهيل بن عمرو يكتبان الكتاب بالشروط المذكورة إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى المسلمين يرسف في الحديد أي يمشي في قيوده متوشحا سيفه قد افلت إلى أن جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورمى بنفسه بين أظهر المسلمين فجعل المسلمون يرحبون به ويهنئونه فلما رأى سهيل ابنه أبا جندل قام اليه فضرب وجهه وفي لفظ أخذ غصنا من شجرة به شوك وضرب به وجه ابي جندل ضربا شديدا حتى رق عليه المسلمون وبكوا وأخذ بتلبيته وقال يا محمد هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلى لقد لجت القضية بيني وبينك أي وجبت وتمت قبل أن يأتيك هذا قال صدقت فجعل ينثره بتلبيته ويجره ليرده إلى قريش وجعل ابو جندل رضي الله عنه يصرخ بأعلى صوته يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنوني عن ديني الا ترون ما لقيت فإنه رضي الله عنه كان عذب عذابا شديدا على أن يرجع عن الإسلام فزاد الناس ذلك إلى ما بهم أي فإنهم كانوا لا يشكون في دخولهم مكة وطوافهم بالبيت للرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا الصلح وما تحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه داخلهم من ذلك امر عظيم حتى كادوا يهلكون خصوصا من اشترط أن يرد إلى المشركين من جاء مسلما منهم أي ورد أبي جندل اليهم بعد ضربه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله أن لا نغدر بهم
وبهذا استدل أئمتنا على أنه يجوز شرط رد من جاءنا منهم مسلما إليهم ولا نرده اليهم إلا إذا كان حرا ذكرا غير صبي ومجنون وطلبته عشيرته
وفي لفظ آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسهيل إنا لم نفض الكتاب بعد فقال بلى لقد لجت القضية بيني وبينك أي تم العقد فرده فقال النبي صلى الله عليه
____________________
(2/710)
وسلم فأجره لي فقال ما أنا مجير ذلك لك قال بلى فافعل قال ما انا بفاعل فقال مكروز وحويطب قد أجرناه لك لا نعذبه
أي وهذا وما تقدم يخالف قول ابن حجر الهيتمي رحمه الله ان مجيء أبي جندل كان قبل عقد الهدنه معهم رواه البخاري وعند ذلك قال حويطب لمكرز ما رأيت قوما قط أشد حبا لمن دخل معهم من أصحاب محمد أما أني اقول لك لا تأخذ من محمد نصفا ابدا بعد هذا اليوم حتى يدخلها عنوه فقال مكرز وأنا أرى ذلك
وعند ذلك وثب عمر بن الخطاب رضى الله عنه ومشى الى جنب ابي جندل أى وابوه سهيل بجنبه يدفعه وصار عمر رضى الله عنه يقول لابي جندل اصبر يا أبا جندل فانما هم المشركون وانما دم احدهم كدم كلب اى ومعك السيف يعرض له بقتل أبيه اى وفى روايه ان دم الكافر عند الله كدم الكلب ويدني قائم السيف منه أى وفى لفظ وجعل يقول يا أبا جندل ان الرجل يقتل أباه فى الله والله لو أدركنا أباءنا لقتلناهم فى الله فقال له أبو جندل ما لك لا تقتله أنت فقال عمر نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله وقتل غيره فقال أبو جندل رضى الله عنه ما أنت أحق بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني فقال عمر رضى الله عنه وددت أن يأخذ السيف فيضرب أباه فضن الرجل بأبيه
وفيه كيف يظن عمر حينئذ جواز قتله لآبيه حتى يعرض له به الا أن يقال ظن ذلك لكونه يريد أن يفتنه عن دينه ويرجع الى الكفر وإن كان صلى الله عليه وسلم قال له يا أبا جندل اضبر واحتسب
ورجع أبو جندل الى مكه فى جوار مكرز بن حفص أى وحويصب فأدخلاه مكانا وكف عنه أبوه
وأبو جندل اسمه العاص وهو اخو عبد الله بن سهيل بن عمرو وإسلام عبد الله سابق على اسلام ابي جندل لآن عبد الله شهد بدرا أي فإنه خرج مع المشركين لبدر ثم انحاز من المشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد معه بدرا والمشاهد كلها وأبو جندل رضي الله عنه أول مشاهده الفتح
ودخلت خزانمة في عقده صلى الله عليه وسلم وعهده أي وفي لفظ ووثب من هناك من خزاعة فقالوا نحن ندخل في عهد محمد وعقده ونحن على من وراءنا من قومنا ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم
____________________
(2/711)
ويذكر أن حويطبا قال لسهيل بادأنا أخوا لك يعني خزاعة بالعداوة وكانوا يستترون منا فدخلوا في عهد محمد وعقده فقال له سهيل ما هم الا كغيرهم هؤلاء أقاربنا ولحمتنا قد دخلوا مع محمد قوم اختاروا لانفسهم أمرا فما نصنع بهم أن ننصر عليهم حلفاءنا بني بكر قال سهيل إياك أن يسمع هذا قال منك بنو بكر فإنهم أهل شؤم فيسبوا خزاعة فيغضب محمد لحلفائه فينقض العهد بيننا وبينه
ومن هذا التقرير يعلم أن بيعة الرضوان كانت قبل الصلح وأنها سبب الباعث لقريش عليه
ووقع في المواهب ما يقتضي ان بيعة الرضوان كانت قبل الصلح وأنها السبب الباعث لقريش عليه
ووقع في المواهب ما يقتضي أن البيعة كانت بعد الصلح وأن الكتاب الذي ذهب به عثمان كان متضمنا للصلح الذي وقع بينه صلى الله عليه وسلم وبين سهيل بن عمرو فحبست قريش عثمان فحبس صلى الله عليه وسلم سهيلا ولا يخفى عليك ما فيه
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ا لصلح وأشهد عليه رجالا من المسلمين أي أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بن الجراح ومحمد بن مسلمة أي ورجالا من قريش حويطبا ومكرزا قام إلى هدية فنحره ومن جملته جمل لابي جهل وكان نجيبا مهريا وكان يضرب في لقاحه صلى الله عليه وسلم في رأسه برة أي حلقة من فضة وقيل من ذهب ليغيظ بذلك المشركين غنمه صلى الله عليه وسلم يوم بدر كما تقدم
وقال وقد كان فر من الحديبية ودخل مكة وانتهى إلى دار أبي جهل وخرج في أثره عمرو بن غنمة الأنصاري فأبى سفهاء مكة أن يعطوه حتى امرهم سهيل بن عمرو بدفعه ودفعوا فيه عدة ثياب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا أنا سميناه في الهدى فعلنا انتهى
وفي لفظ قال لهم سهيل بن عمرو إن تريدوه فاعرضوا على محمد مائة من الإبل فإن قبلها فأمسكوا هذا الجمل وإلا فلا تتعرضوا له أي فعرضوا عليه صلى الله عليه وسلم ذلك فأبى وقال لو لم يكن هذا الجمل للهدى لقبلت المائة وفرق صلى الله عليه وسلم لحم الهدى على الفقراء الذين حضروا الحديبية
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى مكة عشرين بدنة مع ناحية حتى نحرت
____________________
(2/712)
بالمروة وقسموا لحمها على فقراء مكة ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه وكان الحالق لرأسه خراش بن أمية الخزاعي الذي بعثه إلى قريش فعقروا جمله وأرادوا قتله كما تقدم
فلما رأى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون وقصر بعضهم كعثمان وأبي قتادة
وفي كلام بعضهم أي وهو السهيلي أنه لم يقصر غيرهما ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة فقال اللهم ارحم المحلقين وفي لفظ يرحم الله المحلقين وفي لفظ اللهم اغفر للمحلقين قالوا والمقصرين فقال يرحم الله المحلقين أو قال اللهم ارحم المحلقين أو اللهم اغفر للمحلقين قالوا والمقصرين فقال يرحم الله المحلقين والمقصرين وفي رواية قال والمقصرين في الرابعة وقد قالوا له يا رسول الله لم ظاهرت أي أظهرت الترحم للمحلقين دون المقصرين قال لأنهم لم يشكوا أي لم يرجوا أن يطوفوا بالبيت بخلاف المقصرين أي لأن الظاهر من حالهم أنهم أخروا بقية شعورهم رجاء أن يحلقوها بعد طوافهم بالبيت
وأرسل الله سبحانه وتعالى ريحا عاصفة احتملت شعورهم فألقتها في الحرم وفيه أنه تقدم أن الحديبية أكثرها في الحرم فاستبشروا بقبول عمرتهم
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من الكتاب أمرهم بالنحر والحلق قال ذلك ثلاث مرات فلم يقم منهم احد فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة رضي الله عنها أي وهو شديد الغضب فاضطجع فقالت مالك يا رسول الله مرارا وهو لا يجيبها ثم ذكر لها ما لقي من الناس وقال لها هلك المسلمون أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا وفي لفظ قال عجبا يا أم سلمة ألا ترين إلى الناس آمرهم بالأمر فلا يفعلونه قلت لهم انحروا واحلقوا وحلوا مرارا فلم يجبني أحد من الناس إلى ذلك وهم يسمعون كلامي وينظرون وجهي فقالت يا رسول الله لا تلمهم فإنهم قد داخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح ثم أشارت عليه صلى الله عليه وسلم أن يخرج ولا يكلم أحدا منهم وينحر بدنه ويحلق رأسه ففعل كذلك أي أخذ الحربة وقصد هديه وأهوى بالحربة إلى البدن رافعا صوته بسم الله والله أكبر ثم دخل صلى الله عليه وسلم قبة له من أدم أحمر ودعا بخراش فحلق رأسه ورمى شعره على شجرة فأخذه الناس وتحاصوه وأخذت أم عمارة رضي الله عنها طاقات منه فكانت تغسلها للمريض وتسقيه فيبرأ فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وحلقوا ثم انصرف صلى الله
____________________
(2/713)
عليه وسلم قافلا إلى المدينة أي بعد أن أقام بالحديبية تسعة عشر يوما وقيل عشرين يوما
فلما كان صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة أي بكراع الغميم أنزلت عليه سورة الفتح أي وقال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه أنزلت علي سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس وحصل للناس مجاعة فقالوا يا رسول الله جهدنا أي اصابنا الجهد وهو المشقة من الجوع وفي الناس ظهر أي إبل فانحره لنأكل من لحمه ولندهن من شحمه ولنحتذى من جلوده فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا تفعل يا رسول الله فإن الناس إن يكن فيهم بقية ظهر أمثل كيف بنا إذا لاقينا العدو غدا جياعا ورجالا أي ثم قال ولكن إن رأيت أن تدعو الناس إلى أن يجمعوا بقايا أزوادهم ثم تدعوا فيها بالبركة فإن الله سيبلغها بدعوتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابسطوا أنطاعكم وعباءكم ففعلوا ثم قال من كان عنده بقية من زاد او طعام فلينثره ودعا لهم ثم قال قربوا أوعيتكم فأخذوا ما شاء الله أي وحشوا أوعيتهم وأكلوا حتى شبعوا وبقي مثله
وفي مسلم خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأخذنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم فجمعنا من أزوادنا فبسطنا له نطعا فاجتمع زاد القوم على النطع فكان كربضة العنز أي كقدر العنز وهي رابضة أي باركة وكنا أربع عشرة مائة وقال الراوي فأكلنا حتى شبعنا ثم حشونا جربنا فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله والله لا يلقى الله عبد مؤمن بهما إلا حجب من النار وقال صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه هل من وضوء بفتح الواو وهو ما يتوضأ به فجاء رجل باداوة وهي الركوة فيها نطفة من ماء أي قليل من ماء وقيل للماء نطفة لأنه ينطف أي يصب فأفرغها في قدح أي ووضع راحته الشريفة في ذلك الماء قال الراوي فتوضأنا كلنا أي الأربع عشرة مائة ندغفقه دغفقة أي نصبه صبا شديدا ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا هل من طهور فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرغ الوضوء وإلى تكثير الطعام والماء أشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله في وصف راحته الشريفة
____________________
(2/714)
** أحييت المرملين من موت جهد ** أعوز القوم فيها زاد وماء **
أي حفظت على المحتاجين للزاد والماء حياتهم فسلموا من موت قحط شديد أعوذ القوم في ذلك القحط زاد وماء وقال الإمام السبكي في تائيته في تكثير الماء ** وعندي يمين لا يمين بأن في ** يمينك وكفا حيثما السحب ضنت **
ولما أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم سورة الفتح قال له جبريل عليه السلام نهنئك يا رسول الله وهنأه المسلمون وتكلم بعض الصحابة وقال ما هذا بفتح لقد صدونا عن البيت وصد هدينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك بئس الكلام بل هو أعظم الفتح لقد رضى المشركون أن يدفعوكم بالبراح عن بلادهم وسألوكم القضية ويربحوا اليكم في الأمان وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم الله تعالى سالمين مأجورين فهو أعظم الفتوح انسيتم يوم أحد { إذ تصعدون ولا تلوون على أحد } وأنا أدعوكم في أخراكم ونسيتم يوم الاحزاب { إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا } فقال المسلمون صدق الله ورسوله فهو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وبأمره منا وقال له بعض الصحابة أي وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا رسول الله ألم تقل إنك تدخل مكة آمنا قال بلى أفقلت لكم من عامي هذا قالوا لا قال فهو كما قال جبريل عليه السلام فإنكم تأتونه وتطوفون به
أقول فيه أنه تقدم أن ذلك كان عن رؤيا لا عن وحي إلا أن يقال يجوز أن يكون جاءه صلى الله عليه وسلم الوحي بمثل ما رأى ثم اخبرهم بذلك والله اعلم
وفي لفظ لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو واصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين وأخبرهم بذلك فلما صدوا قالوا له اين رؤياك يا رسول الله فانزل الله تعالى { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } الآية
أقول ولا يخالف هذا ما تقدم أن الرؤيا المذكورة كانت بالمدينة وأنها السبب الحامل على الإحرام بالعمرة لجواز تكرار الرؤيا وأن الأولى اقترن بها الوحي
وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام القضية وحلق رأسه قال هذا الذي وعدتكم فلما كان يوم الفتح وأخذ المفتاح قال ادعوا لي عمر بن الخطاب فقال هذا الذي قلت لكم
____________________
(2/715)
ولما كان في حجة الوداع ووقف صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال لعر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الذي قلت لكم وفيه أنه لم يتقدم في الرؤيا أنه صلى الله عليه وسلم يأخذ المفتاح ولا أن يقف بفعرة إلا أن يقال يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك بعد الرؤيا وأن المراد مجرد دخول مكة والله أعلم
وأصابهم مطر في الحديبية لم يبل أسفل نعالم أي ليلا فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صلوا في رحالكم
أي ووقع مثل ذلك في حنين أنه أصابهم مثله فأمر صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي ألا صلوا في رحالكم
وقال صلى الله عليه وسلم صبيحة ليلة الحديبية لما صلى بهم أتدرون ما قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال قال الله عز وجل أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا برحمة الله وفضله فهو مؤمن بالله وكافر بالكواكب ومن قال مطرنا بنجم كذا وفي رواية بنو كذا وكذا فهو مؤمن بالكواكب كافر بي وهذا عند أئمتنا مكروه لا حرام أي لأن المراد بالإيمان شكر نعمة الله حيث نسبها الى الله والكفر كفران النعمة حيث نسبها لغيره فإن اعقتد أن النجم هو الفاعل كان الكفر فيه على حقيقته وهو ضد الإيمان والأول إنما نهى عنه لأن كان من أمر الجاهلية وإلا فهذا التركيب لا يقتضي أن يكون نؤ كذا فاعلا ومن ثم لو قال مطرنا في نؤ كذا أي في قوت نوء كذا لم يكره وكان ابن أبي ابن سلول قال هذا نوء الخريف مطرنا بالشعرى أي وسمي الخريف خريفا لأنه تخترف فيه الثمار أي تقطع والنوء سقوط نجم ينزل في الغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق من أنجم المنازل وذلك يحصل في كل ثلاثة عشر يوما إلا الجبهة النجم المعروف فإن لها أربعة عشر يوما قال بعضهم والأنواء ثمانية وعشرون نوءا أي نجما كان العرب يعتقدون أن من ذلك يحدث المطر أو الريح
وفي الحديث لو حبس الله القطر عن الناس سبع سنين ثم أرسله أصبح طائفة منهم به كافرين يقولون مطرنا بنوء المجرة بسكر الميم نجم يقال هو الدبران وعن أبي هريرة رضي الله عنه إن الله ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها فتصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون مطرنا بنوء كذا
____________________
(2/716)
ونقل عن عمر رضي الله عنه أنه قال مطرنا بنوء كذا ولعله لم يبلغه النهي عن ذلك حيث قال
قال العارف بالله ابن عطاء الله لعل هذا يكون ناهيا لك أيها المؤمن عن التعرض إلى علم الكواكب واقتراناتها ومانعا لك ان تدعي وجود تأثيراتها واعلم أن لله فيك قضاء لا بد أن ينفذه وحكما لا بد أن يظهره فما فائدة التجسس على غيب علام الغيوب وقد نهانا سبحانه أن نتجسس على غيبه
وصارت تلك الشجرة التي وقعت عندها البيع يقال لها شجرة الرضوان وبلغ عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه أي في خلافته أن ناسا يصلون عندها فتوعدهم وأمر بها فقطعت أي خوف ظهور البدعة
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة هاجرت إليه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في تلك المدة وكانت أسلمت بمكة وبايعت قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أول من هاجر من النساء بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وإنها خرجت من مكة وحدها وصاحبت رجلا من خزاعة حتى قدمت المدينة
وفي الاستيعاب يقولون إنها مشت على قدميها من مكة إلى المدينة ولا يعرف لها اسم الا هذه الكنية وهي أخت عثمان بن عفن رضي الله عنه لأمه
ولما قدمت المدينة دخلت على أم سلمة رضي الله تعالى عنها وأعلمتها أنها جاءت مهاجرة وتخوفت أن يردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل صلى الله عليه وسلم على أم سلمة أعلمته بها فرحب بأم كلثوم رضي الله تعالى عنها فخرج أخواها عمارة والوليد في ردها بالعهد فقالا يا محمد أوف لنا بما عاهدتنا عليه فلم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أي بعد أن قالت له يا رسول الله أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف فتردني إلى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبي لي فنزل القرآن بنقض ذلك العهد بالنسبة للنساء من جاء منهن مؤمنا لكن بشرط امتحانهن بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات } أي في مدة هذا العهد والصلح { مهاجرات فامتحنوهن } قال السهيلي رحمه الله وكان الامتحان أن تستحلف المرأة المهاجرة أنها ما هاجرت ناشزة لا هاجرت إلا لله ولرسوله وفي لفظ كانت المرأة إذا جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم حلفها عمر رضي
____________________
(2/717)
الله عنه بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض وبالله ما خرجت من بغض زوج وبالله ما خرجت لالتماس دينا ولا لرجل من المسلمين وبالله ما خرجت الا حبا لله ورسوله فإذا خلفت لم ترد ورد صداقها إلى بعلها
أي ولما قدم الوليد وعمارة مكة أخبرا قريشا بذلك فرضوا أن تحبس النساء ولم يكن لأم كلثوم رضي الله عنه زوج بمكة فلما قدمت المدينة زوجها زيد بن حارثة
وفي رواية لما كان صلى الله عليه وسلم بالحديبية جاءته جماعة من النساء المؤمنات مهاجرات من مكة من جملتهن سبيعة بنت الحارث فأقبل زوجها وهو مسافر المخزومي طالبا لها وأراد مشركو مكة أن يردوهن إلى مكة فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } فاستحلف صلى الله عليه وسلم سبيعة فحلفت فأعطى صلى الله عليه وسلم زوجها مسافرا ما أنفق عليها فتزوجها عمر رضي الله عنه وهذا السياق يدل على أن الآية الكريمة نزلت بالحديبية وما قبله يدل على أنها نزلت بالمدينة وقد يقال لا مانع من تكرر نزول الآية
وأما في غير مدة هذا العهد أي بعد نسخه بفتح مكة فلم تستخلف امرأة جاءت إلى المدينة ولا يرد صداقها إلى بعلها ومن ثم ذهب أئمتنا إلى أنه إذا شرط رد المسلمة إليهم فسدت الهدنة كماتقدم ولا يجب دفع المهر للزوج لو جاءت مسلمة وقوله تعالى { وآتوهم } أي الأزواج { ما أنفقوا } أي من المهور على الندب والصارف له عن الوجوب كون الأصل براءة الذمة لأن البضع ليس بمال للكافر
وفيه أن طلب رد المهور للأزواج كان واجبا في مدة العهد خاصة كما علمت وأنزل الله تعالى { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } أي نهى المؤمنين عن البقاء على نكاح المشركات فطلق الصحابة رضي الله عنهم كل امرأة كافرة في نكاحهم حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان له امرأتان فطلقهما يومئذ فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والآخرى صفون بن امية فكان صلى الله عليه وسلم في مدة العهد يرد الرجال ولا يرد النساء أي بعد امتحانهن فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة أبو بصير رضي الله عنه وكان ممن حبس بمكة وكتب في رده أزهر بن عوف رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك وهو من الطلقاء وهو عم عبد الرحمن بن عوف والأخنس بن شريق رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك كتابا وبعث به رجلا من بني عامر يقال له خنيس ومعه مولى
____________________
(2/718)
يهديه الطريق فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتاب فقرأه أبي رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه قد عرفت ما شارطناك عليه من رد من قدم عليك من أصحابنا فابعث إلينا بصاحبنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما علمت ولا يصلح لنا في ديننا الغدر وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا فانطلق إلى قومك قال يا رسول الله اتردني إلى المشركين يفتنوني عن ديني قال صلى الله عليه وسلم يا أبا بصير انطلق فان الله سيجعل لك ولمن حولك من المستضعفين فرجا ومخرجا فانطلق معهما أي وصار المسلمون رضي الله عنهم يقولون له الرجل يكون خيرا من ألف رجل يغرونه بالذين معه حتى إذا كانوا بذي الحليفة جلس رضي الله عنه إلى جدار ومعه صاحباه فقال ابو بصير رضي الله عنه لأحد صاحبيه ومعه سيفه أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر قال نعم انظر اليه إن شئت فاستله أبو بصير رضي الله عنه ثم علاه به حتى قتله
وفي لفظ إن الرجل هو الذي سل سيفه ثم هزه فقال لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوما إلى الليل فقال له أبو نصير أو صارم سيفك هذا قال نعم فقال ناولنيه أنظر إليه فناوله فلم قبض عليه ضربه به حتى برد وقيل تناوله بفيه وصاحبه نائم فقطع إساره أي كتافه ثم ضربه به حتى برد فطلب المولى فخرج المولى سريعا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم والحصى يطن تحت قدميه وفي لفظ والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوة أي وأبو بصير في أثره حتى ازعجه قال صلى الله عليه وسلم إن هذا الرجل قد رأى فزعا وفي لفظ قد رأى هذا ذعرا فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد قال له ويحك مالك قال قتل صاحبكم صاحبي وأفلت منه ولم أكد وإني لمقتول واستغاث برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه فإذا أبو بصير رضي الله عنه أناخ بعير العامري بباب المسجد ودخل متوشحا السيف ووثب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله وفت ذمتك وأدى الله عنك أسلمتني بيد القوم وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه أو يفتن بي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب حيث شئت فقال يا رسول الله هذا سلب العامري أي الذي قتلته رحله وسيفه فخمسه فقال له صلى الله عليه وسلم إذا خمسته رأوني لم أوف لهم
____________________
(2/719)
بالذي عاهدتهم عليه ولكن شأنك بسلب صاحبك ومن ثم قال فقهاؤونا يجوز رد المسلم إلى الطالب له من غير عشيرته إذا قدر على قهر الطالب والهرب منه
وعند ذلك ذهب أبو بصير رضي الله عنه إلى محل من طريق الشام تمر به عيرات قريش واجتمع اليه جمع من المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة أي إنهم لما بلغهم خبره رضي الله عنه أي وأنه صلى الله عليه وسلم قال في حقه ويل أمه مسعر حرب أي لو كان معه رجال صاروا يتسللون اليه وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو رضي الله عنهما الذي رده يوم الحديبية وخرج من مكة في سبعين فارسا أسلموا فلحقوا بأبي بصير وكرهوا أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المدة التي هي زمن الهدنة أي خوف أن يردهم إلى أهليهم وانضم اليهم ناس من غفار وأسلم وجهينة وطوائف من العرب ممن أسلم حتى بلغوا ثلثمائة مقاتل فقطعوا مادة قريش لا يظفرون باحد منهم إلا قتلوه ولا تمر بهم عير إلا أخذوها حتى كتبت قريش له صلى الله عليه وسلم تساله بالأرحام إلا آواهم ولا حاجة لهم بهم
وفي رواية أن قريشا أرسلت أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه في ذلك وأن قريشا قالوا إنا أسقطنا هذا الشرط من الشروط من جاء منهم إليك فأمسكه في غير حرج أي وفي لفظ من أتاه فهو آمن فإنا أسقطنا هذا الشرط فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره فكتب رسول صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وإلى أبي بصير رضي الله عنهما أن يقدما عليه وأن من معهما من المسلمين يلحقوا ببلادهم وأهليهم ولا يتعرضوا لاحد مر بهم من قريش ولا لعيراتهم فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما وأبو بصير رضي الله عنه يموت فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده يقرؤه فدفنه أبو جندل رضي الله عنه مكانه وجعل عند قبره مسجدا
وقدم أبو جندل رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ناس من اصحابه ورجع باقيهم إلى أهليهم وأمنت قريش على عيراتهم وعلمت أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم الذين عسر عليم رد أبي جندل إلى قريش مع ابيه سهيل بن عمرو أن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مما احبوه وأن رأيه صلى الله عليه وسلم أفضل من رأيهم وعملوا بعد ذلك ن مصالحته صلى الله عليه وسلم كانت اولى لانها كانت
____________________
(2/720)
سببا لكثرة المسلمين فإن الكفار لما أمنوا القتال اختلطوا بالمسلمين فاثر فيهم الاسلام فأسلم كثير منهم
وقد ذكر بعض المفسرين أن الذين أسلموا في سنتي الفتح بناء على أن المدة كانت ستتين أو المعنى سنتين من الصلح أي من مدته يعدلون الذين أسلموا قبلهما
قال وعن بعضهم أي وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يقول ما كان فتح في الإسلام اعظم من فتح الحديبية ولكن الناس قصر رأيهم عما كان بين محمد صلى الله عليه وسلم وربه والعباد يعجلون والله لا يعجل لعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد لقد رأيت سهيل بن عمرو رضي الله عنه بعد إسلامه في حجة الوداع قائما عند المنحر يقرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده ودعا الحلاق لحلق رأسه فأنظر إلى سهيل كلما يقلط من شعره صلى الله عليه وسلم يضعه على عينيه وأذكر أمتناعه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب { بسم الله الرحمن الرحيم } أي وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمدت الله وشكرته الذي هداه للإسلام
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ونحن محرمون قد حصرنا المشركون وكان لي وفرة فجعلت الهوام أي القمل تتساقط على وجهي فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية ملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي وفي رواية أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال ادنه فدنوت يقول ذلك مرتين أو ثلاثا وفي رواية أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية وأنا أوقد تحت برمة وفي لفظ قدر لي فقال كأنك تؤذيك هوام رأسك قال أجل قال احلق واهد هديا فقال ما أجد هديا فقال صم ثلاثا أيام وفي لفظ فقال أيؤذيك هوام رأسك وفي لفظ لعلك آذاك هوام رأسك قلت نعم يا رسول الله قال ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا فأمرني أن أحلق أي وفي رواية أصابتني هوام في رأسي وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى تخوفت على بصري وأنزل الله تعالى هذه الآية { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه } أي فحلق { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صم ثلاثة أيام او تصدق بفرق أي زاد في رواية من زبيب
____________________
(2/721)
بين ستة مساكين والفرق بفتح الفاء والراء ثلاثة آصع أي زاد في رواية من تمر لكل مسكين نصف صاع أو انسك أي اذبح ما تيسر لك انتهى زاد في رواية أي ذلك فعلت أجزأ عنك فحلقت ثم نسكت
أي وفي رواية الشيخين انسك شاة اوضم ثلاثة أيام أو أطعم فرقا من الطعام على ستة مساكين
قال ابن عبد البر عامة الآثار عن كعب بن عجرة وردت بلفظ التخيير وهو نص القرآن وعليه عمل العلماء في كل الأمصار وفتواهم وما ورد من الترتيب في بعض الاحاديث لو صح كان معناه الاختيار أولا فأولا
قال الزمخشري في سفر السعادة أمر صلى الله عليه وسلم في علاج القمل بحلق الرأس لتنفتح المسام وتتصاعد الأبخرة وتضعف المادة الفاسدة التي يتولد القمل منها
وذكر في الهدى أن أصول الطب ثلاثة الحمية وحفظ الصحة والاستفراغ فإلى الأول شرع التيمم خوفا من استعمال الماء وإلى الثاني شرع الفطر في رمضان في السفر لئلا تتوالى مشقة السفر ومشقة الصوم وإلى الثالث بحلق رأس المحرم إذا كان به أذى من قمل ليستفرغ المادة الفاسدة والأبخرة الرديئة
وعند أئمتنا لا بد أن يكون ما يذبحه مجزئا في الأضحية وبعد الحديبية قبل خيبر وقيل بعد خيبر نزلت آية الظهار { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها }
وسبب ذلك أن أوس بن الصامت لا عبادة بن الصامت كما قيل أي وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه وفي لفظ كان به لمم أي نوع من الجنون وكان فاقد البصر قال لزوجته خولة بنت ثعلبة وفي لفظ بنت خويلد وكانت بنت عمه وقد راجعته في شيء فغضب فقال لها انت علي كظهر أمي وكان ذلك في زمن الجاهلية طلاقا أي كالطلاق في تحريم النساء ثم راودها على نفسها فقالت كلا لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي لفظ أنه لما قال لها أنت علي كظهر أمي اسقط في يده وقال ما أراك إلا قد حرمت علي انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأليه فدخلت عليه صلى الله عليه وسلم وهو يمشط رأسه الشريف أي عنده ماشطة أي وهي عائشة رضي الله عنه تمشط رأسه
وفي لفظ كان الظهار أشد الطلاق وأحرم الحرام إذا ظاهر الرجل من امرأته لم ترجع
____________________
(2/722)
إليه أبدا فاخبرته فقال لها صلى الله عليه وسلم ما أمرنا بشيء من أمرك ما أراك الا قد حرمت عليه فقالت يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق وإنه أبو ولدي وأحب الناس إلي فقال حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي وتركي إلى غير أحد وقد كبر سني ودق عظمي
وفي لفظ أنها قالت اللهم إني أشكوا اليك شدة وحدتي وما شق علي من فراقه وما نزل بي وبصبيتي قال عائشة رضي الله عنها فلقد بكيت وبكى من كان في البيت رحمة لها ورقة عليها وفي لفظ قالت يا رسول الله إن زوجي أوس بن الصامت تزوجني وأنا ذات مال وأهل فلما أكل مالي وذهب شبابي ونفضت بطني وتفرق أهلي ظاهر مني فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراك إلا قد حرمت عليه فبكت وصاحت وقالت أشكو إلى الله فقري ووحدتي وصبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وان ضممتهم إلي جاعوا وصارت ترفع رأسها إلى السماء فبينما هو صلى الله عليه وسلم قد فرغ من شق رأسه وأخذ في الشق الآخر أنزل الله عليه الآية فسرى عنه وهو يتبسم فقال صلى الله عليه وسلم لها مريه فليحرر رقبة فقالت والله ماله خادم غيري قال مريه فليصم شهرين متتابعين فقالت والله إنه لشيخ كبير إنه لم يأكل في اليوم مرتين يندر بصره أي لو كان مبصرا فلا ينافي ما تقدم أنه كان فاق البصر قال فليطعم ستين مسكينا فقالت والله ما لنا اليوم وقية فقال مريه فلينطلق إلى فلان يعني شخصا من الأنصار أخبرني أن عنده شطر وسق من تمر يريد أن يتصدق به فليأخذه منه
وفي رواية مريه فليأت أم المنذر بنت قيس فليأخذ منها شطر وسق من تمر فليتصدق به على ستين مسكينا وليراجعك ثم أتته فقصت عليه القصة فانطلق ففعل
أي وفي لفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا سأعينه بفرق من تمر فبكت وقال وأنا يا رسول الله سأعينه بفرق آخر قال قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصى بابن عمك خيرا
وفي رواية لما قال لها صلى الله عليه وسلم ما أعلم إلا قد حرمت عليه قالت لها عائشة رضي الله عنه وراءك فتنحت فلما نزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي وسرى عنه قال يا عائشة أين المرأة قالت ها هي هذه قال ادعها فدعتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اذهبي فجيئي بزوجك فذهبت فجاءت به وادخلته على النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/723)
فاذا هو ضرير البصر فقير سيء الخلق فقال له صلى الله عليه وسلم أتجد رقبه قال لا وفى لفظ قال مالي بهذا من قدره قال أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال والذى بعثك بالحق اني اذا لم اكل المره والمرتين والثلاث يغشى على وفى لفظ اني اذا لك اكل مرتين كل بصري اى لو كان موجودا قال أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا قال لا الا أن تعينني بها فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكفر عنه وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم اعطاه مكتلا يأخذ خمسة عشر صاعا فقال أطعمه ستين مسكينا قال بعضهم وكانوا يرون أن عند أوس رضى الله عنه مثلها حتى يكون لكل مسكين نصف صاع وفيه أنه خلاف الروايات من أنه لا يملك شيئا فقال على أفقر مني فوالذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أحوج اليه مني فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اذهب به إلى أهلك وهذا أول ظهار وقع في الإسلام
ومر عمر رضي الله تعالى عنه بخوله هذه في أيام خلافته فقالت له قف يا عمر فوقف لها ودنا منها واصغى اليها وأطالت الوقوف واغلظت له القول أي قالت له هيات يا عمر عهدتك وأنت تسمى عميرا وأنت في سوق عكاظ ترعى القيان بعصاك فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين فاتق الله في الرعية واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد ومن خاف الموت خشي الفوت فقال لها الجارود قد أكثرت أيتها المرأة على أمير المؤمنين فقال عمر رضي الله عنه دعها وفي رواية فقال له قائل حبست الناس لأجل هذه العجوز قال ويحك وتدري من هذه قال لا قال هذه امرأة قد سمع الله شكواها من فوق سبع سموات هذه خولة بنت ثعلبة والله لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت حتى تنقضي حاجتها
قيل وفي هذه السنة التي هي سنة ست حرمت الخمر وبه جزم الحافظ الدمياطي وقيل حرمت سنة أربع أي ويدل له ما تقدم من اراقة الخمر وكسر جررها في بني قريظة وقيل في السنة الثالثة وقيل إنما حرمت في عام الفتح قبل الفتح
قال بعضهم حرمت ثلاث مرات أي نزل تحريمه ثلاث مرات كان المسلمون يشربونها حلالا أي لغيره صلى الله عليه وسلم أما هو فحرمت عليه قبل البعثة بعشرين سنة لم تبح له قط
وقد جاء أول ما نهان عنه ربي بعد عبادة الأصنام شرب الخمر وتقدم أن جماعة
____________________
(2/724)
حرموها على أنفسهم وامتنعوا من شربها ولا زالت حلالا للناس حتى نزل قوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } فعند ذلك اجتنبها قوم لوجود الإثم وتعاطاها أخرون لوجود النفع أي وكانوا ربما شربوها وصلوا فلما نزل قوله تعالى { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } امتنع من كان يشربها لأجل النفع من شربها في أوقات الصلاة ورجع قوم منهم عن شربها حتى في غير أوقات الصلاة وقالوا لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة
وسبب نزول هذه الآية ما جاء عن علي كرم الله وجهه قال صنع لنا عبد الرحمن ابن عوف طعاما أي وشرابا من الخمر فأكلنا وشربنا فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة أي الجهرية وقدموني فقرأت { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون } ونحن نبعد ما تعبدون إلى أن قلت وليس لي دين وليس لكم دين ثم نزلت الآية الأخرى الدالة على تحريمها مطلقا وهي { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } أي ولعل هذه الآية الأخيرة هي التي عناها أنس رضي الله عنه بقوله كما في البخاري كنت ساقي القوم الخمر بمنزل أبي طلحة أي وهو زوج امه رضي الله عنهم ونزل تحريم الخمر فمر مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة اخرج فانظر ما هذا الصوت قال فخرجت فقلت هذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت فقال لي اذهب فأهرقها فقال بعض القوم قتل قوم أي في أحد وهي في بطونهم وفي رواية قالوا يارسول الله كيف بمن مات من اصحابنا وكان شربها فأنزل الله تعالى { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } أي لأن ذلك كان قبل تحريمها مطلقا
وقد جئ لعمر رضي الله عنه بشخص من المهاجرين الاولين قد سكر فأراد عمر جلده فاستدل على عمر بهذه الآية فقال عمر لمن حضره ألا تردون عليه فقال ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية نزلت عذرا للماضين وحجة على الباقين ثم استشار عمر رضي الله عنه عليا كرم الله وجهه فأشار عليه أن يجلده ثمانين جلدة ولعل هذا الشخص هو قدامة بن مظعون وتقدمت قصته في بدر وتقدم في ذلك أن الذي رد عليه بذلك عمر لا ابن عباس رضي الله عنهم كذا وقع لأبي جندل رضي الله عنه مثل ذلك وأنه اشفق أي خاف من ذلك فلما بلغ عمر رضي الله عنه كتب اليه
____________________
(2/725)
إن الذي زين إليك الخطيئة هو الذي حظر أي منع عليك التوبة { بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب } الآية غزوة خيبر
على وزن جعفر سميت باسم رجل من العماليق نزلها يقال له خيبر وهو اخو يثرب أي الذي سميت باسمه المدينة كما تقدم وفي كلام بعضهم الخيبر بلسان اليهود الحصن ومن ثم قيل ها خيابر لاشتمالها على الحصون وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع ونخل كثيرة بينها وبين المدينة الشريفة ثمانية برد كما في سيرة الحافظ الدمياطي ومعلوم أن البريد أربعة فراسخ وكل فرسخ ثلاثة أميال
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية أقام شهرا وبعض شهر أي ذا الحجة ختام سنة ست وأقام من المحرم افتتاح سنة سبع أياما قيل عشرين يوما أو قريبا من ذلك ثم خرج إلى خيبر أي وهذا ما ذهب اليه الجمهور
ونقل عن الإمام مالك رضي الله عنه أن خيبر كانت سنة ست وإليه ذهب الإمام ابن حزم وفي التعليقة للشيخ أبي حامد أنها كانت سنة خمس قال الحافظ ابن حجر وهو وهم ولعله انتقل من الخندق إلى خيبر
قال وقد استنفر صلى الله عليه وسلم من حوله ممن شهد الحديبية يغزون معه وجاءه المخلفون عنه في غزوة الحديبية ليخرجوا معه رجاء الغنيمة فقال لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد فأما الغنيمة فلا أي لا تعطوا منها شيئا ثم أمر مناديا ينادي بذلك فنادى به قال أنس رضي الله عنه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة وهو زوج أم أنس كما تقدم حين أراد الخروج إلى خيبر التمسوا غلاما من غلمانكم يخدمني فخرج أبو طلحة مردفي وأنا غلام قد راهقت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل خدمته فسمعته كثيرا ما يقول اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن وضلع الدين وغلبة الرجال ا هـ
أقول هذا السياق يدل على أن أول خدمة أنس رضي الله عنه له صلى الله عليه وسلم حينئذ وهو يخالف ما سبق أن عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة جاءت به أمه
____________________
(2/726)
وقالت هذا ابني وهو غلام كيس وكان عمره عشر سنين وقيل تسع سنين وقيل ثمان سنين
ففي مسلم عن أنس قال جاءت بي أمي ام أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أزرتني بنصف خمارها وردتني بنصفه فقالت يا رسول الله هذا أنيس ابني أتيتك به ليخدمك فادع الله له قال اللهم أكثر ماله وولده
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم وإنما قال لأبي طلحة ما ذكر رجاء ان يأتى له بمن هو أقوى من أنس على السفر شفقة على أنس ومن ثم لم يخرجه صلى الله عليه وسلم معه
وفيه أنه خرج معه في بدر فقد جاء أنه قيل لأنس رضي الله عنه أشهدت بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا أم لك وأين غبت عن بدر
وقد يقال جاز أن يكون عرض لأنس رضي الله عنه حين خروجه صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ما يقتضي الشفقة عليه في عدم اخراجه معه والله اعلم
واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة نميلة وقيل سباع بن عرفطة أي وصحح وكان الله وعده وهو بالحديبية أي عند منصرفه منها في سورة الفتح بمغانم بقوله تعالى { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } أي مغانم خيبر وخرج معه صلى الله عليه وسلم من نسائه أم سلمة رضي الله تعالى عنها وقال صلى الله عليه وسلم في سيره لعامر بن الأكوع عم سلمة ابن الأكوع رضي الله تعالى عنهما انزل فحدثنا من هناتك وفي رواية من هنيهاتك وفي لفظ من هنياتك بقلب الهاء الثانية ياء أي من أراجيزك وأشعارك وفي لفظ انزل فحرك بنا الركاب فقال يا رسول الله قد تولى قولي أي الشعز فقال له عمر رضي الله عنه اسمع وأطع فنزل يرتجز بقوله رضي الله تعالى عنه ** والله لولا الله ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا الأبيات **
وفي مسلم اللهم لولا أنت ما اهتدينا قيل وصوابه في الوزن لاهم أو يا ألله أو والله لكن في تلك الأبيات فاغفر فداء لك ما اقتفينا أي فاغفر ما اكتسبنا واصل الاقتفاء الاتباع
وفي خطاب الباري عز وجل بفداء لك ما لا ينبغي لأنه لا يقال للباري عز وجل فديتك لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه ومتوقع حلوله بالمفدى بالفتح فيجعل المفدى بالكسر نفسه فداء له من ذلك فيبذل نفسه عن نفسه
____________________
(2/727)
وأجيب عن ذلك بأن الشاعر لم يرد ذلك بل أراد أن يبذل نفسه رضاه سبحانه وتعالى
وعند إنشاده الأبيات المذكورة قال له النبي صلى الله عليه وسلم يرحمك ربك فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه والله وجبت أي الشهادة يا رسول الله لولا أي هلا امتعتنا به أي أبقيته لنا لنتمتع به ومنه أمتعني الله ببقائك أي هلا أخرت الدعاء له بذلك إلى وقت آخر لأنه صلى الله عليه وسلم ما قال ذلك لأحد في مثل هذا الموطن إلا واستشهد
وفي لفظ أن القائل له اسمعنا رجل من القوم قال الحافظ ابن حجر لم أقف على اسمه صريحا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع قال من هذا السائق قالوا عامر قال صلى الله عليه وسلم يرحمه الله فقتل في هذه الغزاة رجع إليه سيفه فقتله فإنه أراد أن يضرب به ساق يهودي فجاءته ذبابته في ركبته فمات من ذلك رضي الله عنه فقال الناس قتله سلاحه وفي رواية قتل نفسه أي فليس بشهيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لشهيد وصلى عليه صلى الله عليه وسلم والمسلمون وفي رواية قال سلمة بن الأكوع يا رسول الله فداك أبي وأمي زعموا أن أخي عامرا حبط عمله وفي لفظ يزعم أسيد بن حضير وجماعة من اصحابك أن عامرا حبط عمله إذ قتل بسيفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب من قال أي أخطأ في قوله وإن له أجرين وجمع بين أصبعيه وفي رواية إنه لشهيد وفي لفظ إنه لجاهد مجاهد وفي لفظ مات جاهدا مجاهدا والجاهد الجاد في أمره فلما قام بوصفين كان له أجران وقيل هو من باب جاد مجد وشعر شاعر فهو تأكيد وكون عامر أخا سلمة هو خلاف ما تقدم أنه عمه وهو الصحيح المشهور
قال في النور ويمكن الجمع بأن يكون من النسب وأخاه من الرضاعة أي وحينئذ يكون هذا محمل قول ابن الجوزي رحمه الله من الإخوة الذين حدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر وسلمة ابنا الاكوع
وفي فتح الباري عن بعض الصحابة فلما وصلنا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول
قد علمت خيبر أني مرحب ** شاكي السلاح بطل مجرب ** ** إذ الحروب اقبلت تلتهب
____________________
(2/728)
فبرز له عامر رضي الله عنه يقول ** قد علمت خيبر أني عامر ** شاكي السلاح بطل مغامر **
فاختلفا ضربتين فوقع سيف مرحب في ترس عامر رضي الله عنه فذهب عامر يسفل لمرحب أي يضربه من أسفل فعاد سيفه على نفسه أي أصاب عين ركبه عامر فمات من ذلك الحديث
وكون عامر ارتجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي حدابه لا ينافي ما جاء أن البراء ابن مالك كان حسن الصوت وكان يرتجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره لأن المراد في غالب أو في بعض اسفاره كما صرح به بعض الروايات
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال له أي للبراء إياك والقوراير وهو يدل على انه كان يرتجز لنسائه صلى الله عليه وسلم وهو يخالف أن البراء كان حادي الرجال وأنجشة حادي النساء إلا أن يقال جاز أن يكون البراء حدا النساء في بعض الأسفار أو في بعض الأحيان وأنجشة كان في الغالب
قال بعضهم كان انجشة رضي الله تعالى عنه عبد أسود وكان حسن الصوت بالحداء إذا حدا أعنقت الإبل أي سارت العنق واسرعت فلما حدد بأمهات المؤمنين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أنجشه رويدك رفقا بالقوراير
ولما اشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر وكان وقت الصبح قال لأصحابه رضي الله عنهم قفوا ثم قال أي وفي لفظ قال لهم قولوا اللهم رب السموات وما اظللن ورب الأرضين وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين فإنا نسألك من خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشرما فيها اقدموا بسم الله أي وفي لفظ ادخلوا على بركته تعالى وكان صلى الله عليه وسلم يقولها لكل قرية دخلها
أي وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما توجه إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا اصواتهم بالتكبير الله أكبر لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اربعوا على أنفسكم أي ارفقوا بأنفسكم لا تبالغوا في رفع اصواتكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم قال عبد الله بن قيس رضي الله عنه وكنت خلف دابته صلى الله عليه وسلم فسمعني أقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
____________________
(2/729)
فقال يا عبد الله بن قيس قلت لبيك يا رسول الله قال ألا أدلك على كلمة من كنر الجنة قلت بلى يا رسول الله فداك أبي وأمي قال لا حول ولا قوة إلا بالله
ويحتاج إلى الجمع بين هذا وبين أمره صلى الله عليه وسلم بأن اصحابه يرفعون أصواتهم بالتلبية وقد يقال المنهى عنه هنا الرفع الخارج عن العادة الذي ربما آذى بدليل قوله صلى الله عليه وسلم اربعوا على أنفسكم أي ارفقوا بها كما تقدم فلا منافاة
ولما أبصر صلى الله عليه وسلم عمالها وقد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم قالوا محمد والخميس أي الجيش العظيم معه قيل له الخميس لأنه خمسة أقسام التقدمة والساقة والمينمة والميسرة وهما الجناحين والقلب وأدبروا هرابا
قال وذكر أنه كان بها عشرة آلاف مقاتل وانهم كانا لا يظنون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم حين بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم وهم يخرجون ويصطفون صفوفا ثم يقولون محمد يغزونا هيهات هيهات
وذكر أن عبد الله بن ابي ابن سلول أرسل اليهم يخبرهم بأن محمدا سائر اليكم فخذوا حذركم وادخلوا أموالكم حصونكم واخرجوا إلى قتاله ولا تخافوا منه إن عددكم كثير وقوم محمد شرذمة قليلون عزل لا سلاح معهم إلا قليل
فلما كانت الليلة التي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحتها بساحتهم لم يتحركوا تلك الليلة ولم يصح لهم ديك حتى طلعت الشمس فأصبحوا أي قاموا من نومهم وافئدتهم تخفق وفتحوا حصونهم وغدوا إلى أعمالهم معهم الفؤوس ويقال لها الكرازين والمساحي ومعهم المكاتل أي وهي القفف الكثيرة فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوا هاربين إلى حصونهم أ هـفقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين أي وبذلك استدل على جواز الاقتباس من القرآن وإنما قال صلى الله عليه وسلم خربت خيبر لأنه لما رأى آلة الهدم التي هي الفؤوس والمساحي تفاءل صلى الله عليه وسلم بأن حصونهم ستخرب أو أخذ ذلك من اسمها أو أن ذلك دعاء بلفظ الخبر قال الإمام النووي رحمه الله والأصح أنه أعلمه الله بذلك ويوافقه ما في فتح الباري
ويحتمل أن يكون قال ذلك بطريق الوحي ويؤيده قوله إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين أي لأنه نزل بساحتهم وهي في الأصل الفضاء بين الأبنيه
____________________
(2/730)
وابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم بحصون النطاة قبل حصون الشق وقيل بحصون الكثيبة أي لأنهم ادخلوا أموالهم وعيالهم في حصون الكثيبة وجمعوا المقاتلة في حصلون النطاة وكان نزل قريبا من حصون النطاة فجاءه صلى الله عليه وسلم الحباب بن المنذر رضي الله تعالى عنه فقال يا رسول الله إنك نزلت منزلك هذا فإن كان عن أمر أمرت به فلا نتكلم وإن كان الراي تكلمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الرأي فقال يا رسول الله إن أهل النطاة لي بهم معرفة ليس قوم أبعد مدى سهم منهم ولا أعدل رمية منهم وهم مرتفعون علينا وهو أسرع لانحطاط نبلهم ولا نأمن من بياتهم يدخلون في حمرة النخل أي النخل المجتمع بعضه على بعض تحول يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم أشرت بالرأي إذا أمسينا إن شاء الله تحولنا ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة رضي الله عنه فقال انظر لنا منزلا بعيدا فطاف محمد رضي الله عنه وقال يا رسول الله وجدت لك منزلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم على بركة الله وتحول لما أمسى وأمر الناس بالتحول
أي وي لفظ إن راحلته صلى الله عليه وسلم قامت تجر بزمامها فأدركت لترد فقال دعوها فإنها مأمورة فلما انتهت إلى موضع من الصخرة بركت عندها فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصخرة وتحول الناس إليها واتخذوا ذلك الموضع معسكرا وفي الأصل انه نزل بذلك ليحول بين أهل خيبر وبين غطفان لأنهم كانوا مظاهرين لهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقد يقال لا مخالفة بين هذه الروايات الثلاث فليتأمل وابتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك مسجدا صلى به طول مقامه بخيبر أي وأمر صلى الله عليه وسلم بقطع نخيل اهل حصون النظاة فوقع المسلمون في قطعها أربعمائة نخلة ثم نهاهم عن القطع فما قطع من نخيل خيبر غيرها قال قيل وقاتل صلى الله عليه وسلم يومه ذلك أشد القتال وعليه درعان وبيضة ومغفر وهو على فرس يقال له الظرب وفي يده قناة وترس
وما قيل إنه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر كان على حمار مخطوم برسن من ليف وتحته إكاف من ليف أي ففي مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار وهو متوجه إلى خيبر جاز أن يكون ركب ذلك الحمار في الطريق وحال القتال ركب ذلك الفرس انتهى
____________________
(2/731)
أقول يرشد إلى هذا الجمع قوله متوجه إلى خيبر وظاهر هذا الكلام أنه صلى الله عليه وسلم باشر القتال بنفسه وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم لم يباشر القتال بنفسه إلا في احد
ويبعد ان يكون باشر القتال بنفسه ولم يقتل أحدا إذ لو قتل أحدا لذكر لأنه مما تتوفر الدواعي إلى نقله وقد يكون المراد بقولهم وقاتل صلى الله عليه وسلم بنفسه أي قال جيشه ويدل لذلك ما في الإمتاع ألح على حصن ناعم أي وهو من حصون النطاة بالرمي ويهود تقاتل ورسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس يقال له الظرب وعليه درعان ومغفر وبيضة وفي يده قناة وترس
وقد دفع صلى الله عليه وسلم لواءه لرجل من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئا فدفعه إلى آخر من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئا وخرجت كتائب اليهود يقدمهم ياسر فكشف الانصار حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفه فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسمى مهموما والله أعلم
وفي ذلك اليوم قتل محمود بن مسلمة أخو محمد بن مسلمة رضي الله عنهما برحى ألقيت عليه من ذلك الحصن ألقاها عليه مرحب وقيل كنانة بن الربيع وقد يجمع بأنهما اجتمعا على ذلك وسيأتي ما يدل على أن قاتله غيرهما
وقد يقال لا مانع من أن يكونوا أي الثلاثة تجمعوا على قتله أي فإن محمود بن مسلمة رضي الله عنه كان قد حارب حتى اعياه الحرب وثقل السلاح وكان الحر شديدا فانحاز إلى ظل ذلك الحصن فألقى عليه حجر الرحى فهشم البيضة على رأسه ونزلت جلدة جبينه على وجهه أي وندرت عينه فأدركه المسلمون فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فسوى الجلدة إلى مكانها وعصبه بخرقة فمات رضي الله عنه من شدة الجراحة وجاء أخوه محمد بن مسلمة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن اليهود قتلوا أخي محمود بن مسلمة فقال صلى الله عليه وسلم لا تمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإنكم لا تدرون ما تبتلون به منهم فإذا لقيتموه فقولوا اللهم أنت ربنا وربهم ونواصينا ونواصيهم بيدك وإنما تقتلهم أنت ثم الزموا الأرض جلوسا فإذا غشوكم فانهضوا وكبروا
أي وفي سياق بعضهم ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مكث سبعة أيام يقاتل أهل حصون النظاة يذهب كل يوم بمحمد بن مسلمة رضي الله عنه للقتال ويخلف على محل
____________________
(2/732)
العسكر عثمان بن عفان فإذا أمسى رجع صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المحل ومن جرح من المسلمين يحمل إلى ذلك المحل ليداوي جرحه وكان صلى الله عليه وسلم يناوب بين اصحابه في حراسة الليل فلما كانت الليلة السادسة من السبع استعمل صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه فطاف عمر رضي الله عنه بأصحابه حول العسكر وفرقهم فأتى برجل من يهود خيبر في جوف الليل فأمر به عمر رضي الله عنه أن يضرب عنقه فقال اذهب بي إلى نبيكم حتى أكلمه فأمسك عنه وانتهى به إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يصلي فسمع صلى الله عليه وسلم كلام عمر فسلم وأدخله عليه فدخل باليهودي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي ما وراءك فقال تؤمنني يا أبا القاسم فقال نعم قال خرجت من حصن النطاة من عند قوم يتسللون من الحصن في هذه الليلة قال فأين يذهبون قال إلى الشق يجعلون فيه ذراريهم ويتهيئون للقتال ولعل المراد ما أبقوه من ذراريهم فلا ينافي ما تقدم من أنهم أدخلوا أموالهم وعيالهم في حصون الكثيبة أو أن ذلك المخبر اخبر بحسب ما فهم أنهم يجعلون ذراريهم في الشق والحال أنهم إنما يذهبون ليجعلوا ذراريهم في حصون الكثيبة فليتأمل
وفي هذا الحصن الذي هو الحصن الصعب من حصون النطاة في بيت فيه تحت الأرض منجنيق ودبابات ودروع وسيوف فإذا دخلت الحصن غدا وأنت تدخله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله قال اليهودي إن شاء الله أوقفتك عليه فإنه لا يعرفه غيري وأخرى قيل ما هي قال يستخرج المنجنيق وينصب على الشق ويدخل الرجال تحت الدبابات فيحفروا الحصن فتفتحه من يومك وكذلك تفعل بحصون الكثيبة ثم قال يا أبا القاسم احقن دمي قال أنت آمن قال ولى زوجة فهبها لي قال هي لك ثم دعاه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقال أنظرني أيام ثم قال صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة رضي الله عنه لأعطين الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبانه وفي لفظ قال صلى الله عليه وسلم لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله لايولي الدبر بفتح الله عز وجل على يده فيمكنه الله من قاتل أخيك وعند ذلك لم يكن من الصحابة رضي الله عنهم أحد له منزلة عند النبي صلى الله عليه وسلم ألا يرجو ان يعطاها
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم ولعل ذلك لا ينافي ما جاء أن وفد ثقيف لما جاءوه صلى الله عليه وسلم قال لهم لتسلمن
____________________
(2/733)
أو لأبعثن إليكم رجلا مني وفي رواية مثل نفسي فليضربن أعناقكم وليسيبن ذراريكم وليأخذن أموالكم قال عمر رضي الله عنه فوالله ما تمنينت الإمارة إلا يومئذ وجعلت أنصب صدري له صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول هو هذا فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى علي كرم الله وجهه فأخذ بيده وقال هو هذا هو هذا
وقد يقال لا يلزم من محبة الشيء تمنيه بخلاف العكس ففي هذه الغزاة أحب الإمارة وما تمناها وفي وفد ثقيف المتأخر عن هذه الغزاة تمناها لأن الوصف في ذلك أبلغ من الوصف هنا فليتأمل
ويروى أن عليا كرم الله وجهه لما بلغه مقالته صلى الله عليه وسلم أي في خيبر قال اللهم لا مطعي لما منعت ولا مانع لما أعطيت فبعث صلى الله عليه وسلم إلى عليا كرم الله وجهه وكان أرمد شديد الرمد أي وكان قد تخلف في المدين ثم لحق بالقم أي فقيل له إنه يشتكى عينيه فقال صلى الله عليه وسلم من يأتيني به فذهب اليه سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه وأخذ بيده يقوده حتى أتى به النبي صلى الله عليه وسلم قد عصب عينيه فعقد له صلى الله عليه وسلم اللواء أي لواءه الأبيض
فعن ابن اسحاق وابن سعد لم تكن الرايات إلا يوم خيبر أي فإنه صلى الله عليه وسلم فرق الرايات يومئذ بين أبي بكر وعمر والحباب بن المنذر وسعد بن عبادة رضي الله عنهم وإنما كانت الألوية وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء من برد لعائشة رضي الله عنها تدعى العقاب وفي كلام المقريزي لما ذكر رتب الرياسة في الجاهلية ذكر أن العقاب كان في الجاهلية راية تكون لرئيس الحرب وجاء الإسلام وهي عند أبي سفيان وجاء الإسلام والسدانة واللواء عند عثمان بن ابي طلحة من بني عبد الدار
وفي سيرة الحافظ الدمياطي رحمه الله وكانت له صلى الله عليه وسلم راية سوداء مربعة من نمرة مخملة يقال لها العقاب وكان له راية صفراء ولواؤه أبيض دفعه إلى علي كرم الله وجهه وفيه أن ذلك اللواء يقال له العقاب
وفي سيرة الحافظ الدمياطي رحمه الله وكانت ألويته صلى الله عليه وسلم بيضاء وربما جعل فيها الأسود ولعل السواد كان كتابة في ذلك العلم ولعل هذا اللواء الذي فيه الأسود هو المعنى بما جاء في بعض الروايات كان له صلى الله عليه وسلم لواء ابيض مكتوب فيه لا إله
____________________
(2/734)
الله محمد رسول الله أي بالسواد ولعله محمل قول بعضهم كان له صلى الله عليه وسلم لواء أغبر وربما كان من خز بعض نسائه فقال علي كرم الله وجهه يا رسول الله إني أرمد كما ترى لا أبصر موضع قدمي فتفل صلى الله عليه وسلم وفي لفظ بصق في عينيه أي بعد أن وضع راسه في حجره وفي لفظ فتفل في كفه وفتح له عينيه فدلكهما فبرأ حتى كأن لم يكن بهما وجع قال على رضي الله عنه فما رمدت بعد يومئذ وفي لفظ ما رمدت ولا صدعت وفي لفظ فا اشتكيتهما حتى الساعة
وفي هذا السياق لطيفة وهي أن من طلب شيئا أو تعرض لطلبه يحرمه غالبا وأن من لم يطلب شيئا ولم يتعرض لطلبه ربما وصل إليه وقد أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن لاجل سؤاله إياه ذلك آخر عنه سنة أي وبعد السنة دعاه الملك وتوجه ورداه وقلده بسيفه وأمر له بسرير من ذهب مكلل بالدر والياقوت وضرب له عليه حلة من استبرق وفوض إليه أمر مصر
وقد قيل لو وقعت قلنسوة من السماء لا تقع إلا على رأس من لا يريدها زاد في رواية عن علي كرم الله وجهه أنه صلى الله عليه وسلم دعا له بقوله اللهم اكفه الحر والبرد قال علي كرم الله وجهه فما وجدت بعد ذلك اليوم لا حرا ولا بردا أي فكان يلبس في الحر الشديد القباء المحشو الثخين ويلبس في البرد الشديد الثوبين الخفيفين وفي لفظ الثوب الخفيف فلا يبالي بالبرد
وقد يخالف ذلك ما حكاه بعضهم قال دخل رجل على علي كرم الله وجهه وهو يرعد تحت سمل قطيفة أي قطيفة خلقة فقال يا أمير المؤمنين إن الله جعل لك في هذا المال نصيبا وانت تصنع بنفسك هكذا فقال والله لا أرزؤكم من مالكم وإنها لقطيفتي التي خرجت بها من المدينة
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن تكون رعدته رضي الله عنه ليست من البرد خلاف ما ظنه السائل لجواز أن تكون لحمى اصابته في ذلك الوقت وقد أشار إلى التفل صاحب الهمزية رضي الله تعالى عنه بقوله ** وعلي لما تفلت بعيني ** هـوكلتاهما معا رمداءا ** ** فغدا ناظرا بعيني عقاب ** في غزاة لها العقاب لواء **
____________________
(2/735)
وفي قوله صلى الله عليه وسلم لأدفعن الراية إطلاق الراية على اللواء ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه خذ هذه الراية وتقدم أن الراية قد يطلق عليها لواء
هذا وفي كلام بعضهم أن أبا سفيان رضي الله عنه كانت إليه الراية المعروفة بالعقاب التي كانت لا يحبسها إلا رئيس إذا حميت الحرب هذا كلامه فلعل تسمية رايته صلى الله عليه وسلم بالعقاب لكونها كذلك فقال علي كرم الله وجهه علام أقاتلهم يا رسول الله قال أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد حقنوا دماءهم وأموالهم
وفي رواية لما اعطاه صلى الله عليه وسلم الراية قال له امش ولا تلتفت فسار شيئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ يا رسول الله علام أقاتل الناس قال قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله تعالى أي حساب بواطنهم وسرائرهم على الله لأنه المطلع وحده على ما فيها من إيمان خالص أو نفاق وكفر زاد في رواية وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أين يكون لك حمر النعم أي تتصدق بها في سبيل الله فقد جعل صلى الله عليه وسلم عصمة الدم بالنطق بالشهادتين لكنه لا يقر من نطق بهما على ترك الصلاة ولا على ترك الزكاة ومن ثم قال له صلى الله عليه وسلم وأخبرهم بما يجب عليهم وفي لفظ قال له امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك
أي وعن حذيفة رضي الله عنه لما تهيأ علي كرم الله وجهه يوم خيبر للحملة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا علي والذي نفسي بيده إن معك من لا يخذلك هذا جبرسل عليه السلام عن يمينك بيده سيف لو ضرب به الجبال لقطعها فاستبشر بالرضوان والجنة يا علي إنك سيد العرب وأنا سيد ولد آدم
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم كان يعطي الراية كل يوم واحدا من اصحابه ويبعثه فبعث أبا بكر رضي الله عنه فقاتل ورجع ولم يكن فتح وقد جهد ثم بعث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه من الغد أي برايته فقاتل ورجع ولم يكن فتح وقد جهد ثم بعث رجلا من الانصار فقاتل ورجع ولم يكن فتح فقال عليه الصلاة والسلام لاعطين الراية
____________________
(2/736)
أى اللواء غدا رجلا يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفار وفي لفظ كرار غير فرار فدعا عليا كرم الله وجهه وهو أرمد فتفل في عينيه ثم قال خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك أى ودعا له ولمن معه بالنصر
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم ألبسه درعه الحديد وشد ذا الفقار أى الذى هو سيفه فى وسطه وأعطاه الراية ووجهه إلى الحصن فخرج على كرم الله وجهه بها يهرول حتى ركزها تحت الحصن فاطلع عليه يهودى من رأس الحصن فقال من أنت قال على بن أبى طالب فقال اليهودى علوتم وحق ما أنزل على موسى ثم خرج إليه أهل الحصن وكان أول من خرج منهم إليه الحارث أخو مرحب وكان معروفا بالشجاعة فانكشف المسلمون وثبت على كرم الله وجهه فتضاربا فقتله على وانهزم اليهود إلى الحصن ثم خرج إليه مرحب فحمل مرحب عليه وضربه فطرح ترسه من يده فتناول على كرم اله وجهه بابا كان عند الحصن فتترس به عن نفسه فلم يزل فى يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه الحصن ثم ألقاه من يده أى وراء ظهره ثمانين شبرا قال الراوى فجهدت أنا وسبعة نفر على أن نقلب ذلك الباب فلم نقدر قال بعضهم فى هذا الخبر جهالة وانقطاع ظاهر قال وقيل ولم يقدر على حمله أربعون رجلا وقيل سبعون
وفى رواية أن عليا كرم الله وجهه لما انتهى إلى باب الحصن اجتذب أحد أبوابه فألقاه بالأرض فاجتمع عليه بعده سبعون رجلا فكان جهدا أن أعادوه مكانه وقيل حمل الباب على ظهره حتى صعد المسلمون عليه ودخلوا الحصن
قال بعضهم وطرق حديث الباب كلها واهية وفى بعضها قال الذهبي إنه منكر وفى الإمتاع وزعم بعضهم أن حمل على كرم الله وجهه الباب لا أصل له وإنما يروى عن رعاع الناس وليس كذلك ثم ذكر جملة ممن خرجه من الحفاظ
وجاء أن مرحبا لما رأى أن أخاه قد قتل خرج سريعا من الحصن فى سلاحه أى وقد كان لبس درعين وتقلد بسيفين واعتم بعمامتين ولبس فوقهما مغفرا وحجرا قد ثقبه قدر البيضة ومعه رمح لسانه ثلاثة أسنان وهو يرتجز ويقول من أبيات ** قد علمت خيبر أنى مرحب ** شاكي السلاح بطل مجرب **
ومعنى شاكى السلاح تام السلاح ومعنى مجرب أى معروف بالشجاعة وقهر
____________________
(2/737)
الفرسان ثم صار يقول هل من مبارز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لهذا قال محمد بن مسلمة رضى الله عنه أنا له يارسول الله أنا الموتور أى الذى قتل له قتيل فلم يؤخذ بثأره الثائر قتل أخى بالأمس قال صلى الله عليه وسلم فقم إليه اللهم أعنه عليه فقتله محمد بن مسلمة رضى الله عنه أى فإن مرحبا حمل على محمد بن مسلمة فاتقاه بدرقته فوقع سيف مرحب فيها فعضت به وأمسكته فضربه محمد رضى الله عنه فقتله ويدل لذلك قول الإمام المزنى رحمه الله فى المختصر إن النبى صلى الله عليه وسلم يوم خيبر نفل محمد بن مسلمة سلب مرحب سيفه ورمحه ومغفره وبيضته ووجد على سيفه مكتوب هذا سيف مرحب من يصبه يعطب
وقيل القاتل له على كرم الله وجهه وبه جزم مسلم رحمه الله فى صحيحه قال بعضهم والأخبار متواترة به وقال ابن الأثير الصحيح الذى عليه أهل السير والحديث أن عليا كرم الله وجهه قاتله وفى الاستيعاب والصحيح الذى عليه أكثر أهل السير والحديث أن عليا قاتله ويروى أن عليا كرم الله وجهه ورضى الله عنه لما خرج إليه ارتجز بقوله ** أنا الذى سمتنى أمى حيدره ** ضرغام آجام وليث قسورة **
وقيل بدله كليث غابات كريه المنظره
أى فإن أم على كرم الله وجهه سمته أسدا باسم أبيها وكان أبوه أبو طالب غائبا فلما قدم كره ذلك وسماه عليا أى ومن أسماء الأسد حيدرة والحيدرة الغليظ القوى وقيل لقب بذلك فى صغره لأنه كان عظيم البطن ممتلئا لحما ومن كان كذلك يقال له حيدره
ويقال إن ذلك كان كشفا من على كرم اله وجهه فإن مرحبا كان رأى فى تلك الليلة فى المنام أن أسدا افترسه فذكره على كرم الله وجهه بذلك ليخيفه ويضعف نفسه
ويروى أن عليا كرم الله وجهه ضرب مرحبا فتترس فوقع السيف على الترس فقدة وشق المغفر والحجر الذى تحته والعمامتين وفلق هامته حتى أخذ السيف فى الأضراس وإلى ذلك يشير بعضهم وقد أجاد بقوله
____________________
(2/738)
** وسادن أبصرته مقبلا ** فقلت من وجدى به مرحبا ** ** قد فؤادي فى الهوى قدة ** قد على فى الوغى مرحبا **
أى وقد يجمع بين كون القاتل لمرحب عليا كرم الله وجهه وكون القاتل له محمد ابن مسلمة بأن محمد بن مسلمة أثبته أى بعد أن شق على كرم الله وجهه هامته لجواز أن يكون شق هامته ولم يثبته فاثبته محمد بن مسلمة ثم أن عليا كرم الله وجهه وقف عليه
أى ويدل لذلك مافى بعض السير عن الواقدى رحمه الله لما قطع محمد بن مسلمة ساقى مرحب قال له مرحب أجهز على فقال لا ذق الموت كما ذاقه أخى ومر به على كرم الله وجهه فضرب عنقه وأخذ سلبه فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سلبه فقال محمد يا رسول الله ما قطعت رجليه وتركته إلا ليذوق الموت وكنت قادرا أن أجهز عليه فقال على كرم اله وجهه صدق فأعطى سلبه لمحمد بن مسلمة رضى الله عنه ولعل هذا كان بعد مبارزة عامر بن الأكوع لمرحب فلا ينافى مامر عن فتح البارى ثم خرج بعد مرحب أخوه ياسر أى وهو يرتجز بقوله ** قد علمت خيبر أنى ياسر ** شاكى السلاح بطل مغادر **
وكان أيضا من مشاهير فرسان يهود وشجعانهم وهو يقول من يبارز فخرج له الزبير رضى الله عنه فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إنه يقتل ابنى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ابنك يقتله إن شاء الله فقتله الزبير رضى الله عنه أى وعند ذلك قال له صلى الله عليه وسلم فداك عم وخال لكل نبى حوارى وحوارى الزبير
وذكر الزمخشرى أن هذه الواقعة للزبير كانت فى بنى قريضة حيث قال إنه يعنى الزبير رضى الله عنه أول من استحق السلب وكان ذلك فى بنى قريظة برز رجل من العدو فقال رجل ورجل فقال النبى صلى الله عليه وسلم قم يا زبير فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب واحدى يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما علا صاحبه فقتله فعلاه الزبير رضى الله عنه فقتله فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه وقال السلب للقاتل هذا كلامه فليتأمل فإنى لم أقف فى كلام أحد على أن بنى قريظة وقعت منهم مقاتلة بالمبارزة
____________________
(2/739)
وفى رواية أن القاتل لياسر على بن أبى طالب كرم الله وجهه أى ويمكن الجمع بمثل ما تقدم وكان شعار المسلمين أمت أمت وفى رواية يا منصور أمت أمت
ومن جملة من قتل من المسلمين الأسود الراعي كان أجيرا لرجل من اليهود يرعى غنمه وكان عبدا حبشيا يسمى أسلم أى وفى الإمتاع اسمه يسار فجاء إليه صلى الله عليه وسلم وهو محاصر خيبر وقال يا رسول الله اعرض على الإسلام فعرضه عليه فأسلم
وفى رواية أنه قال إن أسلمت فماذا لى قال الجنة فأسلم فلما أسلم قال يا رسول الله إنى كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم فكيف أصنع بها وفى لفظ إنها أمانة وهى للناس الشاة والشاتان وأكثر من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم له اضرب فى وجهها فإنها سترجع إلى ربها فقام الأسود فأخذ حفنة من حصباء فرمى بها فى وجههاا وقال ارجعى إلى صاحبك فوالله لا أصحبك فخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن ثم تقدم رضى الله عنه إلى ذلك الحصن فقاتل مع المسلمين فأصابه حجر وفى رواية سهم غرب بفتح الراء والإضافة وبتسكين الراء بلا إضافة وهو ما لايعرف رامية فقتله ولم يسجد لله سجدة فأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه ثم أعرض عنه فقالوا يا رسول الله لم أعرضت عنه فقال إن معه الآن زوجتيه من الحور العين تنفضان التراب عن وجهه وتقولان له ترب الله وجه من ترب وجهك وقتل من قتلك زاد فى لفظ لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير قد كان الإسلام من نفسه حقا
وفتح الله ذلك الحصن الذى هو حصن ناعم وهو أول حصن فتح من حصون النطاة على يد على كرم الله وجهه
أى وعن عائشة رضى الله عنها ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير والتمر حتى فتحت دار بنى قمة أى وهى أول دار فتحت بخيبر وهى بالنطاة وهى منزل ياسر أخى مرحب وظاهر السياق أنها حصن ناعم
ويروى أن عليا كرم الله وجهه لما فتح الحصن أخذ الرجل الذى قتل أخا محمد بن مسلمة وسلمه إليه فقتله وتقدم أن محمد بن مسلمة رضى الله عنه قتل مرحبا لكونه قاتل أخيه على ماتقدم وسيأتى أنه صلى الله عليه وسلم دفع كنانة لمحمد بن مسلمة ليقتله بأخيه
____________________
(2/740)
وهذا يؤيد ماتقدم من أن الثلاثة أى مرحب وكنانة وذلك الرجل الذى سلمه على له اشتركوا فى قتل أخى محمد بن مسلمة
قال وأصاب المسلمين رضى الله عنهم مجاعة وأرسلت أسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بن حارثة وأمرته أن يقول له صلى الله عليه وسلم إن أسلم يقرئونك السلام ويقولون أجهدنا الجوع فلامهم رجل وقال من بين العرب تصنعون هذا فقال زيد بن حارثة أخو أسماء والله إنى لأرجو أن يكون البعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الخير فجاءه صلى الله عليه وسلم أسماء وبلغه ماقالت أسلم فدعا لهم فقال اللهم إنك قد عرفت حالهم وأن ليس بهم قوة وأن ليس بيدى شىء أعطيهم إياه وقال اللهم افتح أكثر الحصون طعاما وودكا ودفع اللواء للحباب بن المنذر رضى الله تعالى عنه وندب الناس وكان من سلم من يهود حصن ناعم انتقل إلى حصن الصعب من حصون النطاة ففتح الله حصن الصعب قبل ماغابت الشمس من ذلك اليوم بعد أن أقاموا على محاصرته يومين وما بخيبر حصن أكثر طعاما منه أى من شعير وتمر وودك أى من سمن وزيت وشحم وماشية ومتاعا منه ولا يخالف هذا ماتقدم عن عائشة فى وصف حصن ناعم من قولها ماشبع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره ولا ما تقدم من أنهم أدخلوا أموالهم حصون الكثيبة لأنه يجوز أن يكون المراد بأموالهم النقود ونحوها دون ماذكر هنا وكان فى هذا الحصن الذى هو حصن الصعب خمسمائة مقاتل وقبل فتحه خرج منه رجل يقال له يوشع مبارزا فخرج له الحباب بن المنذر رضى الله تعالى عنه فقتله وخرج آخر مبارزا يقال له الديال فبرز له عمارة بن عقبة الغفاري رضي الله تعالى عنه فضربه على هامته فقتله وقال له خذها وأنا الغلام الغفارى فقال الناس حبط جهاده فقال صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك يؤجر ويحمد أي وحملت يهود حملة منكرة فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف قد نزل عن فرسه فثبت الحباب بن المنذر رضى الله تعالى عنه فحرض صلى الله عليه وسلم المسلمين على الجهاد فاقبلوا وزحف بهم الحباب رضى الله تعالى عنه فانهزمت يهود واغلقت الحصون عليهم
ثم إن المسلمين اقتحموا الحصن يقتلون ويأسرون فوجدوا فى ذلك الحصن من
____________________
(2/741)
الشعير والتمر والسمن والعسل والسكر والزيت والودك شيئا كثيرا ونادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلوا واعلفوا ولا تحملوا أى لا تخرجوا به إلى بلادكم
وهذا دليل لما ذهب إليه إمامنا رضى الله تعالى عنه من أن للغانمين اخذ ماتعم الحاجة إليه من الطعام ومايؤكل غالبا من الفواكه وعلف الدواب من الغنيمة بدار الحرب إذا كان الجهاد بدار الحرب إلى أن يصلوا إلى غير دار الحرب مما يباع ذلك فيه وليس لهم أخذ ماتندر الحاجة إليه كالفانيد والسكر ولا ينافى ذلك ماذكر هنا لأنه يجوز أن يكون الإذن فى اكل مجموع ماذكر
وفى السيرة الهشامية عن عبد الله بن مغفل رضى الله تعالى عنه قال أصبت من فيء خيبر أى من غنيمتها جراب شحم فاحتملته على عنقى أريد رحلى فلقينى صاحب المغانم الذى جعل عليها أى وهو أبو اليسر كعب بن عمرو بن زيد الأنصارى رضى الله تعالى عنه فأخذ بناصيته وقال هلم بهذا حتى نقسمه بين المسلمين فقلت والله لا أعطيكه فجعل يجاذبنى الجراب فرآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصنع ذلك فتبسم ضاحكا ثم قال لصاحب المغانم لا أبا لك خل بينه وبينه فأرسله فانطلقت به إلى رحلى وأصحابى فأكلناه
وفى الإمتاع أنهم وجدوا فى هذا الحصن الذى هوحصن الصعب آلة حرب دبابات ومنجنيقا أى وذلك موافق لما تقدم عن ذلك المخبر له صلى الله عليه وسلم بأن فى حصن فى بيت منه تحت الأرض منجنيق ودبابات ودروع وسيوف ولعل وجود ذلك كان بدلالة ذلك الرجل عليه
ولما فتح ذلك الحصن تحول من سلم من أهله إلى حصن قلة وهو حصن بقلة جبل أى ويعبر عن هذا بقلة الزبير رضى الله تعالى عنه أى الذى صار فى سهم الزبير بعد ذلك وهو آخر حصون النطاة أى فحصون النطاة ثلاثة حصن ناعم وحصن الصعب وحصن قلة
فأقام المسلمون على حصار هذا الحصن الذى هو حصن قلة ثلاثة أيام فجاء رجل من اليهود وقال له صلى الله عليه وسلم يا أبا القاسم تؤمنى على أن أدلك على ماتستريح به فإنك لو مكثت شهرا لا تقدر على فتح هذا الحصن فإن به دبولا وهى الأنهر الصغيرة تحت الأرض يخرجون ليلا فيشربون منها فإن قطعت عنهم شربهم أهلكتهم فأمنه
____________________
(2/742)
صلى الله عليه وسلم وسار إلى دبولهم فقطعها فعند ذلك خرجوا وقاتلوا أشد القتال وفتح ذلك الحصن ثم سار المسلمون إلى حصار حصون الشق بفتح الشين المعجمة وكسرها والفتح أعرف عند أهل اللغة فكان أول حصن بدأ به من حصنى الشق حصن أبى فقاتل أهله قتالا شديدا خرج رجل منهم يقال له غزوال يدعوا إلى البراز فبرز له الحباب رضى الله تعالى عنه وحمل عليه فقطع يده اليمنى ونصف الذراع فبادر راجعا منهزما إلى الحصن فتبعه الحباب فقطع عرقوبه فوقع فذفف عليه فخرج آخر مبارزا فخرج له رجل من المسلمين فقتل ذلك الرجل وقام مكانه يدعو للبراز فخرج له أبو دجانة رضى الله تعالى عنه فضربه أبو دجانة رضى الله تعالى عنه فقطع رجله ثم ذفف عليه
وعند ذلك أحجمت يهود عن البراز فكبر المسلمون وتحاملوا على الحصن ودخلوه يقدمهم أبو دجانة رضى الله تعالى عنه فوجدوا فيه أثاثا ومتاعا وغنما وطعاما وهرب من كان فيه ولحق بحصن يقال حصن البرىء وهو الحصن الثانى من حصنى الشق فتمنعوا به أشد التمنع وكان أهله رميا للمسلمين بالنبل والحجارة حتى أصاب النبل ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلقت به فأخذ لهم صلى الله عليه وسلم كفا من حصباء فحصب به ذلك الحصن فرجف بهم ثم ساخ فى الأرض وأخذ المسلمون من فيه أخذا ذريعا أى فحصون الشق اثنان حصن أبى وحصن البرىء
وحينئذ يتأمل فى قول الحافظ الدمياطى فى سيرته والشق وبه حصون منها حصن أبى وحصن البرىء
أقول وفى الإمتاع أنهم وجدوا فى حصن الصعب الذى هو أحد حصون النطاة منجنيقا أى كما أخبر بذلك اليهودى الذى جاء به عمر رضى الله تعالى عنه وأدخله عليه صلى الله عليه وسلم وأمنه كما تقدم وأنهم نصبوا المنجنيق الذى وجدوه فى حصن الصعب على هذا الحصن الذى هو حصن البرىء من حصون الشق أى وهو يخالف قول بعضهم لم ينصب المنجنيق إلا فى غزوة الطائف إلا أن يقال يجوز أن يكون المراد بعدم نصبه أنه لم يرم به إلا فى غزوة الطائف وأما هنا فنصب ولم يرم به فلا مخالفة
ووجدوا في هذا الحصن آنية من نحاس وفخار كانت اليهود تأكل فيها وتشرب فقال صلى الله عليه وسلم اغسلوا واطبخوا وكلوا فيها واشربوا وفى رواية سخنوا
____________________
(2/743)
فيها الماء ثم اطبخوا بعد وكلوا واشربوا وحكمة تسخين الماء فيها لا تخفى وهى أن الماء الحار أقوى فى النظافة وإخراج الدسومة والله أعلم
ثم إن المسلمين لما أخذوا حصون النطاة وحصون الشق انهزم من سلم من يهود تلك الحصون إلى حصون الكثيبة وهى ثلاثة حصون القموص كصبور والوطيح وسلالم بضم السين المهملة وكان أعظم حصون خيبر القموص وكان منيعا حاصره المسلمون عشرين ليلة ثم فتحه الله على يد على كرم الله وجهه ومنه سبيت صفية رضى الله تعالى عنها كما قاله الحافظ ابن حجر قال وقيل كان اسمها قبل أن تسبي زينب فلما صارت من الصفى سميت صفية والصفى ما كان يصطفيه صلى الله عليه وسلم لنفسه من الغنيمة قبل أن تقسم على ما تقدم وكان فى الجاهلية لأمير الجيش ربع الغنيمة ومن ثم قيل له المرباع
قال السهيلى رحمه الله كانت أموال النبى صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه من الصفى والهدية وخمس الخمس هذا كلامه ولا يخفى أنه يزاد على ذلك الفىء
وانتهى المسلمون إلى حصار الوطيح بالحاء المهملة مأخوذ من الوطح وهو فى الأصل ماتعلق بمخالب الطير من الطين سمى الوطيح باسم الوطيح بن مازن رجل من ثمود وحصن سلالم ويقال له السلاليم وهو حصن بنى الحقيق آخر حصون خيبر
ومكثوا على حصارهما أربعة عشر يوما فلم يخرج أحد منهما فهم صلى الله عليه وسلم أن يجعل عليهم أى على من فيهما المنجنيق أى ينصبه عليهم ولم يرم به فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم وأن لا يصحب واحدا منهم إلا ثوب واحد على ظهره وفى لفظ وتركوا مالهم من مال وأرض من الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة والبز إلا ثوبا واحدا فصالحهم على ذلك وعلى أن ذمة الله ورسوله بريئة منهم أن يكتموه شيئا من متاعهم يسألهم عنه
فعلم أن حصون خيبر فتحت عنوة إلا الحصنين المذكورين وهما الوطيح وسلالم فإنهما لم يفتحا عنوة بل صلحا فكانا فيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دليل على أنهم لم يقاتلوا فى حال حصارهم لأن الفىء ما جلوا عنه من غير مقاتلة كذا قيل
____________________
(2/744)
وظاهر إطلاق قول الروضة من الفىء ما صولح عليه أهل بلد من الكفار أنه وإن كان بعد محاصرتهم ومقاتلتهم للمسلمين فى حال حصارهم برمى الحجارة أو النبل
وفى فتح البارى نقلا عن ابن عبد البر أنه جزم بأن حصون خيبر فتحت عنوة وإنما دخلت الشبهة على من قال فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لحقن دمائهم وهو ضرب من الصلح لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال هذا كلامه فليتأمل فإن بالقتال يخرج عن كونه فيئا ولعل المراد قتال بالنبل ورمى بالحجارة وإلا فقد تقدم أنه لم يخرج منهما أحد للمقاتلة فليتأمل فإن كلامه يقتضى أن بالحصار وبالقتال بنحو النبل يخرج ذلك عن كونه فيئا له صلى الله عليه وسلم ويكون غنيمة ولعله مذهب المالكية الذى هو مذهب ابن عبد البر رحمه الله تعالى
وفى الاصل عن ابن شهاب رحمه الله أنه قال بلغنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال ونزل من نزل من أهلها على الجلاء بعد القتال هذا كلامه فظاهره أن القتال وقع من الذين جلوا فى حال حصارهم وإلا فقد علمت أن الذين جلوا لم يخرج أحد منهم للقتال في حال حصارهم وسيأتى مايصرح بأن ماجلوا عنه فىء لا غنيمة
ووجدوا فى الحصنين المذكورين مائة درع واربعمائة سيف وألف رمح وخمسمائة قوس عربية بجعابها أى ووجدوا فى أثناء الغنيمة صحائف متعددة من التوراة فجاءت يهود تطلبها فأمر صلى الله عليه وسلم بدفعها إليهم
وهو يخالف ما قاله أئمتنا أن كتبهم التى يحرم الانتفاع بها لكونها مبدلة تمحى إن أمكن أو تمزق وتجعل فى الغنيمة فتباع إلا أن يدعى أن تلك الصحف لم تكن مبدلة وغيبوا الجلد الذى كان فيه حلى بنى النضير أى وعقود الدر والجوهر الذى جلوا به لأنهم لما جلوا كان سلام بن أبى الحقيق رافعا له ليراه الناس وهو يقول بأعلى صوته هذا أعددناه لرفع الأرض وخفضها كما تقدم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعيه ابن عمرو أى وهو عم حيى بن أخطب وفى لفظ سعيه بن سلام بن أبى الحقيق وفى الإمتاع وسأل صلى الله عليه وسلم كنانة بن أبى الحقيق أين مسك أى جلد حيى ابن أحطب أى وإنما نسب إليه الجلد المذكور فقيل كنز حيى لأن حييا كان عظيم بنى النضير وإلا فهو لا يكون إلا عند بنى الحقيق فقال أذهبته الحروب والنفقات
____________________
(2/745)
فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سعية بن عمرو للزبير رضى الله تعالى عنه فمسه بعذاب فقال رأيت حييا يطوف فى خربة ههنا فذهبوا إلى الخربة ففتشوها فوجدوا ذلك الجلد
قال وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم أتى بكنانة وهو زوج صفية تزوجها بعد أن طلقها سلام بن مشكم وبالربيع أخوة فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أين آنيتكما التى كنتم تعيرونها أهل مكة أى لأن اعيان مكة إذا كان لأحدهم عرس يرسلون فيستعيرون من ذلك الحلى انتهى أى والآنية والكنز عبارة عن حلى كان أولا فى جلد شاة ثم كان لكثرته فى جلد ثور ثم كان لكثرته فى جلد بعير كما تقدم فقالا أذهبته النفقات والحروب فقال صلى الله عليه وسلم العهد قريب والمال أكثر من ذلك إنكما إن كتمتمانى شيئا فاطلعت عليه استحللت دماءكما وذراريكما فقالا نعم فأخبره الله بموضع ذلك الحلى أى فإنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار اذهب إلى محل كذا وكذا ثم ائت النخل فانظر نخلة عن يمينك أو قال عن يسارك مرفوعة فائتنى بما فيها فانطلق فجاءه بالآنية
ويمكن الجمع بين هذا وما تقدم وما يأتى أنهم فتشوا عليه فى خربة حتى وجدوه بان التفتيش كان فى أول الأمر وإعلام الله تعالى له بذلك كان بعد فجىء به فقوم بعشرة آلاف دينار أى لأنه وجد فيه أساور ودمالج وخلاخيل وأقرطة وخواتيم الذهب وعقود الجوهر والزمرد وعقود أظفار مجزع بالذهب فضرب أعناقهما وسبى أهلهما
أى وفى لفظ آخر لما فتحت خيبر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكنانة بن الربيع وفى لفظ ابن ربيعة بن أبى الحقيق وكان عنده كنز بنى النضير فسأله عنه فجحد أن يكون يعلم مكانه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فقال إنى رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة أى فإن كنانة حين راى النبى صلى الله عليه وسلم فتح حصن النطاة وتيقن ظهوره عليهم دفنه فى خربة
أى وفيه أن هذا لا يناسب ماسبق من أن حييا كان يطيف بتلك الخربة إلا أن يقال جاز أن يكون دفنه فى تلك الخربة فى محل آخر غير الذى دفنه فيه حيى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة أرأيت إن وجدته عندك أقتلك قال نعم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم ثم سأله ما بقى فأبى أن يؤديه فأمر به الزبير رضى الله تعالى عنه فقال عذبه حتى نستأصل ما عنده فكان
____________________
(2/746)
الزبير رضى الله تعالى عنه يقدح بزند أى بالزناد الذى يستحرج به النار على صدره حتى أشرف على نفسه
وأخذ منه جواز العقوبة لمن يتهم ليقر بالحق فهو من السياسة الشرعية ثم دفعه صلى الله عليه وسلم لمحمد بن مسلمة رضى الله تعالى عنه فضرب عنقه باخيه محمود أى ولا مانع أن يكون السؤال وتعذيب الزبير وقع لسعيه وكنانة أيضا
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغنائم أى التى غنمت قبل الصلح فجمعت وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا منها صفية رضى الله تعالى عنها بنت حيى ابن أخطب من سبط هرون بن عمران أخى موسى عليهما الصلاة والسلام فاصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه وجعلها عند أم سليم التى هى أم أنس خادمه صلى الله عليه وسلم حتى اهتدت وأسلمت ثم اعتقها صلى الله عليه وسلم وتزوجها وجعل عتقها صداقها أى أعتقها بلا عوض وتزوجها بلا مهر لا فى الحال ولا فى المآل أى لم يجعل لها شيئا غير العتق
وقد سئل أنس رضى الله تعالى عنه عن صفية فقيل له يا أبا حمزة ما أصدقها قال نفسها أعتقها وتزوجها وهذا يرد ما استدل به بعض فقهائنا على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز نكاح الأمة الكتابية وجواز وطئها بملك اليمين من أنه صلى الله عليه وسلم كان يطأ صفية قبل إسلامها بملك اليمن
ويرد أيضا على من استدل من فقائنا على استحباب الوليمة للسرية بأنه صلى الله عليه وسلم لما أولم على صفية رضي الله تعالى عنها قالوا إن لم يحجبها فهي أم ولد وإن حجبها فهي امرأته وذلك دليل على على استحباب الوليمة للسرية إذ لو اختصت بالزوجة لم يترددوا في كونها زوجة أو سرية وذلك بعد أن خيرها صلى الله عليه وسلم بين أن يعتقها فارجع إلى من بقى من أهلها أو تسلم فيتخذها لنفسه فقالت أختار الله ورسوله
وذكر فى الأصل أن جعل عتق الأمة صداقها من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقد ذكره الجلال السيوطى فى الخصائص الصغرى وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى عدم
____________________
(2/747)
الخصوصية وقال ابن حبان لم ينقل دليل على أنه خاص به صلى الله عليه وسلم دون أمته
وقيل إن دحية الكلى رضى الله تعالى عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية فوهبها له وقيل وقعت فى سهمه رضى الله تعالى عنه ثم ابتاعها صلى الله عليه وسلم منه بتسعة أرؤس أى وإطلاق الشراء فى ذلك على سبيل المجاز على أنه يخالف ما تقدم أنها من صفية صلى الله عليه وسلم قبل القسمة
وفى البخارى فجمع السبى فجاء دحية رضى الله تعالى عنه فقال يا نبى الله أعطنى جارية من السبى فقال اذهب فخذ جارية فاخذ صفية بنت حيى فجاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم عليه وسلم فقال يا رسول الله أعطيت دحية صفية سيدة قريظة والنظير لا تصلح إلا لك فقال ادعوه بها فجاء بها فلما نظر إليها النبى صلى الله عليه وسلم قال خذ جارية من السبى غيرها أى فأخذ غيرها
أى والتى أخذها غيرها هى أخت كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق زوج صفية كما فى الأم لإمامنا الشافعى رضى الله عنه عن سيرة الواقدى وقول الرجل للنبى صلى الله عليه وسلم يا نبى الله أعطيت دحية صفية يدل على أنه اسمها وحينئذ يخالف ماقيل إن اسمها زينب فسماها صلى الله عليه وسلم صفية كما تقدم
وفى رواية أن صفية سبيت هى وبنت عم لها وأن بلالا جاء بهما فمر على قتلى يهود فلما رأتهم بنت عم صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها فلما رآها صلى الله عليه وسلم قال اعزبوا عنى هذه الشيطانة وقال صلى الله عليه وسلم لبلال أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمر بامرأتين على قتلى رجالهما ثم دفع صلى الله عليه وسلم بنت عمها لدحية الكلبى رضى الله تعالى عنه وفى رواية وأعطى دحية بنت عمها عوضا عنها
أى وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل بصفية رأى بأعلى عينها خضرة فقال ما هذه الخضرة قالت كان رأسى فى حجر بن أبى الحقيق تعنى زوجها أى وهى عروس وأنا نائمة فرأيت كأن القمر وقع فى حجرى فأخبرته بذلك فلطمنى وقال تتمنى ملك العرب وفى لفظ حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وكانت عروسا رأت كأن الشمس نزلت حتى وقعت على صدرها فقصت ذلك على زوجها
____________________
(2/748)
قال والله ما تتمنين إلا هذا الملك الذى نزل بنا فلطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها ولا مانع من تعدد الرؤية أو أنها رأت الشمس والقمر فى وقت واحد وسيأتى فى الكلام على زوجاته صلى الله عليه وسلم أنها قصت ذلك على أبيها ففعل بها ذلك وسيأتى أنه لا مانع من تعدد الواقعة وأنهما فعلا بها ذلك
وتقدم أن جويرية رضى الله تعالى عنها رأت القمر أيضا وقع فى حجرها وكون صفية رضى الله تعالى عنها كانت عروسا عند مجيئه صلى الله عليه وسلم خيبر ربما يدل على أن سلام ابن مشكم طلقها قبل الدخول بها فقد تقدم أن كنانة تزوج بها بعد أن طلقها سلام ابن مشكم فليتأمل
وعن صفية رضى الله تعالى عنها أنها قال انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من الناس أحد أكره إلى منه قتل أبى وزوجى وقومى فقال صلى الله عليه وسلم يا صفية أما إنى أعتذر إليك مما صنعت بقومك إنهم قالوا لى كذا وكذا وقالوا فى كذا وكذا وفى رواية إن قومك صنعوا كذا وكذا ومازال صلى الله عليه وسلم يعتذر إلى حتى ذهب ذلك من نفسى فما قمت من مقعدى ومن الناس أحد أحب إلى منه صلى الله عليه وسلم وأعرس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن طهرت من الحيض فى قبة بعد أن دفعها صلى الله عليه وسلم لأم سليم لتصلح من شأنها وبات تلك الليلة أبو أيوب الأنصارى رضى الله تعالى متوشحا سيفه يحرسه ويطوف بتلك القبة حتى أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى مكان أبى أيوب فقال مالك يا أبا أيوب قال رسول الله خفت عليك من هذه المرأة قتلت أباها وزوجها وقومها وهى حديثة عهد بكفر فبت أحفظك فقال اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظنى قال السهيلى رحمه الله فحرس الله أبا أيوب بهذه الدعوة حتى إن الروم لتحرس قبره ويستشفون به فيستصحون أى ويستسقون به فيسقون
فإنه غزا مع يزيد بن معاوية سنة خمسين فلما بلغوا القسطنطينية مات أبو أيوب رضى الله عنه هنالك فأوصى يزيد أن يدفنه فى أقرب موضع من مدينة الروم فركب المسلمون ومشوا به حتى إذا لم يجدوا مكانا مساغا دفنوه فسألتهم الروم عن شأنهم فأخبروهم أنه كبير من أكابر الصحابة فقالت الروم ليزيد ما أحمقك وأحمق من أرسلك أأمنت أن ننبشه بعدك فنحرق عظامه فحلف لهم يزيد لئن فعلتم ذلك ليهدمن كل
____________________
(2/749)
كنيسة بأرض العرب وينبش قبورهم فحينئذ حلفوا له بدينهم ليكرمن قبره وليحرسنه ما استطاعوا
أى وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما قطع ستة أميال من خيبر وأراد أن يعرس بها فأبت فوجد النبى صلى الله عليه وسلم فى نفسه فلما سار ووصل الصهباء مال إلى دومة هناك فطاوعته فقال لها ما حملك على إبائك حين أردت المنزل الأول قالت يا رسول الله خشيت عليك قرب يهود وهذا المحل الذى هو الصهباء هو الذى ردت فيه الشمس لعلى بعد ماغربت كما تقدم
وأقام صلى الله عليه وسلم بذلك المحل ثلاثة أيام وجعل وليمتها حيسا فى نطع صغير والحيس تمر وأقط وسمن أى ففى البخارى فأصبح النبى صلى الله عليه وسلم عروسا فقال من كان عنده شىء فليجىء به وبسط نطعا فجعل الرجل يجىء بالتمر أى وجعل الرجل يجىء بالأقط وذكر أيضا السويق
ولا يخفى أن الحيس خلط السمن والتمر والأقط إلا أنه قد يخلط مع هذه الثلاثة السويق وهذا يدل على أن الوليمة على صفية رضى الله تعالى عنها كانت نهارا
وذهب ابن الصلاح من أئمتنا إلى أن الأفضل فعلها ليلا قال بعضهم وهو متجه إن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعلها ليلا أى لأحد من نسائه وقد جاء لا بد للعرس من وليمة
وقال لأنس آذن من حولك أى ليأكلوا من ذلك الحيس وكان صلى الله عليه وسلم يضع لها ركبته لتركب فتضع رجلها على ركبته الشريفة حتى تركب وفى لفظ لما وضع صلى الله عليه وسلم ركبته لتركب عليها أبت أن تضع قدمها على ركبته الشريفة ووضعت فخذها على ركبته أى ولعل هذا الثانى منها كان فى أول الأمر فلا مخالفة وعن صفية رضى الله تعالى عنها ما رأيت أحد قط أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رأيته ركب بى فى خيبر وأنا على عجز ناقته ليلا فجعلت أنعس فتضرب رأسى مؤخرة الرحل فيمسنى بيده ويقول ياهذه مهلا ونهى صلى الله عليه وسلم عن إتيان الحبالى من النساء اللاتى سبين وأن لا يصيب أحد امرأة من السبى غير حامل حتى يستبرئها أى تحيض
أى وفى لفظ أمر صلى الله عليه وسلم مناديه ينادى أن من آمن بالله واليوم الآخر لا يسق بمائه زرع الغير ولا يطأ امرأة حتى تنقضى عدتها أى حتى تحيض
____________________
(2/750)
وبلغه صلى الله عليه وسلم عن شخص أنه ألم بامرأة من السبى حبلى فقال لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه فى القبر ونهى صلى الله عليه وسلم عن أكل الثوم
ورأيت فى كلام بعضهم أن غالب اقتياتهم فى خيبر كان أكل الثوم والكراث حتى تقرحت أشداقهم أى وذلك قبل النهى
ثم رأيت فى الترغيب والترهيب عن أبى ثعلبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فوجدوا فى جنانها بصلا وثوما فاكلوا منه وهم جياع فلما راح الناس إلى المسجد إذا ريح بصل وثوم فقال النبى صلى الله عليه وسلم من أكل هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربنا وليس فى ذلك نهى عن أكل الثوم والبصل أى مطلقا إنما النهى عن إتيان المسجد لمن أكلهما تأمل
ومن ثم جاء أنه لما قال ذلك صلى الله عليه وسلم قال الناس حرم ذلك فلما بلغه صلى الله عليه وسلم ماقالوا قال أيها الناس إنه ليس لنا تحريم ما أحل الله ولكنها شجرة أكره ريحها
وعن فرقد السنجى ماأكل نبى قط ثوما ولا بصلا
ونهى صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء ففى مسلم عن على رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر
قال بعضهم والراجح أن النهى عن متعة النساء لم يكن فى خيبر فإنه شىء لم يعرفه أهل السير ولا رواة أهل الأثر ويدل لذلك ماقيل إن ثنية الوداع إنما سميت بذلك لأنهم فيها ودعوا النساء اللاتى تمتعوا بهن فى خيبر أي وإنما كان تحريمها عام الفتح أي ولا معارضة لأنه أحل بعد ذلك أي بعد خيبر فى عام الفتح ثم حرم فيه بعد ثلاثة أيام كما سيأتى
وقيل حرمت فى حجة الوداع وقيل فى غزوة أوطاس وهذا هو الصحيح وسيأتى فى غزوة الفتح الجمع بين هذه الأقوال
قال السهيلى رحمه الله وأغرب ماروى فى ذلك رواية من قال إن ذلك كان فى غزوة تبوك وفى حديث خرجه أبو داود أن تحريم نكاح المتعة كان فى حجة الوداع ومن قال من الرواة إنه كان فى غزوة أوطاس فهو موافق لمن يقول إنه كان عام الفتح هذا كلامه
____________________
(2/751)
وعن إمامنا الشافعى رضى الله عنه لا أعلم شيئا حرم ثم أبيح ثم حرم إلا المتعة أى فقد حرمت مرتين
ونقل السهيلى رحمه الله وغيره عن بعضهم أنها أبيحت وحرمت ثلاث مرات وعن بعضهم أنها أبيحت وحرمت أربع مرات ولينظر هذا مع قول بعضهم إن أول من حرم المتعة سيدنا عمر رضى الله عنه
وقيل لم يحرمها صلى الله عليه وسلم مطلقا بل عند الاستغناء عنها وأباحها عند الحاجة إليها أى عند خوف الزنا وبذلك كان يفتى ابن عباس رضى الله عنهما
وفى كلام فقهائنا والنهى عن نكاح المتعة فى خبر الصحيحين الذى لو بلغ ابن عباس رضى الله عنهما لم يستمر على القول بإباحتها لمن خاف الزنا مخالفا فى ذلك لكافة العلماء وقد وقعت مناظرة فى المتعة بين القاضى يحيى بن أكثم وأمير المؤمنين المأمون فإن المأمون نادى بإباحة المتعة فدخل عليه يحيى بن أكثم وهو متغير اللون بسبب ذلك وجلس عنده فقال له المأمون مالى أراك متغيرا قال لما حدث فى الإسلام قال وماحدث قال النداء بتحليل الزنا قال المتعة زنا قال نعم المتعة زنا قال ومن أين لك هذا قال من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الكتاب فقد قال الله تعالى قد أفلح المؤمنون إلى قوله والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ماملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون يا أمير المؤمنن زوجة المتعة ملك يمين قال لا قال أفهى الزوجة التى عند الله ترث وتورث ويلحق بها الولد قال لا قال فقد صار متجاوز هذين من العادين وأما السنة فقد روى الزهرى بسنده إلى على بن أبى طالب كرم الله وجهه أنه قال أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادى بالنهى عن المتعة وتحريمها بعد أم كان أمر بها فالتفت المأمون للحاضرين وقال أتحفظون هذا من حديث الزهرى الوا نعم يا أمير المؤمنين فقال المأمون أستغفر الله نادوا بتحريم المتعة
ونهى صلى الله عليه وسلم فى خيبر عن لحوم الحمر الأهلية أى فإنهم أصابهم جوع فوجدوا الحمر الأهلية أى ثلاثين حمارا خرجت من بعض الحصون وقيل لم يدخلوها الحصون فأخذها رهط من المسلمين وذبحوها وجعلوا لحومها فى القدور والبرام وجعلوا بطبخونها للأكل فمر بهم النبى صلى الله عليه وسلم فسألهم عما فى القدور والبرام
____________________
(2/752)
قالوا لحوم الحمر الإنسية أى المخالطة للإنس فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن أكلها حتى إن القدور أكفئت وإنها لتفور
أى وفى البخارى أن النبى صلى الله عليه وسلم رأى نيرانا توقد يوم خيبر قال علام توقد هذه النيران قالوا على الحمر الإنسية قال اكسروها وأهريقوها قالوا ألا نهريقها ونغسلها قال اغسلوها
وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال ماهذه النيران على أى شىء توقد قالوا على لحم قال على أى لحم قالوا على لحم حمر إنسية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهريقوها واكسروها فقال رجل يارسول الله أو نهريقها ونغسلها فقال أو ذاك وعدوله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الثانى إما باجتهاد أو وحى
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم عند ذلك أمر عبد الله بن عوف أن ينادى فى الناس أن لحوم الحمر الأهلية لا تحل لمن يشهد أن محمدا رسول الله وأمر أن تكفأ القدور ولا يأكلوا من لحوم القدور شيئا
وفى مسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة فنادى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهاكم عن لحوم الحمر الحمر الأهلية فإنها رجس أو نجس وهذا السياق كله يدل على أنهم لم يأكلوا منها شيئا
وفي السيرة الهشامية وأكل المسلمون من لحوم الحمر فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى الناس عن أمور سماها لهم وهذا يرد القول بأنه إنما نهى عن أكلها للحاجة إليها أو لأنها أخذت قبل القسمة
وروى أبو داود بإسناد على شرط مسلم عن جابر رضى الله تعالى عنه ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال ولم ينهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخيل وفى رواية ورخص فى أكل الخيل أى أباح أكلها
وفى مسلم عن أسماء رضى الله عنها قالت نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه أى وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ولم ينكره
وعن خالد بن الوليد رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية والبغال والخيل
قال السهيلى رحمه الله وحديث الإباحة أصح وجاء أنه صلى الله عليه وسلم نهى
____________________
(2/753)
يوم خيبر عن اكل لحم الجلالة وعن ركوبها حتى تعلف أربعين يوما والجلالة التى تأكل الجلة وهى الروث والعذرة وذكر الهروى أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل الدجاج الجلالة حتى تقصر أى تحبس ثلاثة أيام وذكر فقهاؤنا أن الحمر الأهلية حللت بعد تحريمها ثم حرمت فليتأمل
ونهى صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذى ناب من السباع أى وذى مخلب من الطير وعن بيع المغانم حتى تقسم وجعلت له صلى الله عليه وسلم مائدة فأكل متكئا واطلى بالنورة وكان ينوره الرجل فإذا بلغ عانته تولى ذلك صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة
وروى ابن ماجه بسند جيد كما قاله الحافظ ابن كثير أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا طلى بدأ بعورته فطلاها وطلى سائر جسده أهله وحينئذ يكون المراد بعانته فى الرواية السابقة العورة على أن تلك الرواية مرسلة فلا يحتج بذلك لمن يقول إن العورة ماعدا السوءتين
وأخرج الإمام أحمد عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت أطلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنورة فلما فرغ منها قال يا معشر المسلمين عليكم بالنورة فإنها طيبة وطهوره وإن الله تعالى يذهب بها عنكم أوساخكم وأشعاركم أى فهو من نعيم الدنيا ومن ثم كرهه عمر رضى الله عنه
وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له وقد دخل الحمام أتدخل الحمام وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الحمام
وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر وعمر رضى الله عنهما طاب حمامكما وجاء أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يتنور كل شهر ويقلم أظفاره كل خمسة عشر يوما وماورد انه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يتنور فهو ضعيف معارض بما هو أقوى منه وأكثر عددا على أن المثبت مقدم على النافى أى وفى الينبوع وقول أنس رضى الله عنه إن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان لا يتنور وكان يحلق محمول على الغالب من أمره صلى الله تعالى عليه وسلم
____________________
(2/754)
وفى الخصائص الصغرى وقال ابن عباس رضى الله عنهما ماتنور نبى قط وفى صحيح مسلم عن أنس رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم وقت لقص الشارب وتقليم الأظفار أن لا يدع ذلك أربعين يوما أى وكان صلى الله عليه وسلم يقص أظفاره كل خمسة عشر يوما كما تقدم
وقد استفيد من هذا كما قال بعضهم فائدة نفيسة وهى ذكر التوقيت للتنور وقص الأظفار قال بعضهم وفيه نظر فإن بدنه صلى الله عليه وسلم كان فى غاية الاعتدال فلا يقاس به صلى الله عليه وسلم غيره فى ذلك نظير ماقالوه فيما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يوضئه المد ويغسله الصاع إن ذلك خاص ببدن من يكون خاص ببدن من يكون بدنه كبدنه عليه الصلاة والسلام نعومة واعتدالا وإلا زيد ونقص المتفاوت فكذلك هنا ومن ثم قال الأئمة رحمهم الله فى نحو حلق العانة ونتف الإبط والقلم للظفر وقص لاشارب إن ذلك لا يتقيد بمدة بل يختلف باختلاف الأبدان والمحال فيعتبر وقت الحاجة إلى إزالة ذلك
وبهذا يرد على من قال يكره التنور فى أقل من شهر وقدم عليه صلى الله عليه وسلم بخيبر الأشعريون أى ومنهم أبو موسى الأشعرى رضى الله عنه والدوسيون ومنهم أبو هريرة رضى الله تعالى عنه فسال صلى الله عليه وسلم أصحابه رضى الله عنهم أن يشركوهم فى الغنيمة ففعلوا
قال وعن موسى بن عقبة رحمه الله أن أحد الأشعريين ومن ذكر معهم أى وهم الدوسيون من هذين الحصنين اللذين فتحا صلحا وتكون مشاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى إعطائهم ليست استنزالا لهم عن شىء من حقهم وإنما هى المشورة العامة أى المأمور بها فى قوله تعالى وشاورهم فى الأمر انتهى
أقول وهذا صريح فى أن ذلك كان فيئا له صلى الله عليه وسلم فهما ومافيهما مما أفاء الله عليه صلى الله عليه وسلم لأن الفىء ماجلوا عنه من غير قتال أى من غير مصافة للقتال
والحاصل أن أرض خيبر ونخلها غنيمة لأنه صلى الله عليه وسلم غلب على النخل والأرض وألجأهم إلى الحصون وفتح جميع الحصون عنوة إلا الوطيح والسلالم
____________________
(2/755)
فإنهما فتحا صلحا على حقن دماء المقاتلة وترك الذرية لهم بشرط أن لا يكتموه شيئا من أموالهم وأن من كتم شيئا انتقض ذلك الصلح له بالنسبة لدمه وذراريه
وهذان الحصنان هما المرادان بالكثيبة فى قول بعضهم كان صلى الله عليه وسلم يطعم من الكثيبة أهله لما علمت أنهما من حصونها وأنهما وما فيهما مما أفاء الله عليه
وكونه صلى الله عليه وسلم كان يطعم أهله مما فيهما واضح وأما إذا كان المراد يطعم من الأرض والنخيل المتعلقتين بالحصنين فقد يتوقف فيه لما تقدم أن أرض خيبر ونخلها غنيمة وذلك شامل للارض والنخيل المتعلقين بالحصنين فليتأمل والله أعلم
وفى لفظ وقدم عليه صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه من أرض الحبشة ومعه الأشعريون أبو موسى الأشعرى وأخوه أبو رهم وأبو بردة رضى الله عنهم وكان أبو موسى أصغرهم وأقواهم وكان قوم جعفر بالحبشة أى لأنهم هاجروا إلى الحبشة من اليمن كما تقدم وقبل قدومهم إليه صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم يقدم عليكم قوم هم أرق منكم قلوبا فقدم الأشعريون وذكر أنهم عند مجيئهم صاروا يقولون ** غدا نلقى الأحبة ** محمد وحزبه **
وفى كلام بعضهم ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم قال فى حقهم أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة الفقه يمان والحكمة يمانية
ولما أقبل عليه صلى الله عليه وسلم جعفر رضى الله عنه قام صلى الله عليه وسلم إلى جعفر وقبله بين عينيه وفي رواية قبل جبهته من أرض الحبشة اعتنقه النبى صلى الله عليه وسلم وقبله بين عينيه وجعل ذلك أصلا لاستحباب المعانقة
وقال بعضهم إنها مكروهة وحديث جعفر يحتمل أن يكون قبل النهى عنها فانه نهى عن المعاكمة وهى المعانقة وحمل ذلك بعضهم على ما إذا كانت المعانقة من غير حائل
أقول لم يجب بذلك سيدنا مالك رضى الله عنه فإنه لما قدم عليه سفيان بن عيينة رضى الله عنه صافحه مالك وقال له لولا أنها بدعة لعانقتك فقال له سفيان قد عانق من هو خير منك ومنى النبى صلى الله عليه وسلم قال مالك تعنى جعفر بن أبى طالب
____________________
(2/756)
قال نعم قال حبيب خاص ليس بعام أى فذلك من خصوصياته فقال له سفيان ماعم جعفرا يعمنا وما يخصه يخصنا أى فالأصل عدم الخصوصية ثم قال له سفيان أتأذن لى أن أحدثك بحديثك قال نعم فقال حدثنى فلان عن فلان عن ابن عباس رضى الله عنهما وذكر الحديث المتقدم عنه وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم التزم زيد بن حارثة رضى الله عنه حين قدم عليه من مكة
وأما المصافحة فقد جاء أن أهل اليمن لما قدموا المدينة صافحوا الناس بالسلام فقال النبى صلى الله عليه وسلم إن أهل اليمن قد سنوا لكم المصافحة وقال من تمام محبتكم المصافحة وقال صلى الله عليه وسلم لصفوان بن أمية لما قدم عليه والى عدى ابن حاتم قال السهيلى وليس هذا معارضا لحديث من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار لأن هذا الوعيد إنما توجه للمتكبرين وإلى من يغضب أن لا يقام له وكان صلى الله عليه وسلم يقوم لفاطمة رضى الله عنها وكانت تقوم له صلى الله عليه وسلم هذا كلامه والله أعلم
ولما رآه صلى الله عليه وسلم جعفر حجل أى مشى على رجل واحدة إعظاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أهل الحبشة يفعلون ذلك للتعظيم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له أشبهت خلقى وخلقى وفى لفظ جعفر أشبه الناس بى خلقا وخلقا وكان صلى الله عليه وسلم يسميه أبا المساكين لأنه رضي الله عنه كان يجب المساكين ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه
وذكر بعضهم أنه لما قال له صلى الله عليه وسلم أشبهت خلقى وخلقى رقص من لذة هذا الخطاب ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم رقصه وجعل ذلك أصلا لجواز رقص الصوفية عند ما يجدونه من لذة المواجيد من مجالس الذكر والسماع ثم قال صلى الله عليه وسلم والله ما أدرى بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر رضى الله عنه
وقيل قدم مع جعفر رضى الله عنه سبعون رجلا عليهم ثياب الصوف منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية روميون من أهل الشام
وفى لفظ قدم مع جعفر رضى الله عنه سبعون كافرا أصحاب الصوتمع وقيل كانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميون من أهل الشام وقيل كانوا ثمانين رجلا
____________________
(2/757)
أربعون من أهل نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميون من أهل الشام فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها فبكوا وأسلموا وقالوا ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه الصلاة والسلام
أى ولعل هؤلاء الذين من الحبشة هم المرادون بقول بعضهم ووفد إليه وفد النجاشى فقام صلى الله عليه وسلم يخدمهم بنفسه فقال له أصحابه نحن نكفيك يا رسول الله فقال إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإنى أحب أن أكافئهم وفى لفظ وقدم عليه أيضا أبو هريرة رضى الله عنه وطائفة من قومه وهم دوس كما تقدم
قال أبو هريرة رضى الله عنه قدمنا المدينة ونحن ثمانون بيتا من دوس فصلينا الصبح خلف سباع بى عرفطة الغفارى فأخبرنا أن النبى صلى الله عليه وسلم بخيبر فزودنا سباع ثم جئنا خيبر وهو محاصر الكثيبة فأقمنا حتى فتح الله أى وكان من جملة من قدم معهم من بلاد الحبشة أم حبيبة بنت أبى سفيان رضى الله عنهما زوج النبى صلى الله عليه وسلم تزوجها أى عقد عليها وهى بالحبشة فإنها كانت ممن هاجر الهجرة الثانية للحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش فارتد عن الإسلام هناك وتنصر ومات على ذلك وبقيت هى على إسلامها كما تقدم وقد أرسل صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية ألضمرى رضى الله عنه فى المحرم افتتاح سنة سبع إلى النجاشى ليزوجها منه صلى الله عليه وسلم قالت أم حبيبة رضى الله عنها رأيت فى المنام كأن قائلا يقول لى يا أم المؤمنين ففزعت فأولتها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجنى قالت فما شعرت إلى وقد دخلت على جارية النجاشى فقالت لى إن الملك يقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يزوجك منه فقلت لها بشره الله بالخير ويقول لك وكلى من يزوجك فأرسلت بالوكالة إلى خالد بن سعيد رضى الله عنه أى وأعطت تلك الجارية سوارين وخدمتين أى خلخالين وخواتيم فضة سرورا بما بشرت به فلما كان العشى أمر النجاشى جعفر بن أبى طالب ومن معه من المسلمين فحضروا وخطب النجاشى رضى الله عنه فقال الحمد لله الملك القدوس أى فى لفظ بدل ذلك المؤمن المهيمن العزيز الجبار أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنه الذى بشر به عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أن أزوجه ام حبيبة بنت أبى سفيان فأجبنا إلى مادعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصدقها
____________________
(2/758)
أربعمائة دينار أى وفى لفظ أربعمائة مثقال ذهب ثم سكب الدنانير بن يدى القوم فتكلم خالد بن سعيد بن العاص رضى اللله عنه فقال الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الادين كله ولو كره المشركون أما بعد فقد أجبت إلى مادعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته أم حبيبة بنت أبى سفيان فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم أى ودفع النجاشى الدنانير لخالد بن سعيد فقبضها منه وقيل إنه أنقدها النجاشى على يد جاريته التى بشرتها فلما جاءتها بتلك الدنانير أعطتها خمسين دينارا وقد يقال يجوز أن يكون النجاشى استردها من خالد ثم دفعها لتلك الجارية أو أمر خالد بن سعيد بدفعها للجارية لتدفعها لأم حبيبة فلا مخالفة وهذا السياق يدل على أن النجاشى كان هو الوكيل عنه صلى الله عليه وسلم وفى كلام بعض فقهائنا أنه صلى الله عليه وسلم وكل عمرو بن أمية فى نكاح أم حبيبة
وقد يقال معنى توكيل عمرو إرساله بالوكالة للنجاشى أى ثم أرادوا أن يقوموا بعد العقد قال لهم النجاشى اجلسوا فإن من سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا قالت أم حبيبة رضى الله عنها فلما كان من الغد جاءتنى جارية النجاشى فردت على جميع ما أعطيتها وقالت إن الملك عزم على أن لا أرزأك شيئا وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر فجاءت بورس وعنبر وزباد كثير وقالت حاجتى إليك أن تقرئى رسول الله صلى الله عليه وسلم منى السلام وتعلميه أنى قد اتبعت دينه وكانت كلما دخلت على تقول لا تنسى حاجتى إليك ثم أرسل النجاشى أم حبيبة مع شرحبيل ابن حسنة أى قالت أم حبيبة ولما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته كيف كانت الخطبة ومافعلت معى جارية النجاشى وأقرأته منها السلام فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال وعليها السلام ورحمة الله وبركاته
وجاء أنه لما رجعت إليه صلى الله عليه وسلم مهاجرة الحبشة قال ألا تخبرونى بأعجب شىء رأيتم بأرض الحبشة فقال فتية منهم يا رسول الله بينما نحن جلوس إذ مرت بنا عجوز من عجائزهم وعلى رأسها قلة فيها ماء فمرت بصبى فدفعها فوقعت على ركبتيها فانكسرت قلتها فلما ارتفعت أى قامت التفتت إليه فقالت سوف تعلم
____________________
(2/759)
يا غدر إذا وضع الله الكرسى وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدى والأرجل بما كانوا يكسبون تعلم أمرى وأمرك عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقت كيف يقدس الله قوما لا يؤخذ لضعيفهم من قويهم
وذكر أنه لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر ودنا بعث محيصة ابن مسعود إلى أهل فدك يدعوهم إلى الإسلام ويخوفهم قال محيصة فجئتهم فجعلوا يتربصون ويقولون إن بخيبر عشرة آلاف مقاتل فيهم عامر وياسر والحارث وسيد اليهود مرحب ما نرى أن محمد يقرب إليه فمكثت عندهم يومين ثم أردت الرجوع فقالوا نحن نرسل معك رجالا منا يأخذون لنا الصلح كل ذلك وهم يظنون أنه صلى الله عليه وسلم لا يقدر على فتح خيبر حتى جاءهم أناس من حصن ناعم وأخبروهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحه فأرسلوا رجلا من رؤسائهم يقال له نون بن يوشع فى نفر يصالحون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم ويجليهم ويخلوا بينه وبين الأموال ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقيل تصالحوا معه على أن يكون لهم نصف الأرض ولرسول الله صلى الله عليه وسلم النصف الآخر فكان فدك على الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الثانى كان له نصفها لأنها لم تؤخذ بمقاتلة فكان صلى الله عليه وسلم ينفق منها ويعود منها على صغير بنى هاشم ويزوج منها أيمهم
ولما مات صلى الله عليه وسلم وولى أبو بكر رضى الله عنه الخلافة سألته فاطمة رضى الله عنها أن يجعلها أو نصفها لها فأبى وروى لها أنه صلى الله عليه وسلم قال إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة أى على المسلمين
ومما يؤيد الثانى ماقيل إنه أجلاهم عمر رضى الله عنه مع يهود خيبر كما سيأتى اشترى منهم حصتهم التى هى النصف بمال بيت المال
فلما صارت الخلافة لعمر بن عبد العزيز رضى اله عنه فقيل له إن مروان اقتطعها أى جعلها أقطاعا له فقال أرأيتم أمرا منعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة أى بقوله صلى الله عليه وسلم لا نورث ما تركناه صدقة ليس لى بحق وإنى أشهدكم أنى قد رددتها على ماكانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أى صدقة على المسلمين وطلب الصلح كان بعد أن أرادت غطفان وسيدهم عيينة بن حصن أن يعينوا أهل خيبر
____________________
(2/760)
أى وكانوا أربعة آلاف فإن يهود خيبر لما سمعوا بمجيئه صلى الله عليه وسلم إليهم أرسلوا كنانة بن أبى الحقيق وهودة بن قيس فى أربعة عشر رجلا إلى غطفان ليستمدوا بهم وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن غلبوا على المسلمين فجمعوا ثم خرجوا ليظاهروا يهود خيبر
أى ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم أن لا يعينوهم على أن يعطيهم من خيبر شيئا سماه لهم أى وهو نصف ثمارها فأبوا وقالوا جيراننا وحلفاؤنا فلما ساروا قليلا خلفهم فى أموالهم وأهليهم حسا ظنوه أن المسلمين أغاروا على أهاليهم أى فألقى الله الرعب فى قلوبهم فرجعوا على الصعب والذلول أى مسرعين على أعقابهم فأقاموا فى أهليهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل خيبر أى وفى رواية سمعوا صوتا أيها الناس أهليكم خولفتم إليهم فرجعوا فلم يروا لذلك نبأ
ويدل للثانى أن غطفان لما قدموا عليه صلى الله عليه وسلم خيبر قال عيينة بن حصن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وجده صلى الله عليه وسلم فتح حصونها أعطنا الذى وعدتنا
وفى رواية أعطنى مما غنمت من حلفائى فإنى امتنعت عنك وعن قتالك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبت ولكن الصياح الذى سمعت أنفذك إلى أهلك ولكن لك ذو الرقيبة قال عيينة وما ذو الرقيبة قال الجبل الذى رأيت فى منامك أنك أخذته
أى فإن عيينة بن حصن لما سمع الصوت ورجع إلى أهله ولم يجد شيئا رجع بعد ذلك بمن معه إلى خيبر وأنهم بالقرب منها عرسوا من الليل فنام عيينة وانتبه وقال لقومه أبشروا فإنى رأيت الليل فى النوم أنى أعطيت ذا الرقيبة وهو جبل بخيبر لقد والله أخذت برقبة محمد فلما قدم خيبر وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر الحديث وقدم عليه صلى الله عليه وسلم حينئذ أيضا حجاج بن علاط السلمى وأسلم والعلاط وسم فى العنق وهو أبو نصر بن حجاج الذى نفاه عمر رضى الله عنه لما سمع أم الحجاج ابن يوسف الثقفى تهتف به وتقول الأبيات التى منها ** هل من سبيل إلى خمر فأشربها ** أم من سبيل إلى نصر بن حجاج **
ومن
____________________
(2/761)
ثم قال عروة بن الزبير يوما للحجاج يا ابن المتمنية يعيره بذلك وكان الحجاج مكثرا من المال فقال يا رسول الله إن مالى عند إمرأتى بمكة ومتفرق فى تجار مكة فأذن لى أن آتى مكة لآخذ مالى قبل أن يعلموا بإسلامى فلا أقدر على أخذ شىء منه فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله لا بد لى من أن أقول أى أتقول وأذكر ماهو خلاف الواقع أى ما أحتال به لما يوصل إلى أخذ مالى قال قل قال فخرجت حتى انتهيت إلى الحرم فإذا رجال من قريش يتشممون الأخبار وقد بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار إلى خيبر أى أهل القوة والمنعة بعد ماوقع بينهم من المراهنة على مائة بعير فى أن النبى صلى الله عليه وسلم يغلب أهل خيبر أولا فقال حويطب ابن عبد العزى وجماعة بالأول وقال عباس بن مرداس وجماعة بالثانى فقالوا حجاج عنده والله الخبر ولم يكونوا علموا بإسلامى يا حجاج إنه قد بلغنا أن القاطع يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار إلى خيبر فقلت عندى من الخبر مايسركم فاجتمعوا على يقولون إيه يا حجاج فقلت لهم لم يلق محمد وأصحابه قوما يحسنون القتل غير أهل خيبر فهزم هزيمة لم يسمع بمثلها قط وأسر محمد وقالوا لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة فنقلته بين أظهرهم
وفى لفظ يقتلونه بمن كان أصاب من رجالهم فصاحوا وقالوا لأهل مكة قد جاءكم الخبر هذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم قال حجاج وقلت لهم أعينونى على غرمائى أريد أن اقدم فأصيب من غنائم محمد وأصحابه قبل أن يسبقنى التجار إلى ماهناك فجمعوا لى مالى على أحسن مايكون ففشا ذلك بمكة وأظهر المشركون الفرح والسرور وانكسر من كان بمكة من المسلمين وسمع بذلك العاس بن عبد المطلب رضى الله تعالى عن فجعل لا يستطيع أن يقوم ثم بعث إلى حجاج غلاما وقال قل له يقول لك العباس الله أعلى وأجل من أن يكون الذى جئت به حقا فقال له حجاج أقرىء على أبى الفضل السلام وقل له ليخل لى بعض بيوته لآتيه بالخبر على مايسره واكتم عنى فاقبل الغلام فقال أبشر أبا الفضل فوثب العباس فرحا كأن لم يمسه شىء وأخبره بذلك فاعتقه العباس رضى الله تعالى عنه وقال لله على عتق عشر رقاب
فلما كان ظهرا جاءه حجاج فناشده الله أن يكتم عنه ثلاثة أيام أى وقال إنى أخشى
____________________
(2/762)
الطلب فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فوافقه العباس على ذلك فقال إنى قد أسلمت وإن لى مالا عند امرأتى ودينا على الناس ولو علموا بإسلامى لم يدفعوه إلى إنى تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر وجرت سهام اله وسهام رسوله فيها وتركته عروسا بابنة ملكهم حيى بن أخطب وقتل ابن أبى الحقيق
فلما أمسى حجاج خرج وطالت على العباس تلك الليالى الثلاث فلما مضى حجاج أى ومضت الثلا عمد العباس رضى الله تعالى عنه إلى حلة فلبسها وتحلق بخلوق وأخذ بيده قضيبا ثم اقبل يخطر حتى أتى مجالس قريش وهم يقولون إذا مر بهم لا يصيبك إلا خير يا أبا الفضل هذا والله التجلد بحر المصيبة قال كلا والله الذى حلفتم به لم يصبنى إلا خير بحمد الله أخبرنى حجاج أن خيبر فتحها الله على يد سوله صلى الله عليه وسلم وجرت فيها سهام الله وسهام رسول الله واصطفى رسول الله صفية بنت ملكهم حيى بن أخطب لنفسه وأنه تركه عروسا بها أى وإنما قال ذلك لكم ليخلص ماله وإلا فهو ممن أسلم فرد الله الكآبة التى كانت بالمسلمين على المشركين فقال المشركون ألا يا عباد الله انفلت عدو الله يعنون حجاجا أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر بذلك هذا
وفى الدلائل للبيهقى رحمه الله لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر قال حجاج ابن علاط يا رسول الله إن لى بمكة مالا وإن لى بها أهلا وأنا أريد أن آتيهم فأنا فى حل إن أنا نلت منك وقلت شيئا فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ماشاء فقال لامرأته حين قدم أخفى على واجمعى ماكان عندك فإنى أريد أن أشترى من غنائم محمد وأصحابه فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم ففشا ذلك بمكة ك فاشتد ذلك على المسلمين وأظهر المشركون فرحا وسرورا وبلغ العباس رضى الله تعالى عنه الخبر فقعد وجعل لا يستطيع أن يقوم فارسل العباس رضى الله تعالى عنه غلاما له إلى الحجاج ويلك ماتقول فالذى وعد الله خير مما جئت به فقال جاج يا غلام أقرىء أبا الفضل السلام وقل له فليخل بى فى بعض بيوته فآته بالخبر على مايسره فلما بلغ العبد باب الدار قال أبشر يا أبا الفضل فوثب العباس فرحا حتى قبل مابين عينيه فاخبره بقول حجاج فاعتقه ثم جاء حجاج فأخبره بافتتاح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وغنم أموالهم وأن سهام الله قد جرت فيها وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطفى صفية
____________________
(2/763)
بنت حيى لنفسه وخيرها بين أن يعتقها وتكون له زوجة أو يلحقها بأهلها فاختارت أن يعتقها وتكون له زوجة ولكن جئت لمالى ههنا أن أجمعه وأذهب به وإنى استاذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول فأذن لى أن أقول ما شئت فأخف على يا أبا الفضل ثلاثا ثم اذكر ماشئت قال فجمعت له امرأته متاعه فلما كان بعد ثلاث أتى العباس رضى الله تعالى عنه امرأة حجاج فقال مافعل زوجك قالت ذهب وقالت لا يحزنك الله يا أبا الفضل لقد شق علينا الذي بلغك فقال أجل لا يحزنني الله فلم يكن لمحمد إلا ماأحب فتح الله على يد رسوله خيبر واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه فإن كان لك فى زوجك حاجة فالحقى به قالت أظنك والله صادقا قال فإنى والله صادق والأمر على ما أقول ثم ذهب حتى أتى مجلس قريش الحديث
قال ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر كان التمر أخضر فأكثر الصحابة من أكله فأصابتهم الحمى فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بردوا لها الماء فى الشنان أى القرب ثم صبوا عليكم منه بين أذانى الفجر واذكروا اسم الله عليه ففعلوا فذهبت عنهم
وعن سلمة بن الأكوع رضى الله تعالى عنه أصابتنى ضربة يوم خيبر فقال الناس أصيب سلمة بن الأكواع فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفث فيها ثلاث نفثات فما اشتكيت منها ساعة
وفى هذه الغزوة أراد صلى الله عليه وسلم أن يتبرز فقال لابن مسعود رضى الله تعالى عنه يا عبد الله انظر هل ترى شيئا فنطرت فإذا شجرة واحدة فأخبرته فقال لي انظر هل ترى شيئا فنظرت شجرة أخرى متباعدة من صاحبتها فأخبرته فقال قل لهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركما أن تجتمعا فقلت لهما ذلك فاجتمعا فاستتر بهما ثم قام فانطلقت كل واحدة إلى مكانها
وفى الإمتاع عن جابر بن عبد الله رضى الله تعالى عنهما سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلنا واديا أفيح فذهب رسول اله صلى الله عليه وسلم يقضى حاجته فاتبعته بإداوة من ماء فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير شيئا يستتر به فإذا بشجرتين بشاطىء الوادى فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها
____________________
(2/764)
فقال انقاذى على باذن اله تعالى فانقادت معه كالبعير المخشوش الذى يصانع قائده حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال انقاذى على باذن الله تعالى فانقادت معه كذلك حتى كان صلى الله عليه وسلم بالنصف مما بينهما ولأم بينهما وقال التئما على باذن الله تعالى فالتأما قال جابر رضى الله تعالى عنه فخلوت أحدث نفسى فحانت منى التفاتة فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا وإذا الشجرتان قد افترقتا وذهبت كل واحدة إلى محلها الحديث ولا بعد فى تعدد الواقعة
ووقع له صلى الله عليه وسلم مجىء بعض الشجر إليه قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى بعض شعاب مكة وقد دخله من الغم ماشاء الله من تكذيب قومه وقولهم له تضلل آباءك وأجدادك يا محمد ومن خضبهم له بالدماء فقال يا رب أرنى اليوم آية أطمئن إليها ولا أبالى بمن آذانى بعدها وكان ذلك الوادى به شجر فأمر أن يدعو شجرة من تلك الشجر وفى لفظ غصنا من أغصان شجرة فدعا ذلك فانتزع من مكانه وجاء إليه وسلم عليه ثم أمره صلى الله عليه وسلم بالعود فعاد إلى مكانه فحمد الله وطابت نفسه وعلم أنه على الحق وقال لا أبالى بمن آذانى بعد هذا من قومى
أقول ووقع له صلى الله عليه وسلم إجابة الحجر فعن تفسير الفخر الرازى أنه صلى الله عليه وسلم كان مع عكرمة بن أبى جهل بشط ماء فقال عكرمة للنبى صلى الله عليه وسلم إن كنت صادقا فادع ذلك الحجر لحجر كان فى الجانب الآخر يسبح فى الماء ويجىء إليك ولا يغرق فأشار إليه صلى الله عليه وسلم فانقلع ذلك الحجر من مكانه وسبح حتى صار بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد له بالرسالة فقال النبى صلى الله عليه وسلم لعكرمة يكفيك هذا فقال حتى يرجع إلى مكانه فأشار إليه صلى الله عليه وسلم فرجع إلى مكانه ولم يسلم عكرمة فى ذلك الوقت وإنما أسلم يوم فتح مكة والله أعلم
وعند خروجه صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغزوة أمر صلى الله عليه وسلم مناديا ينادى من كان مضيعا أو ضعيفا أو مصعبا أى راكبا دابة صعبة فليرجع فرجع ناس وارتحل مع القوم رجل على بكر صعب أو ناقة صعبة فنفر مركوبه فصرعه فاندقت فخذه فمات فلما جىء به إلى النبى صلى الله عليه وسلم قال ما شأن صاحبكم فأخبروه
____________________
(2/765)
قال يا بلال ما كنت أذنت فى الناس من كان مصعبا أى راكبا دابة صعبة فليرجع قال بلى فأبى صلى الله عليه وسلم أن يصلى عليه وأمر صلى الله عليه وسلم بلالا فنادى فى الناس الجنة لا تحل لعاص ثلاثا وفيها مات شخص من الصحابة فقال صلى الله عليه وسلم صلوا على صاحبكم وامتنع من الصلاة عليه فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال إن صاحبكم غل فى سبيل الله ففتشا متاعه فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يساوى درهمين
وفيها أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من المسلمين هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا أشد القتال فارتاب بعض الصحابة أى كيف يكون من أهل النار مع هذه المقاتلة الشديدة فلما كثرت الجراحات فى ذلك الرجل ووجد ألمها أخرج سهما من كنانته ونحر نفسه فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قم يا بلال فأذن لا يدخل الجنة إلا مؤمن وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة الحديث وفي رواية إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدر للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدر للناس وهو من أهل الجنة وتقدم في غزوة أحد مثل ذلك ولا بعد في التعدد إن لم يكن من الاشتباه على الراوي
أقول في سيرة الحافظ الدمياطي لما فتحت خبير واطمأن الناس جعلت زينب ابنة الحارث أخي مرحب وهي امرأة سلام بن مشكم تسأل أي الشاة أحب إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون اذراع قيل وإنما أحب صلى الله عليه وسلم الذراع لأنه هادي الشاة وأبعدها من الأذى فعمدت إلى عنزلها وصلتها ثم عمدت إلى سم لا يلبث أن يقتل من ساعته فسمت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتف فلما غابت الشمس وصلى رسول المغرب بالناس انصرف وهي جالسة عند رحله فسال عنها فقالت يا أبا القاسم هدية أهديتها لك فأمر بها صلى الله عليه وسلم فأخذت منها فوضعت بين يديه صلى الله عليه وسلم وأصحابه حضور أو من حضر منهم وفيهم بشر بن البراء بن معرور فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادنوا فقعدوا وتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فانتهش منه فلما ازدرد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفمة ازدرد بشر ما في فه وأكل القوم منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/766)
ارفعوا أيديكم فإن هذه الذراع أو الكتف تخبرني أنها مسمومة فقال بشر والذي أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي أي لقمتي التي أكلت فما منعني أن ألفظها إلا أن أنغص عليك طعامك فلما أكلت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك ورجوت أن لا تكون ازدردتها فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان أي أسود وماطله وجعه سنة لا يتحول إلا ما حول ثم مات
وقال بعضهم فلم يقم بشر من مكانه حتى توفي أي والمتبادر من المكان مكان الأكل وربما يدل له عدم ذكر بشر في الحجامة وطرح منها لكلب فمات اه أي فلم يأكل إلا بشر رضي الله تعالى عنه
وحينئذ يكون المراد بقوله وأكل القوم منها أي أرادوا الاكل أي ووضعوا أيديهم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم ارفعوا أيديكم ويدل له ما يأتي عن الإمتاع وفي الأصل أنها أهدتها لصفية رضي الله تعالى عنها فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور فقدمت إليهما تلك الشاة فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف وفي رواية الذراع فانتهش منه قطعة فلاكها ثم ألقاها أي ولم يبتلعها أي وانتهش من الشاة بشر قطعة فابتلعها ثم نهى رسول اله صلى الله عليه وسلم عن تناول شيء مها وقال إن كتف هذه الشاة تخبرني أني نعيت فيها فقال بشر والذي أكرمك لقد وجدت ذلك فيما اكلته فما منعني من لفظه إلا أني أعظمت أن أنغصك طعاما فلم يقم بشر رضي الله تعالى عنه من مكانه حتى كان لا يتحول إلا إن حول وإلى هذا أشار الإمام السبكي في تائيته بقوله ** وأحييت عضو الشاة بعد مماتها ** فجاء بنطق موضح للنصيحة ** ** وقال رسول الله لاتك آكلي فزينب سامتني الهوان وسمت **
وهذا يؤيد القول بأن كلام نحو الجماد يكون بعد أن يخلق الله فيه الحياة
ومذهب الاشعري رحمه الله أن الله يخلق في نحو الجماد حروفا وصوتا يحدث ذلك فيه أي وليس من لازم ذلك وجود الحياة
واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كاهله أي حجمه أبو طيبه مولى بني بياضه وقيل أبو هند وهو مولى بني بياضة أيضا أي وأمر أصحابه فاحتجموا أوساط رءوسهم أي وهم كما في الإمتاع ثلاثة نفر وضعوا ايديهم في الطعام ولم يصيبوا منه شيئا وفيه أنه
____________________
(2/767)
لا معنى لاحتجام اصحابه إذا لم يأكلوا شيئا ومن ثم قال في سفر السعادة واحتجم صلى الله عليه وسلم بين الكتفين في ثلاثة مواضع وامر من أكل أي من أراد أن يأكل معه بذلك إلا أن يقال مجرد وضع اليد ربما سرى بسببه السم إلى باقي الجسد وقال صلى الله عليه وسلم الحجامة في الرأس هي المعينة أمرني بها جبريل عليه السلام حين أكلت طعام اليهودية
وقد احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير هذه الواقعة مرارا في محال مختلفة فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم احتجم على الأخدعين مرتين واحتجم وسط راسه الشريف وكان يسميها منقذة أي وذلك لما سحر
ففي سفر السعادة لما سحره اليهودي ووصل المرض إلى الذات المقدسة النبوية أمر صلى الله عليه وسلم بالحجامة على قبة رأسه المباركة واستعمال الحجامة في كل متضرر بالسحر غاية الحكمة ونهاية حسن المعالجة ومن لاحظ له في الدين والإيمان يستشكل هذا العلاج هذا كلامه
ودخل عليه صلى الله عليه وسلم الاقرع بن حابس وهو يحتجم في القمحذوة فقال يا ابن أبي كبشة لم احتجمت وسط رأسك فقال يا ابن حابس إن فيها شفاء من وجع الراس والأضراس والنعاس والجنون أي وفي الحديث الحجامة في الراس شفاء من سبع من الجنون والصداع والجذام والبرص والنعاس ووجع الضرس وظلمة يجدها في عينيه وفي الحديث اجتنبوا الحجامة يوم الجمعة والسبت والأحد وفي بعض الروايات يوم الأحد شفاء ويحتاج للجمع
وجاء النهي عن الحجامة يوم الثلاثاء أشد النهي وقال فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم وفي حديث بعض رواته واهي الحديث احتجم صلى الله عليه وسلم ثلاثا في النقرة والكاهل ووسط الرأس وسمى واحدة الدافعة والأخرى المعينة والأخرى المنقذة وقال خير ما تداويتم به الحجامة وما مررت ليلة اسرى بي بملأ من الملائكة إلا قالوا يا محمد أمر أمتك بالحجامة
قال في الهدى والحجامة في البلاد الحارة أنفع من الفصد والأولى أن تكون في الربع الثالث من الشهر لأنه وقت هيجان الدم
____________________
(2/768)
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان شفاء من كل داء والحجامة على الريق دواء وعلى الشبع داء
وتكره في الأربعاء والسبت قيل ويوم الجمعة وفي الحديث من احتجم يوم الأربعاء أو السبت وحصل له برص لا يلومن إلا نفسه وجاء أمره صلى الله عليه وسلم باجتناب الحجامة يوم الأربعاء فإنه اليوم الذي أصيب فيه أيوب عليه السلام بالبلاء وما يبدر جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء وليلة الأربعاء
ثم أرسل رصول الله صلى الله عليه وسلم إلى تلك اليهودية فقال أسممت هذه الشاة فقال من أخبرك قال أخبرتني هذه التي في يدي وهي الذراع قال نعم قال ما حملك على ما صنعت قالت بلغت من قومي ما لا يخفى عليك أي وفي لفظ قتلت أبي وعمي وزوجي ونلت من قومي مانلت فقلت إن كان ملكا استرحنا منه وإن كان نبيا فسيخبر فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ذلك يشير صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله ** ثم سمت له اليهودية الشا ة وكم سام الشقوة الأشقياء ** ** فأذاع الذراع ما فيه من سم بنطق إخفاؤه إبداء ** ** وبخلق من النبي كريم لم تقاصص بجرحها العجماء **
أي ثم جعلت اليهودية السم القاتل لوقته في الشاة ومرات كثرة يطلب الشقوة ويتحلى بها الأشقياء الذين لا خلاق لهم فأخبر ذلك الذراع النبي صلى الله عليه وسلم بالنطق بما فيه من السم إخفاء ذلك النطق عن الحاضرين إبداء وإظهار له صلى الله عليه وسلم وبسبب ما تحلى به صلى الله عليه وسلم من كمال الحلم والعفو لم يقاصص تلك المراة بجرحها أي بجرح سمها لأن السم يجرح الباطن كما يجرح الحديد الظاهر
فلما مات بشر رضي الله تعالى عنه أمر بها فقتلت أي وقيل وصلبت كما في أبي داود وعبارة السهيلي رحمه الله وقد روى أبو داود أنه قتلها ووقع في كتاب شرف المصطفى أنه قتلها هذا كلامه وقيل إنما تركها لأنها اسلمت فالعفو عنها أي عدم مؤاخذتها كان قبل أن يموت بشر رضي الله تعالى عنه فلما مات بشر دفعها صلى الله عليه وسلم إلى أولياء بشر فقتلوها
وفي الإمتاع واختلفت الآثار في قتلها وفي صحيح مسلم أنه لم يقتلها وقال ابن
____________________
(2/769)
إسحاق أجمع أهل الحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها وقد علمت أنه لا مخالفة لكن قتلها مشكل على ما عليه أئمتنا معاشر الشافعية من أن من ضيف بمسموم يقتل غالبا مميزا فمات كان شبه عمد لا قود فيه
وفي كلام بعضهم أنها قالت قد استبان لي الآن أنك صادق وأني أشهدك ومن حضر أني على دينك وأن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فانصرف عنها حين أسلمت كذا في جامع معمر عن الزهري أنها أسلمت قال معمر هكذا قال الزهري إنها أسلمت والناس يقولون قتلها وإنها لم تسلم وأمر صلى الله عليه وسلم بتلك الشاة فأحرقت
وفي رواية أنه بعد سؤال اليهودية واعترافها بسط صلى الله عليه وسلم يده إلى الشاة وقيل لأصحابه كلوا باسم الله فأكلوا وقد سموا الله فلم يضر ذلك أحدا منهم قال ابن كثير وفيه نكارة وغرابة شديدة هذا كلامه
ويذكر أن أخت بشر بن البراء دخلت عليه صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه فقال لها هذا أوان انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخبير والأبهر العرق المتعلق بالقلب
وقد قسم صلى الله عليه وسلم غنائم خيبر فأعطى الراجل سهما والفارس ثلاثة أسهم بعد أن خمسها خمسة أجزاء ومن جملة من أعطاه صلى الله عليه وسلم أبو سبيعة بن المطلب ابن عبد مناف واسمه علقمة ولم يقسم صلى الله عليه وسلم لمن غاب من أهل الحديبية إلا لجابر ابن عبد الله رضي الله تعالى عنهما ورضخ صلى الله عليه وسلم لنساء أي وكن عشرين امرأة فيهن صفية عمته صلى الله عليه وسلم وأم سليم وأم عطية الأنصارية
وعن بعضهم قالت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فقلت يا رسول الله قد أردن الخروج معك نعين المسلمين ما استطعنا فقال على بركة الله قالت فخرجنا معه فلما افتتح خبير رضخ لنا وأخذ هذه الفلادة ووضعها في عنقي فوالله لا تفارقني أبدا وأوصت أنها تدفن معها زاد في السيرة الهشامية أنها قالت وكنت جارية حديثة السن فأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله قالت فلما كان الصبح وأناخ راحلته ونزلت عن حقيبة رحله وإذا بها دم مني وكانت أول حيضة حضتها قالت فتقبضت إلى الناقة واستحييت فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/770)
وسلم حال قال مالك لعلك نفست قالت قلت نعم قال فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما اصاب الحقيبة من الدم ثم عودي لمرتحلك قالت فكنت لا أطهر من حيضة إلا جعلت في طهري ملحا وأوصت أن يجعل ذلك في غسلها حين ماتت
ثم دفع صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر الأرض لما قالوا له صلى الله عليه وسلم نحن أعلم بها منكم وأعمرها بشرط ما يخرج منها من تمر أو زرع وقال لهم على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم أي وهذا يخالف ما عليه ائمتنا من أنه لا يجوز في عقد الجزية أن يقول الإمام أو نائبه أقركم ما شئنا بخلاف ما شئتم لأنه تصريح بمقتضى العقد لان لهم نبذ العقد ما شاءوا وذكر أئمتنا أنه يجوز منه صلى الله عليه وسلم لا منا أن يقول أقررتكم ما شاء الله لأنه يعلم مشيئته الله دوننا والشطر في هذا ظاهر في النصف ولم أقف على تعيينه في رواية
وكان صلى الله عليه وسلم يرسل إلى أهل خيبر عبد الله بن راوحة رضي الله عنه خارصا قيل وإنما خرص عليهم عبد الله عاما واحدا ثم مات وهذا يخالفه قول بعضهم كان عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه يأتيهم كل عام يخرصبها يعني الثمار عليم ثم يضمنهم الشطر فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شة خرصه وأرادوا أن يرشوه فقال يا أعداء الله تطعموني السحت والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي ولأنتم أبغض إلي من القردة والخنازير ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل فقالوا بهذا قامت السموات والأرض وكان يخرض عليهم بعده جبار بن صخر وكان خارصا لاهل المدينة
أقول أي ساقاهم على النخل وزارعهم على الأرض هكذا استدل بذلك أئمتنا على ما ذكر أي على جواز المساقاة وجواز المزارعة تبعا لها ويكون ذلك مخصصا للنهي عن المزارعة أي لما لم تكن تبعا للمساقاة وهو لا يتم إلا إن كانت أرض خيبر جميعها بين النخل بحيث يعسر سقيها بدون النخل وأنه صلى الله عليه وسلم دفع لهم بذارا لأن في المزارعة يجب أن يكون البذر من المالك لا من العامل
ولم أقف في شيء من الطرق على أنه صلى الله عليه وسلم دفع لهم بذارا بل ظاهر الروايات يدل على أن البذر معهم وصرحت به رواية مسلم
____________________
(2/771)
ويبعد أن تكون أراضي خيبر كلها كانت بين النخل بحيث يعسر سقيها بدون النخل وحينئذ يكون الواقع في خيبر إنما هي المخابرة وهي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها والبذر من العامل وهي باطلة عندنا بل قيل عند المذاهب الأربعة ولو تبعا للمساقاة والله اعلم
ثم إن الصديق رضي الله تعالى عنه أقرهم بعده صلى الله عليه وسلم ثم أقرهم عمر رضي الله تعالى عنه إلى أن خرج ولده عبد الله رضي الله تعالى عنهما في خلافة أبيه إلى خيبر فعدى عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه فقام عمر رضي الله تعالى عنه خطيبا فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل اهل خيبر على أموالهم أي أرضهم ونخلهم وقال لهم نفركم على ما أقركم الله وإن عبد الله بن عمر خرج إلى ماله هناك فعدى عليه من الليل ففدعت يداه ورجلاه وليس لنا هناك عدو غيرهم وقد رأيت إجلاءهم أي ووافقه الصحابة على ذلك فإن عمر رضي الله تعالى عنه قام خطيبا في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ايها الناس إن يهود فعلوا بعبد الله بن عمر ما فعلوا وفعلوا بمطهر ابن رافع ما فعلوا مع عدوانهم على عبد الله بن سهيل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أشك أنهم أصحابه وأن أريد أن أجلو يهود فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقركم ما أقركم الله وقد أذن الله في إجلائهم فقام طلحة بن عبيدالله فقال قد والله احسنت يا أمير المؤمنين ووفقت فهم أهل سوء فقال عمر رضي الله تعال عنه من معك على مثل رأيك قال المهاجرون جميعا والأنصار فسر بذلك عمر رضي الله تعالى عنه
وقوله وفعلوا بمطهر ما فعلوا أي لأن مطهر بن رافع قدم خيبر بأعلاج من الشام عشرة عبيد له ليعلموا له بأرضه فأقام بخيبر ثلاثة أيام فقال لهم رجل من يهود أنتم نصارى ونحن يهود وهذا سيدكم من قوم عرب قهرونا بالسيف وانتم عشرة رجال ورجل واحد يسوقكم إلى الجهد والبؤسي وتكونون في رق شديد فإذا خرجتم من قريتنا فاقتلوه فقالوا له ليس معنا سلاح فدست اليهود لهم سكينتين أو ثلاثة فلما خرجوا من خيبر أقبلوا على مطهر بسكاكينهم فخرج مطهر يعدو إلى سيفه وكان في قرابه على راحلته فأدركوه قبل الوصول إليه وبعجوا بطنه ثم انصرفوا سراعا حتى دخلوا
____________________
(2/772)
خيبر على يهود فآووهم وزودوهم إلى الشام وجاء عمر رضي الله تعالى عنه الخبر بقتل مطهر وما صنعت به يهود
وقوله مع عدوانهم عل عبد الله بن سهيل أي فإنه وجد قتيلا في خيبر لأهل حصن الشق فسألهم أخوه محيصة فقالوا له لا والله ما لنا به من علم قال فجئت أنا وأخي عبد الرحمن وأخي حويصة وهو أكبرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أخي عبد الرحمن يتكلم وهو اصغرنا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر كبر فسكت فأردت أن أتكلم فقال كبر كبر فسكت فتكلم أخي حويصة وذكر أن اليهود تهمتنا وظنتنا فقال صلى الله عليه وسلم إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحرب وكتب صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك وكتبوا إليه ما قتلناه فقال صلى الله عليه وسلم لي ولأخوي تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم قلنا يارسول الله لم نحضر ولم نشهد قال فتحلف لكم يهود قلنا يا رسول الله ليسوا بمسلمين فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده بمائة ناقة خمس وعشرين جذعة وخمس وعشرين حقة وخمس وعشرين ابنة لبون وخمس وعشرون بنت مخاض
وعن ابن المسيب رحمه الله كانت القسامة في الجاهلية ثم أقرها صلى الله عليه وسلم في الإسلام في الأنصاري الذي وجد قتيلا في جب من جباب اليهود فلما أجمع الصحابة على ذلك أي على ما أراده سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه جاءه أحد بني الحقيق فقال يا أمير المؤمنين اتخرجنا وقد أقرنا محمد صلى الله عليه وسلم وعاملنا على أموالنا وشرط ذلك لنافقال له عمر رضي الله تعالى عنه أظننت أني نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لك كيف بك إذا أخرجت من خيبر يعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة فقال هذه كانت هزيلة من ابي القاسم فقال كذبت يا عدو الله ثم بلغه رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال لا يبقى دينان في جزيرة العرب وقوله لأخرجن اليهود والنصارى وفي لفظ المشركين من جزيرة العرب وفي رواية آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم اخرجوا اليهود من الحجاز وفي لفظ إن عشت أخرجت اليهود والنصارى من الحجاز أي وهو مكة والمدينة واليمامة وطرقها وقراها كالطائف لمكة وخيبر للمدينة والمراد بجزيرة العرب الحجاز المشتملة عليه أي فالمراد بجزيرة العرب بعضها وهو الحجاز خاصة لأن عمر لما أجلاهم ذهب بعضهم إلى تيما وبعضهم
____________________
(2/773)
إلى أريحا وتيما من جزيرة العرب لكنها ليست من الحجاز وقيل له حجاز لأنه حجز بين نجد وتهامة ففحص عمر رضي الله تعالى عنه عن ذلك حتى تيقنه وثلج صدره فأجلى يهود خيبر أي وأعطاهم قيمة ما كان لهم من ثمر وغيره
وأجلى يهو فدك ونصارى نجران فلا يجوز إقامتهم بذلك أكثر من ثلاثة أيام غير يومي الدخول والخروج ولم يخرج يهود وادي القرى وتيما لانهما من ارض الشام لا من الحجاز
ثم ركب في المهاجرين والأنصار وخرج معه جبار بن صخر ويزيد بن ثابت فقسما خيبر على أصحاب السهمان التي كانت عليها كما قسمت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وروى أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر اصاب حمارا أسود فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اسمك قال يزيد بن شهاب أخرج الله من نسل جدي ستين حمارا كلهم لا يركبهم إلا نبي وقد كنت أتوقعك لتركبني لم يبق من نسل جدي غيري ولم يبق من الأنبياء غيرك قد كنت لرجل يهودي فكنت اتعثر به عمدا وكان يجيع بطني ويضر بظهري فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فأنت يعفور وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه إلى باب الرجل فيأتي الباب فيقرعه برأسه فإذا خرج صاحب الدار أومأ إليه أن أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقى نفسه في بئر جزعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات قال ابن حبان هذاخبر لا أصل له وإسناده ليس بشيء وقال ابن الجوزي لعن الله واضعه فإنه لم يقصد الا القدح في الإسلام والاستهزاء به وقد قال شيخنا العماد بن كثير هذا شيء باطل لا أصل له من طريق صحيح ولا ضعيف وسألت شيخنا المزي رحمه الله فقال ليس له اصل وهو ضحكة وقد أودعه كتبهم جماعة منهم القاضي عياض في الشفاء والسهيلي في روضه وكان الأولى ترك ذكره ووافقه على ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى وغفر لنا وله وللمسلمين
____________________
(2/774)
غزوة وادي القرى
ثم عند منصرفله صلى الله عليه وسلم من خيبر أتى وادي القرى وأهله يهود فدعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فامتنعوا من ذلك وقاتلوا أي برز رجل منهم فقتله الزبير رضي الله تعالى عنه فبرز آخر فقتله علي كرم الله وجهه ثم برز آخر فقتله أبو دجانة رضي الله تعالى عنه فقاتلهم المسلمون إلى المساء وقتل منهم أحد عشر رجلا ففتحها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة وغنمه الله أموال أهلها وأصاب المسلمون منهم أثاثا ومتاعا فخمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك الأرض والنخيل في أيدي أهلها أي من بقي منهم وعاملهم على نحو ما عامل عليه اهل خيبر وفي لفظ ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهود وترك في أيديهم أراضي وادي القرى والبساتين والحدائق يعملون فيها ويأخذون الأجرة وقيل حاصرهم ليالي ثم انصرف راجعا إلى المدينة فعلى الأولى تضم للغزوات التي وقع فيها القتال
ولما بلغ بلغ أهل تيما ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل خيبر وفدك ووادي القرى صالحوه صلى الله عليه وسلم على الجزية فأقاموا ببلادهم وأرضهم في ايديهم قال وقتل عبده صلى الله عليه وسلم الأسود الذي كان يرحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يحط رحله صلى الله عليه وسلم جاءه سهم فقتله فقال الناس هنيئا له الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها من خيبر من الغنائم قبل ان تقسم تشتعل عليه نارا انتهى
ولما قرب من المدينة سار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليلة فلما كان قبيل الصبح نزل وعرس وقال ألا رجلا حافظا لعينه يحفظ علينا الفجر لعلنا ننام فقال بلال رضي الله تعالى عنه أنا يا رسول الله أحفظه عليك وفي لفظ قال يا بلال اكلأ لنا الليل فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقام بلال رضي الله تعالى عنه يصلي ما شاء الله ثم استند إلى بعير واستقبل الفجر يرمقه فغلبته عينه فنام فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم حتى ضربتهم الشمس وكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما صنعت يا بلال
____________________
(2/775)
قال يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك قال صدقت أي وتبسم صلى الله عليه وسلم وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم التفت إلى أبي بكر الصديق وقال له إن الشيطان أتى بلالا وهو قائم يصلي فلم يزل يهدئه كما يهدأ الصبي حتى نام ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم الصديق فقال ابو بكر رضي الله تعالى عنه أشهد أنك رسول الله
ثم سار صلى الله عليه وسلم بالناس يقود بعيره غير كثير ثم أناخ فتوضأ وتوضأ الناس وأمر بلالا فأقام الصلاة وفي رواية فاقتداوا رواحلهم وفي رواية فاستيقظ القوم وقد فزعوا فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي وقال هذا واد به شيطان فركبوا حتى خرجوا من ذلك الوادي الحديث فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا نسيتم الصلاة فصلوها إذا ذكرتموها فإن الله تعالى يقول { وأقم الصلاة لذكري } وفي رواية إن الله قبض أرواحنا ولو شاء ردها إلينا في حين غير هذا فاذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها في وقتها أي وقيل إن ذلك كان في مرجعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية وقيل في مرجعه من حنين وقيل في مرجعه من تبوك قال في الإمتاع وهذا لا يصح لأن الآثار الصحاح على خلافه أي دالة أن ذلك كان في رجوعه صلى الله عليه وسلم من وادي القرى
وقد يقال لا مانع من التعدد ويدل للقول بأن ذلك كان في مرجعه من الحديبية ما جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية وفي رواية لما انصرفنا من غزوة الحديبية قال النبي صلى الله عليه وسلم من يحرسنا الليلة فقلت أنا يا رسول الله قال إنك تنام ثم أعاد من يحرسنا الليلة فقلت أنا حتى أعاد ذلك مرارا وأنا أقول أنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأن قال فحرستهم حتى إذا كان وجه الصبح أدركني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تنام فنمت فما أيقظنا إلا حر الشمس في ظهورنا وسيأتي في تبوك عن الحافظ ابن حجر اختلاف العلماء في التعدد
وكان بين الحديبية وعمرة القضاء إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة الحجبي رضي الله تعالى عنهم وقيل كان بعد عمرة القضاء ويشهد له
____________________
(2/776)
ما جاء عن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه أنه قال لما أراد الله عز وجل ما اراد بي من الخير قذف في قلبي الإسلام وحضر لي رشدي وقلت قد شهدت هذه المواطن كلها على محمد صلى الله عليه وسلم فليس موطن أشهده إلا انصرف وأنا ارى في نفسي أني موضع في غير شيء وأن محمدا صلى الله عليه وسلم يظهر فلما جاء صلى الله عليه وسلم لعمرة القضاء تغيبت ولم أشهد دخوله فكان أخي الوليد بن الوليد دخل معه صلى الله عليه وسلم فطلبني فلم يجدني فكتب إلي كتابا فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم اما بعد فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام وقلة عقلك ومثل الإسلام يجهله أحد قد سألني عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أين خالد فقلت يأتى الله به فقال ما مثله يجهل الاسلام ولو كان يجعل نكايته مع المسلمين على المشركين كان خيرا له ولقد مناه على غيره فاستدرك يا أخي ما فاتك فقد فاتك مواطن صالحة فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الإسلام وسرتني مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت في المنام كأني في بلاد ضيقة جدبة فخرجت إلى بلاد خضراء واسعة فلما اجتمعنا للخروج إلى المدينة لقيت صفوان فقلت يا أبا وهب أما ترى أن محمدا صلى الله عليه وسلم ظهر على العرب والعجم فلو قدمنا عليه فاتبعناه فإن شرفه شرف لنا قال لو لم يبقى غيري ما اتبعته أبدا قلت هذا رجل قتل أبوه وأخوه ببدر فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان فقال مثل الذي قال صفوان قلت فاكتم ذكر ما قلت لك قال لا أذكره ثم لقيت عثمان بن طلحة أي الحجبي قلت هذا لي صديق فأردت أن أذكر له ثم ذكرت من قتل من آبائه أي قتل أبيه طلحة وعمه عثمان أي وقتل اخوته الأربع مسافع والجلاس والحارث وكلاب كلهم قتلوا يوم أحد كما تقدم فكرهت أن أذكر له ثم قلت وما علي فقلت له إنما نحن بنزلة ثعلب في جحر لو صب فيه ذنوب من ماء لخرج ثم قلت له ما قلته لصفوان وعكرمة فأسرع الإجابة فواعدني إن سبقني أقام في محل كذا وإن سبقته إليه أنتظرته فلم يطلع الفجر حتى التقينا فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة اسم محل فنجد عمرو بن العاص بها فقال مرحبا بالقوم فقلنا وبك أين مسيركم قلنا الدخول في الإسلام قال وذلك الذي أقدمني وفي لفظ قال عمرو الخالد يا ابا سليمان أين تريد قال والله لقد استقام الميسم أي تبين الطريق وظهر الأمر وإن هذا الرجل
____________________
(2/777)
لنبي فأذهب فأسلم فحتى متى قال عمرو وأنا ما جئت إلا لأسلم فاصطحبنا جميعا حتى دخلنا المدينة الشريفة فأنحنا بظهر الحرة ركابنا فأخبر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر بنا أي وقال رمتكم مكة بأفلاد كبدها فلبست من صالح ثيابي ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيني اخي فقال أسرع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ق سر بقدومكم وهو ينتظركم فأسرعنا المشي فاطلعت عليه فما زال صلى الله عليه وسلم يتبسم إلي حتى وقفت عليه فسلمت عليه بالنبوة فرد علي السلام بوجه طلق فقلت أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحمد لله الذي هداك قد كنت أرى لك عقلا رجوت أن لا يسلمك إلا إلى خير قلت يا رسول الله ادع الله لي أن يغفر لي تلك المواطن التي كنت أشهدها عليك فقال صلى الله عليه وسلم الإسلام يجب ما كان قبله أي وتقدم عثمان وعمرو فأسلما
وفي رواية عن عمرو بن العاص قال قدمنا المدينة فأنحنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا ثم نودي بالعصر فانطلقنا حتى اطعلنا عليه صلى الله عليه وسلم وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا فتقدم خالد بن الوليد فبايع ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه صلى الله عليه وسلم فما استطعت أن ارفع طرفي حياء منه صلى الله عليه وسلم قال فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولم يحضرني ما تأخر فقال إن الإسلام يجب ما كان قبله والهجرة تجب ما كان قبلها فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد احدا من الصحابة في أمر حربه منذ أسلمنا ولقد كنا عند أبي بكر رضي الله تعالى عنه بتلك المنزلة ولقد كنت عند عمر رضي الله تعالى عنه بتلك الحالة وكان عمر رضي الله تعالى عنه على خالد كالعاتب وتقدم أن عمرا رضي الله تعالى عنه أسلم على يد النجاشي رضي الله تعالى عنه
قال بعضهم وفي إسلام عمرو على يد النجاشي لطيفة وهي صحابي أسلم على يد تابعي ولا يعرف مثله ومن حين أسلم خالد رضي الله تعالى عنه لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوليه أعنه الخيل فيكون في مقدمها والله أعلم
____________________
(2/778)
عمرة القضاء أي ويقال لها عمرة القضية
أي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضى قريشا عليها أي صالحهم عليها ومن ثم قيل لها عمرة الصلح ويقال لها عمرة القصاص قال السهيلي رحمه الله وهذا الاسم اولى بها لقوله تعالى { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص } قال الحافظ ابن حجر رحمه الله فتحصل من اسمائها أربعة القضاء والقضية والصلح والقصاص أي لأنها كانت في شهر ذي القعدة من السنة السابعة أي وهو الشهر الذي صده يه المشركون عن البيت منها سنة ست وليست قضاء عن العمرة التي صد عن البيت فيها فإنها لم تكن فسدت بصدهم له عن البيت بل كانت عمرة تامة معدودة في عمره صلى الله عليه وسلم التي اعتمرها صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة وهي أربعة عمرة الحديبية وعمرة القضاء وعمرة الجعرانة لما قسم غنائم حنين والعمرة التي قرنها مع حجة في حجة الوداع بناء على ما هو الراجح من أنه كان قارنا وكلها في ذي القعدة إلا التي كانت مع حجه
وقد مكث صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أن اعتمر خارجا من مكة إلى الحل في تلك المدة أصلا ولم يفعل هذا على عهده صلى الله عليه وسلم إلا عائشة رضي الله تعالى عنها كما سيأتي في حجة الوداع
وكون العمرة لا تفسد بالصد إنما هو على ما يراه إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أما على من يرى أن العمرة تفسد بالصد عنها وأنه يجب قضاؤها كما هو المنقول عن ابي حنيفة رضي الله تعالى عنه فواضح انها قضاء وهذا العمرة ليست من الغزوات وإنما ذكرها البخاري فيها لأنه صلى الله عليه وسلم خرج مستعدا بالسلاح للمقاتلة خشية أن يقع من قريش غدر وليس من لازم الغزو وقوع المقاتلة ومن ثم قيل لها غزوة الأمن
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدا مكة للعمرة على ما عاقد عليه قريشا في الحديبية أي من أنه يدخل مكة في العام القابل معه سلاح المسافر ولا يقيم بها أكثر من ثلاثة أيام
وفي أنس الجليل ما يفيد أن اشتراط الثلاثة أيام كان في عمرة القضاء ففيه ثم خرج
____________________
(2/779)
رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرا عمرة القضاء فأبى أهل مكة أن يدعوه صلى الله عليه وسلم يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم ثلاثة أيام وأن لا يخرج من أهلها أحد إن أراد أن يتبعه وأن لا يمنع من أصحابه أحدا أن يقيم بها واصحابه كانوا الفين أي وأمر أن لا يتخلف عنه احد ممن شهد الحديبية فلم يتخلف احد إلا من استشهد في خيبر ومن مات وخرج معه جمع ممن لم يشهد الحديبية واستخلف على المدينة أبا ذر الغفاري وقيل غيره وساق ستين بدنة وقلدها أي جعل في عنق كل بعير قطعة من جلد او نعلا بالية ليعلم أنه هدي فيكف الناس عنه ولم يذكر هنا الإشعار أي وجعل عليها ناجية ابن جندب
قال وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح والدروع والرماح وقاد مائة فرس عليها محمد بن مسلمة رضي الله عنه أي وعلى السلاح بشير بوزن أمير بن سعد وأحرم صلى الله عليه وسلم من باب المسجد فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه فقيل يا رسول الله حملت السلاح وقد شرطوا أن لا ندخلها عليهم بسلاح الا بسلاح المسافر السيوف في القرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ندخل عليهم الحرم بالسلاح ولكن يكون قريبا منا فإن هاجنا هيج من القوم كان السلاح قريبا منا فمضى بالخيل محمد بن مسلمة فلما كان كان بمر الظهران وجد نفرا من قريش فسألوه فقال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله أي وقد رأوا سلاحا كثيرا فخرجوا سراعا حتى أتوا قريشا فأخبروهم بالذي رأوا من الخيل والسلاح ففزعت قريش وقالوا ما احدثنا حدثا وإنا على كتابنا ومدتنا ففيم يغزونا محمد في اصحابه
ثم إن قريشا بعثت مكرز بن حفص في نفر من قريش إليه صلى الله عليه وسلم فقالوا والله يا محمد ماعرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد شرطت عليهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب فقال صلى الله عليه وسلم إني لا أدخل عليهم بسلاح فقال مكرز هو الذي تعرف به البر والوفاء ثم رجع مكرز إلى مكة سريعا وقال إن محمدا لا يدخل بسلاح وهو على الشرط الذي شرط لكم انتهى
فلما اتصل خروجه لقريش خرج كبراؤهم من مكة حتى لا يروه صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/780)
يطوف بالبيت هو وأصحابه عداوة وبغضا وحسدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة أي راكبا ناقته القصواء وأصحابه محدقون به قد توشحوا السيوف يلبون ثم دخل من الثنية التي تطلعه على الحجون وهي ثنية كداء بالمد أي وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل مكة قال اللهم لا تجعل منيتنا بها يقول ذلك من حين يدخل حتى يخرج منها أي وجعل صلى الله عليه وسلم السلاح في بطن ناجح موضع قريب من الحرم وتخلف عنده جمع من المسلمين أي نحو مائتين من أصحابه عليهم أوس بن خولى وقعد جمع المشركين بجبل قينقاع ينظرون إليه صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه وهم يطوفون بالبيت وقد قالوا أي كفار قريش إن المهاجرين أوهنتهم أي أضعفتهم حمى يثرب وفي لفظ قالوا يقدم عليكم قوم فد وهنتهم حمى يثرب فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا ثم قال صلى الله عليه وسلم رحم الله امرأ أراهم من نفسه قوة فأمر أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة أي ليروا المشركين أن لهم قوة أي فعند ذلك قال المشركون أي قال بعضهم لبعض هؤلاء الذين زعمتم ان الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا إنهم لينفرون أي يثبون نفر الظبي أي الغزال وإنما لم يأمرهم صلى الله عليه وسلم بالرمل في الأشواط كلها رفقا بهم واضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه وكشف عضده اليمنى ففعلت الصحابة رضي الله تعالى عنهم كذلك وهذا أول رمل واضطباع في الإسلام
وأقام صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثلاثة أيام فلما تمت الثلاثة التي هي أمد الصلح جاء حويطب بن عبد العزى ومعه سهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنهما فإنهما أسلما بعد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرانه بالخروج هو وأصحابه من مكة فقالوا نناشدك الله والعقد إلا ما خرجت من ارضنا فقد مضت الثلاث فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه منها وكان صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها أي وكان اسمها برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهي اخت ام الفضل زوج العباس رضي الله تعالى عنهما واخت اسماء بنت عميس لأمها زوج حمزة رضي الله تعالى عنه وكان تزوجه صلى الله عليه وسلم ميمونة قبل أين يحرم بالعمرة وقيل بعد أن أحل منها وقيل وهو محرم أي وهو ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ورواه الدارقطني من طريق ضعيف عن ابي هريرة
____________________
(2/781)
رضي الله تعالى عنه فإنه صلى الله عليه وسلم كان قد بعث اليها جعفرا رضي الله تعالى عنه ليخطبها ولما انتهت إليها خطبة النبي صلى الله عليه وسلم كانت على بعيرها فقالت البعير وما عليه لله ولرسوله أي ومن ثم قيل إنها التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل جعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وقيل جعلت أمرها لأم الفضل اختها فجعلت أم الفضل أمرها للعباس فزوجها العباس واصدقها عنه صلى الله عليه وسلم أربعمائة درهم ولا مانع من نكاحه صلى الله عليه وسلم وهو محرم فإن من خصائصه صلى الله عليه وسلم حل عقد النكاح في الإحرام
أي وفي كلام السهيلي كان من شيوخنا من يتأول قول ابن عباس تزوجها محرما أي في الشهر الحرام وفي البلد الحرام ولم يرد الإحرام بالحج أي كما أراد ذلك الشاعر بقوله في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ** قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ** ورعا فلم أر مثله مقتولا **
قال ابن كثير رحمه الله وفيه نظر لأن الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما متضافرة بخلاف ذلك التي منها تزوجها وهو محرم هذا كلامه
وعن ابن المسيب غلط ابن عباس أو قال وهم ابن عباس ما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو حلال ومن ثم روى الدارقطني عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال قال السهيلي فهذه الرواية عن ابن عباس موافقة لرواية غيره فقف عليها فإناها غريبة عن ابن عباس
وذكر بعض فقهائنا أنه صلى الله عليه وسلم وكل أبا رافع رضي الله تعالى عنه في نكاح ميمونة رضي الله تعالى عنها وفي بعض السير وعن ابي رافع قال تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى بها وهو حلال وأنا الرسول بينهما رواه البيهقي والترمذي والنسائي وأراد صلى الله عليه وسلم ان يبني بها في مكة فلم يمهلوه يبني بها قال وقد قال لهم ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعت لكم طعاما فقالوا لا حاجة لنا في طعامك اخرج عنا من أرضنا هذه الثلاثة قد مضت وفي لفظ قال لهم إني قد نكحت فيكم امرأة فما يضركم أن مكثت
____________________
(2/782)
حتى ادخل بها وأصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا وفي رواية جاءوا اليه صلى الله عليه وسلم في قبته التي نصبها بالأبطح وذلك وقت الظهر وقيل وقت الصبح ولا مخالفة لجواز مجيئهم له في الوقتين وعند مجيئهم له صلى الله عليه وسلم كان مع الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة فصاح حويطب ناشدتك الله والعقد الا ما خرجت من أرضنا فقد مضت الثلاث فغضب سعد بن عبادة رضي الله عنه لما رأى من غلظ كلامهم للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لذلك القائل كذبت لا أم لك ليست بأرضك ولا أرض آبائك أي وفي لفظ قال يا عاض بظر أمه أرضك وأرض امك دونه ليست بأرضك ولا ارض آبائك والله لا يبرح منها إلا طاعئا راضيا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا سعد لا تؤذ قوما زارونا في رحالنا وأسكت الفريقين ثم إنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا رافع رضي الله تعالى عنه أن ينادي بالرحيل ولا يمسي بها احد من المسلمين وخلف أبا رافع ليأتي له بميمونة حين يمسى فخرج بها ولقيت ميمونوة رضي الله تعالى عنه من سفهاء مكة عناء
فعن أبي رافع رضي الله تعالى عنه لقينا عناء من أهل مكة من سفهاء المشركين من أذى ألسنتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولميمونة فقلت لهم ما شئتم هذه والله الخيل والسلاح ببطن ناجح وأنتم تريدون نقض العهد والمدة فولوا راجعين منكسين وأقام صلى الله عليه وسلم بسرف بكسر الراء وهو محل بين مساجد عائشة وبطن مرو وهو أقرب إلى مساجد عائشة وفيه دخل صلى الله عليه وسلم بميمونة أي تحت شجرة هناك وكان محل موتها ودفنها دفنت فيه بعد ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا بأنها لا تموت بمكة فلما ثقل عليها المرض وهي بمكة قالت أخرجوني من مكة فإني لا أموت بها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني بذلك فحملوها حتى أتوا بها ذلك الموضع فماتت به ودفنت به أي وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر من توفي من أزواجه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن
وحين دخوله صلى الله عليه وسلم مكة أخذ عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه بغرزه أي ركابه صلى الله عليه وسلم أي وقيل بزمام الناقة وهو رضي الله تعالى عنه وعنا وعن المسلمين يقول من أبيات
____________________
(2/783)
** خلوا بني الكفار عن سبيله ** خلوا فكل الخير في رسوله ** ** قد أنزل الرحمن في تنزيله ** بأن خير القتل في سبيله ** ** فاليوم نضربكم على تأويله ** كما ضربناكم على تنزيله ** ** وفي لفظ ** نحن قتلناكم على تأويله ** كما قتلناكم على تنزيله ** وما قيل ** نحن قتلناكم على تأويله ** كما ضربناكم على تنزيله ** ** ضربا يزيل الهام عن مقيله ** أو يذهل الخليل عن خليله **
قال عمار بن ياسر يوم صفين لا يمنع أن يكون ذلك من كلام ابن راواحة رضي الله تعالى عنه وتمثل به عمار رضي الله تعالى عنه
أي وأما ما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال أنا أقاتل على تنزيل القرآن وعلي يقاتل على تأويله فقال فيه الدارقطني رحمه الله تفرد به بعض الرافضة
قال وذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال مه يا ابن رواحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خل عنه يا عمر فلهو اسرع فيهم من نضح النبل
وذكر أنه صلى الله عليه وسلم قال إيها يا ابن رواحة قل لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده فقالها وقالها الناس أي وفي الإمتاع وكان ابن رواحة يرتجز في طوافه وهو آخذ بزمام الناقة فقال عليه الصلاة والسلام إيها يا ابن رواحة قل لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده فقالها وقالها الناس وطاف صلى الله عليه وسلم على راحلته واستلم الحجر بمحجنه
وذكر أنه صلى الله عليه وسلم دخل البيت فلم يزل به حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة فقال عكرمة بن أبي جهل لقد أكرم الله تعالى أبا الحكم يعني والده أبا جهل حيث لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول وقال صفوان بن امية الحمد الله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا وقال خالد بن أسيد الحمد لله الذي أذهب أبي ولم يشهد هذا اليوم حيث يقوم بلال ينهق فوق الكعبة وسهيل بن عمرو لما سمع ذلك غطى وجهه وكل هؤلاء اسلموا بعد ذلك رضي الله تعالى عنهم
قال بعضهم وكون ما ذكر أي من دخوله صلى الله عليه وسلم داخل الكعبة وأذان
____________________
(2/784)
بلال رضي الله تعالى عنه فوق ظهرها كان في عمرة القضاء خلاف المشهور إذ المشهور أن ذلك كان في يوم الفتح ويدل لذلك ما قيل لم يدخل صلى الله عليه وسلم الكعبة وأنه أراد ذلك فأبوا وقالوا لم يكن في شرطك فأمر بلال فأذن فوق ظهر الكعبة مرة واحدة ولم يعد بعدها قال الواقدي في هذا القيل إنه أثبت
أقول ويؤيد الأول ما جاء دخلت الكعبة ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما دخلتها إني أخاف أن اكون قد شققت على أمتي من بعدي أي لاتخاذهم ذلك سنة إلا أن يقال يجوز أن يكون ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وينبغي أن يكون هذا من أعلام النبوة فإن الناس يحصل لهم من التعب بسبب دخولها سيما زمن الموسم مالا يعبر عنه من المتاعب والأمور الفظيعة والله اعلم
ثم سعى صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة أي وأوقف الهدى عند المروة وقال هذا المنحر وكل فجاج مكة منحر فنحر عندها وحلق ولم أقف على من حلق رأسه الشريف في هذه العمرة ثم رأيته في الإمتاع قال حلقه معتمر بن عبد الله العدوي وفعل كفعله صلى الله عليه وسلم المسلمون أي ومن لم يجد منهم بدنة رخص له في البقرة وكان قدم رجل مكة ببقر فاشتراه الناس منه وأمر صلى الله عليه وسلم من تحلل أن يذهب إلى السلاح ويأتي آخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة تبعته عمارة أي وقيل أسمها أم أبيها وقيل أمامة وقيل أمة الله قال ابن عبد البر والمثبت أمامة وأمها سلمى بنت عميس بنت عمه حمزة رضي الله تعالى عنه تنادي يا عم يا عم أي وفي لفظ أن ابا رافع خرج بها فتناولها علي كرم الله وجهه فأخذ بيدها وقال لفاطمة دونك ابنة عمك فما وصلوا المدينة اختصم فيها على وأخوه جعفر وزيد حارثه رضي الله تعالى عنهم فقال زيد ابن حارثة رضي الله تعالى عنه أنا أحق بها لأنها بنت أخي أي وأنا وصيه لانه صلى الله عليه وسلم آخى بين حمزة وزيد أي وجعل حمزة رضي الله تعالى عنه وصيه وقال علي كرم الله وجهه أنا أحق بها لأنها بنت عمي وجئت بها من مكة وقال جعفر رضي الله تعالى عنه أنا أحق بها لأنها بنت عمي وخالتها تحتي أي وهي اسماء بنت عميس فقضى بها صلى الله عليه وسلم لجعفر رضي الله تعالى عنه وقال الخالة بمنزلة الأم هذا
وفي الإمتاع وكلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/785)
في عمارة بنت حمزة رضي الله تعالى عنهما وكانت مع أمها سلمى بنت عميس بمكة فقال علام نترك بنت عمنا يتيمة بين أظهر المشركين وإنه لما قضى بها لجعفر رضي الله تعالى عنه حجل جعفر حول النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا يا جعفر فقال يا رسول الله كان النجاشي إذا أرضى احدا قام فحجل حوله وفيه أنه فعل مثل ذلك بخيبر وما بالعهد من قدم إلا أن يقال يجوز أن يكون في خيبر فعل ذلك ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها وفيه تقديم الخالة في الحضانة على العمة لأن عمتها صفية رضي الله تعالى عنها كانت موجودة وقال صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه في هذا الموطن أنت أخي وصاحبي وفي لفظ أنت مني وأنا منك وقال صلى الله عليه وسلم لجعفر رضي الله تعالى عنه أشبهت خلقي وخلقي أي وقد تقدم منه صلى الله عليه وسلم ذلك له في خيبر وقال صلى الله عليه وسلم لزيد رضي الله تعالى عنه أنت أخي ومولاي وفي لفظ انت مولى الله ومولى رسوله صلى الله عليه وسلم غزوة مؤتة
بضم الميم وبالهمزة ساكنة وبترك الهمزة موضع معروف عند الكرك وفي كلام السهيلي مؤتة مهموز الفاء وأما الموتة بلا همزة فضرب من الجنون وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه وفسره راوي الحديث فقال نفثه السحر ونفخه الكبر وهمزه الموتة هذا كلامه
كانت هذه الغزوة في جمادي الاولى سنة ثمان وكان سببه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى هرقل عظيم الروم بالشام أي فلما نزل بمؤتة تعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني أي وهو من امراء قيصر على الشام فقال أين تريد لعلك من رسل محمد قال نعم فأوثقه ربطا ثم قدمه فضرب عنقه ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اشتد الامر عليه فجهز جمعا من اصحابه وعدتهم ثلاثة ألاف وبعثهم إلى
____________________
(2/786)
مقاتلة ملك الروم وأمر عليهم زيد بن حارثة وقال إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس
قال وفي رواية فإن أصيب ابن رواحة فليرتض المسلمون برجل منهم فليجعلوه عليهم وقد حضر ذلك المجلس رجل من يهود فقال يا أبا القاسم إن كنت نبيا يصاب جميع من ذكرت لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من بني اسرائيل كان الواحد منهم إذا استعمل رجلا على القوم وقال إن أصيب فلان لا بد أن يصاب أي ولوعد مائة اصيبوا جميعا ثم صار يقول لزيد اعهد فلن ترجع إلى محمد أبدا إن كان نبيا وزيد يقول اشهد أنه نبي وعقد صلى الله عليه وسلم لواء أبيض ودفعه لزيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير ويدعوا من هناك إلى الإسلام فإن أجابوا وإلا استعانوا عليهم بالله تبارك وتعالى وقاتلوهم
وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يأتوا مؤتة فغشيتهم ضبابة فلم يبصروا حتى أصبحوا على مؤتة انتهى
وودعهم الناس وقالوا لهم صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين قال ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مشيعا لهم حتى بلغ ثنية الوداع فوقف فقال أي بعد قوله أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا اغزوا باسم الله فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام وستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم ولا تقتلوا امرأة ولا صغسيرا ولا بصيرا فانيا ولا تقطعوا شجرة ولا تهدموا بناء انتهى وقال لهم المسلمون دفع الله عنكم وردكم غانمين فمضوا حتى نزلوا من ارض الشام فبلغم أن هرقل ملك الروم في مائة ألف من الروم وانضم اليه من قبائل العرب أي المتنصرة أي من بني بكر ولخم وجذام مائة ألف وفي رواية كانوا مائتي ألف من الروم وخمسين ألفا من العرب ومعهم من الخيول والسلاح ما ليس مع المسلمين وكان المسلمون ثلاثة آلاف كما مر فلما بلغهم ذلك أقاموا في ذلك المحل ليلتين ينظرون في أمرهم أهل يبعثون لرسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بعدد عدوهم فإما أن يمدهم برجال أو يأمرهم بأمر فيمضوا اليه فشجعهم عبد الله بن رواحة وقال لهم يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له خرجتم تطلبون الشهادة ونحن ما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به فإنما هي
____________________
(2/787)
إحدى الحسنين إما ظهور وإما شهادة أي فقال الناس صدق والله ابن رواحة فمضوا للقتال فلقيتهم جموع هرقل ملك الروم من الروم والعرب فانحاز المسلمون إلى مؤتة فالتقى الجمعان عندها واقتتلوا فقاتل زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه ومعه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم أي لواؤه حتى قتل رضي الله تعالى عنه فأخذ الراية جعفر رضي الله تعالى عنه وقاتل على فرس أشقر ثم نزل عنه وعقره أي وهو أول رجل من المسلمين عقر فرسه وأول فرس عقر في سبيل الله عقره خوفا اين يأخذه الكفار فيقاتلوا عليه المسلمين ومن ثم لم ينكر عليه احد من الصحابة وبه استدل من جوز قتل الحيوان خشية أن ينتفع به الكفار وتقاتل عليه المسلمين ثم قاتل رضي الله تعالى عنه فقطعت يمينه فأخذ الراية بيساره فقطعت يساره فاحتضن الراية فأخذ الراية وقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه فاخذها عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه وتقدم بها وهو على فرسه وجعل يتردد في النزول عن فرسه ثم نزل وقاتل حتى قتل أي وحينئذ اختلط المسلمون والمشركون وأراد بعض المسلمين الانهزام فجعل عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه يقول يا قوم يقتل الإنسان مقبلا أحسن من أن يقتل مدبرا فأخذ الراية ثابت بن أرقم رضي الله تعالى عنه وقال يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم فقالوا أنت فقال ما أنا بفاعل فاصطلح الناس على خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه أي ويقال إن ثابت بن ارقم دفعها إلى خالد رضي الله تعالى عنه وقال أنت أعلم بالقتال مني أي فقال له خالد انت احق به مني لأنك ممن شهد بدرا ثم أخذها خالد رضي الله تعالى عنه ومانع القوم وثبت ثم انحاز كل من الفريقين عن الآخر من غير هزيمة على أحدهما
قال وفي رواية قاتلوا المشركين حتى هزموهم فعند ابن سعد أن خالدا رضي الله تعالى عنه لما أخذ اللواء حمل على القوم فهزمهم الله أسوأ هزيمة حتى وضع المسلمون أسيافهم حيث شاءوا واظهر الله المسلمين
قيل وسبب ذلك أن خالدا رضي الله تعالى عنه لما أصبح جعل مقدمة الجيش ساقة وساقته مقدمة وميمنته ميسرة وميسرته ميمنة فظن المشركون مجيئ عدد للمسلمين فرعبوا وانهزموا فقتلوا قتلة لم يقتلها قوم ويجوز أن يكون ذلك بعد أنحياز المسلمين فلا منافاة بين الروايتين وكانت مدة القتال سبعة أيام
____________________
(2/788)
وروى البخاري عن خالد رضي الله تعالى عنه قال اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة اسياف وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية انتهى واطلع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك فأخبر به اصحابه أي فإنه لما اطلع على ذلك نادى في الناس الصلاة جامعة ثم صعد المنبر وعيناه تذرفان وقال أيها الناس باب خير باب خير باب خير ثلاثا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي إنهم انطلقوا فلقوا العدو فقتل زيد رضي الله تعالى عنه شهيدا فاستغفروا له ثم أخذ الراية جعفر رضي الله تعالى عنه فشد على القوم حتى قتل شهيدا فاستغفروا له ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه وأثبت قدميه حتى قتل شهيدا فاستغفروا له ثم اخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء وهو أمير نفسه ولكنه سيف من سيوف الله فآب بنصره وفي لفظ ثم أخذ الراية خالد بن الوليد نعم عبد الله وأخو العشيرة وسيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين من غير إمرة حتى فتح الله عليهم
قال وفي رواية انه صلى الله عليه وسلم قال اللهم إنه سيف من سيوفك فانصره فمن يؤمنذ سمي خالد سيف الله وفي لفظ ثم أخذ اللواء سيف من سيوف الله تبارك وتعالى ففتح الله على يديه
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال اشتكى عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال يا خالد لم تؤذي رجلا من اهل بدر لو أنفقت مثل احد ذهبا لم تدرك عمله فقال يا رسول الله إنهم يقعون في فأرد عليهم فقال لا تؤذوا خالدا فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار قال بعضهم وكون هذا نصرا وفتحا واضح لإحاطة العدو بهم وتكاثرهم عليه لانهم كانوا مائتي ألف والصحابة ثلاثة آلاف أي كما تقدم إذ كان مقتضى العادة ان يقتلوا بالكلية
وفي رواية أصاب خالد رضي الله عنه منهم مقتلة عظيمة وأصاب غنيمة وهذا لا يخالف ما يأتي أن طائفة منهم فروا إلى المدينة لما عاينوا كثرة جموع الروم فصار اهل المدينة يقولون لهم أنتم الفرارون إلى آخر ما يأتي وعن أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنهما أي زوج جعفر رضي الله عنه قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أصيب جعفر وأصحابه فقال ائتيني ببني جعفر فأتيته بهم فشمهم وذرفت عليناه أي بكى حتى نقطت لحيته الشريفة فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك أبلغك عن
____________________
(2/789)
جعفر وأصحابه شئ قال نعم أصيبوا هذا اليوم فقمت أصيح واجتمع على النساء أي وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها يا أسماء لا تقولي هجرا ولا تضربي خدا وجاء إليه صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله إن النساء عيين وفتن قال فارجع إليهن فأسكتهن فذهب ثم رجع فقال له مثل الاول وقال نهيتهن فلم يطعنني فقال اذهب فأسكتهن فذهب ثم رجع فقال له مثل الأول وقال نهيتهن فلم يطعنني فقال اذهب فأسكتن فإن أبين فاحث في افواههن التراب وقال صلى الله عليه وسلم اللهم قد قدم يعني جعفرا إلى إحسن الثواب فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله وقال لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما فانهم قد شغلوا بأمر صاحبهم انتهى
أي وفي لفظ دخل صلى الله عليه وسلم على فاطمة رضي الله تعالى عنها وهي تقول واعماه فقال صلى الله عليه وسلم على مثل جعفر فلتبك الباكية وفي لفظ البواكي ثم قال صلى الله عليه وسلم اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد شغلوا عن انفسهم اليوم وفي رواية فإنهم قد شغلهم ما هم فيه
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما أن سلمى مولاة النبي صلى الله عليه وسلم عمدت إلى شعير فطحنته ونسفته ثم طبخته وأدمته بزيت وجعلت عليه فلفلا قال عبد الله رضي الله تعالى عنه فأكلت من ذلك الطعام وحبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع إخوتي وفي لفظ أنا وأخي في بيته ثلاثا أيام ندور معه صلى الله عليه وسلم كلما صار في بيت احدى نسائه ثم رجعنا إلى بيتنا وهذا الطعام الذي فعل لآل جعفر رضي الله عنهم قال السهيلي هو أصل في طعام التعزية وتسميه العرب الوضيمة كما تسمى طعام العرس الوليمة وطعام القادم من السفر النقيعة وطعام البناء الوكيرة
قال عبد الله رضي الله عنه ودعا لي صلى الله عليه وسلم وقال اللهم بارك في صفقة يمينه فما بعت شيئا ولا اشتريت شيئا إلا بورك لي فيه
ولما قدم عليه صلى الله عليه وسلم بعض اصحابه بخبر الجيش قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت فأخبرتني وإن شئت فأخبرتك قال فأخبرني يا رسول الله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم كلهم ووصف له فقال والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره وإن أمرهم لكما ذكرت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معركتهم أي وحين رأى
____________________
(2/790)
ذلك صلى الله عليه وسلم قال قد حمى الوطيس أي حميت الحرب واشتدت وقال صلى الله عليه وسلم مثل لي جعفر وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة في خيمة من در كل واحد منهم على سرير فرأيت زيدا وابن رواحة في أعناقهما صدودا أي اعتراضا ورايت جعفرا مستقيما ليس في عنقه صدود فسألت فقيل لي إنهما حين غشيهما الموت أعرضا بوجههما وأما جعفر فانه لم يفعل
وعن قتادة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما قتل زيد أخذ الراية جعفر رضي الله تعالى عنه فجاءه الشيطان لعنه الله فحبب اليه الحياة وكره اليه الموت ومناه الدنيا ثم مضى حتى استشهد رضي الله عنه
قال وفي رواية رأيتهم أي فيما يرى النائم وفي رواية لقد رفعوا إلى أي في الجنة فيما يرى النائم على سرير من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه أي انحرافا فقلت مم هذا فقيل لي مضيا وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى انتهى أي فإنه كما تقدم صار يستنزل نفسه ويتردد في النزول بعض التردد
وفي لفظ دخل عبد الله بن رواحة الجنة معترضا فقيل يا رسول الله ما اعتراضه قال لما اصابته الجراحة نكل فعاتب نفسه فتشجع فاستشهد وقال صلى الله عليه وسلم إن الله أبدل جعفرا بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وجدنا فيما بين صدر جعفر ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح وفي لفظ طعنة ورمية وفي لفظ آخر ضربة ورمى فقده نصفين فوجدوا في إحدى شقيه بضعة وثمانين جرحا وفيما أقبل من بدنه اثنين وسبعين ضربة بسيف وطعنة برمح أي وقيل اربعا وخمسين ورواية التسعين اثبت قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أتيته وهو مستلق آخر النهار فعرضت عليه الماء فقال إني صائم فضعه في ترسي عند رأسي فإن عشت حتى تغرب الشمس أفطرت قال فمات صائما قبل غروب الشمس شهيدا وعمره إحدى واربعون سنة وقيل ثلاث وثلاثون سنة وفيه أنه تقدم أنه كان أسن من علي بعشر سنين وكان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين وكان طالب أسن من عقيل بعشر سنين
ثم رأيت ابن كثير رحمه الله قال وعلى ما قيل إنه كان اسن من علي بعشر سنين
____________________
(2/791)
يقتضي أن عمره يوم قتل تسع وثلاثون سنة لأن عليا كرم الله وجهه اسلم وهو ابن ثمان سنين على المشهور فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة وهاجر وعمره إحدى وعشرون سنة ويوم مؤتة كان في سنة ثمان من الهجرة وكونه رضي الله تعالى عنه مات صائما لا يناسب كونه شق نصفين
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال كنا مع رسول الله لى فرفع رأسه إلى السماء فقال وعليكم السلام ورحمة الله فقال الناس يا رسول الله ما كنت تصنع هذا قال مر بي جعفر بن أبي طالب في ملأ من الملائكة فسلم علي
ولما دنا الجيش من المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ولقيهم الصبيان ينشدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة فقال خذوا الصبيان فاحملوهم واعطوني ابن جعفر فأتى بعبد الله بن جعفر فأخذه فحمله بين يديه
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هنيئا لك أبوك يطير مع الملائكة في السماء وفي الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا دخلت البارحة الجنة فرأيت فيها جعفر بن أبي طالب يطير مع الملائكة وفي رواية يطير مع جبريل وميكائيل له جناحان عوضه الله تعالى من يديه وروى جناحان من ياقوت أي وذكر السهيلي رحمه الله أن الجناحين عبارة عن صفة ملكية وقوة روحانية اعطيهما جعفر رضي الله عنه يقتدر بهما على الطيران لا أنهما جناحان كجناح الطائر كما يسبق للوهم أي لان الصورة الآدمية أشرف الصور أي ولا يضر في ذلك وصفهما بأنهما من ياقوت ولا كونهما مضمخين بالدم وصار المسلمون يحثون في وجوههم التراب ويقولون لهم يا فرارون فررتم في سبيل الله فصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بل هم الكرارون وفي لفظ إنهم قالوا يا رسول الله نحن الفارون فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بل انتم العكارون أي الكرارون وهو دليل على أنه كان بينهم محاجزة وترك للقتال وعن بعض الصحبة لما قتل ابن رواحة رضي الله انهزم المسلمون رضي الله عنهم أسوأ هزيمة ثم تراجعوا ولقد لقوا من اهل المدينة لما رجعوا شرا حتى إن الرجل يجئ إلى أهل بيته يدق عليهم بابه فيأبون يفتحون له ويقولون له هلا تقدمت مع اصحابك فقتلت حتى إن نفرا نم الصحابة رضي الله عنهم جلسوا في بيوتهم استحياء كلما خرج
____________________
(2/792)
واحد منهم صاحوا به وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل اليهم رجلا رجلا ثم يقول أنتم الكرارون في سبيل الله ويعنون بالفرار انحيازهم مع خالد رضي الله عنه حين انحاز العدو عنهم وإنما انحاز خالد رضي الله عنه لترتيبه العسكر وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم خالدا رضي الله عنه على ذلك وأثنى عليه وقتل رجل من المسلمين رجلا من الروم فأراد أخذ سلبه فمنعه خالد رضي الله عنه فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال لخالد ما منعك ان تعطيه سلبه قال استكثرته عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادفعه له
وكان عوف بن مالك رضي الله عنه كلم خالدا في دفع ذلل لذلك الرجل قبل أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مر خالد بعوف بن مالك اطلق لسانه في خالد رضي الله عنه وقال له أما ذكرت لك ذلك ونحوه فغضب صلى الله عليه وسلم وقال لخالد لا تعطه يا خالد هل أنتم تاركون لي أمرائي
وفيه أن القاتل استحق السلب فكيف منعه وأجيب بأنه يجوز أن يكون دفعه له بعد وانما اخر دفعه تعزيزا لعوف رضي الله عنه حين اطلق لسانه في خالد وانتهك حرمته وتطيبا لقلب خالد رضي الله تعالى عنه للمصلحة في إكرام الأمراء وهذا السياق يدل على أن الجيش كله رضي الله عنهم قيل لهم الفرارون وإنما كان لطائفة من الجيش فروا إلى المدينة لما رأوا من كثرة العدو فليتأمل
وعد هذه غزوة تبعت فيه الاصل والحق أنها ليست من الغزوات بل من السرايا الأتي ذكرها لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن فيها والله اعلم
____________________
(2/793)
بسم الله الرحمن الرحيم فتح مكة شرفها الله تعالى
كان في رمضان سنة ثمان وكان السبب في ذلك أنه لما آن صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش كان فيه أن من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه فدخلت بنو بكر في عهد قريش ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم وكان قبل ذلك بينهما دماء أي فحجز الإسلام بينهما لتشاغل الناس به وهم على ما هم عليه من العداوة وكانت خزاعة حلفاء عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم أي يناصرونه على عمه نوفل بن عبد مناف
فإن المطلب لما مات وثب نوفل على ساحات وأفنية كانت لعبد المطلب واغتصبه إياها فاطرب عبد المطلب لذلك واستنهض قومه فلم ينهض معه احمد منهم وقالوا له لا ندخل بينك وبين عمك وكتب الى أخواله بني النجار فجاءه منهم سبعون راكبا فأتوا نوفلا وقالوا له ورب البنية لتردن على ابن أختنا ما أخذت وإلا ملأنا منك السيف فدره ثم حالف خزاعة بعد أن حالف نوفل بني أخيه عبد شمس وكان صلى الله عليه وسلم يعلم بذلك الحف فإنهم أوقفوه على كتاب عبد الملطب وقرأه عليه أبي بن كعب رضي الله عنه أي بالحديبية وهو باسمك اللهم هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة إذا قدم عليه سرواتهم وأهل الرأي منهم غائبهم يقر بما قاضى عليه شاهدهم أن بيننا وبينكم عهود الله وميثاقه وما لا ينسى ابدا اليد واحدة والنصر واحد ما أشرق ثبير وثبت حرا مكانه وما بل بحر صوفه
____________________
(3/3)
وفي الامتاع أن سنخة كتابهم باسمك اللهم هذا ما تحالف عليه عبد المطلب بن هاشم ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة تحالفوا على التناصر والمواساة ما بل بحر صوفة حلفا جامعا غير مفرق الأشياخ على الاشياخ والأصاغر على الأصاغر والشاهد على الغائب وتعاهدوا وتعاقدوا أوكد عهد وأوثق عقد لا ينقض ولا ينكث ما أشرقت شمس على ثبير وحن بفلاة بعير وما أقام الأخشبان وعمر بنمكة إنسان حلف أبد لطول أمد يزيده طلوع الشمس شدا وظلام الليل مدا آلان عبد المطلب وولده ومن معهم ورجال خزاعة متكافئون متظاهرون متعاونون فعلى عبد المطلب النصرة لهم بمن تابعه وعلى خزاعة النصرة لعبد الطلب وولده ومن معهم على جميع العرب في شرق أو غرب او حزن او سهل وجعلوا الله على ذلك كفيلا وكفى بالله جميلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعرفني بحقكم وانتم على ما أسلفتم عليه من الحلف
فلما كانت الهدنة وهي ترك القتال التي وقعت في صلح الحديبية اغتنمها بنو بكر أي طائفة منهم يقال لهم بنو نفاثة
أي وفى الإمتاع وسببها أن شخصا من بني بكر هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار يتغنى به فسمعه غلام من خزاعة فضربه فشجه فثار الشر بين الحيين لما كان بينهم من العداوة فطلب بنو نفاثة من أشراف قريش أن يعينوهم بالرجال والسلاح على خزاعة فأمدوهم بذلك فبيتوا خزاعة أي جاءوهم ليلا بغتة وهم آمنون على ماء لهم يقال له الوتير فأصابوا منهم أي قتلوا منهم عشرين أو ثلاثة وعشرين وقاتل معهم جمع من قريش مستخفيا منهم صفوان بن أمية وجويطب بن عبد العزى أي وعكرمة ابن ابي جهل وشيبة بن عثمان وسهيل بن عمرو رضي الله عنهم فإنهم أسلموا بعد ذلك ولا زالوا بهم الى أن أدخلوهم دار بديل بن ورقاء الخزاعي بمكة أي ولم يشاوروا في ذلك أبا سفيان قيل شاوروه فأبي عليهم ذلك وظنوا أنهم لم يعرفوا وأن هذا لا يبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما ناصرت قريش بني بكر على خزاعة ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق ندموا وجاء الحارث بن هشام الى ابي سفيان واخبره بما فعل القوم فقال هذا امر لم أشهده ولم أغب عنه وإنه لشر والله ليغزونا محمد
____________________
(3/4)
ولقد حدثتني هند بنت عتبة يعني زوجته أنها رأت رؤيا كرهتها رأت دما أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة فكره القوم ذلك
وعند ذلك خرج عمرو وقيل عمر العين وصححه الذهبي ابن سالم الخزاعي أي سيد خزاعة في أربعين راكيا أي من خزاعة فيهم بديل بن ورقاء الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل المسجد ووقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين الناس وقال من ابيات ** يا رب إني ناشد محمدا ** حلف أبينا وأبيه الأتلدا ** ** إن قريشا أخلفوك الموعدا ** ونقضوا ميثاقك المؤكدا ** ** هم بيتونا بالوتير هجدا ** وقتلونا ركعا وسجدا **
فقال النبي صلى الله عليه وسلم نصرت يا عمرو بن سالم أي ودمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقال لا ينصرني الله وفي لفظ لا نصرت إن لم أنصر بني كعب يعني خزاعة مما انصر به نفسي وفي رواية لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي زاد في رواية واهل بيتي ثم مرت سحابة في السماء وارعدت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا السحاب ليستهل أي وفي لفظ لينصب بنصر بني كعب يعني خزاعة
أي وعن بشر بن عصمة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول خزاعة مني وأنا منهم وقبل قدوم عمرو بن سالم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلامه بذلك حدثت عاششة رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الوقعة قال لها لقد حدث في خزاعة حدث قالت فقلت يا رسول الله أترى قريشا يجترئون على نقض العهد الذي بينك وبينهم فقال ينقضون العهد لأمر يريده الله فقلت خير قال خير وفي لفظ قالت لخير او لشر قال لخير
وعن ميمونه رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بات عندها ليلة فقام ليتوضأ للصلاة قالت فسمعته يقول لبيك لبيك لبيك ثلاثا تصرت نصرت نصرت ثلاثا فلما خرج قلت يا رسول الله سمعتك تقول لبيك لبيك لبيك ثلاثا نصرت نصرت نصرت ثلاثا كأنك تكلم إنسانا فهل كان معك احد قال هذا راجز بني كعب يعني خزاعة يزعم أن قريشا اعانت عليهم بكر بن وائل أي بطنا منهم وهم بنوا نفاثة قالت ميمونة فأقمنا
____________________
(3/5)
ثلاثا ثم صلى الله عليه وسلم عليه وسلم الصبح فسمعت الراجز يقول يارب إني ناشد محمدا ** إلى أخر ما تقدم انتهى
وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم لعمرو بن سالم واصحابه فيمن تهمتكم قالوا بنو بكر قال كلها قالوا لا ولكن بنو نفاثة قال هذا بطن من بكر
ولما ندمت قريش على نقضهم العهد أرسلوا أبا سفيان ليشد العقد ويزيد في المدة فقالوا له ما لها سواك اخرج الى محمد فكلمه في تجديد العهد وزيادة المدة فخرج ابو سفيان ومولى له على راحلتين فاسرع السير لأنه يرى أنه أول من خرج من مكة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال رسول صلى الله عليه وسلم للناس قبل قدوم ابي سفيان كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة وهو راجع بسخطه ثم رجع اولئك الركب من خزاعة فلما كانوا بعسفان لقوا أبا سفيان أي ومولى له كل على راحلة وقد بعثته قريش الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشد العقد ويزيد في المدة وقد خافوا مما صنعوا فسألهم هل ذهبتم الى المدينة قالوا لا وتركوه وذهبوا فجاء الى مبركهم بعد أن فارقوه فأخذ بعرا وفته فوجد فيه النوى فعلم انهم ذهبوا الى المدينة الشريفة
قال وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن سالم واصحابه ارجعوا وتفرقوا في الاودية أي ليخفى مجيئهم للنبي صلى الله عليه وسلم فرجعوا وتفرقوا فذهبت فرقة الى الساحل أي وفيهم عمرو بن سالم وفرقة فيهم بديل بن ورقاء لزمت الطريق وإن ابا سفيان لقى بدليل بن ورقاء بعسفان فأشفق ابو سفيان أن يكون بديل جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فقال للقوم أخبرونا عن يثرب متى عهدكم بها فقالوا لا علم لنا بها أي وقالوا إنما كنا في الساحل نصلح بين الناس في قتل ثم صبر ابو سفيان حتى ذهب أولئك القوم وفي لفظ قال من أين أقبلت يا بديل قال سرت الى خزاعة في هذا الساحل قال ما أتيت محمدا قال لا فلما راح بديل الى مكة أي توجه اليها قال ابو سفيان لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى فجاء منزلهم ففتت ابعار اباعرهم فوجد فيها النوى قال ابو سفيان احلف بالله لقد جاء القوم محمدا انتهى
فلما قدم ابو سفيان المدينة دخل على ابنته ام حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضى عنها ولما أراد ان يجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه فقال
____________________
(3/6)
يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش ام رغبت به عني قالت بل هو فراش النبي صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس قال والله لقد أصابك بعدي شر فقالت بل هداني الله تعالى للإسلام وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر وأعجبا منك يا أبت وأنت سيد قريش وكبيرها فقال أنا أترك ما كان يعبد آبائي واتبع دين محمد ثم خرج حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له إني كنت غائبا في صلح الحديبية فامدد العهد وزدنا في المدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك جئت يا أبا سفيان قال نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان فيكم من حدث قال معاذ الله نن على عهدنا وصلحنا لا نغير ولا نبدل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن على مدتنا وصلحنا فأعاد ابو سفيان القول على رسول صلى الله عليه وسلم وسلم فلم يردعليه شيئا هذا
وفي كلام سبط ابن الجوزي رحمهما الله ان مجئيه لأم حبيبة رضي الله عنها بعد مجيئه للنبي صلى الله عليه وسلم ثم ذهب الى ابي بكر رضي الله عنه فكلمه ان يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما أنا بفاعل وفي رواية قال لأبي بكر جدد العقد وزدنا في المدة فقال ابو بكر جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم ثم أتى عمربن الخطاب رضي الله عنه فكلمه فقال أنا اشفع لكم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لو لم اجد الا الذر لجاهدتكم أي بها وفي رواية أنه قال له ماكان من حلفنا جديدا أخلقه الله وما كان مقطوعا فلا وصلة الله فعند ذلك قاله له ابو سفيان جزيت من ذي رحم شرا وفي لفظ سوءا ثم جاء الى عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال أنه ليس في القوم أقرب بي رحما منك فزد في المدة وجدد العقد فان صاحبك لا يرده عليك أبدا فقال عثمان جواري في جواره صلى الله عليه وسلم انتهى ثم جاء فدخل على علي بن ابي طالب كرم الله وجهه وعنده فاطمة وحسن رضي الله عنه غلام يدب بين يديها فقال يا علي انك امس القوم بي رحما وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا اشفع الى محمد فقال ويحك يا ابا سفيان لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه عنها فقال يا ابنة محمد هل لك ان تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب الى اخر الدهر قالت والله ما يبلغ ببني ذلك ان يجير بين الناس وما يجبر احد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وفي رواية أنه قال لفاطمة أجبري بين الناس
____________________
(3/7)
فقالت إنما أنا امرأة قال قد أجارت اختك يعني زينب أبا العاص بن الربيع يعني زوجها وأجاز ذلك محمد قالت إنما ذاك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فأمري احد ابنيك قالت إنما هما صبيان ليس مثلهما يجير قال فكلمى عليا فقالت انت تكلمه فكلم عليا فقال يا ابا سفيان انه ليس أحد من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتات على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار وقول فاطمة رضي الله عنها في حق ابنيها صبيان ليس مثلهما يجير هو الموافق لما عليه أئمتنا من ان شرط من يؤمن أن يكون مكلفا وأما قولها وإنما أنا امرأة فلا يوافق ما عليه أئمتنا من أن للمرأة والعبد أن يؤمنا لأن شرط المؤمن عند أئمتنا ان يكون مسلما مكلفا مختارا وقد أمنت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم زوجها ابا العاص بن الربيع وقال صلى الله عليه وسلم قد أجرنا من أجرت وقال المؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم كما سيأتى في السرايا وقد تقدم ذلك قريبا عن ابي سفيان وسيأتى قريبا أن أم هاني اجارت وأنه صلى الله عليه وسلم قال لها أجرنا من أجرت يا أم هاني لكن سيأتى ان هذا كان تأكيدا للأمان الذي وقع منه صلى الله عليه وسلم لأهل مكة لا أمان مبتدأ
ثم أن ابا سفيان أتى اشراف قريش والأنصار وكل يقول جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء الى علي كرم الله وجهه وقال يا ابا الحسن إني ارى الأمور قد انسدت على فانصحني قال والله لا أعلم لك شيئا يغني وعنك ولكنك سيد بني كنانة فقم وأجر بين الناس ثم الحق بأرضك قال أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا قال والله ما أظنه ولكن لا أجد لك غير ذلك فقام ابو سفيان في المسجد فقال ايها الناس إني أجرت بين الناس زاد في رواية ولا والله ما أظن ان يخفرني احد ولا يرد جواري قال وفي رواية أنه جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إني اجرت بين الناس أي وقال لا والله ما أظن أحدا يخفرني ويرد جواري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت تقول ذلك يا ابا حنظلة وفي لفظ يا ابا سفيان انتهى
ثم ركب بعيره فانطلق حتى قدم على قريش وقد طالت غيبته واتهمته قريش انه صبأ ابتع محمدا سرا وكتم إسلامه وقالت له زوجته ان كنت مع طول الاقامة جئتهم بنجح فأنت الرجل فلما أخبرها أي وقد دنا منها وجلس ومنها مجلس الرجل من امرأته فضربت
____________________
(3/8)
برجلها في صدره وقالت قبحت من رسول قوم فما جئت بخير فلما اصبح ابو سفيان حلق رأسه عند اساف ونائلة وذبح عندهما البدن ومسح رءوسهما بالدم ليدفع عنه التهمة فلما رأته قريش قالوا ما وراءك هل جئت بكتاب من محمد او عهد قال لا والله لقد أبى على وقد تتعبت اصحابه فما رأيت قوما لملك اطوع منهم له وفي رواية قال جئت محمدا فكلمته فو الله ما رد علي شيئا ثم جئت الى ابن ابي قحافة فلم أجد فيه خيرا ثم جئت عمر بن الخطاب فوجدته أدنى العدو أي وفي رواية أعدى العدو ثم جئت عليا فوجدته الين القوم وقد اشار على بشيء صنعته فوالله لا أدري أيغنى عني شيئا ام لا قالوا وبم امرك قال أمرني أن اجير بين الناس أي قال لي لم تلتمس جوار الناس على محمد و لا تجير انت عليه وانت سيد قريش واكبرها واحقها ان لا يخفر جواره ففعلت قالوا فهل اجاز ذلك محمد قال لا أي وانما قال انت تقول ذلك يا ابا حنظلة والله لم يزدني قالوا رضيت بغير رضا وجئت بما لا يغني عنا ولا عنك شيئا ولعمر الله ما جوارك بجائز وان اخفارك أي ازالة خفارتك عليهم لهين والله أراد الرجل يعنون عليا كرم الله وجهه ان يلعب بك قال والله ما وجدت غير ذلك وامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه أن يلعب بك قال والله ما وجدت غير ذلك وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وأمر اهله ان يهجزوه أي قال لعائشة جهزينا وأخفى امرك فدخل ابو بكر رضي الله عنه علي ابنته عائشة رضي الله عنها وهي تحرك بعض جهاز رسول الله أي تجعل قمحا سويقا ودقيقا وفي لفظ وجد عندها حنطة تنسف وتنقى فقال أي بنية امركن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيزه قالت نعم فتجهز قال فأين ترينه يريد قالت لا والله ما أدري وإن ذلك قبل ان يستشير صلى الله عليه وسلم ابا بكر وعمر رضي الله عنهما في السير الى مكة كما سيأتي ثم انه صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر الى مكة وأمرهم بالجد والتجهيز
أي وفي الامتاع ان ابا بكر رضي الله عنه لما سأل عائة رضي الله عنها دخل عليه صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله اردت سفرا قال نعم قال أفأتجهز قال نعم قال فاين تريد يا رسول الله قال قريشا وأخف ذلك يا ابا بكر وأمر صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وطوى عنهم الوجه الذي يريده وقد قال له ابو بكر رضي الله عنه يا رسول الله أو ليس بيننا وبينهم مدة قال أنهم غدروا ونقضوا العهد
____________________
(3/9)
واطو ما ذركرت لك وفي رواية ان ابا بكر رضي الله عنه قال يا رسول الله أتريد ان تخرج مخرجا قال نعم قال لعلك تريد بني الأصفر قال لا قال أفتريد أهل نجد قال لا قال فلعلك تريد قريشا قال نعم قال يا رسول الله أليس بينك وبينهم مدة قال أو لم يبلغك ما صنعوا ببني كعب يعني خزاعة قال وأرسل صلى الله عليه وسلم ألى أهل البادية ومن حوله من المسلمين في كل ناحية يقول لهم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة أي وذلك بعد أن تشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ابي بكر وعمر رضي الله عنهما في السير الى مكة فذكر له ابو بكر رضي الله عنه ما يشير به الى عدم السير حيث قال له هم قومك وحضه عمر رضي الله عنه حيث قال نعم هم راس الكفر زعموا أنك ساحر وانك كذاب وذكر له كل سوء كانوا يقولون وايم الله لا تذل العرب حتى تذل اهل مكة فعند ذلك ذكر صلى الله عليه وسلم أن ابا بكر كإبراهيم وكان في الله الين من اللين وان عمر كنوح وكان في الله اشد من الحجر وان الأمر امر عمر وتقدم نحو هذا لم استشارهما صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر أي ثم قدمت المدينة من قبائل العرب أسلم وغفار ومزينة واشجع وجهينه
ثم قال صلى الله عليه وسلم اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها أي وفي رواية قال اللهم خذ على اسماعهم وابصارهم فلا يرونا الا بغتة ولا يسمعون بنا الا فجأة وأخذ بالأنقاب أي الطرق أي أوقف بكل طريق جماعة ليعرف من يمر بها أي وقال لهم لا تدعوا احدا يمر بكم تنكرونه الا رددتمهوه
ولما اجمع صلى الله عليه وسلم المسير الى قريش وعلم بذلك الناس كتب حاطب بن ابي بلتعة الى قريش أي الى ثلاثة منهم من كبرائهم وهم سهيل بن عمرو وصفوان ابن امية وعكرمة بن ابي جهل رضي الله عنهم فإنهم اسلموا بعد ذلك كما تقدم كتابا يخبرهم بذلك ثم اعطاه امرأة وجعل لها جعلا على ان تبلغه قريشا ويقال أعطاها عشرة دنانير وكساها بردا أي وقال لها اخفيه ما استطعت ولا تمري على الطريق فإن عليه حرسا فسلكت غير الطريق قال وتلك المرأة هي سارة مولاة لبعض بني عبد المطلب بن عبد مناف وكانت معنيه بمكة وكانت قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلمت وطلبت منه الميرة وشكت الحاجة فقال لها رسول الله
____________________
(3/10)
صلى الله عليه وسلم ما كان في غنائك ما يغنيك فقالت ان قريشا منذ قتل منهم من قتل ببدر تركوا الغناء فوصلها صلى الله عليه وسلم وأوقر لها بعيرا طعاما فرجعت الى قريش وارتدت عن الاسلام وكان ابن خطل يلقى عليها هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغنى به انتهى فجعلت الكتاب في قرون رأسها أي ضفائر رأسها خوفا ان يطلع عليها أحد ثم خرجت به وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث عليا والزبير وطلحة والمقداد أي وقيل عليا وعمارا والزبير وطلحة والمقداد وابا مرثد أي ولا مانع أن يكون ارسل الكل وبعض الرواة اقتصر على بعضهم فقال صلى الله عليه وسلم أدركا امرأة بمحل كذا قد كتب معها حاطب بكتاب الى قريش يحذرهم ما قد اجمعنا له في امرهم فخذوه منها وخلوا سبيلها فإن أبت فاضربوا عنقها فخرجا حتى أدركاها في ذلك المحل الذي ذكره صلى الله عليه وسلم فقالا لها اين الكتاب فحلفت بالله ما معها من كتاب فاستنزلاها وفتشاها والتمسا في رحلها فلم يجدا شيئا فقال لها علي كرم الله وجهه إني احلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ولا كذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنك أو اضرب عنقك فلما رأت الجد منه قالت أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منه وفي البخاري أخرجته من عقاصها ولا منافاة وفيه في محل اخر اخرجته من حجزتها والحجزة معقدالإزار والسروايل قال بعضهم ولا مانع أن يكون في ضفائرها وأنها جعلت الضفائر في حجزتها فدفعته اليه وسيأتى أنها ممن أباح صلى الله عليه وسلم وسلم دمه يوم الفتح ثم اسلمت وعفا عنها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الكتاب أي وصورة الكتاب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه اليكم بجيش كالليل يسير كالسيل واقسم بالله لو سار اليكم وحده لينصرنه الله تعالى عليكم فإنه منجز له ما وعده فيكم فإن الله تعالى ناصره ووليه وقيل فيه إن محمدا صلى الله عليه وسلم فد نفر فإما اليكم وإما الى غيركم فعليكم الحذر وقيل فيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آذن بالغزو ولا أراه الا يريدكم وقد أحببت ان تكون لي يد بكتابي اليكم
أقول لا مانع ان يكون جميع ما ذكره في الكتاب بأن يكون فيه ان محمدا صلى الله عليه وسلم قد آذن أي أعلم بالغزو وقد نفر أي عزم على ان ينفر فإما اليكم وإما الى غيركم ولا أراه الا يرديكم وهذا كان قبل ان يعلم بسيره الى مكة فلما علم الحق بالكتاب
____________________
(3/11)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه أي يريد التوجه اليكم بجيش الى آخره وبعض الرواة اقتصر على ما في بعض الكتاب والله اعلم
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا فقال له اتعرف هذا الكتاب قال نعم فقال ما حملك على هذا فقال والله إني لمؤمن بالله ورسوله ما غيرت ولا بدلت وفي لفظ ما كفرت منذ اسلمت ولا غششت منذ نصحت ولا احببتهم منذ فارقتهم ولكني ليس لي في القوم أهل ولا عشيرة ولي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم أي وفي لفظ قال يا رسول الله لا تعجل على إني كنت امرأ ملصقا أي حليفا من قريش وفي كلام بعضهم ما يفيد أن الملصق هو الذي لا نسب له ولا دخل في حلف قال ولم أكن من انفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابة يحمون أموالهم واهليهم بمكة ولم يكن لي قرابة فأحببت ان اتخذ فيهم يدا احمى بها أهلي أي وهي أمه
ففي بعض الروايات كنت غريبا في قريش وامي بين اظهرهم فأردت ان يحفظوني فيها وما فعلت ذلك كفرا بعد إسلام وقد علمت ان الله تعالى منزل بهم بأسه لا يغنى عنهم كتابى شيئا فقال رسول الله صلى الله وسلم إنه قد صدقكم فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يا رسول الله دعني لاضرب عنقه فإن الرجل قد نافق وفي لفظ قال له قاتلك الله ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأنقاب وتكتب الى قريش تحذرهم وفي رواية دعني أضرب عنقه لأنه يعلم انك يا رسول الله أخذت على الطريق وأمرت أن لا ندع احدا يمر ممن تنكره الا رددناه انتهى
وأقول مراد سيدنا عمر بقوله قد نافق أي خالف الأمر لا انه اخفى الكفر لقوله صلى الله عليه وسلم قد صدقكم ورأى ان مخالفة امره صلى الله عليه وسلم مقتضية للقتل ولكن رواية البخاري إنه قد صدقكم ولا تقولوا له الا خيرا وعليها يشكل قول عمر المذكور ودعاؤه عليه بقوله قاتلك الله الا ان يقال يجوز ان يكون قول عمر لذلك كان قبل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر وعند قول عمر رضي الله عنه دعني لاضرب عنقه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قد شهد بدرا وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على اهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وفي رواية فقد وجبت لكم الجنة وفي رواية لا يدخل النار احد شهد بدرا فعند ذلك فاخت عينا عمر رضي الله عنه بالبكا أي وانزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة }
____________________
(3/12)
وفي قوله عدوي وعدوكم منقبة عظيمة لحاطب رضي الله عنه بأن في ذلك الشهادة له بالايمان وقوله تلقون اليهم بالمودة أي تبدونها لهم وذكر بعضهم ان البلتعة في اللغة التظرف بالظاء المشالة يقال تبلتع في كلامه اذا تظرف فيه
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره واستخلف على المدينة أبارهم كلثوم ابن الحصين الغفاري وقيل ابن ام مكتوم وبه جزم الحافظ الدمياطي في سيرته وخرج لعشر وقيل لليلتين وقيل لثنتى عشرة وقيل ثلاث عشرة وقيل سبع عشرة وقيل ثمان عشرة وهو في مسند الإمام احمد بسند صحيح قال ابن القيم إنه أصح من قول من قال إنه خرج لعشر خلون من رمضان أي وصدر به في الامتاع وقيل خرجل تسع عشرة مضين من شهر رمضان في سنة ثمان قال في النور لا اعلم خلافا في الشهر والسنة
وما في البخاري أن خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة كان على رأس ثمان سنين ونصف من مقدمة المدينة أي فيكون في السنه التاسعة في نظر وكان صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف أي باعتبار من لحقه في الطريق من القبائل كبنى اسد وسليم ولم يختلف عنه احد من المهاجرين والانصار وكان المهاجرون سبعمائة ومعهم ثلثمائة فرس وكانت الانصار اربعة الاف ومعهم خمسمائة فرس وكانت مزينة الفا وفيها مائة فرس وكانت اسلم اربعمائة ومعها ثلاثون فرسا وكانت جهينة ثمانمائة ومعها خمسون فرسا وقيل كان صلى الله عليه وسلم في اثنى عشر الفا
ولما وصل صلى الله عليه وسلم الى الابواء او قريبا منها لقيه ابو سفيان ابن عمه الحارث وكان الحارث اكبر اولاد عبد المطب وكان يكنى به كما تقدم وكان ابو سفيان اخاه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة على حليمة كما تقدم ولقيه بد الله بن امية بن المغيرة ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب اخو أم سلمة ام المؤمنين رضى الله عنها لأبيها لأن والدة ام سلمة عاتكة بنت جندل الطعان وكان عند ابيها امية بن المغيرة زوجتان ايضا كل منهما تسمى عاتكة فكان عنده اربع عواتك وكان مجئ الحارث وعبد الله له صلى الله عليه وسلم يريدان الإسلام وكان رضى الله تعالى عنهما من اكبر القائمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أشد الناس إذاية له صلى الله عليه وسلم أي بعد أن كان الحارث قبل النبوة آلف الناس له صلى الله عليه وسلم لا يفارقه كما تقدم وقد تقدم بعض ذكر
____________________
(3/13)
أذيتما له صلى الله عليه وسلم فأعرض صلى الله عليه وسلم عنهما فكلمته أم سلمة رضي الله عنها فيهما أي قالت له لا يكون ابن عمك وابن عمتك أي وصهرك اشقى الناس بك فقال صلى الله عليه وسلم لا حاجة لي بهما اما ابن عمى يعني ابا سفيان فهتك عرض واما ابن عمتي وصهري يعني عبد الله اخا ام سلمة فهو الذي قال لي بمكة ما قال أي قال له والله لا آمنت بك حتى تتخذ سلما الى السماء فتعرج فيه وانا انظر اليك ثم تأتى بصك واربعة من الملائكه يشهدون لك ان الله ارسلك الى آخر ما تقدم فلما خرج الخبر اليهما قال ابو سفيان ومعه ابن له والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد ابني هذا ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت جوعا وعطشا فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما ثم أذن لهما فدخلا عليه وأسلما وقبل صلى الله عليه وسلم إسلامهما
وقيل إن عليا كرم الله وجهه قال لابي سفيان ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف تالله لقد أثرك الله علينا وان كنا لخاطئين فإنه صلى الله عليه وسلم لا يرضى أن يكن أحد أحسن قولا منه ففعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين وكان ابو سفيان رضي الله عنه بعد ذلك لا يرفع رأسه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم حياء منه لأنه عاداه صلى الله عليه وسلم نحو عشرين سنة يهجوه ولم يتخلف عن قتاله وكان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يحبه ويشهد له بالجنة ويقول ارجو ان يكون خلفا من حمزة رضي الله عنهما أي وقال له صلى الله عليه وسلم يوما الصيد كل الصيد في جوف الفرا وفي رواية قال له صلى الله عليه وسلم أنت يا أبا سفيان كما قيل كل الصيد في جوف الفرا
وفي سفره صلى الله عليه وسلم صام وصام الناس حتى إذا كانوا بالكديد بفتح الكاف وكسر الدال المهملة الأولى أي وهو محل بين عسفان وقديد أفطر أي وقيل أفطر بعسفان وقيل افطر بقديد وقيل أفطر بكراع الغميم ولا منافاة لتقارب الامكنة وقال بعضهم لا مانع أن يكون صلى الله عليه وسلم كرر الفطر في تلك الأماكن لتتساوى الناس في رؤية ذلك فأخبر كل منهم عن محل رؤيته
قال وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج ووصل الى محل يقال له الصلصل قدم
____________________
(3/14)
أمامه الزبير بن العوام رضي الله عنه في مائتين ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب ان يصوم فليصم ومن احب ان يفطر فليفطر
أي وفي الإمتاع لما خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة نادى مناديه من أحب ان يصوم فليصم وفي بعض الأيام صب رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه الماء ووجهه من شدة العطش وفي لفظ من شدة الحر وهو صائم
وفي رواية انه صلى الله عليه وسلم لما بلغ الكديد بلغة أن الناس شق عليهم الصيام أي وأنهم ينظرون فيما فعلت فاستوى صلى الله عليه وسلم على راحلته بعد العصر ودعا بإناء فيه ماء وقيل لبن فشرب ثم ناوله لرجل بجنبه فشرب فقيل له بعد ذلك ان بعض الناس صام فقال أولئك العصاة أي لانهم خالفوا امره صلى الله عليه وسلم بالفطر ليقووا على مقاتلة العدو لأنه صلى الله عليه وسلم قال للصحابة لما دنوا من عدوهم انكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم فلم يزل صلى الله عليه وسلم وسلم يفطر حتى انسلخ الشهر انتهى
أي وفي قديد عقد صلى الله عليه وسلم الألوية والرايات ودفعها للقبائل ثم سار حتى نزل بمر الظهران أي وهو الذي يقال له الآن بطن مرو عشاء أي وقد أعمى الله الأخبار عن قريش اجابة لدعائه صلى الله عليه وسلم فلم يعلموا بوصوله اليهم أي ولم يبلغهم حرف واحد من مسيره اليهم فأمر صلى الله عليه وسلم اصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار وجعل على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان العباس رضي الله عنه قد خرج قبل ذلك بعياله مسلما أي مظهر اللإسلام مهاجرا فلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة وقيل بذي الحليفة فرجع معه الى مكة أي وأرسل أهله وثقله الى المدينة وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرتك يا عم آخر هجرة كما ان نبوتي أخر نبوة قال العباس رضي الله عنه ورقت نفسي لاهل مكة أي وقال يا صباح قريش والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل ان يأتوه فيستأمنوه انه لهلاك قريش الى آخر الدهر قال العباس رضي الله عنه فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء أي زاد بعضهم التي أهداها له دحية الكلبي فخرجت عليها حتى جئت الأراك فقلت لعلى اجد بعض الحطابة او صاحب لبن او ذا حاجة يأتى مكة يخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا اليه فيسأمنوه قبل ان يدخلها عنوة
____________________
(3/15)
فوالله إني لاسير إذ سمعت كلام ابي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان أي وقد خرجا وحكيم بن حزام أي بعد ان خرج ابو سفيان وحكيم بن حزام فلقيا بديلا فاستصحباه وخرجوا يتجسسون الأخبار وينظرون هل يجدون خبرا او يسمعون به أي لأنهم علموا بمسيره صلى الله عليه وسلم ولم يعلموا الى أي جهة
وفي سيرة الدمياطي ولم يبلغ قريشا مسيره اليهم فلا ينافي ما قبله وهم مغتمون يخافون من غزوة إياهم فبعثوا ابا سفيان بن حرب يتجسس الأخبار وقالوا إن لقيت محمدا فخذلنا منه أمانا أي فلما سمعوا صهيل الخيل راعهم ذلك وأبو سفيان يقول ما رايت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا هذه كنيران عرفة وبديل يقول له هذه والله خزاعة حمشتها الحرب وحمشتها بالحاء المهملة والشين المعجمة أي احرقتها وقيل بالسين المهملة أي اشتدت عليها من الحماسة وهي الشدة وابو سفيان يقول خزاعة اذل واقل من ان تكون هذه نيرانها وعسكرها أي وفي رواية أن القائل هذه خزاعة غير بديل وان بديلا هو القائل هؤلاء أكثر من خزاعة وهو المناسب لان بديلا من خزاعة قال العباس رضي الله عنه فعرفت صوت ابي سفيان أي وكان ابو سفيان صديقا للعباس ونديمه قال العباس فقلت يا ابا حنظلة فعرف صوتي فقال ابو الفضل فقلت نعم قال مالك فداك ابي وامي قلت والله هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس قد جاءكم بما لا قبل لكم به أي وفي رواية قد جاءكم بعشرة آلاف فقال واصباح قريش والله فما الحيلة فداك أبي وأمي قلت والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فاركب في عجز هذه البغلة حتى أتيك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك فركب خلفي أي ورجع صاحباه فجئت به كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا من هذا وإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وانا عليها قالوا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته حتى مررت بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال من هذا وقام الى فلما راى أبا سفيان على عجز الدابة قال ابو سفيان عدو الله الحمد لله الذي قد أمكن منك من غير عقد ولا عهد ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم فركضت البغلة فسبقته فاقتحمته عن البغلة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه عمر في اثرى فقال يا رسول الله هذا ابو سفيان أي عدو الله قد أمكن من من غير عقد ولا عهد فدعني لأضرب عنقه قال قلت يا رسول الله إني قد أجرته ولعل العباس
____________________
(3/16)
وعمر رضي الله عنهما لم يبلغهما قوله صلى الله عليه وسلم إنكم لاقون بعضهم فإن لقيتم ابا سفيان فلا تقتلوه إن صح
قال العباس رضي الله ثم جلست الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت براسه فقلت والله لا يناجيه الليلة رجل دوني فلما أكد عمر في شأنه قلت مهلا يا عمر فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا أي ولكنك قد عرفت انه من رجال عبد مناف قال مهلا يا عباس فو الله لإسلامك يوم اسلمت كان احب إلي من اسلام الخطاب لو أسلم وما بي الا اني قد عرفت ان اسلامك كان احب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اسلام الخطاب لو أسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب به يا عباس الى رحلك فإذا اصبحت فأتنى به
وفي البخاري ان الحرس ظفروا بأبي سفيان ومن معه وجاءوا بهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا
وجمع بعضعم بأنه يجوز ان يكون العباس اخذهم من الحرس أي ويؤيده قول ابن عقبة رحمه الله لما دخل الحرس بأبي سفيان وصاحبيه لقيهم العباس بن عبد المطلب فأجارهم أي واتى بأبي سفيان وتأخر صاحباه قال وفي لفظ أخذهم نفر من الانصار بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عيونا فأخذوا بخطم أبعرتهم فقالوا من أنتم قالوا نحن اصحاب رسول صلى الله عليه وسلم وها هو فقال ابو سفيان هل سمعتم بمثل هذا الجيش نزلوا على اكباد قوم لم يعلموا بهم فجاءوا بهم الى عمر رضي الله تعالى عنه أي لأنه كان في تلك الليلة على الحرس كما تقدم فقالوا جئناك بنفر من أهل مكة فقال عمرو وهو يضحك اليهم والله لو جئتموني بأبي سفيان ما زدتم فقالوا والله أتيناك بأبي سفيان فقال احبسوه فحبسوه حتى أصبح فغدوا به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى وفيه مالا يخفى فان الجمع بينه وبين ما قبله بعيد
قال العباس ولما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب به يا عباس الى رحلك فذهبت به فلما اصبح غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد ان نؤدي بالصلاة وثار الناس ففزع ابو سفيان وقال للعباس يا أبا الفضل ما يريدون قال الصلاة
وفي رواية ما للناس أامروا في بشىء قال لا ولكنهم قاموا الى الصلاة ورأى
____________________
(3/17)
المسلمين يتلقون وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رآهم يركعون إذا وكع ويسجدون إذا سجد فقال للعباس يا عباس ما يأمرهم بشئ الا فعلوه فقال له العباس لو نهاهم عن الطعام والشراب لأطاعوه فقال ما رأيت ملكا مثل هذا لاملك كسرى ولا ملك قيصر ولا ملك بني الاصفر ثم قال للعباس كلمه في قومك هل عنده من عفو عنهم فانطلق العباس بأبى سفيان حتى أدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك يا ابا سفيان أم يأن لك أن تعلم عليه أنه لا إله الا الله قال بأبي وأمي انت ما أحلمك وأكرمك وأوصلك لقد ظننت أنه لو كان مع الله اله غيره ما اغنى عني شيئا بعد قال ويحك يا ابا سفيان ألم يأن لك أن تعلم انى رسول الله قال بأبي انت وأمي اما والله هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئا
قال وفي رواية أن بديلا وحكيم بن حزام لم يرجعا بل جاء بهم العباس وان العباس قال يا رسول الله ابو سيفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قد اجرتهم وهم يدخلون عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلهم فدخلوا عليه فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم أي عن أهل مكة ودعاهم الى الاسلام فقالوا نشهد ان لا اله الا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهدوا أني رسول الله فشهد بذلك بديل وحكيم بن حزام فقال ابو سفيان ما اعلم ذلك والله إن في النفس من هذا شيئا فأرجئها انتهى وأي اخرها الى وقت آخر
وفي أسد الغابة أنه صلى الله عليه وسلم قال ليلة قرب من مكة في غزوة الفتح إن بمكة اربعة نفر من قريش أربأ بهم عن الشرك وأرغب بهم في الإسلام عتاب بن اسيد وجيبر بن مطعم وحكيم بن حزام وسهيل بن عمرو أي وهذا يدل على القول بأن جبيرا أسلم يوم الفتح كمن ذكر معه وذكر بعضهم أنه أسلم بعد الحديبية وقبل الفتح
فقال العباس رضي الله تعالى عنه لأبي سفيان ويحك اسلم واشهد ان لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله قبل ان تضرب عنقك فشهد شهادة الحق فاسلم
وذكر عبد بن حميد ان النبي صلى الله عليه وسلم حين عرض الإسلام على ابي سفيان قال له كيف اصنع بالعزى فسمعه عمرو رضي الله تعالى عنه من وراء القبة فقال له تخرأ عليها فقال له ابو سفيان ويحك يا عمر إنك رجل فاحش دعني مع ابن عمي
____________________
(3/18)
فإياه اكلم وكان في هذا التصديق أمية بن ابي الصلت فإنه كان يقول كنت رأى في كتبي أن نبيا يبعث في حرتنا فكنت أظن بل كنت لا اشك أني أنا هو فلما دارست أهل العلم إذ هو في بني عبد مناف فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحدا يصلح لهذا الأمر الا عتبة بن ربيعة فلما جاوز الاربعين سنة ولم يوح اليه علمت أنه غيره قال ابو سفيان فخرجت في ركب اريد اليمن في تجارة فمررت بأمية بن أبي الصلت فقلت له كالمستهزئ به يا أمية قد خرج النبي الذي كنت تنعته قال انه حق فاتبعه قلت ما يمنعك من اتباعه قال ما يمنعني من اتباعه إلا الاستحياء من بنيات ثقيف إني كنت احدثهم اني هو يرينني تابعا لغلام من بني عبد مناف ثم قال لابي سفيان كأني بك يا أبا سفيان إن خالفته قد ربطت كما يربط الجدى حتى يأتى بك اليه فيحكم فيكم بما يريد رواه الطبراني في معجمه
وذكر بعضهم أن امية هذا كان يتفرس في بعض الأحيان في لغات الحيوان فمر يوما على بعير عليه امرأة راكبة وهو يرفع رأسه اليها ويرغوا فقال هذا البعير يقول إن في رحلة مسلة تصيب ظهره فأنزلوا تلك المرأة وحلوا ذلك الرجل فوجدوا المسلة كما قال
وذكر ان حكيم بن حزام قال يا رسول الله أجئت بأوباش الناس من يعرف ومن لا يعرف الى أهلك وعشيرتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أظلم وأفجر قد غدرتهم بعقد الحديبية وتجارتم على بني كعب يعني خزاعة بالإثم والعدوان في حرم الله وأمنه فقال بديل صدقت والله يا رسول الله فقد غدروا بنا والله لو أن قريشا خلوا بيننا وبين عدونا ما نالوا منا الذي نالوا فقال حكيم قد كنت يا رسول الله حقيقا ان تجعل عدتك وكيدك لهوازن فإنهم أبعد رحما واشد عدواة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأرجوا أن يجمعها لي ربي فتح مكة وإعزاز الإسلام بها وهزيمة هوازن وأخذ أموالهم وذراريهم وقال له ابو سفيان يارسول الله ادع الناس بالأمان أرأيت إن اعتزلت قريش فكفت أيديها آمنون هم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم من كف يده وأغلق داره فهو آمن قال العباس فقلت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا قال نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن
____________________
(3/19)
أي فحكيم بن حزام من مسلمة الفتح وكان عمره ستين سنة وبقي في الإسلام مثل ذلك كان من اشراف قريش في الجاهلية والإسلام واعتق في الجاهلية مائة رقبة وفي الإسلام مثل ذلك فإنه حج في الإسلام وأوقف بعرفة مائة وصيف في أعناقهم أطواق الفضة منقوش عليها عتقاء الله عن حكيم بن حزام وأهدى مائة بدنة قد جللها بالحبرة وأهدى ألف شاة وعقد صلى الله عليه وسلم لأبي رويحة الذي آخى صلى الله عليه وسلم بينه وبين بلال لواء وأمره ان ينادي من دخل تحت لواء ابي رويحة فهو آمن أي وانما قال ذلك لما قال له ابو سفان وما تسع داري وما يسع المسجد ولما قال له صلى الله عليه وسلم ذلك قال ابو سفيان هذه واسعة ثم أمر صلى الله عليه وسلم العباس ان يحبس أبا سفيان بديلا وحكيم بن حزام أي وعليه انماخص ابو سفيان بالذكر في بعض الروايات لشرفه قال له احبسه بمضيق الوادى حتى تمر به جنود الله فيراها قال العباس ففعلت فمرت القبائل كلها مرت قبيلة كبرت ثلاثا عند محاذاته قال يا عباس من هذه فأقول سليم فيقول مالي ولسليم أي فإن أول القبائل مر سليم وفيها خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه ثم تمر القبيلة فيقول يا عباس من هؤلاء فأقول مزينة فيقول مالي ولمزينة حتى نفدت بالفاء والدال المهملة القبائل كلها ما تمر قبيلة الا سألني عنها قلت له بنو فلان قال مالي ولبني فلان
اي وقد ذكرها بعضهم مرتبة فقال أول من مر خالد بن الوليد في بني سليم بضم السين فقال ابو سفيان يا عباس من هؤلاء قال هذا خالد بن الوليد قال الغلام قال نعم قال ومن معه قال بنو سليم قال مالي ولبني سليم
ثم مر على اثره الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه في خمسمائة من المهاجرين وفتيان العرب فقال ابو سفيان من هؤلاء قال الزبير قال ابن اخيك قال نعم
ثم مرت بنو غفار بكسر الغين المعجمة ثم أسلم ثم بنو كعب ثم مزينة ثم جهينة ثم كنانة ثم اشجع
ولما مرت اشجع قال ابو سفيان للعباس هؤلاء كانوا اشد العرب على محمد قال العباس ادخل الله الاسلام قلوبهم فهذا فضل الله حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء للبسهم الحديد والعرب تطلق الخضرة على السواد كما تطلق
____________________
(3/20)
السواد على الخضرة وفيها المهاجرون الانصار لا يرى منهم الا الحدق من الحديد أي فيها ألفا دارع وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول رويدا حتى يلحق أولكم آخركم قال سبحان الله يا عباس من هؤلاء فقلت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار فقال ما لاحد بهؤلاء قبل ولا طاقة فقال ابو سفيان والله يا أبا الفضل لقد اصبح ملك ابن اخيك اليوم عظيما فقلت يا أبا سفيان إنها النبوة فقال نعم إذن ثم قلت له النجاء بالفتح والمد الى قومك حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به فمن دخل دار ابي سفيان فهو آمن فقامت اليه زوجته هند بنت عتبة أم معاوية رضي الله تعالى عنهم فأخذت بشاربه وقالت كلاما معناه اقتلوا الخبيث الدنس لا خير فيه قبح من طليعة قوم
أي وفي رواية أنها أخذت بلحيته ونادت يا آل غالب اقتلوا الشيخ الأحمق هلا قاتلتم ودفعتم عن أنفسكم وبلادكم فقال لها ويحك اسكتي وادخلي بيتك وقال ويحكم لا تغرنكم هذه من انفسكم فإنه قد جاءكم مالا قبل لكم به من دخل دار أبي سفيان فهو أمن قالوا قبحك الله وما تغنى عنا دارك قال ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل دار حكيم ابن حزام فهو آمن ومن دخل تحت لواء ابي رويحة فهو آمن فتفرق الناس الى دورهم والى المسجد أي وبهذا استبدل على أن مكة فتحت صلحا لا عنوة وبه قال إمامنا الشافعي رحمه الله وقال غيره فتحت عنوة
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه حكيم بن حزام مع ابي سفيان بعد إسلامها الى مكة وقال من دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن وكانت أسفل مكة ومن دخل دار ابي سفيان فهو آمن وكانت باعلى مكة واستثنى صلى الله عليه وسلم جماعة أمر بقتلهم وهم أحد عشر رجلا أي وفي الامتاع ستة نفر وأربع نسوة وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة منهم عبد الله بن ابي سرح وهو أخو عثمان بن عفان من الرضاعة وكان فارس بني عامر وكان احد النجباء الكرام من قريش رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك وعبد الله بن خطل وقينتاه وعكرمة ابن ابي جهل رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك والحويرث بن نفيل ومقيس بن حبابة وهبار بن الاسود رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك وكعب بن زهير رضي
____________________
(3/21)
الله عنه فإنه اسلم بعد ذلك وهو صاحب بانت سعاد والحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك وهو أخو ابي جهل لأبويه وزهير بن أمية رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب رضي الله تعالى عنها فإنها أسلمت بعد ذلك وعاشت الى خلافة ابي بكر رضي الله تعالى عنه وتقدم أنها كانت حاملة لكتاب حاطب بن ابي بلتعه وصفوان بن امية رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك وزهير ابن ابي سلمى أي وهند بنت عتبة امرأة ابي سفيان ووحشي بن حرب رضي الله تعالى عنه فانه اسلم بعد ذلك
وفي رواية ان سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه كان معه راية رسول الله صلى الله عليه وسلم أي على الانصار
ولما مر على أبي سفيان وهو واقف بمضيق الوادي قال أبو سفيان من هذه قال هؤلاء الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية فلما حاذاه سعد قال يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة أي الحرب والقتال اليوم أستحل الحرمة وفي لفظ الكعبة اليوم أذل الله قريشا فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعضهم ورأيته مع الزبير رضي الله تعالى عنه فلما مر بأبي سفيان وحاذاه أبو سفيان ناداه يا رسول الله أمرت بقتل قومك فإنه زعم سعد ومن معه حين مر بنا أنه قاتلنا فإنه قال اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة اليوم أذل الله قريشا أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس بر وأرحمهم وأوصلهم فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما يا رسول الله فإنا لا نأمن من سعد أن يكون له في قريش صولة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا سفيان كذب سعد اليوم يوم المرحمة اليوم أعز الله فيه قريشا أي وفي رواية اليوم يعظم الله فيه الكعبة اليوم تكسى فيه الكعبة وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة أي أرسل عليا كرم الله وجهه أن ينزع اللواء منه ويدفعه لابنه قيس رضي الله تعالى عنهما وقيل أعطاه للزبير وقيل لعلي كرم الله وجهه خشية أن يقع من ابنه قيس مالا يرضاه صلى الله عليه وسلم أي لأن قيسا رضي الله تعالى
____________________
(3/22)
عنه كان من دهاة العرب وأهل الرأي والمكيدة في الحرب مع النجدة والبسالة والشجاعة من وقف على ما وقع بينه وبين معاوية لما ولاه سيدنا علي كرم الله وجهه بعد قتل عثمان رضي الله تعالى عنه مصر لرأي العجب من وفور عقله ومع ذلك كان له من الكرم مالا مزيد عليه وقفت له رضي الله تعالى عنه عجوز وقالت له أشكو إليك قلة الجرذان ببيتي والجرذان بالذال المعجمة نوع من الفيران فقال ما أحسن هذا السؤال وقال لها لأكثرن الجرذان ببيتك فملأ بيتها طعاما وأدما وقيل قالت له مشت جرذان بيتي على العصى فقال لها لأدعهن يثبن وثبة الأسود ثم ملأ بيتها طعاما ولا مانع من تعدد الواقعة
ومن هذا الوادي ما كتب به بعضهم الى عبد الملك بن مروان يا أمير المؤمنين أشكو اليك الشرف فقال له ما أحسن ما استمنحت وأعطاه عشرة آلاف درهم فقيل له في ذلك يسأل ما لا يقدر عليه ويعتذر فلا يعذر
ولما أشرف أبوه سعد رضي الله تعالى عنهما على الموت قسم ماله في أولاده وكان له حمل لم يشعر به فلما مات سعد وولد له ذلك الحمل كلمه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في أن ينقض ما صنع أبوه من تلك القسمة فقال نصيبي للمولود ولا أغير ما صنع أبي ولم يكن في وجه قيس رضي الله تعالى عنه شعر وكان مع ذلك جميلا وكانت الأنصار رضي الله تعالى عنهم تقول وددنا أن نشتري لقيس بن سعد لحية بأموالنا وكان له ديون على الناس كثيرة فلما مرض رضي الله تعالى عنه استبطأ عواده فقيل له إنهم مستحيون من أجل دينك فأمر مناديا ينادي كل من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو له فأتاه الناس حتى هدموا درجة كان يصعد عليه إليه
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج عن سعد إذ صار لابنه قيس رضي الله تعالى عنهما قال وروى أن سعدا أبى أن يسلم اللواء الا بأمارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل صلى الله عليه وسلم اليه بعمامته فدفع اللواء لابنه قيس رضي الله تعالى عنهما انتهى
وفي صحيح البخاري ان كتيبة الأنصار جاءت مع سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه ومعه الراية ولم ير مثلها ثم جاءت كتيبة وهى أقل وفي رواية الحميدي وهي أجل الكتائب
____________________
(3/23)
بالجيم قال في الأصل وهي أظهر من رواية أقل لانها كانت خاصة المهاجرين فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم والراية مع الزبير رضي الله تعالى عنه
وأمر رسول الله خالد بن الوليد ان يدخل مع جملة من قبائل العرب من اسفل مكة أي وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت وقال لا تقاتلوا الا من قاتلكم وكان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو رضي الله عنهم أي فإنهم أسلموا بعد ذلك قد جمعوا ناسا بالخندمة وهو جبل بمكة ليقاتلوا وكان من جملتهم رجل كان يعد سلاحا ويصلح من شأنه فتقول له زوجته أي وقد كانت أسلمت سرا لماذا تعد ما أرى فيقول لمحمد وأصحابه فتقول له والله ما أراه يقوم لمحمد وأصحابه شيء قال والله إني لأرجوا أن أخدمك بعضهم
وفي تاريخ مكة للأزرقي قال رجل من قريش لامرأته وهي تبرى نبالا له وكانت أسلمت سرا فقالت له لم تبري هذا النبل قال بلغني أن محمدا يريد أن يفتح مكة ويغزوها فلئن كان لأخدمنك خادما من بعض من أستأسره فقالت له والله لكأني بك وقد رجعت تطلب مخبأ أخبئك فيه لو رايت خيل محمد فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أقبل لك الرجل اليها فقال ويحك هل من مخبأة فقالت له فأين الخادم فقال لها دعى عنك وأنشد الأبيات الآتية هذا كلامه
وسبب ذلك أن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه لما لقيهم بالمحل المذكور منعوه الدخول ورموه بالنبل وقالوا له لا تدخلها عنوة فصاح خالد في أصحابه فقتل من قتل وانهزم من لم يقتل وكان من جملة من انهزم ذلك الرجل
وفي رواية أنه لما دخل بيته قال لامرأته أغلقي على بابي قالت وأين ما كنت تقول أين الخادم الذي كنت وعدتني تسخر به فقال إنك لو شهدت يوم الخندمة عبارة الأزرقي ** وأنت لو أبصرتنا بالخندمه ** إذ فر صفوان وفر عكرمة ** ** واستقبلتنا بالسيوف المسلمة ** يقطعن كل ساعد وجمجمه ** ** ضربا فلا تسمع الا غمغمه ** لهم نهيت حولنا وهمهمة ** ** لا تنطفى في اللوم أدنى كلمه **
____________________
(3/24)
والغمغمة الصوت الذي لا يفهم والنهيت بالمثناة تحت وفوق الزحير والهمهمة صوت في الصدر
أي واستمر خالد رضي الله تعالى عنه يدفعهم الى أن وصل الحزورة الى باب المسجد أي وصعدت طائفة منهم الجبل فتبعهم المسلمون فرأى صلى الله عليه وسلم وهو على العقبة بارقة السيوف فقال ما هذا وقد نهيت عن القتال فقيل له لعل خالدا قوتل وبدئ بالقتال فلم يكن له بد من ان يقاتل من يقاتله وما كان يا رسول الله ليخالف أمرك فقتل من المشركين اربعة وعشرون من قريش واربعة من هذيل
وفي رواية جعل صلى الله عليه وسلم الزبير رضي الله تعالى عنه على إحدى المجنبتين أي وهما الكتيبتان تأخذ إحداهما اليمين والأخرى اليسار والقلب بينهما وخالدا على الأخرى وأبا عبيدة على الرجالة
وفي لفظ على الحسر بضم الحاء المهملة وتشديد السين المهملة أي الذين لا دروع لهم قال في شرح مسلم فهم رجاله لا دروع عليهم وقد أخذوا بطن الوادي ولعل ذلك كان قبل الدخول الى مكة فلا ينافي ما سيأتى انه صلى الله عليه وسلم أعطى الزبير رضي الله تعالى عنه راية وأمره أن يغرزها بالحجون لا يبرح حتى يأتيه في ذلك المحل وفي ذلك المحل بنى مسجد يقال له مسجد الراية
وقد بوشت قريش أبواشا أي جمعوها من قبائل شتى فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا هريرة رضي الله تعالى عنه وقال لي اهتف أي صح لي بالأنصار فهتف بهم فجاءوا وطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم ثم قال صلى الله عليه وسلم بيديه إحداهما على الأخرى احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا أي ودخلوا من أعلى مكة قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه فانطقلنا فما شاء احد من ان يقتل منهم ما شاء وما أحد يوجه الينا منهم شيئا وفي لفظ فما نشاء ان نقتل أحدا منهم الا قتلناه أي لا يقدر أن يدفع عن نفسه فجاء ابو سفيان رضي الله تعالى عنه فقال يا رسول الله أبيحت خضراء قريش لا قريش أي لا جماعة لقريش بعد اليوم لأن الجماعة المجتمعة يعبر عنها بالسواد الأعظم فيقال السواد الأعظم ويعبر عنها بالخضرة كما هنا فالمراد جماعة قريش وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم من أغلق بابه فهو آمن
____________________
(3/25)
قال ووجه صلى الله عليه وسلم اللوم على خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه وقال له لم قاتلت وقد نهيت عن القتال قال هم يا رسول الله بدءونا بالقتال ورمونا بالنبل ووضعوا فينا السلاح وقد كففت ما استطعت ودعوتهم إلى الإسلام فأبوا حتى إذا لم أجد بدا من أن أقاتلهم فظفرنا الله بهم فهربوا من كل وجه
وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من الأنصار عنده يا فلان قال لبيك يا رسول الله قال ائت خالد بن الوليد وقل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن لا تقتل بمكة أحدا فجاء الأنصاري فقال يا خالد إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تقتل من لقيت من الناس فاندفع خالد فقتل سبعين رجلا بمكة فجاء الى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من قريش فقال يا رسول الله هلكت قريش لا قريش بعد اليوم قال ولم قال هذا خالد بن الوليد لا يلقى أحدا من الناس إلا قتله قال ادع لي خالدا فدعاه له فقال يا خالد ألم أرسل اليك أن لا تقتل أحدا قال بل أرسلت أن اقتل من قدرت عليه قال صلى الله عليه وسلم ادع لي الأنصاري فدعاه له فقال أما أمرتك أن تأمر خالدا أن لا يقتل أحدا قال بلى ولكنك أردت أمرا وأراد الله غيره فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل للأنصاري شيئا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كف عن الطلب قال قد فعلت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى الله أمرا ثم قال كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر الى صلاة العصر وهي الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم
أي وهذه المقاتلة التي وقعت خالد رضي الله تعالى عنه لا تنافي كون مكة فتحت صلحا كما تقدم أي لأنه صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة
وأما قوله صلى الله عليه وسلم من دخل دار ابي سفيان فهو آمن ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن دخل تحت لواء ابي رويحة فهو آمن فهو من زيادة الاحتياط لهم في الأمان
وقوله احصدوهم حصدا محمول على من أظهر من الكفار القتال ولم يقع قتال ومن ثم قتل خالد رضي الله تعالى عنه من قاتل من الكفار وإرادة على كرم الله وجهه قتل الرجلين اللذين أمنتهما أخته أم هاني كما سيأتي لعله تأول فيهما شيئا أو جرى منهما قتال له
____________________
(3/26)
وتأمين أم هانئ لهما من تأكيد الأمان الذي وقع للعموم فلا حجة في كل ما ذكر على أن مكة فتحت عنوة كما قاله الجمهور
وقيل اعلاها فتح صلحا أي الذي سلكه ابو هريرة والأنصار لعدم وجود المقاتلة فيه وأسفلها الذى سلكه خالد رضي الله عنه فتح عنوة لوجود المقاتلة فيه كما تقدم
ودخل صلى الله عليه وسلم مكة وهو راكب على ناقته القصواء أي مردفا اسامة ابن زيد بكرة يوم الجمعة معتجرا بشقة برد حبره حمراء واضعا رأسه الشريف على رحله تواضعا لله تعالى حين رأى ما رأى من فتح الله تعالى مكة وكثرة المسلمين ثم قال اللهم إن العيش عيش الآخرة
وقيل دخل صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه المغفر وقيل وعليه عمامة سوداء حرقانية قد أرخى طرفها بين كتفيه بغير إحرام ورايته سوداء ولواؤه أسود
وعن جابر رضي الله تعالى عنه كان لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم يود دخل مكة أبيض وعن عائشة رضي الله تعالى عنها كان لواؤه يوم الفتح أبيض ورايته سوداء تسمى العقاب أي وهي التي كانت بخيير وتقدم انها كانت من برد عائشة
وعنها رضي الله تعالى عنها انها قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح من كداء بفتح الكاف والمد والتنوين وهذا هو المعروف خلافا لما قال إنه دخل من أسفل مكة وهي ثنية كدى بضم الكاف والقصر والتنوين وسيأتى انه عند الخروج خرج صلى الله عليه وسلم من هذه وبهذا استدل أئمتنا على أنه يستحب دخول مكة من الأولى والخروج منها من الثانية أي واغتسل صلى الله عليه وسلم لدخول مكة كما حكاه إمامنا الشافعي رضي الله عنه في الأم وبه استدل على استحباب الغسل لداخل مكة ولو حلالا أي وسيأتى ذلك عن أم هانئ رضي الله تعالى عنها وأي وكن شعار المهاجرين يا بني عبد الرحمن وشعار الخزرج يا بني عبد الله وشعار الأوس يا بني عبيد الله أي شعارهم الذي يعرف به بعضهم بعضا في ظلمة الليل وعند اختلاط الحرب لو وجد
ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة واطمأن الناس قال وذلك بالحجون موضع ماغرز الزبير رضي الله تعالى عنه رايته صلى الله عليه وسلم عند شعب ابي طالب الذي حصرت فيه بنو هاشم أي وبنو المطلب قبل الهجرة بقبة من أدم نصبت له هناك
____________________
(3/27)
ومعه صلى الله عليه وسلم فيها أم سلمة وميمونة زوجتاه صلى الله عليه وسلم ورضى عنهما
فعن جابر رضي الله تعالى عنه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيوت مكة وقف فحمد الله وأثنى عليه ونظر الى موضع قبته وقال هذا منزلنا يا جابر حيث تقاسمت قريش علينا قال جابر رضي الله تعالى عنه فذكرت حديثا كنت سمعته منه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بالمدينة منزلنا إذا فتح الله تعالى علينا مكة في خيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر أي لان قريشا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حت يسلموا اليهم صلى الله عليه وسلم الى آخر ما تقدم في قصة الصحيفة انتهى وفيه أنه سيأتى في حجة الوادع أنهم تحالفوا بالمحصب
ففي البخاري عن ابي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم النحر وهو بمنى نحن نازلون غدا بخيف بنى كنانة حيث تقاسموا على الكفر يعني بالمحصب وعن اسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قال يا رسول الله أين تنزل غدا أتنزل في دارك فقال وهل ترك لنا عقيل من دار وتقدم ما يغني عن إعادته هنا فكان صلى الله عليه وسلم ياتي المسجد من الحجون لكل صلاة وكان دخوله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الاثنين
فقد قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين ووضع الحجر يوم الاثنين وخرج من مكة أي مهاجرا يوم الاثنين أي ودخل المدينة يوم الاثنين ونزلت عليه سورة المائدة يوم الاثنين
ثم سار صلى الله عليه وسلم وإلى جانبه ابو بكر رضي الله تعالى عنه يحادثه ويقرأ سورة الفتح حتى جاء البيت وطاف به سبعا على راحلته أي ومحمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه آخذ بزمامها ليستلم الحجر بمحجن في يده
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنما لكل حى من احياء العرب صنم قد شد ابليس أقدامها بالرصاص فجاء صلى الله عليه وسلم ومعه قضيب فجعل يهوى به الى كل صنم منها فيخر لوجهه وفي لفظ لقفاه وفي لفظ فما أشار لصنم من ناحية وجهه الا وقع لقفاه ولا اشار لقفاه الا وقع على وجهه من غير أن يمسه بما في يده يقول جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا حتى مر عليها كلها
____________________
(3/28)
وفي رواية فاقبل صلى الله عليه وسلم الى الحجر فاستمله ثم طاف بالبيت وفي يده قوس أخذ بسيته والسية ما انعظف من طرف القوس فأتى صلى الله عليه وسلم في طوافه على صنم الى جنب البيت أي من جهة بابه يعبدونه وهو هبل وكان أعظم الأصنام فجعل يطعن بها في عينيه ويقول جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا أي فأمر به صلى الله عليه وسلم فكسر فقال الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه لابي سفيان قد كسر هبل أما أنك قد كنت في يوم أحد في غرور حين تزعم أنه قد أنعم فقال ابو سفيان رضي الله تعالى عنه دع هذا عنك يا ابن العوام فقد أرى لو كان مع إله محمد صلى الله عليه وسلم غيره لكان غير ما كان أي وانتهى صلى الله عليه وسلم الى المقام وهو يؤمئذ لاصق بالكعبة
قال وعن على كرم الله وجهه قال انطلق بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا حتى أتى الكعبة فقال اجلس فجلست الى جنب الكعبة فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكبي ثم قال انهض فنهضت فلما رأى ضعفي تحته قال فجلست فجلسم ثم قال صلى الله عليه وسلم يا علي اصعد على منكبي ففعلت أي وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله وجهه اصعد على منكبي واهدم الصنم فقال يا رسول الله بل اصعد أنت فإني أكرمك أن أعلوك فقال إنك لا تستطيع حمل ثقل النبوة فاصعد أنت فجلس النبي صلى الله عليه وسلم فصعد علي كرم الله وجهه على كاهله ثم نهض به قال علي فلما نهض بي فصعدت فوق ظهر الكعبة وتنحى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وخيل لي حين نهض بي أني لو شئت لنلت أفق السماء أي وفي رواية قيل لعلي كرم الله وججه كيف كان حالك وكيف وجدت نفسك حين كنت على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كان من حالي أني لو شئت أن أتناول الثريا لفعلت وعند صعوده كرم الله وجهه قال له صلى الله عليه وسلم ألق صمنهم الأكبر وكان من نحاس أي وقيل من قوراير أي زجاج
وفي رواية لما ألقى الأصنام لم يبق الا صنم خزاعة موتدا بأوتاد من الحديد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عالجه فعالجته وهو يقول إيه إيه جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا فلم أزل اعالجه حتى استمكنت منه فقذفته فتكسر
____________________
(3/29)
أقول وهذا السياق يدل على أنه هذا الصنم غير هبل وأن هبل ليس أكبر أصنامهم بل هذا أكبر منه ولم أقف على اسمه
ومما يدل على أن الذي كسر هو هبل قول الزبير رضي الله تعالى عنه كما تقدم لأبي سفيان أن هبل الذي كنت تفتخر به يوم أحد قد كسر قال دعني ولا توبخني لو كان مع إله محمد إله آخر لكان الأمر غير ذلك
وفي الكشاف ألقاها جميعها وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوراير صفر فقال صلى الله عليه وسلم يا علي ارم به فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد فرمى به فكسره فجعل اهل مكة يتعجبون ويقولون ما رأينا أسحر من محمد
وفي خصائص العشرة صاحب الكشاف زيادة وهي ونزلت من فوق الكعبة وانطلقت أنا والنبي صلى الله عليه وسلم نسعى وخشينا أن يرانا أحد من قريش هذا كلامه وهذا يدل على أن ذلك لم يكن يوم فتح مكة فليتأمل
وفي الكشاف أيضا كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما لكل قوم صنم بحيالهم
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانت لقبائل العرب اصنام يحجون اليها ينحرون لها فشكا البيت الى ربه عز وجل فقال يا رب الى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك فأوحى الله تعالى الى البيت إني سأحدث لك نوبة جديدة فلأملؤك خدودا سجدا يدفون اليك دفيف النسور ويحنون اليك حنين الطير الى بيضها لهم عجيج حولك بالبيت هذا كلامه
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة أي بعد أن ارسل بلالا رضي الله تعالى عنه الى عثمان بن ابي طلحة بمفتاح الكعبة الى اخر ما سيأتى وبعد ان محيت منها الصور أي فإنه صلى الله عليه وسلم أمر عمر رضي الله تعالى عنه وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها وكان عمر رضي الله تعالى عنه قد ترك صورة ابراهيم فقال صلى الله عليه وسلم يا عمر ألم آمرك ان لا تترك فيها صورة قاتلهم الله حيث جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام وما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين هذا
وفي كلام سبط ابن الجوزي قال الواقدي رحمه الله امر رسول الله صلى الله عليه
____________________
(3/30)
وسلم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما أن يقدما الى البيت وقال لعمر لا تدع صورة حتى تمحوها الا صورة ابراهيم هذا كلامه فليتأمل
وفي رواية عن اسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما قال دخلت علي صلى الله عليه وسلم في الكعبة فرأى صورا فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمحوها أي وتلك الصور هي صور الملائكة وصور ابراهيم واسمعيل في ايديهما الأزلام يستقسمان بها أي واسحاق وبقية الانبياء كما تقدم في بنيان قريش الكعبة وصورة مريم فقال قاتل الله قوما يصورون مالا يخلقون قاتلهم الله لقد علموا انهما لم يستقسما بالأزلام قط أي ولا منافاة لأنه يجوز أن يكون عمر رضي الله تعالى عنه ترك مع صورة ابراهيم صورة اسمعيل ومريم وصورة الملائكة ووجد صورة حمامة من عيدان بفتح العين المهملة وكسرها بيده ثم طرحها ودها بزعفران فلطخه بتلك التماثيل أي بموضعها وصلى بها ركعتين بين اسطوانتين وفي لفظ بين العمودين اليمانيين وفي لفظ المقدمين وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع انتهى
أي وفي الترمذي دخل صلى الله عليه وسلم البيت وكبر في نواحيه ولم يصل وفي رواية لمسلم دخل صلى الله عليه وسلم هو وأسامه بن زيد وبلال وعثمان بن ابي طلحة زاد في رواية والفضل بن العباس قال الحافظ ابن حجر وفي رواية شاذة فأغلقوا عليهم الباب وفي لفظ آخر فأغلقا أي عثمان وبلال فأجاف أي أغلق عليهم عثمان الباب وجمع بان عثمان هو المباشر لذلك لأنه من وظيفته وبلال رضي الله تعالى عنه الله تعالى عنه كان مساعدا له في الغلق
أي ولما دخلوا كان خالد بن الوليد يذب الناس وهو واقف على باب الكعبة قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فلما فتحوا كنت اول من ولج فلقيت بلالا فسألته هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم وذهب عني أن أسأله كم صلى وهذا يدل على أن قول بلال رضي الله تعالى عنه إنه صلى الله عليه وسلم أتى بالصلاة المعهودة لا الدعاء كما ادعاه بعضهم
وفي كلام السهيلى في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه صلى فيها ركعتين وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال اخبرني أسامة بن زيد انه صلى الله عليه وسلم لمل دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج فلما خرج ركع في قبل البيت
____________________
(3/31)
ركعتين أي بين الباب والحجر الذي هو الملتزم وقال هذه القبلة فبلال رضي الله تعالى عنه مثبت للصلاة في الكعبة واسامة رضي الله تعالى عنه ناف والمثبت مقدم على النافي على أنه جاء أن اسامة رضي الله تعالى عنه أخبر أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة
وأجيب بأن اسامة حيث أثبت اعتمد قول بلال وحيث نفى أعتمد ما عنده أي وفي مجمع الزوائد للحافظ الهيتمى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم دخل الكعلبة فصلى بين الساريتين ركعتين ثم خرج فصلى بين الباب والحجر ركعتين ثم قال هذه القبلة ثم دخل صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقام يدعو ولم يصل فالنقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اختلف وسبب الاختلاف تعدد دخوله صلى الله عليه وسلم ففي المرة الأولى دخل وصلى وفي المرة الثانية دخل ولم يصل وهذا السياق يدل على ان ذلك كان يوم الفتح
وفي كلام بعضهم رواية ابن عباس ورواية بلال رضي الله تعالى عنهم صحيحتان لأنه صلى الله عليه وسلم دخلها يوم النحر فلم يصل ودخلها من الغد فصلى وذلك في حجة الوداع هذا كلامه فليتأمل أي ثم أنه صلى الله عليه وسلم جاء الى مقام ابراهيم وكان لاصقا بالكعبة فصلى ركعتين ثم أخره على ما تقدم ودعا صلى الله عليه وسلم بماء فشرب منه وتوضأ
وفي لفظ ثم انصرف صلى الله عليه وسلم الى زمزم فاطلع فيها وقال لولا أن تغلب بنو عبد المطلب أي يغلبهم الناس على وظيفتهم وهي النزع من زمزم لنزعت منها دلوا أي فإن الناس يقتدون به صلى الله عليه وسلم في ذلك مع أن النزع من وظيفته بني عبد المطلب وانتزع له العباس رضي الله تعالى عنه الله تعالى عنه دلوا فشرب منه وتوضأ فابتدر المسلمون يصبون على وجوههم
وفي لفظ لا تسقط الا في يد انسان إن كان قدر ما يشر بها شربها والا مسح بها جلده والمشركون يقولون ما راينا ولا سمعنا ملكا قط بلغ هذا
ولما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد أي والناس حوله خرج ابو بكر وجاء بأبيه رضي الله تعالى عنهما يقوده وقد كان كف بصره فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه وفي لفظ لو أقررت الشيخ
____________________
(3/32)
في بيته لأتيناه تكرمة لابي بكر فقال ابو بكر يا رسول الله أحق أن يمشي اليك من أن تمشي أنت إليه فأجلسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال أسلم تسلم فأسلم رضي الله تعالى عنه وهنأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر بإسلام ابيه رضي الله تعالى عنهما أي وعند ذلك قال ابو بكر رضي الله تعالى عنه للنبي صلى الله عليه وسلم والذي بعثك بالحق لإسلام أبي طالب كان أقر لعينى من إسلامه يعني اباه أبا قحافه وذلك أن اسلام ابي طالب كان أقر لعينك كذا في الشفاء وكان رأس ابي قحافة ولحيته بيضاء كالثغامة فقال غيروهما وجنبوهما السواد أي وفي رواية واجتنبوا السواد وجاء غيروا الشيب ولا تشبهووا باليهود والنصارى وفي رواية اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم وجاء إن احسن ما غيرتهم به هذا الشيب الحناء والكتم وعن أنس رضي الله تعالى عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خصب بالحناء والكتم قال ابن عبد البر رحمه الله والصحيح أنه رضى الله عليه وسلم لم يخضب ولم يبلغ من الشيب ما يخضب له وقد اختضب ابو بكر رضي الله تعالى عنه عنه بالحناء والكتم واختضب عمر رضي الله تعالى عنه بالحناء وجاء يا معشر الانصار حمروا أو صفروا وخالفوا اهل الكتاب وكان عثمان رضي الله تعالى عنه يصفر وعن انس رضي الله تعالى عنه دخل رجل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابيض الراس واللحية فقال ألست مؤمنا قال بلى قال فاختضب لكن قيل انه حديث منكر وجاء من اختضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة قيل إنه حديث منكر وحاء يكون آخر الزمان رجال من أمتي يغيرون بالسواد لا ينظر الله اليهم يوم القيامة قيل هو غريب جدا
قال بعضهم ولعل من خضب بالسواد من الصابة رضي الله تعالى عنهم كسعد ابن ابي وقاص والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم أي وعقبة بن عامر المدفون بمصر قال بعضهم ليس بمصر قبر صحابي متفق عليه الا قبر عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه فإن كان تخضب بالسواد وهو القائل في ذلك ** تسود أعلاها وتأبى أصولها ** ولا خير في الاعلى إذا فسد الأصل **
وكان واليا على مصر من جهة معاوية رضي الله تعالى عنه فعزله بمسلمة بن مخلد وامره بالغزو في البحر
____________________
(3/33)
وكان عقبة رضي الله تعالى عنه يقول ما أنصفنا معاوية عزلنا وغر بنا لم يبلغهم النهى أو فهموا أن النهى للكراهة
وقد جاء اول من جزع من الشيب ابرهيم عليه الصلاة والسلام حين رآه في عارضه فقال عليه الصلاة والسلام يا رب ما هذه الشوهة التي شوهت بخليلك فأوحى الله اليه هذا سربال الوقار ونور الاسلام وعزتي وجلالي ما ألبسته احدا من خلقي يشهد ان لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي إلا استحيت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا وانشر له ديوانا أو أعذبه بالنار فقال يا رب زدني فأصبح رأسه مثل الثغامة البيضاء وفي المشكاة قال صلى الله عليه وسلم يكون في أخر الزمان قوم يخضبون بهذا السواد لا يجدون رائحة الجنة رواه أبو داود والنسائي أي وفي كلام ابن الجوزي رحمه الله أول من خضب بالسواد فرعون ومن أهل مكة أي من العرب عبد المطلب بن هاشم وعن عمر رضي الله تعالى عنه اخضبوا بالسواد فإنه أنكى للعدو واحب للنساء فليتأمل
وكان لأبي بكر رضي الله تعالى عنه أخت صغيرة في عنقها طوق من فضة اقتعله إنسان من عنقها فأخذ ابو بكر رضي الله تعالى عنه بيد اخته وقال انشدتكم بالله وبالإسلام طوق اختي فما اجابه احد ثم قال الثانية والثالثة فما اجابه احد فقال رضي الله تعالى عنه الله تعالى عنه يا أختاه احتسبي طوقك فوالله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل قال بعضهم ولم يعش لابي قحافة رضي الله تعالى عنه ولد ذكر الا ابو بكر ولا يعرف له بنت الا ام فروة التي أنكحها ابو بكر من الأشعث بن قيس وكانت قبلة تحت تميم الدارى وهي هذه المذكورة هنا
وقيل كان له بنت اخرى تمسى عريبة وعليه فيحتمل ان تكون هي المذكورة هنا وتقدم اسلام ابي ابي بكر رضي الله تعالى عنهما لما كان المسلمون في دار الأرقم وامه بنت عم ابيه قال بعضهم لم يكن احد من الصحابة المهاجرين والانصار أسلم هو ووالداه وجميع ابنائه وبناته غير أبي بكر وبنوه ثلاثة عبد الله وهو اكبرهم مات أول خلافة والده وعبد الرحمن ومحمد رضي الله تعالى عنهم ولد محمد في حجة الوداع وهو المقتول بمصر وبناته ثلاثة أيضا أسماء وهي أكبرهن وهي شقيقة عبد الله وعائشة وهي شقيقة عبد الرحمن وأم كلثوم رضي عنه الله تعالى عنهم وعنهن
مات ابو بكر رضي الله تعالى عنه وهي ببطن امها وقد انزل الله تعالى في حقه { رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي }
____________________
(3/34)
الآيات قال بعضهم لا يعرف في الصحابة اربعة اسلموا وصحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وكل واحد أبو الذي بعده الا في بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه ابو قحافة وابنه ابو بكر وابنه عبد الرحمن وابن عبد الرحمن محمد ويكنى بأبي عتيق
أي وقد قيل إن قيل هل تعرفون أربعة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في نسق أي من الذكور كل ابن الذي قبله اجيب بأنهم هؤلاء الاربعة ابو قحافة وابنه ابو بكر وابنه عبد الرحمن وابن عبد الرحمن محمد وبقولنا من الذكور لا يرد ما أورد على ذلك ان هذا يصدق على أبي قحافة وابنه ابي بكر وبنته اسماء وابنها عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهم نعم يرد على ذلك حارثه ابو زيد فإنه أسلم على ما ذكره الحافظ المنذري ورأى النبي صلى الله عليه وسلم بعد اسلامه وابنه زيد بن حارثه وابنه اسامة بن زيد وجاء أسامة بولد في حياته صلى الله عليه وسلم أي ويحتاج الى اثبات كونه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك المولود الى أن يقال كان من شانهم إذا ولد لأحدهم مولود جاء به الى النبي صلى الله عليه وسلم فيحنكه ويسميه خصوصا وهذا المولود ابن حب الحب ولم أقف على اسم هذا المولود فليراجع في اسماء الصحابة
وحينئذ يقال لأجل عدم ورود من ذكر ليس لنا اربعة ذكور معروفة أسماؤهم بعد الوقوف على اسم ذلك المولود يقال لأجل عدم الورود ليس لنا اربعة ليسوا من الموالي الا ابو قحافة وابنة ابو بكر وابن ابي بكر عبد الرحمن وابن عبدالرحمن محمدا أبو عتيق فليتأمل
لا يقال هذا موجود في غير بيت الصديق فقد ذكروا في الصحابة اربعة كذلك أي ذكور كل واحد أبو الذي بعده عرفت اسماؤهم وليس فيهم مولى وهم اياس ابن سلمة بن عمرو بن لال
لأنا نقول المراد المتفق على صحبتهم وهؤلاء لم يقع الاتفاق على صحبتهم
ومن الفوائد المستحسنة أنه ليس في الصحابة قال بعضهم بل ولا في التابعين من اسمه عبد الرحيم وثلاثة ذكور ادركوا النبي صلى الله عليه وسلم على نسق وهم السائب والد إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه وابوه عبيد وجده عبد يزيد
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا فعلاه حيث ينظر الى البيت فرفع يديه فجعل يذكر بما شاء ان يذكره ويدعوه والأنصار تحته قال بعضهم لبعض أما
____________________
(3/35)
الرجل فأدركته رغبة في قربته ورأفة بعشيرته فنزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم بما ذكر القوم فلما قضى الوحي رفع صلى الله عليه وسلم رأسه قال يا معشر الأنصار قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قرابته ورأفة بعشيرته قالوا قلنا ذلك يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم فما اسمى إذن أي إن فعلت ذلك كيف اسمى وأوصف باني عبد الله ورسوله كلا لا أفعل ذلك إني عبد الله ورسوله أي ومن كان هذا وصفه لا يفعل ذلك هاجرت إلى الله واليكم فالمحيا محياكم والممات مماتكم فأقبلوا اليه صلى الله عليه وسلم يبكون ويقولون والله ما قلنا الذي قلنا الا الضن أي البخل بالله وبرسوله أي لا نسمح أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير بلدتنا يعنون المدينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله ورسوله يعذرانكم ويصدقانكم
وفي رواية ان الانصار رضي الله تعالى عنهم قالوا فيما بينهم أترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فتح الله أرضه وبلده يقيم بهما فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من دعائه قال ماذا قلتم قالوا لا شيء يا رسول الله فلم يزل بهم حتى اخبروه فقال صلى الله عليه وسلم معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم
اي وتقدم له صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة نظير ذلك وهو أن الأنصار قالوا يا رسول الله هل عسيت ان نحن نصرناك واظهرك الله ان ترجع الى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم
وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتل عبد الله بن أبى سرح لأنه كان أسلم قبل الفتح وكان يكتب لرسول الله الوحي وكان صلى الله عليه وسلم إذا أملى عليه سميعا بصيرا كتب عليما حكيما وإذا أملى عليه حكيما كتب غفورا رحيما وكان يفعل مثل هذه الخيانات حتى صدر عنه أنه قال إن محمدا لا يعلم ما يقول فلما ظهرت خيانته لم يستطع أن يقيم بالمدينة فارتد وهرب الى مكة وقيل إنه لما كتب { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } الى قوله { ثم أنشأناه خلقا آخر } تعجب من تفصيل خلق الإنسان فنطق بقوله { فتبارك الله أحسن الخالقين } قبل إملائه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب ذلك هكذا أنزلت فقال عبد الله إن كان محمد نبيا يوحى اليه فأنا نبي يوحى إلي فارتد ولحق بمكة فقال لقريش إني كنت أصرف محمدا كيف شئت كان يملى على عزيز حكيم فأقول او عليم حكيم فيقول نعم كل صواب وكل
____________________
(3/36)
ما أقوله يقول اكتب هكذا نزلت فلما كان يوم الفتح وعلم باهدار النبي صلى الله عليه وسلم دمه لجأ الى عثمان بن عفان أخيه من الرضاعة فقال له يا أخي استأمن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يضرب عنقي فغيبه رضي الله تعالى عنه حتى هدأ الناس واطمأونا فاستأمن له ثم أتى به الى النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه النبي فصار عثمان رضي الله تعالى عنه يقول يا رسول الله أمنته والنبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ثم قال نعم فبسط يده فبايعه فلما خرج عثمان وعبد الله قال لمن حوله أعرضت عنه مرارا ليقوم اليه بعضكم فيضرب عنقه وقال صلى الله عليه وسلم لعباد بن بشر وكان نذر إن رأى عبد الله قتله أي وقد أخذ بقائم السيف ينتظر النبي صلى الله عليه وسلم يشير اليه ان يقتله فقال له صلى الله عليه وسلم انتظرتك أن تفي بنذرك قال يا رسول الله خفتك أفلا أومضت الي فقال إنه ليس لنبي ان يومض وفي رواية الإيماء خيانة ليس لنبي ان يومى وفي رواية لا ينبغي لنبي ان تكون له خائنة الأعين أي وهذا يدل على أن خائنة الأعين والايماء بالعيون أي ان يومىء بطرفه خلاف ما يظهره بكلامه وهو اللمز هذا
وقيل إنه أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وصار يستحى من مقابلته صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم لعثمان أما بايعته وأمنته قال بلى ولكن يذكر جرمه القديم فيستحي منك قال الإسلام يجب ما قبله وأخبره عثمان رضي الله تعالى عنه بذلك ومع ذلك فصار إذا جاء جماعة للنبي صلى الله عليه وسلم يجيء معهم ولا يجيء اليه منفردا
وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل لأنه كان مما أسلم أي قدم المدينة قبل فتح مكة وأسلم وكان اسمه عبد العزي فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذ الصدقة وأرسل معه رجلا من الأنصار يخدمه وفي لفظ كان معه مولى يخدمه وكان مسلما فنزل منزلا وأمره أن يذبح له تيسا ويصنع له طعاما ونام ثم استيقظ فلم يجده صنع له شيئا وهو نائم فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا وكان شاعرا يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعره وكانت له قينتان تغنيانه بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يصنعه
وقد قيل إنه ركب فرسه لابسا للحديد وأخذ بيده قناة وصار يقسم لا يدخلها محمد عنوة فلما رأى خيل الله دخله الرعب فانطلق الى الكعبة فنزل عن فرسه والقى سلاحه
____________________
(3/37)
ودخل تحت استارها فأخذ رجل سلاحه وركب فرسه ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجون وأخبره خبره فأمر بقتله
وقيل لما طاف صلى الله عليه وسلم بالكعبة قيل هذا ابن خطل معلقا بأستار الكعبة فقال اقتلوه فإن الكعبة لا تعيذ عاصيا ولا تمنع من إقامة حد واجب أي فقتله سعد ابن حريث وأبو برزة
وقيل قتله الزبير رضي الله عنه وقيل سعدبن ذؤيب وقيل سعد بن زيد قال في النور والظاهر اشتاركهم فيه جميعا جمعا بين الأقوال
وأمر صلى الله عليه وسلم بقتل قينتيه فقتلت إحداهما واستؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم للأخرى فأمنها وأسلمت
والحويرث بن نقيذ وانما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ويعظم القول في أذيته وينشد الهجاء وكان العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنه حمل فاطمة وأم كلثوم بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة يريد بهما المدينة فنخس الحويرث البعير الحامل لهما فرمى به الأرض قتله علي بن ابي طالب كرم الله وجهه في ذلك اليوم وقد خرج يريد أن يهرب
ومقيس بن ضبابة إنما أمر بقتله لأنه كان قد أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما طالبا لدية اخيه هشام بن ضبابة رضي الله عنه قتله رجل من الأنصار في غزوة ذي قرد خطأ يظنه من العدو ودفع له النبي صلى الله عليه وسلم دية أخيه ثم إنه عدا على الأنصاري قاتل أخيه فقتله بعد أن أخذ دية اخيه ثم لحق بمكة مرتدا كما تقدم قتله ابن عمه ثميلة بن عبد الله الليثي أي بعد أن اخبر ثميله بأن مقيسا مع جماعة من كبار قريش يشربون الخمر فذهب اليه فقتله بردم بني جمح وقيل قتل وهو معلق بأستار الكعبة
وأما هبار بن الأسود رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان عرض لزينب بنت رسول الله في سفهاء من قريش حين بعث بها زوجها ابو العاص الى المدينة فأهوى اليها هبار ونخس بعيرها
وفي رواية ضربها بالرمح فسقطت من على الجمل على صخرة أي وكانت حاملا فألقت ما في بطنها وأهراقت الدماء ولم يزل بها مرضها ذلك حتى ماتت كما تقدم فقال
____________________
(3/38)
النبي صلى الله عليه وسلم إن لقيتم هبارا فأحرقوه ثم قال إنما يعذب بالنار رب النار ان ظفرتم به فاقطعوا يده ورجله ثم اقتلوه فلم يوجد يوم الفتح ثم أسلم بعد ذلك وحسن اسلامه ويذكر أنه لما أسلم وقدم المدينة مهاجرا جعلوا يسبونه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال سب من سبك فانتهوا عنه وهذا السياق يدل على إنه أسلم قبل أن يذهب الى المدينة
وفي لفظ ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم الى المدينة جاء هبار رافعا صوته وقال يا محمد أنا جئت مقرا بالإسلام وأنا اشهد أن لا إله الا الله وان محمدا عبده ورسوله واعتذر اليه أي قال له صلى الله عليه وسلم بعد أن وقف عليه وقال السلام عليك يا نبي الله لقد هربت منك في البلاد فأردت اللحوق بالاعاجم ثم ذكرت عائدتك وفضلك في صفحك عمن جهل عليك وكنا يا بنى الله أهل شرك فهدانا الله بك وانقذنا بك من الهلكة فاصفح عن جهلي وعما كان مني فإني مقر بسوء فعلي معترف بذنبي فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا هبار عفوت عنك وقد احسن الله اليك حيث هداك الى الإسلام والإسلام يجب ما كان قبله
وقوله مهاجرا فيه أنه لا هجرة بعد فتح مكة الا ان يقال هي مجاز عن مجرد الانتقال عن محل الى اخر اخذا مما يأتى إن شاء الله في عكرمة
وأما عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه فإنه صلى الله عليه وسلم إنما امر بقتله لأنه كان أشد الناس هو وأبوه أذية للنبي صلى الله عليه وسلم وكان اشد الناس على المسلمين ولما بلغه ان النبي صلى الله عليه وسلم أهدر دمه فر الى اليمن فاتبعته امرأته بنت عمه ام حكيم بنت الحارث بن هشام بعد ان اسلمت فوجدته في ساحل البحر يريد ان يركب السفينة وقيل وجدته في السفينة فردته أي بعد أن قالت له يا ابن عم جئتك من عند اوصل الناس وأبر الناس وخير الناس لا تهلك نفسك فقد أستأمنت لك فجاء معها فأسلم وحسن إسلامه أي بعد أن قال يا محمد هذه يعني زوجتي أخبرتني أنك امنتنى قال صدقت إنك آمن فقال عكرمة أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبد ورسوله وطأطأ رأسه من الحياء فقال له صلى الله عليه وسلم يا عكرمة ما تسألني شيئا أقدر عليه الا اعطيتكه قال استغفر لي كل عداوة عاديتكها فقال صلى الله عليه وسلم اللهم إغفر لعكرمة كل عداوة عادانيها أو منطق تكلم به أي ولما قدم عليه صلى الله عليه وسلم وثب صلى الله
____________________
(3/39)
عليه وسلم إليه قائما فرحا به أي ورمى صلى الله عليه وسلم رداءه وقال مرحبا بمن جاء مؤمنا مهاجرا وكان بعد ذلك من فضلاء الصحابة
وفي بهجة المجالس في أنس الجالس لابن عبد البر رحمة الله انه صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل الجنة ورأى فيها فأعجبه وقال لمن هذا فقيل لأبي جهل فشق ذلك عليه وقال لا يدخلها الا نفس مؤمنة فلما جاءه عكرمة ابن أبي جهل مسلما فرح به وأول ذلك العذق لعكرمة والعكرمة الأنثى من الحمير واستدل بذلك على تأخر الرؤيا وأنها تكون لغير من ترى له قال وصار عكرمة قبل إسلامه يطلب امرأته أم حكيم يجامعها فتأبى وتقول أنت كافر وأنا مسلمة والإسلام حائل بيني وبينك فقال إن أمرا منعك عني لأمر كبير أي ولما قتل عكرمة رضي الله عنه في اليرموك في قتال الروم وانقضت عدتها تزوجها خالد بن سعيد واراد ان يدخل بها فجعلت تقول له لو أخرت الدخول حتى يفض الله هذه الجموع يعني الروم فقال خالد إن نفسي تحدثني أن اصاب في جموعهم قالت فدونك فدخل بها في خيمته فما أصبح الصبح الا والروم قد اصطفت فخرج خالد رضي الله عنه فقاتل حتى قتل فشدت أم حكيم عليها ثيابها وأخذت عمود الخيمة التي دخل بها خالد فيها فقتلت بها اسبعة من الروم وقال صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم عليه عكرمة ابن أبي جهل رضي الله عنه يأتيكم عكرمة مؤمنا مهاجرا فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يحلق الميت أنتهى أي وفي رواية لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا الى ما قدموا وفي أخرى لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء وفي أخرى اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم
وجاء أنه شكا اليه صلى الله عليه وسلم قولهم عكرمة بن ابي جهل فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لا تؤذوا الاحياء بسبب الأموات وقد كان قبل إسلامه بارز رجلا من المسلمين فقتله فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له بعض الانصار ما أضحكك يا رسول الله وقد فجعنا بصابنا فقال أضحكني انهما في درجة واحدة في الجنة ومن ثم قتل عكرمة شهيدا في قتال الروم في وقعة اليرموك كما مر
وسارة رضي الله عنه فإنها أسلمت وإنما امر صلى الله عليه وسلم بقتلها لأنها كانت مغنية بمكة وكانت تغني بهجائه صلى الله عليه وسلم وهي التي وجد معها كتاب
____________________
(3/40)
حاطب وقد استؤمن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنها وأسلمت كما تقدم
والحارث بن هشام وزهير بن أمية استجارا بام هانئ بنت ابي طالب أخت علي بن ابي طالب كرم الله وجهه شقيقته ولم تكن أسلمت إذ ذاك فأراد على قتلهما
فعنها رضي الله عنه أنها قالت لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فر الى رجلان من أحمائي أي من أقارب زوجها هبيرة بن ابي وهب مستجيران بي فأجرتهما وذكر الأزرقي بدل زهير بن أمية عبد الله بن ابي ربيعة فدخل على أخي علي بن ابي طالب فقال والله لاقتلنهما أي وقال تجيري المشركين فحلت بينه وبينهما فخرج فأغلقت عليهما بيتي ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة فوجدته يغتسل من جفنة فيها أثر العجين وفاطمة ابنته تستره بثوب فسلمت عليه فقال من هذه فقلت ام هانئ بنت ابي طالب فقال مرحبا بأم هانئ وفي الرواية الأولى فلما اغتسل أخذ ثوبه وتوشح به ثم صلى الله عليه وسلم ثماني ركعات من الضحى ثم أقبل على فقال مرحبا وأهلا بأم هانيء ما جاء بك فأخبرته الحديث فقال أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت فلا تقتلهما وفي البخاري أيضا أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل في بيتها ثم صلى الضحى ثمان ركعات أي ولما ذكر ذلك لابن عباس رضي الله عنه الله عنهما قال إني كنت أمر على هذه الآية يسبحن بالعشي والإشراق فأقول أي صلاة صلاة الإشراق فهذه صلاة الإشراق وفي لفظ ما عرفت صلاة الإشراق الا الساعة وهذا يدل لما أفتى به والد شيخنا الرملي رحمهما الله تعالى أن صلاة الضحى صلاة الإشراق خلافا لما في العباب من أنها غيرها ويحتج للجمع بين هذه الرواية والتي قبلها على ثبوت صحتهما وبهذه الواقعة قال المحاملي من أئمتنا في كتابه اللباب الذي هو أصل التنقيح الذي هو اصل التحرير ومن دخل مكة وأراد ان يصلي الضحى أول يوم اغتسل وصلاها كما فعله عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة وبه ألغز فقيل شخص يستحب له الاغتسال لصلاة الضحى في مكان خاص
وعن عائشة رضي الله عنهما ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإني لأسبحها أي أصليها
وعن عبد الرحمن بن ابي ليلى رحمه الله ما اخبرني احد انه راى النبي صلى الله عليه
____________________
(3/41)
وسلم يلصى الضحى الا ام هانئ وهذا ينازع فيه ما يأتي أن صلاة الضحى مما اختص بوجوبها صلى الله عليه وسلم
وأسلمت ام هانئ ذلك اليوم الذي هو يوم الفتح أو وجاء انه صلى الله عليه وسلم قال لها هل عندك من طعام نأكله قالت ليس عندي الا كسر يابسة وأنا استحي ان اقدمها إليك فقال هلمي بهن فكسرهن في ماء وجاءت بملح فقال هل من آدم فقالت ما عندي يا رسول الله إلا شيء من خل فقال هلميه فصبه على الكسر وأكل منه ثم حمد الله ثم قال نعم الآدم الخل يا أم هانئ لا يقفر بيت فيه خل
أي وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم سأل أهله الادام فقالوا ما عندنا الا الخل فدعا به فجعل يأكل به ويقول نعم الآدم الخل وفي الحديث عن جابر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا إن الله يوكل بآكل الخل ملكين يستغفران له حتى يفرغ وجاء نعم الادم الخل اللهم بارك في الخل فإنه كان إدام الانبياء قبلي ولم يقفر بيت فيه خل
وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ذات يوم الى بعض حجر نسائه فدخل ثم أذن لي فدخلت فقال هل من غداء فقالوا نعم فأتى بثلاثة اقرصة فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرصا فوضعه بين يديه وأخذ قرصا فوضعه بين يدي ثم أخذ الثالث فكسره فجعل نصفه بين يديه ونصفه بين يدي ثم قال صلى الله عليه وسلم هل من أدم فقالوا لا إلا شيء من خل قال هاتوه فنعم الأدم الخل وفي رواية فإن الخل نعم الإدام قال جابر رضي الله تعالى عنه فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم ما زلت احب الخل منذ سمعتها من جابر
وصفوان بن أمية استأمن له عمير بن وهب أي قال له يا نبي الله إن صفوان سيد قومي قد هرب ليقذفن نفسه في البحر فأمنه فإنك أمنت الأحمر والأسود فقال صلى الله عليه وسلم أدرك ابن عمك فهو آمن فقال أعطني أيه يعرف بها أمانك فأعطى صلى الله عليه وسلم لعمير عمامته التي دخل بها مكة أي وفي لفظ أعطاه برده أي بعد أن طلب من العود فقال لا اعود معك الا ان تأتيني بعلامة أعرفها فقال امكث مكانك حتى آتيك به فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر فرده أي بعد أن قال له اعزب عني لا تكلمني فقال أي صفوان فداك أبي وأمي جئنك من عند أفضل
____________________
(3/42)
الناس وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس وابن عمك عزه عزك وشرفه شرفك وملكه ملكك قال إني أخافه على نفسي قال هو أحلم من ذلك وأكرم فرجع معه حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إن هذا يزعم أنك أمنتني قال صدق فقال يا رسول الله أمهلني بالخيار شهرين فقال أنت بالخيار أربعة أشهر أى ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم الى حنين ولما فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمها أي بالجعرانة رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمق شعبا ملآنا نعما وشاء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبك هذا قال نعم قال هو لك وما فه فقبض صفوان ما في الشعب وقال ما طابت نفس أحد بمثل هذا الا نبي فأسلم كما سيأتي
وهند امرأة أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما فإنها اسلمت بعد وانما امر صلى الله عليه وسلم بقتلها لأنها مثلت بعمه حمزة رضي الله تعالى عنه يوم احد ولاكت قلبه كما تقدم
وكعب بن زهير رضي الله تعالى عنه فأنه اسلم بعد وأنما امر صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان ممن يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم
ووحشي رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد وانما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه قتل عمه حمزة رضي الله تعالى عنه يوم احد وكانت الصحابة احرص شيء على قتله ففر الى الطائف وقد قدمنا اسلامه استطرادا
قال وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يوم الفتح على الصفا يبايع الناس فجاءه الكبار والصغار والرجال والنساء يبايعهم على الاسلام أي على شهادة ان لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ودخل الناس في دين الله افواجا أفواجا
أي وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل فأخذته الرعدة فقال له صلى الله عليه وسلم هون عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريس كانت تأكل القديد
أي وكان من جملة من بايعه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما فعن معاوية رضي الله تعالى عنه لما كان عام الحديبية وقع الإسلام في قلبي فذكرت ذلك لأمي فقالت إياك ان تخالف إياك فيقطع عنك القوت فاسلمت وأخفيت إسلامي فقال لي يوما ابو سفيان وكأنه شعر بإسلامي اخوك خير منك هو على ديني فلما كان عام الفتح أظهرت اسلامي ولقيته صلى الله عليه وسلم
____________________
(3/43)
فرحب بي كتبت له أي بعد أن استشار فيه جبريل عليه الصلاة والسلام فقال استكتبه فإنه أمين وأردفه النبي صلى الله عليه وسلم يوما خلفه فقال ما يليني منك قلت بطني قال اللهم املأه حلما وعلما
وعن العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لمعاوية اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب زاد في رواية ومكن له في البلاد
وعن بعض الصحابة انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لمعاوية يقول اللهم اجعله هاديا مهديا واهده واهد به ولا تعذبه
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوما لمعاوية يا معاوية أنت مني وأنا منك لتزاحمني على باب الجنة كهاتين واشار باصبعية الوسطى والتي تليها ويذكر أنه كان عنده قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم وإزاره ورداؤه وشيء من شعره فقال عند موته كفنوني في القميص وادرجوني في الرداء وأزروني بالإزار واحشوا منخري وشدقي من الشعر وخلوا بيني وبين ارحم الراحمين
وقد بشر بمعاوية رضي الله تعالى عنه بعض كهان اليمن وسبب ذلك أن امه هند كانت قبل ابيه ابي سفيان عند الفاكه بن المغيرة المخزومي وكان الفاكه من فتيان قريش وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن فخلا ذلك البيت يوما من الضيفان فاضطجع الفاكه وهند فيه في وقت القائلة ثم خرج وكان الفاكه لبعض حاجته وأقبل رجل كان يغشاه فولج البيت فلما رأى المرأة التي هي هند ولي هاربا وأبصره الفاكه وهو خارج من البيت فاقبل الى هند فضربها برجله وقال لها من هذا الذي كان عندك قالت ما رأيت رجلا ولا انتبهت حتى أيقظتني فقال لها الحقي بأبيك وتكلم فيها الناس فقال لها ابوها عتبة يا بنية ان الناس قد اكثروا فيك فأنبئيني نبأك فإن كان الرجل عليك صادقا دسست اليه من يقتله فنقطع عنك المقالة وإن يك كاذبا حاكمته الى بعض كهان اليمن فحلفت له أنه لكاذب عليها فقال عتبة للفاكه يا هذا انك قد رميت ابنتي بامر عظيم فحاكمني الى بعض كهان اليمن فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف وخرجوا معهم بهند ونسوة معها فلما شارفوا البلاد وقالوا عدا نرد على الكاهن الفلاني تنكرت حالة هند وتغير وجهها فقال لها
____________________
(3/44)
ابوها إني قد أرى ما بك من تنكر الحال وما ذاك الا لمكروه عندك كان هذا قبل أن يشهد الناس مسيرنا قالت لا والله يا أبتاه ما ذاك لمكروه عندي ولكني اعرف انكم تأتون بشرا يخطئ ويصيب ولا آمنة أن يسمنى ميسما يكون على سبة في العرب قال إني سوف اختبره من قبل ان ينظر في أمرك فصفر بفرس حتى أدلى ثم أخذ حبة من حنطة فأدخلها في إحليله وأوكأ عليها بسير فلما وردوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم فلما تغذوا قال له عتبة إنا قد جئناك في أمر وإني قد خبأت لك خباء اختبرك به فانظر ما هو قال سمرة في كمرة قال اريد أبين من هذا قال حبة بر في إحليل مهر قال صدقت انظر في أمر هذه النسوة فجعل يدنو من احداهن فيضرب كتفها ويقول انهضي حتى دنا من هند فضرب كتفها وقال انهضي غير وسخاء ولا زانية ولتلدن ملكا يقال له معاوية فوثب اليها الفاكه فأخذ بيدها فنثرت يدها من يده وقالت اليك عني فوالله لاحرصن على ان يكون من غيرك فتزوجها ابو سفيان فجاءت منه بمعاوية رضي الله تعالى عنه الله تعالى عنهم وقد قال له صلى الله عليه وسلم يا معاوية إذا ملكت فأحسن وفي رواية إذا ملكت من أمرأمتي شيئا فاتق الله واعدل
ويؤثر عنه رضي الله تعالى عنه أنه لما حضرته الوفاة قال اللهم ارحم الشيخ العاصي ذا القلب القاسي اللهم أقل عثرتي واغفر زلتي وعد بحلمك على من لا يرجوا غيرك ولم يثق بأحد سواك ثم بكى رضي الله تعالى عنه حتى علا نحيبه
كتب الى عائشة رضي الله تعالى عنها اكتبي لي كتابا توصيني فيه ولا تكثري فكتبت اليه من عائشة الى معاوية سلام عليك أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله الى الناس ومن التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس والسلام وكتبت اليه رضي الله تعالى عنها مرة اخرى اما بعد فاتق الله فإنك اذا اتقيت الله كفاك الناس وإذا اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئا والسلام
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء وفيهن هند بنت عتبة امرأة ابي سفيا رضي الله تعالى عنه متنقبة متنكرة خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهن بايعنني على ان لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن أي وذلك إسقاط الأجنة زاد في لفظ ولا
____________________
(3/45)
تلحقن بأزواجكن غير اولادهم أي ولا تقعدن مع الرجال في خلاء أي لا تجتمع امرأة مع رجل في خلوة ولا تأتين ببهتان تفترينه بين ايديكن وارجلكن قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما البهتان ان تلحق بزوجها ولدا ليس منه أي ولا يغني عنه الزنا كما ان ذلك لا يغني عن الزنا وقد تحبل ولا يلحقه بأحد ولا تعصين في معروف وجاء أن بعض النسوة قالت ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعطيك فيه قال لا تصحن أي وفي لفظ لا تنحن ولا تخمشن وجها ولا تنشرن شعرا وفي لفظ ولا تحلقن شعرا ولا تحرقن قرنا ولا تشققن جيبا ولا تدعين بالويل
وجاء هذه النوائح تجعلن يوم القيامة صفين صفا عن اليمين وصفا عن اليسار ينبحن كما ينبح الكلب وجاء تخرج النائحة من قبرها يوم القيامة شعثاء غبراء عليها جلباب من لعنة ودرع من جرب واضعة يدها على راسها تقول ويلاه وجاء النائحة إذا لم تتب تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب وجاء لا تقبل الملائكة على نائحة وجاء ليس للنساء في اتباع الجنائز من اجر
وجاء أن هندا قالت له صلى الله عليه وسلم إنك لتأخذ علينا مالا تأخذه على الرجال أي لان الرجال كان صلى الله عليه وسلم يبايعهم على الاسلام وعلى الجهاد فقط وإنها قالت لما قال صلى الله عليه وسلم ولا تسرقن والله إني كنت اصيب من مال ابي سفيان الهنة بعد الهنة وما كنت أدري أكان ذلك حلالا ام لا فقال ابو سفيان وكان حاضرا أما اما اصبت فيما مضى فأنت منه في حل عفا الله عنك أي فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها وإنك لهند بنت عتبة قالت نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك يا نبي الله وأنها قالت لما قال صلى الله عليه وسلم ولا تزنين او تزني الحرة يا رسول الله ولما قال ولا تقتلن اولادكن قالت ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا وفي لفظ هل تركت لنا ولدا الا قتلته يوم بدر وفي لفظ انت قتلت آباءهم يوم بدر وتوصينا بأولادهم وفي لفظ ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا فضحك عمر رضي الله تعالى عنه حتى استلقى وتبسم صلى الله عليه وسلم وفي لفظ فضحك صلى الله عليه وسلم ولما قال صلى الله عليه وسلم ولا تأتين ببهتان تفترينه والله إن اتيان البهتان لقبيح زاد في لفظ وما تأمرنا الا بالرشد ومكارم الاخلاق ولما قال صلى الله عليه وسلم ولا تعصينني في معروف قالت والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في معروف وفي
____________________
(3/46)
لفظ انها أتته منتقبة بالأبطح وقالت إني امرأة مؤمنة أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله ثم كشفت عن نقابها وقالت أنا هند بن بنت عتبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحبا بك
قال بعضهم وفي اسلام ابي سفيان قبل هند واسلامها قبل انقضاء عدتها أي لانها أسلمت بعده بليلة واحدة وإقرارهما على نكاحهما حجة للشافعي رضي الله تعالى عنه ثم ارسلت اليه صلى الله عليه وسلم بهدية وهي جديان مشويان مع مولاة لها فاستأذنت فأذن لها فدخلت عليه وهو صلى الله عليه وسلم بين نسائه ام سلمة وميمونة ونساء من بنى عبد المطلب وقالت له إن مولاتى تعتذر إليك وتقول إن غنمها اليوم لقليل الوالدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم بارك لكم في غنكم واكثر والدتها فكثر الله ذلك تقول تلك المولاة لقد رأينا من كثرة غنمنا ووالدتها ما لم نكن نرى قبل وجاءت اليه وقالت يارسول الله ان ابا سفيان رجل مسيك فهل على من حرج أن اطعم من الذي له عيالنا فقال لها لا عليك ان تطعميهم بالمعروف وفي لفظ إن ابا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما اخذت منه وهو لا يعلم قال خذي مايكفيك وولدك بالمعروف أي وجاء ان بعض النساء قالت هلم نبايعك يا رسول الله قال لا اصافح النساء وانما قولي لمائة امراة كقولي لامرأة واحدة وفي لفظ قولي لألف امرأة كقولي لامرأة واحدة وعن عائشة رضي الله تعالى عنها لم يصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم امراة قط وإنما كان يبايعهن بالكلام
وعن الشعبي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء وعلى يه ثوب وقيل إنه غمس يده في إناء وأمرهن فغمسن أيديهن فيه فكانت هذه البيعة قال ابن الجوزي والقول الأول اثبت
وقد ذكر المبايعات له صلى الله عليه وسلم لا في خصوص يوم الفتح على حروف المعجم في كتاب التلقيح وتقدم عن أم عطية رضي الله تعالى عنها انها قالت لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الانصار في بيت ثم ارسل اليهن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام فقال انا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم اليكن يبايعكن على ان لا تشركن بالله شيئا وقرا الى قوله تعالى في معروف فقلن
____________________
(3/47)
نعم فمد يده من خارج ومددن أيديهن من داخل البيت ثم قال اللهم اشهد ولعل ذلك كان بحائل والفتنة مأمونة
وقال صلى الله عليه وسلم لعمه العباس اين ابنا اخيك يعني ابا لهب عتبة ومعت لا أراهما قال العباس رضي الله تعالى عنه قد تنحيا فيمن تنحى من مشركي قريش قال ائتني بهما فركبت اليهما فأتيت بهما فدعاهما للإسلام فأسلما فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم باسلامها ودعا لهما ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ بأيديهما وانطق بهما حتى اتى الملتزم فدعا ساعة ثم انصرف والسرور يرى في وجهه صلى الله عليه وسلم فقلت له سرك الله يا رسول الله إني أرى السرور في وجهك قال إني استوهبت ابني عمي هذين من ربي فوهبهما لي وشهدا معه حنينا والطائف ولم يخرجا من مكة ولم يأتيا المدينة وقلعت عين معتب في حنين
وعن ابي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح هذا ما وعدني ربي ثم قرأ { إذا جاء نصر الله والفتح } انتهى وقد أشار الى ذلك صاحب الهمزية رضي الله تعالى عنه بقوله ** واستجاب له بنصر وفتح ** بعد ذلك الخضراء والغبراء ** ** وتوالت للمصطفى الآية الكبرى ** عليه والغارة الشعواء ** ** فإذا ماتلا كتابا ** من الله تلته كتيبة خضراء **
أي أجاب دعوته صلى الله عليه وسلم الرفيع والوضيع وعن الأول كنى بالخضراء التي هي السماء فقد جاء في حديث سنده واه السماء الدنيا زمرذة خضراء وذكر انها أشد بياضا من اللين وخضتها من صخرة خضراء تحت الأرض وكنى عن الثاني بالغبراء التي هي الأرض وإنما كانت غبراء لأن جميع طبقاتها من طين مع حصول نصر له صلى الله عليه وسلم على أعاديه وفتح لبلادهم بعد ذلك الضعف الذي كان به صلى الله عليه وسلم وبأصحابه وقلتهم وكثرة عدوهم مع التصميم على أذيتهم وتتابعت العلامات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم وتوالت له عليهم الإغارة المحيطة بهم من سائر الجوانب
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه دعا عثمان بن طلحة رضي الله تعالى عنه فإنه كان قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مع خالد بن الوليد وعمرو ابن العاص قبل الفتح واسلموا كما تقدم واستمر في المدينة إلى أن جاء معه صلى الله عليه وسلم
____________________
(3/48)
إلى فتح مكة وبه يرد ماروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا كرم الله وجهه الى عثمان بن طلحة لأخذ المفتاح فأبي أن يدفعه وقال لو علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أمنعه منه ولوى علي كرم الله وجهه يده وأخذ المفتاح قهرا وفتح الباب وأنه لما نزل قوله تعالى { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } أمره صلى الله عليه وسلم أن يدفع له المفتاح متلطفا به فجاءه علي كرم الله وجهه بالمفتاح متلطفا به فقال له أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق فقال علي كرم الله وجهه لأن الله أمرنا برده عليك فأسلم
ثم لما دعا صلى الله عليه وسلم عثمان وجاء إليه أخذ منه مفتاح الكعلبة ففتحت له فدخلها ثم وقف صلى الله عليه وسلم على باب الكعبة فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده
ثم ذكر صلى الله عليه وسلم خطبة بين فيها جملة من الأحكام منها أن لا يقتل مسلم بكافر ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين ولا تنكح امرأة على عمتها ولا على خالتها والبينة على المدعي واليمين على من أنكر ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة ليال الا مع ذي محرم ولا صلاة بعد العصر ولا بعد الصبح ولا يصام يوم الأضحى ولا يوم الفطر ثم قال يا معشر قريش إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء والناس من آدم وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا } الآية ثم قال يا معشر قريش ما ترون وفي لفظ ماذا تقولون ماذا تظنون أني فاعل فيكم قالوا خيرا أخ كريم وأبن اخ كريم وقد قدرت أي وفي لفظ لما خرج صلى الله عليه وسلم من الكعبة يوم الفتح وضع يده على عضادتي الباب ثم قال ماذا تقولون ماذا تظنون أني فاعل فيكم قالوا خيرا فقال سهيل بن عمرو نقول خيرا ونظن خيرا أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت فقال أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم وفي لفظ فإني أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا فأنتم الطلقاء أي الذين اطلقوا فلم يسترقوا ولم يؤسروا والطليق في الأصل الأسير إذا أطلق فخرجوا فكأنما نشروا من فدخلوا في الإسلام
قال وذكر أنه لما فرغ من طوافه أرسل بلالا رضى الله تعالى عنه
____________________
(3/49)
إلى عثمان بن طلحة يأتي بمفتاح الكعبة فجاء الى عثمان فأخبره فقال إنه عند أمي فرجع بلال الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ان المفتاح عند أمه فبعث اليها رسولا فقالت لا واللات والعزى لا أدفعه أبدا فقال عثمان يا رسول الله أرسلني أخلصه لك منها فأرسله فجاء اليها فطلبه منها فقالت لا واللات والعزى لا أوصله اليك أبدا فقال يا أمه ادفعيه الى فإنه قد جاء أمر غير ما كنا عليه إن لم تفعلي قتلت أنا وأخي ويأخذه منك غيرى فأدخلته حجرتها وقالت أي رجل يدخل يده ههنا أي وقالت له أنشدك الله ان لا يكون ذهاب مأثرة قومك على يديك كل ذلك ورسول الله قائم ينتظر حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق فبينما هو يكلمها إذ سمعت صوت أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في الدار وعمر رضي الله تعالى عنه رافعا صوته وهو يقول يا عثمان اخرج فقالت يا بني خذ المفتاح فإن تأخذه أحب الي من أن تأخذه تيم وعدي أي ابو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فأخذه عثمان فخرج يمشي حتى إذا كان قريبا من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عثر عثمان فسقط منه المفتاح فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المفتاح فحنى عليه وتناوله أي وفي رواية فاستقبلته ببشر واستقبلني ببشر فأخذه مني وفتح الكعبة وفي رواية أنه قال له هاك المفتاح بأمانة الله وفي لفظ لما أبت أمه أنه تعطيه المفتاح قال والله لتعطينه او لأخرجن هذا السيف من منكب فلما رأت ذلك أعطته إياه فجاء به ففتح عثمان له الباب
ويحتاج الى الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها وقد اشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى إلى بعض هذه القصة بقوله ** صرعت قومه حبائل بغى ** ** مدها المكر منهم والدهاء ** ** فأتتهم خيل الى الحرب تختا ** ** ل وللخيل في الوغى خيلاء ** ** قصدت منهم القنا فقوا في الطع ** ** ن منا وما شأنها الايطاء ** ** وأثارت بأرض مكة نقعا ** ** ظن أن الغدو منها عشاء ** ** أحجمت عنده الحجون أكدى ** ** دون اعطائه القليل كداء ** ** ودهت أوجها بها وبيوتا ** ** مل منها الاقواء والإكفاء ** ** فدعوا أحلم البرية والعف ** و جواب الحليم والإغضاء ** ** ناشدوه القربي التي من قريش ** ** قطعتها الترات والشحناء **
____________________
(3/50)
** فعفا عفو قادر لم ينغص ** ** هـعليهم بما مضى إغراء ** ** وإذا كان القطع والوصل لله ** ** تساوى التقريب والإقصاء ** ** وسواء عليه فيما أتاه ** ** من سواه الملام والإطراء ** ** ولو أن انتقامه لهوى النف ** س لدامت قطيعة جفاء ** ** فعله كله جميل وهل ين ** ** ضح الا بما حواه الأناء **
أي القت قومه الذين لم يؤمنوا به بين يديه حبائل بغيهم التي مدها المكر والدهاء حالة كون ذلك منهم فبسبب مكرهم أتتهم من قبله خيل تتبختر بها راكبوها الى الحرب والخيل عليها الشجعان كبر وترفع في الحرب قصدت في أبدانهم الرماح فبسبب قصدها بهم كانت الطعنات المشبهة بالقوافي في تتابعها حالة كون ذلك الطعن من تلك الرماح ما عابها الإيطاء أي لم يعدم وجوده فيها والإيطاء في القافية تكريرها متحدة اللفظ والمعنى هو معيب على الشاعر لأنه يدل على قصوره والطعنات المتوالية في محل واحد تدل على قصر ساعد الشجاع ورفعت تلك الخيل غبارا أظلم الجو حتى ظن أن وقت الغدو من تلك الغبرة وقت العشاء وذلك بأرض مكة عند فتحها أمسكت عند ذلك الغبار لكثرته الحجون وهو كداء بالفتح والمد أعلى مكة لكثرة ما اعطاه صلى الله عليه وسلم الناس وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم القليل من الناس كداء بالضم والمد وهو اسفل مكة وهذه لغة فيه قليلة وعند ذلك قل غباره وأهلكت تلك الخيول أوجها من الناس بمكة ممن أباح دمه ومن قاتل وأهلكت بيوتا كان أهل مكة يرجعون اليها مل من تلك البيوت خلوها عن أنس بها والرجوع اليها وعند ذلك طلبوا منه العفو عما مضى منهم وجواب الحليم لمن سأله العفو عنه العفو وارخاء الجفون من الحياء وحلفوه بالقربي التي وصلت اليه من بطون قريش وهم ولد النضر بن كنانة التي قطعتها المقاتلة والتباغض والتحاسد فبسبب ذلك عفا صلى الله عليه وسلم عفو قادر لم يكدر ذلك العفو منهم إغراء سفهائهم به حالة كون ذلك الإغراء منهما فيما مضى وإذا كان القطع والوصل لله تساوى عند فاعل ذلك التقريب للاقارب والبعداء والإبعاد للأقارب والبعداء والذي تقريبه وإبعاده لله لا لغيره يستوى عنده سبه والمبالغة في مدحه إذا أتاه ذلك من غيره ومن ثم لو كان انتقامه لهوى النفس الأمارة بالسوء لاستمرت قطيعة الرحمن ودام إبعاده لها كيف
____________________
(3/51)
وقد قام لله في أموره كلها فبسبب ذلك أرضى الله تباين منه صلى الله عليه وسلم لأعدائه ووفاء لأوليائه فعله صلى الله عليه وسلم كله جميل ولا بدع في ذلك إذا ما يسيل مما في الإناء على ظاهره الا ما كان في تلك الإناء فمن أمتلأ قلبه خيرا كانت أفعاله كلها خيرا ومن امتلأ قلبه شرا كانت أفعاله كلها شرا
ثم جلس صلى الله عليه وسلم في المسجد ومفتاح الكعبة في يده في كمه فقام اليه علي كرم الله وجهه فقال يا رسول الله صلى اجمع لنا وفي لفظ اجمع لي الحجابة مع السقاية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أعطيكم ما تبذلون فيه أموالكم للناس أي وهو السقاية لا ما تأخذون فيه من الناس أموالهم وهي الحجابة لشرفكم وعلو مقامكم
وفي رواية أن العباس رضي الله تعالى عنه تطاول يومئذ لأخذ المفتاح في رجال من بني هاشم أي منهم علي كرم الله وجهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أين عثمان بن طلحة فدعى له فقال هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم بر ووفاء
وقيل نزلت هذه الآية إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها في شأن عثمان ابن طلحة رضي الله تعالى عنه ودفع المفتاح له أي لما أخذه علي كرم الله وجهه وقال يا رسول الله أجمع لنا الحجابة مع السقاية فقال صلى الله عليه وسلم لعلى أكرهت وآذيت وأمره صلى الله عليه وسلم أن يرد المفتاح الى عثمان ويعتذر اليه فقد انزل الله في شأنك أي أنزل الله عليه ذلك في جوف الكعبة وقرأ عليه الآية ففعل على كرم الله وجهه ذلك
وسياق هذه الرواية يدل على ان عليا كرم الله وجهه أخذ المفتاح على أن لا يرده لعثمان فلما نزلت الآية أمره صلى الله عليه وسلم أن يرد المفتاح لعثمان
والسقاية كما تقدم كانت أحواض من أدم يوضع فيه الماء العذب لسقاية الحاج ويطرح فيها التمر والزبيب في بعض الاوقات
وفي كلام الأزرقى كان لزمزم حوضان حوض بينها وبين الركن يشرب منه وحوض من ورائه للوضوء أي ولعل هذا كان بعد الفتح
والسقاية قام بها العباس رضي الله تعالى عنه بعد موت أبيه عبد المطلب وقام بها بعده ولده عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد تكلم فيها محمد بن الحنفية مع ابن عباس فقال له ابن عباس مالك ولها نحن اولى بها في الجاهلية والإسلام قام بها العباس بعد موت
____________________
(3/52)
أبيه عبد المطلب وأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس يوم الفتح واستمر المفتاح مع عثمان رضي الله عنه الى أن اشرف على الموت ولم يعقب دفعه الى اخيه شيبة ومن ثم عرفت ذريه بالشيبيين أي وفي رواية دفع صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة الى عثمان والى شيبة ابن عمه وقال خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم الا ظالم
أي وكون شيبة ابن عم عثمان هو الموافق لقول الحافظ ابن حجر الشيبيون نسبة الى شيبة بن عثمان بن ابي طلحة وهو ابن عم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة فأبو طلحة له ولدان عثمان وطلحة أتى عثمان بشيبة وأتى طلحة بعثمان
وفي كلام ابن الجوزي ما يوافقه وهو أن عثمان لما هاجر الى المدينة وأسلم سنة ثمان لم يزل مقيما بالمدينة حتى خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة أي وقد تقدم ثم رجع الى المدينة ولم يزل مقيما بها حتى توفى رسول الله فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع الى مكة واستمر مقيما بها حتى مات بها في أول خلافة معاوية رضي الله عنه فلم يزل عثمان رضي الله عنه يلي فتح البيت الى أن اشرف على الموت دفع المفتاح الى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وهو ابن عمه فبقيت الحجابة في ولد شيبة وكان عثمان بن طلحة هذا خياطا وهي صناعة نبي الله ادريس عليه الصلاة والسلام
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا عثمان بن طلحة وقال له ارني المفتاح فأتاه به فلما بسط يده اليه قال العباس فقال يا رسول الله اجعله لي مع السقاية فكف عثمان يده فقال صلى الله عليه وسلم ارني المفتاح فبسط يده يعطيه فقال العباس مثل كملته الأولى فكف عثمان يده فقال رسول الله يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح فقال هاك بأمانة الله ولعل هذا كان قبل دخوله صلى الله عليه وسلم الكعبة فيكون طلب العباس رضي الله عنه أن يكون المفتاح له تكرر قبل دخوله الكعبة وبعده وفي رواية أنه قال له ائتنى بالمفتاح قال فأتيته به فأخذه ثم دفعه الي وقال خذوها خالدة تالدة لا بنزعها منكم الا ظالم
وفي لفظ غيره إن الله رضي لكم بها في الجاهلية والإسلام إني لما ادفعها اليكم ولكن الله دفعها اليكم لا ينزعها منكم الا ظالم وفي رواية لا يظلمكموها الا كافر
____________________
(3/53)
ولا مانع ان يكون ذلك بعد ان دفعه علي كرم الله وجهه له بأمره صلى الله عليه وسلم وكأنه صلى الله عليه وسلم أحب أن يؤدي الامانة بيده الشريفة من غير واسطة وقال له يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته فكلوا مما يصل اليكم من هذا البيت بالمعروف فقال عثمان رضي الله عنه فلما وليت ناداني فرجعت اليه فقال ألم يكن الذي قلت لك قال رضي الله عنه فذكرت قوله صلى الله عليه وسلم لي بمكة قبل الهجرة
وقد اراد صلى الله عليه وسلم أن يدخل الكعبة مع الناس وكنا نفتحها في الجاهلية يوم الاثنين والخميس فلما اقبل ليدخلها أغلظت عليه ونلت منه وحلم عي ثم قال صلى الله عليه وسلم يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي اضعه حيث شئت فقلت قد هلكت قريش يومئذ وذلت فقال صلى الله عليه وسلم بل عمرت وعزت يومئذ فوقعت كلمته صلى الله عليه وسلم مني موقعا وظننت أن الأمر سيصير الى ما قال صلى الله عليه وسلم قال فلما قال لي يوم الفتح ذلك قلت بلى اشهد انك رسول الله
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم دخل يؤمئذ الكعبة ومعه بلال فأمره أن يؤذن أي للظهر على ظهر الكعبة وأبو سفيان وعتاب بن أسيد في لفظ خالد بن أسيد والحارث ابن هشام جلوس بفناء الكعبة فقال عتاب بن أسيد أي أو خالد بن اسيد لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون يسمع هذا العبد فيسمع منه ما يغيظه فقال الحارث أما والله لو أعلم انه حق لا تبعته أي وفي رواية أنه قال ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا ولا مانع من وجود الأمرين منه أي وتقدم في عمرة القضاء وقوع مثل ذلك من جماعة لما أذن بلال رضي الله عنه على ظهر الكعبة أيضا أي وقال غير هؤلاء من كفار قريش لقد أكرم الله فلانا يعني اباه إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة وفي لفظ والله الحدث العظيم أن يصبح عبد بني جمح ينهق على بيته فقال ابو سفيان لا اقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم لقد علمت الذي قلتم ثم ذكر ذلك لهم فقال أما أنت يا فلان فقد قلت كذا وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا فقال ابو سفيان وأما أنا يا رسول الله فما قلت شيئا فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا نشهد أنك رسول الله والله ما اطلع على هذا احد معنا فنقول أخبرك
وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على ابي سفيان وهو في المسجد فلما نظر
____________________
(3/54)
إليه أبو سفيان قال في نفسه ليت شعري بأي شيء غلبني فاقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه حتى ضرب يده بين كتفيه فقال بالله غلبتك يا ابا سفيان فقال ابو سفيان أشهد أنك رسول الله وصار بعض قريش يستهزئون ويحكون صوت بلال غيظا وكان من جملتهم أبو محذورة رضي الله عنه وكان من أحسنهم صوتا فلما رفع صوته بالأذان مستهزئا سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به فمثل بين يديه وهو يظن أنه مقتول فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته وصدره بيده الشريفة قال فامتلأ قلبي والله إيمانا ويقينا فعلمت أنه روسل الله فالقى عليه صلى الله عليه وسلم الأذان وعلمه إياه وأمره أن يؤذن لأهل مكة وكان ست عشرة سنة وعقبه بعده يتوراثون الأذان بمكة وتقدم أن أذان أبي محذورة وتعليمه صلى الله عليه وسلم الأذان كان مرجعه من حنين وتقدم طلب تأمل الجمع بينهما
وفي تاريخ الأزرقي أن جويرية بنت أبي جهل قالت عند أذان بلال علي ظهر الكعبة والله لا نحب من قتل الأحبة ولقد جاء لأبي الذي جاء لمحمد من النبوة فردها ولم يرد خلاف قومه
وعن الحارث ابن هشام قال لما أجارتني ام هانئ وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم جوراها فصار لا أحد يتعرض لي وكنت أخشى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فمر علي وانا جالس فلم يتعرض لي وكنت استحي ان يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أذكر برؤيته إياي في كل موطن مع المشركين فلقيته وهو داخل المسجد فلقيني بالبشر فوقف حتى جئته فسلمت عليه وشهدت شهادة الحق فقال الحمد لله الذي هداك ما كان مثلك يجهل الإسلام
وجاءه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح السائب بن عبد الله المخزومي أي وقيل عبد الله ابن السائب بن ابي السائب وقيل السائب بن عويمر وقيل قيس بن السائب بن عويمر قال في الاستيعاب وهذا اصح ما قيل في ذلك إن شاء الله تعالى وكان شريكا له صلى الله عليه وسلم في الجاهلية فقال فأخذ عثمان وغيره يثنون على فقال صلى الله عليه وسلم لهم لا تعلموني به كان صاحبي وفي لفظ لما أقبلت عليه قال مرحبا بأخى وشريكي كان لا يداري ولا يماري قد كنت تعمل أعمالا في الجاهلية لا تتقبل منك أي لتوقف صحتها على الاسلام وهي الاعمال المتوقفة على النية التي شرطها الاسلام وهي اليوم تتقبل منك أي لوجود الاسلام
____________________
(3/55)
ورأسل سهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنه ولده عبد الله ليأخذ أمانا منه صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي تؤمنه فقال صلى الله عليه وسلم نعم هو آمن بالله فليظهر ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله من لقي سهيل بن عمرو فلا يحد اليه النظر فلعمري ان سهيلا له عقل وشرف وما مثل سهيل يجهل الاسلام فخرج ابنه عبد الله اليه فأخبره بمقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سهيل كان والله برا صغير برا كبيرا فكان سهيل رضي الله تعالى عنه يقبل ويدبر وخرج الى حنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو على شركه حتى أسلم بالجعرانة
وذكر أن فضالة بن عمير بن الملوح حدث نفسه بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح قال فلما دنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا فضالة قال فضالة نعم يا رسول الله قال ما كنت تحدث به نفسك قال لا شيء كنت أذكر الله فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال استغفر الله ثم وضع يده الشريفة على صدره فسكن قلبه فكان فضالة رضي الله تعال عنه يقول والله ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق الله شيئا أحب الي منه
قال ولما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا بعد الظهر مسندا ظهره الشريف الى الكعبة وقيل كان على راحلته فحمد الله وأثنى عليه وقال أيها الناس إن الله تعالى قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ويوم خلق الشمس والقمر ووضع هذين الجبلين فهى حرام الى يوم القيامة فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر يسفك فيها دما ولا يعضد فيها شجرة ولم تحل لأحد كان قبلي ولم تحل لأحد يكون بعدي ولم تحلى لي الا هذه الساعة أي من صبيحة يوم الفتح الى العصر غضبا على أهلها ألا قد رجعت حرمتها اليوم كحرمتها بالامس فليبلغ الشاهد منكم الغائب فمن قال لكم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل فيها فقولوا له إن الله قد أحلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحلها لكم
وقد جاء في صحيح مسلم لا يحل أن يحمل السلاح بمكة يا معشر خزاعة ارفعوا ايديكم عن القتل فقد كثر القتل فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين إن شاءوا فدم قاتله وإن شاءوا فعقله ثم ودي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي قتلته
____________________
(3/56)
خزاعة وهو ابن الأقرع الهذلي من بني بكر فإنه دخل مكة وهو على شركه فعرفته خزاعة فأحاطوا به فطعنه منهم خراش بمشقص في بطنه حتى قتله فلامه صلى الله عليه وسلم وقال لو كنت قاتلا مسلما بكافر لقتلت خراشا أي والمشقص ما طال من النصال وعرض قال ابن هشام وبلغني أنه اول قتيل وداه النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أنه تقدم في خبير أنه ودى قتيلا وقال صلى الله عليه وسلم يوم الفتح لا نغزى مكة بعد اليوم الى يوم القيامة قال العلماء أي على الكفر أي لا يقاتلوا على أن يسلموا ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صمنا إلا كسره
ولما أسلمت هند رضي الله تعالى عنها عمدت الى صم كان في بيتها وجعلت تضربه بالقدوم وتقول كنا منك في غرور
ثم بعث صلى الله عليه وسلم السرايا الى كسر الاصنام التي حول مكة أي لأنهم كانوا اتخذوا مع الكعبة اصناما جعلوا لها بيوتا يعظمونها كتعظيم الكعبة وكانوا يهدون لها كما يهدون للكعبة ويطوفون بها كما يطوفون بالكعبة فكان في كل حي صنم من ذلك كما تقدم العزى وسواع ومناة وسيأتي الكلام على ذلك في السرايا ان شاء الله تعالى
أي وفي هذا العام الذي هو عام الفتح كان غزوة أوطاس وأوطاس هو هوازن وحلل صلى الله عليه وسلم المتعة ثم بعد ثلاثة أيام حرمها ففي صحيح مسلم عن بعض الصحابة لما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتعة خرجت أنا ورجل إلى أمرأة من بني عامر كأنها بكرة غيطاء وفي لفظ مثل البكرة الغطنطية فعرضنا عليها انفسنا فقلنا لها هل لك أن يستمتع منك أحدنا فقالت ما تدفعان قلنا بردينا وفي لفظ رداءينا فجعلت تنظر فتراني أجمل من صاحبي وترى برد صاحبي أحسن من بردي فإذا نظرت الي اعجبتها وإذن نظرت الى برد صاحبي اعجبها فقالت أنت وبردك تكفيني فكنت معها ثلاثا
والحاصل أن نكاح المتعة كان مباحا ثم نسخ يوم خبير ثم أبيح يوم الفتح ثم نسخ في ايام الفتح واستمر تحريمه الى يوم القيامة وكان فيه خلاف في الصدر الاول ثم ارتفع واجمعوا على تحريمه وعدم جوازه
____________________
(3/57)
قال بعض الصحابة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما بين الركن والباب وهو يقول أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع الا وان الله حرمها الى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا أي لكن في مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال استمتعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وفي رواية عنه حتى نهى عنه عمر رضي الله تعالى عنه وقد تقدم في غزاة خيبر عن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه لا أعلم شيئا حرم ثم ابيح ثم حرم الا المتعة وهو يدل على أن اباحتها عام الفتح كانت بعد تحريمها بخيبر ثم حرمت به وهذا يعارض ما تقدم ان الصحيح انها حرمت في حجة الوداع الا ان يقال يجوز ان تحريمها في حجة الوداع تأكيدا لتحريمها عام الفتح فلا يلزم أن تكن ابيحت بعد تحريمها أكثر من مرة كما يدل عليه إمامنا الشافعي لكن يخالفه ما في مسلم عن بعض الصحابة رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام اوطاس في المتعة ثلاثا ثم نهى عنها
وقد يقال مراد هذه القائل بعام أوطاس عام الفتح لأن غزاة أوطاس كانت في عام الفتح كما تقدم وما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من جوزاها رجع عنه فقد قال بعضهم والله ما فارق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الدنيا حتى رجع الى قول الصحابة في تحريم المتعة ونقل عنه رضي الله تعالى عنه انه قام خطيبا يوم عرفة فقال ايها الناس إن المتعة حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير
والحاصل أن المتعة من الأمور الثلاثة التي نسخت مرتين الثاني لحوم الحمر الأهلية الثالث القبلة كذا في حياة الحيوان
قال واستقرض صلى الله عليه وسلم من ثلاثة نفر من قريش أخذ من صفوان بن امية رضي الله تعالى عنه خمسين ألف درهم ومن عبد الله بن ابي ربيعة أربعين الف درهم ومن حويطب بن عبد العزى اربعين الف درهم فرقها صلى الله عليه وسلم في أصحابه من أهل الضعف ثم وفاها مما غنمه من هوازن وقال إنما جزاء السلف الحمد والأداء أ هـ
أي وأقام صلى الله عليه وسلم بمكة أي بعد فتحها تسعة عشر وقيل ثمانية عشر يوما واعتمده البخاري يقصر الصلاة في مدة اقامته وبهذا الثاني قال أئمتنا ان من أقام بمحل لحاجة يتوقعها كل وقت قصر ثمانية عشر يوما غير يومي الدخول والخروج ولعل
____________________
(3/58)
سبب إقامته المدة المذكورة أنه كان يترجى حصول المال الذي فرقه في أهل الضعف من اصحابه فلما لم يتم له ذلك خرج من مكة الى حنين لحرب هوازن
وجاء اليه صلى الله عليه وسلم سعد بن ابي وقاص وقد أخذ بيد ابن وليدة زمعة ومعه عبد بن زمعة فقال سعد يا رسول الله هذا ابن اخي عتبة بن أبي وقاص عهد الى انه ابنه أي قال إذا قدمت مكة انظر الى ابن وليدة زمعة فإنه منى فاقبضه إليك فقال عبد بن زمعة يا رسول الله هذا أخى ابن وليدة أبى زمعة ولدته على فراشه أي مع كونها فراشا له فنظر صلى الله عليه وسلم الى ذلك الولد فإذا هو اشبه الناس بعتبة بن ابي وقاص فقال لعبد بن زمعة هو أخوك يا عبد بن زمعة من اجل انه ولد على فراش ابيك زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر وقال لزوجته سودة بنت زمعة أحتجبي منه يا سودة لما رأى عليه من شبه عتبة أي فخشي أن يكون ابن خاله فأمرها بالاحتجاب ندبا واحتياطا فلم يرها حتى لقي الله وفي بعض الروايات احتجبي منه يا سودة فليس لك بأخ
وسرقت امرأة فأراد صلى الله عليه وسلم قطعها ففزع قومها إلى أسامه بن زيد ابن حارثه رضي الله تعالى عنهم يستشفعون به فلما كلمه أسامه فيها تلون وجهه صلى الله عليه وسلم وقال أتكلمني في حد من حدود الله تعالى فقال اسامة استغفر لي يا رسول الله ثم قام صلى الله عليه وسلم خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها وفي كلام بعضهم كانت العرب في الجاهلية يقطعون يد السارق اليمنى
وولى صلى الله عليه وسلم عتاب بن اسيد رضي الله تعالى عنه وعمره احدى وعشرون سنة أمر مكة وأمره صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس وهو أول أمير صلى بمكة بعد الفتح جماعة وترك صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه بمكة معه معلما للناس السنن والفقه
في الكشاف وعنه صلى الله عليه وسلم أنه استعمل عتاب بن اسيد على اهل مكة وقال انطلق فقد استعملتك على اهل الله أي وقال ذلك ثلاثا فكان رضي الله تعالى عنه شديدا
____________________
(3/59)
على المريب لينا على المؤمن وقال والله لا اعلم متخلفا يتخلف عن الصلاة في جماعة الا ضربت عنقه فإنه لا يتخلف عن الصلاة الا منافق فقال اهل مكة يا رسول الله لقد استعملت على أهل الله عتاب بن أسيد أعرابيا جافيا فقال صلى الله عليه وسلم إني رأيت فما يرى النائم كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقة الباب فقلقلها قلقالا شديد حتى فتح له فدخلها فأعز الله به الإسلام فنصرته للمسلمين على من يريد ظلمهم هذا
وفي تاريخ الازرقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقد رأيت أسيدا في الجنة وأني أي كيف يدخل أسيد الجنة فعرض له عتاب بن اسيد فقال صلى الله عليه وسلم هذا الذي رايت ادعوه لي فدعى له فاستعمله يومئذ على مكة ثم قال يا عتاب اتدري على من استعملتك استعملتك على أهل الله فاستوص بهم خيرا يقولها ثلاثا
فإن قيل كيف يقول صلى الله عليه وسلم عن اسيد انه رآه في الجنة ثم يقول عن ولد أسيد إنه الذي رآه في الجنة قلنا لعل عتابا كان شديد الشبة بأبيه فظن صلى الله عليه وسلم عتابا أباه فلما رآه عرف أنه عتاب لا أسيد
وفي كلام سبط ابن الجوزي عتاب بن اسيد استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة لما خرج الى حنين وعمره ثماني عشرة سنة وفي كلام غيره ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم إنما استخلف عتاب بن أسيد وترك معه معاذ بن جبل بعد عوده من الطائف وعمرته من الجعرانة إلا أن يقال لا مخالفة ومراده باستئلافه إبقاؤه على ذلك وينبغي ان يكون ما تقدم عن الكشاف من قول أهل مكة له صلى الله عليه وسلم لقد استخلفت على أهل الله عتاب بن اسيد الى آخره بعد ابقائه على استخلافه لما لا يخفى
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن اسيدا والد عتاب واليا على مكة مسلما فمات على الكفر فكانت الرؤيا لولده كما تقدم مثل ذلك في أبي جهل ولده عكرمة رضي الله تعالى عنه
ولما ولاه صلى الله عليه وسلم على مكة جعل له في كل يوم درهما فكان رضي الله تعالى عنه يقول لا اشبع الله بطنا جاع على درهم في كل يوم
ويروي انه قام فخطب الناس فقال ايها الناس اجاع الله كبد من جاع على درهم أي له درهم فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما في كل يوم فليست لي حاجة الى احد
____________________
(3/60)
وعن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن اسيد على مكة وفرض له عمالته أربعين أوقية من فضة ولعل الدرهم كل يوم يحرز القدر المذكور أي أربعين أوقية في السنة فلا مخالفة
وفي السنن الكبرى للبيهقي وولد عتاب هذا عبد الرحمن الذي قطعت يده يوم الجمل واحتملها النسر وألقاها بمكة وقيل بالمدينة كان يقال له يعسوب قريش غزوة حنين
اسم موضع قريب من الطائف وفي كلام بعضهم الى جنب ذي المجاز وهو سوق الجاهلية وتقدم ذكره وفي كلام بعض آخر اسم لما بين مكة والطائف ويقال لها غزوة هوزان ويقال لها غزوة اوطاس باسم الموضع الذي كانت به الوقعة في آخر الأمر
أي وسببها أنه لما فتح الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة أطاعت له قبائل العرب الا هوزان وثقيفا فإن أهلهما كانوا طغاة عتاة مردة
قال قال ائمة المغازي لما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة مشت اشراف هوازن وثقيف بعضها الى بعض فاشفقوا أي خافوا ان يغزوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا قد فرغ لنا فلاناهية أي لا مانع له دوننا والراي أن يغزونا فحشدوا وبغوا وقالوا وكان اجماع امر الناس إلى مالك بن عوف النصيري أي بالصاد المهملة رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك فاجتمع اليه من القبائل جموع كثيرة فيهم بنو سعد بن بكر وهم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مسترضعا فيهم وحضر معهم دريد بن الصمة وكان شجاعا مجربا لكنه كبر أي لأنه بلغ مائة وعشرين سنة وقيل مائة وخمسين وقيل مائة وسبعين أي وقيل قارب المائتين قاله ابن الجوزي وقد عمى وصار لا ينتفع الا برأيه ومعرفته بالحرب أي لأنه كان صاحب رأي وتدبير ومعرفة بالحروب وكان قائد ثقيف ورئيسهم كنانة بن عبد ياليل رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك وقيل قارب بن الأسود وكان سن مالك بن عوف إذ ذاك ثلاثين سنة فإنه أسلم بعد ذلك وقيل قارب بن الاسود وكان سن مالك بن عوف إذ ذاك ثلاثين سنة فأمر الناس بأخذ اموالهم ونسائهم وابنائهم معهم فلما نزل بأوطاس اجتمع اليه الناس وفيهم
____________________
(3/61)
دريد بن الصمة فقال دريد للناس بأي واد أنتم قالوا بأوطاس قال نعم محل الخيل وفي لفظ مجال الخيل بالجيم لا حزن ضرس والحزن بفتح الحاء المهملة واسكان الزاي وبالنون ما غلط من الأرض والضرس بكسر الضاد المعجمة واسكان الراء وبالسين المهملة ما صلب من الأرض ولا سهل دهس والسهل ضد الحزن والدهس بفتح الدال المهملة والهاء وبالسين المهملة اللين كثير التراب مالي اسمع رغاء البعير ونهاق الحمير بضم النون أي صوتها وبكاء الصغير ويعار الشاء واليعار بضم المثناة تحت وبالعين المهملة المخففة الداء صوت الشاء أي وخوار البقراي صوتها قالوا ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وابناءهم قال ابن مالك أي وكان توافق معه على أن لا يخالفه فإنه قال له إنك تقاتل رجلا كريما قد أوطأ العرب وخافته العجم وأجلى يهود الحجاز أي غالبهم اما قتلا وإما خروجا عن ذل وصغار فقال له لا نخالفنك في أمر تراه فقيل له هذا مالك فقال يا مالك اما انك قد اصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام مالي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعارالشاء وخوار البقر قال سقت مع الناس ابناءهم ونساءهم وأموالهم قال ولم قال أردت أن أجعل خلف كل رجل اهله وماله ليقاتل عنهم فأنقض به قال ابو ذر أي زجره كما تزجر الدابة وهو ان يلصق اللسان بالحنك الأعلى ويصوت به وهو معنى قول الأصل أي صوت بلسانه في فيه ثم قال له راعي وفي لفظ رويعي ضأن والله ماله وللحرب ثم اشار عليه برد الذرية والأموال وقال هل يرد المنهزم شيء إن كانت لك لم ينفعك كعب وكلب قالوا لم يشهدها منهم أحد قال غاب الحد والجد الأول بفتح الحاء المهملة والثاني بالمعجمة مكسورة ضد الهزل وبفتحها الحظ لو كان يوم علا ورفعة ما غابا ثم أشار عليه بأمور لم يقبلها مالك منه وقال والله لا اطيعك إنك قد كبرت وضعف رأيك فقال دريد لهوازن قد شرط يعني مالكا أن لا يخالفني فقد خالفني فأنا أرجع الى أهلي فمنعوه وقال مالك والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري وكره أن يكون لدريد فيها راي او ذكر قالوا أطعناك أي ثم جعل النساء فوق الإبل وراء المقاتلة صفوفا ثم جعلوا الإبل صفوفا والبقر والغنم وراء ذلك لئلا يفروا وفي لفظ
____________________
(3/62)
صفت الخيل ثم الرجالة المقاتلة ثم صفت النساء على الإبل ثم صفت الغنم ثم صفت النعم ثم قال للناس إذا رأيتموهم شدوا عليهم شدة رجل واحد وبعث عيونا له أي وهم ثلاثة أنفار أرسلهم لينظروا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا وقد تفرقت أوصالهم قال ويلكم ما شأنكم قالوا رأينا رجالا بيضا على خيول بلق فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى وإن أطعتنا جعنا بقومك فقال أف لكم بل أنتم أجبن العسكر فلم يرده ذلك 4 ومضى على ما يريده
ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم أرسل اليهم رجلا من اصحابه أي وهو عبد الله بن ابي حدرد الأسلمي وأمره ان يدخل فيهم ويسمع منهم أجمعوا عليه فدخل فيهم أي ومكث فيهم يوما أو يومين وسمع ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر أي وجاءه رجل فقال يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا فإذا أنا بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشبابهم اجتمعوا الى حنين فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله تعالى فأجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر السير الى هوازن وذكر له صلى الله عليه وسلم أن عند صفوان بن امية ولم يكن اسلم يومئذ بل كان مؤمنا ادرعا وسلاحا فارسل صلى الله عليه وسلم اليه فقال يا أبا امية أعرنا سلاحك نلق به عدونا غدا فقال صفوان أغصبا يا محمد فقال صلى الله عليه وسلم بل عارية وهي مضمونة حتى نؤديها اليك قال ليس بهذا بأس وفي رواية الإمام احمد قال صفوان عارية مؤداة فقال صلى الله عليه وسلم العارية مؤداة فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح قبل وسأله صلى الله عليه وسلم أن يكفيهم حملها ففعل وذكر ان بعض تلك الأدراع ضاع فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له فقال أنا اليوم يا رسول الله في الإسلام ارغب
قال واستعار صلى الله عليه وسلم من ابن عمه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ثلاثة آلاف رمح فقال له كأني أنظر الى رماحك هذه تقصف ظهر المشركين أهأي وتقدم أن نوفلا هذا فدى نفسه وكان في اسرى بدر بألف رمح
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا ألفان من أهل مكة والعشرة آلاف الذي فتح الله تعالى بهم مكة أي على ما تقدم
قال بعضهم وخرج أهل مكة ركبانا ومشاة حتى النساء يمشين على غير وهن يرجون
____________________
(3/63)
الغنائم ولا يكرهون أن من لم يصدق إيمانه أن الضيعة وفي لفظ أن الصدمة برسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه أي فقد خرج معه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون من المشركين منهم صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو فلما قربوا من محل العدو صفهم ووضع الألوية والرايات مع المهاجرين والأنصار فلواء المهاجرين أعطاه عليا كرم الله وجهه وأعطى سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه راية وأعطى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه راية ولواء الخزرج أعطاه الحباب بن المنذر رضي الله تعالى عنه ولواء الأوس أعطاه اسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه
وفي سيرة الدمياطي وفي كل بطن من الأوس والخرزج لواء وراية يحملها رجل منهم وكذلك قبائل العرب فيها الاولوية والرايات يحملها رجال منهم وركب صلى الله عليه وسلم بغلته ولبس درعين والمغفر والبيضة والدرعان هما ذات الفضول والسغدية بالسين المهملة والغين المعجمة وهي درع داود عليه السلام التي لبسها حين قتل جالوت ومروا بشجر سدرة كان المشركون يعظمونها وينوطون بها اسلحتهم أي يعلقونها بها فقالت الصحابة رضي الله تعالى عنه الله تعالى عنهم يا رسول الله اجعل لنا ذات انواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله اكبر هذا كما قال قوم موسى عليه السلام أجعل لنا الها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم فلما كان بحنين وانحدورا الوادي أي وذلك عند غبش الصبح خرج عليهم القوم وكانوا كمنوا لهم في شعاب الوادي ومضايقه وذلك باشارة دريد بن الصمة فإنه قال لمالك اجعل لك كمينا يكون لك عونا إن حمل القوم عليك جاءهم الكمين من خلفهم وكررت أنت بمن معك وإن كانت الحملة لك لم يفلت من القوم أحد فحملوا عليهم حملة رجل واحد أي وكانوا رماة فاستقبلوهم بالنبل كأنهم جراد منتشر لا يكاد يسقط لهم سهم
أي وعن البراء رضي الله تعالى عنه وسأله رجل فقال فررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فقال ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر
وأما ما روى عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزما فمنهزما حال من سلمة لا من النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينهزم قط في موطن من المواطن كما تقدم
وعن البراء رضي الله عنه كانت هوازن ناسا رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا
____________________
(3/64)
فأكبيا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فأخذ المسلمون راجعين منهزمين لا يلوى أحد على أحد أي ويقال إن الطلقاء وهم أهل مكة قال بعضم لبعض أي من كان إسلامه مدخولا منهم اخذلوه هذا وقته فانهزموا فهم أول من انهزم وتبعهم الناس وعند ذلك قال ابو قتادة رضي الله عنه لعمر رضى الله عنه ما شأن الناس قال أمر الله
وهذا السياق يدل على انهم انهزموا مرتين الأولى في أول الأمر والثانية عند انكباب المسلمين على أخذ الغنائم والذي في الاصل الاقتصار على الأولى
وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين ومعه نفر قليل منهم أبو بكر وعمر وعلي والعباس وابنه الفضل وابو سفيان ابن اخيه الحارث وربيعة بن الحارث ومعتب ابن عمه ابي لهب وفقئت عينه ولم أقف على أيهما كانت أي ووردت في عد من ثبت معه روايات مختلفة فقيل مائة وقيل ثمانون وقيل اثنا عشر وقيل عشرة وقيل كانوا ثلثمائة
ولا مخالفة لإمكان الجمع وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله إني عبد الله ورسوله
وعن العباس رضي الله عنه كنت آخذا بحكمة بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وهي الشهباء التي أهداها له فروة بن عمرو الجزامي أي صاحب البلقاء وعامل ملك الروم على فلسطين يقال لها فضة وقيل التي يقال لها دلدل التي أهداها له المقوقس وفي البخاري التي أهداها له ملك أيلة قال بعضهم والأول أثبت
ويدل الثاني ما أخرجه ابو نعيم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال انهزم المسلمون بحنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء وكان يسميها دلدل فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم دلدل البدى فألزقت بطنها بالأرض الحديث وابو سفيان ابن الحارث آخذ بركابه صلى الله عليه وسلم وهو يقول حين رأى ما رأى من الناس الى أين أيها الناس فلما ار الناس يلوون على شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عباس اصرخ يا معشر الأنصار يا أصحاب السمرة يعني الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان
وفي لفظ يا عباس اصرخ بالمهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة وبالأنصار الذين آووا ونصروا أي وإنما خص صلى الله عليه وسلم العباس بذلك لأنه كان عظيم الصوت
____________________
(3/65)
كان صوته يسمع من ثمانية أميال كان يقف على سلع وينادي غلمانه آخر الليل وهم بالغابة فيسمعهم وبين سلع والغابة ثمانية اميال
وغارت الخيل يوما على المدينة فنادى واصباحاه فلم تسمعه حامل الا وضعت من عظم صوته
وفي لفظ آخر نادى يا أصحاب السمرة يوم الحديبية يا أصحاب سورة البقرة أي وخص سورة البقرة بالذكر لأنها أول سورة نزلت في المدينة لأن فيها { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } وفيها { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } وفيها { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله } في لفظ نادى يا أنصار الله وأنصار رسوله يا بني الخزرج خصهم بالذكر بعد التعميم لأنهم كانوا صبرا في الحرب أو غلب فأجابوا لبيك لبيك وفي لفظ يا لبيك يا لبيك
أي وفي البخاري لما أدبروا عنه صلى الله عليه وسلم حتى بقي وحده فنادي يومئذ نداءين التفت عن يمينه فقال يا معشر الانصار قالوا لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك ثم التفت عن يساره فقال يا معشر الانصار قالوا لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك
ويجوز أن يكونه هذا بعد نداء العباس وقربهم منه صلى الله عليه وسلم وصار الرجل يلوي بعيره فلا يقدر على ذلك أي لكثرة الأعراب المنهزمين فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله ويؤم الصوت حتى ينتهي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعضهم فما شبهت عطفة الأنصار على رسول الله إلا عطفة الإبل وفي لفظ عطفة البقر على أولادها فلرماحهم أخوف عندي على رسول الله صلى الله عليه وسلم من رماح الكفار حتى إذا انتهى اليه من الناس مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا واشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر الى القوم وهم يجتلدون أي وكان شعارهم كيوم فتح مكة فقال صلى الله عليه وسلم الآن حمى وهو حجارة توقد العرب تحتها النار يشوون عليها اللحم والوطيس في الاصل التنور وهذه من الكلمات التي لم تسمع الا منه صلى الله عليه وسلم وهي مثل يضرب لشدة الحرب أي وصار يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن
____________________
(3/66)
عبد المطلب وهذا السياق يدل على أن المائة انتهت اليه صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وهو يؤيد القول بان الذين ثبتوا معه صلى الله عليه وسلم لم يبلغوا المائة
وفي رواية لما انكشف الناس عنه يوم حنين قال لحارثة بالحاء المهملة ابن النعمان يا حارثة كم ترى الناس الذي ثبتوا فحزرتهم مائة فقلت يا رسول الله مائة فلما كان يوم من الايام مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يناجي جبريل عليه السلام عند باب المسجد فقال جبريل عليه السلام يا محمد من هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حارثة بن النعمان فقال جبريل عليه السلام هو أحد المائة الصابرة يوم حنين لو سلم لرددت عليه السلام فلما أخبرني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت له ما كنت لأظنه الا دحية الكلبي واقفا معك
وفي رواية لما فر الناس يوم حنين عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبق معه إلا اربعة ثلاثة من بنى هاشم ورجل من غيرهم علي بن ابي طالب والعباس وهما بين يديه وابو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان وابن مسعود من جانبه الأيسر ولا يقبل أحد من المشركين جهته صلى الله عليه وسلم إلا قتل
وذكر بعضهم أنه رأى أبا سفيان بن الحارث حينئذ آخذا بزمام بغلته صلى الله عليه وسلم ولا ينافي ما تقدم أن الآخذ بذلك العباس رضي الله عنه وأن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بركابه صلى الله عليه وسلم لجواز أن يكون أخذا بزمامها بعد أخذه بركابه صلى الله عليه وسلم
وعن ابي سفيان بن الحارث قال لما لقينا العدو بحنين اقتحمت عن فرسي وبيدي السيف مصلتا والله يعلم أني اريد الموت دونه وهو ينظر الي فقال له العباس يا رسول الله اخوك وابن عمك ابو سفيان فارض عنه فقال غفر الله له كل عداوة عادانيها ثم التفت الي وقال يا أخي فقبلت رجله في الركاب وقال الله عليه وسلم في حقه أبو سفيان ابن الحارث من شبان أهل الجنة او من سيد فتيان أهل الجنة وليس قوله صلى الله عليه وسلم أنا النبي لا كذب إلى آخره من الشعر لأن شرطه كما تقدم في بناء المسجد أن يكون عن قصد وروية بناء على أن مشطور ومنهوكه شعر وهو الصحيح خلافا للأخفش حيث رد على الخليل في قوله إن الرجز شعر بأنه وقع منه صلى الله عليه وسلم في قوله المذكور وقد قال الله تعاالى { وما علمناه الشعر وما ينبغي له }
____________________
(3/67)
ورد بأن ما يقع موزونا لا عن قصد لا يقال له شعر ولا يقال لقائله انه شاعر كما تقدم مع زيادة وإنما قال صلى الله عليه وسلم انا ابن عبد المطلب ولم يقل أنا ابن عبد الله لأن العرب كانت تنسبه صلى الله عليه وسلم الى جده عبد المطلب لشهرته ولموت عبد الله في حياته كما تقدم فليس من الافتخار بالآباء الذي هو من عمل الجاهلية كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم أنا ابن العواتك والفواطم وأخذ من هذا أنه لا باس بالانتساب في موطن الحرب
وذكر الخطابي انه صلى الله عليه وسلم إنما قال أنا ابن عبد المطلب على سبيل الافتخار ولكن ذكرهم صلى الله عليه وسلم بذلك رؤيا كان رآها عبد المطلب ايام حياته وكانت القصة مشهورة عندهم فعرفهم بها وذكرهم إياها وهي إحدى دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم
ثم نزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته وقيل لم ينزل بل قال يا عباس ناولني من الحصباء فانخفضت به بغلته حتى كادت بطنها تمس الأرض ثم قبض قبضة من تراب قال بعضهم كأن الله أفقه أي أفهم البغلة كلامه صلى الله عليه وسلم أي علمت مراده
وفي رواية كما تقدم أنه قال لها يا دلدل البدي فلبدت أي انخفضت وفي رواية قال اربضي دلدل فربضت وقيل ناوله العباس ذلك وقيل ناوله علي وقيل ابن مسعود رضي الله عنهم فعنه حادت به بغلته فمال السرج فقلت ارتفع رفعك الله فقال ناولني كفا من تراب فناولته ثم استقبل بها وجوههم فقال شاهت الوجوه أي وفي رواية قال حم لا ينصرون وفي رواية جمع بينهما فما خلف الله منهم إنسانا الا ملأت عينيه وفمه ترابا تلك القبضة وقال انهزموا ورب محمد فولوا مدبرين أي وقال بعضهم ما خيل الينا الا أن كل حجر او شجر فارس يطلبنا
وحدث رجل كان من المشركين يوم حنين قال لما التقينا نحن واصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقوموا لنا حلبة شاة أن كشفناهم قال فبينما نحن نسوقهم ونحن في آثارهم إذ صاحب بغلة بييضاء وإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان الوجوه وقالوا شاهت الوجوه ارجعوا فانهزمنا
____________________
(3/68)
من قولهم وركبوا أجسادنا فكانت أياها والى رميه صلى الله عليه وسلم بالحصى اشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله ** رومى الحصى فأقصد جيشا ** ما العصا وما الإلقاء **
أي ورمى صلى الله عليه وسلم بالحصى فأهلك ذلك الجيش العظيم أي شيء عصا موسى عند ذلك الحصى وأي شيء إلقاء موسى عليه السلام لتلك العصا عند إلقاء ذلك الحصى شتان ما بينهما فلا يقاس هذه بذلك لأن هذا أعظم لأن انقلاب العصا حية كان مشابها لانقلاب حبالهم وعصيهم حيات لأن ابتلاعها لحبالهم وعصيهم لم يقهر العدو ولم يشتت شملهم بل زاد بعدها طغيانهم وعتوهم على موسى عليه السلام بخلاف هذه الحصى فإنه أهلك العدو وشتت شمله
أي وذكر انه عند القتال أنزل الله تعالى قوله يوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا الى قوله غفور رحيم
فقد جاء ان بعض اصحابه أي وهو ابو بكر رضي الله عنه كما في سيرة الحافظ الدمياطي قال يا رسول الله لن نغلب اليوم من قلة وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وساءته تلك الكلمة وقيل بل قائل ذلك هو صلى الله عليه وسلم لما رأى كثرة المسلمين وقيل قال ذلك فتى من الأنصار أي وهو سلمة بن الأكوع أو سلامه بن وقش
أي وجاء أنه صلى الله عليه وسلم رفع يومئذ يديه وقال اللهم أنشدك ما وعدتي اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا
أي واخرج البيهقي في الاسماء والصفات عن الضحاك قال دعا موسى عليه الصلاة والسلام حين توجه الى فرعون لعنه الله ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين كنت وتكون وأنت حي لا تموت تنام العيون وتنكدر النجوم وأنت حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ياحي يا قيوم
وكان أمام المشركين رجل على جمل أحمر بيده راية سوداء في راس رمح طويل وهوزان خلفه إذا أدرك طعن برمحه وإذا فاته رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه فبينما هو كذلك إذ أهوى اليه علي بن ابي طالب كرم الله وجهه ورجل من الانصار يريدانه فأتى على من خلفه وضرب عرقوبي الجمل فوقع على عجزه ووثب الأنصاري على الرجل فضرب ضرب أطن
____________________
(3/69)
قدمه بنصف ساقه واجتلد الناس فوالله ما رجعت راجعة المسلمين من هزيمتهم حتى وجدوا الاسارى مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولما انهزم المسلمون تكلم رجال من أهل مكة بما في نفوسهم من الضعف ومنهم ابو سفيان بن حرب رضي الله عنه قيل وكان إسلامه بعد مدخولا وكانت الأزلام في كنانته فقال لا تنتهي هزيمتهم يعني المسلمين دون البحر أي وقال والله غلبت هوزان فقال له صفوان بفيك الكثيب أي الحجارة والتراب وقد وصلت الهزيمة الى مكة وسر بذلك قوم من مكة واظهروا الشماتة وقال قائل منهم ترجع العرب الى دين آبائها أي وقال آخر أي وهو أخو صفوان لأمه ألا قد بطل السحر اليوم فقال له صفوان وهو يومئذ مشرك اسكت فض الله فاك أي أسقط أسنانك والله لأن يربني من الربوبية أي يملكني ويدبر أمري رجل من قريش أحب الي من أن يربني رجل من هوازن
وفي رواية مر رجل من قريش على صفوان بن امية فقال أبشر بهزيمة محمد وأصحابه فوالله لا يجبرونه أبدا فغضب صفوان رضي الله عنه وقال اتبشرني بظهور الاعراب فوالله لرب رجل من قريش احب الى من رجل من الأعراب وقال عكرمة بن ابي جهل رضي الله عنه وكونهم لا يجبرونها أبدا هذا ليس بيدك الامر بيد الله ليس إلى محمد منه شيء إن أديل عليه اليوم فإن له العاقبة غدا فقال له سهيل بن عمرو والله ان عهدك بخلافة لحديث فقال له يا ابا يزيد كنا على غير شيء وعقولنا ذاهبة نعبد حجر الأيضر ولا ينفع
وعن شيبة الحجى رضي الله عنه أي حاجب البيت ويقال لبنيه بنو شيبة وهم حجبة البيت كما تقدم أنه كان يحدث عن سبب اسلامه قال ما رايت أعجب مما كنا فيه من لزوم ما مضى عليه آباؤنا من الضلالات ولما كان عام الفتح ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وسار الى حرب هوزان قلت اسير من قريش الى هوازن بحنين فعسى ان اختلطوا ان أصيب من محمد غرة فأقتله فأكون انا الذي قمت بثار قريش كلها أي ولفظ اليوم أدرك ثأرى من محمد أي لأن اباه وعمه قتلا يوم احد قتلهما حمزة رضي الله عنه كما تقدم
وأقول لم لم يبق من العرب والعجم أحد الا اتبع محمدا ما اتبعته لا يزداد ذلك الامر
____________________
(3/70)
عندي الا شدة فلما اختلط الناس ونزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته اصلت السيف ودنوت منه اريد منه ورفعت السيف حتى كدت اوقع به الفعل رفع الى شواظ من النار كالبرق كاد يهلكني فوضعت يدي على بصري خوفا عليه
وفي رواية لما هممت به حال بيني وبينه خندق من نار وسور من حديد فناداني صلى الله عليه وسلم يا شيبة ادن مني فدنوت منه فالتفت الى وتبسم وعرف الذي أريد منه فمسح صدري ثم قال اللهم أعذه من الشيطان قال شيبة فوالله لهو كان الساعة إذا أحب الى من سمعي وبصري ونفسي وأذهب الله ما كان في ثم قال صلى الله عليه وسلم ادن فقاتل فتقدمت أمامه أضرب بسيفي الله أعلم إني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء ولو كان أبي حيا ولقيته تلك الساعة لأوقعت به السيف فجعلت الزمه فيمن لزنه حتى تراجع المسلمون وكرواكرة واحدة وقربت اليه صلى الله عليه وسلم بغلته فاستوى عليها قائما وخرج في أثرهم حتى تفرقوا في كل وجه أي لا يلوى أحد منهم على احد وامر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل من قدر عليه واتبعهم المسلمون يقتلونهم حتى قتلوا الذرية فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الذرية وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل قتيلا فله سلبه وفي رواية من أقام بينة على قتيل قتله فله سلبه
وفي الأصل في غزوة بدر ان المشهور أن قول النبي صلى الله عليه وسلم من قتل قتيلا فله سلبه إنما كان يوم حنين واما ماروى أنه قال ذلك يوم بدر ويوم احد فأكثر ما يوجد في رواية من لا يحتج به ومن ثم قال الامام مالك رضي الله عنه لم يبلغني ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك الا يوم حنين
وتعقب ما في الاصل بأنه وقع ذلك في غزوة مؤتة كما في مسلم وهي قبل الفتح
وفي كلام بعضهم كون السلب للقاتل أمر مقرر من أول الأمر وأنما تجدد يوم حنين للإعلام العام والمناداة لا لمشروعيته
وحدث أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة رضي الله عنه أستلب وحده عشرين رجلا أي قتلهم وأخذ أسلابهم
وقال ابو قتادة رضي الله عنه رأيت يوم حنين مسلما ومشركا يقتتلان وإذا رجل من المشركين يريد إعانة المشرك على المسلم فأتيته وضربت يده فقطعتها فاعتنقني بيده
____________________
(3/71)
الأخرى فوالله ما ارسلني وجدت ريح الموت ولولا ان الدم نزفه لقتلني فسقط وضربته فقتلته وأجهضني القتال من استلابه فلما وضعت الحرب اوزارها قلت يا رسول الله لقد قتلت قتيلا ذا سلب واجهضني عنه القتال فما أدري من استلبه فقال رجل من اهل مكة صدق يا رسول الله فأرضه عني من سلبه فقال ابو بكر رضي الله عنه والله لا يرضيه تعمد الى أسد من أسد الله يقاتل عن دين الله تقاسمه سلب قتيله وفي لفظ قال ابو بكر رضي الله عنه أي للنبي صلى الله عليه وسلم كلا تعطيه أضييع من قريش وتدع أسدا من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله والأضيع تصغير ضبع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق اردد عليه سلبه قال ابو قتادة رضي الله عنه فأخذته منه فاشتريت بثمنه أي السلب الذي جمعته الذي جمعته بستانا وادرك ربيعة بن رفيع دريد ابن الصمة فأخذ بخطام جملة وهو يظن أنه أمرأة فإذا هو شيخ كبير اعمى ولا يعرفه الغلام فقال له دريد ماذا تريد قال اقتلك قال ومن أنت قال انا ربيعة بن رفيع السلمي ثم ضرب بسيفه فلم يغن شيئا فقال له يسخر به بئس ما سلحتك أمك بن خذ سيفي هذا من مؤخرة الرحل ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة فرب يوم قد منعت فيه نساءك فقتله فلما أحبر ربيعة أمه بقتله فقالت له أما والله لقد اعتق اثنين بل ثلاثا وقالت له ألا تكرمت عن قتله لما اخبرك بمنه علينا فقال ما كنت لاتكرم عن رضا الله ورسوله
أي وقيل القاتل لدريد بن الصمة الزبير بن العوام رضي الله عنه وقيل عبد الله بن قبيع وكانت أم سليم رضي الله عنها مع زوجها أبي طلحة رضي الله عنه وهي حازمة وسطها ببرد لها وفي حزامها خنجر وكانت حاملا بابنها عبد الله فقال لها زوجها ابو طلحة ما هذا الخنجر معك يا أم سليم قالت إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به فقال ابو طلحة الا تسمع يا رسول الله ما تقول ام سليم الرميصاء فأعادت عليه القول فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك أي وكان يقال لها العمصياء والرميصاء وهي التي يخرج القذى من عينها ومن ثم قال بعضهم قيل له لها الرميصاء لرمص كان في عينها
وعن ولدها أنس بن مالك رضي الله عنه الله عنه قال قد مات ابي مالك عنها مشركا ثم خطبها عمي ابو طلحة وهو مشرك فأبت ودعته الاسلام فأسلم فقالت له إني أتزوجك ولا
____________________
(3/72)
آخذ منك صداقا غيره فتزوجها قال انس رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم دخلت الجنة فسمعت خشفة فقلت من هذا فقالوا هذه العميصاء بنت ملحان ام انس بن مالك
وعنه رضي الله عنه كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل على أحد من النساء إلا أزواجه وإلا أم سليم فانه كان يدخل عليها فقيل له في ذلك فقال إني ارحمها قتل أخوها معي ولعل المراد أنه كان يكثر الدخول عليها كأزواجه ولا ينافي انه صلى الله عليه وسلم كان يدخل على غيرها من النساء الانصار لأن من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز الاختلاء بالاجنبية فكان يدخل على أخت ام سليم وهي أم حرام بالراء رضي الله عنها وتفلى له رأسه الشريف وينام عندها ويدخل على الربيع ثم رأيته في الامتاع أشار الى ذلك
وفي مزيل الخفاء أن أم سليم واختها خالتا النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الرضاع وعليه فلا دلالة في دخوله صلى الله عليه وسلم عليهما والخلوة بهما على جواز الخلوة بالأجنبية
وعن أنس رضي الله عنه قال مات ابن لابي طلحة من ام سليم أي وهو ابو عمير الذي كان صلى الله عليه وسلم يداعبه ويقول أب عمير ما فعل النغير ذكره السيوطي في كتابه تبريد الأكباد
وفي كلام بعضهم ما يفيد أنه غيره فقالت لأهلها لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا احدثه فجاء فقال ما فعل ابني قالت هو أسكن ما كان فقربت اليه عشاء فأكل وشرب ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها فلما رأت أنه قد شبع واصاب منها قالت يا ابا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا عاريتهم أهل بيت وطلبوا عاريتهم ألهم ان يمنعوا قال لا قالت فاحتسب ابنك فغضب ثم انطلق حتى اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بارك الله لكما في غابر ليلتكما قال فحملت بعبد الله المذكور قالت ولما ولدته حملته وجئت به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل معك تمر فقلت نعم فناولته تمرات فألقاهن في فيه الشريف فلا كهن ثم فغز فالصبى فمجه فيه فجعل الصبي يتلمظ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حب الانصار التمر
____________________
(3/73)
وسماه عبد الله أي وجاء لعبد الله هذا الذي جاء من جماع تلك الليلة تسعة أولاد كلهم قد قرءوا القرآن
ولما أخبر أبو طلحة النبي صلى الله عليه وسلم بما تقدم عن أم سليم قال الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل صابرة بني إسرائيل فقيل يا رسول الله ما كان من خبرها قال كان في بني اسرائيل امرأة وكان لها زوج وكان له منها غلامان وكان زوجها امرها بطعام تصنعه ليدعوا عليه الناس ففعل واجتمع الناس في داره فانطلق الغلامام يعلبان فوقعا في بئر كانت في الدار فكرهت ان تنغص على زوجها الضيافة فأدخلتهما اليبت وسجتهما بثوب فلما فرغوا دخل زوجها فقال أي ابناي قالت هما في البيت وإنها كانت تمسح بشيء من الطيب وتعرضت للرجل حتى وقع عليها ثم قال أين ابناي قالت هما في البيت فناداهما أبوهما فخرجا يسعيان فقالت المرأة سبحان الله والله لقد كانا ميتين ولكن الله أحياهما ثوابا لصبري
ولما أنهزم القوم عسكر بعضهم بأوطاس فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في أثارهم ابا عامر الاشعري رضي الله عنه وسيأتي في السرايا ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر الاشعري رضي الله عنه وسيأتي في السرايا ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى معسكره قال شيبة فدخل خباءه فدخلت عليه مادخل عليه غيري حبا لرؤية وجهه وسرورا به فقال يا شيبة الي أراد الله خيرا مما اردت بنفسك ثم حدثني بكل ما اضمرته في نفسي مما لم أذكره لأحد قط فقلت إني أشهد ان لا إله الا الله وأنك رسول الله ثم قلت استغفر لي فقال غفر الله لك أي وقالت له صلى الله عليه وسلم أم سليم رضي الله عنها بابي أنت وأمي يا رسول الله اقتل هؤلاء الذين انهزموا عنك فإنهم لذلك أهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد كفى واحسن
وعن عائذ بن عمرو قال أصابتني رمية يوم حنين في جبتهي فسال الدم على وجهي وصدري فسد النبي صلى الله عليه وسلم الدم بيده عن وجهي وصدري الى ترقوتي ثم دعاني فصار اثر يده صلى الله عليه وسلم غرة سائلة كغرة الفرس
وجرح خالد بن الليد رضي الله تعالى عنه فتفل النبي صلى الله عليه وسلم في جرحه فلم يضره
أي فعن بعض الصحابة رضي الله عنهم قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما هزم الله الكفار ورجع المسلمون الى رحالهم يمشي في المسلمين ويقول من يدلني
____________________
(3/74)
على رحل خالد بن الوليد حتى دل عليه فوجده قد اسند الى مؤخرة رحله لأنه قد اثقل بالجراحة فتفل النبي صلى الله عليه وسلم في جرحه فبرئ
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال لقد رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون شيئا اسود اقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم فنظرت فإذا نمل أسود مبثوت قد ملا الوادي لم أشك أنها الملائكة ولم تكن الا هزيمة القوم
وفي سيرة الحافظ الدمياطي رحمه الله أن سيما الملائكة يوم حنين عمائم حمر أرخوها بين اكتافهم أي فعن جمع من هوازن قالوا لقد راينا يوم حنين رجالا بيضا على خيل بلق عليها عمائم حمر قد أرخوها بين اكتافهم بين السماء والأرض وكتائب لا نستطيع ان نقاتلهم من الرعب منهم ولما وقعت الهزيمة أسلم ناس من كفار مكة وغيرهم لما رأوا نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم
وعن شيبة الحجي قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين والله ما خرجت إسلاما ولكن خرجت اتقاء أن تظهر هوازن على قريش فوالله إني لواقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني لأرى خيلا بلقا قال يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر فضرب بيده صدري ثم قال اللهم أحد شيبة فعل ذلك ثلاثا فما رفع صلى الله عليه وسلم يدع عن صدري الثالثة حتى ما أجد من خلق الله احب الي منه ويحتاج الى الجمع بينه وبين ما تقدم على تقدير صحتهما
وامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبي والغنائم ان تجمع فجمع ذلك كله واحضره الى الجعرانة أي بسكون العين وتخفيف الراء وكثير من أهل الحديث يشددها وسمي المحل باسم امرأة كانت تلقب بذلك وقيل وهي التي نقضت غزلها من بعد قوة فكان بها الى أن انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أي من غزوة الطائف وفي هذه الغزوة سمي طلحة بن عبيد الله طلحة الجواد لكثرة انفاقه على العسكر
____________________
(3/75)
غزوة الطائف
ولما علم صلى الله عليه وسلم أن مالك بن عوف وجمعا من اشراف قومه لحقوا بالطائف عند انهزامهم أي الطائف بلد كبير كثير الأعناب والنخيل والفاكهة قيل سمي بذلك لأن جبريل عليه السلام طاف بها حين نقلها من الشام الى الحجاز بدعوة ابراهيم عليه الصلاة والسلام أي أن الله يرزقهم أي أهل مكة من الثمرات
أي وقيل إنهم بنوا حواليها حائطا وطافوا به تحصينا لهم وقيل هي جنة أصحاب الصريم كانوا نواحي صنعاء نقلها جبريل عليه السلام فسار بها الى مكة وطاف بها حول البيت ثم أنزلها في ذلك المكان أي ويقال له وج سمي ذلك باسم شخص من العماليق اول من نزل به وأن اؤلئك القوم تحصنوا في حصن به وأدخلوا فيه ما يصلحهم سنة خرج صلى الله عليه وسلم من حنين وتوجه اليهم وترك السبي بالجعرانة
أي وفي الامتاع أنه صلى الله عليه وسلم بعث بالسبي والغنائم الى الجعرانة مع بديل ابن ورقاء الخزاعي وفي كلام السهيلي وكان سبي حنين ستة آلاف رأس قد ولى صلى الله عليه وسلم عليه وسلم ابا سفيان بن حرب امرهم وجعله امينا عليهم هذا كلامه أي ولعل هذا بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف لأن ابا سفيان كان معه صلى الله عليه وسلم بالطائف كما سيأتي فلا معارضة
أي ومر صلى الله عليه وسلم بحصن مالك بن عوف فأمر به فهدم ومر بحائظ أي بستان لرجل من ثقيف قد تمنع فه فارسل اليه صلى الله عليه وسلم إما أن تخرج وإما ان نخرب عليك حائطك فأبي أن يخرج فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحراقه ومر صلى الله عليه وسلم بقبر فقال هذا قبر أبي رغال وهو ابو ثفيف أي وكان من ثمود قوم صالح أي وقد أصابته النقمة التي أصبات قومه بهذا المكان ثم دفن فيه أي بعد أن كان بالحرم ولم تصبه تلك النقمة فلما خرج من الحرم الى المكان المذكور اصابته النقمة
فعن بعض الصحابة حين خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الطائف فمررنا بقبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا قبر أبي رغال وهو ابو ثقيف
____________________
(3/76)
وكان من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه فلما خرج منه اصابته النقمة التي اصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه الحديث
وفي العرائس عن مجاهد قيل له هل بقي من قوم لوط أحد قال لا إلا رجل بقي أربعين يوما وكان بالحرم فجاءه حجر ليصيبه في الحرم فقام اليه ملائكة الحرم فقالوا للحجر ارجع من حيث جئت فإن الرجل في حرم الله تعالى فرجع فوقف خارجا من الحرم أربعين يوما بين السماء والارض حتى قضى الرجل حاجته وخرج من الحرم الى هذا المحل اصابه الحجر فقتله فدفن به
وابو رغال هذا هو الذي كان دليلا لأبرهة ليوصله الى مكة لما مر أبرهة بالطائف وتلقاه أهله واظهروا له الطاعة وقالوا له نرسل معك من يدلك على الطريق فأرسلوا أبا رغال معه دليلا كما تقدم وقال صلى الله عليه وسلم أية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه اصبتموه فابتدره الناس فنبشوه واستخرجوا منه الغصن وقدم صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه على مقدمته أي وهي خيل بني سليم مائة فرس قدمها من يوم خرج من مكة واستعمل عليهم خالد بن الوليد فلم يزل كذلك حتى وصل فلما وصل نزل قريبا من الحصن وعسكر هناك فرموا المسلمين بالنبل رميا شديدا حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحات
أي وممن أصيب ابو سفيان بن حرب اصيبت عينه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وعينه في يده فقال يا رسول الله هذه عيني أصيبت في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن شئت دعوت فردت عينك وإن شئت فالجنة وفي لفظ فعين في الجنة قال فالجنة ورمى بها من يده أي وقلعت عينه الثانية في القتال يوم اليرموك عند مقاتلة الرم فإن ابا سفيان رضي الله عنه كان في ذلك اليوم يحرض المسلمين على قتال الروم والثبات لهم ويقول لهم الله الله عباد الله انصروا الله ينصركم اللهم هذا يوم من أيامك اللهم أنزل نصرك على عبادك وذلك في آخر خلافة الصديق فإن الصديق رضي الله عنه توفي وهم في الاستعداد للقتال باليرموك وكان الامير على العسكر خالد بن الوليد رضي الله عنه
ولما ولي سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه أرسل البريد بعزل خالد وولاية ابي عبيدة ابن الجراح على العسكر فجاء البريد وقد التحم القتال بين المسلمين والروم واخذته
____________________
(3/77)
خيول المسلمين وسألوه عن الخبر فلم يخبرهم الا بخبر وسلامة واخبرهم عن امداد يجئ اليهم واخفى موت ابي بكر رضي الله تعالى عنه وتأمير ابي عبيدة فأتوا به الى خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه فأسر اليه موت ابي بكر وولاية عمر رضي الله تعالى عنهما وأخبره بما أخبر به الجند فاستحسن ذلك منه واخذ الكتاب فجعله في كنانته وخاف إن هو أظهر ذلك يتخاذل العسكر ثم لما هزم الله الروم وجمعوا الغنائم ودفنوا قتلى المسلمين وقد بلغوا ثلاثة آلاف دفع خالد رضي الله تعالى عنه الكتاب إلى أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه فتولى ابو عبيدة ثم بعث ابو عبيدة أبا جندل رضي الله تعالى عنه بشير الى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه بالتفح على المسلمين
ولما عزل سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد وولى أبا عبيدة خطب الناس وقال إني اعتذر اليكم من خالد بن الوليد إني نزعته واثبت ابا عبيدة بن الجراح فقام اليه عمرو بن حفص وهو ابن عم خالد بن الوليد وابن عم ام سيدنا عمر فقال والله ما عدلت يا عمر لقد نزعت عاملا استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وغمدت سيفا سله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد قطعت الرحم وجفوت ابن العم فقال عمر رضي الله تعالى عنه إنك قريب القرابة حديث السن غضبت لابن عمك
ومات ممن خرج بالطائف اثنا عشر رجلا فارتفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى موضع مسجد الطائف الآن وكان معه صلى الله عليه وسلم من نسائه ام سلمة وزينب رض 4 ي الله تعالى عنهما فضرب لهما قبتين وكان يصلي بين القبتين الصلاة مقصورة مدة حصار الطائف وكانت ثمانية عشر يوما أي غير يومي الدخول والخروج وهذا هو المراد يقول فقهائنا لأنه صلى الله عليه وسلم أقامها بمكة عام الفتح لحرب هوازن يقصر الصلاة وقيل في مدة حصاره غير ذلكودخل صلى الله عليه وسلم خيمة أم سلمة وعندها اخوها عبد الله ومخنث وإذ المخنث يقول يا عبد الله إن فتح الله عليك الطائف غدا فعليك بابنه غيلان فان تقبل باربع وتدبر بثمان فلما سمعه صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل هذا عليكن واراد المخنث بالاربع التي تقبل بهن عكنها الاربع التي في بطنها ولكل عكنة طرفان فتكون ثمانية من خلفها فهي الثمانية التي تدبر بهن
اي وفي الامتاع كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مولى لخالته فاخته بنت عمرو
____________________
(3/78)
ابن عائذ يقال له ماتع وكان يدخل بيوته صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرى انه لا يفطن لشيء من أمر النساء ولا إربة له فسمعه صلى الله عليه وسلم وهو يقول لخالد بن الوليد ويقال لعبد الله اخي ام سلمة ان فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائف غدا فعليك ببادية أي رضي الله تعالى عنها فإنه أسلمت وبادية بالياء تحت لا بالنون بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدر بثمن إذا قامت تثنت وإذا جلست تبنت وإذا تكلمت تغنت وبين رجليها مثل الإناء المكفوء ثم نفر كأنه الاقحوان فقال صلى الله عليه وسلم لا أرى هذا الخبيث يفطن لما اسمع
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال له قاتلك الله لقد أمعنت النظر ما كنت أظن هذا الخبيث يعرف شيئا من أمر النساء
وفي الأغاني أن هيتا بكسر الهاء وقيل بفتحها وإسكان التحتية بعدها مثناة والهيت الأحمق المخنث قال لعبد الله بن أمية إن فتح الله عليكم الطائف فاسأل النبي صلى الله عليه وسلم بادية بنت غيلان فإنها رداح شموع نجلاء إن تكلمت تغنت يعني من الغنة وإذا قامت تثنث موردة الخدين منحطة المانتين لقحاء الفخذين مسرولة الساقين كأنها قضيب بان وفي لفظ كأنها خوط بانه قصفت تقبل بأربع وتدبر بثمان وبين فخذيها شيء مخبوء كأنه الإناء المكفوء فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه قال لقد غلغلت النظر يا عدو الله ثم نفاه من المدينة الى الحمى وقال لا يدخل على أحد من نسائكم فقيل له صلى الله عليه وسلم إنه يموت جوعا فأذن له ان يدخل المدينة كل جمعة يسأل الناس
وقيل نفى صلى الله عليه وسلم كلا من ماتع وهيت الى الحمى فشكيا الحاجة فأذن لهما أن ينزلا كل جمعة يسألان الناس ثم يرجعان الى مكانهما فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلا المدينة فأخرجهما ابو بكر رضي الله تعالى عنه فلما توفي دخلا المدينة فأخرجهما عمر رضي الله تعالى عنه فلما مات دخلا
وغيلان أبو بادية هو الذي أسلم وعنده عشر نسوة فأمره صلى الله عليه وسلم ان يمسك أربعا ويفارق سائرهن
واختلف الفقهاء في ذلك فقال فقهاء الحجاز يختار اربعا وقال فقهاء العراق يمسك التى تزوج أولا ثم التي تليها الى الرابعة واحتج فقهاء الحجاز بترك الاستفصال
____________________
(3/79)
وغيلان هذا لما وفد على كسرى قال له أي ولدك أحب إليك فقال الغائب حتى يقدم والمريض حتى يعافى والصغير حتى يكبر
وكان المخنثون في زمانه صلى الله عليه وسلم ثلاثة هيت وماتع وهذم وقيل لهم ذلك لأنه كان في كلامهم لين وكانو يختضبون بالحناء كخضاب النساء لا أنهم يأتون الفاحشة الكبرى ويحتمل أن يكون كل من ماتع وهيت كان معه صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة وقد سمع منهما ما تقدم عنهما ويدل لهذا الاحتمال أنه نفاهما وفي البخاري أن القائل لعبد الله ما تقدم هو هيت ويحتمل أن الذي كان معه صلى الله عليه وسلم أحدهما وتكرر منه ذكر ما تقدم وتسميته باسم الآخر خلط من بعض الرواة فليتأمل
وقال اقبل خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه ونادى من يبارز فلم يطلع اليه احد ثم كرر ذلك فلم يطلع اليه أحد وناداه عبد ياليل لا ينزل إليك منا أحد ولكن نقيم في حصننا فإن به من الطعام ما يكفينا سنين فإن أقمت حتى يذهب هذا الطعام خرجنا اليك بأسيافنا جميعا حتى نموت عن آخرنا أ هـونصب عليهم المنجنيق أي ورمى به كما في كلام غير واحد من أئمتنا وهو أول منجنيق رمى به في الإسلام أي ارشده إليه سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال إنا كنا بأرض فارس ننصب المنجنيقات على الحصون فنصيب من عدونا أي ويقال إن سلمان رضي الله تعالى عنه هو الذي عمله بيده وفيه أنه تقدم في خيبر أنه لما فتح حصن الصعب وجدوا فيه آلة حرب ودبابات ومنجنيقات إلا ان يقال سلمان صنع هذا المنجنيق الذي بالطائف لأنه يجوز أن يكون الذي وجدوه في خيبر لم يكن معهم في الطائف وتقدم في خيبر انه صلى الله عليه وسلم لما حاصر الوطيح وسلالم أربعة عشر يوما ولم يخرج أحد منهما هم صلى الله عليه وسلم أن يجعل عليهم المنجنيق وتقدم عن الامتاع أنه صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على حصن البراء وقد قدمنا أن ذلك لا يخالف قول بعضهم لم ينصب المنجنيق الا في غزوة الطائف لانه يجوز أن يكون مراد هذا البعض لم يرم به الا في غزوة الطائف أي كما أشرنا اليه
وأول من صنع المنجنيق إبليس فإن نمروذا لعنهما الله لما أراد ان يلقى إبراهيم عليهم الصلاة والسلام في النار بني الى جنب الجبل جدارا طوله ستون ذراعا ولما ألقوا الحطب وجعلوا فيه النار ووصلت النار الى رأس ذلك الجدار لم يدروا كيف يلقون إبراهيم فتمثل
____________________
(3/80)
لهم إبليس لعنه الله في صورة نجار فصنع لهم المنجنيق ونصبوه على راس الجبل ووضعوه فيه وألقوه في تلك النار
وأول من رمى به في الجاهلية جذيمة الأبرش وهو أول من أوقد الشمع ودخل نفر من الصحابة تحت دبابة وزحفوا بها الى جدار الحصن ليحرقوه وفي الإمتاع دخلوا تحت دبابتين وكانا من جلود البقر فأرسلت اليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار فخرجوا من تحتها فرموهم بالنبل فقتل منهم رجال أي والدبابة بفتح الدال المهملة ثم موحدة مشددة وبعد الألف موحدة ثم تاء التأنيث وهي آلة من آلات الحرب تجعل من الجلود يدخل فيها الرجال فيدبون بها الى الاسوار لينقبوها وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعنابهم أي ونخيلهم وتحريقها فقطع المسلمون قطعا ذريعا فسألوه أن يدعها لله وللرحم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أدعها لله والرحم ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما عبد نزل من الحصن وخرج الينا فهو حر فخرج منهم بضعة عشر أي وقيل ثلاثة وعشرون رجلا ونزل منهم شخص في بكرة فقيل له ابو بكرة أي وكان عبدا للحارث بن كلدة فاعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع كل رجل منهم الى رجل من المسلمين يمونه فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة قال واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن في أن يأتي ثقيفا في حصنهم ليدعوهم الى الإسلام فأذن له في ذلك فأتاهم فدخل في حصنهم فقال لهم تمسكوا في حصنكم فوالله لنحن أذل من العبيد أي زاد بعضهم ولا تعطوا بأيديكم ولا تتأثروا أي لا يشق عليكم قطع هذا الشجر فرجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ما قلت لهم يا عيينة قال أمرتهم بالإسلام ودعوتهم اليه وحذرتهم النار ودلتهم على الجنة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبت إنما قلت لهم كذا وقص عليه القصة فقال صدقت يا رسول الله أتوب الى الله وإليك من ذلك أ هـ
ولم يؤذن لرسول الله صى في فتح الطائف أي فإن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون قالت له يا رسول الله ما يمنعك أن تنهض إلى أهل الطائف قال لم يؤذن لنا الآن فيهم وما أظن أن نفتحها الآن وقال له عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في ذلك فقال لم يؤذن لنا في قتالهم فقال رضي الله تعالى عنه كيف نقبل في قوم لم يأذن الله فيهم وفي لفظ إن خولة قالت يا رسول الله أعطني ان فتح الله عليك
____________________
(3/81)
الطائف حلى بادية بنت غيلان أو حلى الفارعة بنت عقيل وكانتا من أحلى نساء ثقيف فقال لها صلى الله عليه وسلم وإن كان لم يؤذن لنا في ثقيف يا خولة فذكرت خولة ذلك لعمر بن الخطاب فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خولة زعمت أنك قلت لها قال قلته قال أو ما أذن الله فيهم يا رسول الله قال لا قال أو أذن بالرحيل قال بلى واستشار رسول الله بعض الناس أي وهو نوفل بن معاوية الديلي في الذهاب أو المقام فقال له يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت اخذته وان تركته لم يضرك فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأذن في الناس بالرحيل فقبح الناس ذلك وقالوا نرحل ولم يفتح علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغدوا على القتال فغدوا فأصابت الناس جراحات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قافلون إن شاء الله فسروا بذلك وأذعنوا وجعلوا يرحلون ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك أي تعجبا من سرعة تغير رأيهم لأنهم رأوا أن رأيه صلى الله عليه وسلم أبرك وأنفع من رأيهم فرجعوا اليه وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده فلا ارتحلوا واستقبلوا قال قولوا آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون وقيل يا رسول الله ادع على ثقيف أهل الطائف فقال اللهم اهد ثقيفا وأئت بهم مسلمين ولعل صاحب الهمزية رحمه الله يشير إلى ذلك بقوله ** جهلت قومه عليه فأغضى ** وأخو الحلم دأبه الإغضاء ** ** وسع العالمين علما وحلما ** فهو بحر لم تعيه الأعباء **
أي آذاه صلى الله عليه وسلم قومه من قريش وغيرهم فأرخى جفنه حياء وصاحب عدم الانتقام شأنه إرخاء الجفن وسع علمه علوم العالمين من الإنس والجن والملك ووسع حلمه كل من صدر منه نقص فهو بسبب ذلك بحر واسع لم تتعبه الأحمال الثقيلة
ومن جملة من جرح سيدنا عبد الله بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما رماه بسهم أبو محجن وطاوله ذلك الجرح إى أن مات به في خلافة أبيه ورثته زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل وكان يحبها حبا شديدا مر عليه أبوه يوم جمعة وهو يلاعبها وقد صلى الناس فقال عبد الله او جمع الناس فسمعه أبوه فقال أشغلتك عن
____________________
(3/82)
الصلاة لا جرم لا تبرحن حتى تطلقها فطلقها ثم تعب عبد الله بسبب طلاقها فاطلع عليه ابوه يوما فسمعه يقول أبياتا من جملتها ** فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ** ولا مثلها في غير جرم تطلق **
فقال له يا عبد الله راجع عاتكة فقال لأبيه قف بمكانك وكان معه غلام مملوك له فقال الغلام انت حر لوجه الله اشهدا أني قد راجعت عاتكه فلما مات رضي الله تعالى عنه رثته بقولها في ابيات ** آليت لا تنفك عيني حزينة ** عليك ولا ينفك جلدي أغبرا **
ثم تزوجها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فلما أعرس بها قال له علي كرم الله وجهه أتأذن لي أن أكلم عاتكة فقال لا غيرة عليك كلمها فقال لها علي كرم الله وجهه أنت القائلة البيت ** آليت لا تنفك عيني قريرة ** عليك ولا ينفك جلدي أصفرا **
قالت لما اقل هكذا وبكت وعادت الى حزنها فقال له عمر رضي الله تعالى عنه يا أبا الحسن إلا إفسادها علي فلما قتل عمر رضي الله تعالى عنه رثته بأبيات منها ** من لنفس عادها احزانها ** ولعين شفها طول السهد ** ** جسد لفف في أكفانه ** رحمة الله على ذال الجسد ** ** ثم تزوجها الزبير رضي الله تعالى عنه فلما قتل رثته بأبيات منها تخاطب قاتله ** ثكلتك امك أن قتلت لمسلما ** حلت عليك عقوبة المتعمد **
ثم خطبا سيدنا علي كرم الله وجهه فقالت له لم يبق للإسلام غيرك وأنا أنفس لك عن القتل ومن ثم قيل في حقها من أراد الشهادة فعليه بعاتكة
وعند منصرفه صلى الله عليه وسلم من ذلك أي وبينا هو يسير ليلا بواد بقربب الطائف إذ غشى سدرة في سواد الليل وهو في وسن النوم فانفرجت السدرة له نصفين فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نصفيها وبقيت منفرجة على حالها أي وعند انحداره صلى الله عليه وسلم الى الجعرانة لقيه سراقة وهو واضع الكتاب الذي كتبه له صلى الله عليه وسلم عند الهجرة بين أصبعيه وينادي أنا سراقة وهذا كتابي فقال صلى الله عليه وسلم هذا يوم وفاء ومودة أدنوه فأدنوه منه وساق اليه الصدقة
____________________
(3/83)
وسأله عن الضالة من الإبل ترد حوضه الذي ملأه لإبله هل له في ذلك من أجر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم في كل ذات كبد حراء أجر
وعند وصوله صلى الله عليه وسلم الى الجعرانة أحصى السبي فكان ستة آلاف رأس والإبل أربعة وعشرين ألفا والغنم أكثر من أربعين ألفا وأربعة آلاف أوقية فضة
فأعطى صلى الله عليه وسلم للمؤلفة أي من أسلم من أهل مكة فكان أولهم أبا سفيان بن حرب رضي الله تعالى عنه أعطاه اربعين أوقية ومائة من الإبل وقال ابني يزيد ويقال ويقال له يزيد الخير فأعطاه كذلك وقال ابني معاوية فأعطاه كذلك فأخذ ابو سفيان رضي الله تعالى عنه ثلثمائة من الإبل ومائة وعشرين أوقية من الفضة وقال بأبي أنت وأمي يا رسول الله لأنت كريم في الحرب وفي السلم أي وفي لفظ لقد حاربتك فنعم المحارب كنت وقد سالمت فنعم المسالم أنت هذا غاية الكرم جزاك الله خيرا
وأعطى حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه مائة من الإبل ثم سأله مائة أخرى فأعطاه إياها أي وفي الامتاع وسأله حكيم بن حزام مائة من الإبل فأعطاه ثم سأله مائة فأعطاه ثم سأله مائة فأعطاه وقال له يا حكيم هذا المال خضر حلو من أخذه بسخاوة نفس بورك ما فيه ومن أخذه باشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى فأخذ حكيم المائة الأولى وترك ما عداها أي وقال يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبيا لا ارزا أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا فكان ابو بكر رضي الله تعالى عنه يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا ثم إن عمر رضي الله تعالى عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله فقال عمر يا معشر المسلمين إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء فيأبي أن يأخذه
وأعطى صلى الله عليه وسلم الأقرع بن حابس مائة من الإبل واعطى عيينة مثله واعطى العباس بن مرداس أربعين من الإبل فقال في ذلك شعرا أي يعاتبه صلى الله عليه وسلم به حيث فضل الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن عليه وهو ** أتجعل نهبي ونهب العبي ** د يعني فرسه بين عيينة والأقرع ** ** وما كان حصن ولا حابس ** يفوقان مرداس في مجمع ** ** وما كنت دون امرئ منهم ** ومن تضع اليوم لا يرفع **
فأعطاه صلى الله عليه وسلم تمام المائة أي وفي رواية أنه قال اقطعوا عنى لسانه
____________________
(3/84)
وفي الكشاف أنه صلى الله عليه وسلم قال يا أبا بكر اقطع لسانه عنى واعطه مائة من الإبل هذا كلامه وحينئذ يتوقف في قولهم فظن ناس أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يمثل به وفزع هو أيضا لذلك فأتى به الى الغنائم وقيل له خذ منها ما شئت فقال إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع لساني بالعطاء فكره أن يأخذ منها شيئا فبعث اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلة وفي رواية فأتم له رسول صلى الله عليه وسلم مائة وروى بدل فما كان حصن ولا حابس فما كان بدر ولا حابس وهو صحيح أيضا لأن بدرا جد حصن ابو ابيه فانتسب تارة الى ابيه حصن وتارة الى جد ابيه بدر فإن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ويروى بدل مرادس شيخي بالإفراد يعني والده ويروي بالتثنية يعني والده وجده
وفي كلام بعضهم كانت المؤلفة ثلاثة أصناف صنف يتألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا كصفوان بن أمية وصنف ليثبت إسلامهم كأبي سفيان بن حرب وصنف لدفع شرهم كعيينة بن حصن والعباس بن مرداس والأقرع بن حابس
لكن في رواية قيل يا رسول الله أعطيت عيينة بن حصن والأقرع بن حابس مائة مائة وتركت جعيل بن سراقة فقال أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع ولكني تألفتهما ووكلت جعيل بن سراقة الى إسلامه وتقدم أن جعيلا هذا كان من فقراء المسلمين وكان رجلا صالحا دميما قبيحا وهو الذي تصور الشيطان بصورته يوم أحد وقال إن محمدا قد مات وجاء إني لأعطى الرجل وغيره أحب الى منه خشية أن يكب في النار على وجهه وقال صلى الله عليه وسلم إن من الناس ناسا نكلهم الى إيمانهم منهم فرات بن حبان وأعطى صفوان بن امية ما تقدم ذكره وهو جميع ما في الشعب من غنم وإبل وبقر وكان مملوءا وكان ذلك سببأ لإسلامه كما تقدم
أقول في كلام ابن الجوزي رحمه الله اعلم أن من المؤلفة قلوبهم أقواما تؤلفوا في بدء الاسلام ثم تمكن الإسلام في قلوبهم فخرجوا بذلك عن حد المؤلفة وإنما ذكرهم العلماء في المؤلفة اعتبارا ببداية أحوالهم وفيهم من لم يعلم منه حسن الإسلام والظاهر بقاؤه على حالة التأليف
ولا يمكن أن يفرق بين من حسن اسلامه وبين من لم يحسن اسلامه لجواز ان يكون
____________________
(3/85)
من ظننا به شر أنه على خلاف ذلك إذا الإنسان قد يتغير عن حاله ولا ينقل إلينا أمره فالواجب أن نظن بكل من نقل عنه الإسلام خيرا
وقد جاء عن انس رضي الله عنه قال كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم لشيء يعطاه من الدنيا فلا يمسى حتى يكون الإسلام أحب اليه من الدنيا وما فيها هذا كلام ابن الجوزي والعباس بن مرداس أسلم قبل الفتح بيسير وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية والله أعلم ولا زال صلى الله عليه وسلم يعطى الرجل ما بين مائة وخمسين من الإبل أي وذلك من الخمس كما سيأتي
ثم أمر صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت باحصاء الناس والغنائم أي ما بقي منها وهي الاربعة الأخماس الباقية بعد إعطاء من تقدم ما تقدم من الخمس وقسمتها عليهم أي بعد أن اجتمعوا اليه وصاروا يقولون يا رسول الله أقسم علينا حتى ألجئوه صلى الله عليه وسلم إلى شجرة فاختطفت رداءه فقال ردوا ردائي أيها الناس فو الله إن كان لي فيه شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كدودا ثم قام صلى الله عليه وسلم الى جنب بعيره فأخذ وبره من سنامه ثم رفعها ثم قال أيها الناس والله مالي من فيئكم أي غنيمتكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخيط والمخيط فإن الغلول يكون على أهله عارا وشنارا ونارا يوم القيامة فجاء شخص من الأنصار بكبة من خيوط شعر وقال يا رسول الله أخذت هذه الكعبة أعمل بها بردعة بعير لي دبر فقال أما نصيبي منها فلك قال أما إذا بلغت هذا فلا حاجة لي بها وألقاها
ويروى أن عقيلا كان دفع لامرأته ابرة أخذها من الغنيمة أي فإنها قالت له إني قد علمت أنك قد قاتلت فماذا أصبت من الغنيمة فقال دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك فسمع منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أخذ شيئا فليرده حتى الخيط والمخيط فرجع وأخذها منها وألقاها في الغنائم
وفي كلام السهيلي أن ابا جهم بن حذيفة العدوي كان على الأنفال يوم حنين فجاءه خالد بن البرصاء وأخذ من الأنفال زمام شعر فمانعه أبو جهم فلما تمانعا ضربه ابو جهم بالقوس فشجه منقلة فاستعدى عليه خالد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له خذ خمسين شاة ودعه فقال أقدني منه فقال خذ مائة ودعه فقال أقدني منه فقال
____________________
(3/86)
خذ خمسين ومائة ودعه ليس لك إلا ذلك ولا أقيدك من وال عليك فقومت المائة والخمسون بخمس عشرة فريضة من الإبل فمن هنا جعلت دية المنقلة خمس عشرة فريضة ولما قسم ما بقي خص كل رجل اربعا من الإبل واربعين شاة فإن كان فارسا أخذ ثنتي عشرة بعيرا وعشرين ومائة شاة وإن كان معه أكثر من فرس لم يسهم الا لفرس واحد ومن ثم لم يعط الزبير رضي الله عنه إلا فرس واحد وكان معه أفراس وبه أخذ إمامنا الشافعي رضي الله عنه فقال لا يعطي الا لفرس واحد وقال بعض المنافقين قيل وهو معتب هذه القسمة ما عدل فيها ولا أريد بها وجه الله فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغير وجهه الشريف أي حتى صار كالصرف بكسر الصاد المهملة وهو شيء أحمر يدبغ به الجلد وفي رواية فغضب صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا واحمر وجهه وقال من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله رحمة الله على أخي موسى عليه السلام لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر انتهى
ولعل من ذلك أن قارون ابن خالة موسى عليه السلام أو ابن عمه حمله البغي والشر على أن أحضر امرأة بغيا وجعل لها جعلا على أن ترمي موسى بنفسها واحضر بني اسرائيل واعلمهم بذلك ودعا موسى عليه السلام وقال له إن قومك اجتمعوا فاخرج اليهم لتأمرهم وتنهاهم فخرج عليه السلام إليهم وقال لهم يا بني اسرائيل من سرق قطعناه ومن افترى جلدناه ومن زنى محصنا رجمناه حتى يموت ومن زني وهو لم ينكح جلدناه مائة جلدة فقال له قارون وإن كنت أنت قال وإن كنت أنا قال فإن بني اسرائيل زعموا أنك فجرت بفلانة فقال ادعها فإن قالت فهو كما قالت فأنت فقال موسى يا فلانة أنشدك بالذي أنزل التوراة أصدق قارون فقالت أما إذا أنشدتني فقد أشهد أنك برئ وأنك رسول الله وإن قارون جعل لي جعلا على أن أرميك بنفسي وجاءت بخريطتين فيهما دراهم عليهما ختمه وقالت للملأ إن قارون أعطاني هاتين وهذا ختمه وأعوذ بالله أن أفترى على الله فنظر القوم الى ختمه فعلموا صدقها فخر موسى ساجدا فأوحى الله اليه أن ارفع راسك فإني أمرت الأرض أن تطيعك فخسف به فهو يتجلجل في الأرض يخسف به في كل يوم مقدار قامة الى يوم القيامة
ولعل من ذلك أيضا ان بني اسرائيل قالوا لموسى عليه السلام إن طائفة تزعم أن الله لا يكلمك فخذ منا من يذهب معك ليسمعوا كلامه تعالى فيؤمنوا فأوحى الله لموسى عليه
____________________
(3/87)
السلام أن اختر سبعين من خيارهم واصعد بهم الجبل انت وهارون واستخلف يوشع ففعل فلما سمعوا كلامه سبحانه سالوه أن يريهم الله جهرة
ومن ذلك نسبته الى أنه قتل أخاه هرون عليهما السلام كما تقدم أي وقيل إن قائل هذه القسمة ما عدل فيها ذو الخويصرة التميمي وهو غير ذي الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد فقد جاء أن ذا الخويصرة التميمي وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا محمد قد رايت ما صنعت في هذا اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل فكيف رأيت قال لم أرك عدلت فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون فقال عمر رضي الله عنه ألا نقتله قيل وقال خالد بن الوليد رضي الله عنه ألا أضرب عنقه
قال الإمام النووي رحمه الله ولا تعارض لان كل واحد منها استأذن فيه أي ففي مسلم فقام اليه عمر رضي الله عنه فقال يا رسول الله ألا أضرب عنقه قال لا ثم أدبر فقام إليه خالد رضي الله عنه فقال يا رسول الله ألا أضرب عنقه قال لا لعله أن يكون يصلي قال خالد رضي الله عنه وكم مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال رسول الله صلى ا 4 لله عليه وسلم إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا اشق بطونهم
وفي مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال بعث علي كرم الله وجهه وهو ياليمن بذهبه في تربتها أي لم تخلص من ترابها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين اربعة نفر الأقرع بن حابس وعيينة بن بدر وعلقمة ابن علاثة وزيد الخير فغضب قريش فقالوا يعطي صناديد نجد ويدعنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم فجاء رجل فقال اتق الله يا محمد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن يطع الله إن عصيته يأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني وفي رواية ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء فجاء رجل فقال ما تقدم فقاله له ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله
ولعل هذه القسمة غير قسمة غنائم حنين وإن الرجل الذي قال له ما ذكر يحتمل أن يكون واحدا منهما أو من شيعة ذلك الرجل الذي قال له في أحدهما
وذكر بعضهم ان ذا الخويصرة اصل الخوراج وانه صلى الله عليه وسلم قال دعوه
____________________
(3/88)
فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية وفي رواية قال عمر رضي الله عنه يا رسول الله دعني فأقتل هذا المنافق فقال معاذ الله أن يتحدث الناس إني أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه أي جماعة يخرجون من صلبه فهو اصل الخوراج يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم وفي لفظ تراقيهم لا تفقهه قلوبهم ليس لهم حظ منه إلا تلاوة الفم وإنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وثمود أي قتلا متأصلا لعامتهم وفي رواية إذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم اجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة وبهذا استدل من يقول بجواز قتل الخوارج وقد قاتلهم علي كرم الله وجهه وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الخوارج أهم كفار فقال من الكفر فروا فقيل أمنافقون فقال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا وهؤلاء يذكرون الله كثيرا فقيل ما هم فقال اصابتهم فتنة فعموا وصموا فلم يجعلهم صلى الله عليه وسلم كفارا لأنهم تعلقوا بضرب من التأويل
وحنيئذ يكون المراد بالدين وفي وصفهم بالمروق من الدين الطاعة لا الملة ويبعده رواية بدل الإيمان الإسلام وكان مصداق ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذا الخويصرة خرج منه حرقوص المعروف بذي الثدية وهو أول من بويع من الخوراج بالأمانة
والخوارج قوم يكفرون مرتكب الكبيرة ويحكمون بحبوط عمل مرتكبها وتخليده في النار ويحكمون بأن دار الإسلام تصير بظهور الكبائر فيها دار الكفر ولا يصلون جماعة
وسبب مقاتلة سيدنا على كرم الله وجهه لهم أنهم نقموا عليه التحكيم الذي وقع بينه وبين معاوية في صفين وقالوا لا حكم الا الله وأنت كفرت حيث حكمت الحكمين فإن شهدت على نفسك أنك كفرت فيما كان من تحكميك الحكمين واستأنفت التوبة والإيمان نظرنا فيما سألتنا من الرجوع اليك وإن تكن الأخرى فإنا ننابذك على سواء إن الله لا يهدي كيد الخائنين فلما أيس من رجوعهم اليه قاتلهم وحرقوص هذا اول ما رق من الدين وكان رجلا اسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم إن فيهم رجلا له عضد وليس له ذراع على راس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض
____________________
(3/89)
ولما قاتلهم علي كرم الله وجهه وقتل غالبهم التمس ذلك الرجل فأتى به فإذا هو له ثدي كثدي المرأة وفي رواية التمسوه في القتلى فلم يجدوه فقام علي كرم الله وجهه بنفسه فطاف في القتلى فأخرجوه من بينهم فكبر علي كرم الله وجهه ثم قال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول إن فيهم رجلا له عضد وليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض فقام اليه عبيدة السلماني فقال يا أمير المؤمنين والله الذي لا إله إلا هو أسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إي والله الذي لا إله إلا هو حتى استحلفه ثلاثا وهو يحلف له
وعن ألي سعيد الخدري رضي الله عنه لما أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء وجدوا في أنفسهم أي غضبوا حتى كثرت منهم القالة أي وهي القول الردئ أي حتى قال بعضهم إن هذا لهو العجب يعطي قريشا وفي لفظ الأفغء والمهاجرين ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم أي إن هذا لهو العجب إن سيوفنا تقطر من دماء قريش وإن غنائمنا ترد عليهم وفي راوية إذا كانت شديدة ندعى إليها ويعطى الغنيمة غيرنا وفي رواية سيوفنا تقطر من دمائهم وهم يذهبون بالمغنم فإن كان من أمر الله صبرنا وإن كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم استعتبناه فدخل عليه سعد بن عبادة رضي الله عنه فقال يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم أي غضبوا لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء قال فاين أنت من ذلك يا سعد فقال يا رسول الله ما أنا إلا من قومي قال فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة أي وهي قبة من أدم أي وفي كلام بعضهم أن الحظيرة الزريبة التي تجعل للإبل والغنم من الشجر لتقيها من البرد والريح ولعل هذا باعتبار الأصل فلا مخالفة فلما اجتمعوا له أتى سعد اليه صلى الله عليه وسلم فقال اجتمع لك هذا الحي من الأنصار فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أي فقال لهم أفيكم احد من غيركم قالوا لا إلا ابن أخت لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ابن أخت القوم منهم وفي رواية قال من كان ههنا من غير الأنصار فليرجع الى رحله وذكر بعضهم أن سبب إيراد ابن اخت القوم منهم أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه اجمع لي من هنا من قريش فجمعهم
____________________
(3/90)
له ثم قال تخرج اليهم ام يدخلون قال أخرج فخرج صلى الله عليه وسلم فقال يا معشر قريش هل فيكم من غيركم قالوا لا إلا ابن اختنا فذكره ثم قال يا معشر قريش إن أولى الناس المتقون فانظروا لا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالدنيا تحملونها فأصد عنكم بوجهي انتهى
فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال يا معشر الأنصار ما مقاله بلغتني عنكم وجدة وجدتموها على في أنفسكم والمقالة كما علمت الكلام الردئ والجدة الغضب والمعروف أنه الموجودة ومن ثم قال بعضهم الجدة في المال والموجدة في الغضب ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي وعالة فأغنا كم الله بي واعداء فألف بين قلوبكم أي وفي لفظ وكنتم متفارقين فجمعكم الله وفي لفظ يا معشر الأنصار ألم يمن الله عليكم بالإيمان وخصكم بالكرامة وسماكم بأحسن الأسماء انصار الله وانصار رسوله قالوا بلى الله ورسوله أمن وأفضل ثم قال صلى الله عليه وسلم ألا تجييوني يا معشر الانصار قالوا بماذا نجيبك يا رسول الله لله ولرسوله المنة والفضل أي وفي لفظ قالوا يا رسول الله وجدتنا في ظلمة فأخرجنا الله بك الى النور ووجدتنا على شفا جرف من النار فأنقذنا الله بك ووجدتنا ضلالا فهدانا الله بك فرضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا فافعل ما شئت فأنت يا رسول الله في حل قال إذن والله لو شئتم لقلتم فصدقتم أتيتنا مكذبا فصدقناك ومخذولا فنصرناك وطريدا فأويناك وعائلا فأغنيناك أي وخائفا فأمناك أوي أي إن كان متعديا كما هنا فالأفصح المد وإن كان قاصرا فالأفصح القصر قال تعالى وأويناهما الى ربوة وقال تعالى إذ أوى الفتيه الى الكهف قال فقال الانصار المن لله ورسوله والفضل علينا وعلى غيرنا فقال ما حديث بلغني عنكم فسكتوا فقال ما حديث بلغني عنكم فقال فقهاء الأنصار أما رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا وأما ناس منا حديثة أسنانهم قالوا يغفر الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطى قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم أي وفي رواية ما الذي بلغني عنكم قالوا هو الذي بلغك لأنهم لا يكذبون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعطي رجالا حديثو عهد بكفر أتألفهم أه أي وفي رواية إن قريشا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة وإني اردت أن اجبرهم وأتالفهم أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لغاغة بضم اللام وغينين معجمتين أي شيء قليل من الدنيا ألفت بها
____________________
(3/91)
قوما ليسلموا أي ليحسن إسلامهم ويسلم غيرهم تبعالهم ووكلتكم إلى إسلامكم الثابت الذي لا يزلزل ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله الى رحالكم فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت رجلا من الأنصار أي لانتسبت الى المدينة ولو سلك الناش شعبا أي بكسر الشين المعجمة وهو ما انفرج بن جبلين وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الانصار اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وفي لفظ فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا أي وقوله صلى الله عليه وسلم للأنصار ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي ليس من المن المذموم في قوله صلى الله عليه وسلم آفة السماحة المن بل هو من التذكير بنعمة الله لكن يشكل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار ألا تجيبوني الخ فليتأميل أي وقد جاء في مدح الأنصار اللهم اغفر للأنصار وأبناء ولأزواج الأنصار ولذرارى الأنصار الأنصار كرشي وعيبتي وإن الناس يكثرون ويقلون فاقبلوا من محسنهم وتجاوزا عن مسيئهم وفي لفظ آخر اللهم صل على الانصار وعلى ذرية الأنصار وعلى ذرية ذرية الأنصار وقال للأنصار أنتم شعار والناس دثار أي والشعار الثوب الذي يلي الجسد والدثار الثوب الذي يكون فوق ذلك الثوي فهم ألصق به وأقرب اليه صلى الله عليه وسلم من غيرهم وقال الأنصار حبهم إيمان وبغضهم نفاق اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار ولنساء الانصار ولنساء أبناء الانصار ولنساء أبناء أبناء الأنصار وفي لفظ اللهم اغفر للأنصار ولذراري الأنصار ولذراري ذراريهم ولمواليهم ولجيرانهم لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر وقال تؤذوا الأنصار فمن أذاهم فقد آذاني ومن نصرهم فقد نصرني ومن أحبهم فقد أحبني ومن أبغضهم فقد ابغضني ومن بغى غليهم فقد بغي على ومن قضى لهم حاجة كنت في حاجته يوم القيامة أسرع إن الله اختار دارهم لإعزاز دينه واختارهم لنبيه انصارا وقال صلى الله عليه وسلم حب الأنصار آية الإيمان وبغضهم آية النفاق وقال في الأنصار لا يحبهم الا مؤمن ولا يبغضهم الا منافق من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله وقال لهم اللهم أنتم أحب الناس إلى قالها ثلاثا وقال حسان رضي الله عنه في مدح الانصار ** سماهم الله أنصارا بنصرهم ** دين الهدى وعوان الحرب تستعر ** ** وسارعوا في سبيل الله واعترفوا ** للنائبات وما خافوا وما ضجروا ** انتهى
____________________
(3/92)
أي وقد وقع له صلى الله عليه وسلم نظير ذلك فعن عمرو بن ثعلبة أنه صلى الله عليه وسلم سبى فاعطى قوما ومنع قوما وقال إنا لنعطي قوما نخشى هلعهم وجزعهم ونكل قوما الى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن ثعلبة فكان عمرو رضي الله عنه يقول ما يسرني أن لي بها حمر النعم
ولما أسرت اخته صلى الله عليه وسلم من الرضاعة الشماء بشين معجمة مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وميم بمدة ويقال الشماء بغير ياء واختلف في اسمها صارت تقول والله إني أخت صاحبكم ولا يصدقوها فأخذها طائفة من الأنصار حتى أتوابها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا محمد إني أختك قال وما علامة ذلك الحديث ثم قال لها ارجعي الى الجعرانة تكونين مع قومك فإني أمضي الى الطائف فرجعت الى الجعرانة فلما قدم صلى الله عليه وسلم الجعرانة جاءته فقالت يا رسول الله إني أختك أي وأنشدته أبياتا قال وما علامة ذلك بكسر الكاف لأنه خطاب لمؤنث قالت عضة عضضتنيها في ظهري وفي رواية ي وجهي وفي رواية في إبهامي وأنا متوركتك فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة 2 وفيرواية قال لها إن تكوني صادقة فإن بك منى أثرا لن يبلى فكشفت عن عضدها ثم قالت نعم يا رسول الله حملتك وانت صغير فعضضتني هذه العضة فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة فليتأمل وعند ذلك قام صلى الله عليه وسلم لها قائما وبسط لها رداءه وأجلسها عليه أي ودمعت عيناه وسألها عن أمه وأبيه فأخبرته بموتهما أي وقال لها سلى تعطى واشفعي تشفعي فاستوهبته السبى لرجونا أن يحابينا فاتته فقالت أتعرفني قال ما أنكرك فمن أنت قالت أنا اختك بنت أبي ذؤيب وآية ذلك أني حملتك ذات يوم فعضضت كتفي عضة شديدة هذا أثرها فرحب بها ثم استوهبته السبي وهم ستة آلاف فوهبه لها فما عرفت مكة مثلها ولا امرأة هي أيمن على على قومها منها وخيرها صلى الله عليه وسلم وقال إن أحببت فعندي محببة مكرمة وإن أحبتت أمتعتك وترجعى الى قومك قالت بلى تمتعني وتردني الى قومي فأعطاها غلاما يقال له مكحول وجارية وقيل بل أعطاها ثلاثة أعبد وجارية ونعما وشاء وقيل إن القادمة عليه صلى الله عليه وسلم أمه من الرضاع التي هي حليمة وتقدم الكلام عن ذلك
____________________
(3/93)
قال بعضهم وهذا العطاء الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤلفة من قريش إنما كان من خمس الخمس الذي هو سهمه صلى الله عليه وسلم لا من أربعة أخماس الغنيمة وإلا لاستأذن الغانمين في ذلك لأنهم ملكوها بحوزهم لها
ثم قدم صلى الله عليه وسلم وفد هوازن وهم أربعة عشر رجلا مسلمين ورأسهم زهير ابن صرد وفي لفظ يكنى بأبي صرد وأبو برقان بالموحدة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أي فقالوا يا رسول الله إنا أصل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك وفي رواية قالوا يا رسول الله إن فيمن أصبتهم الأمهات والأخوات والعمات والخالات وهن مخازى الأقوام ونرغب إلى الله وإليك يا رسول الله وقال زهير يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك أي لأن مرضعته صلى الله عليه وسلم حليمة كانت من هوازن أي وقال له أيضا ولو ملحنا أي أرضعنا للحارث بن أبي شمر أي ملك الشام أو للنعمان بن المنذر أي ملك العراق ثم نزل منا بمثل ما نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين وأنشده أبياتا يستعطفه صلى الله عليه وسلم بها منها ** أمنن علينا رسول الله في كرم ** فإنك المرء نرجوه ونتظر ** ** أمنن على نسوة قد كنت ترضعها ** إذ فوك مملوءة من مخضها الدرر **
أي الدفعات الكثيرة من اللبن إنا لنشكر للنعماء إن كفرت أي جحدت وفي لفظ ** إنا لنشكرآلاء وإن كفرت ** وعندنا بعد هذا يوم مدخر ** ** إنا نؤمل عفوا منك نلبسه ** هدى البرية أن تعفوا وتنتصر ** ** فألبس العفو من قد كنت ترضعه ** من أمهاتك إن العفو مشتهر **
فقال صلى الله عليه وسلم إن أحسن الحديث أصدقه أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم أي وفي لفظ البخاري أحب الحديث الى اصدقه فاختاروا إحدى الطائفين إما السبي وإما المال وفي رواية وقد كنت أستأنيت بكم حتى ظننت انكم لا تقدمون أي لأنه صلى الله عليه وسلم انتظرهم بعد أن قفل من الطائف بضع عشرة وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم قد وقعت المقاسم فأي الأمرين أحب اليكم أطلب لكم السبي أم الاموال وإنما قال صلى الله عليه وسلم قد وقعت المقاسم أي لأنه لا يجوز للإمام ان يمن على الأسرى بعد القسم وإنما يمن عليهم
____________________
(3/94)
قبله كما وقع له صلى الله عليه وسلم في يهود خيبر ولا يخفى ان هذا في الرجال دون الذراري فقالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا أردد علينا نساءنا وأبناءنا فهو أحب الينا ولا نتكلم في شاة ولا بعير فقال صلى الله عليه وسلم أما مالي ولبني عبد المطلب فهو لكم أي وقال لهم فإذا أنا صليت الظهر بالناس فقوموا إنا نستشفع برسول الله صلى الله عليه وسلم الى المسلمين وبالمسلمين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبنائنا ونسائنا أي بعد أن قال لهم صلى الله عليه وسلم أظهروا إسلامكم وقولوا نحن أخوانكم في الدين فاسأل كلم الناس فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد أن اثنى على الله بما هو أهله ثم قال اما بعد فإن اخوانكم هؤلاء جاءوا تائبين وإني قد رأيت أن ارد اليهم سبيهم فمن أحب أن يطيب بذلك فليفعل ومن أحب منك أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفئ الله علينا فيلفعل كذا في البخاري
وفي لفظ انه صلى الله عليه وسلم قاله وأما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي اسبيه
وفي رواية فمن أحب منكم أن يعطي غيره مكره فيلفعل ومن كره ان يعطى ويأخذ الفداء فعلى فداؤهم ثم قال صلى الله عليه وسلم أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو كلم فقال المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الاقرع بن حابس أما أنا بنو تميم فلا وقال عيينة بن حصن أما أنا وبنو فزارة فلا وقال العباس بن مرداس أما أنا وبنو سليم فلا فقالت بن سليم بلى ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال العباس بن مرداس وهنتموني أي أضعفتموني حيث صيرتموني منفردا
وفي رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء القوم جاءوا مسلمين وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالابناء والنساء شيئا فمن كان عنده من النساء سبى فطابت نفسه أن يرده فليرده ومن أبى فليرد عليهم ذلك قرضا علينا بكل إنسان ست فرائض من أول ما يفئ الله علينا قالوا رضينا وسلمنا فردوا عليهم نساؤهم وابنائهم ولما فرق صلى الله عليه وسلم النساء نادى مناديه ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن ولا غير الحبالي حتى يستبرئن بحيضة
____________________
(3/95)
وعن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه قال اصبنا سبايا يوم حنين فكنا نلتمس فداءهن فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال اصنعوا ما بدا لكم فما قضى الله فهو كائن وليس من كل الماء يكون الولد قال ابو سعيد الخدري رضي الله عنه وكانت اليهود تزعم أن العزل الموءودة الصغرى فقال رسول الله كذبت اليهود ولو أراد الله ان يخلقه لا يستطع أحد أن يصرفه وجاء لو أن الماء الذي يكون منه الولد أهرقته على صخرة لأخرج الله منها ولدا وقد جاء في الحديث ما قالت اليهود ففي مسلم وابن ماجه العزل الوأد الخفي أي لأن التحرز عن الولد بالعزل كدفته حيا فليتأمل وقد مر الكلام على ذلك مبسوطا
والفريضة البعير الذي يؤخذ في الزكاة لأنه فرض وواجب على رب المال والى عفوه صلى الله عليه وسلم عن هوازن أشار صحاب الهمزية رحمه الله تعالى بقوله ** من فضلا على هوازن إذ ** كان له قبل ذاك فيهم رباء ** ** وأتى السبي فيه أخت الرضاع ** وضع الكفر قدرها والسباء ** ** فحباها برا توهمت النا ** س به أنما السباء هداء ** ** بسط المصطفى لها من رداء ** أي فضل حواه ذاك الرداء ** ** فغدت فيه وهي سيدة النس ** وة والسيدات فيه إماء **
أي اعتق صلى الله عليه وسلم هوازن قبيلة أمه من الرضاعة التي هي حليمة السعدية وكانوا ستة آلاف أدمي وإنما اعتقهم لأجل انه كان له وهو طفل فيهم رباء بفتح الراء والمد أي تربيته فيهم ولأجل أن أخته من الرضاعة أتت في ذلك السبي وتلك الأخت صغر كفرها وسباؤها قدرها الرفيع بأخوته صلى الله عليه وسلم فأعطاها برا وفعل معها معروفا حتى وقع في وهم الحاضرين بسبب ذلك أن سباءها هداء لها بكسر الهاء كالعروس التي تهدى لزوجها ومن بره صلى الله عليه وسلم لها أنه بسط لها رداءه لتجلس عليه أي شرف لذلك الرداء شرف عظيم لا غاية له بسبب مماسته لجسده الشريف فصارت في ذلك السبي سيدة من فيه من النساء وصار السيدات التي فيه بالنسبة اليها إماء وبمثل الجمع بين كون اخته المذكورة هي الشافعة في السبي وقبلت شفاعتها وبين كون السائل فيهم هوازن والأصل اقتصر على سؤال الوفد ورد جميع السبي ولم يتخلف عنه احد الا عجوز من عجائزهم كانت عند عيينة بن حصن أبي ان يردها وقال حين
____________________
(3/96)
أخذها أرى عجوزا إني لأحسب أن لها في الحي نسبا وعسى أن يعظم فداؤها ثم ردها بعد ذلك بعشر من الإبل وقيل بست أخذ ذلك من ولدها بعد أن ساومه فيها مائة من الإبل وقال له ولدها والله ماثديها بناهد ولا بطنها بوالد ولا فوها ببارد ولا صاحبها بواجد أي بحزين لفراقها ولا درها بناكد بالنون أي غزير وهو من الأضداد وقيل قائل ذلك له زهير
وقد يقال لا مخالفة لجواز أن زهيرا هو ولدها فقال عيينة خذاها لا بارك الله لك فيها قال وذلك ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم دعا على من أبي أن يرد من السبى شيئا أن يبخس أي يكسد فإن ولدها دفع له فيها مائة من الإبل فابي ثم غاب عنه ثم مر عليه معرضا عنه فقال خذها بالمائة فقال لا أدفع الا خمسين فابى فغاب عنه ثم مر عليه معرضا عنه فقال خذها بخمسين فقال لا ادفع الاخمسة وعشرين فأبى فغاب عنه ثم مر عليه معرضا عنه فقال خذها بالخمس والعشرين فقال لا آخذها إلا بعشرة وفي رواية الا بسته فقال له ما تقدم ولما أخذها ولدها قال لعيينة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسا السبي قبطية قبطية فقال لا والله ما ذاك لها عندي فما فارقها حتى أخذ لها منه ثوبا والقبطية بضم القاف وهو ثوب ابيض من ثياب مصر منسوب للقبط وهم أهل مصر وضم القاف من التغيير في النسب
أي وفي كلام بعضهم وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أن يقدم مكة فيشتري للسبي ثياب المتعة فلا يخرج الحر منهم الا كاسيا قال وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحبس أهل مالك بن عوف النضري بمكة عند عمتهم أم عبد الله بن أبي امية وكلمة الوفد في ذلك فقالوا يا رسول الله أولئك سادتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أريد بهم الخير ولم يجز أن تجري السهمان في مال مالك بن عوف وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن ما فعل مالك بن عوف قالوا يا رسول الله إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل فلما بلغ مالكا ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه وان ماله وأهله موفور وما وعده به نزل من الحصن مستخفيا خوفا أن تحبسه ثقيف إذا علموا الحال وركب فرسه وركضه حتى أتى الدهناء محلا معروفا ركب راحلته ولحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركه
____________________
(3/97)
بالجعرانة وأسلم ورد عليه أهله وماله واستعمله صلى الله عليه وسلم عى من اسلم من هوازن فكان لا يقدر على سرح ثقيف إلا أخذه ولا رحل الا ميله وكان رضي الله عنه يرسل بالخمس مما يغنم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أ هـ
أي وجاء اعرابي الى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المحل الذي هو الجعرانة وهو المراد بقول بعضهم وهو بحنين لأن المراد منصرفه من غزوة حنين وعلى ذلك الأعرابي جبه وهو متضمخ بخلوق أي مصفر لحيته ورأسه وقد أحرم بعمرة فقال أفتني يا رسول الله وفي رواية قال له كيف ترى في رجل في رجل أحرم في جبة ما تضمخ بطيب فسكت ساعة ثم نزل عليه الوحي فلما سرى عنه قال أين السائل عن العمرة أخلع عنك الجبة واغسل عنك أثر الخلوق وفي رواية قال له صلى الله عليه وسلم ما كنت تصنع في حجك قال كنت أنزع هذه الجبة وأغسل هذه الخلوق فقال صلى الله عليه وسلم اصنع في عمرتك ما كنت صانعا في حجك واستند لذلك من يقول بحرمة التطيب قبل الإحرام بما يبقى عند الإحرام والراجح عند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه استحباب ذلك
وجاءه رجل فوقف على رأسه الشريف فقال يا رسول الله إن لى عندك موعدا فقال له صدقت فاحتكم فقال أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها فقال هي لك ولقد احتكمت يسيرا ولصاحبة موسى عليه الصلاة والسلام التى دلته على عظام يوسف عليه الصلاة والسلام كانت احزم حكما منك حين حكمها أن تردنى شابة وأدل معك الجنة كذا ذكره الغزالي رحمه اللله قال السخاوى وهذا أخرجه ابن حبان والحاكم وصحح إسناده وفيه نظر كما قال العراقى وهذا أصل في عدم إخلاف الوعد بالخير
ونقل الإمام النووي رحمه الله ان جماعة ذهبوا الى وجوب الوفاء بذلك ووجهه السبكي رحمه الله بأن اخلاف الوعد كذب والكذب حرام وترك الحرام واجب
وذكر الغزالي رحمه الله أن خلاف الوعد لا يكون كذبا الا إذا عزم حين الوعد على عدم الوفاء
أي ويدل لذلك ما جاء عن عبد الله بن ربيعة قال جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الى
____________________
(3/98)
بيتنا وأنا صبي صغير فذهبت لألعب فقالت أمي يا عبدالله تعال أعطك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اردت أن تعطيه قالت أردت أن أعطيه تمرا قال لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة
وأحرم صلى الله عليه وسلم من الجعرانة ودخل مكة ليلا واستمر يلبي حتى استلم الحجر ثم رجع من ليلته واصبح بها كبائت وفي لفظ اصبح بمكة كبائت وفيه نظر ولم يسق هديا في هذه العمرة وحلق راسه وكان الحالق رأسه الشرف ابا هند الحجام وقيل أبو خراش بن أمية الذي حلق رأسه صلى الله عليه وسلم في الحديبية وأتى بأعمال العمرة بعد أن أقام بالجعرانة ثلاثة عشرة ليلة وقال اعتمر منها سبعون نبيا غزوة تبوك
بعدم الصرف للعلمية والتأنيث ووقع في البخاري صرفها نظرا للموضع أي ويقال لها غزوة العسيرة ويقال لها الفاضحة لأنها أظهرت حال كثير من المنافقين
ففي شهر رجب سنة تسع أي بلا خلاف ووقع في البخاري أنها كانت بعد حجة الوداع قيل وهو غلط من النساخ بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام وانهم قدموا مقدماتهم الى البلقاء المحل المعروف
أي وذكر بعضهم ان سبب ذلك ان متنصرة العرب كتبت الى هرقل إن هذا الرجل الذي قدخرج يدعى النبوة هلك واصابت اصحابه سنون أهلكت أموالهم فبعث رجلا من عظمائهم وجهز معه أربعين ألفا أي ولم يكن لذلك حقيقة أي وإنما ذلك شيء قيل لمن يبلغ ذلك للمسلمين ليرجف به وكان ذلك في عسرة في الناس وجدب في البلاد أي وشدة من نحو الحر وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم أي وكونه عند طيب الثمار يؤيد قول عروة بن الزبير إن خروجه صلى الله عليه وسلم لتبوك كان في زمن الخريف ولا ينافي ذلك وجود الحر في ذلك الزمن لأن اوائل الخريف وهو الميزان يكون فيه الحر وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها وورى بغيرها إلا ما كان من غزوة تبوك لبعد المشقة وشدة الزمن أي وكثرة العدو وليأخذ الناس أهبتهم وأمر الناس بالجهاز أي وبعث إلى مكة وقبائل العرب ليستنفرهم وحض أهل الغنى على النفقة والحمل في سبيل الله
____________________
(3/99)
أي أكد عليهم في طلب ذلك وهي آخر عزواته صلى الله عليه وسلم وأنفق عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها قال فإنه جهز عشرة الآلف أنفق عليها عشرة آلاف دينار غير الإبل والخيل وهي تسعمائة بعير ومائة فرس والزاد وما يتعلق بذلك حتى ما تربط به الأسقية
أي وفي كلام بعضهم أنه أعطى ثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وخمسين فرسا وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم اللهم أرض عن عثمان فإني عنه راض
أي وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول الليل الى أن طلع الفجر رافعا يديه الكريمتين يدعو لعثمان بن عفان يقول اللهم عثمان رضيت عنه فارض عنه وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال سالت ربي ان لا يدخل النار من صاهرته أو صاهرني
وجاء رضي الله تعالى عنه بألف دينار فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها بيديه ويقول ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم يرددها مرارا أ هـ
وفي رواية جاء بعشرة آلاف دينار الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصبت بين يديه فجعل صلى الله عليه وسلم يقول بيديه ويقلبها ظهرا لبطن ويقول غفر الله لك يا عثمان ما أسررت وما أعلنت وما كان منك وما هو كائن الى يوم القيامة ما يبالي ما عمل بعدها أي ولعل هذه العشرة آلالاف هي التي جهز بها العشرة آلاف إنسان وإنها أي العشرة غير الألف التي صبها في حجره صلى الله عليه وسلم
وأنفق غير عثمان أيضا من أهل الغنى قال وكان أول من جاء بالنفقة ابو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه جاء بجميع ماله أربعة الاف درهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أبقيت لأهلك شيئا قال أبقيت لهم الله ورسوله وجاء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بنصف ماله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أبقيت لأهلك شيئا قال النصف الثاني وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه بمائة أوقية أي ومن ثم قيل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما كانا خزنتين من خزائن الله في الأرض ينفقان في طاعة الله تعالى وجاء العباس رضي الله تعالى عنه بمال كثير وكذا طلحة رضي الله تعالى عنه وبعثت النساء رضي الله تعالى عنهن بكل
____________________
(3/100)
ما يقدرن عليه من خليهن وتصدق عاصم بن عدي رضي الله تعالى عنه بسبعين وسقا من تمر أ هـمعناه صلى الله عليه وسلم جمع أي سبعة أنفس من فقهاء الصحابة يتحملونه أي يسألونه أن يحملهم فقال صلى الله عليه وسلم لا أجد ما احملكم به وعند ذلك تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون أي ما يحملهم ومن ثم قيل لهم البكاءون ومنهم العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه ولم يذكره القاضي البيضاوي في السبعة وحمل العباس رضي الله تعالى عنه منهم اثنين وحمل منهم عثمان رضي الله تعالى عنه بعد الجيش الذي جهز ثلاثة أي وحمل يا ميز بن عمرو النضري اثنين دفع لهما ناضحا له وزود كل واحد منهما صاعين من تمر وعدهم مغلطاي ثمانية عشر
وفي البخاري عن أبي موسى الاشعري قال أرسلني اصحابي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله الحملان لهم فقلت يا نبي الله إن أصحابي أرسلوني اليك لتحملهم فقال والله لا أحملكم عى شي وفي رواية والله لا أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه فرجعت حزينا الى اصحابي من منع النبي ومن مخافة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه حيث حلف على أن لا يحملهم قال فرجعت الى اصحابي فأخبرتهم الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فلم ألبث الا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي اين عبد الله ابن قيس فأجبته قال أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فلما أتيته قال خذ هذه الستة أبعرة فانطلق بها الى اصحابك زاد بعضهم فعند ذلك قال بعضهم لبعض إغلقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حملناه على يمين الغلق وقد حلف أن لا يحملنا ثم حملنا فو الله لا بارك لنا في ذلك فاتوه فذكروه فقال عليه الصلاة السلام أنا ما حملتكم الله حملكم ثم قال إني لا أحلف يمينا فارى غيرها خيرا منا إلا كفرت عن يمني وأتيت الذي هو خير أي فهو صلى الله عليه وسلم إنما حلف أن لا يتكلف لهؤلاء حملا بقرض ونحوه ما دام لا يجد لهم حملا فلا حنث وفيه أن هذا لا يناسب قوله إني لا أحلف الى آخره
وأجيب بأن هذه استثبات قاعدة لا تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حنث في يمينة بل خرج الكلام على تقدير كأنه قال لو حنثت في يمني حيث كان الحنث خيرا وكفرت عنها لكان ذلك شرعا واسعا بل ندبا راجحا ويؤيده أنه لم ينقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر عن هذه اليمين وحينئذ يحتاج الى الجمع بين هذا وما قبله
____________________
(3/101)
وقد يقال إن حمل العباس رضي الله تعالى عنه اثنين منهم الى آخره كان قبل وجود هذه الأبعرة الستة أو يدعي أن هؤلاء غير من تقدم
فلما تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار بالناس وهم ثلاثون ألفا أي وقيل أربعون ألفا وقيل سبعون ألفا وكانت الخيل عشرة آلاف فرس وقيل بزيادة ألفين
وخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله تعالى عنه على ما هو المشهور وقال الحافظ الدمياطي رحمه الله وهو أثبت عندنا وقيل سباع بن عرفطة أي وقيل ابن ام مكتوم وقيل علي بن ابي طالب قال ابن عبد البر وهو الأثبت هذا كلامه
وفي كلام ابن اسحاق وخلف عليا كرم الله وجهه على أهله وأمره بالإقامة فيهم وتخلف عنه عبد الله بن أبي ابن سلول ومن كان من المنافقين بعد أن خرج بهم وعسكر عبد الله بن أبي على ثنية الوداع أي أسفل منها لأن معسكره صلى الله عليه وسلم كان على ثنية الوداع وكان عسكر بعد الله بن ابي اسفل منه قال ابن اسحق رحمه اله وما كان فيما يزعمون بأقل العسكرين أي والتعبير عن ذلك بالزعم واضح لأنه يبعد أن يكون عسكر عبد الله مساويا لعسكره صلى الله عليه وسلم فضلا عن كونه أكثر منه فليتأمل وقال عند تخلفه يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد أي مالا طاقة له به يحسب محمد أن قتال بني الأصفر معه اللعب والله لكأني انظر الى اصحابه مقرنين في الحبال يقول ذلك إرحامأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه أي وقيل للروم بنو الاصفر لأنهم ولد روم بن العيص بن إسحاق نبي الله عليه السلام وكان يسمى الأصفر لصفرة به
فقد ذكر العلماء باخبار القدماء ان العيص تزوج بنت عمه اسماعيل فولدت له الروم وكان به صفرة فقيل له الأصفر وقيل الصفرة كانت بأبيه العيص
ولما ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثنية الوداع متوجها الى تبوك عقد الألوية والرايات فدفع لواءه الأعظم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ورايته صلى الله عليه وسلم العظمى للزبير رضي الله عنه ودفع راية الأوس لأسيد بن حضير رضي الله عنه وراية الخزرج الى الحباب بن المنذر رضي الله عنه ودفع لكل بطن من الأنصار ومن قبائل العرب لواء وراية أي لبعضهم راية ولبعضهم لواء وكان قد اجتمع جمع من المنافقين أي في بيت سويلم اليهودي فقال بعضهم لبعض أتحسبون جلاد بني الأصفر
____________________
(3/102)
أي وهم الروك كقتال العرب بعضهم بعضا والله لكانهم يعني الصحابة غدا مقرنون في الحبال يقولون ذلك ارجافا وترهيبا للمؤمنين والجلاد الضرب بالسيوف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك لعمار بن ياسر رضي الله عنه أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا فإن أنكروا فقل بل قلتم كذا وكذا فانطلق اليهم عمار فقال لهم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون اليه وقالوا إنما كان نخوض ونلعب فانزل الله تعالى { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } وقال صلى الله عليه وسلم للجد بن قيس يا جد هل لك في جلاد بني الأصفر قال يا رسول الله أو تأذن لي أي في التخلف ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبا بالنساء مني وإني أخشى إن رأيت نساء بني الاصفر أن لا أصبر فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قد أذنت لك فانزل الله تعالى { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني } الآية وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال اغزوا تبوك تغنموا بنات بني الأصفر نساء الروم فقال قوم من المنافقين ائذن لنا ولا تفتنا فأنزل الله تعالى الآية { ألا في الفتنة سقطوا } أي التي هي التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة عنه
وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال للجد بن قيس يا أبا قيس هل لك أن تخرج معنا لعلك تحقب أي تردف خلفك من بنات بني الأصفر فقال ما تقدم وعند ذلك لامه ولده عبد الله رضي الله عنه وقال له والله ما يمنعك الا النفاق وسينزل الله فيك قرآنا فأخذ نعله وضرب به وجه ولده فلما نزلت الآية قال له ألم أقل لك فقال له اسكت يالكع فوالله لأنت أشدعلي من محمد وفي رواية أن الجد بن قيس لما امتنع واعتذر بما تقدم قال للنبي صلى الله عليه وسلم ولكن أعينك بمالي فانزل الله تعالى { قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم } وتقدم أنه لم يبايع بيعة الرضوان وتقدم أنه تاب من النفاق وحسنت توبته وأنه صلى الله عليه وسلم قال لبني ساعدة من سيدكم فقالوا الجد بن قيس على بخل فيه فقال واي داء أدوأ من البخل قالوا يا رسول الله من سيدنا فقال بشر بن البراء بن معرور وفي رواية سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح وذكر ابن عبد البر ان النفس أميل الى الأول ومات الجد بن قيس في خلافة عثمان رضي الله عنه وقال بعض المنافقين لبعض لا تنفروا في الحر فأنزل الله تعالى { قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون } أي يعلمون { وجاء المعذرون } أي وهم الضعفاء والمقلون من
____________________
(3/103)
الاعراب ليؤذن لهم في التخلف فأذن لهم وكانوا اثنين وثمانين رجلا وقعد أخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة جراءة على الله ورسوله وقد عناهم الله تعالى بقوله وقعد الذي كذبوا الله ورسوله
قال السهيلي وأهل التفسير يقولون إن آخر براة نزل قبل أولها وإن أول ما نزل منها { انفروا خفافا وثقالا } قيل معناه شبابا وشيوخا وقيل أغنياء وفقراء وقيل أصحاب شغل وغيرذي شغل وقيل ركبانا ورجالة ثم نزل أولها في نبذ كل ذي عهد الى صاحبه كما تقدم
وتخلف جمع من المسلمين منهم كعب بن مالك وهلال بن امية ومرارة بن الربيع من غير عذر وكانوا ممن لا ينهم في إسلامه
ولما خلف صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه ارجف به المنافقون وقالوا ما خلفه الا استثقالا له وحين قيل فيه ذلك أخذ علي كرم الله وجهه سلاحه ثم خرج حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجرف فقال يا نبي الله زعم المنافقون أنك ما خلفتني إلا استثقلتني وتخففت مني فقال كذبوا ولكنني خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في اهلي وأهلك أفلا ترضى يا علي ان تكون مني بمنزلة هرون من وموسى إلا أنه لا بنى بعدي أي فإن موسى عليه السلام حين توجه الى ميقات ربه استخلف هرون عليه السلام في قومه فرجع علي الى المدينة
وعن علي كرم الله وجهه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة وخلف جعفرا في أهله فقال جعفر والله لا أتخلف عنك فخلفني فقلت يا رسول الله اتخلفني الى شيء تقول قريش أليس يقولون ما اسرع ما خذل ابن عمه وجلس عنه وأخرى ابتغى الفضل من الله لأني سمعت الله يقول ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار الآية فقال اما قولك ان تقول قريش ما اسرع ما خذل ابن عمه وجلس عنه فقد قالوا إني سامر وإني كاهن وغي كذاب وأما قولك تبتغي الفضل من الله فلك أبي أسوة أي حيث تخلفت عن بعض مواطن القتال أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى عليهما السلام أي ولم يتخلف عنه علي كرم الله وجهه في مشهد من المشاهد الا في هذه الغزوة
وادعت الرافضة والشيعة ان هذه من النص التفصيلي على خلافة علي كرم الله وجهه
____________________
(3/104)
قالوا لأنه جميع المنازل الثابتة لهرون من موسى سوى النبوة ثابتة لعلي كرم الله وجهه من النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لما صح الاستثناء أي استثناء النبوة بقوله إلا أنه لا نبي بعدي ومما ثبت لهرون من موسى عليه السلام استحقاقه للخلافة عنه لو عاش بعده أي دون النبوة
ورد بأن هذ الحديث غير صحيح كما قاله الآمدي وعلى تسليم صحته بل صحته هي الثابتة لأنه في الصحيحين فهو من قبيل الآحاد وكل من الرافضة والشيعة لا يراه حجة في الإمامة وعلى تسليم أنه حجة فلا عموم له بل المراد ما دل عليه ظاهر الحديث أن عليا كرم الله وجهه خليفة عن النبي صلى الله عليه وسلم في اهله خاصة مدة غيبته بتبوك كما أن هارون كان خليفة عن موسى في قومه مدة غيبته عنهم للمناجاة فعلى تسليم أنه عام لكنه مخصوص والعام المخصوص غير حجة في الباقي او حجة ضعيفة وقد استخلف صلى الله عليه وسلم في مرار أخرى غير علي فيلزم أن يكون مستحقا للخلافة وصار بعد مسيره صى يتخلى عنه الرجل فيقال تخلف فلان فيقول دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه
وكان ممن تخلف عن مسيره معه صلى الله عليه وسلم أبو خيثمة ولما أن سار صلى الله عليه وسلم اياما دخل ابو خيثمة على أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريشيتين لهما في حائط قد رشت كل منهما عريشتها وبردتا فيها ماء وهيأتا طعاما وكان يوما شديد الحر فلما دخل نظر الى امرأيته وماصنعتا فقال رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحر وابو خيثمة في ظل بارد وماء مهيأ وامرأه حسناء ما هذا بالنصف ثم قال والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيئا لي زادا ففعلتا ثم قدم ناضحة فارتحل واخذ سيفه ورمحه كما في الكشاف أي ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل بتبوك وقد كان ابو خيثمة ادرك عمير بن وهب في طريق يطلب رسول الله فترافقا حتى دنوا من تبوك فقال خيثمة لعمير إن لي ذنبا فلا عليك ان تتخلف عن حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل فلما دنا أبو خيثمة قال الناس هذا ركب مقبل فقال رسول الله كن أبا خيثمة فقالوا يا رسول الله هو والله ابو خيثمة فلما أناخ اقبل يسلم على الرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه
____________________
(3/105)
وسلم أولى لك يا أبا خيثمة ثم اخبر رسول صلى الله عليه وسلم الخبر فقال له رسول الله خيرا ودعا له بخير أي واولى كلمة تهديد وتوعد
ولما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر ديار ثمود سجى ثوبه على رأسه واسحث راحلته وقال لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا الا وانتم باكون خوفا أن يصيبكم ما أصابهم أي لأن البكاء يتبعه التفكر والاعتبار فكأنه أمرهم بالتفكر في أحوال توجب البكاء من تقدير الله عز وجل على أولئك بالكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهالهم مدة طويلة ثم إيقاع نقمته الى مثل ذلك ونهى صلى الله عليه وسلم الناس ان يشربوا من مائها شيئا وان لا يتوضئوا به للصلاة وأن لا يعجن به عجين وان لا يحاس به حيس ولا يطبخ به طعام وان العجين الذي عجن به أو الحيس الذي فعل به يعلفونه الإبل وان الطبيخ الذي طبخ به يلقى ولا يأكلوا منه شيئا
ثم ارتحل بالناس أي لا زال سائرا حتى نزل على البئر التي كانت تشرب منها الناقة واخبرهم صلى الله عليه وسلم أنها تهب عليهم الليلة ريح شديدة أي وقال من كان له بعير فليشد عقاله ونهى الناس في تلك الليلة على أن يخرج واحد منهم وحده بل معه صاحبه شخص وحده لحاجته فخنق وخرج اخر كذلك في طلب بعير له ند فاحتمله الريح حتى ألقته بجبل طيء فاخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألم أنهكم ان يخرج أحد منكم إلا ومعه صاحبه ثم دعا للذي خنق فشفي والذي القته الريح بجبل طيئ فأرسلته طيء له صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة
وفي سيرة الحافظ الدمياطي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخلف على عسكره ابا بكر الصديق رضي الله عنه يصلي بالناس واستعمل على حرس العسكر عباد ابن بشر فكان يطوف في اصحابه بن على العسكر ثم اصبح الناس ولا ماء معهم أي وحصل لهم من العطش ما كاد يقع رقابهم حتى حملهم ذلك على نحر إبلهم ليشقوا اكراشها ويشربوا ماءها
فعن عمر رضي الله عنه خرجنا في حر شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى إن الرجل لينحر بعير فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده وفي لفظ على صدره فشكوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أي قال له ابو بكر يا رسول الله قد
____________________
(3/106)
عودك الله من الدعاء خيرا فادع الله لنا قال أتحب ذلك قال نعم فدعا أي ورفع يديه فلم يرجعهما حتى أرسل الله سحابة فمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا ما يحتاجون اليه قال وذكر بعضهم ان تلك السحابة لم تتجاوز العسكر وأن رجلا من الانصار قال لآخر متهم بالنفاق ويحك قد ترى فقال إنما مطرنا بنوء كذا وكذا فأنزل الله تعالى { وتجعلون رزقكم } أي بدل شكر رزقكم { أنكم تكذبون } أي حيث تنسوبه للأنواء وقيل إنه قال له ويحك هل بعد هذه شيء قال سحابة مارة انتهى
وفي لفظ أنهم لما شكوا اليه صلى الله عليه وسلم شدة العطش قال لعلي لو استسقيت لكم فسقيتم قلتم هذه بنوء كذا وكذا فقالوا يا نبي الله ما هذا بحين أنواء فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضا ثم قام فصلى فدعا الله تعالى فهاجت ريح وثار سحاب فمطروا حتى سال كل واد فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يغرف بقدحه ويقول هذه نوء فلان فنزلت الآية
وضلت ناقته صلى الله عليه وسلم فقال رجل من المنافقين الذين خرجوا معه صلى الله عليه وسلم ليس غرضهم الا الغنيمة إن محمدا يزعم أنه بني وأنه يخبركم بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته فقال صلى الله عليه وسلم إن رجلا يقول كذا وكذا وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني الله عليها أنها في شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها فذهبوا فوجدوها كذلك فجاءوا بها أي وتقدم له صلى الله عليه وسلم نظير هذا في غزوة بني المصطلق التي هي المريسيع ولا بعد في تعدد الواقعة ويحتمل أن يكون من خلط بعض الرواة
ولما سمع بذلك بعض الصحابة جاء الى رحله فقال لمن به والله لعجب في شيء حدثناه رسول صلى الله عليه وسلم عن مقاله قائل اخبره الله عنه وذكر المقالة فقال له بعض من في رحله هذه المقالة قالها فلان يعني شخصا في رحله أيضا قالها قبل ان تاتي بيسير فقال يا عباد الله في رحلي داهية وما اشعر أي عدو الله اخرج من رحلي ولا تصحبني فيقال إنه تاب ويقال إنه لم يزل منها بشر حتى هلك
وتباطأ جمل أبي ذر رضي الله عنه لما به من الإعياء والتعب فتخلف عن الجيش فأخذ متاعه وحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول الله ماشيا فأدركه نازلا في بعض المنازل أي وقبل مجيئه قالوا له يا رسول الله تخلف ابو ذر وأبطأ به بعيره
____________________
(3/107)
فقال صلى الله عليه وسلم دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وإن يك غير ذلك فقد اراحكم الله منه
ولما اشرف على ذلك المنزل ونظره شخص يمشي فقال يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كن أبا ذر فلما تامله القوم قالوا يا رسول الله هو والله ابو ذر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله ابا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده وكان كما قال صلى الله عليه وسلم إنه يموت وحده فقد مات رضي الله عنه وحده بالربذة لما أخرجه عثمان رضي الله عنه اليها
اي فإنه بعد موت ابي بكر رضي الله عنه خرج من المدينة الى الشام فلما ولي عثمان رضي الله عنه شكاه معاوية رضي الله عنه اليه فإنه كان يغلظ على معاوية في بعض امور تقع منه فاستدعاه عثمان رضي الله عنه من الشام ثم أسكنه بالربذة ولم يكن معه الا امرأته وغلامه فوصاهما عند موته ان غسلاني وكفنانني ثم اجعلاني على قارعة الطريق فأول من يمر بكم قولا له هذا ابو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعينوناعلى دفنه فلما مات رضي الله عنه الله عنه فعلا به ذلك وأقبل عبد الله بن مسعود في رهط من اهل العراق فوجدوا الجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطؤها فقام اليهم الغلام وقال هذا ابو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعينونا على دفنه فاستهل عبد الله ابن مسعود يبكي ويقول صدق رسول الله تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك ثم نزل هو واصحابه فوارواه ثم حدثهم عبد الله بن مسعود خبره
أي وفي الحدائق عن أم ذر قالت لما حضرت ابا ذر الوفاة بكيت فقال ما يبكيك قلت ومالي لا أبكي وانت تموت بفلاة من الأرض ولا بد لنا من معين على دفنك وليس معنا ثوب يسعك كفنا فقال لا تبكي وابشري فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا فيهم ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين وليس من أولئك النفر أحد الا وقد مات في قرية وإني أنا الذي أموت بالفلاة والله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبت وفي رواية ما كذبت ولا كذبت فانظري الطريق فقالت قد ذهب الحاج وتقعطت السبل فقال انظري فقالت كنت اشتد الى الكثيب فاقوم عليه ثم ارجع اليه فأمرضه فبينما أنا كذلك إذا أنا برجال على
____________________
(3/108)
روأحلهم كأنهم الرخم فألحث بثوبي فاسرعوا الى ووضعوا السياط في نحورها يستقبلوا الي فقالوا مالك يا أمة الله فقلت امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه قالوا ومن هو قلت أبو ذر قالوا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نعم فأسرعوا اليه حتى دخلوا عليه فسلموا عليه فرحب بهم وقال ابشروا فإنكم عصابة من المؤمنين وحدثهم الحديث وقال والله لو كان لي أو لها ما يسعني كفنا ما كفنت الا فيه وإني انشدكم الله والإسلام لا يكفنني منكم رجل كان أميرا ولا عريفا ولا بريدا او نقيبا ولم يكن منهم احد سلم من ذلك إلا فتى من الانصار فقال والله لم أصب مما ذكرت شيئاأن أكفنك في ردائي هذا وثوبين معي من غزل أمي فمات فكفنه الفتى الأنصاري ودفنه في النفر الذين معه
أقول يحتاج الى الجمع بين هذا وما تقدم وقد يقال لا ينافي ذلك ما تقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه لجواز أن يكون قدومه بعد ان كفن بكفن الأنصاري ولا ينافي ذلك ما تقدم من قول الراوي فلما مات فعلا أي زوجته وغلامه ذلك أي غسله وتكفينه ولا ينافي ذلك قول الغلام لابن مسعود ومن معه أعينونا على دفنه ولا ينافي ذلك قول الراوي هنا ودفنه أي للفتى الأنصاري في النفر الذين معه لأن ذلك يقال إذا اشتركوا مع غيرهم في ذلك
وأبو ذر رضي الله عنه اسمه جندب وقيل اسمه سلمة بن جنادة وكان من أوعية العلم المبرزين في الزهد والورع بالحق وقد قال في حقه ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر وكان رضي الله عنه من الاقدمين في الإسلام قال ابن عبد البر كان خامس رجل أسلم فليتأمل وقال صلى الله عليه وسلم أبو ذر في أمتي شبيه عيسى ابن مريم في زهده وبعضهم يرويه من ينظر الى تواضع عيسى ابن مريم فلينظر إلى أبى ذر وغلى وجود ما أخبر عن أبي ذر من أنه يموت وحده أشار الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله ** وعاش ابو ذر كما قلت وحده ** ومات وحيدا في بلاده بعيدة **
قال وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال لما كنا فيما بني الحجر وتبوك ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته بعد الفجر وتبعته بماء فأسفر الناس بصلاتهم التي هي صلاة الفجر فقدموا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فصلى بهم فانتهى صلى الله عليه
____________________
(3/109)
وسلم بعد أن توضأ ومسح خفيه بن عوف وقد صلى ركعة فصلى رسول الله مع عبد الرحمن ركعة وقام ليأتي بالركعة الثانية وقال لهم صلى الله عليه وسلم بعد فراغه أحسنتم أو اصبتم ثم قال صلى الله عليه وسلم لم يتوف نبي حتى يؤمه رجل صالح من امته أ هـأي ولعل هذا لا ينافي ما تقدم
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخلف على عسكره اباابكر الصديق رضي الله عنه يصلي بالناس وقوله لم يتوف نبي حتى يؤمه رجل صالح من أمته يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل خلف الصديق في هذه الغزوة حيث يصلي بالعسكر فليتأمل
أي وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال عبد الرحمن سيد من سادات المسلمين ولا يخالف هذا ماروي عن ابن عباس رضي الله عنهما لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم خلف أحد من أمته الا خلف ابي بكر أي في فرض موته لأن المراد صلاة كاملة أو تكرر الصلاة هذا
وفي الخصائص الصغرى ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم فيما حكى القاضي عياض رحمه الله انه لا يجوز لأحد أن يؤمه صلى الله عليه وسلم لأنه لا يصح التقدم بين يديه في الصلاة ولا غيرها لا لعذر ولا لغيره
وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك ولا يكون أحد شافعا له وقد قال ائمتكم شفعاؤكم ولذلك قال ابو بكر رضي الله عنه ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتأمل
ولما نزلوا تبوك وجدوا عينها قليلة الماء فاعترف رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده غرفة من مائها فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها ففارت عينها حتى امتلأت
قال وعن حذيفة رضي الله عنه بلغ رسول الله ان في الماء قلة أي ماء عين تبوك أي وقد قال لهم صلى الله عليه وسلم إنكم لتأتون غدا إن شاءاله تعالى عين تبوك وإنكم لن تنالوها حتى يضحا النهار فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتى وأمر مناديا ينادى بذلك فجئناها فإذا العين مثل الشراك تبض من مائها وقد سبق اليها رجلان أي من المنافقين ومسا من مائها فسبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك وفي رواية سبق اليها اربعة من المنافقين ثم إنهم غرفوا من تلك العين قليلا قليلا حتى اجتمع شيءفي شن فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ويديه ومضمض ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير وفي رواية فجعلوا فيها سهاما
____________________
(3/110)
دفعها صلى الله عليه وسلم لهم فجاشت بالماء والى ذلك أشار الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله ** فيوما بوقع النيل جئت بشربهم ** ويوما بوقع الوبل جدت بسقية **
وحينئذ أي وحين إذ ثبت أنه صلى الله عليه وسلم جعل السهام في عين تبوك يسقط الاعتراض بأن وقع النبل لم يكن بتبوك وإنما كان بالحديبية على أن الذي بالحديبية إنما هو غرز سهم واحد لا سهام فليتأمل
ثم قال صلى الله عليه وسلم لمعاذا يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هنا ملئ جنانا أي بستانين وذكر ابن عبد البر رحمه الله عن بعضهم قال أنا رايت ذلك الموضع كله حوالي تلك العين جنانا خضرة نضرة
وقبل قدومهم تبوك نام رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستيقظ حتى كادت الشمس قيد رمح أي وقد كان صلى الله عليه وسلم قال لبلال أكلأ لنا الفجر فاسند بلال ظهره الى راحلته فغلبته عيناه قال ألم أقل لك يا بلال اكلأ لنا الفجر وفي رواية أن بلالا رضي الله عنه قال لهم ناموا وأنا أوقظكم فاضطجعوا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بلال أين ما قلت قال يا رسول الله ذهب بي مثل الذي ذهب بك أي وفي لفظ أخذ بنفسي الذي اخذ بنفسك وقال صلى الله عليه وسلم للصديق إن الشيطان صار يهدئ بلالا للنوم كما يهدئ الصبي حتى ينام ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا وسأله عن سبب نومه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما أخبر به النبي الصديق فقال الصديق للنبي صلى الله عليه وسلم أشهد أنك رسول الله فانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزله غير بعيد ثم صلى وتقدم في خيبر أي في غزوة وادي القرى فإنها كانت عند منصرفه من خيبر الخلاف في أي غزوة كان وسار صلى الله عليه وسلم مسرعا بقية يومه وليلته فأصبح بتبوك
وفي منصرفه من تبوك قال ابو قتادة رضي الله عنه بينا نحن نسير مع رسول الله وهو قافل من تبوك وأنا معه إذ خفق خفقه هو على راحلته فمال على شقه فدنوت منه فدعمته فانتبه فقال من هذا فقلت ابو قتادة يا رسول الله خفت أن تسقط فدعمتك فقال حفظك الله كما حفظت رسوله ثم سار غير كثير ثم فعل مثلها
____________________
(3/111)
فدعمته فانتبه فقال يا أبا قتادة هل لك في التعريس فقلت ما شئت يا رسول الله فقال انظر من خلفك فنظرت فإذا رجلان او ثلاثة فقال ادعهم فقلت أجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءوا فعرسنا
وفي رواية قال ابو قتادة رضي الله عنه بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حتى ابهار الليل وأنا إلى جنبه فنعمس فمال عن راحلته فأتيته فدعمته من غيرأن أوقظه حتى أعتدل على راحلته ثم سار حتى تهور الليل مال عن راحلته فدعمته حتى اعتدل على راحلته ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة هي أشد من الميلتين الاولتين حتى كاد يسقط فأتيته فدعمته فرفع رأسه فقال من هذا قلت أبو قتادة قال متى كان هذا مسيرك مني قلت ما زال هذا مسيري منذ الليلة قال حفظك الله نبيه وهذا تقدم في منصرفه من خيبر ولا مانع من التعدد ويحتمل أن هذا خلط وقع من بعض الرواة فليتأمل ثم قال صلى الله عليه وسلم هل ترى من أحد يعني من الجيش قلت هذا راكب ثم قلت هذا راكب آخر حتى اجتمعنا وكنا سبعة وفي رواية خمسة برسول الله صلى الله عليه وسلم فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطريق ثم قال احفظوا علينا صلاتنا وكان أول من استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم والشمس في ظهره فقمنا فزعين ثم قال اركبوا فركبنا فسرنا حتى ارتفعت الشمس ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء فتوضأ منها وبقي فيها شيء وفي رواية جرعة من ماء ثم قال لي احفظ علينا ميضأتك وفي رواية ازدهر بها يا أبا قتادة فسيكون لها نبأ الحديث
وفي رواية ماايقظنا الاحر الشمس فقلنا إنا لله فاتنا الصبح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنغيظن الشيطان كما غاظنا فتوضأ من الإداوة التي هي الميضأة فضل فضل فقال يا أبا قتادة احتفظ بما في الإداو واحتفظ بالركوة فإن لهما شأنا فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر بعد طلوع الشمس وفي لفظ إن عمر رضي الله عنه هو الذي ايقظ النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير
أقول ظاهر هذه الرواية انهم صلوا بمحلهم ولم ينتقلوا وفي رواية قال لهم صلى الله عليه وسلم تحولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه الغفلة وفي لفظ ارتحلوا فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان
____________________
(3/112)
وفي البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال كنا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم وإنا أسرينا حتى كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة أحلى عند المسافر منها فما أيقظنا الا حر الشمس وكان صلى الله عليه وسلم إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو يستيقظ لأنا لا ندري ما يحدث له صلى الله عليه وسلم في نومه أي من الوحي فكانوا يخافون من إيقاظه قطع الوحي كما تقدم في غزوة بني المصطلق فلما استيقظ عمر رضي الله عنه ورأى ما أصاب الناس أي من فوات صلاة الصبح كبر ورفع صوته بالتكبير فما زال يكبر ويرفع صوته بالتكبير حتى استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم
وفي رواية إن الصديق رضي الله عنه استيقظ أولا ثم لا زال يسبح ويكبر حتى استيقظ عمر ولا زال يكبر حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما استيقظ شكوا اليه الذي اصابهم أي من فوات صلاة الصبح قال لا ضير ارتحلوا فارتحلوا فسار غير بعيد ثم نزل فدعا بالوضوء فتوضأ ونودي بالصلاة فصلى بالناس وهذا كما نرى فيه التصريح بأن هاتين اليقظتين وقعتا في غزوة تبوك الاولى عند ذهابهم لها والثانية عند منصرفهم منها
وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعض الصحابة وبعد أن صلينا وركبنا جعل بعضنا يهمس الى بعض ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا الذي تهمسون دوني فقلنا يا رسول الله بتفريطنا في صلاتنا قال أما لكم في أسوة حسنة ثم قال ليس في النوم تفريط إنما التفريط علم من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الاخرى
وفي فتح الباري اختلف في تعيين هذا السفر ففي مسلم أنه كان في رجوعهم من خيبر قريب من هذه القصة وفي ابي داود أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية ليلا فنزل فقال من يكلؤنا فقال بلال أنا الحديث وفي مصنف عبد الرزاق أن ذلك كان بطريق تبوك
وقد اختلف العلماء هل كان ذلك أي نومهم عن صلاة الصبح مرة أو أكثر فجزم الأصيلي رحمه الله بأن القصة واحدة
وتعقبه القاضي عياض رحمه الله بأن قصة أبي قتادة مغايرة لقصة عمران بن حصين ومما يدل على تعدد القصة اختلاف مواطنها
____________________
(3/113)
وفي الطبراني قصة شبيهة بقصة عمران وأن الذي كلأم لهم الفجر ذو مخبر قال ذو مخبر فما أيقظني الا حر الشمس فجئت أدنى القوم فايقظته وايقظ الناس بعضهم بعضا حتى اسيتقظ النبي صلى الله عليه وسلم فليتأمل وتقدم على الإمتاع قال عطاء بن يسار إن ذلك كان بتبوك وهذا لا يصح وإلا فالآثار الصحاح على خلاف مقولة مسندة ثابتة والله اعلم
واستشكل ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم نحن معاشر الانبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد قالت له أتنام قبل أن توتر قال تنام عيني ولا ينام قلبي
وأجيب عنه باجوبه حسنها أن القلب إنما يدرك الحسيات المتعلقة به كالحدث والالم لا يدرك ما يتعلق بالعين كرؤية الشمس وطلوع الفجر
ومن الأجوبة أنه صلى الله عليه وسلم كان له نومان نوم تنام فيه عينه وقلبه ونوم تنام فيه عينه فقط وينبغي أن يكون هذا الثاني اغلب أحواله وإن كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثله في ذلك ويكون قوله صلى الله عليه وسلم نحن معاشر الأنبياء تنام اعيننا ولا تنام قلوبنا أي غالبا ويكون هذا حاله دائما وأبدا إذا كان متوضئا لقولهم إنه لا ينقض وضوؤه صلى الله عليه وسلم بالنوم وفي جعله العين محلا للنوم نظر لأن العين إنما هي محل السنة ومحل النعاس الراس ومحل النوم القلب
قال الحافظ السيوطي وكون القلب محلا للنوم دون العين لا يشكل عليه قوله صلى الله عليه وسلم تنام عيناي ولا ينام قلبي لأنه من باب المشاكلة وفيه بحث هذا كلامه
واستشكل قوله صلى الله عليه وسلم ارتحلوا فان هذا منزل حضرنا فيه الشيطان وفي لفظ ارتحلوا فإن هذا واد به الشيطان بأنه يقتضى تسلط الشيطان على النبي صلى الله عليه وسلم لأن الظاهر ان وجود الشيطان هو السبب في النوم عن الصلاة
وأجيب بأنه على تسليم ذلك فإن تسليطه انما كان على من كان يحفظ الفجر بلال أو غيره ففي بعض الروايات كما تقدم إن الشيطان أتى بلالا فلم يزل يهدئه كما يهدا الصبي حتى نام
ثم لحق صلى الله عليه وسلم بالجيش وقبل لحوقه صلى الله عليه وسلم بهم قال لاصحابه ما ترون الناس يعني الجيش فعلوا قالوا الله ورسوله أعلم فقال صلى الله عليه وسلم وأطاعوا ابا بكر وعمر ورشدوا وذلك أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أرادا أن ينزلا
____________________
(3/114)
بالجيش على الماء فأبوا ذلك عليهما فنزلا على الماء فأبوا ذلك عليهما فنزلا على غير ماء بفلاة من الأرض لاماء بها عند زوال الشمس وقد كادت أعناق الخيل والركاب تقطع عطشا فدعا رسول صلى الله عليه وسلم وقال أين صاحب الميضأة قيل هو ذايار رسول الله قال جئني بميضأتك فجاءه بها وفيها شيء من ماء وفي رواية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالركوة فافرغ ما في الإدواة فيها ووضع أصابعه الشريفة عليها فنبع الماء من بين أصابعه واقبل الناس فاستقوا وفاض الماء حتى رووا ورووا خيلهم وركابهم وكان في العسكر من الخيل أثنا عشر الف فرس أي على ما تقدم ومن الإبل خمسة عشر ألف بعير والناس ثلاثون ألفا وقيل سبعون ألفا وواضح أن هذه العطشة غير المتقدمة التي دعا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل المطر
وفي كلام بعضهم انه لما حصل للقوم العطس ارسل صلى الله عليه وسلم نفرا ويقال عليا والزبير يستعرضون الطريق وأعلمهم ان عجوزا تمر بهم في محل كذا على ناقة معها سقاء ماء فقال لهم صلى الله عليه وسلم اشتروا منها بما عز وهان وائتوا بها مع الماء فلما بلغوا المكان إذا بالمرأة ومعها السقاء وفي رواية إذا نحن بامرأة سادلة رجلها بين مزادتين فسالوها في الماء فقالت أنا وأهلي احوج اليه منكم فسألوها أن تاتي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الماء فأبت وقالت من هو رسول الله لعله الساحر وفي رواية الذى يقال له الصابئ وخير الأشياء أنى لا آتيه فشدوها وثاقا وأتوا بها إلى رسول الله فقال لهم خلوا عنها وفي رواية قلنا لها أي الماء قالت أهاه أهاه لا حالكم بينكم وبين الماء مسيرة يوم وليلة ثم قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أتأذنين لنا في الماء ولتصيبن ماءك كما جئت به فقالت شأنكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة هات الميضأة فقربت اليه فحل السقاء وتفل فيه وصب في الميضأة ماء قليلا ثم وضع يده الشريفة فيه ثم قال ادنوا فخذوا فجعل الماء يفور ويزيد والناس يأخذون حتى ما تركوا معهم إناء الا ملأوه ورووا إبلهم وخيلهم وبقي في الميضاة ثلثاها والميضأة هي الإداوة لأنها يتوضأ منها وفي الدلائل للبيهقي فجعل في إناء من زادتيها ثم قال فيه ما شاء الله ان يقول زاد في رواية ثم مضمض ثم رد الماء في المزادتين وأوكأ أفواههما وأطلق العزالي ثم أمر الناس أن يملئوا آنيتهم وأسقيتهم ثم قال لها تعلمي والله ما رزأنا من مائك شيئا ولكن الله عز وجل هو الذي سقانا
____________________
(3/115)
والعزالي جمع عزلاء والعزلاء هي التي تجعل في فم القربة لينزل فيها الماء من الراوية وهي المرادة بالمزادة وهذالسياق يدل على أن هذه عطشة ثالثة لأن الثانية وضع على صلى الله عليه وسلم يده في الركوة التي صب فيها من الميضأة وهذه وضع يده في الميضأة بعد ان لم يجدوا في الميضأة شيئا
وفي رواية أن تلك المرأة أخبرته أنها مؤتمة أي لها صبيان أيتام فقال هاتوا ما عندكم فجمعنا من كسر وتمروصرتها صرة ثم قال لها اذهبي فأطمعي هذا عيالك
وفي رواية أيتامك وصارت تعجب مما رأت ولما قدمت على أهلها قالوا لها لقد احتبست علينا قالت حبسني أني رأيت عجبا من العجب ارأيتم مزادتي هاتين فوالله لقد شرب منهما قريب من سبعين بعيرا وأخذوا من القرب والمزاد والمطاهر مالا احصى ثم هما الآن أوفر منهما يومئذ فلبثت شهرا عند أهلها ثم أقبلت في ثلاثين راكبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت وأسلموا
وفي مسلم لما كان يوم غزوة تبوك اصاب الناس مجاعة بحيث صارت تمص التمرة الواحدة جماعة يتناوبنها فقالوا يا رسول الله لو أذنت لنا فننحر نواضحنا فأكلنا وادهنا فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله فيها بالبركة لعل الله أن فعلت فتى الظهر ولكن أدعهم بفضل ازوادهم وادع الله لهم فيها بالبركة لعل الله ان يجعلها في ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فدعا بنطع فبسطه ثم دعاهم بفضل أزوادهم فجعل الرجل يأتي بكف ذره ويجئ الآخر بكف من تمر ويجئ الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير فدعا رسول الله بالبركة ثم قال لهم خذوا في أوعيتكم فأخذوا حتى ما تركوا في العسكر وعاء الا ملئوه وأكلوا حتى شعبوا وفضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة وفي رواية الا وقاه الله النار وتقدم نظير ذلك في الرجوع من غزة الحديبية أي ولا مانع من التعدد أو هو من خلط بعض الرواة ولعل هذا كان بعد أن ذبح لهم طلحة بن عبيد الله جزورا فأطعمهم وأسقاهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت طلحة الفياض وسماه يوم أحد طلحة الخير ويوم حنين طلحة الجود لكثرة إنفاقة على العسكر رضي الله عنهم
وعن بعض الصحابة رضي الله عنهم قال كنت في غزوة تبوك على نحي السمن
____________________
(3/116)
فنظرت الى النحي وقد قل مافيه وهيأت النبي صلى الله عليه وسلم طعاما ووضعت النحي في الشمس ونمت فانتبهت بخرير النحي فقمت فأخذت رأسه بيدي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى لو تركته لسال الوادي سمنا
وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك فقال ليلة لبلال هل من عشاء فقال والذي بعثك بالحق لقد نفضنا جربنا فقال انظر عسى أن تجد شيئا فأخذ الجرب ينفضها جرابا جرابا فتقع التمرة والتمرتان حتى رايت في يده صلى الله عليه وسلم سبع تمرات ثم دعا بصحفة فوضع التمر فيها ثم وضع يده الشريفة على التمرات وقال كلوا بسم الله فأكلنا ثلاثة أنفس وأحصيت أربعا وخمسين تمرة أعدها عدا ونواها في يدي الأخرى وصاحباي يصنعان كذلك فشبعنا ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هي فقال يا بلال ارفعها فإنه لا يأكل منها أحد الا نهل شبعا فلما كان من الغد دعا صلى الله عليه وسلم بلالا بالتمرات فوضع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة عليهن ثم قال كلوا بسم الله فأكلنا حتى شبعنا وإنا لعشرة ثم رفعنا أيدينا وإذا التمرات كما هي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا أن استحي من ربي لأكلنا من هذه التمرات حتى نرد الى المدينة من آخرنا فأعطاهن غلاما فولى وهو يلوكهن
وأتاه صلى الله عليه وسلم وهو بتبوك يحنة بضم المثناة تحت وفتح الحاء المهملة ثم نون مشددة مفتوحة ثم تاء التأنيث ابن رؤبة بالموحدة صاحب أيلة وصحبته اهل جرباء تأنيث أجرب يمد ويقصر قرية بالشام واهل أذرح بالذال المعجمة والراء المهملة المضمومة والحاء المهملة مدينة تلقاء السراة وأهل ميناء وأهدي يحنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء فكساه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردا فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على إعطاء الجزية أي بعد أن عرض عليه الإسلام فلم يسلم
وكتب له صلى الله عليه وسلم ولأهل أيلة كتابا صورته بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله لحينه بن رؤية وأهل آيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله ومحمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام واهل اليمن واهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحوز ماله دون نفسه وإنه لطيبة لمن أخذه من الناس وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من بر او بحر
____________________
(3/117)
وكتب صلى الله عليه وسلم لأهل أذرح وجرباء ما صورته بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل أذرح وجرباء أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة والله كفيل بالنصح والإحسان الى المسلمين وصالح صلى الله عليه وسلم أهل ميناء على ربع ثمارهم
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال رأيت ونحن بتبوك شعلة من نار في ناحية العسكر أي ضوء شمعة كما صرح به الجلال السيوطي رحمه الله حيث أجاب من سأله هل الشمع كان موجودا قبل البعثة وهل وقد عنده صلى الله عليه وسلم بأنه كان موجودا قبل البعثة فقد ذكر العسكري رحمه الله في الأوائل أن أول من أوقده جزيمة الأبرش أي وقد تقدم وهو قبل البعثة بدهر وورد في حديث أنه أوقد للنبي صلى الله عليه وسلم عند دفنه عبد الله ذا البجادين قال وقد ألفت في المسألة تأليفا سميته مسامرة السموع في ضوء الشموع قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فاتبعتها أنظر اليها فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات وإذا هم قد حفروا له ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته وأبو بكر وعمر يدليانه وهو يقول أدليا الى أخاكما فأدلياه اليه فلما هيأه لشقه قال اللهم قد أمسيت راضيا عنه فارض عنه يقول ابن مسعود يا ليتني كنت صاحب الحفرة أي والبجاد بموحدة ككتاب الكساء المخطط الغليظ لأنه لم يكن لعبد الله المذكور الا بجاد واحد فشقه نصفين فاتزر بواحد وارتدى بالآخر وقدم المدينة وأسلم وقرأ قرآنا كثيرا وكان اسمه عبد العزي فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الى تبوك خرج معه وقال يا رسول الله ادع الله لي بالشهادة فقال صلى الله عليه وسلم أئتني بلحاء شجرة أي بقشرها فأتاه بذلك قربطه على عضده وقال اللهم حرم دمه على الكفار قال يا رسول الله ليس هذا ما أردت قال إنك إذا أخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد فأخذته الحمى بعد الإقامة بتبوك أياما ومات بها أي وهذا هو المشهور
وروى عن الادرع الأسلمى وكان في حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جئت ليلة احرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رجل ميت فقيل هذا عبد الله ذو البجادين توفي بالمدينة وفرغوا من جهازه وحملوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(3/118)
ارفقوا به رفق الله بكم فإنه كان يحب الله ورسوله قال ابن الأثير وهذا حدث غريب لايعرف الا من هذا الوجه وتقدم
وعن الحافظ السيوطي رحمه الله لما ذكر انه أوقد للنبي صلى الله عليه وسلم الشمع عند دفنه عبد الله ذا البجادين قال وقد دل ذلك على إباحة استعماله أي الشمع ولا يعد استعماله إسرافا مع قيام غيره من الأدهان مقامه
وأقام صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة وفي سيرة الحافظ الدمياطي عشرين ليلة يصلي ولم يجاوز تبوك ويحتاج أئمتنا الى الجواب عن ذلك على تقدير صحته
قال وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في مجاوزتها فقال له عمر رضي الله تعالى عنه إن كنت أمرت بالسير فسر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أمرت بالسير لم أستشركم فيه فقال يا رسول الله إن للروم جموعا كثيرة وليس بها أحد من أهل الاسلام وقد دنونا وقد أفزعهم دنوك فلو رجعنا هذه السنة حتى نرى أو يحدث الله أمرا هذا تصريح بأن تبوك لم يقع بها مقاتلة ولا حصل فيها غنيمة وبه يرد ما ذكره الزمخشري في فضائل العشرة أنه صلى الله عليه وسلم جلس في المسجد يقسم غنائم تبوك فدفع لكل واحد سهما ودفع لعلي كرم الله وجهه سهمين فقام زائدة بن الأكوع وقال يا رسول الله أوحي نزل من السماء أم أمر من نفسك فقال صلى الله عليه وسلم أنشدكم الله هل رأيتم في مينمتكم صاحب الفرس الأغر المحجل والعمامة الخضراء بها ذؤابتان مرخاتين على كتفيه بيده حربة قد حمل بها على الميمنة فأزالها قالوا نعم قال هو جبريل عليه الصلاة والسلام وإنه امرني أن ادفع سهمه لعلي فقال زائدة حبذا سهم مسهم وخطب صلى الله عليه وسلم خطبة فيها أما بعد فإن أحسن الحديث كتاب الله وخير الغنى غنى النفس وخير الزاد التقوى ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل والنساء حبالة الشيطان والشباب شعبة من الجنون والسعيد من وعظ بغيره ومن يغفر غفر له ومن يعف يعف الله عنه ومن يصبر على الرزية يعوضه الله أستغفر الله لي ولكم
وأهدي له صلى الله عليه وسلم بعض أهل الكتاب جبنة فدعا بالسكين فسمى الله وقطع وأكل ثم انصرف صلى الله عليه وسلم قافلا الى المدينة وكان في الطريق ماء يخرج من وشل قليل جدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سبقنا الى ذلك الماء فلا يسقين منه شيئا حتى نأتيه فسبق اليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه فلما أتاه رسول الله صلى الله
____________________
(3/119)
عليه وسلم وقف عليه فلم يجد فيه شيئا فقال من سقبنا الى هذا الماء فقيل له فلان وفلان وفلان فقال أو لم أنههم أن يستقوا منه شيئا حتى آتيه ثم لعنهم ودعا عليهم ثم نزل صلى الله عليه وسلم فوضع يده تحت الوشل فصار يصب في يده ما شاء الله أن يصب ثم نضحه ومسح بيده ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما شاء أن يدعو به فانخرق من الماء وكان له حس كحس الصواعق فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن بقيتم أو بقي منكم احد لتسمعن بهذا الوادي وقد اخصب ما بين يديه وما خلفه أي وهذا خلاف عين تبوك الذي تقدم له صلى الله عليه وسلم فيها ما يشبه هذا وقوله يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة ان ترى ههنا ملئ جنانا إلى آخره لأن تلك العين كانت بتبوك وهذا عند منصرفه من تبوك
قال واجتمع رأي من كان معه صلى الله عليه وسلم من المنافقين وهم اثنا عشر رجلا وقيل اربعة عشر وقيل خمسة عشر رجلا على أن ينكثوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة التي بين تبوك والمدينة فقالوا إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي فأخبر الله تعالى رسوله بذلك فلما وصل الجيش العقبة نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يسلك العقبة فلا يسلكها أحد واسلكوا بطن الوادي فإنه أسهل لك وأوسع فسلك الناس بطن الوادي وسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة فلما سمعوا بذلك استعدوا وتلثموا وسلكوا العقبة وأمر صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه ان يأخذ بزمام الناقة يقودها وأمر صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما أن يسوق من خلفه
وفي الدلائل عن حذيفة قال كنت ليلة العقبة آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به وعمار بن ياسر يسوقه أو أنا أسوقه وعمار يقوده أي يتناوبان ذلك فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في العقبة إذ سمع حس القوم قد غشوه فنفرت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط بعض متاعه فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر حذيفة أن يردهم فرجع حذيفة اليهم وقد رأى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه محجن فجعل يضرب به وجوه رواحلهم وقال اليكم اليكم يا اعداء الله فإذه هو بقوم ملثمين وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم صرخ بهم فولوا مدبرين فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلع على مكرهم به فانحطوا من العقبة مسرعين الى بطن
____________________
(3/120)
الوادي واختلطوا بالناس فرجع حذيفة يضرب الناقة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل عرفت أحدا من الركب الذين رددتهم قال لا كان القوم ملثمين والليلة مظلمة
وعن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول لما سقط متاع النبي صلى الله عليه وسلم وأردت جمعة نور لي في اصابعي الخمس فأضاءت حتى جمعت ما سقط حتى ما بقي من المناع شيء وفي لفظ أن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال لا قال إنهم مكروا ليسيروا معي في العقبة فيزحموني فيطرحوني منها ان الله اخبرني بهم وبمكرهم وسأخبركما بهم واكتماهم فلما اصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إليه اسيد بن حضير فقال يا رسول الله ما منعك البارحة من سلوك الوادي فقد كان أسهل من سلوك العقبة فقال اتدري ما أراد المنافقون وذكر له القصة فقال يا رسول الله قد نزل الناس واجتمعوا فمر كل بطن أن يقتل الرجل الذي هم بهذا فإن أحببت بين بأسمائهم والذي بعثك بالحق لا ابرح حتى آتيك برءوسهم فقال صلى الله عليه وسلم إني أكره أن يقول الناس إن محمدا قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله تعالى بهم اقبل عليهم يقتلهم فقال يا رسول الله هؤلاء ليسوا بأصحاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أليس يظهرون الشهادة ثم جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهم بما قالوه وما أجمعوا عليه فحلفوا بالله ما قالوا ولا أرادوا الذي ذكر فأنزل الله تعالى { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر } الآية وأنزل الله تعالى { وهموا بما لم ينالوا } ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم ارمهم بالدبيلة هي سراج من نار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم انتهى أي وفي لفظ شهاب من نار يقع على نياط قلب احدهم فيهلكه
وفي الإمتاع أن النبي صلى الله عليه وسلم هو بتبوك الى نخلة فجاء شخص فمر بينه وبين تلك النخلة بنفسه وفي رواية وهو على حمار فدعا عليه صلى الله عليه وسلم فقال قطع صلاتنا قطع الله أثره فصار مقعدا وكان يقال لحذيفة رضي الله تعالى عنه صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حذيفة نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن راحلته فأوحى اليه وراحلته باركة فقامت تجر زمامها فلقيتها فأخذت بزمامها
____________________
(3/121)
وجئت الى قرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنختها ثم جلست عندها حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بها فقال من هذا قلت حذيفة فقال النبي صلى الله عليه وسلم إني مسر اليك سرا فلا تذكرنه إني نهيت أن أصلي على فلان وفلان وعد جماعة من المنافقين فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من خلافته إذا مات الرجل ممن يظن به أنه من أولئك الرهط أخذ بيد حذيفة رضى الله تعالى عنه فقاده الى الصلاة عليه فإن مشى معه حذيفة صلى عليه عمر رضي الله تعالى عنه وإن انتزع يده من يده ترك الصلاة عليه
وقال صلى الله عليه وسلم للمسلمين عند انصرافه إن بالمدينة لاقواما ما سرتهم مسيرا ولا قطعتم واديا الا كانوا معكم قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة قال نعم حبسهم العذر ثم اقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان محل بينه وبين المدينة ساعة من نهار أي وقال البكري أظن أن الراء سقطت من بين الهمزة والواو أي اروان منسوب الى البئر المشهورة
وحين ننزل صلى الله عليه وسلم أتاه خبر مسجد الضرار فأنزل الله تعالى { والذين اتخذوا مسجدا ضرارا } الآية أي لإضرار اهل قباء أي فإن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء حسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف وقالوا نصلي في مربط حمار لا لعمر الله أي لأنه كان لا مرأة كانت تربط فيه حمارها ولكننا نبني مسجدا ونرسل إلى رسول الله فيه ويصلى فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام فيثبت لنا الفضل والزيادة على إخواننا وكان المسلمون في تلك الناحية كلهم يصلى في مسجد قباء جماعة فلما بنى هذا المسجد فصرف عن مسجد قباء جماعة وصلوا بذلك المسجد فكان به تفريق للمؤمنين فكانوا يجتمعون فيه ويعيبون النبي صلى الله عليه وسلم ويستهزئون به أي وقال إن أبا عامر الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم فاسقا هو الآمر لهم ببنائه فقال لهم ابنوا لي مسجدا واستمدوا ما استطعتم من قوة سلاح فإني ذاهب الى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه من المدينة وانهم لما فرغوا من بنائهم ارسلوا الى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم ويصلي فيه كما صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء فهم أن يأتيهم فأنزل الله تعالى الآية
وفي رواية أتوه صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز الى تبوك فقالوا يا رسول الله قد
____________________
(3/122)
بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أنا تأتينا فتصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة قال إني على جناح سفر وحال شغل ولو قدمنا إن شاء الله تعالى لأتيناكم فصلينا لكم فيه فلما قفل من السفر وسألوه إتيان المسجد جاءه الخبر من السماء فأمر جماعة منهم وحشى قاتل حمزة رضي الله تعالى عنه وقال لهم انطلقوا الى هذا المسجد الظالم أهله فاحرقوه واهدموه على اصحابه ففعل به ذلك قال وكان ذلك بين المغرب والعشاء ووصل الهدم الى الأرض وأعطاه صلى الله عليه وسلم لثابت بن أرقم رضي الله تعالى عنه يجعله بيت فلم يولد في ذلك البيت مولود قط وحفر فيه بقعة فخرج منها الدخان ولعل هذا أي جعله بيتا كان بعد أن أمر صلى الله عليه وسلم أن يتخذه محلا لإلقاء الكناسة والجيفة
وفي الكشاف أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرارا فكلم بنو عمرو بن عوف اصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في خلافته أن يأذن لمجمع بن حارثة أن يؤمهم في مسجدهم فقال لا ولانعمة أليس بامام مسجد الضرار فقال يا أمير المؤمنين لا تعجل على فو الله لقد صلت بهم والله يعلم إني لا أعلم ما أضمروا فيه ولو علمت ما صليت معهم فيه وكنت غلاما قارئا للقرآن وكانوا شيوخا لا يقرءون من القرآن شيئا فعذره وصدقه وأمره بالصلاة بهم
ولما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة قال هذه طابة أسكننيها ربي تنفى خبث أهلها كما ينفي الكير خبث الحديد
ولما رأى صلى الله عليه وسلم جبل أحد قال هذا أحد جبل يحبنا ونحبه وتقدم ما في ذلك في غزوة أحد وعن عائشة رضي الله تعالى عنها ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاه النساء والصبيان يقلن ** طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع ** ** وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع **
قال البيهقي رحمه الله وهذا يذكره علماؤنا عند مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة من مكة لا أنه عند مقدمة المدينة من تبوك هذا كلامه ولا مانع من تعدد ذلك
ولما دنا صلى الله عليه وسلم من المدينة تلقاه عامة الذين تخلفوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه لا تكلموا رجلا منهم ولا تجالسوهم حتى آذن لكم فأعرض
____________________
(3/123)
عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إن الرجل ليعرض عن ابيه وأخيه أنتهى
أي وعن فضالة بن عبيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غزا عزوة تبوك جهد الظهر جهدا شديد حتى صارا يسوقونه فشكوا اليه صلى الله عليه وسلم ذلك ورآهم يسوقونه فوقف صلى الله عليه وسلم في مضيق والناس فيه فنفخ في الظهر وقال اللهم احمل عليها في سبيلها فانك تحمل على القوى والضعيف والرطب واليابس في البر والبحر فزال ما بها من الإعياء وما دخلنا الا وهي تنازعنا ازمتها
وجاء أن حية عارضتهم في الطريق عظيمة الخلقة فانحاز الناس عنها فأقبلت حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون اليها ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تدرون من هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا الى يستمعون القرآن أي بنخلة عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من الطائف وتقدم الكلام عليه فرأى عليه من الحق حين ألم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببلده أن يسلم عليه وها هو يقرؤكم السلام فقال الناس وعليه السلام ورحمة الله
وقد كان تخلف عنه صلى الله عليه وسلم رهط من المنافقين وكانوا بضعة وثمانين رجلا وتخلف عنه ايضا كعب بن مالك وكان من الخزرج مرارة بن الربيع وهلال بن أمية وكانا من الأوس فأما المنافقون فجعلوا يحلفون ويعتذرون فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علانيتهم ووكل سرائرهم الى الله واستغفر لهم وأما الثلاثة فعن كعب بن مالك الخزرجي رضي الله تعالى عنه أنه قال لما جئته صلى الله عليه وسلم وسلمت عليه تبسم المغضب وقال لي تعال فجئت حتى جلست بين يديه فقال ما خلفك فصدقته وقلت والله ما كان لي من عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك وفي رواية قلت يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرايت أن سأخرج من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقدعلمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله ان يسخط على فيه ولئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخط علي فيه ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عفو الله ما كان لي من عذر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله فيك وقال الرجلان
____________________
(3/124)
الآخران وهما مرارة بن الربيع وهلال بن أمية وكانا ممن شهد بدرا وهما من الأوس مثل قول كعب فقال لهما صلى الله عليه وسلم مثل ما قال لكعب ونهى صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامهم فاجتنبهم الناس فاما الرجلان فمكثا في بيوتهما يبكيان وأما كعب فكان يشهد الصلاة مع المسلمين ويطوف بالأسواق فلا يكلمه احد منهم قال ولما طال ذلك على من جفوة الناس تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس الي فسلمت عليه والله مارد علي السلام فقلت يا أبا قتادة أنشدك الله هل تعلمني أحب الله ورسوله فسكت فعدت اليه فنشدته فسكت فعدت اليه فنشدته فقال الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار قال بينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدلني على كعب بن مالك فطفق أي جعل الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع الى كتابا من ملك غسان أي وهو الحارث بن ابي شمر أو جبلة بن الأيهم وكان الكتاب ملفوفا في قطعة من الحرير فإذا فيه أما بعد فانه بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك فقلت لما قراته وهذا أيضا من البلاء فيممت أي قصدت به التنور فسجرته بها أي القيته فيها أي والأنباط قوم يسكنون البطائح بين العراقين قال حتى إذا مضت اربعون ليلة جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك فقلت أطقلها أم ماذا قال لا بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل صلى الله عليه وسلم الى صاحبي أي وهما هلال بن أمية ومرارة بن الربيع بمثل ذلك فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذ الأمر فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه فقال صلى الله عليه وسلم لا ولكن لا يقربك قالت والله إنه ما به حركة الى شيء والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما ما كان الى يومه هذا قال كعب فقال بعض أهلي قال في النور الظاهر أن القائل له امرأة لأن النساء لم يدخلن في النهي لأن في الحديث ونهى المسلمين وهذه الخطاب لا يدخل فيه النساء فدل على ان المراد الرجال قالت لو أستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه فقلت لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدريني ما يقول لي رسول الله صلى الله
____________________
(3/125)
عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب ثم مضى بعد ذلك عشر ليال حتى كملت خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا فلما كان صلاة الفجر صبح تلك الليلة سمعت صوتا فوق جبل سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آدن أي أعم بتوبة الله علينا فلما جاءني الرجل الذي سمعت صوته يبشرني أي وهو حمزة بن عمرو الأوسي نزعت له ثونبي فكسوته اياهما ببشراه والله لا أملك غيهما يومئذ واستعرت أي من أبي قتادة رضي الله عنه ثوبين فلبستهما وانطلقت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجا فوجا أي جماعة جماعة يهنئوني بالتوبة يقولون ليهنئك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام الي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهناني والله ما قام الي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان آخى بينهما حين قدم المدينة قال كعب فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور وكان صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر فلما جلست بين يديه صلى الله عليه وسلم قال أبشر بخير يوم يمر عليك منذ ولدتك أمك قلت أمن عندك يا رسول الله أم عند الله عز وجل قال لا بل من عند الله فقلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة الى الله وإلى رسوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك أي وكان المبشر لهلال بن أمية أسعد بن أسد وكان المبشر لمرارة بن الربيع سلطان بن سلامة أو سلامة بن وقش
أي وفي البخاري عن كعب رضي الله عنه فأنزل الله توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة وكانت أم سلمة رضي الله عنها محسنة في شأني معينة في أمري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أم سلمة تيب على كعب قالت أفلا أرسل اليه فأبشره قال إذن يحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليل حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر أعلم بتوبة الله علينا وانزل الله تعالى قد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة الى قوله وكونوا مع الصادقين وقال في حق من اعتذر له صلى الله عليه وسلم { سيحلفون بالله لكم } الى قوله { فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين }
____________________
(3/126)
واستشكل نزول الوحي بالقرآن في بيت ام سلمة بقوله صلى الله عليه وسلم في حق عائشة رضي الله عنها ما نزل على الوحي في فراش امرأة غيرها وأجاب بعضهم بأنه يجوز أن يكون ما تقدم في حق عائشة كان قبل هذه القصة أو أن الذي خصت به عائشة رضي الله عنها نزول الوحي في خصوص الفراش لا في البيت
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } الآية قال كانوا عشرة أبو لبابة وأصحابه تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فلما رجع صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهما أنفسهم بسواري المسجد منهم أبو لبابة فلما مر بهم رسول الله قال من هؤلاء قالوا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك حتى تطلقهم وتغذرهم قال وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله هو الذي يطلقهم رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين فلما بلغهم ذلك قالوا ونحن لا نطلق انفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا فأنزل الله تعالى { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } الآية فعند ذلك أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرهم فجاءوا بأموالهم وقالوا يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا فقال صلى الله عليه وسلم ما أمرت أن آخذ أموالكم فأنزل الله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } إلى قوله { وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم } وهم الذين لم يربطوا أنفسهم بالسواري وتقدم أن أبا لبابة رضي الله عنه الله عنه ربط نفسه ببعض سواري المسجد في قصة بني قريظة وعلى هذا فقد تكرر منه ربط نفسه وقد ذكره ابن اسحاق فليتأمل ذلك
ولما قدم صلى الله عليه وسلم من تبوك وجد عويمرا العجلاني رضي الله عنه امرأته حبلى أي وهي خولة بنت عمه قيس فلا عن بينهما صلى الله عليه وسلم أي في المسجد بعد العصر وكان قد قذفها بشريك بن سحماء ابن عمه وقال وجدته على بطنها وإني ما قربتها منذ اربعة اشهر فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عويرما وقال له اتق الله في زوجتك وابنة عمك فلا تقذفها بالبهتان فقال يا رسول الله أقسم بالله إني رايت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر ودعا صلى الله عليه وسلم بالمرأة التي هي خولة وقال لها اتقي الله ولا تخبريني إلا بما صنعت قالت يا رسول الله إن عويمرا رجل غيور وإنه يأتي وشريكا يطيل السهر ويتحدث حملته الغيرة على أن قال ما قال فدعا شريكا
____________________
(3/127)
وقال له ما تقول فقال مثل قول المرأة فأنزل الله تعالى { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } الآية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي بالصلاة جماعة فلما صلى العصر أى وقد نودى بذلك واجتمع الناس قال لعويمر قم فقام وقال أشهد الله إن خولة لزاتنية وإني لمن الصادقين ثم قال في الثانية أشهد بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين ثم قال في الثالثة أشهد بالله إنها حبلى من غيرى وإني لمن الصادقين ثم قال في الرابعة أشهد بالله إني ما قربتها منذ أربعة اشهر وإني لمن الصادقين ثم قال في الخامسة لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين ثم أمره صلى الله عليه وسلم بالقعود وقال لخولة قومي فقامت فقالت أشهد الله ما أنا زانية وإن عويمرا لمن الكاذبين ثم قالت في الثانية أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين ثم قالت في الثالثة أشهد بالله إني لحبلى منه وإنه لمن الكاذبين ثم قالت في الرابعة أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإنه لمن الكاذبين ثم قالت في الخامسة إن غضب الله على خولة تعني نفسها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما أي قال له لا سبيل لك عليها وهو دليل لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه القائل إن الفرقة بين الزوجين تحصل بنفس التلاعن
وما جاء في بعض الروايات أنه طلقها ثلاثا قبل أن يأمره صلى الله عليه وسلم أي بعدم الاجتماع بها فهو محمول على أنه ظن أن التلاعن لا يحرمها عليه فاراد تحريمها بالطلاق فقال هي طالق ثلاثا ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم عقب ذلك لا سبيل لك عليها أي لا ملك لك عليها فلا يقع طلاقك ثم قال له صلى الله عليه وسلم إن جاء الولد على صفة كذا فعويمر صادق وإن جاء على صفة كذا فعويمر كاذب فجاء على الصفة التي تصدق عويمرا فكان الولد ينسب الى أمه
وفي البخاري أن عويمرا أتى عاصم بن عدي وكان سيد بني عجلان فقال كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ام كيف يصنع سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى عاصم النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فكره النبي صلى الله عليه وسلم تلك المسألة وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فساله عويمر فقال له عاصم لم تأتني بخير قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة وعابها أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكره المسألة التي لا يحتاج
____________________
(3/128)
إليها أي التي لم يكن وقعت لا سيما إن كان فيها هتك ستر مسلم او مسلمة قال عويمر رضي الله عنه لم يكن وقع له مثل ذلك حينئذ ثم اتفق له وقوع ذلك بعد فقال عويمر والله لا أنتهى حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فجاءه عويمر وهو وسط الناس فقال يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا إن تكلم جلدتموه وإن قتله قتلتموه أو سكت سكت على غيظ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم افتح وجعل يدعو فنزلت آية اللعان وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم لعويمر قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا فاذهب فائت بها أي وذلك بعد أن ذكر له عويمر قصته
وفي رواية وقد قضى فيك وفي امرأتك فتلاعنا وفيه أن هلال بن أمية أحد المتخلفين عن تبوك قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء أو كانت حاملا فقال النبي صلى الله عليه وسلم البينة زاد في رواية أوحد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا يتكلف يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول وإلا فحد في ظهرك فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل عليه السلام أي بعد أن قال صلى الله عليه وسلم اللهم افتح أي بين لنا الحكم فأنزل الله تعالى والذين يرمون أزواجهم فأرسل صلى الله عليه وسلم الى المرأة فجاءت وتلاعنا وعند الخامسة تلكأت ونكصت حتى ظن أنها ترجع أي لأنه صلى الله عليه وسلم قال لها إنها أي اللعنة موجبة أي للعذاب في الآخرة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ثم قالت جاءت به كذا فهو لهلال وإن جاءت به كذا فهو لشريك فجاءت به على الوصف الذي ذكرأنه يكون لشريك فقال صلى الله عليه وسلم لولا ما سبق من كتاب الله تعالى لكان لي ولها شأن
وجمهور العلماء على أن سبب نزول آية اللعان قصة هلال بن امية وأنه أول لعان وقع في الإسلام
وذهب جمع الى أن سبب نزولها قصة عويمر العجلاني لقوله صلى الله عليه وسلم قد
____________________
(3/129)
أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا وأجيب بأن معناه لما نزل في قصة هلال لأن ذلك عام في جميع الناس
قال الإمام النووي رحمه الله ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعا فلعلهما سألا في وقتين متقاربين أي وقال صلى الله عليه وسلم في كل اللهم افتح فنزلت هذه الآية فيهما وسبق هلال باللعان فكان أول من لاعن
وفي مسلم أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم لا قال سعد بلى والذي اكرمك بالحق وفي رواية كلاوالذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله باليف وفي لفظ لضربته بالسيف من غير صفح أي بل أضربه بحده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
اسمعوا الى ما يقول سيدكم وليس ذلك من سعد رضي الله عنه ردا عليه صلى الله عليه وسلم وانما هو إخبار عن حاله ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم إنه لغيور وأنا اغير منه والله أغير مني فاخبر صلى الله عليه وسلم عن سعد بأنه غيور وأنه صلى الله عليه وسلم أغير منه وأن الله غير منه صلى الله عليه وسلم ومن ثم جاء في الحديث لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحب اليه العذر من الله ومن أجل ذلك أرسل مبشرين ومنذرين ولا احب اليه المدح من الله ومن أجل ذلك وعد الجنة ليكثر سؤال العباد إياها والثناء منهم عليه
وفي تفسير الفخر الرازي رحمه الله لا شخص أغير من الله وبه استدل على جواز إطلاق الشخص على الله تعالى
وفي الحلية لأبي نعيم رحمه الله عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر أرايت لو وجدت مع أم رومان رجلا ما كنت صانعا قال كنت فاعلا به شرا ثم قال صلى الله عليه وسلم يا عمر أرايت لو وجدت رجلا أي مع زوجتك ما كنت صانعا قال كنت والله قاتله فقرأ صلى الله عليه وسلم { والذين يرمون أزواجهم } الآية
وفي الأم لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه عن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه أن رجلا من أهل الشام وجد مع امرأته رجلا فقتله فرفع الامر الى معاوية رضي الله تعالى عنه فأشكل على معاوية القضاء فها فكتب معاوية الى أبي موسى الأشعري رضي الله
____________________
(3/130)
تعالى عنه أن يسال عن ذلك علي بن ابي طالب كرم الله وجهه فاستخبر علي أبا موسى عن القصة فأخبره أبو موسى ت أن معاوية كتب إليه في ذلك فقال علي كرم الله وجهه أنا أبو الحسن إن لم يأت باربعة شهداء قتلناه فليتأمل
وفي الخصائص الكبرى أن في غزوة تبوك اجتمع صلى الله عليه وسلم بإلياس فعن أنس رضي الله تعالى عنه سمعتا صوتا يقول اللهم اجعلني من أمة محمد الله عليه وسلم المرحومة المغفور لها المستجاب لها فقال النبي صل يا أنس انظر ما هذا الصوت قال أنس رضي الله تعالى عنه فدخلت الجبل فإذا رجل عليه ثياب بيض أبيض الراس واللحية طوله أكثر من ثلثمائة ذراع فلما رآني قال أنت خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نعم قال ارجع اليه واقرأه السلام وقل له أخوك الياس يريد أن يلقاك فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فجاء صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا معه حتى إذا كنت منه قريبا تقدم النبي صلى الله عليه وسلم وتأخرت أنا فتحدثا طويلا فنزل عليما من السماء شيء شبه السفرة ودعاني فأكلت معهما قليلا فإذا فيها كمأة ورمان وحوت وتمر وكرفس فلما أكلت قمت فتنحيت ثم جاءت سحابة فاحتملته وأنا أنظر إلى بياض ثوبه فيها قال الحافظ ابن كثير هذا حدث موضوع مخالف للآحاديث الصحيحين وهذا مما يستدرك به على الحاكم الصحاح من وجوه وأطال في بيان ذلك والعجيب من الحاكم كيف يستدركه على الصحيحين وهذا مما يستدرك به على الحاكم
وفي النور لم يجئ في حديث صحيح اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالياس وفي الجامع الصغير إلياس أخو الخضر وفي تفسير البغوي أربعة من الأنبياء احياء الى يوم البعث أثنان في الأرض وهما الخضر وإلياس أي وإلياس في البر والخضر في البحر يجتمعان كل ليلة على ردم ذي القرنين يحرسانه وأكلهما الكرفس والكمأة واثنان في السماء إدريس وعيسى عليهما الصلاة السلام
وعن ابن اسحق الخضر من ولد فارس وإلياس من بني اسرائيل أي وقد يقال لا ينافي ذلك ما تقدم أنهما أخوان لجواز أن يكونا أخوين لأم
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن اليه النفس أن الخضر عليه الصلاة السلام اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام ولو
____________________
(3/131)
كان حيا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أشرف أحواله اجتماعه به صلى الله عليه وسلم
وفي الخصائص الكبرى عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال خرجت ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم أحمل الطهور فسمع قائلا يقول اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أنس ضع الطهور وأت هذا فقل له ادع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعينه على ما بعثه به وادع لأمته أن يأخذوا ما أتاهم به من الحق فأتيته فقلت له فقال مرحبا برسول الله صلى الله عليه وسلم أنا كنت أحق أن آتيه اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له أخوك الخضر يقرأ عليك السلام ويقول لك إن الله فضلك على النبيين كما فضل شهر رمضان على الشهور وفضل أمتك على الأمم كما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام فلما وليت سمعته يقول اللهم اجلعني من هذه الأمة المرحومة المتاب عليها قال بعضهم وهذا حديث واه منكر الإسناد سقيم المتن ولم يراسل الخضر عليه الصلاة والسلام نبينا صلى الله عليه وسلم لم يلقه
قال السيوطي في اللآلئ قلت قد أخرج هذا الحديث الطبراني في الأوسط وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الإصابة قد جاء من وجهين وفي الخصائص الصغرى ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه جمعت له الشريعة والحقيقة ولم يكن للأنبياء عليهم الصلاة و السلام إلا أحدهما بدليل قصة موسى مع الخضر عليهما الصلاة و السلام والمراد بالشريعة الحكم بالظاهر وبالحقيقة الحكم بالباطن
وقد نص العلماء على أن غالب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما بعثوا ليحكموا بالظاهر دون ما اطلعوا عليه من بواطن الأمور وحقائقها ومن ثم أنكر موسى عليه الصلاة والسلام على الخضر صلى الله عليه وسلم في قتله الغلام بقوله { لقد جئت شيئا نكرا } فقال له الخضر عليه الصلاة والسلام { وما فعلته عن أمري } ومن ثم قال الخضر لموسى عليهما الصلاة والسلام إني على علم من عند الله لا ينبغي لك أن تعلمه أي تعمل به لأنك لست مأمورا بالعمل به وأنت على علم من عند الله لا ينبغي لي أن أعلمه أي لا ينبغي لي أن اعمل به لاني لست مأمورا بالعمل به
وفي تفسير أبي حيان والجمهور على أن الخضر نبي وكان علمه معرفة بواطن أمور
____________________
(3/132)
أوحيت إليه أي ليعمل بها وعلم موسى عليه الصلاة والسلام الحكم بالظاهر أي دون بالحكم بالباطن
ونبينا صلى الله عليه وسلم حكم بالظاهر في أغلب أحواله وحكم بالباطن أي في بعضها بدليل قتله صلى الله عليه وسلم للسارق وللمصلي لما اطلع على باطن أمرهما وعلم منها ما يوجب القتل
وقد ذكر بعض السلف رحمه الله أن الخضر إلى الآن ينفذ الحكم بالحقيقة وأن الذين يموتون فجأة هو الذي يقتلهم فإن صح ذلك فهو في هذه الأمة بطريق النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام صار من أتباعه صلى الله عليه وسلم كما أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما ينزل يحكم بشريعته عنه لأنه من أتباعه
وفيه أن عيسى عليه الصلاة والسلام اجتمع به صلى الله عليه وسلم اجتماعا متعارفا ببيت المقدس فهو صحابي وجاء في حديث مطعون فيه أي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الخضر وإلياس عليهما الصلاة والسلام يجتمعان في كل عام أي في الموسم ويحلق كل منهما رأس صاحبه ويفترقان عن هذه الكلمات بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله ما شاء الله ما يكون من نعمة فمن الله ما شاء الله لاحول ولا قوة الا بالله قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من قالها حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات عوفي من السرق والحرق والغرق ومن السلطان ومن الشيطان ومن الحية والعقرب
وعن علي كرم الله وجهه مسكن الخضر بيت المقدس فيما بين باب الرحمة الى باب الأسباط والله اعلم
____________________
(3/133)
باب سراياه صلى الله عليه وسلم وبعوثه
لا يخفى أن ما كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له غزوة وما خلا عنه صلى الله عليه وسلم يقال له سرية إن كان طائفة اثنين فأكثر فإن كان واحدا قيل له بعث وربما سمعوا بعض السرايا غزوة كما في مؤته حيث قالوا غزوة مؤته وكما في سرية الرجيع حيث عبر عنها السيوطي في الخصائص بغزوة الرجيع وعن سرية ذات السلاسل بغزوة ذات السلاسل وعن سرية سيف البحر بغزوة سيف البحر وربما سموا الواحد سرية وهو في الاصل كثير وبما سموا الاثنين فأكثر بعثا ومنه قول الأصل كالبخاري بعث الرجيع وظاهر كلامهم أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون إرسال ذلك لقتال أو لغير قتال كتجسس الأخبار أو لتعليمهم الشرائع كما في بئر معونة والرجيع أو للتجارة كما في سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما حيث ذهب مع جمع بالتجارة للشام فلقيه بنو فزراة فضربوه وضربوا أصحابه وأخذوا ما كان معهم كما سيأتي
والسرية في الأصل الطائفة من الجيش تخرج منه ثم تعود اليه خرجت ليلا أو نهارا وقيل السرية هي التي تخرج ليلا والسارية هي التي تخرج نهارا وهي من مائة الى خمسمائة وقيل الى اربعمائة أي وفي القاموس السرية من خمس أنفس الى ثلثمائة او اربعمائة وعليه فما دون ذلك لا يقال له سرية فما زاد على الثلثمائة أو أربعمائة الى ثمانمائة يقال له بنسر بالنون فإن زاد على لك الى اربعة آلاف قيل له جيش أي وقيل الجيش من ألف إلى اربعة آلاف فإن زاد على ذلك قي له جحفل وجيش جرار أي الى أثني عشر الفا
والبعث في الأصل الطائفة تخرج من السرية ثم تعود اليها وهو من عشرة الى أربعين يقال له حفيرة ومن أربعين الى ثلثمائة يقال له معتقب وما زاد على ذلك يسمى حمزة قال بعضهم والكتيبة ما اجتمع ولم ينتشر وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رسول الله خير الأصحاب أربعة وخير السريا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف وما هزم قوم بلغوا اثني عشر ألفا من قلة إذا صدقوا وصبروا أي فلا يرد أنهزام القدر المذكور يوم حنين قال في الأصل وكانت سراياه صلى الله
____________________
(3/134)
عليه وسلم التي بعث بها سبعا واربعين سرية وهو في ذلك موافق لما ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب قال الشمس الشامي والذي وقفت عليه من السرايا والبعوث لغير الزكاة يزيد على السبعين أ هـ
أي وكان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا بسم الله قاتلوا من كفر بالله ولا تغلوا ولا تغدوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا والوليد الصبي أي مالم يقتل كالنساء ولا قتلوا
وفي رواية لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة وهذا عند العمد فلا ينافي أنه يجوز الإغارة على المشركين ليلا وإن لزم على ذلك قتل الصبيان والنساء والشيوخ
فقد روى الشيخان سئل صلى الله عليه وسلم عن المشركين يبيتون أي يغار عليهم ليلا فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال هم منهم وكان صلى الله عليه وسلم يقول من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ولا سمع ولا طاعة في معصية الله وكان صلى الله عليه وسلم يعتذر عن تخلفه عن تلك السرايا ويقول والذي نفسي بيده لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب نفوسهم ان يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل
من جملة وصيته صلى الله عليه وسلم لمن يوليه على سرية وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم الى ثلاث خصال فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم الى الإسلام فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم
ومن جملة قوله صلى الله عليه وسلم لمن يوليه على سرية وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم الى ثلاث خصال فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم الى الإسلام فإن هم أبوا فسألهم الجزية فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم
ومن جملة قوله صلى الله عليه وسلم للسرايا بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا ولما بعث صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى رضي الله تعالى عنهما إلى اليمن قال لهما يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة في ثلاثين رجلا من المهاجرين قيل ومن الأنصار وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث من الأنصار الا بعد ان غزا بهم بدرا أي وذلك في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة وعقد له صلى الله
____________________
(3/135)
عليه وسلم لواء أبيض وهو أول لواء عقد في الإسلام حمله ابو مرثد بتفح الميم وإسكان الراء ثم مثلثة مفتوحة حليف حمزة رضي الله تعالى عنه ليعترض عيرا لقريش جاءت من الشام تريد مكة وفيها ابو جهل لعنه الله في ثلثمائة رجل وقيل في مائة وثلاثين فصار رضي الله تعالى عنه الى ان وصل سيف البحر أي بكسر السين المهملة واسكان المثناة تحت ثم فاء ساحله من ناحية العيص أرض من جهينة فصأدق العير هناك فلما تصافوا للقتال حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان حليفا للفريقين فأطاعوه وانصرفوا ولم يقع بينهم قتال ولما عاد حمزة رضي الله تعالى عنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر بأي بان مجديا حجز بينهم وانهم رأوا منه نصفة قال صلى الله عليه وسلم في مجدي إنه ميمون النقيبة أي مبارك النفس مبارك الأمر وقال سعيد أورشيد الأمر أي أموره ناجحة ولم يقع له إسلام أي وفي الإمتاع وقد رهط مجدي على النبي صلى الله عليه وسلم فكساهم سرية عبيدة بن الحارث بن عبد الطلب رضي الله تعالى عنه
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس ثمانية أشهر من الهجرة عبيدة بن الحارث رضي الله تعالى عنه في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين منهم سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه وعقد له لواء أبيض وحمله مسطح بن أثاثة رضي الله تعالى عنه ليعترض عيرا لقريش وكان رئيسهم ابا سفيان وقيل عكرمة بن ابي جهل وقيل مكرز بن حفص في مائتى رجل فوافوا العير ببطن رابغ أى ويقل له ودان هل فلم يكن بينهم الا المناوشة برمي السهام أي فلم يسلوا السيف ولم يصطفوا للقتال وكان أول من رمى من المسلمين سعد بن ابي وقاص رضي الله تعالى عنه فكان سهمه أول سهم رمى به في الإسلام أي كما أن سيف الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه أول سيف سل في الإسلام ففي كلام ابن الجوزي أول من سل سيفا في سبيل الله الزبير بن العوام
وقد ذكر أن سعدا رضي الله تعالى عنه تقدم أصحابه ونثر كنانته وكان فيها عشرون سهما مامنها سهم إلا ويجرح إنسانا أو دابة أي لو رمى به لصدق رميه وشدة ساعدة رضي الله تعالى عنه ثم انصرف الفريقان فإن المشركين ظنوا أن للمسليمن مددا فخافوا وانهزموا ولم يتبعهم المسلمون وفر من المشركين الى المسلمين المقداد بن عمرو أي الذي
____________________
(3/136)
يقال له ابن الأسود وعيينة بن غزوان فإنهما كانا مسلمين ولكنهما خرجا مع المشركين ليتوصلا بهم الى المسلمين فعلم أن سرية عبيدة بن الحارث رضي الله تعالى عنه بعد سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وقي قيل بل هي قبلها وكلام الاصل يشعر به ويؤيده قول ابن اسحاق كانت راية عبيدة بن الحارث فيما بلغنا أول راية عقدت في الإسلام قال بعضهم ومنشأ هذا الاختلاف أن بعث حمزة وبعث عبيدة رضي الله تعالى عنهما كانا معا أي في يوم واحد في محل واحد أي وشيعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا كما في ذخائر العقبي فاشتبه الأمر فمن قائل يقول إن راية حمزة رضي الله تعالى عنه أول راية عقدت في الإسلام وأن بعثه اول البمعوث ومن لكن يشكل على ذلك أن خروج حمزة كل على رأس سبعة اشهر من الهجرة كما تقدم وخروج عبيدة كان على راس ثمانية أشهر كما تقدم وبما ذكر أن بعثهما معا الى آخره يرد ما أجاب به بعضهم عن هذا الإشكال بأنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم عقد رايتهما معا وتأخر خروج عبيدة الى راس الثمانية أشهر لأمر اقتضى ذلك هذا كلامه إلا أن يقال يجوز أن يكون المراد ببعثهما معا أمرهما بالخروج وأن المراد بتشيعهما جميعا أن كلا منهما وقع له التشييع منه صلى الله عليه وسلم وذلك لا يقتضي أن يكون ذلك في وقت واحد تأمل
وفي هذا إطلاق الراية على اللواء وهو الموافق لما صرح به جماعة من أهل اللغة أنهما متردافان وتقدم أنه لم يحدث له اسم الراية إلا في خبير او وكانوا لا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية وما هنا يرده
وفي كلام بعضهم كانت رايته صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض كما في حديث ابن عباس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما زاد ابو هريرة رضي الله تعالى عنه مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله
____________________
(3/137)
سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه إلى الخرار
بفتح الخاء المعجمة وراءين مهملتين وفي النور بفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء الأولى
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على راس تسعة اشهر من الهجرة سعد بن أبي وقاص في عشرين من المهاجرين أي وقيل ثمانية وعقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو قال والخرار واد يتوصل منه إلى الجحفة وقد عهد إليه أن لا يجاوزه ليعترض عير لقريش تمر بهم فخرجوا يمشون على اقدامهم يكمنون النهار ويسيرون الليل حتى صبحوا المكان المذكور في صبح خمس فوجدوا العير قد مرت بالأمس فانصرفوا راجعين الى المدينة أ هـ
وقد ذكر ابن عبد البر وابن حزم هذه السرية بعد بدر الأولى وفي السيرة الشامية الباب السادس في سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه الى الخرار وساق ما تقدم وقال بعده الباب التاسع في سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه
روى الإمام احمد عنه قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءت جهينة فقالوا له إنك نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا حتى نأتيك وقومنا فأوثق لهم فاسلموا وبعثنا صلى الله عليه وسلم ولا نكون مائة وكان ذلك في رجب أي من السنة الثانية وامرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نغير على حي من كنانة فأغرنا عليهم فكانوا كثيرا فلجأنا الى جهينة فمنعونا وقالوا لم تقاتلون في الشهر الحرام فقال بعضنا لبعض ماترون فقال بعضنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره وقال بعض آخر لا نقيم ههنا وقلت انا في أناس معي بل نأتي عير قريش فنقتطعها فانطلقنا الى العير وانطلق بعض أصحابنا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان محمرا وجه فقال جئتم متفرقين وإنما أهلك من قبلكم الفرقة لأبعثن عليكم رجلا ليس بخيركم أصبركم على الجوع والعطش فبعث علينا عبد الله بن جحش أميرا فأمره علينا لنذهب الى جهة نخلة بين مكة والطائف
____________________
(3/138)
سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه إلى بطن نخلة
قال لما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الأخيرة قال لعبد الله بن جحش واف مع الصبح معك سلاحك ابعثك وجها فوافاه الصبح ومعه قوسه وجعبته ودرقته فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح وجده واقفا عند بابه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب فدخل عليه فأمره فكتب كتابا ثم دعا عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه فدفع اليه الكتاب وقال له قد ا ستعملتك على هؤلاء النفر أ هـأي وكان قبل ذلك بعث عليهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب فلما ذهب لينطلق بكى صبيانه الى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث عليهم عبد الله وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين أي فهو أول من تسمى في الإسلام بأمير المؤمنين ثم بعده عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولا ينافي ذلك قول بعضهم أول من تسمى في الإسلام بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لان المراد أول من تسمى بذلك من الخلفاء أو أن هذا أمير جميع المؤمنين وذاك أمير من معه من المؤمنين خاصة
فقد جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يكتب أولا من خليفة أبي بكر فاتفق أن عمر رضي الله تعالى عنه أرسل الى عامل العراق أن يبعث اليه برجلين جلدين يسألهما عن أهل العراق فبعث اليه بعبد بن ربيعة وعدي بن حاتم الطائي فقدما المدينة ودخلا المسجد فوجدا عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه فقالا استأذن لنا على أمير المؤمنين فقال عمرو انتما والله أصبتما اسمه فدخل عليه عمرو وقال السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال ما بدالك في هذا الاسم فأخبره الخبر وقال أنت الأمير ونحن المؤمنون فأول من سماه بذلك عبد بن ربيعة وعدي بن حاتم وقيل أول من سماه بذلك المغيرة بن شعبة وحينئذ صار يكتب من عبد الله عمر أمير المؤمنين فقد كتب رضي الله تعالى عنه بذلك الى نيل مصر فإن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لما فتح مصر ودخل شهر بؤنة من شهور العجم دخل اليه أهل مصر وقالوا له أيها الأمير إذا كان أحد عشر ليلة تخلوا من هذا الشهر عمدنا الى جارية بكر بين أبويها وجعلنا عليها من الثياب والحلي ما يكون ثم
____________________
(3/139)
ألقيناها في هذا النيل أي ليجري فقال لهم عمرو رضي الله تعالى عنه إن هذا لا يكون في الإسلام وإن الإسلام يهدم ما كان قبله فأقاموا مدة والنيل لا يجري لا قليلا ولا كثيرا حتى هم أهل مصر بالجلاء منها فكتب عمرو بذلك إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فكتب اليه كتابا وكتب بطاقة في داخل الكتاب وقال في الكتاب قد بعثت اليك بطاقة في داخل الكتاب فالقها في نيل مصر فلما قدم الكتاب أخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها من عبد الله عمر أمير المؤمنين الى نيل مصر أما بعد فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر وإن كان الله هو الذي يجريك فأسأل الله الواحد القهار ان يجريك فالقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم فاصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة فقطع الله تلك السنة عن أهل مصر الى اليوم
وكان أولئك النفر ثمانية أي وقيل اثني عشر من المهاجرين يعتقب كل اثنين منهم بعيرا منهم سعد بن أبي وقاص وعيينة بن غزوان وكانا يعتقبان بعيرا ومنهم واقد ابن عبد الله ومنهم عكاشة بن محصن وامر صلى الله عليه وسلم عبد الله أن لا ينظر في ذلك الكتاب حتى يسير يومين أي قبل مكة ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحدا من اصحابه أي على السير معه أي وقد عقد له صلى الله عليه وسلم راية
قال ابن الجوزي أول راية عقدت في الإسلام راية عبد الله بن جحش أي بناء على أن الراية غير اللواء وحينئذ تعارض القول بترادفهما والقول بأن اسم الراية إنما وجد في خبير
قال ابن الجوزي رحمه الله وهو أول أمير أمر في الإسلام وفيه أنه مخالف لما سبق إلا أن يريد أن من سمي أمير المؤمنين فلما سار عبد الله يومين فتح الكتاب فإذا فيه إذا نظرت في كتابي هذا فأت حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف ولا تكره أحدا من أصحابك على السير معك أى ولفظ الكتاب سر بسم الله وبركاته ولا تكرهن أحدا من أصحابك على السير معك وامض لأمري حتى تأتي بطن نخلة فترصد عير قريش وتعلم لنا أخبارهم فلما قرا الكتاب على اصحابه قالوا نحن سامعون مطيعون لله ولرسوله ولك فسر على بركة الله تعالى أي وجعل البخاري دفعه صلى الله عليه وسلم الكتاب لعبد الله ليقراه ويعمل به فيه دليلا على صحة الراوية بالمناولة وهي ان الشيخ يدفع لتلميذه كتابا ويأذن له أن يحدث عنه بما فيه
____________________
(3/140)
وممن قال بصحة المناولة مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه روى إسماعيل بن صالح عنه أنه أخرج لهم كتابا مشدودة وقال لهم هذه كتبي صححتها ورويتها فارووها عني فقال له اسماعيل بن صالح نقول حدثنا مالك قال نعم
وفي لفظ أن عيد الله رضي الله تعالى عنه لما قرأ الكتاب قال سمعا وطاعة أي بعد أن استرجع ثم أعلم اصحابه وقال لهم من كان يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع فأما أنا فماض الى آخر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضوا لم يتخلف منهم أحد حتى إذا كانوا ببحران بفتح الموحدة وبضمها وسكون الحاء المهملة موضع اضل سعد بن أبي وقاص وعيينة بن غزوان بعيرهما فتخلفا في طلبه ومضى عبد الله ومن عداهما معه حتى نزل بنلخة فمرت عير لقريش أي تحمل زبيبا وأدما أي جلودا من الطائف وأمتعة للتجارة في تلك العير عمرو بن الحضرمي وعثمان بن المغيرة وأخوه نوفل والحكم بن كيسان ونزلوا قريبا من عبد الله وأصحابه وتخوفوا منهما فاشرف عليهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه أي وتراءى لهم ليظنوا أنهم عمارا فيطمئنوا أي وذلك بإرشاد عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه فإنه قال لهم إن القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم فحلقوا راس عكاشة ثم أشرف عليهم فلما رأوا راسه محلقوا قالوا عمار أي هؤلاء معتمرون لا باس عليكم منهم وكان ذلك آخر يوم من شهر رجب أي وقيل أول يوم منه
ويدل للأول ما جاء ان عبد اله تشاور مع اصحابه فيهم فقال بعضهم لبعض إن تركتموهم في هذه الليلة دخلوا الحرم فقد تمنعوا منكم به وان قتلتموهم في هذا اليوم تقتلوهم في الشهر الحرام أي وكان ذلك قبل أن يحل القتال في الشهر الحرام فإن تحريم القتال في الأشهر الحرم كان معمولا به من عهد ابراهيم وإسمعيل عليهم الصلاة والسلام جعل الله ذلك مصلحة لأهل مكة فإن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما دعا لذريته بمكة أن يجعل الله أفئدة من الناس تهوي اليهم لمصلحتهم ومعاشهم وجعل الأشهر الحرم أرعة ثلاثة سردا وواحدا فردا وهو رجب أما الثلاثة فليأمن فليأمن الحجاج فيها ورادين لمكة وصادرين عنها شهرا قبل شهر الحج وشهرا آخر بعده قدر ما يصل الراكب من أقصى بلاد العرب ثم يرجع وأما رجب فكان للعمار يأمنون فيه مقبلين ومدبرين وراجعين
____________________
(3/141)
نصف الشهر للإقبال ونصفه الآخر للإياب لان العمرة لا تكون من أقاصي بلاد العرب كالحج وأقصى منازل بلاد المعتمرين خمسة عشر يوما ذكره السهيلي
ولم يزل تحريم القتال في تلك الأشهر الحرم الى صدر الإسلام وذلك قبل نزول براءة فإن براءة كان فيها نبذ العهد العام وهو أن لا يصد أحد عن البيت جاءه ولا يخاف أحد في الأشهر الحرم وأن لا يحتج مشرك وإباحة القتال في الأشهر الحرم أي مع بقاء حرمتها فإنها لم تنسخ قال تعالى { منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم } فتعظيم حرمتها باقية لم تنسخ وإنما نسخ حرمة القتال فيها خلافا لما نقل عن عطاء من أن حرمة القتال فيها باقية لم تنسخ
ويدل للثاني ما في الكشاف وكان ذلك اليوم أول يوم من رجب وهم يظنون أنه من جمادي الآخرة فتردد القوم وهابوا الإقدام ثم شجعوا أنفسهم عليهم ثم أجمع رأيهم على قتل من لم يقدروا على أسره أي وأخذ ما معهم فقتلوا عمرو بن الحضرمي رماه واقد بن عبد الله بسهم فهو أول قتيل قتله المسلمون وأسروا عثمان والحكم فهما أول أسير اسره المسلمون وأفلت بتفح الهمزة باقي القوم أي وجاء الخبر لأهل مكة فلم يمكنهم الطلب لدخول شهر رجب أي بناء على ما تقدم واستاق عبد الله واصحابه رضي الله تعالى عنهم العير حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أول غنيمة غنمها المسلمون فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام وأبى أن يستلم العير والأسيرين فسقط بالبناء للمجهول في ايديهم أي ندموا وعنفهم إخوانهم من المسلمين وقالت قريش قد استحل محمد واصحابه الشهر الحرام سفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال أي وصارت قريش تعير بذلك من مكة من المسلمين يقولون لهم يا معشر الصباة قد استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه وزادوا في التشنيع والتعيير وصارت اليهود تتفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون القتيل عمرو الحضرمي والقاتل واقد فيه عمرت بفتح العين المهملة وكسر الميم الحرب أي حضرت الحرب ووقدت الحرب فكان ذلك الفأل عليه لعنهم الله وضاق الأمر على عبد الله وأصحابه رضي الله تعالى عنهم فأنزل الله تعالى { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } أي عظيم الوزر { وصد عن سبيل الله } أي ومنع للناس عن دين الله { وكفر به } أي بالله { والمسجد الحرام } أي ومنع للناس عن مكة { وإخراج أهله منه } وهم
____________________
(3/142)
النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين منه من { أكبر عند الله } أعظم وزرا { والفتنة } الشرك أي الذي أنتم عليه أو حملكم من أسلم على الكفر بالتعذيب له { أكبر من القتل } لكم فيه أي صدهم لكم عن المسجد الحرام وكفرهم بالله و إخراجكم من مكة وأنتم أهلها وفتنة من أسلم بحيث يريد عن الإسلام ويرجع إلى الكفر أكبر من قتل من قتلتم منهم ففرج عن عبد الله واصحابه رضي الله تعالى عنهم أي وهذا كما ترى يدل على أنهم قتلوا مع علمهم بأن ذلك اليوم من رجب وضعف ما تقدم عن الكشاف الموافق لما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن اصحاب محمد كانوا يظنون أن ذلك اليوم آخر جمادي وكان أول رجب ولم يشعروا أي لأن جمادي يجوز أن يكون ناقصا وفيه أنه لو كان الأمر كذلك لا عتذر عبد الله وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بذلك
وجاء أن المسلمين اختلفوا في ذلك اليوم فمن قائل منهم هذه غرة من عدوكم وغنم رزقمتوه ولا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم ام لا وقال قائل منهم لا نعلم اليوم الا من الشهر الحرام ولا نرى ان تستحلوه لطمع اشتملتم عليه ويذكر أنه صلى الله عليه وسلم عقل أبن الحضرمي أي اعطي ديته ويضعفه ما تقدم في غزوة بدر من أن أخاه طلب ثأره وكان ذلك سببا لإثارة الحرب وأن عتبة بن ربيعة أراد أن يتحمل ديته ويتحمل جميع ما أخذ من العير وأن تكف قريش عن القتال وحينئذ تسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين وطمع وطمع عبد الله واصحابه في حصول الأجر وسألوا رسول الله فأنزل الله تعالى { إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم } أي فقد اثبت لهم الجهاد في سبيل الله
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم ذلك العير وخمسه أي جعل خمسة لله واربعة أخماسه للجيش
وقيل تركه حتى رجع من بدر وخمسة مع غنائم بدر وقيل إن عبد الله هو الذي خمسها أي فإنه رضي الله تعالى عنه قال لأصحابه إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما غنمنا الخمس فأخرج خمس ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي عزلها له وقسم سائرها بين أصحابه رضي الله عنهم وحينئذ يكون ما تقدم من قوله وابي ان يتسلم العير الظاهر في أن العير لم تقسم المراد خمس تلك العير وهو أول غنيمة خمست في الإلام أي قبل فرضه ثم فرض على ما صنع عبد الله رضي الله عنه ويوافق ذلك قول ابن عبد الير
____________________
(3/143)
في الاسيتعاب وعبد الله بن جحش أول من سن الخمس من الغنيمة للنبي صلى الله عليه وسلم من قبل أن يفرض الله الخمس وأنزل الله تعالى بعد ذلك آية الخمس { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الآية وإنما كان قبل ذلك المرباع هذا كلامه والمرباع ربع الغنيمة وتقدم أن الفئ والغنيمة يطلق أحدهما على الآخر
وفي كلام فقهائنا أن الغنيمة كانت في صدر الإسلام له صلى الله عليه وسلم خاصة ثم نسخ ذلك بالتخميس
وبعثت قريش الى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء عثمان والحكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لانفديكموهما حتى يقدم صاحبانا يعني سعد بن ابي وقاص وعيينة ابن غزوان فإنا نخشاكم عليهما فإن قتلتموهما نقتل صاحبيكم فإن سعدا عينية رضي الله عنهما لم يحضرا الوقعة بسبب التماسهما بعيرهما وقد مكثا في طلبه اياما ثم قدما فأفدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسيرين أي كل واحد بأربعين أوقية فأما الحكم فأسلم وحسن إسلامه وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا
أي وعن المقداد أراد أميرنا يعني عبد الله بن جحش أن يقتل الحكم فقلت دعه فقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما عثمان فلحق بمكة فمات بها كافرا بعث وفي الاصل تبعا لشيخه الحافظ الدمياطي سرية عمير بن عدي الخطمي الضرير إلى عصماء
أي بالمد بنت مروان اليهودية وكانت متزوجة في بني خطمة وكان زوجها مرئد ابن زيد بن حصين الأنصاري أسلم بعد ذلك رضي الله عنه
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمير بن عدي الخطمي وهو أ ول من أسلم من بني خطمة الى قتل عصماء بنت مروان لأنها كانت تسب الإسلام وتؤذي النبي صلى الله عليه وسلم في شعر لها وتحرض عليه فجاءها عمير في جوف اليل حتى دخل عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نيام وعلى صدرها صبي ترضعه فمسها بيده ونحى الصبي عن صدرها ووضع سيفه على صدرها وتحامل عليه حتى أنفذه من ظهرها ثم صلى الصبح مع النبي
____________________
(3/144)
صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أقتلت ابنة مروان فقال نعم فهل على في ذلك من شيء فقال لا ينتطح فيها عنزان أي الأمر في قتلها هين لا يعارض فيه معارض وهذه الكلمة من جملة الكلمات التي لم تسمع إلا من النبي صلى الله عليه وسلم وقد جمع غالبها في النور في هذا المحل قال وسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم عميرا هذا بالبصير لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال انظروا الى هذا الأعمى الذي يسري في طاعة الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقل الأعمى ولكن البصير
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما قال ألا رجل يكفينا هذه يعني عصماء بنت مروان فقال عمير بن عدي أنا لها فأتاها وكانت تمارة أي تبيع التمر فقال لها أعندك أجود من هذا التمر لتمر بين يديها قالت نعم فدخلت الى البيت وانكبث لتأخذ شيئا من التمر فالتفت يمينا وشمالا فلم يشسعر بأحد فضرب رأسها حتى قتلها فليتأمل هذا مع ما قبله
ثم إن عميرا أتى المسجد فصلى الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرف صلى الله عليه وسلم من صلاته نظر اليه فقال له أقتلت ابنة مروان قال نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أجبتم أن تنظروا الى رجل نصر الله ورسوله فانظروا الى عمير فلما رجع عمير الى منزل بني خطمة وجد بنيها في جماعة يدفنونها فقالوا يا عمير أنت قتلتها قال نعم فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون والذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لأضربنكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة وكان يخفى إسلامه من أسلم منهم لكن جاء في رواية أنها كانت تلقى خرق الحيض في مسجد بني خطمة فليتأمل
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما أهدر دم عصماء نذر عمير إن رد الله رسوله صلى الله عليه وسلم من بدر الى المدينة سالما ليقتلنها فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر الى المدينة عدا عليها عمير رضي الله تعالى عنه فقتلها وفي كلام السهيلي رحمه الله أن الذي قتل عصماء بعلها
وقد يقال لا مخالفة لأن عميرا رضي الله عنه جاز أن يكون كان بعلالها قبل مرثد بن زياد
____________________
(3/145)
وذكر في الاستيعاب في ترجمة عمير رضي الله عنه أنه قتل أخته لسبها رسول الله ولم يسمها
أقول الظاهر أنها غير عصماء لأن نسب عصماء غير نسب عدي الا ان يقال انها أخته لأمه ويبعده ما تقدم من أنه كان زوجا لها والله أعلم وبعث وفي الاصل تبعا لشيخه الحافظ الدمياطي سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك
أي والعفك بفتح العين المهملة وبالفاء وبالكاف أي الحمق أي ابي الحمق اليهودي قال صلى الله عليه وسلم يوما من لي بهذا الخبيث يعني أبا عفك أي من ينتدب الى قتله وكان شيخا كبيرا قد بلغ مائة وعشرين سنة وكان يحرض الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبه في شعر له فقال سالم بن عمير رضي الله عنه أي وهو أحد البكائين وقد شهد بدرا على نذر ان أقتل ابا عفك أو أموت دونه فطلب له غرة أي غفلة فلما كانت ليلة صائفة أي شديدة الحر نام أبو عفك بفناء بيته أي خارجه فعلم بذلك سالم رضي الله عنه فاقبل نحوه فوضع السيف على كبده ثم تحامل حتى خش السيف في فراشه وصاح عدو الله فتركه سالم رضي الله عنه وذهب فقام إلى أبي عفك ناس من أصحابه فاحتملوه وأدخلوه داخل بيته فمات عدو الله وابن إسحاق قدم هذه البعث على بعث عمير سرية عبد الله بن مسلمة رضي الله عنه الى كعب بن الاشرف الأوسي
أي فإن الله أصاب دما في الجاهلية فأني المدينة فحالف بني النضير فشرف منهم وتزوج عقيلة بنت ابي الحقيق فولدت له كعبا وكان طويلا جسيما ذا بطن وهامة وكان شاعرا مجيدا وقد كان ساد يهود الحجاز بكثرة ماله وكان يعطى أحبار اليهود ويصلهم فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فجاءه أحبار يهود من بني قينقاع وبني قريظة لأخد صلته على عادتهم فقال لهم ما عندكم من أمر هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم قالوا هو الذي كنا ننتظر ما أنكرنا من نعوته شيئا فقال لهم قد حرمتم كثيرا من
____________________
(3/146)
الخير فارجعوا الى أهليكم فإن الحقوق في مالي كثيرة فرجعوا عنه خائبين ثم رجعوا اليه قالوا له أنا اعجلناك فيما أخبرناك به ولما استثبتنا علمنا أنا غلطنا وليس هو المنتظر فرضي عنهم ووصلهم وجعل لكل من تابعهم من الاحبار شيئا من ماله وهذا نزل فيه قوله تعالى { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما } استودعه شخص دينارا فجحده كذا في تكملة الجلال السيوطي وفي الكشاف وفروعه أنها نزلت في فنحاص بن عازوراء وقد يقال لا مانع من تعدد الواقعة
ولما انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وقدم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما مبشرين لأهل المدينة بذلك وصارا يقولان قتل فلان وفلان وأسر فلان وفلان من أشراف قريش صار كعب يكذب في ذلك ويقول هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس والله إن كان محمد قتل هؤلاء القوم فبطن الأرض خير من ظهرها أن كما تقدم فلما يتقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة وكان شاعرا فجعل يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ويمدح عدوهم ويحرضهم عليه وينشد الأشعار ويبكي من قتل ببدر من أشراف قريش فقال صلى الله عليه وسلم اللهم اكفنى ابن الأشرف بما شئت ثم رجع الى المدينة أي بعد أن لم يجد من يأوى رحله بمكة أي لانه لما قدم مكة وضع رحله عند المطلب بن وادعة وأكرمته زوجة المطالب وهي عاتكة بنت أسيد فدعا رسول اله صلى الله عليه وسلم حسان وأخبره بذلك فهجا المطلب وزوجته فلما بلغهما هجاء حسان ألقت رحله وقالت مالنا ولهذا اليهودي وأسلم المطلب وزوجته بعد ذلك رضي الله عنهما وصار كلما تحول عند قوم من أهل مكة صار حسان يهجوهم فيلقون رحله أي يقال إنه خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على أبي سفيان فقال لهم أبو سفيان إنكم أهل الكتاب ومحمد صاحب الكتاب ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما ففعلوا فأنزل الله تعالى { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } أي وحالفهم عند استار الكعبة على قتال المسلمين فخرج من مكة للمدينة فلما وصل الى المدينة وصار يشبب بنساء المسلمين أي يتغزل فيهن ويذكرهن بالسوء حتى آذاهن
____________________
(3/147)
أي وقيل إن كعب بن الاشرف صنع طعاما وواطأ جماعة من اليهود أن يدعوا النبي صلى الله عليه وسلم الى الطعام فإذا حضر يفتكون به ثم دعاه فجاء ومعه بعض أصحابه فأعلمه جبريل عليه السلام بما أضمرره بعد أن جالسه فقام صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام يستره بجناحه حتى خرج فلما فقدوا تفرقوا ولا مانع من تعدد الاسباب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينتدب لقتل كعب بن الأشرف وفي لفظ من لنا بابن الأشرف فقد استعلن بعدواتنا وهجائنا أي وفي رواية إنه يؤذي الله ورسوله وفي أخرى فإنه قد آذانا بشعره وقوي المشركين علينا أي فإن ابا سفيان قال لكعب فانك تقرا الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقا وأقرب الى الحق أنحن أم محمد فقال كعب اعرضوا على دينكم فقال ابو سفيان نحن ننحر للحجيج الكوماء ونقسيهم الماء ونقرى الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم وديننا قديم ودين محمد الحديث فقال كعب لعنة الله أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه فقال صلى الله عليه وسلم من لي بقتل ابن الأشرف فقال محمد بن مسلمة الأوسي انا لك به يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خالي لأن محمد بن مسلمة ابن اخته أنا أقتله واجمع أي عزم على ذلك هو واربعة أي من الأوس عباد بن بشر وأبو نائلة وكان رضي الله عنه أخا لكعب بن الأشرف من الرضاعة والحارث بن عيسى والحارث بن أوس ومكث محمد بن مسلمة رضي الله عنه بعد قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة ايام لا يأكل ولا يشرب إلا ما تقوم به نفسه خوفا من عدم وفائه بما ذكر ثم قال يا رسول الله لا بد لنا أن نقول أي نذكر ما نتوصل به اليه من الحيلة وحينئذ كان المناسب أن يقول لا بد لنا أن نقول أي نخترع ما نحتال به عليه فقال قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك فأباح صلى الله عليه وسلم لهم الكذب لأنه من خدع الحرب كما تقدم
وقيل إنه صلى الله عليه وسلم أمر سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه والجمع ممكن فتقدمهم الى كعب أبو نائلة رضي الله عنه وكان يقول الشعر فتحدث معه ساعة وتناشد شعرا ثم قال ويحك يا ابن الاشرف إني قد جئتك لحاجة أريد أن أذكرها لك فاكتم عني قال أفعل قال كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء عادتنا العرب ورمتنا عن قوس واحدة فقطعت عنا السبل حتى جاع العيال وجهدت الأنفس أي
____________________
(3/148)
وسألنا الصدقة ونحن لا نجد ما نأكل وسائر ما عندنا أنفقناه على هذا الرجل وعلى أصحابه فقال كعب لقد كنت أخبرتك يا ابن مسلمة أن الأمر سيصبر إلى ما تقول أي ثم قال له كعب أصدقني ما الذي تريدون في أمره قال خذلانه والتنحى عنه قال شر تبين بان لكم أن تعرفوا ما أنتم عليه من الباطل فقال ابو نائلة وقيل محمد بن مسلمة كما في رواية صحيحة
قال الحافظ ابن حجر ويحتمل ان كلا منهما قال له إني اريد ان تبيعني وأصحابي طعاما ونرهنك ونوثق لك فقال اترهنوني أبناءكم وفي رواية نساءكم قال اردت أن تفضحنا نرهنك من الحلقة أي السلاح كما تقدم وقيل الدرع خاصة ما فيه وفاء وقد أردت أن آتيك بأصحابي أراد أبو نائلة رضي الله عنه أن لا ينكر كعب السلاح إذا جاء به هو وأصحابه فقال إن في الحلقة لوفاء أي وفي البخاري قال أرهنوني نساءكم قالوا كيف نرهنك نساناء وأنت اجمل العرب زاد في رواية ولا نأمنك عليهن وأي امرأة تمتنع منك لجمالك فانك تعجب النساء قال فارهنوني ابناءكم قالوا كيف نرهنك ابناءنا فيسب أحدهم فيقال رهن يوسف قالوا هذا عار علينا ولكنما نرهنك اللامة أي السلاح فرجع أبو نائلة رضي الله عنه الى أصحابه فاخبرهم الخبر وأمرهم أن يأخذوا السلاح ثم جاءوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا من عنده متوجهين الى كعب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي معهم الى بقيع الغرقد ثم وجههم وقال انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى بيته أي وأمر عليهم محمد بن مسلمة وكانت تلك الليلة مقمرة فأقبلوا رضي الله عنهم حتى انتهوا الى حصن كعب فهتف به ابو نائلة رضي الله عنه وكان كعب قريب عهد بعرس فوثب في ملحفته فأخذت امراته بناحيتها أي طرفها وقالت إنك امرؤ محارب وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في مثل هذه الساعة قال أبو نائلة لووجدني قائما لا يوقظني فقالت والله إني لأعرف في صوته الشر أي وفي البخاري فقالت له امرأته أين تخرج هذه الساعة فإني أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم وفي مسلم كأنه صوت دم أي صوت طالب دم قال إنما هو ابن اختي محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة إن الكريم لو دعي الى طعنة بليل لأجاب كذا في البخاري وفي مسلم إنما هو محمد ورضيعته قيل وصوابه إنما هو محمد ورضيعه ابو نائلة
____________________
(3/149)
فقد ذكر أهل العلم أن أبا نائلة رضي الله عنه كان رضيعا لمحمد فنزل أي وهو ينفح منه ريح طيب فتحدث معه هو وأصحابه ساعة ثم تماشوا ثم إن ابا نائلة رضي الله عنه وضع يده على رأس كعب ثم شم يده وقال ما رأيت طيبا أعطر من هذا الطيب أي فقال وكيف عندي أعطر نساء العرب وأكل العرب وفي لفظ وأجمل بدل أكمل وهي أشبه فقال له يا ابا سعيد أدن مني راسك أشمه وأمسح به عيني ووجهي ثم مشوا ساعة ثم عاد في ذلك أى في أن يتكلموا بما يتوصلون به إليه من الحيلة فأذن الله فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا أي وقع بعضها على بعض ولصق عدو الله بأبي نائلة وصاح صيحة لم يبق حصن وإلا وعليه نار قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه فوضعت سيفي في ثنيته ثم تحاملت عليه حتى بلغ عانته فوقع أي ولما صاح اللعين صاحت امرأته يا آل قريظة والنضير مرتين فخرجت اليهود فأخذوا عل غير طريق الصحابة ففاتوهم
قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه وأصيب الحارث بن أوس من بعض اسيافنا في رجله ورأسه ونزف به الدم فتخلف عنا أي وناداهم اقرءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام فعطفوا عليه واحتملوه وفي رواية تخلف عن اصحابه فافتفدوه ورجعوا اليه فاحتلموه قال محمد بن مسلمة رضي الله عنه فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي فسلمنا عليه فخرج إلينا وأخبرناه بقتل عدونا وتفل على جرح صاحبنا فلم يؤلمه
قال وفي رواية أنهم حزوا رأس كعب وحملوا ذلك الراس ثم خرجوا يشتدون فلما بلغوا بقيع الغرقد كبروا وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى تلك الليلة فلما سمع تكبيرهم بالبقيع كبر وعرف أنهم قد قتلوا عدو الله وخرج الى باب المسجد فجاءوا فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على باب المسجد فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلحت الوجوه قالوا أفلح وجهك يا رسول الله ورموا برأسه بين يديه فحمد الله على قتله أي وعند ذلك أصبحت يهود مذعورين فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا قتل سيدنا غيلة فذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه من التحريض عليه وأذنيه المسلمين فازدادوا خوفا
____________________
(3/150)
سرية عبد الله بن عتيك رضي الله عنه لقتل أبي رافع
سلام بالتخفيف ابن ابي الحقيق على وزن نصير بالتصغير وبالحاء المهملة الخزرجي أي وفي البخاري ابي رافع عبد الله بن ابي الحقيق ويقال له سلام بن أبي الحقيق كان بخيبر وكان تاجر أهل الحجاز
لما قتلت الأوس أي عبد الله بن مسلمة وأبو نائلة ومن تقدم معهما كعب بن الأشرف تذاكر الخزرج من يشابه كعب بن الأشرف في العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الخزرج فذكروا أبا رافع سلام بن أبي الحقيق أي لانه كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم
أي وعن عروة أنه كان ممن أعان غطفان وغيرهم من مشركي العرب بالمال الكثير على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي حزب الأحزاب يوم الخندق لأن الأوس والخزرج كانا يتنافسان فيم يقرب الى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم لا تفعل الأوس شيئا من ذلك إلا فعلت الخزرج نظيره وبالعكس ويقولون والله لا يذهبون بهذا فتيلا علينا في الإسلام فانتدب لقتله خمسة من الخزرج منهم عبد الله بن عتيك وعبد الله ابن أنيس وابو قتادة واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بن عتيك وأمرهم أن لا يقتوا وليدا ولا امرأة فخرجوا حتى أتوا خيبر فتسوردا دار ابي رافع ليلا فلم يدعوا بيتا في الدار إلا أغلقوه على أهله وكان ابو رافع في علية لها درجة أي سلم من الخشب من محل يصعد عليه الى تلك العلية فطلعوا في تلك الدرجة حتى قاموا على باب تلك العلية فاستأذنوا فخرجت اليهم امرأته فقالت من أنتم قالوا ناس من العرب نلتمس الميرة
وفي لفظ لما صعدوا قدموا عبد الله بن عتيك لأنه كان يتكلم بلسان يهود فاستفتح وقال جئت أبا رافع بهدية ففتحت له امرأته وقالت ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه فلما دخلوا عليه أغلقوا عليهم وعليها باب الحجرة ووجدوه وهو على فراشه ما دلهم عليه في الظلمة إلا بياضة كأنه قبطية فابتدروه بأسيافهم ووضع عبد الله بن أنيس رضي الله
____________________
(3/151)
عنه سيفه في بطنه وتحامل عليه حتى انفذه وهو يقول قطني قطني أي يكفيني يكفيني وعند ذلك صاحت المرأة قال بعضهم ولما صاحت المرأة جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يتذكر نهى رسول صلى الله عليه وسلم فيكف يده قال وفي رواية أن المرأة لما رأت السلاح أرادت أن تصيح فاشار اليها بعضنا بالسيف فسكتت فابتدرناه باسيافنا وخرجنا من عنده وكان عبد الله بن عتيك رجلا سيء البصر فوقع من الدرجة فوثبت رجله وثبا شديدا أي جرحت جرحا شديدا وفي لفظ قد انكسرت ساقه وفي آخر فانخلعت رجله فعصبها بعمامته والجمع بين كسر ساقه وخلع رجله واضح لأن الانخلاع يكون من المفصل فقد انكسرت ساقه وانخلعت من مفصلها ومع الكسر والانخلاع حصلت فيها جراحة أيضا
وأما قول ابن اسحاق رحمه الله فوثبت يده فقيل وهم والصواب رجله كما تقدم وفي السيرة الهشامية فوثبت يده وقيل رجله
وقد يقال لا مانع من حصولهما قال فحملناه حتى أتينا محلا استخفينا فيه أى وذلك المحل من أفنيتهم التي يلقون فيها كناستهم وفي لفظ أنهم كمنوا في نهر من عيونهم حتى سكن الطلب
وقد يقال لا مخالفة لأنهم أوقدوا النيران وتفرقوا من كل وجه يلطبونهم أي وفي لفظ فخرج الحارث في ثلاثة آلاف في آثارهم يطلبونهم بالنيران حتى إذا أيسوا رجعوا إلى عدو الله فكتفوه وهو بينهم يجود بنفسه فقال بعضنا لبعض كيف نعلم أن عدو الله مات فقال رجل منهم أنا أذهب فانظر لكم فانطلق حتى دخل في الناس قال فوجدت امرأته تنظر في وجهه وفي يدها المصباح ورجال يهود حوله وهي تحدثهم وتقول أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت نفسي
أي وعلى الرواية الآتية انه أكذبها ثم اقبلت تنظر في وجهه ثم قالت فاضت وإله يهود أي خرجت روحه فما سمعت من كلمة كان ألذ الى نفسي منها ثم جئت وأخبرت أصحابي واحتملنا عبد الله بن عتيك وقدمنا الى رسول صلى الله عليه وسلم
وفي رواية أن ابن عتيك لما عصب رجله انطلق حتى جلس على الباب وقال لا اخرج الليلة حتى اعلم أني قتلته أولا فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال
____________________
(3/152)
أنعى أبا رافع تاجر اهل الحجاز فانطلق يحجل الى اصحابه وقال قد قتل الله ابا رافع فاسرعوا وليتأمل هذا مع ما قبله وقوله أنعى هو بتفح العين وقيل الصواب انعوا والنعي خبر الموت والأسم الناعي ويقال له الناعية وكانت العرب إذا مات فيهم الكبير ركب راكب فرسا وصار يذكر أوصافه ومآثره وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولا منافاة بين كونه انطلق يحجل إلى اصحابه وكونهم حملوه لأنه يجوز أن يكون عند وقوعه وحصول ما تقدم له لم يحس بالألم لما هو فيه من الاهتمام وقدر على المشي يحجل ومن ثم جاء في بعض الروايات فقمت أمشي ما بي قلبة أي علة مهلكة فلما وصل الى اصحابه وعاد عليه المشي أحس بالألم فحمله أصحابه وهذا السياق يدل على أن الذي قتله عبد الله ابن عتيك وحده وهو ما في البخاري وفي رواية أن الذي كسرت رجله ابو قتادة لأنهم لما قتلوه وخرجوا نسى ابو قتادة قوسه فرجع اليها وأخذها فاصيبت رجله فشدها بعمامته ولحق بأصحابه وكانوا يتناوبون حمله حتى قدموا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فمسحها فبرئت أي وقال لما رآنا أفلحت الوجوه قلنا أفلح أفلح وجهك يا رسول الله وأخبرناه بقتل عدو الله واختلفنا عنده صلى الله عليه وسلم في قتله كل منا ادعاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتوا أسيافكم فجئناه بها فنظر اليها فقال لسيف عبد الله بن أنيس هذا قتله أرى فيه أثر الطعام قال والثابت في الصحيح كما علمت أن عبد الله بن عتيك هو الذي انفرد بقتله وان عدو الله كان يحصن بأرض الحجاز ولا منافاة لان خبير من الحجاز أي من قراه وريفه
فلما دنوا من خيبر وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم قال عبد الله لاصحابه اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي ان أدخل فاقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته وقد دخل الناس فهتف به البواب يا عبد الله ناداه بذلك كما ينادي الشخص شخصا لا يعرفه وهو يظن أنه من أهل الحصن إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني اريد أن أغلق الباب فدخل وكمن فلما اغلق الباب علق المفاتيح قال ثم أخذتها وفتحت الباب وكان ابو رافع يسمر عنده فلما ذهب عنه أهل سمره صعدت اليه فجعلت كلما فتحت بابا أغلقته على من داخله حتى انتهيت إليه فإذا هو في بيت ظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت قلت أبا رافع قال من هذا فأهويت نحو الصوت فضربته بالسيف فما أغنت شيئا وصاح فخرجت من البيت أي وعند ذلك قالت له
____________________
(3/153)
امرأته يا أبا رافع هذا صوت عبد الله بن عتيك قال ثكلتك أمك واين عبد الله بن عيتك قال ابن عيتك ثم عدت وقلت ما هذا الصوت يا أبا رافع قال لأمك الويل إن رجلان في البيت ضربني بالسيف فعمدت إليه فضربته أخرى فلم تغن شيئا فتواريت ثم جئته كهيئة المغيث وغيرت صوتي وإذا هو مستلق على ظهره فوضعت السيف في بطنه وتحاملت عليه حتى سمت صوت العظم ثم جئت الى الدرجة فوقعت فانكسرت رجلي فعصبتها بعمامتي فانطلقت الى اصحابي وقلت النجاة قد قتل الله ابا رافع فانتهت الى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال ابسط رجلك فمسحها فكأني لم أشتهكا قط وعادت كأحسن ما كانت انتهى أبي وهذا ما في البخاري وفيه في رواية اخرى أن ابن عتيك قال لما وضعت السيف في بطنه وتحاملت عليه حتى سمعت صوت العظم خرجت دهشا حتى اتيت السلم أي الذي صعدت فيه اريد أن أنزل فأسقطت منه فانخلعت رجلي فعصبتها فأتيت أصحابي أحجل فقلت انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فغني لا ابرح حتى اسمع الناعية فلما كان في وجه الصبح صعد الناعية فقال أنعى ابا رافع فقمت أمشي ما بي قلبة فادركت أصحابي قبل ان يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبشرته
وفي سيرة الحافظ الدمياطي أنهم مكثوا في ذلك المحل استخفوا فيه يومين حتى سكن عنهم الطلب وينبغي النظر الى وجه الجمع بينا ما ذكر سرية زيد بن حارثه رضي الله عنهما الى القردة
بفتح القاف والراء وقيل بالفاء مفتوحة وقيل بكسرها وسكون الراء وقدمه في الأصل على الأول اسم ماء
وسبها أن قريشا لما كانت وقعة بدر خافوا الطريق التي كانوا يسلكونها الى الشام من على بدر فسلكوا طريقا أخرى من جهة العراق فخرج عيرلهم فيه أموال كثيرة جدا من تلك الطريق يريدون الشام واستأجروا رجلا يدلهم على الطريق وكان ذلك الرجل ممن هرب من أسارى بدر وفي ذلك العير من اشراف قريش ابو سفيان وصفوان بن أمية وعبد الله بن أبي ربيعة وحويطب بن عب العزي فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(3/154)
زيد بن حارثة في مائة راكب وهي أول سرية لزيد بن حارثة خرج فيها أميرا فصادف تلك العير على ذلك الماء فأصاب العير وأفلت القوم وأسروا دليلهم
وقدم زيد رضي الله عنه بتك العير على رسول الله صلى الله عليه وسلم فخسمها فبلغ الخمس ما قيمته عشرون الف درهم وأتى بذلك الأسير الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له إن تسلم تترك أي من القتل فأسلم فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامه بعد ذلك سرية ابي سلمة عبد الله بن عبد الأسد
وهو ابن عمته صلى الله عليه وسلم برة بنت عبد المطلب وأخوه من الرضاعة أرضعتهما ثويبة كما تقدم الى قطن أي وهو جبل وقيل ماء من مياه بني أسد
وسببها انه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ان طليحة وسلمة ابنى خويلد قد صار في قومهما ومن أطاعهما الى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي اخبره بذلك رجل من طيء قد المدينة لزيارة بنت اخيه بها فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سلمة المذكور وعقد له لواء وبعث معه مائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وخرج الرجل المخبر له صلى الله عليه وسلم دليلا لهم وقال له صلى الله عليه وسلم سر حتى تنزل أرض بني أسد فإغر عليهم قبل أن يتلاقى عليك جموعهم فأغذ السير أي بفتح الهمزة والغين المشددة والذال المعجمتين أي أسرع ونكب أي بفتح الكاف المخففة عدل عن سيف الطريق وسار بهم ليلا ونهارا ليستبق الاخبار فانتهى الى ماء من مياههم فأغار على سرح لهم وأسروا ثلاثة من الرعاة وأفلت سائرهم ففرق ابو سلمة أصحابه ثلاث فرق فرقة بقيت معه وفرقتان أغارتا في طلب النعم والشاء والرجال فأصابوا إبلا وشاء ولم يلقوا أحدا فانحدر ابو سلمة بذلك كله الى المدينة
قال وقيل إنه أخرج صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك عبدا أي لأنه صلى الله عليه وسلم كان يباح له أخذ الصفي وهو ما يختاره أو يختاره له أمير السرية قبل القسمة من الفئ أو الغنيمة من جارية أو غيرها كما تقدم واخرج الخمس ثم قسم ما بقي بين اصحابه فأصاب كل إنسان سبعة أبعرة أي وطليحة هذا كان يعد بألف فارس قدم عليه صلى الله عليه وسلم في بعض الوفود وأسلم ثم ارتد وادعى النبوة وتوفي رسول
____________________
(3/155)
الله صلى الله عليه وسلم فقويت شوكته ثم أسلم بعد وفاة ابي بكر رضي الله عنه وحسن إسلامه وحج في زمن عمر رضي الله عنه ولم يعرف لأخيه سلمة إسلام بعث عبد الله ابن أنيس الى سفيان بن خالد الهذلي ثم اللحياني بكسر اللام وفتحها
وسبب ذلك أنه عليه الصلاة والسلام بلغه أن سفيان المذكورة قد جمع الجموع لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث عبد الله بن أنيس رضي الله عنه ليقتله فقال صفه لي يا رسول الله فقال إذا رايته هبته وفرقت أي خفت منه وذكرت الشيطان فقال عبد الله يا رسول الله ما فرقت من شيء قط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بلى إنك تجدله قشعريرة إذا رأيته فقال عبد الله فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اقول أي ما أتوصل به اليه من الحيلة فأذن لي أي قال لي قل ما بدا لك أي وقال انتسب الى خزاعة قال عبد الله بن أنيس فسرت حتى إذا كنت ببطن عرنة وهو واد بقرب عرفة لقيته يمشي أي متوكئا على عصا يهد الأرض ووراءه الأحابيش أي اخلاط الناس ممن انضم إليه فعرفته بنحت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأني هبته وكنت لا أهاب الرجال فقلت صدق الله ورسوله أي وكان وقت العصر فخشيت أن يكون بينى وبيه محاولة يشغلنى عن الصلاة فصليت وأنا أمشى نحوه أومىء برأسي فلما أنتهيت اليه قال لي من الرجل فقلت رجل من خزاعة سمعت بجمعك لمحمد فجئت لأكون معك قال أجل إني لأجمع له فمشيت معه ساعة وحدثته فاستحلى حديثي أي وكان فيما حدثته به أن قلت له عجبت لما احدث محمد من هذا الدين المحدث فارق الآباء وسفه أحلامهم فقال لي إنه لم يلق أحد يشبهني ولا يحسن قتاله
فلما انتهى الى خبائة وتفرق عنه صحابه قال لي يا أخا خزاعة هلم فدنوت منه فقال اجلس فجلست معه حتى إذا هدأ الناس وناموا اغتررته فقتلته وأخذت راسه ثم دخلت غارا في الجبل وصيرت العنكبوت أى نسجت على وجاء الطلب فلم يجدوا شيئا فانصرفوا راجعين ثم خرجت فكنت أسير الليل أتوارى النهار حتى قدمت المدينة فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فلما رآني قال قد أفلح الوجه قلت أفلح وجهك يا رسول الله فوضعت راسه بين يديه وأخبرته خبري فدفع لي عصا وقال تحضر بهذه في الجنة أي توكأ عليها فإن المتخصرين في الجنة قليل فكانت تلك العصا عنده فلما حضرته الوفاة أوصى اهله ان يدخلوها في كفنه يجعلوها بين جلده
____________________
(3/156)
وكفنه ففعلوا أي وفي القاموس ذو المخصرة أي كمكنسة بكسر الميم عبد الله بن أنيس
وهذه القصة وقصة كعب بن الأشرف ترد على الزهري قوله لم يحمل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس الى المدينة قط وحمل الى ابي بكر رضي الله تعالى عنه رأس فكره ذلك وأول من حملت اليه الرءوس عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما
وفيه أنه لما قتل الحسين وجماعة من أهل بيته بعث أبن زياد قبحه الله برءوسهم الى يزيد بن معاوية وابن الزبير رضي الله عنهما لم يبايع بالخلافة إلا بعد موت يزيد ومضى مدة خلافة ابنه معاوية رضي الله عنه الذي خلع نفسه وهي اربعون يوما ولعل إرسال راس الحسين ومن معه كان قبل راس عبد الله بن ابي الحمق فلا ينفأفي قول ابن الجوزي أول رأس حمل في الإسلام أي من المسلمين رأس عبد الله بن ابي الحمق وذلك أنه لدغ فمات فخشيت الرسل أن تتهم فقطعوا راسه فحملوه
ثم رأيت ابن الجوزي قال قال ابن حبيب نصب معاوية رضي الله عنه راس عمرو بن ابي الحمق ونصب يزيد بن معاوية رأس الحسين رضي الله عنه وقول الزهري الى المدينة لا يخالف ما في النور ما تقدم في غزوة بدر كم من رأس حمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن تلك الرءوس لم تحمل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة على أن فيه أنه لم يحمل إليه ذلك اليوم إلا رأس أبي جهل على ما تقدم سرية الرجيع
وفي الاصل بعث الرجيع بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة وقيل ستة عيونا الى مكة يتجسسون أخبار قريش ليأتوه بها وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه ويقال له ابن ابي الأفلح بالفاء وقيل أمر عليم مرثد الغنوي رضي الله عنه حليف عمه صلى الله عليه وسلم حمزة رضي الله عنه ومرثد بفتح الميم وإسكان الراء وبالمثلثة والغنوي بغين معجمة أي وكان مرثد هذا يحمل الأسرى ليلا من مكة حتى يأتي بهم المدينة فوعد رجلا من الأسرى بمكة أن يحمله قال فجئت به حتى انتهيت به الى حائط من حيطان مكة في ليلة مقمرة فجاءت عناق وكانت من جملة البغايا بمكة فرأت ظلي في جانب الحائط فلما أنتهت الي عرفتني قالت مرثد قلت مرثد قالت مرحبا وأهلا هلم تبت عندنا الليلة فقلت يا عناق إن الله حرم الزنا فدلت
____________________
(3/157)
علي فخرج في اثري ثمانية رجال فتواريت في كهف الخندمة فجاءوا حتى وقفوا على رأسي فأعماهم الله عني فلما رجعوا رجعت لصاحبي فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت الى محل فككت عنه قيده ثم جعلت أحمله حتى قدمت المدينة ثم استشرته صلى الله عليه وسلم أن أنكح عناق فأمسك عني حتى نزلت الآية { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين } فدعاني صلى الله عليه وسلم فتلاها علي ثم قال لي لا تتزوجها
وفي قطعة التفسير للجلال المحلي أن الآية نزلت في بغايا المشركين لما هم فقراء المهاجرين أن يتزوجوهن وهن موسرات لينفقن عليهم فقيل التحريم خاص بهم وقيل عام ونسخ بقوله { وأنكحوا الأيامى منكم } الآية
وفيه أن عند فقهائنا يحرم على المسلم نكاح من تعبد الأوثان وإن لم تكن بغيا
ومن جملة العشرة عبد الله بن طارق وخبيب بن عدي وخبيب تصغير خب وهو الماكر من الرجال الخداع وزيد بن الدثنة بفتح الدال المهملة وكسر الثاء المثلثة وقد تسكن ثم نون مفتوحه ثم تاء تأنيث مقلوب من الندثة والندث استرخاء اللحم فخرجوا رضي الله عنهم أي يسيرون الليل ويكمنون النهار حتى إذا كانوا بالرجيع وهو ماء لهذيل لقيهم سفيان بن خالد الهذلي الذي قتله عبد الله بن أنيس وجاء براسه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم وقومه وهم بنو لحيان فإنهم ذكروا لهم فنفروا اليهم فيما يقرب من مائة رام أي ولا يخالف ما في الصحيح قريبا من مائة رجل فاقتفوا آثارهم حتى وجدوا نوى تمر أكلوه في منزل نزلوه أي فإن منهم امرأة كانت ترعى غنما فرأت النوى فقالت هذه تمر يثرب فصاحت في قومها أتيتم فتبعوهم الى ان وجدوهم في المحل المذكور فلما أحسوا بهم لجئوا الى موضع من جبل هناك أي صعدوا اليه فأحاطوا بهم وقالوا لهم أنزلوا ولكم العهد أن لا نقتل منكم أحدا فقال عاصم رضي الله تعالى عنه أما أنا فلا أنزل على ذمة أي أمان وعند كافر فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما أي وستة منهم وصار عاصم يرميهم بالنبل وينشد أبياتا منها ** الموت حق والحياة باطل ** وكل ما قضى الإله نازل ** ** بالمرء والمرء إليه آيل **
ولا زال يرميهم حتى فنيت نبله ثم طاعنهم حتى انكسرت رمحه ثم سل سيفه
____________________
(3/158)
وقال اللهم إني حميت دينك صدر النهار فاحم لحمي آخره ونزل اليهم ثلاثة على العهد وهم خبيب وزيد وعبد الله بن طارق رضي الله تعالى عنهم فلما أمسكوهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوا خبيبا وزيدا وامتنع عبد الله وقال هذا أول الغدر أي ترك الوفاء بعهد الله والله لا أصحبكم إن لي بهؤلاء يعني القتلى اسوة فعالجوه فابى أن يصحبهم أي فقتلوه كما في الصحيح وقيل صحبهم الى أن كانوا بمر ظهران يريدون مكة انتزع عبد الله يده منم ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه وانلطقوا بخبيب وزيد أي ودخلوا بهما مكة في شهر القعدة فباعوهما بأسيرين من هذيل كانا بمكة أي وقيل بيع كل بخمسين من الإبل أي وقيل بيع خبيب بأمة سوداء فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيبا قيل لأنه قتل الحارث يوم بدر كما في البخاري
وتعقب بأن المعروف عندهم قيل لأنه قاتل الحارث يوم بدر إنما هو خبيب بن إساف الخزرجي أي وقيل القاتل له علي كرم الله وجهه وخبيب بن عدي هذا اوسي لم يشهد بدرا عند أحد من أرباب المغازي أي وقيل في هذا يوم بدر كما في البخاري
وتعقب بأن المعروف عندهم أن قاتل الحارث يوم بدر إنما هو خبيب بن إساف الخزرجي أي وقيل القاتل له علي كرم الله وجهه وخبيب بن عدي هذا أوسي لم يشهد بدرا عند احد من ارباب المغازي أي وقيل في هذا تضعيف الحديث الصحيح
ثم رأيت الحافظ ابن حجر رحمه الله ذكر أنه لزم من هذا رد الحديث الصحيح ولو لم يقتل خبيب بن عدى الحارث بن عامر ما كان لاعتناء آل الحارث بشرائه وقتله به معنى إلا أن يقال لكونه من قبيلة قاتله وهم الأنصار وابتاع زيدا صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك ليقتله بأبيه فحبسوهما إلى أن تنقضي الأشهر الحرم واستعار خبيب رضي الله تعالى عنه فإنه وهو محبوس موسى من بنت الحارث وفي الصحيح من بعض بنات الحارث ليستحد بها أي يحلق بها عانته فدرج لها ابن صغير وهي غافلة عنه حتى أتى الي خبيب رضي الله تعالى عنه فأجلسه خبيب رضي الله تعالى عنه على فخذه والموسى بيده فلما رأت ابنها على تلك الحالة فزعت فزعة عرفها خبيب رضي الله تعالى عنه فقال أتخشين أن اقتله ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى وذلك بكسر الكاف لأنه خطاب للمؤنث
وروى أنه رضي الله عنه أخذ بيد الغلام وقال هل أمكن الله منكم فقالت المرأة ما كان هذا ظني بك فرمى لها بالموسى وقال إنما كنت مازحا ما كنت لأغدر
وفي السيرة الشامية أن تلك المرأة قالت قال لي تعني خبيبا رضي الله تعالى عنه حين حضره القتل ابعثي الي بحديدة أتطهر بها للقتل أي وقد كان رضي الله تعالى عنه قال
____________________
(3/159)
لها إذا أرادوا قتل فآذنيني فلما أرداوا قتله آذنته فطلب منها تلك الحديدة قالت فأعطيت غلاما من الحي الموسى فقلت له ادخل بها على هذا الرجل البيت قالت فوالله لما دخل عليه الغلام قلت والله أصاب الرجل ثأره بقتل هذا الغلام ويكون رجل برجل فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال لعمرك ما خافت امك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إلي ثم خلي سبيله ويقال إن الغلام ابنها أي ويرشد اليه قول خبيب رضي الله تعالى عنه ما خافت امك
وكانت بنت الحارث تقول والله ما رأيت اسيرا خيرا من خبيب قالت والله لقد وجدته يوما أي وقد طلعت عليه من شق الباب يأكل قطفا من عنب في يده أي مثل رأس الرجل وإنه لموثق بالحديد وما بمكة ثمرة وفي رواية ولا أعلم في أرض الله عنبا يؤكل
أي واستدل أئمتنا بقصة خبيب هذه على أنه يستحب لمن اشرف على الموت أن يتعهد نفسه بتقليم أظفاره وأخذ شعر شاربه وإبطه وعانته ولعل ذلك كان بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأقره فلما انقضت الأشهر الحرم بانقضاء المحرم خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه في الحل فلما قدم للقتل قال لهم دعوني أصل ركعتين فتركوه فركع ركعتين وقال لم والله لولا أن تحبسوا أن ما بي من جزع لزدت ثم قال اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا أي متفرقين واحدا بعد واحد ولا تبق منهم احدا أي الكفار وقد قتلوا في الخندق متفرقين
قال ذكر انهم لما خرجوا به ليقتلوه خرج النساء والصبيان والعبيد فلما انتهوا به إلى التنعيم أمروا بخشبة طويله فحفروا لها فلما انتهوا بخبيب إليها وبعد صلاته للركعتين صلبوه على تلك الخشبة أي ليراه الوارد والصادر فيذهب بخبره الى الأطراف ثم قالوا له ارجع عن الإسلام نخل سبيلك وإن لم ترجع لنقتلنك قال إن قتلي في سبيل الله لقليل اللهم إنه ليس هنا أحد يبلغ رسولك عني السلام فبلغه أنت عني السلام وبلغه ما يصنع بنا
وعن أسامه بن زيد رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا مع اصحابه فأخذه ماكان يأخذه عند نزول الوحي فسمعناه يقول وعليه السلام
____________________
(3/160)
ورحمة الله وبركاته فلما سرى عنه صلى الله عليه وسلم قال هذا جبريل عليه السلام يقرئني من خبيب السلام خبيب قتلته قريش
وقد جاء أن المشركين دعوا أربعين ولدا ممن قتل آباؤهم يوم بدر فأعطوا كل واحد رمحا وقالوا هذا الذي قتل آباءكم فطعنوه بتلك الرماح حتى قتلوه ووكلوا بتلك الخشبة أربعين رجلا فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم المقداد والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في إنزال خبيب عن خشبته وفي لفظ قال صلى الله عليه وسلم أيكم ينزل خبيبا عن خشبته وله الجنة فقال له الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود فجاءا فوجدا عندها اربعين رجلا لكنهم سكارى نيام فأنزلاه وذلك بعد أربعين يوما من صلبه وموته
وحمله الزبير رضي الله تعالى عنه على فرسه وهو رطب لم يتغير منه شيء فشعر بهما المشركون أي وكانوا سبعين رجلا فبتعوهما فلما لحقوا بهما قذفه الزبير رضي الله تعالى عنه فابتلعته الأرض أ هـومن ثم قيل له بليع الأرض أي وكشف الزبير رضي الله تعالى عنه العمامة عن رأسه وقال لهم انا الزبير بن العوام وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان رابضان يذبان عن شبلهما فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم فانصرفوا عنهما
وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان عنده صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام فقال له جبريل يامحمد إن الملائكة تباهي بهذين الرجلين من أصحابك فنزل فيهما { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله } الآية وتقدم أنه قيل إنها نزلت في علي كرم الله وجهه لما نام على فراشة صلى الله عليه وسلم ليلة ذهابة الى الغار
وقيل إنها نزلت في حق صهيب لما أراد الهجرة ومنعه منها قريش فجعل لهم ثلث ماله أو كله كما تقدم
ورأيت بعضهم هنا قال إنها نزلت في صهيب رضي الله تعالى عنه لما أخذ المشركون ليعذبوه فقال لهم إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أو من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتدعوني وديني ففعلوا
وفي كلام ابن الجوزي رحمه الله أن عمرو بن أمية هو الذي أنزل خبيبا فعنه رضي الله تعالى عنه قال جئت الى خشبة خبيب فرقيت فيها فحللته فوقع الى الأرض ثم التفت فلم
____________________
(3/161)
أر خبيبا ابتعلته الأرض وهذا وهو الموافق لما في السيرة الهشامية وأن ذلك كان حين أرسله صلى الله عليه وسلم والأنصار لقتل أبي سفيان بن حرب كما سيأتي إن شاء الله تعالى أي كان خبيب رضي الله تعالى عنه تحرك على الخشبة فانقلب وجهه عن القبلة أي الكعبة فقال اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك فحول الله وجهه نحوها فقال الحمد لله الذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضي لنفسه ولنبيه عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين ودعا عليهم خبيب رضي الله تعالى عنه فقال اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما فألقى ابو سفيان بنفسه الى الأرض على جنبه خوفا من دعوة خبيب رضي الله تعالى عنه لأنهم كانوا يقولون ان الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه زال عنه أي لم تصبه تلك الدعوة
وقد ولي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سعد بن عامر رضي الله تعالى عنه على بعض أجناد الشام فقيل له إنه مصاب يلحقه غشى فاستدعاه فلما قدم عليه وجد معه مزودا وعكازا وقدحا فقال له عمر رضي الله تعالى عنه ليس معك الا ما أرى فقال له وما أكثر من هذا يا أمير المؤمنين مزودي أضع فيه زادي وعكازي أحمل به ذلك وقدحي آكل فيه فقال له عمر رضي الله تعالى عنه أبك لمم فقال لا فقال فما غشية بلغني أنها تصيبك فقال والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدي حين قتل وسمعت دعوته فوالله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلس قط الا غشى علي فزاده ذلك عند عمر رضي الله تعالى عنهما خيرا ووعظ عمر فقال له من يقدر على ذلك فقال أنت يا أمير المؤمنين إنما هو أن يقال فتطاع فقال له عمر رضي الله تعالى عنه إرجع الى عملك فأبى وناشده الإعفاء فأعفاه
وكان خبيب رضي الله تعالى عنه هو الذي سن لكل مسلم قتل صبرا الصلاة أي لأنه صلى الله عليه وسلم بلغه ذلك عنه فاستحسنه فكان سنة وهذا يدل على أن واقعة زيد ابن حارثة رضي الله تعالى عنهما متأخرة عن قصة خبيب رضي الله تعالى عنه لكن في النور والمعروف أن زيد بن حارثة صلاهما قبل خبيب بزمن طويل
وفي الينبوع أن قصة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما كانت قبل الهجرة أي وكان ابن سيرين رحمه الله إذا سئل عن الركعتين قبل القتل قال صلاهما خبيب رضي الله تعالى عنه وحجروهما فاضلان ويعني حجر بن عدي رضي الله تعالى عنه فإن
____________________
(3/162)
زيادا والي العراق من قبل معاوية رضي الله تعالى عنه وشى به الى معاوية فأمر معاوية بإحضاره فلما قدم على معاوية قال له السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال معاوية رضي الله تعالى عنه أو أمير المؤمنين أنا أضربوا عنقه فلما قدم للقتل قال ادعوني اصلي ركعتين فصلاهما خفيفتين ثم قال رضي الله تعالى عنه لولا أن تظنوا بي غير الذي بي لأطلتهما ثم قتل هو وخمسة من أصحابه
ولما حج معاوية رضي الله تعالى عنه وجاء المدينة زائرا استأذن على عائشة رضي الله تعالى عنها فأذنت له فلما قعد قالت له أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه قال إنما قتلهم من شهد عليهم
وقصة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما رواها الليث بن سعد قال بلغني أن زيد ابن حارثة اكترى بغلا من رجل بالطائف فمال به ذلك الرجل إلى خبربة وقال له إنزل فنزل زيد رضي الله تعالى عنه فإذا في الخربة المذكورة قتلى كثيرة فلما اراد أن يقتله قال له دعني أصلي ركعتين أي لأنه رأى أن الصلاة خير ما ختم به عمل العبد قال صل فقد صلى قبلك هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئا وهذا يدل على أن القتلى كلهم كانوا مسلمين قال فلما صليت أتاني ليقتلني فقلت يا أرحم الراحمين قال فسمع صوتا يقول لا تقتله فهاب ذلك فخرج يطلبه فلم ير شيئا فرجع الي فناديت يا أرحم الراحمين فعل ذلك ثلاثا فإذا بفارس على فرس في يده حربة حديد في راسها شعلة نار فطعنه بها فأنفذها من ظهره فوقع ميتا ثم قال لى لما دعوت الأولى يا أرحم الراحمين كنت في السماء السابعة فلما دعوت الثانية يا أرحم الراحمين كنت في السماء الدنيا فلما دعوت الثالثة أتيتك
أقول وقد وقع مثل ذلك لرجل من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الانصار يكنى ابا معلق وكان يتجر بمال له ولغيره يسافر به في الآفاق وكان ناسكا ورعا فخرج مرة في بعض أسفاره فلقيه لص مقنع في السلاح فقال له ضع ما معك فإني قاتلك فقال ما تريد من دمي فشأنك والمال فقال أما المال فلي ولست أريد إلا دمك فقال ذرني أصلي أربع ركعات فقال ما شئت فتوضأ ثم صلى اربع ركعات ثم دعا في آخر سجدة فقال يا ودود ياذا العرش المجيد يا فعال لما تريد اسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك
____________________
(3/163)
أن تكفيني شر هذا اللص يا ميغث أغثني وكرر ذلك ثلاث مرات فإذا هو بفارس قد أقبل بيده حربة وضعها من أدنى فرسه فلما بصر به اللص أقبل نحوه فطعنه الفارس فقتله ثم اقبل إلي أبي معلق فقال قم من أنت بأبى أنت وأمى فلقد أغلثتى الله بك اليوم أنا ملك من اهل السماء الرابعة دعوت بدعائك الأول فسمعت لأبواب السماء قعقة ثم دعوت بدعائك الثاني فسمعت لأهل السماء ضجة ثم دعوت بدعائك الثالث فقيل لي دعاء مكرون فسألت الله تعالى أن يوليني قتله قال أنس رضي الله تعالى عنه من فعل ذلك استجيب له مكروبا كان أو غير مكروب
أي وقد وقع نظير هذه المسألة أي من حيث إقراره صلى الله عليه وسلم على فعل غيره وهو أنهم كانوا يأتون الصلاة قد سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها فكان الرجل يشر الى الرجل كم صلى فيقول واحدة أو اثنتين فيصلهما وحده ثم يدخل مع القوم في صلاتهم فجاء معاذ رضي الله تعالى عنه فقال لا أجده صلى الله عليه وسلم على حال ابدا الا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها فثبت معه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قام ففضى ما عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قد سن لكم معاذ فكذا فاصنعوا أي وكان هذا قبل قوله صلى الله عليه وسلم ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا
وأخرج صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه زيدا رضي الله تعالى عنه إلى الحل مع مولى له ليقتله به واجتمع عند قتله رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فلما قدم للقتل قال له ابو سفيان رضي الله تعالى عنه أنشدك بالله يا زيد أتحب محمدا الآن عندنا مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك والله ما أحب أ محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني لخالص في أهلى فقال ابو سفيان رضي الله تعالى عنه ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ونقل مثل ذلك عن خبيب رضي الله تعالى عنه أي فإنهم لما وضعوا السلاح في خبيب رضي الله تعالى عنه وهو مصلوب نادوه وناشدوه أتحب أن محمدا مكانك قال لا والله ما أحب أن يؤذى بشوكة في قدمه ثم قتله ذلك المولى أي طعنه برمح في صدره حتى أنفذه من ظهره وقيل رمي بالنبل وأردوا فتنته عن دينه فلم يزدد إلا إيمانا
ولما قتل عاصم رضي الله تعالى عنه الذي أمير هذه السرية على ما تقدم أرادت
____________________
(3/164)
هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة وهي أم مسافع وجلاس ابني طلحة بن ابي طلحة بن عبد الدار وكلاهم بعضهم يقتضي أنها أسلمت بعد فإن عاصما هذا كما تقدم قتل يوم أحد ولديها كلاهما أشعره سهما وكل يأتي اليها بعد إصابته بالسهم ويضع رأسه في حجرها فتقول يا بني من أصابك فيقول سمعت رجلا يقول حين رماني خذها وأنا ابن أبي الأفلح فنذرت إن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر وجعلت لم يجيء براسه مائة ناقة كما تقدم فحالت الدبر بفتح الدال المهملة وسكون الباء الموحدة وهي الزنابير بينهم وبين عاصم رضي الله تعالى عنه كلما قدموا على قحفه طارت وفي وجوهم ولدغتهم فقالوا دعوه حتى يمسى فنأخذه فبعث الله الوادي أي سال فاحتمل السيل عاصما فذهب به حيث اراد الله فسمي حمى الدبر وبعث ناس من قريش لما بلغهم قتل عاصم في طلب جسده او شيء منه يعرفونه أي ليمثلوا به لأنه قتل عظيما من عظمائهم قال الحافظ ابن حجر لعله عقبه بن ابي معيط فإن عاصما قتله صبرا باذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن انصرفوا من بدر أي كما تقدم قال وكأن قريشا لم تشعر بما جرى لهذيل من منع الزنابير لهم عن عاصم او شعروا بذلك ورجوا أن الزنابير تركته أي ولم يشعروا بأن السيل أخذه أ هـأي وقد كان عاصم رضي الله تعالى عنه دعا الله أن لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك في حياته وتقدم هنا أنه دعا الله أن يحمي لحمه فاستجاب الله له فلم يحصل له ذلك لا في حياته ولا بعد موته
أي وفي كلام بعضهم لما نذر عاصم أن لا يمس مشركا ووفي بنذره عصمه الله عن مساس سائر المشركين إياه فصار عاصم معصوما هذا
وقيل إن هؤلاء العشرة لم يخرجوا ليأتوا بخبر قريش وإنما خرجوا مع رهط من عضل والقارة وهما بطنان من بني الهون قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من اصحابك يفقهونا في الدين ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الاسلام فبعث صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم معهم أولئك النفر فساروا حتى إذا كانوا على الرجيع استصرخصوا عليهم هذيلا فلم يشعروا الا والرجال بأيديهم السيوف فدعوهم فأخذوا أسيافهم ليقتلوا القوم فقالوا لهم والله لا نريد قتلكم ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة ولكم عهد الله وميثاقه ان لا نقتلكم فأبوا الحديث والحافظ الدمياطي رحمه الله اقتصر على هذا الثاني وأن اميرهم كان مرثدا الغنوي رضي الله
____________________
(3/165)
تعالى عنه فقال سرية مرثد الغنوي إلى الرجيع قال قدم رهط من عضل والقارة فقالوا يا رسول الله إن فينا إسلاما الحديث لكنه في سياق القصة قال وأمر عليهم عاصما وقيل مرثدا رضي الله تعالى عنهما وأخر هذه السرية عن السرية بعدها التي هي سرية القراء الى بئر معونة سرية القراء رضي الله تعالى عنهم إلى بئر معونة
لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو عامر بن مالك ملاعب الأسنة أي ويقال له ملاعب الرماح وهو رأس بني عامر أي ويقال له أيضا أبو براء بالمدلاغير وهو عم عامر بن الطفيل عدو الله أي وأهدي إليه صلى الله عليه وسلم ترسين وراحلتين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أقبل هدية من مشرك وفي رواية نهيت عن عطايا المشركين
أقول وفي كلام السهيلي أنه أهدى إليه فرسا وأرسل إليه إني قد أصانبي وجع فابعث الى بشيء أتداوى به فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم بعكة عسل وأمره أن يستشفى به وقال نهيت عن زبد المشركين قال السهيلي والزبد مشتق من الزبد لأنه نهى عن مداهنتهم واللين لهم كما أن المداهنة مشتقة من الدهن فرجع المعنى الى اللين كذا قال ولعل هذا كان بعد ما تقدم ويحتمل أن يكون قبله وهو الأقرب والله أعلم
فلما قدم عليه أبو عامر عرضي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ودعاه إليه فلم يسلم ولم يبعد عن الإسلام أي وقال إني أرى أمرك هذا أمرا حسنا شريفا أي ولم يسلم بعد ذلك على الصحيح خلافا لمن عده في الصحابة ثم قال يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد أي وهم بنو عامر وبنو سليم فدعوتهم الى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أخشى أهل نجد عليهم قال ابو براء أنالهم جاروهم في جواري وعهدي فابعثهم فليدعوا الناس الى أمرك وخرج أبو البراء إلى ناحية نجد وأخبرهم أنه قد أجار أصحاب محمد فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو رضي الله تعالى عنه في اربعين وقيل في سبعين وعليه اقتصر
____________________
(3/166)
الحافظ الدمياطي أي لأنه الذي في صحيح البخاري وقيل في ثلاثين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين
أي وذكر الحافظ ابن حجر أن هذا القيل وهم وأنه يمكن الجمع بين كونهم سبعين وكونهم اربعين بأن الأربعين كانوا رؤساء وبقية العدة كانوا أتباعا ويقال لهؤلاء القراء أي لملازمتهم قراءة القرآن فكانوا إذا أمسوا اجتمعوا في ناحية المدينة يصلون ويتدارسون القرآن فيظن أهلوهم أنهم في المسجد ويظن أهل المسجد أنهم في أهاليهم حتى إذا كان وجه الصبح استعذبوا من الماء واحتطبوا وجاءوا بذلك إلى حجر النبي صلى الله عليه وسلم
وفي كلام بعضهم أنهم كانوا يحتطبون بالنهار ويتدارسون القرآن بالليل وكانوا يبعيون الحطب ويشترون به طعاما لأصحاب الصفة
وقد يقال لا منافاة لجواز أنهم كانوا يفعلون هذا مرة وهذا أخرى أو بعضهم يفعل أحد الأمرين وبعضهم يفعل الآخر وكان منهم عامر بن فهيرة رضي الله تعالى عنه
وكتب صلى الله عليه وسلم لهم كتابا فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي بين أرض بني عامر وحرة بني سليم والحرة أرضى فيها حجارة سود فلما نزلوها بعثوا حرام بالحاء المهملة والراء ابن ملحان وهو خال أنس بن مالك بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل لعنه الله أي وهو راس بني سليم وفي لفظ سيد بني عامر وابن أخي أبي براء عامر بن مالك كما تقدم فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا عليه فقتله أي بعد أن قال يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم فآمنوا بالله ورسوله فجاء إليه رجل من خلفه فطعنه بالرمح في جنبه حتى نفذ من جنبه الآخر فقال الله أكبر فزت ورب الكعبة وقال بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه ثم استصرخ عليهم أي استغاث بني عامر فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا إنا لا نخفر بأبي براء أي لا نزيل خفارته وتنقض عهده وقد عقد لهم عقدا وجوارا فاستصرخ عليهم قبائل من سليم قال الحافظ الدمياطي عصية ورعلا وذكون زاد بعضهم وبني لحيان قال بعضهم وليس في محله
أقول كان قائله سري إلى هـذلك من كونه صلى الله عليه وسلم جمع بني لحيان في الدعاء عليهم مع من ذكر قلبه وسياتي أنه إنما جمعهم معهم لأن خبر أصحاب الرجيع وأصحاب
____________________
(3/167)
بئر معنة جاءه صلى الله عليه وسلم في يوم واحد وبنو ولحيان أصحاب الرجيع فدعا عليهم دعاء واحدا والله أعلم فلما دعا تلك القبائل الثلاثة التي هي عصية ورعل وذكوان أجابوه الى ذلك ثم خرجوا حتى أحاطوا بهم في رحالهم فلما رأوهم أخذوا سيوفهم فقاتلوهم حتى قتلوا إلى آخرهم إلا كعب بن زيد رضي الله تعالى عنه فإنه بقي به رمق وحمل من المعركة فعاش بعد ذلك حتى قتل يوم الخندق شهيدا وإلا عمرو بن أمية الضمري رضي الله تعالى عنه ورجلا آخر كانا في سرح القوم ولما أحاطوا بهم قالوا اللهم إنا لانجد من يبلغ رسولك عنا السلام غيرك فاقرأه منا السلام فأخبره جبريل عليه الصلاة والسلام بذلك فقال وعليهم السلام
أي وفي لفظ أنهم قالوا اللهم بلغ عنا نبينا صلى الله عليه وسلم أناقد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا فلماجاءه الخبرمن السماء قام صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن إخوانكم قد لقوا المشركين وقتلوهم وإنهم قالوا ربنا بلغ قومنا أنا قد لقينا ربنا ورضينا عنه ورضي عنا ربنا وفي لفظ فرضي عنا وأرضانا فأنا رسولهم اليكم إنهم قد رضوا عنه ورضي عنهم
وذكر انس رضي الله عنه أن ذلك أي قولهم المذكور كان قرآنا يتلى ثم نسخت تلاوته أي فصار ليس له حكم القرآن من التعبد بتلاوته وأنه لا يمسه إلا الطاهر ولا يتلى في صلاة إلى غير ذلك من أحكام القرآن
ولما رأى عمرو بن أمية والرجل الذي معه الطير تحوم على محل أصحابهما أي وكانا في رعاية إبل القوم كما تقدم قالا والله إن لهذا الطير لشأنا فأقبلا ينظران فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي اصابتهم واقفة فقال الرجل الذي مع عمرو ماذا ترى فقال أرى أن نلحق برسول الله فنخبره الخبر فقال له لكنى ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو فأقبلا فلقيا القوم فقتل ذلك الرجل وأسر عمرو فأخبرهم أنه من مضر فأخذه عامر بن الطفيل وجز ناصايته وأعتقه عن رقبة كانت على أمه فخرج عمرو حتى جاء إلى ظل فجلس فيه فأقبل رجلان حتى نزلا به معه فسألهما فأخبراه انهما من بني عامر وفي لفظ من بني سليم وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعلم به عمرو فأمهلهما حتى ناما فعدا عليهما فقتلهما وهو يرى أي يظن أنه قد أصاب بهما ثأرا من بني عامر فلما قدم عمرو
____________________
(3/168)
على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره الخبر وأخبره بقتل الرجلين فقال له لقد قتلت قتيلين لأدينهما أى لأدفعن ديتهما ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارها متخوفا ولما بلغ أبا براء أن عامر بن الطفيل ولد أخيه أزال خفارته شق عليه ذلك وشق عليه ما أصاب اصحاب الرسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه فعند ذلك حمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل أي الذي هو ابن عمه فطعنه بالرمح فوقع في فخذه ووقع عن فرسه وقال إن أنا مت فدمي لعمي يعني ابا براء وإن أعش فسأرى رأي أي وفي لفظ نظرت في أمري
وفي الإصابة أن ربيعة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أيغسل عن أبي هذه العذرة أن أضرب عامر بن الطفيل ضربة أو طعنة قال نعم فرجع ربيعة فضرب عامرا ضربة أشواه منها فوثب عليه قومه فقالوا لعامر بن الطفيل اقتص فقال قد عفوت أي وعقب ذلك مات أبو براء أسفا على ما صنع به أبن أخيه عامر بن الطفيل من إزالته خفارته وعاش عامر بن الطفيل ولم يمت من هذه الطعنة بل مات بالطاعون بدعائه صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في الوفود في وفد بني عامر
أي وقال بعضهم قد أخطأ المستغفري في عده صحابيا ولما قتل عامر بن فهيرة رضي الله تعالى عنه رفع الى السماء فلما رأى قاتله ذلك أسلم أي وهو جبار بن سلمى أي لا عامر بن الطفيل كما وقع في بعض الروايات كما علمت
وقال صلى الله عليه وسلم أي لما بلغه قتل عامر بن فهيرة إن الملائكة وارت جثة عامر بن فهيرة أي في الارض أي بناء على أنه لما رفع الى السماء وضع كما في البخاري فقد جاء أن عامر بن الطفيل قال لعمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه واشار الى قتيل من هذا فقال له عمرو هذا عامر بن فهيرة فقال لقد رأيته بعد ما قتل رفع الى السماء حتى إني لأنظر الى السماء وبين الأرض ثم وضع
وفي بعض الروايات أن عامر بن فهيرة التمس في القتلى يومئذ أي فلم يوجد فيرون أن الملائكة رفعته وظاهرها أن الملائكة لم تضعه في الأرض بل رفعته أي ويؤيده أن عامر بن الطفيل لعنه الله دخل بعمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه في القتلى وصار يقول له ما اسم هذا ما اسم هذا ما اسم هذا ثم قال له هل من أصحابك من ليس فيهم قال نعم ما رايت فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما قال له عامر
____________________
(3/169)
أي رجل هو فيكم قال من أفضلنا وأولى أي ومن أولى المسلمين من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عامر لما قتل رأيته رفع الى السماء
وعن انس بن مالك رضي الله عنه أنه قال ما رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على أحد ما وجد على أصحاب بئر معونة ومكث يدعو عليهم ثلاثين صباحا
أقول وفي رواية الشيخين قنت شهرا أي متتابعا يدعو على قاتلي أصحاب بئر معونة أي بعد الاعتدال في الصلوات الخمس من الركعة الأخيرة وحينئذ يكون المراد بالصباح اليوم وليلته
وذكر بعض أصحابنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الدعاء المذكور وقاس عليه رفعهما في قنوت الصبح وروى الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في قنوت الصبح
واستدل أصحابنا على استحباب القنوت للنازلة في سائر المكتوبات بقنوته ودعائه على قاتلي أصحاب بئر معونة
وفي بعض السير فدعا النبي صلى الله عليه وسلم شهرا عليهم في صلاة الغداة وفي لفظ يدعو في الصبيح وذلك بدء القنوت وما كان يقنت رواه الشيخان
وقد سئل الجلال السيوطي هل دعاؤه صلى الله عليه وسلم على من قتل أصحابه كان عقب فراغه من القنوت المشهور أوكان الدعاء هو قنوته فأجاب رحمه الله بأنه لم يقف على شيء من الأحاديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين القنوت والدعاء قال بل ظاهر الأحاديث أنه اقتصر على الدعاء أي فيكون قنوته هو الدعاء وهو الموافق لقول أصحابنا ويستحب القنوت في اعتدال آخره صببح مطلقا وآخر سائر المكتوبات أي باقها للنازلة وهو اللهم اهدنا الخ في أن أل في القنوت للعهد والله أعلم
وفي رواية أنه يدعو على الذين أصابوا أصحابه في الموضعين أي بئر معونة والرجيع دعاء واحدا لانه صلى الله عليه وسلم جاءه خبرهما في وقت واحد كما تقدم وأدمج البخاري رحمه بئر معونة مع بعث الرجيع لقربهما في الزمن أي ففيه مكث رسول صلى الله عليه وسلم يدعو على أحياء من العرب على رعل وذكوان وعصية وبنى لحيان أي وهو يقتضي أنهما شئ واحد ليس كذلك وقد علمت أن بني لحيان قتلوا أصحاب الرجيع ومن قبلهم قتلوا أصحاب بئر معونة والله سبحانه وتعالى أعلم
____________________
(3/170)
سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء
بالقاف مفتوحة وبالطاء المهملة وهم بنو بكر من كلاب
بعث صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة إلى القرطاء في ثلاثين راكبا أي وأمره أن يسير الى الليل ويكمن النهار وأمره أن يشن عليهم الغارة فسار الليل وكمن النهار قال وصادف في طريقه ركبانا نازلين فأرسل اليهم رجلا من أصحابه يسأل من هم فذهب الرجل ثم رجع إليه فقال قوم من محارب فنزل قريبا ثم أمهلهم حتى عطنوا أي بركوا الإبل حول الماء أغار عليهم فقتل نفرا منهم أي عشرة وهرب سائرهم واستاق نعما وشاء ولم يتعرض للظعن أي للنساء أنتهى ثم انطلق حتى إذا كان بموضع يطعله على بني كبر بعث عابد بن بشير إليهم وخرج محمد بن مسلة رضي الله تعالى عنه في أصحابه فشن عليهم الغارة فقتل منهم عشرة واستاقوا النعم والشاه ثم انحدر رضي الله تعالى عنه الى المدينة فخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به وعدل الجزور بعشرة من الغنم وكان النعم مائة وخمسين بعيرا والغنم ثلاثة آلاف شاة وأخذت تلك السرية ثمامة بن أثال الحنفي من بني حنيفة أي سيد أهل اليمامة وهم لا يعرفونه وجي به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم أتدرون من أخذتم هذا ثمامة بن أثال الحنفي فأحسنوا إساره أي قيده فربط بسارية من سواري المسجد
قال وقيل إن هذه السرية لم تأخذه بل دخل المدينة وهو يريد مكة للعمرة فتحير في المدينة وقد كان جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند رسولا مسيلمة وأراد اغتياله صلى الله عليه وسلم فدعا ربه أن يمكنه منه فأخذ وجيء به الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فربط بسارية من سواري المسجد فدخل صلى الله عليه وسلم على أهله فقال اجمعوا ما كان عندكم من طعام فابعثوا به اليه وأمر له صلى الله عليه وسلم بناقة يأتيه لبنها مساء وصباحا وكان ذلك لا يقع عند ثمامة موقعا من كفايته أي وجاء اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مالك ياثمام هل أمكن الله منك فقال قد كان ذلك يا محمد وصار رسول الله يأتيه فيقول ما عندك يا ثمامة فيقول يا محمد عندي خير إن تقتل تقتل ذا كرم وفي لفظ ذا دم وإن تعف تعف عن شاكر
____________________
(3/171)
وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ففعل ذلك معه ثلاثة أيام قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه فجعلنا أيها المساكين أي أصحاب الصفة نقول نبينا صلى الله عليه وسلم ما يصنع بدم ثمامة والله لأكله جزور سمينة من فدائه أحب الينا من دم ثمامة
وفي الاستيعاب أنه صلى الله عليه وسلم انصرف عن ثمامة وهو يقول اللهم أكلة لحم من جزور أحب الي من دم ثمامة ثم أمر به فأطلق ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الثالث قال أطلقوا ثمامة فقد عفوت عنك يا ثمامة فأطلق فانطق الى ماء جار قريب من المسجد فاغتسل وطهر ثيابه ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
أي وهذا يخالف ما ذكره فقهاؤنا من الاستدلال بقصة ثمامة على أنه يستحب لمن أسلم أن يغتسل لإسلامه ثم رأيت بعض متأخري أصحابنا أجاب بأنه أسلم أولا ثم لما اغتسل أظهر إسلامه
وفي الاستيعاب فأسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل كما في رواية أخرى أنه قال يا محمد والله ما كان على الارض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي والله ما كان على الأرض من دين أبغض إلي من دينك فقد أصبح دينك أحب الدين كله إلي والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فقد أصبح بلدك أحب البلاد إلي ثم شهد شهادة الحق فلما أمسى جيء له بما كان يأتيه من الطعام فلم ينل منه الا قليلا ولم يصب من حلاب اللقحة الا يسيرا فعجب المسلمون قال وقال يا رسول الله إني خرجت معتمرا وفي لفظ في الصحيح فإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى فأمره أن يعتمر فلما قدم بطن مكة لبى فكان أول من دخل مكة ملبيا فأخذته قريش فقالوا لقد اجترأت علينا أنت صبوت يا ثمامة قال أسلمت وتبعت خير دين محمد والله لا يصل اليكم حبة من حنطة أي من اليمامة من أرض اليمن وكانت ريفا لأهل مكة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدموه ليضربوا عنقه فقال قائل منهم دعوه فإنكم تحتاجون الى اليمامة فخلوا سبيله فخرج ثمامة الى اليمامة فمنعهم أن يحملوا الى مكة شيئا حتى أضربهم الجوع وأكلت قريش العلهز وهو الدم يخلط بأوبار الإبل فيشوى على النار كما تقدم فكتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قطعت أرحامنا فكتب
____________________
(3/172)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة رضي الله تعالى عنه أن يخلي بينهم وبين الجمل وفي لفظ خل بين قومي وبين ميرتهم ففعل فأنزل الله تعالى { ولقد أخذناهم بالعذاب } الآية هذا
والذي في الاستيعاب أن ثمامة لما دخل مكة وقد سمع المشركون خبره فقالوا يا ثمامة صبوت وتركت دين أبائك قال لا أدري ما تقولون إلا أني أقسمت برب هذه البنية يعني الكعبة لا يصل إليكم من اليمامة شيء مما تنتفعون به حتى تتبعوا محمدا من آخركم وكانت ميرة قريش ومنافعهم من اليمامة ثم خرج رضي الله تعالى عنه فمنع عنهم ما كان يأتي منها فلما أضرب بهم ذلك كتبوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحث عليها وإن ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر بنا فإن رأيت أن تكتب اليه أن يخلي بيننا وبين ميترنا فافعل فكتب اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خل بين قومي وبين ميرتهم
ولما عجب المسلمون من أكله بعد إسلامه رضي الله تعالى عنه لكونه دون أكله قبل إسلامه قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مم تعجبون أمن رجل أكل أول النهار في معي كافر وأكل آخر النهار في معي مسلم إن الكافر ليأكل في سبعة أمعاء وإن المسلم يأكل في معي واحد انتهى
أي وقد وقع له صلى الله عليه وسلم ذلك مع جهجاه الغفاري رضي الله تعالى عنه فإنه أكل مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر فأكثر ثم أكل معه وقد أسلم فأقل فقال النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ولعل المراد بالأكل ما يشمل الشرب ثم رأيت في الجامع الصغير إن الكافر ليشرب في سبعة أمعاء والمسلم يشرب في معي واحد والمراد أنه يأكل ويشرب مثل الذي يأكل ويشرب في سبعة أمعاء
وكان رضي الله تعالى عنه مقيما باليمامة ولما ارتد أهل اليمامة ثبت ثمامة في قومه على الإسلام وكان ينهاهم عن اتباع مسيلمة لعنه الله ويقول لهم إياكم وأمرا مظلما لا نور فيه وإنه لشقاء كتبه الله على من اتبعه منكم
____________________
(3/173)
سرية عكاشة بن محصن رضي الله تعالى عنه الى الغمر
بفتح الغين المعجمة وسكون الميم والراء ماء لبني أسد أي جمع من بني أسد
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن الأسدي رضي الله تعالى عنه في أربعين رجلا منهم ثابت بن أرقم رضي الله تعالى عنه وقيل إن ثابتا رضي الله تعالى عنه هو الذي كان الأمير على هذه السرية فخرج يسرع في السير إلى أن وصل إلى الماء المذكور فوجد القوم علموا بهم فهربوا ولم يجدوا في دارهم أحدا فبعث شجاع بن وهب طليعة يطلب خبرا ويرى أثرا فأخبر أنه رأى أثر نعم قريبا فخرجوا فوجدوا رجلا نائما فسألوه عن خبر الناس فقال وأين الناس لقد لحقوا بعليات بلادهم قالوا فالنعم قال معهم فضربه أحدهم بسوط في يده فقال تؤمنوني على دمي وأطلعكم على نعم لبني عم له لم يعلموا بمسيركم إليهم قالوا نعم فأمنوه فانطلقوا معه فأمعن أي بالغ في الطلب حتى خافوا أن يكون ذلك غدرا منه لهم فقالوا الله لتصدقنا أو لنضربن عنقك فقال تطلعون عليهم من هذا المحل فلما طلعوا منه وجدوا نعما رواتع فأغاروا عليها فاستاقوها فإذا هي مائة بعير وشردت الأعراب في كل وجه ولم يطلبوهم وانحدروا الى المدينة بتلك الإبل وأطلقوا الرجل الذي أمنوه والله أعلم سرية محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه لذى القصة
بفتح القاف والصاد المهملة المشددة وهو موضع قريب من المدينة
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة في عشرة نفر لبني ثعلبة وبني عوال من ثعلبة بذي القصة فورد عليهم ليلا فكمن القوم وهم مائة رجل لمحمد بن مسلمة وأصحابه وأمهلوهم حتى ناموا وأحدقوا بهم أي فما شعروا الا وقد خالطهم القوم فوثب محمد بن مسلمة فصاح في أصحابه السلاح فوثبا وتراموا ساعة ثم حمل القوم عليهم بالرماح فقتلوهم ووقع محمد بن مسلمة جريحا فضربوا كعبه فلم يتحرك فظنوا موته فجردوه من الثياب وانطلقوا ومر بمحمد وأصحابه زجل من المسلمين فاسترجع فلما سمعه محمد رضي الله تعالى عنه يسترجع تحرك له فأخذه وحمله
____________________
(3/174)
إلى المدينة فعند ذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلا إلى مصارعهم فلم يجدوا أحدا ووجدوا نعما وشاء فانحدروا بها الى المدينة سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه إلى ذي القصة ايضا
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه في اربعين رجلا الى من بذي القصة فانه بلغه صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون أن يغيروا على سرح المدينة وهو يرعى يومئذ بمحل بينه وبين المدينة سبعة اميال فصلوا المغرب ومشوا ليلتهم حتى وافوا ذا القصة مع عماية الصبح فأغاروا عليهم فأعجزوهم هربا في الجبال وأسروا رجلا واحدا وأخذوا نعما من نعمهم ورثة أي ثياباخلقة من متاعهم وقدموا بذلك الى المدينة فخمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم رجل فتركه صلى الله عليه وسلم سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى بني سليم بالجموح
بفتح الجيم وهو اسم لناحية من بطن نخل
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة الى بني سليم بالجموح فسار حتى ورد ذلك المحل فاصابوا امرأة من مزينة فدلتهم على محلة من محال القوم فاصابوا في تلك المحلة إبلا وشاء واسروا منها جماعة من جملتهم زوج تلك المرأة وانحدروا بذلك الى المدينة فوهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة نفسها وزوجها سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى العيص
وهو محل بينه وبين المدينة اربع أميال
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيرا لقريش قد أقبلت من الشام فبعث زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكب ليعترضها وكان فيها أبو العاص بن الربيع وقدم به
____________________
(3/175)
وبتلك العير المدينة فاستجار أبو العاص بزوجته زينب رضي الله تعالى عنها فأجارته ونادت في الناس حين صلى الله عليه وسلم الفجر أي دخل في الصلاة هو وأصحابه فقالت أيها الناس إني قد أجرت ابا العاص بن الربيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي لما سلم واقبل على الناس وقال هل سمعتم ما سمعت قالوا نعم قال أما والذي نفسي بيده ما علمت بشء من هذا أي ثم انصرف صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته وقال قد أجرنا من أجرت قال وقال صلى الله عليه وسلم المؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم أي وفي الصحيحين ذمة المسلمين واحدة يسعى بها والملائكة والناس أجمعين ثم دخلت عليه صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله تعالى عنها فسالته أن يرد على أبي العاص ما اخذ منه فأجابها الى ذلك وقال لها صلى الله عليه وسلم أي بنية أكرمي مثواه ولا يخلص إليك فإنك لا تحلين له أي لتحريم نكاح المؤمنات على المشركين أي كما تقدم في الحديبية
وبعث صلى الله عليه وسلم للسرية فقال لهم إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم وقد أصبتم له مالا فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك وغن أبيتهم فهو فيء الله الذي فاء عليكم فأنتم أحق به فقالوا يا رسولالله بل نرد عليه فرد عليه ما أخذ منه
وهذا السياق يدل على أن ذلك كان قبل صلح الحديبية ووقوع الهدنة لأن بعد ذلك لم تتعرض سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش وهو يخالف قوله صلى الله عليه وسلم لها لا يخلص اليك لأن تحريم نكاح المؤمنات على المشركين إنما كان في الحديبية
وقد ذكر بعضهم أن ذلك كان قبيل الفتح سنة ثمان ومن ثم ذكر الزهري وتبعه ابن عقبة رحمهما الله تعالى أن الذين اخذوا هذا العير وأسروا من فيها أبو بصير وأبو جندل وأصحابهما رضي الله تعالى عنهم لأنهم كانوا في مدة صلح الحديبية من شأنهم أن كل أخذوا هذه العير خلوا سبيل ابي العاص لكونه صهر رسول الله صلى الله عليه وقيل أعجزهم هربا وجاء تحت الليل فدخل على زوجته زينب رضى الله تعالى عنها وسلم فاستجار بها فأجارته ثم كلمها في أصحابه الذين اسروا فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(3/176)
في ذلك فخطب الناس وقال إنا صاهرنا أبا العاص فنعم الصهر وجدناه وإنه قد اقبل من الشام في أصحاب له من قريش فأخذهم أبو جندل وأبو نصير واسروهم وأخذوا ما كان معهم وأن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتني أن أجيرهم فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه فقال الناس نعم فلما بلغ أبا جندل وأبا بصير وأصحابهما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوا الأسرى وردوا عليهم كل شيء حتى العقال
وصوب في الهدى هذا الذي ذكره الزهري أي لما علمت أن مما يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لبنته زينب ولا يخلص إليك فإنك لا تحلين له لأن تحريم نكاح المؤمنات على المشركين إنما كان بعد الحديبية
وذكر أن المسلمين قالوا لابي العاص يا أبا العاص إنك في شرف من قريش وأنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أي لأنه يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده عبد مناف فهل لك أن تسلم فتغنم ما معك من أموال أهل مكة فقال بئسما أمرتموني أفتتح ديني بغدرة أي بالغدر وعدم الوفاء ثم ذهب أبو العاص الى أهل مكة فأدى كل ذي حق حقه ثم قام فقال يا أهل مكة هل بقي لأحد منكم مال لم يأخذه هل وفيت ذمتي فقالوا اللهم نعم فجزاك الله خيرا فقد وجدناك وفيا كريما فقال إني أشهد أن لا إله الا الله وأن محمدا عبد ورسوله والله ما منعني عن الإسلام عنده إلا خشية أن تظنوا أني إنما أردت ان آكل أموالكم
ثم خرج حتى قدم المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فرد له رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله تعالى عنها على النكاح الأول ولم يحدث نكاحا وذلك بعد ست سنين وقيل بعد سنة واحدة انتهى
اقول وفي رواية بعد سنتين والمتبادر ان السنة أو السنتين من إسلامها دونه وهو مخالف لما عليه اهل العلم من أنه لا بد أن يجتمع الزوجان في الإسلام والعدة ومن ثم قالت طائفة منهم الترمذي هذا حديث ليس بإسناده بأس ولكن لا يعرف وجهه
وفي كلام بعض الحفاظ يمكن أن يقال قوله بعد ست سنين ولم يقل من إسلامها دونه صيره مجهول تاريخ الابتداء فلا يصح الاستدلال به
وعن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد بنته
____________________
(3/177)
زينب على أبي العاص بن ا لربيع بمهر جديد ونكاح جديد قال بعضهم وهذا في إسناده مقال وقال غيره هذا حديث ضعيف وقال آخر لا يثبت والحديث الصحيح إنما هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح 2 الأول
وقال ابن عبد البر حديث أنه صلى الله عليه وسلم أقرهما على النكاح الأول متروك لا يعمل به عند الجميع وحديث ردها بنكاح جديد عندنا صحيح يعضده الأصول وإن صح الأول أريد به على الصداق الأول وهو حمل حسن هذا كلامه
قال بعضهم تصحيح ابن عبد البر الحديث إنه ردها بنكاح جديد مخالف لكلام ائمة الحديث كالبخاري وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد القطان والدارقطني والبيهقي وغيرهم هذا كلامه
وفي كون زينب رضي الله تعالى عنها كانت مشتركة واسلمت قبل زوجها المشعر به قول بعضهم ولم يقل من إسلامها نظر لأنها اتبعت ما بعث به أبوها صلى الله عليه وسلم من غير تقدم شرك منها
لا يقال فحيث كانت مسلمة فكيف زوجها من أبي العاص وهو كافر لأنا نقول على فرض أنه صلى الله عليه وسلم زوجها له بعد البعث فقد زوجها له قبل نزول قوله تعالى { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } لأن تلك الآية نزلت بعد صلح الحديبية كما علمت على أن ابن سعد ذكر انه صلى الله عليه وسلم زوجها له في الجاهلية أي قبل البعثة والله أعلم سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى بني ثعلبة
أي بالطرف ككتف اسم ماء
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة الى بني ثعلبة في خمسة عشرة رجلا أي بالطرف فاصاب عشرين بعيرا وشاء واقتصر الحافظ الدمياطي على النعم ولم يذكر الشاء ولم يجد احدا لأنهم ظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار اليهم فصبح زيد رضي الله تعالى عنه بالنعم والشاء المدينة أي وقد خرجوا في طلبه فأعجزهم وكان شعارهم الذي يتعارفون به في ظلمة الليل أمت أمت
____________________
(3/178)
سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما إلى جذام
محل يقال له حسمى بكسر الحاء المهملة وسكون السين على وزن فعلى وهو موضع وراء وادي القرى يقال إن الطوفان أقام بذلك المحل بعد نضوبه أي ذهابه ثمانين سنة
وسببها أن دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه أقبل من عند قيصر ملك الروم أي وكان صلى الله عليه وسلم وجهه إليه كذا قيل ولعله من تصرف بعض الرواة أو أنه أرسله إليه بغير كتاب وإلا فإرساله إليه بالكتاب كان بعد هذه السرية لأنه كان بعد الحديبية
ولم وصل رضي الله تعالى عنه إليه أجازه بمال وكساء فأقبل بذلك إلى أن وصل ذلك المحل فلقيه الهنيد وابنه في ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق وسلبوه ما معه ولم يتركوه عليه إلا ثوبا خلقا فسمع بذلك نفر من جذام من بني الضبيب أي ممن اسلم منهم فنفروا اليهم واستنقذوا لدحية رضي الله تعالى عنه ما أخذ منه وقدم دحية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فبعث زيد بن حارثة في خمسمائة رجل ورد معه دحية وكان زيد رضي الله تعالى عنه يسير بالليل ويكمن بالنهار ومعه دليل من بني عذرة فأقبل حتى هجم على القوم أي على الهنيد وابنه من كان معهم من الصبح فقتلوا الهنيد وابنه ومن كان معهم وأخذوا من النعم ألف بعير ومن الشاء خمسة آلاف ومن السبي مائة من النساء والصبيان قال ولما سمع بنو الضبيب بما صنع زيد رضي الله تعالى عنه ركبوا وجاءوا الى زيد وقال له رجل منهم إنا قوم مسلمون فقال له زيدا اقرا أم الكتاب فقرأها ثم قدم منهم جماعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه الخبر وقال بعضهم يا رسول الله لنا تحرم علينا حلالا ولا تحل لنا حراما فقال كيف أصنع بالقتلى فقال أطلق لنا من كان حيا ومن قتل فهو تحت قدمي هاتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق فقالوا ابعث معنا رجلا لزيد رضي الله تعالى عنه فبعث صلى الله عليه وسلم معهم عليا كرم الله وجهه يأمر زيدا أن يخلي بينهم وبين حرمهم وأموالهم أي فقال علي يا رسول الله إن زيدا لا يطيعني فقال خذ سيفي هذا فأخذه وتوجه فلقي علي كرم الله وجهه رجلا أرسله زيد رضي الله تعالى عنه مبشرا على ناقة من إبل القوم فردها علي كرم الله وجهه على القوم وأردفه خلفه ولقي
____________________
(3/179)
زيدا فأبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وعند ذلك قال له زيد ما علامة ذلك فقال هذا سيفه صلى الله عليه وسلم فعرف زيد السيف وصاح بالناس فاجتمعوا فقال من كان معه شيء فليرده فهذا سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد الناس كافة كل ما أخذوه انتهى
أقول وهذا السياق يدل على أن جميع ما أخذه من النعم والشاء والسبي كان لمن أسلم من جذام من بني الضبيب وإن بعض من قتل مع الهنيد وابنه كان مسلما وفي ذلك من البعد مالا يخفى والله أعلم سرية أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه لبني فزارة كما في صحيح بوادي القرى
عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه إلى فزارة وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح أمرنا فشنينا الغارة فوردنا الماء فقتل ابو بكر أي جيشه من قتل ورأيت طائفة منهم الذرارى فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم ورميت بسهم بينهم وبين الجبل فلما رأوا السهم وقفوا وفيهم امرأة أي وهي أم قرفة عليها قشع من أدم أي فروة خلقة معها ابنتها من أحسن العرب فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر فنفلني أبو بكر رضي الله عنه ابنتها فلم أكشف لها ثوبا فقدمنا المدينة فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا سلمة هب لي المراة لله أبوك أي أبوك لله خالصا حيث أنجب بك وأتى بمثلك يقال ذلك في مقام المدح والتعجب أي وقد كان وصف له صلى الله عليه وسلم جمالها فقلت هي لك يا رسول الله فبعث الله رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مكة ففدى بها أسرى من المسلمين كانوا في أيدي المشركين
وفي لفظ فدى بها اسيرا كان في قريش من المسلمين كذا ذكر الأصل أن أمير هذه السرية أي التي أصابت أم قرفة ابو بكر رضي الله تعالى عنه وأنه الذي في مسلم
وذكر في الاصل قبل ذلك عن ابن أسحاق وابن سعد أن أمير هذه السرية أي التي أصابت أم قرفة زيد بن حارثة رضي الله عنهما وأنه لقي بني فزارة وأصيب بها ناس من
____________________
(3/180)
أصحابه وانفلت زيد من بين القتلى أي احتمل جريحا وبه رمق فلما قدم زيد رضي الله تعالى عنه نذر أن لا يمس رأسه غسل من الجنابة حتى يغزو بني فزارة فلما عوفي أرسله صلى الله عليه وسلم إليهم فكمنوا النهار وساروا الليل حتى أحاطوا بهم وكبروا وأخذوا أم قرفة وكانت أم قرفة في شرف من قومها وكان يعلق في بيتها خمسون سيفا كلهم لها محرم وكان لها اثنا عشر ولدا ومن ثم كانت العرب تضرب بها المثل في العزة فتقول لو كنت أعز من أم قرفة فأمر زيد بن حارثة أن تقتل أم قرفة أي لأنها كانت تسب النبي صلى الله عليه وسلم
وجاء أنها جهزت ثلاثين راكبا من ولدها وولد ولدها وقالت لهم اغزوا المدينة واقتلوا محمدا لكن قال بعضهم إنه خبر منكر فربط برجليها حبلين ثم ربطا الى بعيرين وزجرهما أي وقيل إلى فرسين فركضا فشقاها نصفين وقرفة ولدها هذا الذي تكنى به قتله النبي صلى الله عليه وسلم وبقية أولادها قتلوا مع أهل الردة في خلافة الصديق فلا خير فيها ولا في بنيها ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنة أم قرفة وذكر له صلى الله عليه وسلم جمالها فقال صلى الله عليه وسلم لابن الأكوع يا سلمة ما جارية اصبتها قال يا رسول الله جارية رجوت أن أفدي بها امرأة منا في بني فزارة فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام مرتين أو ثلاثا فعرف سلمة انه صلى الله عليه وسلم يريدها فوهبها له فوهبها النبي صلى الله عليه وسلم لخاله حزن بن أبي وهب ابن عمرو بن عائذ بمكة وكان أحد الأشراف فولدت له عبد الرحمن بن حزن وإنما قيل لحزن خاله لأن فاطمة أم أبي النبي صلى الله عليه وسلم هي بنت عائذ كما تقدم وعائذ جد حزن لأبيه وفي لفظ بنت عمرو بن عائذ
وفي كلام السهيلي أن رواية الفداء لمن كان أسيرا بمكة أصح من رواية أنه صلى الله عليه وسلم وهبها لخاله حزن
وجمع الشمس الشامي بين الروايتين حيث قال يحتمل أنهما سريتان اتفق لسلمة بن الأكوع فيهما ذلك أي إحداهما لأبي بكر والأخرى لزيد بن حارثة ويؤيد ذلك أن في سرية أبي بكر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ببنت أم قرفة الى مكة ففدى بها أسرى كانوا في أيدي المشركين أي وفي سرية زيد وهبها لخاله حزن بمكة قال ولم أر من تعرض لتحرير ذلك انتهى
____________________
(3/181)
أقول في هذا الجمع نظر لانه يقتضى أن أم قرفة تعددت وأن كل واحدة كانت لها بنت جميلة وأن سلمة بن الأكوع أسرهما وأنه صلى الله عليه وسلم أخذهما منه وفي ذلك بعد إلا أن يقال لا تعدد لأم قرفة وتسمية المراة في سرية أبي بكر أم قرفة وهم من بعض الرواة ويدل عليه أن بعضهم أوردها ولم يسم المراة أم قرفة بل قال فيهم امرأة من بني فزارة معها ابنة لها من أحسن العرب فنفلني أبو بكر بنتها فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوبا فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوف مرتين في يومين فقال يا سلمة هبني المراة فقلت هي لك فبعث بها الى مكة ففدي بها ناسا كانا أسرى بمكة
ثم لا يخفى أن ما ذكره الأصل عن ابن اسحاق وابن سعد من أنه صلى الله عليه وسلم أرسل زيد بن حارثة الى وادي القرى أي غازيا لبني فزارة وأنه لقيهم وأصيب بها ناس من أصحابه وأفلت زيد من بين القتلى جريحا الخ يخالفه ما ذكره عن ابن سعد مما يقتضي ان زيد بن حارثة في هذه لم يكن غازيا بل كان تاجرا وانه لم يرسل لبني فزارة وانما اجتاز بهم فقاتلوه
والمذكور عن ابن سعد ما نصه قالوا خرج زيد بن حارثة في تجارة الى الشام ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان دون وادي القرى لقيه ناس من فزارة فضربوه وضربوا أصحابه أي فظنوا أنهم قد قتلوا وأخذوا ما كان معهم فقدموا المدينة ونذر زيد أن لا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزوة بني فزارة فلما خلص من جراحته بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية لهم وقال لهم اكمنوا النهار وسيروا الليل فخرج بهم دليل من بني فزارة وقد نزر بهم القوم فكانوا يجعلون له ناظورا حين يصبحون فينظر على جبل يشرف على وجه الطريق الذي يرون أن المسلمين يأتون منه فينظر قدر مسيرة يوم فيقول اسرحوا فلا بأس عليكم فإذا امسوا أشرف ذلك الناظر على ذلك الجبل فينظر مسيرة ليلة فيقول ناموا فلا بأس عليكم في هذه الليلة فلما كان زيد ابن حارثة وأصحابه على نحو مسيرة ليلة أخطأ بهم الدليل الفزاري طريقهم فأخذ بهم طريقا أخرى حتى أمسوا وهم على خطا فعاينوا الحاضر من بني فزارة فحمدوا خطأهم فكمن لهم في الليل حتى اصبحوا فأحاطوا بهم ثم كبر زيد وكبر أصحابه إلى آخر ما تقدم
ولما قدم زيد بن حارثة المدينة جاء إليه صلى الله عليه وسلم وقرع عليه الباب فخرج
____________________
(3/182)
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عريانا يجر ثوبه واعتنقه وقبله وسأله فأخبره بما ظفره الله تعالى به
وحينئذ يشكل قوله في الاصل ثبت عن ابن سعد أن لزيد بن حارثة سريتين بوادي القرى إحداهما في رجب والأخرى في رمضان فإنه بظاهره يقتضي أنه أرسل غازيا المرتين لبني فزراة بوادي القرى
وقد علمت أن كلام ابن سعد يدل على أن زيد بن حارثة في السرية الأولى إنما كان تاجرا اجتاز ببني فزارة بوادي القرى فقاتلوه هو وأصحابه وأخذوا معهم
ثم رأيت الأصل تبع في ذلك شيخه الحافظ الدمياطي حيث قال سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى في رجب قالوا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا رضي الله تعالى عنه أميرا ثم قال سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة بناحية وادي القى في رمضان وفيه ما علمت
ثم لايخفى أن في هذا إطلاق السرية على الطائفة التي خرجت للتجارة ولا يختص ذلك بمن خرج للقتال أو لتجسس الأخبار وقد تقدم سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل
بضم الدال المهملة وبفتحها وأنكره ابن دريد لبني كلب
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه فأقعده بين يديه وعممه بيده قال أي بعد أن قال له تجهز فإني باعثك في سرية من يومك هذا أو من الغد إن شاء الله تعالى ثم امره أن يسري من الليل إلى دومة الجندل في سبعمائة وعسكروا خارج المدينة
فلما كانت وقت السحر جاء عبد الرحمن بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أحببت يارسول الله أن يكون آخر عهدي بك وكان عليه عمامة من كرابيس أي غليظة قد لفها على رأسه فنقضها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم عممه بعمامة سوداء وأرخى بين كتفيه منها اربع أصابع أو نحوا من لك ثم قال هكذا يا ابن عوف فاعتم فإنه أحسن وأعرف
____________________
(3/183)
ثم أمر صلى الله عليه وسلم بلالا أن يدفع اليه اللواء فدفعه اليه وقام صلى الله عليه وسلم فحمد الله ثم صلى على نفسه ثم قال خذه يا ابن عوف انتهى وقال اغز بسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله ولا تغل أي لا تخن في المغنم ولا تغدر أي لا تترك الوفاء ولا تقتل وليدا وفي رواية لا تغلوا ولا تغدروا ولا تنكثوا ولا تملوا ولا تقتلوا وليدا أي صبيا فهذاعهد الله وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم فيكم ثم قال صلى الله عليه وسلم له إذا استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم فسار عبد الرحمن ابن عوف حتى قدم دومة الجندل فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام وهم يأبون ويقولون لا نعطى إلا السيف وفي اليوم الثالث أسلم رأسهم وملكهم الاصبغ بن عمرو الكلبي وكان نصرانيا قال في النور لم أجد أحدا ترجمه والظاهر أنه ما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فهو تابعي واسلم معه ناس كثير من قومه واقر من أقام على كفره بإعطاء الجزية أي وأرسل رضي الله تعالى عنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه بذلك وأنه يريد أن يتزوج فيهم فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه بذلك وأنه يريد أن يتزوج فيهم فكتب اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تزوج ببنت الأصبغ أي فتزوجها رضي الله تعالى عنه وبنى بها عندهم وقدم بها المدينة وهي ام ولده سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وهي أول كلبية نكحها قرشي ولم تلد غير سلمة وطلقها عبد الرحمن في مرض موته ثلاثا ومتعها جارية سوداء ومات وهي في العدة وقيل بعد انقضاء العدة فورثها عثمان رضي الله تعالى عنه
قال وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما أنه قال سرت لأسمع وصية رسول الله لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فإذا فتى من الأنصار اقبل يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جلس فقال يا رسول الله أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا ثم قال وأي المؤمنين أكيس قال أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا قبل أن ينزل بهم أولئك الأكياس ثم سكت الفتى واقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا نزلت بكم وأعوذ بالله أن تدركوهن إنه لن تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في اسلافهم الذين مضوا وما نقص المكيال والميزان في قوم إلا أخذهم الله بالسنين ونقص من الثمرات وشدة المؤنة وجور السلطان لعلهم يذكرون وما منع قوم الزكاة إلا أمسك الله عنهم قطر السماء ولولا البهائم لم يسقوا
____________________
(3/184)
وما نقض قوم عهد الله ورسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذ ما كان في ايديهم وما حكم قوم بغير كتاب الله إلا جعل الله تعالى باسهم بينهم وفي رواية إلا البسهم الله شيعا وأذاق بعضهم بأس بعض
وفي الاصل ذكر إبن اسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث ابا عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه لدومة الجندل في سرية زاد في السيرة الشامية على ذلك قوله كما سيأتي سرية زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما الى مدين
قرية سيدنا شعيب صلوات الله وسلامه عليه وهي تجاه تبوك فاصاب سبيا وفرقوا في بيعهم بين الأمهات والأولاد فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون فقال مالهم فقيل يا رسول الله فرق بينهم أي بين الامهات والأولاد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبيعوهم الا جميعا
قال في الأصل وكان مع زيد رضي الله تعالى عنه في هذه السرية ضميرة مولى علي ابن ابي طالب كرم الله وجهه وكذا اخوه رضي الله تعالى عنه وأخ له وهو تابع في ذلك لابن هشام ورد بان مولى علي هذا الذي هو ضميرة لم يذكر في كتب الصحابة وكذا اخوه سرية أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى بني سعد بن بكر بفدك
وهي قرية بينها وبين المدينة ست ليال أي وفي لفظ ثلاث مراحل وهي خراب الآن وفي الصحاح فدك قرية بخيبر
وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن لمبنى سعد جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر وأن يجعلوا لهم تمر خيبر أي ما يوجد من غلتها فبعث إليهم عليا كرم الله وجهه في مائة رجل فسار الليل وكمن النهار إلى أن نزلوا محلا بين خيبر وفدك فوجدوا به رجلا فسألوه عن القوم أي فقال لا علم لي فشدوا عليه فأقر أنه عين أي جاسوس لهم وقال
____________________
(3/185)
أخبركم على أن تؤمنوني فأمنوه فدلهم فأغاروا عليهم وأخذوا خمسمائة بعير وألفي شاة وهربت بنو سعد بالظعن فعزل علي كرم الله وجهه صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوحا أي حلوبا قريبة عهد بنتاج تدعى الحفدة بفتح الحاء وكسر الفاء وفتح الدال المهملة لسرعة سيرها ومنه في الدعاء إليك نسعى ونحفد ثم عزل الخمس وقسم الباقي على أصحابه
اقول قوله يريدون أن يمدوا يهود خيبر يقتضى بظاهره أن ذلك كان عند محاصرة خيبر أو عند إرادة ذلك وفيه مالا يخفى لما تقدم والله أعلم سرية عبد الله بن رواحة رضى الله عنه إلى أسير
بضم الهمزة وفتح السين يقال أسير بن رزام اليهودي بخيبر
لما قتل الله أبا رافع بن سلام بن أبي الحقيق عظيم يهود خيبر كما تقدم أمروا عليهم أسير بن رزام قال ولما أمروه عليهم قال لهم إني صانع بمحمد مالم يصنعه أصحابي فقالوا له وما عسيت أن تصنع قال اسير في غطفان فأجمعهم لحربه قالوا نعم ما رأيت وكان ذلك قبل فتح خيبر انتهى
فسار في غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجه إليه عبد الله بن رواحة في ثلاثة نفر سرا يسأل عن خبر أسير وغرته فأخبر بذلك فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فانتدب له ثلاثون رجلا وأمر عليهم عبد الله ابن رواحة رضي الله تعالى عنه وقيل عبد الله بن عتيك فقدموا على اسير فقالوا نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له قال نعم ولي منكم مثل ذلك فقالوا نعم فقلنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا إليك لتخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك فطمع في ذلك أي واستشار يهود في ذلك فأشاروا عليه بعدم الخروج وقالوا ما كان محمد ليستعمل رجلا من بني إسرائيل قال بلى قد مل الحرب
قال في النور هذا الكلام لانياسب أن يقال قبل فتح خيبر فالذي يظهر أنها بعد فتح خيبر
____________________
(3/186)
وأقول يجوز أن يكون المراد باستعماله على خيبر المصالحة وترك القتال ومن ثم أجاب بقوله إنه صلى الله عليه وسلم قد مل الحرب والله أعلم
فخرج وخرج معه ثلاثون رجلا من يهود مع كل رجل منهم رديف من المسلمين قال عبد الله بن أنيس كنت رديفا لأسير فكأن أسيرا ندم على خروجه معنا فأهوى بيده إلى سيفي ففطنت بفتح الطاء له وقلت أغدر عدو الله أغدر عدو الله ثلاثا فضربته بالسيف فأطحت عامة فخذه فسقط وكان بيده مخدش من شوحط فضربني به على رأسي فشجني مأمومة وملنا على أصحابه فقتلناهم إلا رجلا واحدا أعجزنا جريا ثم اقبلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثناه إلا رجلا واحدا أعجزنا جربا ثم أقبلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثناه الحديث فقال صلى الله عليه وسلم قد نجاكم الله من القوم الظالمين وبصق في شجتي فلم تقح علي ولم تؤذني
قال وفي رواية زيادة على ذلك وهي قطع لي قطعة من عصاه فقال أمسك هذه معك علامة بيني وبينك يوم القيامة أعرفك بها فإنك تأتي يوم القيامة متخصرا فلما دفن عبد الله بن أنيس جعلت معه على جلده دون ثيابه انتهى
أقول تقدم نظير ذلك لعبد الله بن أنيس هذا لما أرسله صلى الله عليه وسلم لقتل سفيان ابن خالد الهذلي وجاء برأسه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن هذا وهم من بعض الرواة ويحتمل تعدد الواقعة أي أعطاه صلى الله عليه وسلم عصاه أولا في تلك وأعطاه أخرى ثانيا في هذه وجعل العصا بين جلده وكفنه ولا مانع منه لكن ربما تتشوف النفس للسؤال عن حكمة تكرير ذلك لعبد الله بن أنيس وتخصيصه بهذه المنقبة دون بقية الصحابة والله أعلم سرية عمرو بن أمية الضمري وسلمة بن أسلم بن حريس رضي الله عنهما
بالحاء المهملة وكسر الراء وسين مهملة وكل ما في الأنصار حريس بالسين المهملة إلا لحريش فإنه بالشين المعجمة وقيل بدله جبار بن صخر إلى أبي سفيان بن حرب بمكة ليغتالاه
وسببها أن ابا سفيان رضي الله عنه قال لنفر من قريش ألا أحد يغتال لنا محمدا فإنه يمشي في الأسواق وحده فأتاه رجل من الأعراب وقال يعني نفسه قد وجدت أجمع الرجال قلبا وأشدهم بطشا وأسرعهم عدوا فإذا أنت فديتني خرجت إليه حتى أغتاله
____________________
(3/187)
فإن معي خنجرا بفتح الخاء المعجمة كجناح النسر وإني عارف بالطريق فقال له أنت صاحبنا فأعطاه بعيرا ونفقة وقال له اطو أمرك وخرج ليلا إلى أن قدم المدينة ثم اقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل عليه وكان صلى الله عليه وسلم في مسجد بني عبد الأشهل فعقل راحلته وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال إن هذا يريد غدرا والله حائل بينه وبين ما يريد فجاء ليجني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجذبه اسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه بداخلة إزاره أي بحاشيته من داخل فإذا بالخنجر فأخذ أسيد يخنقه خنقا شديدا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدقنى قال وأنا آمن قال نعم فأخبره بأمره فخلى عنه رسول الله فأسلم أي وقال يا رسول الله ما كنت أخاف الرجال فلما رأيتك ذهب عقلي وضعفت نفسي ثم أطلعت على ما هممت به فعلمت أنك على الحق فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم
فعند ذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري ومن تقدم معه إلى أبي سفيان بمكة أي وذلك بعد قتل خبيب عن عدي رضي الله عنه وصلبه على الخشبة
ومضى عمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه يطوف بالبيت ليلا فرآه معاوية بن ابي سفيان رضي الله تعالى عنهما فعرفه فأخبر قريشا بمكانه فخافوه لأنه كان فاتكا في الجاهلية وقالوا لم يأت عمرو بخير واشتدوا في طلبه
قال وفي رواية لما قدما مكة حبسا جمليهما ببعض الشعاب ثم دخلا ليلا فقال له صاحبه يا عمرو ولو طفنا بالبيت وصلينا ركعتين ثم طلبنا أبا سفيان فقال عمرو إني أعرف بمكة من الفرس الأبلق أي وإن القوم إذا تعشوا جلسوا على أفنيتهم فقال كلا إن شاء الله قال عمرو فطفنا بالبيت وصلينا ثم خرجنا لطلب أبي سفيان فلقيني رجل من قريش فعرفني وقال عمرو بن أمية فأخبر قريشا بي فهربت أنا وصاحبي انتهى أي وصعدنا الجبل وخرجوا في طلبنا فدخلنا كهفا في الجبل ولقي عمرو رجلا من قريش فقتله أي قتل ذلك الرجل عمرو فلما أصبحنا غدا رجل من قريش يقود فرسا ونحن في الغار فقلت لصاحبي إن رآنا صاح بنا فخرجت إليه ومعي خنجرا عددته لأبي سفيان فضربته على يده فصاح صيحة اسمع أهل مكة فجاء الناس يشتدون فوجدوه بآخر رمق
____________________
(3/188)
فقالوا له من ضربك قال عمرو بن أمية وغلبه الموت فاحتملوه فقلت لصاحبي لما أمسينا النجاة فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة فمررنا بالحرس الذين يحرسون خشية حبيب بن عدي رضي الله تعالى فقال أحدهم لولا أن عمرو بن أمية بالمدينة لقلت إنه هذا الماشي فلما حاذيت الخشبة شددت عليها فحملتها واشتديت أنا وصاحبي فخرجوا وراءنا فألقيت الخشبة فغيبة الله عنهم كذا في السيرة الهشامية
وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم أرسل الزبير والمقداد لإنزاله وأن الزبير أنزله فابتلعته الأرض وتقدم عن ابن الجوزي مثل ما هنا من أن الذي أنزله عمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه فيحتاج الى الجمع على تقدير صحة الروايتين ويقال عمرا قتل رجلا آخر سمعه يقول ** ولست بمسلم ما دمت حيا ** ولست أيدن دين المسلمينا **
ولقي رجلين بعثتهما قريش إلى المدينة يتجسسان لهم الخبر فقتل أحدهما وأسر الآخر ثم قدم رضي الله تعالى عنه المدينة وجعل بخير رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك سرية سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه
وقيل كرز بن جابر رضي الله تعالى عنه وعليه الأكثرون ومن ثم اقتصر عليه الحافظ الدمياطي أي وقيل جرير بن عبد الله البجلي ورد بأن إسلام جرير بن عبد الله المذكور كان بعد هذه السرية بنحو أربع سنين الى العرنيين
وسببها أنها قدم على رسول صلى الله عليه وسلم نفر أي ثمانية من عرينة وقيل أربعة من عرينة وثلاثة من عكل والثامن من غيرهما مسلمين نطقوا بالشهادتين كانوا مجهودين قد كادوا يهلكون أي لشدة هزالهم وصفرة ألوانهم وعظم بطونهم وقالوا يا رسول الله آونا وأطعمنا فأنزلهم صلى الله عليه وسلم عنده أي بالصفة ثم قال لهم أي بعد أن ذكروا له صلى الله عليه وسلم أن المدينة وبئة وخمة وأنهم أهل ضرع ولم يكونوا أهل ريف لو خرجتم إلى ذود لنا أي لقاح وكانت خمسة عشر فشربتم من ألبانها وأبوالها أي لأن في لبن اللقاح جلاء وتليينا وإدرارا وتفتيحا للسدد فإن الأستسقاء
____________________
(3/189)
وعظم البطن إنما ينشأ عن السدد وآفة في الكبد ومن أعظم منافع الكبد لبن اللقاح لاسيما إن استعمل بحرارته التي يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل مع حرارته التي يخرج بها ففعلوا ثم لما صحت أجسامهم كفروا بعد إسلامهم وقتلوا راعيها وهو يسار مولى النبي صلى الله عليه وسلم ومثلوا به أي قطعوا يديه ورجليه وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات واستاقوا اللقاح
وفي لفظ أنهم ركبوا بعضها واستاقوها فأدركهم يسار ومعه نفر فقاتلهم فقطعوا يده ورجله الحديث
وبلغه صلى الله عليه وسلم الخبر فبعث صلى الله عليه وسلم في آثارهم عشرين فارسا واستعمل عليهم من تقدم وأرسل معهم من يقص آثارهم فأدركوهم فأحاطوا بهم فأسروهم ودخلوا بهم المدينة فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم أي غورت بمسامير محماة بالنار وألقوا بالحرة أي وهي أرض ذات حجارة سود كأنها أحرقت بالنار يستسقون فلا يسقون قال أنس رضي الله تعالى عنه ولقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه من العطش ليجد بردها لما يجده من شدة العطش حتى ماتوا على حالهم وأنزل الله فيهم { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } الآية ولم يقع بعد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم سمل عينا وفي لفظ أنهما لما أسروا ربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة فخرجوا بهم نحوه فلقوه بمجمع السيول فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم وصلبوا هنالك وأنه صلى الله عليه وسلم فقد من اللقاح لقحة تدعى الحفياء فسأل عنها فقيل نحروها كذا في سيرة الحافظ الدمياطي وقدم فيها هذه السرية على سرية عمرو بن أمية الضمري رضي الله تعالى عنه
____________________
(3/190)
سرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى طائفة من هوازن
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في ثلاثين رجلا إلى عجز بفتح العين المهملة وبضم الجيم وبالزاي محل بينه وبين مكة أربع ليال بطريق صنعاء يقال له تربة بضم المثناة فوق وفتح الراء ثم موحدة مفتوحة ثم تاء وأرسل صلى الله عليه وسلم دليلا من بني هلال فكان يسير الليل ويكمن النهار فأتى الخبر لهوازن فهربوا فجاء عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه محالهم فلم يجد منهم أحدا فانصرف راجعا إلى المدينة فلما كان بمحل بينه وبين المدينة ستة أميال قال له الدليل هل لك جمع أخر من خثعم فقال له عمر رضي الله تعالى عنه لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم إنما أمرني بقتال هوازن سرية أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى بني كلاب
عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وأمره علينا فسبي ناسا من المشركين فقتلناهم فقتلت بيدي سبعة أهل أبيات من المشركين وما زاده الأصل على هذا من قوله إن سلمة بن الأكوع قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابا بكر رضي الله تعالى عنه إلى فزارة الخ نسب فيه للوهم لأن ذلك كان في سريته لبني فزارة بوادي القرى وقد تقدمت فهما قضيتان مختلفتان جمع بينهما أي وهذا الذي في الأصل تبع فيه شيخه الحافظ الدمياطي وفيه ما علمت
____________________
(3/191)
سرية بشير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى بني مرة بفدك
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد في ثلاثين رجلا إلى بني مرة بفدك وتقدم أنها قرية بينها وبين المدينة ستة اميال فخرج فلقى رعاء الشاء فسأل عن الناس فقيل في بواديهم فاستاق النعم والشاء وانحدر الى المدينة فخرج الصريخ إليهم فأدركه منهم العدد الكثير عند الليل فباتوا يترامون بالنبل حتى فني نبل أصحاب بشير أي فلما أصبحوا حملوا على بشير وأصحابه فقتلوا منهم من قتلوا وولى من ولى منهم وقاتل بشير قتالا شديدا حتى ارتث أي جرح وصار ما به رمق وضربت كعبه اختبارا لحياته فلم يتحرك فقيل مات فرجعوا بنعمهم وشياههم وجاء إليه صلى الله عليه وسلم خبرهم ثم جاء بشير رضي الله تعالى عنه إلى المدينة بعد ذلك أي فإنه استمر بين القتلى إلى الليل فلما أمسى تحامل حتى انتهى الى فدك فأقام بفدك عند يهودي أياما حتى قوي على المشي وجاء الى المدينة
أقول وهذا يدل على أن بني مرة الذين توجه اليهم بشير لم يكونوا بفدك بل بالقرب منها فيكون قوله أولا لبني مرة بفدك فيه تسمح وأن بشيرا حصلت له هذه الحالة مرتين فليتأمل سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى بني عوال وبني عبد بن ثعلبة بالميقعة اسم محل وراء بطن نخل
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه في مائة وثلاثين رجلا لبني عوال وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة ودليلهم يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجموا عليهم جميعا ووقعوا في وسط محالهم فقتلوا جمعا من أشرافهم واستاقوا نعما وشاء ولم يأسروا أحدا وفي هذه السرية قتل اسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما الرجل الذي قال لا إله إلا الله وهو مرداس بن نهيك وفي سيرة الحافظ الدمياطي نهيك ابن مرداس والأول هو الذي في الكشاف وقال له النبي صلى الله عليه وسلم هلا شققت
____________________
(3/192)
عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب فعن اسامة رضي الله تعالى عنه بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصحبنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم فلما أعييناه قال لا إله إلا الله فكف الأنصاري وطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله قلت إنما قالها متعوذا فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم أي تمنيت أن أكون اسلمت اليم فيكفر عني ما صنعت قال كذا وقع في الأصل أن قتل أسامة للرجل الذي قال لا إله إلا الله كان في هذه السرية وقد تبع في ذلك ابن سعد
وإنما كان ذلك في سرية أسامة بن زيد للحرقة بضم الحاء المهملة وفتح الراء وبالقاف ثم تاء تأنيث بطن من جهينة وسيأتي عن أسامة بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة فصبحناها فكان رجل يدعى مرداس بن نهيك إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا وإذا أدبروا كان من حاميتهم فهزمناهم فتبعته أنا ورجل من الأنصار فرفعت عليه السيف قال لا إله إلا الله وزاد في رواية محمد رسول الله فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته ثم وجدت في نفسي من ذلك موجدة شديدة حتى ما أقدر على أكل الطعام حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلني واعتنقني قال بعضهم وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أسامة بن زيد يسأل عنه أصحابه ويجب ان يثنى عليه خيرا فلما رجعوا لم يسألهم عنه فجعل القوم يحدثون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون يا رسول الله لو رأيت ما فعل أسامة ولقيه رجل فقال الرجل لا إله إلا الله فشد عليه أسامة فقتله وهو يعرض عنهم فلما أكثروا عليه صلى الله عليه وسلم رفع رأسه الشريف لاسامة فقال يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله فكيف تصنع بلا إلا إلا الله إذا جاءت يوم القيامة فقال أسامة رضي الله تعالى عنه إنما قالها خوفا من السلاح وفي رواية إنما كان متعوذا من القتل قال اسامة رضي الله تعالى عنه ولا زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرر علي حتى تمنيت أني لم أسلم إلا يؤمئذ انتهى
والذي في الكشاف في تفسير قوله تعالى { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا } أصله أن مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره فغزتهم سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عليها غالب بن فضالة الليثي رضي الله تعالى عنه فهربوا وبقي
____________________
(3/193)
مرداس لثقته بإسلامه فلما رأى الخيل ألجأ غنمه الى عاقول من الجبل وصعد فلما تلاحقوا وكبروا كبر ونزل وقال لا إله إلا الله محمد رسول الله السلام عليك فقتله أسامة ابن زيد واستاق غنمه فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فوجد وجدا شديدا وقال قتلتموه إرادة ما معه ثم قرأ الآية على أسامة فقال يا رسول الله استغفر لي قال فكيف بلا إله إلا الله فما زال يكررها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ ثم استغفر لي وقال أعتق رقبة وسياتي نحو ذلك في سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى مصاب بشير بن سعد
ويبعد تعدد هذه الواقعة سيما في مواطن ثلاثة أو اربعة وكون يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دليلا في هذه السرية يقتضي أنها متقدمة على سرية العرنيين فقد تقدم أنهم قتلوه ثم رايته في النور قال ولعل هذا غير ذاك لكن لم أر ذكرا في الموالي إلا أن يكون أحد موالي أقاربه عليه الصلاة والسلام فنسب اليه ومن ثم لم يشهد اسامة رضي الله تعالى عنه مع علي كرم الله وجهه قتالا وقال له لو أدخلت يدك في فم تنين لأدخلت يدي معها ولكنك قد سمعت ما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قتلت ذلك الرجل الذي شهد ان لا إله إلا الله وقلت له أعطى الله عهدا أن لا أقتل رجلا يقول لا إله إلا الله والله أعلم سرية بشسير بن سعد الأنصاري رضي الله تعالى عنه إلى يمن
بفتح الياء آخر الحروف وقيل بضمها أو يقال أمن همزة مفتوحة وسكون الميم وجبار بفتح الجيم واد قريب من خيبر
لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من غطفان قد واعدهم عيينة بن حصن أي قبل أن يسلم رضي الله تعالى عنه ليكون معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد فعقد له لواء وبعث معه ثلثمائة رجل فساروا الليل وكمنوا النهار حتى أتوا المحل المذكور فأصابوا نعما كثيرا وتفرق الرعاء بكسر الراء والمد وذهبوا الى القوم وأخبروهم فتفرقوا ولحقوا بعليا بلادهم وعليا
____________________
(3/194)
بضم العين وسكون اللام مقصورا نقيض السفلى فلم يظفر بأحد منهم إلا برجلين أسروهما فرجع بالنعم والرجلين الى المدينة فاسلم الرجلان فأرسلهما صلى الله عليه وسلم قال والرجلان من جمع عيينة فإن المسلمين لما لقوا جمع عيينة انهزموا أمامهم وتبعوهم أخذوا منهم ذينك الرجلين انتهى أي وعيينة بن حصن كان يقال له الأحمق المطاع لأنه كان يتبعه عشرة آلاف قناة وقيل له عيينة قال في الاصل لأن عينة حجفلت أي عظمت وكبرت فلقب بذلك رضي الله تعالى عنه سرية أبن أبي العوجاء السلمي رضي الله تعالى عنه إلى بني سليم
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي العوجاء رضي الله تعالى عنه السلمي في خمسين رجلا الى بني سليم فكان لهم جاسوس مع القوم فخرج اليهم وسبق القوم وحذرهم فجمعوا لهم جمعا كثيرا فجاءوا لهم وهم معدون لهم فدعوهم الى الاسلام فقالوا أي حاجة لنا بما تدعونا اليه فتراموا بالنبل ساعة وجعلت الأمداد تأتيهم وأحدقوا بالمسلمين من كل ناحية فقاتل المسلمون قتالا شديدا حتى قتل عامتهم واصيب ابن ابي العوجاء جريحا مع القتلى ثم تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه الى بني الملوح
بضم الميم وفتح اللام وتشديد الواو مكسورة ثم حاء مهملة بالكديد بتفح الكاف وكسر الدال المهملة
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الليثي في بضعة عشر رجلا قال وما نقل عن الواقدي أنهم كانوا مائة وثلاثين رجلا فذلك في سرية لغالب غير هذه انتهى
أقول وهي المتقدمة التي توجهت لبني عوال وبني عبد بن ثعلبة بالميفعة والله أعلم وأمر صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله وأصحابه أن يشنوا الغارة على القم فخرجوا
____________________
(3/195)
حتى إذا كانوا بقديد لحقوا الحارث الليثي فاسروه فقال إنما خرجت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم اريد الإسلام فقالوا له إن كنت مسلما لم يضرك ربطنا لك يوما وليلة وإن كنت غير ذلك استوثقنا منك فشدوه وثاقا وخلفوا عنده سويد بن صخر أي وفي لفظ خلفوا عليه رجلا أسود منهم وقالوا له إن نازعك فاحتز رأسه وساروا حتى اتوا محل القوم عند غروب الشمس فكمنوا في ناحية الوادي قال جندب الجهني وأرسلني القوم جاسوسا لهم فخرجت حتى أتيت تلا مشرفا على الحاضر أي القوم المقيمين بمحلهم فلما استويت على رأسه انبطحت عليه لأنظر إذ خرج رجل منهم فقال لامرأته إني لأنظر على هذا الجببل سوادا ما رايته قبل انظري إلي أو عيتك لا تكون الكلاب جرت منها شيئا فنظرت فقالت والله ما فقدت من أوعيتي شيئا فقال ناوليني قوسي ونبلي فناولته قوسه وسهمين فارسل سهما فوالله ما أخطأ بين عيني فانتزعته وثبت مكاني فارسل آخر فوضعه في منكبي فانتزعته وثبت مكاني فقال لامرأته والله لو كان جاسوسا لتحرك لقد خالطه سهمان لا ابالك أي بكسر الكاف أي لا كافل لك غير نفسك وهو بهذا المعنى يذكر في معرض المدح وربما يذكر في معرض الذم وفي معرض التعجب لا بهذا المعنى فإذا اصبحت فانظريهما لا تمضغهما الكلاب ثم دخل فلما اطمأنوا ناموا شيئا عليهم الغارة واستقنا النعم والشاء بعد أن قتلنا المقاتلة وسبينا الذرية أي ومروا على الحارث الليثي فاحتماوه واحتملوا صاحبهم الذي تركوه عنده فخرج صريخ القوم في قومهم فجاء مالا قبل لنا به فصار بيننا وبينهم الوادي فأرسل الله سحابا فأمطر الوادي ما رأينا مثله فسال الوادي بحيث لا يستطيع أحد أن يجوز به فصاروا وقوفا ينظرون إلينا ونحن متوجهون الى أن قدمنا المدينة
أي وفي لفظ آخر فقلنا القوم ينظرون إلينا إذا جاء الله بالوادي من حيث شاء يملأ جنبيه ماء والله ما رأينا يومئذ سحابا ولا مطرا فجاء بمالا يستطيع أحد أن يجوزه فوقفوا ينظرون الينا وقد وقع نظير ذلك أي سيل الوادي لقطنه بن عامر حين توجه الى بن خثعم بناحية تبال كما سيأتي
____________________
(3/196)
سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله تعالى عنه إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد رضي الله تعالى عنه أي في بني مرة بفدك
لما قدم غالب من الكديد مؤيدا منصورا بعثه صلى الله عليه وسلم في مائتي رجل الى حيث أصيب أصحاب بشير بن سعد وذلك في بني مرة بفدك وكان قبل قدوم غالب هيأ صلى الله عليه وسلم للزبير لذلك وعقد له لواء فلما قدم غالب رضى الله تعالى عنه قال للزبير اجلس فصار غالب رضي الله تعالى عنه إلى أن أصبح القوم فأغاروا عليهم وكان غالب رضي الله تعالى عنه قد أوصاهم بعدم مخالفتهم له وآخى بين القوم فساقوا نعما وقتلوا منهم
قال لما دنا غالب منهم ليلا قام فحمد الله واثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله تعالى وحده لا شريك له وأن تطيعوني ولا تخالفوا لي أمرا فإنه لا رأى لمن لا يطاع وفي رواية لا تعصوني فغن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من يطع أميري فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني وإنكم متى ما تعصوني فإنكم تعصون نبيكم صلى الله عليه وسلم ثم ألف رضي الله تعالى عنه بين القوم فقال يا فلان أنت وفلان ويا فلان أنت وفلان لا يفارق رجل منكم زميله فإياكم أن يرجع الرجل منكم فاقول له أين صاحبك فيقول لا أدري فإذا كبرت فكبروا فلما أحاطوا بالقوم كبر غالب رضي الله تعالى عنه وكبروا معه وجردوا السيوف فخرج الرجال فقاتلوا ساعة ووضع المسلمون فيهم السيف وكان شعار المسلمين أمت أمت وكان في القوم أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما وتفقده غالب رضي الله تعالى عنه فلم يره وبعد ساعة أي من الليل أقبل فلامه غالب وقال الم تر إلى ما عهدت اليك فقال خرجت في أثر رجل منهم جعل يتهكم بي حتى إذا دنوت منه وضربته بالسيف قال لا إله إلا الله فقال له الأمير بئسما فعلت وما جئت به تقتل امرأ يقول لا إله إلا الله فندم أسامة وساق المسلمون النعم والشاء والذرية فكان سهم كل رجل عشرة ابعرة وعدل بعير بعشرة من الغنم انتهى وتقدمت الحوالة على هذه وتقدم ما فيها
____________________
(3/197)
وقوله هنا حتى إذا دنوت منه وضربته بالسيف قال لا إله إلا الله يقتضي أنه إنما قال لا إله إلا الله بعد ضربه بالسيف إلا أن يحمل على الإرادة وتقدم أنه طعنه برمحه فليتأمل سرية شجاع بن وهب الأسدي رضي الله تعالى عنه إلى بني عامر
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب رضي الله تعالى عنه في اربعة وعشرين رجلا إلى جمع من هوازن أي يقال لهم بنو عامر وأمره صلى الله عليه وسلم أن يغير عليهم فكان يسير بالليل ويكمن بالنهار حتى صبحهم وهم غافلون أي وقد نهى أصحابه أن يمعنوا في الطلب فاصابوا نعما وشاء واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة فكان سهم كل رجل خمسة عشر بعيرا وعدل البعير بعشرة من الغنم سرية كعب بن عمير الغفاري رضي الله تعالى عنه
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري إلى ذات أطلاح من أرض الشام وراء وادي القرى في خمسة عشر رجلا فوجدوا جمعا كثيرا أي لأنه لما دنا كعب ابن عمير رضي الله تعالى عنه من القوم ذهب عين لهم فأخبروهم بقلة المسلمين فدعوهم الى الإسلام فلم يستجيبوا ورشقوهم بالنبل فقاتلهم المسلمون أشد القتال حتى قتلوا عن آخرهم إلا كعب بن عمير فإنه ظن قتله فلما أمسى تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك عليه فهم بالبعث إليهم فبلغه أنهم ساروا إلى محل آخر فتركهم
أقول لم أقف على السبب الذي اقتضى البعث إلى ذلك المحل والله أعلم سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى ذات السلاسل
أرض بها ماء يقال له السلاسل بضم السين الأولى وكسر الثانية أي وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى المشهور أنها بفتح الأولى قيل سمي المكان بذلك لأنه كان به رمل بعضه على بعض كالسلسلة يقال ماء سلسل وسلسال إذا كان سهل الدخول
____________________
(3/198)
في الحلق لعذوبته وصفائه وتلك الأرض وراء وادي القرى وقيل لان المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يغزوا
أقول ولخالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في زمن الصديق غزاة مع أهل فارس يقال لها ذات السلاسل لكثرة من تسلسل فيها من الشجعان خوف الفرارا فقتلوا عن آخرهم لأن السلاسل منعتهم الهزيمة وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاسل إلى الصديق رضي الله تعالى عنه والله اعلم
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من قضاعة قد تجمعوا يريدون المدينة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أي وذلك بعد إسلامه بسنة وعقد له لواء ابيض وجعل معه راية سوداء وبعثه في ثلثمائة من سراة المهاجرين والأنصار ومعهم ثلاثون فرسا وأمره صلى الله عليه وسلم أن يستعين بمن يمر عليهم فسار الليل وكمن النهار حتى قرب من القوم فبلغه أن لهم جمعا كثيرا فبعث رافع بن كعب الجهني رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليه ابا عبيدة بن الجراح في مائتين من سراة المهاجرين والأنصار منهم ابو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وعقد له لواء وأمره أن يلحق بعمرو وأن يكونا جميعا ولا يختلفنا فلحق بعمرو أبو عبيدة وأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس فقال عمرو إنما قدمت علي مددا وأنا الأمير قال وعند ذلك قال جمع من المهاجرين الذي مع أبي عبيدة لعمرو أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه فقال عمرو أنتم مدد لنا فلما رأى ابو عبيدة الاختلاف قال لتعلم يا عمرو أن آخر شيء عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال إن قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك قال فإني الأمير عليك قال فدونك أ هـأي لأن ابا عبيدة رضي الله تعالى عنه كان حسن الخلق لين العريكة فكان عمرو يصلي بالناس
أي وعن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال بعث الي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمري أن آخذ ثيابي وسلاحي فقال يا عمرو إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله ويسلمك فقلت إني لم اسلم رغبة في قال نعم المال الصالح للرجل الصالح ورأوا جمعا كثيرا فحمل عليهم المسلمون فتفرقوا قال وأراد المسلمون أن يتبعوهم فمنعهم عمرو رضي الله تعالى عنه وأرداوا أن يوقدوا نارا ليصطلوا عليها من
____________________
(3/199)
البرد فمنعهم عمرو أي وقال كل من أوقد نارا لأفذفنه فيها فشق عليهم ذلك لما فيه من شدة البرد فكلمه بعض سراة الماجرين في ذلك فغالظه عمرو في القول وقال له قد أمرت أن تسمع لي وتطيع قال نعم قال فافعل ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غضب وهم أن يأتيه فمنعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستعمله إلا لعلمه بالحرب فسكت واحتلم عمرو رضي الله تعالى عنه وكانت تلك الليلة شديدة البرد جدا فقال لأصحابه ما ترون قد والله احتلمت فإن اغتسلت مت فدعا بماء فغسل فرجه وتوضأ وتيمم ثم قام وصلى بالناس أ هـثم بعث عمرو عوف بن مالك مبشرا للنبي صلى الله عليه وسلم بقدومهم وسلامتهم قال قال عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه جئته صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في بيته فقلت السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته فقال عوف بن مالك فقلت نعم بابي أنت وأمي يا رسول الله قال أخبرني فأخبرته بما كان من مسيرنا وما كان بين أبي عبيدة بن الجراح وبين عمرو ومطاوعة أبي عبيدة لعمرو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله ابا عبيدة بن الجراح وأخبرته بمنع عمرو رضي الله تعالى عنه للمسلمين من اتباع العدو ومن إيقاد النار ومن صلاته باصحابه وهو جنب فلما قدم عليه عمرو كلمه صلى الله عليه وسلم في ذلك قال كرهت أن يوقدوا نارا فيرى عدوهم قلتهم وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد فيعطفون عليهم فحمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره قال عمرو وسالني عن صلاتي فقال يا عمرو صليت باصحابك وأنت جنب فقلت والذي بعثك بالحق إني لو اغتسلت لمت لم أجد بردا قط مثله وقد قال الله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فضحك صلى الله عليه وسلم ا هـ
أي ويحتاج أئمتنا إلى الجواب عن صلاة الصحابة خلفه فإني لم أقف على أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء
____________________
(3/200)
سرية الخبط وهو ورق السمر
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في ثلثمائة رجل من المهاجرين والأنصار فيهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى حي من جهينة في ساحل البحر وقيل ليرصدوا عيرا لقريش أي وعليه فتكون هذه السرية قبل الهدنة الواقعة في الحديبية لما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم بعد الهدنة لم يكن يرصد عيرا لقريش الى الفتح وتعدد سرية الخبط بعيد فلا يقال يجوز أن تكون سرية الخبط مرتين مرة قبل الهدنة ومرة بعدها ومن ثم حكم على هذا القول بأنه وهم فأقاموا بالساحل نصف شهر فاصابهم جوع شديد حتى اكلوا الخبط أي كانوا يبلونه بالماء ويأكلونه حتى تقرحت أشداقهم فإن ابا عبيدة رضي الله تعالى عنه كان يعطي الواحد منهم في اليوم والليلة تمرة واحدة يمصها ثم يصرها في ثوبه
أي وعن الزبير رضي الله تعالى عنه أنه قيل له كيف كنتم تصنعون بالتمرة قال نمصها كما يمص الصبي ثدي أمه ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا الى الليل لأنه صلى الله عليه وسلم زودهم جرابا من تمر فجعل ابو عبيدة رضي الله تعالى عنه يقوتهم إياه حتى صار يعده لهم عدا حتى كان يعطي الواحد تمرة كل يوم ثم بعد التمر أكلوا الخبط
ولما رأى قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما ما بالمسلمين من جهد الجوع أي مشقته أي وقال قائلهم والله لو لقينا عدو ما كان منا حركة اليه لما بالناس من الجهد قال من يشتري مني تمرا أوفيه له في المدينة بجزر يوفيها إلى ههنا فقال له رجل من أهل الساحل أنا افعل لكن والله ما أعرفك فمن أنت قال أنا قيس ابن سعد بن عبادة فقال الرجل ما أعرفني بسعد إن بيني وبين سعد خلة سيد اهل يثرب فاشترى خمس جزائر كل جزور بوسق من تمر والوسق بفتح الواو وكسرها ستون صاعا وجمع الأول أوسق والثاني أوساق فقال له الرجل أشهد لي فقال
____________________
(3/201)
أشهد من تحب فأشهد نفرا من المهاجرين والأنصار من جملتهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه
وقيل إن عمر رضي الله تعالى عنه امتنع من أن يشهد وقال هذه يدان ولا مال له إنما المال لأبيه فقال الرجل والله ما كان سعد ليخنى بابنه أي لا يوفى عن ابنه ما التزمه فكان بين قيس وعمر كلام حتى أغلظ له قيس الكلام وأخذ قيس رضي الله تعالى عنه الجزر فنحر لهم منها ثلاثة في ثلاثة ايام وأراد أن ينحر لهم في اليوم الرابع فنهاه أبو عبيدة وقال له عزمت عليك أن لا تنحر أتريد أن تخفر ذمتك أي لا يوفى لك بما التزمت ولا مال لك فقال له قيس رضي الله تعالى عنه أترى أبا ثابت يعني والده سعدا يقضي ديون الناس ويطعم في المجاعة ولا يقضي دينا استدنته لقوم مجاهدين في سبيل الله
وفي البخارى أن قيسا رضي الله تعالى عنه نحر لهم تسع جزائر كل يوم ثلاثا ثم نهاه ابو عبيدة
أي ومما يؤيد ما ذكر من أن الجزر كانت خمسة وأنه نحر لهم ثلاثة أيام كل يوم جزورا ما جاء في بعض الروايات انه معه جزوران قدم بهما يتعاقبون عليهما فلينظر الجمع
ثم إن البحر ألقى لهم دابة هائلة يقال لها العنبر بحيث إن أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه نصب لهم ضلعا من أضلاعها وفي لفظ من أضلاعه ومر تحته أطول رجل في القوم أي وهو قيس بن سعد بن عبادة راكبا على أطول بعير لم يطأطئ رأسه
وعن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال دخلت أنا وفلان وفلان وعد خمسة نفر عينها ما رآنا أحد أي وفي لفظ ولقد أخذ منا ابو عيبدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينها فأكلوا منها أياما أي نحو شهر وكانوا ثلثمائة
فعن بعضهم لما تقرحت اشداقنا من الخبط انطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر فقال ابو عبيدة رضي الله تعالى عنه ميتة ثم قال اضطررتهم فكلوا فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلثمائة حتى سمنا ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه الدهن بالقلال
____________________
(3/202)
وفي رواية فأخرجنا من عينه كذا وكذا قلة ودك وصحبوا من لحمها الى المدينة أي وقيل لها العنبر لأنها تبتلع العنبر
فعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه قال سمعت من يقول رايت العنبر نابتا في البحر ملتويا مثل عنق الشاة وفي البحر دابة تأكله وهو سم لها فيقتلها فيقذفها البحر فيخرج العنبر من جوفها
وقيل العنبر اسم لسمكة مخصوصة في البحر هائلة الخلقة طولا وعرضا وقد أخبرني بعض السفار أن جملا مات على شاطئ البحر فالقي في البحر فابتلعته سمكة فوقفت اخفاف يديه في حلقها فجاءت سمكة فابتلعت تلك السمكة
وفي زمن الحاكم أمر الله وجدت سمكة بدمياط طولها مائتا ذراع وعرضها مائه وستون ذراعا وكان يقف في حلقها خمس رجال بالمجاريف يجرفون الشحم وأقام أهل دمياط يأكلون من لحمها خمسة اشهر
ولما بلغ سعد بن عبادة ما حصل للمسلين من المجاعة قبل قدومهم قال إن يكن قيس يعني ولده كما أعهد فلينحر للقوم فلما قدم قيس قال له سعد ما صنعت في مجاعة القوم فال نحرت قال اصبت قال ثم ماذا قال ثم نحرت قال أصبت قال ثم مذا قال نحرت قال اصبت ثم قال ماذا قال ثم نهيت قال ومن نهاك قال أميري أبو عبيدة قال ولم قال زعم انه لا مال لي إنما المال لأبيك فقلت له أبى يقضى عن الاباعد ويحمل الكل ويطعم في المجاعة ولا يصنع هذا لي فلان لموافقتي فابى عليه عمر بن الخطاب إلا التصميم على المنع فقال سعد لولده قيس ذاك اربع حوائط أي بساتين أدناها ما يتحصل منه خمسون وسقا ثم إن قيسا رضي الله تعالى عنه وفى الرجل صاحب الجزر وحمله أي أعطاه ما يركبه وكساه فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل قيس قال إنه في بيت جود إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت
أي ومن ثم قال بعضهم لم يكن في الأوس والخزرج مطعمون يتوالدون في بيت واحد إلا قيس وأبوه سعد وأبوه عبادة وأبوه دليم كان في كل يوم يقف شخص على أطم ينادي من يريد الشحم واللحم فعليه بدار ابي دليم
____________________
(3/203)
أي وكان أصحاب الصفة إذا أمسوا انطلق الرجل بالواحد والرجل بالاثنين والرجل بالجماعة وأما سعد فينطلق بالثمانين وعن سعد بن عبادة زارنا النبي صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال السلام عليكم روحمة الله ثم قال اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة
قال ويذكر أن سعدا جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال من عذيري من ابن الخطاب يبخل علي ابني ا هـ
ويذكر عن سعد بن عبادة أنه كان شديد الغيرة لم يتزوج الا بكرا وما طلق امرأة وقدر أحد أن يتزوجها
وعن جابر رضي الله تعالى عنه فلما قدمنا المدينة ذكرنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر العنبر فقال رزق أخرجه الله تعالى لكم لعل معكم من لحمه شيء فتطعمونا فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فأكله أي ولم يكن أروح بدليل أنه صلى الله عليه وسلم قال لو نعلم أنا ندركه لم يروح لأحببنا لو كان عندنا منه قال ذلك أزديادا منه سرية ابي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى غطفان أرض محارب
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة في خمسة عشر رجلا إلى غطفان وأمره أن يشن الغارة عليهم فصار يسير الليل ويكن بالنهار حتى هجم عليهم وأحاط بهم وقتلوا من أشراف لهم واستاقوا الإبل والغنم فكانت الإبل مائة بعير والغنم ألفي شاة وسبوا سبايا كثيرة فاصاب كل رجل بعد إخراج الخمس اثني عشرة بعيرا وعدل البعير بعشرين من الغنم ووقع في سهم أبي قتادة رضي الله تعالى عنه جارية حسناء وضيئة فاستوهبها منه صلى الله عليه وسلم فوهبها له ثم وهبها صلى الله عليه وسلم لشخص أي كان وعده بجارية من أول فئ يفئ الله به فجاء ذلك الشخص الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله صلى الله عليه إن أبا قتادة قد أصاب جارية وضيئة وقد كنت وعدتني جارية من أول فئ يفئ الله به عليك فارسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي قتادة قال وهب لي الجارية فوهبها له الحديث
____________________
(3/204)
سرية عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي تعالى عنه إلى الغابة
وهي الشجر الملتف
قال عبد الله المذكور تزوجت امرأة من قومي فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم استعينه على ذلك فقال كما اصدقت قلت مائتي درهم فقال سبحان الله لو كنتم تأخذون الدراهم من بطن واديكم هذا وفي لفظ لو كنتم تغرفونها من ناحية بطحان ما زدتم والله ما عندي ما أعينك فلبثت أياما فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ان رجلا يقال له رفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة في جمع عظيم نزل بالغابة يريد حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلين من المسلمين فقال اخرجوا الى هذا الرجل حتى تأتوني منه بخبر ودفع لنا شارفا عجفاء أي ناقة مسنة وقال تبلغوا عليها واعتقبوها فركبها أحدنا فوالله ما قامت به ضعفا حتى ضربت فخرجنا ومعنا سلاحنا النبل والسيوف حتى إذا جئنا قريبا من القوم عند غروب الشمس فكنت في ناحية وصاحبي في ناحية أخرى فقلت لهما إذا سمعتماني قد كبرت فكبرا فوالله إنا كذلك ننتظر غرة القوم إلا ورفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة المجمع للقوم خرج في طلب راع لهم أبطأ عليهم وتخوفوا عليه فقال له نفر من قومه نحن نكفيك ولا تذهب أنت فقال والله لا يذهب إلا أنا فقالوا فنحن معك فقال والله لا يتبعنى احد منكم وخرج حتى مر بي فلما أمكنني نفحته أي رميته بسهم فوضعته في فؤاده فوالله ما تكلم ووثبت عليه فاحتززت راسه وشددت في ناحية العسكر وكبرت وشد صاحباي وكبرا فهرب القوم واستقنا إبلا وغنما كثيرة فجئنا بها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيرا في صداقي
قال وبعضهم جعل هذه السرية وسرية أبي قتادة إلى غطفان بارض محارب التي قبل هذه واحدة أي واحدة أي ومن ثم ذكرتها عقبها خلاف ما صنع في الاصل
____________________
(3/205)
قال ويدل لكونهما واحدة ما نقل عن عبد الله بن أبي حدود قال لما طلبت منه الإعانة في مهر زوجتي قال لي ما وافقت عندنا شيئا أعينك به ولكن قد أجمعت أن أبعث ابا قتادة في اربعة عشر رجلا في سرية فهل لك أن تخرج فيها فإني أرجو أن يغنمك الله مهر امرأتك فقلت نعم فخرجنا حتى جئنا الحاضر أي وهم القوم النزول على ماء يقيمون به ولا يرتحلون عنه أي كما تقدم فلما ذهبت فحمه العشاء أي اقباله واول سواده خطبنا ابو قتادة واوصانا بتقوى الله تعالى والف بين كل رجلين وقال لا يفارق كل رجل زميله حتى يقفل اى يرجع ولايجىء الى الرجل فاسأله عن صاحبه فيقول لا علم لي به واذا كبرت فكبروا واذا حملت فاحملوا ولاتمعنوا في الطلب فاحطنا بالحاضر فجرد ابو قتادة سيفه وكبر وجردنا سيوفنا وكبرنا معه وقاتل رجال من القوم واذا فيهم رجل طويل فأقبل علي قال يا مسلم هلم إلي الجنة يتهكم بهي فملت إليه فذهب أمامي أي وصار يقبل علي بوجهه مرة ويدبر عني بوجهه مرة أخرى فتبعته فقال لي صاحبي لا تتبعه فقد نهانا أميرنا أن نمعن في الطلب ولا زال كذلك وقال إن صاحبكم لذو مكيدة وإن أمره هو الأمر فأدركته فرميته بسهم فقتلته وأخذت سيفه وجئت صاحبي فأخبرني أنهم جمعوا الغنائم وأن أبا قتادة تغيظ علي وعليك فجئت أبا قتادة فلامني فأخبرته الخبر ثم سقنا النعم وحملنا النساء جفون السيوف معلقة بالأقتاب ثم لما أصبحنا رأيت في السبي امرأة كأنها ظبي تكثر الالتفات خلفها وتبكي فقلت لها أي شيء تنظرين قالت والله أنظر إلى رجل لئن كان حيا ليستنقذنا منكم فوقع في نفسي أنه الذي قتلته فقلت لها والله قد قتلته وهذا والله سيفه معلق بالقتب فقالت فألق إلي غمده فقلت هذا غمد سيفه فلما رأته بكت ولبثت انتهى ولا يخفى أن السياق في كل يبعد كونهما واحدة سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه إلى بطن أضم
اسم موضع أو جبل
لما هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزو أهل مكة بعث أبا قتادة رضي الله تعالى عنه في ثمانية نفر من جملتهم محكم بن جثامة الليثي إلى بطن أضم ليظن ظان أن رسول الله
____________________
(3/206)
صلى الله عليه وسلم توجه إلى تلك الناحية وتنشر بذلك الأخبار فمر عليهم عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم عليهم بتحية الإسلام فأمسك عنه القوم وحمل عليه محكم فقتله أي لشيء كان بينه وبينه وسلبه متاعه وبعيره وعند وصولهم إلى المحل رجعوا فبلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إلى مكة فمالوا إليه حتى لقوه قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحكم أقتلته بعد ماقال آمنت بالله وفي رواية بعد ما قال إني مسلم أي أتى بما لم يأت به إلا مؤمن آمن الله وكان مسلما قال يارسول الله إنما قالها أي تحية الإسلام متعوذا قال أفلا شققت عن قلبه قال لم يا رسول الله قال لتعلم أصادق هو أم كاذب أي وفي رواية فقال يا رسول الله لو شققت عن قلبه أكنت أعلم ما في قلبه فقال له فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه فقال استغفر لي يا رسول الله فقال لا غفر الله لك فقام يتلقى دمعه ببرده ا هـوأنزل الله تعالى فيه { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة } إلى آخر الآية
وذكر ابن اسحاق في خبر محكم أن النبي صلى الله عليه وسلم بحنين ثم عمد إلى ظل شجرة فجلس تحتها فقام إليه الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن يختصمان في عامر ابن الأضبط عيينة بن حصن يطلب دمه أي ويقول والله يا رسول الله إني لا أدعه حتى أذيق نساءه من الحر مثل ما أذاق نسائي والأقرع يدافع عن محكم وارتفعت الأصوات وكثرت الخصومة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعيينة ومن معه بل تأخذون الدية خمسين في سفرنا هذا وخمسين إذا رجعنا وهو يابى عليه فلم يزل به حتى اتفقا على الدية ثم قالوا إن محكما يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام محكم وهو رجل آدم طويل أي عليه حلة قد كان تهيأ للقتل فيها حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تدمعان فقال له ما اسمك قال أنا محكم قد فعلت الذي بلغك وإني أتوب إلى الله تعالى واستغفر لي يا رسول الله فرفع رسول الله يديه ثم قال اللهم لا تغفر لمحكم قالها ثلاثا بصوت عال فقام يتلقى دمعه بفضل ردائه فما مكث إلا سبعا حتى مات فلفظته الأرض ومات حتى ضموا عليه الحجارة وواروه
اي ولما أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال لهم إن الأرض تقبل من هو
____________________
(3/207)
شر من صاحبكم ولكن الله يعظكم أي وفي رواية إن الله أحب أن يريكم تعظيم حرمة لا إله إلا الله أي حرمة من يأتي بها
ولفظ الأرض له يردا ما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر له بعد دعائه عليه إلا أن يكون المراد استغفر له بعد موته ويوافقه ما في بعض الروايات أراد الله أن يجعله موعظة لكم لكيلا يقدم رجل منكم على قتل من يشهد أن لا إله إلا الله أو يقول إني مسلم اذهبوا به الى شعب بني فلان فادفنوه فإن الارض ستقبله فدفنوه في ذلك الشعب فيجوز أن يكون استغفر له حينئذ وقيل إن الذي لفظته الأرض غير محكم لأن محكما مات بحمص ايام ابن الزبير رضي الله تعالى عنه الذي لفظته الأرض إسمه فليت سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى العزى
أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بين فتح مكة الوليد في ثلاثين فارسا من أصحابه إلى العزى وهو صنم كان لقريش وكان معظما جدا وفي لفظ العزى نخلات أي سمرات مجتمعة لأنه كان يهدي اليها كما يهدي إلى الكعبة لأن عمرو بن لحى أخبرهم أن الرب يشتى بالطائف عند اللات ويصيف عند العزى فلما وصل إلى محلها أي وكان بناء على ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم ذلك البناء ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال له هل رايت شيئا قال لا قال فارجع اليها فرجع خالد وهو متغيظ فجرد سيفه فخرجت إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس أي شعر رأسها منتشر تحثو التراب على راسها فجعل السادن يصيح بها أي يقول يا عزي عوريه يا عزيه خبليه فضربها خالد فقطعها نصفين أي وهو يقول ** يا عز كفرانك لا سبحانك ** إني رأيت الله قد أهانك **
ورجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم تلك العزى
____________________
(3/208)
سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى سواع
بالعين المهملة أي سمي باسم سواع بن نوح عليه السلام وكان على صورة امراة وكان لقوم نوح ثم صار لهذيل كانوا يحجون اليه أي قبل فتح مكة وبعد ذلك ارسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في جماعة من أصحابه إلى سواع ليكسره ويهدم محله قال عمرو رضي الله عنه فانتهيت الى ذلك الصنم وعنده سادنه أي خادمة فقال لي ما تريد فقلت أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهدمه قال لا تقدر قلت لم قال تمنع قلت حتى الآن أنت على باطل ويحك وهل يسمع او يبصر فدنوت منه فكسرته وأمرت أصحابي فهدموا بيت خزانته فلم نجد فيها شيئا ثم قلت للسادن كيف رأيت قال اسلمت لله سرية سعد بن زيد الأشهلي رضي الله تعالى عنه إلى مناة
صنم كان للأوس والخزرج
ارسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأشهلي في عشرين فارسا إلى مناة ليهدم محله فلما وصلوا الى ذلك الصنم قال السادن لسعد ما تريد قال هدم مناة قال أنت وذاك فاقبل سعد إلى ذلك الصنم فخرجت إليه أمراة عريانة سوداء ثائرة الراس تدعو بالويل وتضرب صدرها فقال لها السادن مناة دونك بعض عصيانك فضربها سعد رضي الله تعالى عنه فقتلها وهدم محلها سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى بني جذيمة
بناحية يلملم يدعوهم الى الإسلام أي ولم يكن صلى الله عليه وسلم علم بإسلامهم ولم يأمره بمقاتلتهم أي إذا لم يسلموا
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في ثلثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار ومن بني سليم أي وهو عليه الصلاة والسلام مقيم بمكة إلى بني جذيمة وكانوا في الجاهلية قد قتلوا الفاكه عم خالد وقتلوا أخا الفاكه أيضا
____________________
(3/209)
في الجاهلية وكانوا من أشرحي في الجاهلية وكانوا يسمون لعقة الدم وقتلوا والد عبد الرحمن بن عوف فلما علموا به وعلموا أن معه بني سليم وكانوا قتلوا منهم مالك بن الشريد وأخويه في موطن واحد خافوه فلبسوا السلاح فلما انتهى خالد رضي الله عنه إليهم تلقوه فقال لهم خالد أسلموا فقالوا نحن قوم مسلمون قال فألقوا سلاحكم وانزلوا قالوا لا والله ما بعد وضع السلاح إلا القتل ما نحن بأمنين لك ولا لمن معك قال خالد فلا أمان لكم إلا أن تنزلوا فنزلت فرقة منهم فأسرهم وتفرقت بقية القوم
وفي رواية لما انتهى خالد الى القوم فتلقوه فقال لهم ما أنتم أي أمسلمون أم كفار قالوا مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبنينا المساجد في ساحتنا وأذنا فيها وفي لفظ لم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا صبانا صبانا قال فما بال السلاح في السحر نادى منادى خالد رضى الله عنه من كان معه أسير فليقتله فقتل بنو سليم من كان معهم قال فضعوا السلاح فوضعوا فقال استاسروا فأمر بعضهم فكتف السلاح قال فضعوا السلاح فوضعوا فقال استأسروا فأمر بعضهم فكتف بالتخفيف بعضا وفرقهم في أصحابه فلما كان في السحر نادى منادى خالد رضى الله عنه من كان معه أسير فليقتله فقتل بنو سليم من كان معهم معهم وامتنع المهاجرون والأنصار رضي الله تعالى عنهم وأرسلوا أسراهم فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ما فعل خالد أي فإن رجلا من القوم جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما فعل خالد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هل أنكر عليه أحمد ما صنع قال نعم رجل أصفر ربعة ورجل طويل أحمر فقال عمرو رضي الله تعالى عنه والله يا رسول الله أعرفهما أما الأول فهو ابني فهذه صفته وأما الثاني فهو سالم مولى ابي حذيفة فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد أي قال ذلك مرتين وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن ابي طالب كرم الله وجهه فودي لهم قتلاهم قال له صلى الله عليه وسلم يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم ودفع إليه صلى الله عليه وسلم مالا أي إبلا وورقا يدى به قتلاهم ويعطيهم منه بدل ما تلف عليه من أموالهم فودي قتلاهم وأعطاهم عوض ما تلف عليهم حتى ميغلة الكلب أي الإناء التي يشرب فيها حتى إذا لم يبق لهم دم ولا مال قال هل بقي لكم دم أو مال قالوا لا قال أعطيكم ما بقي معي من المال احتياطا بدل ما لا تعلمون أي مما تلف من
____________________
(3/210)
أموالكم ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبره الخبر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبت وأحسنت أي وزاد
وفي رواية والذي أنا عبده لهي أحب إلي من حمر النعم ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة شاهرا يديه بقول اللهم إني أبرا إليك مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات أنتهى
ووقع بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما شر بسبب ذلك فقال له عبد الرحمن عملت بأمر الجاهلية في الإسلام فقال له إنما أخذت بثأر أبيك فقال له عبد الرحمن كذبت أنا قتلت قاتل ابي أي وفي رواية كيف تأخذ مسلمين بقتل رجل في الجاهلية فقال خالد ومن أخبركم انهم أسلموا فقال أهل السرية كلهم أخبروا بأنك قد وجدتهم بنوا المساجد وأقروا بالإسلام فقال جاءني أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أغير فقال له عبد الرحمن بن عوف كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أخذت بثار عمك الفاكه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلا يا خالد دع عنك أصحابي فوالله لو كان لك أحد ذهبا فأنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل منهم ولا روحته أي والغدوة السير في أول النهار إلى الزوال والروحة السير من الزوال إلى آخر النهار
والمراد باصحابه هنا السابقون إلى الإسلام ومنهم عبد الرحمن بن عوف بل هو المراد كما تصرح به الرواية الآتية فقد نزل صلى الله عليه وسلم الصحابة غير السابقين الذي يقع منهم الرد على الصحابة غير السابقين لكون ذلك لا يليق بهم منزلة غير الصحابة
قال ولما عاب عبد الرحمن على خالد الفعل المذكور أعان عبد الرحمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عن خالد وقال يا خالد ذر أصحابي وفي رواية لا تسب أصحابي لو كان لك أحد ذهبا فانفقته قيراطا قيراطا في سبيل الله لم تدرك غدوة أو روحة من غدوات أو روحات عبد الرحمن انتهى
اي ولا يخفى أنه يبعد أن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إنما قتلهم لقولهم صبأنا ولم يقولوا أسلمنا إلا أن يقال يجوز أن يكون خالد فهم أنهم قالوا ذلك على سبيل الأنفة وعدم الانقياد إلى الإسلام وأنه صلى الله عليه وسلم إنما أنكر عليه العجلة وترك التثبت في أمرهم قبل أن يعلم المراد من قولهم صبأنا ثم لا يخفى أنه جاء لا تسبوا أصحابي فلو أنفق
____________________
(3/211)
أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ونقل الإمام السبكي عن الشيخ تاج الدين بن عطاء الله فإنه كان يحضر مجلس وعظه أن قوله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي كان خطابا لم يأتي بعده من أمته لأنه صلى الله عليه وسلم كان له تجليات فرأى في بعضها سائر أمته الآتين من بعده فقال خطابا لهم لا تسبوا أصحابي وارتضى منه هذا التأويل ا هـفالنهى والخطاب لا تسبوا أصحابي لغير الصحابة تنزيلا للغائب الذي لم يوجد منزلة الموجود الحاضر وفيه أن هذا لا يساعد عليه المقام
وفي الحديث من التنويه برفعة الصحابة وعلو منزلتهم ما يقطع الأطماع عن مداناتهم فإن كون ثواب إنفاق جبل أحد ذهبا في وجه الخير لا يبلغ ثواب التصدق بنصف المد الذي إذا طحن وعجن لا يبلغ الرغيف المعتاد أمرعظيم
أقول ووقع لخالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه نظير ذلك في زمن خلافة الصديق فإن العرب لما ارتدت بعد موته صلى الله عليه وسلم عين خالد لقتال أهل الردة وكان من جملتهم مالك بن نويرة فأسره خالد هو واصحابه وكان الزمن شديد البرد فنادى منادي خالد أن ادفنوا أسراكم فظن القوم أنه أراد ادفنوا أسراكم أي اقتلوهم فقتلوهم وقتل مالك بن نويرة فلما سمع خالد بن ذلك قال إذا اراد الله أمرأ أمضاه وتزوج خالد رضي الله تعالى عنه زوجه مالك بن نويرة وكانت من أجمل النساء ويقال إن خالدا استدعى مالك بن نويرة وقال له كيف ترتد عن الإسلام وتمنع الزكاة ألم تعلم أن الزكاة قرينة الصلاة فقال كان صاحبكم يزعم ذلك فقال له هو صاحبنا وليس هو بصاحبك يا ضرارا اضرب عنقه وأمر برأسه فجعل ثالث حجرين جعل عليها قدر يطبخ فيه لحم فعل ذلك إرجافا لأهل الردة فلما بلغ سيدنا عمر ذلك قال للصديق رضي الله تعالى عنهما اعزله فإن في سيفه رهقا كيف يقتل مالكا ويأخذ زوجته فقال الصديق رضي الله تعالى عنه لا أغمد سيفا سله على الكافرين والمنافقين سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سله الله على الكافرين والمنافقين وقال الصديق رضي الله تعالى عنه في حق خالد عجزت النساء أن يلدن مثل خالد بن الوليد
وفي كلام السهيلي انه روى عن عمر بن الخطاب أنه قال لابي بكر الصديق إن في سيف خالد رهقا فاقتله وذلك حين قتل مالك بن نويرة وجعل رأسه تحت قدر حتى
____________________
(3/212)
طبخ به وكان مالك ارتد ثم رجع إلى الإسلام ولم يظهر ذلك لخالد وشهد عنده رجلان من الصحابة برجوعه إلى الإسلام فلم يقبلهما وتزوج امرأته فلذلك قال عمر لأبي بكر اقتله فقال لا أفعل لأنه متأول فقال اعزله فقال لا أغمد سيفا سله الله تعالى على المشركين ولا أعزل واليا ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم
قيل واصل العداوة بين خالد وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنهما على ما حكاه الشعبي أنهما وهما غلامان تصارعا وكان خالد ابن خال عمر فكسر خالد ساق عمر فعولجت وجبرت
ولما ولي سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه الخلافة أول شيء بدأ به عزل خالدا لما تقدم وقال لا يلي لي عملا أبدا وقيل لكلام بلغه عنه ومن ثم ارسل إلى أبي عبيدة إن أكذب خالد نفسه فهو أمير على ما كان عليه وإن لم يكذب نفسه فهو معزول فانتزع عمامته وقاسمه ماله نصفين فلم يكذب نفسه فقاسمه ابو عبيدة ماله حتى إحدى نعليه وترك له الأخرى وخالد يقول سمعا وطاعة لأمير المؤمنين
وبلغه أن خالدا أعطى الاشعث بن قيس عشرة آلاف وقد قصده ابتغاء إحسانه فارسل لابي عبيدة أن يصعد المنبر ويوقف خالدا بين يديه وينزع عمامته وقلنسوته ويقيده بعمامته لأن العشرة آلاف إن كان دفعها من ماله فهو سرف وإن كان من مال المسلمين فهي خيانة فلما قدم خالد رضي الله تعالى عنه على عمر رضي الله تعالى عنه قال له من أين هذا اليسار الذي تجيز منه بعشرة آلاف فقال من الأنفال والسهمان قال ما زاد على التسعين الفا فهو لك ثم قوم أمواله وعروضه وأخذ منه عشرين ألفا ثم قال له والله إنك علي لكريم وإنك لحبيب ولم تعمل لي بعد اليوم على شيء وكتب رضي الله عنه إلى الأمصار إني لم أعزل خالدا عن مبخلة ولا خيانة ولكن الناس فتنوا به فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع أي وأن نصر خالد على من قاتله من المشركين ليس بقوته ولا بشجاعته بل بفضل الله
فالصديق لم يعزل خالد بن الوليد مع فعله ما يكرهه بتأويل له في ذلك كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يعزله مع فعله كما كرهه صلى الله عليه وسلم حيث رفع يديه الى السماء وقال الهم إني أبرا إليك مما فعل خالد لكونه كان شديدا على الكفار لرجحان
____________________
(3/213)
المصلحة على المفسدة وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه عزله لخوف افتتان الناس به فعزله وولي ابا عبيدة بن الجراح
قال بعضهم كان الصديق رضي الله تعالى عنه لينا وخالد بن الوليد شديدا وعمر رضي الله تعالى عنه كان شديدا وأبو عبيدة لينا فكان الأصلح لكل منهما أن يولى من ولاه ليحصل التعادل والله أعلم
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في القوم رجل قال لهم أنا لست من هؤلاء ولكني عشقت امراة فلحقتها فدعوني أنظر اليها ثم افعلوا بي ما بدا لكم ثم أشار إلى نسوة مجتمعات غير بعيد قال بعضهم فقلت والله ليسير ما طلب فأخذته حتى أوقفته عليهن فأنشد أبياتا ثم جئت به فقدموه فضربت عنقه فقامت إمراة من بينهن فجاءت حتى وقفت عليه فشهقت بفتح الهاء شهقة أو شهقتين ثم ماتت أي وفي رواية فأكبت عليه تقبله حتى ماتت انتهى أي وفي رواية فانحدرت إليه من هو دجها فحنت عليه حتى ماتت فعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما كان فيكم رجل رحيم القلب سرية أبي عامر الأشعري رضي الله تعالى عنه إلى أوطاس
لما انصرف صلى الله عليه وسلم من حنين وانهزم المشركون عسكر منهم طائفة بأوطاس فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابا عامر الأشعري عم أبي موسى الأشعري في جماعة فيهم أبو موسى الأشعري ووقع في الاصل ان أبا عامر ابن عم ابي موسى الاشعري قال في النور وهو غلط وإنما أبو موسى ابن أخي أبن عامر فلحقوا بالقوم وتناوشوا القتال أي تكافئوا فيه وبارز أبو عامر تسعة ويقال إنهم إخوة وهو يقتلهم واحدا بعد واحد أي وصار كل من برز له منهم يدعوه إلى الإسلام فيأبى فيقول اللهم اشهد ويحمل عليه قيقتله ثم برز له أخوهم العاشر فقتل أبا عامر أي فإنه قال له اسلم فأبى فقال اللهم اشهد فقال اللهم لا تشهد وفرش يديه فظن أبو عامر أنه أسلم فكف عنه فعاد إلى ابي عامر فتقله ثم أسلم وحسن إسلامه رضي الله تعالى عنه وكان إذا رآه صلى الله عليه وسلم يقول هذا شريد أبي عامر
قال وعن أبي موسى الأشعري قال جئت لابي عامر وفيه رمق فقلت يا عم من
____________________
(3/214)
رماك فقال ذاك واشار إلى شخص من القوم فقصدته فلحقته فلما رآني ولي فاتبعته وجعلت أقول له الا تستحي ألا تثبت فثبت فاختلفنا ضربتين فقتلته ثم قلت لأبي عامر قد قتل الله صاحبك قال فانزع هذا السهم فنزعته فقال يا ابن اخي بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له يستغفر لي وقال ادفع فرسي وسلاحي له انتهى فليتأمل الجمع بين هذا وما قبله
وقبل ان يموت أبو عامر رضي الله تعالى عنه استخلف ابن عمه أبا موسى ودفع الراية له وفي لفظ أنا أبا عامر رماه واحد فأصاب قلبه ورماه آخر فأصاب ركبته فقتلاه وولى الناس ابا موسى فحمل عليهما فقتلهما أي وفتح الله عليهم وانهزم المشركون وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا
ولما رجع أبو موسى رضي الله عنه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بموت أبي عامر استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اللهم اجعله من أعلى أمتي في الجنة أي وفي رواية اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من الناس ودعا لأبي موسى أي فقال اللهم اغفر له ذنبه وادخله يوم القيامة مدخلا كريما سرية الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حميمة الدوسي ليهدمه
لما اراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى الطائف بعث الطفيل رضي الله تعالى عنه لهدم ذي الكفين وأمره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف فخرج سريعا الى قومه فهدم ذا الكفين وجعل يجئ النار في وجهه وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف بعد مقدمه باربعة أيام فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر الأزد من يحمل رايتكم فقال الطفيل من كان يحملها في الجاهلية النعمان بن الراوية قال اصبتم
____________________
(3/215)
سرية عيينة بن حصن الفزاري رضي الله تعالى عنه إلى بني تميم
أي وسببها أنه صلى الله عليه وسلم بعث بشر بن سفيان إلى بني كعب لأخذ صدقاتهم وكانوا مع بني تميم على ماء فأخذ بشر صدقات بني كعب فقال لهم بنو تميم وقد استكثروا ذلك لم تعطونهم أموالكم فاجتمعوا واشهروا السلاح ومنعوا بشرا من أخذ الصدقة فقال لهم بنو كعب نحن أسلمنا ولا بد في ديننا من دفع الزكاة فقال لهم بنو تميم والله لا ندع يخرج بعير واحد ولما رأى بشر رضي الله تعالى عنه ذلك قدم المدينة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
فعند ذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري الى بني تميم في خمسين فارسا من العرب ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري فكان يسير الليل ويكمن النهار فهجم عليهم وأخذ منهم أحد عشر رجلا وإحدى وعشرين امرأة وفي لفظ إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا فجاء بهم إلى المدينة فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسوا في دار رملة بنت الحارث فجاء في أثرهم جماعة من رؤسائهم منهم عطارد ابن حاجب والزبرقان بن بدر والاقرع بن حابس وقيس بن الحارث ونعيم بن سعد وعمرو بن الأهتم ورباح بكسر الراء المثناة تحت ابن الحارث فلما رأوهم بكى إليهم النساء والذراري فجاءوا إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم أي بعد أن دخلوا المسجد ووجدوا بلالا يؤذن بالظهر والناس ينتظرون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن دخلوا المسجد ووجدوا بلالا يؤذن بالظهر والناس ينتظرون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستبطئوه فجاءوا من وراء الحجرات فنادوا أي بصوت جاف اخرج إلينا نفاخرك ونشاعرك فإن مدحنا زين وذمنا شين يا محمد اخرج إلينا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وقد تأذى من صياحهم وأقام بلال رضي الله تعالى عنه الصلاة وتعلقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمونه فوقف معهم أي قالوا له نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما بالشعر بعثنا ولا بالفخار أمرنا ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر ثم جلس في صحن المسجد أي بعد أن قالوا ما تقدم ومنه إن مدحنا لزين وإن شتمنا لشين نحن
____________________
(3/216)
أكرم العرب فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبتم بل مدح الله عز وجل الزين وشتمه الشين وأكرم منكم يوسف بن يعقوب عليهما الصلاة والسلام ثم قالوا له فائذن لخطيبنا وشاعرنا قال أذنت فليقم وفي لفظ إني لم أبعث بالشعر ولم أومر بالفخر ولكن هاتوا فقدموا عطارد بن حاجب
وفي لفظ قال الاقرع بن حابس لشاب منهم قم يا فلان فاذكر فضلك وفضل قومك فتكلم وخطب أي فقال الحمد لله الذي له علينا الفضل وهو أهله الذي جعلنا ملوكا ووهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثرهم عددا فمن مثلنا في الناس ألسنا رءوس الناس وأولى فضلم فمن فاخر فليعدد مثل عددنا وإنا لو شئنا لأكثرنا وإنما أقول قولي هذا لأن يأتوا بمثل قولنا أو أمر أفضل من أمرنا ثم جلس أي وفي رواية أنه قال الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه وأعطانا اموالا نفعل فيها ما نشاء فنحن خير أهل الأرض وأكثرهم عددا وأكثرهم سلاحا فمن أنكر علينا قولنا فليأت بقول هو أحسن من قولنا أو بفعال هي افضل من فعالنا
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس أن يجيبه أي قال له قم فأجب الرجل في خطبته فقام ثابت رضي الله تعالى عنه فقال الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه قضى فيهن أمره ووسع كرسيه علمه لم يكن شيء قط إلا من فضله ثم إنه كان من فضله أن جعلنا ملوكا واصطفى من خير خلقه رسولا أكرمه نسبا وأصدقه قلبا وأفضله حسبا فأنزل عليه كتابه وائتمنه على خلقه فكان خيرة الله من العالمين ثم دعا الناس إلى الإيمان فآمن رسول الله لى المهاجرون من قومه وذوو رحمه أكرم الناس أحسابا وأحسن الناس وجوها وخير الناس مقالا ثم كان أول الناس إجابة واستجابة لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن فنحن أنصار الله ورسوله نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله ورسوله فمن آمن بالله ورسوله منع دمه وماله ومن كفر جاهدناه في الله وكان قتله علينا يسيرا اقول قولي هذا واستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم
أي وفي رواية أنه قال الحمد لله نحمده ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوها وأعظم الناس أحلاما فأجابوه والحمد لله الذي جعلنا أنصاره
____________________
(3/217)
ووزراء رسوله وعزا لدينه فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فمن قالها منع منا نفسه وماله ومن اباها قاتلناه وكان رغمه في الله علينا هينا أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات
ثم قال الزبرقان لرجل منهم فقم يا فلان فقل أبياتا تذكر فيها فضلك وفضل قومك فقال ابياتا منها ** نحن الكرام فلا حي يعادلنا ** نحن الرءوس وفينا يقسم الربع ** ** إذا أبينا فلا يأتي لنا أحد ** إنا لذلك عند الفخر نرتفع **
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بحسبان بن ثابت فحضر فقال له قم فأجبه فقال يسمعني ما قاله فأسمعه فقال حسان رضي الله تعالى عنه أبياتا منها ** نصرنا رسول الله والدين عنوة ** على من رغم عات بعيد وحاضر ** ** وأحياؤنا من خير من وطئ الحصا ** وأمواتنا من خير أهل المقابر **
وثابت بن قيس هذا كان يعرف بخطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم افتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال من يعلم لي علمه فقال رجل أنا يا رسول الله فذهب فوجده في منزله جالسا منكسا رأسه فقال له ما شأنك قال أخشى أن أكون من أهل النار لأني رفعت صوتي فوق صوت النبي فرجع الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلمه فقال اذهب إليه فقل له لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة وقال صلى الله عليه وسلم نعم الرجل ثابت بن قيس بن شماس قتل يوم اليمامة وكان عليه درع نفيسة فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينما رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامنه فقال له إني أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إني لما قتلت مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس عند خبائه فرس وقد كفأ على الدرع برمة وفوق البرمة رحل فأت خالدا فمره فليأخذها فإذا قامت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ابا بكر رضي الله تعالى عنه فقل له إن علي من الدين كذا وكذا وفلان من رقيقي عتيق فاستيقظ الرجل فأتى خالدا فأخبره فبعث إلى الدرع فاتى بها بعد أن وجدها على ما وصف وحدث ابا بكر رضي الله تعالى عنه برؤياه فأجاز وصيته قال بعضهم ولا يعلم أحد حدثت وصيته بعد موته سواه
____________________
(3/218)
ووقعت مفاخرة بين الزبرقان بن بدر وبين حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه كل منهما يذكر قصيدة يذكر فيها فخرا فمن قصيدة الزبرقان بن بدر وهو مطلعها ** نحن الكرام فلا حي يعادلنا ** منا الملوك وفينا تنصب البيع
ومن قصيدة حسان رضي الله تعالى عنه وهو مطلعها ** إنا أبينا ولم يأبى لنا أحد ** إنا كذلك عند الفخر نرتفع **
وفيه أن هذا اليبت من قول بعض بني تميم وقد أسمعه لحسان كما تقدم فليتأمل
ووقعت مفاخرة بين الاقرع بن حابس وبين حسان رضي الله تعالى عنه فقال الأقرع ابن حابس إني والله يا محمد قد قلت شعرا فاسمعه فقال له صلى الله عليه وسلم هات أنشد ** أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ** إذا خالفونا عند ذكر المكارم ** ** وإنا رءوس الناس من كل معشر ** وأن ليس في أرض الحجاز كدارم **
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قم يا حسان فأجبه فقال ** بني درام لا تفخروا إن فخركم ** يعدو وبالا عند ذكر المكارم ** ** هبلتم علينا تفخرون وأنتم ** لنا خول من بين ظئر وخادم **
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأقرع لقد كنت غنيا يا أخا بني دارم أن تذكر ما كنت ترى أن الناس قد نسوه فكان هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد عليهم من قول حسان رضي الله تعالى عنه وحينئذ قال الأقرع بن حابس لخطيبه يعني النبي صلى الله عليه وسلم أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا ولأصواتهم أعلى من اصواتنا أي ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرك ما كان قبل هذا ورأى النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الحسن رضي الله تعالى عنه فقال يا رسول الله لي من الولد عشرة ما قبلت واحدا منهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لا يرحم لا يرحم
قال ابن دريد رحمه الله اسم الأقرع نواس وإنما لقب الأقرع لقرع كان في رأسه والقرع انحصاص الشعر وكان رضي الله تعالى عنه شريفا في الجاهيلة والاسلام ونزل
____________________
(3/219)
فيهم أن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم
ووقع أن عمرو بن الأهتم مدح الزبرقان للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إنه لمطاع في أنديته سيد في عشيرته فقال الزبرقان لقد حسدني يا رسول الله لشرفي وقد علم أفضل مما قال فقال عمرو إنه لزمر المروءة ضيق العطن لئيم الخال وفي لفظ أن الزبرقان قال يا رسول الله أنا سيد تميم والمطاع فيهم والمجاب منهم آخذ لهم بحقوقهم وأمنعهم من الظلم وهذا يعلم ذلك يعني عمرو بن الأهتم فقال عمرو إنه لشديد العارضة مانع لجنبه مطاع في ناديه مانع لما وراء ظهره فقال الزبرقان والله لقد كذب يا رسول الله وما منعه أن يتكلم إلا الحسد فقال عمرو أنا احسدك والله إنك للئيم الخال حديث المال أحمق الوالد مبغض في العشيرة فعرف عمرو الإنكار في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله والله لقد صدقت في الأولى وما كذبت في الثانية رضيت فقلت أحسن ما علمت وسخطت فقلت اقبح ما علمت وفي رواية والله يا رسول الله لقد صدقت فيهما أرضاني فقلت أحسن ما علمت وأسخطني فقلت اسوا ما علمت فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم إن من البيان لسحرا وجاء إن من لبيان سحرا وإن من العلم جهلا وإن من الشعر حكما وإن من القول عيا
قال بعضهم أما قوله صلى الله عليه وسلم إن من البيان سحرا فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وأما قوله إن من العلم جهلا فإن العالم يكلف مالا يعلم فيجهله ذلك وأما قوله إن من الشعر حكما فهو هذه المواعظ والأمثال وأما قوله وإن من القول عيا فعرضك كلامك وحديثك على من ليس من شأنه هذا كلامه
وفيه إن هذا بيان للسحر المذموم وليس المراد هنا وإنما هو من السحر الحلال ومن ثم أقر صلى الله عليه وسلم عمرو بن الأهتم عليه ولم يسخطه منه فالسحر المذموم أن يصور الباطل في صورة الحق ببيانه ويخدع السامع بتمويهه وهو المراد عند الإطلاق والسحر غير المذموم فما كان من البيان على حق لأن البيان بعبارة مقبولة عذبة لا استكراه فيها تستميل القول القلوب كما يستميل الساحر قلوب الحاضرين إلى ماموه به
____________________
(3/220)
ثم إنه صلى الله عليه وسلم رد عليهم الأسارى والسبي وأحسن جوائزهم قال أي بعد أن أسلموا وأعطى كل واحد اثني عشر أوقية قيل إلا عمرو بن الأهتم فإن القوم خلفوه في ظهورهم لأنه كان أصغرهم سنا فاعطاه خمس أواق
وقد اختلف في عدد هذا الوفد فقيل كانوا سبعين رجلا وقيل كانوا ثمانين وقيل كانوا تسعين انتهى
أي والذي في الاستيعاب ثم أسلم القوم وبقوا في المدينة مدة يتعلمون الدين والقرأن ثم أرادوا الخروج إلى قومهم فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم أسراهم ونساءهم وقال أما بقي منكم أحد وكان عمر بن الاهتم في ركباهم فقال قيس بن عاصم وكان مشاحنا له لم يبق منا إلا غلام في ركابنا وأزرى به فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطاهم وبلغ عمرا ما قال قيس في حقه فأنشد أبياتا تتضمن لومه على ذلك وكان عمرو خطيبا بليغا شاعرا محسنا يقال إن شعره كان حللا منثورة وكان رضي الله تعالى عنه جميلا يدعى الكحيل لجماله وهو القائل ** لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ** ولكن أخلاق الرجال تضيق **
هذا كلامه وأنزل الله تعالى { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } قيل معناه لا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم بعضا فتؤخروا إجابته بالأعذار التي يؤخر بها بعضكم إجابة بعض ولكن عظموه صلى الله عليه وسلم بسرعة الإجابة سرية قطبة بن عامر رضي الله تعالى عنه إلى حي من خثعم
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قطبه بن عامر في عشرين رجلا الى حي من خثعم وأمره أن يشن الغارة عليهم فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها فأخذوا رجلا فسألوه فاستعجم عليهم أي سكت ولم يعلمهم بالأمر فجعل يصيح بالحاضر أي وهم القوم النزول على ماء يقيمون به ولا يرتحلون عنه كما تقدم ويحذرهم فضربوا عنقه ثم أمهلوا حتى نام الحاضر فشنوا الغارة عليهم فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت الجرحى في الفريقين وساقوا النعم والشاء إلى المدينة وجاء سهيل فحال بينهم وبين القوم فلم يجد القوم إليهم سبيلا وتقدمت الحوالة على هذا
____________________
(3/221)
سرية الضحاك الكلابي رضي الله تعالى عنه
في جمع إلى بني كلاب فلقوهم ودعوهم إلى الإسلام فأبوا فقاتلوهم فهزمهوهم وكان من جملة المسلمين شخص لقي أباه في جملة القوم فدعاه إلى الإسلام فسبه وسب الإسلام فضرب عرقوب فرس أبيه فوقع فأمسك أباه إلى أن أتي بعض المسلمين فقتله أي وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم بعث لبني كلاب وكتب اليهم في رق فلم ينقادوا للإسلام وغسلوا الخط من الرق وخاطوه تحت دلوهم فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال ما لهم أذهب الله عقولهم فصار لا يوجد أحد منهم إلا مختل العقل مختلط الكلام بحيث لا يفهم كلامه سرية علقمة بن مجزز رضي الله تعالى عنهما
بضم الميم وفتح الجيم وزايين الأولى مكسورة مشددة المدلجى أي وهو ولد القائف الذي قاف في حق زيد بن حارثة وأسامة رضي الله تعالى عنهما وقال إن بعض هذه الأقدام من بعض فهو صحابي ابن صحابي إلى جمع من الحبشة بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا من الحبشة تراءاهم أهل جدة أي في مراكب وجدة بضم الجيم وتشديد الدال المهملة قرية سميت بذلك لبنائها على ساحل البحر لأن الجدة شاطئ البحر فبعث إليه علقمة بن مجزز رضي الله تعالى عنهما في ثلثمائة فخاض بهم البحر حتى أتوا الى جزيرة في البحر فهربوا أي ورجعوا ولم يلق كيدا ثم لما كانوا في أثناء الطريق أذن علقمة رضي الله تعالى عنه لجماعة ان يعجلوا وأمر عليهم احدهم فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها فقال لهم أميرهم عزمت عليكم إلا تواثبتم أي وقعتم في هذه النار فقام بعض القوم فحجزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها فقال اجلسوا إنما كنت أضحك معكم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه
قال وعن علي كرم الله وجهه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء
____________________
(3/222)
فقال اجمعوا لي حطبا فجمعوا له ثم قال أوقدوا نارا فأوقدوها ثم قال ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا قالوا بلى قال فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقال إنا فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فكان كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار فلما رجعو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا له ذلك فقال لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا وقال صلى الله عليه وسلم لا طاعة في معصية الله وإنما الطاعة في المعروف انتهى أي والضمير في دخلوها للنار التي أوقدت والضمير في منها لنار الآخرة لأن الدخول فيها معصية والعاصي يستحق النار فالمقصود من ذلك الزجر
وفي رواية من أمركم منهم أي من الأمراء بمعصية الله فلا تطيعوه وفي لفظ لا طاعة في معصية الله ولا مانع من تكرر هذه الواقعة سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى هدم الفلس بضم الفاء وسكون اللام صنم طيء والغارة عليهم
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في خمسين ومائة رجل من الانصار على مائة بعير وخمسين فرسا معه راية سوداء ولواء أبيض إلى هدم الفلس والغارة عليهم فشنوا الغارة عليهم مع الفجر فهدموا الفلس وأحرقوه واستاقو النعم والشاء والسبي وكان في السبي أخت عدي بن حاتم الطائي أي واسمها سفانة بفتح السين المهملة وتشديد الفاء وبعد الألف نون مفتوحة ثم تاء تأنيث والسفانة في الأصل هي الدرة وهذه أسلمت رضي الله تعالى عنها قال بعضهم ولا يعرف لحاتم بنت إلا هذه ووجدوا في خزانة الصنم ثلاثة أسياف معروفة عند العرب وهي رسوب والمخذم واليماني وثلاثة أدراع وجعل الرسوب والمخذم صفيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صار اليه الثالث الذي هو اليماني
قال ومر النبي صلى الله عليه وسلم بأخت عدي فقامت اليه وكانت امرأة جذلة أي ذات وقار وعقل وكلمته صلى الله عليه وسلم أن يمن عليها فمن عليها فأسلمت رضي الله تعالى عنها وخرجت إلى أخيها عدي فاشارت إليه بالقدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عليه كما سيأتي في الوفود
____________________
(3/223)
ويذكر أنها قالت له صلى الله عليه وسلم يا محمد أرايت أن تخلي عنا ولا تشمت بنا أحياء من العرب فإني أبنة سيد قومي وإن أبي كان يحمى الذمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويكسو العاري ويقري الضيف ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة قط أنا ابنة حاتم الطائى فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ياجارية هذه صفة المؤمنين حقا لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق
أي وفي لفظ قالت له صلى الله عليه وسلم يا محمد أرأيت أن تمن علي ولا تفضحني في قومي فإني بنت سيدهم إن أبي كان يطعم الطعام ويحفظ الجوار ويرعى الذمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويكسو العريان ولم يرد طالب حاجة قط أنا بنت حاتم الطائي فقال لها صلى الله عليه وسلم هذه مكارم الاخلاق حقا ولو كان أبوك مسلما لترحمت عليه خلوا عنها فإن أباها يحب مكارم الأخلاق وإن الله يحب مكارم الأخلاق
وفي رواية أنها قالت يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامنن علي من الله عليك قال ومن وفدك قالت عدي بن حاتم قال الفار من الله ورسوله أي لأنه هرب لما رأى الجيش كما سيأتي في الوفود قالت ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني حتى إذا كان من الغد قلت له كذلك وقال لي مثل ذلك ففي اليوم الثالث أشار إلي رجل خلفه بأن كلميه فكلمته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعلت فلا تعجلي حتى يجئ من قومك من يكون لك ثقة يبلغك إلى بلادك فآذنيني أي أعلميني وسألت عن الرجل الذي أشار علي بكلامه فقيل لي إنه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال فصبرت حتى قدم علي من أثق به فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملني وأعطاني نفقة فخرجت حتى قدمت الشام علي أخي انتهى سرية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الى بلاد مذحج
بفتح الميم وإسكان الذال المعجمة ثم حاء مهملة مكسورة ثم جيم كمسجد أبو قبيلة من اليمن
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه الى بلاد مذحج من أرض
____________________
(3/224)
اليمن في ثلثمائة فارس وعقد له لواء وعممه بيده وقال امض ولا تلتفت فإذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك فكانت أول خيل دخلت إلى تلك البلاد فففرق أصحابه رضي الله تعالى عنهم فأتوا بنهب بفتح النون وغنائم وأطفال ونساء ونعم وشاء وغير ذلك وجعل على الغنائم بريدة بن الحصيب بضم الحاء وفتح الصاء المهملتين ثم لقي جمعهم فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا بالنبل والحجارة فصف أصحابه ودفع لواءه إلى مسعود بن سنان ثم حمل عليهم فقتل منهم عشرين رجلا فانهزموا وتفرقوا فكف عن طلبهم ثم دعاهم الى الاسلام فأسرع إلى اجابته ومتابعته نفر من رؤسائهم وقالوا نحن على من وراءنا من قومنا هذه صدقاتنا فخذ منها حق الله تعالى وجمع علي كرم الله وجهه الغنائم فجزأها على خمسة اجزاء فكتب في سهم منها لله وأقرع عليها فخرج أول السهام سهم الخمس وقسم الباقي على أصحابه ثم رجع علي كرم الله وجهه فوافي النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قدمها للحج أي حجة الوداع
وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا كرم الله وجهه في سرية إلى اليمن فأسلمت همدان كلها في يوم واحد فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ كتابه خر ساجدا ثم جلس فقال السلام على همدان وتتابع أهل اليمن إلى الإسلام قال في الأصل إن هذه السرية هي الأولى وما قبلها السرية الثانية سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل وكان نصرانيا
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في اربعمائة وعشرين فارسا في رجب سنة تسع إلى أكيدر بدومة الجندل وقال له إنك ستجده يصيد البقر فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين وكانت ليلة مقمرة صافية وهو على سطح له ومعه امرأته فجاءت البقر تحك بقرونها باب الحصن فقالت له امرأته هل رأيت مثل هذا قط قال لا والله قال فمن يترك هذه قال لا أحد فنزل فأمر بفرسه فأسرج وركب معه نفر من اهله فيهم أخ له يقال له حسان فتلقتهم خيل خالد فاستأسر أكيدر وقاتل أخوه حتى قتل وأجار خالد أكيدرا من القتل حتى يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يفتح له دومة الجندل وكان على أكيدر قباء من
____________________
(3/225)
ديباج مخوصة أي فيها خوص منسوجه بالذهب مثل خوص النخل فاستلبه خالد إياها وأرسلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتعجبت الصحابة منها فقال صلى الله عليه وسلم لمنادبل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا أي وقد تقدم وصالح على أهل دومة الجندل بألفي بعير وثمانمائة راس وأربعمائة رمح
ثم خرج خالد بأكيدر أخيه مصاد قافلا الى المدينة فقدم بالأكيدز على رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالحه على الجزية وحقن دمه ودم أخيه وخلى سبيلهما وكتب له كتابا فيه أمانهم وختمه يؤمئذ بظفره أي ومن جملة الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام مع خالد ابن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها إلى آخره وهذا كما لا يخفى يدل على أن أكيدر أسلم أي وهو الموافق لقول أبي نعيم وابن منده إسلامه وأنه معدود من الصحابة وأهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة فوهبها صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب
وذكر ابن الأثير أي في أسد الغابة أن القول باسلامه غلط فاحش فإنه لم يسلم بلا خلاف بين أهل السير أي وحينئذ يكون قوله في الكتاب حين أجاب إلى الإسلام أي انقاد اليه ويبعده قوله وخلع الأنداد والأصنام فليتأمل وأنه صلى الله عليه وسلم لما صالحه عاد إلى حصنه وبقي فيه على نصرانيته
ثم إن خالدا رضي الله تعالى عنه حاصره في زمن ابي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فقتله لنقضه العهد
قال ابن الأثير وذكر البلاذري أن أكيدر لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أسلم ثم بعد موته صلى الله عليه وسلم ارتد ثم قتله خالد أي بعد أن عاد من العراق إلى الشام
قال وعلي هذا القول لا ينبغي أن يذكر في الصحابة وإلا كان كل من أسلم في حياته صلى الله عليه وسلم ثم ارتد أي ومات مرتدا يذكر في الصحابة أي ولا قائل بذلك
ثم رأيت الذهبي قال في عمارة بن قيس بن الحارث الشيباني إنه ارتد وقتل مرتدا في خلافة أبي بكر وبهذا خرج عن أن يكون صحابيا بكل حال
____________________
(3/226)
سرية أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه إلى أبنى
بضم الهمزة ثم موحدة ثم نون مفتوحة مقصورة اسم موضع بين عسقلان والرملة
وفي كلام السهيلي رحمه الله وهي قرية عند مؤته التي قتل عندها زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما
لماكان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة أحدى عشرة من الهجرة أمر صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لغزو الروم فلما كان من الغد دعا صلى الله عليه وسلم أسامة ابن زيد فقال سر إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش فاغز صباحاعلى أهل أبنى وحرق عليهم واسرع السير لتسبق الأخبار فإن ظفرك الله عليهم فأقل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون والطلائع معك
فلما كان يوم الأربعاء بدأ به صلى الله عليه وسلم وجعه فحم وصدع فلما اصبح يوم الخميس عقد صلى الله عليه وسلم لأسامة لواء بيده ثم قال اغز باسم الله وفي سبيل الله وقاتل من كفر بالله فخرج رضي الله تعالى عنه بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة وعسكر بالجرف فلفم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا اشتد لذلك منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنهم فتكلم قوم وقالوا يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين والأنصار أي لأن سن أسامة رضي الله تعالى عنه كان ثمان عشرة وقيل تسع عشرة سنة وقيل سبع عشرة سنة
ويؤيد ذلك أن الخليفة المهدي لما دخل البصرة رأى إياس بن معاوية الذي يضرب به المثل ي الذكاء وهو صبي خلفه أربعمائة من العلماء وأصحاب الطيالسة فقال المهدي أف لهذه العثانين اما كان فيهم شيخ يتقدمهم غير هذا الحدث ثم التفت إليه المهدي وقال كما سنك يا فتى فقال سنى أطال الله بقاء أمير المؤمنين سن أسامة بن زيد ابن حارثة رضي الله تعالى عنهم لما ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا فيه ابو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال تقدم بارك الله فيك وكان سنه سبع عشرة سنة
ومما يؤثر عنه من لم يعرف عيبه فهو أحمق فقيل له ما عيبك يا أبا واثلة قال كثرة الكلام وقيل كان عمر أسامة رضي الله تعالى عنه عشرين سنة
____________________
(3/227)
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالتهم وطعنهم في ولايته مع حداثه سنه غضب صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وخرج وقد عصب على راسه عصابة وعليه قطيفة وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وأيم الله إن كان لخليقا بالإمارة وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إلى وإنهما منظنة لكل خير فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم وتقدم أنه رضي الله تعالى عنه كان يقال له الحب ابن الحب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح خشمه وهو صغير بثوبه
ثم نزل صلى الله عليه وسلم فدخل بيته وذلك في يوم السبت لعشر خلون من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله ويخرجون إلى العسكر بالجرف وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول أرسلوا بعث أسامة أي واستثنى صلى الله عليه وسلم ابا بكر وأمره بالصلاة بالناس
أي فلا منافاة بين القول بأن ابا بكر رضي الله تعالى عنه كان من جملة الجيش وبين القول بأنه تخلف عنه لأنه كان من جملة الجيش أولا وتخلف لما أمره صلى الله عليه وسلم بالصلاة بالناس
أي
وبهذا يرد قول الرافضة طعنا في أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه تخلف عن جيش أسامة رضي الله تعالى عنه لما علمت أن تخلفه عنه كان بأمر منه صلى الله عليه وسلم لأجل صلاته بالناس وقول هذا الرافضي مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن المتخلف عن جيش أسامة مردود لأنه لم يرد اللعن في حديث اصلا
فلما كان يوم الأحد اشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فدخل اسامة من عسكره والنبي صلى الله عليه وسلم مغمور فطأطأ رأسه فقبله وهو صلى الله عليه وسلم لا يتكلم فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة رضي الله تعالى عنه قال أسامة فعرفت أنه صلى الله عليه وسلم يدعو لي ورجع أسامة رضي الله تعالى عنه إلى عسكره ثم دخل عليه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين فقال له صلى الله عليه وسلم اغد على بركة الله تعالى فودعه أسامة وخر إلى معسكره وامر الناس بالرحيل فبينما هو
____________________
(3/228)
يريد الركوب إذا رسول امه أم أيمن رضي الله تعالى عنها قد جاءه يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت
وفي لفظ فسار حتى بلغ الجرف فارسلت اليه امرأته فاطمة بنت قيس تقول له لا تعجل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيل فاقبل وأقبل معه عمر وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنهم فانتهوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين زاغت الشمس
أي وفي لفظ أنه رضي الله تعالى عنه لما نزل بذي خشب قبض النبي صلى الله عليه وسلم فدخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة ودخل بريدة بلواء أسامة حتى اتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عنده
فلما بويع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه بالخلافة أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت اسامة وأن يمضي أسامة لما أمر به
فلما مات صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب أي فإنه لما اشتهرت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ظهر النفاق وقويت نفوس أهل النصرانية واليهودية وصارت المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية وارتدت طوائف من العرب وقالوا نصلي ولا ندفع الزكاة وعند ذلك كلم أبو بكر رضي الله تعالى عنه في منع أسامة من السفر أي قالوا له كيف يتوجه هذا الجيش إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة فأبى أي وقال والله الذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل ازواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرد جيشا وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حللت لواء عقده وفي لفظ والله لأن تخطفني الطير أحب إلي من أن أبدأ بشئ قبل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
أقول ذكر بعضهم أن أسامة رضي الله تعالى عنه وقف بالناس عند الخندق وقال لسيدنا عمر ارجع الى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه أن يأذن له أن أرجع بالناس فإن معي وجوه الناس ولا آمن على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقله واثقال المسلمين أن يتخطفهم المشركون وقالت له الانصار رضي الله تعالى عنهم فإن ابى أبو بكر إلا ان يمضي أي الجيش فابلغه منا السلام واطلب اليه أن يولى أمرنا رجلا أقدم منا من اسامة فقدم عمر على أبي بكر رضي الله تعالى عنهما وأخبره بما قال أسامة فقال أبو بكر والله لو تخطفني الذئاب والكلاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله صلى
____________________
(3/229)
الله عليه وسلم قال عمر رضي الله تعالى عنه الله تعالى عنه فإن الأنصار أمروني أن أبلغك أنم يطلبون أن تولى أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة فوثب أبو بكر وكان جالسا وأخذ بلحية عمر وقال ثكلتك أمك وعدمتك يا أبن الخطاب استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه فخرج عمر الى الناس فقال امضوا ثكلتكم أمهاتكم مالقيت اليوم بسببكم من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا هذا كلامه
وفيه أن هذا مخالف لما تقدم من صعوده صلى الله عليه وسلم المنبر وإنكاره على من طعن في ولاية أسامة إذ يبعد عدم بلوغ ذلك للأنصار رضي الله تعالى عنهم إلا ان يقال لعل من قال لسيدنا عمر هذه المقالة جمع من الأنصار لم يكونوا سمعوا بذلك ولا بلغهم أو جوزوا أن الصديق رضي الله تعالى عنه يوافق على ذلك حيث رأى فيه المصلحة وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه جوز ذلك حيث لم يتكفل بالرد عليهم بأنه صلى الله عليه وسلم أنكر على من طعن في ولاية أسامة رضي الله تعالى عنه فليتأمل والله أعلم
وكلم أبو بكر رضي الله تعالى عنه اسامة في عمر رضي الله تعالى عنه أن يأذن له في التخلف ففعل ولعل ذلك كان تطيبا لخاطر أسامة ومن ثم كان عمر رضي الله تعالى عنه لا يلقى اسامة إلا قال السلام عليك أيها الأمير كما يأتي فلما كان هلال شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة خرج أسامة رضي الله تعالى عنه أي في ثلاثة آلاف فيهم ألف فرس وودعه سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه بعد أن سار الى جانبه ساعة ماشيا واسامة راكب وعبد الرحمن بن عوف يقود براحلة الصديق فقال أسامة يا خليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن أنزل فقال والله لست بنازل ولست براكب ثم قال له الصديق رضي الله تعالى عنه أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك
وقد وقع نظير ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا رضي الله تعالى عنه الى اليمن شيعه صلى الله عليه وسلم وهو يمشي تحت راحلة معاذ وهو يوصيه
ثم أن أسامة رضي الله تعالى عنه سار إلى أهل أبني فشن عليهم الغارة أي فرق الناس عليهم وكان شعارهم يا منصور أمت فقتل من قتل وأسر من أسر وحرق منازلهم وحرق أرضها فأزال نخلها وأجال الخيل في عرصاتها ولم يقتل من المسلمين أحد وكان أسامة رضي الله تعالى عنه على فرس أبيه وقتل قاتل أبيه رضي الله تعالى عنهما
____________________
(3/230)
واسهم للفرس سهمين وللفارس سهما وأخذ لنفسه مثل ذلك فلما أمسى أمر الناس بالرحيل واسرع السير وبعث مبشرا إلى المدينة بسلامتهم
وخرج أبو بكر في المهاجرين والأنصار ممن لم يكن في تلك السرية يتلقون اسامة ومن معه وسروا بسلامتهم ودخل أسامة رضي الله تعالى عنه واللواء بين يديه حتى انتهى إلى باب المسجد ثم أنصرف إلى بيته
أي وكان في خروج هذا الجيش نعمة عظية فإنه كان سببا لعدم ارتداد كثير من طوائف العرب أرادوا ذلك وقالوا لولا قوة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ماخرج مثل هؤلاء من عندهم فثبتوا على الإسلام
أي وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حتى بعد أن ولي الخلافة إذا رأى أسامة رضي الله تعالى عنه قال السلام عليك ايها الأمير فيقول اسامة غفر الله لك يا أمير المؤمنين تقول لي هذا فيقول لا أزال أدعك ما عشت الأمير مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت علي أمير وفي السيرة الشامية سرايا أخر تركنا ذكرها تبعا للأصل
وفي السنة الثامنة أمر صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد رضي الله تعالى عنه أن يحج بالناس وهو بمكة
وقد كان صلى الله عليه وسلم استعمله عليها لما اراد الخروج إلى حنين وقيل لما رجع من حنين واستمر أميرا على مكة حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقره الصديق رضي الله تعالى عنه إلى أن توفي وكانت وفاته يوم وفاة الصديق رضي الله تعالى عنهما أي لأنه أطعم سم سنة في اليوم الذي أطعم فيه الصديق ذلك وكان ذلك الحج على ما كانت عليه العرب في الجاهلية من حج الكفار مع المسلمين لكن كان المسلمون بمعزل عنهم في الموقف
ولما دخلت سنة تسع استعمل صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه على الج فخرج في ثلاثمائة رجل من المدينة وبعث معه صلى الله عليه وسلم بعشرين بدنة قلدها صلى الله عليه وسلم واشعرها بيده الشريفة وساق ابو بكر رضي الله تعالى عنه خمس بدنات ثم تبعه علي كرم الله وجهه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء أي بفتح القاف والمد وقيل بالضم والقصر ونسب للخطأ فقال له ابو بكر رضي الله تعالى عنه استعملك رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحج قال
____________________
(3/231)
لا ولكن بعثني اقرا براءة على الناس وأنبذ إلى كل ذي عهد عهده وكان العهد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عاما وخاصا فالعام أن لا يصد أحد عن البيت جاءه ولا يخاف أحد في الأشهر الحرم كما تقدم والخاص بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل العرب إلى آجال مسماة
وفي كلام السهيلي رحمه الله تعالى لما أردف ابو بكر بعلي رضي الله تعالى عنهما رجع أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله هل أنزل في قرآن قال لا ولكن أردت أن يبلغ عني من هو من أهل بيتي فمضى أبو بكر رضي الله تعالى عنه فحج بالناس أي في ذي الحجة لا في ذي القعدة كما قيل من أجل النسئ الذي كان في الجاهلية يؤخرون له الأشهر الحرم أي فإن براءة نزلت أي صدرها وإلا فقد نزل منها قبل ذلك في غزوة تبوك { انفروا خفافا وثقالا } الآيات وكان نزول صدرها بعد سفر أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقيل له صلى الله عليه وسلم لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي
ثم دعا صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه فقال اخرج بصدر براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى فقرأ علي بن أبي طالب كرم الله وجهه براءة يوم النحر أي الذي هو يوم الحج الأكبر عند الجمرة الأولى وقال لا يحج بعد العام مشرك ولايطوف بالبيت عريان
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال أمرني علي كرم الله وجهه أن أطوف في المنازل من ببراءة فكنت أصيح حتى صحل حلقي فقيل له بماذا كنت تنادي فقال باربع أن لا يدخل الجنة إلا مؤمن وأن لا يحج بعد العام مشرك وأن لا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عهد فله عهد اربعة اشهر ثم لا عهد له وأول تلك الأربعة يوم النحر من ذلك العام ولا عهد له فعهده إلى أنقضاء المحرم
وكان المشركون إذا سمعوا النداء ببراءة يقولون لعلي كرم الله وجهه سترون بعد الاربعة اشهر فإنه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن والضرب
وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بما ذكر لأنهم كانوا يحجون مع المسلمين ويرفعون أصواتهم بقولهم لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك أي وتقدم سبب الإتيان بذلك ويطوف الرجال منهم عراة ليس على رجل منهم ثوب بالليل فيقول الواحد
____________________
(3/232)
منهم أطوف بالبيت كما ولدتني أمي ليس علي شيء من الدنيا خالطه الظلم أي وفي لفظ التي قارفنا فيها الذنوب
وكان لا يطوف الواحد منهم بثوب إلا بثوب من ثياب الحمس وهم قريش يستعيره أيو يكتريه وإذا طاف بثوب من ثيابه ألقاه بعد طوافه فلا يمسه هو ولا أحد غيره أبدا فكانوا يسمون تلك الثياب اللعنى
وفي الكشاف كان أحدهم يطوف عريانا ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها وقيل تفاؤلا بأن يعروا من الذنوب كما يعرون من الثياب
وكانت النساء يطفن كذلك وقيل كانت الواحدة تلبس درعا مفرجا وقد طافت امرأة عريانة ويدها على قبلها وهي تقول ** اليوم يبدو بعضه أو كله ** فما بدا منه فلا أحله **
فأنزل الله تعالى { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } فأبطلت ذلك سورة براءة في تلك السنة أي وقيل الزينة المشط وقيل الطيب
وكان بنو عامر في ايام الحج لا يأكلون الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجتهم فقال المسلمون فإنا أحق أن نفعل ذلك فقيل لهم { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا }
ويحكى أن بعض الأطباء الحذاق من النصارى قال لبعض الحكماء ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان فقال له قد جمع الله الطب كله في بعض آية من كتابه قال له وما هي قال قوله { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } فقال النصراني ولا يؤثر عن رسولكم صلى الله عليه وسلم شي من الطب قال قد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الطب في الفاظ يسيرة قال وما هي قال قوله المعدة بيت الداء والحمية راس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته فقال ذلك الطبيب ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس شيئا
وبينت براءة أن من كان له عهد فعهد إلى مدته ومن لم يكن له عهد فأجله إلى اربعة
____________________
(3/233)
أشهر وفي لفظ لما لحق علي كرم الله وجهه أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال له أبو بكر أمير أو مأمور قال بل مأمور
وزعمت الرافضة أنه صلى الله عليه وسلم عزل أبا بكر عن إمارة الحج بعلي وعبارة بعض الرافضة ولما تقدم ابو بكر بسورة براءة رده صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة ايام بوحي من الله وكيف يرضى العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله لأداء عشر آيات من براءة هذا كلامه
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله وهذا أبين من الكذب فان من المعلوم المتواتر أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لم يعزل وأنه حج بالناس وكان علي كرم الله وجهه من جملة رعيته في تلك السفرة يصلي خلفه كسائر المسلمين ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج في ذلك العام
وإنما أردف صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه بعلي كرم الله وجهه لنبذ العهود وكان من عادة العرب لا ينبذ العهد إلا المطاع أو رجل من أهل بيته أي فلوا تلا أبو بكر رضي الله تعالى عنه ما فيه نقض عهد عاهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما تعللوا وقال قائلهم هذا خلاف ما نعرف فأزاح الله عللهم بكون ذلك على يد رجل من بني ابي رسول الله صلى الله عليه وسلم الأدنى إليه ممن له ذرية وهو عبد المطلب قال وهذا غير بعيد من افتراء الرافضة وبهتانهم أي وعلى عادة العرب بما ذكر جاء قوله صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عني إلا رجل من أهل بيتي كما تقدم وفي لفظ إلا رجل مني أي لا يبلغ عني عقد العقود ولا حلها إلا رجل مني أي من بني ابي الأدنى ولا أب له ذرية أدنى إليه صلى الله عليه وسلم من عبد المطلب
ولا يجوز حمل ذلك على تبليغ الأحكام والقرآن إذ كل أحد من المسلمين مأذون له في تبليغ ذلك عنه صلى الله عليه وسلم
وفي هذه السنة التي هي سنة تسع تتابعت الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قيل لها سنة الوفود
____________________
(3/234)
& باب يذكر فيه ما يتعلق بالوفود التي وفدت عليه صلى الله عليه وسلم
أي غير من تقدم فقد تقدم أنه قدم عليه صلى الله عليه وسلم وفد هوازن بالجعرانة وكذا وفد عليه بها مالك بن عوف النصري وذلك في آخر سنة ثمان أي ووفد نصارى نجران أي قبل الهجرة ووفد بني تميم في سرية عيينة بن حصن وذكر ابن سعد أن ذلك كان في المحرم سنة تسع
ووفد عليه وفد نصارى نجران ايضا بعد الهجرة وكانوا ستين راكبا ودخلوا المسجد النبوي أي وعليهم ثياب الحبرة وأردية الحرير مختمين بخواتم الذهب أي ومعهم هدية وهي بسط فيها تماثيل ومسوح فصار الناس ينظرون للتماثيل فقال صلى الله عليه وسلم أما هذه البسط فلا حاجة لي فيها وأما هذه المسوح فإن تعطونيها آخذها فقالوا نعم نعطيكها ولما رأى فقراء المسلمين ما عليه هؤلاء من الزينة والزي الحسن تشوقت نفوسهم إلى الدنيا فأنزل الله تعالى { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار } الآيات وأرادوا أن يصلوا بالمسجد بعد أن حان وقت صلاتهم وذلك بعد العصر فأراد الناس منعهم فقال صلى الله عليه وسلم دعوهم فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم فعرض عليهم صلى الله عليه وسلم الإسلام وتلا عليهم القرآن فامتنعوا وقالوا قد كنا مسلمين قبلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبتم يمنعكم من الإسلام ثلاث عبادتكم الصليب وأكلكم لحم الخنزير وزعمكم أن لله ولدا أي لأن احدهم قال له صلى الله عليه وسلم المسيح عليه الصلاة والسلام ابن الله لانه لا أب له وقال له آخر المسيح هو الله لأنها أحيا الموتى وأخبر عن الغيوب وابرأ من الأدواء كلها وخلق من الطين طيرا وقال له أفضلهم فعلام تشتمه وتزعم أنه عبد فقال صلى الله عليه وسلم هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم فغضبوا وقالوا إنما يرضينا أن تقول إنه إله وقالوا له صلى الله عليه وسلم إن كنت صادقا فأرنا عبد الله يحيى الموتى ويشفي الأكمه والأبرض ويخلق من الطين طيرا فينفخ فيا فتطير فسكت صلى الله عليه وسلم عنهم فنزل الوحي بقوله تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم }
____________________
(3/235)
وقوله تعالى { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب } ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم إن الله أمرني إن لم تنقادوا للإسلام أن ابا هلكم أي ندعوا ونجتهد في الدعاء باللعنة على الكاذب فقالوا له يا ابا القاسم نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فخلا بعضهم ببعض فقال بعضهم والله علمتم أن الرجل نبي مرسل ومالا عن قوم قط نبيا الا استؤصلوا أي أخذوا عن آخرهم وإن أنتم أبيتم إلا دينكم فوادعوه وصالحوه وارجعوا إلى بلادكم وفي لفظ أنهم ذهبوا إلى بني قريظة أي من بقي منهم وبني النضير وبني قينقاع واستشاروهم فاشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه
وفي لفظ أنهم وادعوه على الغد فلما أصبح صلى الله عليه وسلم أقبل ومعه حسن وحسين وفاطمة وعلي رضي الله عنهم وقال اللهم هؤلاء أهلي أي وعند ذلك قال لهم الاسقف إني لارى وجوها لو سالوا الله أن يزيل لهم جبلا لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الارض نصراني فقالوا لا نباهلك
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم لو لاعنتهم يا رسول الله بيد من كنت تأخذ قال صلى الله عليه وسلم آخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين وعائشة وحفصة وهذا أي زيادة عائشة وحفصة في هذه الرواية دل عليه قوله تعالى { ونساءنا ونساءكم } وصالحوه صلى الله عليه وسلم على الجزية صالحوه على ألف حلة في صفر وألف في رجب ومع كل حلة أو قية من الفضة وكتب لهم كتابا وقالوا له أرسل معنا أمينا فارسل معهم أبا عبيدة عامر بن الجراح رضي الله تعالى عنه وقال لهم هذا أمين هذه الأمة أي وفي رواية هذا هو القوي الأمين وكان لذلك يدعى في الصحابة بذلك
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أما والذي نفسي بيده لقد تدلى العذاب على أهل نجران ولو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير ولأضرم الوادي عليهم نارا ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله حتى الطير على الشجر ولا حال الحول على النصارى حتى يهلكوا
ووفد عليه صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة الداريون أبو الهند الداري وتميم الداري وأخوه ونعيم واربعة آخرون وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم أرضا من أرض الشام فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سلوا حيث شئتم قال ابو هند
____________________
(3/236)
فنهضنا من عنده نتشاور في أي أرض نأخذ فقال تميم الداري رضي الله تعالى عنه نسأله بيت المقدس وكورتهما فقال أبو هند هذا محل ملك العجم وسيصبر محل ملك العرب فأخاف ان لا يتم لنا قال تميم نسأله بيت جبرون وكورتها فنهضنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له فدعا بقطعة من أدم وكتب لهم كتابا نسخته بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب ذكر فيه ما وهب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم للداريين إذا أعطاه الله الأرض وهب لهم بيت عينون وجيرون والمرطوم وبيت إبراهيم عليه الصلاة والسلام أبد الأبد شهد بذلك عباس بن عبد المطلب وخذيمة بن قيس وشرحبيل بن حسنة وكتب ثم أعطانا كتابنا وقال انصرفوا حتى تسمعوا أني قد هاجرت قال أبو هند فانصرفنا فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدمنا عليه وسألناه أن يجدد لنا كتابا آخر فكتب لنا كتابا نسخته بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أنطى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتميم الداري وأصحابه إني أنطيتكم بيت عينون وجيرون والمرطوم وبيت ابراهيم عليه الصلاة والسلام برمتهم وجميع مافيهم نطية بيت ونفذت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعده أبد الأبد فمن آذاهم آذاه الله شهد بذلك أبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وكتب نقل ذلك في المواهب وأقره
وخطب صلى الله عليه وسلم خطبة قال فيها حدثني تميم الداري وذكر خبر الجساسة أي لأن تميما رضي الله تعالى عنه أخبره صلى الله عليه وسلم أنه ركب البحر فتاهت به سفينته فسقطوا إلى جزيرة فخرجوا إليها يلتمسون الماء فلقي إنسانا يجر شعره فقال له من أنت قال أنا الجساسة قالوا فأخبرنا قال لا أخبركم ولكن عليكم بهذه الجزيرة فدخلناها فإذا رجل مقيد فقال من أنتم قلنا ناس من العرب قال ما فعل هذا النبي الذي خرج فيكم قلناقد آمن به الناس واتبعوه وصدقوه قال فإن ذلك خير لهم قال أفلا تخبروني عن عين ذعر ما فعلت فأخبرناه عنها فوثب وثبة ثم قال ما فعل نخل بيسان العرب هل أطعم بتمر فأخبرناه أنه قد أطعم فوثب مثلها فقال أما لوقد أذن لي في الخروج لو طئت البلاد كلها غير طيبة فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدث الناس فقال هذه طيبة وذاك الدجال قال ابن عبد البر وهذا أولى ما يخرجه المحدثون في راية الكبار عن الصغار أي كما تقدم
____________________
(3/237)
ووفد عليه صلى الله عليه وسلم وهو في خيبر الاشعريون صحبة ابي موسى الأشعري صحبوا جعفر بن أبي طالب من الحبشة وقال صلى الله عليه وسلم فيهم كما تقدم أتاكم أهل اليم أرق افئدة وألين قلوبا الإيمان يمان والحكمة يمانية وقال في حق أهل اليمن يريد أقوام أن يضعوهم ويابى الله إلا أن يرفعهم والأشعري نسبة إلى أشعر واسمه نبت بن أدد ابن يشجب وإنما قيل له أشعر لأن أمه ولدته والشعر على بدنه
قال لما فتحت مكة ودانت له صلى الله عليه وسلم قريش عرفت العر ب انه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعداوته لأن قريشا كانت قادة العرب ودخلوا في دين الله أفواجا
قال في النهاية الوفد القوم يجتمعون ويردون البلاد واحدهم وافداهم والوفد رسول القوم يقدمهم وقد يراد به ما هو أعم من ذلك فيشمل من قدم رسول الله وحينذ يكون من ذلك كعب بن زهير رضى الله تعالى عنه فإنه قدم على رسول الله
وسبب ذلك أن أخاه بجير بن زهير خرج يوما هو وكعب في غنم لهما فقال لأخيه كعب بن اثبت في الغنم حتى آتى هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم فاسمع كلامه وأعرف ما عنده فأقام كعب ومضى بجير فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع كلامه وآمن به وذلك أن أباهما زهيرا كان يجالس أهل الكتاب ويسمع منهم أنه قد آن مبعثه صلى الله عليه وسلم ورأى زهير والدهما رضي الله تعالى عنهما أنه قد مد بسبب من السماء وأنه مد يده ليتناوله ففاته فأوله بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي يبعث في آخر الزمان وأنه لا يدركه وأخبر بنيه بذلك وأوصاهم إن أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلموا ولما اتصل ولما اتصل خبر إسلام بجير بأخيه كعب أغضبه ذلك فلما كان منصرفه صلى الله عليه وسلم من الطائف كتب بجير رضي الله تعالى عنه إلى أخيه كعب بن زهير وكان ممن يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بفتح مكة وأنه صلى الله عليه وسلم قتل بها رجالا ممن كان يهجوه من شعراء قريش وهرب بعضهم في كل وجه كابن الزبعري وهبيرة بن ابي وهب وأنه صلى الله عليه وسلم قال من لقي منكم كعب بن زهيرة فليقتله فإن كان لك في نفسك حجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل أحدا جاء تائبا ولا يطالبه بما تقدم الإسلام وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجاتك
____________________
(3/238)
وفي تصحيح الأنساب لابن أبي الفوارس أن زهير بن أبي سلمى قال لأولاده إني رأيت في المنام سببا ألقى إلي من السماء فمددت يدي لأتناوله ففاتني فأولته أنه النبي الذي يبعث في هذا الزمان وأنا لا أدركه فمن أدركه منكم فليصدقه وليتبعه ليهتدى به فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمن به ابنه بجير وأقام كعب ابنه على الشرك والتشبيب بأم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال لئن وقع كعب في يدي لأقطعن لسانه الحديث
أي ولا مانع ان يكون ضم إلى هذا هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الأرض وأرجف به أعداؤه وصاروا يقولون هو مقتول لا محالة فلم يجد بدا من مجيئه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعمل القصيدة التي مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر فيها إرجاف أعدائه به رضي الله تعالى عنه التي مطلعها ** بانت سعاد فقلبي اليوم متبول **
ثم خرج رضي الله تعالى عنه حتى قدم المدينة فنزل على رجل كان بينه وبينه معرفة فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح فاشار له ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هذا رسول الله فقم إليه واستأمنه فقام إلى أن جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ومن حضره لا يعرفه فقال يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فقال يا رسول أنا كعب بن زهير فوثب رجل من الأنصار فقال يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعه عنك فإنه قد جاء تائبا نازعا فلما أنشد القصيدة المذكورة ومدح فيها المهاجرين ولم يتعرض للأنصار قيل حمله على ذلك ما سمعه من ذلك الأنصاري مما غاظه ولم يسمع من المهاجرين شيئا يغيظه
وفيه أن هذا واضح إذا كان أنشا ذلك في ذلك الوقت وأما إذا كان عمله قبل مجيئه كما هو ظاهر ما تقدم أنه عمل تلك القصيدة التي من جملتها ما ذكر فلا فعند ذلك غضب الانصار فمدحهم بالقصيدة التي مطلعها ** من سره كرم الحياة فلا يزل ** في مقنب من صالحي الأنصار **
____________________
(3/239)
أي ويقال إنه صلى الله عليه وسلم هو الذي حضه على مدحهم وقال له لما أنشد بانت سعاد ورآها صلى الله عليه وسلم مشتملة على مدح المهاجرين دون الأنصار لوا أي هلا ذكرت الأنصار بخير فان الانصار أهل لذلك أي ولما أنشده صلى الله عليه وسلم بانت سعاد وقال ** إن الرسول لسيف يستضاء به ** مهند من سيوف الله مسلول **
ألقى صلى الله عليه وسلم بردة كانت عليه صلى الله عليه وسلم وقد اشتراها معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما من آل كعب بمال كثير أي بعد ان دفع لكعب فيها عشرة آلاف فقال ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا فلما مات كعب رضي الله تعالى عنه أخذها من ورثته بعشرين ألفا وتوارثها خلفاء بني أمية ثم خلفاء بني العباس اشتراها السفاح أول خلفاء بني العباس بثلاثمائة دينار أي بعد انقراض دولة بني أمية وكانوا يطرحونها على أكتافهم جلوسا وركبوا وكانت على المقتدر حين قتل وتلوثت بالدم
ويقال إن التي كانت عند بني العباس بردته صلى الله عليه وسلم التي أعطاها لأهل أيلة مع كتابه الذي كتبه لهم أمانا وذلك في غزوة تبوك وحينئذ تكون بردة كعب رضي الله تعالى عنه فقدت عند زوال دولة بني أمية وأما هذه البردة فلعل فقدها كان في فتنة التتار
ثم رأيت ابن كثير رحمه الله تعالى إن معاوية رضي الله تعالى عنه اشترى البردة التي كانت عند الخلفاء من أهل كعب باربعين ألف درهم ثم توارثها الخلفاء الامويون والعباسيون حتى أخذها التتر منهم سنة أخذ بغداد وقال هذا من الأمور المشهورة جدا ولكني لم أر ذلك في شيء من الكتب باسناد أرتضيه وصار كعب رضي الله تعالى عنه من شعرائه صلى الله عليه وسلم الذي يذبون عن الإسلام كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنهما الأنصاريين
ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك في رمضان قدم عليه في ذلك الشهر وفد ثقيف وكان من خبرهم أنه لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن محاصرتهم تبع أثره عروة بن مسعود رضي الله تعالى عنه حتى أدركه صلى الله عليه وسلم قبل ان يصل إلى المدينة فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام فقال له رسول الله
____________________
(3/240)
صلى الله عليه وسلم إنهم قاتلوك فقال له عروة يا رسول الله أنا أحب إليهم من أبكارم أي أول أولادهم وفي رواية من أبصارهم فخرج رضي الله تعالى عنه يدعو قومه إلى الإسلام رجاء أن لا يخالفوه لمرتبته فيهم أي لأنه رضي الله تعالى عنه كان فيهم محببا مطاعا فلما أشرف لهم على علية ودعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل جانب فأصابه سهم فقتله
وفي لفظ انه رضي الله تعالى عنه قدم الطائف عشاء فجاءته ثقيف يسلمون عليه فدعاهم إلى الإسلام نصح لهم فعصوه وأسمعوه من الأذى مالم يكن يغشاه منهم فخرجوا من عنده حتى إذا كان السحر وطلع الفجر قام على غرفة في داره وتشهد فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله فقيل له قبل أن يموت ما ترى في دمك فقال كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها الله إلي فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ان يرتحل عنكم فادفنوني معهم فدفنوه معهم وقال في حقه صلى الله عليه وسلم إن مثله في قومه كمثل صاحب يس إنه قال لقومه { اتبعوا المرسلين } الآيات فقتله قومه أي المذكورة في سورة يس وهو حبيب بن برى
وقال السهيلي يحتمل أن المراد به صاحب إلياس فإن إلياس يقال في اسمه يس أيضا وقد قال صلى الله عليه وسلم مثل هذه المقالة في حق شخص آخر يقال له قرة بن حصين او ابن الحارث بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني هلال بن عامر يدعوهم إلى الإسلام فقتلوه فقال صلى الله عليه وسلم مثله مثل صاحب يس
ثم إن ثقيفا أقامت بعد قتل عروة شهرا ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرف قد أسلموا فأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فكلموا عبد ياليل بن عمرو وكان في سن عروة بن مسعود رضي الله تعالى عنه في ذلك فأبي أن يفعل لأنه خشي أن يفعل به كما فعل بعروة وقيل كلموا مسعود بن عبد ياليل ونسب قائله إلى الغلط فقال لست فاعلا حتى ترسلوا معي رجالا فبعثوا معه خمسة أنفار منهم شرحبيل بن غيلان أحد أشراف ثقيف اسلم غيلان بالعين المعجمة على عشرة نسوة وممن أسلم على عشرة نسوة ايضا عروة بن مسعود وكذلك مسعود بن معتب ومسعود بن عمير وسفيان بن عبد الله وابو عقيل مسعود بن عامر وكلهم من ثقيف
____________________
(3/241)
ويقال وفد عليه صلى الله عليه وسلم تسعة عشر رجلاهم اشراف ثقيف فيهم كنانة بن عبد ياليل وهو رأسهم يؤمئذ وفيه عثمان بن ابي العاص وهو أصغرهم فلما قربوا من المدينة لقوا المغيرة بن شعبة الثففي فذهبب مسرعا ليبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم عليه فلقيه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخبره فقال له ابو بكر رضي الله تعالى عنه أقسمت عليك لا تسبقني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكون أنا أحدثه ففعل فدخل ابو بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقدومهم عليه ثم خرج المغيرة أي وعلمهم رضي الله تعالى عنه كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم فابوا إلا تحية الجاهلية وهي عم صباحا ثم قدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب لهم قبة في ناحية المسجد أي ليسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلوا وكانوا يغدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم ويخلفون عثمان بن أبي العاص عند أسبابهم فكان عثمان إذا رجعوا ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يساله عن الدين ويسقرئه القرآن إذا وجد النبي صلى الله عليه وسلم نائما ذهب إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وكان يكتم ذلك عن أصحابه فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحبه وكان فيهم رجل مجذوم فارسل صلى الله عليه وسلم يقول له إنا بايعناك فارجع وفي المرفوع لا تديموا النظر إلى المجذومين وجاء كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين هذا معارض بقوله صلى الله عليه وسلم لا عدوى ولا طيرة وبما جاء في أحاديث اخر أنه صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم طعاما وأخذ يده وجعلها معه في القصعة وقال كل بسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه
وأجيب بأن الأمر باجتناب المجذوم إرشادي ومؤاكلته لبيان الجواز أو جواز المخالطة محمولة على من قوي إيمانه وعدم جوازها على من ضعف إيمانه ومن ثم باشر صلى الله عليه وسلم الصورتين ليقتدي به فيأخذ القوي الإيمان بطريق التوكل والضعيف الإيمان بطريق الحفظ والاحتياط
وعند انصرافهم قالوا يا رسول الله أمر علينا رجلا يؤمنا فامر عليهم عثمان بن أبي العاص لما راى من حرصه على الإسلام وقرأ القرآن وتعلم الدين ولقول الصديق رضي الله تعالى عنه له صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إني رأيت هذا الغلام من أحصرصهم على النفقة في الإسلام وتعلم القرآن
____________________
(3/242)
وفي رواية ان عثمان بن ابي العاص قال قلت يا رسول الله اجعلني إمام قومي قال أنت إمامهم وقال لي إذا أممت فأخف بهم الصلاة واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا فكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب لهم كتابا وكان الكاتب له خالد المذكور ومن جملته بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المؤمنين إن عضاه وج وصيده حرام لا يعضد شجره ومن وحد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه ووج واد بالطائف وقيل هو الطائف والعضاه كل شجر له شوك واحده عضة كشفة وشفاه
وروى أبو داود والترمذي ألا إن صيد وج وعضاهه حرام محرم وكانوا يطعمون طعاما يأيتهم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يترك لهم الصلاة فقال لا خير في دين لا صلاة فيه وفي لفظ لا ركوع فيه وأن يترك لهم الزنا والربا وشرب الخمر فابى ذلك وسألوه أن يترك لهم الطاغية التي هي صنمهم وهي اللات أي وكانوا يقولون لها الربة لا يهدمها إلا بعد ثلاث سنين من مقدمهم له فابى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلا زالوا يسألونه سنة وهو يأبى عليهم حتى سألوه شهرا واحدا بعد قدومهم وارادوا بذلك ليدخل الإسلام في قومهم ولا يرتاع سفهاؤهم ونساؤهم بهدمها فابى عليهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
أي وعند خروجهم قال لهم سيدهم كنانة أنا أعلمكم بثقيف اكتموا إسلامكم وخوفوهم الحرب والقتال وأخبروهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم سألنا أمورا عظيمة ما ابيناها عليه سالنا أن نهدم الطاغية وأن نترك الزنا والربا وشرب الخمر فلما جاءتهم ثقيف وسألوهم قالوا جئنا رجلا فظا غليظا قد ظهر بالسيف ودان له الناس فعرض علينا أمور شدادا وذكروا ما تقدم قالوا والله لا نطيعه ولا نقبل هذا ابدا فقالوا لهم أصلحوا وتهيئوا للقتال ورموا حصنكم فمكثت ثقيف كلذلك يومين أو ثلاثة ثم القى الله الرغب في قلوبهم وقالوا والله ما لنا من طاقة فارجعوا إليه وأعطوه ما سأل فعند ذلك قالوا لهم قد قاضيناه واسلمنا فقالوا لهم لم كتمتمونا قالوا أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة الشيطان فأسلموا ومكثوا أياما فقدم عليهم رسل رسول
____________________
(3/243)
الله صلى الله عليه وسلم بعث ابا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهما لهدم الطاغية
وفي رواية لما فرغوا من أمرهم وتوجهوا إلى بلادهم راجعين بعث صلى الله عليه وسلم معهم أبا سفيان والمغيرة بن شعبة لهدم الطاغية فخرجا مع القوم حتى إذا قدموا الطائف اراد المغيرة رضي الله تعالى عنه ان يقدم أبا سفيان فأبى ذلك أبو سفيان عليه وقال ادخل أنت على قومك فلما دخل المغيرة علاها ليضربها بالمعول أي الفأس العظيمة التي يقطع بها الصخر وقام قومه دونه خشية أن يرمي كما رمى عروة وخرج نساء ثقيف حسرا أي مكشوفات الرءوس حتى العواتق من الحجال يبكين على الطاغية
قال وفي رواية يظنون أنه لا يمكن هدمها لأنها تمنع من ذلك واراد المغيرة رضي الله تعالى عنه أن يخسر بثقيف فقال لأصحابه لأضحكنكم من ثقيف فألقى نفسه لما علا على الطاغية ليهدمها وفي لفظ أخذ يرتكض فصاحوا صيحة واحدة فقالوا أبعد الله المغيرة قتلته الربة وقالوا والله لا يستطيع هدمها
وفي رواية لما أخذ المعول وضرب به اللات ضربة صالح وخر لوجهه فارتج الطائف بالصياح سرورا وإن اللات قد صرعت المغيرة وأقبلوا يقولون كيف رايت يا مغيرة دونكها إن استطعت ألم تعلم أنها تهلك من عاداها فقام المغيرة يضحك منهم ويقول لهم يا خبثاء والله ما قصدت إلا الهزؤ بكم
وفي رواية فوثب وقال لهم قبحكم الله إنما هي لكاع حجارة ومدر فاقبلوا عافية الله واعبدوه ثم أخذ في هدمها ا هـفهدمها بعد أن بدأ بكسر بابها حتى هدم أساسها وأخرج ترابها لما سمع سادنها يقول ليغضبن الأساس فليخسفن بهم وأخذ مالها وحليها فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان أن يقضي دين عروة والأسود أخاه من مال الطاغية فقضاه فإن أبا مليح بن عروة ابن مسعود قارب ابن عمه بن الأسود أخو عروة بن مسعود سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كان قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين لما قتلت ثقيف عروة ابن مسعود قبل أن تسلم ثقيف كما تقدم وكان صلى الله عليه وسلم قد أجاب أبا مليح فقال له نعم فقال له ابن عمه قارب بن الاسود وعن الأسود يا رسول الله فإن عروة
____________________
(3/244)
والأسود أخوان الأب وأم فقال صلى الله عليه وسلم إن الأسود مات مشركا فقال قارب يا رسول الله إنما الدين علي وأنا الذي أطلب به
ومن الوفود وفد بني تميم وقد تقدم ذكره أي في الكلام على سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى بني تميم وفي ذلك الوفد عطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم والأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر
وذكر في الاستيعاب أنه كان مع وفد تميم وقيس بن عاصم فأسلم وذلك في سنة تسع فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا سيد أهل الوبر وكان عاقلا حليما مشهورا بالحلم قيل للأحنف بن قيس وكان من أحلم الناس ممن تعلمت الحلم قال من قيس بن عاصم رايته يوما قاعدا بنفاء داره محتبيا بحمائل سيفه يحدث قومه فأتى برجل مكتوف وآخر مقتول فقيل له هذا ابن أخيك قد قتل ابنك قال فوالله ما حل حبوته ولا قطع كلامه فلسا أتمه التفت إلى أبن اخيه فقال يا ابن اخي بئس ما فعلت أثمت بربك وقطعت رحمك وقتلت أبن عمك ورميت نفسك بسهمك ثم قال لابن له آخر قم يا بني فوار أخاك وحل كتاف ابن عمك وسق إلى أمك مائة ناقة دية ابنها فإنها غريبة
وكان قيس بن عاصم رضي الله تعالى عنه ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية وسبب ذلك أنه سكر يوما فغمز عكنة ابنته وسب ابويها ورأى القمر فصار يخاطبه وأعطى الخمار مالا كثيرا فلما افاق أخبر بذلك فحرمها على نفسه وقال في ذمها أبياتا كثيرة
ولما حضرته الوفاة دعا بنيه فقال لهم يا بني احفظوا عني فلا أحد أنصح لكم مني إذا مت فسودوا كباركم ولا تسودوا صغاركم فيسفه الناس كباركم وتهونوا عليهم وعليكم بإصلاح المال فإنه منبة للكريم ويستغنى به عن اللئيم وإياكم ومسألة الناس فإنها آخر كسب الرجل فإذا مت فلا تنوحوا علي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه وقد قيل فيه من جملة أبيات عند موته ** فما كان قيس هلكه هلك واحد ** ولكنه بنيان قوم تهدما **
وتقدم انهم نادوه صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات يا محمد اخرج الينا ثلاثا مرات فخرج إليهم آخر ما تقدم
____________________
(3/245)
ومنها وفد بني عامر فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس وجبار بن سلمى بضم السين وفتحها وكانوا أي هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وكان عامر بن الطفيل عدو الله سيدهم وكان مناديه بسوق عكاظ هل من راجل فنحمله أو جائع فنطعمه أو خائف فنؤمنه وكان من أجمل الناس وكان مضمرا الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأريد وهو أخو لبيد الشاعر إذا قدمنا على هذا الرجل فإني شاغل عنك وجهه فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف وقد قال قومه يا عامر إن الناس قد اسلموا فاسلم فقال والله لقد كنت آليت أي حلفت أن لا أنتهى حتى تتبع العرف عقبي فأنا أتبع عقب هذا الفى من قريش فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر بن الطفيل يا محمد خالني أي اجعلني خليلا وصديقا لك قال لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له قال يا محمد خالني وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وينتظر من أربد ما كان أمره به فجعل أربد لا يأتي بشيء
وفي رواية لما أتاه صلى الله عليه وسلم عامر وسده أي القى له وسادة ليجلس عليها ثم قال له صلى الله عليه وسلم أسلم يا عامر فقال له عامر إن لي إليك حاجة قال اقرب مني فقرب منه حتى حنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أن قوله خالني أي اجعل لي منك خلوة وهو المناسب لقول عامر لاربد إني اشاغل عنك وجهه
قال وذكر أن عامر بن الطفيل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال له أسلم يا عامر فقال أتجعل لي الأمر بعدك أن أسلمت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس ذلك لك ولا لقومك أي إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء أي وقال له يا محمد أسلم على أن لي الوبر ولك المدر فقال لا فقال ما لي إن أسلمت فقال لك ماللمسلمين وعليك ما عليهم فقال أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا وفي رواية خيلا جردا ورجالا مردا ولأربطن بكل نخلة فرسا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنعك الله عز وجل
قال السهيلي وجعل أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه يضرب في رءوسهما ويقول اخرجا أيها الهجرسان أي القردان فقال له عامر ومن أنت فقال أسيد بن حضير فقال أحضير بن سماك قال نعم قال أبوك كان خيرا منك قال بلى أنا خير منك ومن أبي لأن أبي كان مشركا وأنت مشرك
____________________
(3/246)
ومكث صلى الله عليه وسلم أياما يدعو الله عليهم ويقول اللهم اكفني عامر بن الطفيل بما شئت وابعث له داء يقتله ا هـأي ثم قال صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو اسلم وأسلمت بنو عامر لزاحمت قريشا على منابرها ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا قوم آمنوا ثم قال اللهم اهد بني عامر واشغل عني عامر بن الطفيل بما شئت وأني شئت
وفي البخاري أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أخيرك بين ثلاث خصال يكون لك أهل السهل ولى أهل الوبر وأكون خليفتك من بعدك أو أغزوك من غطفان بألف أشتقر وألف وشقراء فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر لأربد ويلك يا أربد أين ما كنت أمرتك به والله ما على وجه الأرض من رجل أخافه على نفسى منك أبدا وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا فقال لا أبالك لا تعجل علي والله ما هممت بالذي أمرتني به إلا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك أفاضربك بالسيف أي وفي رواية إلا رأيت بيني وبينه سورا من حديد وفي رواية لما وضعت يدي على قائم السيف يبست فلم أستطع أن أحركها وفي رواية لما أردت سل سيفي نظرت فإذا فحل من الإبل فاغر فاه بين يدي يهوى إلى فو الله لو سللته لخفت أن يبتلع رأسي
ويمكن الجمع بأن ما في الرواية الأولى كان بعد أن تكرر منه الهم وما في الرواية الثانية كان بعد أن حصل منه هم آخر وكذا يقال في الثالثة وخرجوا راجعين إلى بلادهم حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه أي وفي لفظ حلقه أي وأوى لبيت امرأة سلولية من بني سلول وكانوا موصوفين باللؤم
وفي كلام السهيلي إنما اختصها بالذكر لقرب نسبها منه لأنها منسوبة إلى سلول بن صعصعة والطفيل من بني عامر بن صعصعة أي فهي تأسف عليه وصار ياسف الذي كان موته ببيتها وصار يمس الطاعون ويقول يا بني عامر غدة أي أغد عدة كغدة البعير وموتا في بيت امرأة من بني السلول ائتوني بفرسي ثم ركب فرسه وأخذر رمحه وصار يجول حتى وقع عن فرسه ميتا
أي ويذكر أنه صار يقول ابرز يا ملك الموت وفي لفظ يا موت ابرز لي أي أي لأقاتلك وهذا يدل على أن موت عامر لم يتأخر سيما وقد جاء في رواية فخرج حتى
____________________
(3/247)
إذا كان بظهر المدينة صادف مرأة من قومه يقال لها سلولية فنزل عن فرسه ونام في بيتها فأخذته غدة في حلقه فوثب على فرسه وأخذ رمحه وأقبل يجول وهو يقول غدة كغدة البكر وموت في بيت سلولية فلم يزل على تلك الحالة حتى سقط عن فرسه ميتا
ويحتاج للجمع بينه وبين قول الاوزاعي قال يحيى فمكث رسول الله صل يدعو على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحا وقدم صاحباه على قومهما فقالوا لأربد ما وراءك يا أربد فقال لا شيء والله لقد دعانا إلى عبادة شيئ لوددت أني عنده ألآن فأرميه بالنبل حتى أقتله فخرج بعد مقالته هذه بيوم أو يومين معه جملة يتبعه فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة أحرقتهما أي وذلك في يوم صحو قائظ وأنزل الله تعالى قوله { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء } وأما جبار بن سلمى الذي هو ثالثهم فقد أسلم مع من أسلم من بني عامر
ومنها وفود ضمام بن ثعلبة أي وقيل وفد في سنة خمس بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين اصحابه متكئا جاءه رجل من أهل البادية قال فيه طلحة بن عبيد الله جاءنا أعرابي من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول الحديث أي جاء عل جمل وأناخه في المسجد ثم عقله وقال أيكم ابن عبد المطلب أي وفي رواية أيكم محمد قالوا هذا الأمغر المرتفق أي الأبيض المشرب بحمره المتكئ على مرفقه فدنا منه صلى الله عليه وسلم فقال إني سائلك فمشدد عليك في المسألة قال سل عما بدا لك أي وفي رواية لمغلظ عليك في المسئلة فلا تجد علي في نفسك مالا أجد في نفسي فقال سل ما بدالك فقال يا محمد جاءنا رسولك فذكر لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال صدق فقال أنشدك بفتح الهمزة برب من قبلك ورب من بعدك وفي رواية بالذي خلق السموات والأرض ونصب هذه الجبال قال اللهم نعم قال وفي رواية أنه قال له قبل ذلك آلله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده لا نشرك به شيئا أن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون قال اللهم نعم انتهى قال أنشدك بالله آلله أمرك أن نصلي خمس صلوات في كل يوم وليلة قال اللهم نعم قال وأنشد بالله آلله أمرك أن تأخذ من أموال أغنيائنا فترده على فقرائنا قال اللهم نعم قال وأنشد ك بالله آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من اثني عشر شهرا قال اللهم نعم قال وأنشدك بالله آلله أمرك أن يحج
____________________
(3/248)
هذا البيت من استطاع اليه سبيلا قال اللهم نعم قال فأنا قد آمنت وصدقت وأنا ضمام ابن ثعلبة
أقول وهذا السياق يدل على أن وفوده كان بعد فرض الحج وهو يخالف ما سبق أنه كان في سنة خمس ومن ثم استبعده ابن القيم قال والظاهر أن هذه اللفظة مدرجة من كلام بعض الرواة
وفيه أن الذي جزم به اسحاق وابو عبيدة أنه وفد في سنة تسع وصوبه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى ومن ثم جاء ذكر الحج في مسلم ويؤيد ذلك قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم علينا الحديث لأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما قدم المدينة بعد الفتح فلما أن ولي ضمام رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقه الرجل أي بضم القاف صار فقيها وبكسرها فهم في لفظ لئن صدق ليدخلن الجنة وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول ما رأيت أحدا أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام بن ثعلبة أي وفي لفظ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فما سمعنا بوافد وقد كان أفضل من ضمام
ولما رجع ضمام رضي الله تعالى عنه إلى قومه قال لهم إن الله تعالى قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا أستنقذكم به مما كنتم فيه
قال وفي رواية أن أول شيء تكلم به أن سب اللات والعزى فقال له قومه مه يا ضمام اتق البرض تق الجذام اتق الجنون فقال لهم ويلكم والله إنهما لا يضران ولا ينفعان إن الله قد بعث رسولا إلى آخر ما تقدم وإني اشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه فلم يبق من القوم رجل ولا امرأة إلا وأسلم
ومنها وفد عبد القيس وفيهم الجارود وكان نصرانيا أي قد قرأ الكتب فقال أبياتا مخاطبا بها النبي صلى الله عليه وسلم منها ** يا نبي الهدى أتاك رجالا ** قطعت فدفدا وآلافآلا ** ** تتقي وقع شر يوم عبوس ** أوجل القلب ذكره ثم هالا **
الفدفد المفازة والآل ما يرفع الشخوص في أول النهار وفي آخره وقيل السراب قيل وكانوا ستة عشرة فعرض عليهم صلى الله عليه وسلم الإسلام فقال يامحمد إني
____________________
(3/249)
كنت على دين وإني تارك ديني لدينك فتضمن لي ذنبي فقال النبي صلى الله عليه وسلم نعم أنا ضامن لك أن قد هداك إلى ما هو خير لك منه فأسلم وأسلم أصحابه ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحملهم فقال والله ما عندي ما أحملكم عليه فقال يا رسول الله يحال بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال المسلمين أي من الإبل والبقر مما يحمى نفسه أفنتبلغ عليها أي نركبها إلى بلادنا قال لا إياك وإياها فإنما تلك حرق النار أي لهبها كذا في الاصل
وفي السيرة الهشامية أن الجارود إنما وفد مع حلف له يقال له سلمة بن عياض الأزدي وأن الجارود قال لسلمة إن خارجا خرج بتهامة يزعم أنه نبي فهل لك أن تخرج إليه فإن رأينا خيرا دخلنا فيه وأنا أرجو أن يكون هو النبي الذي بشر به عيسى ابن مريم لكن يضمر كل واحد مناله ثلاث مسائل يسأله عنها لا يخبر بها صاحبه فلعمري إنه إن أخبرنا بها إنه لنبي يوحى اليه فلما قدما عليه صلى الله عليه وسلم قال له الجارود بم بعثك به ربك يا محمد قال بشهادة أن لا إله إلا الله وأني عبد الله ورسوله والبراءة من كل ند أو دين يعبد من دون الله وبإقام الصلاة لوقتها وإيتاء الزكاة لحقها وصوم رمضان وحج البيت من استطاع اليه سبيلا بغير إلحاد { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد } قال الجارود يا محمد إن كنت نبيا فأخبرنا عما أضمرنا عليه فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة كأنها سنة ثم رفع رأسه الشريف العرق يتحدر عنه فقال أما أنت يا جارود فإنك أضمرت أن تسألني عن دماء الجاهلية وعن حلف الجاهلية وعن المنيحة ألا وإن دم الجاهلية موضوع وحلفها مردود ولا حلف في الإسلام ألا وأن أفضل الصدقة أن تمنح أخاط ظهر دابة أو لبن شاة فإنها تغدو برفده وتروح بمثله وأما أنت يا سلمة فإنكا اضمرت على أن تسألني عن عبادة الاوثان وعن يوم السباسب وعن عقل الهجين فأما عبدة الأوثان فإن الله تعالى يقول { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } وأما يوم السباسب فقد أعقبه الله ليلة خيرا من ألف شهر فاطلبوها في العشر الأواخر من رمضان فإنها ليلة بلجة سمحة لا ريح فيها تطلع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها وأما عقل الهجين فإن المؤمنين إخوة تتكافأ دماؤهم يجبر أقصاهم على أدناهم اكرمهم عند الله أتقاهم فقالا نشد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله انتهى
____________________
(3/250)
وذكر في السيرة الهشامية في وفد عبد القيس أنه كان قبل فتح مكة وذكر ما حاصله أنه صلى الله عليه وسلم بينما هو يحدث أصحابه إذ قال لهم سيطلع عليكم من ههنا ركب هم خير أهل المشرق وفي رواية ليستبين ركب من المشرق لم يكرهوا على الإسلام قد أنضوا أي أهزلوا الركائب وأفنوا الزاد اللهم اغفر لعبد القيس فقام عمر رضي الله تعالى عنه فتوجه نحو مقدمهم فلقي ثلاثة عشرة راكبا وقيل كانوا عشرين راكبا وقيل كانوا اربعين رجلا فقال من القوم قالوا من بني عبد القيس فقال أما إن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكركم آنفا فقال خيرا ثم مشى معهم حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر للقوم هذا صاحبكم الذي تريدون فرمى القوم بأنفسهم عن ركائبهم بباب المسجد بثياب سفرهم وتبادوا يقبلون يده صلى الله عليه وسلم ورجله وكان فيهم عبد الله بن عوف الأشج وهو راسهم وكان أصغرهم سنا فتخلف عند الركائب حتى أناخها وجمع المتاع وذلك بمرأى من النبي صلى الله عليه وسلم وأخرج ثوبين أبيضين لبسهما ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها وكان رجلا دميما ففطن لنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دمامته فقال يا رسول الله إنه لا يستقى أي يشرب في مسوك أي جلود الرجال وإنما يحتاج الرجل من أصغر به لسانه وقلبه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فيك خلتين يخبهما الله ورسوله الحلم والأناة فقال له رسول الله أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما قال لا بل الله تعالى جبلك عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الأناة على وزن قناة التؤدة وقد جاء التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة
وفي رواية أنهم لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم من القوم قالوا من ربيعة أي وهو المراد بما في بعض الروايات ربيعة فإنه من التعبير عن البعض بالكل
وفي البخاري في الصلاة إن هذا الحي من ربيعة أي إن هذا الحي حي من ربيعة وهو في الاصل اسم لمنزل القبيلة سميت به القبيلة لأن بعضهم يحيا ببعض قال خير ربيعة عبد القيس مرحبا بالقوم أي صادفتم رحبا بضم الراء أي سعة وأول من قال مرحبا سيف بن ذي يزن وقد تكررت هذه الكلمة منه صلى الله عليه وسلم قالها
____________________
(3/251)
لابنة عمه أم هانئ رضي الله تعالى عنها وقال لعكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه مرحبا بالراكب المهاجر وقال لابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها مرحبا بابنتي وقال لشخص دخل عليه مرحبا وعليك السلام
ثم قال لهم صلى الله عليه سلم غير خزايا ولا ندامى أي حالة كونكم سالمين من الخزي ومن الندم وفي لفظ مرحبا بالوفد الذين جاءوا غير خزايا ولا ندامى أنا حجيج من ظلم عبد القيس فقالوا يا رسول الله إنا نأتيك من شقعة بيعدة أي من سفر بعيد لأن مساكنهم بالبحرين وما والاها من أطراف العراق وإنه يحول بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر وإنا لا نصل اليك إلا في شهر حرام أي وفي لفظ إلا في الشهر الحرام وهو كمسجد الجامع ونساء مؤمنات وهو شهر رجب للتصريح به في بعض الروايات
وقال بعضهم وفي هذا دليل على أن الأعمال الصالحة تدخل الجنة إذا قبلت وقبولها يقع برحمة الله لأن مضر كانت تبالغ في تعظيم شهر رجب زيادة على بقية الأشهر الحرم ومن ثم قيل رجب مضر فأمرنا بأمر فصل أي فاصل بين الحق والباطل فقال آمركم بأربع أي خصال أربع أو جمل أربع
ففي بعض الروايات قالوا حدثنا بجمل من الأمر وأنهاكم عن اربع آمركم بالإيمان بالله أتدرون ما الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أي وفيه أن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمة الشهادة
ووقع في البخاري في الزكاة زيادة واو قبل شهادة وهي زيادة شاذة لم يتابع عليها روايها وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس أي لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر وهذا زائد على الأربع وم ثم قال بعضهم هو معطوف على قوله باربع أي آمركم بأربع وبأن تعطوا ومن ثم غاير في الأسلوب
وفي مسلم أمركم بأربع اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واعطوا الخمس من الغنائم ولم يذكر الحج لأنه لم يكن فرض على الصحيح كما قال الحافظ الدمياطي رحمه الله وهو بناء على الأصح أنه فرض سنة ست وقول الواقدي إن قدوم وفدعبد القيس كان في سنة ثمان ليس بصحيح لكن ذكر بعضهم أن لعبد القيس وفدتين واحدة كانت قبل فرض الحج وواحدة
____________________
(3/252)
بعده ومن ثم جاء ذكر الحج في مسند الإمام أحمد وهو وأن تحجوا اليبت وإله لم يتعرض في هذه الرواية لعدد أي لقوله أربع ثم قال صلى الله عليه وسلم لهم وأنهاكم عن اربع عن الدبا أي القرع أي عما ينبذ فيها والحنتم وهو جرار مدهونة بدهان أخضر أي عما ينبذ فيها أي وقيل والحنتم جرار كانت تعمل من طين وشعر وأدم والنقير أصل النخلة ينقر وينبذ فيه التمر أي ما ينبذ في ذلك والمزفت ما طلى بالزفت أي عما ينبذ فيه وفي رواية زيادة على ذلك والقير ما طلي بالقار وهو نبت يحرق إذا يبس وتطلى به السفن كما تطلى بالزفت زاد في رواية وأخبروا بهن من وارءكم أي من جئتم من عندهم ومن يحدث من الأولاد قالوا فيم نشرب يا رسول الله قال في أسقية الأدم أي الجلود التي يلاث أي يربط على أفواهما قالوا يا رسول الله إن أرضنا كثير الجرذان أي الفيران أي لا تبقى فيها أسقية الأدم قال وإن أكلها الجرذان قال ذلك مرتين أو ثلاثا فقال له الأشج يا رسول الله إن أرضنا ثقيلة وخمة وإنا إذا لم نشرب هذه الأشربة عظمت بطوننا فرخص لنا في مثل هذه فأومأ صلى الله عليه وسلم بكفيه وقال له يا أشج إن رخصت لك في مثل هذه شربته في مثل هذه وفرج بين يديه وبسطها يعني أعظم منها حتى إذا ثمل أي سكر أحدكم من شرابه قام إلى ابن عمه فضرب ساقه بالسيف وكان القوم رجل وقع له ذلك أي وهو جهم بن قثم قال لما سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع له ذلك أي وهو جهم بن قثم قال لما سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت أسدل ثوبي لأغطي الضربة وقد أبداها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أي وفي كلام السهيلي فعجبوا من علم النبي صلى الله عليه وسلم واشارته إلى ذلك الرجل هذا كلامه
أي وفي رواية أنهم سألوه عن النبيذ فقالوا يا رسول الله إن أرضنا وخمة لا يصلحها إلا النبيذ قال فلا تشربوا في النقير فكأني بكم إذا شربتم في النقير قال بعضكم إلى بعض بالسيوف فضرب رجلا منكم ضربة لا يزال يعرج منها إلى يوم القيامة فضحكوا فقال صلى الله عليه وسلم ما يضحككم قالوا ولقد شربنا في النقير فقام بعضنا على بعض بالسيوف فضرب هذا ضربه بالسيف فهو أعرج كما ترى ثم ذكر لهم صلى الله عليه وسلم أنواع تمر بلدهم فقال لكم تمرة تدعونها كذا وتمرة تدعونها كذا فقال له رجل من القوم بأبي وأنت وأمي يا رسول الله لو كنت ولدت في جوف هجر ما كنت بأعلم منك الساعة اشهد أنك رسول الله فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(3/253)
إن أرضكم رفعت إلى منذ قعدتم أي فنظرت من أدناها إلى أقصاها وقال لهم خير تمركم البرني يذهب بالداء ولاداء ومعه أي وإنما اقتصر صلى الله عليه وسلم في المناهي على شرب الأنبذة في الأوعية المذكورة مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم لكثرة تعاطيهم لها
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها أنه يسرع فيها الإسكار فربما يشرب منها من لا يشعر بذلك
كان في عبد القيس ابو الوازع بن عامر وابن اخته مطر بن هلال ولما ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ابن أختهم قال ابن اخت القوم منهم وكان فيهم ابن أخي الوازع وكان شيخا كبيرا مجنونا جاء به الوازع معه ليدعو له صلى الله عليه وسلم فمسح ظهره ودعا له فبرأ لحينه وكسى شبابا وجمالا حتى كأن وجهه وجه العذراء
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم زودهم الأراك يستاكون به وذكر أنه كان فيهم غلام ظاهر الوضاءة فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم خلف ظهره وقال إنما كان خطيئة دواد عليه الصلاة والسلام النظر
ومنها وفد بني حنيفة مسيلمة الكذاب قيل جاء بنو حنيفة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم مسيلمة الكذاب يسترونه بالثياب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في اصحابه رضي الله تعالى عنهم معه عسيب من عسب النخل في رأسه خويصات فلما انتهى مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب كلمة وسأله أن يشركه معه في النبوة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه
وقيل إن بني حنيفة جعلوه في رحالهم فلما أسلموا ذكروا مكانه فقالوا يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبنا في رحالنا يحفظها لنا فأمر صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به لواحد من القوم وهو خمس أواق من فضة وقال اما إنه ليس بشركم مكان فلما رجعوا إليه اخبروه بما قال عنه فقال إنما قال ذلك لأنه عرف أن لي الأمر من بعده فلما رجعوا وانتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وكذب وادعى أنه أشرك معه صلى الله عليه وسلم في النبوة وقال لمن وفد مهم ألم يقل لكم حين ذكرتموني له أما انه ليس بشركم مكانا
____________________
(3/254)
ما ذاك إلا لما كان يعلم أني أشركت معه في الأمر أي وهو صلى الله عليه وسلم إنما أراد بذلك انه حفظ ضيعة أصحابه هذا
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أقبل ومعه ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة من جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال إن سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها أي فإنه صلى الله عليه وسلم بلغه عنه أنه قال إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته وإني لأراك الذي منه رايت وهذا قيس يجيبك عني ثم أنصرف
والذي رآه منه صلى الله عليه وسلم أنه رأى في المنام أن في يده سوارين من ذهب قال فأهمني شأنهما فأوحى الله إلي في المنام أن أنفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي أي وهما طليحة العبس صاحب صنعاء ومسيلمة الكذاب صاحب اليمامة فإنا كلا منهما ادعى النبوة في حياته صلى الله عليه وسلم وكان طليحة العبسي يقول إن ملكا كان يقال ذو النون يأتيني كما يأتي جبريل محمدا فلما بلغه صلى الله عليه وسلم قال لقد ذكر مالكا عظيما في السماء يقال له ذو النون وجمع بعضهم بين هذا الذي في الصحيحين وما هنا بأنه يجوز أن يكون مسيلمة قدم مرتين الأولى كان تابعا ومن ثم كان في حفظ الرحال والثانية كان متبوعا ولم يحضر أنفة منه واستكبارا وعامله صلى الله عليه وسلم معاملة الإكرام على عادته صلى الله عليه وسلم في الاستئلاف فأتى إلى قومه وهو فيهم كذا قيل
ولا يخفى أن قوله ولم يحضر يقتضى أنه لم يجئ إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المرتين وتقدم أنه جاء إليه صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب وهذا أي ستره بالثياب هو المناسب لكونه متبوعا ثم صار مسيلمة لعنه الله يتكلم بالهذيان يضاهي به القرآن فمن ذلك قوله قبحه الله لقد أنعم الله علي الحبلى أخرج منها نسمة تسعى من بين شغاف وحشا وقال والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا والثاردات ثردا واللاقمات لقما وضع عنهم الصلاة وأحل لهم الخمر والزنا وقيل إنه لعنه الله طلب منه أن يتفل في بئر تبركا ففعل فملح ماؤها ومسح رأس صبي فصار أقرع قرعا فاحشا ودعا لرجل في بنين له بالبركة فيهما فرجع الرجل إلى منزله فوجد أحدهما قد سقط في بئر والآخر أكله الذئب مسح على عيني رجل للاستشفاء بمسحه فابيضت عيناه فعل ذلك مضاهاة للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا السياق يرشد إلى أنه كان برأس ذلك الصبي قرع يسير
____________________
(3/255)
فمسح عليه للاستشفاء ثم أظهر معجزة بزعمه وهو أنه ادخل بيضة في قارورة افتضح بأن البيضة بنت يومها إذا ألقيت في الخل والنوشادر يوما وليلة فإنا تمتد كالخيط فتجعل في القارورة ويصب عليها ماء فتجمد وبهذا يرد على من ورثاه من بني حنيفة بقوله ** لهفي عليمك أبا ثمامة ** كم أية لك فيهمو ** كالشمس تطلع من غمامه **
فيقال له كذبت بل كانت آياته معكوسة
قال وكتب مسيلمة قبحه الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابا فقال من مسيلمة رسول اله إلى محمد رسول الله أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأمر وليس قريش قوما يعدلون وبعث رجلين فكتب اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسليمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ثم قال للرجلين وإنما تقولان مثل ما يقول قالا نعم قال أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما انتهى
ومنها وفد طيئ وفيهم زيد الخيل رضي الله تعالى عنه وفد عليه صلى الله عليه وسلم وفيهم قبيصة بن الأسود وسيدهم زيد الخيل قيل له ذلك لخمسة أفراس كانت له أي ولو كان وجه التسمية يلزم اطراده لقيل للزبرقان بن بدر زبرقان الخيل
فقد قيل إنه وفد على عبد الملك بن مروان وقاد إليه خمسة وعشرين فرسا ونسب كل واحدة من تلك الأفراس إلى آبائها وأمهاتها وحلف على كل فرس يمينا غير اليمن التي حلف بها على غيرها فقال عبد الملك عجبي من اختلاف أيمانه أشد من عجبي من معرفته بأنساب الخيل
وكان زيد الخيل شاعرا خطيبا بليغا جوادا فعرض عليهم صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم وقال صلى الله عليه وسلم في حق زيد الخيل ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما قيل فيه إلا زيد الخيل فإنه لم يبلغ أي ما قيل فيه كل ما فيه وسماه صلى الله عليه وسلم زيد الخير أي فإنه صلى الله عليه وسلم قال له وهو لا يعرفه الحمد لله الذي أتى بك من سهلك وحزنك وسهل قلبك للإيمان ثم قبض صلى الله عليه وسلم على يده فقال من أنت قال أنا زيد الخيل بن مهلهل اشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله فقال له صلى الله عليه وسلم بل أنت زيد
____________________
(3/256)
الخير ثم قال يا زيد ما أخبرت عن رجل قط شيئا إلا رأيته ما أخبرت عنه غيرك أي واجاز صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم خمس أواق واعطى زيد الخيل اثنتي عشرة أوقية ونشا أي واقطعه محلين من أرضه وكتب له بذلك كتابا ولما خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها إلى قومه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ينجو زيد من الحمى أي ما ينجو منها ففي اثناء الطريق اصابته الحمى أي وفيه لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال له يا زيد تقتلك أم ملدم يعني الحمى
وفي رواية أن زيد الخيل لما قام من عنده صلى الله عليه وسلم وتوجه الى بلاده قال صلى الله عليه وسلم أي فتى إن لم تدركه أم كلبة يعني الحمى والكلبة الرعدة
وفي رواية ما قدم علي رجل من العرب يفضله قومه إلا رأيته دون ما يقال فيه إلا ما كان من زيد فإن ينج زيد من حمى المدينة فلأمر ما هو
قال لما مات اقام قبيصة بن الاسود الناحة عليه سنة ثم توجه براحلته ورحله وفيه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أقطعه فيه محلين بأرضه فلما رأت امرأته الراحلة ضرمتها بالنار فاحترقت واحترق الكتاب انتهى
وفي كلام السهيلي وكتب له كتابا على ما أراد وأطعمه قرى كثيرة منها فدك هذا كلامه وقيل بقي إلى خلافة عمر رضي الله عنهما
ومنها وفود عدي بن حاتم الطائي حدث عدي رضي الله عنه قا لكنت امرأ شريفا في قومي آخذ المرباع من الغنائم كما هو عادة سادات العرب في الجاهلية أي وهو ربع الغنيمة كما تقدم فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته ما من رجل من العرب كان أشد كارهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به مني فقلت لغلام كما راعيا لإبلي لا أبا لك اعزل من إبلي أجمالا ذللا سمانا فاحتبسها قريبا مني فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني ففعل ثم إنه أتاني ذات يوم فقال يا عدي ما كنت صانعا إذا غشيك محمد فاصنعه الآن فإني قد رأيت رايات فسالت عنها فقالوا هذه جيوش محمد فقلت له قرب لي أجمالي فقربها فاحتملت أهلي وولدي التحقت بأهل ديني من النصارى بالشام وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر فأصيبت فيمن أصيب أي سبيت فيمن أصيب من الحاضر فلما قدمت في السبايا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام من عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(3/257)
وكساها وحملها وأعطاها نفقة وحرجت إلى أن قدمت على الشام فوالله إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى طغينة تؤمنا فقلت ابنة حاتم فإذا هي هي فلما وقعت علي قالت القاطع الظالم احتملت بأهلك وولدك وقطعت بقية والديك وعورتك فقلت أي أخية لا تقولي إلا خيرا فوالله مالي من عذر ولقد صنعت ما ذكرت ثم نزلت وأقامت عندي فقلت لها وكانت إمراة حازمة ماذا ترين في أمر هذا الرجل قالت أرى والله أن تلحق به سريعا فإن يكن نبيا فللسابق إليه فضله وإن يكن ملكا فأنت أنت فقلت والله إن هذا للرأي أي ولعلها لم تظهر له إسلامها لئلا ينفر طبعه من قولها له إن يكن نبيا أي على الفرض والتنزل تحريضا له على اللحوق به صلى الله عليه وسلم فخرجت حتى جئته صلى الله عليه وسلم بالمدينة فدخلت عليه فقال من الرجل فقلت عدي بن حاتم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وانطلق بي إلى بيته فوالله إنه لقائدني إليه إذ لقيته امرأة كبيرة ضعيفة فاستوقفته صلى الله عليه وسلم فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها فقلت ما هو بملك ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بيته تناول وسادة بيده من أدم محشوة ليفافقدمها إلي وقال اجلس على هذه فقلت بل أنت فاجلس عليها قال بل أنت فجلست عليها وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض فقلت والله ما هذا بأمر ملك ثم قال لي ما معناه يا عدي بن حاتم أسلم تسلم قالها ثلاثا قلت إني على دين قال أنا أعلم بدينك منك فقلت أنت أعلم بديني قال نعم ألست من الركوسية ألست من القوم الذين لهم دين لأنه تقدم أنه كان نصرانيا فقلت بلى فقال أم تكن تسير في قومك بالمرباع أي تأخذ ربع الغنيمة كما هو شأن الأشراف من اخذهم في الجاهلية ربع الغنيمة قلت بلى قال فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك فقلت أجل والله وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل ثم قال صلى الله عليه وسلم لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى تقول إنما اتبعه ضعفه الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب مع حاجتهم فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ولعلك لم أرها وقد سمعت بها قال فوالله وفي لفظ فوالذي نفسي بيده ليتمن هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة تطوف بالبيت من غير جوار أحد
وفي رواية ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية أي وهي قرية بينها وبين
____________________
(3/258)
الكوفة نحو مرحلتين على بعيرها حتى تزور البيت أي الكعبة لا تخاف ولعلك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم قال عدي وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تحج بالبيت وأيم الله لتكونن الثانية ليفيض المال حتى لا يوجد من ياخذه
ومنها وفود فروة بن مسيك المرادي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فروة مفارقا لملوك كندة وكان بين قومه مراد وبين همدان قبيل الإسلام وقعة أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا في يوم يقال الردم وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل ساءك ما أصاب قومك يوم الروم فقال يا رسول الله من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الردم ولا يسوءه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إن لك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيرا واستعمله صلى الله عليه وسلم على مراد وزبيد وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فروة عند توجهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ** لما رأيت ملوك كندة أعرضت ** كالرجل خان الرجل عرق نسائها ** ** فركبت راحلتي أؤم محمدا ** أرجو فواضلها وحسن ثوابها **
ومنها وفد بني زبيد بضم الزاي وفتح الموحدة وفد بنو زبيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي وكان فارس العرب مشهورا بالشجاعة شاعرا مجيدا قال لأبن أخيه قيس المرادي إنك سيد قومك وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز يقول إنه نبي فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه فإن كان نبيا كما يقول فإنه لن يخفى عليك وإذا لقيناه اتبعناه وإن كان غير ذلك علمنا علمه فأبى عليه قيس ذلك وسفه رأيه فركب عمرو رضي الله عنه حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه فأسلم فلما بلغ ذلك قيسا قال خالفني وترك أمري ورأيي وتوعد عمرا فقال عمرو في قيس أبياتا منها ** فمن ذا عاذرى من ذى سفاه ** يريد بنفسه شد المزاد ** ** أريد حياته ويريد قتلي ** عذيرك من خليلك من مرادي **
____________________
(3/259)
أي وبعد موته صلى الله عليه وسلم ارتد عمرو هذا مع الأسود العبسي ثم أسلم وحسن إسلامه وشهد فتوحات كثيرة أيام الصديق وأيام عمر رضي الله تعالى عنهما
وعن ابن اسحاق قيل إن عمرو بن معد يكرب لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم قيس بعد ذلك قيل له صحبة وقيل لا
ومنها وفد كندة أي وله صلى الله عليه وسلم جدة منهم وهي أم جده كلاب وفد عليه صلى الله عليه وسلم ثمانون أي وقيل ستون من كندة فيهم الأشعث بن قيس وكان وجيها مطاعا في قومه وفي الإمتاع وهو اصغرهم فلما أرداوا الدخول عليه صلى الله عليه وسلم رجلوا أي سرحوا جممهم أي شعور رءوسهم أي الساقطة على مناكبهم وتكحلوا ولبسوا عليهم جبب الحبرة أي بوزن عنبة برود اليمن المخططة قد كففوها أي سجفوها بالحرير فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وعند ذلك قالوا أبيت اللعن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لست ملكا أنا محمد بن عبد الله قالوا لا نسميك باسم قال أنا أبو القاسم فقالوا يا أبا القاسم إنا خبأنا لك خبئا فما هو وكانوا خبئوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عين جرادة في ظرف سمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله إنما يفعل ذلك بالكاهن وإن الكاهن والكهانة والمتكهن في النار فقالوا كيف نعلم أنك رسول الله فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفا من حصباء فقال هذا يشهد أني رسول الله فسبح الحصى في يده فقالوا نشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله بعثني بالحق وأنزل علي كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فقالوا أسمعنا منه فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { والصافات صفا } حتى بلغ { برب المشارق والمغارب } ثم سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكن بحيث لا يتحرك منه شيء ودموعه تجري على لحيته فقالوا إنا نراك تبكي أفمن مخافة من أرسلك تبكي فقال صلى الله عليه وسلم إن خشيتي منه أبكتني بعثني على صراط مستقيم في مثل حد السيف إن زغت عنه هلكت ثم تلا صلى الله عليه وسلم { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } الآية ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم ألم تسلموا قالوا بلي قال فما بال هذا الحرير في اعناقكم فعند ذلك شقوه منها وألقوه
وفيه أنه هذا يخالف ما قاله فقهاؤنا معاشر الشافعية من جواز التسجيف بالحرير إلا
____________________
(3/260)
أن يقال الجواز مخصوص بأن لا يجاوز الحد اللائق بالشخص ولعل سجفهم جاوزت الحد اللائق بهم وقد قال الأشعث له صلى الله عليه وسلم نحن بنو أكل المرار وأنت ابن آكل المرار يعني جدته أم كلاب فقد تقدم أنها من كندة وقيل إنما قال ذلك الأشعث لأن عمه العباس بن عبد المطلب كان إذا دخل حيا من أحياء العرب لأنه كما تقدم كان تاجرا فإذا سئل من أين قال أنا ابن آكل المرار ليعظم يعني انتسب الى كندة لأن كندة كانوا ملوكا فاعتقدت كندة أن قريشا منهم لقول العباس المذكور فقال له صلى الله عليه وسلم لا نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفى من آبائنا أي لا ننتسب إلى الأمهات ونترك النسب إلى الأباء
والأشعث هذا ممن ارتد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعا إلى الإسلام في خلافة ابي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي فإنه حوصر ثم جئ به أسيرا فقال الصديق حين أراد قتله ستبقني لحروبك وزوجني أختك فزوجه أخته أم فروة فدخل سوق الإبل بالمدينة واخترط سيفه فجعل لا يرى جملا إلا عرقبه فصاح الناس كفر الأشعث فلما فرغ طرح سيفه وقال والله ما كفرت إلا أن الرجل يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه زوجني أخته ولو كنا ببلادنا لكانت لنا وليمة غير هذه وقال يا أهل المدينة انحروا وكلوا وأعطى أصحاب الإبل أثمانها قال وقال صلى الله عليه وسلم للاسعث هل لك من ولد فقال لي غلام ولد لي عند مخرجي إليك وددت ان لي به لسبعة فقال إنهم مبخلة مبلهة محزنة وإنهم لقرة العين وثمرة الفؤاد انتهى
ومنها وفد أزد شنوءه وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع من الأزد وفيهم صرد بن عبد الله ألازدي وكان أفضلهم فأمره صلى الله عليه وسلم على من اسلم من قومه وأمره أن يجاهد بمن اسلم من كان يليه من أهل الشرك من قبائل اليمن فخرج حتى نزل بجرش بضم الجيم وفتح الراء وبالشين المعجمة وهي مدينة بها قبائل من قبائل اليمن وحاصرها المسلمون قريبا من شهر ثم رجعوا عنها حتى إذا كانوا بجبل يقال له شكر بالشين المعجمة والكاف المفتوحتين وقيل باسكان الكاف فلما وصلوا ذلك المحل ظن أهل جرش أن المسلمين رضي الله تعالى عنهم إنما رجعوا عنهم منهزمين فخرجوا في طلبهم حتى إذا أدركوهم عطفوا عليهم فقتلوهم قتلا شديدا
وقد كان أهل جرش بعثوا رجلين منهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة
____________________
(3/261)
يرتادن أي ينظران الأخبار فبينما هما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي بلاد الله شكر فقام إليه رجلان فقالا يا رسول الله ببلادنا جبل يقال له كشر فقال إنه ليس بكشر ولكن شكر قالا فما شأنه يا رسول الله قال إن بدن الله لتنحر عنده الآن وأخبرهما الخبر فخرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى قومهما فوجد قومهما قد أصيبوا في اليوم الساعة قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال وعند إخبارهما لقومهما بذلك وفد وفد جرش على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحبا بكم أحسن الناس وجوها وأصدقه لقاء وأطيبه كلاما وأعظمه أمانة أنتم مني وأنا منكم وحمى لهم حمى حول بلدهم
ومنها وفد رسول ملوك حمير وحامل كتابهم إليه صلى الله عليه وسلم وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول ملوك حمير وحامل كتابهم اليه صلى الله عليه وسلم بإسلام الحارث بن عبد كلال بضم الكاف
وقد اختلف في كون الحارث له وفادة فهو صحابي أولا والنعمان ومعافر بالفاء مكسورة وهمدان أي باسكان الميم وفتح الدال المهملة وهي قبيلة
وأما همذان بفتح الميم والذال المعجمة فقبيلة بالعجم فكتب اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى الحارث بن عبد كلال وإلى النعمان ومعافر وهمذان أما بعد فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنه قد وقع بنا رسولكم مقفلنا من أرض الروم أي رجوعنا من غزوة تبوك فلقيناه بالمدينة فبلغ ما أرسلتم به وخبر ماقبلكم وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين وإن الله قد هداكم بهداه إن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من الغنائم خمس الله وسهم النبي صلى الله عليه وسلم وصفيه وما كتب على المؤمنين من الصدقة أما بعد فإن محمدا النبي أرسل إلى زرعة ذي يزن وفي الاستيعاب زرعة بن سيف ذي يزن وفي كلام الذهبي زرعة بن سيف ذي يزن أن إذا أتاكم رسلي فأوصيكم بهم خيرا معاذ بن جبل وعبد الله بن زيد ومالك بن عبادة وعقبة بن نمر ومالك ابن مرارة وأصحابهم وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخاليفكم بالخاء المعجمة
____________________
(3/262)
جمع محلاف وأبلغوها رسلي وأن أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبن إلا راضيا اما بعد فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله
ثم ان مالك بن كعب بن مرارة قد حدثنى انك قد اسلمت من أول حمير و قتلت المشركين فابشر بخير و آمرك بحمير خيرا ولا تخونوا ولا تخاذلوا بضم التاء المثناه الفوقية وكسر الذال ويجوز ان يكون بفتح المثناه وفتح الذال محذوف إحدى التاءين فان رسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم وان الصدقه لا تحل لمحمد ولا لاهل بيته انما هى زكاه يزكى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل وان مالكا قد بلغ الخبر وحفظ الغيب وامركم به خيرا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ومنها وفد رسول فروه بن عمرو الجذامى وفد رسول فروه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم يخبره باسلامه واهدى له صلى الله عليه وسلم بغله بيضاء اى يقال لها فضة وحمارا يقال له يغفور و فرسا يقال لها الظرب و ثيابا وقباء مرصعا بالذهب
وكان فروه رضى الله عنه تعالى عاملا للروم على ما يليهم من العرب فلما بلغ الروم اسلامه اخذوه وحبسوه ثم ضربوا عنقه وصلبوه اى بعد ان قال له الملك ارجع عن دين محمد ونحن نعيدك الى ملكك قال لا افارق دين محمد صلى الله عليه وسلم فانك تعلم ان عيسى عليه السلام بشر به ولكنك تظن بملكك
ومنها وفد بنى الحارث بن كعب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه الى بني الحارث بن كعب بنجران و امره ان يدعوهم الى الاسلام قبل ان يقاتلهم وقال له ان استجابوا فاقبل منهم وان لم يفعلوا فقاتلهم فخرج خالد رضى الله تعالى عنه حتى قدم عليهم فبعث الركبان يضربون فى كل وجه ويدعون الى الاسلام ويقولون ايها الناس أسلموا تسلموا فاسلموا فقام فيهم خالد بن الوليد رضى الله عنه تعالى عنهم يعلمهم الاسلام اى شرائعه وكتب الى رسول صلى الله عليه وسلم بذلك فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يقبل ويقبل معه وفدهم فاقبل رضى الله تعالى عنه ومعه وفدهم وفيهم قيس بن الحصين ذو الغصه بالغين المعجمه اى لانه كان فى حلقه غصه لايكاديبين الكلام منها وهى صفه لابيه الحصين وربما وصف بها قيس قال فى النور ويحتمل ان يقال له ذو الغصه وابن ذى الغصه لانه واباه كانت بهما الغصه وفيه بعد
____________________
(3/263)
وحين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم قال لهم بما كنتم تغلبون من قاتلكم فى الجاهليه قالوا كنا نجتمع ولا نفترق ولا نبدا احدا بظلم قال صدقتم وامر عليهم صلى الله عليه وسلم زيد بن الحصين ولم يمكثوا بعد رجوعهم الى قومهم إلا أربعه اشهر حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومنها أنه وفد عليه صلى الله عليه وسلم رفاعة بن زيد الخزاعي وفد رفاعة بن زيد الخزاعي بالخاء المعجمة والزاي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما فأسلم وحسن إسلامه وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا إلى قومه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لرفاعة بن زيد إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى الله وإلى رسوله فمن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب رسوله ومن أدبر فله أمان شهرين فلما قدم رفاعة رضي الله تعالى عنه على قومه أجابوا وأسلموا
ومنها وفد همدان وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع من همدان فيهم مالك ابن نمط كان شاعرا مجيدا فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من تبوك عليهم مقطعات من الحبرات بكسر الحاء المهملة ثياب قصار وقيل مخططة من برود اليمن والعمائم العدنية نسبة إلى عدن مدينة باليمن سميت بذلك لأن تبعا كان يحبس فيها أرباب الجرائم وفدوا اليه صلى الله عليه وسلم على الرواحل المهرية والأرحبية والمهرية نسبة إلى قبيلة يقال لها مهرة باليمن والأرحبية نسبة إلى أرحب وصار مالك بن نمط يرتجز إي يقول الرجز بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ** إليك جاوزنا سواد الريف ** في هبوات الصيف والخريف ** ** مخطمات بحبال الليف
ومن شعره ** حلفت برب الراقصات إلى منى ** صوادر بالركبان من هضب قردد ** ** بأن رسول الله فينا مصدق ** رسول أتى من عند ذي العرش مهتد ** ** فما حملت من ناقة فوق رحلها ** أشد على أعدائه من محمد **
وقد أمره صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه وأمره بقتال ثقيف فكان لا يخرج لهم سرج إلا أغار عليه كذا في الأصل
وفي الهدى روى البيهقي بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد
____________________
(3/264)
ابن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى من ذكر يدعوهم إلى الاسلام فأقام ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعث عليا كرم الله وجهه وأمر خالدا بالرجوع إليه وأن من كان مع خالد إن شاء بقي معي علي وإن شاء رجع مع خالد فلما دنا من القوم خرجوا إليه فصف علي كرم الله وجهه أصحابه صفا واحدا ثم تقدم بين أيديهم وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا جميعا وكتب بذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدا ثم رفع رأسه ثم قال السلام على همدان السلام على همدان وهذا أصح لأن همدان لم تكن تقاتل ثقيفا فإن همدان باليمن وثقيفا بالطائف
أي وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال نعم الحي همدان ما أسرعها إلى النصر وأصبرها على الجهد وفيهم أبدال وفيهم أوتاد
ومنها وفد تجيب أي بضم المثناة فوق وتحيته ويجوز الفتح وهي قبيلة من كندة وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد تجيب وقد كانوا ثلاثة عشر رجلا وقد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأكرم مثواهم وقالوا يا رسول الله إنا سقنا اليك حق الله في اموالنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردوها فاقسموها على فقرائكم قالوا يا رسول الله ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا أي وفضل بفتح الضاد وكسرها قال ابو بكر يا رسول الله ما قدم علينا وفد من العرب مثل هذا الوفد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الهدى بيد الله عز وجل فمن أراد به خيرا شرح صدره للإيمان وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن فازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم رغبة وأرادوا الرجوع إلى أهليهم فقيل لهم ما يعجلكم قالوا نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلاقينا إياه وما ورد علينا ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعوه فأرسل إليهم بلالا فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هل بقي منكم أحد قالوا غلام خلفناه على رحالنا وهو أحدثنا سنا قال فأرسلوه إلينا فأرسلوه فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله أنا من الرهط الذين أتوك آنفا فقضيت حوائجهم فاقض حاجتي قال وما حاجتك قال تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني ويجعل غناي في قلبي فقال رسول الله
____________________
(3/265)
صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه ثم أمر له صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه
ثم إنهم بعد ذلك وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى في الموسم إلا ذلك الغلام فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل الغلام الذي أتاني معكم قالوا يا رسول الله ما رأينا مثله قط ولا حدثنا بأقنع منه بما رزقه الله لولا أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت اليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله إني لأرجو أن يموت جميعا فقال رجل منهم او ليس يموت الرجل جميعا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا فعل الأجل يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبال الله عز وجل في أيها هلك
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام قام ذلك الغلام في قومه فذكرهم الله والإسلام فلم يرجع منهم أحد وجعل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يذكر ذلك الغلام ويسأل عنه ولما بلغه ما قام به كتب إلى زياد بن الوليد أي وكان واليا على حضرموت يوصيه به خيرا
ومنها وفد بن ثعلبة وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجعه من الجعرانة أربعة نفر من بني ثعلبة أي مقرين بالإسلام فإذا رسول اله صلى الله عليه وسلم قد خرج من بيته ورأسه يقطر ماء قال بعضهم فرمى ببصره إلينا فاسرعنا إليه وبلال يقيم الصلاة فسلمنا عليه وقلنا يا رسول الله إنا رسل من خلفنا من قومنا ونحن مقرون بالإسلام وقد قيل لنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا إسلام لمن لا هجرة له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حيثما كنتم واتقيتم الله فلا يضركم أي ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا الظهر ثم انصرف إلى بيته فلم يلبث أن خرج الينا فدعا بنا فقال كيف بلادكم فقلنا مخصبون فقال الحمد لله فأقمنا أياما وضايفته صلى الله عليه وسلم تجري علينا ثم لما جاءوا يودعونه صلى الله عليه وسلم قال لبلال أجزهم فأعط كل واحد منهم خمس أواق فضة أي والأوقية اربعون درهما
ومنها وفد بني سعد هذيم من قضاعة عن النعمان رضي الله تعالى عنه قال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافدا في نفر من قومي وقد اوطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاد أي جعلها موطأة فهرا وغلبة وأزاح العرب أي استولى عليها
____________________
(3/266)
والناس صنفان إما داخل في الإسلام راغب فيه وإما خائف السيف فنزلنا ناحية من المدينة ثم خرجنا نؤم المسجد حتى أنتهينا إلى بابه فنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على جنازة في المسجد أي وهو سهيل بن البيضاء لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل في مسجده على جنازة إلا عليه رضي الله تعالى عنه وما وقع له في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم صلى فيه على سهيل وأخيه نظر فيه مع أن فقهاءنا ذكروه وأقروه فقمنا خلفه ناحية ولم ندخل مع الناس في صلاتهم وقلنا حتى يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبايعه
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلينا فدعا بنا فقال ممن أنتم فقلنا من بني سعد هذيم فقال أمسلمون أنتم قلنا نعم فقال هلا صليتم على أخيكم قلنا يا رسول الله ظننا أن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما أسلمتم فأنتم مسلمون قال فأسلمنا وبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيدينا على الإسلام ثم انصرفنا إلى رحالنا وقد كنا خلفنا عليها أصغرنا فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبنا فأتى بنا إليه فتقدم صاحبنا فبايعه صلى الله عليه وسلم على الإسلام فقلنا يا رسول الله إنه أصغرنا وإنه خادمنا فقال صلى الله عليه وسلم سيد القوم خادمهم بارك الله عليه قال النعمان رضي الله تعالى عنه فكان والله خيرنا وأقرأنا للقرآن لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له ثم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا فكان يؤمنا فلما أردنا الانصراف أمر صلى الله عليه وسلم بلالا فأجازنا بأواق من فضة لكل رجل منا فرجعنا إلى قومنا
ومنها وفد بني فزارة وفد عليه صلى الله عليه وسلم بضعة عشر رجلا من بني فزارة فيهم خارجة بن حصن أخو عيينة بن حصن وابن أخيه الجد بن قيس بن حصن وهو أصغرهم مقرين بالإسلام وهم مسنتون أي توالى عليهم الجدب على ركائب عجاف أي هزال فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بلادهم فقال رجل منهم أي وهو خارجة أسنتت بلادنا وهلكت مواشينا وأجدب جنابنا أي ما حولنا وغرثت أي جاعت عيالنا فادع لنا ربك يغيثنا واشفع لنا إلى ربك وليشفع لنا ربك إليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله ويلك هذا أنا أشفع إلى ربي عز وجل فمن ذا الذي يشفع ربنا اليه لا إله إلا هو العلي العظيم وسع كرسيه أي علمه كذا قيل وقيل موضع قدميه السموات والأرض أي احاط بالسموات والأرض وهو دون العرش
____________________
(3/267)
كما جاء به الآثار فهي تئط أي تصوت من عظمته وجلاله كما يئط الرحل بالحاء المهملة الحديث أي من ثقل الحمل
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليضحك من شغفكم وأزلكم أي شدة ضيقكم وجدبكم وقرب غيائكم فقال الأعرابي لن نعدم من رب يضحك خيرا فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وصعد صلى الله عليه وسلم المنبر فتكلم بكلمات وكان لا يرفع يديه أي الرفع البالغ في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء فرفع صلى الله عليه وسلم يديه حتى رؤى بياض إبطيه أي وفي النور وقد جوزت وجها وهو أنه عليه الصلاة والسلام كان يرفع يديه في الاستسقاء يعني ظهور كفيه إلى السماء كما في مسلم أي فيكون التقدير لا يرفع ظهور كفيه إلى السماء إلا في الاستسقاء
وأقول فيه أن هذا يقتضي أنه يفعل ذلك وإن كان استسقاؤه لطلب حصول شيء كما في دعائه صلى الله عليه وسلم في هذا الاستسقاء فإنه متضمن للحصول
وقد ذكر في النور أن ما كان الدعاء فيه لطلب شيء كان ببطون الكفين إلى السماء
والظاهر أن مستند ذلك استقراء حاله صلى الله عليه وسلم في الدعاء في الاستسقاء وغيره فليتأمل والله أعلم
ومما حفظ من دعائه صلى الله عليه وسلم اللهم أسق بقطع الهمزة ووصلها بلادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت اللهم اسقنا غيثا أي مطرا مغيثا مربعا بضم الميم وإسكان الراء وبالموحدة مكسورة وبالعين المهلمة مسرعا لإخراج الربيع مرتعا بالتاء المثناة فوق من رتعت الدابة إذا أكملت ما شاءت طبقا أي مستوعبا للأرض منطبقا عليها واسعا عاجلا غير آجل نافعا غير ضار اللهم اسقنا رحمة ولا تسقنا عذابا ولا هدما ولا غرقا ولا محقا اللهم أسقنا الغيث وانصرنا على الاعداء فقام ابو لبابة رضي الله تعالى عنه فقال يا رسول الله التمر في المرابد أي وتكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم ومن أبي لبابة ثلاثا مرات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اسقنا الغيث حتى يقوم ابو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده أي المحل الذي يخرج منه ماء المطر بازاره فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم امطرت فوالله ما رأينا الشمس سبتا أي من السبت إلى السبت الآخر وقام أبو لبابة رضي الله تعالى عنه عريانا يسد ثعلب مربده بازاراه لئلا يخرج التمر منه
____________________
(3/268)
وفي بعض الروايات فأمطرت السماء وصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طاف الأنصار بأبي لبابة رضي الله تعالى عنهم يقولون له يا أبا لبابة إن السماء والله لم تقلع حتى تقوم عريانا تسد ثعلب مربدك بازارك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام ابو لبابة رضي الله تعالى عنه عريانا يسد ثعلب مربده بازاره فأقلعت السماء وحينئذ يكون قول الراوي لئلا يخرج منه التمر بحسب ما فهم ويكون قول الصحابة فوالله ما رأينا الشمس سبتا كان في قصة غيرها فخلط بعض الرواة فجاء ذلك الرجل أو غيره والذي في الصحيح أنه الرجل الأول
وذكر بعض الحفاظ أنه خارجة بن حصن فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فدعا ورفع يديه حتى رؤى بياض إبطيه وهو أي بياض الإبط معدود من خصائصه صلى الله عليه وسلم ثم قال اللهم حوالينا ولا علينا اللهم علي الإكام بكسر الهمزة جمع أكمة وهي التل المرتفع والظراب بكسر الظاء المشالة جمع ظرب بفتحها الروابي الصغار وبطون الأودية ومنابت الشجر فانجابت السحابة أي أقلعت عن المدينة انجياب الثوب
أقول لعل هذا المطر كان عاما للمدينة وما حولها حتى وصل إلى محل هؤلاء الوفد وإلا فهم إنما طلبوا حصول المطر لمحلهم ولا يلزم من وجوده بالمدينة وجوده بمحلهم إلا إذا كان قريبا بالمدينة بحيث إذا وجد المطر بها يوجد بمحلهم غالبا وقد أشار صاحب الهمزية رحمه الله تعالى إلى هذه القصة بقوله ** ودعا للأنام إذا دهمتهم ** سنة من مخولها شهباء ** ** فاستلهت بالغيث سبعة أيا ** م عليهم سحابة وطفاء ** ** تتحرى مواضع الرعى والسق ى وحيث العطاش توهى السقاء ** ** وأتى الناس يشتكون أذاها ** ورخاء يؤذي الأنام غلاء ** د ** فدعا فانجلى الغمام فقل في ** وصف غيث إقلاعه استسقاء ** ** ثم أثرى الثرى وقرت عيون ** بقراها وأحييت أحياء ** ** فترى الارض عنده كسماء ** أشرقت من نجومها الظلماء ** ** يخجل الدر واليواقيت من نو ** ر رباها البيضاء والحمراء **
ثم رأيت في الحدائق لابن الجوزي رحمه الله عن أنس رضي الله تعالى عنه قال أصابت
____________________
(3/269)
الناس سنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يوم الجمعة فقام أعرابي فقال يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله ان يسقينا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وما في السماء قزعة سحاب فدار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل صلى الله عليه وسلم عن المنبر حتى رأينا المطر يتحادر على لحيته الشريفة قال فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد والذي يليه إلى الجمعة الأخرى فقام ذلك الأعرابي أوغيره فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال ادع الله لنا فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال اللهم حوالينا ولا علينا قال فما جعل يشير بيديه إلى ناحية من السماء إلا انفرجت حتى صارت المدينة في مثل الجونة حتى سال الوادي شهرا فلم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود
ثم رأيت بعضهم قال أحاديث الاستسقاء ثابتة في الصحيحين وطاهرها أنه تعدد ففي بعضها أنه وقع وهو في خطبة الجمعة وفي بعضها أنه صعد المبنر حين شكى اليه فخطب ودعا
وفي بعضها أنه خرج إلى المصلى بعد أن وعد الناس يوما يخرج فيه ونصب له منبرا واستسقى وأجيبت دعوته ونزل المطر وجاء اليه صلى الله عليه وسلم أعرابي وقال له يا رسول الله أتيناك ومالنا بعير يئط ولا صغسير يغط ثم أنشد شعرا يقول فيه ** وليس لنا إلا إليك فرارنا ** وأين فرار الناس إلا إلى الرسل **
فقام صلى الله عليه وسلم وسلم يجر رداءه حتى صعد المنبر فدعا فسقى ثم قال صلى الله عليه وسلم لو كان أبو طالب حيا لقرت عيناه من ينشدنا قوله فقام علي كرم الله وجهه فقال يا رسول الله كأنك تريد قوله ** وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ** ثمال اليتامى عصمة للأرامل ** الأبيات
فقال صلى الله عليه وسلم أجل
وفي رواية لما جاءه صلى الله عليه وسلم المسلمون وقالوا يا رسول الله قحط المطر ويبس الشجر وهلكت المواشي وأسنت الناس فاستسق لنا ربك فخرج صلى الله عليه وسلم والناس معه يمشون بالسكينة والوقارحتى أتوا المصلى فتقدم صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة وكان يقرأ في العيدين والاستسقاء في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب وسبح اسم ربك الأعلى وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب وهل
____________________
(3/270)
أتاك حديث الغاشية فلما قضى صلاته استقبل الناس بوجهه وقلب رداءه لكي يتقلبه القحط إلى الخصب ثم جثى صلى الله عليه وسلم على ركبتيه ورفع يديه وكبر تكبيرة ثم قال اللهم اسقنا وأغثنا مغيثا رحيما واسعا وجدا طبقا مغدقا عاما هنيئا مريئا مربعا مرتعا وابلا سائلا مسيلا مجللا دائما دارا نافعا غير ضار عاجلا غير واب غيثا اللهم تحي به البلاد وتغيث به العباد وتجعله بلاغا للحاضر منا والباد اللهم أنزل في أرضنا زينتها وأنزل علينا سكنها اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهورا تحي به بلدة ميتا واسعة مما خلقت أنعاما وأناسى كثيرا فما برحوا حتى أقبل قزع من السحاب فالتأم بعضه إلى بعض ثم أمطرت سبعة ايام لا تقلع عن المدينة فأتاه صلى الله عليه وسلم المسلمون فقالوا قد غرقت الأرض وتهدمت البيوت وانقطعت السبل فادع الله يصرفها عنها فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر حتى بدت نواجذه تعجبا لسرعة ملالة ابن آدم ثم رفع يديه ثم قال اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على رءوس الظراب ومنبت الشجر وبطون الأودية وظهور الآكام فتقشعت عن المدينة ثم قال صلى الله عليه وسلم لله در أبي طالب لو كان حيا قرت عيناه من الذي ينشدنا قوله فقام علي كرم الله وجهه فقال يا رسول الله كأنك أردت قوله فقال الابيات
ومنها وفد بني أسد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم رهط من بني أسد منهم ضرار بن الازور ووابصة بن معبد وطليحة بن عبد الله الذي ادعى النبوة بعد ذلك ثم أسلم وحسن إسلامه ومنهم بن عبد الله بن خلف
وقد استهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ناقة تكون جيدة للركوب والحلب من غير أن يكون له ولد معها فطلبها فلم يجدها إلا عند ابن عم له فجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلبها فشرب منها ثم سقاه ثم قال اللهم بارك فيها وفيمن منحها قال يا رسول الله وفيمن جاء بها قال وفيمن جاء بها ومنهم حضرمي بن عامر ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد مع اصحابه فسلموا عليه وقال شخص منهم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله وجئناك يا رسول الله ولم تبعث إلينا بعثا ونحن لمن وراءنا
أي وفي لفظ إن حضرمي بن عامر قال أتيناك نتدرع الليل البهيم في سنة شهباء أي ذات قحط ولم تبعث إلينا وفي رواية يا رسول الله أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك العرب فأنزل
____________________
(3/271)
الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين }
وسألوه صلى الله عليه وسلم عما كانوا يفعلونه في الجاهلية من العيافة وهي زجر الطير والتخرص على الغيب والكهانة وهي الإخبار عن الكائنات في المسقبل وضرب الحصباء فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا يا رسول الله خصلة بقيت فقال وما هي قالوا الخط أي خط الرمل ومعرفة ما يدل عليه قال صلى الله عليه وسلم علمه نبي فمن صادف مثل علمه علم أي وفي رواية لمسلم فمن وافق خطه أي عم موافق خطه فذاك أي يباح له وإلا فلا يباح له إلا بتبيين الموافقة
أي وفي شرح مسلم أن محصل مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه أي لأنه لا طريق لنا إلا إلى العلم اليقيني بالموافقة وكأنه صلى الله عليه وسلم قال لو عملتم موافقته لكن لا علم لكم بها وأقاموا أياما يتعلمون الفرائض ثم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعوه وأمر لهم بجوائز ثم انصرفوا إلى أهليهم
ومنا وفد بني عذرة قبيلة باليمن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر رجلا من بني عذرة أي وسلموا بسلام الجاهلية فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من القوم فقال قائلهم من بني عذرة أي اخو قص لامه نحن الذين عضدوا قصيا وازاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر فلنا قرابات وأرحام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحبا بكم وأهلا أي لقيتم رحبا وأتيتم أهلا فستأنسوا ولا تستوحشوا ما أعرفني بكم قال ثم قال صلى الله عليه وسلم لهم فما يمنعكم من تحية الإسلام قالوا يا محمد كنا على ما كان عليه آباؤنا فقدمنا مرتادين لأنفسنا ولقومنا وقالوا إلام تدعو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعو 2 إلى عبادة الله وحده لا شريك له وأن تشهدوا أني رسول الله إلى الناس كافة فقال متكلمهم فما وراء ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس تحسن طهورهن وتصليهن لمراقبتهن فإنه أفضل العمل ثم ذكر لهم صلى الله عليه وسلم باقي الفرائض من الصيام والزكاة والحج انتهى فأسلموا وبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الشام عليهم وهرب هرقل إلى ممتنع بلاده ونهاهم صلى الله عليه وسلم عن سؤال الكاهنة أي فقد قالوا يا رسول الله إن فينا امرأة كاهنة قريش والعرب يتحاكمون اليها أفنسألها عن أمور فقال صلى الله عليه وسلم
____________________
(3/272)
لا تسألوها عن شيء ونهاهم صلى الله عليه وسلم عن الذبائح التي كانوا يذبحونها الى اصنامهم وقالوا نحن أعوانك وأنصارك ثم انصرنوا وقد اجيزوا أي وكسا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدهم دابر
ومنها وفد بني بلى على وزن على مكبرا وهو حي من قضاعة وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد من بلى منهم وهو شيخهم أبو الضبيب تصغير الضب الدابة المعروفة نزلوا على رويفع بن ثابت البلوي وقدم بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له هؤلاء قومي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم مرحبا بك وبقومك فاسلموا وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي هداكم للإسلام فمن مات منكم على غير الإسلام فهو في النار
قال وفي رواية عن رويفع رضي الله عنه قال قدم وفد قومي فأنزلتهم علي ثم خرجت بهم حتى انتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في أصحابه فسلمنا عليه فقال صلى الله عليه وسلم رويفع فقلت لبيك قال من هؤلاء القوم قلت قومي يا رسول الله قال مرحبا بك وبقومك قلت يارسول الله قدموا وافدين عليك مقرين بالإسلام وهم على من وراءهم من قومهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يهديه للإسلام فتقدم شيخ الوفد أبو الضبيب فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا وفدنا إليك لنصدقك ونشهد أنك نبي حق ونخلع ما كنا نعبد وكان يعبد آباءؤنا فقال صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي هداكم للإسلام فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار انتهى وقال له ابو الضبيب يا رسول الله إن لي رغبة في الضيافة فهل لي في ذلك أجر قال نعم وكل معروف صنعته إلى غني أو فقير فهو صدقه فقال يارسول الله ما وقت الضيافة قال ثلاثة أيام فما بعد ذلك صدقه ولا يحل للضيف أن يقيم عندك فيحوجك أي يضيق عليك أي وفي لفظ فيؤثمك أي يعرضك للإثم أي تتكلم بسيء القول قال يا رسول الله أرأيت الضالة من الغنم أجدها في الفلاة من الأرض قال هي لك أو لأخيك أو للذئب قال فالبعير قال مالك وله دعه حتى يجده صاحبه قال رويفع ثم قاموا فرجعوا إلى منزلي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي منزلي يحمل تمرا فقال استعن بهذا التمر فكانوا يأكلون منه ومن
____________________
(3/273)
غيره فأقاموا ثلاثة أيام ثم ودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجازهم ورجعوا إلى بلادهم
ومنها وفد بني مرة وفد عليه صلى الله عليه وسلم وسلم ثلاثة عشر رجلا من بني مرة رأسهم الحارث بن عوف فقال يا رسول الله إنا قومك وعشيرتك نحن قوم من بني لؤي ابن غالب فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للحارث أين تركت أهلك فقال بسلاح وما والاها فقال كيف البلاد فقال والله إنا لمسنتون وما في المال مح أي صوت يردده فادع الله لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اسقهم الغيث فأقاموا أياما ثم أرادوا الانصراف إلى بلادهم فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مودعين له فأمر بلالا أن يجيزهم فأجازهم بعشرة أواق من فضة وفضل الحارث ابن عوف فأعطاه اثني عشر اوقية أي وهذا يفيد أن كل واحد أعطى عشر أواق ورجعوا إلى بلادهم فوجدوا البلاد مطيرة فسألوا قومهم متى مطرتم فإذا هو ذلك اليوم الذي دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم واخصبت لهم بعد ذلك بلادهم
ومنها وفد خولان وهي قبيلة من اليمن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من خولان فقالوا يا رسول الله نحن على من وراءنا من قومنا ونحن مؤمنون بالله عز وجل مصدقون برسوله وقد ضربنا إليك آباط الإبل وركبنا حزون الأرض وسهولها وحزون كفلوس وهو ما غلظ منها والمنة لله ولرسوله علينا وقدمنا زائرين لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ما ذكرتم من مسيركم إلي فإن لكم بكل خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة وأما قولكم زائرين لك فإنه من زارني بالمدينة كان في جواري يوم القيامة فقالوا يا رسول الله هذا السفر الذي لا توى عليه أي والتوى بفتح المثناة فوق وفتح الواو مقصورا هو هلاك المال ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل عم أنس وهو صنم خولان الذي كانوا يعبدونه قالوا بشر بدلنا الله تعالى ما جئت به وقد بقيت منا بقايا شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به ولو قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله تعالى فقد كنا منه في غرور وفتنة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما اعظم ما رأيتم من فتنة قالوا لقد رأيتنا بضم المثناة فوق واسنتنا حتى أكلنا الرمة فجمعنا ما قدرنا عليه وابتعنا مائة ثور ونحرناها لعم أنس قربانا في غداة واحدة وتركناها يردها السباع ونحن أحوج اليها من السباع فجاءنا الغيث من
____________________
(3/274)
ساعتنا لقد رأينا الغيث يواري الرحال ويقول قائلنا أنعم علينا عم أنس وذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقسمون لهذا الصنم من أموالهم من إنعامهم وحرثهم فقالوا كنا نزرع الزرع فنجعل له وسطه فنسميه له ونسمى زرعا آخر حجرة أي ناحية الله فإذا مالت الريح بالذي سميناه له أي لله جعلناه لعم أنس وإذا مالت الريح بالذي سميناه لعم أنس لم نجعله الله فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أنزل علي في ذلك { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } الآية قالوا وكنا نتحاكم إليه فيتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الشياطين تكلمكم وسألوه صلى الله عليه وسلم عن فرائض الله فأخبرهم بها صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالوفاء بالعهد وأداء الأمانة وحسن الجوار لمن جاوروا وأن لا يظملوا أحدا فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ثم ودعوه صلى الله عليه وسلم بعد أيام وأجازهم أي أعطى كل واحد اثنتي عشرة أوقية ونشا ورجعوا إلى قومهم فلم يحلوا عقدة حتى هدموا عم أنس
ومنها وفد بني محارب وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة من بني محارب وفيهم خزيمة بن سواد وكانوا أغلظ العرب وأشدهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام عرضه نفسه على القبائل في المواسم يدعوم إلى الله تعالى فجلسوا عنده يوما من الظهر إلى العصر وأدام صلى الله عليه وسلم النظر إلى رجل منهم وقال له قد رأيتك فقال له ذلك الرجل إي والله رأيتني وكلمتك بأقبح الكلام ورددتك بأقبح الرد بعكاظ وأنت تطوف على الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم ثم قال يا رسول الله ما كان في أصحابي اشد عليك يومئذ ولا أبعد عن الإسلام مني فأحمد الله الذي جاء بي حتى صدقت بك ولقد مات أولئك النفر الذين كانوا معي على دينهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذه القلوب بيد الله عز وجل فقال يا رسول الله استغر لي من مراجعتي إياك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا الإسلام يجب ما قبله يعني الكفر أي ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه خزيمة بن سواد فصارت له غرة بيضاء وأجازهم كما يجيز الوفود ثم انصرفوا إلى أهليهم
ومنا وفد صداء حي من عرب اليمن وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلا من صداء
وسبب ذلك أنه صلى الله عليه وسلم هيأ بعثا أربعمائة من المسلمين استعمل عليهم قيس
____________________
(3/275)
ابن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهم ودفع له لواء أبيض ودفع إليه راية سوداء وأمره ان يطأ ناحية من اليمن كان فيها صداء فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل منهم وعلم بالجيش فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله جئتك وافدا على من ورائي فاردد الجيش وأنا لك بقومي فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن سعد رضي الله تعالى عنهما وخرج الصدائي إلى قومه فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم بأولئك القوم فقال سعد بن عبادة يا رسول الله دعهم ينزلون علي فنزلوا عليه فحباهم بالموحدة أعطاهم وأكرمهم وكساهم ثم ذهب بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام وقالوا له نحن لك على من وراءنا من قومنا فرجعوا إلى قومهم ففشا فيهم الإسلام فوافى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة رجل في حجة الوداع وسمى ذلك الرجل الذي كان سببا في رد الجيش ومجيء الوفد بزياد بن الحارث الصدائي أي وذكر زياد أنه صلى الله عليه وسلم قال له يا أخا صداء إنك لمطاع في قومك قال فقلت بلى من من الله عز وجل ومن رسوله قال وفي رواية بل الله هداهم للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلا أؤمرك عليهم فقلت بلى يا رسول الله فكتب لي كتابا بذلك فقلت يا رسول الله مر لي شيء من صدقاتهم قال نعم فكبت لي كتابا آخر انتهى
قال زياد رضي الله تعالى عنه وكنت معه صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وكنت رجلا قويا فلزمت غرزة أي ركابه وجعل أصحابه يتفرقون عنه فلما كان السحر قال صلى الله عليه وسلم أذن يا أخا صداء فأذنت على راحلتي ثم سرنا حتى نزلنا فذهب صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم رجع فقال يا أخا صداء هل معك ماء قلت معي شيء في إداوتي أي وهي إناء من جلد صغير وفي رواية لا إلا شيء قليل لا يكفيك قال هاته فجئت به قال صب نصببت ما في الإداوة في القعب أي وهو القدح الكبير وجعل أصحابه صلى الله عليه وسلم يتلاحقون ثم وضع صلى الله عليه وسلم كفه في الإناء فرأيت بين كل اصبعين من أصابعه عينا تفور ثم قال يا أخا صداء لولا اني أستحي من ربي عز وجل لسقينا وأسقينا أي من غير اصل ثم توضأ وقال أذن في أصحابي من كانت له حاجة في الوضوء بفتح الواو فليرد قال فورد الناس من آخرهم ثم جاء بلال يقيم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أخا صداء
____________________
(3/276)
أذن ومن أذن فهو يقيم فأقمت ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بنا فلما سلم يعني من صلاته قام رجل يشكو من عامله فقال يا رسول الله إنه آخذنا بذحول كانت بيننا وبين قومه في الجاهلية أي وفي رواية آخذنا بكل شيء كان بيننا وبين قومه في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خير في الإمارة لرجل مسلم ثم قام رجل آخر فقال يا رسول الله أعطني من الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل لم يكل قسمتها إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى جزأها ثمانية أجزاء فإن كنت جزءا منها أعطيتك إن كنت غنيا عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن فقلت يا رسول الله هذان كتاباك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم قلت إني سمعتك تقول لا خير في الإمارة لرجل مسلم وأنا رجل مسلم وسمعتك تقول من سأل الصدقة وهو عنها غني فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن وأنا غني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إن الذي قلت كما قلت ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دلني على رجل من قومك أستعمله فدللته صلى الله عليه وسلم على رجل منهم فاستعمله قلت يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء كفانا ماؤها وإن كان الصيف قل علينا فتفرقنا على المياه والإسلام فينا قليل ونحن نخاف فادع الله عز وجل لنا في بئرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ناولني سبع حصيات فناولته ففكرهن في يده الشريفة ثم دفعهن إلي وقال إذا انتهيت إليها فألق فيها حصاة حصاة وسم الله قال ففعلت فما أدركنا لها قعرا حتى الساعة
ومنا وفد غسان اسم ماء نزل عليه قوم من الأزد فنسبوا اليه ومنهم بنو حنيفة وقيل غسان قبيلة
وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفر من غسان فأسلموا وقالوا لا ندري هل يتبعنا قومنا أم لا وهم يحبون بقاء ملكهم وقربهم من قيصر فأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوائز وانصرفوا راجعين إلى قومهم فلما قدموا عليهم ولم يستجيبوا لهم كتموا إسلامهم
ومنها وفد سلامان بفتح السين وتخفيف اللام وفي العرب بطون ثلاثة منسوبون إليه بطن من الأزد وبطن من طيء وبطن من قضاعة وهم هؤلاء
____________________
(3/277)
وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة نفر من سلامان فيهم خبيب بن عمرو السلاماني فأسلموا
قال وعن خبيب رضي الله تعالى عنه صادفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا من المسجد إلى جنازة دعى إليها فقلنا السلام عليك يا رسول الله فقال وعليكم السلام من أنتم قلنا نحن من سلامان قدمنا إليك لنبايعك على الإسلام ونحن على من وراءنا من قومنا فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى ثوبان غلامه فقال أنزل هؤلاء وسألنا عن اشياء انتهى
قال خبيب رضي الله تعالى عنه قلت يا رسول الله ما أفضل الأعمال قال الصلاة في وقتها وصلوا معه صلى الله عليه وسلم يؤمئذ الظهر والعصر ثم شكوا له صلى الله عليه وسلم جدب بلادهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم اسقهم الغيث في دارهم فقلت يا رسول الله ارفع يديك فإنه أكثر وأطيب فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه ثم قام صلى الله عليه وسلم وقمنا معه وأقمنا ثلاثة أيام وضيافته صلى الله عليه وسلم تجري علينا ثم ودعناه وأمر لنا بجوائز فأعطينا خمس أواق فضة لكل واحد واعتذر إلينا بلال رضي الله تعالى عنه وقال ليس عندنا اليوم مال فقلنا ما أكثر هذا وأطيبه ثم رجعنا إلى بلادنا فوجدناها قد مطرت في اليوم الذي دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومنا وفد بني عبس وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من نبي عبس فقالوا يا رسول الله قدم علينا قراؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له ولنا أموال ومواش هي معاشنا فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا من آخرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم أي ينقصكم من أعمالكم شيئا وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خالد بن سنان هل له عقب فأخبروه أنه لا عقب له كانت له ابنة فانقرضت وأنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه عن خالد بن سنان وقال إنه نبي ضيعه قومه وجاء ليس بيني وبين عيسى عليه الصلاة والسلام نبي
أي وإذا صح شيء من الأحاديث التي ذكر فيها خالد بن سنان أو غيره يكون
____________________
(3/278)
معناه لم يكن بينه صلى الله عليه وسلم وبين عيسى عليه السلام نبي مرسل أي وتقدم ما في ذلك
ومنها وفد النخع أي بفتح النون والخاء المعجمة قبيلة من اليمن وهم آخر الوفود وكان وفودهم سنة إحدى عشرة في النصف من المحرم
وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتا رجل من النخع مقرين بالإسلام وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه فقال رجل منهم يقال له زرارة بن عمرو يا رسول الله إني رأيت في سفري هذا عجبا أي وفي رواية رأيت رؤيا هالتني قالو ما رأيت قال رأيت أتانا نركبها في الحي ولدت جديا أي وهو ولد المعز اسقع أحوى أي والأسقع الذي سواده مشرب بحمرة والأحوى الذي ليس شديد السواد ومن ثم فسر بالأخضر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تركت أمة لك مصرة لك على حمل قال نعم قال فإنها تلد غلاما وهو ابنك قال يا رسول الله فماله أسقع أحوى قال ادن مني فدنا منه فقال هل بك برص تكتمه قال فوالذي بعثك بالحق ما علم به احد ولا أطلع عليه غيرك قال هو ذاك قال يا رسول الله ورايت النعمان بن المنذر أي وهو ملك العرب وعليه قرطان والقرط ما يكون في شحمة الأذن ودملجان بضم الدال المهملة وضم اللام وفتحها ومسكتان بضم الميم وسكون المهملة قال ذاك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته قال يا رسول الله ورايت عجوزا شمطاء أي يخالط شعر رأسها الأبيض شعر أسود خرجت من الأرض قال تلك بقية الدنيا وقال ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بني وبين ابن لي يقال له عمرو وهي تقول لظى لظى بصير وأعمى أطعموني أكلكم أهلكم ومالكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فتنة تكون في آخر الزمان قال يا رسول الله وما الفتنة قال يقتل الناس إمامهم ويشتجرون اشتجار أطباق ا لرأس ويشتجرون بالشين المعجمة وبالجيم أي يشتبكون في الفتنة اشتباك أطباق الراس وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصبعيه يحسب المسيء فيها أنها محسن ويكون دم المؤمن عند المؤمن أسهل أي وفي لفظ أحلى من شرب الماء البارد وإن مات ابنك أدركت الفتنة وإن مت أنت أدركها ابنك فقال يا رسول الله أني لا أدركها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم لا يدركها فمات وبقي ابنه عمرو ولم يجتمع به صلى الله عليه وسلم فهو تابعي وكان ممن خعل عثمان رضي الله تعالى عنه
____________________
(3/279)
قال وفي رواية أن النخع بعث رجلين منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم أرطاه بن شرحبيل من بني حارثة والأرقم من بني بكر فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليهما الاسلام فقبلاه فبايعاه على قومهما وأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم شانهما وحسن هيئتهما وقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم هل خلفتما وراءكما من قوكما مثلكما قالا لا يا رسول الله قد خلفنا وراءنا من قومنا سبعين رجلا كلهم أفضل منا وكلهم يقطع الأمر وينفذ الأشياء ما يشاء فدعا لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقومهما بخير وقال اللهم بارك في النخع
وعقد صلى الله عليه وسلم وسلم لأرطاة لواء على قومه فكان في يده يوم الفتح وشهد به القادسية وقتل يومئذ رضي الله تعالى عنه ا هـ
وقوله وكان في يده يوم الفتح لا يناسب ما تقدم أن وفد النخع كان قدومه في سنة إحدى عشرة إلا أن يقال إن هذين وفدا قبل وفود ذلك الجمع
وقد ترك الأصل التعرض لجملة الوفود وذكرت في السيرة العراقية والسيرة الهشامية تركناها تبعا للأصل
منها أن عمرو بن مالك وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم ثم رجع إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام فقالوا حتى نصيب من بني عقيل مثل ما أصابوا منا فكان بينهم وبين بني عقيل مقتلة وكان عمرو بن مالك هذا من جملة من قاتل معهم فقتل رجلا من بني عقيل قال عمرو فشددت يدي في غل وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغه ما صنعت فقال صلى الله عليه وسلم إن أتاني لأضرب ما فوق الغل من يده فلما جئت سلمت فلم يرد علي السلام وأعرض عني فأتيته عن يمينه فاعرض عني فأتيته عن يساره فأعرض عني فأتيه من قبل وجهه فقلت يا رسول الله إن الرب عز وجل ليترضى فيرضى فارض عني رضي الله تعالى عنك قال رضيت
وتقدم أنه قد جاء في الصحيح لا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ولا أحد أحب اليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه ولا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والله اعلم
____________________
(3/280)
& باب بيان كتبه صلى الله عليه وسلم التي أرسلها الى الملوك يدعوهم إلى الإسلام
أي في الغالب وإلا فمنها ما ليس كذلك وهذه غير كتبه صلى الله عليه وسلم التي كتبها بالامان التي تقدم ذكرها
أي ولما أراد صلى الله عليه وسلم أن يكتب للملوك قيل له يا رسول الله إنهم لا يقرءون كتابا إلا إذا كان مختوما أي ليكون في ذلك إشعار بأن الاحوال المعروضة عليهم ينبغي أن تكون مما لا يطلع عليها غيرهم وفيه أن هذا واضح إذا كان الختم عليها بعد طيها ويجعل عليها نحو شمع ويختم فوق ذلك والظاهر أن ذلك لم يكن وحينئذ يكون الغرض من ذلك أمن التزوير لبعده مع الختم فاتخذ صلى الله عليه وسلم خاتما من فضة أي بعد أن اتخذ خاتما من ذهب فاقتدى به صلى الله عليه وسلم ذوو اليسار من أصحابه فصنعوا خوايتم من ذب ولما لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لبس أصحابه رضي الله تعالى عنهم خواتيمهم فجاءه جبريل عليه السلام بعد من الغد بأن لبس الذهب حرام على ذكور أمتك فطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الخاتم فطرح أصحابه خواتيمهم كان نقش خاتمه الفضة ثلاثة أسطر محمد سطر ورسول سطر والله سطر
وفي حديث موضوع كان نقش خاتمه صدق الله وفي رواية شاذة أنه بسم الله محمد رسول الله والأسطر الثلاثة تقرا من أسفل إلى فوق فمحمد آخر الأسطر ورسول في الوسط الله فوق كذا قال بعض أئمتنا
قال في النور والذي يظهر لي أن هذه الكتابة كانت مقلوبة حتى إذا ختم بها يختم على الاستواء كما في خواتم الكبراء اليوم وختم صلى الله عليه وسلم بذلك الخاتم الكتب وكان في يده الشريفة ثم في يد ابي بكر ثم في يد عمر ثم في يد عثمان رضي الله تعالى عنهم حتى وقع في بئر أريس في السنة التي توفي فيها عثمان رضي الله تعالى عنه فالتمسوه ثلاثة ايام فلم يجدوه
وذكر أن هذا الخاتم الذي كان في يده صلى الله عليه وسلم ثم في يد أبي بكر ثم في يد عمر ثم في يد عثمان رضي الله تعالى عنهم كان الخاتم الحديد الذي كان ملويا عليه الفضة
____________________
(3/281)
وأنه الذي كان في يد خالد بن سعيد فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما نقش هذا الخاتم قال محمد رسول الله قال اطرحه إلي فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان في يده ثم في يد أبي بكر الحديث
وعن أنس رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم لبس خاتم فضة فصه حبشي أي من جذع لأنه يؤتى به من بلاد الحبشة وقيل صنف من الزبرجد وأنه الذي نقش فيه محمد رسول الله وفي لفظ فصه منه وفي لفظ فصه من عتيق
أي ولا ينافي ذلك وصفه بانه حبشي لأن العقيق يؤتى به من بلاد الحبشة ولم يرد أنه صلى الله عليه وسلم لبس خاتما كله عقيق وفي الحديث تختموا بالعقيق فإنه مبارك تختموا بالعقيق فإنه ينفى الفقر
قيل وكان خاتمه صلى الله عليه وسلم في خنصر يده اليسرى وهو المروي عن عامة الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين
وقيل كان في خنصر يمينه صلى الله عليه وسلم وهو قول أبن عباس رضي الله تعالى عنهما وطائفة ومنهم عائشة رضي الله تعالى عنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه وقبض والخاتم في يمينه قال بعضهم وهذا وراه عبيدة بن القاسم وهو كذاب أي وهو يخالف ما جمع به البغوي بأنه تختم أولا في يمينه ثم تختم به في يساره وكان ذلك آخر الأمرين وروى أشعب الطامع عن عبد الله بن جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في اليمنى
قال الإمام النووي رحمه الله التختم في اليمين أو اليسار كلاهما صح فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه في اليمين أفضل لأنه زينة واليمين بها أولى هذا كلامه أي ولأن ابن أبي حاتم نقل عن أبي زرعة أنه كان في يمينه صلى الله عليه وسلم أكثر منه في يساره وكان يجعل فصه مما يلي كفه وتقدم أن الخاتم الذي لبسه صلى الله عليه وسلم يوما ألقاه كان من الذهب وقيل كان ذلك الخاتم من حديد
وقال قال صلى الله عليه وسلم للابس خاتم الحديد مالي ارى عليك حلية أهل النار فطرحه ولعله لكون سلاسل أهل النار وأغلالهم وقيودهم من حديد أي ثم جاء وعليه خاتم من صفر أي من نحاس فقال مالي أجد فيك ريح الأصنام ولعل الاصنام كانت تتخذ من نحاس غالبا ثم أتاه وعليه خاتم من ذهب فقال مالي أرى عليك حلية أهل الجنة
____________________
(3/282)
أي المختص إباحتها بأهل الجنة في الجنة قال يا رسول الله من أي شيء أتخذه قال من ورق ولا تتمه مثقالا أي وزن مثقال لكن في رواية أبي داود ولا تتمه مثقالا ولا قيمة مثقال وهي تفيد أن الخاتم كان دون مثقال وزنا لكن بلغ بالصنعة قيمة مثقال كان منهيا عنه
وفي الحديث ما طهر الله كفا فيه خاتم من حديد وهو يفيد كراهة لبس الخاتم الحديد
وفي كلام الشمس العلقمى ولا يكره كونه من نحود حديد ونحاس لحديث الشيخين التمس ولو خاتما من حديد فليتأمل
وعند عزمه صلى الله عليه وسلم على إرسال الكتب وتكلم مع اصحابه في ذلك خرج على أصحابه يوما فقال ايها الناس إن الله بعثني رحمة وكافة فأدوا عني رحمكم الله ولا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون على عيسى بن مريم عليه السلام يا رسول الله قال دعاهم لمثل ما دعوتكم له فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضى وسلم وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وأبى فشكا ذلك عيسى عليه السلام إلى ربه عز وجل فاصبحوا وكل رجل منهم يتكلم بلغة القوم الذي وجه إليهم ذكر كتباه صلى الله عليه وسلم إلى قيصر
المدعو هرقل ملك الروم على يد دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه والدحية بلسان اليمن الرئيس
وقيصر معناه في اللغة البقير لانه شق عنه لأن أم قيصر ماتت في المخاص فشق عنه وأخرج فسمي قيصر وكان يفتخر بذلك ويقول لم أخرج من فرج أي لأن كل من ملك الروم يقال له قيصر
كتب صلى الله عليه وسلم كتابا لقيصر يدعوه إلى الاسلام وبعث به دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه وأمره أن يدفعه إلى قيصر ففعل كذلك أي بعد أن قال صلى الله عليه وسلم من ينطلق بكتابي هذا فيسير إلى هرقل وله الجنة
____________________
(3/283)
وقيل أمر صلى الله عليه وسلم دحية أن يدفعه إلى عظيم بصرى وهو الحارث ملك غسان ليدفعه إلى قيصر
ولما انتهى دحية رضي الله تعالى عنه إلى الحارث أرسل معه عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه ليوصله إلى قيصر فذهب به إليه فقال قومه لدحية رضي الله تعالى عنه إذا رأيت الملك فاسجد له ثم لا ترفع رأسك أبدا حتى يأذن لك
قال دحية رضي الله تعالى عنه لا أفعل هذا أبدا ولا أسجد لغير الله قالوا إذن لا يؤخذ كتابك فقال له رجل منهم أنا أدلك على أمر يؤخذ فيه كتابك ولا تسجد له فقال دحية رضي الله تعالى عنه وما هو فقال إن له على كل عتبة منبرا يجلس عليه فضع صحيفتك تجاه المنبر فإن أحدا لا يحركها حتى يأخذها هو ثم يدعو صاحبها ففعل فلما أخذ قيصر الكتاب وجد عليه عنوان كتاب العرب فدعا الترجمان الذي يقرا بالعربية ثم قال انظروا لنا من قومه أحدا نسأله عنه وكان أبو سفيان بن حرب رضي الله تعالى عنه بالشام أي بغزة مع رجال من قريشس في تجارة زمن هدنة الحديبية أي وكان أولها في ذي القعدة سنة ست
وقيل كتب إليه صلى الله عليه وسلم من تبوك وذلك في السنة التاسعة وجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم لقيصر مرتين والأول ما هو في الصحيحين والثاني قاله السهيلي واستدل له بخبر في مسند الإمام أحمد أي وأغرب من قال إن الكتابة له كانت سنة خمس
قال ابو سفيان فأتانا رسول قيصر أي وهو والي شرطته فانطلق بنا حتى قدمنا عليه أي في بيت المقدس فإذا هو جالس وعليه التاج وعظماء الروم حوله فقال لترجمانه أي وهو المعبر عن لغة بلغة وهو معرب وقيل اسم عربي سلهم ايهم أقرب نسبا لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي أي وفي لفظ لهذا الرجل الذي خرج بارض العرب يزعم أنه نبي فقال ابو سفيان أنا أقربهم نسبا اليه لأنه لم يكن في الركب يومئذ من بني عبد مناف غيري أي لأن عبد مناف هو الأب الرابع له صلى الله عليه وسلم وكذا لأبي سفيان أي وزاد في لفظ ما قرابتك منه قلت هو ابن عمي فقال له ادن مني ثم أمر بأصحابي فجعلوا خلف ظهري ثم قال لترجمانه قل لاصحابه إنما قدمت هذا أمامكم سأله عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي وإنما جعلتكم خلف ظهره لتردوا عليه كذبا
____________________
(3/284)
إن قاله أي حتى لا تستحيوا أن تشافهوه بالتكذيب إذا كذب قال ابو سفيان فوالله لولا الحياء يؤمئذ أن يردوا علي كذبا لكذبت ولكني استحيت فصدقت وانا كاره أي وفي رواية لولا مخافة أن يؤثر عني الكذب لكذبت أي لولا خفت أن ينقل عني الكذب إلى قومي ويتحدثوا به في بلادي لكذبت عليه لبغضي إياه ومحبتي نقصه وبه يعلم أن الكذب من القبائح جاهلية واسلاما ثم قال لترجمانه قل له كيف نسب هذا الرجل فيكم قلت هو مناذ ونسب قال قل له هل قال هذا القول أحد منكم قبله قلت لا قال قل له هل كنتم تتهمونه بالكذب على الناس قبل أين يقول ما قال قلت لا أي وفي رواية هل كان حلافا كذابا مخادعا في أمره لعله يطلب ملكا وشرفا كان لأحد من أهل بيته قبله قال هل كان من آبائه ملك قلت لا أي وزاد في رواية كيف عقله ورأيه قال لم نعب عليه عقلا ولا رأيا قط قال فاشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم قلت بل ضعفاؤهم أي والمراد باشراف الناس أهل النخوة واهل التكبر فلا يرد مثل أبي بكر وعمر وحمزة رضي الله عنهم ممن أسلم قبل هذا السؤال
وعند ابن اسحاق رحمه الله تعالى تبعه منا الضعفاء والمساكين والاحداث وأما ذوو الأحساب والشرف فما تبعه منهم أحد وهو محمول على الأكثر الأغلب أي الأكثر والأغلب أن أتباعه صلى الله عليه وسلم ضعفاء قال فهل يزيدون أو ينقصون قلت بل يزيدون قال فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه أي كراهة له وعدم رضا به بعد أن يدخل فيه قلت لا ولا يقال هذا منقوض بما لعبد الله بن جحش حيث ارتد ببلاد الحبشة لأنه يرتد كراهية للإسلام بل لغرض نفساني كما تقدم قال فهل يغدر إذا عاهد قلت لا ونحن الآن منه في ذمة لا ندري ما هو فاعل فيها قال فهل قاتلتموه قلت نعم قال فكيف حربكم وحربه قلت دول وسجال ندل عليه مرة أي كما في أحد ويدال علينا أخرى أي كما في بدر قد تقدم في أحد أن أبا سفيان رضي الله عنه قال يوم أحد بيوم بدر والحرب سجال أي نوب
وفي لفظ قال ابو سفيان انتصر علينا مرة يوم بدر وأنا غائب ثم غزوتهم في بيوتهم ببقر البطون وبجدع الآذان والأنوف والفروج واشار بذلك إلى يوم أحد
قال فما يأمركم به قلت يأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك به شيئا أي والذي
____________________
(3/285)
في البخاري يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ويأمرنا بالصلاة والصدقة وفي لفظ والزكاة وفي لفظ جمع بين الصدق الصدقة والعفاف أي ترك المحارم وخوارم المرؤءة ويأمرنا بالوفاء بالعهد وأداء الأمانة
فقال لترجمانه قل له إني سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم ذو نسب وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها وسألتك هل هذا القول قاله أحد منكم قبله فزعمت أن لا تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ماقال فزعمت أن لا فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله تعالى وسألتك هل كان من آبائه ملك فقلت لا فلو كان من آبائه ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم فقلت ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل أي لأن الغالب أن أتباع الرسل أهل الاستكانة لا أهل الاستكبار وسالتك هل يزيدون أو ينقصون فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم وسألتك هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فزعمت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب إذا حصل به انشراح الصدور والفرح به لا يسخطه أحد وسألتك هل قاتلتموه قلت نعم وإن حربكم وحربه دول وسجال يدال عليكم مرة وتدالون عليه أخرى وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون له العاقبة وسألتك ماذا يأمركم به فزغمت أنه يأمركم بالصلاة والصدقة والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة أي وفي البخاري وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر أي لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يناله طالبه إلا بالغدر فعلمت أنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أظن أنه فيكم وإن كان ما حدثني به حقا فيوشك أي يقرب أن يملك موضع قدمي هاتين
أي وذكر بعضهم أن هذا يدل على أن هذه الأشياء التي سأل عنها هرقل كانت عنده في الكتب القديمة من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم
وفيه أن هذا لا يأتي مع قوله ما تقدم إذ هو يقضي أن ذلك علامة على رسالة كل رسول ثم قال قيصر ولو أعلم أني أخلص أي أصل إليه لتجشمت أي تكلفت مع المشقة لقيه أي وفي لفظ آخر لا استطيع أن أفعل إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى ولا عذر له في هذا لأنه قد عرف صدق النبي
____________________
(3/286)
صلى الله عليه وسلم وإنما شح بالملك فطلب الرياسة وآثرها على الإسلام ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي وما زالت عنه الرياسة
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى أو تفطن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب إليه أسلم تسلم وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة لسلم أو أسلم من كل ما يخافه ولكن التوفيق بيد الله
ثم قال ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه أي مبالغة في خدمته والتعبد له ولا أطلب منه ولاية ولا منصبا
قال ابو سفيان ثم دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرىء عليه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أي ولم يتبع الهدى فلا سلام عليه فليس في هذا بداءة الكافر بالسلام اما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أي بالكلمة الداعية للإسلام وهي كلمة التوحد أي اليها فلاباء موضع إلى أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين أي لإيمانك بعيسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم أو لإيمان أتباعك بسبب إيمانك فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين أي فلاحين القرى أي ومن ثم جاء في رواية إثم الفلاحين وفي رواية إثم الأكارين والأكار الفلاح لأن أهل السواد وما والاهم أهل فلاحة والمراد ثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لأمرك وخص هؤلاء بالذكر لأنهم أسرع انقيادا من غيرهم لأن الغالب عليهم الجهل والجفاء وقلة الدين والمراد عليك مع إثمك إثم رعاياك لأنه إذا أسلم أسلموا وإذا امتنع امتنعوا فهو متسبب في عدم إسلامهم والفاعل لمعصية المتسبب لارتكاب غيره لها عليه الإثم من جهتين جهة فعله وجهة تسببه ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلى الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون والواو في قوله صلى الله عليه وسلم ويا أهل الكتاب عاطفة على مقدر معطوف على قوله أدعوك والتقدير أدعوك بدعاية الاسلام وأقول لك ولأتباعك يا أهل الكتاب
قيل وهذه الآية كتبها صلى الله عليه وسلم قبل نزولها لأنها إنما نزلت في وفد نجران وذلك في سنة تسع وهذه القصة كانت في سنة ست وقيل بعد نزولها لأن نزولها كان في اول الهجرة في شان اليهود قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى وجوز بعضهم نزولها مرتين وهو بعيد كذا قال فليتأمل
____________________
(3/287)
قال ابو سفيان رضي الله تعالى عنه فلما قضى مقالته وفرغ من الكتاب علت أصوات الذين حوله وكثر لغطهم أي اصواتهم التي لا نفهم
وفي البخاري كثر عنده الصخب وارتفاع الأصوات والصخب اختلاط الأصوات عند المخاصمة زاد البخاري فلا أدري ما قالوا وأمر بنا فأخرجنا فلما خرجت أنا وأصحابي وخلصنا قلت لهم لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أي عظم أمره هذا ملك بني الاصفر يخافه فما زلت موقنا أن سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام أي فأظهرت ذلك اليقين لا أنه ارتفع وفي لفظ فما زلت مرعوبا من محمد حتى أسلمت
وقد تقدم الكلام على كبشة وهو أن جد وهب لأمه أبو آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم كان يكنى أبا كبشة قال في شرح مسلم وهو الذي كان يعبد الشعرى وأبو سلمة أم جده عبد المطلب كان يكنى أبا كبشة وزوج مرضعته صلى الله عليه وسلم كان يكنى ابا كبشة وتقدم الكلام أيضا عن بني الأصفر
ويروى أن أبا سفيان رضي الله تعالى عنه قال لقيصر لما سأله هل كنتم تتهمونه بالكذب فقال لا لكن أخبرك عنها أيها الملك خبرا تعرف به أنه قد كذب قال وما هو قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا ورجع إلينا في تلك الليلة قبل الصباح فقال بطريق أي قائد من قواد الملك كان واقفا عند رأس قيصر صدق أيها الملك فنظر إليه قيصر فقال ما أعلمك بهذا قال إني كنت لا أنام ليلة أبدا حتى أغلق أبواب المسجد فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني فلم نستطع أن نحركه كانما نزاول جبلا فدعوت النجارين فنظروا إليه فقالوا لا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فلما أصبحت جئت إليه فإذا الحجر الذي في زواية المسجد مثقوب قال في النور الذي يظهر لي أنه الصخرة أي المراد بالصخرة في بعض الروايات كما قدمناه وإذا فيه أثر مربط الدابة فقلت لأصحابي ما حبس هذا الباب الليلة إلا لهذا الأمر فقال قيصر لقومه يا قوم ألستم تعلمون أن بين يدي الساعة نبيا بشركم به عيسى ابن مريم ترجون أن يجعله الله فيكم قالوا بلى قال فإن الله جعله في غيركم وهي رحمة الله عز وجل يضعها حيث شياء أي وأمر بإنزال دحية وإكرمه
وذكر أن ابن أخي قيصر أظهر الغيظ الشديد وقال لعمه قد ابتدأ بنفسه وسماك
____________________
(3/288)
صاحب الروم ألق به يعني الكتاب فقال له والله إنك لضعيف الراي أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر هو حق ان يبدأ بنفسه ولقد صدق أنا صاحب الروم والله مالكي ومالكه أي وفي لفظ أن أخا قيصر لما سمع الترجمان يقرأ من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم ضرب في صدر الترجمان ضربة شديدة ونزع الكتاب من يده وأراد أن يقطعه فقال له قيصر ما شأنك فقال تنظر في كتاب رجل قد بدأ بنفسه قبلك وسماك قيصر صاحب الروم وما ذكر لك ملكا فقال له قيصر إنك أحمق صغير أو مجنون كبير أتريد أن تمزق كتب رجل قبل أن أنظر فيه ولعمري إن كان رسول الله كما يقول لنفسه أحق أن يبدأ بها مني ولئن سماني صاحب الروم لقد صدق ما أنا إلا صاحبهم وما أملكهم ولكن الله سخرهم لي ولو شاء لسلطهم علي كما سلط فارس على كسرى فقتلوه
ولما جاءه صلى الله عليه وسلم الخبر عن قيصر قال ثبت ملكه وفي لفظ سيكون لهم بقية ولقد صدق الله ورسوله
فقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى أن الملك المنصور قلاوون أرسل بعض امرائه إلى ملك المغرب بهدية فارسله ملك المغرب إلى ملك الفرنج في شفاعة فقبله وأكرمه وقال له لأتحفنك بتحفة سنية فأخرج له صندوقا مصفحا بالذهب وأخرج منه مقلمة وفي لفظ قصبة من الذهب
فعن السهيلي رحمه الله تعالى قال بلغني ان هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيما له فأخرج منها كتابا قد زالت أكثر حروفه وقد الصق عليه خرقه حرير فقال هذا كتاب نبيكم لجدي قيصر ما زلنا نتوراثه إلى الآن وذكر لنا آباؤنا عن آبائم أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزول الملك عنا فنحن غاية الحفظ ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا أي ولا ينافيه ما جاء إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده لأن المراد إذا زال ملكه عن الشام لا يخلفه فيه أحد وكان كذلك لم يبق إلا ببلاد الروم
أي ويروى أن قيصر لما رجع من بيت المقدس إلى محل دار ملكه وهي حمص أي فإنه لما ظهر على الفرس وأخرجهم من بلاده نذر أن يأتي بيت المقدس ماشيا شكرا لله فلما اراد الذهاب إلى بيت المقدس ماشيا بسط له البسط وطرح له عليها الرياحين ولا زال يمشي على ذلك إلى أن وصل بيت المقدس كما سيأتي فلما رجع إلى حمص كان له فيها
____________________
(3/289)
قصر عظيم فأغلق أبوابه وأمر مناديا ينادي ألا أن هرقل قد آمن بمحمد واتبعه فدخلت الأجناد في سلاحها وطافت بصره تريد قتله فأرسل إليهم إني اردت اختبار صلابتكم في دينكم فقد رضيت فرضوا عنه
والذي في البخاري أن قيصر لما سار إلى حمص أذن لعظماء الروم في دسكرة له ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتايعوا هذا النبي فحاصوا حيصة حمر الوحس إلى الأبواب فوجدوها قد أغلقت فلما رأى قيصر نفرتهم وأيس من الإيمان منهم أي وقالوا له أتدعونا أن نترك النصرانية ونصير عبيدا لأعرابي فقال ردوهم علي وقال إني قلت مقالتي أختبر بها شدتكم على شدتكم على دينكم فقد رايت فسجدوا له ورضوا عنه وعند ذلك كتب كتابا وأرسله مع دحية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه إني مسلم ولكنني مغلوب وأرسل بهدية لما قرىء عليه صلى الله عليه وسلم الكتاب قال كذب عدو الله ليس بمسلم وقبل صلى الله عليه وسلم هديته وقسمها بين المسلمين ومصداق قوله صلى الله عليه وسلم أن قيصر بعد هذه القصة بدون سنتين قاتل المسلمين بغزوة مؤتة
وفي صحيح ابن حبان عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أيضا من تبوك يدعوه وأنه قارب للإجابة ولم يجب وفي مسند الإمام أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم إني مسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذب إنه على نصرانيته وفي لفظ كذب عدو الله والله إنه ليس بمسلم
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله فعلى هذا إطلاق صاحب الاستيعاب أنه آمن أي أظهر التصديق لكنه لم يستمر عليه ولم يعلم بمقتضاه بل شح بملكه وآثر العافية على العاقبة لعنه الله عليه أي لأنه تحقق كفره أي وقد ذكر حامل كتابه إليه صلى الله عليه وسلم قال جئت تبوك فإذا هو جالس بين ظهراني أصحابه محتبيا فقلت أين صاحبكم قيل هو هذا فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه فناولته كتابي فوضعه في حجره ثم قال من أنت قلت أنا أحد تنوخ قال هل لك في الإسلام دين الحنيفية ملة إبراهيم قلت إني رسول قوم وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين } فلما فرغ من قراءة كتابي قال إن لك حقا وإنك رسول فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها إنا قوم سفر
____________________
(3/290)
فقال رجل أنا أجوزه فأتى بحلة فوضعها في حجري فسألت عنه فقيل لي إنه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس على يد عبد الله بن حذافة أي لأنه كان يتردد عليه كثيرا
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السهمي وقيل أخاه خنيسا وقيل أخاه خارجة وقيل شجاع بن وهب وقيل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم إلى كسرى وبعث معه كتابا مختوما فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أسلم تسلم فإن أبيت فعليك إثم المجوس أي الذين هم أتباعك قال عبدالله بن حذافة رضي الله عنه فأتيت إلى بابه وطلبت الإذن عليه حتى وصلت إليه فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ عليه فأخذه ومزقه
أي وفي رواية أن كسرى لما أعلم بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن بحامل الكتاب أن يدخل عليه فلما وصل أمر كسرى أن يقبض منه الكتاب فقال لا حتى أدفعه إليك كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كسرى ادنه فدنا فناولته الكتاب فدعا من يقرؤه فقرأ فإذا فيه من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس فأغضبه حين بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وصاح ومزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه وأمر باخراج حامل ذلك الكتاب فأخرج فلما رأى لك قعد على راحلته وسار فلما ذهب عن كسرى سورة غضبه بعث فطلب حامل الكتاب فلم يجده فلما وصل إليه صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر قال صلى الله عليه وسلم مزق كسرى ملكه
وكتب كسرى إلى بعض أمرائه باليمن يقال له باذان بلغني ان رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي فسر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إني برأسه يكتب إلي هذا الكتاب أي الذي بدأ فيه نفسه وهو أي وفي رواية إن تكفيني رجلا
____________________
(3/291)
خرج بارضك يدعوني إلى دينه وإلا فعلت فيك كذا يتوعده فابعث إليه برجلين جلدين فيأ تيأني به فبعث باذان بكتاب كسرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع قهر مانه وبعث معه رجلا آخر من الفرس وبعث معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى فخرجا وقدما الطائف فوجدا رجلا من قريش في ارض الطائف فسألاه عنه فقال هو بالمدينة فلما قدما عليه صلى الله عليه وسلم المدينة قالا له شاهنشاه ملك الملوك كسرى بعث إلى الملك باذن يأمره أن يبعث إليك من يأتي بك وقد بعثنا إليك فان أبيت هلكت وأهلكت قومك وخربت بلادك وكانا على زي الفرس من حلق لحاهم وإعفاء شواربهم فكره صلى الله عليه وسلم النظر إليهما ثم قال لهما ويلكما من أمركما بهذا قالا أمرنا ربنا يعنيان كسرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أمرني بي باعفاء لحيتي وقص شاربي ثم قال لهما ارجعا حتى تأتياني غدا وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى ابنه يقتله في شهر كذا في ليلة كذا فلما كان الغد دعاهما وأخبرهما الخبر وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى باذان إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى يوم كذا من شهر كذا فلما أتى الكتاب باذان توقف وقال إن كان نبيا فسيكون ما قال فقتل الله كسرى في اليوم الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد ولده شيرويه قيل قتله ليلا بعد ما مضى من الليل سبع ساعات فيكون المراد باليوم في تلك الرواية مجرد الوقت أي وفي راية قال صلى الله عليه وسلم لرسول باذان اذهب إلى صاحبك وقل له إن ربي قد قتل ربك الليلة ثم جاء الخبر بأن كسرى قتل تلك الليلة فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم فلما جاءه صلى الله عليه وسلم هلاك كسرى قال لعن الله كسرى أول الناس هلاكا فارس ثم العرب
وعن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال لتفتحن عصابة من المسلمين أو المؤمنين أو رهط من أمتي كنوز كسرى التي في القصر الأبيص فكنت أنا وأبي فيهم واصبنا نم ذلك ألف درهم وقدم على باذان كتاب ولد كشرى شيرويه فيه اما بعد فقد قتلت كسرى ولم اقتله إلا غضبا لفارس فانه قتل اشرافهم فتفرق الناس فإذا جاءك كتابي هذا فخذلي الطاعة ممن قبلك وانظر الرجل الذي كان كسرى يكتب إليك فيه فلا تزعجه حتى يأتيك أمري فيه فبعث باذان بإسلامه وإسلام من معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا
____________________
(3/292)
وفي رواية أنه قيل صلى الله عليه وسلم إن كسرى قد استخلف ابنته فقال لا يفلح قوم تملكهم امرأة ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للنجاشي ملك الحبشة على يد عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه إلى النجاشي وبعث معه كتابا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة سلم أنت أي أنت سالم لأن المسلم يأتي بمعنى السلامة فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة أي العفيفة أي المنقطعة عن الرجال التي لا شهوة لها فيهم أو المنقطعة عن الدنيا وزينتها ومن ثم قيل لفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم البتول فحملت بعيسى حملته من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني فإني رسول الله وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى فلما وصل إليه الكتاب وضعه على عينيه ونزل من سريره فجلس على الأرض ثم أسلم ودعا بحق من عاج أي وهو عظم الفيل وجعل فيه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لن تزال الحبشة بخير ما كان هذا الكتاب بين أظهرهم
أي وفي كلام بعضهم وبعث صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فكان أو رسول وكتب إليه كتابين يدعوه في أحدهما إلى الإسلام وفي الآخر يأمره أن يزوجه صلى الله عليه وسلم أم حبيبة فأخذ الكتابين وقبلهما ووضعهما على رأسه وعينيه نزل عن سريه تواضعا ثم أسلم وشهد شهادة الحق
وكتب إليه صلى الله عليه وسلم النجاشي أي جواب الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من النجاشي أصحمة السلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته الذي لا إله إلا هو زاد في لفظ الذي هداني للإسلام أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام فورب
____________________
(3/293)
السماء والأرض إن عيسى عليه الصلاة والسلام لا يزيد على ما ذكرت وقد عرفنا ما بعث به إلينا وقد قر بنا ابن عمك وأصحابه يعني جفعر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين رضي الله عنهم فاشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك أي جعفر بن أبي طالب واسلمت على يده لله رب العالمين أي وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم اتركوا الحبشة ما تركوكم
وذكر أن عمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه قال للنجاشي أي عند إعطائه الكتاب يا اصحمة إن علي القول وعليك الاستماع إنكا كأنك في الرقة علينا منا وكأنا في الثقة بك منك لأنا لم نظن بك خيرا قط إلا نلناه ولم نحفظك على شر قط إلا أمناه وقد أخذنا الحجة عليك من قبل آدم والإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد وقاض لا يجوز في ذلك موقع الخير وإصابة الفضل وإلا فأنت في هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم كاليهود في عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم له وأمنك على ما خافهم عليه لخير سالف وأجر ينتظر فقال النجاشي أشهد بالله إنه للنبي الذي ينتظره أهل الكتاب وأن بشارة موسى عليه الصلاة والسلام براكب الحمار كبشارة عيسى عليه الصلاة والسلام براكب الجمل وأن العيان ليس بأشفى من الخبر زاد بعضهم ولكن أعواني من الحبشة قليل فأنظرني حتى أكثر الأعوان والين القلوب
أقول كذا في الأصل وهو صريح في أن هذا المكتوب اليه هو الذي هاجر إليه المسلمون سنة خمس من النبوة ونعاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم توفى وصلى عليه بالمدينة منصرفه صلى الله عليه وسلم من تبوك وذلك في السنة التاسعة
والذي قاله غيره كابن حزم أن هذا النجاشي الذي كتب إليه صلى الله عليه وسلم وسلم الكتاب وبعث به عمرو بن أمية الضمري لم يسلم وأنه غير النجاشي الذي صلى الله عليه وسلم الذي آمن به وأكرم أصحابه وفي صحيح مسلم ما يوافق ذلك
ففيه عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النجاشي الذي كتب إليه ليس بالنجاشي الذي صلى عليه ويرد بأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم كتب للنجاشي الذي عليه وللنجاشي الذي تولى بعده على يد عمرو بن أمية فلا مخالفة
____________________
(3/294)
ومن ثم قال في النور والظاهر أن هذه الكتابة متأخرة عن الكتابة لأصحمة الرجل الصالح الذي آمن به صلى الله عليه وسلم وأكرم أصحابه هذا كلامه
وفيه أن رد الجواب على النبي صلى الله عليه وسلم بالكتاب المذكور ورده على عمرو ابن أمية بقوله أشهد بالله إنه النبي الذي ينتظره أهل الكتاب إلى آخره إنما يناسب الأول الذي هو الرجل الصالح ويكون جواب الثاني لم يعلم وقد تقدم عن ابن حزم أنه لم يسلم
وقال بعضهم إنه الظاهر وحينئذ يكون الراوي خلط فوهم أن المكتوب إليه ثانيا هو المكتوب إليه أولا كما اشار إليه في الهدى والله أعلم ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للمقوقس ملك القبط
وهم أهل مصر الإسكندرية وليسوا من بني إسرائيل على يد حاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى المقوقس أي فإنه صلى الله عليه وسلم عند منصرفه من الحديبية قال ايها الناس أيكم ينطلق بكتابي هذا إلى صاحب مصر وأجره على الله فوثب إليه حاطب رضي الله عنه وقال انا يا رسول الله قال بارك الله فيك يا حاطب قال حاطب رضي الله عنه فأخذت الكتاب وودعته صلى الله عليه وسلم وسرت إلى منزلي وشددت على راحلتي وودعت أهلي وسرت زاد السهيلي وانه صلى الله عليه وسلم أرسل مع حاطب جبير مولى أبي رهم الغفاري فإن جبيرا هو الذي جاء بمارية من عند المقوقس
واعترض بأن هذا لا يلزمه أن يكون صلى الله عليه وسلم أرسل جبيرا مع حاطب للمقوقس لجواز ان يكون المقوقس ارسل جبيرا مع حاطب والمقوقس لقب وهو لغة المطول للبناء واسمه جريج بن مينا بعث معه صلى الله عليه وسلم كتابا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط سلام على من اتبع الهدى أما بعد فانى أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين
____________________
(3/295)
فإن توليت فإنما عليك إثم القبط أي الذين هم رعاياك ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدو بأنا مسلمون وختم الكتاب وجاء به حاطب رضي الله تعالى عنه حتى دخل على المقوقس بالإسكندرية أي بعد أن ذهب إلى مصر فلم يجده فذهب إلى الإسكندرية فأخبر أنه في مجلس مشرف على البحر فركب حاطب رضي الله عنه سفينة وحاذى مجلسه وأشار بالكتاب إليه فلما رآه أمر باحضاره بين يديه فلما جيىء به نظر إلى الكتاب وفضه وقرأه وقال لحاطب ما منعه إن كان نبيا أن يدعو على من خالفه أي من قومه وأخرجوه من بلده إلى غيرها أن يسلط عليهم فاستعاد منه الكلام مرتين ثم سكت فقال له حاطب ألست تشهد أن عيسى ابن مريم رسول الله فماله حيث أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه أن لا يكون دعا عليهم أن يهلكهم الله تعالى حتى رفعه الله إليه قال احسنت أنت حكيم جاء من عند حكيم ثم قال له حاطب رضي الله تعالى عنه إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى يعني فرعون { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } فانتقم به ثم انتقم منه فاعتبر بغيرك ولا يعتبر غيرك بك إن هذا النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش وأعداهم له يهود وأقربهم منه النصارى ولعمري ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة والسلام إلا كبشارة عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوارة إلى الإنجيل كل نبي أدرك قوما فهم أمته فالحق عليهم أن يطيعوه فأنت ممن أدرك هذا النبي ولسنا ننهاك عن دين المسيح عليه السلام ولكنا نأمرك به فقال إني قد نظرت في امر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى عن مرغوب عنه ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكذاب ووجدت معه آلة النبوة باخراج الخبء بفتح الخاء المعجمة وهمز في آخره أي الشيء الغائب المستور والإخبار بالنجوى أي يخبر بالمغيبات وسأنظر وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وجعله في حق عاج وختم عليه ودفعه إلى جارية له
ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية فكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام عليك أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعوا إليه وقد علمت أن نبيا قد بقي وقد كنت
____________________
(3/296)
أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك أي فإنه قد دفع له مائة دينار وخمسة أثواب وبعثت لك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم أي وهما مارية وسيرين بالسين المهملة مكسورة وبثياب أي وهوي عشرون ثوبا من قباطي مصر قال بعضهم وبقيت تلك الثياب حتى كفن صلى الله عليه وسلم في بعضها
وفي كلام هذا البعض وأرسل له صلى الله عليه وسلم عمائم وقباطي وطيبا وعودا وندا ومسكا مع ألف مثقال من الذهب ومع قدح من قوراير فكان صلى الله عليه وسلم يشرب فيه أي لأنه سأل حاطبا رضي الله عنه فقال أي طعام أحب إلى صاحبكم قال الدباء يعني القرع ثم قال له في أي شيء يشرب قال في قعب من خشب ثم قال وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام عليك ولم يزد على ذلك ولم يسلم
ولا يخفى أنه سيأتي أنه أهدى إليه صلى الله عليه وسلم زيادة على الجاريتين جارية أخرى اسمها قيسر وهي أخت ماوية ولعله إنما اقتصر على ذكر الجاريتين دون هذه الثالثة مع أنها اخت مارية لأنها دونهما في الحسن
وذكر بعضم أن سيرين أيضا أخت مارية فالثلاث أخوات
وفي ينبوع الحياة لابن ظفر فأهدى إليه صلى الله عليه وسلم المقوقس جواري اربعا أي ويواقفه قول بضعهم وارسل إليه صلى الله عليه وسلم جارية سوداء أسمها بريرة
وفي كلام بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم أهدى إحدى الجاريتين لأبي جهم بن قيس العبدي فهى أم زكريا بن جهم الذي كان خليفة عمرو بن العاص على مصر وأخرى اهداها لحسان بن ثابت وهي ام عبد الرحمن بن حسان كما تقدم في قصة الإفك وأهدى اليه المقوقس زيادة على ذلك خصيا أي مجبوبا أي غلام أسود يقال له مأبور باثبات الراء وقيل بحذفها وقيل هابو أي بالهاء بدل الميم واسقاط الراء ابن عم مارية وكونه كان مجبوبا عند إرساله وكان المهدي له المقوقس هو المشهور
وفي كلام بعضهم أن الهدى له جريج بن مينا القبطي الذي كان على مصر من قبل هرقل وأنه لم يكن حال الإرسال مجبوبا وأنه قدم مع مارية فأسلم وحسن إسلامه وكان يدخل عليها وأنه رضى من مكانه من دخوله على سرية النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(3/297)
ان يجب نفسه فقطع ما بين رجليه حتى لم يبق منه شىء فليتأمل وسيأتي ما وقع له واهدى له المقوقس زيادة على البغلة وهي الدلدل في اللغة اسم للقنفذ العظيم وكانت انثى ولا يستدل بلحوق التاء لها لأنها للوحدة
وفي كلام بعضهم أجمع أهل الحديث على أن بغلة النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم كانت ذكرا لا انثى واول من استنتج البغال قارون قالوا والبغل أشبه بأمه منه بأبيه
قيل ولم يكن يومئذ في العرب بغلة غيرها وقد قال له سيدنا علي رضي الله عنه لو حملنا الحمر على الخيل لكان لنا مثل هذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انما يفعل ذلك الذين لا يعلمون قال ابن حيان أي الذين لا يعلمون النهى عنه
وفيه أن الله امتن بها كالخيل والحمير ولا يقع الامتنان بالمكروه وحمارا أشهب يقال له يعفورا وعفير بالعين المهملة مضمومة وضبطه القاضي عياض بالمعجمة وغلط في ذلك مأخوذ من العفرة وهي لون التراب وفرسا وهو اللزاز أي فإن المقوقس سأل حاطبا رضي الله عنه ما الذي يحب صاحبك من الخيل فقال له حاطب الاشقر وقد يركب عنده فرسا يقال له المرتجز فانتخب له صلى الله عليه وسلم فرسا من خيل مصر الموصوفة فأسرج وألجم وهو فرسه صلى الله عليه وسلم الميمون
وأهدى له صلى الله عليه وسلم عسلا من بنها بكسر الباء الموحدة قرية من قرى مصر وأعجب به صلى الله عليه وسلم ودعا في عسل بنها بالبركة لأنه حين أكل منه قال إن كان عسلكم أشرف فهذا أحلى ثم دعا فيه بالبركة
وأهدى إليه مربعة يضع فيها المكحلة وقارورة الدهن والمشط والمقص والمسواك ومكحلة من عيدان شامية ومرآة ومشطا أي فان المقوقس سأل حاطبا عن النبي صلى الله عليه وسلم هل يكتحل فقال له نعم وينظر في المرآة ويرجل شعره ولا يفارق خمسا في سفر كان أو في حضر وهي المرآة والمكحلة والمشط والمدرى والمسواك والمدرى شيء كالمسلة يفرق به بين شعر الرأس ويحك به لأن حكه بالاصبع يشوش الشعر ويلوى بها قرون شعر الرأس
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها سبع لما تفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ولا حضر القارورة التي يكون فيها الدهن والمكحلة والمقراض أي المقص
____________________
(3/298)
والمسواك والمرآة زاد بعضهم والإبرة والخيط ولعل عدم ذكر ذلك في الكتاب أنه لم يره شيئا ينبغي ذكره
أي وقد قال بعضهم إن المقوقس أرسل مع الهدية طبيبا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ارجع إلى أهلك نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا اكلنا لا نشبع
واعترض كون الحمار الذي أرسله المقوقس يسمى يعفورا بأن الحمار الذي يسمى يعفور أهداه له فروة بن عمرو الجذامي عامل قيصر
وأهدى إليه أيضا بغلة شهباء يقال لها فضة وفرسا يقال له الظرب كما تقدم
ثم رايت بعضههم سمى الحمار الذي أهداه عامل قيصر عفيرا أيضا وعليه فتسميه حمار المقوقس عفيرا أيضا كما في الأصل أن الحمار الذي أهداه المقوقس يقال له يعفورا وعفير من خلط بعض الرواة فلا منافاة وفي هذا قبول هدية المشركين وقد تقدم رده صلى الله عليه وسلم لهداياهم وقال لا أقبل زبد المشركين
ومما يشكل عليه أيضا أنه صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية أهدى صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان عجوة استهداه أدما فأهداه إليه ابو سفيان وهو على شركه
وذكر أن المقوقس قال لحاطب رضي الله عنه القبط لا يطاوعوني في اتباعه ولا أحب أن تعلم بمحاورتي إياك وأنا أضن أي أبخل بملكي أن أفارقه وسيظهر على البلاد وينزل بساحتنا هذه أصحابه فارجع إلى صاحبك وارحل من عندي ولا تسمع منك القبط حرفا واحدا قال حاطب رضي الله عنه فرحلت من عنده أي وبعث معه جيشا إلى أن دخل جزيرة العرب ووجد قافلة من الشام تريد المدينة فرد الجيش وارتفق بالقافلة
قال حاطب وذكرت قوله للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ضن الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه
ومن ثم ذكر بعضهم أن هرقل لما علم ميل المقوقس إلى الإسلام عزله ويخالفه قول بعضهم وبعث أبو بكر رضي الله عنه حاطبا هذا إلى المقوقس بمصر فصالح القبط إلا أن يقال يجوز أن يكون المقوقس عاد لولايته بعد عزله
وذكر بعضهم أن باني الإسكندرية لما أراد بناءها قال أبني مدينة فقيرة إلى الله غنية
____________________
(3/299)
عن الناس فدامت وبنى أخوه مدينة قال عند إراده بنائها ابني مدينة فقيرة إلى الناس غنية عن الله فسلط عليها الله الخرب في أسرع وقت
ولما فتح عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه مصر وقف على بعض ما بقي من آثار تلك المدنية فسال عن ذلك فأخبر بهذا الخبر ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم للمنذر بن ساوي العبدي بالبحرين على يد العلاء بن الحضرمي
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى وبعث معه كتابا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى سلام عليك فإني أحمد الله إليك لا إله إلا هو وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أما بعد فإني اذكرك الله عز وجل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه وإنه من يطع رسلي وتبع أمرهم فقد أطاعني ومن نصح لهم فقد نصح لي وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرا وإني قد شفعتك في قومك فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية أني وهذا جواب كتاب أرسله المنذر جوابا لكتاب أرسله له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يدعوه إلى الإسلام فأسلم وحسن إسلامه
أقول ولم أقف على ذلك الكتاب ولا على حامله والظاهر أنه العلاء المذكور فقد ذكر السهيلي رحمه الله أن العلاء قدم على المنذر بن ساوى فقال له يا منذر إنك عظيم العقل في الدنيا فلا تصغرن عن الآخرة إن هذه المجوسية شر دين ينكح فيها ما يستحيا من نكاحه ويأكلون ما يتكره من أكله وتعبدون في الدنيا نارا تأكلكم يوم القيامة ولست بعديم عقل ولا رأى فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا أن لا نصدقه ولمن لا يخون أن لا نأتمنه ولمن لا يخلف أن لا نثق به فإن كان هذا هكذا فهذا هو النبي الأمي الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول ليت ما أمر به نهى عنه أو ما نهى عنه أمر به فقال المنذر قد نظرت في هذا الذي في يدي فوجدته للدنيا دون الآخرة ونظرت في دينكم فرايته للآخرة والدنيا فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة
____________________
(3/300)
وراحة الموت ولقد عجبت أمس ممن يقبله وعجبت اليوم ممن يرده وإن من إعظام من جاء به أن يعظم رسوله وسأنظر والله أعلم
ومن جملة كتاب المنذر أي الذي هذا الكتاب جوابه أما بعد يا رسول الله فإني قرأت كتابك على أهل البحرين فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه ومنهم من كرهه وبأرضي مجوس ويهود فأحدث لي في ذلك أمرك
وذكر ابن قانع أن المنذر المذكور وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الصحابة قال ابو الربيع ولا يصح ذلك ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى جعفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان
أي بضم العين المهملة وتخفيف الميم بلدة من بلاد على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى جيفر وعبد أبني الجلندي وبعث معه كتابا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن عبد الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوكما بدعاية الإسلام أسلما تسلما فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما وإن أبيتما أن تقرا الإسلام فإن ملككما زائل عنكما وخيلي تحل أي تنزل بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما وختم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب
قال عمرو ثم خرجت حتى انتهيت إلى عمان فعمدت إلى عبد وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا فقلت إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك فقال أخي المقدم علي بالسن والملك وأنا أوصلك به حتى يقرأ كتابك ثم قال وما تدعوا اليه قلت أدعو إلى الله وحده وتخلع ما عبد من دونه وتشهد أن محمدا عبده ورسوله قال يا عمر إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك يعني العاص بن وائل فإن لنا فيه قدوة قلت مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ووددت له لو كان آمن وصدق به وقد كنت قبل على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام
____________________
(3/301)
فقال متى تبعته قلت قريبا فسألني أين كان إسلامي فقلت عند النجاشي وأخبرته أن النجاشي قد أسلم قال فكيف صنع قومه بملكه قلت أقروه واتبعوه قال والأساقفة أي رؤساء النصرانية والرهبان قلت نعم قال انظر يا عمر وما تقول إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له أي أكثر فضيحة من كذب قلت وما كذبت وما نستحله في ديننا ثم قال ما رأى هرقل علم باسلام النجاشي قلت له بلى قال بأي شيء علمت ذلك يا عمرو قلت كان النجاشي رضي الله عنه يخرج له خراجا فلما أسلم النجاشي وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم قال لا والله ولو سألني درهما واحدا ما أعطيته فبلغ هرقل قوله فقال له أخوه أتدع عبدك لا يخرج لك خراجا ويدين دينا محدثا فقال هرقل رجل رغب في دين واختاره لنفسه ما اصنع به والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع قال انظر ما تقول يا عمرو قلت والله صدقتك قال عبد فأخبرني ما الذي يأمر به وينهى عنه قلت يأمر بطاعة الله عز وجل وينهى عن معصيته ويأمر البر وصلة الرحم وينهى عن الظلم والعدوان وعن الزنا وشرب الخمر وعن عبادة الحجر والوثن والصليب فقال ما أحسن هذا الذي يدعو اليه ل كان أخى يتابعني لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ولكن أخى أضن مملكه من أن يدعه ويصير ذنبا أي تابعا
قلت إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم قال إن هذا الخلق حسن وما الصدقة فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات في الأموال أي ولما ذكرت الماشي قال يا عمرو يؤخذ من سوائهم مواشينا التي ترعى في الشجر وترد المياه فقلب نعم فقال والله ما أرى قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا
قال عمرو فمكثت أياما بباب جيفر وقد أوصل إليه أخوه خبري ثم إنه دعاني فدخلت عليه فأخذ أعوانه بضبعى أي عضدي يقال دعوه فأرسلت فذهبت لأجلس فأبوا أن يدعوني أجلس فنظرت إليه فقال تكلم بحاجتك فدفعت إليه كتابا مختوما ففض خاتمه فقرأه حتى أنتهى إلى آخره ثم دفع إلى أخيه فقرأه ثم قال ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت فقلت اتبعوه إما راغب في الدين وإما راهب مقهور ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت فقلت ابتعوه إما راغب في الدين وإما راهب مقهور بالسيف قال ومن معه قلت الناس قد رغبوا في الاسلام واختاروه على غيره
____________________
(3/302)
وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم أنهم كانوا في ضلال مبين فما أعلم احدا يبقى غيرك في هذه الخرجة وأنت لم تسلم اليوم وتتبعه تطؤك الخيل وتبد خضراءك أي جماعتك فأسلم تسلم ويستعملك على قومك ولا تدخل عليك الخيل والرجال قال دعني يوني هذا وارجع إلي غدا فلما كان الغد أتيت إليه فأبى أن يأذن لي فرجعت إلى أخيه فأخبرته أني لم أصل إليه فأوصلني إليه فقال إني فكرت فيما دعوتني اليه فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما في يدي وهو لا تبلغ خيله ههنا وإن بلغت خيله ألفت أي وجدت قتالا ليس كقتال من لاقى قلت وأنا خارج غدا فلما أيقن بمخرجي خلا به أخنه فأصبح فأرسل إلى فأجاب إلى الاسلام هو وأخوه جميعا وصدقا وخليا بيني وبين الصدقة وبين الحكم فيما بينهم وكانا لى عونا على من خالفني ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هوذة
بالذال المعجمة وقيل بالدال المهملة قال في النور ولا أظنه إلا سبق قلم صاحب اليمامة أي وزاد بعضهم وإلى ثمامة بن أثال الحنفيين ملكي اليمامة وفيه نظر لأن ثمامة رضي الله تعالى عنه كان مسلما حينئذ على يد سليط بفتح السين المهملة بن عمرو والعامري أي لأنه كان يختلف إلى اليمامة وبعث معه كتابا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي سلام على من اتبع الهدى واعلم أن ديني سيظهر على منتهى الخف والحافر أي حيث تقطع الإبل والخيل فأسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يديك فلما قدم عليه سليط بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختوما أنزله وحياه وقرأ عليه الكتاب فرد ردا دون ردا فكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني فاجعل إلي بعض الأمر اتبعك واجاز سليطا رضي الله تعالى عنه عنه بجائزة وكساه أثوابا من نسج هجر فقدم بذلك كله على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم كتابه وقال لو سألني سيابة أي بفتح السين المهملة وتخفيف المثناة من تحت وموحدة مفتوحة أي قطعة من الأرض ما فعلت باد وباد ما في يديه
فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتح جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام فأخبره بأن هوذة قد مات فقال صلى الله عليه وسلم أما ان اليمامة سيخرج
____________________
(3/303)
بها كذاب يتنبأ يقتل بعدي أي فقال قائل يا رسول الله من يقتله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت وأصحابك فكان كذلك
أقول هذا يدل على أن القائل له صلى الله عليه وسلم ذلك هو خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه فإن أبا بكر رضي الله تعالى عنه وجهه أميرا على الجيش الذي أرسله لمقاتلة مسيلمة لعنه الله وتقدم الخلاف في قاتله والمشهور أنه وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما وكان سن هوذه مائة وخمسين سنة
ويذكر ان هوذة هذا كان عنده عظيم من عظماء النصارى حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما قال فقال له لم لا تجيبه قال أنا ملك قومي ولئن اتبعته لم أملك فقال بلى والله لئن اتبعته ليملكنك وإن الخيرة لك في اتباعه وإنه النبي العربي الذي بشر به عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وإنه لمكتوب عندنا في الإنجيل محمد رسول الله الحديث
أي وذكر السهيلي رحمه الله تعالى أن سليطا قال له يا هوذة إنه سودتك أعظم حائلة أي بالية وأرواح في النار يعني كسرى لأنه الذي كان توجه وإنما السيد من متع بالإيمان ثم تزود بالتقوى وإن قوما سعدوا برأيك فلا تشقين به وأنا آمرك بخير مأمور به وأنهاك عن شر منهي عنه آمرك بعبادة الله وأنهاك عن عبادة الشيطان فإن في عبادة الله الجنة وفي عبادة الشيطان النار فان قبلت نلت ما رجوت وأمنت ما خفت وإن أبيت فبيننا وبينك كشف الغطاء وهو الملطع فقال هوذة يا سليط سودني من لو سودك تشرفت به وقد كان لي رأى أختبر به الأمور ففقدته فاجعل لي فسحة ليرجع إلي رأي فأجيبك به إن شاء الله تعالى ذكر كتابه صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر الغساني
أي وكان بدمشق أي بغوطتها أي وهو محل معروف كثير المياه والشجر
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني وبعث معه كتابا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى حارث بن ابي شمر سلام على من اتبع الهدى وآمن به وصدق وإني ادعوك أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك وختم الكتاب
____________________
(3/304)
قال شجاع رضي الله تعالى عنه فخرجت حتى انتهيت إلى بابه فأقمت يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه إني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وجعل حاجبه يسألني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يدعو إليه فكنت أحدثه فيرق حتى يغلبه البكاء ويقول إني قرأت في الإنجيل وأجد صفة هذا النبي بعينه فكنت أراه أي أظنه يخرج بالشام فأراه قد خرج بأرض القرظ أي وهو ورق أو ثمر السلم فأنا أومن به وأصدقه وأنا اخاف من الحارث بن أبي شمر أن يقتلني فكان هذا الحاجب يكرمني ويحسن ضيافتي ويخبرني عن الحارث باليأس منه ويقول هو يخاف قيصر فخرج الحارث يوما وجلس على رأسه التاج وأذن لي عليه فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه ثم رمى به ثم قال من ينزع مني ملكي أنا سائر إليه ولو كان في باليمن جئته علي بالناس فلم يزل جالسا يعرض عليه حتى الليل وأمر بالخيل أن تنعل ثم قال لي أخبر صاحبك بما ترى وكتب إلى قيصر يخبره الخبر وصادف أن كان عند قيصر دحية الكلبي رضي الله عنه بعثه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب إليه أن لا تسر إليه واله عنه أي لا تذكره واشتغل بايلياء أبي بيت المقدس ومعنى إيلياء بالعبرانية بيت الله والمراد باشتغاله بذلك أن يهيء لقيصر الإنزال ببيت المقدس فإنه نذر المشى من حمص وقيل من قسطنطينية إلى بيت المقدس ماشيا شكرا لله تعالى حيث كشف عنه جنود فارس وأظهر الله تعالى الروم على فارس ففرشوا له بسطا ونثروا عليها الرياحين وهوم يمشي عليها حتى بلغ بيت المقدس فجاء إليه كتاب قيصر أي الذي فيه أنه يلهو عنه ولا يذكره وأنا مقيم فدعاني وقال متى تريد أن تخرج إلى صاحبك قلت غدا فأمر لي بمائة مثقال ذهبا ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة وقال لي ذلك الحاجب اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وأخبره أني متبع دينه
قال شجاع فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما كان من الحارث قال با أي هلك ملكه وأقرأته السلام من الحاجب وأخبرته بما قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق
وفي كلام بعضهم وبعض أهل السير على أن الحارث أسلم ولكن قال أخاف أن أظهر إسلامي فيقتلني قيصر وذكر أبن هشام وغيره ان شجاع بن وهب إنما توجه إلى جبلة ابن الأيهم
____________________
(3/305)
ويقال إن شجاع بن وهب أرسل إلى الحارث وإلى جبلة بن الأيهم وان شجاعا قاله له يا جبلة إن قومك نقلوا هذا النبي من داره إلى دارهم يعني الأنصار فآووه ومنعوه ونصروه وإن هذا الدين الذي أنت عليه ليس بدين آبائك ولكنك ملكت الشام وجاورت الروم ولو جاورت كسرى دنت بدين الفرس فإن اسلمت أطاعتك الشام وهابتك الروم وإن لم يفعلوا كانت لهم الدنيا وكانت لك الآخرة وقد كنت استبدلت المساجد بالبيع والأذان بالناقوس والجمع بالشعانين وكان ما عند الله خير وأبقى قال جبلة إني والله لوددت أن الناس اجتمعوا على هذا النبي اجتماعهم على من خلق السموات والأرض وقد سرني اجتماع قومي له وقد دعاني قيصر إلى قتال أصحابه يوم مؤته فأبيت عليه ولكني لست ارى حقا ولا باطلا وسأنظر
وفي كلام بعضهم أنه أسلم ورد جواب كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمه بإسلامه وأرسل الهدية وكان ثابتا على إسلامه لزمن عمر رضي الله عنه فإنه حج في خلافته
أي وفي كلام بعضهم لما أسلم جبلة بن الأيهم في أيام عمر رضي الله عنه وكتب اليه يخبره بإسلامه ويستأذنه في القدوم عليه فسر عمر بذلك وأذن له فخرج في خمسين ومائتين من أهل بيته حتى إذا قارب المدينة عمد إلى أصحابة هـفحملهم على الخيل وقلدها بقلائد الذهب والفضة وألبسها الديباج وسرف الحرير ووضع تاجه على رأسه فلم تبق بكر ولا عانس إلا خرجت تنظر إليه وإلى وزيه وزينته فلما دخل على عمر رضي الله تعالى عنه رحب به وأدنى مجلسه وأقام بالمدينة مكرما فخرج عمر رضي الله تعالى عنه حاجا فخرج معه وحين تطوف بالبيت وطىء رجل من فزارة إزاره فانحل فلطم الفزاري لطمة هشم بها أنفه وكسر ثناياه أي ويقال فقأ عينه فشكا الفزاري ذلك إلى عمر رضي الله عنه فاستدعاه وقال له لم هشمت أنفه أو قال لم فقأت عينه فقال يا أمير المؤمنين تعمد حل إزراي ولولا حرمة البيت لضربت عنقه بالسيف فقال له عمر أما أنت فقد أقررت إما أن ترضيه وإلا أقدته منك وفي رواية وحكم إما بالعفو أو بالقصاص فقال جبلة فتصنع بي ماذا قال مثل ما صنعت به وفي رواية أتقتص له مني سواء وأنا ملك وهذا سوقي فقال له عمر رضي الله تعالى عنه الإسلام سوى بينكما ولا فضل لك عليه إلا بالتقوى إن كنت أنا وهذا الرجل سواء في الدين فأنا اتنصر فإني كنت
____________________
(3/306)
أظن يا أمير المؤمنين أني أكون في الإسلام أعزمني في الجاهلية فقال له عمر رضي الله تعالى عنه إذا أضرب عنقك فقال فأملهني الليلة حتى انظر في أمري قال ذلك إلى خصمك فقال الرجل أمهلته يا أمير المؤمنين فأذن له رضي الله تعالى عنه في الانصراف ثم ركب في بني عمه وهرب إلى القسطنطينية أي فدخل على هرقل وتنصر هنا ومات على ذلك وقيل عاد إلى الإسلام ومات مسلما
وكان جبلة رجلا طوالا طوله أثنا عشر شبرا وكان يمسح الأرض برجليه وهو راكب فسر هرقل به وزوجه ابنته وقاسمه ملكه وجعله من سماره وبنى له مدينة بين طرابلس واللاذقية سماها جبلة باسمه يقال إن فيها قبر إبراهيم بن أدهم
وقيل المحاكمة كانت عند ابي عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه أي فقد ذكر بعضهم أن جبلة لم يزل مسلما حتى كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فبينما هو في سوق دمشق إذ وطىء رجلا من مزينة فوثب المزنى فلطم خد جبلة فأرسله مع جماعة من قومه إلى أبي عبيدة بن الجراح فقالوا هذا لطم جبلة قال فليلطمه قالوا ما يقبل قال لا يقبل قالوا إنما تقطع يده قال لا إنما أمر الله بالقود فلما بلغ جبلة ذلك قال أتروني أني جاعل وجهي ندا لوجه بئس الدين هذا ثم ارتد نصرانيا وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم على هرقل حجة الوداع
ويقال لها حجة البلاغ وحجة الإسلام لأنه صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها ولم يحج بعدها ولأنه ذكر لهم ما يحل وما يحرم وقال لهم هل بلغت ولأنه صلى الله عليه وسلم يحج من المدينة غيرها وقيل لإخراج الكفار الحج عن وقته لأن أهل الجاهلية كانوا يؤخرون الحج في كل عام أحد عشر يوما حتى يدور الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة فيعود إلى وقته ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في هذه الحجة إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض فإن هذه الحجة كانت في السنة التي عاد فيها الحج إلى وقته وكانت سنة عشر
قال الجمهور فرض الحج كان سنة ست من الهجرة أي وصححه الرافعي في باب السير وتبعه النووي
____________________
(3/307)
وقيل فرض سنة تسع وقيل سنة عشر انتهى وبه قال ابو حنيفة ومن ثم قال إنه على الفور وقيل فرض قبل الهجرة واستغرب
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الحج وأعلم الناس بذلك ولم يحج منذ هاجر إلى المدينة غير هذه الحجة قال وأما بعد النبوة قبل الهجرة فحج ثلاثة حجات أي وقيل حجتين أي وهما اللتان بايع فيهما الانصار عند العقبة
وفي كلام ابن الأثير كان صلى الله عليه وسلم يحج كل سنة قبل أن يهاجر وفي كلام ابن الجوزي حج صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وبعدها حججا لا يعلم عددها أي وكان صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يقف بعرفات ويفيض منها إلى مزدلفة مخالفا لقريش توفيقا له من الله فإنهم كانوا لا يخرجون من الحرم فإنهم قالوا نحن بنو ابراهيم عليه الصلاة والسلام وأهل الحرم وولاة البيت وعاكفو مكة فليس لأحد من العرب منزلتنا فلا تعظموا شيئا من الحل أي كما تعظمون الحرم فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم وقالوا قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم فليس لنا أن نخرج من الحرم نحن الحمس فتركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منه إلى المزدلفة ويرون ذلك لسائر العرب قال بعض الصحابة لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي وإنه واقف على بعير له بعرفات مع الناس من بين قومه حتى يدفع معهم منها توفيقا له من الله عز وجل
وعند خروجه صلى الله عليه وسلم للحج أصاب الناس بالمدينة جدري بضم الجيم وفتح الدال وبفتحهما أو حصبة منعت كثيرا من الناس من الحج معه صلى الله عليه وسلم ومع ذلك كان معه جموع لا يعلمها إلا الله تعالى قيل كانوا أربيعن ألفا وقيل كانوا سبعين ألفا وقيل كانوا تسعين ألفا وقيل كانوا مائة ألف وأربعة عشرة ألفا وقيل وعشرين ألفا وقيل كانوا أكثر من ذلك وقد قال صلى الله عليه وسلم أي عند ذهابه عمرة في رمضان تعدل حجة أو قال حجة معي أي قال ذلك تطييبا لخواطر من تخلف وصوب بعضهم أن هذا إنما قاله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه أي الى المدينة قاله لأم سنان الأنصارية لما قال لها ما منعك أن تكوني حججت معنا وقالت لنا ناضحان حج ابو فلان تعني زوجها وولدها على أحدهما وكان الآخر نسقي عليه ارضا لنا وقال ذلك أيضا لغيرها من النسوة قاله لأم سليم ولأم طلق ولأم الهيثم ولا مانع أن يكون قال ذلك مرتين مرة عند ذهابه لما ذكر ومرة عند رجوعه لمن ذكر
____________________
(3/308)
وكان خروجه صلى الله عليه وسلم يوم الخميس لست بقين من ذي القعدة أي وقيل يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة ورجحه بعضهم وأطال في الاستدلال له وذلك سنة عشرة نهارا بعد أن ترجل وادهن وبعد أن صلى الظهر بالمدينة وصلى عصر ذلك اليوم بذي الحليفة ركعتين وطاف تلك الليلة على نسائه أي فانهن كن معه صلى الله عليه وسلم في الهوداج وكن تسعة ثم اغتسل ثم صلى الصبح أي والظهر ثم طيبته عائشة رضي الله تعالى عنه بذريرة هي نوع من الطيب مجموع من أخلاط الطيب وبطيب فيه مسك ثم أحرم صلى الله عليه وسلم أي وذلك بعد أن اغتسل لإحرامه غير غسلة الأول وتجرد في إزراه وردائه أي فقد روى الشيخان أنه صلى الله عليه وسلم أحرم في رداء وإزار ولم يغسل الطيب بل كان يرى وبيص المسك في مفارقة ولحيته الشريفة أي فإنه صلى الله عليه وسلم لبد شعر رأسه بما يلزق بعضه ببعض فلا يشعث
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها طيبته صلى الله عليه وسلم لحرمه وحله وعنها رضي الله تعالى عنها قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت رواه الشيخان وعنها قالت كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يطوف على نسائه ثم يصبح محرما ينضح طيبا وبه رد على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قوله لأن أصبح مطيبا بقطران أحب إلي من أن أصبح محرما أنضح طيبا ويؤيد ما قاله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ما تقدم في الحديبية من أمره صلى الله عليه وسلم من تطيب قبل إحرامه بغسل الطيب وتقدم ما فيه أي وصلى كما في الصحيحين عن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما ركعتين أي قبل أن يحرم وبه يرد قول ابن القيم رحمه الله تعالى لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر وأهل حيث ابنعثت به راحلته أي وهي القصواء أي وهو يرد ما روى عن ابن سعد رحمه الله تعالى حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة قد ربطوا أوساطهم ومن ثم قال ابن كثير رحمه الله تعالى إنه حديث منكر ضعيف الإسناد وإنما كان صلى الله عليه وسلم راكبا وبعض أصحابه مشاة ولم يعتمر صلى الله عليه وسلم في عمره ماشيا وأحواله صلى الله عليه وسلم أشهر من أن تخفى على الناس بل هذا الحديث منكر شاذلا يثبت مثله وكان على راحلته صلى الله عليه وسلم رحل رث يساوي اربعة دراهم وفي رواية حج صلى الله عليه وسلم على رحل وقطيفة تساوي أو لا تساوي أربعة دراهم وقال اللهم اجعله حجا مبرورا لا رياء فيه ولا سمعة وذلك عند مسجد ذي الحليفة وأحرم بالحج والعمرة معا فكان قارنا
____________________
(3/309)
قال وقيل أحرم بالجج فقط فكان مفردا وقيل بالعمر فقط أي ثم أحرم بالحج بعد فراغه من أعمال العمرة فكان متمتعا أخذا من قول بعض الصحابة إنه صلى الله عليه وسلم أحرم متمتعا وقيل أطلق إحرامه
وفي كلام السهيلي رحمه الله واختلفت الروايات في إحرامه صلى الله عليه وسلم هل كان مفردا أو قارنا أو متمتعا وكلها صحاح إلا من قال كان متمتعا وأرد أنه أهل بعمرة
قال الإمام النووي وطريق الجمع أي بين من يقول إنه أحرم قارنا ومن يقول إنه أحرم مفردا ومن يقول إنه أحرم متمتعا أنه أحرم أولا مفردا أي بالحج ثم أدخل العمرة أي وذلك أي دخول الأضعف وهي العمرة على الأقوى الذي هو الحج من خصائصه صلى الله عليه وسلم فصار قارنا ويدل لذلك حديث البخاري أنه صلى الله عليه وسلم أهل بالحج فلما كان بالعقيق أتاه آت من ربه فقال له صل بهذا الوادي المبارك وقل لبيك بحجة وعمرة معا فصار قارنا بعد أن كان مفردا
فمن روى القرآن اعتمد آخر الأمر أي ومنه قول سيدنا أنس رضي الله تعالى عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبيك عمرة وحجا
ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع والارتفاق بالقران انتهى أي بالقران المذكور الذي هو ادخال العمرة على الحج لانه يكفى فيه الاقتصار على عمل واحد في النسكين أي لا ياتي بطوافين ولا بسعيين أي وليس مراده التمتع الحقيقي بأن أحرم بعمرة فقط ثم بعد فراغه من أعمالها أحرم بالحج كما هو حقيقة التمتع ومن ثم قال بعضهم أكثر السلف يطلقون المتعة على القرآن
ومن روى الإفراد اعتمد أول الأمر ومنه قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وقد سئل عن ذلك لبى الحج وحده أو أن ابن عمر سمعه يقول لبيك بحج ولم يسمع قوله وعمرة فلم يحك إلا ما سمع وأنس رضي الله عنه سمع ذلك أي سمع الحج والعمرة أي فإن ابن عمر رضي الله عنه قيل له عن أنس بن مالك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة فقال ابن عمر لبى بالحج وحده فقيل لأنس عن ابن عمر ذلك فقال أنس رضي الله عنه ما يعدونا إلى صبيانا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبيك لبيك عمرة وحجا أي يصرح يهما جميعا وقال إني لرديف لابي طلحة وإن ركبتي لتمس ركبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(3/310)
وهو يلبى بالحج والعمرة وذلك مثبت لما قاله ابن عمر وزائد عليه فليس منا قضاله أي ودليل من قال إنه أحرم مطلقا ما رواه إمامنا الشافعي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم خرج هو وأصحابه رضي الله عنهم مهلين أي محرمين إحراما مطلقا ينتظرون القضاء أي نزول الوحي لتعيين ما يصرفون إحرامهم المطلق إليه أي بإفراد أو تمتع أو قران أي فجاءه صلى الله عليه وسلم الوحي أن يأمر من لا هدى معه ان يجعل إحرامه عمرة فيكون متمتعاومن معه هدى أن يجعله حجا فيكون مفردا لأن من معه هدى أفضل ممن لا هدى معه والحج أفضل من العمرة
ويدل لكون الصحابة أطلقوا إحرامهم ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها خرجنا نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة لكن أجيب عن ذلك بأنهم لا يذكرون ذلك مع التلبية وإن كانوا سموه حال الإحرام هذا
وفي مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بعمة فليفعل فلينظر الجمع بين هذا وما قبله
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم من لم يكن معه هدى وأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه هدى فلا أي فلا يجعلها عمرة بل يجعل إحرامه حجا ولم يذكر القران وجاء في بعض الطرق أنه أمر من كان معه هدى أن يحرم بالحج والعمرة معا
وفي بعض الروايات خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمى حجا ولا عمرة ينتظر القضاء فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة فأمر أصحابه من كان منهم أهل بالحج ولم يكن معه هدى أن يجعله عمرة
وفي الهدى الصواب أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج والعمرة معا من حين أنشأ الإحرام فهو قارن ولم يحل حتى حل منهما جميعا وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا كما دلت عليه النصوص المستفيضة التي تواترات تواترا يعلمه اهل الحديث وما ورد انه صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين لم يصح
قال وغلط من قال لبى بالحج وحده ثم أدخل عليه العمرة أتى الذي تقدم في الجمع بين الروايات عن النووي رحمه الله تعالى ومن قال لبى بالعمرة ثم ادخل عليها الحج أي وهذا لم يتقدم ومن قال أحرما إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا ثم عينه بعد احرامه أي وهو
____________________
(3/311)
ما تقدم عن إمامنا الشافعي رضي الله عنه ومن قال أفرد الحج أراد به أنه أتى بأعمل الحج ولم يفرد للعمرة أعمالا وهذا محمل ما في بعض الروايات وأفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج ولم يعتمر على أن بعض الحفاظ قال إنه حديث غريب جدا وفيه نكارة شديدة
ثم لبى صلى الله عليه وسلم أي بعد ان استقبل القبلة فقال لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك
وروى أنه زاد على ذلك لبيك إله الخلق لبيك أي وروي أنه زاد لبيك حقا تعبدا ورقا على تلبيته المذكورة والناس معه يزيدون فيها وينقصون لم ينكر عليها وبه استدل أئمتنا على عدم كراهة الزيادة على تلبيته المشهورة المتقدمة فكان ابن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها لبيك لبيك وسعديك والخير في يديك لبيك والرغباء اليك والعمل
وأتاه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه الصلاة والسلام وأمره أن يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية من شعائر الحج فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام فقال مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية فانها من شعائر الحج
واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا دجانه رضي الله عنه وقيل سباع بن عرفطة رضي الله عنه وولدت أسماء بنت عميس زوج ابي بكر الصديق رضي الله عنهما ولدها محمد بن ابي بكر رضي الله عنهم في ذي الحليفة وارسلت إليه صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تغتسل وتستثفر أي بخرقة عريضة بعد أن تحشو بنحو قطن وتربط طرفي تلك الخرقة في شيء تشده في وسطها لتمنع بذلك سيلان الدم كما تفعل الحائض وتحرم
ثم حاضت سيدتنا عائشة رضي الله عنها في اثناء الطريق بمحل يقال له سرف بكسر الراء وكانت قد أحرمت بعمرة ففي البخاري أنها قالت وكنت فيمن أهل بعمرة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتدخل الحج على العمرة
أقول وقد جاء أنها قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال ما يبكيك ياعائشة وفي لفظ ما يبكيك يا هنتاه لعلك نفست أي حضت قلت نعم والله لوددت أني لم أخرج معكم عامي هذا في هذا السفر قال لا تقولين ذلك فهذا شيء كتبه الله على بنات آدم
____________________
(3/312)
أي واستدل البخاري رحمه الله بهذا على أن الحيض كان في جميع بنات آدم وانكر به على من قال إن الحيض أول ما وقع في بني اسرائيل وفي لفظ قال ما شأنك قلت لا أصلي قال لاصبر عليك إنما أنت امرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن أهلي بالحج وفي رواية ارفضي عمرتك أي لا تشرعي في شيء من أعمالها وأحرمي بالحج فإنك تقضين كل ما يقضى الحاج أي تفعلين كل ما يفعل الحاج وأنت حائض إلا أنك لا تطوفين بالبيت ففعلت ذلك أي ادخلت الحج على العمرة ووقفت المواقف فوقفت بعرفه وهي حائض حتى إذا طهرت أي وذلك يوم النحر وقيل عشية عرفة طافت بالبيت وبالصفاة والمروة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حللت من حجك وعمرتك جميعا
وذكر بعضهم أن في هذه الحجة كان جمل عائشة رضي الله عنها سريع المشي مع خفة حمل عائشة وكان جمل صفية بطيء المشي مع ثقل حملها فصار يتأخر الركب بسبب ذلك فأمر صلى الله عليه وسلم أن يجعل حمل صفية على جمل عائشة وأن يجعل حمل عائشة جمل صفية فجاء صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها يستعطف خاطرها فقال لها يا أم عبد الله حملك خفيف وجملك سريع المشي وحمل صفية ثقيل وجملها بطىء فأبطأ ذلك بالركب فنقلنا حملك على جملها وحملها على جملك ليسير الركب فقالت له إنك تزعم أنك رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم أفي شك أني رسول الله أنت يا أم عبد الله قالت فمالك لا تعدل قال فكان ابو بكر رضي الله عنه فيه حدة فلطمني على وجهي فلامه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اما سمعت ما قالت فقال دعها فإن المرأة الغيراء لا تعرف أعلى الوادي من أسفله
قالوا ولما نزلوا بمحل يقال له العرج فقد البعير الذي عليه زاملته صلى الله عليه وسلم وزاملة ابي بكر أي زاداهما وكان ذلك البعير مع غلام لأبي بكر فقال ابو بكر رضي الله تعالى عنه للغلام اين بعيرك قال ضللته البارحة فقال ابو بكر وقد اعترته حدة بعير واحد تضله وأخذ يضربه بالسوط ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ويتبسم ولا يزيد على ذلك فلما بلغ بعض الصحابة أن زاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلت جاء بحيس ووضعه بين يديه صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم لابي بكر الله تعالى عنه وهو يغتاظ على الغلام هون عليك
____________________
(3/313)
يا أبا بكر فإن الأمر ليس لك ولا إلينا وقد كان الغلام حريصا على أن لا يضل بعيره وهذا غداء طيب قد جاء الله به وهو خلف عما كان معه فأكل صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ومن كان يأكل معهما حتى شبعوا فأقبل صفوان بن المعطل رضي الله تعالى عنه وكان على ساقة القوم أي لأن هذا كان شأنه كما تقم في قصة الإفك والبعير معه وعليه الزاملة حتى أناخه على باب منزله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر انظر هل تفقد شيئا من متاعك فقال ما فقدت شيئا إلا قعبا كنا نشرب فيه فقال الغلام هذا القعب معي ولما بلغ سعد بن عبادة وابنه قيسا رضي الله تعالى عنهما أن زاملته صلى الله عليه وسلم قد ضلت جاآ بزاملة مكانها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء الله بزاملتنا فارجعا بزاملتكما بارك الله لكما ا هـثم نزل صلى الله عليه وسلم بذي طوى فبات بها تلك الليلة وصلى بها الصبح أي بعد أن اغتسل بها أي ثم سار صلى الله عليه وسلم ونزل بالمسلمين ظاهر مكة ودخل مكة نهارا أي وقت الضحى من الثنية العليا التي هي ثنية كداء بفتح الكاف والمد قال ابو عبيدة لا ينصرف وهي التي ينزل منها إلى المعلاة مقبرة مكة وهي التي يقال لها الآن الحجون التي دخل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة كما تقدم ودخل المسجد الحرام صبحا من باب عبد مناف وهو باب بني شيبة المعروف الآن بباب السلام وكان صلى الله عليه وسلم إذا أبصر البيت قال اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرا وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا
وفي مسند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أخبرنا سعيد بن سالم عن جريح عن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال اللهم زد هذا البيت الخ وفي رواية كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا السلام اللهم زد هذا البيت الخ
وعند دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد طاف بالبيت أي سبعا ماشيا فعن جابر ابن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال دخلنا مكة عند ارتفاع الشمس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم باب المسجد فأناخ راحلته ثم دخل المسجد فبدأ بالحجر الأسود فاستلمه وفاضت عيناه بالبكاء ثم رمل ثلاثا ومشى اربعا فلما فرغ صلى الله
____________________
(3/314)
عليه وسلم قبل الحجر ووضع يديه عليه ومسح بهما وجهه رواه البيهقي في السنن الكبرى بإسناد جيد
وقيل طاف صلى الله عليه وسلم على راحلته الجدعاء أي لانه صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكى فعن أبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكى فطاف على راحلته فلما أتى الركن استلمه بمحجن فلما فرغ من طوافه أنا خ فصلى ركعتين رواه أبو داود ورد بأن هذا الحديث تفرد به يزيد بن ابي زياد وهو ضعيف
على أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يذكر أن ذلك كان في حجة الوداع ولا في الطواف الأول من طوافاتها الثلاثة التي هي طواف القدوم وطواف الإفاضة وطواف الوداع فينبغي أن يكون ذلك في غير الطواف الأول بان يكون في طواف الإفاضة أو طواف الوداع فلا ينافي ما تقدم عن جابر ولا ما في مسلم عنه انه قال طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت ليراه الناس فيسألوه وقوله ورمل في ثلاثا منها أي يسرع المشي مع تقارب الخطأ ومشى أى على هينته في أربع يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في كل طوفة وابتداء الرمل كان في عمرة القضاء لما قال المشركون غدا يقدم عليكم قوم قد وهنتم حمى يثرب فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ليرى المشركون جلدهم ومن ثم قال بعضهم لبعض هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتم هؤلاء أجلد من كذا وكذا كما تقدم فلما كانت هذه الحجة فعلوا كذلك فصارت سنة
قال وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قبل الحجر الأسود وثبت أنه استلمه بيده ثم قبلها وثبت أنه استلمه بمحجنه فقبل المحجن ولم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم قبل الركن اليماني ولا قبل يده حين استلمه ا هـ
وعند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه يتسحب أن يقبل ما استلمه به روى إمامنا الشافعي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر فاستلمه ثم وضع شفتيه عليا طويلا وكان صلى الله عليه وسلم إذا استلم الحجر قال بسم الله والله اكبر وقال بينهما أي بين الركن اليماني والحجر { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم شيء من
____________________
(3/315)
الأذكار في غير هذا المحل حول الكعبة ولم يستلم الركنين الماقبلين للحجر أي لانهما ليسا على قواعد سيدنا ابراهيم عليه الصلاة والسلام وقال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر أي الأسود تؤذى الضعيف إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر وأخذ منه بعض فقهائنا أن من شق عليه استلام الحجر الأسود يسن له أن يهلل ويكبر
ثم بعد الطواف صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين عند مقام سيدنا ابراهيم عليه الصلاة والسلام جعل المقام بينه وبين الكعبة أي استقبل جهة باب المحل الذي به المقام الآن وهو المراد بخلف المقام قرأ فيهما مع أم القرآن { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } ودخل صلى الله عليه وسلم زمزم فنزع له دلو فشرب منه ثم مج فيه ثم أفرغها في زمزم ثم قال لولا أن الناس يتخذونه نسكا لنزعت أي وتقدم في فتح مكة أنه صلى الله عليه وسلم قال لولا أن تغلب بنو عبد المطلب لانتزعت منها دلوا وانتزع له العابس ثم رجع صلى الله عليه وسلم الى الحجر الأسود فاستلمه ثم خرج على الصفا وقرأ { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ابدءوا بما بدأ الله به فسعى بين الصفا والمروة سبعا راكبا على بعيره
وعن إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه أن سعيه الذي طاف لقدومه كان على قدميه لا على بعير أي فذكر البعير في هذا السعي غلط من بعض الرواة
ثم رأيت بعضهم قال بعض الروايات عن جابر وغيره يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان ماشيا بين الصفا والمروة ولعل بين الصفا والمروة مدرجة أو أنه صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة بعض المرات على قدميه فلما ازدحم الناس عليه ركب في الباقي ويدل لذلك أنه قيل لابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن قومك يزعمون أن السعي بين الصفا والمروة راكبا سنة فقال صدقوا وكذبوا فقيل كيف صدقوا وكذبوا فقال صدقوا في أن السعي سنة وكذبوا في أن الركوب سنة فإن السنة المشي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى في السعي فلما كثر عليه الناس يقولون هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه فلما كثر عليه الناس ركب وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم مشى بين الصفا والمروة والأحاديث
____________________
(3/316)
الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم ركب فيه وصار صلى الله عليه وسلم في السعي يخب ثلاثا ويمشي اربعا ويرقى الصفا ويستقبل الكعبة ويوحد الله ويكبره ويقول لا إله إلا الله والله اكبر لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده أي من غير قتال ثم يفعل على المروة مثل ذلك
واعترض بأن كونه كان يخب ثلاثا ويمشي أربعا كان في الطوف بالبيت لا في السعي بين الصفا والمروة وهذا السياق يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم سعى بعد طواف القدوم
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم حج فأول شيء بدأ به حين قدم مكة انه توضأ ثلاثا ثم طاف بالبيت ولم يذكر السعي أي وفي مسلم في سبب نزول قوله تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر الله } أن المهاجرين في الجاهلية كانوا يهلون بصنمين على شط البحر يقال لهما إساف ونائلة ثم يجيئون فيطوفون بين اصفا والمروة ثم يحلقون فلما جاءهم الإسلام كرهوا أن يطوفوا بين الصفا والمروة يرون أن ذلك من أمر الجاهلية فأنزل الله تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر الله }
وقيل إن سبب نزولها أن الأنصار كانوا في الجاهلية يهلون لمناة وكان من أحرم بمناة لا يطوف بين الصفا والمروة وأنهما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حين أسلموا فأنزل الله تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر الله } الآية ثم أمر صلى الله عليه وسلم من لا هدى معه بالإحلال أي وإن لم يكن أحرم بالعمرة بأن لم يكن سمع أمره صلى الله عليه وسلم بأن من لاهدى معه يحرم بالعمرة فأحرم بالحج قارنا أو مفردا قال السهيلي رحمه الله ولم يكن ساق الهدى معه من أصحابه رضي الله تعالى عنهم إلا طلحة ابن عبد الله وكذا علي كرم الله وجهه جاء من اليمن وقد ساق الهدى معه ويأتي ما فيه أي وأمره صلى الله عليه وسلم من ذكر بالإحلال كان بعد الحلق والتقصير لأنه أتى بعمل العمرة فحل له كل ما حرم على المحرم من وطء النساء الطيب والمخيط وأن يبقى كذلك إلى يوم التروية الذي هو اليوم الثامن من ذي الحجة فيهل أي يحرم بالحج
وقيل له يوم التروية لأنهم كانوا يتروون فيه الماء ويحملونه معهم في ذهابهم من مكة إلى عرفات لعدم وجدان الماء بها في ذلك الزمن وأمر صلى الله عليه وسلم من معه الهدى أن يبقى على إحرامه أ بالحج قارنا أو مفردا حتى قال بعضهم لو استقبلت من أمري
____________________
(3/317)
ما استدبرت ما سقت الهدى قال ويروي أن قائل ذلك هو صلى الله عليه وسلم فعن جابر ابن عبدالله رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لما تم سعيه قال لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم اسق الهدى وجعلتها عمرة قال ذلك جوابا لقول بلغه عن جمع من الصحابة ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر وفي لفظ وفرجه يقطر منيا أي قد جامع النساء أي وفيه أنهم لا ينطلقون إلى منى إلا بعد الإحرام بالحج لأنهم يحرمون من مكة إلا أن يقال مرادهم أنا كيف نجامع النساء بعد إحرامنا بالحج وكيف نجعلها عمرة بعد الإحرام بالحج كما سيأتي في بعض الروايات
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان فقلت من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار فقال أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون
وقوله صلى الله عليه وسلم لو استقبلت الخ تأسف على فوات أمر من أمور الدين ومصالح الشرع كذا قال الإمام احمد رضي الله تعالى عنه لأنه يرى أن التمتع أفضل ورد بانه لم يتأسف على التمتع لكونه أفضل وإنما تأسف عليه لكونه أشق على اصحابه في بقائه محرما على إحرامه وأمره لهم بالاحلال وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لو تفتح عمل الشيطان محمول على التأسف على فوات حظ من حظوظ الدنيا فلا تخالف
ويروى أنه صلى الله عليه وسلم لما بلغه تلك المقالة قام خطيبا فحمد الله تعالى فقال أما بعد فتعلمون أيها الناس لأنا والله أعلمكم بالله وأتقاكم له ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هدبا ولا حللت وفي رواية قالوا كيف نجعلها عمرة وقد سمينا الحج فقال صلى الله عليه وسلم اقبلوا ما امرتكم به واجعلوا اهلالكم بالحج عمرة فلولا أني سقت الهدى لفعلت مثل الذي أمرتكم به ففعلوا وأهلوا ففسخوا الحج إلى العمرة وكان من جملة من ساق الهدى ابو بكر وعمر طلحة والزبير وعلى رضي الله تعالى عنهم فإن عليا كرم الله وجهه قدم إلى مكة من اليمن ومعه هدى وعن جابر رضي الله تعالى عنه لم يكن أحد معه هدى غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله وجهه انطلق وطف بالبيت وحل كما أحل أصحابك فقال يا رسول الله أهللت كما أهللت فقال له ارجع فأحل
____________________
(3/318)
كما أحل أصحابك قال يا رسول الله إني قلت حين أحرمت اللهم إني أهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك محمد فقال هل معك من هدى قال لا فأشركه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه وثبت على إحرامه وهذا صريح في أن إحرامه صلى الله عليه وسلم كان بالحج
ويمكن الجمع بين رواية أن عليا قدم من اليمن ومعه هدى وبين رواية أنه لم يكن معه هدى تأخر مجيئه بعده لأنه تعجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف على الجيش رجلا من اصحابه
ويؤيد ذلك قول بعضهم كان الهدى الذي قدم به علي كرم الله وجهه من اليمن والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم مائة أي وإلا فالذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وستون بدنة والذي قدم به من اليمن لعلى لعلى كان سبعة وثلاثين بدنة ولا يخالف ذلك إشراكه له في الهدى لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لا حتمال تلف ذلك اشراكه له في الهدى وعدم مجيئه والذي في البخاري لما قدم علي كرم الله وجهه من اليمن قال له النبي صلى الله عليه وسلم بم أهللت يا علي قال بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم قال فأهدوا مكث حراما كما أنت أي فإنه تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان أرسل خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى اليمن لهمدان يدعوهم إلى الإسلام قال البراء رضي الله تعالى عنه فكنت ممن خرج مع خالد فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فأمره أن يقفل خالد بن الوليد ويكون مكانه وقال مر اصحاب خالد من شاء منهم اين يعقب معك فليعقب ومن شاء فليقفل فكنت من أعقب مع علي كرم الله وجهه فلما دنونا من القوم خرجوا الينا وصلى بنا علي كرم الله وجهه ثم صفنا صفا واحدا ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم فاسلمت همدان جميعا فكتب رضي الله تعالى عنه إلى رسول صلى الله عليه وسلم بإسلامهم فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدا ثم رفع رأسه فقال السلام على همدان السلام علي همدان
وكان من جملة من لم يسق الهدى أبو موسى الاشعري رضي الله تعالى عنه فإنه لما قدم من اليمن قال له بم أهللت قال أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال له
____________________
(3/319)
هل معك من هدى قال قلت لا فأمري فطفت بالبيت والصفاة والمروة ورواية الشيخين عن ابي موسى رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال له بم أهللت فقلت لبيت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال فقد أحسنت طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل أي بعد الحلق أو التقصير
وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان مهلا بالحج فقط أو مع العمرة إلا أن يقال جوز لابي موسى الفسخ من الحج إلى العمرة كما فعل ذلك مع غيره من الصحابة الذين أحرموا بالحج ولا هدى معهم ومن جملة من لم يسق الهدى أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن فأحللن أي لانهن أحرمن إحراما مطلقا ثم صرفنه للعمرة أو أحرمن متمتعات أي بالعمرة إلا عائشة رضي الله تعالى عنها فإنها لم تحل أي لأنها أدخلت الحج على العمرة كما تقدم
وممن أحل سيدتنا فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أي لانها لم يكن معها هدى وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما وشكا علي كرم الله وجهه فاطمة رضي الله تعالى عنها للنبي صلى الله عليه وسلم إذا احلت أي فإنه وجدها لبست صبيغا واكتحلت فأنكر عليها فقالت رضي الله تعالى عنها أمرني أبي بذلك فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم محر شاله عليها رضي الله تعالى عنها فصدقها عليه الصلاة والسلام في أنه أمرها بذلك أي فإنه صلى الله عليه وسلم قال له صدقت صدقت صدقت أنا أمرتها بذلك يا علي
وسأله سراقة بن مالك رضي الله تعالى عنه فقال يا رسول الله متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد فشبك صلى الله عليه وسلم أصابعه فقال بل لأبد لأبد دخلت العمرة في الحج هكذا إلى يوم القيامة أي وفي رواية فشبك بين اصابعه واحدة في أخرى وقال دخلت العمرة في الحج هكذا مرتين بل لأبد لأبد بالإضافة أي إلى آخر الدهر وهذا الجواب بقوله دخلت العمرة في الحج يدل على أن مراد السائل بالتمتع القران لا حقيقته الذي هو الإحرام بالحج بعد الفراغ من عمل العمرة لكن قول بعضهم لما كان آخر سعيه صلى الله عليه وسلم على المروة قال لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم اسق الهدى وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة فقام سراقة فقال يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد الحديث يدل على أن مراده بالتمتع حقيقته
____________________
(3/320)
لكن لا يحسن الجواب بقوله دخلت العمرة في الحج إلا أن يقال المراد حلصت العمرة مع الإحرام بالحج لقلب الإحرام بالحج إلى العمرة لان هذا كله يدل على أنه امر من احرم بالحج ممن لا هدى معه أن يقلب احرامه عمرة
وأجاب عنه أئمتنا بأن ذلك أي فسخ الحج إلى العمرة كان من خصائص الصحابة في تلك السنة ليخالفواما كان عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج ويقولون إنه من أفجر الفجور وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وإمامنا الشافعي وجماهير العلماء من السلف والخلف رضي الله عنهم
وفي مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه لم يكن فسخ الحج إلى العمرة إلا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخالف الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وطائفة من أهل الظاهر فقالوا بل هذا ليس خاصا بالصحابة في تلك السنة أي بل باق لكل أحد إلى يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بالحج وليس معه هدى أن يقلب احرامه عمرة ويتحلل بأعمالها
وبعضهم قال إن قول سراقة رضي الله تعالى عنه معناه أن جواز العمرة في أشهر الحج خاصة بهذه السنة أو جائزة إلى يوم القيامة وفيه أنه لا يحسن الجواب عنه بما تقدم من قوله دخلت العمرة في الحج
ثم نهض صلى الله عليه وسلم ونهض معه الناس يوم التروية الذي هو اليوم الثامن إلى منى وأحرم بالحج كل من كان أحل فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بمنى والعصر والمغرب والعشاء وبات بها تلك الليلة أي وكانت ليلة الجمعة وصلى بها الصبح ثم نهض بعد طلوع الشمس إلى عرفة وأمر صلى الله عليه وسلم أن تضرب له قبة من شعر بنمرة فأتى عليه الصلاة والسلام عرفة ونزل في تلك القبة حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء بفتح القاف والمد وقيل بضم القاف والقصر وهو خطأ كما تقدم
وفي كلام الأصل أن القصواء والعضباء والجدعاء اسم لناقة واحدة وفيه مالا يخفى فرحلت ثم أتى بطن الوادي فخطب على راحلته خطبة ذكر فيها تحريم الدماء والأموال والأعراض ووضع ربا الجاهلية وأول ربا وضعه ربا عمه العباس رضي الله تعالى عنه ووضع الدماء في الجاهلية وأول دم وضعه دم ابن عمه ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قتلته هذيل فقال هو أول دم أبدأ به من دماء الجاهلية موضوع فلا يطالب به في الإسلام وأوصى صلى الله عليه وسلم بالنساء خيرا وأباح ضربهن غير المبرح إن أتين بما لا يحل
____________________
(3/321)
وقضى لهن بالرزق والكسوة بالمعروف على ازواجهن وأمر صلى الله عليه وسلم بالاعتصام بكتاب الله عز وجل أي وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه ل ايضل من اعتصم به وأشهد الله عز وجل على الناس أنه قد بلغهم ما يلزمهم فاعترف الناس بذلك وأمر أن يبلغ ذلك الشاهد الغائب
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فاتقوا الله في النساء فإنكم اخذتموهن بامانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وإنكم لتسألون عني فما أنتم قائلون قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم فاشهد ثلاث مرات
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم أمر مناديا صار ينادي بكل ماقاله من ذلك أي وهو ربيعة بن أمية بن خلف أخو صفوان بن أمية وكان صيتا وصار صلى الله عليه وسلم يقول له يا ربيعة قل ياأيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا كما تقدم فيصرخ به وهن واقف تحت صدر ناقته صلى الله عليه وسلم
وربيعة هذا ارتد في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فإنه شرب الخمر فهرب منه إلى الشام ثم هرب إلى قيصر فتنصر ومات عنده
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه أنه طاف ليلة هو وعمر رضي الله تعالى عنهما للحرس بالمدينة فرأوا نورا في بيت فانطلقوا يؤمونه فإذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط فقال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الرحمن تردي بيت من هذا قال لا قال هذا بيت ربيعة بن أمية وهم الآن شرب فما ترى قال أرى أنا قد أتينا ما نهى الله عنه { ولا تجسسوا } فانصرف عمر ثم إن عمر رضي الله تعالى عنه غرب ربيعة إلى خيبر فكان ما تقدم وقد رأى ربيعة قبل ذلك في المنام كأنه في أرض معشبة مخصبة وخرج منها إلى أرض مجدبة كالحة وراى أبا بكر رضي الله تعالى عنه في جامعة من حديد عند سرير إلى الحشر فقص ذلك على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال
____________________
(3/322)
إن صدقت رؤياك تخرج من الإيمان إلى الكفر وأما أنا فإن ذلك ديني جمع لي في أثر الناس إلى يوم الحشر
وبعثت إليه صلى الله عليه وسلم أم الفضل زوجة العباس أم عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهم لبنا في قدح شربه أمام الناس فعلموا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن صائما ذلك اليوم الذي هو التاسع أي لأنهم تماروا عندها في صيامه صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم الذي هو يوم عرفة
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صوم يوم عرفة أي وبهذا استدل أئمتنا أنه لا يستحب للحاج صوم يوم عرفة الذي هو التاسع من ذي الحجة
فلما تم صلى الله عليه وسلم خطبته أمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا فصلاهما مجموعتين في وقت الظهر بأذان واحد وإقامتين أي لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقم بمكة إقامة تقطع السفر لأنه دخلها في اليوم الرابع وخرج يوم الثامن فقد صلى بها إحدى وعشرين صلاة من أول الظهر يوم الرابع إلى عصر الثامن يقصر تلك الصلوات فالجمع للسفر كما يقول إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه كالجمهور لا النسك كما يقول غيرهم
أقول وفيه أن فقهاء ذكروا أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة في حجة الوداع مع عزمه على الإقامة أياما أي تقطع السفر لعدم استيطانه
ويرد بأنه من أين أنه صلى الله عليه وسلم عزم على الإقامة بمكة المدة التي تقطع السفر هذه دعوى تحتاج إلى دليل وأيضا عزمه على ذلك إنما هو بعد عوده إلى مكة بعد فراغه من الوقوف والرمى ولا ينقطع سفره إلا بوصوله إلى مكة
والأولى استدلال فقهائنا على وجوب الاستيطان في إقامة الجمعة بعد أمره صلى الله عليه وسلم لأهل مكة باقامة الجمعة مع أنهم غير مسافرين لعدم استيطانهم للمحل فما ذهب إليه إمامنا الشافعي رضي الله عنه من أن الجمع للسفر لا للنسك في محله
وقد رأيت أن مالكا رضي الله تعالى عنه سأل أبا يوسف وقد كان حج مع هرون الرشيد وذلك بحضرة الرشيد فقال له ما تقول في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات يوم الجمعة أصلي ظهرا مقصورة فقال أبو يوسف صلى جمعة لأنه خطب لها قبل الصلاة فقال مالك أخطأت لأنه لو وقف يوم السبت لخطب قبل الصلاة
____________________
(3/323)
فقال أبو يوسف ما الذي صلى فقال مالك صلى الظهر مقصورة لأنه أسر بالقراءة فصوبه هرون في احتجاجه على أبي يوسف والله اعلم
ثم ركب صلى الله عليه وسلم راحلته إلى أن أتى الموقف فاستقبل القبلة ولم يزل واقفا للدعاء من الزوال إلى الغروب وفي الحديث أفضل الدعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي أي في يوم عرفة كما في بعض الروايات لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
وجاء أن من جملة دعائه من في ذلك اليوم اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن وسوسة الشيطان ومن وسوسة الصدر ومن شتات الامر ومن شر كل ذي شر
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان فيما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع اللهم إنك تسمع كلامي وترى مكاني وتعلم سري وعلانيتي ولا يخفى عليك شيء من أمري أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضريع من خضعت لك رقبته وفاضت لك عبرته وذل لك جسده ورغم لك أنفه اللهم لا تجعلني بدعائك ربي شقيا وكن بي رءوفا رحيما يا خير المسئولين ويا خير المعطين واستمر كذلك صلى الله عليه وسلم حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة
أي وخطب صلى الله عليه وسلم على ناقته في ذلك اليوم فعن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة رضي الله تعالى عنهم قال بعثني عتاب بن أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة فبلغته ثم وقفت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لعابها ليقع على رأسي فسمعته يقول أيها الناس إن الله قد أدى إلى كل ذي حق حقه وإنه لا تجوز وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر ومن دعى إلى غير أبيه أو مولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله له صرفا ولا عدلا وجاءه صلى الله عليه وسلم جماعة من نجد فسألوه كيف الحج فأمر مناديا ينادي الحج عرفة من جاء ليلة جمع أي المزدلفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج وجمع بفتح الجيم وسكون الميم أيام منى ثلاثة { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه } أي وقال صلى الله عليه وسلم وقفت ههنا وعرفة كلها موقف زاد مالك في الموطأ وارفعوا عن بطن عرنة
____________________
(3/324)
وفي كلام بعضهم نزلت { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } يوم الجمعة بعد العصر والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فكاد عضد الناقة يندق من ثقل الوحي
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اتفق في ذلك اليوم أربعة اعياد عيد للمسلمين وهو يوم الجمعة وعيد اليهود وعيد النصارى وعيد للمجوس ولم تجتمع أعياد لأهل الملل في يوم قبله ولا بعده
ولما نزلت بكى عمر رضي الله تعالى عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا عمر فقال رضي الله تعالى عنه أبكاني أنا كنا في زيادة أما إذا كمل فإنه لا يكمل شيء إلا نقص فقال صدقت فكانت هذه الآية نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يعش بعدها إلا ثلاثة أشهر وثلاثة أيام ولم ينزل بعدها شيء من الاحكام
ثم أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه خلفه ودفع الى مزدلفه وقد ضم زمام راحتله القصواء التي خطب عليها في نمرة حتى إن راسها ليصيب طرف رجليه يسير العنق حتى إذا وجد فسحة سار النص وهو فوق العنق هو يأمر الناس بالسكينة في السير فلما كان في الطريق عند الشعب الأبتر نزل فيه فبال وتوضأ وضوءا خفيفا ثم ركب حتى أتى المزدلفة التي هي جمع أي وتقدم أن وقوفه صلى الله عليه وسلم بعرفات وإفاضته إلى مزدلفة قبل ان يبعث كان مخالفا في ذلك لقوله وصلى المغرب والعشاء مجموعتين في وقت العشاء أي مقصورتين بأذان واحد وإقامتين ثم اضطجع وأذن للنساء والضعفة أي الصبيان أن يرموا ليلا أي أن يذهبوا من مزدلفة إلى منى بعد نصف الليل بساعة ليرموا جمرة العقبة قبل الزحمة
وعن ابن عباس رضي الله عنهما فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيهم أن لا يرموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس فليتأمل ذلك فعن عائشة رضي الله عنها أن سودة رضي الله عنها أفاضت في النصف الأخير من مزدلفة بإذن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرها بالدم ولا النفر الذين كانوا معها وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفه اهله وروى ذلك الشيخان ولم يأذن صلى الله عليه وسلم للرجال في ذلك إلا لضعفائهم ولا لغير ضعفائهم أي فالمراد بالضعفة
____________________
(3/325)
الصبيان كما تقدم وبهذا استدل أئمتنا على أنه يستحب تقديم النساء والضعفة بعد نصف الليل إلى منى أي وأن يبقى غيرهم حتى يصلوا الصبح مغسلين
وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به أي لأرمي الجمرة قبل ان يأتي الناس وفي لفظ قبل حطمة الناس لأن سودة رضي الله عنها كانت امرأة ضخمة ثقيلة فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من مزدلفة مع النساء والضعفة
وفي مسلم مضت أم حبيبة من جمع بليل أي في نصف الليل وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال أرسلني صلى الله عليه وسلم مع ضعفه أهله فصلينا الصبح بمنى ورمنيا الجمرة فلما كان وقت الفجر قام صلى الله عليه وسلم وصلى بالناس أي بالمزدلفة الصبح مغلسا ثم أتى المشعر الحرام فوقف به أي وهو راكب ناقته واستقبل القبلة ودعا الله وكبر وهلل ووحد ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا وجاء أنه صلى الله عليه وسلم دعا بالمغفرة لأمته يوم عرفة فأجيب بأنه يغفر لها ما عدا المظالم ثم دعا بذلك أي بالمغفرة لأمته بمزدلفة فأجيب إلى ذلك أي إلى غفران المظالم فجعل إبليس لعنه الله يحثو التراب على راسه فضحك صلى الله عليه وسلم من فعله وجاء ما بين أن المراد بالأمة من وقف بعرفة
ثم إنه صلى الله عليه وسلم دفع أي من المشعر الحرام قبل أن تطلع الشمس أي قال جابر رضي الله تعالى عنه وكان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس واردف خلفه الفضل بن العباس وجاءته امرأة تسأله فقالت له يا رسول الله إن فريضة الله على عباده الحج أدركت أي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال نعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر وفي لفظ آخر فوضع صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول وجهه إلى الشق الآخر وفي لفظ آخر أنه صلى الله عليه وسلم لوى عنق الفضل فقال له أبوه العباس رضي الله عنهما يا رسول الله لويت عنق ابن عمك قال رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الشيطان فلما وصل صلى الله عليه وسلم إلى محسر حرك ناقته قليل وسلك الطريق التي تسلك على جمرة العقبة فرمى بها من أسلفها سبع حصيات التقطها
____________________
(3/326)
له عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من موقفه الذي رمى فيه مثل حصى الخذف بفتح الخاء المعجمة وإسكان الذال المعجمة وهذا لا يخال ما عليه أئمتنا من أن الأولى أن يلتقط حصى الرمى من مزدلفة
ويكره أخذه من المرمى لجواز أن يكون القتط له ذلك من مزدلفة ثم سقط منه عند جمرة العقبة فأمر ابن عباس بالتقاطه
لكن الذي في مسلم أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل محسرا أي الوادي المعروف وهو أول منى قال عليكم بحصى الحذف الذي ترمى به الجمرة وهو يدل على أن أخذ الحصى من ذلك أولى إلا أن يقال يجوز أن يكون قال ذلك لجماعة تركوا أخذ ذلك من مزدلفة وأمر صلى الله عليه وسلم بمثلها ونهى عن أكبر منها وقطع صلى الله عليه وسلم التلبية عند الرمي وصار يكبر عند رمي كل حصاة وهو راكب ناقته وفي رواية على بغلة قال بعضهم وهو غريب جدا وبلال واسامة أحدهما آخذ بخطامها والآخر يظله بثوبه لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك
وفي رواية فرأيت بلالا رضي الله تعالى عنه يقود براحلته وأسامة بن زيد رضي الله عنه رافعا عليه ثوبه يظله من الحر حتى رمى جمرة العقبة وخطب صلى الله عليه وسلم على بغلة الشهباء وقيل على بعير بمنى خطبه قرر فيها تحريم الزنا والأموال والأعراض وذكر حرمة يوم النحر وحرمة مكة على جميع البلاد فقال يا أيها الناس أي يوم هذا قالوا يوم حرام قال فأي بلد هذا قالوا بلد حرام قال فأي شهر هذا قالوا شهر حرام قال فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا أعادها مرارا ثم رفع صلى الله عليه وسلم رأسه وقال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت فليبلغ الشاهد منكم الغائب لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض وأمرهم صلى الله عليه وسلم بأخذ مناسكم عنه لعله لا يحج بعد عامه ذلك وكان وقوفه صلى الله عليه وسلم بين الجمرات والناس بين قائم وقاعد
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم خطب في اليوم الأول واليوم الثاني من أيام التشريق وهو أوسطها ويقال له يوم النفر الأول لجواز النفر فيه كما يقال لليوم الثالث في أيام التشريق يوم النفر الآخر
ثم انصرف صلى الله عليه وسلم إلى المنحر بمنى فنحر ثلاثا وستين بدنة أي وهي التي
____________________
(3/327)
قدم بها من المدينة وذلك بيده الشريفة لكل سنة بدنة قال بعضهم وفي ذلك إشارة إلى منتهى عمره صلى الله عليه وسلم لأن عمره صلى الله عليه وسلم كان في ذلك اليوم ثلاثا وستين سنة فنحر صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة لكل سنة بدنة وطبخ له اللحم من لحمها وأكل منه أي أخذ من كل بدنة بضعة فجعل ذلك في قدر وطبخ فاكل من ذلك اللحم وشرب من مرقته ثم أمر صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه فنحر ما بقي وهو تمام المائة أي ولعله الذي أتى به علي كرم الله وجهه من اليمن هذا
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال اهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة بدنة نحر منها ثلاثين بدنة ثم أمر صلى الله عليه وسلم عليا فنحر ما بقي منها ويقال له اقسم لحومها وجلودها وجلالها بين الناس ولا تعط جزارا منها شيئا وخذ لنا من كل بيعر جذية من لحم واجعلها في قدر واحدة حتى نأكل من لحمها ونحثو من مرقها ففعل وأخبر صلى الله عليه وسلم أن منى كلها منحر وأن فجاج مكة كلها منحر ثم حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم راسه الشريف أي حلقه معمر بن عبد الله وقال له هنا وأشار بيده إلى الجانب الأيمن فبدأ بشقه الأيمن فحلقه ثم بشقه الأيسر وقسم شعره فأعطى نصفه لأبي طلحة الانصاري أي شعر نصف راسه الأيسر بعد ان قال ههنا أبو طلحة وقيل اعطاه لأم سليم زوج أبي طلحة رضي الله عنهما وقيل لأبي كريب وأعطى منه نصفه الثاني أي الذي هو الأيمن الشعرة و الشعرتين للناس
وفي رواية ناول صلى الله عليه وسلم الحلاق شقه الأيمن فحلقه ثم دعا ابا طلحة الانصاري فأعطاه اياه ثم ناول الحلاق الشق الايسر فحلقه وأعطاه أبا طلحة وقال اقسمه بين الناس
قال في النور والحاصل أن الروايات اختلفت في مسلم في بعضها أنه أعطاه الايسر وف بعضها أنه أعطاه الأيمن ورجح أبن القيم أن الذي اختص به أبو طلحة هو الشق الأيسر
اقول الذي في مسلم قال للحلاق ها وأشار بيده إلى جانبه الأيمن فقسم شعره بين من يليه وفي رواية فوزعه الشعرة والشعرتين ثم أشار إلى الحلاق وإلى جانبه الأيسر فحلقه فأعطاه لأم سليم وفي رواية قال ههنا أبو طلحة وفي لفظ أين أبا طلحة فدفعه إلى أبي طلحة
____________________
(3/328)
وفي رواية ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه ثم دعا أبا طلحة فأعطاه إياه ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه وأعطاه أبا طلحة فقال اقسم بين الناس والجمع ممكن بين هذه الروايات والله اعلم
وعن بعضهم قال شقت قلنسوة خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم اليرموك وهو في الحرب فسقطت فطلبها طلبا حثيثا فعوتب في ذلك فقال إن فيها شيئا من شعر ناصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها ما كانت معي في موقف إلا نصرت بها
وعن أنس رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وقد طاف به أصحابه ما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل
ثم تطيب صلى الله عليه وسلم طيبته عائشة رضي الله عنها بطيب فيه مسك قبل أن يطوف طواف الإفاضة ويقال له طواف الركن ويقال له طواف الصدر والأشهر أن طواف الصدر طواف الوداع وحلق بعض اصحابه وقصر بعض آخر وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر للمحلقين قالوا والمقصرين فأعاد صلى الله عليه وسلم وأعادوا ثلاثا وقال في الرابعة والمقصرين
والصحيح المشهور أنه قال ذلك في هذه الحجة التي هي حجة الوداع كما قال ذلك في الحديبية كما تقدم وقيل لم يقله الا في الحديبية وبه جزم امام الحرمين في النهاية وقال النووي ولا يبعد أن يكون وقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم في الموضعين قال في فتح الباري بل هو المتعين لتضافر الروايات في الموضعين أي فإن في مسلم في حجة الوداع عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله وللمقصرين قال اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله وللمقصرين قال اللهم اغفر للمحلقين قالوا يا رسول الله وللمقصرين قال وللمقصرين ثم نهض صلى الله عليه وسلم راكبا إلى مكه فطاف في يومه ذلك طواف الإفاضة قبل الظهر وشرب من نبيذ الساقية
فعن أبن عباس رضي الله عنهما مر النبي صلى الله عليه وسلم عاى راحلته وخلفه أسامة رضي الله عنه فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ أي من سقاية العباس رضي الله عنه فإنهم كانوا يضعون في السقاية التمر والزبيب كما تقدم فشرب صلى الله عليه وسلم وسقى فضله لأسامة رضي الله تعالى عنه وقال أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوا ثم شرب صلى الله عليه
____________________
(3/329)
وسلم من ماء زمزم بالدلو قيل وهو قائم وقيل وهو على البعير والذي نزع له الدلو عمه العباس بن عبد المطلب أي وفعل ذلك عند فتح مكة أيضا كما تقدم وقيل لما شرب صلى الله عليه وسلم صب منه على رأسه الشريف وعن ابن جريح أنه صلى الله عليه وسلم نزع الدلو لنفسه
وقيل إن هذا يخالف ما تقدم من قوله لولا أن الناس يتخذونه نسكا لنزعت ومن قوله يوم فتح مكه لولاأن تغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى فصلى بها الظهر كما اتفق عليه الشيخان وقيل صلاة بمكة وبه انفرد مسلم ورجع بإمور
وجمع بينهما بأنه يجوز أن يكون صلى الظهر بمكه اول الوقت ثم رجع الى منى فصلها مرة اخرى باصحابه أي الذين تخلفوا عنه بمنى فإنه صلى الله عليه وسلم وجدهم ينتظرونه فهى له صلى الله عليه وسلم معادة قال بعضهم وهذا مشكل على من لا يجوز الإعادة
وعورض هذا بأنه صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم رمى جمرة العقبة ونحر ثلاثا وستين من بدنة ونحر علي كرم الله وجهه بقية المائة و أخذ من كل بدنة بضعة و وضعت في قدر وطبخت حتى نضجت فأكل من ذلك اللحم وشرب من مرقه وحلق رأسه ولبس تطيب وخطب فكيف يمكن أن يكون صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكه اول الوقت ويعود الى منى في وقت الظهر
على أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع ألى منى رواه أبو داود
وأجيب بأن النهار كان طويلا فلا يضر صدور أفعال منه صلى الله عليه وسلم كثيرة في صدر ذلك اليوم
على أن ابن كثير رحمه الله قال لست أدري أن خطبته صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم أكانت قبل ذهابه أو بعد رجوعه إلى منى
أما رواية عائشة رضي الله تعالى عنها المقتضية لكونه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى قبل أن يذهب إلى البيت فأجاب بعضهم عنها بأنها ليست نصا في ذلك بل تحتمل فليتامل
فإن قيل روى البخاري وأهل السنن الأربعة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الزيارة
____________________
(3/330)
إلى الليل وفي لفظ زار ليلا قلنا المراد بالزيارة زيارة مجيئه لا طواف الزيارة الذي هو طواف الإفاضة
فقد روى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة من ليالي مني وهو قول عروة بن الزبير إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الطواف يوم النحر إلى الليل فقد أخذه من قول عاشة المتقدم وقد علمت ما فيه
وقد قال بعضهم الصحيح من الروايات وعليه الجمهور أنه صلى الله عليه وسلم طاف يوم النحر بالنهار والأشبه أنه كان قبل الزوال هذا كلامه
وطافت أم سلة رضي الله عنها في ذلك اليوم على بعيرها من وراء الناس قالت وطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جانب البيت وهو يقرأ بالطور وكتاب مسطور
أي وعورض ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة رضي الله عنها ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت كيف يلتئم هذا مع طوافه قبل الظهر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ذلك الوقت بمكة
ويجاب بأنه يجوز أن يتكون ام سلمة أخرت طوافها لذلك الوقت وإن كانت قدمت مكة قبل الفجر
وعورض بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ في ركعتي الطواف بالطور ولا جهر بالقراءة في النهار بحيث تسمعه أم سلمة من وراء الناس هذا من المحال
ويجاب بأن كونه صلى الله عليه وسلم لم يقرا في ركعتي الطواف بالطور شهادة نفي على من يثبت وأم سلمة رضي الله عنها لم تدع أنها سمعت قراءته صلى الله عليه وسلم ثم رأيت ابن كثير رحمه الله قال والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام صلى الصبح يومئذ أي رأيت ابن كثير رحمه الله قال والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام صلى الصبح يومئذ أي عند قدومه مكة لطواف الوداع عند الكعبة وأصحابه وقرأ في صلاته والطور بكمالها قال ويؤيد ذلك ما روى عن أم سلمة قالت شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني اشتكى قال طوفي من راء الناس وأنت راكبة ومضت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى حينئذ إلى جنب البيت وهو يقرأ { والطور وكتاب مسطور }
أي وحينئذ يكون ما قدم تقدم من قول الرواي وطافت ام سلمة في ذلك اليوم الذي هو يوم النحر وقوله في الرواية الأخرى ارسل أم سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل
____________________
(3/331)